Go Back





اتين دينيه
سليمان بن إبراهيم

والدار ووا
لله
ترجمة
دكتور عبد الحليم محمود
دكتور محمد عبد الحليم محمود
دار المعارف

اتين دينيه
سليمان بن إبراهيم
محمد رسول الله
دكتور عبد الحليم محمود
ترجمة
دكتور محمد عبد الحليم
الطبعة الثالثة
دار المعارف

بسم الله الرحمن الرحيم
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ

نظرته الفنية والدينية
تمهید
حياة ناصر الدين دينيه وآراؤه

ناصر الدين والإسلام
ولد ألفونس إتيين دينيه ۱ فى باريس سنة ١٨٦١ وعاش – رحمه الله - فناناً بطبعه كان مرهف الحس رقيق الشعور جياش العاطفة
1 ألفت المودة بين الأستاذ الأديب راشد رستم والمغفور له ناصر الدين وقد كان الأستاذ راشد أول من عرف المصريين به فقد ترجم رسالته أشعة خاصة بنور الإسلام إلى اللغة العربية ونشرها في صورة حسنة وحينما توفى ناصر الدين سنة ۱۹۹ كتب الأستاذ راشد عنه مقالا في جريدة الأهرام وقد استأذناه في الانتفاع بالترجمة العربية الرسالة أشعة خاصة بنور الإسلام عند المناسبات التي تعرض خلال عملنا هذا وكذلك في نشر مقاله الذى كتبه بجريدة الأهرام فأذن بذلك راضياً مغتبطاً ولا يسعنا إلا أن نسجل له الشكر الجزيل راجين من الله أن يجزيه أحسن الجزاء وفيما يلى المقال المذكور مات هذا المستشرق النابه وقد احتشد حوله لتوديعه الوداع الأخير العدد العديد من كبار قومه الرسميين ومن أصدقائه وعارفي فضله من أهله ومن غير أهله من ممثل الشعوب الشرقية التى أحبها وخدمها وقد وجب علينا - وإن كنا لم نقف هنالك في باريس مع الواقفين خاشعين - أن نبعث إلى روحه تحيات السلام والاعتراف بالجميل
أحب المسيو "دينيه " حياة العرب وهو ذلك الفنان الكبير فاتخذ له بينهم مقاماً محموداً في بلاد الجزائر في تلك الواحة الهادئة الجميلة " بوسعادة " ينتقل إليه ويسكنه نصف العام كاملا يرتاح للعرب وجيرتهم ويروح عن نفسه بينهم وينعم بما فى حياتهم من جلال تلك المناقب المأثورة عنهم وتلك المكارم المعروفة بهم والتى لا يميل إليها إلا عشاق الخيال السامى ولا ينشدها إلا أهل الفضائل العالية وقد وضع في حياة العرب كتاباً جميلا جليلا ملأه باللوحات البديعة من ريشته القادرة ذات البلاغة في تصويرها والبيان في صحتها
والمسيو " دينيه يبلغ من العمر سبعين عاماً وهو من كبار أهل الفن ورجال التصوير وصاحب اللوحات الكبيرة النفيسة القيمة تزدان بها جدران المعارض الفنية وتحتفظ بها المتاحف الفرنسية الكبيرة وغيرها من متاحف العالم وله فى متحف لوكسمبرج - وهو متحف كبار المصورين المصريين بباريس - عدة صور منها الصورة الشهيرة المعروفة باسم غداة رمضان وكذلك له صورة في متحف يو وكذلك في متحف سدنى بأستراليا وغير ذلك كثير وجميع صوره تدل على القدرة الفنية الكبيرة فى رسم الصحراء كما تدل على دقة التعبير عن الحالات النفسية المختلفة وهو ذو مركز خاص مشهود به بين إخوانه المصورين وامتاز عنهم بتخصصه في تصوير الحياة الإسلامية وبالأخص ما كان منها في بلاد الجزائر
وقد درس الروح العربية وفهمها الفهم الصحيح حتى قيل عنه إنه المصور الفريد بين إخوانه الذي يستطيع تمثيلها بالريشة والألوان والأصباغ أحسن تمثيل وهم يقولون عنه إنه المصور " العربي " وقد جاءت ترجمة المسيو "دينيه وأعماله في معجم " لاروس" الكبير وفي معلمة " هاشيت للفنون الجميلة وله عدة مؤلفات منها كتاب حياة العرب الذي ذكرناه ومنها كتاب السراب =

وكان صاحب طبيعة متدينة أيضاً كان كثير التفكير جم التأمل يسرح بخياله في ملكوت السموات والأرض يريد أن يخترق حجبه ويكشف عن مساتيره ويصل إلى الله
وكتاب حياة الصحراء وكتاب ربيع القلوب وكتاب الشرق كما يراه الغرب وكلها تشير إلى ما في طبيعته من الخلق الطيب وما يحمله فى قلبه من الحب والتقدير للشرق والشرقيين
ومن اهم كتبه ما جعله تاريخاً لحياة الرسول سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو السيرة النبوية في مجلد كبير جليل وضعه باللغة الفرنسية وزينه بالصور الملونة البديعة الكثيرة المتعددة من ريشته الخاصة يمثل فيها المناظر الإسلامية ومشاهد الدين ومعالمه وطبعه طبعاً غاية في الإتقان والعناية حتى إنه ليعد تحفة من تحف الطباعة
كل ذلك كان تقديراً منه الموضوعه ثم إنه قدمه لأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت في الحرب الكبرى وهي تحارب فى صفوف الفرنسيين ونشره كذلك باللغة الإنجليزية بنفس الحجم الكبير والإتقان التام والكتاب في طبعتيه قد تحلى بمختلف أنواع اللوحات الزخرفية الملونة ذات الأشكال العربية غاية في الدقة والإبداع وهى اللوحات التى قام بعملها خاصة لهذا الكتاب السيد محمد راسم الجزائري أشهر رجال الزخرفة العربية والذي أشار إليه المسيو " الازار " الأستاذ بجامعة الجزائر ومدير متحفها وذلك في المحاضرة التي ألقاها في النادى الفرنسى بالقاهرة في شهر مارس سنة ۱۹۹ ويبلغ ثمن النسخة الواحدة من هذا الكتاب خمسة جنيهات مصرية
د وما نظن أن العالم العربي قد قرأ للمسيو " دينيه " شيئاً بالعربية قبل تلك الرسالة التي عربناها له أشعة خاصة بنور الإسلام والتى نشرت بمصر فى هذا العام وهى التى جعلها بحثاً عصرياً في مبادئ الدين الإسلامي وأراد إظهار هذه المبادئ واضحة جلية وأنها تفضل مبادئ المدنيات الحاضرة ولعل هذه الرسالة هي آخر ما كتب اللهم إلا إذا كان قد فرغ من رحلة الحج التي كان قد ذكر لنا أنه يشتغل بتدوينها بهمة ونشاط وذلك عقب عودته من بلاد الحجاز هذا العام بعد أن أدى فريضة الحج وإذا سمحت لنا الحقيقة أن نقرر شيئاً فإنه ذكر لنا فى كتابه إلينا أنه لاقى من التعب والمشاق الشيء الكثير رغم ما لاقاه من التكريم والعناية الخاصة ورغم نسيانه المشقة في سبيل الله وهو يدعو إلى إصلاح وسائل النقل والصحة وتنظيم الحياة لأولئك الألوف من الحجاج الذين يأتون رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق
والمسيو " دينيه " كاتب رقيق العبارة واسع الاطلاع لذلك فهو صحيح الحجة ناهض البرهان ثم هو شديد الهجوم شديد الدفاع ذلك لأنه غيور على مبدئه الذى لم يتخذه إلا بعد بحث وتفكير وقد أعلن إسلامه رسمياً بالجامع الجديد بمدينة الجزائر في اجتماع حافل عام ۱۹۷ وطلب أن يدفن في قبره مسلماً حنيفياً وهو القبر الذي شيده لنفسه فى بادة بو سعادة بالجزائر وقد ذكرت الأهرام في تلغرافاتها الخصوصية أمس أنه سينقل إليها من فرنسا وفق وصيته ويقول إنه لم يسلم والرجل غنى موسر الحال وإنما أسلم إرضاء ليقينه وضميره وإنه ناقش الناصرين والطاعنين فخرج
من " دينيه " إلى " ناصر الدين "
المطمع
أو
مغنم
وله في بيان فضائل الشرقيين عامة والدفاع عنهم جولات قلمية ولوحات تصويرية تشهد له بإخلاصه في حب الشرق وتقوم دليلا على حبه للعدل والإنصاف وقد استفتاه بعضهم عن أمر الشرق والغرب فكتب
يقول إن الغرب يخطىء النظر إلى الشرق أن للشرق على الغرب أفضالاً متأصلة في مدنيته متغلغلة مع في حياته ذلك من أثر الدينيات التي هو مدين فيها للشرق ومن أثر المعاملات والاقتصاديات التي
ما أنظمة الفروسية العربية ومن
منشؤها اليهودية الشرقية ومن أثر الحياة الشريفة والهمة القعساء التى منشؤها ثر علم البحار وعلم السماء وعلم الأبدان وعلم الكيمياء التي ابتدعت أصولها العقول الشرقية

كان فناناً يتملكه شعور دينى وكان دينيا يغمره ويسيطر عليه شعور في
وامتزج فيه الفن بالدين فكان مثالاً واضحاً للإنسان الملهم نشأ من أبوين مسيحيين وتلقن - بطبيعة الحال – العقائد المسيحية نظرياً ومارسها عمليا وذهب به أبواه - ككل مسيحى - إلى التعميد وإلى الكنيسة فشب وترعرع على عقيدة التثليث والصلب والفداء والغفران
وعلى مر الزمن أخذت تستبين فيه طبيعته الفنية وأخذ يستولى عليه شعور بالقلق والخيرة من الناحية الدينية إن الفنان يتصور الخلود في دقة لا تتأتى لغير ذوى الشعور الفني ويتمنى الخلود ويريده ويعمل جاهداً لتكتب لوحاته في سجل الخلود فتسمو على الزمن وترتفع عن حدود ما يتناهى وأصحاب الطبائع الدينية يفكرون في الخلود ويتمنونه ويريدونه ويعملون
جاهداً
ليبلغ
جاهدين لكشف المعمى فيما يتعلق بمصيرهم الأبدى وكان دينيه يفكر فى لوحاته ويفكر في مصيره ويعمل الذروة في الفن ويعمل جاهداً لإزالة الظلمة المتكاثفة فى دائرة اللانهاية وكانت هناك وسائل لصقل - للصقل لا للإيجاد – الطبيعة الفنية والاتجاه بها تحو الكمال وفى ذلك ما يطمئن نوعاً ما وفى ذلك علاج – بعض العلاج -

للقلق فيما يتعلق بالفن وقد جد دينيه فى استكمال وسائل الصقل النظرية منها والعملية واتخذ لذلك الأسباب وأحس من هذه الجهة ببعض الطمأنينة ولكن ما العلاج لطبيعته الدينية القلقة ليس لذلك من علاج سوى البحث والتأمل وإطالة التفكير فى الكون وفى النصوص المقدسة وفي العقائد التي يدين بها الوسط المباشر والبيئة المحيطة وفكر دينيه فى المسيحية وفى الكنيسة وفى البابا المعصوم وفى عقيدة التثليث والصلب والفداء والغفران
العناية
= ويقول إن الشرق لم يضمر للغرب الإساءة وإن الغرب يخطىء إذ يظن أن الشرق لا يستحق أن الشرق قد عرف كل دخائل الغرب وأنه مع ذلك لا يحمل له إلا السلامة
وهكذا يقوم السيد ناصر الدين دينيه رسولا للسلام بين الشرق والغرب وهو المثل الطيب لكل فرنسي يحب بلاده الأصيلة ويحب الشرق الجميل النبيل ومع أنه قد اعتنق الإسلام وعاش مسلماً ومات مسلماً فإن ذلك لم يمنعه من أن يكون مقيما على العهد والإخلاص لبلاده المحبوبة وأن يجتمع حول نعشه رجال فرنسا الرسميون من الوزراء يذكرون حسناته ويؤبنونه أحسن التأبين - ذلك لنبالة قصده إنسانيته راشد رستم الأهرام في ١٩٢٩/١٢/١٩
ومتانة

المسيح بن الله ! ! وقد صلب ليطهر بني البشر من اللعنة التي حلت بهم بسبب خطيئة آدم ! ! إنه صلب ليفتدى البشر ثم هو ابن الله وهو وهو بشر وهو إله ! ! ويدور رأس دينيه فلا يكاد يرى بارقة من
الله
أمل في أن يهتدى إلى الحق فى كل ذلك وهل فى ذلك من حق ! وهل في
الظلمة من نور !
الأناجيل الحالية غير صحيحة
أعاد فلم ييأس ومع قراءة الأناجيل من جديد محاولا جهده أن بل
ذلك
يراها تتسم بسمة الحق فيؤمن بابن الله وبالكاثوليكية ولكنه رأى فيها ما يتنافى مع الصورة المثلى للإنسان الكامل فضلا عن الصورة التى تريد المسيحية أن توحى بها فمن أقوال المسيح التى فيها حطة واحتقار لأمه العذراء ما صدر منه في عرس ه قانا وفى اليوم الثالث كان عرس فى قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودعاً أيضاً يسوع تلاميذه إلى العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر قال يسوع مالي ومالك يا امرأة ۱
یکن
ومن أقواله التي تحمل في طياتها اللعنة على شجرة تين لم تحمل ثمرها لأنه لم تين فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها
موسم
شيئاً فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً لأنه لم يكن وقت التين فتعجب يسوع وقال لها لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد وكان تلاميذه يسمعون ٢ كذلك من أقواله الدالة على كره الغريب وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمنى يا سيد يا بن داوود ابنى مجنونة جداً فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ۳
1 إنجيل يوحنا الإصحاح الثانى عشر هذا ما يقوله الإنجيل فيما يتعلق بصلة المسيح بأمه أما القرآن فإنه يقول " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إنى عبد الله آتانی الكتاب وجعلني نبياً وجعلنى مباركاً أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حياً و براً بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقياً والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً
إنجيل مرقص الإصحاح الحادي عشر
۳ إنجيل متى الإصحاح الخامس عشر

ومن أقواله التي توجب كراهية الأقرباء إن كان أحد يأتى إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً ١ ومن أقواله التي فيها اعتراف بالجهل وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين فى السماء ولا الابن إلا الآب هذه النصوص تبعث في النفس الشك في صحة الأناجيل التي بين أيدينا ٣
صحة الأناجيل
امع
لغة
وأداه ذلك إلى البحث في صحة الأناجيل وفى قيمتها من الناحية التاريخية وكانت نتيجة بحثه أنه لا شك أن الله قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه ولا شك أيضاً أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر ولم يبق له أثر أو أنه باد أو أنه قد أبيد ٤ ولهذا قد جعلوا مكانه توليفات أربعاً مشكوكاً في صحتها وفي نسبتها التاريخية كما أنها مكتوبة باللغة اليونانية وهي لغة لا تتفق طبيعتها الأصلية عیسی التي هي لغة سامية لذلك كانت صلة السماء بهذه الأناجيل اليونانية أضعف بكثير من صلتها بتوراة اليهود٥ ورأى - في النهاية - في وضوح أن الديانة الكاثوليكية لا تتحمل البحث والمناقشة فقد أظهرت الأدلة العديدة - سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية أم علمية أم لغوية أم بسيكولوجية أم دينية – أن الكاثوليكية ملأى بالأغلاط الواضحة ولم يمكنه أن يقول ما قال القديس أوغسطين مما يعتبر شعار كل مسيحى إنى أومن بذلك لأن ذلك غير معقول ٦
1 إنجيل لوقا الإصحاح الرابع عشر
٢ إنجيل مرقص الإصحاح الثالث عشر ۳ عن أشعة خاصة بنور الإسلام ٤ عن أشعة خاصة بنور الإسلام 5 عن أشعة خاصة بنور الإسلام
1 لا شك أن دينيه اطلع على مؤلفات رينان الذى كتب عن المسيح عليه السلام كتاباً يثبت فيه أن السيد المسيح لم يكن إلهاً ولا ابن إله وإنما هو إنسان يمتاز بالخلق السامي والروح الكريمة و رينان لم يكن متطرفاً في حكمه فقد أثبت على كل حال وجود المسيح وجوداً تاريخياً حقيقياً ولكن آخرين أخذوا ينقبون فى بطون الكتب ويتتبعون الروايات فانتهوا إلى عدم الاطمئنان اوجود المسيح تاريخياً من هؤلاء باييه أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون الذي اشترك مع =
ا

۱
وثار شعوره الدينى على أوضاع مبهمة وألفاظ غامضة ومشاكل لا تحل وانتهى به المطاف بعد بحث وجدل ومناظرات وتأملات إلى رفض المسيحية وبلغت حيرته حينئذ أشدها ولكن اليأس لم يتطرق إلى نفسه قط وإذا لم يجد الهداية في المسيحية فليس معنى ذلك أنه لن يجدها مطلقاً إن الحقيقة عزيزة المنال ولكنها موجودة والسبيل إليها البحث
الالتجاء إلى العقل
ورأى
أن دينيه يتجه إلى العقل يستمد منه الهداية إلى الطريق المستقيم ولكنه انتهى إلى أن العقل عاجز في ميدان ما وراء الطبيعة وفى الواقع يسعى كثير من ذوى العقول المستنيرة – بعد أن أفاقوا من غفلتهم وبعد أن رأوا إخفاق مذهب استقلال العقل بالمعرفة - لتعرف طريق الهداية وأن مذهب الحدس الذى يتهافتون عليه خلف حامل لوائه المسيو برجسون الشهير هو عبارة عن رد فعل واضح لمذهب استقلال العقل بالمعرفة أو هو ـ وهو الأصح - رد فعل لعجز هذا المذهب
فقد جدد هذا المفكر - فى قلوب الناس النهمين إلى الإيمان – آمالا كان يظهر أنها ضاعت ضياعاً نهائياً فهو يأذن لهم بأن يأملوا في خلود الروح ويقول إن الدنيا ليست مشتبكاً عظيماً لقوى عمياء وإن العقل ليس هو الطريقة
لهم
الوحيدة للمعرفة ۱
أخفقت المسيحية فى إرضاء ضميره الديني وأخفق العقل في قيادته إلى النور
إلام يتجه إذن
المسيحيون الذين أسلموا
وتلفت حوله ونظر ماذا فعل أمثاله ممن شكوا فى المسيحية وشكوا في العقل
زميلين له في تأليف كتاب يهدف إلى إثبات أن المسيح أسطورة وأن انتشار المسيحية لم يكن إلا لأسباب سياسية بحتة أما الأستاذ جينيبير أستاذ تاريخ الأديان بالسوربون إلى عهد قريب فقد أثبت في عدة مؤلفات ذات شهرة عالمية - أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المسيحية الحالية ليست هي مسيحية المسيح بل لا تمت إلى مسيحية المسيح بصلة اللهم إلا الصلة الاسمية
۱ ناصر الدين محمد

فرأى أن نفراً من النصارى فى مختلف الأقطار الأوربية دانوا بالإسلام في الأعوام الأخيرة ويكثر عددهم على مر الأيام وفى لندن وليفربول جماعات إسلامية ذات شأن حقيقى منهم فريق من أعيان الإنجليز ۱
ورأى أن الذين يعتنقون الإسلام في وقتنا هذا من المسيحيين وغيرهم إنما هم من الخاصة سواء كانوا فى الهيئات الاجتماعية الأوربية أو الأمريكية كما أن إخلاصهم في ذلك لا شك فيه لأنهم أبعد ما يكونون عن الأغراض المادية ٢ وتبين له أنه أنحاء أوربا وأمريكا من اعتنقوا الإسلام وإذا كان هذا الأمر لا يزال قليل الأهمية إذا نظرنا إلى قلة عدد المعتنقين - وإن كان عددهم لا بأس به - فإنه ذو أهمية كبرى نظراً لمركز هؤلاء المعتنقين الذين ينتمون
يوجد في جميع
إلى الطبقات الراقية المتعلمة وتذكر منهم على سبيل المثال " اللورد هيدلى الإنجليزي وصديقنا المأسوف عليه المرحوم كرستيان شرفيس أحد تلاميذ أغست كومت “ وأديباً من أدباء فرنسا المعدودين وفيلسوفاً من فلاسفتها
بل
المشهورين ۳ ومما لا ريب فيه أن هناك مفكرين منصفين – لا غربيين فحسب - عالميين أيضاً درسوا الإسلام دراسة عميقة فأحبه البعض وناصره وآمن به البعض الآخر وأعلن إسلامه وصدق فيه ويقول أحدهم 4 إني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً مسلمون قلباً ولكن خوف الانتقاد والرغبة فى الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير

تآمرا على
ونحب أن نعرض فيما يلى لأمثلة من هؤلاء المفكرين المنصفين الذين لاشك أنهم
منعهم من إظهار معتقداتهم
قد قرأ لهم دينيه وتتبع آراءهم
الكونت هنری دی کاستری
وقصة تفكيره في دراسته للإسلام قصة طريفة
۱ ناصر الدين الشرق في نظر الغرب ٢ أشعة خاصة بنور الإسلام
۳ الحج إلى بيت الله الحرام لناصر الدين ترجمة م توفيق أحمد
٤ اللورد هيدلي

١٤
كان من كبار الموظفين بالجزائر رغم
سنه
المبكرة وكان يسير ممتطياً صهوة
جواده ويسير خلفه ثلاثون من فرسان العرب الأقوياء فخوراً بمركزه وكان يملؤه
الغرور للمدح الذى يزجيه إليه هؤلاء الذين تحت إمرته
وجدهم
وفجأة
يقولون له فى شىء من الخشونة وفى كثير من الاعتداد
بالنفس
لقد حان موعد صلاة العصر
0
"
ودون أن يستأذنوه فى الوقوف ترجلوا واصطفوا للصلاة متجهين إلى القبلة ودوت في أرجاء الصحراء كلمة الإسلام الخالدة و الله أكبر شعر الكونت فى هذه اللحظة بشيء من المهانة فى نفسه وبكثير من الإكبار والإعجاب بهؤلاء الذين لا يبالون به ذلك لأنهم اتجهوا إلى الله وحده بكل كيانهم وبدأ يتساءل ما الإسلام أهو ذلك الدين الذى تصوره الكنيسة في صورة بشعة تنفر منها النفس ولا يطمئن إليها الوجدان وبدأ يدرس الإسلام وتغيرت فكرته عنه ورأى من واجبه أن يعلن ما اهتدى إليه فكان كتاب الإسلام خواطر وسوانح ۱ وفى هذا الكتاب الطريف تحدث عن كثير من جوانب الإسلام سواء أكان ذلك فيما يتعلق بالرسول أم فيما يتعلق بالتعاليم الإسلامية وقد تحدث - فضلا عن ذلك – عن آراء مواطنيه وخصوصاً القدماء منهم في صورة من السخرية والتبكم وذهبوا إلى أن محمداً وضع دينه بادعائه الألوهية
ومن المستغربات قولهم إن محمداً الذى هو عدو الأصنام ومبيد الأوثان كان يدعو الناس لعبادته في صورة وثن من ذهب
ه بل لقد أغرق خيالهم في الضلال فذهبوا إلى أبعد من ذلك وذهبوا إلى أن صورة " ما هوم " ٢ كانت تصنع من أنفس الأحجار
والمعادن بأحكم صنع و وأدق إتقان
۱ ونحن نعتمد على هذا الكتاب على الخصوص في هذا المقال
المقصود محمد صلى الله عليه وسلم

۱۵
وبعد أن ذكر الكثير من آرائهم قال
ولقد أطلنا القول في تلك الأضاليل لأن تاريخ إسكندر۱ المذكور لم يزلها ولأنها تركت أثراً فى الأذهان وصل إلى أهل هذه الأيام وتشبعت به أفكارهم
في النبي وكتابه
ولكن ما هذه الحملة الشعواء الضالة التي تهزأ بالحق والضمير والتي
سر
لا يقرها دين أيا كان
ولو سأل سائل هل كان أولئك المفسرون يعتقدون صحة ما يقولون لأجبناه لا ونعم إذ من المحقق أن الاختلاط بين المسيحيين والمسلمين سهل للمنشدين معرفة الدين المحمدى على حقيقته ولكنهم ما كانوا يقصدون الحقائق التاريخية أناشيدهم بل حفظ روح البغضاء في نفوس قومهم
فی
هل هذه الروح التي كانت سائدة عند المسيحيين تجاه الإسلام اقتصرت على العصور الوسطى كلا
B
فلم يزل هذا الروح سائداً عند المسيحيين حتى أن المستشرق ” بريدو “ الإنجليزي ألف سنة ١٧٣٣ كتاباً فى سيرة النبي عنوانه ” حياة ذى البدع محمد “ وترجمه بعضهم إلى لغتنا وجعل له مقدمة بين فيها مقصد المؤلف فقال إن غرض واضع هذا الكتاب هو خدمة المقصد المسيحى الحكيم ثم يعقب الكونت على ذلك بهذه الكلمة الحكيمة
أولئك كتاب ما قصدوا التاريخ ولكنهم أرادوا خدمة المقصد المسيحى الحكيم كما يقولون وكان سلاحهم الوحيد في تأييد سواقط حججهم أن يشبع را خصمهم سبا وشتماً وأن يحرفوا في النقل ما استطاعوا
ثم يأخذ الكونت في الرد على الافتراءات ومن أولى هذه الافتراءات أن الرسول صلوات الله عليه كان يقرأ ويكتب فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل وأخذ
تعاليمه منهما
1 ألف القسيس إسكندر دويون كتاباً عام ١٢٥٨ م عن محمد
تاريخاً صحيحاً الرسول مع أنه ليس كذلك

وكان الناس يعدونه

وقد رد القرآن على هذه الفرية فقال وما كنت تتلو من
ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون
ويقول الكونت في هذا المعنى
ما كان يقرأ ولا يكتب بل كان كما وصف نفسه مراراً - نبياً أمينا - وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار ولم يكن بمكة قارئ أو كاتب سوى رجل واحد ذكره جارسين دى تاسي في كتابه الذي طبعه سنة ١٨٧٤ كذلك من الخطأ مع معرفة أخلاق الشرقيين أن يستدل على معرفة النبي للقراءة والكتابة باختيار السيدة خديجة رضى الله عنها إياه لمتاجرها في الشام ولم تكن لتعهد إليه أعمالها إن كان جاهلا غير متعلم فإنا نشاهد بين تجار العرب وكلاء لا يقرأون ولا يكتبون وهم في الغالب أكثرهم أمانة
كل قوم غير
وصدقاً
أما فكرة التوحيد فيستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - من مطالعته التوراة والإنجيل إذ لو قرأ تلك الكتب لردها لاحتوائها على مذهب التثليث وهو مناقض لفطرته مخالف لوجدانه منذ خلقه فظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته فى نبوته
أما صدق الرسول وسمو رسالته فقد أخذ كثير من رجال الكنيسة ومن رجال الاستعمار يشككون فيهما ورغم الوضوح الواضح في صدق الرسول وفى سمو الرسالة فإن رجال الدين من المسيحيين ورجال الاستعمار لا يزالون يبدئون ويعيدون فى ترداد التشكيك إلى هؤلاء وأولئك يقول الكونت
الإسلامية
والعقل يحار كيف يتأتى أن تصدر تلك الآيات عن رجل أمى وقد اعترف الشرق قاطبة بأنها آيات يعجز فكر بني الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى آيات لما سمعها عقبة بن ربيعة حار فى جمالها وكفى رفيع عبارتها لإقناع عمر بن الخطاب فآمن برب قائلها وفاضت عين نجاشى الحبشة بالدموع لما تلا عليه

جعفر بن أبي طالب سورة مريم وما جاء في ولادة يحيى
فلما كان اليوم الثانى طلب النجاشى جعفراً وأشار إليه بتلاوة ما في القرآن عن المسيح ففعل واستغرب الملك لما سمع أن المسيح عبد الله ورسوله وروح منه ونزل في أمه مريم وأعجب أشد الإعجاب بهذه المعانى وحمى المسلمين ولم يسلمهم إلى رسل قريش ولم ينفهم من بلاده
أما هؤلاء الذين بلغ بهم التعسف مداه فظنوا أن هذه الفترات التي يغيب فيها الرسول عن هذا العالم ليكون بكليته مستغرقاً فى الملأ الأعلى إنما هي فترات مرضية أو هي الصرع ورغم تكذيب الطب لمزاعمهم مستنداً إلى الاختلاف الكلى بين أعراض الصرع وأعراض الوحى فقد أعماهم التعصب عن رؤية الحقيقة وإليهم يقول الكونت
يترجمه
يقف لسانه
ومن ذلك الحين – أى البعثة - أخذت شفتاه تنطلق بألفاظ بعضها أشد قوة وأبعد مرمى من بعض والأفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى ولا يطيعه الصوت ولا يجد من الألفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفع عن مدارك الإنسان وسما عن أن أو لسان وكانت تلك الانفعالات تظهر على وجهه بادية فظن بعضهم أن به جنة وهو رأى باطل لأنه بدأ رسالته بعد الأربعين ولم يشاهد عليه قبل ذلك أي اعتلال في الجسم أو اضطراب في القوة المادية وليس من الناس من عرف الناس جميعاً أحواله في حياته كلها مثل النبي صلى الله عليه وسلم فلقد وصل المحدثون عنه إلى أنهم كانوا يعدون الشعر الأبيض في لحيته ولو أنه كان مريضاً لما أخفى مرضه لأن المرض في مثل تلك الأحوال يعتبر أمراً سماويا عند الشرقيين
وليست حالة محمد صلى الله عليه وسلم في انفعالاته وتأثراته بحالة ذي جنة بل كانت مثل التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها لقد شعرت بأن قلبي انكسر بين أضلعي وارتعشت منى العظام فصرت كالنشوان لما قام بى من
الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة

JA
ونختم الحديث عن آراء الكونت بهذا الوصف الرائع لتلك الساعة الأليمة التي فارق فيها الرسول عالمنا الدنيوى ليلحق بالرفيق الأعلى ولينعم برضوان الله
إذ يقول
ولما أحس بقرب الأجل ذكر الفقراء فإنه لم يرغب طول حياته في المال بل كان كلما ا جمع إليه شيء منه أنفقه فى الصدقات وكان قد أعطى عائشة يسيراً لتحفظه فلما حضره المرض أمر بإنفاقه على المعوزين لساعته وغاب في سنة ولما أفاق سألها إن كانت أنفذت أمره فأجابته كلا فأمر بالنقود وأشار
إلى العائلات المعوزات فوزع عليهم وقال الآن استراح قلبى فإنى كنت أخشى أن ألاقى ربى وأنا أملك هذا
المال
ه وكان في مرضه يخرج كل يوم ليصلى الظهر بالناس وآخر يوم خرج فيه هو الثامن من شهر يونية سنة ٦٣٢ وكانت مشيته مضطربة فتوكأ على الفضل بن العباس وعلى بن أبى طالب وقصد منبر الخطابة الذى كان يعظ الناس عليه قبل الصلاة وحمد الله وأثنى عليه ثم خطب في المسلمين بصوت رفيع سمعه من كان خارج المسجد فقال ما معناه
أيها الذين تسمعون قولى إن كنت ضربت أحدكم على ظهره فدونه ظهرى فليضربه وإن كنت أسأت سمعة أحد فلينتقم من سمعتى وإن كنت سلبت أحداً ماله فإليه مالى يقتص منه وهو في حل من غضبي فإن الغل بعيد عن
قلبي !
ثم نزل من على المنبر وصلى بالجماعة ولما أراد الانصراف أمسك به رجل من إزاره وطلب منه ثلاثة دراهم ديناً له فأداها على الفور قائلا
D
لخزي الدنيا أهون من خزى الآخرة

ثم دعا لمن حارب معه في أحد وسأل الله لهم الرحمة والغفران
وكان مشهد النبي بين المؤمنين في ذلك اليوم مشهد جلال ووقار والناس يلمحون على وجهه تأثير السم الذى شربه من يد يهودية خيبر وقلوبهم متفطرة من الوجد عليه ذلك أنه لما كان فى واقعة خيبر قدمت إليه يهودية اسمها زينب
6

۱۹
شاة مشوية مسمومة
أضافت إليها سما فأخذ منه النبي قطعة واحدة بين شفتيه وأحس بأنها
فألقاها ثم لما حضرته الوفاة بعد حين كان يقول ما زالت تعاودني
أكلة خيبر
D
وكان أبو بكر نفسه يبكى ويقول للرسول " هلا افتدينا روحات بأرواحنا “ ثم أوصله الصحابة إلى بيت عائشة واضطجع تعباً مهزولا وصار المرض يشتد عليه فتخلف عن الصلاة بالمسلمين وقيل له قد جاء وقت الظهر فأشار إلى أبى بكر ليصلي بالناس فكان من وراء هذه الإشارة خلافة أبي بكر بعد النبي وأخبرت عائشة رضى الله عنها عن حالة الاحتضار فقالت "كان رأس سول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً إلى صدرى وبقربه قدر ماء وكان يقوم ليضع فيها يده ويمسح جبينه ويقول "رب أعنى على تحمل سكرات الموت ادن منی یا جبريل رب اغفرلى واجمع بين أصدقائي في السماء" ثم نقلت رأسه
ومال ثانية إلى صدرى
کارلایل وكارلايل أحد كبار كتاب الإنجليز شاعرى النزعة والفطرة متحرر من الرياء والخبث يتتبع البطولة فيكتب عنها ويمتدحها ويحبب الناس في السمو بأنفسهم إلى منازل الأبطال أو على الأقل إلى التشبه بهم وقد أثار كتابه الأبطال إعجاباً في ميدان الفكر العالمى وترجم إلى كل اللغات الحية وحينما ترجمه المرحوم محمد السباعى إلى اللغة العربية أثار الكثير من الإعجاب وقد كان لأسلوب الأستاذ السباعى البارع أثر في انتشار الكتاب ومن لم يقرأه لمعانيه قرأه لأسلوبه وفى هذا الكتاب فصل مستفيض عن حياة الرسول صلوات الله عليه نقتطف منه ما يلى
من العار أن يصغى أى إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين إن دين الإسلام كذب وإن محمداً لم يكن على حق
لقد آن لنا أن نحارب هذه الادعاءات السخيفة المخجلة فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي ظلت سراجاً منيراً أربعة عشر قرناً من الزمان لملايين كثيرة الناس فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة التى عاشت عليها هذه الملايين
من

۰
وماتت أكذوبة كاذب أو خديعة مخادع ولو أن الكذب والتضليل يروجان عند الخلق هذا الرواج الكبير لأصبحت الحياة سخفاً وعبثا وكان الأجدر بها
ألا توجد
هل رأيتم رجلا كاذباً يستطيع أن يخلق ديناً ويتعهده بالنشر بهذه الصورة إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبنى بيتاً من الطوب لجهاه بخصائص مراد البناء وإذا بناه فما ذلك الذي يبنيه إلا كومة من أخلاط هذه المواد فما بالك بالذي يبنى
بيتاً دعائمه هذه القرون العديدة وتسكنه هذه الملايين الكثيرة من الناس ! وعلى ذلك فمن الخطأ أن نعد محمداً رجلا كاذباً متصنعاً متذرعاً بالحيل
والوسائل لغاية أو مطمع وما الرسالة التي أداها إلا الصدق والحق ه وما كلمته إلا صوت حق صادق صادر من العالم المجهول وما هو إلا شهاب أضاء العالم أجمع ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أحب محمداً لبراء طبعه من الرياء والتصنع ولقد كان ابن الصحراء مستقل الرأى لا يعتمد إلا على نفسه ولا يدعى ما ليس فيه ولم يكن متكبراً ولا ذليلا فهو قائم فى ثوبه المرقع كما أوجده الله يخاطب بقوله الحر المبين أكاسرة العجم وقياصرة الروم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة والحياة
الآخرة
وما كان محمد يعاشق قط ولا شاب قوله شائبة لعب ولهو فكانت المسائل عنده مسألة فناء وبقاء أما التلاعب بالأقوال والعبث بالحقائق فما كان من
عادته قط
ويزعم المتعصبون أن محمداً لم يكن يريد بدعوته غير الشهرة الشخصية والحياة والسلطان كلا واسم الله لقد انطلقت من فؤاد ذلك الرجل الكبير النفس المملوء رحمة وبرا وحناناً وخيراً ونوراً وحكمة أفكار غير الطمع الدنيوى وأهداف سامية غير طلب الجاه والسلطان
بلاد
ويزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره حمق وسخافة وهوس إن رأينا رأيهم أية فائدة لرجل على هذه الصورة في جميع العرب وفى تاج قيصر وصولجان كسرى جميع ما بالأرض من تيجان !

ا لم يكن كغيره يرضى بالأوضاع الكاذبة ويسير تبعاً للاعتبارات الباطلة
ولم يقبل أن يتشح بالأكاذيب والأباطيل
لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة وبحقائق الكون والكائنات لقد كان الوجود يسطع أمام - عينه بأهواله ومحاسنه ومخاوفه
اسر
ا لهذا جاء صوت هذا الرجل منبعثاً من قلب الطبيعة ذاتها لهذا وجدنا الآذان إليه مصغية والقلوب لما يقول واعية
لقد كان زاهداً متقدماً فى مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله فكان طعامه عادة الخبز والماء وكثيراً ما تتابعت الشهور ولم توقد
بداره نار
فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة فحبذا محمد من رجل متقشف خشن الملبس والمأكل مجتهد في الله دائب فى نشر دين الله غير طامح إلى ما يطمح إليه غيره من رتبة أو دولة أو سلطان
ولو كان غير ذلك لما استطاع أن يلاقى من العرب الغلاظ احتراماً وإجلالا وإكباراً ولما استطاع أن يقودهم ويعاشرهم معظم وقته ثلاثاً وعشرين حجة وهم ملتفون حوله يقاتلون بين يديه ويجاهدون معه لقد كان في قلوب العرب جفاء وغلظة وكان من الصعب قيادتهم وتوجيههم لهذا كان من يقدر على ترويضهم وتذليلهم بطلا وايم الله
لمشيئته
ولولا ما وجدوا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا
ه وفى ظني أنه لو وضع قيصر بتاجه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي لما استطاع قيصر يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع !
هكذا تكون العظمة !
ه وهكذا تكون البطولة ! وهكذا تكون العبقرية !

تولستوی
لقد كان
من
ولعلنا لسنا بحاجة إلى الحديث عن تولستوى أديب وكاتب روسيا الأعظم هؤلاء الذين سمت نفوسهم إلى درجة لا نكاد نجد لها مثيلا في التاريخ إلا نادراً كانت سعادة الإنسانية همه الملازم فى كل آونة كان باستمرار يفكر في تخفيف ويلات بني الإنسانية في معالجة مرضاهم في تسلية بائسهم في إطعام جائعهم في التخفيف عن منكوبهم وككل العباقرة الذين تسمو بهم عبقريتهم عن المستوى العادى صادف في حياته العقبات والآلام وبغض الحاقدين وكراهية الذين لا يحبون الحق ومن مآثره الكريمة أنه حينما رأى الحملة الظالمة على الإسلام وعلى رسول الإسلام كتب رأيه فى هذا الدين الذى أعجب به وتحدث عن رسوله الذي نال إكباره وكان جزاؤه على ذلك أى على كلمة الحق التي يدين بها أن البابا من رحمة الله فكان ذلك كما يقول الشيخ محمد عبده مخاطباً الأديب الكبير فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين ونحن ننشر هنا كلمة صغيرة جداً من رأيه ثم ننشر خطاب الشيخ محمد عبده
الذي وجهه إليه
يقول تولستوى
حرمه
و لا ريب أن هذا النبي من كبار الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق وجعلها تجنح للسلام وتكف عن سفك الدماء وتقديم الضحايا ه ويكفيه فخراً أنه فتح طريق الرقى والتقدم وهذا عمل عظيم لا يفوز به إلا شخص أوتى قوة وحكمة وعلماً ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال
أما خطاب الشيخ محمد عبده فهو التالي ١
أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوى ه لم نحظ بمعرفة شخصك ولكنا لم نحرم التعارف مع روحك سطع علينا
۱ وقد نشره الشيخ رشيد رضا فى كتابه عن الشيخ محمد عبده

نور من أفكارك وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفساء هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها ووفقات إلى الغاية
التي هدى البشر إليها فأدركت أن الإنسان جاء هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويربى جنسه وشعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة وبما استعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم

ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة
التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم وكما كانت آرازك ضياء يهتدى بها الضالون كان مثالك في العمل إماماً يقتدى به المسترشدون
وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للضعفاء والفقراء وإن أرفع مجد بلغته وأكبر جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد فليس ما حصل لك من رؤساء الدين
سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك في أقوالهم كما كنت فارقتهم في عقائدهم
عمرك
هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلبك فيما تستقبل من أيام
وإنا نسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم قولك ويسوق النفوس إلى التأسى بك فى عملك والسلام
اللورد هيدلى
كان لإسلام اللورد هيدلى ضجة كبيرة لمركزه ولما يعلمه فيه عارفوه من نضج
في التفكير وترو فى الأمور
كيف أسلم اللورد هيدلى
ما هي العوامل التي دعته إلى اعتناق الإسلام !

٢٤
إننا فى الصفحات التالية سنذكر جملة من النصوص ترشد القارئ إلى سبب رفضه المسيحية وإلى سبب إسلامه وإلى تصويره لكثير من وجهات النظر
الإسلامية وهو يقول
جو
عندما كنت أقضى - أنا نفسى - الزمن الطويل من حياتى الأولى فى المسيحية كنت أشعر دائماً أن الدين الإسلامى به الحسن والسهولة وأنه خلو
من عقائد الرومان والبروتستانت !
وثبتني في هذا الاعتقاد زيارتي للشرق التي أعقبت ذلك ودراستي القرآن
المجيد
له الله لكم تألم وقاسى فى سبيل وصوله إلى الحق استمع إليه يقول
فكرت وصليت أربعين سنة كى أصل إلى حل صحيح
ويجب على أن أعترف أيضاً أن زيارتي للشرق ملأتى احتراماً عظيماً للدين المحمدى السلس الذي يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة طول مدة الحياة لا في أيام الآحاد فقط
ويرى أن الإسلام هو الدين العالمي حقاً أيمكن إذن أن يوجد دين يمكن العالم الإنسانى من أن يجمع أمره على عبادة الله الواحد الحقيقى الذى هو فوق الجميع وأمام الجميع بطريقة سهلة خالية من الحشو فكر لحظة – وذلك تفكير لازم لكمال البشر في الحقيقة – أنه لو أصبح

كل فرد في الإمبراطورية الإنجليزية محمديا حقيقياً بقلبه وروحه لأصبحت إدارة الأحكام أسهل من ذلك لأن الناس سيعملون بدين حقيقى
وها هو ذا يعبر عن الشكر حينما هداه الله
روح
الشكر هي خلاصة الدين الإسلامي والابتهال أصل في طلب القيادة
والإرشاد من الله
إنه وإن كان شكرى الله على كرمه وعنايته كان متأصلا في من صغرى
وأيام حداثتي إلا أنى لا أستطيع أن أشاهد ذلك من خلال السنين القليلة الماضية

Yo
التي قرع فيها الدين الإسلامي لبي حقا وتملك رشدى صدقاً وأقنعنى نقاؤه وأصبح حقيقة راسخة في عقلى وفؤادى إلا التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتهما قط من قبل كما أستنشق هواء البحر الخالص النقى وبتحققى من سلاسة وضياء وعظمة الإسلام ومجده أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار
ومما يذكر من تعاليم الإسلام مشيداً به ه ليس هناك في الإسلام إلا إله واحد نعبده ونتبعه إنه أمام الجميع وفوق الجميع وليس هناك قدوس آخر نشركه معه إنه لمن المدهش حقا أن تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية أن تحجب عن نظرهم رؤية السماء رؤية أبيهم
القهار المتصل دواماً بكل مخلوقاته سواء كانوا عاديين أم أولياء مقدسين
مفتاح السماء موجود دائماً فى مكانه ويمكن إدارته لأذل وأقل المخلوقات دون أية مساعدة من نبي أو كاهن أو ملك إنه كالهواء الذي نستنشقه مجاناً لكل
خلق الله
أما هؤلاء الذين يجعلون الناس يفهمون غير ذلك فما دعاهم إلى هذا العمل
الفائدة إلا حب

لأبين
ليس غرضى الرئيسى أن أهاجم أى فرع معين من فروع الديانة جلال وسلاسة الديانة الإسلامية التي هي خالية فى نظر الكاتب المنصف من العوائق الظاهرة جليا فى كثير من الديانات الأخرى
هذه
ولقد افترى كثير على الإسلام وهاهو ذا يرد على افتراءاتهم ليس في وسع الإنسان فى الحقيقة إلا أن يعتقد أ أن مدیجی وناسجی الافتراءات لم يتعلموا حتى ولا أول مبادئ دينهم وإلا لما استطاعوا أن ينشروا في جميع أنحاء العالم تقارير معروفاً لديهم أنها محض كذب واختلاق إن تعاليم القرآن الكريم قد نفذت ومورست فى خلال حياة محمد الذى - سواء في أيام تحمله الألم والاضطهاد أو في زمن انتصاره ونجاحه أظهر أشرف الصفات الخلقية التى لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها

٢٦
ه فكل صفات الصبر والثبات فى عصره كانت ترى أثناء الثلاث عشرة سنة التي تألمها في مجاهداته الأولى بمكة ولم يشعر في كل زمن هذا الجهاد بأى تزعزع في الثقة بالله وأتم كل واجباته بشمم وحمية
و كان صلى الله عليه وسلم مثابراً ولا يخشى أعداءه لأنه كان يعلم بأنه
مكلف بهذه المأمورية من قبل الله ومن كلفه بهذا العمل لن يتخلى عنه ه وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا تعرف الجفول - تلك الشجاعة التي كانت حقا إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة - إعجاب واحترام الكافرين وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله ومع ذلك فقد انتبهت مشاعرنا وازداد إعجابنا به بعد ذلك في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل بل عفا عن كل أعدائه
العفو والإحسان والشجاعة ومثل هاتيك الصفات كانت ترى منه في كل تلك المدة حتى إن عدداً عظيماً من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند رؤية
ذلك
عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا ألد أعدائه عندما كانت حياتهم في قبضة يده تحت رحمته !
عن

تلك الأخلاق الربانية التى أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب بأن حائزها يجب أن لا يكون إلا من عند الله وأن يكون رجلا على الصراط المستقيم وكراهيتهم المتأصلة في نفوسهم حولتها تلك الأخلاق الشريفة إلى محبة وصداقة
متينة
محمد المثل الكامل
لا نحن نعتبر أن حقيقية وزنت واختبرت فى كل خطوة من خطا حياته ولم ير فيها أقل نقص
نبي بلاد العرب الكريم ذو أخلاق متينة وشخصية
قط
وبما أننا في احتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطوات الحياة فحياة
النبي المقدس تسد تلك الحاجة

حياة محمد كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل الراقي والسخاء والكرم والشجاعة والإقدام والصبر والحلم والوداعة والعفو وباقى الأخلاق الجوهرية التي تكون الإنسانية
ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة خذ أى وجه من وجوه الآداب وأنت تتأكد بأنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياته
ومحمد وصل إلى أعظم قوة وأتى إليه مقاوموه ووجدوا منه شفقة لا تجارى
وكان ذلك سبباً في هدايتهم !
هو
رحم الله
الله
اللورد هيدلى وجزاه عن الإسلام خير الجزاء
الشيخ عبد الواحد يحيى
ولعل دينيه قد اتصل فى أواخر حياته بمفكر آخر من أعلام المفكرين العالم الفيلسوف الحكيم الصرفي رينيه جينو الذي يدوى اسمه في أوربا قاطبة وفى أمريكا والذى يعرفه كل هؤلاء الذين يتصلون بالدراسات الفلسفية والدينية وقد كان إسلامه ثورة كبرى هزت ضمائر الكثيرين من ذوى البصائر الطاهرة فاقتدوا به واعتنقوا الإسلام وكونوا جماعات مؤمنة مخلصة تعبد الله على يقين في معاقل الكاثوليكية في الغرب
وكان سبب إسلامه بسيطاً منطقياً في آن واحد

لقد أراد أن يعتصم بنص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلم يجد بعد دراسة عميقة - سوى القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل لأن الله تكفل بحفظه وحفظه حقيقة إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لم يجد سوى القرآن نصاً مقدساً صحيحاً فاعتصم به وسار تحت لوائه فغمره الأمن النفسانى فى رحاب الفرقان ومؤلفاته كثيرة مشهورة من بينها كتاب أزمة العالم الحديث بين فيه الانحراف الذي تسير فيه أوربا الآن والضلال المبين الذي أعمى الغرب عن
سواء السبيل
أما كتابه الشرق والغرب فهو من الكتب الخالدة التي تجعل كل

شرقى يفخر بشرقيته وقد رد فيه إلى الشرق اعتباره مبيناً أصالته في الحضارة وسموه في التفكير وإنسانيته التى لا تقاس بها مادية الغرب وفساده وامتصاصه للدماء وعدوانه الذي لا يقف عند حد وظلمه المؤسس على المادية والاستغلال ومظهراً في كل صفحة من صفحاته نبل الشرقيين وعمقهم وفهمهم الأمور فهماً يتفق مع الفضيلة ومع أسمى المبادئ الإنسانية !
وقد كتبنا عنه تقريراً لإحدى جامعاتنا المصرية للتعريف به ننشره فيما يلى رينيه جينو من الشخصيات التى أخذت مكانها في التاريخ يضعه المسلمون بجوار الإمام الغزالى وأمثاله ويضعه غير المسلمين بجوار أفلوطين
صاحب الأفلاطونية الحديثة وأمثاله

وإذا كان الشخص فى بيئتنا الحالية لا يقدر التقدير الذي يستحقه إلا رينيه جينو قدر أثناء حياته وقدر
د"
" أنه
بعد وفاته فقد كان من حسن بعد وفاته أما في أثناء حياته فكان أول تقدير له أن حرمت الكنيسة قراءة كتبه والكنيسة لا تفعل هذا إلا مع كبار المفكرين الذين تخشى خطرهم وقد وضعته بذلك بجوار عباقرة الفكر الذين اتخذت تجاههم نفس المسلك ولكنها رأت في " رينيه جينو " خطراً يكبر كل خطر سابق فحرمت حتى الحديث عنه وإذا كان هذا تقديراً سلبياً له قيمته فهناك التقدير الإيجابي الذي لا يقل في أهميته عن التقدير السلبي فهناك هؤلاء الذين استجابوا لدعوة رينيه جينو “ فألفوا جمعيات فى جميع العواصم الكبرى في العالم وعلى الخصوص في سويسرا وفى فرنسا والمكونون لهذه الجمعيات احتذوا حذو رينيه جينو “ فاتخذوا الإسلام ديناً والطهارة والإخلاص وطاعة الله شعاراً وديدنا ويكونون وسط هذه المادية السابغة وهذه الشهوات المتغلبة واحات جميلة يلجأ إليها كل من أراد الطهر والطمأنينة
ومن التقدير الإيجابى أيضاً أن كتبه رغم تحريم الكنيسة لقراءتها قد انتشرت في جميع أرجاء العالم وطبعت المرة بعد الأخرى وترجم الكثير منها إلى جميع اللغات الحية الناهضة ما عدا العربية للأسف الشديد
ومن الطريف أن بعض الكتب ترجم
إلى لغة الهند الصينية ووضعت

كشرح للوصية الأخيرة من وصايا ” الدالاي لاما “ ولم يكن يوجد في الغرب شخص متخصص في تاريخ الأديان إلا وهو على علم بآراء " دينيه جينو
كل هذا التقدير كان في حياته
و"
أما بعد مماته فقد زاد هذا التقدير لقد كتب عنه جميع صحف العالم ومنها بعض الصحف المصرية العربية
وقد خصصت له مجلة " فرنسا - آسيا " وهى مجلة محترمة عدداً ضخماً كتب فيه كبار الكتاب الشرقيين والغربيين وافتتحته بتقدير كاتب فرنسا الأكبر " أندريه جيد " وقوله في صراحة لا لبس فيها إن آراء " رينيه جينو “
لا تنقض
وخصصت مجلة " إيتود ترا ديسيونيل “ وهى المجلة التي تعتبر في الغرب كله لسان التصوف الصحيح عدداً ضخماً من أعدادها كتب فيه أيضاً كبار الكتاب الشرقيين والغربيين ثم خصص له الكاتب الصحفى الشهير بول سيران “ كتاباً ضخماً تحدث فيه عن حياته وعن آرائه ووضعه كما وضعه الآخرون الذين كتبوا عنه في المكان اللائق به بجوار الإمام الغزالى أو الحكيم أفلوطين
نشأ " رينيه جينو " فى فرنسا من أسرة كاثوليكية ثرية محافظة نشأ مرهف الحس مرهف الشعور مرهف الوجدان متجهاً بطبيعته إلى التفكير العميق والأبحاث الدقيقة وهاله حينما نضج تفكيره ما عليه قومه من ضلال فأخذ يبحث في جد عن الحقيقة ولكن أين هي أفى الشرق أم في الغرب وهل هي في السماء أو في الأرض
أين الحقيقة سؤال وجهه " رينيه جينو" إلى نفسه كما وجهه من قبل إلى نفسه الإمام المحاسبي والإمام الغزالى والإمام محيى ا الدين بن عربى وكما وجهه من قبلهم عشرات من المفكرين الذين أبوا أن يستنيموا للتقليد الأعمى وتأتى فترة الشلك والحيرة والألم الممض ثم يأتى عون الله وكان عون الله بالنسبة إلى رينيه جينو " أن بهرته أشعة الإسلام الخالدة وغمره ضياؤه الباهر فاعتنقه

وتسمى باسم الشيخ عبد الواحد يحيى وأصبح جنديا من جنوده يدافع عنه
ويدعو إليه
ومن أمثلة ذلك ما كتبه فى كتابه "رمزية الصليب “ تفنيداً للفرية التي تقول إن الإسلام انتشر بالسيف ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كتبه في مجلة "كاييه دى سود في عددها الخاص بالإسلام والغرب دفاعاً عن الروحانية الإسلامية لقد أنكر الغربيون روحانية الإسلام أو قللوا من شأنها وأشادوا بروحانية المسيحية وأكبروا من شأنها ووضعوا التصوف المسيحى فى أسمى مكانة وقللوا من شأن التصوف الإسلامي فكتب الشيخ عبد الواحد يحيى مبيناً سمو التصوف الإسلامي وروعته وقارن بينه وبين ما يسمونه بالتصوف المسيحى أو " المستيسزم " وانتهى بأن هذا المستيسزم لا يمكنه أن يبلغ ولا عن بعد ما بلغه التصوف الإسلامي من سمو ومن
جلال
على أن الشيخ عبد الواحد يحيى لم يشد بالإسلام فحسب وإنما أشاد في
جميع كتبه وفي مواضع لا يأتى عليها الحصر بالشرق لقد دأب الاستعمار على أن يغرس في نفوس الشرقيين انهم أقل حضارة بل أقل إنسانية من الغربيين وأتى الشيخ عبد الواحد فقلب الأوضاع رأساً على عقب وبين للشرقيين قيمتهم وأنهم منبع النور والهداية ومشرق الوحى
والإلهام
الدكتور جرينييه
قال الرحالة السيد محمود سالم في مقال له نشر في مجلة المنار مجلد ١٤
ص ٥١٨ قصدت فى سياحاتى مدينة " بونتار ليه " لمقابلة الدكتور " جرينييه
المسلم الفرنساوى الشهير الذي كان في السابق عضواً في مجلس النواب قابلته لأجل أن أسأله عن سبب إسلامه فقال إنى تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية والتي درستها من صغرى وأعلمها جيداً فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت لأنى تيقنت أن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة من قبل أن يكون معلم أو مدرس من البشر ولو أن كل صاحب فن من الفنون
66

علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيداً كما قارنت أنا لأسلم بلا شك إن كان عاقلا خالياً من الأغراض
لماذا أسلم دينيه ولنعد إلى دينيه فنتساءل كيف ولماذا أسلم وما الميزات والخصائص التي جعلته يمنح الإسلام من الثقة ما لم يمنحه للمسيحية لقد كانت الشكوك الكثيرة تدور فى نفسه عندما وقعت في يده نسخة من مجلة
إنجليزية فإذا به يجد فيها جواباً عن أسئلته إذ قرأ فيها
لماذا صار بعض الإنجليز وغيرهم من الأوربيين مسلمين
ذلك لأنهم كانوا يتلمسون عقيدة سهلة معقولة عملية في جوهرها – لأننا معاشر الإنجليز نتبجح بأننا أكثر أهل الأرض تشبئاً بالعمل – عقيدة تكون ملائمة لأحوال جميع الشعوب وعاداتهم وأعمالهم عقيدة دينية صحيحة يقف بها المخلوق أمام الخالق بدون أن يكون بينهما وسيط
أحق هذا
إن دينيه لا يأخذ الأشياء قضية مسلمة وإذا كان العقل يعجز عن اختراق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة فإنه مع ذلك الأداة التي ترشدنا إلى وجه الحق فيما يعرض لنا من أمور فأخذ يزن الأمور وأخذ يبحث أحق أن الإسلام هو العقيدة الدينية الصحيحة
صلاحية العقيدة الإسلامية لكل زمان ومكان
وكان من التوفيق أن سافر دينيه إذ ذاك إلى الجزائر وتنقل في بلاد المغرب فخالط المسلمين وعاشرهم وسمع منهم وسألهم وناقشهم وفكر وتأمل فرأى كما يذكر في رسالته أشعة خاصة بنور الإسلام أن العقيدة المحمدية لا تقف عقبة فى سبيل التفكير فقد يكون المرء صحيح
الإسلام وفى الوقت نفسه حر التفكير
"
وكما أن الإسلام قد صلح - منذ نشأته - لجميع الشعوب والأجناس فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات وأن تعاليم المعتزلة ذات القرابة المستترة والصلة الخفية بتعاليم الصوفية تجد مكاناً رحباً وقبولا

حسناً ورضاء سهلا سواء عند العالم الأوربى أو عند الزنجي الإفريقي وهو الذي يصعب على المرء تخليصه من معتقداته الخرافية ومن معبوداته وأصنامه وبينما تجد الإسلام يهيج من نفس الرجل العملى في أسواق لندن حيث مبدأ
القوم " الوقت من ذهب “ إذ هو يأخذ بلب ذلك الفيلسوف الرومانى وكما يتقبله – عن رضا - ذلك الشرقى ذو التأملات ورب الخيال إذ يهواه
ذلك الغربي الذي أفناه الفن وتملكه الشعر ۱
من
لقد وقرت هذه الفكرة فى نفس دينيه حتى إنه ليرددها في الكثير من كتبه فيما بعد يقول في آخر كتبه و الحج إلى بيت الله الحرام لو كان الإسلام الحقيقى معروفاً في أوربا لكان من المحتمل أن ينال - أكثر من أي دين آخر العطف والتأييد من جراء روح التدين التي نجمت عن الحرب الكبرى فإنه – والحق يقال - يلائم جميع ميول معتنقيه على اختلاف مشاربهم فهو ببساطته المتناهية - كما يذهب إليه المعتزلة - وباشتماله على روح التصوف كما يذهب إليه الصوفية - يهدى علماء أوربا وآسيا إلى الطريق المستقيم ويجدون فيه تعزية وسلوى من غير أن يحول بينهم وبين حريتهم التامة في آرائهم وأفكارهم كما أنه تعزية وهدى لزنوج السودان الذين ينتزعهم من أحضان أوهامهم
الوثنية
ويرقى

بروح ذلك التاجر الإنجليزى رجل العمل الذي يعتبر الوقت من ذهب كما يرقى بروح الفيلسوف المتدين ويسمو بنفس الغربي الشغوف بالفن والشعر بل هو يسحر لب الطبيب العصرى بما قرره من الوضوء المتكرر كل يوم وبما في الصلاة من حركات منتظمة تفيد الجسم والروح معاً وفى وسع حر الفكر - وهو ليس ملحداً حتما - أن يعتبر الوحى الإسلامى عملا من أعمال تلك القوة الخفية التي نسميها " الإلهام " وأن يعتقد به من غير أية صعوبة بما أنه لا يحتوى على أسرار خفية لا يسيغها العقل
ويردد الفكرة نفسها فى كتابه عن حياة سيدنا محمد لقد رسخت هذه الفكرة
۱ عن أشعة خاصة بنور الإسلام
من كتاب الحج إلى بيت الله الحرام

۳۳
في نفسه من أول وهلة واستمرت معه إلى نهاية حياته لقد وقر في ذهنه أن الإسلام
دين عام خالد
الموازنة بين الإسلام والمسيحية
ولكنه لأجل أن يتبين فى وضوح الفروق الجوهرية بين الإسلام والمسيحية ولأجل أن يصل إلى الحد الأسمى فيما يتعلق بالإخلاص لضميره الديني أخذ يوازن موازنة قيمة بين الإسلام والمسيحية فرأى
ا فيما يتعلق بالإله
الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذى لم يتخذ فيه الإله شكلا بشريئًا أو ما إلى ذلك من الأشكال أما فى المسيحية فإن لفظ " الله " تحيطها تلك الصورة الآدمية لرجل شيخ طاعن فى السن قد بانت عليه جميع دلائل الكبر والشيخوخة والانحلال فمن تجاعيد بالوجه غائرة إلى لحية بيضاء مرسلة مهملة تثير في النفس ذكرى الموت والفناء ونسمع القوم يصيحون ” ليحيا الله " فلا نرى للغرابة محلا ولا نعجب لصيحتهم وهم ينظرون إلى رمز الأبدية الدائمة وقد تمثل أمامهم شيخاً هرماً قد بلغ أرذل العمر فكيف لا يخشون عليه من الهلاك والفناء وكيف لا يطلبون
الله
له الحياة ! ! كذلك " ياهو " الذي يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي فهم يجعلونه في مثل تلك المظاهر المتهالكة وكذلك تراه فى متحف " الفاتيكان " وفى نسخ الأناجيل المصورة القديمة أما " الله " في دين الإسلام الذي حدث عنه القرآن فلم يجرؤ مصور أو نحات أن تجرى به ريشته أو ينحته إزميله ذلك لأن ” الله " لم يخلق الخلق على صورته وتعالى سبحانه فلم تكن له صورة ولا حدود محصورة وهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يكن له كفواً أحد ۱
66
ب فيما يتعلق بالصلاة والنظافة
إن الحركات والإشارات في الصلاة الإسلامية هی لم يسبق لها مثيل من نوعها فى صلاة غيرها
1 أشعة خاصة بنور الإسلام
ذات بساطة ولطافة ونبالة

كما أنها لا تدعو الوجوه بالتظاهر والتكلف ولا العيون بالشخوص إلى السماء واستنزال الدموع الذى تذكرنا بالدموع الجليسرينية التى يصطنعها ممثلو " ا السينما “ في عصرنا الحاضر حقاً إن الصورة الإسلامية خالية من تلك الأمور الشائنة التي خصها المسيحيون بالصلاة المسيحية مما جعلها فى غير جمال ولا جلال ولا وقار والأقوال والحركات التي في الصلاة الإسلامية هي ذات دلالة على الرزانة والهدوء والاطمئنان وهي خالية من مبالغات الورع وتكلفات الخضوع والتظاهر بذلك مما هو غريب في العبادات لأن الله سبحانه وتعالى عليم بما في الصدور وهو الغنى
الحميد
ه ثم إن من الأمور الغريبة تخصيص وجود الإله في السماء عند دعوته وهذه الحال تحمل في طياتها إلحاداً إذ تجعل السماء منفى الإله وتنفى بذلك عنه صفة الوجود في كل مكان
وحركات الصلاة الإسلامية فوق تعبيرها التام عما تحمل نفوس المؤمنين من العاطفة النبيلة نحو المولى الكريم تقوم للجسم بأعظم مزايا الحركات الرياضية فهي مفروضة الأداء خمس مرات فى اليوم الواحد وكم من شيخ كبير وبدين سمين يستطيع كلاهما السجود والركوع والوقوف دون كبير عناء ولا مشقة مما لا يستطيعه المسيحي في مثل هذه السن أو فى مثل هذا الحال ما لم يكن قد روض ذلك من قبل أضف إلى ذلك حكمة الوضوء الذى يسبق كل صلاة ففيها للبدن انتعاش وصحة ونظافة والنظافة من الإيمان ۱
على
ج في التسامح
يقول القس ميشون فى كتابه سياحة دينية فى الشرق إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم
د في العلم رفع النبي محمد قدر العلم إلى أعظم الدرجات وأعلى المراتب ٢ وجعله من أول
1 أشعة خاصة بذور الإسلام
٢ يقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين نهض الإسلام بالعقول من وهدة الحمول وأذن لها

واجبات المسلم وفى ذلك يقول اطلبوا العلم ولو بالصين و يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء و شرار العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار
الأمراء الذين يأتون العلماء و فضل العلم - خير من فضل العبادة ۱ وقد نظر المسيو و كازانوفا أحد كبار أساتذة الكوليج دى فرانس بباريس في هذه الكلمات الغاليات وكيف يقولها أحد أصحاب الديانات فعلق على ذلك بقوله
يعتقد الكثيرون منا أن المسلمين لا يستطيعون تمثل آرائنا وهضم أفكارنا يعتقدون ذلك وينسون أن نبي الإسلام هو القائل بأن فضل العلم خير من فضل العبادة ! ! فأى رئيس ديني كبير أو أى قس من القساوسة العظام كانت له الجرأة أن يقول مثل هذا القول القوى الفاصل المتين ! هذا القول الذي هو حياتنا الفكرية الحاضرة نعم إن هذا هو مبدؤنا اليوم ولكن أليس العهد بقريب
نفسه عنوان

أن تبحث في كل علم وتذهب في البحث كل مذهب فوجدت الأم من العرب وغير العرب في هذه السماحة ما آثار نشاطهم للبحث في كل ناحية من نواحي العلم فلم يلبثوا أن جمعوا القرآن الكريم في مصحف ودونوا الحديث النبوى بعد أن كان محفوظاً في الصدور وكتبوا في تفسير القرآن وشرح السنة النبوية وحققوا النظر في تقرير أصول الدين وأصول الفقه وحرروا وجوه استنباط الأحكام العملية ووضعوا إزاءها العلوم العربية من النحو والصرف والبيان وفقه اللغة ودرسوا العلوم النظرية المعربة عن الكتب اليونانية وغيرها فأصبحت بلاد الإسلام - ولا سيما عواصم المالك كبغداد وقرطبة ومصر ودمشق وتونس - موارد العلوم الإسلامية والأدبية والكونية ومن هذه الموارد استحدثت الأمم الأوربية معارفها وفنونها وقد اعترف بهذا كثير من علماء أوربا المنصفين قال الأستاذ بريفوت الإنجليزي في كتابه " تكوين الإنسانية في " القرن التاسع تعلم كثير من المسيحيين عند علماء الإسلام " وقال " إن رئيس دير كلون يأسف على أنه رأى أثناء إقامته بالأندلس الطلبة من فرنسا وألمانيا وإنجلترا يردون أفواجاً أفواجاً إلى المراكز العلمية العربية وقال " فالعلم هبة عظيمة الشأن جاءت بها الحضارة العربية على العالم الحاضر
ولم يكن فضل الإسلام على أوربا من ناحية العلم فقط بل كان له الفضل في نهضتها المدنية قال الأستاذ بريفوت في الكتاب المذكور " لم تكن إيطاليا مهداً لحياة أوربا الجديدة بل إسبانيا الأندلس لأن أوربا كانت بلغت أشد أعماق الجهل والفساد ظلمة بينما العالم العربي بغداد والقاهرة وقرطبة وطليطلة كان مركز الحضارة والنشاط العقلى ومن ثم ظهرت الحياة الجديدة التي نمت في شكل ارتقاء إنساني جديد وخلاصة الفصل أن دعوة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - قد أتت العالم بضروب خطيرة من الإصلاح لم تأته بها دعوة سبقتها أو تأخرت عنها فما يوجد في العالم من هداية صادقة أو علوم نافعة أو مدنية فاضلة فإنما يرجع الفضل فيه لدعوة هذا الدين القويم فليرفع الفتى المسلم رأسه معتزاً بدين رفع الإنسانية من حضيض الجهل إلى أوج العلم وهداها سبل السعادة الباقية والمدنية المهذبة ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنى من المسلمين من رسالة عن سيدنا محمد 1 الجزء الأول من كتاب الإحياء للغزالى

٣٦
يوم كانت الكافة عندنا من أهل العقول تنظر إلى مثل هذا الشعار
ومجلبة الشنار !
وو
كأنه
رمز
العار
كما أنه سوف يقال إن أوضح مبادئ الحرية الفكرية قد كسفت أمثال لوثير " و "كالفين " وعاد الفضل فيها إلى رجل عربى من رجال القرن السابع ذلك هو صاحب شريعة الإسلام 1
هـ في الفروسية
وينظر المسيحيون إلى سان لويس وكأنه النموذج الأعلى للثمرة المسيحية الناضجة غير أن الوثائق التاريخية تثبت فى وضوح وسهولة – أن خصمه صلاح
الدين الأيوبي كان أرفع منه قدراً فى الحضارة وفى الشجاعة وفي معاملة الخصوم والفروسية ونبالة قصدها لم يكن يعرفها الأقدمون من اليونان والرومان ولكنها
كانت معروفة عند العرب أمام جاهليتهم ثم هذبها الإسلام وطهرها تطهيراً وعلى إثره دخلت أوربا ووصلت إلينا نحن الغربيين ولم يبق أحد اليوم ينكر نسبتها إلى العرب
وقد ذكر العالم المسيحى المتدين بارتلمی سان هیلار في سياق حديثه عن
القرآن
إن العرب هم
يصيبهم
الذين يرجع إليهم الفضل على سادات أوربا وفرسانها في القرون الوسطى فى تعديل عاداتهم الخشنة وتلطيفها ثم تعليمهم رقة العاطفة وتهذيب نفوسهم والرفعة بها إلى حيث الإنسانية والنبالة وكل ذلك دون أ أن ضعف يفقد من فروسيتهم وشجاعتهم شيئاً ويخطئ من يظن أن هذا راجع إلى المسيحية وحدها رغم ما فيها من المزايا والفضائل وقد حفظ لنا التاريخ فى سجلاته عن فروسية العرب وروحها العالية أدلة العظمة الموشاة بالرقة والتهذيب وقد ذكر منها الكثير واصف بطرس غالى
جميع
في كتابه فروسية العرب
كان محمد يحب النساء ويفهمهن وقد عمل جهد طاقته لتحريرهن وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها وبالقواعد والتعاليم التي وضعها وهو يعد بحق من أكبر أنصار المرأة العمليين إن لم يكن أولهم فلقد كان بهن رحيماً ۱ عن أشعة خاصة بنور الاسلام

وعليهن حليماً وكان لين الجانب كثير العطف عليهن عظيم الاحترام والتكريم لهن لم يكن ذلك خاصا منه بزوجاته بل ذلك كان شأنه مع جميع
السواء
و في العبقريات العلمية
النساء على
ثم إنهم يفخرون بالعالم باستور الفرنسي ويجعلونه درة في تاج الحضارات الحديثة ولكن فاتهم أن جابراً و الرازي لا يقلان عنه في مرتبة العلماء والمفكرين فهما المؤسسان الحقيقان لعلم الكيمياء بفضل ما كشفاه من طرق التقطير ومن الكحول ومن حمض النتريك و حمض الكبريتيك ١
إسلامه
واستمر صاحبنا في الموازنة والمقارنة والتأمل والتفكير وأطال النقاش ثم أراد
حياته
الله له أن يسلم وأسلم إتيين دينيه واختار اسم ناصر الدين وإن هذا الاختيار لهو الذي يحدد اتجاهه بعد ذلك خير تحديد ناصر الدين إنه حقاً خصص لنصرة الدين الإسلامى ورأى أن نصرته إنما تكون عن طريقين ا نصرته سياسيا
ب نصرته دينياً
أعداء الإسلام
إن عنصرين من عناصر الشر يتألبان على الإسلام ويهاجمانه في عرينه وهما رجال السياسة الاستعماريون ورجال الدين المتعصبون ولا بد – لتكون نصرة
الإسلام كاملة أن - من يتجه الدفاع نحو الهدفين وتطلع ناصر الدين نحو
الغاية التي يريد أن يسعى إليها فهاله الأمر وكتب معبراً عن الواقع يقول إن أهل السوء من أهل الكتاب لا ينفكون يهاجموننا نحن المسلمين بالأباطيل ويحاربوننا بالمفتريات وإذا نحن شئنا أن نحصي أكاذيبهم علينا كانت
۱ المصدر السابق

۳۸
فيها صفحة هي أسود الصفحات في سجل التعصب يشترك في تسويدها أعداء الإسلام قديمهم وحديثهم سواء منهم العلماء والرواد والقساوسة ورجال الحكومات والكتاب أمثال بيرون و بلجراف وجلا دستون ومرجليوس
وقسیس کانتر بری وغيرهم 1
6
والأب لامنس
الانتصار للإسلام سياسينًا

والكاتب لوی برتران سرفييه
أما والأمر كذلك فلا بد من التشمير عن ساعد الجد
في وجه عوامل هدم الإسلام هذه ولكن كيف السبيل
أما
6
والنهوض حقيقة
من جهة السياسة فإن ناصر الدين ليس من الساسة المحترفين ولذلك كانت مهمته في هذه الناحية التحدث إلى كل من يجد فيه روح الإنصاف من الغربيين ذوى النفوذ والعمل على إذاعة كل ما يمكنه إذاعته من آراء المنصفين
منهم وتبنى قضية الشرق المظلوم
ومن
أمثلة ما كان يذيعه مثلا ما يلي
ونشر أخيراً المسيو " أوجين يونج “ وكيل حكومة التونكين الفرنسية سابقاً كتاباً عنوانه " استعباد الإسلام الحرب الصليبية الجديدة“ وهذا الكاتب معروف بأنه من الكاثوليك المتمسكين بدينهم ولكنه معروف كذلك بأنه فرنسي من خيرة الفرنسيين وقد أنكر فى كتابه هذا فى كبير شجاعة وصراحة تلك الحروب الصليبية الجديدة التي يقوم بها اليوم " الفاتيكان “ ذلك المركز الرئيسي المقدس حيث البابا الحبر الأعظم للمسيحية وقد أظهر أنهم يقومون بذلك دون أن يفت عضدهم ملل أو كلل أو أن ينال منهم أى تهاون أو كسل وإنما يقومون به
في
من وراء ستار المداهنة وفى ثوب من الرياء يشف عما تحته
ومما جاء في كتاب المسيو " يونج" قوله " إننا نهي من اليوم مقدمات حرب دينية شديدة الفزع والهول “ ثم أظهر أن مصالح فرنسا الحيوية إنما هي في التفاهم والاتفاق الودى مع الإسلام وإنا لنرجو أن يكون لكلام هذا الفرنسي الكبير صدى بعيد وأثر محمود في مصلحة فرنسا والإسلام على السواء
۱ عن أشعة خاصة بنور الإسلام ٢ أشعة خاصة بنور الإسلام

۳۹
ومن جهة أخرى أخذ ينشر ما يصحح فكرة الأوربيين عن الشعوب الإسلامية ويبين أنها شعوب بعيدة كل البعد عن الهمجية والتوحش وأنها تمتاز بالوفاء وعرفان الجميل والكرم والشجاعة والفضائل المحمودة ويبين أن ماضيها المجيد خير نبراس يرسل أشعته على الفكرة الخاطئة الموجودة عند الغربيين فيزيل ما غشى عليها من ظلمة
ويلفت نظر الفرنسيين في قوة إلى ما أداه لهم المسلمون من أياد جليلة في
ميدان الحروب ضد أعداء فرنسا
ومن ألذع توجيهاته للفرنسيين في هذا الميدان أنه حينما ألف كتابه في السيرة النبوية أهداه الأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت في الحرب الكبرى وهي تحارب في صفوف الفرنسيين
الانتصار للإسلام علميا ومع ذلك فإن ميدانه الفسيح إنما كان الدفاع عن الإسلام باعتباره ديناً سماويا لقد استمات في الدفاع عن عقيدته التي يؤمن بها في يقين حار مطمئن ومما زاد من قيمة دفاعه هذه الموازنات الكثيرة الدقيقة بين الإسلام والمسيحية في كثير من الأصول وفى كثير من الفروع لقد درس الإسلام في عمق ودرس المسيحية في رجال الكنيسة لا يفتر وتزييفهم بالباطل لكل ميزة
هجوم

عمق ورأى أن للإسلام لا ينقطع فدافع واشتد فى دفاعه وهاجم – وكان لا بد من الهجوم - واشتد فى هجومه وتوالت ضرباته للمسيحية ممثلة فى رجال الكنيسة ولكنه
كان يعلن دائماً - كما
هو

لأنه الشأن في كل مسلم - احترامه للمسيح رسول الله

واحترامه للمسيحية الصحيحة التى يتحدث عنها القرآن لا تلك التي ابتدعها رجال من بني البشر كان يعلن دائماً أن دين الله واحد وأن الإسلام أتى مصدقاً لما سبقه مصححاً لما ناله من تحريف مهيمناً عليه وقد وعد الله يحفظ كتابه المقدس إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فالقرآن في العصر الحاضر هو الكتاب السماوى الوحيد الذى لم ينله - ولن يناله - تحريف أو تبديل يقول الأستاذ راشد رستم – بحق – عن ناصر الدين
ه وإنك لتجد الكاتب واسع الاطلاع لذلك هو صحيح الحجة ناهض هو شديد الهجوم شديد الدفاع ذلك لأنه غيور على دينه الذي لم
البرهان

يتخذه إلا بعد أن بحث وفكر وهكذا كان فى عقيدته مكيناً وفي إسلامه
کاملا ۱
كان
الأخطاء
يصحح
ويرد الهجوم ويهاجم ويوازن بين الإسلام والمسيحية وكان قبل كل ذلك وبعد كل ذلك يبين الإسلام ويوضحه
ویشید به
وكانت وسيلته إلى ذلك المقالات والمحاضرات والرسائل والكتب فضلا عن
الأحاديث الشفهية

التعريف ببعض كتبه
ومن كتبه في ذلك
۱ - الرسالة القيمة أشعة خاصة بنور الإسلام وقد ترجمها ترجمة أدبية ممتازة الأستاذ راشد رستم وهي رد على الفكرة التي يذيعها القساوسة القائلة إن الإسلام لم يأت بجديد وقد انتفعنا بها انتفاعاً عظيماً وكانت لنا خير عون في
عملنا الحالي
٢ - وآخر ما ألفه هو كتاب الحج إلى بيت الله الحرام وقد ترجمت خاتمته ونشرت في مجلة جميعة الشبان المسلمين بقلم الأستاذ م توفيق أحمد وقد نقلنا بعضاً من نصوصها في ثنايا الكتاب الحاضر
۳ - الشرق كما يراه الغرب وقد ترجمه الأستاذ عمر فاخوري ونشر بدمشق مع رسائل أخرى تحت عنوان آراء غربية في مسائل شرقية وقد استفدنا منه كثيراً في البحث الراهن
النبوية

ومن أهم كتبه ما جعله تاريخاً لحياة الرسول عليه السلام – وهو السيرة في مجلد كبير جليل وضعه باللغة الفرنسية مع صديقه الجزائري الحميم السيد الفاضل سليمان بن إبراهيم وزينه بالصور الملونة البديعة الكثيرة المتعددة من ريشته الخاصة يمثل فيها المناظر الإسلامية في بلاد الجزائر ومعالم الدين فيها وطبعه طبعاً غاية في الإتقان والعناية وقدمه لأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت 1 أشعة خاصة بنور الإسلام

٤١
في الحرب الكبرى وهي تحارب فى صفوف الفرنسيين ١ ونشره كذلك باللغة الإنجليزية بنفس الحجم الكبير والإتقان التام والكتاب في طبعتيه قد تحلى بمختلف أنواع اللوحات الزخرفية الملونة ذات الأشكال العربية غاية في الدقة والإبداع وهي اللوحات التى قام بعملها خاصة السيد محمد راسم الجزائري أشهر رجال الزخرفة العربية ببلاد الجزائر ويبلغ ثمن النسخة الواحدة من الكتاب خمسة جنيهات مصرية وإنها لخدمة جليلة للإسلام والمسلمين وبنى الإسلام
مشكورة مذكورة ۳
وفاته
هذا
استمر ناصر الدين طيلة حياته يناضل عن الإسلام كدين ويناضل عن المسلمين كشعوب ويضع روحه وشعوره ووجدانه في هذا الدفاع المجيد حتى ليكاد الإخلاص يتجسد خلال ما يسطره من عبارات وفى سنة ۱٩٢٨ م قام السيد ناصر الدين بأداء فريضة الحج ووضع كتابه ه الحج إلى بيت الله الحرام
وفى ديسمبر سنة ۱۹٢٩ توفى بباريس وصلى عليه بمسجدها الكبير بحضور كبار الشخصيات الإسلامية وغيرها ووزير المعارف بالنيابة عن الحكومة الفرنسية ثم نقل جسمانه إلى بلاد الجزائر حيث دفن في المقبرة التي بناها لنفسه بو سعادة " تنفيذاً لوصيته ٤
ببلدة
وو
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً
۱ ولكن مما يؤسف له أن فرنسا جازت المسلمين على ذلك جزاء سنمار
وقد أشار إلى ذلك المسيو الازار بجامعة الجزائر ومدير متحف الجزائر وذلك في المحاضرة الى ألقاها في النادي الفرنسي بالقاهرة يوم ۱۱ مارس سنة ۱۹۹ وهى المحاضرة الخاصة بالنهضة الفنية الجزائرية ۳ أشعة خاصة بنور الإسلام
ع راشد رستم في مقدمته لكتاب و أشعة خاصة بنور الإسلام

ناصر
الدين والمستشرقون
حينما ألف السيد ناصر الدين كتابه عن حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ثارت ثورة النقاد متجهة على الخصوص إلى الشكل لا إلى الجوهر لقد
وأن
زعموا أن الأبحاث العلمية الحديثة قد وضحت جوانب من سيرة الرسول المستشرقين في مختلف الأقطار قد كتبوا عن سيرة سيدنا محمد كتابة تعتمد على الأبحاث العلمية الدقيقة ورأوا أن الأستاذ ناصر الدين لم يعبأ بشيء من ذلك وأخذوا عليه أنه لم يقم وزناً لإنتاج المستشرقين في السيرة النبوية وأن اعتماده إنما كان على السيرة القديمة كسيرة ابن هشام وابن سعد
المستشرقون لا يفهمون السيرة النبوية والواقع أنه فعل ذلك وفعله متعمداً فقد كتب السيرة معتمداً على المنقول من الأخبار الإسلامية الصحيحة ولكنه فعل ذلك بعد أن قرأ ما كتبه المستشرقون عن سيرة الرسول فوجد أنه لا يساوى شروى نقير لقد رأى أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن يتجرد المستشرقون من عواطفهم وبيتهم ونزعاتهم المختلفة وأنه لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يغشى على صورتهم الحقيقية من شدة التحريف فيها ورغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد الحديثة ولقوانين البحث العلمى الجاد فإنا نلمس من خلال كتابتهم محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان المؤلف ألمانيا
ومحمداً يتحدث بلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا
وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب وإذا بحثنا في هذه السير عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر !
إن المستشرقين يقدمون إلينا صوراً خيالية هى أبعد ما تكون عن الحقيقة !
٤٢

٤٣
إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التى يؤلفها أمثال ولتر سكوت و إسكندر ديماس وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصاً من أبناء قومهم فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة فصوروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم
العصري
وإن الدكتور سنوك هير غرنجة ليقول بحق في نهاية نقده لكتاب
المستشرق جريم إننا نرى أن الأستاذ "
جریم
66
لو اقتصر على درس السير النبوية القديمة
وبحثها في عمق لكان أفضل وإن الثمار التى كان يمكن أن يجنيها من مثل هذا الدرس لهى أجدر ببلوغ الغاية التى توخاها ولكنه ظن أن هذا عمل ليست له أهمية كبيرة وأراد أن يطرف الناس بنبأ جديد ففشل في وضع السيرة النبوية التي حاول فيها أن يطبع محمداً بطابع الروح الاشتراكى وفي جعل محمد اشتراكيتا وفى أن تقود الاشتراكية نفسها محمداً لأن يضع الدين الذي أتى به
إن الاشتراكية الإسلامية - لا الاشتراكية الحديثة كما يتصورها جريم - ثمرة من ثمار الرسالة الإسلامية وليست الرسالة الإسلامية ثمرة الاشتراكية
تخبط المستشرقين
ولنضرب الآن بعض الأمثلة للنتائج التي توصل إليها المستشرقون في أبحاثهم التي يزعمونها علمية صحيحة وسنضرب بعضها ببعض لتنهار ولو كانت علمية حقة لما اختلفت ولما تعارضت ولما كان مصيرها التلاشي
وطنه
١ - كيف كان خلق محمد وما هو السر في تأثيره العظيم على أبناء
عن هذا السؤال يجيب دوزی لعل رسول الله - كما كان يلقب نفسه -
لم يكن أسمى من مواطنيه ولكن من المؤكد لم يكن يشبههم كان صاحب خيال فى حين أن العرب مجردون عن الخيال وكان ذا طبيعة
دينية ولم يكن العرب كذلك ١
۱ دوزی مسلمو الاندلس ج ۱ ص ۱۸

£1
ولا يرضى القسيس لا مانس بهذا فيصرخ متأثراً بحقده الجارف ضد الإسلام
ويقول

كان محمد - رغم معايبه معاذ الله يفتن البدوي الذي كان يرى ذاته في شخص النبي العربي كما يدعوه القرآن وفى هذا التفاعل أو في هذه المطابقة العامة بين محمد وبيئته نجد أولا وقبل كل شيء السر في هذا السلطان الضخم الذي كان لمحمد على مواطنيه ۱
- سؤال آخر ماذا كانت ميول محمد قبل البعثة یری دوزى أن محمداً كان سوداوى المزاج يلتزم الصمت ويميل إلى
التنزهات الطويلة فريداً وإلى التأملات المستغرقة في شعاب مكة الموحشة ويرد القسيس لامانس - ضارباً بكل حقيقة عرض الحائط - كلا ليس هناك ما يثبت اعتكاف محمد وعزاته فذلك لا يتفق مع نفرة محمد من الوحدة وكراهيته المشهورة للنسك ٢
وسؤال ثالث ما هي العوامل في بعثة محمد ورسالته
إنها نوبات الصرع كما يفترى و نلدكه
وكيف تكون نوبات الصرع عاملا في البعثة
سلوا عن ذلك نلدكه
ولكن المستشرق دوغويه يعتقد أن هذا بعيد الاحتمال ويعلل ذلك بأن الحافظة فى المصروعين تكون معطلة على حين أن حافظة محمد كانت غاية في
الجودة كلما هبط عليه الوحى ۳
۱ لامانس مهد الإسلام ص ٤ ٥ لامانس هل كان محمد صادقاً ص ۱
۳ دوغويه مباحث شرقية ص ۱ يقول الدكتور هيكل فى كتابه حياة محمد ص ٤٠ ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصرى المسلم فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلتهم على أن النبي كان يصاب بالصرع وأن أعراضه كانت تبدو عليه إذ كان يغيب عن صوابه ويسيل منه العرق وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرغوة حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به ما يقول إنه وحى الله إليه فى حين أنه لم يكن هذا الوحى إلا أثراً من ذوبات الصرع
=

ولا نكاد ننتهى من هدم نوبات الصرع حتى يؤكد إسبرنغر أنها نوبات هيستر یا اشتهرت باسم شوتلاین ۱ ولكن سنوك هر غرنجه يرى أن هذه الأسس التي يراد أن تقام عليها البعثة أسس واهية ويقول
يجب أن نقر بأن قيمة محمد إنما هي ما يميزه عن سائر الهستيريين ويدلي المستشرق جزيم بدلوه هو الآخر فيرى أن الآراء الاشتراكية لا الآراء الدينية هي التي قادت محمداً إلى الرسالة
أما مستنده في ذلك فهو تشديد محمد فى الزكاة التي يسميها جريم ضريبة ولما كان القول بذلك فى مكة أسهل من التنفيذ فقد حاول النبي - فيما يرى
وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحى على هذا النحو خاطىء من الناحية العلمية أفحش الخطأ فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أى ذكر لما مر به أثناءها بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من ذوبته نسياناً تاماً ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحى بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبهاً لا عهد للناس به وكان يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه هذا ثم إن نزول الوحى لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحى غاية التنبه بل كان كثيراً ما يحدث والنبي في تمام يقظته العادية وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا في هذا الكتاب عن نزول سورة الفتح عند قفول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد الحديبية
ينى العلم إذن أن الصرع كان يعترى محمداً ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتر وا على القرآن أنه حرف وهم لم يقولوا به حرصاً على حقيقة يلتمسوها وإنما قالوا به ظناً منهم أنهم يحطون من قدر النبي في نظر طائفة من المسلمين أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلا من الريبة على الوحى الذي نزل عليه لأنه نزل عليه - فيما يزعمون - أثناء هذه النوبات إن يكن ذلك فهو الخطأ البين كما قدمنا وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار
ولو أن نزاهة القصد كانت رائد هؤلاء المستشرقين لما حملوا العلم ما ينكره وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهديهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطاً مقصوداً أو غير مقصود ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقلى للإنسان يختفى تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرك مثل حركته قبل نوبته أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به شأنه شأن النائم الذى لا يشعر بحركاته أثناء نومه فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئاً وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحي قوى قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقينى ليبلغ من بعد ما أوحى إليه فالصرع يعطل الإدراك الإنسانى وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس أما الوحى فسمور وحى اختص الله به أنبياءه ليلق إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس 1 إسبرنغر حياة محمد و عمله ج ۱ ص ۰۷

٤٦
جریم

أن يؤثر على المكيين بتخويفهم من يوم
الحساب
متخذاً الإكراه
الروحانى وسيلة للبذل والسخاء ۱
أن رأى جريم
ولكن سنوك هر غرنجة يرد على جريم ويرى واستشهاده كل ذلك غريب سواء نظرنا إلى المنقول فى السيرة أو نظرنا إلى ظروف البيئة العربية إذ ذاك وينهار - تحت قلم سنوك – الرأى القائل بأن الإسلام في الأصل أقرب إلى أن يكون اشتراكية نشأت عن بؤس ذلك الزمن وفقر بنيه من أن يكون ديناً
بيد أن
سنوك يزعم - ولا بد له من الزعم لأنه لا بد له من التعليل - أن الباعث على رسالة محمد إنما هو فزعه العظيم من يوم القيامة والحساب وتفكيره المتواصل فى مصيره وفى الجنة وفى النار

وإرادة الإغراب في المستشرقين قوية جامحة وقد بلغ القمة في الإغراب المستشرق مرجليوث لقد خطأ كل الآراء التي ذكرناها وأراد أن يأتي ببدع من القول يتناسب مع القرن العشرين فرأى أن الباعث على بعثة الرسول إنما هي أعمال الشعوذه لقد عرف محمد خدع الحواة وحيل الروحانيين ومارسها في دقة وفى لباقة وقد كان يعقد في دار الأرقم جلسات روحانية وكان المحيطون به يؤلفون جمعية سرية تشبه الماسونية ولهم إشارات تعارف مثل السلام عليكم وعلامات يتميزون بها كإرسال طرف العمامة بين الكتفين أرأيتم المدى الذى يصل إليه المستشرقون فى تخبطهم واضطرابهم وتعصبهم وإرادتهم الإغراب إن فيما مر ما يكفى لتصوير حالة المستشرقين ومع ذلك فسنتحدث عن آرائهم في مسألة رابعة محددة أبعد ما تكون عن الفروض والتخمينات
٤ - ما هي الأسباب في مرض الرسول وموته
۱ جریم محمد ص ١٥ ٢ كتب المستشرق مرجليوث كتاباً عن سيدنا محمد أتى فيه بكل غريب وبكل باطل وظهرت كراهيته للإسلام من خلال هذا الكتاب ظهوراً بشعاً ومن مزاعمه المضحكة مثلا أن محمداً صلى الله عليه وسلم سافر إلى مصر لأن كلامه عن مصر يدل على معرفة تامة بها ويرد عليه المستشرق ه نولدکه فيقول إن محمداً لم يكن يعلم أن المطر قليل في مصر قلة مطلقة ولو كان سافر إليها لعلم تلك الحقيقة التي لا تخفى على أحد

٤٧
يعتصر القسيس و لامانس خياله حتى يخرج برأى يشفى شيئاً من غليله ضد
الإسلام ضارباً بالمعقول وبالتاريخ وبالحقيقة عرض الحائط فيقول ه كان لمحمد شهرة قوية جيدة وقد كثفت جسمه الملذات وخدرت أعضاءه فأصبح مهدداً بداء السكتة الضد من ذلك تماماً يرى المستشرق بينيه سنغاة 1 أن رؤى محمد كانت في بعض الأحيان أثراً لضعفه الشديد من الجوع ولقد كان صومه ما يشبه مواء القطط أو أصوات الأرانب ولقد مات بحمى هاذية
وعلى
يسمع
أثناء
استمرت يومين ويعارض هذا وذاك المستشرق كليمان هيار فيرى أن قد ظهرت على محمد أعراض التهاب رئوى فخارت قواه بسرعة عظيمة وتوفى في الثالث عشر من الأول سنة ١١ هجرية ١
شهر ربیع
أما القسيس باردو فإنه يرى أن محمداً مات مسموماً بيد امرأة يهودية ٢ هل نستطيع - بعد أن رأينا ما سبق - أن نعتمد على آراء المستشرقين مع

أن
اليسير
ما ذكرناه من اختلافهم إنما هو قليل من كثير ويهدم بعضه بعضاً وان أن نحقق فيه المثل العربي لا تكسر الجوزة إلا على جوزة فنبطل تراث المستشرقين كله في السيرة النبوية ضاربين بعضه ببعض فإذا هو زاهق المنهج الذى يجب أن يتبع في دراسة السيرة إن الصرح الذي شيده المستشرقون فى سيرة الرسول إنما هو صرح من الورق قد أقيم على شفا جرف هار والسبب في ذلك واضح ذلك أن المستشرقين لم يتبعوا الخطة المثلى فيما ينبغي ان يعتمدوا عليه فى السيرة النبوية إن كاتب السيرة النبوية يجب عليه أولا أن يتجرد عن الشهوة والهوى والعصبية ويبدأ في دراسة الموضوع نافضاً عن رأسه كل ما أوحته إليه الكنيسة من أباطيل عن الإسلام وكل ما غرسته في نفسه من ترهات خاصة بمؤسس الدين الإسلامي وإذا لم يفعل ذلك فإن ما يكتبه سيكون لا محالة وهماً وباطلا

1 كليمان هيار تاريخ العرب ج ۱ ص ۱۸۱ الأب باردو علامات محمد ما هي وما قيمتها ص ۱۷۱

ΕΛ
أول
ويجب عليه ثانياً أن يعتمد على الأخبار الصحيحة التي رواها المسلمون عهدهم بالتدوين يجب عليه أن يعتمد على سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وعلى البخارى ومسلم وعلى تاريخ الطبرى وقبل ذلك وبعده على
القرآن
ويجب عليه ثالثاً أن يدرس البيئة العربية فى مهدها الأصلي مكة والمدينة والطائف وغيرها حتى يتجلى له الغامض ويتضح له المبهم وتستقيم له
الفكرة
إن البيئة العربية الحالية تكاد ترينا رأى العين أشخاص الأخبار التي رويت في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد بل إننا نكاد نتعرف فيها على هذه الشخصيات في أصغر إشاراتها وأبسط أفكارها
أما إذا قرأنا عن هذه الشخصيات فى كتب المستشرقين فإننا لا نكاد نعرفها لشدة التحريف في تصويرها وكثيراً ما نلاقى - لولا الأسماء العربية - صعوبة في فهم أن هؤلاء المسلمين الذين يتحدث عنهم المستشرقون رجال من العرب وذلك
لبعد العقلية التي نسبت إليهم عن العقلية التي كانوا عليها
وبعد فإن رينان فى كتابه حياة المسيح يقول
حقا إن لسير محمد العربية مثل سيرة ابن هشام ميزة تاريخية أكبر من
۱
الأناجيل ١
وهذا يكفينا ردا على المستشرقين الذين يبتعدون عن الصورة الواقعية التي
رسمتها كتب السيرة القديمة
۱ رينان حياة المسيح ط ۱۳ ص ۹

القسيس لامانس
والآن نريد أن نتخذ من أحد المستشرقين مثالا واضحاً لموقفهم من الإسلام وذلك هو القسيس لامانس ذلك أن تصنيفه من أضخم التصانيف وقد كتب عن بدء الإسلام أكثر من عشرة مؤلفات وتعمق في دراسة صدر الإسلام لغرض في نفسه لا يخفى على أحد مهما كان ساذجاً ذلك الغرض هو هدم الإسلام ولكن الله غالب على أمره وهو يقول إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إن لامانس قسيس يقطن لبنان ومن هناك - وهو هادئ مطمئن غير عابئ بشعور المسلمين ولا بحقوق الجوار ولا بالأخوة الوطنية - يرسل نقده ويقوم بهجومه في غير هوادة ولا ترفق
لقد ضاق ذرعاً برؤية الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً ويبسط ظله يوماً فيوماً على إفريقيا وآسيا ويضيق صدر القسيس لامانس فإذا به يسخط على القدر نفسه ويقول لماذا جاء القرآن فجأة ليقضى على التأثير اللطيف الذي كان الإنجيل قد أخذ يحدثه في ابن البادية ! ! والحق أن مثل لامانس فى الاستشراق كمثل بطرس الناسات في الحروب الصليبية وإنه ليقوم في الناحية العلمية بما كان يقوم به ذلك الناساك في ناحية الدعاية الحربية وكالناسك يتخذ من الوسائل ما يؤديه إلى الهدف غير عابئ بعدالة الوسيلة وإن نزعة كهذه لا يمكن أن تؤد بمؤرخ إلى الإنصاف
العلمي
والحق أننا قد اخترنا هذا المستشرق بالذات لأن شهرته العلمية قد خدعت الكثيرين فأحسنوا الثقة أن إسناداته الكثيرة التي يثبتها في آخر كل صحيفة إنما هي من قبيل التمويه على القارئ والحقيقة أنها لا قيمة لها
به مع
واخترناه أيضاً لأن هواه المتحكم واضح كل الوضوح بيد أن غيره من العلماء

ممن كان هواهم إنما هو التدليل على أن محمداً إنما كان مصروعاً أو هستيريا أو اشتراكيا قادته الاشتراكية إلى الدين هؤلاء العلماء
لهم أهواؤهم سبيلا إلى الإنصاف
C

هم أيضاً - لا تدع
ولا إلى حرية لا تخضع إلا للوثائق التاريخية
إن القسيس لامانس ذو هوى جامح عنيف ثائر وغيره من المستشرقين ذو هوى أيضاً يحاول إخفاءه مكراً ودهاء فلا يكاد يستقيم لهم أمر
ومنهج و لا مانس ساذج كل السذاجة إنه منهج العكس أتدرى ما منهج
العكس
إنه ذلك المنهج الذي يأتى إلى أوثق الأخبار وأصدق الأنباء فيقلبها - متعمداً إلى عكسها وكلما كان الخبر أوثق كلما بدت - قوية جامحة – الرغبة في البراعة من ذلك الذي يتبع هذا المنهج ولما كان ينبغى أن يستند إلى دعامة ما فقد تبنى الفكرة التي تقول إن البشر يعملون غالباً على كتمان عيوبهم والظهور بنقيضها وهذه فكرة لا يمكن أن تتخذ كمبدأ عام وإلا كنا مضطرين إلى كتابة التاريخ بأجمعه من جديد وعكس صورة الطبيعة كلها عكساً تاماً إن جميعا القديسين الأديان الشجعان جبناء وجميع
6
وجميع
إذن أشرار الأنبياء طالحون وجميع تهريج وقد شاع هذا المنهج عند بعض المتحذلقين حتى أصبح موضة وقد أراد أحد الظرفاء أن يسخر من أتباعه فألف رسالة دلل فيها في براعة بارعة على أن نابليون لم يوجد قط وأن تاريخه أسطورة ملفقة ابتدعتها فرنسا تريد بها التغطية على ما يشاع من ضعفها الحربى وقد ذكرت مختلف السير الإسلامية أنباء موثوقاً بصحتها إذا وزنا هذه الأنباء بميزان العقل الصحيح والمنطق المستقيم وإذا ما نظرنا إليها على ضوء دراستنا للبيئة العربية الإسلامية لم يخالجنا شك في صحتها ولكن لامانس لا يبالي متتبعاً منهج العكس - فلا يقيم لهذه الأنباء وزناً ولا يقدر لها قيمة

نتائج لهذا المنهج صارخة بالخطأ
١ - وإننا لو نظرنا في الأناجيل من هذه الوجهة واتبعنا هذه السنة لوجب أن نتناول كل حسنة فيها ونعكسها وإذن لما بقى جديراً بمودة القسيس واحترامه
إلا و هيرود و يهوذا اللذان يجب أن يرفعا إلى مصاف القديسين الأخيار

يوم
أحد وقد
٢ - إن مما لاشك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان شجاعاً لقد كان يقود الجيوش فى الغزوات ولم تطر نفسه شعاعاً فى أية واحدة منها ولا يـ ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً - ولم تهله كثرة الجيوش المعادية في غزوة الخندق يوم أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ۱ ولم تزعه النبال كالمطر يوم ومع فإن لامانس يصفه بعدم الشجاعة ثم يحاول أن يـ
حنين
ذلك
الحكم على العرب قاطبة يقول
يعمم
ه زعموا أن العربي يتسم بالشجاعة بل لقد عللوا النجاح في الفتوح الإسلامية الأولى بما يمتاز به العربي من صفات ومزايا ولكنى أتردد كل التردد في قبول هذا الرأى المبالغ فيه كل المبالغة إن شجاعة العرب إنما هي من نوع غير
وهي
سام يل والرد على القسيس اللبنانى بسيط ويكفى أن نسدى إليه هذه النصيحة أن يقرأ آلاف الشهادات التي نالها من قيادة جيوش الحلفاء الجنود المسلمون الشجعان الذين حاربوا دفاعاً عما اعتقدوه حقاً فكانوا من عوامل النصر في الحرب الكبرى لقد أثارت فرق الهجوم منهم إعجاب العالم أجمع وإن هذه الشهادات في أسلوبها العسكرى الموجز صرح شامخ مجيد يسجل روح التضحية والبطولة
لدى العرب المغاوير

وإن سهام النقد مهما بلغت من العنف لا يمكن أن تنال من هذا الكتاب الذهبي النفيس ذلك أنه مكتوب بخط قواد منصفين لا يمتون إلى الأمة العربية بصلة الجنس أو الدين ٣- ومن المعروف أن الرسول كان يتحنث فى غار حراء ينفرد بنفسه
۱ قال على كرم الله وجهه إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحلق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه
ويعلق فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق على هذا فيقول وكذلك الداعي إلى الحق ولا سيما المعهود إليه بإبلاغه وتنفيذه لا بد من أن يكون شجاعاً رابط الجأش على قدر شدة المدعوين وصعوبة مراسهم وعلى قدر عظم الحق ومخالفته الملهم وعاداتهم وأهوائهم فإذا أودع الله تعالى قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شجاعة وسكينة في مواضع الخطوب فلا جرم أن يكون نصيبه من هذه المزية أعظم نصيب إذ لا أشد من مراس الأمة التى ابتدأ بإنذارها وهى الأمة العربية وفى دعوة الإسلام قضاء على مالهم وذم المعبوداتهم وإبطال كثير من عاداتهم وصرف لهم عن أهوائهم

۰
عن
هذا العالم المادى مستغرقاً في
يستجمع ذهنه وشعوره منصرفاً كل الانصراف التفكير في الله ولكن لامانس يؤكد أنه كان يكره الوحدة ! ! - ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وكان يأتى على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوتهم نار وكثيراً ما كان قوته التمر والماء وكان رسول الله عليه السلام يعصب على بطنه الحجر من الجوع ومع ذلك فإن لامانس يصفه بأنه أكول قد كثفت جسمه الملذات ولا يذكر شيئاً عن صوم الرسول لشهر رمضان
وأنه
كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس وكان يصوم حتى يظن أنه لا يفطر إن صوم المسيحيين يعد ملهاة بالنسبة لصوم المسلمين وقد كان الرسول من أكثر المسلمين صوماً ولكن القسيس لامانس يثبت على عناده !

ه - ويقول الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَى اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مَنْ الَّذِينَ مَعَكَ وقد نقلت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه لطول وقوفه في الصلاة ١ ذلك فيقول لا مانس كان محمد نؤوماً يجهل أو يتجاهل أن روح النقد عند العرب تبالغ حد الإفراط وأن هؤلاء أو رأوا
ومع
وهو لا شك
1 تحدثنا الروايات الصحيحة أنه كان صلى الله عليه وسلم مسلماً وجهه إلى الله تعالى مملوه القلب بخشيته وموصول الهمة بعبادته فكان عليه الصلاة والسلام يقوم بالدعوة ويضيف إلى هذا العمل العظيم التقرب إلى الله تعالى بالذكر والصلاة والصيام وتلاوة القرآن وكان يتهجد بالليل على وفق قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً
محموداً
روى الإمام البخاري في جامعه الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه قال إن كان النبي صلى الله عليه
وسلم ليقوم ليصلى حتى ترم أى تنتفخ قدماه فيقال له فيقول أفلا أكون عبداً شكوراً
وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور فيكثر فيه من تلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف وما كان يخرج عنه شهر حتى يصوم منه وربما صام أياماً متتابعة حتى يقال لا يفطر وكان يواصل الصوم في رمضان أى يصل الليل بالنهار في الصوم يومين أو أياماً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقال له إنك تواصل فيقول لست كهيئتكم إنى أبيت عند ربي فيطعمني ويسقيني والمراد من إطعام الله وسقيه ما يغذيه به من المعارف وما يفيضه على قلبه من لذة المناجاة وورد فى السيرة أنه كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر الله وكان روح عبادته الإخلاص يصلى في حجرته نافلة كما يصلى في المسجد ويذكر الله خالياً كما
يذكره في جماعة ويعمل له في السر كما يعمل له في العلانية من رسالة عن سيدنا محمد لفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين

٥٣
ما يكذب خبر القرآن من أن الرسول كان يقضى جزءاً كبيراً من الليل في العبادة
لما استمروا على متابعته وتصديقه ولما احتفظ هو بثقتهم
٦ - وإنه لمن المعروف أن العالم لم ينجب من أمثال سيدنا عمر إلا أفراداً يعدون على الأصابع إن عمر من أعظم الفاتحين المصلحين الذين عرفهم التاريخ
وإن عدالته الرحيمة الصارمة وسياسته الحكيمة النافذة وإدارته الدقيقة الساهرة

كل ذلك يجعله من هؤلاء الذين لا يظفر التاريخ بأمثالهم إلا في دهور دهيرة وإننا حقاً لا نكاد نجد من يشابهه في التاريخ اللهم إلا إذا كان الإسكندر
الأكبر ذلك فقد كان عمر في نظر القسيس جنديا مسكيناً أدنى مرتبة من وسع الوسط ولكنه في كراهيته البالغة للإسلام ينسى أو يتناسى هذا الوصف حينما يريد أن ينقص - معاذ الله - من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيذكر أن عمر سيطر عليه هو وأبو بكر وليس عمر وحده هو الذي نال من قلم القسيس فقد أخذ القسيس يحطم كعاصفة هوجاء كل أخيار المسلمين الرسول أبا بكر عمر عثمان عليا فاطمة عائشة حفصة وغيرهم وغيرهم
النبي

6
٦ - أما إذا تحدث عن أعداء الإسلام كأبي جهل وأبى لهب ألد أعداء أما إذا ما تحدث عن المنافقين خونة الإسلام أما إذا ما تحدث عن يزيد قاتل الحسين أو عن بني أمية - على وجه العموم – فإنه يشيد ما شاء له هواه ويمدح ما أمكنه المدح ويطرى كلما أتيح له الإطراء ويلبسهم من الفضلة ثوباً
لا معاً خلاباً
ولقد بلغت به الحماسة فى كتابه عن بني أميه حدا أثار نفور المسيو ه كازانوفا الأستاذ في كليج دی فرانس فقال
كانت نفسية الأمويين فى مجموعها مركبة من الطمع في الغنى إلى حد الجشع ومن حب الفتح من أجل النهب ومن الحرص على السلطان من أجل التمتع بملذات الدنيا لذلك يحق لنا أن نعجب أشد العجب من كاهن كاثوليكي مثل الأب

" لا مانس " على " الذي مكروا به وخدعوه
يتطوع للدفاع عن أولئك الشاكين الطغاة ساخراً من
سذاجة
وإنها الغريبة حقاً هذه المباحث التي يبدى فيها هذا المؤلف – المطلع على تاريخ ذلك العصر اطلاعاً حرياً بالإعجاب - تشيعه للأمويين ضد بني هاشم والتي تتوالى فيها المرافعات الدفاعية والاتهامات الادعائية آخذاً بعضها برقاب
۱
بعض 1
- أما المنافقون فهم أبطال الوطنية عند القسيس وإذا تساءلت من هو هذا الدخيل الذى لم تنبته الجزيرة العربية والذى يقف أمامه أبطال الوطنية القومية فإنك لا تجد من القسيس إلا صمتاً !! أكان محمد فارسيا غازياً للجزيرة العربية أم كان رومياً يهاجمها أم هو عربي يحب وطنه ويعمل على شتاته في وحدة تكون قدوة ومثلا أعلى لكل من يشرئب بصره نحو الكمال جمع وإذا أردنا أن نعد أخطاء لامانس فإننا لا نقف عند حد إنه مثلا يتعمد أن يعطى الألفاظ معنى آخر غير المعنى الذى تعطيه لغوياً أو اصطلاحياً وكأنه في ذلك موكل بقلب الحقائق
و و المنافقون
هم
إن الردة في نظرة معناها الانفصال و المرتدون هم الانفصاليون المشككون وهم أبطال الوطنية القومية وإذا قرأت في القرآن الآية القرآنية الكريمة إنَّ الله مع الصابرين فسترى أن لامانس يشرحها شرحاً أبعد ما يكون عن السمو وعنا المكانة العليا التي هي الله في الإسلام إنه يفسرها إن الله مع الساكتين على سياسة محمد المتناقضة ويتحدث عن أبي بكر وعمر فقط فيقول الثالوث إنه يقول حكومة الثالوث أبو بكر وعمر بل يطلق كلمة الثالوث على سيدتين فيقول حزب الثالوث المؤلف من عائشة وحفصة الدساستين المخوفتين ولا عجب بعد ذلك أن نرى هذا القسيس يأخذ على التوحيد الإسلامى أنه ضيق لأنه لا يقول بأن الله ثالث ثلاثة وبأن الثلاثة واحد ولا يقول بأن الآب غير الابن ومع
الابن هو الآب !
۱ كازانوفا و محمد وانتهاء العالم من ٥٨
ذلك

٥٥
ه إن توحيد الإسلام ضيق - في نظره - لأنه لا ينطوى على ما تنطوى عليه المسيحية من تلك المتناقضات ويقول كتابه الكريم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُوًا أَحَدٌ
مكة والمدينة
وهذا القسيس يفسد - متعمداً - الصور التاريخية إنه يحدثنا عن في عهد الرسول فيعطينا صورة أوربية حديثة وكأنه يحدثنا عن باريس ولندن حينما يتحدث في جزيرة العرب عن الحملة الصحافية عن الماليين بنك مكة مليار النقابة القرشية الضريبة على الدخل طبقة العمال إبلاغ الرسالة إلى محل الإقامة ديوان ذى الجلال وزارة الله إلى آخر هذه التعبيرات الحديثة
التي تفسد الصورة ولا تصور الحقيقة

ومع ذلك فلا مانس جرىء إنه جرىء جرأة نادرة وتتمثل هذه الجرأة في أنه إذا لم يعثر خلال أبحاثه الطويلة على خبر واحد يؤيد به زعمه وهواه استغنى
عن الخبر وثبت على مزاعمه الباطلة التي يسوقها إلى القراء برشاقة بالغة وأحياناً يقول ه إن هذا أمر عنى رجال الحديث والأخبار بكتمانه ۱ وبينما يحترم المسلمون السيد المسيح ويجلونه نجد لامانس يصف مؤسس الإسلام بأبشع ما يمكن أن يظهره الحقد والكراهية حتى لكأننا نسمع أسلوب
رهبان القرون الوسطى الذين لم يكن في جعبتهم إلا السباب والشتائم
الافتتان بالمستشرقين لا أساس له إنه لمن الغريب حقا والأمر كذلك - أن يفتتن بعض الشبان المسلمين بالمستشرقين مع ما يرون من كراهيتهم للإسلام وتعصبهم ضده وجهلهم أو تجاهلهم من أجل حاجات في أنفسهم إنهم يشككون ويخطئون جاهلين أو متجاهلين الأمر إلى تجريد الرسول صلى الله عليه وسلم من اسمه لم يدع محمداً قط وأن حقيقة اسمه ستظل من الألغاز التي لا حل لها وحجتهم
لقد وصل بهم
أن كلمة محمد نعت ذو معنى خاص لذلك يؤكدون أنه لقب ليس إلا ٢
۱ لامانس هل كان محمد صادقاً هوار تاريخ العرب ج۱ ص ۹۰
زاعمين
أنه

0
كذلك يزعم بعض المستشرقين أن الرحمن اسم علم الله ! ! ويترجمون
البسملة ترجمة تدل على هذا الرأى السقيم باسم الإله الرحمن الرحيم ولما كانت ثلاثة أرباع أسماء الأعلام العربية نعوتاً فأنت ترى ما في دراسة الأعلام من منابع غزيرة تصدر عنها مخيلة المستشرقين ۱ أما أبو بكر - رضى الله عنه - فقد سمى أبا بكر لأنه أبو البنت البكر ! ! والصعيد معناها السعيد كما في دائرة المعارف البريطانية
ولعل فى ما ذكرناه ما يخفف من غلواء الإعجاب الذي يبديه بعض متفرنجي
الشبيبة الإسلامية نحو المستشرقين
نصائح للمستشرقين
ويختم ناصر الدين كتابه القيم الشرق كما يراه الغرب بهذه الآراء النفيسة
التي نورد بعضاً منها فيما يلى
ا لقد أصاب الدكتور " سنوك هر غرنجة " فى قوله " إن سير محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضى عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأى
سابق
ه هذه حقيقة يجمل بمستشرقى العصر جميعاً أن يضعوها نصب أعينهم فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التى تكلفهم من الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شك خاطئة فقد يحتاجون في تأييد رأى من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا
1 الشرق فى نظر الغرب تعريب عمر فاخوري

بالأمر الهين ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا وهذا أمر لا ريب
مستحيل
كالزمن
يحتاج العالم في القرن العشرين إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول لا سيما إدراك تلك القوى الباطنة التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات
والأحقاد إلخ
النضرب مثلا عكسياً ما رأى الأوربيين في عالم من أقصى الصين يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرخى الفرنسيين ويمحصها بمنطقه الشرقي البعيد ثم يهدم قصة الكردينال ريشياو كما نعرفها ليعيد إلينا ريشليو آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين وسماته وطباعه
إن مستشرقى العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق برسمهم الحديث لصورة الرسول ويخيل إلينا أنا محمداً يتحدث في مؤلفاتهم إما
نسمع
باللهجة الألمانية وإما باللهجة البريطانية وإما باللهجة الفرنسية ولا نتمثله قط بهذه العقلية والطباع التي ألصقت به " يحدث عرباً باللغة العربية
إن صورة نبينا الجليلة التي خلفها المنقول الإسلامي تبدو أجل وأسمى إذا قيست بهذه الصور المصطنعة الضئيلة التي صبغت في ظلال المكاتب يجهد جهيد ونرجو أن يعرف العلماء ضلالهم فيعدلوا عن النيل من هذه الصروح المعجزة التي رفعها التاريخ إقراراً بفضل أنبياء العرب وبني إسرائيل والهنود على الإنسانية فإن أساس هذه الصروح أصلب من أن تخدشه تلك المعاول ب وإذا شاء المستشرقون أن تكون جهودهم مثمرة فلينصرفوا عن إضاعتها في محاربة المنقول الذي هو أسمى أن من یوازيه شيء إلى شرح هذا المنقول وإحيائه بدرس نفسية العرب درساً عملياً غير سطحى

شأن طلاب
ه كان أحرى بالاستشراق الذى يبنى بحوثه على الجثث - كما هو الطب - في تلك القاعات التي تدعى مكاتب أن يقتصر على مباحث التحقيق والعلم النقى الصافى وهو فى هذه الدائرة دائرة الإخراج العلمي قد أنجز عملا

۵۸
مجيداً نحن على رأس المقرين بحسنه ونفعه ولكن لم يبق له فيما يتعلق بشأن الإسلام إلا أن يخلى المجال ولعله أدرك هذه الحقيقة فأخذ يتوسل بمختلف الوسائل إلى تجديد شبابه آخذاً بأشد أساليب التاريخ الحديثة عقماً جادا في طلب أغرب الآراء وأبعدها عن المعقول وغاية ما في الأمر أنه زاد وجهه تجعدات لم تكن من قبل فيه ما أشبه نظرياته رغم جدتها الظاهرة بكتابات للطلاب في مباراة الشهادات التي لا تكاد تولد حتى يمسها الكبر لأنها غير قائمة على درس ! الحياة
وإذن غير جديرة بها !
عبد الحليم محمود
مارس سنة ١٩٦٥

محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم

مقدمة
إن حدود هذا السفر لن تسمح لنا بأن نقدم جميع التفاصيل وجميع النواحي لحياة حافلة بالعظائم إلى هذا الحد كما هو الشأن في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولذا نجد لزاماً علينا أن نتخير للعرض أهم الحوادث لكي نعطيها العناية التى نراها ضرورية وإذن فعملنا هذا إنما سلسلة هو التصويرية وليس تاريخاً كاملا نقدمه للقراء
من
اللوحات
وقد اعتمدنا في استمداد عناصرها على أقدم المؤلفين كابن هشام وابن سعد وسواهما ثم على مؤرخ من المحدثين هو على برهان الدين الحلبي الذي حشد في كتابه المسمى السيرة الحلبية مختلف الروايات لأشهر المؤرخين وإن التوافق الكامل بين تلك النصوص التي يرجع بعضها إلى مستهل اثنى عشر قرناً وبين عوائد وميول ولهجات المسلمين من سكان الصحراء الذين نراهم في عصرنا هذا أقرب الناس شبهاً بعرب الحجاز الذين أكمل محمد رسالته بين ظهرانيهم لهو دليل على مكانة تلك النصوص من الحق ولعل في هذه الملاحظة ما يكفى لتنبيه القراء إلى أنهم لن يجدوا بين دفتي هذا السفر شيئاً من تلك المذاهب الغريبة المتغالية التي تعمل على هدم السنة والتى شغف بها حباً أولئك المستشرقون المحدثون بما لهم من غرام وشهوة بكل ما هو باغ من الرأى أو غريب
على أن دراسة المبتدعات التي دخلت عن هذا الطريق في تاريخ النبي قد أتاحت لنا أن نكشف عن أنها كانت أحياناً وليدة كراهية شديدة ١ للإسلام يصعب التوفيق بينها وبين العلم ولا تليق بعصرنا هذا كما أنها على العموم - مع ما فيها من إحاطة نظرية بحتة - تسجل على مؤلفيها جهلا عجيباً بعادات العرب وإنه ليكفى فى إظهار زيفها أن نقارن بعضها ببعض
١ كما هو الشأن في كل ما كتب القسيس و لامنس أو القس زويمر
لأنها على
"1

تناقض بحيث ينسخ بعضها بعضاً ۱ وأخيراً فإن غلوها في الخيال – فيما يتعلق بالظواهر النفسية الشرقية - ليظهر بأجلى بيان صدق تلك الآثار المأخوذ بها في
العالم الإسلامي
وتلك الآثار هي التي تهدى خطانا وقد اقتصرنا على أن نختار من الروايات ما يبدو لنا أنها الأكثر دلالة لكى نضعها في موضعها المناسب مستعينين في ذلك بالأخبار التي جمعناها من محادثاتنا الطويلة مع الحجاج في أماكن الحجاز المقدسة وبالنظر إليها من خلال تجارب الحياة الإسلامية الصحراوية التي كان أحدنا حليفها منذ فجر حياته والآخر يمارسها منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولقد آثرنا بالاتفاق مع نصوص القرآن - وهو الكتاب الوحيد الذي لم يعارض ولا يقبل المعارضة - وبالاتفاق علماء مع الإسلام للصدر الأول أصحاب ومع الفكر الحر من المعاصرين كالشيخ محمد عبده الذائع الصيت أن صفحاً عن جميع الخوارق التي نسبت إلى النبي العربي بعد زمن طويل من وفاته والتي يبدو أن في نسبتها إليه ما يسلبه سيماه الحقيقية
نضرب
والحق أننا نرى من بين جميع الأنبياء الذين أسسوا ديانات أن محمداً هو الوحيد الذي استطاع أن يستغنى عن مدد الخوارق والمعجزات المادية معتمداً فقط على بداهة رسالته ووضوحها وعلى بلاغة القرآن الإلهية وإن في استغناء محمد عن مدد الخوارق والمعجزات لأكبر معجزة على الإطلاق وقد نسي رينان ذلك - بالنسبة للرسول - فوصفه بأنه ضرب من المحال وقال في معرض حديثه عن المسيح إن أعظم معجزاته أ أنه لم يأت بمعجزة وإن قوانين التاريخ والقواعد ة من نفسية الشعوب ما كانت لتشهد قط انتقاضاً لها أعظم من هذا
المستمدة
۱ وقد عارض المؤلف بعضها ببعض فى كتابه الشرق كما يراه الغرب وكانت النتيجة أن تهافتت هذه الآراء وانهارت
لتوضيح هذه الفكرة تنقل النص الآتى من و أشعة خاصة بنور الإسلام تأليف المؤلف
وترجمة الأستاذ راشد رسم
إن نبي الإسلام هو الوحيد من أصحاب الديانات الذى لم يعتمد في تمام رسالته على المعجزات وليست عمدته الكبرى إلا بلاغة التنزيل الحكيم وفى ذلك يقول تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون
و يقول رينان الكاتب الفرنسي الشهير في صدد كلامه عن عيسى ومعجزاته

٦٣
إننا مع ذلك قد التزمنا أن لا نطرح جانباً تلك القصص التي تحمل طابع الأساطير الخيالية فالأساطير وعلى الخصوص الشرقى منها وسيلة من وسائل التعبير لا تضارع إنها تصبغ الأشياء والحوادث بألوان قوية لا تمحى وتضفى على الحديث حيوية شديدة التأثير والمؤرخ العصرى لا يمكن أن يسمو بتحقيقاته الجافة - التي يقولون عنها إنها تزن كل شيء حق وزنه - إلى تلك الألوان وهذه
الحيوية لذلك يجب على قرائنا فى المستقبل أن يحترسوا كل الاحتراس من مقارفة
أثناء
الأغلاط البشعة التي اقترفتها الثقافات اليونانية واللاتينية والمدرسية شروحها الحرفية لكتب الشرق المقدسة وإذا ما عرضت لكم هنا أمثال رمزية تبدو أحياناً في شكل معجزات فسيكون من السهل عليكم أن تدركوا ما فيها الحقائق التي - وإن كانت مفرغة فى قالب شعرى - ليست أصلا مما تناوله الخيال العربي بالتشويه
من
وإن القرآن لهو أولى أن يفهم بهذه الكيفية وقد جاء فيه ويضرب الله
الأمثال للناس لعلهم يتذكرون سورة ١٤ آية ٢٥
=
ولعل أكبر معجزات عيسى أنه لم يفعل منها شيئاً ثم هو يقول باستحالة أمثال هذه المعجزات لمخالفتها لقواعد التاريخ وأصول علم النفس وقد نسي رينان أن محمداً صلى الله عليه وسلم مع عدم اعتماده على مثل هذه المعجزات التي ينكرها قد جاء بأكبر المعجزات مما هو شاذ في تاريخ الديانات كلها
جاء بذلك الدين الحنيف الذى لم ينفك يزداد أنصاراً كل يوم منذ ثلاثة عشر قرناً حتى بلغوا اليوم ثلاثمائة مليون من النفوس دون أن يكون له دعاة ومبشرون على أن المعجزات التي تنسب محمد ليست من نصوص القرآن وإنما قد نسبها إليه مؤرخو العصور المتأخرة تقليداً للمعجزات التي تنسب إلى المسيح فهي ليست من الدين في شيء وأما تلك الخرافات والمعتقدات الغريبة التى نشاهدها في بلدان الإسلام المختلفة فهي غريبة عن القرآن ودخيلة على الدين ولا تتفق مع شيء مما عرف من رسول الله ذاته صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الأثر لما مات إبراهيم حزن عليه محمد حزناً عظيما وحدث أنه ساعة دفنه كسفت الشمس فقال الذين من
حوله
إنها لمعجزة يا محمد فقد شاركتك الشمس في حزنك على ولدك ومع أن النبي كان مأخوذاً بالحزن الشديد فقد أنب القائل وقال إن الشمس والقمر آيتان من
آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته

وأخيراً ربما يبدو غريباً ألا توجد فى كتابنا هذا بين اللوحات المرفقة للنصوص
أية صورة للنبي ولا أى رسم يعرض الحوادث التي كان هو بطلها وعلة ذلك أننا - كمسلمين مخلصين - لم نرد أن نتعدى مبادئ الإسلام الصحيحة تلك المبادئ التى هى أقل عداوة مما يعتقد عادة لتصوير الوجه الإنساني ولكنها تمنع صراحة أن تتخذ صوراً للآلهة لأن ذلك عمل فيه نوع من الوثنية المتنكرة وتأبى أن نرسم صوراً للأنبياء فتكون خرقاً لقدسياتهم لا بد أن ينتقصهم وفي الحقيقة ماذا تستطيع أن تبدو به لعينى مؤمن صورة جاهدة لنبي مرسل
من الله مهما كان من دقة رسمها إذا ما قورنت بمثاله الرائع الذي يرسمه له خيال ذلك المؤمن فى حميا إيمانه لقد فهم ذلك بعض الرسامين من الفرس الذين عرضوا لتصوير محمد في مختلف مراحل ليلة المعراج فأخفوا تماماً صورة وجهه لعجزهم عن تصويرها والخوفهم أن يشوهوا قسماته الشريفة المحوطة بالجلال ومما يزيد في توضيح غرضهم من هذا الإخفاء ما نلمسه من عنايتهم البالغة في نفس هذه الرسوم بتصوير كل ملامح الوجوه الأخرى كوجه البراق - وهى ركوبة النبي المجنحة ذات الوجه الإنسانى ووجوه الملائكة الذين يتألف منهم

الموكب السماوي ولكي نضع بديلا لهذه الصورة الخيالية التي لا مفر فيها من الكذب اخترنا طريقة للتصوير أقل مباشرة للصميم ولكنا نأمل بوساطتها أن نستعيد بعض من لألاء تلك الشخصية السامية التي نحت أول بارقة من نور الحياة
انعكاسات
في مكة
إن ملامحه المعروفة لنا من أوصاف مؤرخيه فقط إنما تبدو لنا من خلال نقاب خفيف كضباب الحلم ذلك النقاب الذى لن نسعى في أن نمزقه إذ من وراء هذا النقاب الخفى تستمر تلك الأوصاف فى أندر وأثمن بيان تبرهن به على أنها لم يصبها من التشويه ما أصاب سواها كثيراً بسبب محاولات فاشلة لتكوين صور لا يمكن تحقيقها أما سنته الغراء فإنها على الضد من ذلك باقية إلى يومنا هذا يجلوها أعظم إخلاص دينى تفيض به نفوس ثلاثمائة مليون من أتباع منتشرين على سطح الكرة
سنته

إننا في الحقيقة نجد الاهتمام الدائم من جميع المسلمين مهما تباينت أجناسهم اهتماماً يتجلى فى أن يحذوا في كل صغيرة وكبيرة حذو نبيهم الذي توجد صورته منقوشة في قلوبهم وهكذا لا نجد ما هو أعظم تمييزاً للمسلم من الطريقة التي يمارس بها طهاراته من غسل و وضوء تلك الطهارات التي بها نستطيع أن نميز عربياً مسلماً من عربى مسيحى إن في مرأى المؤمنين وفى أعمالهم لصورة نلمحها منعكسة من مآثر محمد وإذا ما كانت بالطبع باهتة بالقياس إلى كمالاته العليا فإنها لا جدال في صحتها هذا على حين أننا نجد قياصرة روما مع دقة تماثيلهم لا يطالعنا منهم سوى قناع مزيف لوجوههم الجامدة تحت صورة من الخيلاء إن صورهم تظل ميتة يعجز خيالنا عن أن يلمح لها شيئاً من الحياة وإنه لبوحى هذه الحقيقة المقررة أن قامت برءوسنا فكرة نشر لوحات فى تاريخ محمد هذا تمثل المآثر الدينية لأتباعه وبعض صور من حياة العرب وبعض مدن الحجاز الذي هو
موطنه

الفصك الأول

الأذان
بسم الله الرحمن الرحيم
ألمح الآن شعاعاً ورديا يتدفق في الأفق والنجوم يبهت لونها ويطرق مسمعى لحن موسيقى يتردد صداه في هدأة الفجر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حى على الصلاة حي على الفلاح ۱ والألحان الأخيرة من هذا النداء الذى يردده المؤذن تنتشر من المنارات السامقة فوق أعالى البيوت وذوائب نخيل الواحة ذاهبة إلى حيث تذوب في جنبات الصحراء اللانهائية وعندئذ يهب المسلمون من أعقاب نومهم مزملين في أرديتهم البيضاء الشبيهة بأكفان الموتى وقد عرتهم رجفة هذا النداء فكأنما يهبون يوم النشور وهناك يتقاطرون نحو العيون فيتطهرون أتم الطهارة ثم على طهر من أجسامهم وأرواحهم - ينتظمون صفوفاً طويلة متحاذين بمرافقهم متوجهين وجهة واحدة نحو كعبة مكة المقدسة
من رجفة

أداء الصلاة
هناك يقومون وأجسامهم منتصبة ورؤوسهم في انحناء يسير وعيونهم حاسرة ساكنين في تلافيف أرديتهم الطويلة وكأنما تحولوا إلى حشد من التماثيل
1 يتميز الإسلام في الدعوة إلى الصلاة بأن الإنسان هو الذى يدعو إخوانه إلى تأدية هذه الفريضة وإن صوت الإنسان هو صوت طبيعى أقدر على حمل العاطفة الإنسانية الصادرة من قلب المؤمن إلى إخوانه المؤمنين للقيام بأهم فروض الإسلام من أية آلة صناعية ومن القلب إلى القلب رسول من أشعة خاصة بنور الإسلام ٢ يعطينا المؤلف هنا صورة دقيقة عن الجزائريين في صلاتهم وهذه الصورة - مع ا اختلاف بسيط في ألوانها - هي صورة للمسلمين في جميع بقاع العالم عند ما يدعون في الفجر إلى الصلاة
4

وعلى قدوة بالإمام الواقف أمامهم بنفس الهيئة ولنفس القصد معلناً كل وضع جديد من الصلاة بالتكبير الله أكبر يرفعون كذلك أيديهم مفتوحة حتى تحاذى أفوادهم مظهرين بذلك روعتهم أمام القدرة اللانهائية لرب العالمين ثم في
حركة واحدة يحنون جميعاً ظهورهم ويركعون أمام جلال الألوهية ولكن هذه الصورة لا تكفى لإظهار ما تحوى نفوسهم من خضوع والذا يخرون للأذقان سجداً وعلى سطح الأرض يلصقون جباههم وأنوفهم ويسكنون لحظات على تلك الهيئة الضارعة كأنما ينوءون تحت عبء السماء بكل ما فيها
معهم
وكأنما السماء ساجدة وأخيراً يرفعون صدورهم ثانية ويبقون جالسين والركب على الأرض والرءوس مثقلة بوقر من حرارة الإيمان ثم التسليم بعد ذلك مصحوباً بالتفات الوجه مرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار مخاطبين
فيهما الملكين اللذين يلازمان كل مؤمن وبذا تنتهى الصلاة
خبزهم
ذلك فالمسلمون عادة ومع لا يسألون الله شيئاً لأنفسهم بل لا يسألونه وهم اليومى يبقون على هذه الصورة بعد انتهاء الصلاة فترة من الزمن وهم
رافعون أكفهم إلى أعلى من صدورهم وأيديهم مفتوحة أمام عيونهم كأنما يقرءون فيها كتاباً ضارعين إلى الرحمة الإلهية من أجل الإسلام ومن أجل أقاربهم ومن أجل سعادتهم الأخروية
إن بعض أعمال الصلاة هي وحدها التي يجهر بها الإمام كالتكبير والفاتحة والتسليم الختامي أما الحاضرون فإنهم لا يقرءون أثناء الصلاة إلا في قرارة أنفسهم ونفوسهم لا تردد سوى التكبير فى غمغمة لا تكاد تاج آذانهم
وإن نصف السكوت هذا ليزيد فى عظمة هذه الحركات الجامعة بين البساطة وسمو الدلالة والتى تتحد فيها الأهلية الكاملة بالتواضع وبخلوها من الرياء تماماً تعطى مشهداً رائعاً لعبادة تأثيرها أعظم من أن يتصوره خيال
أوقات الصلاة
في كل يوم كلما غيرت الشمس من ألوان ضوئها في فجرها الأرجواني وفى ظهيرتها الملتهبة وفى عصرها المذهب وفى مغربها المخضوب بصفرة الحزن على فراقها وفى تكفنها أخيراً بأوشحة من الشفق الأزرق القاتم في المساء يرى

VI
المسلمون جميعاً من المحتوم عليهم أن يتجردوا من أعمالهم وشواغلهم بل من
أفكارهم ليتفرغوا للصلاة يؤدونها ليس فقط في المساجد بل أيضاً في البيوت
4
وفى الشوارع وفى المقاهي وفى الأسواق وفى الحقول وفي الصحارى وفى أى
من

مكان يوجدون فيه ولو بدون مؤذن أو إمام لكى يمجدوا ـ على تلك الصورة مفيض الخير جل سناه ومنذ أكثر ثلاثة عشر قرناً من الشواطئ الأفريقية للمحيط الأطلنطى إلى الشواطئ الصينية للمحيط الهادى يستدير أكثر من مائتي مليون من المسلمين خمس مرات في كل يوم إلى ناحية الكعبة المقدسة فى مكة حيث تتجمع الملايين من صلواتهم متناسقة لتصعد إلى الملأ الأعلى كى تشهد الله على ما للروح الإسلامية نحوه من ولاء لا يمكن أن يتحول
وصف مكة
ما هي إذن تلك المدينة العجيبة التي كانت - - على التقريب - غير معروفة في العصور البعيدة القدم والتي تهوى نحوها آمال خلائق يصل عددها إلى
هذا الحد
أهي إحدى تلك المدن الجميلة الموقع التى أقام فيها أغنياء الملوك قصوراً زاهرة وجمعوا فيها كنوز الفن المبتكر
أهي إحدى تلك المدن الكبرى التجارية التي تشرف على طرق البر والبحر وتتدفق عليها الحاصلات والثروات العالمية أم هي عاصمة إمبراطورية قوية أخضع جنودها الشجعان لها جميع الشعوب المجاورة
لا شيء من ذلك قط إن مكة واقعة فى أجدب بقاع العالم وأشدها حرماناً وتجارتها قديماً كانت مقصورة على قوافل الصحراء إنها لم تكن ذات غنى ولا ذات قوة ولكن كم عدد المدن التي تحسدها على مجدها الباذخ باحتضانها الكعبة المقدسة وبأنها شرفت دون سواها بمولد محمد سيد المرسلين

وحتى في عصرنا هذا أيضاً بالرغم من الهدايا التي يحملها إليها من جميع نواحى الأرض آلاف الحجاج يأتون كل عام للسجود في معبدها المقدس فإن مكة أم القرى لا تستطيع أن تباهى كبريات المدن في ترف قصورها وفخامة

۷
مساجدها أما في نظر المؤمنين فإن كنوزها تتألق بسناء لا يعادله سناء بيد أن كنوزها تلك ليست قط من هذا العالم
إن منظر مكة المكرمة لا يختلف عن غيرها من مدن الصحراء العربية إنها
لتفوقها جميعاً بأنها تحوى من البيوت ما هو أكثر عدداً وأرفع سمتاً وأبهى زينة ومع كل هذا فإن منظر مكة العام لا يرى قط ذا ميزة خاصة
من أعلى جبل أبي قبيس الذى يشرف عليها من الشرق تكشف العين عن شكلها المستطيل من الشمال إلى الجنوب فى بطن واد ضيق وعندما ينظر إليها المرء لأول وهلة فإنه لا يكاد يميزها عن الأديم الذي تقوم عليه إن الجبال الجرداء الصخرية التي تكتنفها غير مفصولة عنها بأية واحة وليس بينها وبين مكة أية بقعة خضراء وإن سطوح منازلها لتختلط بمنهار الصخور التي تحدرت على سفوح تلك الجبال أما بعد أن تراض العين شيئاً فشيئاً فإنها تميز البيوت والدور وتكتشف المداخل الخفية ونقوش المنارات الضاربة في الفضاء صعداً ويتنبه الإنسان بغتة لمنظر مفاجئ لمدينة كبيرة لم يكن يظن وجودها في هذا المكان فإن العين تراها تكبر دون حد حتى ليكاد الإنسان يعزو اتساعها المفاجئ إلى سحر ساحر وتبدو الصخور بدورها وكأنها تحولت إلى منازل وتبدو الآكام أشبه بضواح واسعة لا يدرك الطرف لها نهاية لكن إذا ما كانت العين وسط هذا الخليط من أشكال محدبة القمم لا تكاد تميز المساكن الإنسانية من الصخور الوعرة فإنها على العكس تفاجأ مباشرة بمنظر ضخم من البناء قائم وسط فناء مربع الجوانب يكسوه نسيج من حرير أسود يغطى لمعانه الرائع على ما حوله من ألوان باهتة كأن الحرارة الشمس القوية دخلا في شحوبها القاتم
ذلك المكعب الأسود هو الكعبة المقدسة إنها قلب الإسلام النابض
وكما تحمل الشرايين إلى القلب الدم الذى تحيا به الأجسام

كذلك
جميع
C
صلوات الإسلام تتجه نحو هذا الهيكل لتذكي في الأرواح الحياة والنشاط النقطة الوحيدة فى العالم كله التي يستطيع المسلمون فيها أن يقف
وتلك هي
بعضهم أمام بعض وجهاً لوجه حينما يؤدون الصلاة

الكعبة والحجر الأسود
إن هذه الكعبة ١ ليست قبر النبي ولا هي مقصودة بالعبادة ـ كما يتوهم بعض الغربيين – إنها ليست إلا معبداً يحمل اسم بيت الله الحرام وأصلها يرجع إلى أقدم العصور إنها - حسب المأثور عند العرب من بناء آدم أبى البشر ولما اجتاحها الطوفان جدد بناءها النبي إبراهيم على نفس الأساس الأول بمساعدة ولده إسماعيل الذي هو أصل الأمة العربية ومن ذلك الحين جددت مرات كثيرة على نفس القواعد وعلى نفس الصورة وكانت - منذ ذلك العهد ـ غاية يقصد إليها العرب لعبادة الله الفرد الصمد ويدورون حولها سبعة أشواط من العبادة رسمها لهم جدهم الأعلى إبراهيم عليه السلام تسمى الطواف
وعلى خطى الزمن الوئيدة تحولت - في أذهان الحجاج – فكرة عبادة الله الواحد فقرنوا بها عبادة الأصنام حتى لقد بلغ عدد هذه الأصنام ثلثمائة صنماً عندها أرسل محمد للقضاء عليها
وستين
وفى الزاوية الشمالية الشرقية من بناء الكعبة ثبت الحجر الأسود موضوعاً في دائرة من الفضة أنزل هذا الحجر من الجنة مع جبريل إلى إبراهيم وولده وقتها كانا يشيدان الكعبة وبأيديهما وضع فى مكانه الذي لا يزال فيه حتى اليوم لكي يعين مبدأ أشواط الطواف وقد كان هذا الحجر في الأصل أبيض كاللبن أما لونه الأسود الذى هو عليه الآن فإنه من تلوثه بخطايا الحجاج الذين يلمسونه ويقبلونه طالبين المغفرة من مولاهم الرحيم
عن
هذه
1 كل شيء علا وارتفع فهو كعب ومن ثم قيل للكمبة كعبة ٢ يقول المؤلف إن الإسلام منذ البداية قد أخذ في محاربة الخرافات والبدع وهذا هو ما يقوم به العلم حتى يومنا الحاضر ولكنه يرى أيضاً أن الشرق يصور ما يريد من معان في أسلوب أسطوري ليبين في أوضح بيان ما يريد أن يوحى به من معنى ولذلك لا يريد المؤلف أن صفحاً يضرب القصص التي صيغت في أسلوب الأساطير والقصة التي نحن بصددها الآن تريد أن تبين أن البشر يخطئون وأن خطأهم كثير وأن معاصيهم الهائلة وصل بها الأمر أن أثرت في الحجر الجماد فغيرته من أبيض ناصع إلى أسود فاحم وهذه القصة توجه بذلك نظر الإنسان إلى الكثرة المفزعة من المعاصي التي يرتكبها بنو البشر فلعله يرعوى

VE
عين زمزم
وعن كثب من الكعبة حضرت عين زمزم ذات المياه العجيبة التي انبجست من الثرى لتخليص إسماعيل من آلام العطش عندما كان هو وأمه هاجر وحيدين في هذا القفر أشبه بمفقودين وفى العصر الجاهلى طمست عين زمزم بالرمال بسبب إهمالها ولكن عبد المطلب جدد حفرها قبل ولادة النبي بسنين
قلائل
ومنذ ذلك الحين صار ماء زمزم موضع التشريف من الحجاج الذين يتخذون منه للشرب والتطهير كى يظفروا بالقداسة في جو من ذكرى جدهم
وكانت سقاية الحاج وحجابة الكعبة من الوظائف المرغوب فيها لما يتعلق بها من الشرف والكرامة وكانتا - يومذاك - مجموعتين في يد عبد المطلب بن هاشم القرشي جد النبي الذي سيجيء به المستقبل
زواج عبد الله أبى النبي
كان عبد المطلب سادن الكعبة خارجاً يوماً ممسكاً بيد ابنه عبد الله أحب أولاده إلى قلبه وكان على باب الكعبة امرأة من بنى أ أسد تسمى قتيلة
ما كادت ترى عبد الله حتى انتهضت من جلوسها مبدية شديد دهشة ثم نظرت إليه بإلحاح عجيب - وقد بهرها النور السماوى الذى يرف على جبينه - فتعلقت عيناها به و راحت تسأله

أين تذهب في ساعتك هذه
فقال لها هناك إلى حيث يقودني أبى
فقالت له قف واسمع ! إنى أهبك مائة من الإبل وهي التي وجب على أبيك
التضحية بها لإنقاذ حياتك إذا أنت قبلت أن تكون لي في هذه اللحظة فأجابها عبد الله مبهوتاً لقلة حياء تبلغ هذا الحد وعلى الخصوص في حضرة شخصية لها مقامها كعبد المطلب إنى فى صحبة أبي الذي لا أستطيع له خلافاً
ولا مفارقة
وانصرف عبد الله وقد ملئ اضطراباً وبلبلة ولحق بوالده عبد المطلب الذي

Yo
قاده من فوره إلى بيت وهب بن عبد مناف حيث الفتاة التي كان قد اعتزم أن
يزوجه منها
كان وهب سيداً من سادات بني زهرة كما كان عبد المطلب ١ أميراً من
أمراء قريش التى هى من أنبل قبائل العرب وبين بيتين أصيلين في الشرف غير منازع كان الاتفاق على المصاهرة سهلا ولذا تم القرآن بين عبد الله عبد المطلب وآمنة بنت وهب فوراً
بن
وقاد عبد الله زوجه إلى منزل أخيه أبى طالب لإتمام الزواج وقضى بالمنزل ثلاثة أيام وثلاث ليال ولما خرج من المنزل لقى قتيلة مرة أخرى تلك المرأة التي كانت قد توسلت إليه في قليل من التحفظ ودهش لما رآه عليها هذه المرة من عدم الاهتمام حين مر بها وكان عبد الله مشهوراً بأنه أجمل شباب مكة وكانت رجولته الرائعة قد حركت نحوه هوى الكثير من فتيات مكة إلى حد أنهن حين علمن خبر قرانه سقطن مريضات بفعل الحقد والغيرة

أما قتيلة فإنها لم تكن من النساء العابثات إنها كانت أخت ورقة بن نوفل ذلك الحبر المشهور في كل جزيرة العرب لمعرفته التامة بالكتب المقدسة وكانت تعرف ـ عن طريقه - أن نبيا سيولد فى هذه الأرض وأن والده يعرف بنور يتلألأ في جبينه بمثل لألاء الماس أو النجوم وكانت قد أدركت هذه السمة في
1 كان عبد المطلب ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وكان مجاب الدعوة وكان يقال له الفياض الجوده ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته
الطير والوحوش في رءوس الجبال وكان من حكماء قريش وحلمائها
وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب من قتله فلما علم بذلك عبد المطلب ترك منادمة حرب ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظاً لجواره وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغى ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور وكان يقول لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك ففكر وقال والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
و رفض في آخر عمره عبادة الأصنام ووحد الله سبحانه وتعالى وتؤثر عنه منن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها منها الوفاء بالنذر والمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل الموعودة وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان كذا في كلام سبط بن الجوزي

جبين عبد الله فوقر فى نفسها حلم طموح فى أن تكون يوماً أم هذا النبي المنتظر ولقد كان إخفاقها في هذا المطمح البعيد سبباً فى أنها لم تبد أية رغبة في عبد الله مهما كان أمر جماله أما عبد الله الذي كان يجهل صراح الأمر ولبابه فقد تأثر أمام برود قتيلة
المفاجى بعد شغف ثائر كالذي كان منها فقال لها مالك لا تعرضين على اليوم ما كنت عرضت بالأمس
فقالت له من أنت
قال أنا عبد الله بن عبد المطلب
قالت آه ألست ذاك الذى كان جبينه يلوح لى تحت إكليل من النور
وقد اختفى الآن منه ما الذي حدث بعد أن تلاقينا
فقص عليها عبد الله خبر زواجه وأدركت
هی أن النور الذي كان يحمله
أبو نبي المستقبل قد مر من جبهة عبد الله إلى آمنة زوجه
وقالت له والله ما أخطأت فيما كان منى لقد كشفت على جبينك نوراً ورغبت أن أمتلكه ولكنه الآن أصبح فى حيازة امرأة أخرى وستاد أفضل الخلائق ولم يبق فيك الآن ما يجذبني نحوك
هكذا عرف عبد الله من هذه المرأة ما كان من حمل زوجه ومن أمر
المستقبل المدخر لولده ذلك الولد الذى كتب على عبد الله ألا يحظى برؤيته إذ وافاه الأجل المحتوم في يثرب قبل ولادة محمد بشهرين
أما آمنة أم المصطفى فقد قالت
ه منذ اليوم الذي حملت فيه ولدى حتى الساعة التي وضعته فيها لم أشعر بأقل ألم وإنى لم أشعر حتى بمجرد ثقله بل ما شعرت أنى قد حملت به حتى أتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال هل شعرت أنك حملت فكأني أقول ما أدرى فقال إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها اعلمى ذلك ه وفى نفس اللحظة خرج من أحشائى خيط من النور وترامى ناحية المشرق حتى بلغ أرض الشام وعندما دنا موعد ولادتي ظهر فى الملك من جديد وأوصانى قائلا عندما تضعين ولدك قولى أعيذه بالواحد الصمد من شر الحاسدين وسميه محمداً

VY
فهذا هو الاسم الذي بشر به فى التوارة والإنجيل ولأنه سوف يحمد من جميع
سكان السماء والأرض
وعند ما مر كوكب المشترى رأت آمنة هالة
من النور تخرج منها مرة أخرى
متجهة نحو الشام حتى أضاءت قصور بصرى وظهر في نفس الزمن معجزات أخرى أدهشت العالم إذ غاضت مياه بحيرة ساوى واهتز قصر كسرى أنوشروان فتصدعت أربعة عشر من أبراجه وحمدت رغم جهود عبادها - نار الفرس المقدسة بعد أن ظلت مضطرمة أكثر من ألف عام وشوهدت الأصنام في جميع بقاع العالم منكسة الرءوس
ولقد أفزعت هذه الظواهر جميع الذين رأوها وبالرغم من تنبؤات الموبذان خادم النار الكبير عند الفرس والذى كان قد رأى رؤيا تدل على قيام انقلاب في العالم بسبب حادث يقع في جزيرة العرب بالرغم من تنبؤاته مر الحادث دون أن يشعر به أحد ذلك الحادث هو ميلاد طفل قرشي في مكة تلك المدينة التائهة في وسط القفار تلك المدينة المجهولة أو المحتقرة لدى أكابر الملوك والأمراء في الشرق والغرب
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ

الفصك الثاني

مولد النبي
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وَزَرَكَ
ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل إشراق نجمة الصباح بلحظات الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام الفيل ٢٩ أغسطس يوم
سنة ٥٨٠ م ولد نظيفاً مخترنا وقام جبريل بقطع سرته
كان هواء البلدة غير ملائم لصحة الأطفال الصغار فكان من عادة أشراف
قريش اتخاذ المراضع اللاتي يقطن البادية فينشأ الطفل في جو البادية الصافي

وبعد مولد محمد بقليل حضر إلى مكة عشر من نساء بنى سعد يضرب
لونهن إلى السمرة ويلوح عليهن أثر إقليمهن الصحى حضرن ياتمسن الأطفال عند الأشراف فنالت من بينهن حليمة شرف استرضاعه
طفولته في بادية بني سعد
لنستمع الآن إلى حليمة تفصل قصة الرضاع
كانت سنة جدباء تبق لنا شيئاً فصيرتي وزوجي في فقر مدقع
C
فعزمنا على الخروج إلى مكة فى رفقة نسوة من بنى سعد نلتمس جميعاً الرضعاء ليساعدنا آباؤهم على الحياة وضرورياتها كانت الأتان التي أركبها من الهزال ومن الضعف الذي سببه عدم وجود القوت - بحيث خشينا أن تقع في الطريق فاقدة الحياة ولم ننم ليلنا أجمع من صبينا الذى معنا والذى يبكى لما يجده من ألم الجوع ولم يكن في ثديي ولا فى أخلاف الناقة التي يقودها زوجي قطرة من لبن نهدئ
۸۱

۸
بها من جوعه لقد استولى على أثناء الليل اليأس وتساءلت كيف يمكنى وأنا في تلك الحالة الزعم بأن فى مقدوري القيام على تنشئة طفل
ه وصلنا أخيراً إلى مكة وقد سبقنا إليها النسوة فأخذن الأطفال ما عدا محمداً كان والد محمد قد مات وكانت أسرته في يسر قليل رغم مكانتها العليا بين سادة قريش لذلك أبت النسوة احتضانه ه وامتنعت أنا وزوجي من أخذه لنفس السبب أعنى اليتم وعدم الثراء غير أنى فى النهاية خجلت أن أرجع ولم آخذا رضيعاً فأكون – فضلا عن الفشل – موضع السخرية ثم إلى شعرت بعطف متوقد نحو ذلك الطفل البارع الجمال الذي سيؤذيه هواء البلدة الفاسد
ملأت العاطفة جوانحي وشعرت - يا للمعجزة - باللبن يعود إلى ثديي
متحفزاً لأن يسيل في فم محمد فقلت لزوجي

والله إني لأجد رغبة ملتهبة في أن آخذ هذا اليتيم مهما كان الأمل في الخير
الذي يعود علينا من أسرته ضعيفاً
لا عليك أن تفعلى عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة و لم أتمالك نفسى فأسرعت مهرولة نحو الطفل الوسيم فوجدته وسنان
فوضعت يدى على صدره اللطيف فابتسم وفتح عينيه اللتين تشعان نوراً فقبلته بينهما وأخذته ورجعت به إلى رحلى ثم وضعته في حجرى وألقمته تدى الأيمن ليتغذى منه بما شاء الله من تغذية فوجد فيه – على دهشة منى ما يشبعه ثم منحته ثديي الأيسر فرفضه تاركاً إياه لأخيه من الرضاعة واتبع
ذلك دائماً
ه ومما هو أعجب من ذلك أن زوجي قام إلى الناقة ليهدى ثائرة الجوع التي أحشائه تلتهب بين فإذا أخلافها حافلة باللبن مع أنها ما كانت تبض بقطرة امع فحلب منها وشرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعاً فبتنا بخير ليلة وما كنا ننام من قبل
ه وقال صاحبي حين أصبحنا تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معى فوالله لقطعت بالركب

ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لى
يابنة أبي ذؤيب ويحك ! اعطفى علينا بالرزق فى السير أليست هذه أتانك
التي كنت خرجت عليها تخفضك طوراً وترفعك طوراً آخر فأقول لهن بلى ! والله إنها لهي هي فيقلن والله إن لها لشأناً !
ه ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها فكانت غنمی تروح على حين قدمنا به معنا - شباعاً لبناً فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان قومنا يقولون الرعيانهم ويلكم أيها الحمقى ! اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب و كان الرعاة يطيعون سادتهم ولكن أغنامهم كانت مع ذلك تروح جياعاً ما تبض بقطرة لبن إذ كان النبات الذى يترعرع لمقدم أغنامى يذبل عقب مرورهم به مباشرة فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير ۱ حتى مضت سنتاه
وفطمته
ه كان يشب شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ تسعة أشهر إلا وكان يتكلم بسحر ولهجة يصلان إلى حبات القلوب كان بعيداً عن الأقذار وكان لا يبكى ولا يصرخ قط إلا إذا ترك عرياناً فتعرض لأنظار الآخرين أما إذا قلق أثناء الليل ولم ينم فكنت أخرج به من الخيمة فلا يلبث أن ينظر في إعجاب إلى النجوم فيستولى عليه السرور حتى إذا شبعت عيناه من هذا المنظر أطبقهما وأخذ النوم بمعاقد أجفانه
اضطرت حليمة بعد الفطام أن تعود بمحمد إلى أمه التي أرادت أخذه غير أن حليمة – والحزن يلهب جوانحها - لم يمكنها أن تستسلم لهذا الانفصال القاسي فما إن رأت أمه حتى ألقت بنفسها عند قدميها وأخذت في تقبيلهما

1 كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مباركة في جميع مراحلها وإذا كان قد أصبح فى سن الأربعين - المنارة الهادية والأمل الوضاء لهداية البشر فإن حياته قبل ذلك كانت خيرا وبركة بالنسبة لكل الذين اتصلوا به وليس غريباً أن تبعث الطفولة الباسمة الأمل والرجاء فيتفاءل الإنسان ويحفزه التفاؤل فيعمل ويتخطى العقبات ويجنى ثمار ذلك شهية لذيذة فيشعر براحة وطمأنينة ويعزو ذلك - محقاً - إلى العامل الجديد الذي دخل حياته الطفولة الباسمة وتأثير الأشخاص صغاراً كانوا أم كباراً في بيئاتهم وأوساطهم معروف لا عماراة فيه ولعلنا إذا نظرنا إلى ما روى المؤلف هنا بهذا المنظار لا نجد فيه من الغرابة ما يحملنا على التردد في قبوله

ΛΕ
وانفجرت مستعطفة ألا ترين الأثر الناجع الذى تركه هواء البادية الصحى على ابنك إن هذا الهواء سيكون أجدى عليه الآن وقد بدأ يمشي إن جو مكة وباء و سترينه يذبل أمام عينيك حين لا يجدى الندم
رقت الأم لهذا الاستعطاف ورأت أن الخير لصحة الطفل فيما قالت حليمة فضغطت على عواطفها وقبلت أن يعود محمد مع مرضعته إلى البادية وحملته
عند ذلك مرضعته الطيبة وعادت به إلى الركب سعيدة بما نالها من توفيق عاد محمد إلى بادية بني سعد وبدأ يطبع بقدميه على البساط المتموج من
الرمال الطاهرة وأخذ يتنشق ملء رئتيه الهواء المعطر برائحة النباتات التي تترعرع على الكثبان وكان ينام تحت القبة الزرقاء المرصعة بالنجوم يغمره نسيم الصحراء الليلي الصافي فتفتح صدره واشتد وكان غذاء العرب الصحي المرتكز على القناعة له فضل كبير في تقوية الرسول وهذا الغذاء يتكون من مختلف الألبان ومنتجاتها ون الأقراص التى أنضجت تحت الرماد وأحياناً من لحم الجمال أو الأغنام الخالية من النضح الخبيث الذى ينبعث من لحوم تلك التي ربيت في الحظائر هذه الصبحة الأخلاقية والجسمية التى يدين بها إلى البادية ساعدته كثيراً على تحمل ما ابتلي به بعد من محن
كان محمد يحب إعادة ذكريات تلك الفترة وكثيراً ما كان يقول إن من نعم الله على التي لا تقدر أنى ولدت في قريش أشرف القبائل وأنى نشئت في بادية بني سعد أصح المواطن بالحجاز وقد بقيت منطبعة في نفسه صور البادية التي كانت أول الأشياء تأثيراً في حسه عندما كان يسرح فيها مع الرعاة
فيتساق شرفاً ليلاحظ القطعان في مراعيها على أن استعداده للتأمل والوحدة لم يكن لينسجم مع أخلاق أقرانه الصاخبة فكان يفضل اعتزالهم في ألعابهم ليذهب وحيداً حيث الهدوء والسكرن محمد والملكان
خرج الرسول - كعادته - ذات صباح مع أخيه من الرضاع يقودان القطيع إلى المرعى فلما انتصف النهار أتى أخره يعدو فزعاً باكياً ينادى يا أم

٨٥
ويا أبت ! أدركا أخي القرشي فإنه ابتعد عنا كعادته فأخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا صدره
جن جنون حليمة فعدت - بكل ما تملك من قوة - يتبعها زوجها في الاتجاه الذي أرشد إليه الصبي فوجدا محمداً جالساً على شرف وكان هادئاً وجهه كان ممتقعاً فقبلاه فى رقة وعطف وأخذا يسألانه و ما حالك
غير
یا بنی وماذا حدث
قال بينما كنت ألاحظ الأغنام ترعى إذا بصورتين ناصعتي البياض ظننتهما أولا طائرين كبيرين ثم عرفت خطئى وإذا بالصورتين ليستا إلا شخصين يلبسان لباساً ناصع البياض ! وقال أحدهما لصاحبه مشيراً إلى

أهذا هو
قال نعم
جمدت من الفزع وأخذاني فأضجعانى وشقا صدرى والتمسا في صدري شيئاً أسود فوجداه وأخذاه وطرحاه بعيداً ثم التأم ما شقاه واختفيا كأنهما
شبحان
سجل القرآن هذه الحادثة فى قوله ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك

وزرك الذى أنقض ظهرك هذه القصة ككل القصص التى من نوعها والتى يجدها القارئ أثناء قراءته لهذا الكتاب يجب أن تؤول تأويلا رمزياً والقصة التي نحن بصددها تعنى أن الله شرح صدر محمد إلى الفرح بحقيقة التوحيد إذ أزال عنه منذ الطفولة وزر
الوثنية
حسداً
قلقت حليمة وزوجها وأهمهما ما حدث فقال الرجل
د يا حليمة إنى أخشى أن يكون هذا الغلام قد أصيب وما أصيب إلا من جيراننا غيرة منهم لما يرون من عظيم بركته علينا وسواء أكان قد أصابه مس من الشيطان فأوهمه ما حدث أم كانت رؤيته صحيحة ومنبثة بمستقبل مجيد فإن مسئوليتنا في كلتا الحالتين خطيرة الحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به واخرجي من أمانتك


ورأت حليمة - على مضض - أن الحكمة فيما قال زوجها فأخذت محمداً واتجهت به إلى مكة
سار الطفل - وقد بلغ من العمر أربع سنوات - إلى جانبها فلما اقتربا من البلدة اختلطا بكثير من السائرين في الطريق الذاهبين إلى السوق أو إلى الحج بالكعبة وكان الليل قد ضرب بجرانه فلم تشعر حليمة وسط الناس إلا وهى وحدها ولم تسمح لها ظلمة الليل بالعثور عليه ورغم بحثها بجد وندائها الحار المتكرر فأسرعت تعدو إلى عبد المطلب فأمكنه بماله من جاه أن يبعث في أثر
محمد مهرة الباحثين وامتطى هو صهوة جواده ليسوس البحث وما لبث أحد متعقبى الأثر أن وجد فى وادى تهامة صبيا جالساً تحت شجرة
يجذب غصناً من أغصانها
فقال له من أنت يا غلام
قال و أنا محمد بن عبد الله
فسر الرجل بالعثور على ضالته وأخذ الغلام فوضعه بين يدى عبد المطلب
أمامه
على قربوس
الذي جاء على الأثر قبل عبد المطلب الغلام فى حنان ثم رجع إلى مكة ومحمد أ فرسه فنحر الشاء وأطعم أهل مكة الفقراء ثم حمل الغلام على كتفيه وطاف به الكعبة شاكراً لله تفضله ولطفه ثم قاد محمداً في رفقة حليمة البائسة إلى أمه آمنة فقالت الحليمة بعد أن قبلته وعانقته
ما أقدمك به وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك
قد بلغ الله بابني وقضيت الذى على وتخوفت الأحداث فأديته إلياك
كما تحبين
غير أن الاضطراب والخوف كانا يقرآن فى وضوح على وجه المرضع فلم
تصدق آمنة حديثها وقالت

إنك تخفين عنى الحقيقة فأصدقينى الخبر
ولم تدعها حتى أخبرتها وأعادت ما قال زوجها فأساء هذا الرأى الأم
فقالت في شيء من الحدة

أفتخرفت عليه الشيطان

- نعم
AY
كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لابني هذا لشأناً ثم أخبرتها بما حدث من ظواهر عجيبة أثناء حمله ووضعه ثم بعد أن شكرت حليمة المخلصة وكافأتها على حسن صنيعها احتفظت بابنها وقد أصبحت صحته من القوة بحيث لم تعد تخشى عليه هواء مكة الفاسد
موت آمنة سنة ٥٧٦ م ترعرع محمد تحت رعاية آمنة أكثر الأمهات حباً وفي ظل عنايتها أخذ يزداد كل يوم جمالا وحكمة غير أنه لم ينعم بالحنان الأموى الذي لا يعوض غير قليل فقد ماتت أمه فجأة بـ الأبواء عند عودتها من سفر إلى يثرب رافقها
فيه محمد
وكان لآمنة جارية حبشية تدعى أم أيمن تحب محمداً وتخلص له الإخلاص التام اصطحبتها آمنة في السفر فعادت باليتيم البائس إلى مكة وكانت هي وخمس من الإبل كل ما له من ميراث

فكفله جده عبد المطلب الذي كان يعزه دائماً ويزداد حباً له بتوالى الأيام
ذلك أن شبهه لولده عبد الله كان يأخذ فى الازدياد شيئاً فشيئاً ولعل الحكاية الآتية تعطى فكرة عن عاطفة عبد المطلب التي لا تحد نحو محمد
كانت مكة - ككل مدن الصحراء - ذات شوارع ضيقة كثيرة التعاريج
6
ولم يكن فيها مكان فسيح نوعاً ما إلا الميدان الذي يحيط بالكعبة وفى هذا المكان كان يجتمع سكان المدينة في الصباح وفى المساء للراحة والحديث في شئونهم ولأداء الشعائر والطقوس وكان خدم عبد المطلب يضعون له فراشاً في ظل الكعبة يجلس حوله بنوه وأحفاده وسادة المدينة في انتظار قدومه وكان احترام سادن بيت الله عبد المطلب عظيماً إلى درجة لا يجرؤ أحد حتى على الاقتراب من طرف
الفراش
وفى ذات يوم جلس محمد وسط هذا الفراش المحترم فما كان
من
أعمامه

۸۸
ذلك وقد ساءهم
- إلا أن أبعدوه عنه غير أن عبد المطلب كان قادماً ورأى
عن بعد - ما حدث فصاح
- أرجعوا ابنى إلى حيث كان يجلس إنه قرة عينى في شيخوختي وإن جرأته
آتية من حدسه بما سيصير إليه وسيبلغ مكانة لم يبلغها عربي قط
ثم يجلسه معه و يمسح خديه وظهره بيده و ويسره ما يراه يصنع
بید

أن القدر أراد أن يحرمه هذه العاطفة الحنون فقد مات عبد المطلب
بعد أن بلغ خمسة وتسعين عاماً وذهب تشيعه إلى مقره الأخير عبرات الناس
أجمع
أما هذا اليتيم المسكين فقد كفله عمه أبو طالب كفله بناء على وصية
عبد المطلب لأنه من بين أعمامه شقيق والده الوحيد
أول سفر إلى سوريا سنة ٥٨٢ م
كان أبو طالب يعول أسرة كبيرة وكان قليل الثراء رغم أنه ورث سدانة الكعبة فاضطر إلى الاشتغال بالتجارة مع اليمن وسوريا ولم يلبث محمد غير قليل عند عمه حتى أخذ أبو طالب في تنظيم قافلة تجارية لقريش يقودها هو إلى سوريا فلما تهياً الركب للرحيل وأجمع على المسير أثار منظره في نفس محمد ذكريات البادية المحببة إلى قلبه تمر بها القوافل الكثيرة الشبيهة بهذه التي توشك أن ترحل
القافلة على أهبة الرحيل ومحمد إذن على وشك الافتراق عن عمه الذي شغف به وعلى وشك أن ينغمس في وحدة مؤلمة محزنة كل هذا جعل من محمد بائساً لا ينبس ببنت شفة وزاد البؤس وكاد قلبه أن يتفطر عند اقتراب الافتراق فعدا نحو عمه وألقى بنفسه في حجره وأحاطه بذراعيه الصغيرتين ثم أخفى وجهه بين ثنايا ملابس أبى طالب حتى لا ترى عبراته تلك التي امتزجت فيها الرغبة باليأس
ورق أبو طالب لما أبداه محمد من حب غير متكلف وأحس برغبة ابن أخيه القوية في مرافقته فقال
ه والله لأخرجن به معى ولا أفارقه ولا يفارقى أبداً

٨٩
فمسح محمد دموعه واستولى عليه الفرح ونشط في استكمال التأهب للسفر
ثم قفز خلف عمه على الناقة

سار الركب وترك جو مكة الفاسد الذى كان يقبض صدر محمد فلما غمر القافلة هواء البادية النقى الصافى الذى ألفه محمد من قبل تفتحت نفسه وأخذ منه رئتيه في لذة ومتعة لقد ساعدته ألفته للحياة البدوية أ أثناء إقامته مع حليمة على تحمله قسوة الحرمان وشدة التعب طيلة هذا السفر الشاق في صحراوات
يملأ
الحجاز التي لا تكاد تحد
رمال وصخور ثم رمال وصخور تلك هي صحراوات الحجاز التي تتشابه إلى درجة أن السائر فيها لا يشعر بأنه يترك مكاناً ليحل في آخر وإنما يشعر بأنه يدور عوداً على بدء في مكان واحد تلك هي صحراوات الحجاز الجافة التي مكثت فيها القافلة شهراً كاملا لا ترى أثراً لحياة اللهم إلا الشعور بوجود الأحد الخالد الذي لا يخلو منه مكان والذى يرى ولا يرى
محمد والراهب
وقف العالم الراهب بحيرى على مقدمة دير يعلو جبل حوران يسرح الطرف في انتباه إلى سهول سوريا الشاسعة المنبسطة نحو جزيرة العرب وفجأة استرعى نظره قطعة من السحاب بيضاء مستطيلة تعترض - على خلاف العادة - زرقة السماء الصافية وكأن هذا السحاب الذى يشبه طائراً أبيض هائلا يحلق فوق قافلة صغيرة تتجه نحو الشمال يغمرها بظله الأزرق ويسير معها أني سارت وأناخت القافلة أسفل الدير بجانب شجرة ضخمة ترعرعت على حافة واد ذهبت نضرته وما لبث السحاب أن ذاب في فضاء الله الراسع بينما انحنت أغصان الشجرة – كما لو كانت متأثرة بالنسيم - ومالت نحو واحد من الركب لتظله من قيظ الشمس فلما شهد ذلك بحيرى علم أن قد وصل فى تلك القافلة ينتظره منذ زمن بعيد ذلك هو الرسول الذى بشرت به الكتب المقدسة ١
من
كان
۱ تلك سنة الله تعالى في تأييد الرسل بعضهم لبعض وتصديق بعضهم لبعض فالسابق يمهد للاحق ويبشر به واللاحق يؤيد السابق ويكمل ما جاء به والمعاصر يجاهد معه ويناصره ويدافع عنه =

1
ترك بحيرى في سرعة مقدمة الدير وذهب يأمر بإعداد طعام كثير أرسل رسولا إلى القافلة يدعوها - الشباب منها والشيوخ والشرفاء فيها والعبيد - إلى تناول الطعام فلما عاد الرسول يرافقه المكيرن إلى حيث كان ينتظرهم و بحيرى وحق اللات والعزى إن لك يا بحيرى لشأناً اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم
قال أحدهم
صدقت قد كان ما تقول وما ذلك إلا لأسباب أعلمها ولكنكم اليوم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلوا منه كلكم وأخذ المدعوون في تناول الطعام بشهوة قوية لما لاقوه أثناء سفرهم الطويل من حرمان وأخذ بحيرى يفحص بعينيه واحداً فواحداً ليميز من بينهم ذلك الذي تتفق صفاته مع ما أخبرت به الكتب المقدسة غير أنهم جميعاً أخلفوا ظنه إذ لم يجد فيهم طلبته فقال في نفسه إن ما رأيته من ظواهر خارقه للعادة لا يفسر إلا بوجود من اصطفاه الله بين هؤلاء ثم سألهم يا معشر قريش هل تخلف منكم أحد في
الرجال
- نعم تخلف منا واحد فقط تركناه الحداثة سنه
لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام
فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للوم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فأحضره وأجلسه مع القوم فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده وقد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى فقال يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما ولم يرد بحيرى بقسمه عليه باللات والعزى - بعد أسألك عنه والقرآن الكريم أفاض في هذا المعنى في آيات وسور كثيرة في التأييد والتمهيد والتصديق والمناصرة قال تعالى في سورة آل عمران في الآية رقم ۸۱ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * ويقول سبحانه وتعالى في نهاية سورة البقرة
=
أن سمع
القوم
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد
من رسله

۹۱
يحلفون بهما - إلا امتحانه فقال محمد ولا تسألنى باللات والعزى شيئاً فوالله
ما أبغضت شيئاً قط بغضهما
فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه
سلني عما بدا لك
فأخذ بحيرى في الاستفهام عن كل ما يهمه عن أسرته مكانته
عن

عن أحلامه إلى غير ذلك من أمور كثيرة وكانت الإجابة توافق ما عند بحيرى
من صفته
وأخيراً نظر بحيرى بين كتفيه فرأى خاتم النبوة على موضعه
من صفته التي عنده فزال من نفسه كل شك وأيقن أن الواقف أمامه إنما هو الرسول الذى بشرت به الكتب المقدسة فأقبل على أبي طالب وقال له ما هذا
الغلام منك - إنه ابني ! - ما هو بابنك
صدقت إنه ابن أخي فما فعل أبوه
مات وأمه حامل به
صدقت فأصغ لما أقول ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوامنه ما عرفت ليبغونه شراً فإنه كائن لابن أخيك هذا
شأن عظيم وتأثر أبو طالب لهذه الوصايا الصادرة عن رجل ذاعت شهرته العلمية فخرج بابن أخيه سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
شب محمد والله تعالى يكلؤه وعناية أبي طالب تحوطه حتى صار في مكتملا ولقد كان حيا بالغ الحياء ومما يروى في ذلك أن أبا طالب كان ذات مرة يقوم بإصلاح بئر زمزم وكان غلمان قريش ومن بينهم محمد ينقلون له ما يلزمه من حجارة ولتحاشى المشاق أخذ كل منهم إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة حتى لا تضره خشونتها فأبان ذلك عن عورتهم وما إن رأى محمد نفسه على ذلك الوضع وشعر بأنه معرض الأعين حتى استولى عليه انقباض

۹
شديد في الصدر وسال على جبهته العرق وأخذته رعشة الخجل فسقط مغشياً عليه ١
هذا الحياء وتلك الرعاية اللتان يمنحهما الله لمن اصطفاهم جعلاه بمعزل عما يتعرض له أحياناً من هم في دور المراهقة من حدة واندفاع وكان بين أقرانه أحسنهم خلقاً وأكرمهم وأحسنهم جواراً وعشرة وأصدقهم حديثاً وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال وأرعاهم لمقتضيات الصداقة حتى لقد سمى بين قومه بالأمين
الرحلة الثانية إلى سوريا سنة ٩٥٤ م
كانت حالة أغلب المكيين - كأبي طالب - تضطرهم إلى التجارة فإقليمهم من أشد الأقاليم جدباً ولذلك لم يكن من الممكن لقاطنيه أن يعيشوا إلا بالتعامل مع اليمن وسوريا اللذين تربط بينهما مكة فكانت قوافلها تذهب إلى اليمن الذي أطلق عليه الإقليم العربي السعيد للبحث عن منتجاته والمنتجات التي تصل إليه عن طريق البحر فيبتاعون مما تنتج الحبشة والهند والصين من التوابل والعطر والبخور والتبر والحرير وفى عودتهم إلى الحجاز يضيفون إلى ذلك تمر يثرب أو الطائف ثم يذهبون بعد ذلك إلى سوريا ليستبدلوا ببضائعهم منتجاتها الزراعية
C
۱ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يروى ابن هشام لقد رأيتنى فى غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره
فجمله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكني لاكم ما أراء لكمة وجيعة ثم قال شد عليك إزارك فأخذته وشددته على ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري على من بين أصحابي عن سيرة ابن هشام
قال السهيلي في التعليق على هذه القصة وهذه القصة إنما وردت في الحديث الصحيح في حين بنيان الكعبة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة مع قومه إليها وكانوا يحملون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها على عاتقه وإزاره مشدود عليه فقال له العباس رضي الله عنه
يا بن أخي لو جعلت إزارك على عاتقك ففعل فسقط مغشياً عليه ثم قال إزاري إزارى فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة وفي حديث آخر أنه لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودى من السماء أن اشدد عليك إزارك يا محمد قال وإنه لأول ما نودي وحديث ابن إسحاق إن صح أن ذلك كان في صغره إذ كان يلعب مع الغلمان فجمله على أن هذا الأمر كان مرتين مرة في حال صغره ومرة في أول اكتماله عند بنيان الكعبة

كالقمح والشعير والأرز والتين والزبيب يضاف إليها ما يوجد في سوريا
مما يصدره إليها اليونان والرومان

ولم تكن النساء بمعزل عن هذا النوع من التجارة فقد كن يخترن من يخرج في مالهن للاتجار في مقابل جزء من الربح هكذا كانت تفعل خديجة بنت خويلد ذات الثراء الواسع والحسب النبيل وفى ذات يوم أرسلت إلى محمد – وقد كانت تسمع بما له من عقل متزن وأمانة وإخلاص – فعرضت عليه أن يسير على رأس تجارتها إلى الشام وأن تمنحه في مقابل ذلك ضعف ما كانت تمنح عادة لغيره قبل محمد العرض غير أن أبا طالب تذكر ما قاله الراهب بحيرى فأهمه الأمر وأحس بالاضطراب حينما تأهبت القافلة للسفر فجعل يوصى أهل القافلة - كلا على انفراد - بمحمد وأوصى على الأخص ميسرة عبد خديجة الذي تثق به والذي رافق محمداً فى تلك الرحلة
كان ميسرة خادماً أميناً طيب القلب مخلصاً لشد ما أثرت في نفسه وصية أبي طالب صاحب المكانة الاجتماعية العظيمة على أن تأثير محمد الساحر فيمن حوله وسموه عليهم أذهلاه حتى عن نفسه فأخلص له الإخلاص كله وجعله موضع التقديس وكان ميسرة يرى في كل ما يحدث أثناء السفر معجزة تبرهن على أن طبيعة محمد ليست من هذا العالم وكانت الحوادث - على ما يبدو - تؤيده فهذا الطريق الذى سلكه غير مرة والذي يعرف مشاقه هذا الطريق الذي لا يكاد ينتهى والذي تلتهب فيه الشمس فتجفف
وأخطاره
الأسقية
وتوحي إلى سالكيه بأنه طريق جهنم هذا الطريق الذي انتثرت على جانبيه عظام البشر والحيوانات التى أتى عليها الظماً هذا الطريق طواه ميسرة في
دعة وسرور
كل يوم - حينما تعلو الشمس رءوس المسافرين وتنذرهم بشعاعها الملتهب -

يرى ميسرة في القبة الزرقاء سحاباً خفيفاً يشبه ريش الطائر يتألف شيئاً فشيئاً ويزداد ويتجمع ثم يستطيل فيشبه جناحى طائر عظيم ينشرهما ليحتمى محمد
بظلهما حتى إذا أخذت الشمس تميل نحو الأفق وتفقد قوة حرارتها المخيفة

أخذ الريش يتناثر واحدة فواحدة ليذوب في ثنايا آخر شعاع ذهبي يقذفه الكوكب المتأجج قبل أن يختفى وحينئذ يطوى الجناحين ويفسح المكان للنجوم التي لا تتلألأ في أي مكان كما تتلألأ فوق الصحراء
أما إبل القافلة فقد عمها هي أيضاً - فيما يبدو – نشوة من فرح فاتسعت خطاها وبدا الطريق من تحتها كأنه ينطوى من نفسه ولم يصب واحد منها بسوء يتركه جثة هامدة بين العظام ذات المنظر البشع التي هي بقايا ما اندثر من القوافل السابقة
سارت القافلة في سلام غير أنه حدث ذات يوم أن تأخر جملان من جمال خديجة عن القافلة وبدت عليهما علامات التعب الشديد ولم يصل ميسرة رغم ما صبه عليهما من لعنات ولطمات إلى إلحاقهما بالقافلة فقد غمر العرق جسم الحيوانين البائسين وتلك علامة مؤكدة على اقتراب أجلهما
و وقع ميسرة - وهو الخادم المخلص الحريص على مصلحة سيدته - في بلبلة واضطراب ولم تسمح نفسه بترك الجملين وبينما هو كذلك تذكر ما قاله أبو طالب عن محمد فعدا إلى رأس القافلة ليقص عليه الأمر عاد محمد إلى الجملين فوجدهما قد استلقيا على الأرض فلما أحثهما على القيام أخرجا صوتاً تتمثل فيه الشكوى والألم العميق فانحنى عليهما ولمس بيديه المباركتين أخفافهما التي قطعتها أحجار الطريق الحادة فقاما بعد أن كانا لا يبديان حراكاً ونشطا فى السير حتى أدركا - فى توثب الجذلان - مقدمة
القافلة
ما يريد
وصلت القافلة إلى بصرى من أعمال سوريا واستمر التوفيق يرافق محمداً ما أتى به من بضاعة بربح لم يكن منتظراً واشترى من سلع بثمن زهيد كل هذا بدون أن يلجأ إلى طرق المساومة التي لا تكاد تنتهى
فباع جميع
جميع
والتي يستعملها عادة الشرقيون كان ظرفه الطبيعي وصراحته وما يبدو عليه من نبل وعلى الأخص هذه الإشعاعات التي فيها من المساتير ما فيها والتي تنبثق دائماً عمن اصطفاهم الله هذه الإشعاعات التي ترجمها المصورون - فيما مضى – بإكليل من ذهب

ويصفها علماء اليوم - عاجزين عن شرح طبيعتها - بالمغناطيسية كل هذا كان يجعل الناس يقبلون عليه في مردة وثقة
في هذا القطر الذي شغف بالمسائل الدينية والذى تجد فيه على قمة كل شرف ديراً وتوحى إليك كل صخرة فيه بذكريات رسول أو نبي والذى تبدو الطبيعة نفسها فيه كأنها تنحنى أمام محمد فى هذا القطر أثار المصطفى في قوة اهتمام كل الرهبان - حفظة الكتب المقدسة - وقد كانوا ينتظرون رسولا جديداً من قبل الله جاءوا جميعاً إذن يسألون ميسرة الذى عرفه كثير منهم من قبل أثناء رحلاته السابقة والذى يحدسون أنه موضع محمد فلما أرضوا حب سر الاستطلاع صرح أحدهم وهو راهب نسطوري يسمى جريج إلى خادم محمد المخلص بمثل ما صرح به بحيرى لأبي طالب

انتهى التعامل وتمت الصفقات فأخذت القافلة طريق العودة وأخذ السحاب الذي بدا كأنه ينتظر الركب مكانه فوق رأس محمد واستمر كذلك إلى نهاية السفر فلما وصلت القافلة إلى بطن مر بالقرب من مكة أقنع ميسرة محمداً بأن يسبق القافلة ليحمل بشرى العودة إلى خديجة

كانت خديجة قد تعودت أن تصعد مع خادماتها إلى سطح المنزل حيث ترى في وضوح طريق سوريا متجهاً بين الجبال إلى الشمال الغربي ولم تكن - بطبيعة الحال ـ قلقة على ثروتها غير أن من أرسلته قد أهمها أمره وإن كانت لم تتبين أو لا تريد أن تتبين ذلك بعد فى وضوح على أنه مما لا شك فيه أن ما رأته في وجه محمد من نبل وفى أخلاقه من طهارة أثر فى نفسها تأثيراً كبيراً حتى لقد شق غيابه عليها وبدا لها أن هذا السفر يوشك أن يستمر فلا ينتهى
وفي ذات يوم صعدت خديجة إلى مرصدها المعتاد وكانت الشمس إذ ذاك تلقى بشواظ من نار على البلدة وتمنع القاطنين من المجازفة بالخروج إلى الشارع أو الصعود إلى سطوح المنازل ومكثت خديجة تنظر وتنظر في أعماق الأفق الشاسع علها ترى القافلة التي لم تعد تصبر على بعدها فلما يئست أغمضت
عينيها الملتهبتين وما لبثت أن

فجأة شعرت
عليل رطب يتخال جنبات بنسيم
المنزل بينما سحابة رقيقة ضاربة إلى اللون البنفسجى قد خففت من حدة الضوء

4
الذي تقذفه الشمس على السطوح وعلى الصخور في تلك الآونة فتح الباب
ودخل محمد بيت خديجة
أخذ محمد كوكيل دقيق يعرض عليها نتيجة رحلته ويعرفها بما كان لها
من ربح عظيم فشكرته وهنأته في حرارة غير أنها لم تدهش من نجاحه فقد بدأت تعتقد أنه من المصطفين الأخيار

ولاحظت خديجة السحاب ذا الظل المنعش ساعة وصول محمد فحدست ارتباطاً وصلة وأرادت أن تتثبت فسألت أبن ميسرة
- إنه مع القافلة

القافلة
عجل إليه ليعجل بالإقبال فإني في أشد الشوق إلى التمتع برؤية ماحوت
فعاد محمد وفارق السحاب المنزل وتابعه على طريق سوريا لقد أصبح حدس خديجة يقينا
ولم يلبث ميسرة أن وصل فأعلن مؤكداً رأيها
إن هذا السحاب الذى لاحظته لم يتخلف قط عن مرافقتنا منذ أن غادرنا مكة إلى أن عدنا إليها ومنذ أن تركنا بصرى وقد عرفی رهبان حوران العلماء من هو محمد فعرفت أن هذا السحاب ليس إلا أجنحة ملكين مكلفين بوقاية سيدى من قيظ الشمس المهلك ثم قص ميسرة على سيدته كل ما حدث أثناء الطريق من حوادث استدل منها على أن محمداً شخص قد بارك الله فيه وأصغت خديجة في انتباه وكلما سكت خادمها استزادته
زواج محمد بخديجة سنة ٥٩٥ م ضاعفت السيدة الفاضلة لمحمد ما كانت قد وعدته به من أجر ولم تعد تفكر إلا في جعله المشرف الأعلى على ثروتها فرأت أن خير طريقة لذلك هي أن تتزوج به خصوصاً وأن عواطفها القلبية نحوه لم يكن من شأنها أن تصرفها عن الإقدام على مثل ذلك نعم ولكن ما العمل في مسألة اختلاف السن لقد بدأ محمد عامه الخامس والعشرين فى حين اقتربت هي من الأربعين أفيقف ذلك عقبة إن سن خديجة لم تمنعها من أن تكون محط أنظار الكثيرين

لا لأنها - حسما يبدو لأول وهلة

ثرية فالتقاليد العربية تقضى بأن المهر يدفعه
الرجل وليس له أى حق على ثروة زوجته ولكن لما تحلت به من صفات شخصية ومن سحر ومن وجاهة ومن فضائل ثم لحسبها النبيل أليست هي بنت بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن
أسد
خویلد بن غالب !
كعب
بن لؤى
بن
كانت خديجة لكل ذلك محاطة بحاشية من الطامحين إلى زواجها يعتمد بعضهم على شرف حسبه والبعض الآخر على ثروته بيد أنهم حاولوا عبثاً إذ أنه بعد موت أبى هالة زوجها الثانى عزمت فيما يبدو أن تقضى بقية حياتها بدون زواج هذا العزم لم تجد له ما يبرره عندما رأت محمداً وعلمت – عن تجربة – الشيء الكثير مما تحلى به من مكارم الأخلاق فغيرت اتجاه حياتها وكان كل يوم يمر يزيدها ميلا على ميل نحو محمد فعزمت على أن تعرف ما انطوى
عليه قلبه
قال ميسرة أرسلتنى سيدتى بعد شهرين وعشرين يوما من عودتنا من
الشام إلى محمد فقلت له
يا محمد ما يمنعك أن تتزوج
ما بيدي ما أتزوج به
فإذا كان ما تملك على قلته يكفى ودعيت إلى الجمال والمال والشرف
والكفاءة ألا تجيب
- فمن هي

إنها خديجة
إنك لهازل كيف أجرؤ على أن أتقدم لطلب يدها بما أملك من مهر لا عليك وأنا بحل تلك العقدة كفيل
كانت نغمة سيدى فى حديثه كافية لمعرفة عواطفه نحو سيدتى فأسرعت
في العودة لأبشرها فغمرها السرور وأخذت في الاستعداد للزواج وكان أول ما فكرت فيه أن تحصل على موافقة أبيها خويلد الذي كان يرفض دون ما رحمة كل الطامحين إما لأنهم ليسوا من ناحية الشرف أكفاء وإما

۹۸
لأن
ثراء هم أقل مما ينبغي لهذ استعملت ابنته للوصول إلى ما تريد طريقة التحايل الآتية
صنعت طعاماً وشراباً ودعت أباها ونفراً من سادات قريش ومحمداً وأعمامه وكان خويلد يحب النبيذ حباً جماً فشرب منه - حسب عادته - أكثر مما ينبغي فانتهزت ابنته الفرصة وقالت أبى إن محمد بن عبد الله طلبني للزواج وأرجوك الموافقة على ذلك كان خويلد تحت تأثير الخمر يأخذ الحياة من جوانبها السارة فقبل عرض ابنته بدون تفكير وما إن حصلت على رضاء أبيها حتى قامت ـ حسب عاداتهم - إلى تعطير أبيها وألبسته حلة نفيسة
وصحا خويلد من سكره فسأل ابنته ما هذا
قالت إنك يا أبت به عليم فقد قبلت زواجي بمحمد بن عبد الله - أنا ! أزوجك اليتيم الذى كفله أبو طالب ! كلا ! إن هذا لا يحدث ما دمت على قيد الحياة
ألا تستحى تريد أن تسفه نفسك عند قريش تخبرهم أنك كنت
سكران !
وضربت خديجة على تلك النغمة طويلا حتى إن خويلداً ارتباك واضطر إلى القبول النهائى وحينئذ قام أبو طالب وقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية
إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجاً وحرما آمنا وجعلنا سادة العرب ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجع به شرفاً ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال فإن المال ظل زائل وعرض حائل وعارية مستردة وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة ولها فيه مثل ذلك وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله عشرون بكرة وإنى يا معشر قريش أشهدكم على ذلك
تم الزواج واحتفلت به خديجة فأمرت الشابات الرشيقات من جواريها أن يرقصن ويضر بن الدفوف أمام المدعوين الذين سروا لهذا الرباط بين عائلتين

كريمتين شريفتين

43
۹۹
كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول وبقيت – طيلة حياتها – زوجه الوحيدة المحببة التي لا يجد غيرها إلى قلبه سبيلا وقد أنجبت له سبعة أولاد ثلاثة ذكور هم القاسم والطاهر والطيب وأربع إناث رقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة وبعد مولد القاسم الذى كان أول من أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم لكم سعد محمد بأن منحه الله طفلا ذكراً !! ولكم أعز محمد هذا الطفل وأحبه ولكم حزن حين أصابته فيه المقادير وهو ما يزال بعد في دور الطفولة ! ! وأراد الله أن يكون مصير الطاهر والطيب مصير القاسم فمات الجميع قبل بعثة الرسول أما البنات فقد عشن إلى ظهور الإسلام وكن من أوليات من أسلمن وساعدن جاهدات فى سبيل الله ورسوله
كما
حديث بنيان الكعبة ووضع الحجر سنة ٦٠٥ م تهدمت الكعبة فى بعض أجزائها بسبب حريق حدث بها فلم تصلح ينبغي وتصدع سقفها فدخل اللصوص من هذه الفجوات وسرقوا بعض كنوزها التي تكونت من هبات الحجيج كانت الحاجة ماسة إذن إلى إصلاحها من جديد غير أن حيطانها كانت هى أيضاً بحالة لا تحتمل أى ثقل عليها فاستلزم الأمر هدمها ولقد حدث هذا الهدم بعد كثير من التردد فما من شك في أنه إذا كان إصلاح بيت مقدس كالكعبة لا يثير اعتراضا فإن هدمها يلوح دينيا من الخطورة بمكان
وأخيراً
C
بعد أن بدت لأهل مكة علامات استدلوا منها على رضاء الله أجمعوا أمرهم على هدمها وإقامتها على أساسها القديم ذلك الأساس الذي كان مؤلفاً من كتل من الأحجار ترتكز فى تماسكها على تداخل بعضها في بعض بطريقة هي غاية في المهارة والإحكام ثم جزأت قريش الكعبة وخصص لكل عشيرة قسم تبنيه بدأ القرشيون البناء فى تحمس يوجده دائماً التنافس فأقام وه بسرعة حتى بلغ البنيان موضع الركن حيث يوضع الحجر الأسود من يضع الحجر الأسود من الأجدر بنيل هذا الشرف الجليل هنا ثار الخلاف وأخذت كل قبيلة تذكر شرفها الأصيل أو جدارتها التي لا تنكر واحتدم
النزاع والحوار وتحالفوا وأعدوا للقتال وقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً
C

1
ثم تعاقدوا
هم
وبنو عدي بن كعب على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم عازمين على وضع الحجر أو الموت
ومكثت قريش على ذلك أربعة أيام يتهدد بعضها البعض ويتوعد وينذر ويراقب حركات الآخرين وأخيراً قال لهم أبو أمية – وكان عامئذ أسن قريش ه يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه أخذ المتخاصمون فى النهاية بهذا الرأى وما لبثوا حتى رأوا شابا في نحو الثلاثين قادماً فلما عرفوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر لم يأخذ في الإصغاء إلى حجة كل فريق وإنما قال في بساطة هلم إلى بثوب وانشروه على الأرض فلما أجابوه إلى ما طلب أخذ الحجر الأسود بين يديه فوضعه على الثوب ثم قال ليأخذ رئيس كل قبيلة بطرف الثوب الذي يوجد تجاهه فلما أخذوا بأطراف الثوب قال لهم ارفعوا جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده وزال الخلاف بفضل بديهية محمد الحاضرة فقد أرضاهم جميعاً دون أن يفضل أحدهم على الآخر ووفق - لأول مرة فى تاريخ العرب - بين كبرياء رؤساء القبائل فمنعهم من إسالة الدماء واحتفظ لنفسه بجانب من شرف وضع الحجر الأسود ولم

ينازعه فيه منازع انتهى البناء بعد وضع الحجر الأسود بسرعة وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة فتحطمت فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيف الكعبة ولما كمل الأمر غطوها بقماش من الكتان الدقيق الصنع قام بعمله المصريون
وفيما بعد كانت تغطى الكعبة بنسيج مقلم من صنع اليمن ثم كساها الحجاج بن يوسف بالحرير الأسود الذى لا تزال تكسى به إلى الآن والذى
يجدد كل عام
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

الفصل الثالث

عزلة محمد
بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
كان القرشيون على استعداد لأن يمنحوا من لقبوه بالأمين من مراتب الشرف ما تطمح إليه النفوس وما تعتز به وأن يمكنوه من مركز اجتماعى سام غير أن نفسه - - وهى بمعزل عن العجب والطمع - كانت ترفض في ازدراء كل عرض من هذا النوع لذلك كان تدخله العرضي فيما نشأ من خلاف
بسبب وضع الحجر الأسود هو الحادثة الاجتماعيه الوحيدة التي ساهم فيها طيلة الخمسة عشر عاماً التي تلت زواجه
6
بم كان يشغل محمد نفسه إذن لقد غرس الله فى قلبه حب الوحدة ثم إنه كان شغوفاً بفضاء الله الواسع يسبح فيه فريداً أنى شاء ما سبب ميله هذا لا شك أن تلك الوحدة الكالحة التي تحيط بمكة كانت تحي فيه ذكريات طفولته السعيدة في أثناء إقامته بالبادية نعم غير أن روحه التي اصطفاها الله كانت تجد متعة أسمى وأروع في الهرب من الأخلاقى والضلال الديني اللذين سادا العرب إذ ذاك
الانحلال
حقيقة إن العرب وصلوا من الاعتداد بالنفس ومن النبل والشجاعة والاستقلال إلى أعلى الدرجات وبلغ كرمهم إلى مرتبة هي من السمو بحيث لم يتأت للآخرين تخطيها وإن حاتماً الطائى ليعتبر أمير الكرماء بلا منازع حقيقة إن بلاغتهم وشعرهم لا يخشيان التخلف في مضمار السباق عما ينتجه أعاظم الخطباء وفحول الشعراء العالميين وما من شك في أن الشعر الذي كان يمكنهم من الإشادة بمظاهر البطولة وآيات الكرم ومن التغنى بنعيم
١٠٣

104
الحب والاستغاثة من جحيمه كان بالنسبة إلى هؤلاء القوم ذوى العواطف الملتهبة شعيرة دينية تحيطها القداسة وتخدمها في انسجام أجمل اللغات
نغما وموسيقى
ولقد كان سوق عكاظ مسرحاً لتباري الشعراء يصفق فيه الناس متحمسين
مأخوذين للمنتصر ثم تكتب قصيدته بحروف من ذهب وتعلق بالكعبة ولقد وصل إلينا من هذه القصائد سبع سميت بالمعلقات وهى ترى في وضوح إلى أى حد من السمو وصلت العبقرية العربية في الشعر
أجل ولكن بجانب هذه الصفات المزهرة الفطرية في العرب كم من ضلال يرثى له لقد نسوا نسياناً تاماً دين التوحيد الذي نشره فيهم جدهم إبراهيم وإن كانوا قد استمروا في تقديس الكعبة التي بناها بيديه فقد اتخذوا الله شركاء بزعمهم من أصنام تحظى عادة بتفضيلهم وكان لكل قبيلة بل لكل أسرة صنم تؤثره عما عداه وأصبحت الكعبة مباءة لثلثمائة وستين صنما من خشب أو من حجارة تعبد من دون الله
C
أنصاب وأزلام وسكر واستعمال للسحر والرقى كل هذا كان

النساء
يهوى بعقلية هؤلاء القوم الذين وهبهم الله استعداداً فطرياً رائعاً لقد تركوا لأنفسهم الحبل على الغارب وأسرفوا في فهم الحرية فكان الرجل منهم يتزوج من ا أكبر عدد يمكنه تغذيته وكان من تقاليدهم أن النساء تورث كما يورث العقار فقد كان الابن بعد موت أبيه يتصل اتصالا جنسيا بمن ورثهن من
زوجات والده
C
بسبب
ذلك لا شك بشع مخجل بيد أن البشاعة قد بلغت أقصى مراتبها في وأد البنات لقد تغالى العرب وأسرفوا فى كل ما يتصل بالشرف وذهب بهم هذا الإسراف إلى تخيل احتمال أن يؤذى شرفهم بسبب سوء سلوك فتاة أو اغتصابها وجسم الخيال ذلك لبعض الآباء الذين أفسدت المغالاة طبائعهم فتوهموا ثم ظنوا وتخيلوا ثم خالوا وخافوا ففضلوا القضاء على بناتهم منذ أن يتنسمن الحياة ١

۱ قال تعالى فى الزجر عن ذلك وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت

160
ولقد كان ميل العرب إلى التباهى وحساسيتهم المرهفة فيما يتعلق بالكرامة وكبر يا ؤهم من أكبر العقبات التي تمنعهم من الخضوع للنظام لذلك كان كل ارتباط أو تقدم أو تنظيم اجتماعي مستحيل التحقيق وكان من الطبيعي أن تستمر الحرب فلا تنقطع وأن يحل الثأر الذى لا هوادة فيه ولا رحمة محل التقاضي فتسيل الدماء في كل بقاع الجزيرة العربية
ذلك
هو الضلال الذى أحزن محمداً وأرقه وجعله لا يستطيع الصبر على رؤيته وهو ضلال ليس فى طوقه إزالته لأنه متأصل عميق ولأنه عام شامل وهو جالب لا محالة على مواطنيه عقاب السماء الرهيب يعصف بهم كما عصف بعاد وثمود لهذا كان يلجأ إلى الأماكن الخالية من بني البشر حتى
لا يختلط بهم وحتى يزيل من ذاكرته شبح ما هم فيه من ضلال بشع أليم كان يستسلم إذن لرغبة قوية عنيفة تسيطر على نفسه وتتجه به نحو الوحدة والعبادة فيسير في الشعاب الرملية حسب منحنيات الوديان وتعاريجها أو يصعد الجبال الصخرية ليجلس على قمتها ويترك بصره وخياله يضلان في الفضاء الجدب القاحل الذي يبدأ عند قدميه ثم يسترسل ويسترسل حتى يختفى في لا نهائية الأفق

وسط هذا الفضاء اء الشاسع المؤثر وهذا السكون الرهيب وهذا الضوء المتألق كان يجلس محمد ساكنا لا حراك به تمر عليه الساعات تلو الساعات وهو غارق في تأمل وجداني عميق صامت أجل لشد ما كان يروعه ويملأ نفسه هيبة هذا المنظر الرائع المتغير الفريد لعناصر الأرض والسماء الخاضعة لقوة خفية مجهولة من أن تقهر وأسمى من أن تحدد وأعلى من أن تتصور واحدة
أقوى هی
لا تعدد فيها عالمية شاملة
ها
هی تلك التلال والصخور أمامه تتزين في الصباح الباكر بالحلل الوردية الشفافة وها هي تلك الشمس ترسل أول أشعتها على الحصى المنثور هنا وهناك فتصيره جواهر تتلألأ ثم ها هي تلك في كبد السماء جبارة طاغية ترسل بالأكفان البراقة فتنشرها على الأرض وها هى ذى الأرض هامدة ساكنة مستسلمة كجثة لا حياة فيها وها هي تلك أمواج الذهب ترسلها الشمس على

الكون عند غروبها في سخاء كأنها تريد أن توحى إليه بالأسف لمغربها ثم ها هو ذا طوق القمر الباهر يشبه طوق الحمامة تنسجم فيه ألوان الطيف السبعة ويتألق في وسط القمر الذى يزهو بما يصدر عنه من شرر يتحول إلى الآلاف المؤلفة من النجوم والكواكب
ها
هی
تلك الأعمدة المحتالة تتلهى الرمال عند هدوء الجو بإقامتها رانية نحو القبة الزرقاء حتى إذا ما ثارت الأعاصير بعثت بالأتربة من بطون الوديان قاذفة بها فى هجوم عنيف على الغيوم السوداء المفعمة بالبرق وها هي ذي قوافل السحاب تشبه الخراف البيض تطاردها الرياح حتى تبعدها عن قمم الجبال التي فوقها نشأت فتضطر إلى الهجرة دون أن تسيل عبراتها على مسقط رأسها وها هي تلك العواصف الممطرة تنفجر شآبيبها الهطالة فتصب على الجبال العريانة أنهاراً من المياه عنيفة جارفة لها دوى ولها زئير
أمام هذه العناصر الهائلة العاتية التى لم تجرؤ قط – رغم جبروتها – على عدم الخضوع ولو شروى نقير للقوانين التي تسيرها والتي فرضتها عليها القوة السامية العليا لشد ما بدا لمحمد من ضعف الإنسانية وغرورها أجل وكم من سخرية فى أن تثق هذه الإنسانية بالمحسات فيقدم لها السراب صورة براقة من موجات الأثير الفائر ليشهدها على غرورها المطلق ! كانت الخلوة لمحمد أعظم مرب فقد صفت قلبه من كل مشاغل هذا لذلك أطلقت عليه الآثار صفاء الصفاء وتشربت روحه - رويداً
العالم
رويداً - روح الصحراء التى لا تحد فبصرته بعظمة الله اللانهائية وفي الصحراء اتصلت أسرار الطبيعة بأعماق نفسه وغمرته في قوة حتى لقد أوشكت أن تخرج من فمه تلك الحقائق الخالدة التي انتزعت من كارلايل المفكر الإنجليزي المشهور صيحة الإعجاب التي يقول فيها ه حقا إن أحاديث هذا الرجل قد صدرت مباشرة عن قلب الطبيعة ومن الطبيعي أن تجتذب أفئدة بني البشر فيستمعوا إليها ويجب أن يستمعوا إليها أكثر مما يستمعون إلى غيرها فكل ما عداها هباء إذا قورن بها ١
۱ عن محمد البطل في صورة رسول

محمد لم يؤلف القرآن حقا إنه ليدهشنى أن يرى بعض المستشرقين أن محمداً قد انتهز فرصة الخلوة هذه فروى ورتب عمله المستقبل بل لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فوسوس بأن محمداً ألف فى تلك الفترة القرآن كله أحقاً لم يلاحظوا أن هذا الكتاب الإلهى خال من أية خطة سابقة على وجوده مرسومة على نسق المناهج الإنسانية وأن كل سورة من سوره منفصلة عن غيرها وخاصة بحادثة وقعت بعد الرسالة طيلة فترة تزيد على عشرين عاماً وأنه كان من المستحيل على محمد أن يتوقع ذلك ويتنبأ به ولكنهم في جهلهم بالعقلية العربية لم يجدوا غير ذلك تعليلا لهذا التحنث
الطويل
سبحانك ربي ! إنهم لو أتيحت لهم الإقامة وسط البدو في الصحراء فترة تكفى لأن يفهموا حالة التأمل التى يفنى فيها هؤلاء البدو جائين على قمة أكمة تاركين نظرهم يضل فى فضاء الله الواسع لعرفوا أنها ليست حالة هی البلادة والبلاهة التي يصفها بعض السائحين الذين يغلب عليهم طابع التسلية أكثر من طابع الدقة في الملاحظة ولو أتيح لهم على الأخص أن يتذوقوا بأنفسهم سحر هذا الوجد الذي لا يوصف والذى لا يثيره حقاً إلا لانهائية الصحراء وأن يشاهدوا الفوائد الروحية الرائعة التى يكتسبها الإنسان من ذلك لو أتيح لهم كل هذا لما وقعوا في ذلك الضلال المبين إن هذا التأمل ليس إلا بوتقة تصهر فيها العواطف والأفكار الناشئة لتخرج
منها صافية إنه مصنع تكتيل القوى الروحية رغم أنها خفية وأنها لاشعورية هذه القوى الكامنة التي تتكتل بالمراقبة والتأمل تمكث مستترة مجهولة حتى من هؤلاء الذين تنطوي عليها جوانحهم وما مثلها فى ذلك إلا كمثل النار الكائنة في أشجار الغابات فإذا ما أثارتها شرارة واحدة اشتعلت ملتهبة جارفة صاعدة إلى عنان السماء فتبهر العالم
لا شك أن محمداً لم يدر بخلده أثناء تلك الفترة شيء مما يزعمه المستشرقون ولم يرو في نفسه أية خطة أو منهج حقيقة إنه في خلوته كان يتأمل ولكنه

۱۰۸
لم يكن يقدر ولقد استمر كذلك إلى أن حان الموعد الذي حددته العناية الإلهية لتتجلى عن طريق من اختارته رسولا
الرؤيا الصادقة
أخذ محمد يرى الرؤيا الصادقة الوضاءة ويسمع النداء الذي لا يعلم له
مصدراً
قال رسول الله طيلة العشرة شهور التى تقدمت الوحى كان يتخلل نومی نور باهر يشبه فلق الصبح وكنت حينما أبتعد عن الديار أسمع أصواتاً تنادی یا محمد ! يا محمد ! فكنت أنظر يمنة ويسرة ومن خلف فلا أرى الاشجيرات وصخوراً فيأخذنى القلق والحيرة إني ما أبغضت شيئاً بغضى للكهان والسحرة وقد خشيت أن أكون قد أصبحت - على غير علم منى – واحداً منهم فيكون الذى يناديني - خفياً مستوراً – تابعاً من الجن الذين يتحدثون إلى السحرة والكهان بخبر السماء فيساعدونهم بذلك على القيام بمهنتهم
الآثمة 1
الوحى سنة ٦١١ م
يقع غار حراء في جانب من جبل النور ذلك الجبل الذي يقع على بعد ثلاثة أميال تقريباً من مكة شمال طريق عرفة وقد اختار محمد هذا الغار الذي
6
هيأته الطبيعة داخل حجر الصوان الأحمر ليتحنث فيه شهراً كل عام مراعياً ليلا ونهاراً الخلوة التامة وكان يحمل معه الزاد المكون في جوهره من الكعك وذلك لئلا يضطر إلى العودة لمكة فإذا اتفق وفرغ زاده فإنه يضطر إلى العودة للبحث عن غيره ثم يسرع في الرجوع إلى الغار إذ أن كل انقطاع عن التأمل العميق
في فترة التحنث هذه كان بالنسبة له عذابا أليماً وبلغ محمد صلى الله عليه وسلم الأربعين من حياته الكريمة وكان خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة يتحرى في عباداته حائراً قلقاً

استخلاص الدين
1 يقول الله تعالى في الزجر عن ذلك في نهاية سورة الشعراء في الآية رقم ۱ هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون قيل كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الانقطاع عن الناس وقيل تعبده صلى =

19
الحنيف دين التوحيد دين جده إبراهيم من بين الأباطيل التي أدخلها عليه
مواطنوه
وهناك في غار حراء فى اليوم الخامس والعشرين أو السابع والعشرين
أو التاسع والعشرين من شهر رمضان ١٥ - ١٧ - ١٩ – يناير سنة ٦١١ م حدثت الحادثة الخالدة إذ تجلت رأفة الرحمن بعباده فأنزل إليهم الوحى عن طريق الرسول صلوات الله عليه وسلامه قال الرسول أتاني جبريل فى غار حراء وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ فقلت ما أقرأ فغنى به ۱ حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني
C
فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغنى حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع بي فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَم عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى فكأنما كتبت في قلبي كتاباً فخرجت حتى إذا كنت فى وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول
C
يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهى عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته ثم قال ثانية يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل وانصرف فانصرفت راجعاً
إلى أهلى
ولم يكد الرسول يغشى داره حتى هرع إلى خديجة وخبأ رأسه في حجرها وقال وقد أخذته رعدة المحموم دثرونی دثرونی فأسرع الخدم
د الله عليه وسلم كان بالذكر وقيل كان يتعبد قبل نبوته بشرع إبراهيم وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا السيرة الحلبية ج ۱ ص ۷ وسياق القرآن في عمومه يرشد إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان على دين إبراهيم مثل قوله تعالى
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فأثبت الإتباع في صيغة الماضي وعطفه على المتبعين اهتمام به و تخصيص له و بيان لقدره صلى الله عليه وسلم ۱ فغطى أو فنتنى بالتاء بدل الطاء غمنى بذلك النمط بأن جمله على فه وأنفه

إليه يزملونه ويدثرونه حتى هدأ روعه وسألته خديجة وقد تملكها فزع عظيم
يا أبا القاسم حدثنى بالله أين كنت وماذا حدث لك لقد بعثت رسلى في طلبك حتى بلغوا حراء ووصلوا إلى ضواحي مكة ورجعوا إلى دون أن يلقوك
فحدثها بالذي رأى ثم قال حسبنت والله من شدته أنى أموت
فقالت خديجة وقد رجع إليها اطمئنانها ه والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدم وتعين على نوائب الدهر أبشر يابن عمى واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إلى لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
فمنذ أن أيد حديث ميسرة العجيب لخديجة ملاحظاتها الشخصية بالنسبة لمحمد وخديجة مقتنعة بأن مصيراً سامياً قد قدر له ولذلك لم تدهش لما علمت من أمر الوحى بيد أنها أرادت أن ترى الأمر في وضوح فتهيأت للخروج وانطلقت مسرعة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وألقت إليه الخبر كما سمعته كان ورقة من هؤلاء الذين اعتنقوا النصرانية وكان يعد أعلم رجال مكة بالنصوص المقدسة ولقد عاش مثلما عاش رهبان الشام في انتظار الرسول العربي فما إن سمع الخبر الذى ألقته إليه خديجة حتى تحدرت عبراته من الفرح وصاح قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتي يا خديجة فلقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولى
قدوس
له فليثبت وبينما الرسول يطوف بالكعبة - وقد كانت تلك عادته عقب كل فترة من فترات التحنث - إذ سارع إليه ورقة رغم شيخوخته وضعفه ورغم ما سببته له كثرة اطلاعه من كف البصر وطلب منه أن يقص عليه قصته بنفسه

وقص الرسول عليه ما حدث وتبين ورقة صحة كلامه فأعاد على سمعه التنبؤات التي أخبر بها خديجة من قبل وأضاف يا ليتى أكون حيا حين
يخرجك قومك

113
قال أو مخرجي هم
نعم لم يأت رجل بما أتيت به إلا عودى ولئن أدركني يومك لأنصرنك
نصراً مؤزراً
ولكن المنايا لم تمهل ورقة حتى تتحقق أمنيته
نزل الوحى كجذوة وهاجة بددت من نفس محمد كل شك وأشعلت فيها تلك الآمال اللاشعورية وتلك القوى الكامنة التى كدسها في نفسه خمس عشرة سنة تقضت في التأمل والتحنث لقد فتح الوحى عينيه على آفاق شاسعة وأظهره على ما يجب أن يقوم به نحو تلك الرسالة من جهود جبارة خطرة
لم يدر بخلد محمد يوما ما أنه سيحمل هذا العبء الهائل ولئن كان بعض الرهبان قد تنبأ له بشيء منه فإنه لم يعر تنبؤاتهم أي اهتمام بل لقد نسيها وإن اضطرابه وخوفه حينما فوجي بالوحى من أن يكون فريسة لتخيلات شيطانية ليؤكدان لنا صحة ما نقول
وهذا محمد الذي كان يفر من الاختلاط ببني جنسه والذي كان يأبى أية وظيفة من تلك الوظائف العامة التى كان مواطنوه على استعداد لأن يمنحوها إياه وقد أصبح - - تحت تأثير الوحى - مستعداً لأن يواجه الحياة الصاخبة الجارفة وقد امتلأ قلبه إيمانا مكينا وأفعمت نفسه بشجاعة لا تلين وتأهب للقيام بالرسالة تأهب للقيام بأعظم رسالة اؤتمن عليها إنسان ولقد تأهب في غير ما خوف أو إشفاق من تلك الامتحانات الهائلة التى لا مفر من أن يبتلى بها أمثاله من الهداة
بل
المرسلين

في تلك الليلة الخالدة ليلة القدر نزل القرآن كله من السماء العليا حيث كان محفوظاً بها إلى السماء الدنيا التي تنتشر مباشرة فوق كرتنا الأرضية وفى هذه السماء الدنيا وضع القرآن في بيت العزة ذلك البيت الذي على سمت بيت الله الكعبة المقدسة

۱۱
بسم
الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِه وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرِه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر
من هذه السماء الدنيا نزلت أولى الآيات الكريمة على محمد كما نزلت التعاليم
العامة للدين الإسلامي وتوالى الوحى طيلة ثلاث وعشرين سنة مرشداً وهادياً وموجهاً للرسول في كل أعماله توالى الوحى مثبتاً لقواعد الدين ومبينا لقوانينه وموضحاً طريق انتصار الإسلام
6

وإلى قصة الوحى هذه التي يرويها مؤرخو العرب نضيف البيان الآتي الذي نحسبه مفيداً لقرائنا من الأوربيين
إن الملك جبريل الذى رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء إنما هو الملك جبريل الذي ظهر للنبي دانيال ولمريم أم عيسى عليه السلام ولكنه عند المسلمين المتبعين للإسلام حقاً لا يمت بصلة من شبه إلى الملاك الذي تصوره لنارسوم الكنيسة الأوربية في شكل غلام بأجنحة مختلف ألوانها ذى خدود وردية وشعر ذهبي متموج إن جبريل في نظر المسلمين هو الروح أو الناموس وقد كان يأتى إلى الرسول في صور متعددة فأحيانا يأتيه فى مثل صلصلة الجرس أو طنين النحل - وذلك أشد طرق الوحى على نفس الرسول - فيفصم - عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا حتى فى اليوم الشديد البرد ثم يهدأ روعه وقد وعى ما أوحى إليه وأحيانا يتمثل له فى صورة رجل يشبه كل الشبه دحية الكلبي أحد الصحابة فيكلمه فيعى عنه ما يقول

أما الوحى - وهذا الملك هو الوسيط الرمزى له - فإنما هو التجلى الإلهى ويجب أن نعتبره أسمى درجة تصل إليها تلك القوة الخفية التي نسميها بالإلهام وهي بالبداهة خارجة عن محيط الفرد لأنها مستقلة عن إرادته تمام الاستقلال

المسلمون الأول

كانت الصلاة - والطهارة شرط يتقدمها - أول واجب تلقنه النبي من فم
رسول السماء
فقال
وحينما عاد إلى مهبط الوحى ظهر له جبريل من جديد في صورة رجل
ه يا محمد إن الله تعالى أمرنى أن أقرأ عليك منه السلام ويقول لك أنت
رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ثم أخذه في ناحية الوادى حيث ضرب برجله الأرض فتفجرت عين من الماء فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ليريه كيف الطهور الذي يتقدم الصلاة ثم قام جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين وكان النبي يقتدى به في حركاته من ركوع وسجود وفيما يقوله
أثناء ذلك
جميع
شعر محمد براحة ونشاط عظيمين شعر براحة فى جسمه من أثر الطهور وشعر براحة فى نفسه من أثر الصلاة فعاد - يملأ الإيمان عليه أقطاره إلى زوجه فظهر له جبريل وقال له اقرأ على خديجة السلام من ربها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا و جبريل يقرأ عليك السلام فقالت خديجة الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل
السلام
وهكذا كانت خديجة أول من أسلم من بني البشر فقادها الرسول إلى النبع الذي تفجر تحت قدم جبريل فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه السلام ثم صلى بها رسول الله كما صلی به جبريل فصلت بصلاته
لا
آمنت خديجة فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم
يسمع
شيئا مما يكرهه
فكان
من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله
عنه بها إذا رجع إليها تخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس
كانت تضحية خديجة تلك السيدة المثالية توحى إلى محمد باحتقار

١١٤
لا حد له لخبث الناس وشرورهم وكان إيمانها الذي لا تزعزعه الأعاصير يقوى في نفسه الثقة حينما كان المشركون يصفونه بأنه متقول على ا الله
وكان أول من آمن برسالته من الرجال على بن أبي طالب وكان يومئذ ابن عشر سنين وكان الرسول قد كفله فى عام من أعوام القحط ليخفف عن عمه أبي طالب الذي كان كثير العيال
وحينما رأى على محمداً وخديجة منتحيين جانبا ومستغرقين في الصلاة تملكته دهشة عظيمة ذلك أنه لا يرى بعينه ما يعبدانه وسأل الرسول ماذا كنتما تؤديان من الشعائر آنفاً
فأجاب الرسول كنا نقيم صلاة الدين القويم الذي اصطفاه الله واختارني له مبلغا ورسولا وإني أدعوك إليه يا على أدعوك إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له وأدعوك إلى نبذ الأصنام من أمثال اللات و العزى التي لا تملك ضراً ولا نفعاً ثم تلا الرسول

بسم الله الرحمن الرحيم
قل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُوًا أَحَدٌ 1
هُوَ اللهُ الَّذِي لا إله إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشهادةِ هُوَ الرَّحْمَنُ
الرحيم 2
ه إِنما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٣ والله لا إله إِلَّا هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمُ 4 لا تُدْرِكُهُ الأَبصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ
۱ سورة الإخلاص
۳ پس ۸ ٥ الأنعام ۱۰۳
نهاية سورة الحشر
٤ البقرة ٢٥٥
8 0

١١٥
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ١ يُخْرِجُ الحَى مِنَ البيتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيُّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ

بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ ٢
عليم
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ
۳
وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كله
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لَه الْمُلْكُ وَالذِينَ تَدْعُونُ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
0
قطميره
فقال على هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمراً حتى أحدث أبا طالب وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي سره قبل أن يجهر بالدعوة فقال يا على إذ لم تسلم فاكتم هذا
قضى على ليلة مضطربة يفكر فى الأمر ولكن الله تبارك وتعالى هداه الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم مطمئنا
مغتبطاً
ومنذ ذلك اليوم وعلى يتبع الرسول - إذا حان موعد الصلاة - إلى شعاب مكة ليؤدى الفريضة مستخفياً من أبيه أبي طالب ومن جميع
فيصليان
أعمامه
ثم إن أبا طالب عثر عليهما فجأة يوماً وهما يصليان بنخلة فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا بن أخى ما هذا الذي أراك تدين به فقال ه هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا ” إبراهيم " بعثى الله به رسولا إلى العباد وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني
1 النجم ٤٣ - ٤٤ ۳ البقرة ١١٥
٥ فاطر ۱۳
الروم ١٩ ٤ هود ۱

١١٦
إلى الله تعالى وأعانى عليه فقال أبو طالب إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه ومع ذلك فإني أعلم من صدقك ما يجعلنى أومن بحقيقة ما تدعو إليه ووالله لا يصل إليك أحد بشيء تكرهه ما بقيت والتفت إلى ابنه فقال له أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه
وأسلم بعد ذلك زيد بن حارثة وهو رقيق كان قد أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه وكان يحب الرسول إلى درجة أنه رفض العودة إلى أبيه حينها جاء أهله في طلب ليفدوه
وبعد ذلك اعتنق الإسلام شخصية من كبار الشخصيات المرموقة في مكة ونعني به عبد الكعبة بن أبي قحافة الذى أطلق عليه فيما بعد اسم أبى بكر كان أبو بكر ۱ مع حكيم بن حزام يوماً إذ جاءت جارية لحكيم وقالت له إن عمتك خديجة تزعم فى هذا اليوم أن زوجها نبي مرسل مثل
موسى "
سمع أبو بكر ذلك وكان يؤمن بصدق محمد وإخلاصه وكان قد سمع قول ورقة من قبل للرسول صلى الله عليه وسلم وتنبؤاته له فأسرع تحدوه عاطفة قوية - حتى أتى الرسول فسأله عن حقيقة الخبر فقص عليه قصته المتضمنة لمجيء الوحى له بالرسالة فأخذ التحمس من نفس أبى بكره كل مأخذ فصاح قائلا صدقت بأبي أنت وأمى وأهل الصدق أنت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله
ولما سمعت خديجة وكانت فى غرفة مجاورة ما قاله أبو بكر خرجت
وعليها خمار أحمر فقالت الحمد لله الذي هداك يا بن أبي قحافة أشاع إسلام أبي بكر فى نفس الرسول سروراً عظيماً وكان أبو بكر صدراً معظماً في قريش على سعة من المال وحسن الوجه وصاحب منظر أنيق وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من
۱ ذكره القرآن حين قوله تعالى فى سورة التوبة إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا * وفى سورة النور ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم عليهم بأنسابهم

خير وشر وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا صادقا في حديثه حسن المجالسة

وقد اختاره قومه قاضياً فى المغارم والديات وحكما في المفاخرات في إيمان حار أخذ أبو بكر يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من
9
قومه ويكرس جهده في نشر الإسلام ويقود أصدقاءه إلى الرسول ليعلمهم الإسلام وكان النجاح حليف أبي بكر وكانت ثقة الناس به توحى إليهم بأن يتقبلوا بقبول حسن ما يدعو إليه وكان مظهر الدين الجديد في بساطته وفى عظمته وفى انسجامه مع ما تتطلع إليه الفطر السليمة يجعلهم يشعرون بنفور شديد من عبادة الأصنام التي عاشوا عليها طيلة ماضيهم ومع كل فهذا الدين الجديد إنما هو دين جدهم إبراهيم الذى يحملون أثره - بطريقة لاشعورية – في قلوبهم وكان من السهل عليهم لذلك أن يدينوا به من جديد 1
6
وكانت لهجة الداعى إليه تلك اللهجة التى تسمو فوق حدود الإنسانية وكانت نظرته التى يشع منها الضياء تخرجهم من الظلمات إلى النور فيسرعون إلى اعتناق الإسلام بين يديه تشرف بالإسلام بهذه الطريقة خمسة عشر رجلا من أشراف قريش • منهم عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و الزبير ابن العوام و طلحة بن عبيد الله و عبيد بن الحارث و جعفر بن عبد المطلب
بجانب إيمان هؤلاء وإسلامهم - الذى كانت له أهمية كبيرة بسبب مركزهم الاجتماعي - يجب أن لا ننسى حالة متواضعة مؤثرة تلك هي حالة حليمة مرضعة الرسول فبمجرد أن سمعت الناس يتحدثون عن دعوة ابنها من الرضاع - وكانت تؤمن دائماً بأن لابنها هذا شأناً - بادرت بسرعة يرافقها زوجها لينتظما في سلك المؤمنين ومن قبل أسلم كل من كان يعيش مع الرسول تحت
سقف واحد ومن بينهم بناته وكن فى سن الحداثة وجاريته أم أيمن هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين كانت تحيا حياة مليئة بالانفعالات والعواطف حقاً ما أجمل اجتماعهم في عبادة الله مستخفين عن أعين الناس لشد ما كانوا يأخذون ۱ وفى ذلك يقول الله تعالى في سورة الروم في الآية رقم ۳۰ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة
الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

۱۱۸

حذرهم حتى لا يثيروا انتباه المشركين لقد كان الرسول حتى في منزله نفسه مضطراً للتستر من جيرانه وحينما كان يعلن التكبير يضع فمه فوق آنية مغروسة في
الأرض ليخفض من رنين صوته
الجهر بالدعوة
القدير
في هذه الظروف ولا يمكن للدعوة الإسلامية أن تنتشر إلا سراً وبين الأصدقاء ولهذا كان تقدم الإسلام في سنواته الثلاث الأولى تقدما بطيئاً ومع ذلك في أثنائها انقطع الوحى فجأة وشعر محمد بأنه لم يعد معضداً بإلهام الله فشق ذلك عليه وأحزنه وبينما كان يسير حائراً مطرقنا قلقاً وحيداً في شعاب مكة إذ سمع نداء سماويا جعله يرفع بصره إلى أعلى فيرى - في هالة من النور - الملاك الذي ظهر له في غار حراء ولم يسعه أن يتحمل سنا برقه الذي يذهب بالأبصار فأسرع إلى بيته وطلب أن يلف بعباءته حتى يذهب عن جسمه الرعشة وعن عينه الإعشاء وحينئذ نزلت الآيات التالية
دمة
بسم
الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الْمُدثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرُ 1
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤمِنينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرَى مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم ٢ قام الرسول وفى عينيه بريق النشاط الرائع إنه إلى ذلك اليوم لم يجرؤ على الجهر برسالته لما كان يتوقعه من حقد ستثيره فى نفوس مواطنيه المشركين ولكنه تلقى من ربه الأعلى الأمر بالجهر وكان هذا أعز أمانيه لذلك ترك الانكماش
۱ المدثر ۱ - الشعراء ٢١٤ - ٢١٧

۱۱۹
الذي طالما ضاق به ذرعاً وعزم على
أن يعلنها مدوية لا لبس فيها ولا خفاء
فأمر عليا أن يعد مأدبة يدعو إليها بنى المطلب فصنع طعاماً مكونا من فخذ شاة و مد ۱ من بر وصاع من لبن
وجاء بنو المطلب وكانت عدتهم أربعين وكان من بينهم أبو طالب
و حمزة و العباس و أبو لهب

C
فقدم لهم الجفنة وقال كلوا باسم الله فأكلوا كلهم من ا الجفنة حتى شبعوا وشربوا كلهم من الصاع حتى نهلوا يأكل الشاة أن الواحد منهم مع بأكملها ويشرب وحده جرة من لبن ولكن الجفنة على صغرها أشبعتهم واللبن على قلته رواهم فأخذهم من العجب من ذلك ما أخذهم فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم كان أبو لهب قد فطن إلى ما يدور بخلد ابن أخيه من آراء وكان لا يقرها فبدره بالكلام وقال ما رأينا سحراً كسحر اليوم فلنبادر بالانصراف وكان لكلام أبى لهب صدى في نفوسهم بعد ما رأوا من تلك الحفنة الصغيرة التي أشبعت أربعين
رجلا وتفرقوا حزن الرسول لموقف أبى لهب منه ذلك الموقف الذى خلا من كل مجاملة فقال لعلى أرأيت ما وصلت إليه فظاظة عمى الذي حال بيني وبين تبليغ الرسالة ومع ذلك فالفرصة لم تفلت أصنع لنا مثل ما صنعت من الطعام والشراب وادع نفس القوم وفى الغد حينما تكامل القوم بادر الرسول بالحديث قائلا ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ربى أن أدعوكم إليه فأيكم يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى عليه فيكون وصي ووزيرى ويكون أخي
ولم تكن الدعوة – على هذا الوجه - متوقعة فأخذ المدعوون ينظر بعضهم إلى بعض في دهشة عقدت ألسنتهم ولكن كراهية شديدة كانت ترتسم على وجوههم وتقوم مقام الإجابة أما على فقد كان يتوقع منهم فـ فرحا غامراً يسودهم
۱ مكيال وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز ورطلان عند أهل العراق والصاع أربعة أمداد

۱۰
بمجرد سماعهم للنبأ العظيم وكان يتوقع منافسة حارة في التشرف بالانضواء تحت لواء هذه الدعوة فلما رأى ما رأى لم يمكنه أن يكظم غيظه فاندفع واقفاً ناسياً ما تفرضه عليه التقاليد لصغر سنه بين هؤلاء الأشراف – وصاح وقد ملأه الحماس أنا يا رسول الله وزيرك
ولم يبتسم الرسول لهذه الأمال التي فاه بها هذا الغلام وإنما وضع يده على كتفه في حنان وأعلن ها هو دا وصى ووزيرى ها هو ذا أخي

وحينئذ لم يعد لدهشة المدعوين حد تقف عنده بيد أنهم كتموا غضبهم
من

واستقبلوا هذا الإعلام بعاصفة الضحك أبو لهب بأبي طالب ساخراً وصاح ! و أسمعت ما قال ابن أخيك إنه يأمرك بأن تسمع لابنك وتطيع وخرج الجميع ساخرين حانقين عدا أبا طالب فقد خرج يملأ الحزن جوانحه لا شك أن هذه الهزيمة التامة آلمت الرسول ولكنها لم تثبط - لا ولا قلامة
ظفر - من عزيمته إذ أن الوحى من يومئذ لم يفتر عن تعضيده وإرشاده
القيامة
بدأ محمد يبشر برسالته وأخذ الوحى يتتابع في سرعة ويلبس أسلوباً رهيباً معلناً قرب الساعة حاثاً بذلك على العمل ودافعا إليه
بسم
الله الرحمن الرحيم
الْقَارِعَةُ ۱ مَا الْقارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعةُ يومَ يكون الناس
كالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ وتكونُ الجبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ٢
أما موعد هذه القارعة التي سيجازى فيها المسيء على إساءته فقد كان محمد يعتقد أنه وشيك الوقوع ولذلك ضاعف من نصائحه ووعظه لمواطنيه ليخرجهم
۱ القارعة أى القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها وما القارعة تهويل لشأنها الفراش المثبوت غوغاء الجراد المنتشر العهن المنفوش الصوف المندوف القارعة ١ - ٤

۱۱
قبل قيام ا الظلمات إلى النور ولكنهم كانوا يجييونه لا تأتينا
الساعة ١
وبأمر الله أعلن محمد
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها ٢
يَا أَيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظيم ۳ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالها وقالَ الإنسانُ مالَها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاناً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه
ومَنْ يعمل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 4 هذه الأنباء المفزعة التي كان يعلنها الرسول في يقين جازم كانت تبعث في قلوب الكفار القلق والاضطراب لكنهم لما لم يروا أنها قد تحققت ولما لم يروا علامات تدل على قرب وقوعها أخلدوا إلى ما كانوا فيه من ضلال ۹
وكان الرسول يجهل موعد قيام الساعة إذ عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ ٦
ولكنه كان على يقين من عذاب ما لهم منه من محيص في هذا العالم أو في العالم الآخر وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعضُ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنما عَلَيْكَ
الْبَلاغ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ٧
۱ سيأ ٣ ۳ الحج

غافر ٥٩
٤ سورة الزلزلة
ه يصور ذلك قوله تعالى في أول سورة البقرة مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حاوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر اللوت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير والله محيط بالكافرين ويصور إصرارهم على الكفر وإعراضهم البالغ عن الإيمان قوله تعالى في أول سورة فصلت وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر
ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون
1 الأعراف ۱۸۷
٧ الرعد ٤٠

وكان الرسول يضيق ذرعاً عندما يتخيل أن مصير مواطنيه الكفار ربما كان
أسوأ عاقبة من عاد وثمود
المناوشات الأولى
أصبح المؤمنون - منذ أن جاهر الرسول بالدعوة ـ لا يخفون إيمانهم ولكنهم
مكة
- ليتجنبوا الاحتكاك الذى لا فائدة فيه بالمشركين - كانوا يذهبون إلى شعاب المقفرة سراً ليؤدوا صلاتهم وحدث يوماً أن تجسس عليهم جماعة من المشركين وعرفوا مكان اجتماعهم فأخذوا يكيلون لهم السباب والشتائم ولم يصبر المسلمون على إهانة دينهم فغضبوا له وثار القتال بين الفريقين فأخذ سعد بن أبي وقاص لتحى جمل كان ملقى فى الصحراء ورمى به فى وجه أحد المشركين بقوة وشدة فأسال دمه وكان هذا أول دم أهرق في الإسلام
وأراد الرسول أن يتفادى مثل هذه الحوادث فقرر أن يتخذ من بيت الأرقم

ومع
البعده – مصلى وكان بيت الأرقم يقع على رأس الصفا ذلك فقد كان الغيظ يزداد في قلوب المشركين لقد كانوا فيما مضى يهزون أكتافهم استهتاراً أو سخرية حينما كان محمد يقتصر على دعوتهم إلى الإسلام حتى ولو كان يستعمل معهم التأنيب والتهديد بعذاب من السماء ينزل بهم ولكنه حينما تعرض بدوره يهزأ بأصنامهم التي صنعت من خشب أو من حجر والتي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ولا تغنى عن أحد شيئاً بلغ بهم الغضب منتهاه ذلك أن محمداً - بفعله هذا - لم يكن يجرحهم في معتقداتهم فحسب وإنما كان يؤذيهم في مصالحهم المادية إيذاء خطيراً إذ أن تلك الأصنام كانت في يد الأشراف
مصدر ربح عظيم وكانت أداة فعالة في السيطرة على الشعب الجاهل وكان أبو طالب من بين القوم الذين مكثوا على إشراكهم هو الوحيد بقى على حبه لمحمد رغم سخرية القرشيين الآخرين ولما رأوا منه ذلك بعثوا إليه بوفد من أكبر الإشراف بينهم عتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب وأبو جهل وكثير غيرهم ممن لا يقلون عنهم مكانة فقالوا لأبي طالب
الذي

۱۳
ه يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكف عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه وإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه

فقال لهم أبو طالب قولا رقيقاً وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه

ولم يفتر نشاط محمد في الدعوة إلى الإسلام ولكن عداوة القرشيين ازدادت واتخذت وجها أخطر وأعظم فرجع الوفد إلى أبى طالب ليقولوا له يا أبا طالب إن لك سنتا وشرفاً ومنزلة فينا وإنا قد استهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا تصبر على هذا من شم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب الهتنا حتى تكفه عنا أو تنازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين فعظم عليه فراق قومه ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم
ولا خذلانه
وبعث أبو طالب وهو فى حالته النفسية هذه إلى رسول الله يستدعيه
فلما حضر قص عليه رسالة قريش ثم قال
تدبر الأمر وأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فأجابه الرسول يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته
وظن أن أبا طالب يريد أن يظهره على ما هو فيه من استحالة مناصرته و وجوب تركه فاستعبر باكيا ثم قام فلما ولى ثارت عواطف أبي طالب ونادى محمداً وقال له فى حنان اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لمكروه أبداً ورأت قريش أن التهديد لا ينال من حب أبي طالب لابن أخيه فأوفدوا إليه وفدهم مرة أخرى ومعه عمارة بن الوليد وقالوا له و يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتي في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل
D

فأجابهم أبو طالب قائلا
والله لبئس ما تسومونى ! أتعطونى ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابنى تقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبداً انصرف الوفد والغيظ يملأ قلوبهم واقترب موسم الحج فاجتمع مشركو
قريش فى دار الوليد بن المغيرة ليتشاوروا في أمر النبي فقال الوليد يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضاً قالوا
فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به
بل أنتم فقولوا أسمع
نقول كاهن

لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة ۱ الكاهن
ولا سجعه

فنقول مجنون
ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته
فنقول شاعر
ما هو بشاعر لقد عرفنا جميع أنواع الشعر فما هو بالشعر
فنقول ساحر

ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم

فكلهم
قد
واعترف المشركون في دخيلة نفوسهم بصحة تلك الملاحظات أحسوا في قليل أو كثير أن قد غزا قلوبهم ذلك الكلام العجيب الصادر من أعماق قلب الرسول الملهم وكلهم كثيراً ما كانوا على وشك الخضوع لتلك الألفاظ الأخاذة التي ألهمها إيمان سماوى ولم يمنعهم عن الإسلام إلا قوة حبهم
الدنيا والملاذهم وميولهم التي حاربها الدين الجديد حرباً شعواء
غير
أنه كان يتحتم عليهم
لأعراض
أن يتخذوا قراراً سريعاً ليمنعوا - بأي ثمن كان -
۱ الزمزمة الكلام الحى الذى لا يسمع
إشارة إلى ما كان يفعل الساحر بأن يعقد خيطاً ثم ينفث فيه

۱۵
العرب الغرباء من الإيمان به فاتفقوا على أن يدعوا أن محمداً ساحر جاء بقول هو
سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه و بين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته

ولما بدأت وفود الحاج تأتى من كل فج عميق تعرض لهم الوليد وأعوانه في الطريق المؤدية إلى مكة ولم يمر بهم أحد إلا حذروه من محمد وسحره بيد أن
وأخذوا ينتهزون كل
الذين تأثروا بتلك التحذيرات وتخوفوا من السحر العظيم كانوا قلة بالنسبة للذين أحسوا برغبة قوية في التعرف على هذا الرجل العجيب الذي أقض كلامه مضاجع أشراف مكة لذا لم يكادوا يرجعون إلى بلادهم حتى جعلوا يقصون ما سمعوا وما شاهدوا ولما رأى القرشيون أنهم بحملتهم هذه قد أذاعوا أمره بين أرجاء الجزيرة فأخذت شهرته تزداد ويتنبه الناس له اشتعلت جذوة غضبهم فرصة لإيذائه وتجمعوا يوماً في حرم الكعبة واستحث بعضهم بعضاً قائلين لم نصبر أبداً على أحد مثل ما صبرنا على هذا الرجل وفى هذه الآونة أقبل محمد يطوف بالكعبة فوثبوا عليه وثبة رجل واحد أحاطوا به يقولون أأنت الذى تقول كذا وكذا فى آلهتنا وآبائنا " فأجاب بكل هدوء ورزانة نعم أنا الذى أقول ذلك فارتمى عليه أحدهم وأخذ بمجمع ردائه محاولا أن يقتله خنقاً فقام أبو بكر رضى الله عنه دونه وهو يبكى ويقول " أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وانتشل محمداً من يد الرجل بيد أنه أوذى هو الآخر وتساقط بعض لحيته

يبحث عن
ولم يمتنع الرسول - رغم الخطر الذى هدده فى تلك الحادثة – عن العودة إلى الكعبة للصلاة غير مبال بالنظرات الحانقة التى أخذ أعداؤه يرمونه بها وذهب رجل – بأمر أبي جهل أمعاء شاة فأتى بأمعاء دابة مضى على ذبحها أيام كثيرة ثم ترقب الرسول حتى سجد في صلاته وإذ ذاك رمى بما في يده على عنقه وأكتفافه فانتفض القوم ضاحكين حتى انقلبوا على قفاهم تتخبط أجسامهم أما رسول الله فلم يظهر عليه أي أثر لتلك الإهانة الشنيعة وظل يزاول عبادته ولم يخلصه من تلك القاذورات إلا ابنته فاطمة التي بقليل وجعلت تسب هؤلاء الطغاة الذين لا يردهم أى وازع من شرف أو قرابة
عن فعلة شنيعة مثل هذه
أقبلت
بعد ذلك

١٢٦
الرسول
وإذا ذكرنا أبا جهل وسلوكه المشين تجاه الرسول فلنذكر أيضا أحد أعمام وهو أبو لهب فقد سجل عليهما التاريخ مواقفهما المخزية الدنيئة فبينما الرسول يوما يعظ جماعة من أهل مكة على الصفا وإذا بأبى لهب يقاطعه في صفاقة وسماجة قائلا تباً لك سائر هذا اليوم ألمثل هذا جمعتنا ٥ فأجاب الوحى بالسورة الكريمة
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالِهِ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُه حَمَّالَةَ الحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلُ مِنْ مَسَد ۱ وذاعت تلك السورة سريعاً فردات أبا لهب غيظاً على غيظ أما زوجه أم جميل التى أثارت الآية ذكرها بتلك الصفات التي بلغت ذلك المبلغ من الصدق رغم حدتها وخشونتها فقد كاد الغيظ يمزق صدرها تمزيقاً إنها لم تستطع أن تتحمل ذلك النعت ولكن أليست هي حمالة حطب التي نثرت الشوك على طريق الرسول أليس لسانها هو الذي أشعل نيران الحقد بحطب النميمة التي كانت تحملها إلى كل مكان ومنذ ذلك اليوم وهذان الزوجان لا يتراجعان أمام أقبح الأفعال فراحاً يرميان كل صباح بأكوام القاذورات على بيت محمد وأمامه وكان جارهما وأخذت الجمهرة العظمى من أهل مكة - خائفة من هؤلاء المتعصبين الطغاة أو متحمسة يصدون عن الرسول أو يفرون منه وأصبح الأطفال والرجال
بهم
الذين لا ضمائر عندهم يلاحقونه في الشوارع بسخريتهم ولكنه تحمل الأذى صابراً غير مبال وماذا يضيره من السخرية إنها دخان في الهواء لم يكن يهتم حتى ولا بمعرفة من هم مصدر هذا الأذى لم يكن يهمه إلا أمر الذين
يأمل في اعتناقهم الإسلام
الأعمى

كان الرسول منهمكا في إقناع بعض أشراف مكة وقد أوشكوا أن يقتنعوا بحججه فإذا بابن أم مكتوم ذلك المسكين الأعمى قد أتى يطلب ـ في
1 سورة المد

۱۷
تواضع - بعض العلم الذى أنزله الله على رسوله وكان الرسول منهمكا في حديثه مع هؤلاء الأشراف الذين كان يتمنى فى حرارة هدايتهم إلى الإسلام وخاف أن تفوته فرصة قد لا تعود أبداً فضجر من الأعمى ولم يلتفت إليه إلا قليلا فلما أكثر عليه انصرف عنه الرسول عابساً وتركه فانصرف الأعمى حزينا دون أن يظفر بما يريد ولم يكد ينصرف حتى تملك الندم الرسول ألم يكن في استطاعة هذا الأعمى ـ وقد استنار قلبه بالإيمان - أن يفتح أبصار خلائق كثيرة غمرت في ظلام الجهل الدامس ونزل الوحى لافتاً نظر الرسول
عبس وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ه وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعه الذِّكْرَى

أَمَا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى • وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهُى كلاً إِنَّها تَذكِرَةٌ 1 ومنذ ذلك الحادث والرسول لا يفرق بين غنى وفقير فى رعايته وعنايته ولا بين عبيد وسادة ولا بين سوقة وأشراف ووصل غيظ المشركين ذروته العليا حينما رأوا عبيدهم وخدمهم تغريهم بالدين الجديد فكرة الإخاء والمساواة ۳ وحينما سمعوا تلك السورة التي تهدد الأغنياء والطغاة الذين يستغلون فقراء الشعب
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زَرْتمُ الْمَقَابِرَ • كلاً سَوْفَ تَعْلَمُونَ
#
۱ أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم واسم أبيه عبد الله بن شريح بن
مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل ابن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال يا رسول الله أقرني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرمه ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول له هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين الزمخشري ولقد أوصاه الله بذلك حيث قال في سورة الضحى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ۳ لقد حقق الإسلام نظرية المساواة هذه بين القبائل والشعوب وهي النظرية التي لم تأت أخيراً إلا على يد الثورة الفرنسية
وهذا بلال الحبشي أقامه الرسول مؤذناً للمسلمين فكان العرب وهم من الشعوب التي تفخر بالأجداد والأنساب تسمع له وتسعى إلى الصلاة إذا ما أذن فيهم هذا العبد الحبشى من أشعة خاصة بنور الإسلام ترجمة الأديب النابه راشد رستم

۱۸
ثم كلاً سَوْفَ تَعْلَمونَ كلاً لَوْ تَعْلَمونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الجَحِيمِ ثمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النَّعِيم
" 1
والتقى أبو جهل يوماً بالرسول على سفح الصفا فلم يتمالك نفسه وأنساه حقده واجبات رجل في مثل سنه ورمى الرسول بشتائم بلغت من القباحة حدا بحيث يخجل الإنسان من نقلها أما الرسول فلم يحر جوابا كعادته بيد أن مولاة لعبد الله بن جدعان شاهدت ذلك الحادث من نافذة بيت سيدها الذي يقع على مقربة من المكان ولم يمض كبير وقت حتى مر بها حمزة عم محمد
فقصت عليه ما سمعته
إسلام حمزة
دمه
وكان حمزة شديد الشكيمة سريع الغضب عزيزاً في قومه فلم يكد يسمع خبر الإهانة التي لحقت بابن أخيه حتى فار غيظا ولم يقف كعادته إذا رجع من القنص وهو هوايته المحبوبة – ليحدث من يلاقيهم في طريقه بل أسرع متجهاً نحو الحرم ونظر إلى أبى جهل جالسا في قومه فأقبل عليه
4
حتى إذا قام على رأسه رفع قوسه فضر به بها فشجه شجة منكرة وصاح فيه أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد ذلك على إن استطعت فقام رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل إذ كان منهم ولكن أبا جهل تملكه الخزى من فعلته التى دفعه إليها الحقد والتي لا تليق برجل ذى نسب شريف فأوقف قومه قائلا دعوا أبا عثمان فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا
قبيحاً
أما حمزة فقد مسته نفحة من عناية الله ورحمته في حال غضبه فألبسته
بالإسلام لباس التقوى وأصبح من دعائم الدين الجديد الأقوياء المخلصين وأسلم حذيفة وافترق عن أبيه عتبة بن ربيعة الذي كان سيداً في قومه فتألم أبوه لذلك وراوده الأمل في أن يقضى على تلك الانقسامات الداخلية التي أحدثتها تعاليم محمد لا في قلب قريش فحسب بل في قلب كل أسرة
۱ سورة التكاثر

۱۹
واعتزم أن يقوم مقام المصلح بين الطرفين فقال لقومه وقد رأى رسول الله جالساً وحده بالقرب من الكعبة ه يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه بالنيابة عنكم وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وكان قد أصابهم اليأس بسبب إسلام حمزة تلك الشخصية المهيبة التى جرت إلى الإسلام شخصيات أخرى عديدة - ففهموا أن خير وسيلة هى الملاينة والسياسة فقالوا لعتبة بلى
أبا الوليد قم إليه فكلمه
عروض المشركين على الرسول
فقام عتبة حتى جلس إلى الرسول وقال له في أسلوب عاطفى رقيق يابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع
قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا أموالا
وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك
وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا
وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً ۱ تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه
فاختر لنفسك
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغى في رزانة وهدوء
فقال لعتبة
أقد فرغت يا أبا الوليد
1 الرئى ما يتراءى للإنسان من الجن

۱۳۰
قال نعم قال فاسمع منى الآن ثم قرأ سورة فصلت وفيها تهديد المشركين بعذاب الجحيم الخالد وتبشير المؤمنين بالسعادة فى جنات الله الفسيحة وكان عتبة ينصت إليه ملقياً يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه وقد ملكت عليه نفسه تلك الآيات البينات الآمرة تارة الرحيمة تارة أخرى التي تقرع أذنيه بتوقيع ومقاطع غريبة عليه كل الغرابة وعقدت الدهشة من حركات عتبة فبقى على حالته ساكنا لا يريم ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
1
۱ تعتبر سورة فصلت من السور التى تخاطب في قوة هؤلاء الذين يرون الحق ولا يتبعونه وإنها لتهدد هذه الطائفة فى قوة تتناسب مع عنادهم وتبشر الذين رأوا الحق فاتبعوه بمكانة عند الله رفيعة وسعادة لا يعكر صفاءها ظل من شقاء قال الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
حم تَنْزِيلَ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وقالوا قلوبنا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
الآيات من ١ إلى ٥
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةٍ عَادٍ وَثَمُودَ إذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةٌ فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ

فأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أو لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانوا بآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُم عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْرَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتهم =

۱۳۱
السجدة منها فسجد ثم قال العتبة
قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى قومه حائراً مشدوها وقد تغير وجهه فقالوا له ما وراءك يا أبا الوليد
فقال وراثى أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعونى وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فوالله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد
الناس به ولكن ماذا تفيد تلك النصائح الحكيمة وقد تملك القوم الحقد والغيرة فصاحوا في وجهه سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه فهز كتفيه وتركهم قائلا صاعقةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتقون ويومَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالوا لجلودهم لِمَ شَهِدْتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ

وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُم وَلَا أَبْصَارُ كُم وَلَا جُلُودُكم وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ
فإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْنِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أوْلِيَاؤُكُم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسِكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ نزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم
الآيات من ١٣ إلى ٢٤

۱۳
باشمئزاز
هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم بيد أن كلام عتبة كان قد أثر في نفوس المشركين فاجتمعوا في مساء الغد - كعادتهم ـ في الحرم وقرروا أن يكلموا محمداً مباشرة وبعثوا في طلبه فجاءهم مسرعاً يحسب أن قد فتحت أبصارهم لنور الله ولكن أمله ذهب أدراج الرياح إذ أنهم لم يدعوه إلا ليكرروا نفس عروض الأمس فأشاح عنهم عندئذ غير القوم سلوكهم وقالوا له إن كنت تدعى أنك رسول فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام أو العراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم اقصى بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك
من
الله وأنه بعثك رسولا كما تقول فاكتفى محمد بأن يجيبهم قائلا
ما بهذا بعثت إليكم إنما جئت من الله بما بعثى وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم
قالوا فإن لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك سل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنات وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك به عما نراك تبتغى فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم وتلتمس كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما
المعاش
تزعم
1 يقص القرآن تمنت المشركين مع الرسول فيقول
وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ! لَوْلاً
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكُ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ! أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْرُ أَوْ تَكونُ لَهِ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا !
سورة الفرقان =

۱۳۳
ثانية
قال ما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وكرر لهم دعوته
قالوا فأسقط علينا من السماء كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ۱
قال ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل أتطلبون منه المعجزات ليست المعجزات فيما خلق ولكنكم لا تفقهون ألا ترون أنه يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى
ه إنه يستطيع أن يأتى بمعجزات خارقة للنظام الطبيعى المعجز الذى أوجده ولكن كذب بها الأولون تأملوا معجزاته التى تتجدد في هذا العالم كل لحظة واقتنعوا بها
= وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبِ فَتَفجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ ِباللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ وَعْرُفِ أَوْ تَرَقَى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرَقِيكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا
كِتاباً نَقْرَوْهُ وفى موضع آخر
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ !
ويصور القرآن موقفهم الحقيق فيقول
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّماءِ فَظَلوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرت أَبصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ !
۱ قال عبد الله بن أبي أمية لرسول الله وهو ابن عمته يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل أو كما قال له - فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء مسلماً ثم ترق فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتى معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك قال السهيلي وذكر ما سأله قومه من الآيات وإزالة الجبال عنهم وإنزال الملائكة عليه وغير ذلك جهلا منهم بحكمة الله تعالى في امتحانه الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل وأن يكون إيمانهم =

١٣٤
6
ولما لم يستطع المشركون إفحام محمد لجئوا إلى النضر بن الحارث وكان كثير الأسفار يحفظ القصص العديدة فالا محمداً یری يدعو إلى دينه حتى يجلس بالقرب منه ويحاول اجتذاب الناس من حوله بقص أحاديث رستم أو اسفند يارا وقد بلغ من جرأته أن قال سأنزل مثل ما أنزل الله على نبيه وبعث القرشيون بوفد إلى أحبار اليهود بالمدينة وإلى الأمير حبيب بن مالك الذى اشتهر بين سائر الناس بحكمته وعلمه وسلطانه سائلين عن وسيلة تمكنهم من الصاق تهمة الكذب والنفاق بمحمد ولكن تلك الجهود ذهبت هباء وانهارت من نفسها دون ما حاجة إلى معجزة انشقاق القمر التي يزعمونها - مستندين إلى الآية الكريمة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ سورة القمر فبعضهم يدعى أن حبيباً سأل الرسول أن يأتيه بمعجزة تؤيد كلامه فانشق القمر بأمره شقين متساويين وذهب أحدهما غرباً والثانى شرقا أما علماء الإسلام مثل البيضاوى والزمخشرى فيرون أن هذا أحد رأيين قال البيضاوي بهم وقيل معناه سينشق يوم القيامة
الموثوق

عن نظر وفكر في الأدلة فيقع الثواب على حسب ذلك ولو كشف الغطاء وحصل لهم العلم الضرورى بطلت الحكمة التي من أجلها يكون الثواب والعقاب إذ لا يؤجر الإنسان على ما ليس من كسبه كما لا يؤجر على ما خلق فيه من لون وشعر ونحو ذلك وإنما أعطاهم من الدليل ما يقتضى النظر فيه العلم الكسبى وذلك لا يحصل إلا بفعل من أفعال القلب وهو النظر في الدليل وفى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول وإلا فقد كان قادراً سبحانه أن يأمرهم بكلام يسمعونه ويغنيهم عن إرسال الرسل إليهم ولكنه سبحانه قسم الأمر بين الدارين فجعل الأمر بعلم في الدنيا بنظر واستدلال وتفكر واعتبار لأنها دار تعبد واختبار وجعل الأمر بعلم في الآخرة بمعاقبة واضطرار لا يستحق به ثواب ولا جزاء وإنما يكون الجزاء فيها على ما سبق في الدار الأولى حكمة دبرها وقضية أحكمها وقد قال الله تعالى وما منعنا أن ترسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون يريد فيما قال أهل التأويل أن التكذيب بالآيات نحو ما سألوه من إزالة الجبال عنهم وإنزال الملائكة يوجب في حكم الله ألا يلبث الكافرون بها وأن يعالجهم بالنقمة كما فعل بقوم صالح وبآل فرعون فلو أعطيت قريش ما سألوه من الآيات وجاءهم بما اقترحوا ثم كذبوا لم يلبثوا ولكن الله أكرم محمداً فى الأمة التى أرسله إليها إذ قد سبق في علمه أن يكذب به من يكذب ويصدق به من يصدق وابتعثه رحمة للعالمين من بر وفاجر فأما البر فرحمته إياهم من الدنيا والآخرة وأما الفاجر فإنهم أمنوا من الخسف والغرق وإرسال حاصب عليهم من السماء كذلك قال بعض أهل التفسير في قوله وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين مع أنهم لم يسألوا ما سألوا من الآيات إلا تعنتاً واستهزاء لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك فقد رأوا من دلائل النبوة ما فيه شفاء لمن أنصف قال الله سبحانه أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب الآية وفي هذا المعنى قيل لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهية تنبيك بالخبر

۱۳۵
ويؤيد هذا الرأي الآيات التي تليها مباشرة وهي
فَتَوَلَّ عَنْهُم يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكْرٍ خُشَّعَا أَبْصَارُهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادُ مُنْتَشِرُ
وفى الواقع أننا لا نستطيع تصديق تلك المعجزة المزعزعة لأنها تتنافى صراحة ووضوح مع الكثير من آيات القرآن يقول تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ما أقل تأثير المعجزات فيما مضى من التاريخ لقد عبد بنو إسرائيل العجل بعد أن أنقذهم موسى بمعجزته من لجة البحر ومن طغيان فرعون وما كان أهل مكة المشركون ليتأثروا بالمعجزة أكثر من غيرهم من بني البشر فإن الطبيعة الإنسانية
واحدة
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَإِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنما الآياتُ عِنْدَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهم وَأَبْصَارَهم كمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِه أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إليهمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كلِّ شَيْءٍ قَبُلا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
معجزة القرآن
ذلك فقد أتى محمد بمعجزة إنها المعجزة الوحيدة التي منحت له ومع ولكنها معجزة أقض مضاجع المشركين وأعنى بها آيات القرآن ولعل القارئ يلاحظ أن معنى آيات العلامات المعجزة
إن معجزات الأنبياء الذين سبقوا محمداً كانت في الواقع معجزات وقتية وبالتالي معرضة للنسيان السريع بينما نستطيع أن نسمى معجزة الآيات القرآنية المعجزة الخالدة ذلك أن تأثيرها دائم ومفعولها مستمر ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة كتاب الله وفى هذه المعجزة نجد التحليل الشافى للانتشار الهائل الذي أحرزه الإسلام ذلك الانتشار

١٣٦
الذي لا يدرك سببه الأوربيون لأنهم يجهلون القرآن أو لأنهم لا يعرفونه إلا من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة فضلا عن أنها غير دقيقة
إن الجاذبية الساحرة التي يمتاز بها هذا الكتاب الفريد بين أمهات الكتب العالمية لا تحتاج منا - نحن المسلمين - إلى تعليل ذلك أننا ا نؤمن بأنه كلام الله أنزله على رسوله ولكننا نرى من الطريف أن نورد هنا رأيين لمستشرقين ذاعت
شهرتهما عن جدارة يقول سفرى وهو أول من ترجم القرآن إلى الفرنسية كان محمد عليماً بلغته وهى لغة لا نجد على ظهر البسيطة ما يضارعها غنى وانسجاما إنها بتركيب أفعالها يمكنها أن تتابع الفكر في طيرانه البعيد وتصفه في دقة دقيقة وهى بما فيها من نغم موسيقى تحاكي أصوات الحيوانات المختلفة وخرير المياه المنسابة وهزيم الرعد وقصف الرياح
كان محمد عليماً كما قلت

بتلك اللغة الأزلية التي تزينت بروائع
كثير من الشعراء فاجتهد محمد فى أن يحلى تعاليمه بكل ما في البلاغة من
جمال ومن سحر

ولقد كان الشعراء فى الجزيرة العربية يتمتعون من التقدير بأسمى مكانة
ولقد علق لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور إحدى قصائده على باب الكعبة وحالت شهرته وقدرته الشاعرية دون أن ينبرى له المنافسون ولم يتقدم أحد لينازعه الجائزة وذات يوم علق بجانب قصيدته السورة الثانية من القرآن وقيل السورة الخامسة والخمسين فأعجب بها لبيد أيما إعجاب رغم أنه مشرك واعترف بمجرد قراءة الآيات الأولى بأنه قد هزم ولم يلبث أن أسلم
وفى ذات يوم سأله المعجبون به عن أشعاره يريدون جمعها في ديوان فأجاب لم أعد أتذكر شيئاً من شعرى إذ أن روعة الآيات المنزلة لم تترك لغيرها مكاناً
في ذاكرتي

ويقول ستانلى لين بول إن أسلوب القرآن فى كل سورة من سوره لأسلوب أبي يفيض عاطفة وحياة إن الألفاظ ألفاظ رجل خلص للدعوة وإنها لا تزال
حتى الآن تحمل طابع الحماس والقوة وفى ثناياها تلك الجذوة التي ألقيت بها

۱۳۷
إنها ألفاظ قدت من قلب إنسان يستحيل أن يكون منافقاً وهذا القلب هو قلب رجل كان له أخطر الشأن في تاريخ الإنسانية
فماذا
إن كان سحر أسلوب القرآن وجمال معانيه يحدث مثل هذا التأثير في نفوس مثل هؤلاء العلماء الذين لا يمتون إلى العرب ولا إلى المسلمين بصلة تری أن يكون من قوة الحماس الذى يستهوى عرب الحجاز وهم الذين نزلت الآيات بلغتهم الشعرية الجميلة لا يستطيع أن يكون لنفسه عن ذلك فكرة مقاربة وإن كانت مصغرة إلا أنتم أيها المسافرون حينما تتاح لكم الفرصة لمشاهدة التأثر الذي يمتلك قلوب قوم ينصتون إلى الإمام وهو يرتل الآيات المقدسة لقد شاهدتم أقل الأعراب شأناً فور وصولهم من أسفارهم المجهدة وقد كستهم رمال الصحراء حيث ذاقوا من المتاعب أشقها – يتسابقون إلى المسجد يجذبهم إليه كالمغناطيس صوت الإمام فيفضلون الاستماع إلى ترتيله على الاستسلام إلى نوم هادئ مريح وفى شهر رمضان يقضون الليل في الإنصات - الإنصات المستغرق - لآيات الله بعد يوم شاق لم يذوقوا فيه طعاماً
ولا شرابيا

حقا إن أعراب عصرنا الذين لم ينالوا أدنى قسط من العلم لا يدركون دائماً المعنى الحرفي للألفاظ التي يقرؤها الإمام بيد أن الموسيقى العذبة والتوقيع اللطيف والجرس المنسجم كل هاتيك الأشياء التى تلزم الآيات العجيبة نجد صداها في دقات قلوبهم فتحمل إليهم شرحاً قد يكون غير دقيق ولكنه على كل حال يثير الخيال في قوة خصبة وإليه تطمئن القلوب بجوار هذه الآيات التي ترتل صادرة عن تأثر عاطفى يبدو شرح النحويين والمنطقيين جثة لا حياة فيها عرب الحجاز الذين يدركون أدق معانى اللغة القرآنية التي هي لغتهم الخاصة والذين أخذوا السور عن مواطنهم الرسول العبقرى فكانوا لا يسمعون القرآن إلا وتتملك نفوسهم انفعالات هائلة مباغتة فيظلون في مكانهم وكأنهم قد سمروا فيه أهذه الآيات الخارقة تأتى من محمد ذلك الأمي الذي لم ينل حظاً
أما

من المعرفة اللهم إلا ما حبته به الطبيعة وما امتاز به من رقة في الشعور كلا إن هذا القرآن لمستحيل أن يصدر عن محمد وإنه لا مناص

۱۳۸
من الاعتراف بأن الله العلى القدير هو الذى أملى تلك الآيات البينات إن الرسول لم يكن مخادعاً حين قال إن الله هو الذى أنزل القرآن
لقد كان يؤمن كل الإيمان بمصدره الإلهى فالنوبات الهائلة التي كانت تنتابه عند مجيء الوحى حاملا إليه ما لم يكن يعلمه فى لغة جديدة كل الجدة بالنسبة له تختلف كثيراً عن لغته المألوفة هذا الوحى الذى يعاتبه إن أخطأ ويلزمه بحفظ تلك الآيات دون أن يقدر على المقاومة هذا الوحى خلال تلك النوبات لم يكن ليترك لديه أدنى شك في المصدر الإلهي في القرآن لهذا كله كان إعجاب الرسول بالقرآن أى بكلام الله لا حد له وقد أوحى
الله إليه
قلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن
دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُم صَادِقِينَ
ولا عجب في أن نرى النبى الأمى يتحدى الشعراء ويعترف لهم بحق نعتهم له بالكذب إن أتوا بعشر سور من مثله فقد آمن بعجزهم عن ذلك ۱ لقد حاول بعض المؤرخين المعاصرين أن يدعوا إلى الشك في ذلك الإخلاص العظيم المؤثر الذي امتاز به محمد وحاولوا أن يصوروه في صورة رجل لا مؤهلات لديه للعظمة إلا الطمع المؤسس على المهارة ورأيهم هذا لا يصدر إلا عن أعماه التعصب ولا يصدر إلا فى زمن يشبه الزمن الذي كانت تقوم فيه التفتيش ولقد قضى كارلايل فى كتابه الأبطال على ذلك
شخص
محاكم
۱ لغة القرآن
لقد حقق القرآن معجزة لا تستطيع أعظم المجامع العلمية أن تقوم بها ذلك أنه مكن اللغة العربية في الأرض بحيث لو عاد أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا اليوم لكان ميسوراً له أن يتفاهم تمام التفاهم مع المتعلمين من أهل اللغة العربية بل لما وجد صعوبة تذكر للتخاطب مع الشعوب الناطقة بالضاد وهذا عكس ما يجده مثلا أحد معاصرى رابيليه من أهل القرن الخامس عشر الذي هو أقرب إلينا من عصر القرآن من الصعوبة في مخاطبة العديد الأكبر من فرنسي اليوم
و إن لغة القرآن وإن كانت تمت - في أصولها - إلى عصور بعيدة قديمة فهي مرفة طبيعة تسع التعبير عن كل ما يجد من المستكشفات والمخترعات الحديثة دون أن تفقد شيئاً من رونقها وسلامتها وأما ما نراه من المولدات التى تستعملها الجرائد العربية بنفس أصولها الأجنبية فليس ذلك عن ضرورة وإنما هو نوع من التكاسل والتهاون والتساهل الذي نجد مثله عندنا نحن الفرنسيين في استمارتنا الاصطلاحات الخاصة بالألعاب الرياضية عن أصولها الأنجلوسكسونية المؤلف

۱۳۹
التعصب الذميم وتلك الحماقة العمياء إذ يقول متحدثاً عن محمد أيستطيع رجل مخادع أن يؤسس دينا كلا وربى إن رجلا مخادعاً لا يستطيع أن يقيم

بيتا من آجر !! إنه لو لم يكن عليماً بخواص الطوب والمونة وسائر المواد البنائية الأخرى لما استطاع أن يقيم بيتاً ولن يقيم - إذا أقام – إلا أكواماً منقضة لا يمكن أن تقوم اثنى عشر قرناً تضم بين جدرانها ما يربو على مائة وثمانين مليونا من الناس إن بناء المخادع ينهار لا شك لساعته

الصد عن سماع القرآن ورأى القرشيون المشركون أنهم عاجزون عن مقاومة الأثر القاهر الذي تحدثه تلاوة القرآن في صفوفهم فقرروا أن يمنعوا الناس من الإنصات إليه وخوفوا بتهديداتهم من حاولوا الإنصات إلى الرسول وهو يتاو الكتاب المنزل كعادته على باب الكعبة وكانوا تارة يجعلون أصابعهم في آذانهم لكيلا يسمعوا ترتيله وتارة أخرى يصفرون ويصفقون ويصيحون بشعر الشعراء المشركين ليسكتوه ولكن أتدرى ماذا كانت النتيجة الغربية لقد أحس هؤلاء الذين حرموا الإنصات إلى القرآن أحسوا بالرغبة الملحة تعمل في نفوسهم تلك الرغبة التي تدفع الإنسان نحو كل ما هو محرم وفى ذات ليلة خرج أبو سفيان وأبو جهل والأخنس من بيوتهم ليذهبوا حفية إلى بيت الرسول وهناك الصقوا آذانهم بالحائط وراحوا يحاولون الاستماع إلى الآخر
تلاوة بعض الآيات الإلهية وشملهم ظلام الليل فلم يلاحظ كل منهما ولكن طريق الرجوع عندما أشرق الفجر جمعهم وجها فتلاوموا وقال
6
20

كل منهم لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا فأخذوا على أنفسهم عهداً غليظا بألا يقدموا مرة أخرى على مثل تلك الحماقة ولكن ليلة الغد وليلة اليوم الذى تلاه شهدتا نفس الحادث ونفس التراجع
والتلاوم

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِرُ قَمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبَرْ

الفصك الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم
لتبلُونَ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
قال رسول الله خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفاً قرشيا
بهذا المبدأ قرر الإسلام المساواة بين جميع الطبقات والأجناس وبهذا المبدأ اجتذب الإسلام إلى صدره كل متواضعى مكة أما السادة الوثنيون فإنهم كانوا يرون - في غيظ يزداد بمر الزمن - عبيدهم يعتنقون الإسلام متحمسين طوائف وجماعات وإذا كان هؤلاء السادة لم يمكنهم أن ينالوا ممن اعتنق الإسلام من غير الأرقاء فإنهم صبوا جام غيظهم على من دخل في الإسلام ممن ملكت
أيديهم هل أتاك حديث أمية بن خلف وقد علم بإسلام عبده بلال بن حمامة فلم يكن له من هم إلا التفتن المحجل فى إذاقته العذاب ألواناً لقد أحاط عنقه بحبل من ليف النخيل الخشن وأسلمه إلى أيدى الصبيان الذين لا سبيل للرحمة إلى قلوبهم فأخذوا يعبثون بجره كحيوان يجرونه إلى الأمام ويجرونه إلى الوراء يجرونه يميناً ويجرونه شمالا والحبل يحز فى عنقه حتى حفر فيه مجرى داميا غير أن بلالا رغم كل ذلك لم يبد عليه التأثر فما كان من أمية إلا أن منع عنه الطعام والشراب وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره على هذا الرمل الذي جعلته حرارة الشمس كالجمر كان يلقى أمية بلالا ويقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى تجاه كل هذا كان بلال الصبور يكتفى برفع سبابته إلى السماء مكرراً أحمد أحمد يظهر بذلك احتقاره لسيده الذى بلغت به الجرأة أن جعل الله شركاء بزعمه
١٤٣

١٤٤
شهید
من خشب أو حجارة وكان تأكيد الأحدية لله تعالى يثير في أنه روعه ويبعث فى نفسه بذلك عذوبة فائقة الوصف فلا يشعر معها بأليم
الإيمان
العذاب
وشاءت الأقدار أن يمر أبو بكر بالرمضاء حيث كان يعذب بلال ويشهد
هذا المنظر البشع فقال في اشمئزاز
ألا تخشى عقاب الله يا أمية حينما تذيق هذا المسكين العذاب ألوانا
فأجاب في برود صارخ
إنك أنت الذي أفسدته فأنقذه بما ترى
قال أبو بكر عندى غلام أسود أقوى منه وأجلد وهو على دينك أعطيكه به
قال قبلت هو لك
فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه ولم يقتصر كرم أبي بكر رضي الله عنه على ذلك بل اشترى أيضا ستة من العبيد الذين أسلموا - ما بين رجل وامرأة - ليخلصهم من سادتهم الوثنيين ويعتقهم ومع ذلك فقد استمر التعذيب بل ازداد وحشية فبنو مخزوم أخذوا عمار بن ياسر وأباه وأمه سمية إلى الرمضاء ليتفننوا في تعذيبهم ويعرضوهم لكل ما توحى به غلظتهم الجامحة
جسم
كانوا يلبسون عماراً درعاً من الحديد فى اليوم الصائف ويطرحونه أرضاً ويستبقونه كذلك معرضاً لأشعة الشمس الملتهبة وكان عمار يحترق كما لو كان معرضاً لقطعة من معدن في حالة الانصهار بيد أن الوثنيين لم يمكنهم بالتعذيب پردوه أو يردوا أبويه عن الإسلام كما لم يمكنهم أن يردوا بلالا فأعمى الغيظ أبا جهل وطعن بحربته قلب سمية وقال لها متهكماً إذا كنت قد آمنت بمحمد فما ذلك إلا لأنك عشقته الجماله
أن
كانت سمية الشهيدة الأولى فى الإسلام وبلغت من الثبات والصبر مبلغاً لم يصل إلى مثله بعض المسلمين الآخرين الذين أضعفهم الحرمان والعذاب واشتد بهم الضعف حتى وصل بهم إلى العجز عن القيام فندت عن شفاههم – لا عن قلوبهم - ألفاظ الردة التى أنقذتهم مما هم فيه وما إن أنقذوا حتى ناءوا تحت

١٤٥
عبء الخجل والخزى وسالت دموعهم ندماً على ما فعلوا فنزلت فيهم الآية
الكريمة
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنَّ بِالإِيمَانِ ولَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۱ امتلأت نفس الرسول حزنا أمام هذه المآسى التي كان يتحملها ضعاف المسلمين الذين لا يجدون من يحميهم حقاً إن شجاعة المعذبين والشهداء في سبيل الله برهنت على إسلامهم العميق بيد أنه رأى أن من الخير ألا يستمر هذا البلاء فنصح الضعفاء ومن لم تدعهم الضرورة إلى البقاء في مكة بالهجرة إلى الحبشة حيث المسيحيون وحيث التسامح والعدل اللذين اشتهر بهما ملكها
النجاشي
هجرة المسلمين إلى الحبشة سنة ٦١٥ م سافر أول من سافر من المسلمين سنة عشر من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية إحدى بنات رسول الله - وفى جنح من الليل خرج المهاجرون من مكة سيراً على أقدامهم وحينما وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر استأجروا فلكا حملهم إلى الشاطئ الآخر ومن هناك ذهبوا إلى بلاط النجاشى فرحب بهم وما لبثوا إن لحق بهم غيرهم فأصبحت الجالية الإسلامية في الحبشة مؤلفة من ثلاثة وثمانين
رجلا وثمان عشرة امرأة ثارت ثورة الوثنيين حينما رأوا أن ضحاياهم تفر من بين أيديهم واشتعل غيظهم حينما علموا أن من المهاجرين أفراداً من أسرهم مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان فأرسلوا إلى النجاشي سفيرين هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومعهما هدايا نفيسة وكانت غاية السفيرين رد اللاجئين فصوراهم للنجاشي في صورة ثائرين خطرين في مقدورهم أن يثير وا فتناً ضده كان النجاشى قد شاهد عكس ما قالاه وكانت فضائل المهاجرين قد بعثت في الناس تقديرهم وعطفهم فلم يكن عنده استعداد لقبول دعوى السفيرين رغم
۱ سورة النحل

12
نفاسة الهدايا فرأى السفيران عند ذلك أن يثيرا النزعة الدينية عند الملك المسيحى وأن يحذراه من الخطر الإسلامي فقالا له
ه إذا أردت أن تعلم خبر هؤلاء المغررين فإننا على علم بهم إنهم جاءوا ليردوا رعيتك عن دين عيسى كما حاولوا أن يردوا قريشاً عن دين أجدادها - 1 وإذا أردت دليلا على صدقنا فما عليك إلا أن تسألهم عن عقيدتهم في عيسى
1
سيدكم أقر النجاشى رأيهم وسأل أعلم المهاجرين عن عيسى فأجابه جعفر ابن عم النبي بالآية القرآنية إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بن مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكِلمَتهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ هذه الإجابة طمأنت النجاشي نعم إنها لم تتضمن الاعتراف بألوهية عيسى بيد أنها على الأقل برهنت على الاحترام العميق الذي تكنه صدور المسلمين نحو عيسى وأزالت شكوكه من ناحية غايتهم فصرف السفيرين ورد إليهما هديتهما ولم يجب لهما رجاء
إسلام عمر بن ! الخطاب

أقنع الكفار عمر وكان جافاً غليظاً إذ ذاك - بأن في القضاء على محمد إنقاذاً لوطنه فتقلد عمر سيفه واتجه يتطاير الشرر من عينيه نحو الصفا حيث يعتقد وجود الرسول وبينما هو سائر فى طريقه إذ لقيه نعيم الذي كان يسر إسلامه فرقا ۳ من قومه فقال له

أين تريد يا عمر
- أريد محمداً هذا الذى فرق أمر قريش وحق آلهتنا سوف لا أهدأ
حتى أقتله
فقال له نعيم
- لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض
۱ سورة النساء
إن إسلام عمر كان فتحاً وإن هجرته كانت نصراً وإن إمارته كانت رحمة ۳ خوفاً

١٤٧
وقد قتلت محمداً ثم أضاف ليحوله عن مشروعه البشع أفلا ترجع إلى أهل
بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتي
أختك فاطمة وزوجها سعيد بن زيد فقد أسلما
عند هذا اتجه غضب عمر وجهة أخرى وعدا مسرعاً نحو مسكن أخته فاطمة وكان فيه حينما وصل عمر المسلم المتحمس خباب ومعه صحيفة فلما سمع دق عمر القوى على الباب بلحأ خباب
فيها سورة طه يقرئهما إياها

إلى حجرة مجاورة وأخفت فاطمة الصحيفة تحت ردائها
سمع عمر حينما دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال في
صوت خشن

ما هذه الهينمة ۱ التي سمعت قالا له
ما سمعت شيئا قال
- بلى لقد أخبرت أنكما تابعتها محمداً على دينه ثم لم ينتظر إجابة
آخذاً
أو شرحاً بل هجم على ختنه وطرحه أرضا وجلس على صدره بلحيته فألقت فاطمة بنفسها على أخيها وقامت بمجهود يائس لتكفه عن
زوجها وصاحت
نعم
أسلمنا وما علمته حق عند ذلك طار صواب عمر ولم يتمالك أن لطمها فى غلظة على وجهها فشجه فانقلبت فاطمة الشجاعة غرقى في دمها
بيد أنها لم تهن ولم تضعف بل استمرت تمد إليه يديها وتكرر لقد أسلمنا يا عدو الله نعم آمنا بالله ورسوله فاصنع بنا
نعم
ما تريد
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم وأثرت فى نفسه مجاعتها التي لا تقهر
مع أنها ضعيفة خجل مما صنع وطلب في صوت أشرب بالوداعة أعطيني هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به
محمد فقالت له أخته
إنا نخشاك عليها فقال
۱ صوت كلام لا يفهم

١٤٨
لا تخافى وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها أن فاطمة طمعت فى إسلامه فإنها اعترضت قائلة يا أخي إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر
تبدأ
ورغم
قام عمر
في وداعة واغتسل فأعطته الصحيفة ۱ التي بها سورة طه والتي
الله الرحمن الرحيم طَهَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا
ا بسم تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى
وما إن قرأ عمر - الذى كان كاتباً بليغاً - الآيات الأولى حتى قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب
فقال له عند ذلك عمر
سر بي الآن إلى محمد فإنى أريد أن أعتنق الإسلام أين هو
فهداه خباب مستبشراً متهللا إلى بيت الأرقم عند الصفا
6
۱ قال السهيل عند الكلام على تطهير عمر يمس القرآن وقول أخته له لا يمسه إلا المطهرون والمطهرون فى هذه الآية هم الملائكة وهو قول مالك في الموطأ واحتج بالآية الأخرى التي في سورة عبس ولكنهم وإن كانوا الملائكة فى وصفهم بالطهارة مقروناً بذكر المس ما يقتضى ألا يمسه إلا طاهر اقتداء بالملائكة المطهرين فقد تعلق الحكم بصفة التطهير ولكنه حكم مندوب إليه وليس محمولا على الفرض وإن كان الفرض فيه أبين منه في الآية لأنه جاء بلفظ النهي عن مسه على غير طهارة ولكن في كتابه إلى هرقل بهذه الآية يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة دليل على ما قلناه وقد ذهب داود وأبو ثور وطائفة ممن سلف منهم الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان إلى إباحة مس المصحف على غير طهارة واحتجوا بما ذكرنا من كتابه إلى هرقل وقالوا حديث عمرو بن حزم مرسل فلم يروه حجة والدارقطني قد أسنده من طرق حسان أقواها رواية أبي داود الطيالسي عن
الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وما يقوى أن المطهرين في الآية الملائكة أنه لم يقل المتطهرون وإنما قال المطهرون وفرق ما بين المتطهر والمطهر أن المتطهر من فعل الطهور وأدخل نفسه فيه كالمتفقه من يدخل نفسه فى الفقه وكذلك المتفعل في أكثر الكلام وأنشد سيبويه
وقيس عيلان ومن تقيسها فالآدميون متطهرون إذا تطهروا والملائكة مطهرون خلقة والآدميات إذا تطهرن متطهرات وفي التنزيل فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله والحور العين مطهرات وفي التنزيل لهم فيها أزواج مطهرة وهذا فرق بين وقوة لتأويل مالك رحمه الله والقول عندي في الرسول عليه السلام أنه متظهر ومطهر أما متطهر فلأنه بشر آدمي يغتسل من الجنابة ويتوضأ الحدث وأما مطهر فلأنه قد غسل باطنه وشق عن قلبه وملى حكمة وإيماناً فهو مطهر ومتطهر
من

١٤٩
بينا أصحاب رسول الله يصغون إلى كلامه فتتشربه أرواحهم إذا بالباب يدق دقاً عنيفاً فقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فرأى الفارس الرهيب متوشحاً سيفه فرجع إلى رسول الله وهو فزع يخبره الخبر فقال الرسول وهو هادئ مطمئن ه إيذن له فإن كان يريد خيراً بذلنا له وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه امتثل الصحابي أمره ودخل عمر فنهض إليه رسول الله حتى لقيه في الحجرة
فأخذ بحجزته ثم جبـده جـبـذة ۱ شديدة وقال ما جاء بك يابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة
فقال عمر في تواضع ليس من عادته
يا رسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله فكبر رسول الله تكبيرة عرف بها أهل البيت من أصحاب الرسول أن عمر قد أسلم وتفرق الأصحاب شاكرين لله توفيق عمر الإسلام
و
لم يكن عمر بالرجل الذى يصبر ويسر إسلامه فما إن وصل إلى الطريق حتى أوقف أول مار به - وكان جميل بن معمر الجمحي - وقال له أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد وكان جميل ثرثاراً بالطبيعة فما إن سمع كلام عمر حتى جر رداءه وعدا حتى إذا كان بباب الكعبة صرخ بأعلى صوته
يا معشر قريش أتيتكم بنبأ مريع إن ابن الخطاب قد صبأ فقال عمر
وكان يتبعه
كذبت ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده
و رسوله
عند ذلك ثار القوشيون ثورة عنيفة وهجموا على عمر فاستقبلهم ثابت الجنان وما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم فاضطر المحاربون إلى هدنة قصيرة المدى فقعد عمر وقام أعداؤه على رأسه فقال لهم في
احتقار وشمم
۱ بحجزته أي بمجمع ردائه وجذبه وجبده بمعنى واحد

١٥٠
ه افعلوا ما بدا لكم ! فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلثمائة رجل فقط لأنزلناكم عن الكعبة ولما وجدتم فيما بعد إلى استردادها من سبيل فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلةٌ حبرة ١
موشی حتى وقف عليهم فقال
ه ما شأنكم قالوا
صبأ عمر فقال
فمه رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون أترون بني عدي بن كعب
يسلمون لكم صاحبهم هكذا فتخلوا عنه خوفاً من الثأر لا اتباعاً لمنطق العقل ولكأنهم كانوا ثوباً كشط عنه كان رسول الله وحده هو الذى يجرؤ على الصلاة في الكعبة علنا فلما أسلم عمر عزم على محاكاته في ذلك فكان يذهب كل يوم إلى الكعبة ويقف كما كان يقف رسول الله بين الركن الذى به الحجر الأسود والركن الذي يتجه نحو اليمين وكان يصلى متجهاً نحو بيت المقدس مثل الرسول شجع ذلك كثيراً من المسلمين فجاءوا يصلون بجواره تحت سمع المشركين وبصرهم وحالت هيبة عمر الذي استحق بجدارة لقب الفاروق دون البطش بهم
نفي بني هاشم إلى الشعب سنة ٦١٦ ميلادية
رغم كثرة الوثنيين من قريش فإنهم اضطروا إلى الاعتراف بأن حالة حزبهم حرجة وأنهم إن لم يقوموا بعمل حاسم تجاه تلك الحركة المستمرة الجارفة التي يتبعها كل يوم أنصار جدد فقد قضى على سيادتهم بين العرب
فاجتمعوا وتناقشوا ثم تعاهدوا على قطع كل علاقة تربطهم ببني هاشم وبني المطلب وإخراجهم من مكة إلى شعب أبى طالب حتى يسلموا إليهم محمداً ولأجل قطع الطريق أمام كل من تسول له نفسه الإخلال بهذا العهد كتبوا بذلك صحيفة علقوها فى جوف الكعبة
كانت خطتهم ماهرة فقد قدروا أن من غير المعقول أن يتضامن من لم يؤمن بمحمد من عشيرته مع من آمن وأن يتحمل الألم من أجل دعوة لم تصل بعد إلى
1 ضرب من ثياب اليمن

١٥١
شغاف قلبه فإذا حدث هذا وهو حادث لا محالة - فقد وجدت المتفرقة والخلاف بين عشيرة محمد وهان لذلك أمرهم أجل ! غير أن المقادير قدرت خلاف ما قدروا واقتدت أسرة محمد بأبي طالب فتضامنت ولم يشذ منها إلا أبو لهب
الذي عميت بصيرته
ولعلنا نلاحظ
من هذا الحادث سبباً من الأسباب التي حالت دون اعتناق أنه ساعد - في جد ونشاط - على انتصاره نعم ! إنه لم
أبي طالب للإسلام مع ينس تهكم أبي لهب به وقوله
لم يبق لك إلا الخضوع لابنك على فقد اختاره محمد وزيره وكانت أنفة أبي طالب تجعله بخشی تندر قریش به
ولقد قال يوماً

لو لم أصر أضحوكة فى أفواه القرشيين حينما يروني أصلى لاعتنقت الإسلام غير أنه ما كان ليقيم لهذه الاعتبارات وزناً لو لم يؤمن بأن حمايته لابن أخيه تفقد أثرها الفعال منذ الساعة التي ينكر فيها دين آبائه
منهم
المسلمون
وما إن أعلن التحالف حتى خرجت عشيرة الرسول من مكة - وتركوا منازلهم المفرقة في مختلف أحيائها وأقاموا في شعب
والوثنيون
أبي طالب
ذاق الذين أخرجوا من ديارهم أشد أنواع الحرمان طيلة عامين إذ ما لبث

زادهم أن نضب ولم يجدوا سبيلا إلى تجديده كانت الأسواق مغلقة في وجوههم فإذا ما تمكن أحدهم – خلف قافلة - من دخولها ليشترى شيئاً من الطعام ليقتات به فإن التجار خشية مراقبة أبي جهل أو خشية التبليغ عنهم يزيدون في السلعة أضعافاً حتى إلى أطفاله يتضاغون من الجوع - وليس فى يده شيء يعللهم به
يرجع
وهم
وحملت المروءة بعض الناس على تغذية المنفيين سرا وكان أحسنهم بلاء في ذلك هشام بن عمرو فكان يأتى بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه

١٥٢
ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم على إن ذلك كان نادراً وقد وصلت الحالة بمحمد وآله أن كانوا يتغذون من ورق الشجر
أكل الأرضة الصحيفة
وبينا الكفار في عنادهم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش ومحت منها الظلم والقطيعة والبهتان وتركت كل اسم هو الله وقص الرسول رؤياه على عمه فصدق عمه رؤياه وأخذ إخوته وذهب إلى حيث يجتمع الكفار فما إن رآه هؤلاء حتى تساءلوا
لما رأوه على وجهه من أثر الجوع هل سيسام إليهم أخيراً ابن أخيه وقد هزمه الحرمان لقد كانوا مقتنعين بذلك كل الاقتناع فلما حدثهم برؤية ابن أخيه وقال لهم هلموا إلى صحيفتكم ! فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها وإن كانت كذبا دفعت إليكم ابن أخي قبلوا هذا العرض وهم على يقين من أن ذلك إنما كان تخلصاً ماهراً من حمايته
"
لا بن أخيه كانت الصحيفة مختومة بثلاثة أختام ومنذ أودعت بالكعبة لم يرها إنسان ولم تمسسها يد بشر فبدا لأعداء الله أنه من المستحيل أن يكون ما قاله الرسول صوابا ولاحت عليهم علامات الانتصار وهم ذاهبون مع أبي طالب إلى الكعبة لرؤية ما وصلت إليه الصحيفة ثم نظروا فإذا هي كما قال الرسول ! كل ما هو ظالم وشر أكلته الأرضة ولم يبق إلا باسماك اللهم سقط فى أيدى الوثنيين وتولاهم الذهول وكان أول من خرج منهم أ محاولا التخلص من قبول قريش لعرض أبي طالب فقام في وجهه هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية ومطعم بن عدى وغيرهم ممن أضرت في مصالحهم وعلاقاتهم تلك الصحيفة المشئومة التى لم يمضوها إلا مرغمين وقالوا محتجين
الواحد تلو الآخر
بوم
أبو جهل
ه إن هذا العمل الشاذ الذى لم نوافق عليه إلا عن غير رغبة منا لم يعد له
وجود وما تضمنه إذن من عهد فهو مرذول يجب أن يلغى

١٥٣
أمام هذه الاحتجاجات الصارخة اضطر أبو جهل للخضوع ألغى العهد إذن ورجع بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى مساكنهم
وفاة أبي طالب وخديجة
يبدو
أن نمو الإسلام أصبح بعد ذلك مأموناً غير أن حادثتين جاءتا فجأة فعرقلتا ما كان في الحسبان أما أولاهما فهى موت أبي طالب حامى الرسول الذي كان لا يمل ولا يسأم وكان قد تجاوز الثمانين
لقد رأينا أنه رغم ما كانت تشتمل عليه جوانح أبي طالب نحو الإسلام
من ود فإنه لم يعتنقه وعند موته قال يا معشر بني هاشم ! أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشد وا فانتهز الرسول الفرصة وقال يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يابن أخي قال أريد أن تقول فقط لا إله إلا الله فقال يابن أخى قد علمت أنك صادق غير أني أخشى أن أتهم بالخوف عند ما حان حيثنى ! ولولا ذلك لا تبعت نصيحتك لأقر عينيك اللتين أرى فيهما مبلغ حزنك
وذكر أنه لما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه ثم قال يابن أخي ! لقد قال عمك الكلمة التي نصحته بها
غير
أن مؤرخى السيرة المعتمدين يرفضون هذا النص ولا يعلم الحقيقة إلا الله بعد هذه الكارثة الفادحة بأيام ثلاثة أصيب الرسول بكارثة أخرى أدهى وأمر ماتت خديجة وفقد الرسول رفيقته المثالية التي وهبت نفسها له وهو فقير وآمنت به في حين أعلن الآخرون أنه ساحر والتى كان إليها بآماله وأمانيه يسر فتشجعه والتى واسته في رفق ومودة في ساعات الشدة ماتت خديجة أم المؤمنين أولى النساء إسلاماً في سن الخامسة والستين
رضى الله عنها
كان لخديجة فى نفس الرسول جاذبية قوية لطيفة فلم يشرك معها غيرها طيلة حياتها ورغم أنه كان في ريعان شبابه فإنه لم يقبل الزواج بأخرى أو اتخاذ صديقة مع أن التقاليد كانت تسمح بذلك ومع أن الأسباب من كل جانب
كانت تمهد له وتغرى به وإذا كانت قد فارقته فإن ذكراها دائما كانت على لسانه

154
وكانت عائشة التي صارت زوج الرسول المفضلة تجد لذع الغيرة وتحس به في قسوة وتقول
لم تستول على قلبي الغيرة من أية واحدة من زوجات الرسول سوى خديجة رغم أني لم أعرفها ورغم أنها ماتت قبل زواجى بزمن طويل إلا أن الرسول يردد
دائماً ذكراها ويحتفظ حينما ينحر خروفا بجزء كبير لصديقات خديجة وقلت له مرة يظهر أنه لم يوجد فى العالم من النساء غير خديجة فأخذ مباشرة في تعداد فضائلها وأعلن أن لها فى الجنة بيتا من اللؤلؤ تنعم فيه بما تريد ودخلت عليه هالة بنت خويلد ذات يوم فعرف في لهجتها وحديثها لهجة خديجة وحديثها فأثار ذلك في نفسه الشجن فلم أتمالك نفسى من الغيرة وقلت حانقة مالك تثير دائماً ذكريات عجائز قريش ذوات الأنياب الحمراء والأسنان الساقطة والوجه الذي ذهبت بنضارته السنون ألم يعوضك الله خيراً منهن !
رغم كل هذا ورغم جمال عائشة وذكائها وما تحلت به زوجاته الأخريات من جمال وفطنة فإنه كان دائما يفضل عليهن خديجة ويعدها واحدة من أربع نساء من أكمل من وجد على ظهر البسيطة أما الثلاثة الأخريات فهن آسيا امرأة فرعون التى أنقذت موسى ومريم أم عيسى وفاطمة الزهراء بنت محمد
من خديجة

خروج الرسول إلى الطائف
ناء كاهل الرسول بالكارثتين المتتابعتين وأضحت قريش بعد موت حاميه
2
على
اعتناق
النبيل تعلن ما كانت تسر من أغراض وأحداث فعزم الرسول على نشر الدعوة خارج مكة ورأى أنه لو وفق فى حمل بعض العرب من خارج مكة دعوته فإن تعضيدهم لأنصاره المكيين الذين بلغوا عدداً لا بأس به يجعل الإسلام حزبا يفرض نفسه على المناوئين
توجهت أولى محاولات للرسول من هذا النوع إلى الطائف – وهي بلدة صغيرة
شرقى مكة وعلى بعد اثنين وسبعين ميلا منها تقريباً وهي مشهورة بعنبها

وتينها ورمانها وتمرها وأزهارها وحدائقها الفيحاء ولما وصل الرسول إليها ومعه زيد بن حارثة عمد إلى حيث يجتمع سادة ثقيف فجلس إليهم وكلمهم فيما جاء له من نصرتهم للإسلام والقيام معه على ما خالفه
بدأ حديثه يأخذ بأفئدة أغلب الحاضرين ويؤثر كعادته ـ في من يصغون إليه وإذا بثلاثة إخوة من أشراف ثقيف ممن لهم الرأى المسموع فيها يقطعون عليه فجأة حديثه فقال أحدهم مكذبا
ه إنى أقطع ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك ! وقال الثاني أما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبداً لأن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم قدراً من أن أرد عليك ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي
لى أن أكلمك هدمت هذه المعارضة جاذبية حديث رسول الله وسحره فأخذت الدهماء تصيح به وتسبه فرأى الرسول ألا رجاء فى هذه البلدة الآن وقام ليعود من حيث أتى ولم تتركه ثقيف وشأنه بل أرادت أن توئسه منها فلا يكرر محاولته مرة أخرى لذلك أثارت عليه سفهاءها وعبيدها واجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين في طريقه فلما مر بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما بالحجارة وكان إذا وجد أ الحجارة قعد على الأرض ليحمى رجليه
الداميتين فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى عادوا إلى عبثهم الممقوت
كل ذلك وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج وجهه بحجر كانت قوة صدمته

C
بحيث طرحته أرضاً هكذا سار الرسول في طريقه يسقط مرة ويقوم أخرى ويجر نفسه جراً ثقيلا أليماً بين سخرية الدهماء وعبثهم وكذلك كان زيد حتى وصلا في النهاية إلى حائط بستان وجدا وراءه مأمنا وهناك سقطا من الإعياء مستظلين بشجرة كرم ثم دعا الرسول فقال
ه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتي وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلني إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى

10
لم يجرؤ سفهاء ثقيف على دخول البستان خلف ضحيتيهم فقد كان يملكه قوم كرماء ساءهم المنظر الذى شهدوه فأمروا عبدهم عداسًا أن يقتطف من العنب ويحمله في سلة إلى ضيفيهم العابرين فلما هدأت حدة آلامهما بسبب الراحة في الظل الوارف وهدأ الظمأ
بالارتشاف من عصارة عنب الطائف السكرية قاما وأخذا الطريق إلى مكة فكر الرسول في موقف أهل مكة منه عند وصوله ورأى أن لا مناص من أن يستجير بأحد أصحاب النفوذ فصار إلى حراء ثم بعث زيداً إلى الأخنس فلم يجره وبعثه إلى سهيل فأبى فبعثه إلى المطعم بن عدى فأجابه إلى ما أراد ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد وأتى زيد برسول الله فدخل المسجد وطاف بالبيت سبعاً قبل أن يذهب إلى مثواه
الإسراء والمعراج
أثار الإسراء والمعراج كثيراً من المناقشات بين علماء الإسلام فبعضهم يرى أن ذلك معجزة حصلت فعلا بالروح والجسد في اليقظة بينما الآخرون يعيمدون
على أصح الآثار
C
من بينها حديث عائشة زوج الرسول المفضلة وبنت أبي بكر
C
ويرون أن الروح وحدها هي التي أسرى بها وعرج إلى السماء ١ وليس ذلك إلا رؤيا
1 إن الرأى المشهور فيما يتعلق بالإسراء والمعراج أنهما كانا بالروح والجسد وهو رأى يستا لون عليه بمختلف الأدلة ويعرفه كل من له أدنى إلمام بالسيرة النبوية ولكن المؤلف اختار رأياً آخر أقل شهرة وهو مع ذلك قد قيل به
يقول السهيلي
وقد ذكر ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنها أى مسألة الإسراء كانت رؤيا حق وأن عائشة قالت لم نفقد بدنه وإنما عرج بروحه تلك الليلة ويحتج قائل هذا القول بقوله " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" ولم يقل الرؤية وإنما يسمي رؤيا ما كان في النوم في عرف اللغة ويحتجون أيضاً بحديث البخاري عن أنس بن مالك قال ليلة أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو هذا وهو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكان تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء عليهم السلام تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل الحديث بطوله وقال في آخره واستيقظ وهو في المسجد الحرام وهذا نص لا إشكال فيه أنها كانت رؤيا صادقة ثم يذكر السهيل الرأى المشهور وأدلته وبعد ذلك يذكر رأياً ثالثاً يراه هو وطائفة معه ويرجحه
يقول

١٥٧
صادقة كما كان يحصل كثيراً للرسول أثناء نومه
وفي الليلة السابعة والعشرين من شهر ربيع الأول تلقى جبريل – وهو الموكل بكواكب النور - الأمر من الله تعالى أن يأخذ من ضوء الشمس ليزيد في ضوء القمر وأن يأخذ من ضوء القمر ليزيد فى ضوء النجوم لتزدهر القبة الزرقاء وتتلألأ سناء وإشراقاً ثم ينزل إلى محمد فيوقظه من النوم ويرفعه إليه تعالى مخترقاً طبقات السماء السبع وفى ذلك يقول الرسول بينا أنا نائم إذ أتاني جبريل بالبراق ۱ - وهى الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء - لا يماثله حيوان من حيوانات الأرض فهو بين البغل والحمار أبيض من البرد ٢ له وجه إنسان بيد أنه لا يتكلم وله جناحان كبيران يرتفع بهما فى الهواء ويشق بهما طبقات الفضاء أما ذؤابته وذيله ولبانه وشعره فقد كانت محلاة بأنفس الجواهر التي بلغ السناء بحيث يضارع لألاء آلاف النجوم وركبته فحملني مثل لمح البصر - من الحرم المكي إلى بيت المقدس فلما نزلت ربطته حيث كان يربطه الأنبياء وجاءني رجل يحمل إلى إناءين في أحدهما خمر وفي الآخر لبن فشربت اللبن وتركت الخمر فقال لى جبريل - الذي رافقني وحاذاني طيلة رحلتي - " هديت إلى الفطرة ولو اخترت الخمر وفضلته على اللبن لفضلت أمتك الضلال على الهدى وبعد أن طاف الرسول بالمسجد الأقصى صعد على الصخرة التي انحنت تشريفاً له وتمكينا من أن يمتطى البراق وتابع الرسول – يقوده جبريل مبعوث
لألاؤها من
السماء - رحلته خلال طبقات القبة الزرقاء ولا يمكننا أن نعرض هنا لكل ما ذكر من وصف المعراج غير أننا نلاحظ بعض المؤلفين وعلى الأخص الفرس قد أطلقوا لخيالهم العنان وبعضهم
أن

وذهبت طائفة ثالثة منهم شيخنا القاضي أبو بكر رحمه الله إلى تصديق المقالتين وتصحيح الحديثين وأن الإسراء كان مرتين إحداهما كانت في نومه توطئة له وتيسيراً عليه والثانية في اليقظة ثم قال وهذا القول هو الذى يصح و به تتفق معانى الأخبار وابن إسحاق بعد أن ذكر رأى عائشة ومعاوية من جانب ورأى الجمهرة من جانب آخر قال الله أعلم أى ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله على أى حاليه كان نائماً أو يقظان كل ذلك حق وصدق الروض الأنف و الجمالية ١٩١٤ ج ۱ ص ٢٤٣ وما يليها 1 فى هذا الحديث الصريح اعتراف بأنها كانت يقظة بالروح والجسد وخاصة ذكر البراق الذي لا يحمل عليه إلا الجسد والروح كرات الثلج الصغيرة المتساقطة من السماء أثناء المطر

مثل ابن هشام وابن سعد وأبي الفداء اتخذ خطة حكيمة فاقتصروا على رواية هي غاية في البساطة وسنقتصر نحن هنا على ذكر مقابلة محمد مع الرسل الذين سبقوه وهم إبراهيم وموسى وعيسى ثم طوافه بالجنة التي أعدت للمتقين والتي تعطرت رياضها تشريفاً له وتعظيماً ثم رؤيته للنار التي أعدت للكافرين والتي خمد لهيبها عند مروره بها فما إن اخترق الرسول السموات السبع حتى سمع صرير الأقلام تكتب في لوح الملائكة القدر وسمع تسبيح وتقديسهم الله تعالى ثم وصل إلى سدرة المنتهى وهنا تركه جبريل قائلا هنا حدود المعرفة وهنا يجب أن أقف أما أنت يا خير الرسل وحبيب رب العالمين فتابع معراجك المبارك واصعد محاطا بنور من أنوارك وتابع المصطفى اختراق الحجب التي تحول دون رؤية المساتير إلى أن وصل إلى حجاب الوحدة فرأى ما لا تراه الأعين ولا يخطر على قلب بشر لم تكن حاسة بصره الجسمانية تتحمل هذا البريق الذى يخطف الأبصار۱ ففتح الله قلبه ليمنحه القدرة على مشاهدة هذا الجمال اللانهائى 2 ثم قربه الله من عرشه حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى وبعد أن أخبره الله بما سبق أن أخبر به أعنى اصطفاءه لتبليغ الرسالة إلخ
رعینی
حدد الصلاة بخمسين مرة فى اليوم والليلة يؤديها المؤمن اعترافا بفضل مانح النعم ولما نزل المصطفى تقابل مع موسى الذى سأله قائلا يا رسول الله كم فرض
الله على أمتك من الصلوات خمسون صلاة في اليوم والليلة
- عد يا خير الخلق إلى إلهنا وسيدنا فاطلب منه التخفيف لأن أمتك لا تطيق ذلك حمل ثقيل على الضعفاء والكسالى من بنى الإنسان فإني قد بلوت
بني إسرائيل وخبرتهم
۱ في هذا أيضاً اعتراف آخر بأنها كانت يقظة بالروح والجسد وعلاوة على ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ركب وشرب ونزل كل ذلك صريح في أنها كانت بالروح والجسد وذكرت بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً وأفادت بعض الأحاديث الأخرى أنه أيقظته الملائكة فاستيقظ
فلم يكن هناك تعارض ٢ سورة النجم

١٥٩
وعاد محمد إلى رب العالمين وتكررت عودته إلى أن فرض الله على أمته خمس
صلوات فقط في اليوم والليلة
هذا الرمز الذي كان
شأنه تحديد عدد الصلاة نهائياً يدل أيضا على أن من
المغالاة في العبادة ليست إلا ابتعاداً عن روح الإسلام
يُريدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفَفَ عَنْكُمْ وَخَلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً ۱ سورة النساء آية ۸
وما حاجة الله إلى صلاة البشر
ا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
"
سورة طه آیة ۱۳
كتب
الله الصلاة على عبيده واقتضت حكمته أن تكون أنفع وأصح
ما منحهم من خير يا نعم خمس صلوات فى اليوم تمكن بني البشر من الراحة مرات يومياً التامة خمس فتحول بينهم وبين الانفعالات والعواطف المثيرة التي تؤدى تارة إلى المغالاة فى الفرح وذلك طريق يؤدى إلى الرذائل وتارة إلى المغالاة في الحزن وذلك طريق قد يؤدى إلى جنون اليأس خمس صلوات يوميا بما لهن
من مقدمات في الطهارة يلزمن الإنسان العمل على نظافة بدنه وصفاء روحه أصبح رسول الله غداة الرؤية مشرق الوجه من الفرح ورآه أبو جهل عدوه المبين فسأله في سخرية
يا محمد هل من نبأ جديد من أنبائك المدهشة التي عودتنا إياها نعم لقد أسرى بى ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم
عدت إلى مكة
فصاح أبو جهل يا معشر قريش أسرعوا هيا أسرعوا لتسمعوا نبأ محمد العجيب نبأ رحلته الليلة
تراكم الناس وتجمعوا وأخذ رسول الله يعرض عليهم قصة إسرائه
1 يقول الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة ١٨٥
و و ما جعل عليكم في الدين من حرج الحج ۷۸

١٦٠
كان أغلب المجتمعين وثنيين فحاكوا رئيسهم أبا جهل وقابلوا القصة ساخرين هازئين وأخذ البعض يصفق والبعض يضغط على فوديه بيديه كما لو كان يخشى انفجاراً في رأسه من غرابة ما سمع ١ أما المؤمنون فقد تردد بعضهم في التصديق بالخبر ولم يجرؤ البعض الآخر أمام ما أظهره العامة من سخرية – أن يعلن ثقته بما رأى
وبينما القوم في ضجيجهم واضطرابهم إذ بأبي جهل يذهب مسرعاً إلى أبي بكر ويقول ه هل أتاك نبأ صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة ! 1 ثم صمت أبو جهل - سعيداً بما يتوقع أن يراه على وجه
محدثه من اضطراب وغيره
بيد أن أبا بكر أخلف ظنه وقال فى بساطة لئن قال ذلك لقد صدق وأنا به مؤمن ولأن زعم أنه صعد إلى السماء السابعة وعاد في ساعة من ليل أو نهار هذا الإيحاء وضع حداً لسخرية أبي جهل فلم يدر ما يقول
لآمنت بما يقول
a

ومنح أبو بكر لقب الصديق من أجل ذلك هذه الثقة من أبى بكر وهو من هو - شجعت المسلمين وعبثاً حاول أبو جهل بعد هذا أن يبعث الإنكار فى نفوسهم بل لم نؤد محاولته إلا إلى
عن
تقوية اعتقادهم فأوحى إليه شيطانه بفكرة لإظهار كذب الرسول فسأله وصف بيت المقدس ولم يكن محمد قد رآه قبل ليلة الإسراء فأخذ رسول الله في وصفه وصفا دقيقاً محدداً ووافق على صدق وصفه من شهد بيت المقدس من الحاضرين فخاب فأل أبي جهل وبدا عليه الاضطراب وما لبث المسلمون - وقد قتوى إيمانهم - أن أسرعوا إلى ارتداء ملابس الطهارة الخمس أعنى أداء الصلوات التي حملها إليهم الرسول من السماء وفى أواخر سنة الإسراء عاد عثمان بن عفان وزوجته رقية من الحبشة مع بعض
المهاجرين وكان من بينهم مهاجر اسمه سكران مات عند وصوله إلى مكة فتزوج الرسول أرملته سودة بنت زمعة ليكافئها بذلك على تحمسها الإسلام وعلى
1 أما والله إن هذا الصريح فى أنها كانت بالروح والجسد وإلا لما تعجب أحد فضلا عن هذا التجمهر والدهشة البالغة وصدق الله إذ قال وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس الإسراء ٦٠

١٦١
صبرها على إيلام المشركين لها وتحملها مشاق الهجرة فى سبيل دينها وكانت من أوليات المسلمات وكذلك رغب رسول الله فى الاعتراف لأبي بكر الصديق بتضحيته التي لا تحد في سبيل الدين وأراد أن يزيد فيما بينهما من صلة فتزوج بابنته عائشة في الفترة التي بني بها بسودة تقريباً ولم تكن عائشة إذ ذاك في سن الزواج فقد كانت تبلغ من العمر عشر سنين تقريباً ولذلك لم يدخل بها الرسول إلا بعد سنوات عدة بعد أن هاجر وأقام بالمدينة
إسلام ستة من أهل يثرب سنة ٦٢٠ م
رغم تصديق أبي بكر البالغ بالإسراء والمعراج ورغم ما أحدثته الصلوات الخمس في نفوس المسلمين من حرارة وتحمس فإن أثر قصة الإسراء والمعراج لم يفد الإسلام - ا - من حيث انتشاره - إلا قليلا بل لقد قدم إلى أعدائه شبه انتصار مكنهم من أن يضاعفوا سخريتهم وتعذيبهم للمسلمين أمام هذه الحالة ييأس عظماء الرجال ولكن محمداً لا يعرف اليأس وإنما

يعرف أن الله القادر سوف لا يخذل قط رسوله الذي أوحى إليه
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ

* D
الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس غير أن الرسول انصرف عن دعوة أهل مكة - مؤقتاً - إلى الإيمان متجهاً
6
الذين كانوا يأتون فرادى وجماعات في
موسم
إلى العرب الخارجين عن مكة الحج وفي الأسواق التي كانت تقام كان الرسول ينتقل لا يكل بين مختلف الجماعات ومن ورائه - لا يكل أيضاً - عمه أبو لهب الذى لا يلبث حينما يرى القوم يحيطون أن بم حمد يصيح لا تصغوا لهذا الرجل فإنه إنما يدعوكم إلى أن تطرحوا عبادة اللات والعزى وراء ظهوركم ليخدعكم بما أتى به من عقيدة غير معقولة يزعم أنه أرسل لنشرها هذه الكلمات كانت تثير الريبة والحذر فى نفوس العرب فيبتعدون عن محمد قائلين مثلا إن مواطنيك أعلم بك منا فابدأ بإقناعهم أو إذا منحلك

١٦٢
الله النصر فإن ثمرة انتصارك لا تعود علينا وإنما تعود على عشيرتك فلا فائدة ترجى إذاً من التحالف معك
لم ينهنه نهنه مثل هذا اللقاء الجاف من عزم الرسول وما من شخصية عظيمة وصلت إلى مكة إلا وكان الرسول من أسرع الناس إلى لقائها وبينما رسول الله عند العقبة إذ لقى رهطا من العرب وصل حديثا عدته
ستة نفر فتقدم إليهم في رقته المعتادة سائلا
من أنتم أيها السادة
نفر من الخزرج - أمن موالى يهود يثرب
- نعم أفلا تجلسون

بلی
جلس القوم بجواره فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام

وتلا عليهم القرآن سحرهم القرآن ببلاغته وجدة أسلويه فأصغوا في انتباه وأخذوا يفكرون كان يهود يثرب تحت سيطرة العرب فيها وكان اليهود أهل كتاب وعلم فإذا كان بينهم وبين العرب شيء قالوا إن نبياً مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه وبفضل عونه سننتصر عليكم ونصير به سادتكم فلما كلم الرسول أولئك النفر نظر بعضهم إلى بعض قائلين ها هو ذا والله النبي الذي تهددنا به اليهود وسوف لا نتركهم يسبقونا إليه
وأجابوا دعوته قائلين

إذا تركنا قومنا الأوس والخزرج وبينهم من العداوة والشر ما بينهم أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم ا الله عليك فلا رجل أعز منك
وعسى
بيعتا العقبة سنة ٦٢١ م
بر المسلمون الجدد بوعدهم فبشروا بالإسلام وأذاعوه حتى إذا كان

١٦٣
العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا عشرة من الخزرج واثنان ولقوا رسول الله بالعقبة فبايعوه ولما انصرفوا بعث الرسول معهم مصعب بن عمير وقد كان فقيها في الدين ليرشدهم إلى ما لا يعلمون من
من
الأوس

أمر دينهم لم يجد الإسلام من العقبات في يثرب مثل ما وجد في مكة حيث المنافع الآتية من استغلال عبادة الأوثان التى كانت حجر عثرة في سبيل انتشاره لذلك وجد مصعب أن عمله في يثرب سهل ميسور وأن ما كان يتلوه من القرآن - تلك المعجزة الدائمة - يؤثر في الناس بسرعة لا تكاد تتصور وكان مثل الإسلام في يثرب كمثل غيث أصاب أرضاً جدباء من قلة الماء فبعث فيها الحياة وأنبت فيها من كل زوج بهيج كذلك غمر الإسلام بروحه الصافية الندية كل أحياء المدينة وقضى على عوامل التفرقة وغرس فى قلوب سكانها الفضائل الضرورية لانتصاره وسيادته

وما لبث مصعب غير قليل حتى لم يعد بيت من بيوت الأوس أو الخزرج إلا ومن بين أفراده عد من المؤمنين وعاد مصعب - فخوراً بثمرة بعثته – إلى مكة ليعرض الحالة على محمد حتى إذا كان موسم الحج حضر إلى مكة مع من حضر إليها من أهل الشرك خمسة وسبعون مسلما من بينهم امرأتان
حضر هؤلاء المسلمون وكلهم تحمس فتواعدوا مع رسول الله - صلى الله عند العقبة ليلة ثانى أيام التشريق ليعرضوا عليه الإقامة
عليه وسلم -
وأتباعه - ببلدتهم ويضمنوا له الأمن بها والطمأنينة

هو
لنترك الآن أحد هؤلاء الحجاج وهو كعب بن مالك يقص علينا
ما حدث
اتفقنا على ألا نخبر المشركين منا بشيء فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ننتظر الرسول الذي ما لبث أن حضر ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب لعاطفته القوية نحو ابن أخيه أن يحضر أمره ويتوثق له ويحفظه كما
C

١٦٤
كان يفعل أبو طالب من كل شر فلما جلس الرسول كان أول متكلم العباس ابن عبد المطلب فقال
و"
معشر الأوس والخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو فى عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه و بلده " فقلنا بدون تردد " إنا والله لوكان من أنفسنا غير ما ننطق به لقلنا ولكنا نريد الوفاء والصدق" ثم التفتنا إلى الرسول قائلين " تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت“ فتلا رسول الله القرآن وذكر أسس الإسلام ثم أضاف
أبا يعكم على أن تمنعونى وأتباعى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم" فبايعناه
في تحمس عام قائلين "ونحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة ۱ ورثناها كابراً عن كابر " وقال
أبو الهيثم
" يا رسول الله بيننا وبين الرجال - يعنى اليهود - حبالا وإنا قاطعوها

فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ! “ فتبسم رسول الله وقال محتجاً " إن دمكم دمى وشرفكم شرفى أنا منكم وأنتم منى أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ثم قال رسول الله " أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم وبعد مشورة أخرجنا تسعة من الخزرج من الأوس فلما عرضناهم على رسول الله خاطبهم قائلا " " أنتم على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم على قومهم "
وثلاثة
قالو نعم
وقبيل البيعة وأخذ العهد قام العباس بن عبادة وقال يا معشر الأوس والخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل
۱ السلاح
كفلائی

١٦٥
قالوا نعم
قال إنكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه
على نهكة الأموال ۱ وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة
فأجابوا في غير تردد
" إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف طالما أن ذلك لمصلحة
الإسلام
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال " الجنة وأنتم فيها خالدون “
والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةٌ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقبى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى [ سورة الرعد آية ٢٢ ٢٣ ٢٤]
الدَّارِ

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزْقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَتُوا بِهِ مُتَشَابِهَا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ سورة البقرة آية ٢٥]
وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُوْ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْتِيماً
[ سورة الواقعة آية ٢٢ إلى ٢٥]
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلْ تَجْرِي مِنْ تَحتهُمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهذَا
۱ نقصها
سورة الأعراف آية ٤٣ ]

1
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرُ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله
[ سورة الصف آية ١٣ ١٤ ]

الذي
فلما سمع المؤمنون بما لا يخطر على قلب بشر من نعيم الجنة - هذا النعيم ال أعلنه الرسول في الصورة الوحيدة التى هى فى متناول العقل الإنساني العاجز الضعيف أحسوا بالأمل يدب في أرواحهم فقالوا للرسول
بن زرارة
" ابسط يدك " فبسط يده فكان أول من ضرب عليها أسعد وتلاه أبو الهيثم ثم البراء وتبعهم الباقون وسموا من ذلك الحين بالأنصار وعندما بايعنا رسول الله أخذنا نتأهب للعودة إلى رحالنا خفية وفى القلب فرح وفى النفس أمل فإذا صرخة من أعلى العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط يا معشر قريش الحذر الحذر إن الأوس والخزرج قد اجتمعوا على
حربكم “
أحدث فينا هذا الصوت قشعريرة بيد أن الرسول طمأننا قائلا " هذا صوت شيطان العقبة هذا صوت إبليس عدو الله
ولم يسمعه أحد
من أعدائنا “ فعدنا إلى رحالنا حيث وجدنا مواطنينا يغطون في نوم عميق ولم يشعروا بشيء
مما حدث
فلما أصبحنا غدا علينا وفد من أشراف قريش ولعلهم من أعينهم الذين
كانوا يتبعون أثر الرسول أنى سار وقالوا
" يا معشر الأوس والخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جثم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا "
فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا فما لهم بما كان من علم وقال عبد الله بن أبي بن
سلول لهم
" إن هذا الأمر
جسیم
ما كان قومى ليخفوه على وما علمته ! “ انصرف القرشيون وهم على شيء من الاطمئنان غير أنهم بعد قليل تقابلوا

١٦٧
مع أعراب كانوا قد شهدوا مبايعة العقبة فأكدوا لهم ما نفاه مشركو يثرب فعادوا مسرعين في طلب القوم فوجدوهم قد ارتحلوا
المؤامرة ضد الرسول
أصبح للرسول بعد هذه البيعة ملجأ أمين فى مدينة يثرب فأمر أتباعه
بالهجرة إليها
ولم يطمئن المشركون إلى هذا الأمر ورأوا من الخطر عليهم أن يؤلف

ضحاياهم مع أهل يثرب تلك المدينة التي تنافس مكة جماعة واحدة فعارضوا الهجرة بكل ما يملكون من وسائل العنف لذلك لم يتمكن المسلمون من الهجرة إلا فرادى أو جماعات صغيرة متتابعة وقد سمى هؤلاء منذ ذلك
ذلك -
الحين بالمهاجرين أما الرسول وقد اطمأن إلى مصير المهاجرين فقد مكث في مكة مع صاحبيه أبي بكر وعلى حقيقة أنه لم يكن يجهل ما يحيط به من أخطار غير أنه – رغم إلحاح أبي بكر - أراد أن يحاول محاولة أخيرة لإقناع بعض مواطنيه باعتناق الإسلام والهجرة إلى حيث يجدون الأمن والطمأنينة وذلك قبل أن يغادر مسقط رأسه وقبل أن يضطر إلى الاحتكام إلى السيف ثم إنه - فضلا عن لم ير أن يترك مكانه قبل أن يتلقى الأمر من ربه سبحانه وصل الغضب بقريش إلى أقصاه بسبب هجرة المؤمنين واستولى عليهم القلق فعزموا على القيام بأمر حاسم واجتمعوا لذلك فى دار الندوة وهى دار بناها أحد أسلافهم قصي بن كلاب في هذه الدار كانت قريش تشاور في كل أمر جلل ولم تكن تسمح بحضور الشورى إلا لمن كان من نسل قصى ويكون قد بلغ من العمر على الأقل أربعين خريفاً

في اللحظة التي بدأ كل ممثل لعشيرته يتأهب لدخول الدار رأوا شخصاً
في هيئة شيخ جليل عليه طيلسان من صوف يقف بالباب فسألوه من يكون وماذا يريد
قال شيخ من أهل نجد رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم وعسى ألا يعدمكم منى رأى أو نصح
6

١٦٨
كان سكان نجد ينفى عنهم تهمة التحالف مع محمد فلم يروا مانعا من السماح
لهذا الشيخ الجليل بحضور مجلسهم فدخل خلفهم وبدأت المناقشة
الجماعة وقال قائلهم

بين
أعضاء
نحن نعلم جميعاً ما كان من هذا الرجل ومكائده وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فليبد كل منكم في حرية تامة ـ ما يرى وأجمعوا فيه رأيا
قال أبو البخترى احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا
به الموت فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأى والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثر وكم حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأى فانظروا في غيره قال الأسود بن ربيعة نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب
فقال الشيخ النجدى والله ما هذا برأى ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رأيا غير هذا قال أبو جهل والله إن فى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد

- وما هو يا أبا الحكم أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً جلداً حسيبا في قومه نسيباً ثم يعطى
كل في منهم
سيفا صارماً ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد
فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه بين القبائل جميعاً فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فيرضوا منا بالدية
فنعطيها لهم

١٦٩
قال الشيخ النجدى الذي لم يكن إلا إبليس في شخصية إنسان القول ما قال الرجل هذا هو الرأى لا رأى غيره أقرت الجماعة الغادرة هذا الرأى واعتقد المشركون - منذ إقراره – أنهم قد تخلصوا من عدوهم غير أن المشيئة الإلهية أخلفت ظنهم۱ فقد أرسل الله جبريل إلى رسوله يعرفه بمؤامرة دار الندوة ويأمره بالهجرة ويطلب إليه أن لا يبيت على فراشه الذي كان يبيت عليه كان بمنزل الرسول أمانات وضعها عنده المشركون لثقتهم في طهارته فأبت نفسه الهجرة قبل رد الأمانات إلى أهلها لذلك أتى بعلى المخلص الوفى وكلفه بردها بعد أن أخبره بنبأ دار الندوة وقال له
ه نم على فراشى وتسج ببردى هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
مضى الخزيع الأول من الليل والمؤتمرون خلف باب الرسول ليحولوا بينه وبين الهرب وأبو جهل معهم يشعل فيهم نار التحمس والحمية وكانوا على عهد بألا يقوموا بجريمتهم إلا إذا أشرق نور الفجر حتى لا ينكر أحد مساهمته متخذاً الظلمة ستاراً وجنة يتقى بها تكذيبه في دعواه هكذا قدروا غير أن من لا ينام كان يلحظ بعين الرعاية رسوله المحاط بالأعداء
فأخذ حفنة من تراب في
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلَا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بيْن أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمَنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُون وخرج رسول الله وكله ثقة في الله وإيمان بحمايته يده فنثرها على رءوس المؤتمرين وقد رزقت أجفانهم من طول الانتظار وأخذتهم سنة من النوم أرسلها الله عليهم فلم يروا شيئاً أنا هم آت - ممن لم يكن معهم - فقال من تنتظرون هنا
محمداً
۱ وفى هذا يقول الله تعالى
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُنْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ الأنفال ٣٠

۱۷۰
إن الله قد أنقذه ولقد لعب بكم وخرج من بينكم ثم ما ترك منكم
رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته ! ! وضع كل شخص يده - في رجفة - على رأسه فإذا عليه تراب اعتراهم الذهول ثم أخذوا ينظرون من خصاص الباب فرأوا علينا على الفراش متسجياً بيرد الرسول فاطمأنوا فلم يبرحوا مكانهم حتى أصبحوا حينئذ دفعوا الباب دفعة أتت عليه وهجموا - مصلتة سيوفهم - على على الذي أيقظته دفعة الباب فهب واقفاً فلما رأوا بهتوا وصاحوا به أين رفيقك
- لا أدرى فلما رأوا أنهم خدعوا قبضوا على على وسجنوه في الكعبة وبعد قليل رأوا من الحماقة أن يثأروا من محمد في شخص ابن أبي طالب فأطلقوا سراحه
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ

الفصل الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
هجرة الرسول إلى المدينة
هاجر المسلمون إلى يثرب فاستأذن أبو بكر رسول الله في الرحيل ولكنه قال له لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً وطمع أبو بكر أن يكون رسول الله إنما يعنى نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين سريعتين احتبسهما في داره يعلقهما
إعداداً لذلك الرحيل المنتظر
قالت عائشة
كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشيَّة حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم - في الهجرة والخروج من مكة أتانا بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها فلما رآه أبو بكر قال إنه لم يأت فى هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل تأخر له عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختى أسماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عنى
من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاى وما ذاك فداك أبي وأمي فقال إن الله قد أذن لي فى الخروج والهجرة فسأله أبو بكر في لهفة وتوسل الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ ثم إن أبى أنبأ الرسول بأمر ما أعده للسفر وكانت الراحلتان على أتم الاستعداد فدفعتا إلى عبد الله بن أرقط وكان على
۱۷۳

١٧٤
الرغم من إشراكه موضع ثقة أبي بكر المطلقة وكان على عبد الله بن أرقط أن يرعاهما ثلاثة أيام ثم يأتى بهما لميعاد بينه وبين أبى بكر إلى غار بجبل ثور وكان بأسفل مكة بينه وبينها ساعة ونصف سيراً ويقع على الطريق المؤدى إلى البحر ثم كان عليه أيضاً أن يهديهما الطريق حتى يثرب
کاهله
وخرج المهاجران خفية من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته فسارا على أطراف الأصابع متجهين نحو جبل ثور كان رسول الله يسير حافيا فلم تلبث الدماء أن سالت من قدمى الرسول وقد شجتها الصخور الحادة التي تكسو الطريق الوعر وفزع أبو بكر لما علم بدماء المصطفى وهى تسيل فحمله على حتى فوهة الغار حيث أجلسه ثم دخل وحده ليفتش في سائر الأركان حتى يستيقن من أن ليس هناك وحوش ضارية أو زواحف خبيثة ما كان ثم جمع في الغار من الأحجار والصخور المؤذية وحملها فى طرف ثوبه ورمى بها على جانب الطريق ثم عمد إلى الجحور التي من شأنها أن تخفى حيات أو حيوانات أخرى شريرة فسدها بخرق من ثيابه وبعد أن انتهى من توفير كل وسائل الراحة في الغار أدخل رسول الله الذى ما لبث أن استغرق في النوم مسنداً رأسه على
فخذ صاحبه
بيد أنه بالرغم من كل احذر أبي بكر تمكنت حية من الاختفاء تحت الرمل الذي كان يكسو الغار وفى حركة لاشعورية وضع الخليل رجله فوق الزاحفة فغضبت وأدارت رأسها مصفرة وأخذت تلدغه فى كعبه وأحس أبو بكر بألم مبرح ولكنه لم يحرك ساكناً خوفاً من إيقاظ الرسول الذي كان مستنداً إليه بيد أن السم الخبيث كان يسرى في عروقه وبلغ من شدة الألم أن انتزع من عينيه دموعاً غزيرة حارة وقع بعضها على خد محمد فانتشلته من نومه انتشالا وجعل يسأل حائراً ماذا بك يا خليلى قال لدغتى حية وكانت فرحة التضحية قد ملأت قلب أبى بكر حرارة وحماساً فتغلبت على شر السم الفتاك الذي كان قد بدأ يسرى في دمائه وتفل الرسول على الجرح المسموم ومسحه قليلا فزال الألم والتورم فى الحال ۱
۱ تريد هذه القصة أن تبين فى قوة حب أبي بكر للرسول وقد كان حباً حقيقياً وكان
قلب أبي بكر كله إيماناً وإخلاصاً وحب الله و رسوله ولعل القصة لا تريد أن تقول أكثر من ذلك

۱۷۵
أما القرشيون فقد ثارت ثائرتهم حينما علموا بهجرة محمد وأبى بكر فبعثوا بمناديين أحدهما أسفل مكة والآخر بأعلاها يناديان بأن قد جعلت مائة ناقة لمن يأتي بالهاربين فراح أشهر القافة يتقصون الآثار في كل ناحية
وهرع أبو جهل إلى بيت أبي بكر وطفق يضرب على الباب في غيظ فخرجت له أسماء أخت عائشة فقال لها أين أبوك قالت لا أدرى والله فرفع يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدها لطمة قاسية طرح منها قرطها ثم انصرف ولحق بجماعة من الفتيان يفتشون فى جبل ثور
ولم يكد الرسول يدخل الغار حتى شمله الله بعنايته فأمر بشجرة في قامة الرجل تسمى أم الغيلان وكانت تنمو قريباً من الغار فانتقلت حتى سدت فوهته وبعث إليه عنكبوتاً فجعلت تنسج شبكتها بين غصون الشجرة وزوايا الكهف وأمر بزوج من الحمام فعشش في فوهة الغار ووضعت الأنثى بيضها ۱ ولم يمض قليل وقت على ذلك حتى هل من كل جانب هؤلاء الباحثون المنقبون الذين طمعوا في الناقات المائة ولكنهم توقفوا حيارى أمام ذلك الغشاء الرقيق الذى نسجته أضعف الحشرات وجعلته عرضة للرياح تطوح أقل نسمة عندئذ قال
به
أمية بن خلف ه وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتاً كان قبل ميلاد محمد ولو دخل الغار لتمزق ذلك النسيج وتكسر البيض واعتقد الجميع أن ما قاله أمية هو الصواب فتولوا عن ذلك البحث الذي لا يجدى إلا أن أبا جهل تشكك فى الأمر وقال والله إلى لأحسبه قريباً يرانا ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا ولكنه انصرف معهم جميعاً دون أن يفكر أحد في تتبع آثار الأقدام التي تركها الهاربان في ذلك المكان وكان أبو بكر أثناء كل ذلك ترتعد فرائصه لا خوفاً على حياته بل على حياة رفيقه وكان يقول له ما أخشى ميتى فإنما هي ميتة رجل واحد أما موتك فهو موت كافة المؤمنين
1 وفى هذه المعجزة يقول المستشرق در منجم إن هذه الأمور الثلاثة هي وحدها المعجزة التي يروبها التاريخ الإسلامى الصحيح نسيج عنكبوت ووقوف حمامة ونماء شجيرة هذه هي الأعاجيب الثلاث وإن لها كل يوم فى أرض الله نظائر

١٧٦
لبث الرجلان في الغار زهاء ثلاثة أيام وثلاث ليال وكان عبد الله بن أبي بكر يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنمه بين غنم قريش ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار فيزودهما باللبن واللحم ثم يرجع بغنمه في الصباح فيمر على آثار عبد الله ليمحوها حتى إذا أتى اليوم الثالث وسكنت عنهما قريش أتاهما ابن أرقط فى ميعاده بالراحلتين وراحلة ثالثة له أما أسماء فقد أنت بأكياس من الزاد وتمت عدة الرحيل فدفع أبو بكر أحسن الناقتين إلى الرسول وحثه على الإسراع في الركوب فأجاب محمد
إني لا أركب بعيراً ليس لى فقال أبو بكر فهى لك يا رسول الله بأبي أنت وأمى قال لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به ه وتم الاتفاق على شراء الناقة فركبها الرسول وامتطى أبو بكر الأخرى وقد ركب في عجزها عامر بن فهيرة الخادم الأمين أما ابن أرقط فامتطى ناقته وأخذ يدل القافلة الصغيرة في الطريق الغربي ليثرب ذلك الطريق الذى يحاذى البحر فى بعض المواضع
قصة سراقة قال سراقة بن مالك فبينا أنا جالس فى نادى قومى يتحدثون في الحوادث الأخيرة وفي الجعل الذي وعد به من يأتى بمحمد إذ أقبل رجل من البادية حتى وقف علينا فقال " إنى رأيت ركبة ثلاثة بالسواحل أراهم محمداً وأصحابه “ فأومأت إليه بعينى أن اسكت ثم قلت بصوت مرتفع دون أن أبدى اهتماما
دو
ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلانا انطلقوا بمعرفتنا يتبعون ضالة لنا " ه ومكثت قليلا ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتي أن تخرج فرسى خفية إلى
بطن الوادى وأمرت عبداً لى أسود ذا قوة وجرأة أن يسوق بعيراً لى إلى هذا المكان وينتظرنى به ثم خرجت من باب خلف البيت منحنياً متخفياً وقد خططت بزج الرمح في الأرض لئلا يرى بريقه أحد وإنما فعلت ذلك كله لأفوز بالجعل ولا يشاركني فيه أحد حتى أتيت بطن الوادى فامتطيت بعيرى وأسرعت به في أثر الهاربين ومن ورائى العبد يقود الفرس فلما اقتربت من ضالتي امتطيت فرسی وتركت بعيرى بين يدى العبد وأمرته أن يسرع فى اللحاق بي وكانت الفرس لم

۱۷۷
تزل على أحسن حال لأنها لم تركب وكانت معروفة بسرعتها فبالغت في إجرائها ولكنها لم تلبث أن عثرت بى فوقعت لمنخريها ثم قامت تحمحم فخررت عنها فقمت فأهويت بيدى على كنانتي فاستخرجت الأزلام واستقسمت بها فخرج الذي أكره ۱ وكنت أرجو أن آخذ المائة ناقة فركبت فرسى وعصيت
الأزلام

ه وظللت أستحث الدابة حتى اقتربت بي من الهاربين وسمعت قراءة الرسول وهو لا يلتفت لصوت فرسى وأبو بكر يكثر الالتفات وقد تملكه القلق الشديد ولم تكن بيني وبينهم إلا مسافة قصيرة بيد أن فرسى غابت رجلاها فجأة في الأرض على الرغم من صلابتها فى المكان فخررت من فوقها لساعتي فرحت ألعنها في حنق وأزجرها لتنهض ولكنها لم تزد بجهودها إلا إيغالا في الرمال حتى غاصت لبطنها وخرج من مكانها غبار في السماء مثل الدخان فتملكنى الذعر واستقسمت بالأزلام فخرج الذى أكره فعرفت حين رأيت ذلك أن عذاب الله سيحل بي إذا تماديت في غيي فناديت قائلا يا محمد إنى أطلب منك الأمان ولأخبرنك بما ينفعك ولأردن عنك من يتبعونك ولكن ادع الله أن
يطلق فرسى
فرفع محمد يديه إلى السماء قائلا اللهم إن كان سراقة صادقاً فأطلق دابته وعندئذ انفرجت الأرض فانطلقت الفرس فركبتها ولحقت بهما وعرضت عليهما زادى وسلاحي فرفضا أن يأخذا شيئا من يدى مشرك وطلبا منى الانصراف ولكنى أيقنت مما رأيت بفوز محمد النهائى فطلبت منه كتاباً يكون أمانا بيني وبينه فكتب أبو بكر كتاباً أملاه الرسول على قطعة جلد وأخذته وكان من شأنه أن أنقذ حياتى فيما بعد في غزوة الطائف ورجعت على أعقابي فأخبرت عبدى وسائر أهل مكة الذين عرفوا غرضى بأنى لم أعثر على شيء وأخذت ألعن
تلك الأخبار التي أتى بها البدوى والتى جشمتى تلك الرحلة المتعبة الحمقاء
1 كان العرب إذا أرادوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي والثالث غفل فإن خرج الأول مضوا على ذلك وإن خرج الثاني تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجالوها ثانياً ومعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة ما قسم لهم

۱۷۸
وصول الرسول إلى قباء ٢٨ يونية سنة ٦٢٢ م
بفضل السرعة العجيبة التى بها تنتشر الأخبار في بلاد العرب لم يلبث مسلمو
يثرب أن علموا بهجرة الرسول واعتزامه الإقامة بينهم
قال أحدهم نارى الرمال تتخلله الصخور الحادة يمتد إلى الجنوب الغربي للمدينة وكنا
كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا سهل منبسط
ننتظر رسول الله فوالله ما كنا نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال
وفى يوم من تلك الأيام الحارة رجعنا إلى البيوت بعد انتظار طويل فإذا برجل من اليهود عرف بحدة بصره يكشف من أعلى أطم ۱ قافلة صغيرة مكونة من قليل من الإبل تحمل أشخاصاً قد ارتدوا ثياباً بيضاء يظهرهم السراب تارة ويخفيهم تارة أخرى فعرف الرجل فى القادمين رسول الله ورفاقه فاتجه إلى المدينة وصاح بأعلى صوته يا معشر العرب هذا حظكم الذي تنتظرون فاستيقظنا من غفوتنا وسارعنا إلى القادمين فلاقيناهم قد حطوا الرحال في ظل نخلة منفردة غير بعيدة من واحة قباء كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يجلسان في ظل هذه النخلة ولكن أكثرنا لم يكن شاهد الرسول من قبل وزاد من حيرتنا أن الاثنين كانا في نفس السن فلم ندر إلى أيهما نتوجه ولكننا شاهدنا الظل يزول عن أحدهما فيقوم الآخر ويظل صاحبه بردائه وعندئذ زالت حيرتنا وعرفنا الرسول
وأقبل بنو عمرو بن عوف بدورهم وقد تملكهم الفرح وكانوا يملكون بلدة قباء فدعوا الضيف العظيم الذى أرسله الله لهم فنزل النبي على كلثوم ابن هدم ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بينما أقام باقى المهاجرين في بيت سعد بن خيثمة الذى لم يكن قد تزوج وقتئذ
التاريخ الهجرى كانت نهاية هذه الرحلة الموفقة ظهر يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول واشتهرت السنة التي رحل فيها الرسول باسم سنة الهجرة واتخذها المسلمون بدءاً لتأريخهم وهي توافق سنة ٦٢٢ م
1 أعلم المحل المرتفع

۱۷۹
عرب
أنه
وقد تعجب لأول وهلة لذلك الاختيار ولكن دهشتنا تزول إذا ما علمنا أنه لم يكن في حياة الرسول حادث أعظم شأناً وأجل أثراً في ذيوع الإسلام وانتشاره بين ربوع العالم من حادث الهجرة فلو لبث محمد بمكة حتى ولو كتب له في النهاية الانتصار على أعدائه لمكث الإسلام فيها معه إذ لا شك في أن الجزيرة جميعها كانوا يندفعون إلى الاتحاد ويحاولون منع الدين الجديد من اجتياز حدود مكة المكرمة خشية أن يزيد انتشار الإسلام في عزة قريش على حين ستهل على الرسول وقد غرس في مكة جذور دعوته رغم العداوات أن يرجع إلى موطنه بعد أن تشيع له العرب الآخرون إن هذا ليدل في وضوح على مقدار خفاء الأقدار وعلى مقدار عجزنا عن كشف مساتير العناية الإلهية وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم فلو أن الرسول لم يؤذه مواطنوه ولم يخرجه قومه لما استطاع أن يؤدى رسالته العالمية ولما سطح فور الإسلام على وجه المعمورة
وأقام الرسول بقباء أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس ولحق به على وقد رد ما اؤتمن عليه من ودائع وقطع الطريق بين مكة والمدينة ماشياً ليل نهار حتى تشققت قدماه فعانقه محمد في حرارة وضمد جراحه بيده المباركة وأجلسه إلى جنبه في بيت كلثوم
ثم عمل الرسول على إنشاء مسجد ـ هو أول مسجد أقيم في الإسلام وقد
أكمله عمار بن ياسر وقد سمى المسجد باسم مسجد التقوى وفيه نزلت الآية و لَمَسْجِدٌ أَسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنَ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فيه رجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهرُوا والله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرينَ
[ سورة التوبة آية ١٩٨]
الرسول يصل إلى يثرب ورغم إلحاح بني عمرو الذين أرادوا أن يستمر محمد في ديارهم فقد رحل عنهم الرسول في صبيحة الجمعة ممتطياً ناقته التى ابتاعها من أبي بكر والتي عرفت
يوم
بالقصواء وقد تبعته جموع غفيرة من الناس ما بين مترجل وراكب وتسابق الصحابة في التشرف بإمساك خطام دابته

۱۸۰
وفاجأته ساعة الصلاة وهو يمر بأرض بني سالم بن عوف فترجل ولأول مرة قام بصلاة الجمعة فى دار الهجرة وقد أمّ جموع المؤمنين الذين اصطفوا وراءه خاشعين وانتهت الصلاة فالتفت إلى المسلمين يعظهم ثم اعتلى ناقته ودخل
يثرب دخول المنتصر يحف به الشعب الذى ثار في نفسه حماس منتقد وفوق السطوح اجتمعت ربات الخدور كأنهن فى ثيابهن الفاتنة الألوان طيور جذابة حطت فوق الصخور وأخذن يغنين فى صوت شجي ساحر يفصح
عن التأثر العميق
طلع البدر
علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر
علينا
ما دعا الله داع
أيها المبعوث
فينا جئت بالأمر المطاع
وكان الرسول أينما سار سواء فى حى بنى بياضة أو بني ساعدة أو بني الحارث أو بنى عدى يقابله وفد من أشراف القوم ويمسكون بخطام ناقته قائلين أقم عندنا يا رسول الله في العدد والعزة والمنعة
D

فيقول خلوا سبيل الناقة ودعوها فإنها مأمورة ثم يبتسم في عطف و يقول بارك الله فيكم وكان قد أرخى الزمام لها فسارت وقد ارتفع عنقها الطويل فوق جموع المؤمنين وظل رأسها يلتفت يمنة ويسرة كأنها تبحث بعينيها الواسعتين اللتين تظلهما أهداب طويلة عن المكان الذي حددته العناية الإلهية و بعد تردد ولف كثير توسمت أرضاً خالية وبركت فيها فلم ينزل عنها الرسول فوثبت وسارت غير بعيد في تردد وحيرة ثم التفتت خلفها وقد قوى عزمها فرجعت إلى مبركها وبركت فيه من جديد في تمكن واسترخاء وصوتت دون أن تفتح فاها فنزل عنها الرسول قائلا رَبِّ أَنزَلْنى مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْت خَيْرُ المنزلينَ وكانت هذه الأرض الخالية مربداً ۱ لبنى النجار لا يبعد كثيراً عن بيت أبي أيوب الأنصارى الذى أضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل رحله إلى بيته وأحس الرسول في ذلك البيت أنه تخلص وقتياً من مظاهر الحفاوة البالغة وراح الشبان والعبيد
۱ المربد الموضع الذي يجذف فيه التمر

۱۸۱
يصيحون في كل حي وفى أرجاء المدينة جاء محمد جاء محمد نزل جميع الرسول بمدينتنا ومنذ ذلك اليوم المشهود ويثرب تعرف بمدينة النبي أو بالمدينة المنورة اختصاراً
بناء مسجد المدينة
كان أول ما شغل الرسول عندما قدم المدينة أن يقيم بها مسجداً وبحث عن أصحاب الأرض التى بركت فيها الناقة فقيل له إنها لأخوين يتيمين هما سهل وسهيل وقد كانا تحت وصاية معاذ يرغبان فيه فقالا لا نطلب ثمناً لها إلا ثواباً من الله ولكن الرسول لم يقبل تلك الهبة وحدد الثمن بعشرة دنانير قدمها أبو بكر الذي كان قد استقدم كل
أمواله من مكة
بن عفراء
6
فسألهما عن الثمن الذي
6
وشرع المؤمنون فى العمل فوراً بإرشاد الرسول فطهروا أرض المربد وكانت بها أسوار متهدمة وبعض القبور المهجورة ونخلة ثم مهدوا للبناء بتسوية الأرض ولما أرادوا إقامة الأساس تناول الرسول حجراً كبيراً ليحمله إليها فالتصق الغبار بصدره الشريف فأراد أصحابه أن يمنعوه ولكنه قال لأبي بكر بل ضع حجرك إلى جنب حجرى ثم أمر عمر أن يضع حجره بجانب حجر أبي بكر وجاء أشراف المسلمين واحداً واحداً كل يضع حجره في هذا البناء ولما بلغ ارتفاع البناء الحجرى ثلث الارتفاع المقدر جعل المؤمنون يضعون اللبنات اللازمة لإكماله وداوم الرسول على خطته فجعل يشجع العمال ويضرب لهم نفسه مثلا فيحمل اللبنات فى ثوبه ولاحظ ذات مرة أن أحد العمال يحمل ضعف حمل الرجل فجعل يمسح برأسه في رفق قائلا للناس أجر ولك أجران حماساً والتهب الجميع وراح البناة ينشدون الشعر الذي يعبر عن آمالهم كى تتزن حركاتهم فيسرع عملهم ولما ارتفعت الحيطان إلى سبعة أذرع سقفها المؤمنون بجذوع النخل المغطاة بالسعف والجريد ثم صبوا فوق ذلك طبقة من الطين تمنع المطر وأسند العرش من الداخل بجذوع النخيل وفرشت الأرض بالرمل
من
الناعم
وبلغ طول البناء مائة ذراع أما عرضه فيقل عن ذلك قليلا وفتحت فيه

JAY
ثلاثة أبواب عرف أكبرها بباب الرحمة أما المنبر فكان من جذوع النخيل يعتليه الرسول وقت الخطبة فما أعظم الفارق بين المسجد الأول الشبيه بمساجد القرى الصغيرة الصحراوية وبين الأبنية السامقة التي لم تلبث أن أقيمت لأداء شعائر الإسلام وفى الوقت نفسه أقام محمد بناء بيتين من الطين الحجرات لاصقين بالمسجد ليسكن فيهما مع أسرته التي بعث زيداً متبناه في طلبها من مكة فلما تم بناء

هذين المنزلين انتقل إليهما من بيت أبي أيوب وما لبث أن لحقت به أسرته أما المهاجرون فقد أضافهم الأنصار الكرام الذين اقتسموهم بينهم فعاد كل منهم فخوراً بضيفه الذي بعث القدر به إليه وقد تأثر محمد تأثراً عظيماً لذلك الاستقبال الأخوى الذي حظى به المهاجرون لدى هؤلاء الأتباع الجدد ولكن بصيرته النفاذة إلى ما تنطوى عليه النفوس جعلته يعمل على توثيق رباط تلك الصداقة المؤثرة كى تستطيع مقاومة روح التنافس تلك الروح التي لا بد أن تنشأ يوماً بين المهاجرين الذين ضحوا بوطنهم وبأسرهم وثروتهم وبكل شيء ليتبعوا النبي وبين الأنصار الذين آووه ونصروه أليس لكل فريق حقوقه وحججه في المطالبة بالمكان الأول من عطف الرسول وبالصدارة في الإسلام وفى سبيل درء تلك الاحتمالات الخطيرة وفى سبيل تكوين أسر حقيقية للمهاجرين انتهز محمد فرصة الحماس الذى لا تشوبه شائبة الذي جمع بقوة بين المهاجرين والأنصار ليقرر بينهم أخوة كاملة وتم له ما أراد فآخى بين المهاجرين والأنصار اثنين اثنين وقال لهم تآخوا في الله أخوين أخوين ومنذ ذلك اليوم أصبح كل مدنى له أخ مكى
ومن
العبث أن نحاول التعبير بالألفاظ عن مقدار ما وصلت إليه من الإخلاص والسمو تلك الأخوة في الله تلك الأخوة التى فاقت أخوة الدم لأنها دينية سماوية فكل تلك القلوب التى تآخت فى حب الله لم تعد إلا قلباً واحداً قوياً يخفق في صدور عديدة كان كل أخ يحب لأخيه أكثر مما يحب لنفسه وقد رأينا في أوائل أيام الهجرة أن الذين يموتون إنما يرثهم إخوانهم دون أهلهم وورثتهم من
النسب
ومن بين تلك الأسر الأخوية نذكر على الأخص أخوة أبي بكر وحارجة

۱۸۳
ابن زيد ثم أخوة عمر وعتبان بن مالك ثم أخوة عثمان بن عفان وابن النجار وأخوة أبي عبيدة وسعد بن معاذ وقد اختار الرسول أن يكون على بن أبي طالب أخاه فثبت بذلك هذا التآخى الذى أعلنه في أوائل بعثته ولكن عليا كان من المهاجرين فخشى الرسول أن يغضب الأنصار لأنه لم يختر أخاه فلما منهم مات أسعد بن زرارة وكان من نقباء الأنصار شغل الرسول مكانه بحجة أنه منهم وذلك لأن خاله كان يقطن المدينة
وهكذا بفضل فهمه للنفسية الإنسانية وبفضل سياسته البارعة توصل محمد إلى نتيجة عظيمة الخطر لم يكد يدخل المدينة حتى كف الخزرج والأوس عن حروبهم الداخلية الدامية كفوا عنها وكأنه قد مسهم بعصاه السحرية فجعل من أهل المدينة إخوة وكانوا أحزاباً متنافسه
القبلة

كان الرسول في أول عهده بالرسالة يترك للمؤمنين حرية اختيار قبلتهم في الصلاة وذلك لأن
و اللَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَعْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ
[ سورة البقرة ١١٥]
وبينما الرسول يوشك أن يتم مسجده الأول إذ أحس بمقدار التسامى والجمال
الذي سوف تصل إليه الصلوات إذا ما اتجهت القلوب كلها نحو وجهة واحدة فاتحدت النفوس في مثل أعلى واحد نشأ عن ذلك الاتجاه الواحد لذا عمد إلى قالب مصنوع من الحجر والطين ووضعه ملاصقاً للحائط الشمالي من المبنى وبه عين القبلة الأولى وكانت بيت المقدس ولكن الوحى أمر بأن تكون القبلة
مكة
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةٌ تَرْضاها فَوَل وَجْهكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثُ مَا كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطْرَهُ
[ سورة البقرة ١٤٤]
ومنذ ذلك اليوم ومكة هى القبلة الثابتة لجميع مسلمى العالم

١٨٤
الأذان
الصلاة الجامعة هي بلا شك أكثر الصلاة نفعاً وفيها يسرى الإخلاص والتحمس من روح كل مسلم إلى روح جاره ولقد قال عنها الرسول إنها تعدل الصلاة المنفردة سبعاً وعشرين مرة فمن المهم إذن والأمر كذلك جمع كل المؤمنين في وقت محدد خمس مرات في اليوم
ولكن كيف يعلنون الوقت المحدد لاجتماعهم لأن أكثرهم متناثرون في كل أحياء المدينة فيصل بعضهم مبكراً ويصل البعض الآخر متأخراً فاجتمع مجلس من رءوس المسلمين للتشاور في الأمر فنصح بعضهم بإشعال نار تضىء فوق علم وتجعل كإشارة للاجتماع واقترح بعضهم أن يستعمل بوق كبير ورأى آخرون أن خير وسيلة هي دق النواقيس ولكنهم عدلوا عن كل تلك الاقتراحات لأنها كانت تشبها بغيرهم من الفرص أو اليهود أو من المسيحيين
م كذلك إذ أقبل عليهم عبد الله بن زيد فحكى لهم رؤيا رآها في الليلة
و بينما هم د
السابقة
مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت له يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس قال وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على خير من ذلك أن تشهد شهادة الإسلام
وفطن الرسول إلى ما للصوت الإنسانى من تأثير يبعث العاطفة ويفوق تأثير أجمل الآلات المعدنية فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتاً منك
فقام بلال العبد المحرر يؤدي مهمته فيجمع للصلاة المسلمين على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم وعمد إلى سطح المسجد فصدح منه بذلك النداء الصادر من أعماق الروح الإسلامية

الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله

١٨٥
كانت هذه الكلمات خارجة من فم بلال فى قوة وانسجام كأنها المياه المعطرة تسيل من إبريق نفيس وكانت تنتشر في جميع أرجاء المدينة منسابة داخل المساكن وكان المؤمنون يأتون سراعاً أفواجا أفواجا ليتنسموا في لذة طيب الصلاة المنعش
ومنذ ذلك الحين من أعلى المنارات المرتفعة الرشيقة في جميع بقاع العالم يدعو المؤذن للصلاة خمس مرات فى اليوم
صوم رمضان
بعد
أن اختار محمد الأذان نداء للصلاة أخذ وهو في مستهل عهده بالمدينة -
في تحديد الفروض الدينية لقد كان عادته أن من
بما يأتي
يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فنزل عليه الوحى
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُريدُ اللهُ بكم الْيُسْرَ وَلا يريد بِكُم الْعُسْرَ
ولِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّى فَإِنِّي قريب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أحِلَّ لَكُمْ ليلةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلى نِسَائِكُم هُنَّ لِبَاسٌ لَكُم وَأَنتُمْ لباسسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُم كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفَا فالآنَ باشِرُوهُنَّ وَابتغوا ما كتب الله لكم وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتبَيَّنَ لكم الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ وَلا تُباشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِه للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *
عَنْكم
البقرة ١٨٥ - ١٨٧]
C

١٨٦
بهذه الآيات فرض صوم رمضان وكانت نتيجة هذه الفريضة الخير الكثير ذلك أن الإنسان - وهو مجبول على الأنانية – يبحث عن كل ما يلذ له ماديا ويتجنب كل ما من شأنه أن يكون من حظ الفقراء الضعفاء وليس هناك من علاج لهذه الأنانية سوى الشعور القوى ببؤس الآخرين من جوع
وظماً

والمؤمنون – وقد تخففوا من ثقل الطعام - يجتمعون أثناء النهار فيتزودون بالغذاء الروحي الذي تحمله إليهم صلواتهم وإن شوقهم إليه لأشد من شوقهم إلى الغذاء المادى
ومع

ذلك فإن الإنسان في جو المدينة الملتهب يشعر شعوراً قاسيا بألم الظمأ أثناء أيام الصيف التى لا تكاد تنتهى وإن بعض المؤمنين – وقد جفت حناجرهم ظمأ - ليلهثون ويوشكون أن يقطعوا صومهم عند منظر الماء البلورى الصافي يسيل من السواقى ينساب فى صوت خافت مغر ولكنهم ينظرون إلى إخوانهم ذوى العزيمة القوية فتعود إليهم شجاعتهم ويواصلون صومهم وتتقوى بهذه الرياضة الروحية أواصر الأخوة بينهم وينتصر المؤمنون متعاونين على هذا العدو الشرس أعنى الجوع والظمأ فيصبحون أكثر استعداداً وأوثق تعاوناً لمجابهة أشد أعدائهم مراساً من بني البشر
ويستمر المهاجرون والأنصار على هذا الوضع ثلاثين يوماً دون تألم أو ضجر بل في تحمس متزايد ثم ها هو ذلكم الهلال يوشك أن يرى فتمتلى سطوح المنازل وتكتظ قمم الآكام بالمؤمنين لرؤيته ها هو ذا قرص الشمس الذهبي يختفى وراء الأمواج الزرقاء في آفاق الصحراء البعيدة فتتطلع الأعين قلقة باحثة في أعماق السماء الصافية كأنها الزمرد وفجأة فى الثلث الأسفل من القبة الزرقاء يرتسم

قوس فضى دقيق إنه الهلال فتتنفس الصدور فى عمق متنهدة كأن سهاماً خفية سددت إليها صادرة عن هذا القوس ولكنه ليس تنهد فرح يصدر عن هؤلاء المؤمنين بل تنهد أسف على انقضاء شهر الصوم في سرعة سريعة إن هذا الصوم تضحية بسيطة تقدم شكراً لمانح النعم وهذا الاختيار الديني

۱۸۷
التعبدي يحيى الأرواح ويقوى الأجسام ولأجل أن يعبر المؤمنون الصحراوات الرهيبة التي تحيط بهم لفتح العالم كي تكون كلمة الله هي العليا كان لا بد لهم من هذا التدريب الذي يعتبر هينا بالنسبة لما سيلاقونه من الشدائد في فتوحاتهم ولما قدر المؤمنون نعمة الغذاء بعد الحرمان حق قدرها فرض الله عليهم زكاة الفطر وهي حق معلوم في مال الأثرياء للفقراء
الزكاة وتحريم الخمر
ولما كانت تغذية الفقراء يوماً واحداً فى العام وذلك عقب الصيام لا تكفى فرض الله - تعالى - زكاة الأموال وهى جزء ميسور يؤخذ من أموال الأغنياء ويعطى للفقراء وبذلك يضمن المجتمع الحياة لهم هذه الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام الخمسة تجبى على الثروة الثابتة وعلى الدخل سواء كان ذلك ذهباً أو فضة أو أنعاماً أو فواكه أو زرعاً فيؤخذ جزءة من ذلك يتراوح بين العشر وربع العشر معونة للفقراء كل عام ويجب أن يعطى في رقة بالغة وفى تواضع تام
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنُ وَالأَذَى كالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ ربَّاءَ ۱ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ۳ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ٤ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِين
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَل جَنَّةٍ بِرَبوَةٍ ٦ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَاتَتْ أَكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل ۷ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
۱ مراتياً لهم ۳ مطر شدید
[ سورة البقرة ٢٦٤ - ٢٦٥ ]
حجر أملس
٤ صلباً أملس لا شيء عليه
0 عملوا أى لا يجدون له ثواباً في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان
عليه لإذهاب المطر له
۷ مطر خفيف
1 مكان مرتفع

۱۸۸
إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ غَيْرُ لَكُمْ وَيُكَفِّرْ عَنْكُم مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[ سورة البقرة ٢٧١ ]
للْفَقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا ۱ في سبيل اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَليم

[ سورة البقرة ٢٧٣ ]
لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ
الله به عليم
[ سورة آل عمران ۹ ]
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمَؤلَّفَةِ قُلُوبهمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةٌ مِنَ اللهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[ سورة التوبة ٦٠ ]
بهذه الآيات فرضت الزكاه ومعناها الحرفى التطهير أى تطهير الثروة
وجعلها طيبة مقبولة
ولما كان للخمر تأثير هدام على العالم حرمها الله تحريما باتا ٢ وقد نزل على الرسول - صلى الله عليه عليه وسلم - أولا الآية التالية
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
۱ حبسوا أنفسهم على الجهاد
[ سورة البقرة ٢٠٩ ]
الخمر ذلك هو الداء الفتاك وهو أحد الأمراض الاجتماعية الوبيلة في عصرنا الحاضر على أن محمداً هو الشخص الوحيد الذى أحس بالأثر السيء الشديد للخمر في النفوس فحاربه حتى حرمه تحريماً تاماً وقد فاز في ذلك فوزاً كبيراً

۱۸۹
عند ذلك ترك بعض المؤمنين استعمال الخمر ولم يجد الآخرون العزيمة القوية
على تركها فنزل الوحي ثانياً بالإنذار التالي
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَموا
مَا تَقُولُون
[ سورة النساء ٤٣ ]
وقد كان على سبباً في نزول هذه الآية فقد أكثر ذات يوم من الشرب ولما حان وقت الصلاة قرأ يا أيها الكافرون نعبد ما تعبدون بدل أن يقرأ

قلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
ثم نزل التحريم صريحا رادعا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ
رجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
=

[ سورة المائدة ٩٠ ]
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَان أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة وَالبَغْضَاءَ فِي الخمر
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرِ وَالمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عمل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُوقِع بَيْنَكُمُ الْعَدَوَاةَ والْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهون
[ سورة المائدة ]
نعم إن من المسلمين من لم يعمل بذلك فهو يخالف الدين في تحريم الخمر تحريماً قاطعاً غير أن الكثيرين من هؤلاء قد تركوها ثم تابوا وأنابوا وهم لم يفعلوا ذلك إلا بتأثير الدين نفسه و بما جاء فيه من النهي عن الخمر والأمر بالتحريم في حين أننا لم نسمع أن أحداً من المسيحيين الذين يدمنون الخمر قد تركها أو رجع عنها
كل والحصان الأناجيل المسيحية فذكرت أن الم يتم في الفلاح لا انا ملا من النبيذ ستة من قدر الماء تسع كل منها يقرب من سبعين إلى تسعين ! مكيالنا الحاضر
كما أن الكنيسة قد جعلت مونيك الإفريقية في عداد القديسات مع أنها كانت من مدمنات الخمر كما ذكر عنها ذلك ولدها نفسه القديس أوغسطين فى اعترافات الدكتور بينيه سنجليه في كتابه " جنون يسوع عن أشعة خاصة بنور الإسلام

19
وَالْميسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْر اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ

وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
"
[ سورة المائدة ۹۱ - ۹ ]
بناء الرسول بعائشة
لقد بلغت عائشة حدا من الظرف والذكاء والثقافة لا يكاد يضارع ولم يكن
الرسول إذ ذاك قد دخل بها

وتحدثنا عائشة بقصتها فتقول
D
مع
و دعتنى أمى ذات يوم وكنت في أرجوحة ألعب صاحباتي فلبیت نداءها دون أن أعرف ما تريد فأخذتنى من يدى تقودنى حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن نفسى فمسحت وجهي ورأسي بشيء من الماء ثم أدخلتنى الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فأسلمتنى إليهن وأصلحت من شأنى يوما إن انتهين حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجأة
عداوة اليهود والمشركين

في مبدأ الإسلام تأثر بعض اليهود بما فى الإسلام من روعة وبما فيه من حجج مستقيمة فأسلموا على يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء العالمان مخيريق وعبد الله بن سلام
معبدهم
أما الآخرون فإنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجه في صلاته إلى هيكل سليمان جدهم العظيم أرضى ذلك كبرياءهم واعتقدوا أ أن أسمى بكثير من معبد مكة واعتقدوا من حراء ذلك أن الجنس اليهودي يتفوق تفوقاً عظيماً على الجنس العربي ولما أمر الله رسوله أن يولى وجهه شطر المسجد الحرام انقلبوا على أعقابهم
مغيظين ثم إنهم - فضلا عن ذلك - لم يلبثوا أن شعروا بأن مجيء محمد إلى المدينة كان مضراً بمنافعهم الانتهازية فالفضل يرجع إلى محمد في إعادة السلام والصفاء إلى الأوس والخزرج وقد كان اختلافهما فيما مضى يعتبر من الفرص الطيبة بالنسبة

۱۹۱

لليهود على أن هذا الرسول الذى بشرت به كتبهم والذي كانوا يعلقون عليه آمالا واسعة والذي يعرفونه إذ ذاك كما يعرفون أبناءهم هذا الرسول لم يكن من ذرية آبائهم وأجدادهم إنه من ولد إسماعيل وها هو ذا يحمل سراج الإسلام المنير فحاولوا بكل ما أوتوا من وسائل أن يطفئوا نور الله ولكنهم رأوا أنهم أضعف من أن يقفوا أمام تيار الإسلام فحاولوا أن يثيروا
الخلافات بين عرب المدينة ووجدوا عوناً قيماً من بعض أشراف المدينة كان بعض أشراف المدينة ضيق النفس لما أتى به القرآن من مبادئ المساواة وكانوا يعتقدون - فى جاهليتهم العمياء - أ أن من الضعة أن يقفوا على قدم المساواة مع من كانوا يحتقر ونهم من الفقراء والمساكين هؤلاء الأعداء الجدد الذين سموا فيما بعد بالمنافقين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويختلطون بالمسلمين المخلصين فيعرفون أسرارهم ويبلغونها – مقابل أجر – لليهود
والمشركين
الجهاد

شعر الرسول حينئذ أنه لا بد من الالتجاء - وفى سرعة – إلى السيف لانتصار الإيمان هذا الانتصار الذى لم تتوطد أركانه إلا بعد فتح مكة حيث الكعبة المقدسة عند العرب ولقد تلقى الرسول الوحى باستعمال السيف في جهاده ضد الوثنيين وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله
6
وقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتلونكم لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ لَيَقْتُموهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ من حَيْثُ
أخرَجُوكُم
تلاك
البقرة ۱۹۰ - ۱۹۱ ]
هی الآيات التي فرضت الجهاد والتى أثارت من جانب المسيحيين
عاصفة من النقد
بيد أن المسيح نفسه وهو سيدنا وسيد المسيحيين يعلن لا تظنوا أنى جئت أنشر السلام على الأرض إنني لم آت أحمل السلام وإنما السيف إنجيل متى الإصحاح العاشر ٣٤

۱۹
إني جئت لألقى النار على الأرض وماذا أريد من ذلك إلا اشتعالها
إنجيل لوقا الإصحاح الثاني عشر ٤٩ وإذا كان الجهاد من أجل نصرة الحق على الوثنية قد أثار أثناء بضع سنوات الاختلاف في أسر مواطنى الجزيرة فما ظنك بكلمات عيسى وهى الآمرة بالاختلاف أمراً ألم تستتبع نتائج مفزعة لدى كل الطوائف المسيحية أثناء عصور متطاولة
إذ أنى جئت لأفرق بين الولد وأبيه والبنت وأمها وبين زوجة الابن وأمه
إنجيل متى الإصحاح العاشر ٣٥ إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً إنجيل لوقا الإصحاح
الرابع عشر ٢٦
على أن الجهاد لم يشرع من أجل أعداء الدين فحسب وإنما شرع أيضا ضد هذا العدو الغادر الذى يحمله الإنسان بين جوانحه وفى ذلك يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم - ما معناه إن الجهاد حقاً هو جهاد النفس لقد صبر محمد طويلا وصبر المؤمنون معه كذلك حقبة طويلة على إيذاء المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم بعد أن أذاقوهم فيها أليم العذاب فرأى مؤيدين بالقرآن - أن لهم الحق في استعمال السيف
المسلمون
أنفسهم

دفاعاً
عن
كان موقع المدينة يساعدهم على النصر ذلك لأنها تسيطر على كل الطرق
التي تمر بها القوافل إلى سوريا وكانت التجارة المورد الوحيد بمكة المحوطة بواد غير ذي زرع فإذا ما منع الرسول هذه القوافل فلا بد من أ أن المجاعة ستسود هذه البلدة الجاحدة وتضطرها إلى الإتيان خاضعة للرسول دون أن يلجأ إلى إراقة دماء قومه المكيين الذين كان يحافظ عليهم رغم إيذائهم له والذين كان يود لهم الخير أملا فى أن يهتدوا يوماً فيكون منهم الأساس الإسلامي الوطيد عندئذ بدأت السلسلة الطويلة من السرايا والغزوات والفرق بينهما أن الغزوة كان يقودها الرسول بنفسه وأن السرية كان يقودها أحد أتباعه وسنتحدث هنا عن
6

۱۹۳
أهم الغزوات فحسب تاركين كل ما تعتبر أهميته أمراً ثانوياً ومن أجل ذلك
سنبدأ مباشرة بغزوة بدر الشهيرة
غزوة بدر سنة ٢ ه ٦٢٤ م
ألف المكيون قافلة غاية فى الأهمية يسير فيها ألف جمل مثقلة بالتجارة إلى سوريا حيث تعود محملة بأنفس البضائع وأثمنها فأتيحت بذلك الفرصة التي كان ينتظرها الرسول فلو أن الرسول تمكن من الاستيلاء على هذه القافلة لقضى ـ في سرعة سريعة - على هؤلاء الذين نفوه ولتجنب إراقة الدماء إذ أن حامية القافلة لم تكن تزيد على أربعين رجلا وهؤلاء وقد رأوا أنفسهم أنهم أضعف من أن يقاوموا - كانوا يضطرون للتسليم ولكنه لم يدرك القافلة فعزم على أن يغير عليها فى العودة وترك أحد أتباعه ليرقب الطريق وذات يوم جاء هذا الشخص يعلن أن القافلة على وشك أن تمر بمحاذاة المدينة سائرة في طريقها العادى بين الجبل والبحر

فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إليها دون تفرقة بينهم ولبى المسلمون النداء فبلغ عددهم أكثر من ثلثمائة وكلهم رغبة في أن يذيقوا المشركين مثل ما أذاقوهم من عذاب كان في هذه الحملة ثلاثة وسبعون من المهاجرين ومائتان وأربعون من الأنصار وكانت الإبل يومئذ سبعين بعيراً تحمل الماء والزاد ويتعقبها المشاة ولم يكن معهم سوى أربعة أفراس منها فرس لمرثد يقال له السيل وفرس الزبير يسمى اليعسوب وكانوا يقودون هذه الأفراس دون أن يركبوها وذلك لإعدادها مستريحة ليوم النزال ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواء إلى مصعب العبدرى أما لواء الأنصار فقد حمله سعد بن معاذ
على أن تهيئة مثل هذا العدد الكبير لا يمكن - للأسف – أن تبقى سرية ولقد لاحظ المنافقون واليهود كل الخطوات التي قام بها محمد لقد أحسوا بما يعده وأحسوا بالهدف الذى يسعى للوصول إليه فأرسلوا رسلهم إلى أبي سفيان رئيس القافلة ينبئونه بالخطر الذي يتهدده فأرسل إلى مكة ضمضم بن عمر و الغفاري

١٩٤
وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ووعده بجائزة قيمة إذا أسرع إنقاذاً
للقافلة
كان المكيون قد ساهموا جميعاً كل بحسب ثرائه في تجهيز هذه القافلة التجارية العظيمة وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر عودتها وينعمون مقدماً بالآمال العذبة فيما ستدره عليهم من ربح عظيم وكانوا يخرجون جماعات في كل ساعة من النهار إلى أبواب مكة يمدون أعينهم إلى بطون الوادى الذي يشقه طريق سوريا على أمل أن يروا بعض رسل القافلة
وذات

يوم رأوا عن بعد رجلا على ناقته الضامرة السريعة يسير فى اتجاههم وحينما قرب بحيث يميزون منظره ومنظر ناقته بلغت بهم الدهشة حدا عظيماً كان ذلك الشخص هو ضمضم قد شق قميصه وشق أنف بعيره وقطع أذنيه وحول رحله وما إن قرب منهم متعباً مجهداً لاهنا حتى أخذ يصرخ
یا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ١
وأسرع القريشيون يحيطون به تنهال عليه الأسئلة من كل جهة فما كاد
<
يستفيق حتى قال لهم أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث فامتلؤوا غيظاً وغضباً لقد كانوا منذ
لحظات يسعدون بالخيال يناجيهم بما سيصنعون بمكاسبهم النفيسة وها هو ذا محمد الذي كانوا يظنون أنهم قد تخلصوا منه نهائياً يهددهم بالخراب
والدمار
الفرصة
واجتمع كبراؤهم في سرعة وقرروا أن يسرعوا في مناهضة محمد قبل أن تفوت وكان الشعور العام يوحى بهذا الرأى فقد كان الكل مستعدا لأن يضحى في سبيل إنقاذ القافلة بالنفس وبالمال وتألف جيش بأقصى سرعة يتكون من تسعمائة وخمسين رجلا يقودون مائة فرس وسبعمائة جمل وخرجت حملة المشركين من مكة فودعتها عاصفة حارة من السلام والدعاء وكان يتقدم الحملة سرب من الصبابا المغنيات لامعات كأنهن الشموس مشرقات الوجه كأنهن الأقمار يمتزن بأعين نجل ملابسهن موشاة يكاد ما عليهن من ذهب وزينة
1 أي أدركوا اللطيمة وهى العير التي تحمل الطيب والبز

١٩٥
يذهب بالأبصار يغنين بشعر فيه ذم المسلمين أو ينشدن أشعار الحماسة ضاربات بالدفوف في لحن منسجم يبعث التحمس في النفس ويثير العواطف في قلوب المحبين وزين الشيطان للمشركين أعمالهم وأوحى إليهم بأحلام النصر وماذا على
الشيطان لو انهزموا سوى أن يتركهم وخزيهم
وإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
6
وقال لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ وَإِلَى جَارٌ لَكُم فلما تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَال إنِّي بَرَى مِنْكم إِنِّى أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ الله وَاللَّهُ شَدِيدُ
العقاب
[ سورة الأنفال ٤٨ ]
على أن الرسول لم يكن يعلم قط بشأن حملة قريش وبعد أن تزود في طريقه من ماء الروحاء سار حتى نزل بالصفراء ثم بعث بسبس بن الجهنى وعدى بن أبي الزغباء إلى بدر يتحسسان له الأخبار ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على واد يقال له ذفران فأقام به وفى الصباح المبكر من الغد ارتحل رسول الله من ذفران وسار حتى نزل قريباً من بدر وكان بسبس وعدى قد مضيا حتى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء فوجدا امرأتين تملآن جرارهما وتتنازعان بصوت مرتفع إحداهما دائنة والأخرى مدينة قالت المدينة
سمع
اصبري قليلا فغداً أو بعد غد تأتى العير فأعمل لهم وأقضيك دينك وكان على الماء مجدى بن عمر و الجهنى فقال لها صدقت ثم خلص بينهما ذلك عدى وبسبس فجلسا على بعيريهما ثم انطلقا حتى أنيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا وكان ذلك موافقا لحدسه أنه بعد لحظات أتى إلى الرسول شخص كان النبي قد أقامه بمكة يتحسس الأخبار أتى يحمل أخباراً مزعجة أتى ينبئ الرسول بأن المشركين يسرعون الخطا
بید
لإنقاذ القافلة

اهتم محمد بالأمر اهتماما كبيراً وأخذ يتساءل

١٩٦
ماذا يكون موقف المسلمين وقد خرجوا لملاقاة القافلة فحسب حينما يرون أمامهم قوى هائلة تفوقهم عدة وعدداً أيتزعزعون أيفقدون تحمسهم
العدو
ومع
لذلك خطورة الموقف
خشية
جمع
هذه الاحتمالات لم يرد محمد أن يخفى عنهم رؤساءهم وكاشفهم بحقيقة الأمر وأخذ يستشيرهم في مقاتلة العير أو النفير وساد الصمت وانتاب النفوس شيء من التردد
وإنا لنعترف بأن الأمل في المغنم كان يضيف جاذبية وسحراً إلى الرغبة في إنزال
العقاب بالمشركين وقال أحد الحاضرين
أ إلى مذبحة إذن تقودنا
وقابل القرآن هذا الموقف بزجر قاس
وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحقِّ الحَقِّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الكافرين
"
[ سورة الأنفال ٧]
قام على الفور المقداد بن عمرو فقال محتجاً في قوة يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت
بنو إسرائيل لموسى
اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتلاً إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بترك الغماد 1 الحالدنا معك من دونه حتى تبلعه فباركه الرسول
-
ودعا له بخير ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشير ما على أيها الناس وإنما يريد الأنصار لاحتمال أنهم يعتقدون أن بيعة العقبة لا تلزم هم بشيء آخر غير
حماية الرسول ما بقى في المدينة
۱ موضع بناحية اليمن وقيل مدينة بالحبشة

۱۹۷
فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ وقد
أحزنه أن يوضع إخلاص ا الأنصار موضع
الشك والله لكأنك تريدنا يا رسول الله
قال أجل قال سعد فقد آمنا بلك وصدقناك وشهدنا بأن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما
أردت
فنحن معلك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً
الخضناه معك
6
إنا لصبر في الحرب
فسر على بركة الله
C
صدق في اللقاء
لعل
الله يريك منا ما نقر به عيناك
أراح هذا القول الرسول مما كان يخامره من قلق وسره ذلك ونشطه فأشرق وجهه مضيئاً بعاطفة من الرضى وبنور من الإلهام وكانت عيناه تحدقان في منظر لا يراه غيره وقال أبشروا أيها الناس إنى لأرى الموقعة وقد التحم الفريقان وها هي تلك فلول الأعداء تولى منهزمة فهم الكل أنهم على أبواب المعركة فأخذوا يستعدون لها في ثقة وفى
إيمان
أما أبو سفيان فإنه حينما علم بخروج الرسول الملاقاته أخذ حذره وأسرع الخطى وتقدم الركب فوصل إلى بدر بعد ذهاب بسبس وعدى مباشرة تقريباً وكان لا يزال مجدى بن عمرو على الماء فسأله أبو سفيان هل أحسست أحداً فقال ما رأيت أحداً أنكره إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن ١ لهما ثم انطلقا فأتى أبوسفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعير يهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب
فرجع إلى أصحابه سريعاً فضرب وجه عيره عن الطريق وأخذ بها جهة الساحل وترك بدراً عن يساره وانطلق حتى أسرع وبهذه الطريقة أفلت
جند الإسلام
١ الشن القربة
من

۱۹۸
ولما اطمأن وأمن أرسل إلى قريش إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجت فارجعوا فقال أبو جهل - متأثراً بحقده الدفين - والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم عليه ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر ولعزف علينا القيان ۱ وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها فامضوا وملأهم كلام أبي جهل كبرياء وفخراً وسال لعابهم لذكر المآدب وكؤوس
الخمر تتوالى مترعة فوافقوا على رأى رئيسهم وساروا إلى بدر
وكان المؤمنون يتجهون إلى بدر أيضا غير عالمين بما سيكون أيلتقون بالعير أم بالنفير أم بهما معاً فأرسل الرسول عليا والزبير يتعرفان الأخبار فلقيا شابين يبحثان عن آبار الماء ليملآ السقاء المعلق بكتفيهما فأنيا بهما إلى معسكر المسلمين فسألاهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء وكانت الدهشة في جيش المسلمين أحقا وصل جيش قريش إلى هذا المكان وبدا لهم أن هذا غير محتمل ذلك لأنهم كانوا يجهلون ما تزودت به قريش من جمال تحمل أثقالهم ومن أفراس فأخذوا قول الشابين على أنه كذب فضر باهما راجين أن يعترفا بأنهما لأبي سفيان فلما اشتد بهما ألم الضرب قالا نحن
لأبي سفيان فلما اعترفا بهذا تركهما على والزبير فخورين لاعتقادهما أنهما ظفرا بالحق من بين شفتي الأسيرين وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدته ثم سلم وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذبا كم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش ثم
اتجه إليهما سائلا
أخبراني عن قريش
قالا هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كم القوم
1 الجواري

194
قالا كثير
قال ما عدتهم
قالا لا ندرى
قال كم ينحرون من الإبل كل يوم قالا يوما تسعاً ويوماً عشراً
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم فيما بين التسعمائة والألف
ثم قال لهما فمن فيهم من أشراف قريش
فأخذا يذكران ألمع الأسماء في مكة
فهز رسول الله رأسه في حزن وأقبل على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها
ومهما يكن من أمر فإن المقادير أرادت غير ما أراد المسلمون لقد خرجوا لمفاجأة قافلة تجارية لا يحميها سوى عدد قليل من المحافظين عليها فإذا بهم يجدون أنفسهم وجها لوجه أمام عدو يفوقهم عدداً وعدداً ثلاث مرات ومزوداً بسلاح من الفرسان خطير
تجاه ذلك يجب مهما كان الثمن - أن يسبق المسلمون إلى آبار بدر فأخذوا في السير حتى وصلوا إلى أعلى الوادى وكان الوادى من الجدب بحيث لم يجدوا به
قطرة ماء

ونفد ما كان مع المسلمين الظمأ حدا أليما الماء فلما كان الغد بلغ بهم من من العذاب وانتهز الشيطان هذه الفرصة فوسوس إليهم انظروا إلى ما قادكم إليه ذلكم الذى يزعم أنه رسول الله القادر ! ! ها هم أولاء الأعداء لا يحصيهم العد يحيطون بكم ولا ينتظرون إلا أن تخور قواكم من شدة الظمأ فيلتهموكم التهام الفريسة السهلة التى لا تجد من يحميها وأخذت وسوسة الشيطان تدور
برءوسهم
الحظ أن ومن حسن ا تعودهم الظمأ في صيام شهر رمضان قوى من صبرهم وفي الوقت الذي بلغت فيه الحرارة أشدها وأرسلت الشمس شعاعها كشواظ من نار

۰۰
وكاد ينفد الصبر أرسل الله إليهم السحب تتوج القمم والآكام وتفجرت عن
الغيث المنعش نهل المسلمون منه وعلوا وحفر وا حفراً صغيرة امتلأت بالماء فغسلوا فيها ثيابهم التي كانت تنضح عرقاً وتطهروا للصلاة ولم تقف فائدة المطر عند ذلك فقد كان طريقهم في الوادى لينا تغوص فيه الأقدام فلبد لهم المطر الأرض ولم
يمنعهم عن السير

وَيُذْهِبَ عَنْكُم رِجْزَ
ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِبطَهُرَكُمْ بِهِ الشَّيْطَانِ ۱ وَليَرْبطَ على قُلُوبكم ويثبت به الأَقْدَام
[ سورة الأنفال ١١ ]
وعلى العكس كانت هذه العاصفة ضرراً على المشركين فقد أصابهم منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فقد كانوا في أرض سبخة وكانت إبلهم تنزلق وتخر على الأرض وأرجلها الطويلة ممدودة وراءها في صورة تبعث على الضحك وكانت قوائم الخيل تغوص فى الأرض وتعجز عن إخراجها ويحاول الفارس تخليصها الأرض فترتمى عليه الفرس وساد الاضطراب وعمت الفوضى وعرقل كل
من
ذلك من سيرهم وأنهك قواهم أما المؤمنون وقد تطهر وا وانتعشت نفوسهم فإنهم قضوا ليلة في هدوء مريحة حتى لقد أهملوا الحراسة واثقين كل الثقة فيها أخبر به الرسول من أن الملائكة ستتولى حراستهم ولكن محمداً بقى متيقظاً مستغرقا في الصلاة إِذْ يُغشيكم النَّعَاسَ أَمَنَةٌ مِّنْهُ
[ سورة الأنفال ]
وجاءت الساعة التي سيتقرر فيها مصير الإسلام وكان ذلك يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان وكان الحباب بن المنذر مشهوراً بجودة الرأى وإخلاص النصيحة فخاطب رسول الله قائلا يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة فقال رسول الله بل الرأى
۱ وسوسته

۰۱
والحرب والمكيدة فقال يا رسول الله فإن هذا ليس بالمنزل فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ۱ ما وراءه من القلب ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقابل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرت بالرأى ثم أخذ رسول الله ينفذ النصيحة خطوة فخطوة وتحدد بذلك مكان الموقعة فسيضطر المشركون بلا شك إلى الحضور لينازعوا المسلمين على الماء فليس فى الوادى غيره
وقام سعد بن معاذ فقال يا نبي الله ألا نبني لك عريشا ۳ تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا
منهم
فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً م ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير وقطع المسلمون غصون الأراك وألفوا بينها حتى صارت عريشاً فغطوه بأعواد الطرفة فأوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرافقه أبو بكر رضى الله عنه وأنت الطلائع الأولى لفرسان الأعداء تسير في خيلاء على مرأى من الرسول فلما رآها قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك ٤ وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذى وعدتنى اللهم أحنهم ٥ الغداة وتجمع المشركون فبعد جهدهم بالأمس ليتخلصوا من أوحال السبخة التي كانوا

وكانت
بها ناموا ما بقى من ليلتهم ثم استيقظوا وقد شعروا بظماً شديد العاصفة من السرعة بحيث لم تملأ الغدران أما آبار الوادى فقد ردمها المسلمون فلم
يجد المشركون ماء يروي ظمأهم
اشتد
بهم
الظمأ ورأوا البساط السائل منتشراً فى الحوض الذي حفره المسلمون
وكاد شعاع الشمس الذي ينعكس عليه يخطف أبصارهم فأثار ذلك من حفيظتهم وحرك غرائزهم للانتقام وأقبل نفر من قريش - معتمدين على سرعة أفراسهم –
۱ نطمس ونردم
٢ الآبار
۳ شبه الخيمة يستظل به ٤ تعاديك ه أهلكهم

۰
حتى وردوا الحوض وفيهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون أن يصوبوا إليهم سهامهم فقال - صلى الله عليه وسلم - دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه ۱ أما الأسود المخزومى فقد ركبه كبرياؤه وأعجب بقوته فصرخ بحيث يسمعه المسلمون والمشركون قائلا وحق آلهتنا وحق اللات والعزى لأشر بن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره ورجله تشخب دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض في مهارة مدهشة وأسرع نحوه يريد أن يبر يمينه ولكن حمزة أدركه فقضى
عليه
وعلى إثر ذلك خرج ثلاثة من أبطال المشركين يدعون المؤمنين إلى المبارزة
الفردية وهم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وأخوه شيبة بن ربيعة فأرسل إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبيدة بن الحارث وحمزة وعليا فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله أما على فلم يمهل الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين فأثبت كل منهما صاحبه فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل فأصبح تحت رحمة عدوه فأدركه على وحمزة فأجهزا على خصمه ثم احتملا صاحبهما - في رفق - إلى جوار الرسول الذي أسند رأسه ووضعه على فخذه وأخذ يواسيه ويبشره بالثواب الذي ينتظره بين أرجاء الفردوس الفسيحة ولم يلبث عبيدة أن لفظ النفس الأخير فكان أول شهيد في الجهاد
بعد هذه المبارزة الفردية التى أثارت العواطف الحربية بين جوانح المحاربين لا يمكن أن يطول انتظار النزال بين هذين الجمعين فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدل جيشه كتفاً بكتف في صفوف متلاصقة كالبنيان المرصوص وأخذ يكبح شكيمة هؤلاء المتهورين الذين يريدون أن يتقدموا الجمع إلى القتال فيلاقوا بلا شك مصرعهم دون فائدة تعود على المسلمين من ذلك
1 كان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني يوم بدر
جرحه جراحة لم يقم معها

۰۳
من هؤلاء سواد بن غزية فقد برز من صفه فضربه رسول الله بقدح ۱ كان بيده وقال استو یا سواد
فقال يا رسول الله أوجعتنى وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدنى ٢ فقال رسول الله اقتص منى
فقال سواد كيف وقد ضربتني على بطنى العريان
فكشف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال استقد يا سواد
فاعتنقه سواد فقبل بطنه

فقال ما حملك على هذا يا سواد
فقال يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن
يمس جلدی جلدك

فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير
عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف وأمر أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ورجع إلى العريش يرافقه أبو بكر فدخله وكان على بابه بن معاذ ممتشقاً سيفه فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناشد ۳ ر به ما وعده من النصر ويقول فيما يقول
سعد
صلى الله عليه
اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد واستغرق في الدعاء والتضرع حتى سقط رداؤه دون أن يشعر فأعاده أبو بكر وهو يقول يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك وقد خفق ٤ رسول الله - وسلم - خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر أناك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع ٥
ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش يحرض الناس على القتال مكرراً سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ النُّبُر والذي نفس
"
محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله
الله الجنة

۱ القدح السهم ۳ يسأله ويضرع إليه ٥ الغبار
اقتص لي من نفسك ٤ نام نوماً يسيراً

٢٠٤
وسمع عمير بن الحمام ذلك وكان فى يده تمرات يأكلهن فرمى بهن وقال بخ بخ ١ أفها بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء وامتشق سيفه واقتحم صفوف المشركين مخضباً الأرض بدمائهم واستمر يقاتل القوم حتى
قتل
وسأل أحد المؤمنين قائلا يا رسول الله ما يضحك ٢ الرب من عبده غمسه يده في العدو حاسرا ٣

قال - صلى الله عليه وسلم - فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم امتشق سيفه يخضبه بدماء العدو
وأصبح من المستحيل صبر المسلمين على تلك الحال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ثم قال شاهت الوجوه ثم نفتحهم بها وأمر أصحابه فقال شدوا
وانقض المسلمون كإعصار هائل على المشركين وكان للاصطدام ضجيج قد بلغ عنان السماء وكانت قعقعة السلاح وصراخ البائسين وصياح المنتصرين كان كل ذلك يردده الصدى من جوانب الوادى ويرافقه ضوضاء غريب متقطع كضرب الطبول المضطربة
حدث رجل من بني غفار قال أقبلت أنا وابن عم لا
لى حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من تدور الدائرة
فننتهب مع من ينتهب وفجأة وفى وقت ارتجف فيه المسلمون رأيت في أعماق الوادى من وراء جيش الإسلام عموداً من التراب يرتفع ويقترب في سرعة عجيبة ومن خلال شكله الحلزونى كانت تطير وتختفى أشباح غريبة مرعبة وكان العمود
في سرعته يهدد السحاب وكأنه حرب عوان أقامتها الأرض فى ثورة ضد السماء

وكان يخرج من هذا العمود أصوات غريبة أيضاً كدت منها أموت فزعاً كان منها صهيل الخيل وقدحها بحوافرها وهى تعدو ضبحاً وكان منها خفق
١ كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه
٢ يرضيه غاية الرضى
۳ لا درع له

٢٠٥
الأجنحة الضخمة وقرع الطبول وسمعت صوتا آمراً ساد كل هذا الضجيج يقول أقدم حيزوم 1 وما هي إلا طرفة عين حتى أصبح هذا الطائر المخيف بجوار المسلمين وانقض معهم على صفوف المشركين ولم يلبث أن أحاط بنا وغمرنا في ظلمته الداكنة فلم أعد أرى رفيقي وكدت أفقد وعي من الفزع وكانت رياح المعركة تدفعني في كل اتجاه فتشبثت - تشبث المستميت - بأطراف الصخور حتى لا أطير معها كذرة من حطام ولقد تمزقت أذنى من الصيحات المزعجة التي أضيف إليها إذ ذاك اللعنات تقذف بها الأفواه وأنين الجرحى وسباب المنهزمين بملء أفواههم وكنت لا ترى فى ظلام هذه الموقعة سوى لمعان السيوف ووميض

الخناجر
وبريق الحراب وانتهت العاصفة فرأيت رفيقى ملقى على الأرض بجانبي وقد انشق صدره وانكشف قناع قلبه وكانت الجثث لا تعد ملقاة على الأرض تغطيها أشبه بجذوع أشجار أطاحت بها الأعاصير وعلى بعد كان جنود الإسلام يغمرهم شعاع الشمس يكرون وراء الهاربين هذا العمود الطائر إنما كان أثراً لجبريل وهو على فرسه حيز وم يقود ثلاثة آلاف الملائكة من لإغاثة المسلمين وكان إيمان المسلمين من الحرارة بحيث كان لا بد من انتصارهم وأعانت العاصفة المسلمين على هذا الانتصار فكانت أمواج الرمال تضرب فى وجوه المشركين وتؤذى بشرتهم وتملأ بالتراب أفواههم وأنوفهم وكان المشركون لا يدرون أين يضربون وعن أى وجهة يدافعون أما المسلمون فقد كانوا على العكس يشعرون أن قوتهم تزداد بدفع العاصفة وكانت أعينهم المبصرة تجعلهم يتقون هجوم الأعداء وتجعلهم يضربون في ثبات وإصابة للهدف وفضلا عن ذلك كانوا يشعرون بأن قوة خفية أسمى من الطبيعة نضاعف من قوة سواعدهم ومن نشاطهم لدرجة أنهم كانوا يشعرون بأنهم يضربون في الهواء إذ أن أسلحتهم كانت تنفذ في أعدائهم في سهولة لم تكن
تتصور ولم يشعروا في ذلك بأية مقاومة

1 أقدم كلمة تزجر بها الخيل وحيزوم اسم فرس جبريل عليه السلام

٢٠٦
يقول أحد الذين حضروا غزوة بدر لم أكد أتوعد أحد الرءوس بأنى سأحزه بسيفى حتى رأيته يطير عن كتفى عدوى ويهوى إلى الأرض متدحرجاً قبل أن يمسه ذباب سيفي

قتل فى هذه المعركة سبعون من المشركين ومن هؤلاء كل الذين تعاهدوا على
قتل الرسول في مكة فلم تقتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [ سورة الأنفال] وكان من ضمن قتلى المشركين أربعة وعشرون من أشراف قريش أمثال عتبة والوليد وشيبة وأمية بن خلف وحنظلة بن أبي سفيان وأهم من هؤلاء جميعاً قائد الحملة أبو جهل

كان المسلمون يعلمون أن أبا جهل هو المحرك لكل المؤمرات التي تحاك ضد رسول الله فأخذوا يبحثون عنه وتمكن معاذ بن عمرو من الوصول إليه فضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه وأسرع عكرمة بن أبي جهل لإغاثة أبيه وللثأر له فضرب معاذاً على عاتقه فطوح بيده التي تعلقت بجلده من جنبه وضايقته في القتال فسحبها خلفه ولكنها بقيت حملا عليه أيضا يقول معاذ فلما آذتى وضعت عليها قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ثم مر بأبي جهل وهو عقير فتيان من الأنصار هما ولدا عفراء وهو على فرسه فطعناه حتى هوى عن فرسه
واهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبحث عن مصير أبي جهل وأمر أن يلتمس في القتلى فذهب عبد الله بن مسعود للبحث عنه فوجده بآخر رمق فوضع رجله على عنقه كما يضع الإنسان رجله على أفعى ولكن في اللحظة التي يوشك عبد الله أن يقضى عليه فيها أخذ أبو جهل بلحيته وأرسل إلى عينيه نظرات سكرى من الغيظ العاجز وصرخ فى حشرجة لقد ارتقيت مرتقى صعباً
يا رويعي الغنم ولأجل أن يضع ابن مسعود حداً لسباب هذا الملحد احتز رأسه وجاء بها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحينما رأى رسول الله وجه عدوه الدامي قال الله الذي لا إله غيره ثم حمد الله ثم قال هذا فرعون هذه الأمة وتحت شعاع الشمس الملتهب بدأت الجثث تفسد وأخذت الوجوه المنتفخة

۰۷
لون القار وهذه الظاهرة جعلت المسلمين يعتقدون أن المشركين قد صرعهم جند السماء وأنهم اختنقوا بلهيب من نار جهنم وتفقد رسول الله – صلى الله
عليه وسلم - الميدان سائراً بين القتلى آمراً بدفن الجثث دون تفرقة بينها ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أن يلقوا في القليب ١ أخذ عتبة ابن ربيعة فسحب إلى القليب فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه فقال يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء فقال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكنى كنت أعرف من أبى رأياً وحلماً وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنى ذلك فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير وقال له خيراً
جيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناقته فركبها وذهب إلى القليب حيث أمر أن يدفن فيه أربعة وعشرون من أعدائه فلما وصل إليه نزل عن ناقته وأخذ يسأل الموتى كلا باسمه يقول يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أمية بن خلف في القليب هل وجدتم ما وعد ربكم
ويا أبا جهل بن هشام فعدد من كان منهم حقا فإني قد وجدت ما وعدنى ربى حقاً
فقال له عروة يا رسول الله أتكلم قوما موتى قال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون
أن يجيبوني وهكذا عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المشركين وقد أصبح مسكنهم النار لم يجدوا مناصاً من الاعتراف بصحة ما حدثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم في حياتهم وبهذا المعنى يفسر حديث عائشة الذي يشرح هذا الموقف إذ أن القرآن يقول إنك لا تسمع المرتى [ سورة الروم ٥٢ ] أما المؤمنون فلم يفقدوا سوى أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من

1 البئر

۰۸
الأنصار وهؤلاء - وقد أصبحوا خالدين على مر الزمن - أول الشهداء الذين
استشهدوا في الجهاد
الإقامة ببدر ثم العودة إلى المدينة
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام ليدفن الموتى ويجمع الغنائم التي أقام على حراستها أحد أفراد بني النجار ثم تأهب للعودة إلى المدينة و بعث أمامه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ليبشرا أهل المدينة بالانتصار فوصلا في ساعة حرجة بالنسبة للمسلمين قال أسامة بن زيد أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم التي ماتت إثر مرض أليم وكانت زوجة عثمان بن عفان وكان المنافقون واليهود إذ ذاك يذيعون الشائعات الخطيرة التي تقض مضاجع المسلمين عن مصير الرسول في بدر ويتأهبون لمهاجمة أنصاره وسرت البشرى في جميع أرجاء المدينة مسرى البرق فأشاعت القلق في نفوس المنافقين واليهود والطمأنينة والتحمس في نفوس المؤمنين الذين خرجوا الملافاة المنتصر زرافات زرافات رجالا ونساء وأطفالا ضاربين على الدفوف ينشدون بأنشودة الاستقبال التي استقبلوا بها الرسول عند دخوله المدينة أول مرة طلع البدر
علينا
من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
هذه الغزوة الخالدة التى لم يكن بها من المحاربين إلا عدد قليل كانت نتائجها من الأهمية بحيث غيرت وجه العالم وأصبح وادى بدر مزاراً لآلاف من الحجاج كل عام
يقول الرحالة ابن جبير عن بدر إن قرية تقوم هناك الآن محاطة بسياج وعلى القليب حيث دفن المشركون غرست طائفة من أشجار النخيل وعلى بعد خطوات من هناك مقابر الشهداء
وعلى شمال الطريق الآن من الصفراء يمتد جبل الرحمة حيث نزلت الملائكة

من السماء

أما العريش الذي كان فيه الرسول فإنه كائن – كما يقولون – على حافة
جبل من الرمال يسمى جبل الطبول ويسمع الحاج عادة فيه قرع الطبول التي لا يعرف مصدرها ولا يدرك سرها والتي تحيي ذكرى أول انتصار للإسلام وكان عدد الأسرى سبعين كعدد الذين قتلوا وكانوا ينتسبون – في الأغلب - إلى أكبر أسر المشركين وكان من بينهم اثنان هما عقبة والنضر قد تجاوزا إيذاء الرسول كل حد فحكم عليهما بالإعدام ونفذ الحكم
ولم يكن العباس عم محمد قد اعتنق الإسلام وقد اضطر إلى البقاء بمكة للتجارة ثم لحق بالقافلة المهددة فوجد نفسه في عداد الأسرى ولم تجد ضخامة جثته وقوته شيئاً إذ أسره ضعيف من الأنصار فكان ذلك مثار دهشته وضاق بالحبال التي كانت تربطه وتشد جسمه في قسوة فأخذ يتنهد ثم لحقه مؤمن القلب تذكر كرم العباس وقرابته من النبى فخفف شيئا من قيوده وعلم محمد بالأمر ولم يكن يرى أن يلقى أفراد أسرته أى نوع من المحاباة فأمر بتخفيف قيود سائر الأسرى على نحو ما كان بالنسبة إلى العباس
رحيم
وبقى أن يبت في مصير كل هؤلاء الأسرى ورأى أبو بكر أن تقبل فديتهم لما بين الغالبين والمغلوبين من أواصر القرابة أما عمر في شدته فكان يرى أن يقضى عليهم جميعا لما تسببوا فيه من اضطهاد للمسلمين وإخراج للرسول من مكة وتساوى عدد الصحابة المنضمين إلى كل من
الرأيين

فرأى الرسول رأى أبى بكر وأمر باحترام الأسرى الذين وإن كانوا قد غلبوا على أمرهم إلا أنهم أظهروا شجاعة وإقداماً وحث الناس على معاملتهم معاملة طيبة وفك قيودهم ووزعهم على المسلمين الذين كلفوا بحراستهم ونفذ هؤلاء المسلمون تعليمات الرسول فى دقة فعاملوا أسراهم أحسن معاملة حتى إنهم كانوا يؤثر ونهم على أنفسهم بالخبز ويكتفون بالتمر و قدرت فدية كل أسير حسب ثروته فكانت فدية العباس عم محمد أكبر فدية وسرح بعضهم لفقرهم دون مقابل وأضاف محمد إلى ذلك أن طلب

۱۰
من كل أسير يعرف الكتابة والقراءة أن يعلمها لاثنين من أولاد الأنصار قبل أن يطلق سراحه نهائياً وكان من بين الأسرى أبو العاص بن ربيعة وهو من وجهاء القوم وأغنيائهم
C
تزوج زينب بنت الرسول قبل الوحى وظل على إشراكه وقد بعثت زينب من مكة فدية له مبلغاً المال وعقداً أهدته إليها أمها خديجة عند زواجها ورأى من محمد العقد الذي كان قد رآه من قبل فى عنق زوجه المحببة خديجة فعرفه وثارت
له في نفسه شجون فسأل المسلمين إعادة الفدية إلى زينب وإطلاق سراح زوجها فلم يعترض أحد على ذلك فأطلق محمد سراح أبي العاص على شريطة أن يبعث إليه بابنته لأن المسلمة لا يمكن أن تبقى فى ذمة المشرك وقبل المشرك الشرط وإن لم يكن مستريحا إليه فعاد إلى مكة وبعث بزينب إلى المدينة وعلم القرشيون برحيل زينب فتتبعوا خطاها ولحقها أحدهم فلطمها في قسوة بكعب رمحه فوقعت من هودجها ثم وصلت تلك المرأة الحزينة المدينة وكانت حاملا فماتت بعد قليل من آثار ما لاقته من قسوة المشركين
وغضب الرسول لهذا فأمر المؤمنين إذا تمكنوا من الرجل الذي كان سببا في موت زينب أن يحرقوه حيا ثم رجع عن هذا الأمر لأنه رأى أن الله وحده – سبحانه مالك الملك - الحق في إحراق الناس في جهنم
أما أبو العاص فقد أسره المسلمون ثانية وهو يقود قافلة إلى الشام فأطلقه
الرسول مرة أخرى فأسلم وهكذا حاول محمد في كل مناسبة أن يظهر كرمه بالنسبة إلى الأسرى من قبيلته وكان نتيجة هذا أن أسلم عدد من أهل مكة أعجبهم ما رواه الأسرى الذين شهدوا عند عودتهم بحسن معاملة المسلمين لهم
ولكن ألم تكن هذه الرحمة بأعداء الله ضارة وخطرة بالنسبة إلى مستقبل
الإسلام
لقد جاء الوحى ينبى الرسول بسوء العاقبة ويلومه على ما فعل فحزن محمد حزنا عميقاً عندما علم أن رأفته بالأعداء سوف يترتب عليها استشهاد الكثير
من المؤمنين ولم يكن يعقل فى الواقع أن تؤدى هذه الرأفة إلى إيقاف القتال

۱۱
وكادت مشكلة تقسيم الغنائم بعد الانتصار تثير الفتنة بين المسلمين فقد رأى هؤلاء الذين تلقطوا الغنائم أن يحتفظوا بها كلها لأنفسهم أما الذين قاتلوا ولم يفكروا في الغنم وسلب الموتى فقد طالبوا بنصيبهم وقالوا إنه لولاهم لما استطاع أحد أن يغنم أو يسلب شيئاً ورأى جند المؤخرة أنه لولا حرصهم على الإحاطة بالرسول لقاتلوا وغنموا وسلبوا كالآخرين ولغط القوم وكادت الفتنة تدب بينهم فجاء الوحى بفصل الخطاب
الأنفال قُل الأَنْفَالُ لِله وَالرَّسُولِ
يَسْأَلُونَك عن ا وعاد محمد إلى المدينة فقسم الأنفال بكل دقة وقرر أن يأخذ جند المؤخرة نصيبهم منها وكذلك بعض المؤمنين الذين قعدوا فى المدينة لخدمة الإسلام في
غیاب قائده
واستطاع محمد بذلك أن يرضى الجميع ولم يستبق لنفسه إلا نصيب الجندى
البسيط ولكنه تقرر أن يكون فيما يستجد من الغنائم أن لله خمسَه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابن السبيل
وظن أهل مكة أن قافلتهم الكبرى التى سببت لهم الكثير من القلق عائدة فأعدوا العدة لاستقبالها في أعراس وأفراح ولكنهم رأوا فلول جندهم مقبلين فلم يصدقوا في أول الأمر هذه الخسارة العظيمة لشدة إيمانهم بتفوق جنودهم في في العدد
منهم
والعدة فلاقوا الهاربين من الجند أسوأ لقاء ظناً م أنهم بعض الخونة فروا من المعركة قبل انتهائها
عن
يأس
ولكن جاء النبأ اليقين بعد قليل وانكشف الشك عند أعداء الله عميق وثارت ثائرة أبى لهب - المنظم الحقيقى للحملة ــ عند ما حكى له أحد الهاربين الأمور العجيبة التي شهدها والتي تفسر فى رأيه هزيمة قريش فقد رأى المسلمين يتلقون عوناً من السماء يمكنهم من أعدائهم ورأى يقينا في سحب العاصفة جنداً عجباً في أثواب بيضاء على جياد قوية يقاتلون في صفوف أنصار محمد وصاح عند ذلك رجل من القوم يقال له أبو رفيعة وكان من خدم العباس عم محمد مؤكداً أن هؤلاء الجنود الشداد لم يكونوا إلا ملائكة

۱
وغضب أبو لهب لما رأى من خوف القوم من هذا الحديث ومما أعقبه من

التعليقات فأخذ بتلابيب الخادم فصرعه وراح يضربه فى وحشية وقوة شديدة وثارت امرأة العباس لهذا فصرخت فى أبى لهب تعنفه على ضربه الخادم في غياب
السيد وعلته بقطعة خشب وضربته بها فأدمت رأسه ولم يغضب القوم لذلك إذ رأوا أن أبا لهب يستحق ما ناله من عقاب فقام الرجل يخفى خزيه وسخطه في عقر داره وكان مريضاً فلم يستطع بعد ذلك مقاومة ما ثار في نفسه من ألم وخزى ففسد دمه واكتسى جسمه بدمامل حمراء يقال لها عدسات ومات من دائه في سبعة أيام أما أبو سفيان وامرأته هند فقد آلمهما موت ابنهما حنظلة وأحفظهما عار الهزيمة فعرفا بين الناس بتعطشهما للثأر واستعمل أبو سفيان سلطته في منع مظاهر الألم واليأس بين أهل مكة فقد رأى في بكاء الموتى والمآتم التقليدية وقصائد الرثاء أشياء لا تجدى ورأى أن حزن شأنه أن يبعث السرور في نفوس أعدائه فراح يحث الناس على الجد في أمر واحد ألا وهو طلب الثأر وحلف أن يحرم نفسه من النساء والطيب حتى يروى قلبه بثأر عظيم وذاع نبأ انتصار النبي بين قبائل بلاد العرب كلها فكان له فيها الأثر
قومه من
الفعال
كذلك تخطى النبأ البحار ومشى رسول من محمد بالخبر إلى نجاشى الحبشة وأنبأ المسلمين الذين استجاروا فيما مضى بهذا الملك أن لهم إذا أرادوا بالمدينة حصنا ومقاماً منيعاً بجوار نبيهم وأهلهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةٌ فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

الفصل السادس

زواج على
بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أصبح على بن أبى طالب بفضل إخلاصه المتناهى وشجاعته التي لا تقاوم وحرصه الدقيق على طاهر السجايا أحد أبطال الإسلام المشاهير غير أن فقره الشديد ألزمه بأن يعمل أجيراً عند أحد الملاك من الأنصار فكان يقضى يومه بين
الصلاة ورى النخيل ولم يكن - بأعماله المجيدة - أهلا لتلك الحال المتواضعة فجدير به أن يحتل مكانة سامية فى أعين الناس

وقد مر به أبو بكر وعثمان يوما وهو يتمتع الماء من بتر فوقفاه عن عمله وذكراه برغبته التي كثيراً ما أبداها فى الزواج من فاطمة بنت الرسول قائلين إنه أحق الناس بها فغضب على وعتب عليهما أن كلماه في هذا الحلم الذي ظنه محال
التحقيق لضيق ذات يده
لكنهما ألحا عليه أشد الإلحاح وأكدا له استعدادهما لمعاونته فخلع على
لباس الخجل وأتى دار الرسول حاملا سيفه ودرعه وخفه وكان ذلك كل ماله وطرق الباب فاستقبله الرسول مرحباً بأحب الناس إليه ووقف على أمامه مطأطئ الرأس في حياء فسأله النبي عن حاجته فتكلم على ذاكراً أن الرسول رباه يتيماً وعطف عليه عطف الآباء على الأبناء حتى كان رجلا وهو اليوم يريد أن يكون له بيت وأولاد وإلى الرسول يلجأ في هذا طالبا الزواج ابنته فاطمة فسأله محمد صلوات الله وسلامه عليه عن المهر فأجاب على أن إعساره معروف وأنه جاء حاملا كل ماله سيفه ودرعه وخفه
من
٢١٥

٢١٦
قال رسول الله إن السيف للإسلام ليس للرسول أن يقبله أما الدرع ففى
قوة ذراع البطل غناء عنها ويستطيع أن يبيعها ويأتى بثمنها مهراً لفاطمة وفرح على كل الفرح وراح يبحث عن شار لدرعه فابتاعها منه عثمان
بثمن لا بأس به ثم أعادها إليه في ساعته هدية عرس
وتم الزواج بأن قال محمد لعلى إن الله قد أعطاه فاطمة في السماء قبل أن يعطيها له محمد في الأرض ودعا بلال عدداً كبيراً من المؤمنين ليستمعوا إلى خطبة نبيهم الذى رأى أن يخبرهم بهبته ابنته لعلى وأمر بلالا بإحضار لوازم الزواج المتواضعة فاشترى بنصف المهر الأشياء التي لا يستغنى عنها في بيت حشية ووسادة من ألياف النخيل ثم قربة وأوان للطبخ وأنفق الباقى فى الزبد والدقيق والتمر لوليمة العرس ودخلت جماعة من النساء يجهزن الزوجة - تبعاً للتقاليد - في حجرة زوجها فلما رآهن الرسول رجعت به الذاكرة إلى السيدة التى لو كانت على قيد الحياة لما تركت غيرها يقوم بهذا العمل رجعت به الذاكرة إلى السيدة خديجة أم فاطمة فتملكه حزن شديد وسالت دموعه غزيرة على خديه ولما ولت الذكرى بما تحمل من حزن وألم جعل عليا إلى يمينه وفاطمة إلى يساره ودعا لهما أن يهبهما الله ذرية صالحة تكون فخراً للمسلمين وقضى الزوجان ثلاثة أيام وثلاث ليال في صلاة وتعبد ولم يقرب على الحيى الحجول زوجته ذات النسب الشريف إلا فى الليلة الرابعة إذ أراد أن يحقق رغبة الرسول فى سلالة من الذكور

ووضعت فاطمة بعد تسعة أشهر ولداً سمى الحسن ثم جاءت بالحسين بعد مولد الحسن بسنة فكان نسل الحسن والحسين ذلك النسل الذي عرف بالشريف
نسل محمد خاصة
زواج الرسول بحفصة وبأم المساكين
رغبت حفصة بنت عمر - وأرملة خنيس – في الزواج فلم يتقدم أحد لخطبتها إذ رأى الناس أنفتها وكبرياءها ولقد عرضت يدها على أبي بكر ثم على
عثمان فأبيا وغاظ عمر ما لحق بابنته من إهانة فشكا حاله إلى الرسول فقال

۱۷
النبي الكريم له إن حفصة بخير من عثمان وإن عثمان سوف يتزوج بخير من حفصة وزوج النبى ابنته أم كثوم لعثمان بينما تزوج هو من حفصة المتكبرة إكراما لعمر ولم يمكث طويلا على ذلك حتى بنى بأرملة عبيدة الذي مات شهيداً يوم بدر وكانت تقية رحيمة بالفقراء والضعفاء كثيرة الصدقات وقد
لقبت من أجل هذا بأم المساكين
معركة أحد سنة ٣ هـ سنة ٦٢٥ م
رجع أهل مكة من هزيمتهم فى بدر فلم تقر لهم بعدها عين ولم يهدأ لهم بال ونظروا نظرة اليأس إلى مستقبلهم فلقد قطع عليهم الرسول بتلك الغزوة الجريئة طريق الشام ولم تعد القوافل تجرؤ على ارتيادها وبدا لهم أن الخراب والمجاعة أقرب إليهم من حبل الوريد ومن أجل ذلك عزموا على تخصيص الأرباح الهائلة التي تدرها عليهم قافلتهم التجارية الكبيرة لتجهيز حملة تثأر لقتلاهم وتهيئ الأمن لقوافلهم وجاء المساعدة أهل مكة الكثيرون من البدو طمعاً في الأجر الضخم وقد استفزتهم قصائد كعب بن الأشرف وأبي العزى الحماسية الملتهبة فانضموا إلى جيش أبي سفيان وكان على رأس ذلك الجيش المكون من ثلاثة آلاف مقاتل رجال ممن أصيب أهلهم يوم بدر كصفوان وعكرمة كذلك كان هناك خالد بن الوليد البطل المقدام ولم تكن النساء أقل تحمساً لطلب الثأر فخرجت هند بنت عتبة أبي سفيان يرافقها زمرة من صواحبها وقد وطدن العزم على سد ا الطريق في وجه كل جندى يريد الفرار
زوج
انصرف الفلاحون فى السهول الخصبة الممتدة شمال المدينة إلى الأعمال في حقولهم ورعى قطعانهم فى وداعة وهدوء ولم يدروا أن جند أبي سفيان قد نزلت من شعاب الجبال الغربية حتى باغتتهم بفضل ما اتخذته من حيطة شديدة لإخفاء مسيرها السريع ورأى الفلاحون المسالمون الجند وعلموا أنهم لن يقدروا
على مقاومتهم فولوا هاربين مسرعين لينقذوا أنفسهم من الموت المحقق وليخبروا
إخوانهم بقدوم أعداء الله

۱۸
ووقف أهل المدينة فوق أسوار حصنهم يشهدون منظراً تقطعت له أكبادهم وأكباد الفلاحين أصحاب الأرض إذ وقفت إبل المشركين كسراب من الجراد الهائل على الحقول الخضراء بينما انقض المشاة على الأنعام يذبحونها والفرسان على الغلات الناضجة يدوسونها ويبعثرونها وهم في ذلك إنما يقودهم ازدراء التجار لأعمال الفلاحة
وإزاء ذلك الخراب الذى جرى تحت أنظارهم وجد المؤمنون أنفسهم في وقت واحد في أشد حالات العجز والغضب إذ رأوا السهل الرحب وقد أصبح مجالا لفرسان الأعداء الذين لا قبل لهم بهم وكان ملجؤهم الأخير فطنة رسول الله فالتفوا حوله يستشيرونه وقد أبدوا استعدادهم لكل تضحية مهما عظمت في سبيل إنقاذ حقولهم وأموالهم

ولقد رأى محمد رؤيا قال إلى قد رأيت والله خيراً رأيت بقراً تذبح ورأيت في ذباب سيفى ثلماً ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة فأولتها بالمدينة فأما البقر فهي ناس من أصحابى يقتلون وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم

حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكانت تلك الخطة الحربية خطة يعرفها أهل المدينة غير أنهم وقد أسلموا وانتصروا في بدر تغير حالهم فأصبحوا يرون أنفسهم قوما لا يقهرون فضاقوا ذرعا بتخريب الأعداء الحق ولهم وكذلك كان المؤمنون من الذين لم يشهدوا بدراً يتحرقون شوقاً إلى إظهار بسالتهم بدورهم ولم يكن شراً لهم التعرض للاستشهاد الذي تهفو نفوسهم مخلصة إليه ولم يعارض فكرة الهجوم إلا عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين الذي وجد نفسه لأول مرة يرى رأى الرسول غير أن محمداً لم يرد أن يقاوم الرغبة الملحة التي أبداها مخلصو المؤمنين وما كان ليكبت حماستهم فعزم على الأخذ برأيهم الذى أبته نفسه في تبصرها وفطنتها فلما صلى العصر بالناس دخل بيته ليرتدى لأمته وأعد الجند عدتهم من جانبهم ثم أحاطت جموعهم الذي ما لبث أن خرج لهم مظهراً درعه لابسا خوذته متقلداً سيفه
الرسول
المحتشدة ببيت

۱۹
ملقياً بالترس على ظهره وممسكا برمحه ولكن المؤمنين حينما كانوا ينتظرون النبي تبصروا في أمرهم فندموا على ما اتخذوه في عجلتهم من تدابير فقال زعماؤهم للمصطفى وقد هالهم ما بدر منهم من معارضته يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا فإن شئت فاقعد فأجابهم محمد ما ينبغى لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل وكان عدد جند المؤمنين يبلغ الألف من المشاة غير أنه لم يكن في جيشهم إلا جوادان وقد دفع لواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير وسلم لواء الأوس إلى أسيد أما لواء الخزرج فكان بيد الحباب
بهم
"
وارتحل الجند قبيل غروب الشمس مولين وجوههم شطر الشمال ولكنهم ما كادوا يبرحون أسوار المدينة حتى لحقت كتيبة يهودية مؤلفة من ستمائة مقاتل على تمام الأهبة والسلاح وكانوا من حلفاء عبد الله بن سلول المنافق من اليهود وجاءوا بإيعازه يعرضون على النبي مساعدتهم ولكن النبي كان عليماً بمكنون سرهم فخاف خيانتهم وردهم قائلا إن الله يغنيه عن مساعدتهم
واغتاظ عبد الله إذ رد حلفاؤه فقام بين الجند ينشر بذور القلق والشقاق في نفوسهم ويقول أطاعهم وعصاني ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس !
فانحاز إليه ثلث الجيش الصغير الذي لم يبق منه إلا ما يقرب من السبعمائة رجل وقفل المنافق راجعاً إلى المدينة في المنخزلين وتشيعهم سخرية المسلمين
المخلصين

وفى اليوم التالى يوم السبت الحادى عشر من شهر شوال ارتحل الرسول بجنده قبيل الشروق وطلب دليلا يستطيع أن يقود الجند دون أن يراهم العدو في مسالك جبل أحد الذى يرتفع منعزلا وسط السهل فتقدم أبو خيثمة ونفذ بهم في حرة بني حارثة وأموالهم حتى سلك فى مال المربع وكان رجلا منافقاً ضرير البصر فلما سمع صوت رسول الله ومن معه قام يصيح إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى ثم مال إلى الأرض وقبض على حفنة تراب واعتدل قائلا والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد الضربت بها وجهك

۰
منعهم
فأراد المؤمنون أن يعاقبوا ذلك المنافق على وقاحته غير أن محمداً قائلا ه إن الرجل ليس أعمى البصر فحسب بل قد عمى قلبه عن الحق أيضاً وسار المسلمون في ذلك الطريق الملتوى المختفى تحت غصون الأشجار المتشابكة الكثيفة حتى وصلوا إلى جبل أحد عند بروز الشمس دون أن يثيروا انتباه
أعدائهم
وأعد الرسول العدة للقتال وجعل الجبل خلف ظهره فلم يكن ليخشى جعل فوق الجبل

حركة دائرية من الأعداء غير أنه - ليزداد اطمئنانا خمسين من أمهر رماته واستعمل عليهم عبد الله بن جبير وأمره أمراً قاطعاً ه أن انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك
وفى تلك الآونة ارتفع الصياح من الجانب الآخر للسهل لقد بصر المكيون بالمؤمنين وقت أن وقعت عليهم أشعة الشمس المشرقة فأظهرتهم - جليا – في هالة من نور فوق سفوح جبل أحد الصخرية
انتظم جيش الأعداء كما قدر الرسول وعلى ميمنته خالد بن الوليد البطل المغوار وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل على شكل القوس ليحيطوا بالمسلمين ويباغتوهم من الخلف
وأخذ أبو سفيان قائد المشركين يقول لبنى عبد الدار حاملي اللواء حاثاً على القتال يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فوقعت تلك الإهانة موقعها من بنى عبد الدار وأثارت حفيظتهم فوثبوا يدفعون عن أنفسهم ويعدون أبا سفيان بأنهم سوف يقاتلون أشد القتال
"
وأقبلت هند بدورها تسرع في صواحبها فأحطن بحاملي اللواء وأنشدن
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأديار ضرباً بكل بتار
نحن بنات طارق نمشى على النمارق

۱
نعانق أو تدبروا نفارق
والدر
في
المخافق
والمسك في المفارق
إن تقبلوا
فراق
غير
وامق
رفع سيفاً
ولم يكن النبي ليألو جهداً في سبيل تشجيع المؤمنين من ذلك أنه بتاراً براقا وقال وهو يمده إليهم من يأخذ هذا السيف بحقه فتقدم
أبو دجانة قائلا وما حقه يا رسول الله قال أن تضرب به في العدو حتى ينحنى فقال أنا آخذه بحقه

وكان أبو دجانة جندياً فى الحرب مهاباً فأخذ السيف من يدى محمد واعتصب بعصابة حمراء لم يكن يعتصب بها إلا في أعظم المواقع ثم سار في صفوف الجند يتبختر فقال الرسول إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا
الموطن وكان من بين الأعداء رجل من أهل المدينة يقال له أبو عامر وكان قد تنصر فكني عنه بالراهب واعتقد أنه يستطيع جذب فئة من قومه من الأوس ويرجعهم عن الإسلام فقام إليهم وصاح فيهم يا معشر الأوس أنا أبو عامر فأجابوه قائلين فلا أنعم الله عليك يا فاسق ! فرجع الراهب خائبا حانقاً بعد أن رجمهم بالحجارة لشدة غيظه وخرج بعده رجل من المشركين على ضخم وكان منظره يبعث الخوف والفزع فدعا المؤمنين للمبازرة فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثاً فقام إليه الزبير فوثب عليه وثبة الفهد فاستوى معه على البعير وطوقه بذراعيه فوقعا معا على الأرض ولم يترك الزبير غريمه إلا وقد
بعير
له
ولما رأى أبو دجانة أن قد دارت رحى ! القتال لم يقدر على كبح جماح نفسه
فاستل سيفه صائحا
أنا الذي
عاهدني
خلیلی ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول١ أضرب بسيف الله والرسول
۱ الكيول الجبان وهو أيضاً آخر الصفوف

وشاهد المشاهدون عصابته الحمراء وكأنها الجمرة المتقدة تشق جموع الأعداء
وتنفذ إلى مرجل القتال

وكان أبو دجانة ذا جرأة فائقة يأتى فى الحرب بالعجائب فلم يلق أحداً إلا قتله حتى وجد نفسه بغتة أمام إنسان غريب يخمش الناس خمشاً شديداً ومن ورائه زمرة من ضاربات الطبول فصمد له أبو دجانة وحمل عليه بسيفه فسمع منه ولولة وصراخا فعرف من الصوت أنه أمام هند فأكرم سيف رسول الله أن يضرب به امرأة وقد أثار أبو دجانة التحمس للقتال فاحتدم وعم وقام حمزة فقتل أرطاة حامل لواء القرشيين الذي خر فاغراً فاه كاشفاً عن أسنانه مكشراً تكشيرة الموت وسرعان ما تقدم سباع بن عبد العزى الغيشاني فرفع اللواء داعياً قاتل زميله إلى المبارزة فما كان من حمزة إلا أن ألحقه بأرطاة بضربة واحدة قائلا ه هلم إلى يابن مقطعة البظور وأراد جبير بن مطعم أن يثأر لعمه طعيمة الذي قتله حمزة يوم بدر فوعد غلاماً له حبشيا يدعى وحشيا أن يعتقه إن هو
قتل حمزة
قال وحشى وخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيئًا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهز الناس بسيفه هراً ما يقوم له شيء فوالله إنى لأتهيأ له أريده فأستر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى فلما قتله حمزة بضربة على هززت حربتى حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه دفعاً في ثنته ۱ حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوى فغلب وتركته وإياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتى ثم رجعت إلى المعسكر وقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة أعتقنى
رأسه
وقتل مصعب بن عمير حامل لواء المهاجرين دون الرسول وكان الذي قتله ابن قمئة الليثى وهو يظن أنه رسول الله فرجع إلى قومه وقد انتفخ اختيالا
وصاح
قتلت محمداً
1 الثنة ما بين السرة والعانة من أسفل البطن

۳
فرفع على اللواء الذي سقط من يد مصعب ولبي دعوة أبى سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين إلى المبارزة وكان أبو سعد هذا يسخر من المسلمين قائلا يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم ! ولم يدعه على يتم كلامه إذ أوقعه بضربة واحدة على الأرض محتضراً ورفع ذراعه ليجهز عليه غير أنه أدبر عنه فجأة إذ انكشفت سوأته
واحتدم حول لواء القرشيين قتال عنيف شرب فيه الكثير من المشركين كأس المنون وأصيب اثنان من حماة الراية هما مسافع بن طلحة وأخوه الجلاس فتحاملا حتى أتيا أمهما سلافة إحدى صواحب هند ووضع
وكلاهما
بسهم
رأسيهما في حجرها وهما يتقايآن سيلا من الدم فصاحت الأم شاهقة ه يا ابناى ما أصابكما قالا سمعنا رجلا حين رمانا يقول خذها وأنا عاصم بن أبى الأقلح فنذرت سلافة إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب
فيه الخمر

كان النصر - من غير ما شك - للمسلمين ولقد وقع لواء القرشيين تحت كومة هائلة من القتلى فلم يجسر أحد منهم على رفعه وشرع أعداء الله في الحرب وانقلب حنق هند وصواحبها إلى رعب فشمرن عن سيقانهن استعداداً للفرار وشاهد الرماة عند مضيق الوادى على سفح جبل أحد ذلك المنظر مهللين غير أنهم لم يستطيع و صبراً حتى انتهاء المعركة - خشية أن تفوتهم الغنائم – وعبثاً حاول أميرهم عبد الله أن يوقفهم ويذكرهم بأوامر الرسول المشددة بن جبير وواجبهم الذي يقضى بحماية ظهر الجيش وبأن ذلك لا يتأتى إلا بالصمود في فقد أجابوه غاضبين انهزم المشركون فما مقامنا ها هنا
مكانهم وانحدر وا إلى الوادى كالسيل الجارف غير عابثين بأوامر الله ورسوله وَلَقَد صَدَقكم اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم ما تحبون
[ سورة آل عمران ١٥١ ]
كان خالد ذلك الجندى الداهية الشجاع على ميمنة القرشيين وكان قد

٢٢٤
الكبرى
الخلف
رأى أول الأمر استحالة الهجوم على المسلمين من الخلف ثم رأى غلطتهم فكر بفرسانه على ابن جبير ومن تبقى حوله من رماة قليلين مخلصين لم تغن مقاومتهم شيئاً إذ سحقهم خالد تحت سنابك خيله ثم انقض من على المسلمين الذين لم يكن لهم من شغل شاغل إلا السلب والمغانم وفى هذه الآونة ذاتها تقدمت امرأة مشركة تدعى عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعت لواء أهل مكة الذين غمرهم الخزى من جبنهم إذ نظروا شجاعة تلك المرأة فأقبلوا ثانية إلى الميدان بينما ارتفع صوت ابن قمئة قاتل مصعب مهللا فوق معمعة القتال إن محمداً قد قتل 1
ومص
وانقلب وجه المعركة فغدا ذلك اليوم يوماً عصيبا بعد أن بدأ بالبشر والإقبال وفزع المسلمون إذ باغتهم المشركون من خلفهم وحل فيهم الخوف عند ما سمعوا الخبر الرهيب فتشتتوا وفرت جماعة عة منهم إلى المدينة من بينهم عثمان نفسه ذلك أن اليأس ملأ صدره ووقع شهيداً في هذا اليوم عدد غير قليل من أجلاء الصحابة وأشرافهم بينما أخذ أعداء الله يرمون وابلا من الحجارة والسهام على الجمع الصغير الذى أحاط بالرسول فوقع حجر وقد رماه عتبة بن أبي وقاص على محمد فكلم شفته وكسر إحدى أسنانه الأمامية وأصابه حجر آخر في مغفره فانغرست الحلقات في وجنته وأخرج أبو عبيدة تلك الحلقات التي انغرست في اللحم بأسنانه فكسر على كل حلقة سنا أسنانه من مبتهجا الدم الذي سال من جراح المصطفى فأثار ذلك الإخلاص العميق عطف محمد فقال 1 من مس دمه دمى لم تمسه النار كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ! وازدادت المعركة خطراً ودفع محمد على بغتة منه فوقع في حفرة عميقة لم يرها لكن سرعان ما خلصه منها على وطلحة ثم أقبل على وبصحبته أبو بكر وعمر اللذان جرحا بدورهما فانقضوا على الكافرين الذين ما فتئت جموعهم تزداد حتى أوشكوا على الإحاطة بالمؤمنين وفى بعض الأوقات ما كان الرسول يجد من حوله إلا أبا دجانة الذي جعل من جسمه درعا كستها السهام وأبا طلحة الذى يذود عنه بحجفته الجلدية وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد الرمي فكسر في ذلك اليوم ثلاثة أقواس وهو يثنيها وصار

٢٢٥
رسول الله يشرف على القوم ليرى مواقع النبل ويدير المعركة فيقول له أبو طلحة د يا نبي الله بأبي أنت وأمى لا تشرف على القوم يصبك سهم من سهامهم نحرى دون نحرك وفى هذه الآونة رأى سهما من سهام ا الأعداء فحاول
أن
يثنيه فجرحت يده ولم يعد يقدر على استعمال قوسه فاستل سيفه غير الإعياء والكلل كانا قد نالا منه كل منال حتى كان سلاحه يكاد يفلت من يده لفرط إعيائه وكانت أم عمارة وهى امرأة شجاعة من الأنصار تحمل على ظهرها ماء تسقى به المؤمنين لتجدد فيهم النشاط فأمسكت بسيف وباشرت القتال برجولة وشهامة جنباً إلى جنب مع الرسول حتى وقعت جريحة
فلما
وشاءت ظروف المعركة أن تفرق بين الرسول وبين على وعمر وأبي بكر سمع هؤلاء تنادى المشركين بموته وهنت قواهم وضعفوا فأضحوا كأجساد بلا أرواح وأصبحوا لا يفكرون حتى فى الدفاع عن أنفسهم فمر بهم أنس بن النضر وهم على ذلك فوبخهم قائلا ماذا يجلسكم قالوا قتل رسول الله قال فماذا تصنعون بالحياة بعده فموتوا على ما مات عليه رسول الله وأعطاهم من نفسه قدوة فاستقبل القوم وقاتل فوقع وقد أثخنته الجراح حتى ما عرفه إلا أخته
عرفته ببنانه
6
بن
وبدأت اليقظة وثارت الحمية فخجل على وأبو بكر وعمر من تخاذهم واقتدوا بأنس فانقضوا ومن ورائهم زمرة من المؤمنين يريدون جمعاً غفيراً من الأعداء يتواثب على نفر قليل من المسلمين صمد أمامهم وفجأة رأى كعب بـ مالك النبي من بين هؤلاء الأبطال وكانت عيناه تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا ! ! هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ! ! وأثارت تلك الصيحة شجاعة القوم فأقبل المسلمون من كل صوب يريدون الجهة المشار إليها فلما أنقذوا الرسول انقضوا على وقد توقدت فيهم حمية لا تقهر ففتحوا لأنفسهم طريقا رصفوه بالجثث الدامية حتى مضيق عينين الذى ما كان لهم أن يتركوه وعلى هذا المكان المنيع انكسر هجوم المشركين فصاح أبي بن خلف حانقاً أى محمد لا نجوت إن
نجوت !
الأعداء

٢٢٦
وأراد القوم أن يرموه بالسهام فمنعهم الرسول وتناول حربة من يد الحارث ابن الصمة وطعن بها أبي بن خلف فى عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً وحاول أن يتعلق بذؤابته لكن عبثاً حاول فوقع على الأرض وأقلع المشركون إذ كان الإعياء قد نال منهم كل منال وانتهى على ذلك القتال
عن
بسبب ما ناله من
للدنيا
وعثر على على قليل من الماء فى فجوة فملأ منه درقته وجاء به الرسول ليشرب منه فوجد له رائحة كريهة فعافه ولم يشرب منه فاستعمله على في غسل جراح مصطفى الله ولكن ذلك لم يجد شيئاً إذ لم يكف الدم عن السيل سيلا مخيفا وأخيراً أقبلت فاطمة من المدينة قلقة وعلى إثرها صواحب لها فأحرقت قطعة حصير خيزرانى وجعلت رمادها على جراح أبيها فانقطع نزيف الدم وفرغ الرسول من تضميد جراحه فصلى الظهر قاعداً الإعياء الشديد وما عاناه من الجراح وصلى القوم من ورائه قعوداً للسبب نفسه شاكرين المولى القدير على إنقاذهم رغم عصيانهم وكان عدد الموتى فى هذا اليوم يساوى عدد الأسرى المشركين يوم بدر فرأى كثير من المؤمنين فى تلك المصادفة الغريبة عقابا لهم إذ دفعهم حبهم بعد بدر إلى تسليم هؤلاء الأسرى إلى المشركين طمعا فى المال وكانت جثث أولئك الشهداء فى حال يرثى لها لقد ظمئت نساء قريش إلى الثأر فتركن الدفوف وارتمين على القتلى يمثلن بهم وقد سبقتهن رئيستهن هند في مضمار الوحشية فاتخذت من آذان الرجال وأنوفهم قلائد وأقراطاً وأعطت أقراطها وقلائدها وخزمها وحشياً ووقعت وكأنها الفهد على جثة حمزة فبقرت بطن الشهيد بأظافرها الدامية وخلعت الكبد ولاكتها بين فكيها بحنق ووحشية فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت صخرة مشرفة وولت وجهها شطر جند الإسلام وصرخت بأعلى صوتها نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان من عتبة لى من صبر وعمه وبكرى
ولا أخي
شفیت نفسی و قضیت نذری شفيت وحشي غليل صدری

۷
فشكر وحشي على عمرى حتى ترم أعظمي في قبرى
كان أبو سفيان يجوب ميدان القتال أملا فى العثور على جثة محمد فلقى جثة حمزة على حين أقبل الحليس سيد الأحابيش فجعل أبو سفيان يضرب في شدق حمزة بزج الرمح قائلا ذق عقق وقد غضب الحليس برغم إشراكه لذلك الفعل الشنيع فصاح في قومه يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه لحما ما ترون فخجل أبو سفيان من سلوكه وأوقف الحليس ورجاه قائلا ويحك اكتمها عنى فإنها كانت زلة ثم اقترب أبو سفيان من المؤمنين حتى صار في استطاعته محادثتهم وهم متحصنون بسفوح أحد فصاح فيهم و أمحمد بينكم فلم يتلق جوابا فاستنتج أن محمداً قد مات فصاح بأعلى صوته قبل أن ينصرف أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر أعلى هبل
فلما سمع الرسول ذلك الإسفاف أمر عمر بالرد عليه فصاح عمر قائلا الله أعلى وأجل ! فعرف أبو سفيان صوت عمر فسأله أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا قال اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن فخاب ظن أبي سفيان فقال و أنت أصدق عندى من ابن قمئة وأبر لقول ابن قمئة لهم إنى قد قتلت محمداً ثم نادى أبو سفيان
موعد
إن موعدكم بدر للعام القابل فأجاب عمر نعم هو بيننا وبينك
ثم بعث الرسول يعلى في آثار المشركين وقال له اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة نفسي بيده لأن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأنا جزنهم
والذي
وخرج على وما لبث أن رجع وقد رأى القرشيين يجنبون الخيل ويمتطون
الإبل مولين شطر مكة

فاطمأن المؤمنون وخرجوا المواراة شهدائهم وخرج النبي يلتمس عمه حمزة

۸
فوجده بمنخفض الوادي قد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال حينما رأى ما رأى لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدى لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ولأن أظهرنى الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين من رجالها فنزل عليه الوحى
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فعاقبوا بمثل ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولئن صَبَرَتُم لهوَ خَيْرٌ
للصابرين فلما تلقي الرسول هذا التنبيه أقلع عن عزمه ونهى المؤمنين على المثلة بالأعداء ووصلت أخبار خسائر المسلمين إلى المدينة فجاءت النساء ومن بينهن صفية بنت عبد المطلب ليداوين الجرحى ويبكين الموتى فلما علم الرسول بمجيء صفية أمر ابنها الزبير بن العوام بلقائها وإرجاعها لئلا ترى أخاها وقد شوه وجهه تشويها شنيعاً فأجابت ولم وقد بلغنى أنه قد مثل بأخى وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله وأتت أخاها حمزة ونظرته نظرة طويلة ثم انصرفت بعد أن صلت صلاة حارة وهي ثابتة الجنان
6
عندئذ بدئ فى دفن الموتى فشيع الرسول جثة عمه حمزة ثم جمع الجثث اثنتين أو ثلاثاً في كل ضريح بغير غسلهم كالعادة وذلك لئلا يرهق المؤمنين
وقال
ه أنا شهيد على هؤلاء إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك وعلم الرسول أن كثيراً من الناس قد نقلوا موتاهم إلى المدينة ليدفنوهم بها فنهاهم قائلا ادفنوهم حيث صرعوا ولم تكن الموقعة أحد نتائج ضارة بالإسلام - كما يتصور بعض الناس فإن كان الإسلام قد عانى فيها خسائر أليمة فقد جنى منها الكثير من الفوائد المعنوية ولم تنتج الهزيمة إلا من عصيان الجند لتنبيهات الرسول الحكيمة ثم مخالفة أوامره الصارمة قبيل القتال فكان هذا إشارة للمؤمنين أن يلتزموا في المستقبل الطاعة التامة لنبيهم وأن ينفذوا أوامره بكل دقة حتى في حالة ما إذا افتقد

۹
الرسول أو مات وقد نصت على ذلك الآية التي تشير إلى فترة اليأس التي انتابت عليا
وأبا بكر وعمر وَمَا مُحمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قتل انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ والواقع أن الهزيمة تزيد العزم قوة والحماسة اشتعالا إذا كان الإيمان
صادقا متوقداً
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتِلَ مَعَهُ رِبَّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لما أَصَابَهُمْ فِي
سبيل الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا والله يحب الصابرين
من
ولم تعد الرحمة بالمشركين مشروعة فقد جعلها تمثيلهم الوحشى بالشهداء السبعين ضرباً من المستحيل وكذلك فرق الله بين المؤمنين المخلصين والمنافقين أمثال عبد الله بن أبي بن سلول وأشباهه وكان الرسول عليما بأخلاق المنافقين غير أن عامة المسلمين لم يكونوا يدرون مدى غدر هؤلاء ونفاقهم فظهر لهم ذلك جليا بعد انخزالهم الخبيث في ساعة الخطر وقد شهد محمد صلى الله عليه وسلم بفضل أحد رغم الهزيمة على المسلمين وجعل منه ساحة حراماً حرمة ساحة

1
مكة زواج محمد بزينب أعتق النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وتبناه ثم زوجه ابنة عمته زينب بنت جحش وأصبح زيد كفرد من أفراد أسرة الرسول يعامل معاملة الاين الحقيقى جرياً على عادة العرب بالنسبة للمتبنى لم يكن الرسول يفكر فى الزواج بزينب لا قبل زيد ولا بعده وإلا فأي شيء كان يمنعه من التزوج بها بكراً غضة الإهاب وقد كان يملك من أمرها كل
شيء

1 جارى المؤلف في كتابته عن زواج زينب بعض الروايات التى ذكرت في السيرة ولكننا رأينا أن النصوص الصحيحة والقرآن يخالفان رأيه فعمر بنا هذا الموضوع بتصرف وبهذه المناسبة نذكر أن المؤلف كان يروى بعض الأحاديث عن الرسول وعن الصحابة وهذه الأحاديث أثبتنا أصلها العربي حينما كنا نمثر عليه في كتب السيرة وكنا نترجمها بالمعنى إذا لم نعثر على أصلها العربي أو إذا كان المؤلف نفسه قد تصرف فيها بخياله وفنه

۳۰
على أن زواج زيد بزينب - كان بوحی سماوى وأمر إلهى لأن زينب وأهلها أبوا أن تتزوج بهذا العبد المحرر ذلك أن العرب تتعصب للأنساب وتفتخر
بالآباء والأجداد فامتنعوا ورأوا أن ذلك عار عليهم فنزلت الآية الكريمة ما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ - إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُه أَمْرًا - أَنْ يَكُون لهم الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم وامتثلت زينب أمر الله ورسوله فى هذا الزواج إلا أنها كانت تشعر بأنها شريفة قرشية وبأن زيداً كان عبداً مملوكا لذلك كانت تتكبر عليه وتنفر منه فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد غير مرة أن يطلقها ولكن الرسول كان يقول له أمسك عليك زوجك مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن الله سيز وجه بها تشريعاً جديداً وقضاء على عادة تأصلت في نفوس العرب هي معاملة المتبنى معاملة الابن الحقيقى
أراد الله تعالى القضاء على تلك العادة فنزلت الآيات
ه مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبناء كم ذلِكم قولكم بِأَفْوَاهِكُم والله يَقُولُ الحقِّ وَهُوَ يَهْدِى السبيل ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ
فإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فإخْوَانُكُم فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم الآية سورة الأحزاب ٤ - ٥]
وكان من الممكن أن تستمر هذه العادة من الناحية العملية مع زوال الاعتقاد فيها من الناحية النظرية وكان لا بد من عمل حاسم فنزل
ه مَا كَانَ محَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّنْ رِجَالِكُم الآية [ الأحزاب ٤٠ ]
وكان زيد قد قضى من زينب وطراً ولم يعد له بها من حاجة ولم يعد يحتمل العيش معها فطلقها فأمر الله الرسول أن يتزوج بها ولكن الرسول في نفسه كان يخشى على ضعاف الإيمان سوء الظن ومن الكفار الدعاية السيئة فنزلت الآية الكريمة الجامعة وَإِذْ تَقولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكَ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ

۳۱
وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدُ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ
لا يكونَ عَلَى الْمُوْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا
[ سورة الأحزاب ٣٧ ]
6
وتزوج الرسول تنفيذاً لحكم الله وقضائه المفروض ما كانَ عَلَى النَّبي مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَه سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدْرًا مَقْدُورًا [ الأحزاب ٣٨]
W
ولما كان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم من الله وحده ولا دخل لأمر آخر فيه كانت تفتخر بذلك وتقول لباقى الزوجات إن الله تعالى تولى
إنكاحي وكان ذلك ابتلاء عظيماً سواء نظرنا إليه بالنسبة لزيد وزينب أولا أو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً
فعزم
غزوة ذات الرقاع سنة ٤ هـ سنة ٦٢٦ م علم الرسول أن بنى محارب وبني ثعلبة بنجد قد أعدوا العدة ليحملوا عليه على سبقهم والتقدم لمواجهتهم ولم يستطع لعجلته في الرحيل أن يجمع إلا القليل من الجمال فكان نصيب كل ستة من الجنود بعيراً يتناوبونه بينهم كل بدوره فلحق بأرجلهم أذى من أثر الصخور الحادة التي أدمتها وخلعت منها الأظافر فكان المؤمنون يلفونها بوقاع من القماش ومن ذلك سميت الغزوة بذات الرقاع وبعد أن عسكر جند محمد في بطن نخل وجدوا أنفسهم أمام الأعداء مجتمعين فثبت الجيشان متواجهين لا يجرؤ أحدهما على البدء بالقتال ولم يتقدم المؤمنون إذ كانوا قلة بالنسبة إلى أعدائهم ولم يتقدم المشركون إذ حل من جند الإسلام بعد انتصاراتهم المتوالية وفى هذه الأثناء شرع الرسول صلاة الخوف فقسم المؤمنين فئتين تتناوبان
بهم
الرعب
الصلاة وملاحظة العدو

۳
وقد أتى الحلفاء ليباغتوا المسلمين فوجدوهم على أهبة القتال بل وجدوهم تقدموا يطلبونه فأخافهم ذلك وأقلقهم ثبات المسلمين فأخذوا في التراجع الجماعة منهم تلو الجماعة وانقلب الحذر الشديد الذي اتبعه المسلمون في الساعات الأولى إلى مبالغة في الاطمئنان من ذلك أن القائلة أدركتهم فتفرقوا يستظلون بأشجار الطلح التي كانت تكسو الوادى مهملين حراسة أنفسهم فلاحظ الأمر أعرابي من بنى محارب فتسلل زاحفا حتى وصل إلى مجلس النبي

فاختطف سيفه ذا المقبض الفضى وكان معلقاً بغصون الشجيرة التي ينام في ظلها وقال للرسول دعنى أنظر إلى سيفك هذا ومس بيده حد السيف ليختبره ثم جعل يهزه فوق رأس النبي صائحاً يا محمد أما تخافي قال لا وما أخاف منك ! قال أما تخافى وفى يدى السيف قال النبي بصوت هادئ رزین مصوبا نظراته إلى الأعرابي لا ! فإن الله يمنعني منك
ودهش البدوى لهذا الهدوء فى ذلك الموقف وأحس بقوة إلهية تقبض عليه وتكاد توقف دقات قلبه فتصبب على وجنتيه عرق بارد وتفككت أنامله القابضة على السيف وسرعان ما وقع هذا السيف من يده أمام محمد الذي التقطه بهدوء وقال والآن ما يمنعك منى فقال الشقى وقد ملأه الرعب كرمك فتركه الرسول يبتعد دون أن يطلب منه ه شيئا يريد بذلك أن يبين للمشركين كرم الإسلام حتى يقبلوا عليه راغبين فانصرف الأعرابي إلى قومه وكان قد وعدهم برأس محمد فقال حين أتاهم لقد رأيت أكرم الناس ثم رجع
إلى الرسول فأسلم بين يديه

غزوة بني المصطلق سنة ٥ ه ٦٢٧ م
تحرك بنو المصطلق بدورهم وتآمروا على الإسلام فعقد محمد العزم على ردعهم فقام إليهم في جيشه حتى لحقهم في أرضهم بقديد عند ماء يقال له المريسيع فتقابل الجيشان واقتتلا فهزم الله بني المصطلق وأوقع في يد جند الإسلام غنائم عظيمة من إبل وغنم وسبايا وكان من بين السبايا ابنة سيد بني المصطلق وكانت فتاة مليحة تدعى جويرية وقد وقعت في السهم

۳۳
لثابت بن قيس فكاتبته على نفسها بمبلغ من المال كبير نظير عتقها ثم أتت
الرسول فقالت له
يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني
من البلاء ما لم يخف عليك فجئتك أستعينك على كتابتي
فقال لها أقضى عنك كتابك وأتزوجك
فقبلت وعزم النبي على الزواج منها رغم غيرة عائشة التي رأت من جويرية ملاحة وجمالا وفى هذه الأثناء أتى الحارث بفدية ابنته فأعاد محمد جويرية إليه لكن ليخطبها في الحال ويمهرها أربعمائة درهم وما إن ذاع خبر ذلك الزواج حتى قال المؤمنون أصهار رسول الله أصهارنا وأرسلوا إلى بني المصطاق بما في أيديهم من غنائم وسبايا فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها من جويرية وبينا الجند على ماء المريسيع يسقون دوابهم اللاهثة بعد القتال العنيف إذا بحادث يوشك أن يوقد الفتنة بين المهاجرين والأنصار كان جهجاه يقود فرس عمر بن الخطاب فزاحم على الماء سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن خزرج فغضب سنان واقتتل الرجلان فوقعا على الأرض وصاح سنان يا معشر الأنصار ! وصرخ جهجاه يا معشر
"
المهاجرين ! ففرق الناس بين الحصمين فى الحال فلم ينتج عن ذلك الحادث شيء مباشرة لكنه أثار غيظ الناس من الجانبين وزاد الطين بلة قول عبد الله ابن أبي بن سلول المنافق - وكان قد شاهد الحادث أوقد فعلوها ! قد نافرونا وكاثر ونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول سمن كلبك يأكلك أما والله لمن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها ! الأذل وسمع
بن
الخطاب
ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله وأخبره الخبر وعنده عمر الذي انتفض غاضبا وصاح يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله فأجاب الرسول كيف يا عمر ! إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ثم قال لعباد لا ولكن أذن بالرحيل
وكانت الشمس تسطع في كبد السماء والحر شديد منهك والساعة لا تناسب

٢٣٤
الرحيل غير أن النبي ضرب ناقته على لحم بطنها الناعم ليحثها على السير
فرحل جنده وراءه

وساروا
هذا حتى أمسوا وليلتهم تلك حتى أصبحوا
يومهم
من الإعياء فأمر بحط الرحال
فلم
ويومهم
ذاك
حتى غدوا وآنئذ رأى النبي جنده الشداد وقد نال منهم التعب فراحوا يترنحون يلبثوا أن وجدوا مس الأرض حتى وقعوا وقد أرهقتهم مشقات الطريق فلم يستطيعوا إبداء الغيظ الذي في قلوبهم والذي كان من شأنه - لولا حكمة النبي – أن يثير بين المسلمين فتنة
نياما
دامية

بن
وكان لعبد الله بن أبى المنافق ابن مؤمن مخلص الإيمان يحمل أيضا اسم عبد الله فأتى الرسول وقال له يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل عبد الله أبي بن سلول فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى وإني لأخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أبى يمشى بين الناس فأقتله فأقتل رجلا مؤمناً بكافر فأدخل النار
فهدأ الرسول من روع ذلك المؤمن القوى الإيمان وقال له بل نترفق به
ونحسن صحبته ما دام معنا
التيمم
في هذه الرحلة نزل الوحي بالآيات
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وأَيْدِيَكم إلى المرافق وَامْسَحُوا بِرُءُوسكم وَأَرْجُلكم إلى الْكَعْبَيْنِ وَإن كنتم جُنُباً فَاطَّهَرُوا وَإن كنتمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَا مَسْمُ النساء فلم تجِدُوا مَاءً فتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّباً فامسحوا بوُجُوهِكُم وَأَيْدِيكُم مِنْهُ ما يريدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكن يُريد ليطهركم وَلِيتُمْ نِعْمَتَهُ عليكم لَعَلَّكُمْ تَشْكرون

۳۰
عنهم
هكذا شرع التيمم الذى يمنع المؤمنين من تناسى فرض الوضوء لأنه أبعد تلك الحجة التي كثيراً ما كانوا يتعلقون بها حجة عدم توافر الماء اللازم
في الصحراء
حرب الخندق سنة ٥ هـ سنة ٦٢٧ م
خرج إلى مكة وفد من قبيلة بني النضير وبعض الغاضبين من بني وائل ليعرضوا على القرشيين التحالف ضد محمد ولحق الأحابيش وقبائل بهم الغطفانيين من أهل شمالى الحجاز فدبرت في مكة مؤامرة واسعة النطاق تهدد
معهم
المدينة من كل جانب ولما أحيط النبي علماً بأهمية تلك الغزوة سهل عليه إقناع المؤمنين بأن طريقة النجاة الوحيدة هي في انتظار العدو وراء حصون المدينة وكانت المدينة محصنة من كل جانب بالسدود والقلاع والبساتين غير أن

الجانب الشمالي كان ضعيفا يعرض للأعداء منفذاً يخشى منه هجوم عنيف فأشار سلمان الفارسي وكان حديث عهد بالإسلام على الرسول باتخاذ تدبير مفيد للدفاع وهو أن يحفر خندقا يحيط بالموقع الضعيف وكان سلمان قد رأى شيئا من ذلك في بلاده واقتنع محمد بحجج الفارسي مما جعله يأمر في الحال بحفر الخندق فنزل جميع المسلمين إلى ساحة العمل مؤمنين بصواب رأى نبيهم وبصدق بصيرته على أن حالهم كان يرثى لها وكانوا يتحملون متاعب كثيرة فقد هبت عليهم ريح باردة ثلجية كتلك التى يكثر هبوبها شتاء على تلك الوديان الصحراوية ذات الإشعاعات الشديدة فأوشكت أجسامهم أن تتجمد برداً وقطع الأعداء طرق المئونة عنهم فأصبح المؤمنون والجوع يعض فيهم ويوشك أن يشل قواهم لولا إيمانهم الذى كان يبعث فيهم الدفء والقوة وكان غداؤهم

الوحيد حبات من الشعير المطبوخة في دهن الضأن الذي بدأ يفسد من ذلك فقد كان الذين يعملون فى الخندق يرمون الرمل بمرح
وعلى الرغم واستبشار فهبط سطح الخندق بسرعة وقد فاجأتهم صخرة اشتدت على معاولهم فلم يستطيعوا اقتلاعها فأخذ محمد قليلا من الماء في فمه ثم نضح به على الكدية داعيا الله القدير ثم عادوا إلى الحفر فلم تلاق أذرعهم من عائق

٢٣٦
إذ ضاعف الإيمان قواهم الإيمان الذي بعثه الرسول في قلوبهم بعمله هذا فتفتتت الصخرة تحت ضربات المعاول وانهالت حتى عادت كالكثيب
جيش

عاقبة
ولم يكد المؤمنون ينتهون من حفر الخندق حتى اختفى السهل تحت مخيم الأعداء المكون من عشرة آلاف رجل من قريش وكنانة وغطفان وعرب تهامة وعرب نجد وغيرهم وتخوف المشركون رغم تفوقهم في العدد من قتال سيد المرسلين فجعلوا يبحثون عن حلفاء جدد وخرج عدو الله حي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد أمير قبيلة بني قريظة اليهودية وكان قد عاهد الرسول رغم عداوته الشديدة له فضاق كعب بزيارة حيي وصده قائلا ه ويحك يا حيي ! إنك امرؤ مشئوم وإنى قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً فقال حبي افتح الباب فما أريد إلا أن أقاسمك في دشيشتك وأن آكل منها معك ففتح له فلم يكد حتى يدخل حتى فاتح مضيفه بموضوع زيارته وأبان له عن قوة المتحالفين المعسكرين على جبل أحد ثم أكد له اعتقاده الراسخ في أنهم يستطيعون أن يجعلوا من محمد أثراً بعد عين غير أن كعباً أجاب ولم يزل متردداً جنتنى والله بذل الدهر وبجهام قد أهريق ماؤه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء ويحك يا حبي ! فدعنى وما أنا عليه فلم يزل يكعب يقتله في الذروة والغارب حتى أغراه بفسخ عقده مع محمد وعقد معاهدة مع المشركين فلما انتهى خبر ذلك إلى الرسول بعث سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة وخوات بن جبير لينظروا أحقا كان ما بلغه فخرجوا حتى أتوا بني قريظة وذكروهم بميثاقهم فلم ينالوا منهم سوى هذا الجواب من رسول الله لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد وكان لهذا الغدر خطره فبنو قريظة كانوا يعلمون تمام العلم أسرار المؤمنين ونقط الضعف في المدينة فقال الرسول ليطمئن أتباعه عند رجوع وفده بالخبر الله أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين يريد بذلك أن بني قريظة سوف يغنون المؤمنين عما قريب بأسلابهم أن غدروا بهم هذا الغدر القبيح بيد أن منظر الآلاف العشرة من الرماح البراقة وقد كست السهل لم يكن ليطمئن المؤمنين وقد وقفوا على شرف
بعد
حي
قلاعهم

۳۷
وأخذ المنافقون كعادتهم يبثون في الناس الرعب بدلا من الثبات فيقولون كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر
بحثوهم على وأحدنا اليوم
لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وأخرج الرسول جنده ليشغلهم عن أحاديث اليأس وصفهم وراء الخندق جاعلا ظهورهم إلى جبل سلع فأتاه بعض الجبناء يستأذنونه في الرجوع قائلين إن بيوتنا عورة
ويَسْتَأْذنُ فريقٌ مِنْهُمُ النَّبِيِّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا وَلَوْ دَخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقطَارِهَا ثمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا
وكان القلق في الواقع عظيماً لكن إيمان المسلمين المخلصين وهدوء الرسول قضيا على هذا القلق فضلا عن أن الحلفاء كانوا لا يزالوا يحسون بالرعب الذي أحسوا به إزاء القوة الخفية التى لاقوها في كل معركة لهم مع جند الله وخافوا أن يخاطروا بالهجوم قبل التأكد من أن الدائرة لن تدور عليهم فقنعوا بالاقتراب من المدينة
من
وأقام الناس على هذه الحال بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم خلالها حرب إلا الحصار والرمى بالنبال رمياً لم يكن فيه ضرر ولا نفع وأخيراً خجل فوارس من قريش وكنانة من قعودهم فتهيئوا للقتال وخرجوا في كوكبة متقاربة الأفراد ومالوا على رقاب خيلهم فأقبلت تعنق بهم حتى اختفوا في هالة وفجأة توقف السيل الآدمى فزالت هالة الغبار التي سترت
من
الغبار المظلم فوارس المشركين ورآهم الناس قد جمدوا رعباً أمام الخندق العميق الذي كاد يلتهمهم في جوفه بينما الخيل على حافة الهاوية ترتجف سيقانها المتوترة وأنوفها ترتعد وأفواهها ملتوية مخضبة بالدماء التى أسالتها جذبة الخطام القوية
لإيقافها

وصاح المشركون والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها
ثم توجهوا نحو مكان ضيق من ! الخندق وهمز وا خيولهم همزاً شديداً فاقتحمته في قفزة هائلة ونزلت بهم على الناحية الأخرى فخرج إليهم على يجد في نفر من المسلمين ووقف بينهم وبين الخندق فقطع عليهم طريق الهروب

۳۸
فتقدم عمر و بن عبدود وهو فارس يمتاز بقامته الهائلة وراح يتلفظ بأقبح الشتائم وينادى المؤمنين إلى المبارزة فاستأذن على بن أبي طالب الرسول في الخروج إليه فأذن له وألبسه درعه وعمامته وشد سيفه فقام إلى عمرو بن عبدود ووقف أمامه فاستصغره الفارس الرهيب ورحم شبابه وقال والله ما أحب أن أقتلك لأن أباك كان نديمي
فأجابه على ولكنى والله أحب أن أقتلك
C
فاغتاظ عمرو لذلك فنبهه على بن أبي طالب أنه وإن كان قد احتقر ضعف خصمه فإنه لم ير حرجاً فى ركوب فرسه أمام خصم مترجل فقفز عمرو عن فرسه فعقره لئلا يستعين به في القتال ولا فى الفرار ثم لطم وجهه بقبضته وقد جن جنونه أمام سخرية خصم صغير مثل هذا ثم وثب على غريمه فضربه ضربة شديدة أصابته فى جبينه إصابة خفيفة بعد أن خرقت ترسه غير أن عليا تراجع كالبرق و باغت عدوه بوثبة فجائية ففقد هذا الأخير توازنه إذ استدار ليجابهه ولم تفت عليا الفرصة فضرب عدوه ضربة بارعة جعلت السيف يغوص بأكمله في صدر عمرو بعد أن قطع أوداجه وسال الدم غزيراً من الجرح العميق فترنح العملاق ساعة وهو يئن كالسكير ثم خر كالبنيان شاهقاً شهقة الموت بين يدى بطل الإسلام وكبر المسلمون لهذا النصر وهللوا بينما فر باقى المشركين مذعورين وخيلهم غير أن رجلا منهم يقال له عبد الله بن نوفل لم يحسن القفز فرق الخندق فوقع فيه يفرسه وانهال عليه وابل من الحجارة فأنهى الزبير عذابه بضربة سيف شقت جسمه نصفين ولم يقف السيف إلا على الرحال
تعنق بهم

وكانت صفية عمة الرسول فى أعلى حصن حسان بن ثابت تلاحظ الأعداء وكان حسان بجانبها فمر بهما رجل من اليهود يطيف بالحصن فقالت لحسان يا حسان إن هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا إنى شاعر ولست بصاحب حرب
فاقتله

۳۹
فلما رأت صفية الشجاعة منه ذلك هزت كتفيها احتقاراً وأخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إلى اليهودى فضربته بالعمود على رأسه حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقالت لحسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل
لها
ظل الناس أياماً على تلك الحال واقتصر القتال على مناوشات لا أهمية غير أنه إن كان الهجوم من جانب الأعداء لا يخشى بفضل الخندق الذي أفسد خطط المشركين فإن المجاعة كانت تهدد بالقضاء على المحاصرين أجمع فكان القلق عظيما في صفوف المسلمين وفى هذه الأثناء أتى نعيم بن مسعود سيد غطفان رسول الله فقال له ه يا رسول الله إنى قد أسلمت وإن قومى لم يعلموا بإسلامي فمرنى بما شئت فقال النبي إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب
خدعة

فهم نعيم في الحال ما يجب عليه أن يقوم به فخرج حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال يا بني قريظة قد عرفتم ودى إياكم
وخاصة ما بيني وبينكم
قالوا صدقت لست عندنا
يمتهم
6
فقال إن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم فأنتم البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ولا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهر تموهم عليه وأموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره فليسوا مثلكم فإن رأوا فهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون ثقة لكم على أن تقاتلوا
معهم
حتى تناجزوه
محمداً فقالوا له جميعاً في صوت واحد لقد أشرت بالرأى
ثم خرج نعيم حتى أتى مشركي قريش فقال لهم و قد عرفتم ودى لكم
وفراقى حمداً

٢٤٠
قالوا نعم
قال وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت حقاً على أن أبلغكموه نصحاً لكم
فاكتموه عنى قالوا نعم
قال تعلمون أن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا إليه يقولون إنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم فنقتلهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم أن نعم فإن بعث إليكم بنو يهود يلتمسون رهنا منكم من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحداً

ثم أتى عشيرته من غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش فأحرز عين النجاح وأقسم القرشيون والغطفانيون أن يلتزموا الحرص والحذر فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس أرسل أبو سفيان بن حرب غطفان بعكرمة بن أبي جهل فى نفر من قريش وغطفان إلى بني قريظة ليقولوا لهم إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً ونفرغ مما بيننا وبينه
وريوس
ولسنا
6
فردوا عليهم يقولون إن اليوم يوم سبت وهو لا نعمل فيه شيئا ذلك بالذين يقاتلون معكم محمداً حتى تعطونا رهنا من رجالكم مع يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً فإننا نخشى إن خسرتم الحرب واشتد عليكم القتال أن تتشمروا إلى بلدكم والرجل في بلدنا لا طاقة لنا
بذلك منه
فلما رجع عكرمة إلى قريش وغطفان بذلك الجواب قالتا والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود عن بني قريظة لحق ! وأرسلوا إلى بني قريظة برسول آخر ليبين لهم بوضوح أنهم لن يدفعوا إليهم رجلا واحداً من رجالهم وعندئذ تحقق بنو قريظة بدورهم من صحة قول نعيم فتم بذلك فسخ ما عقد بينهم
وبين الحلفاء

٢٤١
فلما جاء نعيم بالخبر إلى النبي سر منه ولكنه أراد التحقق من أثره في
صفوف غطفان وقريش فدعا بحذيفة وقال له يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا وفي الظلام الحالك في تلك الليلة من ليالى الشتاء تسلل حذيفة وسط خيام الأعداء والريح الصرصر تقلب القدور وتطفئ النيران وتصفر في الآذان صغيراً مؤلماً فيرتعد المشركون لها في ثنايا أثوابهم وصاح أبو سفيان في الناس يا معشر قريش لينظر كل امرئ من جليسه أى احذروا العيون وكان حذيفة حاضر البديهة فأخذ بيد جليسه المشرك وقال له بصوت فيه رنة التهديد ه من أنت ! قال فلان بن فلان فتركه ولم يفكر المشرك وقد أجبر على أن يتبرأ في أن يسأل بدوره من جليسه

انتهى
وأدى انخذال بني قريظة وتعذر وجود العلف للخيل والإبل وأخيراً ما كان في تلك الليلة المشئومة من اضطراب إلى سريان اليأس في قلب أبي سفيان فدار بينه وبين رءوس قريش أمام حذيفة المتخفى حديث قصير بأن قرروا الرجوع إلى الديار وأحاط حذيفة علماً بما أراد فرجع إلى قومه فوجد الرسول قائما يصلى فلما رآه الرسول أشار إليه بالاقتراب وطرح عليه طرفاً من الثوب الذي كان يصلى عليه ليقيه البرد وأتم صلاته ثم أنصت إلى حديث الكشاف الجرىء وهناه على ما أحرز من نجاح في مهمته
وفى اليوم التالى كان السهل خاليا من الأعداء فخرج النبي عن الخندق وأرجع جيوشه إلى المدينة قائلا الآن نغز وهم ولا يغزوننا
معاهدة الحديبية سنة ٦ هـ سنة ٦٢٨ م
رأى الرسول فيما يرى النائم أنه دخل مكة بين أصحابه وأنه طاف بمنى فعزم على تحقيق ذلك الحلم الذي عبر عن أعز أمانيه وأماني سائر المسلمين الذين لم يطوفوا بالحرم منذ الهجرة وفى شهر ذي القعدة رحل الرسول فى أربع عشرة مائة حاج يسوقون أمامهم الهدى سبعين بدنة وخرج من المدينة قاصداً مكة ولكنه أراد أن يبين للناس

٢٤٢
أنه لم يخرج للحرب فأمر بنثر الزهور على نحور الهدى ثم أحرم في ذى الحليفة فلبس ثوب الحجاح المكون من الرداء والإزار الخاليين من الخياطة وامتنع عن كل شيء محظور أثناء الإحرام من اتصال بالنساء واستعمال للعطور وأرسل شعر الرأس والذقن وترك أظافره وامتنع عن أي تشاجر أو قتال وعن ذبح أية دابة غير الهدى وقد فعل أصحابه مثلما فعل ثم جهر محمد بالتلبية لبيك اللهم لبيك فرددوها جميعاً من بعده
فلما كان بعسفان جاء إليه بشر بن سفيان الكعبى وكان قد أرسل إلى مكة عيناً فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخر وجلك واستنفر وا من أطاعهم من الأحابيش وأجلست ثقيفا معهم ومعهم النساء والصبيان ليكون أدعى لعدم الفرار وأخذوا العوذ المطافيل ۱ ليشربوا ويأكلوا وقد لبسوا جلود النمور عازمين على القتال حتى الموت وقد نزلوا الآن بذى طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع
العميم " فنادى الرسول هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها فتقدم رجل من بنى أسلم وسلمك بهم طريقاً مجهولا وكان هذا الطريق يبدو موحشاً لأعينهم كان يتلوى فى شبكة من الشعاب الضيقة بين ربوات صخرية مشققة وبين هبوط وصعود وعلى سفوح جبال تكسوها الحجارة الحادة التي تدمى أرجل الحجيج والدواب
و بعد اجتياز ما لا حصر له من العقبات أفضى المؤمنون إلى بطن هواء رملى واسع بدا لأرجلهم الدامية وكأنه البساط اللين فحمدوا الرحمن وصاحوا مع قائدهم الملهم نستغفرك اللهم ونتوب إليك ثم سلكوا ثنية المرار وهبطوا حتى وصلوا إلى أسفل جبل الحديبية الذي يقع جزء منه في الأرض المحرمة والجزء الآخر في الأرض الحل وبينه وبين مكة مسير يوم وفى هذا المكان بركت القصواء ناقة الرسول فجأة وأبت القيام فقال الناس خلات بركت
1 العوذ المطافيل النياق ذوات الأولاد يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا
ألبانها والمطافيل
جمع
مطفل ذوات الطفل

٢٤٣
الناقة فأجابهم ما خلأت وما هو لها يخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ثم أمر الناس بضرب الخيام
هذا
وتعجب
الأعداء إذ لم يلقوا محمداً بعد أن ظنوا أنهم منه غير بعيدين
لكن سرعان ما علموا باتجاهه الجديد فرجعوا على أعقابهم مهرولين وبعثوا بفرسانهم يتقدمونهم لحماية طريق مدينتهم ثم أرسلوا إلى النبي ببديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة ليستطلعوا قصده فلما علم بديل من الرسول نفسه أنه لا يريد حرباً مع قومه بل جاء حاجا للبيت الحرام عاد إلى القرشيين بالخبر ولكنهم تشككوا في صدق خزاعة إذ كانت تميل إلى محمد فأرسلوا إليه رسولا آخر يقال له الحليس بن علقمة فقال الرسول عندما رأى الحليس آتيا إن من قوم يتألهون فابعثوا الحمدى فى وجهه حتى يراه فلما رأى الجليس الهدى الكثير مارا أمامه فى عرض الوادى فى قلائده وقد حلقت نحور الدواب من حيث تذبح اكتفى بما رأى ورجع إلى قريش ليخبرهم بما شاهد فقالوا له و اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لـ لك فغضب الحليس وقال يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فهزوا أكتافهم احتقاراً وقالوا مه كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا
ما نرضی به
ثم بعثوا إلى النبي بعروة بن مسعود أحد رءوس ثقيف ليقوم بالمهمة التي رأوا أن السفيرين الأولين لم يحسنا القيام بها فاعترض عروة على ذلك قائلا ه يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء الكلام وقد عرفتم أنكم والد وأنى ولد وقد سمعت بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم
فخرج عروة حتى أتى النبي فجلس بين يديه وقال يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم إنها قريش قد خرجت

٢٤٤
معها العود المطافيل وقد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً
وعندئذ بان الغضب فى عيون الصحابة وقد وقفوا وراء الرسول وأسفل وجوههم مغطى فانبرى أبو بكر من صفهم ووقف أمام المشرك صائحاً امصص
بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه
فسأل عروة من هذا يا محمد
قال هذا ابن أبي قحافة
فقال
هذه بها "
عروة لأبى بكر أما والله اولا يد كانت لك عندى الكافأتك بها
ولكن
ثم جعل يقترب من محمد ويتناول لحيته - كما جرت العادة في هذا العصر بين
من يتسامرون - فصاح فيه رجل آخر من الصحابة و اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن تقطع دونك
فقال عروة من هذا الفظ الغليظ يا محمد
فتبسم الرسول وقال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة
فقال عروة لابن أخيه أى غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ثم عاد إلى حديثه مع محمد الذى أكرم وفادته وأكد له أنه ما جاء
للحرب ورأى عروة أثناء إقامته عند الرسول ما يحيطه به أصحابه من إجلال لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه فلما رجع قال لمن بعثه يا معشر قريش إنى قد جئت كسرى فى ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه فوالله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه لا يبغون منه مالا ولا جاها كالعهد بأصحاب الملوك ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه

لشيء فروا رأيكم وأصر القرشيون على أن يبقوا في ضلالهم يعمهون رغم تأثرهم بذلك القول فبعثوا بأربعين أو خمسين رجلا منهم ليطيفوا بمعسكر رسول الله ويصيبوا لهم من أصحابه وكان المؤمنون على حذر فكانوا هم الذين أصابوا من المشركين

٢٤٥
وأتوا
بهم رسول الله ولكنه لم ير الخروج عن موقفه السلمي فعفا عنهم وخلي سبيلهم رغم أنهم استحقوا القتل جزاء هجومهم الغادر
وأراد الرسول بعد ذلك أن يبعث عمر برسالة إلى أشراف مكة ولكن عمر امتنع قائلا يا رسول الله إنى أخاف على نفسى قريشاً وليس بمكة من بني عدی بن کعب أحد يمنعنى وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتى عليها ولكنى أدلك على رجل أعز بها مني هو عثمان بن عفان
فرأى محمد صواب ذلك القول فدعا بعثمان بن عفان وبعثه إلى أبي سفيان ابن حرب وأشراف قريش ليخبرهم أنه ما جاء لحرب بل حاجا للبيت ومعظماً لحرمته فلما بلغ عثمان رسالته إليهم قالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت
قطف
فقال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله
فغضب أهل مكة من تلك الإجابة واحتبسوه رغم كونه سفيراً ولا تأخر عثمان على المؤمنين استنتجوا أنه قد قتل فنال منهم الغضب منالا عظيماً حتى قطع الرسول في الأمر فنادى فيهم لا تبرح حتى نناجز
القوم وأمر عمر أن يصيح بأعلى صوته فى المؤمنين أيها الناس البيعة ! البيعة ! نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الل الله
وكان الرسول جالساً فى ظل دوحة وارفة الظلال يتلقى مبايعة المؤمنين المتحمسين وقد عقدوا العزم على أن يطيعوه طاعة تامة وإن دعاهم إلى مناجزة أهل البلد الحرام وكان كل واحد منهم يشد على يده ليبايعه على الموت وفى هذه الأثناء بلغ الرسول أن الذى ذكر له عن عثمان باطل فبايع لعثمان فضرب بإحدى يديه على الأخرى وأبلغت العيون أهل قريش ما كان من أمر جند المسلمين فقلقوا وبعثوا
بسهيل بن عمرو ليفاوضهم وقالوا له ايت محمداً فصالحه ولا يكن صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخل علينا عنوة أبداً

٢٤٦
فأتى سهيل بن عمر و الرسول وأبلغه شروط الصلح فقبلها رغم مراجعة عمر بن الخطاب الشديدة وقال أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني یا عمر إنى رضيت وتأبى
فارتبك عمر لذلك - رغم قوة شخصيته - ارتباكا شديداً حتى جعلت أعضاؤه ترتجف ونضح من جسمه عرق بارد ويروى أنه قال ما زلت أصوم وأتصدق وأصلى وأعتق مخافة كلامى الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً وقال الرسول بعد ذلك لعلى اكتب باسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم
فقال رسول الله اكتب ياسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فقال سهيل لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك
فقال النبي اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه وعلى محمد وأصحابه أن يرجعوا عن مكة عامهم هذا فلا يدخلوها وأنه إذا كان عام قابل يدخلها بأصحابه فيقيمون بها ثلاثة أيام ومعهم سلاح الراكب أى السيوف في القرب فلما سمع المؤمنون تلك الالتزامات بدا لهم أنها ليست في صالحهم فقالوا
ومن
في قلق بالغ يا رسول الله أتكتب هذا
فأجاب الرسول باسما نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله منهم فرددناه سيجعل الله له فرجا ومخرجاً
ومن
جاءنا
ولم يكد العقد يبرم ويشهد عليه رءوس المؤمنين ورءوس المشركين حتى برز أبو جندل بن سهيل - وكان قد أسلم فحبس - يرسف في الحديد فارتمى بين إخوانه في الإسلام فرحبوا به ووثب سهيل عند هذا المشهد فضرب وجه ابنه بغصن ذي أشواك حادة ثم أخذ بتلابيبه فجره أمام الرسول قائلا يا محمد

٢٤٧
قد لجت ۱ القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا
فقال محمد صدقت
فأخذ أبو جندل يصرخ يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في
دینی ! انظروا حالى وكان
المؤمن
الصبور يحمل حقا آثار الضرب
جسم
المبرح
فقال له الرسول يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم وقام الرسول مع ذلك يكلم سهيلا في الأمر طالبا منه تسليم أبي جندل لقاء فدية كبيرة فرفض سهيل رفضاً قاطعاً
وعندئذ اقترب عمر بدوره من المسلم اليائس وقال له اصبر يا أبا جندل
فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم - كلب وجعل يريه السيف ليدفعه إلى قتل أبيه ولكن أبا جندل لم يكن بالابن العاق رغم مالاقاه من أبيه فأجاب ما لك لا تقتله أنت
قال عمر نهانا رسول الله عن قتله وقتل غيره
فقال ما أنت أحق بطاعة رسول الله منى
ولقد تأثر مكرز بن حفص وهو ممن صاحب سهيلا من أهل مكة عندما شاهد ذلك المنظر فعطف على أبي جندل وأقسم أن يجيره من أبيه ومعذبيه ولما رأى المؤمنون صاحبهم يجر جراً نحو مكة أحسوا لذلك بحزن شديد وانقبضت قلوبهم حتى كادوا يهلكون أسى وتبدلت حماستهم وآمالهم في تلك الرحلة فانقلبت يأسا مريراً وعندما أقبل الرسول نحوهم يريد إفهامهم أن كل شيء قد انتهى ويأمرهم بنحر الضحايا وحلق الرءوس بدا عليهم وكأنهم لم يعوا شيئا مما يقول
فدعا محمد باسم الله ثم نحر بيده أولى الضحايا وجلس فحلق له خراش بن أمية وعندئذ فقط ذهب عن المؤمنين ذهولهم وقنوطهم وندموا على تباطئهم في
1 بحت القضية تمت

٢٤٨
تنفيذ أوامر نبيهم فقاموا وفعلوا مثل ما فعل من نحر الأضاحى وحلق وا شعورهم و بعث الله سبحانه ريحاً شديدة حملت في ثناياها الشعر المحلوق فجعلته في ساحة الحرم فاستبشروا بقبول الله عمرتهم
وكان قد مضى على نزول محمد بالحديبية تسعة عشر يوما أو عشرون يوماً
6
فأمر جنده بالرحيل وكانوا يأملون فى مكنون سرهم حتى اللحظة الأخيرة أن يأتيهم أمر بالهجوم ولكنهم أطاعوا رسولهم فى غير تلكؤ رغم شدة ما يجدونه في نفوسهم فلما وصلوا إلى المدينة شهدوا فيها مناظر أخرى كالتي رأوها في الحديبية فكادت أكبادهم تتفتت وإن قدر لهم أن تنشرح صدورهم بأن يجدوا الرسول يرفض تسليم المستضعفات من ! المسلمات اللاتى هربن من مكة إلى المشركين أم كلثوم
بنت عقبة وسبيعة بنت الحارث وغيرهما إذ جاءه الوحى بأن النساء لا تنطبق عليهن نصوص العقد
الله
يَأَيُّها الذِينَ آمَنُوا إِذا جَاءَ كم المُؤْمِنَاتُ مُهاجِرَاتٍ فَامْتَحِنوهنَّ
أعلم بإيمانهنَّ فَإِنْ علِمتموهُنَّ مُؤْمِناتِ فلا ترجِعُوهُنَّ إلى الكفار
6
لا من حل لهم ولا هم يحلُونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أنفقوا وَلا جَنَاحَ عليكم
أن تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتيتموهن أجورهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ
واسْأَلُوا مَا أَنفَقتم وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذلكم حُكْمُ اللهِ يَحْكم بينكم
غير
1 8 *
6
والله عليم حكيم أن العقد فيما يتصل بالرجال لم ينقض ولم يمس وكان أبو بصير قد هرب من أيدى معذبيه - شأنه في ذلك شأن أبي جندل - فسلمه الرسول إلى رجل من
بني عامر يرافقه أحد الموالى أرسلتهما قريش فى طلبه إلى المدينة فأخذاه على
مرأى من المسلمين الذين ودوا لو ابتعلتهم الأرض ولم يشاهدوا مغلولة أيديهم
C
مثل ذلك المنظر الأليم وبقى الرسول وحده وكان يرى ما لا يرون متفائلا هادئاً يبشر المسلم اليائس بعون من الله وفرج قريب
رجلس الرجال الثلاثة فى ذى الحليفة يستريحون في ظل حائط فجعل
1 الممتحنة ١٠

٢٤٩
العامرى يفخر بما أحرزه فى مهمته من نجاح ويظهر نفسه على أنه البطل الذي لا يقهر واستل سيفه وهزه قائلا الأضر بن بسيفى هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل فسأله أبو بصير أوصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر أرنيه وأعمى الغرور العامرى فلم يحتط لنفسه وترك لأبي بصير سيفه يختبر حده فانتزعه هذا الأخير فجأة وهزه فوق رأس المشرك ثم أطاح به بضربة واحدة فوقع الرجل جثة هامدة وملأ الرعب قلب المولى ففر هاربا إلى المدينة يستجير
بمحمد

وقد وصل أبو بصير بعده بقليل فأناخ بعير العامري الذي استولى عليه أمام باب المسجد ودخل متوشحاً سيفه وقال لرسول الله يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك أسلمتى بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتكن فيه أو يعبث بي وهذا سلب العامري رحله وسيفه فخمسه فقال الرسول إذا خمسته رأونى لم أف لهم بالذي عاهدتهم عليه ولكن
شأنك بصاحبك فاذهب حيث شئت
فلما ودعه أبو بصير ورحل قال الرسول ويل أمه ! مسعر حرب ولو كان معه رجال ! وخرج أبو بصير إلى العيص على مقربة من البحر في طريق قوافل القرشيين السائرة إلى الشام ولم يلبث أن لحق به أبو جندل وسبعون من المسلمين علموا أن
الرسول لا يمكن أن يسأل عمن يتحررون بغير معونته ففروا من أيدى المشركين وكان هؤلاء الرجال يضارعون أبا بصير فى جرأته وشجاعته فأقاموا بهذا البلد الذي تكسوه الشجيرات الكثيرة والذى يسهل فيه نصب المكائد الحربية وكانوا ينهبون كل قافلة تجرؤ على المخاطرة فيه وقد اجتذبوا إليهم بنجاحهم في هذا الأمر وبمغانمهم الكثيرة رجالا من عرب غفار وأسلم وجهينة أسلموا بلغ عدده ثلثمائة فكونوا جيشاً صغيراً للمؤمنين في هذه المنطقة
وانتظموا معهم
وفهم المؤمنون عندئذ هدوء الرسول واستبشاره ساعة قبول ذلك البند من العقد الذي

٢٥٠
ينص على رد اللاجئين والذى ظنه الناس في أول الأمر ضاراً بالمسلمين وقطعت على أهل مكة كل موارد المؤونة فهددتهم المجاعة وأعيتهم الحيلة فكتبوا إلى الرسول يرجونه فى إلغاء الشرط الذى أعجبهم أول الأمر ونال استحسانهم ويطلبون منه أن يحفظ عنهم في المدينة كل من يهرب إليه من مسلمى مكة وأن يبعث إلى أبي بصير وأصحابه ليقيموا حيث يقيم الرسول
وأرضاهم الرسول فى كل ذلك فكان له مغنماً أن أبان لقريش عن حسن نيته وكرمه وأن قرى جيشه برجال أشداء كثيرين

وهكذا بدت رحلة الحديبية أول الأمر غير ذات نتائج كبيرة ثم إذا هي في
حقيقتها عظيمة الشأن ولقد خصها القرآن بمقام يوازي تقريبا مقام بدر وأعظم نتائج رحلة الحديبية هي أن المهاجرين والأنصار لم يترددوا في مبايعة الرسول عندما ظن أن الحرم سيهاجم
وقد أصبح للشجرة التى تلقى الرسول فى ظلها البيعة شهرة عظيمة بين المؤمنين بعد موته فكانوا يحجون إليها ويصلون بجوارها فقطعها عمر بن الخطاب خشية أن تكون فيما بعد موضع عناية لا تخلو من الشرك

ونزلت الآيات التالية متممة لفوائد رحلة الحديبية
لقد رَضِيَ اللَّهُ عن المؤمنينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأَنزَلَ السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومَغَانِمَ كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيما
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ

الفصل السابع

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لم يصل محمد - قط - إلى اكتساب ثقة اليهود وضمهم إلى صفوفه رغم كل ما تقدم به إليهم في سبيل إرضائهم فلم يكن هؤلاء ليعترفوا كما قلنا بأن النبي المرتقب سيأتيهم من غير أبناء جلدتهم ثم لم يكونوا ليغفر وا لمحمد ما جاء به من إخاء ومساواة فى الدين وإنهاء المنازعات الداخلية التي كانت قائمة بين أهل المدينة تلك المنازعات التي طالما استغلوها فيما مضى فضلا عن أنهم لم ينظروا بعين الرضا إلى انتصارات العرب المسلمين بل خافوا الوقوع تحت نير حكمهم لذا كان كل انتصار جديد لجند المسلمين يزيد في غيرتهم ويدفعهم إلى الغدر حتى صار عداؤهم للإسلام علنيا فاقتضى ذلك من اتباع الدين الجديد سلسلة طويلة من الغزوات نجمعها لزيادة إيضاحها في فصل واحد اختلاف أزمان وقوعها وتباعدها
غزوة يهود بني قينقاع سنة ٢ ه ٦٢٤ م
جلست امرأة عربية إلى صائغ من بني قينقاع فتعرضت لأشنع المجون إذ عمد يهودى إلى ذيل ثوبها فعقده إلى ظهرها دون إثارة انتباهها فلما اعتدلت واقفة انكشفت سوأتها أمام يهود الحانوت الذين انتفضوا ضاحكين على أقبح الصور وغضب أحد العرب الحاضرين فضرب المستهتر بعصاه ضربة ألقته صريعاً وثارت حمية أهل اليهودي فانقضوا على العربي وأردوه قتيلا وهرع العرب إلى المكان يطلبون ثأر أخيهم فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع وسالت الدماء من الجانبين
٢٥٣

٢٥٤
وكان الرسول عليماً بأخلاق اليهود وبعدائهم المستحكم للإسلام فاستغل ذلك الموقف الذى كانوا هم فيه المعتدين ليعرض عليهم اعتناق الدين الجديد فأبوا في هزء وسخرية وغضب الرسول فقال يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة
فهزوا أكتافهم مستهزئين وقالوا لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لمن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس فجمع محمد المسلمين وسيرهم لغزو بني قينقاع الذين ما كادوا يرون جند الله حتى فروا هاربين مخلفين وراءهم غرورهم وغطرستهم واعتصموا بقلاعهم في ضواحي المدينة فتبعهم الرسول وحاصرهم حتى أرغمهم على الاستسلام المطلق بعد خمسة عشر يوماً من المقاومة ثم أراد أن يعطى اليهود الآخرين مثلا يذهب من رءوسهم فكرة تقليد بني قينقاع فأمر بذبح أسراه فقام إليه عبد الله المنافق حليفهم يستعطفه لهم فأعرض عنه محمد وصاح فيه مرتين دعنى فرضع عبد الله يده على قلب رسول الله وضرع إليه قائلا لا والله لا أتركك حتى تحسن في موالى إنى والله امرؤ أخشى الدوائر وأخيراً قال الرسول

ه هم لك وهكذا نجا بنو قينقاع بفضل المنافق ولكنهم أرغموا على الهجرة إلى الشام
وقسمت أموالهم بين المنتصرين

غزوة يهود بني النضير ٣ هـ ٦٢٥ م
طالب بنو النضير بدية رجلين من بني جلدتهم قتلهما جند عمرو فخرج الرسول إليهم مستوضحاً القضية وبذل لهم ما أرضاهم غير أن جحاش بن كعب اليهودى أراد أن يكيد لمحمد فصعد مستراً إلى دار تطل على النبي وجماعة من الصحابة وقد جلسوا في ظل حائط يتجاذبون أطراف الحديث وأعد ابن جحاش صخرة ضخمة قاصداً رمى الرسول بها وسحقه وبينا الشقى على وشك تنفيذ خطته إذا بمحمد قد أتاه إلهام سماوى فرفع رأسه ناظراً إلى أعلى ورأى المكيدة فأسرع بالابتعاد عن الحائط جاذبا أصحابه معه ولم يكد يرجع إلى المدينة حتى جمع جنوده وسار فيهم لمعاقبة أولئك الغادرين

٢٥٥
ولما رأى بنو النضير أنهم قد باءوا بالفشل التجأوا إلى قلاعهم ولكنهم بعد ستة أيام من المقاومة أرغموا على مثل ما فعل بنو قينقاع فاستسلموا صاغرين ضارعين إلى المنتصر يطلبون منه الرحمة فعفا عنهم وأجلاهم ولم يسمح لكل منهم إلا بحمل بعير من أموالهم الطائلة
غزوة يهود بني قريظة ٥ ه ٢٦٧ م
مع
أعدائه
تشتت شمل الحلفاء بعد فشلهم فى غزوة الخندق فطرى المسلمون السلاح وباتوا يريحون بالنوم أبدانهم المردقة من أثر السهرات الطويلة والمتاعب الكثيرة التي عانوها أيام الحصار وبينما هم على هذه الحال إذا بصوت المؤذن يوقظهم ويدعوهم إلى صلاة العصر فى بنى قريظة وكان ذلك بأمر من الرسول إذ رأى أن غدر بني قريظة الذين نقضوا ميثاقهم وانقلبوا عليه متحالفين لا يستحق إلا صارم العقاب وعاجله فعسكر فى اليوم نفسه عند بئر أبى أمام قلاعهم وأجبرهم على الاستسلام بعد خمسة عشر يوماً من الحصار وسعى الأوسيون حلفاء بني قريظة القدامى لدى محمد ليعفو عنهم عفا عن بني قينقاع من قبل ورأى الرسول أن غدر بني قريظة أعظم من غدر بني قينقاع فلم يكن مستريحا إلى العفو عنهم بيد أنه قال أخيراً للأوسيين ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلی
كما
قال فذاك إلى سعد بن معاذ وكان سعد بن معاذ قد جرح جرحاً خطيراً إبان غزوة الخندق إذ أصابه سهم قطع شريان ساعده فكان قصارى مناه أن يحييه الله حتى يذيق بني قريظة جزاء غدرهم وكان سعد جسيماً ولا يقوى على الحراك من شدة ضعفه فجعل على حمار قد وطئ له بوسادة من أدم وأسنده اثنان من المؤمنين حتى أتيا به جماعة الأنصار والمهاجرين الذين قاموا له إجلالا قائلين يا أبا عمر و إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت قالوا نعم - قال سعد فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء
"
عندئذ صرف محمد القوم بقوله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة

٢٥٦
أرقعة وفاضت أرواح سبعمائة يهودى جزاء غدرهم المنكر وقد تحققت بذلك
أمنية سعد التي كانت تربطه بالحياة

فانفتح جرحه من جديد وسال منه كل
ما تبقى في جسد المريض من دماء ومات
غزوة يهود خيبر سنة ٦ هـ ٦٢٨ م
لم تكن انتصارات المسلمين المتتالية رغم خطورتها بضربة قاصمة الشوكة اليهود بالجزيرة فقد كانوا يملكون بالمدينة وعلى بعد ستة وتسعين ميلا منها يملكون ولاية خيبر التي تفوق في الغنى والأهمية كل ما فقدوه وقد زاد تعطشهم إلى الثأر شدة واستمرت وقدة الحقد للإسلام في قلوب أهل خيبر بوفود الجماعات تلو الجماعات من اليهود الهاربين إليهم من المدينة واعتقد أهل خيبر أنهم بمأمن من ضربات المسلمين فلم يألوا جهداً في سبيل الكيد لهم ووجدوا في الطريقة التي اتبعها محمد حيال أهل مكة خير معين للوصول إلى مآربهم وكانت قبيلة غطفان حليفتهم تسود البلاد الواقعة بين خيبر والبحر فتآمروا على قطع السبيل على كل القوافل الخارجة من المدينة في طريق سوريا وأثر ذلك على حالة المدينة الاقتصادية ففكر الرسول مراراً فى غزو يهود خيبر غير أن انشغاله بأمر مكة منعه من تنفيذ فكرته حتى رجع من الحديبية وقد عقد مع القرشيين هدنة السنين العشر فأزال ذلك عن كاهله كل هم من ناحيتهم ونزل عليه الوحى
بی
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا فاعتقد النبي أن ذلك الرحى لا ينطبق إلا على خيبر فلم يتردد وعقد العزم على فتح آخر معقل لليهود في بلاد العرب وأسر عبد الله المنافق بالخبر إلى بني غطفان فهرعوا إلى نجدة حلفائهم اليهود بيد أنهم ما كادوا يصلون إلى وادى الرجيع حتى بصروا بجند الإسلام وقد سبة وهم إلى المكان وقطعوا عليهم طريق خيبر وبينما واقفون تغمرهم ! هم إذ سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم صوتاً فظنوا أن قوما من المسلمين قد خالفوا إليهم فانقلبوا مسرعين على أعقابهم راجعين
الدهشة الخانقة

٢٥٧
واحة تمتد بين تلال الحرة وصخورها السوداء فكأنها بحيرة من الزمرد تعلوها جزر صخريه متوجة بقلاع حصينة هكذا بدت خيبر للرسول عندها خرج من الممر الضيق وأشرف عليها فسأل الله العزيز القدير عونا وقوة وأقبل الليل فخيم الجيش ليستريح وانتظار محمد للهجوم إلى الصباح ولما انتشرت أشعة الشمس المشرقة فكست أعالى النخيل بلون ذهبي جميل خرج عمال خیبر من قلاعهم إلى بساتينهم يحملون محافرهم وفؤوسهم وقد علقوا السلال بأكتافهم فبصروا بجند المؤمنين الآتين من الحرة ومعهم الرماح والسيوف المتوهجة في أشعة الشمس فصاح القوم محمد والخميس ۱ معه ! وأدبر وا هاربين مخلفين المحافر والفؤوس والسلال فقال الرسول الله أكبر ! خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
وكان أول حصن وقع فى أيدى المؤمنين حصن ناعم وعنده قتل محمود بن مسلمة فقد حارب حتى أعياه الحرب وثقل عليه السلاح واشتد الحر فانحاز إلى ظل الحصن فألقى عليه من إحدى فتحاته حجر رحى فكسر مغفر الجندى الشجاع وهشم عظام رأسه ونزل جلد جبينه على عينيه فأدركه المسلمون فأتوا به النبي الذي رد الجلد إلى مكانه وعصب الرأس بعمامة غير أن تلك الجهود لم تفلح لخطورة الجرح فلم تلبث روح محمود أن فاضت وأظهرت قلاع النطاة صموداً أمام ضربات المسلمين فلجأ محمد ليرغم المحاصرين على الاستسلام إلى قطع أربعمائة من نخيل واحتهم أمام أعينهم ولكن لم يجد ذلك فتيلا إذ أصر أهل النطاة على المقاومة فأوقف ذلك التخريب الذى كانت نفسه لا تستسيغه إذ كان الرسول يحب النخيل ويراها أشجاراً مباركة
وطال الحصار ودبت المجاعة فى الجيش ففترت همة الجند وفي ذات ليلة أسر عمر يهودياً من الأعداء فأدلى الأسير إلى الرسول بمعلومات نفيسة بعد أن أمنه على حياته
كان حصن صعب وهو من قلاع النطاة يحوى على ضعف حاميته
۱ الخميس الجيش

٢٥٨
لا
في سراديبه آلات حربية كثيرة فمن مناجق ودروع ودبابات إلى رماح وخناجر وسيوف ووعد اليهودى بإرشاد المسلمين إلى باب سرى لتلك القلعة لأحد به سواه - فقبل محمد العرض واستولى على قلعة صعب دون عناء فوجد بها من الآلات ما أعانه على فتح الثغرات فى الحصون الأخرى والاستيلاء عليها ووجد في هذه الحصون من الزاد والمؤونة الشيء الكثير
علم
وبينما المسلمون يهجمون على إحدى تلك القلاع كر الشاعر عامر بن الأكوع وراء عدو ووجه إليه ضربة سيف عنيفة محاولا بتر ساقه ليوقفه فطاش السيف وكان قصيراً فرجع إليه وكلمه في ركبته كلما شديداً فسال منها الدم غزيراً حتى فاضت وقد قتل نفسه بيده مجاهداً في الشاعر روح
سبيل الله
أمير
كنانة
وبقيت من قلاع خيبر أهمها وهى قلعة القموص حيث احتمى - بنی النضير وكان يدافع عنها مرحب البطل الشهير وقلعة القموص كانت قائمة على قمة تل صخرى أملس رأسى الحواف محاطة بجدار ضخم مرتفع وقد اشتهرت بالقوة والمناعة بيد أن المسلمين بعد عشرة أيام من العمل الشاق استطاعوا أن يفتحوا ثغرة في الجدار فتقدم إليها الرسول وتبعه أصحابه ولكنهم سرعان ما ارتدوا بعد أن خاضوا من المخاطر الكثير
وأصاب الرسول وجع شديد ألزمه الفراش يومين فبعث أبا بكر برايته فقاتل أشد القتال ولكنه أرغم على الرجوع ولم يكن قد فتح الحصن وتولى عمر الجند مكان أبي بكر فأتى بالعجب العجاب من الشجاعة والإقدام ولكنه آب بالفشل كما آب من قبله أبو بكر فقال محمد عندما أتاه نبأ ذلك الفشل المتوالى لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس
بفرار
وفي الغد اجتمع الصحابة حول الرسول وقد تلهفوا على معرفة الشخص الذي سيحظى بذلك الشرف العظيم غير أن محمداً لم يلتفت إليهم بل بعث في طلب على وكان قد ابتعد عن القتال لرمد شديد فأتى به صديق له وقد عصب عينيه فقال له الرسول خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله

٢٥٩
عليك فأجاب على يا رسول الله إنى أرمد كما ترى ولا أبصر موضع قدمى فأخذ الرسول برأس على فى حجره وفتح عينيه وتفل فيهما ثم فركهما فزال الالتهاب في التو كما زال كل أثر للألم ألبس الرسول عليا درعه الحديدي وشد إليه سيفه ذا الفقار وتوجه على إلى الحصن فركز تحته الراية البيضاء التي رسمت عليها بالحروف السوداء البارزة شهادتا الإسلام ثم تأهب للصعود إلى الثغرة فواجهه الحارث في نفر من اليهود محاولا سد طريق بطل الإسلام فثبت له على وقاتله فقتله فأدبر جند اليهود فارين
عندئذ خرج مرحب البطل الشهير أخو الحارث يطلب الثأر وكان مرحب جد مهيب بقامته الهائلة ودرعه المزدوج وسيفه ورمحه ذى الأسنة الثلاث وعمامته السميكة وخوزته التى يعلوها حجر كريم فى حجم البيضة وعينيه اللتين تبرقان كالجواهر وكان الغرور يملأ صدر مرحب فوقف على الثغر يرتجز
قائلا
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب إذا الليوث أقبلت تحزب إن حماى للحمى لا يقرب يحجم عن صولتي المجرب
ويقول من يبارز
فلم يخف على ولم يضطرب لهذا الغرور بل تقدم متحديا قائلا أنا الذي سمتي أمي حيدره ضرغام آجام وليث قسوره
عند ذلك احمرت وجنة مرحب غضباً فانقض على غريمه رافعاً السيف فتترس على وهوى السيف فسمع له طنين هائل حتى ظن الناس أن يطل الإسلام قد قضى نحبه لكن السيف لاقى الترس فشقه وانغرس فيه ولم يترك على العدوه فسحة من الوقت لانتشال سيفه بل أمسك عن ترسه الذي أصبح ولا فائدة منه ثم حمل على غريمه بضربة قوية كسرت مغفر مرحب ونفذت إلى عمامته فشقتها وإلى رأسه فهشمتها وانتثر مخه على الأرض ولم يتوقف السيف إلا عند ما بلغ الأضراس فخر العملاق صريعاً كالبنيان في هالة من غبار
وطنين كالرعد

٢٦٠
فدب الرعب في قلوب جند اليهود فولوا هاربين وتتبعهم جنود على الذي خلع باب الحصن الحديدى الثقيل وتترس به بدلا من ترسه الذي هشم
بين يديه ولم تطل المقاومة فوقع حصن القموص المنيع فى أيدى جند الإسلام ولم يكد يهود فدك ويهود وادى القرى وبلادهما تقع على مسيرة بضعة أيام في الشمال يسمعون بالخبر حتى بعثوا يطلبون السلام وبالاتفاق مع بنى دينهم من أهل خيبر ضرعوا إلى الرسول سائلين أن يتركهم يستثمرون أرضهم إذ لا أحد سواهم يعلم طرق فلاحتها ورجوه مقابل ذلك أن يمنحهم نصف الغلات فقبل محمد عرضهم على أن يكون للمسلمين حق الرجوع على ذلك
العهد إن بدا لهم وكانت خيبر أغنى بلاد الحجاز فكثرت المغانم وقسمت فأخذ منها نصفها لسد نفقات الحج المزمع إقامته إلى إبان السنة الجارية وفرق النصف الثاني بين الجنود أما الأراضى فقد أخذ منها الرسول واليتامى نصيبهم وقسم الباقى فكان لكل راجل منهم سهم واكل فارس سهمان وفضلا عن ذلك فقد منح كل صاحب جواد كريم هدية وذلك لتشجيع تربية الخيل
اهتمام الرسول بالخيل
نستطيع أن نعرف من تلك التدابير مدى ما كان يعلقه النبي من الأهمية على
الخيل في مصير العرب
كان العرب ينظرون إلى الجياد كأداة ترف لقلتها فكان الجندى يركب الجمل ويسحب وراءه جواده فلا يمتطيه إلا ساعة المعركة عند مهاجمة الأعداء ومطاردتهم
وقد أتم الرسول تدابيره هذه بتنظيم سباق يتبارى فيه الفرسان ويتنافس أرباب الجياد الصافنات وقد بلغ من شأن الخيل أن اتخذ الله الجياد العاديات شواهد لبعث الخوف من يوم الدين فى قلوب المسلمين إذ قال تعالى
والعادِياتِ صَبْحاً فالْمُورِياتِ قَدْحاً فالْمُغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ
به نقعًا فوسَطنَ به جَمْعاً إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلكَ

٢٦١
لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصل مَا فِي الصُّدورِ • إِنَّ رَبَّهُمْ بهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبير وقد بلغ من كلف عبد الله أبي بن سرح " أحد أبطال الفرسان في ذلك العهد ووالى مصر فيما بعد بتلك السورة أن صارت لا تفارق شفتيه وهو وال على مصر ثم وهو يحارب الروم براً وبحراً ومات وهو يرددها ويرجع الفضل في إيجاد ذلك النوع من الجياد العربية الكريمة التى لا يعرف لها العالم مثيلا إلى تشجيع النبي لأصحاب الخيل وحثه أربابها على العناية بها ونشرها في جميع أرجاء بلاد
العرب الشاة المسمومة
عاد الرسول إلى خيمته عقب صلاة المغرب فوجد ببابها زينب ابنة الحارث اليهودية زوجة سلام بن مشكم في انتظاره وقد عمدت إلى شاة فذبحتها وصلتها على نار من أخشاب الرياحين وقدمتها للرسول فشكرها فلما انصرفت دعا أصحابه إلى مشاطرته الشاة ذات اللحم الذهبي الشهى فتناول هو الذراع وانتهش مننها وقلده بشر بن البراء فتناول قطعة لحم وانتهش منها وبلعها ومد الحضور أيديهم إلى الشاة غير أن الرسول لفظ فجأة ما كان يلوكه بين أسنانه أصحابه عن الشاة قائلا إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم فصاح بشر والذي أكرمك لقد وجدت ذلك من أكلتى التى أكلت حين التقمتها فما منعنى أن ألفظها إلا أنى كرهت أن أبغض إليك طعامك فلما أكلت ما في فيات لم أرغب بنفسى عن نفسك
6
ومنع
ولم يكد بشر ينطق بتلك الكلمات حتى عاد لونه كالطيلسان ولم يمهله جعه فوقع على الأرض يتلوى في سكرات الموت وفى الحال دعا الرسول باليهودية وقال لها ما حملك على ما صنعت قالت نلت من قومى ما نلت قتلت أبي وعمى وزوجي فقلت إن كان نبيا فستخبره الذراع وإن كان ملكا
استرحنا منه
فهدأ هذا الجواب من ثائرة الرسول فأوشك أن يعفو عن اليهودية ولكن

٢٦٢
من
بشراً كان قد مات وأتى أهله يطلبون الثأر فدفعها إليهم فصلبوها وأحرق ما تبقى الشاة المشئومة وبالرغم من أن محمداً كان قد لفظ اللقمة الخبيثة فقد سرى في جسده السم ووصل إلى أمعائه فلم يخلص أبداً من آثاره السيئة وقد قال في مرضه الأخير بعد ذلك بثلاث سنين مخاطباً أم بشر التي جاءت تستفسر عن صحته إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهرى ١ من الأكلة التي
أكلت مع ابنك بخيبر
عمرة القضاء سنة ٧ ه ٦٢٩ م

بينما الحملة في طريق العودة من خيبر بالغنائم الكثيرة كان مهاجرو الحبشة قد وصلوا كلهم إلى المدينة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب أخو على وقد أفعم ذلك قلب محمد بالسرور فقبل جعفراً بين عينيه وقال والفرح يملأ جوانحه و ما أدرى بأيهما أنا أشد سروراً أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر وكان أيضاً من بين القادمين أم حبيبة ابنة أبى سفيان ألد أعداء الرسول وقد خرجت أم حبيبة مع زوجها عبيد الله بن جحش مهاجرة فلما استقرا بأرض الحبشة تنصر الزوج ومات بمهجره بينما بقيت الزوجة مخلصة لإسلامها فأراد الرسول أن يجزيها أجر إخلاصها وأن يستميل إليه عدواً لدوداً فبعث بعمرو بن أمية إلى النجاشي راجيا منه أن يزوجها له ويرسلها مع بقية المهاجرين وهكذا كان فلما وصلت أم حبيبة المدينة دخلت في ذمة زوجها العظيم أما المهاجرون فقد رأى محمد أن يعطيهم نصيبهم من مغانم خيبر ووافق الجميع على ذلك فعوضوا بذلك عما فقدوه بسبب هجرهم أوطانهم وتركهم أموالهم في سبيل دينهم
وأتى اليوم الذي تسمح فيه معاهدة الحديبية للمسلين بدخول مكة لزيارة
الأماكن المقدسة فتأهب الرسول لتحقيق أعز أمانيه ورؤية مسقط رأسه وقد أخذ محمد في عمرة القضاء من الأضاحي ومن الحجاج مثل ما أخذ في رحلة الحديبية ويمم شطر المدينة المقدسة فلما وصلت القافلة بطن يأجج ۱ الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهما أبهران يخرجان من القلب ثم يتشعب منهما سائر
الشرايين

٢٦٣
ترك فيه سلاحاً كثيراً من الأسلحة التي كان قد أخذها احتراساً ووضع على ذلك السلاح أوس بن خولى في مائتين من الجنود وقال لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريباً منا فإذا رأينا من المشركين الغدر كان السلاح قريباً منا وعندما وصل محمد جبل كداء تسنمه خاشعاً ونزل الوادى عند مقبرة الحجون حيث ووريت خديجته الحبيبة رحمة الله عليها وأشرف على ديار مكة فانبعثت في نفسه ذكريات وآمال وتملكه حنين لا يوصف واضطربت نفسه عندما فكر في أن المشركين قد يغدرون به فيضطر إلى معاقبتهم وتلويث مسقط رأسه بدماء قومه
فدعا الله أن يحفظ المسلمين من كل شر في البلد الحرام ولم يزل يردد دعاءه حتى خرج من مكة ولم يكد المؤمنون يقتربون من مكة حتى غادرها أشرافها وقد نال الغضب منالا لما رأوا من رجوع المهاجرين بالنصر المبين فراحوا يخفون سخطهم الذي لا جدوى منه فى مخيماتهم بالأودية المجاورة أما سواد أهل مكة الذين كانوا ككل الجماعات الشعبية مدفوعين بغريزة الفضول فقد احتشدت فئة منهم بجبل قينقاع وتجمعت فئة أخرى فوق سطح دار الندوة التي تشرف
منهم
على
الكعبة
وكان يسود كل أحاديثهم الأمل في أن يكون النبي وأصحابه قد أوهنتهم حمى يثرب وأنهكهم صيفها الحار فيأتون مكة فى حالة من الضعف شديدة ولكن الله أطلع رسوله على أمرهم فقال لأصحابه رحم الله امرأ أراهم من نفسه
قوة
وخلت مكة إلا من الجماعة الصغيرة التي احتشدت فوق سطح دار الندوة فكان سهلا على الرسول أن يفتحها غير أن نفسه الكريمة التي لا ترضى باقتراف مثل ذلك الغدر - كانت منصرفة إلى الله وكلها خشوع وتقوى فتقدم معتليا ناقته القصواء مسلما خطامها لعبد الله بن رواحة ومن حوله موكب الصحابة فاخترق فى جلال ضواحي مكة تحت الأعداء بصر ولم يشرفهم
بنظرة واحدة من نظراته فلما بلغ الموكب الكعبة نزل الرسول والتف بردائه
C

٢٦٤
و رفع أحد أطرافه كاشفاً كتفه وذراعه اليمنى ثم أقبل والمؤمنون يتبعونه على الحجر الأسود فقبله وقضى الطواف فهرول ثلاثاً ليرى المشركين أن له ولأصحابه قوة فهز هؤلاء رءوسهم وقالوا أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد أوهنتهم ! واعترفوا في أنفسهم أن مثل هؤلاء الرجال الذين تفرق صحة أخلاقهم صحة أبدانهم ليس لهم إلا الفوز المبين وقضى الرسول ما تبقى من الأشواط السبعة بتؤدة وجلال رفقاً بالمؤمنين أن ينالهم التعب ومنذ ذلك اليوم والحجاج يؤدون الطواف دائماً على مثل ذلك النظام وفرغ الرسول من الطواف فأمر بلالا بالأذان فجلجل صوت العبد المحرر في الوادي وارتد صداه إلى المشركين الذين بلغ منهم الغيظ أن حسدوا على مصيرهما أبا جهل وأبا لهب هذين العظيمين فيهم اللذين وارتهما الأرض فلم تسمع آذانهما ذلك النداء البغيض إلى قلوبهم ولما قضيت الصلاة اعتلى النبي ناقته وسعى بين الصفا والمروة فقضى على كل ما كان يخالج المسلمين من التردد في إتمام تلك الشعيرة بذلك المكان الذي نصبت فيه الأصنام ولكن الرسول كان يقصد بأداء تلك الشعائر التي وضعها إبراهيم وتوارثها العرب غاية وطنية سياسية أراد أن يقرنها بغايته الدينية فلم يكن تقبيله للحجر الأسود بعلامة للميل في العبادة نحو الخرافات - فذلك يتنافى ومبادئ القرآن تنافياً صريحاً – بل إن تقبيله ذاك الحجر لم يكن إلا إكراماً وإجلالا لتراث سلفه المجيد
ويروى عن ابن أبي شيبه أن الرسول قال مخاطبا الحجر الأسود إنه يعلم أنه حجر أصم لا نفع فيه ولا ضرر ثم إنه قبله وتبعه في ذلك أبو بكر فعمر معلنين أنهما لولا سنة الرسول لما فعلا هذا

وهكذا كان الرسول يحيى فى السعى والوضوء ببئر زمزم الذكرى العاطرة التي خلفها جد العرب إسماعيل وأمه هاجر التى تركت طفلها المسكين على الأرض في ظل شجيرة إذ لم تقو على حمله في الصحراء القفر وكان إسماعيل يكاد يموت من العطش وسعت إلى قمة تل من التلال تأمل أن تكشف عن بئر أو عين ماء ولكنها لم تجد من ذلك شيئاً فعادت إلى طفلها لاهثة ثم صعدت قمة أخرى لنفس الغرض فلم تفلح فعادت ونفسها تضطرب من الألم وعاودت

٢٦٥
4
سعيها الشاق المرهق سبع مرات وظنت وعقلها يكاد يطير أنها لن تجد إسماعيل إلا جثة هامدة ولكنها رأت ابنها الحبيب بعد ذلك يشرب من عين أنبعها الرحمن تحت رجل الطفل المسكين وسميت تلك العين بزمزم لذلك كان على الحجاج أن يقلدوا هاجر فيطوفوا سبعا بالطريق ذى الذكرى الأليمة الذي سلكته بين هاتين الربوتين المعروفتين باسم الصفا والمروة وعليهم أيضا أن يتوضئوا ويشربوا من بئر زمزم
ونحرت الأضاحى فى اليوم التالي بوادى منى تخليداً لذكرى ما فعله إبراهيم

وقسمت لحومها بين الحجاج الذى كانوا قد رجعوا إلى التحلل بعد حلق شعورهم وكانوا في إحرام منذ مرحلة ذو الحليفة أما محمد فقد عقد على امرأة مكية تدعى ميمونة وهو لا يزال في حالة الإحرام لامتياز خاص يرجع إلى كونه رسول الله وكان عمر ميمونة يقرب من الخمسين وكانت فقيرة معدمة إلا أن هذا الزواج كان من شأنه أن يجلب للإسلام الكثير من الأشراف وعلى الأخص العباس عم محمد وكان العباس وكيلا لميمونة فأعلن زواجها بالرسول غير أن الزواج لم يتم إلا في طريق الرجوع
إلى المدينة
ووصل الرسول إلى غايته المنشودة رغم غضب مشركي قريش الذين أبوا أن يشاهدوا عدوهم وهو يقضى عمرته لقد أعلن بذلك على سائر العرب في شبه الجزيرة أنه ليس في نيته محو تقاليدهم المتوارثة بل هو يسعى جاهداً في تلك التقاليد بإرجاعها إلى براءتها الأولى فكان لعمرة القضاء صدى
سبيل دعم
عظيم إذ جرت فوراً كثيراً من ذوى النفوذ إلى الإسلام ومن أولئك بن طاحة وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد
ثلاثة أبطال عثمان
هم
ثم إنها هيأت العرب الآخرين للإسلام وشجعتهم على تقليد هؤلاء الثلاثة
الكبار
رسل النبي إلى الملوك
وقد وطد انتصار النبي على اليهود سلطة المسلمين في أغلب شبه الجزيرة وبقى منها جزء فكان مصيره المحتوم الوقوع فى يد المسلمين بدوره تدريجياً فأخذ محمد

٢٦٦
من
مختلف
يلتفت إلى الممالك المجاورة إن الإسلام الذي أصبح يجمع أناساً الأجناس والذي يقول بأن الله يملأ الكون لم يكن ليقتصر على بلاد العرب وحدها
بل كان عليه أن يشمل العالم أجمع إذ قيل في كتاب الله

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةٌ للنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
ولذلك بعث محمد بالرسل إلى أعاظم ملوك المشرق والمغرب مزودين بكتب تعرض عليهم اعتناق الإسلام دين الله الذى لا إله غيره وكانت تلك الكتب مختومة كتب عليه في ثلاثة سطور منضدة من أعلى إلى أسفل محمد رسول الله
بخاتم کا
مبتدئة باسم الجلالة ومنتهية بمحمد
فتلقى المنذر ملك البحرين الرسالة فأسلم وكذلك فعل نائب ملك اليمن

وبعث المقوقس ملك مصر بالهدايا الثمينة إلى محمد وكان من بين تلك الهدايا جارية شابة بارعة الجمال يقال لها مريم القبطية فتزوجها محمد وكان من بينها أيضا حمار يقال له يعفور وبغلة تدعى دلدل أما هرقل إمبراطو الرومان والنجاشي ملك الحبشة فقد رد كل منهما على الدعوة برسالة غاية في التلطف والاحترام غير أن كسرى ملك الفرس أقسم ليعاقبن النبي على جرأته فنزل عليه في الحال غضب الله إذ اغتاله ابنه شيرويه وتبوأ عرشه ومزق الحارث ابن أبي شمر رسالة النبي فرأى ملكه يتمزق جزاء له من الله على ما مزق رسالة محمد وكان الحارث بن عمير الرسول الوحيد الذي قوبل استقبالا مشينا ثم اغتيل بغتة عند الكرك بالبلقاء بأمر من شرحبيل الغساني حاكم تلك البلاد التي كانت تخضع للرومان
غزوة مؤتة سنة ٧ هـ ٦٢٩ م
بلغ النبي أمر سفيره الحارث بن عمير فاشتد عليه وعزم أن يثأر له ثأراً

عاجلا وإن كان لم يخف عليه ما يعترض ذلك من العقبات ولم يكن على المؤمنين فى هذه الحملة أن يقاتلوا فقط عرب سوريا الذين يفوقون عرب الحجاز عدداً بل كان عليهم أن يواجهوا أيضاً جند الروم التي تحتل بلاد
البلقاء

٢٦٧
جهز الرسول ثلاثة آلاف من الجند وأمر عليهم زيد بن حارثة غير أنه
C
أدرك أن قائد الحملة قد يقتل فى ذلك الصراع الذى تتفاوت فيه قوى الجانبين فعين لهم جعفر بن أبي طالب أميراً إن أصيب زيد بن حارثة فإن أصيب جعفر فعليهم بعبد الله بن رواحة من بعده فإن أصيب عبد الله فليرتضوا رجلا منهم فليجعلوه عليهم وحضر هذا المجلس رجل من اليهود فقال يا أبا القاسم وتلك كانت كنية محمد إن كنت نبيا يصاب جميع من ذكرت لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا استعمل رجلا على القوم وقال إن أصيب فلان فإنه يصاب ثم صار يقول لزيد و اعهد فلن ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبيا فقال زيد بكل بساطة أشهد أنه نبي عندئذ عقد الرسول لواءه الأبيض إلى نصل رمح ودفعه إلى زيد بن حارثة ثم شيع جنده وصدره مملوء بالحزن والتشاؤم فلما وصل ثنية الوداع وقف ليدنى إليهم بتوصياته الأخيرة فقال أوصيكم بتقوى الله وممن معكم من المسلمين خيراً اغز وا باسم الله الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم ولا تقتلوا امرأة ولا صغيراً ولا بصيراً فانيماً ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا بناء وأوصاهم أن يأتوا بثأر عمير فإذا أتوه فليدعوا إلى الإسلام قبائل العرب بسوريا
وخاف شرحبيل عواقب غدره المنكر فقلق وعمد إلى جيرانه من العرب فجمع جنداً من بني لخم وجذام وبلى وبهراء واستنجد بتيودور قائد هرقل فأنجده بجميع القوات الرومانية التي كانت تحتل البلد
وهكذا
شرحبيل ما يربو على مائة ألف من الرجال قبيل نزول جيوش جمع
المسلمين بمعان فلما رأى المؤمنون أنفسهم أمام مثل تلك القوة العظيمة ترددوا وأقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم فقال بعضهم نكتب إلى رسول الله فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بالرجوع أو القتال وقام عبد الله بن رواحة فبعث في الناس روح الإقدام بقوله يا قوم إن الذي تكرهون للذي خرجتم له خرجتم تطلبون الشهادة إنا لا نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا

٢٦٨
مليك
الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة فقال الناس صدق والله ابن رواحة ومضوا غير هائبين لملاقاة العدو فالتقى الجيشان بمؤتة وهى قرية صغيرة تقع شمال قلعة كرك وانقض المسلمون كالليوث الكاسرة على جيوش الأعداء فقتلوا زعيمهم غير أن المشركين ثابوا إلى رشدهم بعد ذهولهم الأول ابن زفيلة بطعنة رمح فلم يلبثوا بفضل كثرة عددهم أن كروا على المسلمين وأحاطوا بهم من كل وتكاثر الناس على زيد بن حارثة فمات شهيداً فأسرع جعفر إلى رفع اللواء من يدى زيد اللتين ما زالتا تقبضان عليه وهو ميت وسار على رأس المسلمين كما أمره النبي
جانب
وكان جعفر يمتطى صهوة جواد كريم أشقر ولكنه حينما رأى خطورة الحال نزل من على مطيته وعقرها خشية أن تقع بموته فى أيدى المشركين فينتفعوا بها وبتقاتلوا عليها المسلمين ورفع جعفر الراية الإسلامية فنشر أجنحتها الكريمة فوق رءوس المؤمنين الذين كروا متحمسين في آثاره لكن سرعان ما هوى اللواء كما يهوى الصقر الجريح من الجو إذ قطعت اليد التى كانت تحمله بضربة سيف
ولم يبال جعفر بآلامه بل رفع اللواء ثانية بيده اليسرى فما لبثت إلا قليلا حتى قدت بضربة أخرى عندئذ مال جعفر إلى الأرض وقبض على الراية بذراعيه الداميتين واحتضنها حتى لا تقع ثم أقبل على العدو غير هياب حتى قتل وقد اخترقت جسمه تسعون طعنة
وخلفه عبد الله بن رواحة الذى لم يمكث طويلا حتى قتل فلما رأى المسلمون الأعداء قد دهموهم من كل صوب ورأوا موت زعمائهم الثلاثة تراجعوا وجعلوا ينهزمون فأوقفهم أرقم بن عامر صائحاً يقتل الإنسان مقبلا خير من أن يقتل مدبراً ثم رفع اللواء ودفعه إلى خالد الذي امتنع أول الأمر قائلا أحق به منى إذ كنت ببدر لكنه قبل الراية لما رأى من إلحاح الأرقم فأعاد ببسالته وإقدامه الإيمان إلى قلوب المسلمين الذين خجلوا من ضعفهم الطارئ واستطاع خالد وهو الجندى الباسل والقائد الماهر أن يخلص بعون الله جيشه
أنت
6

٢٦٩
من العدو وأن يعيد التوازن فى المعركة بحيث لم يستطع المشركون أن يحرزوا النصر على المسلمين ولم تكد شمس اليوم التالى ترسل أشعتها حتى هاجم خالد المشركين ليفاجئهم ولا يمكنهم من استكمال عدتهم بعد فشلهم الأول ثم لجأ إلى الحيلة ليدخل في أن عدد رجاله كبير فجعل مقدمة الجيش ساقه وساقه مقدمة وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة فظن المشركون أن المسلمين قد أتاهم المدد أثناء الليل فخافوا واستولى عليهم الرعب إذ كان كل اعتمادهم على عددهم ففروا هاربين مشتتين والمؤمنون من ورائهم يعملون فيهم السيوف فقتلوهم قتلة لم يقتلها قوم وقد اندقت بيد خالد تسعة سيوف في ذلك اليوم المشهود
روعهم
وأطلع الله رسوله على ما لاقاه جيشه فنادى في الناس بالصلاة الجامعة ثم صعد المنبر وعيناه مغرورقتان وصاح أيها الناس باب خير باب خير أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا فلة وا العدو فقتل زيد شهيداً فاستغفروا له ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمر نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره وذهب محمد بعد ذلك إلى أسماء بنت عميس زوج جعفر فمال إلى أطفالها وشجعهم وذرفت عيناه حتى قطرت لحيته بدمع كالجوهر المتألق فقالت أسماء يا رسول الله بأبي أنت وأمى ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء قال نعم أصيبوا هذا اليوم فوقعت البائسة وانهالت على خديها تقطعهما بأظافرها وصاحت متألمة بائسة فاجتمع عليها النسوة لما سمعنه من صياحها وصرخن معها فطن البيت بصيحات الحزن واليأس فأمر الرسول أصحابه بإسكات النساء قائلا ما معناه إنه يجب عليهن ألا يبكين هكذا على جعفر الذي أثابه الله أحسن الثواب ثم قال فاخلفه اللهم فى ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته وفجأة رفع الرسول رأسه إلى السماء هامساً وعليكم السلام ورحمة الله فقال الناس على من تسلم يا رسول الله قال رأيت جعفر بن أبي طالب يطير الملائكة في السماء مرفوعاً إلى الجنة بجناحين من ياقوت عوضه الله تعالى بهما
مع
عن يديه

۷۰
غير أن السهيلي الذي يروى الحديث يضيف إن الجناحين عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيهما جعفر ليقتدر بهما على الطيران لا أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق إلى الوهم ولا يضير في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت لكونهما مضمخين بالدم
وبين حداد المدينة العام وحزنها الشامل أمر الرسول بتجهيز طعام المأتم لأهل الشهداء لأن من تشبعت نفوسهم بالحزن يشق عليهم التفكير في طهى طعام
البطون
وعندما اقترب الجيش من المدينة خرج إلى لقائه كل كبير وصغير من أهلها فأمر النبي الفرسان أن يأخذوا الأطفال بجانبهم على الدواب وحمل هو ابن جعفر فأقعده أمامه على رحله وأكد الجند خبر موت قوادهم فرأى الناس أن هؤلاء القواد لم ينالوا ثأرهم اللائق فصاروا يحثون التراب في وجوه الجند ويسبونهم قائلين يا فرارون فردتم من سبيل الله فأسكت النبي الملأ بقوله بل هم الكرارون
فتح مكة سنة ٧ هـ ٦٣٠ م
لم يلبث أهل مكة أن نقضوا معاهدة الحديبية إذ باغتوا ليلا جماعة من مسلمى بني خزاعة في مخيمهم عند بئر الوثير فقتلوا منهم عشرين رجلا وإزاء هذا الاعتداء الأثيم لم يتردد النبى فى العزم على مهاجمتهم وأعد العدة لتسير الحملة ولم يشك أهل مكة فى أنهم سوف ينالون جزاء غدرهم فبعثوا بأبي سفيان إلى المدينة ليصالح المسلمين ويطلب إبقاء المعاهدة فلما قدم أبو سفيان إلى المدينة نزل عند ابنته أم حبيبة وهى زوج محمد وأراد الجلوس على بساط مفروش فسبقته أم حبيبة إليه فطوته فقال أبو سفيان غاضبا يا بنية ما أدرى أرغبت بي على هذا الفراش أم رغبت به عنى فأجابت هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس قال والله لقد أصابك من
بعدی شر
وفهم أبو سفيان من هذا الاستقبال أن حبل الرجاء من قبل ابنته قد

۷۱
انقطع فقام إلى النبي ولكنه لم يحصل منه على جواب فتحول يائساً إلى أبي بكر ثم إلى عمر فعلى يرجو الواحد منهم بعد الآخر أن يعاونه في تحقيق رغبة أهل مكة فعاد بالفشل ويئس كل اليأس فاعتلى بغيره وقفل راجعاً إلى
مكة
وكان قدوم أبي سفيان إلى المدينة عاملا من العوامل التي حثت الرسول على المبادرة بغزو مكة إذ كشف عن نواياه فلم يشغله بعد ذلك من شاغل سوى تجهيز حملة لمباغتة مكة قبل أن يحصنها أهلها

وفى اليوم العاشر من شهر رمضان استخلف الرسول على المدينة كلثوم الغفاري وسار إلى مكة في جيش عظيم انضم إليه في الطريق الكثير من القبائل فبلغ عدد الرجال عشرة آلاف رجل وباشر المؤمنون الصيام حتى وصلوا بئر الكديد في وضح النهار فرأى الرسول أن قد كفى ما كان من امتحان إخلاصهم وخشى أن يشق العطش والتعب الشديد على جنده فيضعفهم فدعا بإناء وأشرف على الناس من فوق ناقتة العالية وشرب جرعة على مشهد من الجند ليريهم أنه يمكنهم – كما يمكنه – قطع الصيام أثناء السفر إذا ما أنسوا في قواهم خوراً وقد قيل في القرآن فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ومنذ تلك المرحلة أخذ الرسول يحث جنده على الإسراع فى السير فوصل إلى مر الظهران على أبواب مكة قبل أن يعرف القرشيون شيئا عن قوة جند المسلمين وعن اتجاه
سيرهم
كان العباس عم

محمد قد بقى فى مكة إذ شغلته بها شئونه الخاصة ووظيفة السقاية ولكنه عندما علم بقدوم المسلمين خرج في أسرته فلحق بهم عند الجحفة وكان العباس صادق الإيمان لكن ذلك لم يمنعه من التفكير في مصير قومه بمكة فقلق عليهم وخشى أن يصيبهم شر إن دفع عنادهم محمداً على اقتحام مدينتهم بالقوة
قال العباس فجلست على بغلة رسول الله البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت لعلى أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة

۷

يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فوالله إلى لأسير إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا وعسكراً وبديل يقول هذه والله خزاعة حمشتها الحرب وأبو سفيان يقول خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها فعرفت صوت أبى سفيان فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتى فقال مالك - فداك أبي وأمي - يا أبا الفضل فقلت والله هذا رسول الله في الناس قد جاءكم بما لا قبل لكم به به فقال واصباح قريش ! والله فما الحيلة فداك أبي وأمي ! ! فقلت والله لأن ظفر بك ليضر بن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله فأستأمنه لك فركب خلفى ومشى بديل من ورائنا فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا ومن هذا فإذا رأوا بغلة رسول الله وأنا عليها قالوا عم رسول الله على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا وقام إلى فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذى قد أمكن مناك من غير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله فركضت البغلة فسبقته فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله ودخل عليه عمر فى إثرى فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن منه من غير عقد ولا عهد فدعنى لأضرب عنقه فقلت يا رسول الله إنى قد أجرته ووالله لا يناجيه الليلة رجل دونى فلما أكثر عمر فى شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدى ابن كعب ما قلت مثل هذا ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف قال مهلا يا عباس ! فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أنى عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فائتي به
وذهبت به فلما أصبح غدوت به على رسول الله بعد أن نودى بالصلاة وثاب الناس ففزع أبو سفيان وقال أأمروا في بشيء قلت لا ولكنهم
قاموا إلى الصلاة

۷۳
ورأى المسلمين يتلقون وضوء رسول الله ثم رآهم يركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد فقال ما رأيت ملكاً مثل هذا لا ملك كسرى ! ولا ملك قيصر ! فلما قضيت الصلاة قلت أدخل عليه أكلمه وتكلمه في قومه هل عنده من عفو عنهم فلما دخل أبو سفيان على رسول الله قال رسول الله ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله قال بأبي أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد قال " ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله " قال بأبي أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً فأرجئها فقلت غاضباً لأبي سفيان ويحك
أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك ! فقال أبوسفيان كيف أصنع بالعزى فسمعه عمر من وراء القبة فقال له تسلح عليها ! قال ويحك يا عمر إنك رجل فاحش دعنى مع ابن عمى فإياه أكلم ثم شهد بشهادة الحق كذلك فعل صاحبه بديل الذي كان قد لحق بنا فقلت للنبي يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا
فقال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ثم قال احبسه بمضيق الوادى حتى يرى جنود الله تمر ففعلت فمرت القبائل كلها من سليم ومزينة ثم غفار ثم كعب فجهينة فلما مرت أشجع قال أبو سفيان هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد ! فقلت أدخل الله الإسلام قاو بهم فهذا فضل الله حتى مر به رسول الله في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار قال سبحان الله ! يا عباس من هؤلاء فقلت هذا رسول الله في الأنصار قال و ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً فقلت يا أبا سفيان إنها النبوة ثم قلت له النجاة إلى قومك حتى إذا أتاهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقامت إليه زوجته هند وقد غضبت لما رأت من وجوم القوم عند سماع ذلك الحديث فأخذت بشار به لتسكته وصاحت

٢٧٤
ه اقتلوا الحميت 1 الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم
غير أن أبا سفيان تخلص من مخالب زوجته وقال ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به ثم قال فخوراً فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فصاح به الملأ من حوله قبحك الله وما تغنى دارك عنا ! عندئذ أخبرهم بما كان أخفاه عليهم أول الأمر من خبر فقال ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن
دخول الرسول مكة
وصل الرسول إلى ذى طوى فوقف دابته وأشرف على مكة التي كان قصارى مناه أن يدخلها دون إراقة دماء عشيرته فحمد الله القدير الكريم وطأطأ رأسه حتى مست لحيته مقدم رحله
ثم عاد إلى جنده فنظمهم وخط لهم الخطة لدخول مكة فأسند إلى الزبير مهمة الدخول من طريق كداء وهو بأعلى مكة وإلى خالد بن الوليد الدخول من أسفل مكة وإلى أبي عبيدة الدخول من طريق الضواحي الشرقية أما سعد ابن عبادة فقد قر الرأى على أن يدخل من مضيق كدى ولكنه عندما علم بذلك الملحمة اليوم تستحل فيه الحرمة فأمر محمد
صاح
متحمساً اليوم يوم
عليا بأن يخلفه ويأخذ الراية منه

ولم يلق الزبير ولا على ولا أبو عبيدة أدنى مقاومة فاحتلوا ما كان عليهم من مكة دون عناء أما خالد فلم يكد يدخل في ضواحي مكة حتى
احتلاله
استقبله وابل من السهام وقع على جنده فأصاب منهم الكثير وكانت تلك المكيدة من عمل صفوان بن أمية وعكرمة اللذين دبرا الكمين وراء صخور جبل خندمة فلم يتردد خالد بل هجم برجاله يريد المكان الذى تحصن فيه الأعداء فبعث فيهم الرعب وشتت شملهم وقتل منهم عدداً كبيراً وتتبع من نجا من الفارين إلى الحرم أو إلى البحر فأعمل فيهم السيف
ووصل النبي إلى جبل الحجون فرأى منه لمعان الرماح والسيوف فدهش وغضب وبعث برجل من الأنصار يستقدم خالداً فلما جاء خالد عنفه الرسول
۱ الحميت الزق نسبته إلى الضخم والسمن والأحمس أيضاً الذي لا خير عنده

على
أن قاتل وقد نهاه عن ذلك نهياً شديداً
فأجابه خالد هم يا رسول الله بدعونا بالقتال ورمونا بالنبال ووضعوا فينا السلاح وقد كففت ما استطعت ودعوتهم إلى الإسلام فأبوا حتى لم أجد بدا من أن أقاتلهم فأظفرنا الله عليهم فهربوا من كل وجه فقال الرسول خاتما ل ومتأهبا لدخول مكة قضى الله أمراً
للحديث
وكان الرسول معتليا ناقته المفضلة القصواء وقد أركب على عجزها أسامة بن زيد بن حارثة فركع على رحله وتلا سورة الفتح
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبيناً لِيَغْفِرَ لكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تأخَّرَ ويتم نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُستقيما ويَنصُرَكَ اللَّه نَصْرًا
عزيزا

ممسكا
واعتجر الرسول عمامة سوداء فوق وشاح مخطط بالأحمر على رأسه وترك طرفها يرفل بين كتفيه ثم يمم راكباً شطر الكعبة ليقضى الطواف فحيا الحجر الأسود بأن استلمه بطرف محجن ثم نزل عن راحلته ليغشى البيت ولكنه تراجع يغمره النفور إذ أبصر الأصنام التي كانت به وصاح أمام لوحة تصور إبراهيم بالأزلام قاتلهم الله حيث جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام وأمر بتمزيق تلك الصورة الأئمة كما أنه هشم بيديه صورة الحمامة منحوتة على الخشب ثم دخل البيت قائلا و الله أكبر
"
واتجه إلى الأصنام المحيطة بالحرم وكان عددها ثلثمائة وستين فبدأ بالصنم الأكبر صنم هبل وجعل يضرب في عينيه بمحجنه قائلا جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً فخر الصنم لوجهه مهشما وجعل الرسول يطوف بالأصنام فيهشمها واحداً واحداً كما هشم هبل حتى لم يبق قائماً إلا صنم بنى خزاعة المصنوع من نحاس وصدف وكان منصوبا على سطح الحرم فقال الرسول لعلى اجلس فجلس على فصعد رسول الله على منكبيه ثم قال له انهض فأحس على بحمل فوق طاقة البشر - حمل النبوة - يمنعه رغم حشده لذلك كل قوته من القيام فلما رأى النبى ما كان من ضعف على تحته

٢٧٦
نزل عنه ثم جلس بدوره قائلا له اصعد على منكبي واهدم الصنم فارتبك على ووجل فرفض ولكنه لم يسعه إلا الامتثال إزاء إصرار محمد قال على فلما نهض بى صعدت فوق ظهر الكعبة وتنحى رسول الله وخيل إلى حين نهض بى أنى لو شئت لنلت أفق السماء وكان الصم مؤيداً بأوتاد من حديد وجعل الرسول يقول ” إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً “ فتمكنت من الصنم فقذفته فتكسر ! وعاد الاطمئنان إلى صدور أهل مكة فخرجوا من دورهم ليشاهدوا – وقد هدم آلهتهم العاجزة عن المقاومة فلما زال كل آثار الإشراك ولى الرسول وجهه شطر الكعبة قائلا لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم ا رم الأحزاب وحده
صاروا لا ينطقون من الدهشة
أثر
من

ثم التفت إلى أهل مكة وقال يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل بكم قالوا في قلق خيراً أخ كريم وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء وقد كانوا أسرى وعبيداً بمقتضى سنن الحرب
لم يستثن الرسول من ذلك العفو الشامل الكريم إلا أحد عشر رجلا وست نساء رأى من سلوكهم ما لا يغتفر فأمر بإعدامهم حيثما وجدوا فنفذ ذلك الحكم فوراً في أكثرهم ومن بينهم الحويرث الذي أساء معاملة فاطمة بنت

الرسول وزوج على عند مغادرتها مكة ثم أراد محمد أن يعزز سلطته الجديدة فعزم أن يعين في الحال صاحبي
الوظيفتين العظيمتين بمكة وهما وظيفتا الحجابة والسقاية فبعث إلى عثمان ابن طلحة يطلب مفاتيح المسجد فغضب عثمان وأغلق الأبواب ثم أخذ المفاتيح وحملها إلى داره فما كان من الرسول إلا أن أخذها منه قسراً وفكر في أن يعطيها عمه العباس وكان قد أثبته في منصب السقاية أى أمانة بئر زمزم فأوحى الله إلى رسوله ألا يفعل بل يرجع منصب الحجابة إلى صاحبها فأرسل عليا بالمفاتيح إلى عثمان ليعطيها إياه ويقول له يابن طلحة خذ مفاتيحك
والحجابة
فتأثر عثمان لما رأى من ذلك الكرم الذى لم يكن أهلا له فقام من ساعته إلى النبي يؤكد له امتنانه وإخلاصه

۷۷
وفى هذه الأثناء جاء إلى الرسول رجلان يبعث منظرهما في القلب العطف والشفقة كانا أبا قحافة وابنه أبا بكر وقد ناء الأب العجوز المكفوف تحت حمل سنيه التسعين فاتكأ على كتف ابنه فقال الرسول لأبي بكر هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ! فرد أبو بكر هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى إليه أنت فأكرم محمد الشيخ الأعمى وأجلسه بين يديه ومسح على صدره وتقبل مسروراً نبأ إسلامه
الرسول بالصفا
سلطانا
توجه أهل مكة فى اليوم التالى إلى الصفا حيث دعاهم الرسول ليأخذ عليهم العهد والميثاق ولم تكن تبدو عليهم أمارات الخزى التى تبدو عادة على المنهزمين فقد اطمأنوا إلى المنتصر حينما سمعوا حديثه وشاهدوا أفعاله ألم يكن قاهرهم من بني جادتهم ألم يكن مجده مجداً لهم وانتصاره انتصاراً لهم وسلطانه سيصبح لهم وكان أكثرهم في الحقيقة رغم عداوتهم لمحمد يتألم لفراق ذلك المواطن العبقرى الذى لقب في شبابه بالأمين وكان الناس يحنون لذكر شخصيته ذات السحر الغريب وجاذبيته التي لا تقاوم وكان أهل مكة فى مكنون سرهم يتحرقون شوقاً إلى اعتناق الإسلام والدخول في غمار تلك الحركة الدينية الحماسية التى أثارها محمد فى سائر أنحاء بلاد العرب !! كم تبدو لهم الأصنام الآن حقيرة بعد أن تهشمت وصارت بقاياها تزيد من ضخامة أكوام القمامات الملقاة خارج مكة

ووصل الصفا أول ما وصل مؤلاء بعينهم الذين استغلوا فيما مضى خرافات المشركين وعبادتهم للأصنام حجرية كانت أم خشبية فقد أرادوا بإسراعهم ذلك إسدال ستار النسيان على حياتهم السالفة حيث كانوا دعاة ذلك الدين الجاهلي التافه وبالرغم مما فرضه محمد على المسلمين من تساو في الخشوع فقد كانوا يفتخرون سرا بالانتساب إلى أسر من كانوا في الماضى محل
سخريتهم
أما النبي فلسنا نستطيع تصوير الطرب السامى الذي استولى على نفسه العالية حينما رأى أهله قادمين إليه من كل صوب وقد تفتحت أعينهم للنور فملأ قلوبهم

۷۸
الندم بعد ان كانوا للإسلام وللنبى أعداء وكان محمد يحبهم ويعطف عليهم رغم كل شيء وجلس عمر أسفل مجلس النبي وتلقى استسلام أهل مكة الذين أقبلوا عليه الواحد تلو الواحد فشدوا جميعاً على يده فعاهدهم باسم الرسول أن يحميهم من كل اعتداء فلما انتهى ذلك المشهد الرائع دار على سفح الجبل مشهد آخر أشد روعة وجمالا وأكثر هيبة وجلالا فقد تهدم ! إلى الأبد سور الأصنام الذي فرق طوال عشرين سنة بين القرشيين المهاجرين والقرشيين الذين بقوا بمكة فتعانق هؤلاء وأولئك الإخوة - الذين كانوا بالأمس أعداء - متحابين متحدين في سبيل الله وانضم إلى الفريقين فريق ثالث هو فريق الأنصار من أهل المدينة تلك المدينة التي كانت فيما مضى منافسة لمكة فتآخت المدينتان واتحدتا تحت اسم الحرمين المجيد
ولم يشوه جمال تلك المظاهرة المشهورة التى تحقق بها ما كان يسعى إليه الرسول من أحلام وآمال سعياً حثيثا اللهم إلا أن بنی خزاعة لقوا أحد قاتلى إخوتهم فذبحوه فاستقدمهم الرسول ولامهم لوماً شديداً ثم أضاف يأيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهى حرام من حرام إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجراً لم تحل لأحد كان قبلى ولا تحل لأحد يكون بعدى يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل ثم ودى رسول الله ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة وعفا الرسول عمن لم يقتلوا ممن حكم عليهم
بالإعدام
واسترعى نظر محمد من بين نساء مكة اللاتي أتين لتأكيد إخلاصهن فعرف فيها رغم تنكرها هند الشرسة زوج
امرأه تستتر وراء صواحبها

أبي سفيان فصاحت رامية بقناعها نعم إنى هند فاعف عنى عفا الله عناك! فعفا الرسول عنها رغم ما كان منها يوم ا أحد من تشويه جثة عمه حمزة فلما رجعت هند إلى بيتها بعد أن أسلمت عمدت إلى الصنم الخاص بعائلتها وجعلت تسبه قائلة كنا قبل في غرور ثم انهالت عليه ضرباً فهدمته
وكان عكرمة بن أبى جهل مدير مكيدة الخندمة لخالد بن الوليد قد فر إلى

۷۹
البحر فأتت زوجه أم حكيم الرسول تستأمن له فأمنه فلحقت به وقد أوشك على الإبحار فأرجعته إلى مكة وخشي الرسول أن يثأر المسلمون من عكرمة عندما يتذكرون ما نال فتيتهم من عسف وعنت بسبب أبي جهل فقال يأتيكم عكرمة مؤمناً لا تسبوه ولا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذى الحى ولا يلحق الميت فتأثر عكرمة من رحابة صدر الرسول وحلمه فصار من جند الله المخلصين
المتحمسين
وقد عفا الرسول كذلك عن وحشى قاتل حمزة بعد أن اعتنق الإسلام وكان هبار قد تسبب في قتل زينب بنت الرسول بضربة من كعب رمحه وفر خشية
6
العقاب المستحق لكنه أسلم وأخلص لدينه فأتى الرسول مستسلماً معتمداً على واسع حلمه فقال له رسول الله يا هبار عفوت عناك وأحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام ولكن اذهب ولا ترنى وجهك وأفاد كذلك من حلم الرسول صفوان ثاني مدير مكيدة الخندمة إذ سأله شهرين للخيار فقال له الرسول أنت بالخيار أربعة أشهر
أن غير من
وكان ابن أبي سرح الوحيد الذى عانى المشقة في سبيل الحصول على عفو الرسول الذي غضب عليه غضباً شديداً لارتداده عن الإسلام وكان ابن أبي سرح عليماً بالفروسية والخط وكان يكتب لرسول الله الوحى فبلغت به الجرأة ألفاظ القرآن وشوه معانى السور ليسخر من كلام الله لكن أمره افتضح فهرب إلى مكة ورجع إلى عبادة الأصنام فلما فتحت مكة استجار ابن أبي سرح بأخيه من الرضاع عثمان بن عفان فأجاره وخبأه زمنا ثم أتى به النبي ليستأمنه لكن سعيه ذهب هباء إذ كان الرسول يعرض عنه كلما توسل إليه وأخيراً لم يجد الرسول سبيلا إلى التخلص من إلحاح عثمان إلا بالعفو خرج المذنب قال لأصحابه أعرضت عنه مراراً ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه قالوا أفلا أومأت إلينا فقتلناه فأجابهم الإيماء خيانة ليس لنبي أن يومى
فلما
من هذه الأمثال نستطيع أن نعرف مدى ميل الرسول إلى جذب قومه إليه باللين والإقناع دون الخروج عن الحزم والشدة بالنسبة إلى ما يتصل بالإشراك

۸۰
والمشركين فحصل بالحلم على ما لم يكن ليحصل عليه بالطغيان وبسفك الدماء لقد جذب محمد إليه كل القلوب فأسرعت نحوه مستسلمة جميع القبائل المجاورة ما عدا قبيلتي ثقيف وهوازن ومنذ ذلك اليوم لا يحق لإنسان غادر مكة
إلى المدينة أن يدعى لقب مهاجر إذ أصبح الإسلام وقد دعمت قواعده في مكة والمدينة على حد سواء
غزوة حنين ٦ شوال سنة ٨ هـ ٢٨ يناير سنة ٦٣٠ م
اعتمد الثقفيون والهوازنيون على مناعة
مدينتهم

الطائف
وكانوا على ثقة من
أنها كفيلة بحمايتهم في حالة الهزيمة فرفضوا الخضوع للرسول بل أعدوا العدة لقتاله فاجتمعوا بوادى أوطاس برئاسة البطالين الشهيرين مالك بن عوف

ودريد بن الصمة وعلم محمد بما يبيتون له من شر فبعث بابن أبى الحدر مستطلعاً فلما وافاه بالمعلومات الدقيقة عزم على القيام إليهم وانضم إلى جيش النبي وكان عدد رجاله عشرة آلاف ما يربو على الألفين من أهل مكة الذين أسلموا بعد الفتح فدفعتهم حميتهم إلى إظهار شجاعتهم وإخلاصهم فزاد ذلك في عظمة جيش المؤمنين حتى كان من روعته وقوته حينما مر بالصحراء أن ارتفع صوت من رجل يقال إنه من بني بكر هاتفاً لن نغلب اليوم من قلة وقد غضب الرسول إذ سمع ذلك القول الغرير ولام قائله أشد اللوم لأن الغرور يوهن العزيمة وينسى الإنسان أن الـ النصر ر إنما يأتى منا لدن الله ومر الجند بواد فبصروا بسدرة خضراء شامخة منعزلة يحيطها المشركون بعبادة خرافية فينحرون في ظلها الضحايا ويعلقون بها أسلحتهم اعتقاداً منهم لمس الشجرة يمنحهم قوة لا تقاوم وكانت عقول بعض المسلمين لم تظهر بعد آثار خرافاتهم القديمة فرغبوا فى أن تكون لهم أيضا شجرة ذات أنواط ورفعوا إلى الرسول طلبهم فغضب أشد الغضب وقال لهم الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده - كما قال قوم موسى " اجعل لنا إلها كما لهم
من
أن
آلهة " إنكم قوم تجهلون إنها السنن لتتركن سنن من كان قبلكم قال جابر بن عبد الله لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف ذى خطوط كأنما نتحدر منه انحداراً وكان في عماية

۸۱
الصبح فخرج علينا القوم وكانوا كمنوا لنا فى شعاب الوادى ومضايقه وذلك
أحد
أحمر
على
أحد
له
بإشارة دريد بن الصمة فحملوا علينا حملة رجل واحد وكانوا رماة فاستقبلونا بالنبل كأنه جراد منتشر لا يكاد يسقط لهم سهم ففر الناس راجعين لا يلوى فوجدنا باب المضيق وقد سده رجل من هوازن على جمل بيده راية سوداء فى رأس رمح له طويل أمام هوازن وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه 1 وعندئذ بدت الهزيمة أقرب من حبل الوريد وسارع بعض مرافقى الرسول أعدائه القدامى الذين ما زالوا يحقدون عليه إلى الفرح والابتهاج بحالة المسلمين الخطرة وصاح أبو سفيان مستقسماً بالأزلام التي حملها خفية في جعبته لا تنتهى هزيمتهم دون البحر وقال كلدة بن الحنبل أيضا ألا بطل السحر اليوم ! ولكن صفوان أخاه ولم يكن أسلم بعد أسكته بقوله فض الله فاك فوالله لئن يربى رجل من قريش أحب إلى من
من
اسکت
يربى رجل من أعراب هوازن
أنا
محمد بن عبد الله أنا
أن
وبقى الرسول وحده محافظاً على اتزانه وسط الفوضى الشاملة فانحاز في نفر قليل من أصحابه ذات اليمين وأقام على ربوة صغيرة قائلا أنا رسول الله عبد الله ورسوله واستحث بغلته راميا بنفسه في حومة القتال فمنعه أبو بكر وأمسك بخطام البغلة فوقفها وعندئذ حاول الرسول رد المهاجرين والأنصار إلى القتال فأمر العباس أن يصيح فيهم يا معشر المهاجرين والأنصار يا معشر أصحاب البيعة تحت الشجرة ! وأطاع العباس فلما دوى صوته القوى من قمة الربوة حاملا إلى الهاربين نداء الرسول انتابهم خزى عظيم فثابوا إلى رشدهم وأجابوا لبيك لبيك لكن كيف السبيل إلى وقف مثل ذلك
السيل الجارف من الدواب الهاربين المتزاحمين بين جانبي المضيق الرأسيين
لم يأل المؤمنون جهداً في سبيل وقف إبلهم ولكن عبداً إذ لم تنثن الإبل بل سارت تخب في نفس الاتجاه وعندئذ أخذ جند الله تروسهم وعلقوها في ونزلوا عن إبلهم اللائى تابعت سيرها واستلوا سيوفهم وعادوا إلى
أعناقهم القتال من جديد

۸
وانتصب الرسول على ركابه فرأى ما قرت له عينه رأى تغير الموقف
ورأى الجند العرمرم يتواثبون إلى حومة الوغى فصاح الآن حمى الوطيس وعزم على وبصحبته رجل من الأنصار على أن يقضى على ذلك الأعرابي الهوازني الذي كان يرفع مختالا رمحه المزينة براية سوداء فأتاه وضرب عرقوبى جمله بسيفه فقطعهما ووثب الأنصارى على المشرك فضربه ضربة أتت على قدمه بنصف ساقه فاختلف عن رحله ووقع على الأرض فقضى عليه
ورأى المشركون هجوم
C
ظنوا أنهم قد سحقوهم
المسلمين المفاجئ بعد أن منالا عظيماً وهربوا بدورهم مشتتين وأمر محمد بغلته باللبود
فنال الرعب منهم فلبدت حتى مس بطنها الأرض وقبض قبضة من التراب ورمى بها كما رمى يوم بدر في وجه المشركين فانقلب فرارهم إلى هزيمة منكرة وكأن ذلك التراب قد أعماهم فتفرق الجند كما تفرقت تلك الذرات المتناهية الصغر لقدْ نَصَرَكمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثيرةٍ وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكم كثرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الْأَرْضُ بِمَا رَجُبَتْ ثمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُوله وَعَلى المُؤْمِنِينَ وأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلكَ جَزَاءُ الكافرين وسار المؤمنون في آثار مالك وفلول جيشه معملين فيهم السيوف فاعتصموا المحصنة الطائف ولم يكن حظ دريد القائد الثاني للمشركين مثل حظ
C
بمدينتهم زميله مالك فلم ينج مثله وكان دريد كفيفاً عجوزاً يربو عمره على التسعين لا يقدر على توجيه بعيره وقد فر من حواليه قومه المذعورون فوقع الرجل بين يدى غلام يدعى ربيعة بن رفيع فظن هذا الأخير ـ عندما رأى الهودج الذي يحمل البطل المقعد الشهير - أنه قد ظفر بجارية فأناخ الدابة وأزاح أستار الهودج فإذا أمام عينيه الجاحظتين من الدهشة شيخ كبير فغضب فضربه بسيفه فلم يغن شيئاً فقال دريد ساخراً بئس ما سلحتك أمك خذ سيفى هذا من مؤخرة الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإنى كذلك كنت أضرب الرجال فخزى ربيعة من فشله الأول فضرب البطل فألقاه على الأرض مقطوع الرأس

۸۳
وفى حمية النصر تابع الرسول الهاربين حتى جدران الطائف وحاول الاستيلاء عليها ولكنه بعد حصار غير مجد دام عشرين يوما رأى أن يدع فكرة الهجوم ليستعمل أساليب أخرى قد تكون أبطأ ولكنها أكيدة الأثر لذا فإنه بدلا من
اهد
أن يدعو على أهل الطائف بالغضب الإلهى دعا لهم ربه قائلا اللهم ا ثقيفاً وائت بها وقفل راجعاً إلى مكة رغم ما أظهره الجند من استياء فأقام
بالجعرانة حيث جمعت السبايا والمغانم للتقسيم وعند ما وصل محمد الجعرانة لاحظ من بين السبايا واحدة وهى شيماء من قبيلة بني سعد بطن من بطرن هوازن تدفع عن نفسها الجند الذين يسيئون معاملتها فصاحت به إذ مر بها يا رسول الله إنى أختك من الرضاعة فقال وما علامة ذلك قالت عضة عضضتنيها وأنا متوركتك فترف الرسول العلامة فتأثر وبكى وبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها قائلا إن أحببت فعندى محبّبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعى إلى قومك فقالت بل تمتعنى وتردني إلى قومى فمتعها رسول الله وردها إلى قومها

وفي الجعرانة أقبل وفد من هوازن فقال عنهم شيخهم أبو صرد من بني سعد

ه يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللائى كن يكفلنك ولو أنا ملحنا أرضعنا للحارث بن أبى ـ شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا
بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين فسألهم الرسول وهو يخفى تأثره وحنينه أبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم قالوا يا رسول الله ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً اردد علينا نساءنا وأبناءنا فهي أحب إلينا فقال الرسول بصوت مرتفع أما ما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لكم ولم يكد يقول ذلك حتى صاح المهاجرون والأنصار وما كان لنا فهو لرسول الله وهكذا رد جميع الأسرى - وكان عددهم يربو على ستة آلاف إلى وفد
هوزان
ولم يستثن من ذلك إلا أسرة مالك بن عوف غير أن محمداً أوصى من حررهم إنه إن أتانى مسلما رددت إليه أهله وماله
بأن يبلغوا ما لكنا قوله و
وأعطيته مائة من الإبل

٢٨٤
وقبل مالك ذلك فخرج مستخفياً من الطائف ثم أسلم فحسن إسلامه حتى استعمله الرسول على من أسلم من هوازن وكان ذلك أصدق الطرق للقضاء على مقاومة أهل الطائف إذ أن مالكا - ذلك القائد المجرب المعتز بمنصبه الجديد - شنها شعواء على الثقفيين بفضل جيش متحمس للدين فكان لا يقدر إلا اغتنمه ولا قافلة إلا أخذها فأجاعهم بين جدران مدينتهم
على صرح
"
وأجبرهم على القيام بدورهم إلى الرسول مستعطفين مسلمين وكانت المغانم كثيرة أربعة وعشرين ألفاً من الإبل وأربعين ألفا من رءوس الغنم فعزم محمد على إرجاء التقسيم إلى يوم آخر بعد أن عانى ما عانى من التعب من جراء مشاكل الأسرى فاعتلى ناقته متأهبا للرحيل إلا أن جنده كانوا لا يستطيعون صبراً فتتبعوه بالإلحاح والمضايقة حتى ألجئوه إلى شجرة فاختطفوا عنه رداءه فقال ردوا على ردائى أيها الناس فوالله لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ثم ما ألفيتونى بخيلا ولا جبانا ولا كذاباً ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال أيها الناس والله ما لى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط فمن أخذ شيئاً فى غير عدل ولو كان إبرة كان على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة ثم بدأ فى تقسيم الغنائم وقد عنى الرسول بأن يستميل أعيان مكة نهائيا إليه ببذل العطايا فسموا بالمؤلفة قلوبهم فحصل كل من أبي سفيان وابنه معاوية وحكيم بن حزام ونضير بن حارث وسهيل وعكرمة وعيينة والأقرع وصفوان على هدية هي خمسون من الإبل ولكن ذلك آثار غيظ بعض الناس فأظهر ابن مرداس عدم
رضاه في قصيدته التي منها فأصبح نهى ونهب العبيد
وما كان حصن
ولا حامس
فاستقدمه الرسول وقال له أأنت القائل
فأصبح نهى ونهب العبيد
بين
عيينة والأقرع يفوقان شيخي في المجمع
بين
الأقرع وعيينة
مبدلا اللفظين الأخيرين غير دار أن ذلك يكسر وزن البيت وقد قال

٢٨٥
الله تعالى في كتابه وما علَّمْنَاه الشِّعْرَا فرد أبو بكر مصححا بين عيينة والأقرع فقال الرسول هما واحد ثم أمره أن يرضى الشاعر فيقطع لسانه بالمنح والهبة
وأتى رسول الله أعرابى من تميم يدعى ذا الخويصرة فبلغت به الجرأة أن قال له لم أرك عدلت فغضب رسول الله ثم قال ويحك إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون
فهب عمر صائحا يا رسول الله ألا أقتله فقال محمد بكل بساطة ه لا دعه وقد لجأ الرسول إلى حيل عديدة في سبيل تهدئة الخواطر وتجنب التحاسد بين أتباعه وبالرغم من ذلك فقد نفدت الغنائم أو كادت ولم يبد من الرسول ما يدل على تذكره الأنصار المخلصين وكان هؤلاء بطبيعة الحال لا يشكون في أنهم سيكونون أول الظافرين لذا نظروا بأعين يزداد فيها العجب إلى ما يناله القرشيون والأعراب من المغانم دون أن يكون لأنفسهم فيها شيء
وأخيراً لم يبق شيء فتبادلوا النظرات المريرة وقالوا لقى والله رسول الله قومه فسمع ذلك سعد بن عبادة فنقله إلى الرسول فقال له فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة
فلما اجتمعوا قام إليهم الرسول وخاطبهم قائلا يا معشر الأنصار مقالة بلغنى عنكم وجدة وجدتموها على فى أنفسكم ألم آتكم صلا لا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا بصوت واحد بلی الله ورسوله آمن وأفضل قال أما والله لو شئتم لقلم واصدقتم والصد قتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلا فآسيناك فضحت الجماعة محتجة لله ولرسوله المن والفضل علينا فقال أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم فى لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم فوالذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت
شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار !

٢٨٦
ولم يستطع الرسول أن يكتم انفعاله الشديد وهو يلقى تلك الكلمات التي أثارت
عواطف القوم فدمعت عيونهم دموع الرضا والامتنان حتى اخضلت لحاهم
وقالوا بصوت يقطعه الشهيق رضينا برسول الله قسماً وحظاً

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذ أَعْجَبكُمْ كَثرَ تَكُمْ فَلَمْ تُنْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا

الفصك الثامن

خبر الإفك
بسم الله الرحمن الرحيم وَأَتِمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
قالت عائشة ولما فرغ رسول الله من غزوة بني المصطلق توجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات فيه بعض الليل ثم أذن في الناس بالرحيل فارتحل الناس وخرجت لبعض حاجت وجاء القوم خلافى الذين كانوا يرحلون لى البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى
تم
فيه كما كنت أصنع واحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه أخذوا برأس البعير فانطلقوا به فرجعت إلى المعسكر وما فيه من داع ولا مجيب قد انطاق الناس فالتففت فى جلبابي ثم اضطجعت في مكاني وعرفت أن لو افتقدت لرجع القوم إلى فوالله إنى لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وقد كان تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته فلم يبت مع الناس فرأى سوادى فأقبل حتى وقف على وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب فلما رآني قال إنا لله وإنا إليه راجعون فقمت ثم قرب البعير واستأخر عنى فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطالب الناس حتى لحقنا برسول الله
واتخذ أهل النفاق من ذلك الحادث مطية لإفكهم وقالوا في عائشة ما قالوا وأحس محمد بالشك يغز و قلبه فابتعد عن عائشة رغم احتجاجها وتأكيدها براءتها ورغم تألم صهره أبى بكر لذلك
أخيراً نزل الوحى على النبي فجاء بلسما شافيا لشكوكه ودواء ناجعا قاطعاً للظنون إذ استنكر فيه الله تعالى الإفك وكذب أهله
۸۹

۹۰
ولادة إبراهيم وموته في السنة الثامنة للهجرة وضعت مريم السرية القبطية ولداً ففرح الرسول فرحا عظيماً لأنه رأى فيه عوضاً عما فقده بموت أبنائه الذكور من خديجة
فوهب جارية لأبي رافع الذى بشره بالمولود ثم أعلن أن مولد الطفل من عنا
شأنه
تحرير الأم وحلق شعر المولود في اليوم السابع وختن ثم نحر الرسول جملين وتصدق على الفقراء وجاءت المرضعات يتنافسن كل تبغى شرف إرضاع ابن رسول الله الذي سمي بإبراهيم فأعطاه الرسول امرأة البراء بن أوس ووهبها لذلك حديقة
نخيل
فخرجت المرضعة بالوليد إلى بنى مازن وكان الرسول كثيراً ما ينطلق إليها ويدخل البيت فيأخذ ابنه بين ذراعيه فلا يشبع من تقبيله وشمه وازداد حبه لمريم القبطية فاغتاظت ضراتها

وبات محمد مع مريم ليلة كانت لحفصة بنت عمر فغضبت حفصة وراجعته أشد المراجعة حتى وعدها ألا يقرب مريم بعد ذلك أبداً على أن تكتم حفصة له السر فأبت غطرسة حفصة إلا أن تفشى الأمر وأن تفضى بالقصة إلى عائشة التي غصبت بدورها غضباً شديداً وأثارت غيظ الزوجات الأخر وحقدهن على مريم وأضحى البيت يضج بالصياح والمشاجرات والمراجعة حتى ضاق الرسول بهذا فكف عن مجاملة نسائه وأبى أن يكون لهن عليه الأمر فطلق حفصة بعد أن لامها على فعلها أشد اللوم ثم أخذ على نفسه ألا يقرب زوجاته شهراً وتمادت النساء بعض الشيء فى المراجعة فيما بينهن كل واحدة تتهم بأنهن كن السبب في هجر الرسول لبيته ثم تعاهدن جميعاً على أن لا يعدن بعد
الأخريات
ذلك إلى مضايقة النبي ولكن محمداً أصر على عهده الذي اتخذه فاعتزل في مشربة له يرقى إليها
وعلى
يسلم من جذوع النخيل ينام فيها على حصير تنطيع آثارها في جسده رأس السلم غلام له أسود يأتيه بالطعام ويحرس المشربة التي أوصد بابها دون أعز الصحابة وأخيراً وفى اليوم التاسع والعشرين فكر الرسول في حزن عمر وأبي بكر

۹۱
لذلة ابنتيهما حفصة وعائشة فاستردهما كما استرد زوجاته بعد أن تلا جميع عليهن الآية
وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ والْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظهيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْرًا منكُن مُسْلِمَاتِ مُؤمِناتِ قَانِتَاتٍ تائبات عابدات سَائِحَاتِ تيبات وَأَبْكاراً
غير
أن الأفراح والآمال التى جاءت بمجيء إبراهيم لم تدم طويلا فقد فارق الطفل الحياة في رجب سنة ٩ هـ وسنه لا تربو على سبعة عشر شهراً أمام عبنى أبيه اللتين فاضتا بالدموع الغزيرة
ورأى عبد الرحمن بن عوف تلك الدموع وتذكر منع الرسول الصياح وشق الجيوب ولطم الخدود في حالة الحداد فقال أولم تكن نهيت عن البكاء قال البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان وهطلت دموعه الغزيرة فقال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ولولا أنه وعد صادق وموعد جامع فإن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجداً شديداً ما وجدناه إنا لله وإنا إليه راجعون
وغسلت زهيرة أم المرضع الجسم الصغير وحمله الفضل بن العباس وأسامة بن زيد حتى مقبرة البقيع وأنزلاه في القبر فلما وارت الأرض ابنه الذي عقد عليه كل تلك الآمال وقف الرسول على القبر الصغير وصلى عليه وقال يا بني قل الله ربي والإسلام ديني ورسول الله أبى
وانتفض الناس لذلك المنظر باكين متألمين وفجأة علت الوجوه صبغة باهتة كما كست في آن واحد أديم الأرض ورمال الصحراء ووجوه الصخور واحتجبت السماء اللازوردية بحجاب رصاصى وبهتت الشمس وتضاءل ضوؤها قليلا قليلا على أنه لم تحجبها أدنى غمامة واعترت الطبيعة كلها رعدة خفيفة
ثلجية كرعدة الحمى فسارع الطير إلى أوكاره الليلية يحتمى بها صائحاً جزعاً ثم انطفأت الأشعة الأخيرة التى لا تزال تضىء المكان بنور باهت مخيف فأسدلت
"

۹
الظلمة ثوبها على الأرض في وضح النهار بينما تلألأت نجوم مرتجفة في كبد
السماء
وارتاع القوم واضطر بوا وتشتت شمل الناس فلم يدر أحد أى مذهب يسلك في انتظار وقوع الدمار الأعظم بيد أن بعضهم وقد راعه وقوع ذلك الانقلاب الطبيعي وموت إبراهيم صاح يا رسول الله ! إن عين الشمس قد غشيتها الدموع فاحتجبت تشاركك حزنك فاعتدل الرسول قائماً متغلباً على آلامه ليعلن بصوت ثابت لا يتململ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده فلا ينكسفان لموت أحد من عباده ولا لحياته
غزوة تبوك سنة ٨ هـ ٦٣٠ م
جرب روم الناصرية وعرب الشام بسالة جند الله فى موقعة مؤتة فخابوا وخسروا فحقدوا على الإسلام الآخذ فى التوسع واشتغلوا بجمع جيش هائل ليوقعوا بجند الله الضربة الساحقة
وعلم الرسول بالخبر فعزم على سبقهم ليكون له الهجوم ولم يكن ليوحى إليه بتلك المخاطرة إلا إيمانه الراسخ في الحماية الإلهية فكم كان عليه أن يجمع
من
آلاف الجنود كي لا يجرى إلى هزيمة لا تعوض لم يكن الوقت مناسباً لقيام الحملة إذ عم الجفاف وطالت مدته فذبل النبات وقل الحب ونقص نتاج الأنعام نقصاً كبيراً وعمت المجاعة ففت ذلك في عضد الناس وهمتهم وزاد الطين بلة لظى الشمس في النصف الثانى من السنة ولم يكن هناك بعد ذلك ما يبشر بمحصول وافر إلا ما يجنى من لذيذ ثمار الواحة التى ترويها آبار لا تنفد مياهها وفي تلك الآونة التي تطلع فيها المؤمنون إلى استجلاء المتعة الوحيدة التي وهبتها لهم تلك السنة المملوءة بالأحزان أمر الرسول بإعداد العدة للرحيل فسرى في قلوب الناس استياء صامت استغله المنافقون المعنيون بإذاعة الأقاويل الغادرة أتحسبون جلاد بني الأصفر أحفاد إسحق الأصفر ۱ كقتال العرب بعضهم
۱ قال السهيل يقال إن الروم قيل لهم بنو الأصفر لأن عيصو بن إسحاق كان به صفرة
وهو جدهم

۹۳
بعضاً والله لكأنكم والحر والبلد البعيد
عند
وصولكم أمام العدو المدرع قد أنهكتكم جهد الحال
وتأثر المترددون بتلك الحجج التى لم يكن أحد ليناقش في سلامة منطقها أو أنها كانت تتعلق بحرب غير تلك التي يعدها المسلمون في سبيل الله أما ذوو الإيمان الراسخ فقد ظهرت لهم جلياً الصعاب الهائلة التي يلاقونها بسبب نقص الزاد وقلة عدد الإبل فقد نفق الكثير منها جوعاً وهزل الباقي وكانت الظروف كلها غير مواتية للرحيل بيد أن المصطفى لم يكن يأبه بالعوائق بل لم يكن في سبيل الله ليعترف بها واجتمع جمع من المنافقين في بيت سويلم اليهودى ليتآمروا فبعث الرسول إليهم بطلحة بن عبيد الله ليحرق دارهم وقالوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانوا يَفْقَهُون
فلْيَضْحَكُوا قليلا وَلْيَبكُو كثيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبون
[ سورة التوبة ۸۱ - ۸]
وعمل الرسول جهد طاقته على إفهام أتباعه سمو الغاية المنشودة " آخذاً كل شخص بميوله وآماله الذاتية ليثير الاهتمام العام فقوى عند أناس الأمل الخاص في سعادة الآخرة التي تتفق وروحهم المشبعة بالمثل العليا ولم يقطع عند الآخرين الأمل في المكافآت المادية والغنائم واللذات الدنيوية
وكان الجد بن قيس من ذوى الإعجاب الشديد بالنساء فقال للنبي أو تأذن لي ولا تفتى فرالله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد إعجاباً بالنساء منى وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر أن لا أصبر فأعرض عنه الرسول ولم يجبه فعد الجد ذلك الإعراض وعداً من الرسول بغض العين فلم يستطع كتمان فرحه رغم وجود ابنه الذى لامه على ذلك فرماه الجد بنعاله في وجهه هب المؤمنون من رقدتهم ودبت فيهم حماسة وتوقدت حميتهم بفضل نشاط زعيمهم المتواصل وغدت الصعاب والتضحيات تزيد من حماستهم وتقوى من روحهم المعنوية بدلا أن تثبط من عزمهم وتقلل من همتهم والمقعدون الذين لم يستطيعوا الالتحاق بالمقاتلين فقد حزنوا حزناً شديداً حتى سموا بالبكائين رغم عذو الله عنهم إذ أنزل على رسوله قوله
أما الفقراء

٢٩٤
ليس على الضُّعَفَاءِ ولا على الْمَرْضَى ولا على الذين لا يجدون ما يُنْفِقُونَ حَرجٌ إِذا نَصَحُوا الله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلت لا أجد ما أَحْمِلُكم عليه

تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنَا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقون [ سورة التوبة ٩١ - ٩٢ ]
وتأثر الرسول الحزن هؤلاء ويأسهم فنادى فى المسلمين يستحث كرمهم ويثير أريحتهم فتنافسوا تنافساً عظيماً فى الاستجابة إليه في الحال بالوفير من المال ووضع أبو بكر جميع ثروته رهن تصرف الرسول وزود عثمان بن عفان عشرة آلاف جندى بالسلاح والزاد وتبارى الناس في الكرم حتى تجردت النساء من حليها تبرعاً بها لجند الله
وأخيراً كون جيش الحملة فإذا عدد رجاله يتراوح بين الثلاثين والأربعين ألفاً ولم تكن جزيرة العرب قد شاهدت مثله من قبل وتجمع الجند عند مدخل ثنية الوداع فرأى المنافقون إزاء حماسة المؤمنين أن خير ما يفعلون هو أن يخفوا وإن كانوا أعدوا العدة للتجمع فى مؤخرة الجيش فلما تحرك تسللوا منه الجماعة تلو الجماعة ليرجعوا إلى المدينة
حالم
متسترين
ولم يكن الناس ليعجبوا لسلوكهم هذا غير أن نصائحهم الختالة ردت للأسف أربعة من مخلصى المسلمين عن واجبهم وهؤلاء الأربعة هم الشاعر كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية وأبو خيثمة أما هذا الأخير فقد اشتد عليه الحر وربما أيضاً الشعور بالعار فدخل حديقته التي تكتنفها الجدران المنيعة فرأى فيها تحت سعف النخيل المتشابكة والغصون التي تحمل من نخلة إلى نخلة أعنابها المعلقة بعناقيدها الملتوية رأى عريشتين من ورق النخيل وجذوعها قد امتنعت عنهما أشعة الشمس والظلمة فيها كالليل المسدل وقد أضاء فى كل منهما وجه حسناء مشرق كالبدر في تمامه
وقد تساوى ذكاء هاتين الزوجتين المحببتين وجمالهما وقد رشتا بعناية

٢٩٥
أرض العريش فهبت منها ريح عطرية وعلقتا بعناية فائقة في مداخل الهواء قربا يرشح منها الماء والبرد فيصير كالجليد ثم هيأنا طعاماً يشرح طيب ريحه الصدر ويثير من الشهية المستعصية رأى أبو خيثمة كل ذلك وكان جسده يقطر عرقاً ولباسه يكسوه التراب فأحس بشعور عظيم من الراحة والسعادة يسرى فى كيانه وكاد يلقى بنفسه في أحضان تلك المتعة ويفترش متكاسلا سجاداً رخياً لكنه لم يفعل إذ رأى فجأة خلال ما كان يكسو عينيه مترفقا من الظل ذى الانعكاسات الزمردية صورة خاطفة قاسية رأى فى وسط صحراء حزينة موحشة لا نهاية لها وتحت زرقة سماء لا يحجبها غمام ولظى شمس لا رقة فيها قافلة تسير متثاقلة متعبة قافلة طويلة من الآدميين تختفى تارة وتظهر تارة أخرى بين أمواج الرمال أو الصخور الصفراء هؤلاء الآدميون إنه يعرفهم إنهم إخوانه في الإسلام وعلى رأسهم المصطفى وصاح أبو خيثمة رسول الله في الحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهياً ونساء حسان ما هذا بالنصف ! ! ثم قال لزوجتيه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لى زاداً ففعلتا ثم قدم ناضحه
فارتحله وأخذ سيفه ورمحه وترسه وخرج غير نادم على ما خلفه وراءه من
ماء
سلسبيل رقراق وظل ظليل وجمال ليس فوقه جمال ليلقى بنفسه في صحراء كا الجحيم متتبعاً آثار الجند فلحق بهم عند تبوك
بلاد نمود
وكانت القافلة قد وصلت إلى تخوم الصحراء المحرقة المحيطة بمدائن صالح بلاد ثمود بعد أن اجتازت وادى القرى وهو واد متسع يتقابل فيه لون الواحات الخضراء المحيطة بالكثير من القرى أو القلاع بلون المنظر الصحراوى المقفر فيلقى عليه شعاعاً جمال وانقبضت قلوب المؤمنين الرؤية تلك البلاد
من
الموحشة فقد كانت بحيرتها المثقفة التي خرج لهيب إلهى فصبغها بصبغة الرماد
والفحم الرهيبة تعرض للعين صورة أخاذة من صور غضب الله القدير فقد أشرك أهل ثمود فى غابر الزمن وفسقوا واعتز وا بمناعة ديارهم المنحوتة

٢٩٦
من الصخور وبغنى مدنهم السبع فقابلوا نبيهم صالحا بالسخرية وقد أرسله الله إليهم ليهديهم الطريق المستقيم وليثبت لهم النبي صحة نبوته لجأ إلى دعاء العلى القدير لينجده بمعجزة فلم يكد يلفظ بالدعاء حتى انشقت صخرة في طنين كطنين أمواج البحر الهائج وخرجت من الشق ناقة عجيبة هائلة كثيرة
الشعر وحامل من عشرة شهور فوضعت فصيلا عظيما يشبهها تمام الشبه والمعجزات كثيراً ما تعجز عن إقناع الملحد العنيد ولم تكن تلك المعجزة إلا لتزيد من طغيان أهل ثمود ولكى يبين هؤلاء الزنادقة الأشرار عدم اكتراثهم بها عزموا على قتل الناقة فنثروا الأشواك والصفائح الحادة على الجانبين الرئيسيين للممر الضيق الذي اعتادت أن تسلكه كل صباح لترعى في الخلاء فلما كان المساء رجعت الناقة وألقت بنفسها في ذلك الممر فرقت الصفائح جنبيها تمزيقاً شديداً فأرسلت الناقة اللاهثة أنات يقال إن صداها ما زال يتردد في الوادي - ثم وقعت محتضرة على فوهة الممر التي عرفت منذ ذلك اليوم بمبرك
الناقة

أما الفصيل فقد جرح أيضا وسال الدم من جبينه فابتعد عن أمه قليلا ليموت بمكان يعرف الآن بالحويرية ١ ويمتاز بصخرة اتخذت شكل ذلك الفصيل وتشبهه تمام الشبه ورأى صالح بعد ذلك الإثم العظيم أن جهوده كانت عبثاً فدعا بغضب الله على أهل ثمود فلم يطل انتظار العقاب
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين [١٥ ۸۳] دفعتوا عنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة وهم ينظرون فمَا اسْتَطاعوا من قيام وَمَا كانوا منتصرين ٤٤٥١ ٤٥] إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ فكانوا كَهَشيم الْمُحْتَظر
[٥٤ ٣١]
وظلت بلاد نمود مقفرة منذ أن نزل بها العقاب الإلهى فأباد أهلها وبقيت آثار بيوت الطغاة إلى يومنا هذا بأبوابها الفاغرة التي تشبه حدق عيون عظيمة
1 الحوار ابن الناقة الذي يفصل عنها

۹۷
قد اتسعت رعبا من هول المنظر الذى شاهدته أما الشقوق التي تصدع البنيان فإنها لتبدو أفواها مضطربة من الهلع تصبح بمن يجرؤ على المخاطرة بنفسه في هذا المكان الموحش تأملوا فينا غرور الإنسان وعجبه ثم عجزه أي تكبده أصحابنا لينحتونا فى قلب الصخر ثم ليزينونا بالأعمدة الرشيقة والرسومات
جهد
البديعة ألم يكن يحق لهم بعد هذا أن يطمئنوا كل الاطمئنان بين أحضاننا وهى أشد منعة من الدروع ما أعظم ما كان من ضلالهم ! مر عليهم غضب الله فاقتلع أيديهم القابضة قبضة اليائس على حيطانها فاختفوا إلى الأبد حتى نحن كنا نرتجف ارتجافا جنونيا على قواعدنا كأعضاء المحموم الذي تصطاك أسنانه اصطكاكا ذا ضجيج وإن كنا قد نجونا فلنكون عبرة لمن يجول في أرضنا الحزينة من المسافرين التائهين !
وهم
مر جند المؤمنين وسط تلك الكتل الصخرية ذات الأشكال الغريبة التي تعلو المحيط الرملي كأنها الجزر الصغيرة وتعرض بين جوانبها الملساء أبواب أهل ثمود المظلمة فسجى الرسول ثوبه على رأسه كي لا يرى آثار الطغيان وغطى أنفه وفاه كي لا يشم الريح النجس المتصاعد من الأطلال ثم استحث راحلته ليبتعد عن المكان مسرعاً وخشى الرسول أن يدفع الفضول الشديد جند الإسلام إلى التباطؤ في السير فأوصاهم أن لا يدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا باكون خوفاً أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم فإنه كان يعلم أن تلك العبرات التي تسيل في مثل تلك الذكريات تجعل خشية الله تحل محل الفضول غير أن المسلمين لم يفكروا وقد تأثروا بغرابة تلك الديار التي بدت كأنها ديار أحياء يفوقون البشر قوة وقدرة وبذلك السكون الشامل الرهيب السائد على تلك الأرجاء حيث عاشت أمة في غابر الزمان عيشة الفسق والغرور لم يفكروا أمام هذا كله في الاستطلاع ولم يدفعهم الفضول إلى التباطؤ بل كان جل همهم تتبع النبي الملهم والابتعاد عن تلك الأطلال التي حل بها غضب الله
وكان العطش يستحثهم من جانب آخر على المسير فلما ظهر لهم وسط السهل الرملي بنر ثمود الشهير حيث كانت تستقى الناقة الغريبة تشتتوا متنافسين

۹۸
كل يريد البئر ليكون أول من ارتوى ولم يقدر الرسول على إيقافهم أول الأمر فاستحث ناقته حتى لحق بهم وقال لهم بصوت صارم لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضئوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحبه
ثم أمر بالرحيل غير عابئ بإعياء جنده ولا بعطشهم كي يزيل كل وسواس
من نفوسهم
وما زال الرسول مسجياً ثوبه على وجهه حتى وصل فوهة ممر مبرك الناقة الضيق المخيف وجنده يتبعونه دون تردد أو شكوى رغم ما ألم بهم من أوجاع وخيبة أمل وكان هذا الممر يلقى فى النفس إحساساً بالحزن شديداً ويبعث التشاؤم بما يعرضه من مرتفعات صخرية محيطة بجنبيه يربو ارتفاعها على مائة وخمسين
ترمی
ذراعا فشعر المؤمنون بصدورهم تضيق كأن قد سحقتها الجوانب الشاهقة الارتفاع المهيمنة عليهم وكانوا يخشون سماع صدى أنات الناقة الغريبة وما من قوة بشرية تستطيع قمع الرعب الجنونى الذى يستولى على الدواب فتتخلص من الراكبين ومتاعهم وسلاحهم بقفزات شديدة ثم تولى هاربة بعد أ أن بمن يحاولون وقفها وتسحقهم تحت كلاكلها وتترك الباقين وسط بيداء جدباء مترامية الأطراف وكان أقل صوت يردده صدى الصخور مكبراً بحيث يبعث رعدة خفية فاتبع وا سكونا شاملا لا شاغل لهم إلا استحثاث دوابهم - وأخيراً خرجوا من الممر المخيف فتنفس الناس الصعداء واطمأنت قلوبهم وظهر العيونهم مكان خال صالح لحط الرحال
فلما انتهى المؤمنون من تهيئة مخيمهم أخبر الرسول أن ريحاً شديدة سوف تهب عليهم الليلة وأوصاهم قائلا من كان له بعير فليشد عقاله ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحبه
وما كادوا يمرون على دوابهم يستوثقون من عقالها حتى تحققت نبوءة الرسول فاحتجب الشمس الغاربة بحجاب باهت يناقض الحمرة البهية التي تكسوها عادة فكان بهوتها وانعدام أشعتها مؤذنا بهبوب عاصفة هوجاء

۹۹
وفجأة وثب من الأفق ستار قائم لف الشمس في ثناياه المتماوجة واصطبغ الأفق بدون القار وتكاثفت الظلمات حتى حق لكل حي أن يحسب عينيه قد غشيهما العمى وانبعثت من أعماق الصحراء جلجلة غريبة تقترب بسرعة فائقة وتستحيل طنينا يصم الآذان فكأنه صفير حيات هائلة يصحبه صياح المردة الشريرة وارتمى فى الآونة نفسها على المخيم إعصار عنيف اقتلع في مسيره
كل ما لم يكن محكم الشد وحلت محل الظلمات السوداء ظلمات أخرى صفراء أقم
وأمنع للنظر
6
واحتمى المؤمنون بجمالهم التي جعلت ظهورها للعاصفة مرتعدة تئن خوفاً وسجى كل منهم أطراف ثوبه على وجهه وذراعيه وساقيه ليتقي الرمال الثائرة التي تنغرس قاسية في جسده وكأنها الآلاف من لدغات النحل فكان الجندى يلتصق بالأرض وينشب أظفاره فيها أو يتعلق بجسم بعيره خشية أن تحمله الرياح كما تحمل مندوف الصوف
بعير

وبالرغم من هول تلك الساعة تناسى جنديان أوامر النبي المشددة فخرج أحدهما من المخيم ولم يكد يخطو خطوتين حتى وقع أما الثاني فقد خرج في طلب له ذعر فقطع عقاله وهرب فاحتملت الرياح صاحبه في ثناياها وكأنه الحجر قد قذف من التل حتى طرحته على قمة جبل طي فلما أخبر بذلك الرسول صاح ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ثم دعا الرحمن للذى أصيب فشفى وأما الآخر الذي وقع بجبل طئ فإن طيئاً أهدته لرسول الله حين قدم المدينة وأخيراً هدأت العاصفة بعد أن صبت عبثاً جام غضبها على جند الله فهجرتهم إلى أرجاء أخرى من الأرض ولم يعودوا يشكون منها بيد أن المراحل السابقة كانت قد أنهكتهم وجاء لهم الليل بمزيد من التعب بدلا من الراحة الشافية وقد امتصت ريح السموم كل ما تبقى فى أجسامهم من رطب فتكثف الدم في أجسادهم وتعسر سريانه في شرايينهم وأحدثت ضربات قلوبهم دقا لا يطاق في آذانهم فماذا كان عساهم أن يصيروا فيما تبقى عليهم قطعه من طريق طويل قبل الوصول إلى أول بئر

۳۰۰
لم يكن منظر المكان يشجعهم أو يثبت من عزيمتهم فهم يحسون بأرجلهم وكأنها تطأ أطلال عالم غريب خربه حريق هائل وهناك على بعد عظيم كان يحد الأفق خط أسود هو الصحراء المترامية الأطراف التي تبدو كأنها مكسوة تارة بحلل من الفحم والسناج ۱ والرماد أو بلباس من حديد تجمهر في انصهاره فكون فقاقيع عظيمة تكسرت فكشفت عن شقوق عميقة ذات حراف معدنية حادة كشظايا الزجاج هناك على الأقل كان يبدو أن الحريق قد أطفىء أما على طريقهم فقد حسبوا أنه ما زال مشتعلا إذ كانت الكتل الصخرية ترتفع من كل جانب كأنها بأشكالها وألوانها غابة ذات جذوع ضخمة تفحم جزء منها وما زال الجزء الباقى مشتعلا وقد اعوج بعض تلك الأشجار متخذاً أشكالا غاية في الغرابة حتى حسبها المؤمنون شياطين عابسة هربت من الجحيم ووقفت على طريق جند الله تلهو بعذابهم
كانت الألواح الحجرية الملساء والصخور الحادة البركانية السوداء تكسو الأرض إذ انكشف عنها ستار الرمال الناصعة البياض التي تعكس الأشعة عكساً قويا فتشعل تحت كل صخرة وفى جوف كل فجوة من فجوات التلال الصخرية آلاف النيران الحامية وحتى في أرجاء السماء اللازوردية تلون الصقر المحلق والغمام النادر المار بلون برتقالي زاه كأنه انعكاس وهيج لهيب عظيم وكانت أعمدة الرمال الشامخة تجول وسط كل تلك الأطلال كأنها أعمدة الدخان المتصاعدة من حريق لم يتم إطفاؤه وأصبحت عيون المؤمنين وكأنها مشعل متقد بين الجفون بعد أن حرقتها ريح السموم وحمرتها انكسارات الأشعة الساقطة على التلال أما أرجلهم التي خرقها حصى الصحراء فلم تكن تستقر على الأرض الملتهبة إلا في ألم مبرح وأضحى الرضاب وقد اختلط بذرات الغبار الدقيقة كأنه العجين الكثيف تأبى الحنجرة ابتلاعه وتوتر الجلد توتر الطبل يحدث ألما كلما مسه شيء ويتشقق شقوقاً بليغة أما الشفاه المتورمة فلم تعد تقوى على الكلام وقد انتاب بعض الجند الهذيان بسبب العطش وكان ذلك مؤذنا بالموت ولكى يرجع وهم إلى الحياة لم ير أصحابهم 1 أثر دخان السراج في الحائط مثلا

۳۰۱
بدا من أن ينحر وا إبلهم و يعصروا أكراشها ثم يصبوا السائل الناتج في أفواههم ويجعلوا أوراثها الرطبة على صدورهم الجافة وكان الرسول يتألم لآلام أتباعه لكنه لم يتزعزع أبداً في إيمانه إذ اعتقد اعتقاداً راسخا في أن الله لا يتخلى عن عباده أبداً وإن أحب الإكثار من امتحانهم فلم يكف لحظة عن الدعاء

كم كان النهار طويلا وأخيراً بدأت الشمس في الهبوط
وقد كانت من قبل كأنها مشدودة إلى السماء بخيوط خفية واحتجبت في ذلك اليوم كما احتجبت بالأمس فابتلعت قرصها الأحمر تلك السحابة السوداء التي كانت تنتظره وراء الأفق والتى ارتفعت على زرقة السماء فبسطت على المعسكر قبة سوداء مهدبة بالماء المتجمد ذي البريق النحاسي ولم يحال

الانتظار حتى انقضت سلسلة البرق متوالية على جوانب تلك القبة فنثرتها قطعا انسابت من بينها قطرات الماء الكبيرة التي أخذت تتزايد وتتزاحم حتى تحولت
غينا مطالا

كم كان لذيذاً ذلك الشعور العظيم بالسعادة الذي أحس به المؤمنون حينما نزل ذلك المطر المبارك عليهم فاخترق ثيابهم وكان على أجسامهم برداً وسلاماً فأسرعوا إلى الغدران الكثيرة التي كونتها مياه السماء في كل فجوة من فجوات الأرض حينما وقعت على تلك السفوح الجرداء يرتوون
واستراح المؤمنون وتزودوا بالماء فنشطوا للسفر واحتملوا مغتبطين أتعابه مخرجوا في النهاية سالمين من تلك البلاد التى حل بها غضب الله ! !
وصول الرسول إلى تبوك وإقامته بها
خط
رفيع
ظهر لأعين الرسول وجنده سهل واسع منبسط من الرمال البراقة يقطعه أزرق اللون ولم يطل الانتظار حتى اتضح ذلك الخط الذي أصبح الغاية المنشودة للقافلة فبانت منه منتصبة دقيقة فروع نخيل تبوك فقد كانت تلك واحة تبوك كيف نصف فرحة الواصل إلى واحة نخيل

بعد أن عانى آلام العطش ! كيف نصور سروره عندما يتأمل في الماء الرقراق المتماوج في الغدير بعد أن يتوضأ منه ويرتوى ! ثم كيف نصور انشراح صدره وهو يضطجع في ظل النخيل ذلك شيء فوق قدرة القلم !

۳۰
كان جند الرسول قد تغلبوا على أشق مرحلة من مراحل مهمتهم إذ انتصروا على العوائق الطبيعية فنظروا بعين الاستخفاف إلى أسلحة المشركين وإلى ما يمكن أن تقيمه في سبيلهم من عقبات على أنه بفضل الوسائل العجيبة التي تنتشر بها الأخبار فى الصحراء علم روم الناصرية وعرب الشام الذين اتحدوا لمحاربة المسلمين سريعاً بقدوم الرسول ونزوله بتبوك وكانت دهشتهم
لذلك شديدة
لقد اعتقدوا اعتقاداً راسخاً فى أن الرسول إن أقدم على تلك المجازفة فسوف تكون قفار الحجاز مأوى لعظام جنده ومن أجل ذلك فإنهم رغم تفوقهم في العدد رأوا أن كل ثبات أمام هؤلاء الأربعين ألفاً من المؤمنين الذين نجحوا في مغامرتهم الهائلة يكون جنوناً وينتهي بالهزيمة المنكرة وحل الخلاف في صفوف جيشهم العظيم ففت فيها وولى كل فريق هارباً إلى بلاده دون أن يجسر على ملاقاة الرسول فدعم تشتت الحلفاء المخزى سلطة الإسلام أكثر مما كان يدعمها أعظم الانتصارات ولولا أن شغل محمد بوجوب إتمام رسالته في الحجاز قبل كل شيء
لفتح الشام بغير عناء ولوصل بجنده إلى قلب فلسطين دون مشقة شاقة وأقام الرسول بتبوك فجاءه أمراء العرب خاضعين أفواجا لا من البلاد المجاورة فحسب بل من أنأى الممالك أيضاً مثل سيناء وسوريا ولم يشذ عن هذا إلا أمير دومة الجندل وهي بلد كبير على حدود نفود صحراء حمراء الرمال إذ اغتر هذا الأمير بنفسه فأبى الاستسلام فبعث إليه الرسول بخالد الجبار فأخضعه في أيام معدودة
وفي الأسابيع القلائل التى أراح فيها محمد جيشه واصل اهتمامه بتنظيم شئون البلاد المفتوحة وتعليم المسلمين الجدد دينهم الكريم ولم يكدر صفو انتصاره ذلك إلا حادث واحد وهو موت أحد صحابته الأوفياء وكان يلقب بذى النجادين وأراد الرسول يبين للناس مقدار إجلاله لذلك المؤمن المخلص فساعد بيده حامل الجثة وأنزلها في القبر حتى إن ابن مسعود وكان حاضراً حسد الميت على ذلك الشرف العظيم فصاح يا ليتى كنت صاحب الحفرة
معه

الرجوع إلى المدينة
وعاد الرسول بجنده إلى المدينة دون يحدث ما يستحق الذكر فلم يشك الجند من العطش إذ كان فصل الحر قد مضى فوصلوا إلى المدينة في أوائل
شهر رمضان

أيها المنافقون الأشرار أين تخفون خزيكم في مثل هذا اليوم بين
C
الهتافات التي تستقبل الجند الأشداء عبشا حاولتم أن تأتوا بالحجج شأن مأتمكم ! إن الرسول لا يتنزل فيشرفكم بغضبه فما أنتم له بأهل
لتقللوا من
وإنما يستحقه أولئك المؤمنون الثلاثة الذين تخلفوا من غير شك ولا نفاق وبالرغم
6
من تذللهم وندمهم قضى عليهم بأقسى حكم إذ أمر المؤمنين بمقاطعتهم فوجد المذنبون أنفسهم طوال خمسين يوماً معزولين تمام العزل عن المؤمنين الذين مجر وهم كهجرهم للمصاب بالطاعون حتى عفا الله عنهم بعد ما رأى من إخلاصهم في طلب المغفرة وعلى الثلاثة الذينَ خُلّفوا حتى إذا ضاقَتْ عَلَيهِم الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضاقت عليهم أنفسهم وظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِليه ثمَّ تَابَ ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم كانت غزوة تبوك آخر الغزوات التي قادها الرسول بنفسه فقد اكتفى في سبيل إخضاع ما تبقى من بلاد العرب - ببعث قواده فى عدد من السرايا كللت جميعها بالنجاح وإن المقام ليضيق عن سردها
عليهم
أما الرسول فقد أقام بالمدينة حيث شغل بتلقى الاستسلامات الكثيرة التي أثارتها انتصارات الإسلام وأهم هذه الاستسلامات استسلام أمراء دومة الجندل واليمن وعمان وكذا أمراء الحيرة واليمامة والطائف ونجران إلخ وكان فوق ذلك يصرف جهوده في تلك الحكومة الشاقة حكومة العرب الذين اتحدوا لأول مرة في تاريخهم فكونوا دولة متآخية الأفراد فأبان الرسول في عمله هذا
6
كمشرع ومصلح عن براعة توازي على أدنى تقدير براعته كقائد على رأس
جنده

٣٠٤
وفى هذه الفترة مات عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين الشهير وكان قد تاب وندم في آخر أيامه فضرع إلى محمد يطلب المغفرة فعفا محمد عفواً كريما وبالرغم من اعتراضات عمر العنيد تمسك الرسول بالصلاة على عدوه الغادر وبدفنه بيديه الشريفتين ولم يبق في المدينة منافق واحد بعد ذلك الدليل الساطع على تسامح الرسول وتناسيه للخيانة
أما كعب بن زهير ذلك الشاعر الذى صرف رف حياته في نظم قصائد لاذعة يهجو بها الرسول فقد أتاه وأسلم بين يديه وتلا عليه قصيدة يمدحه فيها فلما وصل إلى البيت الحادي والخمسين وهو
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
عفا عنه محمد ورمى ببردته على كتفيه هبة منه له
و بعد رجوع قواده المنتصرين من سرياتهم بعث النبي بالمبشرين إلى القبائل التي كانت حديثة عهد بالإسلام ليمنع أهلها من أن يضلوا الدين الصحيح بتسرب خرافاتهم القديمة إليه
ومن أهم هؤلاء المبشرين معاذ بن جبل الذي بعث إلى اليمن وقد اراد الرسول أن يبين للناس اهتمامه ببعثة معاذ فألبسه عمامة وساعده على ركوب بعيره وشيعه ماشياً ليدلى إليه بتوصياته الأخيرة فارتبك معاذ وأراد النزول عن دابته لكن محمداً منعه ثم أوصاه وحثه على السير وودعه وهو يتألم
لفراقه
وفى شهر ذي القعدة بعث الرسول - وكان لا يزال على اهتمامه بما للحج من شأن ديني وسياسي - بأبى بكر إلى مكة لتأدية الحج على رأس ثلثمائة مسلم
فلم يكد أبو بكر يصل إلى ذى الحليفة حتى نزلت على الرسول سورة براءة يا أيها الذين آمنوا إنَّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خِفْتُمْ عَيْلَةٌ فَسوف يُغْنِيكُم الله من الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم
وكان لتلك السورة - وهي الوحيدة فى القرآن التي لا تبدأ بیسم الله الرحمن الرحيم شأن خطير في الحج إذ أغلقت باب الحرم دون من كان غير مسلم وما زال

٣٠٥
ذلك الحظر الشديد إلى الآن يحمى حجاج الإسلام من تجسس ا الأعداء والأدعياء
ومن فضول الأجانب
أحد

وكانت تلك السورة أيضاً الضربة القاضية على الإشراك عند العرب إذ لم يعد منهم يستطيع دخول مكة إلا وقد تبرأ من أصنامه لذلك كله بعث الرسول بعلى في آثار قافلة الحجاج ليدركها بأقصى سرعة ويتلو على المؤمنين السورة الحازمة بعد نحر الهدى فى وادى منى
حجة الوداع ذو الحجة سنة ١٠ هـ مارس ٦٣٢ م
عزم الرسول في السنة التالية على قيادة الحج إلى مكة بنفسه فمنذ همجرته إلى المدينة لم يكن قصد مكة إلا للعمرة إذ كانت مكة لا تزال مشركة غير أن الحج الأكبر وهو من فروض الإسلام الخمس يحتم زيارة بيت الله كما يحتم زيارة جبل عرفات وقد سمى هكذا لأن جدينا آدم وحواء تعارفا عليه بعد طردهما من الجنة وكانت رغبة محمد ملحة فى أن يكحل عينيه للمرة الأخيرة برؤية مسقط رأسه إذ أحس ببقايا السم التي استوطنت شرايينه تنخر خفية في جسمه فأيقن بدنو أجله وأعلن على الناس مشروعه فأثارت فكرة رؤية رسول الله وقضاء الحج معه حماس العرب في جميع أرجاء جزيرتهم وبلغ عدد الحجاج الذين خرجوا معه من المدينة أو التقوا به فى الطريق حوالى مائة ألف حاج
ووصل المؤمنون إلى ذى الحليفة فأحرم النبي كما سبق شرحه في فصل الحديبية وتبعه في ذلك المؤمنون فارتدوا ثوب الإحرام المكون من قطعتي قماش غير مصبوغ لا خياطة فيهما تلف إحداهما على الصدر وتستر الأخرى العورة أما الرأس والرجلان والذراعان فتبقى عارية ونادى الرسول ملبيا فرد المؤمنون بصوت واحد من بعده التلبية لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وقد حدث في هذه الرحلة حادثان بسيطان لا نذكرهما إلا لأنهما يبينان ما يجب على الحاج من إخضاع ثورات الغضب والضجر في نفسه كان بعير صفية زوجة الرسول ثقيل الحمل بطىء السير يتأخر عن الركب رغم جهود

٣٠٦
سائقه بينما بعير عائشة خفيف الحمل مع خفة مشيه فلما رأى الرسول ذلك أتى عائشة يحاول إقناعها بإبدال الجملين وأمر أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة وحمل عائشة على جمل صفية فلم ترض بذلك عائشة وصاحت غاضبة إنك تزعم أنك رسول فما لك لا تعدل ! ولم تكد تلفظ تلك الكلمات حتى لطمها أبو بكر فلامه محمد فقال أما سمعت ما قالت قال دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادى من أسفله !
ووصل الركب إلى محل يقال له العرج ففقد البعير الذي يحمل زاد الرسول وزاد أبى بكر فأنب هذا الأخير سائق البعير قائلا بعير واحد تضله ! واعترته حدة شديدة فأخذ يضربه بالسوط
فقال الرسول ساخراً انظروا إلى المحرم ما يصنع ! هون عليك يا أبا بكر
فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا وقد كان الغلام حريصاً على ألا يضل بعيره
6
وسلك الرسول في حجه هذا عين الطريق الذى سلكه في عمرته فدخل مكة في وضح النهار وأناخ ناقته أمام باب الحرم المعروف بباب السلام وأبصر بالبيت فقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيماً ومهابة وبرا وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أ أو اعتمره تشريفا وتكريماً وتعظيماً وبعد أن توضأ ثلاثاً بدأ بالحجر الأسود فقبله بينما فاضت عيناه بالبكاء ثم قضى الطواف والسعى مثلما قضاهما في عمرته
وبرا
في اليوم الثامن من ذى الحجة قام إلى وادى منى حيث نصبت له
خيمة من صوف فصلى هناك صلاة العصر وصلاة المغرب ثم صلاة العشاء
وفى اليوم التالى اعتلى ناقته القصواء وسار إلى جبل عرفات بعد صلاة الفجر

احتشد الناس على سفوح الجبل الصخرية كما احتشدوا في السهل والشعاب
كلماته
بصوته
المجاورة فخطب فيهم الرسول من فوق ناقته التى قادها بنفسه إلى قمة الجبل ووقفها عليها ووقف أسفل الرسول ربيعة بن أمية الذي كان بردد الجهوري أثناء فترات السكوت المتعمدة لهذا الغرض
بدأ الرسول بحمد الله والثناء عليه والتعظيم له ثم قال

٣٠٧
ه أيها الناس اسمعوا قولى فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا
الموقف أبداً
أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها
وإن كل ربا موضوع
۱

ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون
ولا تظلمون
وقضى الله أنه لا ربا وأن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان فى الجاهلية موضوع وأن أول دمائكم أضع دم ابن عمى ربيعة
ابن الحارث بن عبد المطلب
أما
بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه
على دينكم
أيها الناس إن النسى زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مفرد الذي بين جمادی و شعبان
أما بعد أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقا لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان ٢ لا يملكن لأنفسهن شيئاً وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة
۱ موضوع مهدر ٢ أسرى أو كالأسرى والواحدة عانية

۳۰۸
الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولى فإني قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمراً بينا كتاب الله وسنة رسوله
أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه
فلا تظلمن أنفسكم
اللهم هل بلغت !
فأجاب المائة ألف حاج بصوت واحد يفيض إخلاصاً وإيماناً صادقاً
اللهم نعم ! فقال الرسول اللهم فاشهد !
وفى موضع آخر من عرفات يقال له الصخرات ويتميز بألواح صخرية كبيرة نزل على الرسول الوحي على حين غرة فكاد عضد ناقته يندق من ثقل الوحي الذي نفذ إلى قلب صاحبها فوقعت على ركبتيها
وها هي ذي كلمات العلى القدير التي نزلت في ذلك اليوم
ه اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم
الإسلام ديناً
جاء ذلك الوحى ختاماً لخطبة الرسول التى أثارت عواطف المؤمنين فأيقظ في الناس التحمس المخلص والإخلاص الحار بيد أن أبا بكر لم يشارك الناس فى فرحهم بل تملكه حزن شديد ولم يقدر على كبت عبراته إذ رأى أنه ما دامت نعمة الله قد تمت فإنها – على مجرى السنن الإلهية - ستأخذ فى النقصان وعرف أن رسالة محمد قد انتهت فخش أنه عن قريب يتسامى عن هذه الدنيا فيتركها ويختار الرفيق الأعلى
انتشرت أجنحة المساء الزرقاء على الوادى وعلى سفوح جبل عرفات وبقى الرسول مشرفاً على جموع الحجاج من فوق ناقته العالية فكانت أشعة الشمس الغاربة الذهبية تضيئه وحده - وكانت عيناه اللتان أفعمتهما حرارة الإيمان يخرج منهما بريق إلهى ولكن وجهه الذى هزله المرض كان يبعث في النفس

۳۰۹
شعوراً بأنه رؤيا رائعة ليست من عالمنا توشك أن تزول ووصل إليه الظلام
الصاعد فطواه في ثناياه عندئذ انتاب أصحاب الرسول بعد أن كانوا يهللون لإعلان إكمال الله دينهم نفس شعور الحزن الذي انتاب أبا بكر وسرى القلق قليلا قليلا من قلوبهم إلى قلوب المؤمنين فغمر صدر المائة ألف حاج جزع شديد
وأذن الرسول بالرحيل غير أنه خاف أن يقضى تزاحم تلك الجموع المحتشدة إلى اختلال النظام فشد على زمام ناقته السريعة العدو ولوى عنقها حتى جعل منخرها يمس جنبها بينما كان هو نفسه يتدحرج على الغارب
ولم يفتأ يردد اطمئنوا في سيركم أيها الناس
فلما وصل الركب إلى المزدلفة صلى بها الرسول العشاء ثم الفجر في اليوم التالي ثم ركب ناقته وبلال يقودها وأسامة على عجزها رافعا ثوبا يظله به من
الحر
كلا من
واتجه الرسول شطر وادى منى ليرمى بحصيات سبع الأعمدة الثلاثة القائمة هناك والمعروفة بالجمرات تذكرة للحصيات التي رمى بها إبراهيم الشيطان الذي حاول ثلاثاً أن يقفه فى هذا المكان ثم أعتق محمداً ثلاثة وستين عبداً ونحر بيده ثلاثة وستين بعيراً وأمر عليا أن يفرق لحومها وجلودها على الحجاج صدقة وشكراً لله الذي من عليه بثلاث وستين سنة عمراً وبعد ذلك حلق رسول الله رأسه الشريف حلقه معمر بن عبد بادئا بالشق الأيمن منتهياً بالشق الأيسر وأخيراً وبعد أن قام مرة أخرى بالطواف حول الكعبة وشرب للمرة الأخيرة من ماء زمزم الذي ناوله إياه السقاء عمه العباس في إناء قفل راجعا إلى المدينة
6
وهكذا أديت الحجة التي عرفت بحجة الوداع والتي تركت في نفوس المؤمنين أعمق الأثر إذ علموا أن رسالة محمد قد انتهت وأصبح ذلك الحج قدوة للحجات التالية التي تجلب للحرم كل سنة منذ ثلاثة عشر قرنا ما بين مائة وخمسين ألفاً ومائتي ألف من الحجاج الوافدين من كل فج من فجاج
الأرض
إن كل حج أيا كان الدين الذى ينتمى إليه بما فيه من الإيمان الذي

ينير كل الوجوه ليثير في نفس أشد الناس ارتيابا شعوراً بالروعة لا يوصف ولا يتخلص منه إلا بالجهد الجهيد غير أنه فى أكثر هاتيك الحيجات قد دخلت عادات منكرة محت الشعور بالروعة هذه وحولته إلى شعور بالكراهية والاشمئزاز لا شك فى أن الحجاج فى مكة شأنهم شأن الحجاج في سائر المواطن الأخرى عرضة لاستغلال جشع – غير لأهل مكة في ذلك العذر
إذ يعيشون وسط أشد الصحراوات جدياً وليس لهم وسيلة للارتزاق إلا هذه

والميزة الخاصة التي يمتاز بها حج المسلمين هى عدم وجود تلك المعابد الكثيرة ذوات القباب الضيقة التى تحبس الأرواح وتقفها في وثبتها إلى الخالق فتبقيها على الأرض رهن رحمة القسيس
ويمتاز أيضا بانعدام جيش القديسين العرمرم الذي تشغل عبادته عن عبادة ه الإله الخالد الذي ينسى عادة فى مثل تلك الأوقات – وأخيراً فالذي يمتاز به الإسلام انعدام القسس ورجال الدين على اختلاف درجاتهم الذين يتحاسدون ويتنافسون فى اجتذاب الحجاج والاستيلاء على أمكنة الحج لإرضاء وتمجيد طوائفهم أو درجات كهنوتهم وفى مكة تقام الصلاة بالفضاء الرباعى الفسيح المحيط بالكعبة وتحل فيه قبة السماء الأثيرية محل قبة المعابد الحجرية فتظهر متطهرة من كل غيرمها مفصحة عن وجهها الأزرق المهيب للأرواح الملتاعة المشوقة إلى المثل العليا في مكة لا يعبد إلا الله الواحد الصمد فإن كان الحجاج يحاولون بعث ذكريات إبراهيم ومحمد فإنما يكون ذلك ليقو وا شعلة إيمانهم متبعين سنة نبيهم ولا يصلى المؤمنون أبداً لأولئك الأنبياء كما يصلى المسيحيون لقديسيهم بل إنهم ليدعون لهم
برحمة الله
وتفتح أبواب الكعبة ليل نهار فيسارع الحاج إليها يغشى مكة فإذا ظهرت له الكعبة المكسوة بستار أسود والتى كان لا يفتأ يذكرها عند اجتياز أهوال الطريق بين الرمال الثائرة أو الأمواج المتلاطمة أيقظتها العاصفة عندئذ يشتد انفعاله وتثور عواطفه حتى يود لو خرجت روحه من إهابها في تلك الدقائق من الوجد الروحاني ولا يقترب الحاج من الحجر الأسود ليقبله إلا وعيناه

۳۱۱
كافة
تذرفان الدموع وصدره يختلج ندماً ووجهه يضطرب حياء ونفسه تضرع إلى الله اللهم اغفر لي ذنوبي واشرح لي صدري وطهر لي قلبي يا أرحم الراحمين ! وعندما ينادى المؤذنون بالصلاة يسرع المؤمنون إلى الفضاء الرباعي الفسيح فيملؤونه وكأنهم البحر تتضارب أمواجه فلا تترك فيما بينها متسعاً إلا ما يكفى للسجود ويكبر الإمام فيردد المؤمنون تكبيره فى زفرة تخرج من الصدور في آن واحد وتعترى الجموع المحتشدة حركة تموجية فيحنون رءوسهم مثل المياه المنسابة على الشاطئ ثم يكبر الإمام تكبيرة ثانية فيخر المؤمنون ساجدين وكأن الأرض قد مادت تحت أرجلهم جباههم بالأرض حيث تصبح الأجسام وكأنها سحقت تحت ثقل الخشوع والشكر والعبادة كالأشعة تتجه نحو مركز واحد هو الحرم الذي يبدو كأنه ارتفع بمقدار انخفاض سجدة الحجاج والكساء الحريري الأسود يخفق بأنفاس ريح خفية يعتقد بعض الناس أنها رفرفة أجنحة
الملائكة

وليس احتشاد الناس على عرفات بأقل روعة من ذلك فجبل عرفات المخروطى الشكل ذو الجوانب الخالية من كل نبت والتي
تبرز فيها الصخور الهائلة يرتفع وسط واد مقفر ليس على سفوحه ولا في جواره أي أثر للحياة بل في كل مكان صورة الخراب وسكون الموت غير أنه في كل سنة في التاسع من شهر ذى الحجة يبدو هذا المكان الكثيب في منظر رائع يبعث في النفس صورة يوم البعث فالأرض والرمال والصخور تختفى كلها تحت ثوب من الآدميين المرتدين
لباس الإحرام الأبيض حتى يحسبهم الناظر أمواتا بعثوا فبدأوا في خلع أكفانهم بعد أن دفعوا الصخور التي كانت غطاء أضرحتهم
موقف من مواقف الحشر حقاً إن جميع أجناس الإنس على تباينها تحتشد فى ذلك المكان الذى اعتاد الإقفار فهناك العرب ذوو العيون النفاذة البصر والبشرة النحاسية الحمراء والعثمانيون ذوو الوجوه الصارمة الحازمة والهنود كالتماثيل المنحوتة ذات البشرة الزيتونية والبر بر ذوو البشرة الوردية والشعر الأشقر

۳۱
ثم هناك الصوماليون والسودانيون ذوو البشرة السوداء التي تلمع في ضوء الشمس فتعكس أشعة قمرية وهناك الفرس المترفون والشراكسة ذوو الجرأة والإقدام والصينيون ذوو العيون المشدودة وأهل جاوة ذوو الوجنات البارزة إلى آخر ما هنالك فلن ترى فى العالم جمعاً اجتمع فعرض في آن واحد كل تلك الوجوه الآدمية المختلفة الشبه وكل تلك اللهجات واللغات المتباينة
وبعد صلاة العصر يقوم الخطيب على ناقته المزينة بأحسن زينة ويعتلى جبل عرفات فيلقى على الناس خطبة كثيراً ما تقطعها التلبيات لبيك
اللهم لبيك
وعندما يهتفون بالتلبية يحرك الحجاج أطراف ثيابهم البيضاء فوق و
رءوسهم

فيبدو الجبل وكأنه يضطرب باضطراب الآلاف المؤلفة من الأجنجة الموشكة على الطيران بينما تسمو إلى السماء وتردد صداها فى الصحراء صيحة قوية ترتفع من جنبات الوادى صيحة يرددها مائتا ألف حاج قد وضعوا جانباً لغاتهم الخاصة ليتحدوا في لغة واحدة لغة العرب لغة الله التى اتخذها لينزل بها على نبيه
الكتاب
لبيك اللهم لبيك
لقد تآخي هؤلاء جميعاً في تلك الساعة العظيمة تآخوا لغة وقلباً ونسوا
فروق الأجناس والدرجات والطبقات نسوا أحقادهم مذهبية كانت أم سياسية في عرفات يرجع الإسلام إلى اتحاده الشامل وحماسته القوية كما كان في أيامه الأولى
ألا ما أجمله من دواء لجروح أبناء الإسلام قال الرسول مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
وفى عرفات لا يخشى الإسلام شيئاً من فضول أعدائه فيستطيع لم شعثه وإصلاح حاله وتدبير مستقبله وبالرغم مما عاناه الإسلام فهو اليوم أقوى

۳۱۳
وأشد حيوية مما كان
هذا هو الشعور الذي يرجع به الحاج إلى بلاده بعد
أن يرى ذلك اليوم العظيم فضلا عن لقب حاج الذي يغبطه عليه الكثيرون
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ

الفصل التاسع

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
مرض النبي وموته ربيع الأول سنة ١١ ه يونية سنة ٦٣٢ م
قال أبو مويهية مولى رسول الله بعث إلى رسول الله من جوف ليلة من آخر
ليالي صفر فقال "يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال "السلام عليكم
فانطلق معي
6
يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه لو تعلمون ما نجاكم الله منه ! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الأخيرة شر من الأولى"
ولم يكد ينتهى حتى أخذته رعدة المحموم وابتدأته أوجاع الصداع فرجع
متثاقلا إلى أهله
وقالت عائشة ولما رجع رسول الله من البقيع وجدنى وأنا أجد صداعاً في رأسى وأنا أقول "وار أساه" فقال " بل أنا وارأساه ثم قال "وما يضرك لو مت فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ! " فقلت ” والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك! " فتبسم رسول الله ونسى للحظة ١٠ به من ألم ولم يلبث المرض أن ازداد فلم يترك له راحة غير أن الرسول تغلب على آلامه ولم يكف عن تدبير شئون الإسلام ومستقبله إذ أحس أن الإسلام سيفقد قائده في القريب العاجل ورأى محمد أن من شأن الشام أن يكون بمثابة أحد الأبواب الذي ينطلق منه جند الله لفتح العالم فلم يصر رف نظره عنه أبداً وعزم على تجهيز حملة ثالثة لقتال روم الناصرية الذين يسيطرون على الشام وكان
٣١٧

۳۱۸
أسامة
الإسلام إذ ذاك غنياً بالأبطال والقواد الحربيين فظهر بينهم في الحال التنافس جليا في سبيل نيل قيادة تلك الحملة وانتظر أشهرهم سواء كانوا من الأنصار أو المهاجرين في قلق اليوم الذى يختار فيه الرسول من بينهم فاختار الرسول على دهشة من الجميع شاباً صغيراً لا تتجاوز سنه العشرين يدعى لكن ذلك الشاب الصغير كان ابن زيد بن حارثة شهيد مؤتة وكان الرسول لا يعتمد على براعته وتجاربه بل على ما كان أسامة يبديه من حماسة وحمية في سبيل الأخذ بالثأر من أعداء أبيه فى نفس المكان الذي مات فيه ميتته
العظيمة

وأخلف هذا الاختيار ظن القوم الذين كانوا يطمعون في قيادة الحملة ودار بينهم القيل والقال وترددوا فى مبايعة أسامة تلك المبايعة المطلقة التي هي مفتاح الفوز إذ رأوا فيه صغر سن وقلة تجارب وبلغ الرسول الأمر فقام إليهم وقطع دابر ترددهم بقوله ه أيها الناس أنفذوا بعث أسامة فلعمرى لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه الخليقا بها جاءت تلك الكلمات الصريحة الواضحة التى ألقاها الرسول بصوت الإيمان الملهم بمثابة دواء للتردد والتحاسد فما كان من أعظم القواد وأشدهم – مثلهم في ذلك مثل أحقر الجنود وأصغرهم - إلا أن انتظموا تحت لواء القائد الفتى وتوارى الجند في ثنية الوداع فجاشت نفس الرسول بالعواطف لقد رأى في ساعة الرحيل من إيمان جنده العظيم ما حمله على الاعتقاد أن سوف لا يعوقهم في طريق النصر عائق وأن سيل الإسلام الجارف سوف يفيض على العالم فيضان النهر المبارك فيلقى فيه البذور المثمرة الحضارته الفتية الناشئة غير أن أسامة لم أعقابه إلى المدينة إذ أتته الأخبار المؤلة عن
يلبث أن توقف سيره ورجع
الرسول
على

صحة
وفى تلك الأيام تلقى الرسول رسالة من مسيلمة أمير اليمامة يدعى فيها الرسالة والنبوة ويعرض على محمد أن يشاركه في الأمر مناصفة
وكان صاحب هذه الرسالة حديث عهد بالإسلام فلما رأى ما يتمتع به

۳۱۹
النبي من سلطة وشهرة أراد في غروره العظيم أن يقلده بدوره
فقال الرسول للذين يحملون رسالة مسيلمة إنه لولا أن السفراء لا يقتلون لقطع
رءوسهم ثم سلم لهم رسالة باسم محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب يرد فيها عليه بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده وأن العاقبة للمتقين
ولم يطل الانتظار بمسيلمة والأسود وهو كذاب آخر حتى نالا جزاءهما الصارم فرأيا خطر ادعاء النبوة لمن لم يبعثهم الله بها غير أن مرض الرسول كان يشتد عليه يوما فيوماً فيضعفه حتى لم يعد يقدر على التنقل إلا بجهد أليم وكانت عادة الرسول أن يقسم لياليه بين بيوت زوجاته فلما كان ببيت ميمونة أحس بآلامه تعاوده و بمرضه يشتد عليه فدعا بزوجاته واستأذنهن في أن يمرض ببيت عائشة فأذن له قالت عائشة فخرج رسول الله من
بيت ميمونة بين الفضل وعلى عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتي ثم غمر رسول الله واشتد عليه وجعه فقال هريقوا على من سبع قرب لم تحل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس فأجلسناه ثم طفقنا نصب من تلك القرب حتى طفق يقول حسبكم وقد شعر الرسول
عليه بالنشاط والقوة يدبان فيه بعد الاستحمام فخرج من باب عائشة المطل على المسجد يسنده الفضل وعلى ابنا عميه فصعد على المنبر وألقى على المؤمنين خطبته المشهورة التي يطلب فيها من كل من آذاه محمد أو أضر به أن يقول ما في نفسه فيعوضه محمد خيراً ثم هبط من المنبر ليصلى بالناس صلاة الظهر ثم صعد إليه ثانية فأعاد ما قال فقام رجل يطلب رد دين له ثلاثة دراهم على النبي فأعطاه محمد له وهو يشكر ربه أن أتاح له فرصة التخلص من عار الدين في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة
ثم ذكر شهداء أحد فأكثر من ذكرهم واستغفر لهم واختم خطبته قائلا إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ففهمها أبو بكر وعلم أن الرسول يتكلم عن نفسه ويشير إلى صحته فبكى وصاح نفديك بأنفسنا وأبنائنا ! فأجاب محمد أيها الناس بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم هل خلد نبي قبلى فيمن بعث إليهم فأخلد فيكم

٣٢٠
ألا إنى لاحق بربى وإنكم لاحقون به
دخل الرسول بيت عائشة بعد ذلك الجهد المضنى فأغمى عليه فلما نادى المؤذن للصلاة اعتدل وطلب ماء ليتوضأ وليقوم إلى الصلاة فيؤم القوم ولكن إغماءه عاوده ثلاث مرات فلم يستطع قياما – وأخبر أن المؤمنين ينتظرونه في المسجد فبعث ببلال إلى أبى بكر ليؤم القوم مكانه فلما علم الناس بالخبر بكوا بكاء شديداً
كانت الحمى كثيراً ما تعترى الرسول فلما كان يوم الخميس والصحابة حول مرقده قال لهم ائتونى بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً فقال عمر إن الرسول قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا
كتاب الله
وكان من بين الحضور فريق لم يتعودوا مراجعة الرسول فأرادوا تلبية طلبه إذ علموا أنه أمي فاعتقدوا أن ستحصل معجزة فى تلك الساعة الأخيرة غير أن أشياع عمر عارضوهم فاختلفوا واختصموا ولغطوا فتاب الرسول إلى رشده وقال لهم معاتبا قوموا عنى لا يختصم الناس في حضرة النبي وقد اشتد به الأمر وكان عنده ه قدح فيه ماء فصار يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول اللهم أعنى على سكرات الموت "
قالت عائشة ثم دعا فاطمة ابنته فسارها بشيء فبكت ثم دعاها فسارها فضحكت فسألتها عن ذلك فقالت أخبرني رسول الله أنه سيقبض في وجعه هذا فبكيت ثم أخبرني أنى أول أهله الحاقاً به فضحكت
فلما كان يوم الاثنين فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول بينما أبو بكر يصلى بالناس انفتح باب عائشة المطل على المسجد وخرج منه الرسول بين على والفضل معصوب الرأس تخط قدماه الأرض فبدر من الناس عند رؤيته هزة أمل وفهم أبو بكر أن تلك الحركة أثناء الصلاة لا تحصل إلا لمجيء الرسول فتراجع ليخلى مكان الإمام فأمسك الرسول بثوبه ودفعه إلى مكانه الأول قائلا صل بالناس ثم جلس إلى يمين أبى بكر أسفل المنبر وأضاء وجهه فرحاً

۳۱
وحبوراً إذ رأى تقوى الناس وخشوعهم فلما انتهى المؤمنون من الصلاة قام فيهم الرسول لآخر مرة خطيبا فقال
و أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإنى والله ما تمسكون على شيء إنى والله لم أحل إلا ما أحل القرآن ولم أحرم إلا ما حرم
القرآن قال ذلك في صوت لم يوهنه المرض بل كان من قوته أن سيمه الناس خارج المسجد ثم اعتمد الرسول على جذع من جذوع المسجد وصار يحدث أصحابه حديثاً مألوفاً ورجع بعد ذلك إلى حجرته حيث عاوده ألمه عقب ذلك الجهد اشد من ذي قبل فسجي على وجهه ثوبا أسود ولكنه لم
فلما
الأخير فكان عليه يقدر خلاله على التنفس فرمى به قالت عائشة دخل على عبد الرحمن بن أبى بكر ومعه قضيب من ! الأراك الأخضر يستن به فنظر إليه الرسول فعرفت أنه يريده فتناولته فقضمته ثم مضغته فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك ثم وضعه ووجدت رسول الله يثقل في حجرى فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول بل الرفيق الأعلى من الجنة ! فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ! ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم ۱ مع النساء وأضرب وجهى سمع المؤمنون الصراخ هرعوا إلى المسجد وقد نال منهم القلق كل منال كالقطيع التائه في ليلة مظلمة من ليالي الشتاء ولم يصدقوا موت الرسول إذ أن موت الرسول دليلهم ومرشدهم الأعظم فى كل أمر وخطب بدا لهم ضرباً من المستحيل كيف يموت من كانوا يعتمدون عليه ليكون شهيداً لهم يوم الحساب إنه في ظنهم لم يمت بل صعد إلى السماء كما صعد عيسى من قبله وصاحوا خلال الباب لمن في البيت محذرين من دفنه وشجعهم عمر بقوله إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات وإن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله قدمات !
1 الندم أضرب وجهى بيدى

۳
وفى هذه الأثناء أقبل أبو بكر على جواده مسرعاً وكان في السنح فبعث إليه بمن يناديه فنزل على باب المسجد فلم يلتفت إن شيء بل شق الجموع المحتشدة ودخل المسجد فحجرة ابنته عائشة ليرى رسول الله وكان مسجى في ناحية من البيت عليه برد حبيرة فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أقبل عليه فقبله وقد ناء تحت حمل آلام عظيمة ثم بكى قائلا بأبي أنت وأمى أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ولن تصيبك بعدها موتة أبداً ثم رد البرد على وجهه وابتعد عن ذلك المنظر الأليم وخرج وعمر يكلم الناس فقال له على رسلك يا عمر أنصت ! فأبى عمر إلا أن يتكلم فلما رأى الناس أبا بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر فخطب فيهم أبو بكر فقال وأيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات وان كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ثم تلى عليهم

ه وما محمدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قبله الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَو قُتل انقلبتم على أعقابكم ! وتلا عليهم أيضاً إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمُ ميتون قال عمر د فوالله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فبهت حتى وقعت على الأرض ما تحملني قدماى وعرفت أن رسول الله قدمات !
مبايعة أبو بكر
كان على المؤمنين قبل التفكير فى دفن الرسول أن يفكروا في صد الخطر المحدق بالإسلام الذي فقد زعيمه الملهم فغمرتهم الحيرة لقد مات ذلك الذي ضم تحت لواء التآخي في الدين أسراً وقبائل فرقت بينها قرون من ا العداء فما عسى أن يكون مصير هذا التآخي لم يكن هناك لمقاومة تشتت الشمل إلا حل واحد ألا تعيين خليفة أى قائد من قواد النبي يخلفه فيراصل مهمته
وهو
لكن ذلك كان من ث شأنه أن يثير الغيرة بين القبائل والتنافس بين المهاجرين
والأنصار وقد أعلن كل من الفريقين حقه فى تولى الخلافة وكان القتال
الدموى أقرب من حبل الوريد
6
فلم يتجنبه المسلمون إلا بفضل حزم عمر
ونشاطه إذ أسكت الناس وأبان لهم أن محمداً في أواخر أيامه كان يعين أبا بكر
C

۳۳
رفيقه في الهجرة ليصلى بالناس بدله ولو كان عين أحداً للخلافة لما عين إلا أبا بكر فغلب ذلك الرأى آراءهم
وفى اليوم التالي نسى المؤمنون ضغائنهم وأتوا أبا بكر مبايعين
تشييع الرسول إلى مقره الأخير
فلما حلت تلك المشكلة الخطيرة تفرغ المؤمنون إلى رسولهم وآلامهم المبرحة أن يجردوا النبي من ثيابه لغسله ولكن احترامهم
لموته وكانت السنن
تحتم
عليهم "
الشديد لشخصية النبي كان يوعز إليهم بأن كشف عورته أمر يتنافى والإسلام فكثر الكلام والمراجعة بينهم حتى أثقل جفونهم نوم لا يقهر ولم يبق رجل إلا وذقنه في صدره وفجأة أيقظهم صوت من ناحية حجرة المتوفى لا يدرون ما هو فحل المشكلة التي كانوا بها منشغلين إذ قال و اغسلوا النبي وعليه ثيابه وكان ذلك هو الحل الذى عنه يبحثون فنفذوه فى الحال ونصب العباس في الغرفة خيمة من النسيج اليمني كي يمنع الناس من رؤية جثة الرسول الكريم ثم دخل عليه على وأسامة وعباس وابناه وشقران مولى الرسول وغسلوه بسبعة قرب من ماء بثر بقباء وكان محمد يفضل ماءها على كل ماء فكان العباس وابناه الفضل وقثم الرسول الكريم وكان أسامة بن زيد وشقران هما اللذان يصبان الماء
يقلبان
جسم
بينما على قد أسنده إلى صدره يدلكه من فوق قميصه وغسل الرسول ثلاث غسلات واحدة بالماء القراح وواحدة بالماء والسدر وواحدة بالماء والكافور ثم طيبه على والعباس في مواضع سجوده أى الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين وعلى يقول بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا والكل في عجب من عدم وجود أية علامة من علامات التحلل الكريه الذى يتبع الموت على جثة الرسول سوى زرقة خفيفة أظافره
وبدلا من أن يكفن النبي لف في ثيابه التى كان يرتديها ساعة الموت أي في قميصه الذي عصر بعد الغسل وفى ثوب له مزدوج من نسيج نجران وعندئذ سمح على والعباس للملأ بالدخول بعد أن وضعا محمداً على فراشه وامتلأت الغرفة بالمؤمنين الذين حيوا الرسول بقولهم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته

٣٢٤
ثم اصطفوا للصلاة صفوفاً لا يؤمهم أ أحد إذ أن الإمام كان أمامهم رغم دهاب روحه إلى جوار ربه العلى القدير
وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول من المصلين فختما الصلاة
بقولهما
اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله
معه
حتى أعز الله دينه وتمت كلمته فاجعلنا إلهنا ممن اتبع القول الذي أنزل واجمع بينا وبينه آمين وردد الناس من ورائهما في خشوع وتأثر
آمین آمین

وما إن انتهى تجهيز الرسول حتى ظهرت مشكلة جديدة خاصة بدفنه إذ اختلف الناس على المكان الذي يدفن به فقال بعضهم بدفنه في المسجد وقال آخرون بدفنه في البقيع بين قبور أهله وقال البعض الآخر بدفنه في مكة مسقط رأسه فأنهى أبو بكر هذا الاختلاف بقوله إني سمعت رسول الله يقول ه الأنبياء يدفنون حيث يقبضون فرفع الفراش لحفر القبر في نفس المكان الذي كان به الرسول وتولى الحفر طلحة حفار المدينة فعمد إلى جوانب الحفرة وقواها بتسعة قوالب من اللبن ثم فرش قاعها بثوب أحمر كان الرسول يغطى به ناقته في أسفاره فلم يكن لأحد أن يستعمله من بعده وأخيراً رفع على وشقران والفضل وقثم الجثة وأنزلوها في مقرها الأخير
ويدعى المغيرة بن شعبة أنه أحدث الناس عهداً برسول الله إذ يقول أخذت خاتمي فألقيته في القبر وقلت إن خاتمى سقط منى وإنما طرحته لأمس رسول الله فأكون أحدث الناس عهداً به
وانتهى المؤمنون من دفن نبيهم فى منتصف الليلة الفاصلة بين يومى الثلاثاء والأربعاء فلما نادى بلال في فجر اليوم التالى بالمؤمنين إلى الصلاة وأراد أن يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ! اختنق صوته بالعبرات فلم يقدر لفظ اسم محمد وجاوبته المدينة بأسرها كأنها الصدى بأنة أسى طويلة
على
ارتفعت إلى السماء من نوافذ الديار

٣٢٥
وإنه منذ اليوم الثانى عشر من ربيع ا الأول للعام الحادي عشر الهجرى
٨ يوليو سنة ٦٣٢ م يرقد فى هذا المكان الذى فاضت به روحه الشريفة جثمان ذلك الإنسان السامى الذى كان على الأقل لا ينزل قدره عن قدر أعاظم الأنبياء والملوك والقراد والمتكلمين والفقهاء والخطباء والفلاسفة والذي أصبح دينه الآخذ في الانتشار باطراد يضم اليوم ثلثمائة مليون من الأتباع وعوضا عن قبره المتواضع يقوم له الآن مسجد رائع فخم يضم حجرته التي
توفى بها إن زيارة قبر الرسول ليست من فروض الإسلام ومع ذلك فقليل من الحجاج الذين وصلوا إلى مكة متحملين المشقة والأخطار الخطيرة في سفرهم من يترددون في تحمل المشقات طيلة اثنى عشر يوماً كلها تعب وعناء مكة عن المدينة حتى يصلوا إلى صاحب القبر العظيم يحملون إليه
تفصل
تحياتهم الحارة النقية

والعلماء الغربيون أنفسهم قد بدءوا يتحررون من ضلالاتهم العتيقة وراحوا ينصفون مؤسس الإسلام ومن ذلك ما يقوله جوستاف لوبون إذا كانت قيمة الرجال تقدر بعظمة أعمالهم فإنه يكون من المستطاع أن نقول إن محمداً كان من أعظم الشخصيات التي عرفها التاريخ
"
وَمَا مُحَمَّدُ إِلا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُ عَلَى أَعْقَابِكُمْ !

مَوْلَايَ صَلِّ وَسَلَّمْ دَائِمَا أَبَدًا
عَلَى حَبِيبِكَ خَيْرِ الْخَلْقِ كَلِّهِمُ
صورة وصفية للرسول
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً بين الطول والقصر ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتطامن قوى الجسم ضخم الرأس أبيض مشرباً بحمرة سهل الخد هذا وفرة إلى شحمة أذنيه ليس بالجعد القطط ولا السبط إذا غضب رئى فى جبهته عرق ينتفخ أزج الحاجبين عظيم العينين أدعج أهدب كبير الفم كما ينبغى للخطيب المفوه أسنانه كالبرد ولمس يديه الكبيرتين ذاتي الأصابع الطويلة كلمس الحرير الرقيق بين كتفيه خاتم النبوة الذي اكتشفه الراهب بحيرا بيضاوي الشكل أحمر الاون تحيط به شعرات يمشى في تؤدة وقورة جليلة حاضر البديهة دائماً إذا التفت التفت جميعاً لا كالحمقى الذين يدورون برقابهم ويهزون رءوسهم فوق أكتافهم إذا أشار إلى شيء أشار إليه بجميع يده لا بإصبع أو إصبعين إذا عجب لشيء حمد الله وأدار كف يده إلى السماء وهز رأسه وعض على شفتيه إذا أراد تأكيد شيء قاله ضرب بإبهام يده اليمنى على يده اليسرى المبسوطة فإذا غضب احمر وجهه ومر بيده على
لحيته ووجهه وتنفس الصعداء طويلا ثم يقول توكلت على الله خير وكيل وكانت المعانى تتدفق غزيرة من ألفاظه المحكمة الموجزة التي تعبر عن مراده خير تعبير أما سحر بيانه فكان شيئاً إلهيا يغزو القالب ويأسر اللب ولا يقوى أحد على مقاومته وكان الرسول لا يغرق أبداً فى الضحك فإذا ما اشتد به المرح
حجب وجهه بیده
وكان هادئ الخلق حليم الطبع لا تكبر فيه ولا خشونة لا يدعوه أحد إلا أجابه في الحال يحب الأطفال ويلاعبهم ويضمهم إلى صدره الكريم وقد رثى
٣٢٦

۳۷
مراراً يصف أولاد عمه العباس ليتسابقوا ويعد الفائز منهم بجائزة فيتنافسون في اللحاق بأحضانه والجلوس في حجره وكان يرعى شئون الجميع سواء في ذلك الأشراف والعبيد بعطفه وقد روى أن الناس أغفلوا مرة إخباره بموت خادم فقيرة تعمل في المسجد فغضب لذلك غضبا شديداً وسأل عن المكان الذي دفنت فيه حتى وجده فجلس يصلى على الميت
وكان إذا رفع سائل شفتيه إلى أذنه ليكلمه سراً يميل برأسه إليه حتى ينتهى من حديثه وإذا صافح زائراً لا يسحب يده من يده حتى يردها الرجل إليه ومن كلامه صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه
ولم يرفع يده أبداً على امرأة أو على عبد روى أنس الذي خدم الرسول عشر سنين أن سيده لم يلمه أبداً على شى ولم يراجعه في أمر وروى أبو ذر أنه سمع الرسول يوصى بالخدم والعبيد ويدعو إلى معاملتهم كإخوة في الدين وعدم الإجحاف في المأكل والملبس بهم وروى أعرابي ممن كانوا بحنين أنه كان يلبس نعلين غليظين فداس عفواً في هرج المعركة على قدم الرسول فضر به بسوطه من الألم فبات الأعرابي ليلته مهموما لما بدر منه من إيذاء الرسول ولما كان الصباح أرسل محمد في استدعائه فأتاه خائفاً حائراً ولكن النبى طمأنه ووهب له ثمانين نعجة فدية لغضبه وضربه
إنسانا ومنذ ذلك اليوم وحلم الرسول يسبق دائما ثورته
وكانت طبيعته محبة وحناناً إذ تألم صغيراً من افتقاره إلى عطف الأم وشغل كبيراً بمسائل التربية وعلاقة الأبناء بالأمهات وكان يؤكد دائما أن الجنة تحت أقدام الأمهات وكان إذا سمع بكاء طفل وهو في صلاة الجماعة أسرع في صلاته من أجل أن يسمح للأم بإسكات طفلها فقد كان يعلم مقدار تألم الأمهات لبكاء أطفالهن ولم تكن فطنته العجيبة ومعرفته بخفايا النفوس وجواهر الأشياء لتمنعاه

۳۸
من مشاورة أصحابه في كل الشئون ويذكر عن عائشة في هذا الشأن أنها لم تر إنساناً قط يحب المشاورة كما يحبها محمد
وكانت أخلاق الكرم تحول بين الرسول والسخرية المبتذلة أو القاسية ولكنه كان مرحاً يحب المداعبات التى لا يحرمها الله والتي فيها شيء كبير من الحق إن لم تكن الحق بعينه قال يوماً لعمته صفية على سبيل المزاح لا يدخل الجنة عجوز فبكت السيدة الكريمة وكانت قد بلغت من العمر سنتا كبيرة عندئذ أضاف الرسول إلى حديثه إنهن إنما يدخلنها أبكاراً أترابا ۱ في الثالثة
والثلاثين

وكان صلوات الله عليه وسلامه يقول حبب إلى ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
وقد بلغ من حبه للصلاة أن تورمت قدماه من طول الوقوف لها لكنه كان يعتبر الإكثار من الصلاة من خصوصياته كرسول لا يسمح لأحد بأن يتبعه في ذلك وكان يلوم عبد الله بن عامر إذ بلغه أنه يقوم الليل مصليا ويقضى النهار صائماً وينصحه بعدم الإكثار من ذلك لكي لا يضعف بصره وتذهب قوته فضلا عن أن لأهله عليه حقاً وأمره أن يصوم ويفطر وأن يقوم من الليل مصليا وأن ينام وكان محمد يحب النساء وقد عاب عليه الكثير من الأعداء ذلك وحقا كان محمد رجلا بكل ما فى الكلمة من معان خلقية ومادية ورجولته امتازت بالعفة التي لا تتعارض مع أسباب اللذة البريئة المجردة من الدنس وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالحياء والعفة الخاليتين من كل تكلف ورياء لا كحياء المغالين فى الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة وإذا كان محمد قد عقد على ثلاث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إلا باثنتي عشرة منهن أما الأخريات فتزوجهن لأسباب سياسية محضة إذ كانت كل القبائل ترغب في شرف مصاهرته وقد كثرت عليه الطلبات في شأن ذلك ويروى أخت دحية الكلبي ماتت من شدة الفرحة عند ما نبئت أن الرسول قبل
أن
عزة
الزواج بها
1 الترب الشبيه والنظير

۳۹
وكان من حبه للنساء فضلا عن حبه للإنسانية والعدالة أن عطف عليهن جميعا وحاول في كل مناسبة إنصافهن فحرم أول ما حرم وأد البنات تلك العادة القبيحة القاسية التي تحدثنا عنها فيما سبق ثم وضع حدا لتعدد الزوجات فجعل العدد الأقصى منهن أربعاً وزاد على ذلك أن نصح المؤمنين بالتفكير
في الآية
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خفتم ألا تعدلوا فواحدة
ومن أحاديثه أبغض الحلال إلى الله الطلاق وأتبع ذلك بأن منح المرأة حق المطالبة بالطلاق إن لم يوف الرجل بواجبات الزوجية
وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البالغ تستشار قبل زواجها وأصبح المهر لا يعطى للأب بل للعروس نفسها وقد وصف أعداء الإسلام تلك السنة الحكيمة بأنها شراء للمرأة وهم لم يسمعوا فيما أظن ذلك الجواب المفحم الذى يمكن أن يرد به المسلمون عليهم حينما يقولون لهم إن المهر في بعض الأقطار الغربية يدفعه والد البنت إلى رجلها ! وفوق ذلك فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أى حق في التصرف في مال
امرأته
ومنح الرسول أيضا المرأة حقا في الميراث وحقها فيه نصف حق الذكر
وذلك لأن المرأة لا تدفع مهراً كالرجل وليست مكلفة بحاجات البيت وكان الرسول يحب الطيب لأن الطيب يكمل طهارة المؤمن ولأن رجلا طيب الريح أولى بالاحترام والتكريم من رجل تفوح منه رائحة منفرة وكان محمد يتطيب بالمسك ويحرق في بيته الصندل والكافور والمسك ويدهن شعره بالدهون ثم يرسله على أذنيه في أربع خصل اثنتين من كل ناحية ويقص لحيته وشاربه بمقص ويمشطهما بمشط من العاج أو من قشر السلحفاة ويتكحل لأن الكحل يقوى البصر وينمى شعر العين ويستاك كثيراً بسواك من شجرة الأراك يمضغ طرفه فيصبح كفرشة الأسنان أما كساؤه فكان عادة يتألف من قميص من القطن قصير الكمين غير

۳۳۰
سابغ الطول ومن بردة من نسج عمان طولها أربع أذرع وعرضها اثنتان وكان له كذلك بردة يمانية طولها ست أذرع وعرضها ثلاث كان يرتديها أيام الجمع والأعياد وكانت له بردة ثالثة خضراء توارثها الخلفاء من بعده وعمامة سميت بالسحاب آلت إلى صهره على بن أبي طالب وكان النبي يعنى بنفسه عناية تامة إلى حد أن عرف له نمط من التأنق على غاية من البساطة ولكن على جانب كبير من الذوق والجمال وكان ينظر نفسه في المرآة فإن لم تتيسر نظر فى إنا مملوء بالماء الرائق ليتمشط أو ليسوى طيات عمامته التي كان يترك طرفا منها يتدلى بين كتفيه وهو في كل ذلك يريد من حسن منظره البشرى أن يروق الخالق سبحانه وتعالى
هذا كان يحرم بشدة التغالى فى الملبس وعلى الخصوص لبس الحرير حتى لا يتيح للأغنياء فرصة التعالى على الفقراء اللهم إلا إذا دعا لذلك داعى الضرورة
وكان عدله ورحمته من الشمول بحيث تناولا الحيوان الأعجم حتى لقد قال يوما بينهما رجل يمشى فى يوم شديد الحر إذا هو بكلب يلهث الثرى من العطش فنزع خفه ثم نزل إلى البئر فملأه ماء ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله
له فغفر له !
إن هذه الرحمة وهذا النور العجيب الذى كان يفيض من شخصية محمد كانا يجذبان إليه الحيوان بل حتى الجماد فضلا عن الإنسان ذلك أنه ومن عندما رقى المنبر الذى أقيم له فى مسجد المدينة ليخطب كان هناك الجذع الذى كان يخطب فوقه من قبل فسمع له حنين إليه ولم يسكت إلا بعد أن مسته أصابعه المباركة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بأعماله الخاصة بنفسه فكان يحلب شاته ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويطعم إبله وينصب خيمته وسواها من الأعمال دون الاستعانة بأحد وكان يحمل بنفسه ما يشتريه من السوق وأراد يوماً بعض المؤمنين أن يحمل عنه متاعاً فقال له صاحب الشيء أحق بحمله وبهذه القدوة أراد أن يقضى على تلك العادة التي كان يسير عليها
هذه
ويمارس

۳۳۱
أولئك الأغنياء الذين يشترون مع السلع ما يوقرون به ظهور خدمهم دون أن يبدوا
عطفا عليهم
وكان يتباعد إلى أقصى حدود التباعد عن عرض الدنيا وزينتها وهذا بعض ما قاله في هذا الشأن رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى عرض على أن تجعلى لى بطحاء مكة ذهباً فقلت لا يا رب أجوع يوماً وأشبع يوماً فأما اليوم الذي أجوع فيه فأضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذى أشبع فيه فأحمدك وأثنى عليك وقال مالى والدنيا إنما أنا في الدنيا كرجل سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة حتى مال الفيء فتركها ولم يرجع إليها وقال اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرني في زمرة المساكين
أما قناعته صلى الله عليه وسلم فكانت مضرب الأمثال روى أنه لم يجمع بين صنفين من الطعام في أكلة واحدة إلا نادراً فإذا أكل من اللحم لم يأكل من التمر وإذا أكل من التمر لم يأكل معه لحماً وكان يحب اللبن لجمعه بين الرى والإشباع وكثيراً ما كان الشهر يتلو الشهر دون أن توقد نار في


بيوت
النبي لخبز أو طبخ لا طعام له ولأهله ولا شراب خلالها إلا التمر والماء وكان عندما ينال الجوع منه يشد على بطنه حجراً لتخفيف ألم الجوع ولقد فارق الدنيا دون أن يشبع من طعام قط حتى من خبز الشعير وكان ينأى بجسمه الذى كان أبداً موضع عنايته بالطهارة الدائمة عن الرقة والترف فكان ينام غالباً على حصير خشنة كثيراً ما ترى آثارها الغائرة على جسده كما كانت وسادته حشية من ليف النخل وكان سريره عباءة تطوى طيتين ويروى أن عائشة طوتها ذات ليلة أربع طيات فغضب النبي إذ أحس بوثارتها وأمر بإعادتها سيرتها الأولى
وقبل مماته أعتق كل عبيده وتصدق بما كان له من المال القليل حيث رأى أنه لا يليق به أن يلقى ربه وفى حوزته شيء من الذهب ولما لحق بريه لم يوجد
في بيته سوى ثلاثين وزناً من الشعير كان قد رهن فيها درعه لأحد التجار

٣٣٢
هذه هي أظهر نواحى صورة النبي التي حفظتها الآثار والسنن وإن المسلمين ليعتقدون أنها حق لا ريب فيه بل هم يرو يرونها أشبه ما تكون
بما عناه الشاعر
إنما مثلوا
صفاتك للنا
س
كما مثل النجوم
الماء
وقد دنا هذا اللألاء السماوى المتماوج حتى أصبح في متناول اليد ولكنه بقى عزيز المنال على من يريد أن يقبض عليه وكم يبدو هذا اللألاء باهتا إذا ما قورن بالكوكب الأصيل الذى يرسل وهو يلمع فى قمم السماء بوميضه المتأنق
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ


الفصل العاشرة

وثبة الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ يَا قَوْمِ اعْلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام العبقرى كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائيا وبكل دقة حتى في أقل تفاصيله شأناً
تماسك
وكانت جنود الله قد أخضعت بلاد العرب كلها وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القياصرة الضخمة بالشام وقد أثار القلق الطبيعي المؤقت عقب موت القائد الملهم بعض الفتن العارضة إلا أن الإسلام كان قد بلغ من بنائه ومن حرارة إيمان أهله ما جعله يبهر العالم يوثبته الهائلة التي لا نظن أن لها في سجلات التاريخ مثيلا
ففي أقل من مائة عام ورغم قلة عددهم استطاع العرب الأمجاد وقد اندفعوا لأول مرة فى تاريخهم خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم من الهند إلى الأندلس
وقد شغلت فى قوة هذه القصة المجيدة تفكير أعظم عباقرة عصرنا هذا أعنى نابليون الذي كان ينظر دائماً إلى الإسلام باهتمام ومودة فيقول عن نفسه في إحدى خطبه المشهورة بمصر إنه مسلم موحد ! !۱ ويذكر الإسلام في أواخر أيامه فيرى أنه إذا طرحنا جانبا الظروف العرضية التي تأتى بالعجائب فلا بد أن يكون فى نشأة الإسلام سر لا نعلمه وأن هناك علة أولى مجهولة جعلت الإسلام ينتصر بشكل عجيب على المسيحية وربما كانت هذه العلة الأولى المجهولة أن هؤلاء القوم الذين وثبوا فجأة من أعماق الصحارى
۱ عن ش شرفيس بونابارت والإسلام
٣٣٥

٣٣٦
قد صهرتهم قبل ذلك حروب داخلية عنيفة طويلة تكونت خلالها أخلاق قوية ومواهب عبقرية وحماس لا يقهر أو ربما كانت هذه العلة شيئا آخر من هذا القبيل ١
ولذلك كان نابليون يعلم أن وراء خمول العالم الإسلامي في فترة الانحطاط خزائن لا مثيل لها من القوة الفعالة الكامنة فحاول في مناسبات متعددة أن يستميل المسلمين إلى جانبه ببعض المعاهدات وكان يؤمن بأنه إذا وفق في ذلك يستطيع أن يوقظ الإسلام من سباته وأن يغير بمعونته وجه الأرض قاطبة
ولم يكن نابليون مخطئاً في ظنه فقد كانت الحروب الداخلية حقاً سبباً في إظهار سجايا البطولة عند العرب ولكنها إلى جانب ذلك كانت حجر عثرة في سبيل كل تقدم وكل نظام ولولا نبوة محمد لظل هؤلاء الجنود البواسل إلى آخر الزمن في صحاربهم لا يشغلهم شاغل سوى الفتن المتوارثة
وجاء الإسلام فوضع حدا للتفاخر بالألقاب والنسب أو الجنس وجعل من المؤمنين إخوة حقاً ونفخ فيهم روحاً جديدة كلها مساواة ٢ وتقوى وشاعرية فما أروع أعمال البطولة التى استطاع هؤلاء القوم ذوو النفوس الحماسية والقلوب
المنيعة أن يقوموا بها بعد ذلك ! ولم تكن هذه الكنوز من القوة والحيوية

المدخرة خلال عصور تقضت في الحروب الأهلية الطويلة هي الذخيرة الوحيدة التي بفضلها دوخ العرب كل هذه الشعوب التي تختلف عنهم كل الاختلاف وتفوقهم - في هذه الفترة - حضارة فقد تراكمت في مخيلاتهم طوال قرون

التأمل بين أحضان الصحارى الشاسعة القاحلة كنوز أخرى من الأحلام والآمال أحلام أمة شاية فتية – وإن كانت غير متمدينة و آمالها وسوف نرى هذه الأحلام والآمال تفرض فرضاً على سائر تلك الشعوب التي كانت ثقافتها شائخة
منهوكة
وإنا لننصح لمن قد يستريبون في عبقرية العرب بتصفح مجموعة من الرسوم
۱ عن لاس كازاس مذکرات سانت هيلين ج ۳ ص ۱۸۳ في الآثار الإسلامية إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا فضل لعربي على عجمى إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرأه ه یا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئاً إلخ

PTV
التي تمثل المباني التي خلفوها منثورة في جميع أ أنحاء البلاد الخاضعة لهم لا شيء يستلفت النظر مثلما تستلفته وحدة الأسلوب المعمارى التي تميز هذه الآثار عن غيرها من آثار العالم ومع ذلك فهذه المبانى المتشابهة تجدها قائمة في الهند والتركستان و فارس وتركيا ومصر وشمال إفريقيا وإسبانيا إلخ أي في بلاد يختلف

بعضها عن بعض تمام الاختلاف ولها حضاراتها ذات الطابع الخاص المتميز الذي لم تستطع حضارة أثينا أو روما أن تؤثر فيه بشكل جدى
ولقد أخذ العرب كثيراً عن كل تلك الدول المنهزمة والجئوا في أحوال متعددة إلى استخدام فنييها بل عمالها لإنشاء قصورهم ومساجدهم ولكنهم كانوا دائما لا يحققون بما أخذوا عنها إلا أحلاماً وأفكاراً عربية صحيحة

والأسلوب المعمارى العربي نجد طابعه العبقرى المبتكر في أنه دائماً يسترشد بفن جديد نشأ مع الإسلام فن لم يكن له مثيل في الفنون السابقة وكان تحقيقاً مادياً لمثل العرب العليا إذا صح هذا التعبير ذلك هو فن الزخرفة الخطية الذي استخدم لتمجيد كلام الله أى آيات القرآن وإن هذا الفن الخطى العربى حتى فى حالة اقتصاره على وسائله الخاصة وحدها لهو من أروع الفنون الزخرفية التي تمخضت عنها مخيلة الإنسان ولعله الفن الأوحد الذي نستطيع أن نقول عنه دون مغالاة إن له روحا فهو كصوت الإنسان يعبر عما في النفس من أفكار وه و لا يستوحى العالم الخارجي – مهما بلغ ذلك العالم من التنظيم والتنميق - في شيء وهو بذلك ينتسب إلى الموسيقى ويبدو وكأنه رمز لمعان تجيش فى أعماق القلوب

انظر إلى هذه الحروف التى تثب من اليمين والشمال في خطوط أفقية سريعة ثم تدور حول نفسها في تموجات هادئة أو عنيفة وكأنها في ذلك تسير وفق هوى روح داخلية خفية ثم ترتفع ثم تتوقف فجأة وتثبت فخورة في أشكال مستقيمة متقاطعة ثم إذا بها تعود إلى الاندفاع في جموح وتحل ويداعب بعضها البعض في مرح لذيذ فيندفع معها
ما انعقد أشكالها
من
C
الخيال في أحلام لا نهاية لها
وليس من الضروري أن يكون الإنسان مستشرقاً ممتازاً أو خطاطاً بارعاً

۳۳۸
ليدرك عمق الدوافع التي أدت بالقلم إلى رسم هذه الخطوط وليتمتع بالنظر إلى أشكالها المجردة أو بالتأمل فى العاطفة القوية التى تظهر في انحناءاتها فكل تتصل الأسباب دون جهد بينها وبين أسرار هذا
روح
الفن
فنانة لا بد أن

ولقد سعى فن الزخرفة الخطية العربية بعد أن أصبح تعبيراً صادقا لمثل الأمة العربية – إلى أن يخضع لاتجاهاته التى يغلب عليها الطابع الديني كل ما من شأنه أن يعين على استكماله ووضعه في الإطار المناسب مرغماً فن العمارة والنظم الزخرفية الأخرى على ترسم أساليبه وأشكاله ولقد خضعت لسيطرته وسلطانه قبة بيزنطة الكروية الثقبلة فاتخذت هيئة أشبه ما تكون بهيئة الخوذة العربية وتحولت انحناءات رواقها الذى لم يكن فيه شيء من العبقرية إلى أشكال عربية بالغة الروعة بينما اتخذت الطوابي الوضيعة صور المآذن الأنيقة التي ترتفع إلى قمم التجلى وأخيراً فإن النظام الزخرفى الوحيد الذى يشابه الزخرفة الخطية العربية في كونه لا يستوحى الطبيعة وهو الزخرفة الهندسية ذلك الفن الذي لم يستطع الإغريق واللاتينيون استخدامه إلا فى أشكال ضئيلة لا روح فيها – قد دبت فيه بين أيدى العرب حياة جديدة حقاً وقد أطلق على هذا الفن الزخرفى منذ ذلك الحين اسم له دلالته أرابسك Arabesque
وراح يتأسى بفن الزخرفة الخطية العربية فى البحث عن أعجب ما يبهر الفكر من أشكال عبقرية يحار العقل فى تشابكها الذى لا نهاية له وفى تحولاتها
المفاجئة
اليوم
يا لها من آيات غاليات خلفها لنا الفن الإسلامي ! إن الهواة الغربيين يتنازعون
آثار
هذا الفن غير مبالين بما ينفقونه في سبيلها وهم يأملون من وراء ذلك أن تدخل معها في بيوتهم المظلمة بعض انعكاسات الأحلام التي استوحاها الفنانون العرب وإنه لمجد الإسلام يتغنى به فى هذه الديار ما نشهده فيها من تحف تبلغ الغاية من الدقة والجمال والإشراق وإنا لنرى الذوق الغربي يتجه الآن إلى اقتناء آيات فن الخط العربى الذى - بنقله لكلام الله - ينفخ روحا قوية في زخارف المصاحف أو صدف الآنية والغربيون فى ذلك يترسمون خطى الأمراء

۳۳۹
العرب أيام عصر الإسلام الذهبي حيث كانوا سبيل الحصول على صحيفة مخطوطة بقلم أحد الخطاطين المشهورين يبذلون مجهودات جنونية نستطيع مقارنتها بتلك التي تبذل في أيامنا هذه لاقتناء تحف فن التصوير ولكن أيتها الآيات المقدسة التى تبهرين أصحابك الجدد وتثيرين إعجابهم العميق بأشكالك المتأنقة الرقيقة ألا تكشفين لهم يوما القناع عن سمو جمال
روحك الإسلامية
أثر الحضارة الإسلامية في أوربا خلال القرون الوسطى وعصر النهضة لقد أدهشت كل تلك العجائب عقول أهل أوربا حتى في أعنف أيام عدائهم للإسلام وقد نقلوا كثيراً من العرب فى ميدان الزخرفة والمعمار ولا شك أن دراسة أكثر عمقاً لهذا الموضوع من شأنها أن تبرهن على أن أوربا قد تأثرت بالفنون العربية أكثر مما تأثرت بالفنون الإغريقية واللاتينية ولكن مثل هذه الدراسة قد تبعدنا عن الغرض الأساسى من هذا الكتاب ونكتفى هنا على سبيل التلميح - بالإشارة إلى المؤرخ دولور Dulaure الذى يقول إن مهندسي العرب قد عملوا في بناء كنيسة نوتردام بباريس أما في ميدان العلوم فإن أثر المسلمين لم يكن بأقل خصبا ولا نرى من وسيلة لتوضيح هذا أفضل من نقل رأى الدكتور جوستاف لوبون Gustave Lebon في ذلك ونجده في كتابه القيم حضارة العرب
D

ه ويعزى إلى بيكون على العموم أنه أول من أقام التجربة والملاحظة
اللتين هما أساس المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ ولكنه يجب أن نعترف قبل كل شيء بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم
هو

ويقول العلامة الشهير همبرلد بعد أن يذكر أن ما قام على التجربة والملاحظة أرفع درجة في العلوم إن العرب ارتقرا في علومهم إلى هذه الدرجة ۱ التي كان
يجهلها القدماء تقريباً
1 يقول الدكتور هيكل في كتابه عن سيدنا محمد و لست مع ذلك أحسب أنى أوفيت على الغاية من البحث فى حياة محمد بل لعل أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث بالعربية على الطريقة الحديثة وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة الحديثة العلمية من شبه قوى فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثاً أن =

٣٤٠
ه وكانت دراسة العلوم الرياضية من الدراسات الذائعة لديهم وقد تقدم علم الجبر بفضلهم حتى إنه قيل إنهم مخترعوه ولقد كان لهم أيضاً قصب السبق في تطبيق الجبر على الهندسة وهم الذين أدخلوا التماس في حساب المثلثات وكان علم الفلك يدرس فى حماس فى مدارس بغداد ودمشق وسمرقند والقاهرة
وفاس وطليطلة وقرطبة وغيرها تلك المدارس التى وصلت إلى اكتشافات

عديدة يمكن إيجازها في القائمة التالية إدخال خطط التماس في الحسابات الفلكية ووضع جداول لحركة الكواكب وتحديد سمت الشمس تحديداً دقيقاً وتدرجه
تمحو من نفسك كل رأى وكل عقيدة سابقة فى هذا البحث وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال البحث والتمحيص ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمى تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته
ويعقب فضيلة الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ المراغى على هذا الرأى فيقول أما أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه فقد جعل العقل حكماً والبرهان أساس العلم وهاب التقليد وذم المقلدين وأنب من يتبع الظن وقال إن الظن لا يغنى من الحق شيئاً وعاب تقديس ما عليه الآباء وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها ولم تكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية وما أبدع قول البوصيري
لم يمتحنا بما تعيا القلوب به حرصاً علينا فلم ترتب ولم نهم
جميع
وأما أن هذه الطريقة حديثة فهذا ما يعتذر عنه وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا ذلك لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين انظر إلى كتب الكلام ترهم يقررون أن أول واجب على المكلف معرفة الله فيقول آخرون لا ! إن أول واجب هو الشك ثم إنه لا طريقة المعرفة إلا البرهان وهو وإن كان نوعاً من أنواع القياس إلا أنه يجب أن تكون مقدماته قطعية حسية أو منتهية إلى الحس أو مدركة بالبداهة أو معتمدة على التجربة الكاملة أو الاستقراء التام على ما هو معروف فى المنطق وكل خطأ يتسرب إلى إحدى المقدمات أو إلى شكل التأليف مفسد للبرهان وقد جرى الإمام الغزالى على الطريقة نفسها وقد قرر في أحد كتبه أنه جرد نفسه من الآراء ثم فكر وقدر ورتب و وازن وقرب وباعد وعرض الأدلة وهذبها وحللها ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق وإلى ما اهتدى إليه من الآراء وقد فعل هذا ليجانى التقليد وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان ذلك الإيمان الذى لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه وأنت واجد في كتب الكلام في مواضع كثيرة حكاية تجريد النفس عما ألفته من العقائد ثم البحث والنظر فطريق التجريد طريق قديم وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة فليس هناك جديد عندنا ولكن هذه الطريقة القديمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعمل في الشرق وبعد أن تفشى التقليد وأهدر العقل وبعد أن أبرزها الغربيون في ثوب ناصع وأفادوا منها في العلم والعمل رجعنا نأخذ عنهم ونراها طريقة فى العلم جديدة هذا القانون العلمى فى البحث معروف قديماً وحديثاً والمعرفة سهلة ولكن العمل عسير ولا يتفاوت الناس كثيراً في معرفة القانون ولكنهم يتفاوتون جد التفاوت في تطبيق القانون من مقدمة فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد مصطف المراغى لكتاب حياة محمد الدكتور هيكل

وتقدير تقدم الاعتدالين تقديراً صحيحاً
6
٣٤١
وأول تحديد صحيح
لمدة
السنة ثم إننا مدينون لهم أيضا بإثبات ما فى أكبر خط عرض للقمر من ضروب عدم الانتظام واستكشاف عدم التساوى القمرى الثالث المعبر عنه اليوم
بالتغيير

وكان النصيب الذي أسهم به هؤلاء الرواد الذين يمتازون بالجرأة والإقدام نصيباً ضخماً فمن الناحية العلمية كانت لهم هذه التحديدات الفلكية الصادقة التي هي أول أساس للخرائط كما عملوا على تصحيح الأخطاء الفاحشة التي وقع فيها الإغريق

ه أما من ناحية كشف بقاع العالم المجهولة فقد نشر وا رسائل في الرحلات تعرف الناس بأقطار العالم المختلفة التي كانت شبه مجهولة من قبل والا لم يسبق للأوربيين
ارتيادها
وإننا نجد في خريطة من خرائط الإدريسي ترجع إلى عام ١١٦٠ منابع النيل بين البحيرات الاستوائية الكبرى مرسومة رسماً دقيقاً وهي تلك المنابع التي لم يكشفها الأوربيون إلا في النصف الثانى من القرن التاسع عشر

ه وسجل مكتشفاتهم فى ميدان العلوم الطبيعية أعظم من ذلك والبيان التالى يوضح أهمية هذه المكتشفات
معلومات عالية في نظريات علم الطبيعة وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الضوئية اختراع أجهزة آلية من أبدع ما يكرن - اكتشاف أعلق الأجسام بأصل علم الكيمياء مثل الكحول والحامض الكبريتى وأهم العمليات الأساسية في هذا العلم كالتقطير - تطبيق الكيمياء فى ميدانى الصيدلة والصناعات وخاصة فيما يتعلق باستخراج المعادن وصناعة الفولاذ والصباغة وغير ذلك - صناعة

الورق من الخرق والاستعاضة به عن رق الغزال وورق البردى والحرير الصيني ومن المحتمل أنهم أول من استخدم البوصلة في الملاحة ومن المحقق أنهم أدخلوا هذا الاختراع الأساسى فى أوربا - وأخيراً فهم قد اكتشفوا الأسلحة النارية في عام ١٢٠٥ استخدم الأمير يعقوب المدفعية في حصار مدينة المهدية وفى عام ۱۷۳ استخدمها السلطان أبو سيف في حصار مدينة سجلماسة وقد حضر

٣٤٢
كونت دربي وكونت سالسبرى الإنجليزيان في حصار مدينة الجزيرة التي دافع عنها العرب بالمدافع فشاهدوا نتائج استخدام البارود فنقلا ذلك الاختراع إلى بلادهم فاستخدمه الإنجليز في معركة كريس بعد ذلك بأربع سنوات
وأما
فيما يتعلق بالطب فقد استوحى العرب أولا كتب الإغريق ثم
ساروا بهذا الفن خطوات هامة إلى الأمام ه وتكاد تكون سائر المعارف الطبية في أوربا خلال عصر النهضة مأخوذة عن العرب وأهم ما حققه العرب في ميدان الطب يتعلق بالجراحة ووصف الأمراض وبالأدوية والصيدلة وقد ابتكروا وسائل علاجية متعددة ظهر بعضها في العالم الطبي حديثا بعد أن قضت عليها قرون من النسيان مثال ذلك استخدام الماء البارد للطب للحمى التيفودية
ه والطب مدين لهم بكثير من المواد الطبية مثل خيار الشنبر والسنى المكي والراوند والتمر هندى والكافور والكحول والقلى وغير ذلك وإننا مدينون لهم بكثير من المستحضرات المستعملة اليوم مثل الأشربة وصنوف اللعوق واللزق والمراهم والأدهان والماء المقطر وغير ذلك
ه كذلك الجراحة كان للعرب الفضل فى تقدمها الأول فكانت مؤلفاتهم هي المراجع الأساسية التي تدرس بالمعاهد الطبية إلى عهد قريب جدا لقد كانوا في القرن الحادى عشر الميلادى - يعرفون علاج الماء الذي ينصب في العين الكاتاركتا بالتحويل أو استخراج البلورية ويعرفون كيفية تفتيت الحصاة وعلاج النزيف بصب الماء البارد كما كانت لهم خبرة باستخدام الكاويات والأحزمة والكى بالنار لتطهير الجراح وإن التخدير الذي يظن الناس أ أنه اكتشاف حديث يبدو أن العرب لم يجهلوه فقد كانوا يوصون باستعمال نبات الزوان – قبل العمليات المؤلة - لتنويم المريض حتى يفقد الوعى والحساسية
ه وكانت لهم أيضاً ثقة عظمى فى الوسائل الصحية لعلاج الأمراض وكانوا يعتمدون كثيراً على القوى الطبيعية والطب النظرى الذي يبدو اليوم وكأنه الكلمة الأخيرة للعلم الحديث يوافق هذه الفكرة في استدلالاته

٣٤٣
أثر المسلمين في ميدان الفكر
ولعل أثر المسلمين فى ميدان الفكر كان أخطر شأنا فقد دعا عيسى إلى المساواة والأخوة أما محمد فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء
حياته

وإنه يكون من الحمق أن نزعم أن الإسلام أثر مباشرة في خطط الثورة الفرنسية التي كان رجالها يجهلون معظم ما قام به محمد في سبيل المساواة بين الناس ولكننا نستطيع أن نبرهن على أن المحاولات الأولى في السعى إلى تحرير الفكر كانت أثراً منطقياً للمبادئ التي جاء بها محمد فإلى الفيلسوف المسلم ابن رشد الذي عاش في إسبانيا من سنة ۱۱۰ إلى سنة ۱۱۹۸ يرجع الفضل في إدخال

حرية الرأى التي يجب أن لا نخلط بينها وبين الإلحاد في أوربا
رقد عارض ابن رشد وحدة الوجود القديمة والتجسيم المسيحى بعقيدة الإيمان بالله وحده في الإسلام وتحمس أحرار الفكر في العصر الوسيط الأوربى لشروحه لأرسطو وإن كانت هذه الشروح مصبوغة بصبغة إسلامية قوية ويمكن أن نعتبر بحق أن التيار الفكرى الذى نشأ عن هذا التحمس لابن رشد كان أصل التفكير المنطقى الحديث فضلا عن كونه من أصول الإصلاح الديني
أثر الأخلاق الإسلامية
ولم يكن أثر الأخلاق الإسلامية بأقل من ذلك شانا في أوربا فقد كان العرب يمتازون إلى جانب روح التسامح الدينى التي سوف نتحدث عنها فيما بعد بأخلاق الفروسية القوية وفى ذلك يقول الكاتب الإسباني الكبير بلاسكو إيبانيز في قصته في ظل الكنيسة
لقد نشأت
روح
الفروسية بين عرب إسبانيا وأخذها عنهم فيما بعد
أهل الشمال زاعمين أنها طبيعة من طبائع الأمم المسيحية
ولنذكر
إذ يقول
هذا الصدد مرة أخرى ملاحظات الدكتور جوستاف لوبون
C
ه لقد كانت للفروسية العربية أصولها كما للفروسية المسيحية التي جاءت

٣٤٤
بعدها فلم يكن المرء فارساً إلا إذا تحلى بالخصال العشر التالية الصلاح والكرامة ورقة الشمائل والقريحة الشعرية والفصاحة والقوة والمهارة في ركوب الخيل والقدرة على استعمال السيف والرمح والنشاب
ه وقد حاصر والى قرطبة فى سنة ۱۱۳۹ مدينة طليطلة التي كانت بيد النصارى فأرسلت إليه الملكة بيرانجير التي كانت فيها رسولا يبلغه أنه ليس من مروءة فارس كريم رقيق الشمائل أن يحارب امرأة فارتد القائد العربي من فوره ولم يطلب مقابل ذلك سوى أن يشرف بتحية الملكة ١
بهم
لانت
وسجلات تاريخ العرب بإسبانيا حافلة بمثل هذه النوادر التي تبين كيف كانت أخلاق الفروسية هذه ذائعة بينهم ويعترف عالم قوى الإيمان هو بارتليمي سانت هيلير في صدق وصراحة بما تدين به الأخلاق الأوربية للعرب إذ يقول في كتابه عن القرآن عندما اتصل الأوربيون بالعرب واقتدوا العوائد الخشنة لدى أشراف القرون الوسطى القساة وتطلع أهل الفروسية – دون أن يفقدوا لذلك طبائع الشجاعة والنخوة - إلى عواطف أرق من عواطفهم وأشرف وأليق بالإنسانية ومن المشكوك فيه أن تكون المسيحية مهما بلغت تعاليمها من السمو هي وحدها التي أوحت إليهم بكل هذا
السبب فى إنكار علماء الغرب آثار الإسلام في الحضارة الغربية
ولعل القارئ يتساءل والظروف كما ذكرنا عن السبب في إنكار كل أثر الإسلام لدى علماء يبدو أن روحهم العلمية تخرج بهم عن كل تعصب ديني
١ يقول المؤلف في رسالته أشعة خاصة بنور الإسلام ما يلى

أدلة العظمة الموشاة بالرقة
وقد حفظ لنا التاريخ في سجلاته عن فروسية العرب وروحها العالية جميع والتهذيب وقد ذكر منها الكثير واصف باشا بطرس غالى فى كتابه فروسية العرب المتوارثة وهو إن
كان قبطياً مسيحياً فإن لأقواله قيمة عظيمة وهى الرد الصحيح على ما جاء به بيرون Perron من
الادعاءات والتصب يقول واصف باشا كان محمد يحب النساء ويفهمهن وقد عمل جهد طاقته لتحريرهن وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها فوق ما هو بالقواعد والتعاليم التى وضعها وهو يعد بحق من أكبر أنصار المرأة العمليين إن لم يكن عظيم الاحترام والتكريم لهن لم يكن ذلك خاصاً منه بزوجاته بل كان ذلك شأنه مع جميع النساء على السواء
فهل نستطيع أن نقول شيئاً من هذا عن الكثيرين من رجال الكنيسة وقد كان أحدهم سان بونافنتور t Bona venture يقول إلى تلاميذه إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً ولا كائناً وحشياً وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذى تسمعون هو صغير الثعبان

٣٤٥
وتفسير ذلك أن الواقع يشهد بأن حرية الرأى مسألة ظاهرية أكثر منها حقيقية وأن الإنسان ليس حر التفكير على الإطلاق كما يشاء في مسائل معينة ثم إن التعصب الموروث لدى المسيحيين ضد الإسلام وأتباعه قد عاش فيهم دهوراً طويلة حتى أصبح جزءاً من كيانهم فإذا أضفنا إلى هذا التعصب الديني تعصباً آخر هو أيضا موروث تزيده الأجيال المتتالية تمكنا من النفوس بفضل مناهج الدراسات القديمة التي تسير عليها مدارسنا وهو أن كل العلوم والآداب الماضية يرجع الفضل فيها إلى الإغريق واللاتينيين وحدهم أدركنا فى يسر كيف ينكر الناس عامة ذلك الأثر العظيم الذي كان للعرب في تاريخ الحضارة الأوربية وسوف يبدو دائما لبعض العقول أنه من المهانة أن تدين أوربا المسيحيه
للمسلمين بإخراجها من ظلمات البربرية والتوحش
سبب تدهور المسلمين

انتصاراته
ولعلنا بعد هذا نتساءل لماذا إذن وقع المسلمون في مثل هذا التدهور السريع بعد أن ظل الإسلام طوال قرون ثمانية يجعل من إسبانيا الخاضعة له أرفع الأمم الغربية حضارة ويرسل نوره الذي لا يخفت في أرجاء العالم من دلهي و بخارى إلى القسطنطينية وفاس السبب الأول نجده فى الخروج عن مبادئ المساواة التامة الشاملة التي بذل الرسول كل جهده خلال سنى حياته في فرضها والتي كانت سبب وانتصارات الخلفاء الأول ولنضرب لذلك مثلا يوضح كيف كانت هذه المبادئ تطبق في شدة بالغة في الصدر الأول للإسلام و لطم جبلة أحد الأمراء الأقوياء المعتدين بأنفسهم عقب إسلامه رجلا من البدو زاحمه فى الكعبة لطمة عنيفة فأمر الخليفة عمر أن يضرب البدوى الفقير الأمير جبلة مثلما ضربه ولم يأبه عمر في حكمه بمكانة المذنب ولا بخطورة إغضاب رجل له من الشأن ما لجبلة بل رأى أن كرامة الإسلام ومستقبله يقتضيان تطبيق مبادئ المساواة أمام القانون قبل أى اعتبار آخر وبفضل هذه المبادئ القوية التى لا تلين لم يكن لأحد أن يفخر إلا بما

٣٤٦
عمل وأدى التنافس بين المسلمين في سبيل إعلاء كلمة الإسلام إلى ضروب من المعجزات ولم يرق إلى مناصب القيادة سوى الجديرين بها وكان الناس يطيعون
قادتهم في كل صغيرة وكبيرة لأنهم كانوا يحترمونهم ويجلونهم مخلصين

ولكن للأسف لم يحافظ المسلمون محافظة كاملة على هذه المبادىء الأساسية لدين محمد إلا لفترة قصيرة ولقد رأينا التفاخر بالانساب والقبائل يظهر من جديد بآثاره الهدامة فى عهد عثمان ثالث الخلفاء وأضاع الناس حكمة محمد التي تجلت في وصيته لابنته المحببة فاطمة الزهراء يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار فإني لا أغنى عنك من الله شيئا فقد ذهب أناس هم دون ذلك شأناً إلى الفخر بآبائهم وإلى احتقار إخوانهم في الإسلام الذين ينتسبون إلى الطبقات المغمورة وظنوا أنهم معفون لعراقة أصلهم من الجهاد في سبيل الإسلام وفى سبيل الرزق ذلك الجهاد الذي بدونه لا يمكن تحقيق أى تقدم وبالإضافة إلى ذلك ثارت المنافسات بين الذين يعتمدون في حياتهم على مكانة أجدادهم أكثر مما يعتمدون على أعمالهم الشخصية وكانت نتيجة ذلك قيام الفتن الأهلية التي تكاد تكون فى عنفها واتصالها مشابهة لما كان منها في الجاهلية وترتب على ذلك أن تفكك النظام وظهرت من جديد تلك الفوضى العامة الشاملة التي كانت تشل أيدى العرب عن كل عمل مجد في عصور ما قبل الإسلام وفقد المسلمون حب الاستطلاع وفرقت بينهم وأنهكت قواهم الحروب الداخلية فلم يستطيعوا إلا قليلا أن يقاوموا المسيحيين الذين انتهزوا فرصة هذه الفوضى بين المسلمين لينظموا أنفسهم وليحلموا بالأخذ بثأرهم
ولم يكن الإسلام سواء فى ماضيه أو فى حاضره ليصاب بتلك النكبات لو أن المسلمين عملوا دائما بتلك الوصية الأخيرة التى أوصاهم بها الرسول في خطبته
و أيها الناس إنما المؤمنون إخوة

أما السبب الثاني فى تدهور العالم الإسلامي فهو ناتج عن التخلى عن إحدى المميزات الأساسية للإسلام وهى التوافق التام بين العقيدة - التي تكاد تكون خالية من كل ما هو غير طبيعى - وبين ضرورات المنطق وكان لتلك الميزة في العهد الأول أثر يعيد في تقدم العلوم التى لم تعقها أية معتقدات خرافية وهذا

٣٤٧
يكفي لتفسير التطور السريع الذى تطورته الحضارة الإسلامية لكن الروح الإسلامية العلمية خمد حماسها شيئاً فشياً مكتفية بالنتائج الباهرة التي حصل عليها المسلمون في حمية النشاط الذى كان في القرون الأولى للهجرة ومنذ ذلك العهد والإسلام وقع تحت رحمة النزعات الخرافية والإشراكية في الأقطار الحديثة العهد به فقد حلت عبادة القديسين والشفعاء من الأولياء و الوسطاء و المرابطين تلك العبادة المأخوذة عن المسيحية والتي حرمها القرآن تحريماً قطعينا محل عبادة العلم وشلت بخرافاتها الكثيرة التي لا منطق فيها كل تقدم وقد حاول الفلاسفة من أمثال ابن رشد أن يقاوموا هذا التيار ولكن الفرصة كانت قد فاتتهم ثم انغرس هذا الداء واستفحل فى الناس بقوة حتى رمواكل مصلح بالخروج عن الدين وطالبوا بتكفيره
وهذان السببان لتدهور العالم الإسلامى يعتبران من الأسباب القديمة وتظهر فيهما جلينًا المخالفة الصريحة لتعاليم الدين الصحيح لكن هنالك على عكس ذلك سبب يرجع إلى القرن التاسع عشر فقط وقد يبدو أنه ليس فيه خروج عن الكتاب المقدس - إن لم يكن عن روحه - ذلك هو ا الأثر الناتج عن تحريم أخذ الفائدة عن أى مال يقرض لأى سبب كان ذلك ١
نص
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقومُ الَّذِي يَتَخَبطه الشيطان منَ الْمَسِّ ذلك بأنهم قالوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ

البَيْعَ وَحَرَّمَ الربا وإننا لا نناقش هنا صحة المبدأ فذلك شيء لا يقبل المناقشة وإنه حتى أوائل القرن المنصرم لم تكن الآثار الضئيلة بالنسبة إلى المسلمين المترتبة على استعمال اليهود والمسيحيين للفائدة في البلاد الإسلامية لتقارن بفوائد هذا ۱ يحاول كثير من الكتاب في العصر الحاضر - مخلصين - أن يوجدوا في التشريع الإسلامي ثغرة يدخلون منها إلى تحليل التعامل مع البنوك زاعمين أن هذا ليس هو الربا الذي حرمه الإسلام ذلك أن الربا الذي حرمه الإسلام في نظرهم هو الذي حدده القرآن نفسه بأنه و أضعافاً مضاعفة أما التعامل مع البنوك فإنه نظام اقتصادی مایم ولكن الأئمة السابقين جميعاً قد حرموا الفائدة مهما صولت قيمتها مفرقين بين النظام الإسلامي نظام الأخوة والتعاون والعطف وبين النظام المادى الذى لا يعرف أخوة ولا تعاوناً ولا مطفاً

٣٤٨
المبدأ القرآتي الجمة ولكن القرض أصبح اليوم من المقومات الأساسية في كل المشاريع الضخمة وأصبحت البنوك صاحبة السلطة الحقيقية في العالم ولذا وجد المسلمون أنفسهم مؤقتاً يسيرون إن الإفلاس الاقتصادي والسياسي بسبب تفسيرهم المبالغ فيه لهذه الآيات
مستقبل الإسلام
هذه هي في رأينا الأسباب الثلاثه الأولى للتدهور الإسلامي فهل هذا التدهور لا علاج له وهل حكم على الثلثمائة مليون من المسلمين المنتشرين على سطح الكرة الأرضية بأن يظلوا إلى الأبد على هذه الحالة المحزنة التي قسمت لهم بعيدين
عن الحضارة الحديثة
إنا لا نرى ذلك فبالنسبة إلى السببين الأولين نجد العلاج غير معقد إنه في الرجوع إلى المبادئ الصحيحة التي جاء بها الرسول
أما فيما يتعلق بالمسألة الثالثة فحلها في تفسير نص الآيات المقدسة تفسيراً قد يكون أقل تمسكا بالحرفية ولكنه لا شك يتمشى مع روح الكتاب في أمانة وقد فهم ذلك المسلمون المستنيرون جيداً فحرصوا على عدم الخلط بين الإجراءات المالية فى البنوك وبين أعمال الربا الحقيرة التي حرمها النبي
وأخيراً فإن الجراح التي أصابت الإسلام خلال نصف القرن الأخير قد أيقظته من سباته وأقنعته هزيمته الأخيرة نفسها بضرورة تبنى الوسائل العلمية التي يستخدمها أنصاره وتذكر المسلمون أحاديث الرسول
و اطلبوا العلم ولو بالصين
و العلم خير من العبادة
• ه يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء
برسم
على دم الشهداء ولقد قام مصلحون عباقرة من أمثال الشيخ محمد عبده السبيل الذي يجب على المسلمين أن يسيروا فيه مبرهنين على أنه يمكن التوفيق بين محمد وبين مقتضيات الحضارة الحديثة ولم يمض طويل وقت حتى ذهب الكثير من الشباب

٣٤٩
في سائر البلاد الإسلامية إلى التعلم على الطريقة الأوربية في سهولة تكيف عجيبة دون أن يفقدوا شيئاً من عناصر قوميتهم الأصيلة وسوف نرى عما قريب العدد العديد من المسلمين يحتلون مكانهم الثابت فى العالم الحديث ولا يهابون أن ينافسوا رجال الغرب فى ميدان الحضارة العصرية ١
لقد اعترض على إمكانية هذه النهضة الإسلامية بأنه يقف في سبيلها عقبات
قوية هي
عقيدة القضاء والقدر
والتعصب
وتعدد الزوجات

عقيدة القضاء والقدر
فلنعرض سريعا لهذه المسائل هل عقيدة القضاء والقدر الإسلامية يمكن أن تتفق مع الجهاد الصحيح في سبيل التقدم
المجال
إذا كنا نجد بعض الوجاهة فى شىء من النقد الموجه إن المسلمين في هذا
فلأن بعض المسلمين من أمثال أتباع المرابطين يسيئون فهم التوكل وعلى أي حال فلم يكن لهذا التوكل الأثر المبالغ فيه الذي يراد إلصاقه به والإسلام ليس فيه من التوكل أكثر مما في مذهب إنكار فعل العزيمة الشخصية والقول بالأسباب الخارجية determinisme بل القضاء والقدر فيه يكون أقل خطورة منه في المسيحية لو اتبع المسيحيون حرفية تعاليم الإنجيل الذي يقول ه ولذا أقولها لكم لا يقلقنكم أن تبحثوا عن الجهة التي تجدون فيها ما تأكلون وما تشربون لاستبقاء حياتكم ولا الجهة التي تجدون فيها الثياب لكساء أجسادكم إنجيل متى ٥ ١٨ و ٦ ٢٥
كيف نقول إن عقيدة القضاء والقدر تشل كل عمل عند المسلمين والرسول كان أنشط الناس وأكثرهم مثابرة وجهاداً والإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء نشأته مباشرة بالفتوح الواسعة العجيبة والحضارة السامية العظيمة إن
عقب
۱ حذفنا من هنا بضعة سطور تاريخية لم تعد لها قيمة تذكر بعد مرور كل هذه السنين على
تأليف الكتاب

٣٥٠
كلمة إسلام تعنى الرضاء بأوامر الله أي بما لا يمكن لأى قوة إنسانية أن تحول دونه ولكن ليس من معانيها الخضوع للأمور التي يبدو أنها يمكن أن يغير مجراها العمل والإقدام وقل يا قوم اعملُوا عَلَى مكانتكُم فهذه العقيدة إذن بعيدة كل البعد عن أن تكون مصدر ضعف إنها على العكس من ذلك مصدر
قوة نفسية لا تضارع بالنسبة إلى المسلم تعينه على احتمال المحن والشدائد ۱
التعصب
ونعرض بعد ذلك لموضوع التعصب فنتساءل ألا يعوق تقدم المسلمين وعلاقاتهم بالمتحضرين من أبناء الأديان الأخرى تعصب هؤلاء المتحضرين العنيف الذي لا هوادة فيه والذي هم يرمون به المسلمين والمسألة هنا هى قبل كل شيء أن نعرف ما إذا لم يكن هذا التعصب عند المسلمين أسطورة من تلك الأساطير التي لا تحصى والتي أذاعها بين الناس أعداء الإسلام في القرون الوسطى
وفيما يلى بعض الوقائع اخترناها من بين عدد كبير أمثالها من نسردها هنا ليتمكن القارىء من الحكم فى هذا حكماً صحيحاً
يروى ابن جرير نقلا عن ابن عباس أن رجلا من بني سالم بن عوف يقال له الحصين وله ولدان مسيحيان وهو مسلم سأل الرسول فيما إذا كان يجب عليه إكراه ولديه على اعتناق الإسلام وهما يرفضان كل دين غير المسيحية فأنزل الله تعالى الآية الكريمة لا إكراه في الدين وعندما جاء رسل نجران المسيحيون المدينة ليفاوضوا النبي منحهم نصف مسجده ليؤدوا صلاتهم فيه وقام محمد يوماً لجنازة فقيل له إنها جنازة يهودى فقال أليست هي نسمة
وهو القائل من آذى ظلما يهوديا أو نصرانياً كنت خصمه يوم القيامة
1 فإذا قضيتم الصلاة الآية يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين الآية فإما تثقفهم في الحرب وفى الحديث و اليد العليا خير من اليد السفل ه لأن يأخذ أحدكم حبلا

قد يدوم الملك على الكفر ولكنه لا يدوم على الظلم والمسلمون على عكس ما يعتقده الكثيرون لم يستخدموا القوة أبداً خارج حدود الحجاز أى الأرض الحرام والمنطقة المحيطة بها - لإكراه غيرهم على الإسلام وإن وجود المسيحيين في إسبانيا لدليل واضح على ذلك فقد ظلوا آمنين على دينهم طوال القرون الثمانية التي ملك فيها المسلمون بلادهم وكان لبعضهم مناصب رفيعة في
بلاط خلفاء قرطبة
أيضاً
ثم إذا بهؤلاء المسيحيين أنفسهم يصبحون أصحاب السلطان في هذه البلاد فكان أول هم لهم أن يقضوا قضاء تاماً على المسلمين وقد ألحقوا اليهود الذين عاشوا فترة آمنة هادئة تحت حكم المسلمين
بهم
وفي كتابه رحلة دينية فى الشرق يشيد الأب و ميشون بالحقيقة في صيحته الصادقة إنه لمن المحزن بالنسبة إلى الدول المسيحية أن يكون المسلمون هم الذين علموها مبادئ التسامح الدينى الذى هو الناموس الأكبر للرحمة والإحسان بين الأمم ! 1
وقد يعارض قوم فيذكرون مذابح الأرمن ويتساءلون ما القول فيها والرد على ذلك أن المسلمين الحقيقيين يستنكرون كل شيء من هذا القبيل ما لم تدع إليه الفتن والمؤامرات تماماً كما يستنكر المسيحيون الحقيقيون اليوم مذبحة المسلمين في إسبانيا
جميع
والواقع أن مذابح الأرمن لم تكن قط لأسباب دينية ذلك لأن أتباع دين محمد لم يدر بخلدهم قط أن يقتدوا بأنصار توركو يمادا فيخيرون الأرمن بين ترك المسيحية إلى الإسلام وبين أن يحرقوا أحياء وعلى أي حال فالمسلمون لا يأنسون في أنفسهم أى ميل لرد الناس عن دينهم وليس لهم مبشرون حقيقيون وإذا كان الإسلام هو الدين الذى يجذب إليه أكثر الناس في إفريقيا وفي آسيا في عصرنا هذا فذلك - كما لاحظه ملاحظة صحيحة المسيو أ بوردو - ه يرجع إلى نوع من الامتصاص المعنوى ٢
۱ نقلا عن الكونت دى كاسترى في كتابه من الإسلام عن أ بوردو العرب في إفريقية الوسطى

٣٥٢
وإن القدوة الحسنة التي لا تقترن بمحاولة التبشير المتعصبة لهى أقوى أثراً في النفوس التقية من مضايقات القسس المبشرين ولقد اضطر العالم دوزی - رغم تعصبه ضد الإسلام - إلى الاعتراف بأن الكثير من المسيحيين الذين كانوا في إسبانيا و اعتنقوا الإسلام عن عقيدة
هی

والقاعدة التي يجرى عليها المسلم في علاقاته بأصحاب الديانات الأخرى تلك التي حددها القرآن فى الآية التالية لكم دينكم ولى دين وكيف لا يكون المسلم متسامحا وهو يجل الأنبياء الذين يجلهم اليهود والنصارى ! فموسى بالنسبة إليه كليم الله وعيسى روح الله يجب تبجيلهما كما يبجل محمد ه حبيب الله لا نفرق بين أحد من رسله ولن يجرؤ مسلم قط على التفوه بأقل بادرة في حق عيسى وكذلك لن يقبل أن يدع أحداً يتفوه بمثل هذا في حضرته حتى وإن كان من يحدثه من هؤلاء المسيحيين الأصليين الذين يريدون أن يجعلوا من عيسى المسئول عن الأخطاء الكهنوتية وسب المسيح لا شك يعتبر سبباً للإسلام الذى يأمر باحترامه ولقد أتيح لنا أن نشهد حادثاً عجيباً هو أن قاضياً مسيحياً حكم على رجل مسلم لضربه يهودياً بدرت منه أمامه أقوال بالغة الإسفاف في شأن ولادة عيسى ولنقارن الآن

بين موقف الإجلال هذا الذى يقفه المسلمون من عيسى وبين
ما صنعه الأوربيون من سيرة محمد ففي العصور الوسطى كان الرهبان يصورونه تارة في صورة صنم بشع وتارة في صورة سكير مدمن إلخ ولو أننا أردنا أن نثبت هنا كل ما تمخضت عنه قديماً مخيلات أعداء محمد الخصبة لما انتهينا إلى حد
لم يكن المستشرقون الأول بأقل عنفاً في مهاجمته من هؤلاء
والعالم جانييه في القرن الثامن عشر يعيب على القس المراكشي والدكتور بريدو إسفافهما المتحيز ضد محمد ولكنه فيما بعد يسف أكثر من إسفافهما ويصف محمداً بأبعد الأوصاف عن سيرته ومع هذا فالعالم جانبيه يزعم أنه معتدل كل الاعتدال في حكمه

٣٥٣
ومن زمن بعيد وأعداء الإسلام يلحقون الأذى بأصحاب محمد أيضاً وقد ألف بعضهم تلك الأسطورة الذائعة التي تقول بأن الخليفة عمر أحرق الإسكندرية ولم يكن غرضهم من ذلك إلا أن يجعلوا الناس تنسى العمل الوحشي الذي قام به الكاردينال كسيمينيس من إحراق دور الكتب البديعة التي كانت للمسلمين بإسبانيا وهم في زعمهم هذا يبدون استخفافاً لا حد له بوقائع التاريخ ذلك أن مكاتب الإسكندرية قد خربت قبل مجيء الإسلام بقرون متعددة وأولى هذه المكاتب هي مكتبة البروخيوم التى كانت تحتوى على أربعمائة ألف مجلد وقد أحرقت أثناء الحرب التي نشبت بين قيصر والإسكندريين وثانى المكاتب هي مكتبة السرابيوم التى ضمت في يوم من الأيام مائتي ألف مجلد أوصى بها لها أنطونيوس وقد نهبت هذه المكتبة وخربت تماماً في عهد ثيودوزيوس
وقد أنشأت هذه الخرافات السخيفة تتلاشى في أيامنا هذه على
أننا نفضل
ما فيها من تعصب صريح على تلك الدسائس الخبيثة التي يريد بعض الكتاب الذين لم يتخلصوا بعد من طبائع القرون الوسطى المسيحية أن يذيعوها - تحت ستار من العلم الاستشراقى الظاهرى - فى حق رجل من الرجال الذين يشرف من غيرهم تاريخ الإنسانية نفسه
إلى
بهم
أكثر
وقد يسأل سائل ألا ينتهى الأمر بالمسلمين بعد أن تبنوا حضارة المسيحيين أن يتدينوا كذلك بالمسيحية ويكفينا للإجابة عن هذا السؤال أن نورد رأى في اعترافه بالواقع رغم تمسكه الشديد بدينه ذلك الكاتب هو
كاتب صريح ه الكونت دى كاستر ه الذي يقول في مؤلف له ممتاز عن الإسلام
الإسلام هو الدين الوحيد الذى لا تجد فيه مرتدين ومن العسير بل من المحال أن نتصور صورة دقيقة للحال النفسية التي يكون عليها المسلم إذا ما حاول أحد المسيحيين أن يقنعه باعتناق المسيحية لعلنا نجد صورة مقاربة شيئاً ما لهذا إذا ما تخيلنا إحساسات وشعور رجل مسيحى مستنير يحاول أحد الوثنيين أن يجتذبه إلى اعتناق خرافاته المرذولة ١
۱ عن الكونت هنرى دى كاستر الإسلام

٣٥٤
العلة في بغض المسيحيين للإسلام
فا عسى
أن تكون علة ذلك البغض الذى يلاحق به المسيحيون الإسلام
حتى في عصرنا هذا عصر التسامح - ولا نريد أن نقول عصر عدم المبالاة بالدين - في حين أن الإسلام يقدم لهم كثيراً من الأدلة التي تؤكد احترام عيسى
وتبجيله !
هل يكون ذلك لأن الإسلام كانت نشأته في آسيا
ولكن ألم تكن المسيحية في جوهرها ديانة آسيوية قبل أن يخلصها بولس القديس من اليهودية وقد قال عيسى نفسه لم أرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة إنجيل متى ١٥ - ٢٤
وهل العلة في العقيدة Dogme نفسها ولكن عقيدة الإسلام تكاد تكون مماثلة
لعقائد بعض الفرق البروتستانتية التي تأثرت بالإسلام فاحتذت حذوه ذلك أو هل سبب يرجع إلى الآثار التي خلفتها الحروب الصليبية في
النفوس
ذلك أمر لا شك فيه فرغم مضى زمن طويل على هذه الحروب نجدها
لا تزال تفعل فعلها المشئوم فى نفوس الكثير من الجهلاء ولكن هذا الأمر وحده ليس بكاف لتفسير ما حكم به على الإسلام في أوربا من نفى وتحريم
فعلينا إذن أن نبحث عن تعليل آخر وسوف نتبين جلية الأمر إذا ما تأملنا المثل الذي تقدمه لنا ديانة أخرى تقابل حقاً في أوربا بمثل ما يقابل به الإسلام
من النفور والاضطهاد
تلك هي ديانة فرقة المورمون وهى من الفرق البروتستانتية وقد أظهر أصحابها العجب العجاب من قوة العزيمة والذكاء والمثابرة فأحالت الصحراء ذات الأرض الملحة الكثيبة التي قطنت بها إلى بلد خصب زاهر وكان على أهل أوربا وأمريكا جميعاً أن يشيدوا بهذا العمل النافع الحضارة الإنسانية ويبدأ استحسانهم له ولكن سائر شيع المسيحية على العكس من هذا تناست

٣٥٥
أحقادها وخلافاتها الخاصة لتتألب على المورمون يجمعها في هذا شعور متماثل من
الكره لهم
فماذا كان الجرم الذي اقترفه هؤلاء المورمون

لم يكن لهم من جرم إلا أنهم - كالمسلمين – يستحلون تعدد الزوجات ومفتاح هذا السر إذن هو تعدد الزوجات ! وإن في ذلك لإنذاراً للأمم الإسلامية بأنها لن تحصل قط على حق الدخول في زمرة الأمم المتحضرة ما لم تتنكر لمبدأ تعدد الزوجات !
تعدد الزوجات
ولن نخاطر هنا محاولين الدفاع ۱ عن عادة يحمل عليها الناس بمثل هذه ۱ لقد دافع المؤلف دفاعاً مجيداً عن مبدأ تعدد الزوجات في رسالته القيمة أشعة خاصة بنور الإسلام ونحن ننقل دفاعه الرائع فيما يلى مسايرة الطبيعة
لا يتمرد الإسلام على الطبيعة التي لا تغلب وإنما هو يساير قوانينها و يزامل أزمانها بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شئون الحياة مثل ذلك الفرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون أعزاباً وعلى إن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن لا يتمرد عليها وإنما هو يدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولا وأسهل تطبيقاً في إصلاح ونظام و رضا ميسور مشكور حتى لقد سمى القرآن لذلك بالهدى لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة ولأنه الدال على أحسن مقاصد الخير والأمثلة العديدة لا تموزنا ولكنا للقصر نأخذ بأشهرها وهو التساهل في سبيل تعدد الزوجات وهو الموضوع الذي صادف النقد الواسع والذى جلب للإسلام في نظر أهل الغرب مثالب جمة ومطاعن
كثيرة
ومما لا شك فيه أن التوحيد في الزوجة هو المثل الأعلى ولكن ما العمل وهذا الأمر يعارض الطبيعة ويصادم الحقائق بل هو الحال الذي يستحيل تنفيذه لم يكن الإسلام أمام الأمر الواقع وهو دين اليسر إلا أنه يستبين أقرب أنواع العلاج فلا يحكم فيه حكماً قاطعاً ولا يأمر به أمراً باتاً والذي فعله الإسلام أول كل شيء أنه أنقص عدد الزوجات الشرعيات وقد كان عند العرب الأقدمين مباحاً دون قيد ثم أشار بعد ذلك بالتوحيد في الزوجة في قوله تعالى
وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة

وأى رجل في الوجود يستطيع أن يعدل بين زوجاته المتعددات ! ولذا كان التعدد بهذا الشرط مستحيل التنفيذ ولكن انظر كيف وضعه الإسلام وضعاً هو غاية فى الرقة والدقة واللطف مع ا الحكمة ثم انظر هل حقيق أن الديانة المسيحية بتقريرها الجبرى لفردية الزوجة والتوحيد فيها وتشديدها في تطبيق ذلك قد منعت تعدد الزوجات وهل يستطيع شخص أن يقول ذلك دون أن يأخذ منه الضحك مأخذه
وإلا فهؤلاء ملوك فرنسا
دع عنك الأفراد - الذين كانت لهم الزوجات المتعددات والنساء الكثيرات وفي الوقت نفسه لم
من الكنيسة كل تعظيم وإكرام

٣٥٦
الشدة لكننا نقتصر على عرض بعض الملاحظات
فالواقع يشهد بأن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم وسوف يظل موجوداً ما وجد العالم مهما تشددت القوانين في تحريمه
ولكن المسألة الوحيدة هي معرفة ما إذا كان الأفضل أن
من
يشرع هذا
المبدأ ويحدد أم أن يظل نوعاً من النفاق المتستر لا شيء يقف أمامه ويحد
من جماحه

وقد لاحظ
جميع الرحالة الغربيين – ونخص منهم بالذكر جيرار دى نيرفال وه الليدي مورجان - أن تعدد الزوجات عند المسلمين وهم يعترفون بهذا
إن تعدد الزوجات قانون طبيعي وسيبق ما بقى العالم ولذلك فإن ما فعلته المسيحية لم يأت بالغرض الذي أرادته فانعكست الآية معها وصرنا نشهد الإغراء بجميع أنواعه وكان مثلها في ذلك مثل الشجرة الملعونة التي حرمت ثمارها فكان التحريم إغراء على أن نظرية التوحيد في الزوجة وهى النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء - تلك هي الدعارة والعوانس من النساء والأبناء غير الشرعيين وإن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف في البلاد التي طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق وإنما دخلتها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية ومن الأمثلة القائمة على ذلك ما كان من أمر وادى ميزاب حيث تسكن القبيلة التى بهذا الاسم في بلاد الجزائر إذ لم تدخلها الدعارة إلا بعد ضمها إلى فرنسا عام ۱۸۸۳ وقد وصل بها الحال اليوم أن أربع بلدان من مجموع كله
سبع
بلدان قد ابتایت بهذا الداء الوبيل ومما نرويه من هذا القبيل ما جاء في كتاب الإسلام تأليف و شتمز دومولان أنه عند ما غادر الدكتور مافر وكورداتو الآستانة ۱۸۰۷ إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة كما لم يعرف فيها داء الزهرى وهو السفليس المعروف في الشرق بالمرض الإفرنكي فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين أى سنة ۱۸۳۱ تبدل الحال غير الحال وفى ذلك يقول الصدر الأعظم الكبير رشيد باشا في حسرة موجعة إننا نرسل أبناءنا إلى أوربا ليتعلموا المدنية الإفرنكية فيعودون إلينا مرضى بالداء الإفرنكي
على أنه من جهة أخرى نرى أن الطلاق قد يخفف بعض الشيء من أضرار هذا التعنت في القصر على زوجة واحدة ولكن من جهة ثانية نرى أن الطلاق سيئة من السيئات إذن ماذا إذن أى الأدوية قد خلا تماماً من بعض السميات على أن الكنيسة قد أساءت كذلك في مسألة الطلاق بمثل ما أساءت في أمر التوحيد في الزوجة وذلك بمخالفتها أيضاً لقوانين الطبيعة انظر هل أشد من الحكم على زوجين شابين لم يستطيعا لبعضهما صبراً وقد خاب ظنهما في الزواج ولم يدركا السعادة التي طلباها من وراء ذلك هل أشد من الحكم عليهما بأن يخلدا يقضيان بقية أيامهما في عذاب ونكد وشقاء !! كذلك إذا كان أحدهما عاقراً أو كان غير كف لزميله هل يحرم الآخر من أن يبنى لنفسه بآخر وأن يقيم له عائلة من جديد ! ! وإننا نحن في صدد الطلاق لا تفوتنا حكمة التشريع الإسلامى وهو يرى السوء في فوضى الطلاق فيسمع النبي الكريم يقول و أبغض الحلال إلى الله الطلاق

٣٥٧
المبدأ أقل انتشاراً منه عند المسيحين الذين يزعمون أنهم يحرمون الزواج بأكثر من واحدة وليس ذلك بالأمر الغريب على الفطرة البشرية فالمسيحيون يجدون لذة الثمرة المحرمة عند خروجهم على مبدئهم في هذا

ولكن هل تعدد الزوجات حقيقة أمر يصح أن نعلق عليه كبير اهتمام في عصرنا هذا إن مقتضيات الحياة الحديثة ولندع جانبا كل الظروف الأخرى - تجعل من العسير جداً وجود تعدد الزوجات في المدن الكبيرة وسوف يزول هذا الأمر بين المسلمين الذين يأخذون بأسباب الحضارة الحديثة خلال فترة قصيرة وإذا كان مبدأ التعدد سوف يبقى فلن نجده مطبقاً إلا في قلب البادية حيث تضطر الناس إليه ظروف الحياة التي لا مفر منها
ذلك فإننا نتساءل هل في زوال تعدد الزوجات فائدة أخلاقية إن هذا أمر مشكوك فيه فالدعارة التي تندر في أكثر الأقطار الإسلامية سوف تتفشى فيها وتنشر آثارها المخربة وكذلك سوف يظهر في بلاد الإسلام داء لم تعرفه من قبل ذلك هو عزوبة النساء التي تنتشر بآثارها المفسدة في البلاد المقصور فيها الزواج على واحدة وقد ظهر ذلك فيها بنسبة مفزعة وخاصة عقب فترات الحروب
كتب شارل دوماس عن المسلمين في إحدى دراساته حول مستقبل المستعمرات إن جنساً لا يمكن أن يتحرر قط إذا قضى على نصفه يعني النساء
الفرنسية
بالرق الأبدى
الحجاب
فهل المسلمات حقيقة قد قدر لهن حال من الذلة يرثى لها إلى هذه الدرجة لا شك أن الحجاب وشبه الحبس فى البيت المفروضين على المرأة المسلمة يبدو لعين المرأة الأوربية المغالية فى التحرر أنه من مظاهر الرق البالغ القسوة فتظهر عطفها على المسلمات وترثى لحالهن ولكنها لو علمت بما تسره هاتيك المسلمات من مشاعر وأفكار لعجبت أن رأت نفسها هى الأخرى محل عطف من جانبهن | ورثاء لا موضوع حسد كما كانت تظن ومن ناحية أخرى فإن التحجب وازوم البيت ليسا على أى الحال من الفروض الدينية بالنسبة إلى المسلمات فنصوص

٣٥٨
القرآن سورة الأحزاب ٥٣ - ٥٥ التي تتخذ حجة في ذلك تنطبق فقط على نساء النبي ولا تتعلق بسائر نساء المسلمين كما قد توحى بذلك ترجمة كازيميرسكي الخاطئة للآية ٥٥ من سورة الأحزاب
لذلك فإن مثل هذه التقاليد التي دخلت على الإسلام بعد موت محمد بسنين
عديدة كانت محل نقد شديد من جانب المدافعين عن حقوق المرأة
والنذكر من بين هؤلاء
قاسم بك أمين بكتابه تحرير المرأة
والزهاوى شاعر بغداد برسالته المشهورة عن الحجاب التي يشيد فيها بفضل
المرأة ويعتمد على الآية

مطالبته بالتحرير الكامل للنساء
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فى
وأخيراً السيدة ملك حفني ناصف التي نشرت بعد استئذان أبيها - أحد علماء الأزهر القدماء - قصيدة تحتج فيها بأن رفع الحجاب إذا كانت المرأة فاضلة ليس بشيء ذى ضرر أما إذا كانت نيتها سيئة فلن يجدى معها أي
حجاب

ومن المحتمل أن نشهد عاجلا أو آجلا زوال عادة التحجب في الشرق في الوقت نفسه الذي تحاول فيه بعض الأوربيات المتأنقات إدخال مودة و النقاب التركي في المجتمع الغربي وبهذا تخلع زهرة الجمال الإسلامي ذلك الثوب اللطيف الذي كان يحفظها من الأعين ولكن ألن تأسف النساء الشرقيات على السحر الخفي الذي كان يسبغه عليهن النقاب وهل يجدن فيما يجنينه من الازدهار تحت أضواء المدنية القاسية ما يعوضهن عن ذلك إننا نخشى أن تخرج الشرقية إلى الحياة العصرية وعيناها مبهورتان بأحلام الحريم فينتابها الرعب لما تشهده لدى أخواتها الغربيات اللائى يسعين للعيش وينافسن في ذلك الرجل من الشقاء والبؤس الكثيرة ولكننا لا نريد أن نصدر حكماً في مثل هذه المسألة الشائكة ۱ وعلى أي حال فإن أهمية مثل هذه الإصلاحات وإمكانها يختلفان
أمثلة
ان
١ لم يصدر المؤلف حقاً حكماً في هذه المسألة وكل ما أراده إنما كان إظهار مرونة الإسلام ومسايرته المختلف الأزمان ولقد قال مرة أحد كبار المفكرين إن معنى الحجاب في الإسلام هو تحتجب المرأة من مواطن الريب

٣٥٩
اختلافا كاملا حسب البلاد التى تهمنا ولذلك فإنه من المحال أن تؤدى بنا مناقشة المسألة إلى وضع قاعدة شاملة ولكننا مع ترددنا في إصدار حكم فى الإصلاحات التي عرضناها نعترف صراحة ودون قيد بأن تعليم المرأة ضرورة بالغة الأهمية بالنسبة إلى مستقبل
الإسلام والتعليم ليس له علاقة بالتقاليد والعادات التي تعرضنا لها آنفا وهو يساير كل المسايرة جميع تعاليم الدين وقد كان في عصر ازدهار الإسلام يفاض فيضاً على المسلمات وكانت ثقافتهن حينذاك أرفع من ثقافة الأوربيات دون جدال والواقع أن التعليم فى الشرق لم يندثر كلية مثلما اندثر في بعض أقطار المغرب ومنذ بضع سنين والكثير من المسلمات يشغلن أوقات فراغهن في خدورهن بالتعلم
وقد بدأ مستواهن الثقافي
يرتفع عامة

وعلى التعليم وحده يجب أ أن يعتمد التطور الاجتماعي في الميادين التي يكون فيها ضروريا على أن يقدر ويوجه بحيث لا تكون له آثار غير محمودة في نظام
الأسرة 1
خاتمة
الإسلام والعصر الحديث
فإذا ما فصل في مسألتى تعدد الزوجات وتحرير المرأة وهما المسألتان الوحيدتان اللتان نجد لنقد الناقدين فيهما ظاهراً من الحق بدا الإسلام على حقيقته دينا يتمشى في روحه تماماً مع أحدث الاحتياجات والأفكار العصرية امع حتى إن رجلا من الإنجليز هو أوز والد ويرث كتب يقول إني تبينت أنني أدين بدين الإسلام دون شعور منى بذلك كما تبين المسيو جوردان أنه يتحدث النثر " دون علم منه بذلك أما جرت فإنه بعد أن درس أصول الإسلام أعلن إذا كان الإسلام هو هذا أفلا نكون جميعاً مسلمين !
1 وكثيراً ما يخلط الكتاب بين الحديث عن تعليم المرأة والحديث عن مسألة الحجاب وقد بين المؤلف أن لا صلة بين الحديث في هذه وتلك

وبعد مدة يسيرة من الزمن سيكون من حق الإسلام المطالبة بحقه في الحضارة الحديثة لأن الأساطير الصبيانية المفتراة عليه من عهد الحروب الصليبية إلى الآن لم يبق أحد يجرؤ على التسليم بها
المسلمون ومساعدة فرنسا
وبينما نحن نصل في كتابتنا إلى هذا الحد إذا بأوربة تفاجأ بأعظم حرب عرفها التاريخ منفجرة فى قلبها وتشاهد ألوفا من جنود المسلمين من سلالة غزاة مدينة بواتييه قد أغاروا من جديد على فرنسا كلها
ولكنهم لم يأتوا هذه المرة فاتحين كما جاء آباؤهم الغزاة بل جاءوا أصدقاء وإخوان سلام دعاهم حلفاؤهم إلى مشاركتهم فى الجهاد الذى يتوقف عليه مصير الحضارة فأخلصوا في الدفاع عن الحضارة إخلاصاً أثار إعجاب حلفائهم وكل من وصلته أخبار بسالتهم وبهذا غرسوا الإسلام إلى الأبد في قلب أوربا بأمجد طريقة وأشرفها أعنى بذلك قبورهم الكثيرة التى تغطى أرض فرنسا وأوربا اليوم أرضها تحوى عدداً من أتباع النبي محمد وهم بعد أن أدوا مثل هذه الخدمات للحضارة يشق عليهم أن يحرموا من شيء استشهد الكثير منهم في سبيل الدفاع عنه
وليس من المعقول أن تكون خدماتهم الجليلة للحضارة والمحافظة عليها وأسوتهم الحسنة التي انتهت بتفهم الناس لحقيقة الإسلام وبساطته البديعة وبإزالة الكثير من الاتهامات التي كانت للناس فيما مضى - لا تحدث في بعض نفوس الأوربيين أفكاراً جديدة عن الإسلام ليس فيها افتراؤهم السابق
تطلع أوربا الى الروحانية
"
عرفوا
وكثير من ذوى العقول المستنيرة بعد أن أفاقوا من غفلتهم وبعد أ أن إخفاق المذهب القائل بأن العقل يستقل بالمعرفة يسعى جاهداً لتعرف الهداية وإن مذهب الحدس الذى يتهافتون عليه خلف حامل لوائه المسيو برجسون الشهير وهو عبارة عن رد فعل واضح لمذهب استقلال العقل بالمعرفة أو بتعبير أدق هو رد فعل لعجز مذهب استقلال العقل بالمعرفة

٣٦١
المعرفة
ومع
وقد جدد هذا المفكر فى قلوب الناس النهمين في الإيمان آمالا كان يبدو أنها انتهت إلى غير ما رجعة فهو يؤملهم في خلود الروح وبذلك تكون الحياة الدنيا ليست مشتبكاً عظيماً لقوى عمياء وأن العقل وسيلة فقط من وسائل تأكيده بكل هذا لم يزد على أن بعث أفكاراً طال عليها العهد وأبرزها بطريقة يسهل فهمها واختار الوقت المناسب الذى يساعدها على أن تهي عناصر دين جديد يشعر كثير من الناس بشدة حاجتهم إليه انظر كتاب حقائق الحياة لجوستاف لو بون إن حركة هذا الفيلسوف لا تقاوم وخصوصاً بعد دماء كثيرة سفكت بعد فتن عظيمة وسنشهد إذن مجهود الديانات القديمة والحديثة وهي تعمل جاهدة لاحتكار هذه الحركة لفائدتها ولكن المذهب القائل باستقلال العقل بالمعرفة حتى في حال انهزامه لن تكون ثمرته أقل وسوف يقيم عقبة كأداء بين العقل والعقائد التي تتصادم معه تصادماً عنيفاً

ومن جهة أخرى ألا ينبغى لنا أن نحسب حساب النزعات الصوفية العاطفية الشاعرية أليست تلك النزعات عللا جوهرية فى وجود كل دين وإذا أردنا تلخيص الأمر فى جملة واحدة أفلا نستطيع أن نقول إن ألزم لزوميات الدين تلك التي يتميز بها الإصلاح الدينى المتطرف من توحيد يكسوه ثوب
العصرى هي رائع من الشاعرية
وحينئذ يكون الإسلام قد توافرت فيه شروط الدين الحنيف الذي يتوقون إليه إذا تجرد من الزبد الذي طغى خلال جریانه وقد نشأت جماعات صغيرة من الأوربيين الداخلين في الإسلام في إنجلترا وأمريكا إحداها وهي التي يديرها المستر كويلم تقيم فى ليفربول منذ عدة سنوات واشتهرت بأن معظم من دخلوا الإسلام فيها من النساء ولقد كان الإسلام عضو بارز في إنجلترا وهو اللورد هدلى الذى تبعه في الإسلام بعض وجهاء لوندرة وأعيانها وقع في النفوس وتنشر الجماعة الإسلامية مجلة شهرية تدعى المجلة الإسلامية التي أسسها هذا الرجل العالى القدر نقتبس منها ردها على السؤال الذي كثيراً ما يرد وهو لماذا أسلم بعض الإنكليز وغيرهم من الأوربيين و ذلك لأنهم كانوا يلتمسون عقيدة سهلة معقولة عملية في جوهرها لأننا نتبجح

٣٦٢
معاشر الإنجليز بأننا أكثر أهل الأرض تشبئاً بالعمل عقيدة تكون ملائمة لأحوال الشعوب جميعاً وأعمالهم وعاداتهم عقيدة دينية صحيحة يقف المخلوق بها أمام الخالق بدون أن يكون بينهما وسيط شلدريك
من مميزات الإسلام

وهناك شيء مهم وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه وهذا هو الذي وجدته العقول العملية في الإسلام لخلوه من الأسرار وعبادة القديسين ولا حاجة به إلى الهياكل والمعابد لأن الأرض كلها مسجد الله وفوق ذلك قد يجد بعض أهل مذهب الاعتقاد بالله دون غيره من العصريين المتحيرين في التعبير عما يخالج نفوسهم من التطلع قد يجدون في الإسلام المذهب النقي للاعتقاد بالله فيجدون فيه أبدع وأسمى أعمال العبادة وما يمكن أن يتخيله من معنى ألفاظ الدعاء ثم نزيدك شاهداً آخر وهو قول شرفيس الإسلام يحقق أبلغ معنى لفضيلة الإيثار على النفس بأقل بحث فيها من الوجهة النظرية وقد حصل في فرنسا وفى بلاد أخرى من أوربا وأفريقيا وآسيا دخول أشخاص في الإسلام فرادى وربما كان ذلك مصداقا لهذا الحديث النبوي الذي معناه ه قد يؤيد الله هذا الدين بالغرباء منه ١
ومن مميزات الإسلام الأصيلة ملاءمته لجميع الأجناس البشرية فلم يكن العرب وحدهم هم الذين اتبعوا الإسلام بل كان من ضمنهم من هو من فارس كسلمان الفارسي وبعضهم من النصارى كورقة ٢ وبعضهم من اليهود كمخيريق وعبد الله بن سلام وبعضهم من الأحباش كبلال وغيرهم وجاء في القرآن الكريم وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً السورة ٢٤ آية ۷
فدين الرسول محمد عليه السلام قد أكد من الساعة الأولى لظهوره أنه وفى حياة النبي عليه السلام دين عام صالح لكل زمان ومكان وإذا كان
۱ يعلق الأستاذ عبد العزيز محمد على هذا بقوله لا يعرف حديث بهذا المعنى بل الإسلام صلة ولحمة بين جميع المسلمين مهما اختلفت أجناسهم وتباعدت أوطانهم إنما المؤمنون إخوة ورقة كان على أتم استعداد للإسلام أو أمر الرسول بالدعوة حال وجوده

٣٦٣
صالحاً بالضرورة لكل جنس كان صالحاً بالضرورة لكل عقل إذ هو دين الفطرة والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر وهو لكل هذا صالح لكل درجة من درجات الحضارة وهو على ما فيه من تسامح وبساطة سواء بالنظر لمذهب المعتزلة أو بالنظر لمذهب الصوفية يؤدى للعالم هداية وتوفيقا سواء في ذلك الأوربى المتحضر والزنجى الأسود من غير أن يعوق حرية الفكر عن أحدهما ثم يزيد على ذلك بالنسبة للزنجى انتشاله من عبادة الأوثان
ثم هو لا يعوق الرجل العملى الذى يرى حياته في العمل ويعتبر الوقت من ذهب كالرجل الإنجليزي وكذلك لا يعوق الرجل الصوفى والشرقي المتأمل في بدائع الصنع ويأخذ بيد الغربي المأخوذ بسحر الفن والخيال وليس هذا فحسب بل هو يستولى على لب الطبيب العصرى أيضا بما فيه من الطهارة المتكررة في اليوم والليلة وتناسق حركات المصلى فى الركوع والسجود وما فيها من نماء للجسم وإفادة للصحة الجسمية والنفسية وعلى هذا فليس من الجرأة إذن أن نظن إذا هدأت الزوبعة المروعة القائمة ضد الإسلام وضمن هو الاحترام لكل الشعوب والديانات أنه مستقبلا حافلا بأعظم الآمال وأعلاها شأنا
عنهم
سیری
فإذا ما دخل في الحضارة الأوربية بفضل اشتراكه العظيم في الحوادث فسيتضح سناه الحقيقى وستعرف الأمم المختلفة حقيقته التي حجبت زمنا وسيمد الكل يده لمخالفته متنافسين في ذلك لأن قيمته قد خبروها وعرفوا ما يستكن فيه من وسائل القوة التى لا حد لها ولا نفاد ولو نهض أتباع محمد عليه السلام وأفاقوا من سباتهم العميق لرجع لهم عزهم السالف وتاريخهم المجيد وصاروا أمة لا تعرف الجور فى معاملتها لكل رعاياها لا فرق بين مسلم ومسيحى ويهودى وتبوء وا مكانهم الذي يليق بمجدهم إن شاء الله
عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ
وو
مِنْهُم مَوَدَّةَ وَاللهُ قَديرُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمُ

٣٦٤
تم تأليف هذا الكتاب فى بلدة بوسعادة فى اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان عام ١٣٣٤ للهجرة ٢٨ يوليو سنة ١٩١٦ مسيحية اللهم كن رءوفا بمؤلفيه ولا تؤاخذهما على تلك الجرأة الطائشة التي دفعتهما
في سعيهما إلى الخير - إلى محاولة تناول موضوع واسع كهذا
معلوماتهما

ويا عليم اغفر لهما ما عسى أن يكونا قد وقعا فيه أخطاء فى سيرة جليلة كسيرة رسولك سيدنا محمد خاتم النبيين
صلوات الله عليه وبركاته
وعلى آله وصحبه

مع
ضالة
بسبب جهلهما - من
آمين
إتيين دينيه سلمان بن إبراهيم

الصفحة
٦١

5

۸۱

١٤٣
فهرس الكتاب
الموضوع
مقدمة عن حياة ناصر الدين وآرائه
مقدمة المؤلف الفصل الأول
الأذان
أداء الصلاة أوقات الصلاة وصف مكة
الكعبة والحجر الأسود عين زمزم زواج عبد الله أبى النبي
الفصل الثاني
مولد النبي طفولته في بادية بنى سعد محمد والملكان آمنة أول سفرة إلى سوريا محمد والراهب الرحلة الثانية إلى سوريا حديث بنيان الكعبة ووضع الحجر الأسود
موت
الفصل الثالث
عزلة محمد محمد لم يؤلف القرآن الرؤيا الصادقة الوحى المسلمون الأول الجهر بالدعوة القيامة المناوشات الأولى الأعمى إسلام حمزة عروض المشركين على الرسول معجزة القرآن الصد عن سماع القرآن
الفصل الرابع
هجرة المسلمين إسلام عمر بن الخطاب نفي بني هاشم إلى الشعب أكل الأرضة الصحيفة وفاة أبي طالب وخديجة خروج الرسول إلى الطائف الإسراء والمعراج إسلام ستة من أهل يثرب بيعتا العقبة المؤامرة ضد الرسول
٣٦٥

الصفحة
۱۷۳
٢١٥
٢٥٣
۸۹
۳۱۷
الموضوع
٣٦٦
الفصل
الخامس
هجرة الرسول إلى المدينة قصة سراقة وصول الرسول إلى قباء التاريخ الهجرى الرسول يصل إلى يثرب بناء مسجد المدينة القبلة الأذان صوم رمضان الزكاة وتحريم الخمر زواج الرسول بعائشة عودة اليهود والمشركين الجهاد غزوة بدر الإقامة ببدر ثم العودة إلى المدينة
الفصل السادس
زواج على زواج الرسول بحفصة وبأم المساكين معركة أحد زواج محمد بزينب غزوة ذات الرقاع غزوة بني المصطلق التيمم حرب الخندق معاهدة الحديبية
الفصل السابع
غزوة يهود بني قينقاع غزوة يهود بني النضير غزوة يهود بني قريظة غزوة يهود خيبر اهتمام الرسول بالخيل الشاة المسمومة عمرة القضاء رسل النبي إلى الملوك غزوة
مؤتة فتح مكة دخول الرسول مكة الرسول بالصفا
غزوة حنين

الفصل الثامن
خبر الإفك غزوة تبوك بلاد نمود وصول الرسول إلى تبوك وإقامته بها الرجوع إلى المدينة حجة الوداع
الفصل التاسع
مرض النبي وموته مبايعة أبي بكر تشييع الرسول إلى مقره الأخير صورة وصفية للرسول

۳۳۵
٣٥٩
{
٣٦٧
الصفحة
الموضوع
الفصل العاشر
وثبة الإسلام أثر الحضارة الإسلامية في أوربا أثر المسلمين فى ميدان الفكر أثر الأخلاق الإسلامية السبب في إنكار علماء الغرب آثار الإسلام في الحضارة الغربية سبب تدهور المسلمين مستقبل الإسلام عقيدة القضاء والقدر التعصب العلة في بغض المسيحيين للإسلام تعدد الزوجات الحجاب
خاتمة الإسلام والعصر الحديث المسلمون ومساعدة فرنسا تطلع أوربا إلى الروحانية من مميزات الإسلام

هذا الكتاب
تحليل دقيق وعرض صادق للسيرة العطرة يجلو جوانب جديدة
من حياة رسول الإسلام وجهاده فى سبيل نشر الدعوة وتثبيت مفاهيم العقيدة الإسلامية
والمؤلف فنان ذو شعور دینى ومتدين غمره شعور في فكان مثالاً للمسلم الملهم الذى جند مواهبه وطاقاته للدفاع عن الإسلام ورسوله وتبيان سماحة الشريعة وعالميتها وصلاحيتها للبشرية كما أوضح المناخ
العقدي الإسلامي والمنهج السلوكي الذي اختطه الإسلام المعتنقيه
وفعالية الحضارة الإسلامية فى أوربا وموقف بعض علماء الغرب
والمستشرقين من سيرة محمد ورسالته صلى الله عليه وسلم
حاد التعارف
٠٣/ ١٢٦٧