Go Back





الإمام الدكتور عبد الحليم محمود
تفسير سورة
آل عمران
دارغي
للطباعة والنشر والتوزيع
القاهرة

ولقد نهض القرآن بالأمة الإسلامية نهضة لا مثيل لها في التاريخ حينما طبقته تحت قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخرجته عن وضع النظريات إلى الواقع المطبق في المجتمع لقد كان مجتمعاً تبطَّن والتحف التوحيد لقد كان
المجتمع القرآني
وهذا المجتمع القرآنى فعل الأعاجيب وفى ذلك يقول المستشرق دى بور أفلح محمد - عليه الصلاة والسلام - هو وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلى فى أن يبعثوا في نفوس أبناء الصحراء الأحرار وفى نفوس من هم أكثر منهم تحضراً من أهل البلاد الواقعة في الأطراف روح الاتحاد في العمل وإلى هذا البعث يرجع الفضل فى المكانة التى يتبوؤها الإسلام كدين عالمي ولقد صدق الله المسلمين وعده بالنصر وكأنما تأييده لهم استجابة لندائهم عند لقاء الأعداء الله أكبر وكأنما قد صغرت رقعة الدنيا فطووها في فتوحهم طيا ولم يمض زمن طويل حتى فتحت بلاد الفرس كلها وانتزع العرب من الإمبراطورية الرومانية الشرقية أحسن ولايتين فيها وهما الشام ومصر
إن هذا المستشرق يرى أن هذه الفتوح لنشر الخير والحق لا تفسر إلا بأحد أمرين إما أن تكون الكرة الأرضية قد صغرت فى عهدهم فجابوها بهذه السرعة وإما أن الأرض كانت تطوى من تحت أرجلهم
وما صغرت الكرة الأرضية وما طويت الأرض من تحت أرجلهم ولكنه
الإيمان ولكنه مجتمع القرآن
سعيد
ومجتمع القرآن يتسم بصفتين الأولى أنه مجتمع قوى والثانية أنه مجتمع
وذلك أن الله - سبحانه وتعالى - قد رسم فى القرآن طريق العزة بالله ورسم طريق السعادة فإذا طبق المجتمع المبادئ القرآنية فى أى عصر من العصور فإنه
يسعد وينهض
والأمة الإسلامية في العصر الحاضر لا سبيل لنهضتها إلا إذا أسلمت قيادها للقرآن الكريم تستمد منه الطريق إلى السعادة والقوة ولن يصلح أمر هذه الأمة في أي عصر من عصورها إلا بما صلح به أولها وإن كبار علماء المسلمين
-1-

ثم أضاف إلى ذلك قوله
و وأطيعون
والواقع أنه ما دامت قد ثبتت نبوة النبى بالآيات والبراهين فقد وجبت طاعته طاعة فورية حسبما تسمح به الظروف والأوامر
ثم يبين لهم عيسى عليه السلام صراط الله المستقيم وهو إن الله ربي وَرَبِّكُمْ فَاعْبُدُوه
وصراط الله المستقيم أساسه وجوهره إنما هو التوحيد
إن التوحيد هو أساس صراط الله الذى لا يقيده زمن ولا يحده مكان ومن أجل ذلك كان الأساس فى دعوة جميع الأنبياء والرسل يقول تعالى وإلى عاد أخاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله ما لكم من إله غيره الأعراف ٦٥
ويقول سبحانه
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا اللهَ مَا لَكُم مَن إِله غيره
الأعراف ۷۳
ويعمم الله سبحانه وتعالى الحكم تعميما ويجعله شاملا شمولا
مطلقا فيقول
ومَا أَرْسَلْنا مِن قَبْلكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَ ﴾
وهكذا كان التوحيد دعوة جميع الأنبياء والرسل
الأنبياء ٢٥
والتوحيد الذي هو جوهر الرسالات إنما هو التوحيد الشامل العام أى توحيد الله سبحانه بالإلهية وتوحيده بالربوبية وتوحيده بالسيطرة والهيمنة على كل صغيرة وكبيرة
قل اللهم مالك الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ من تَشَاءُ وتَنزِعُ الْمُلْكَ ممن تشاء وتعز من تشاء
-1-

وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير آل عمران ٢٦
ولا يتأتى - والله مالك الملك - أن يسأل الإنسان غير الله أو أن يستعين
بغيره وشعار المؤمنين الصادقين هو
و إياك نعبد وإياك نستعين الفاتحة ٥
إن شعارهم
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك
ويوضح هذا الإمام القشيري فيقول
إن الله تعالى معن عباده بعضهم عن بعض لأن الحوائج - على الحقيقة - لا تكون إلا إليه فالمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك ذلك
لغيره
ولهذا قيل
تعلق الخلق بالخلق تعلق المسجون بالمسجون "
وقيل
من رفع حاجته إلى الله تعالى ثم رجع عن حاجته إليه إلى
غيره ابتلاه بالحاجة إلى الخلق ثم نزع رحمته من قلوبهم
ومعنى التوحيد الحقيقى فى النهاية أن يلقى الإنسان بقياده في استسلام مطلق إلى الله سبحانه وتعالى وأن يخلص له وجهه إخلاصا لا رياء فيه ولقد سئل رسول الله صلى الله ليه وسلم عن الإيمان فقال إنه الإخلاص
1P-

ويقول تعالى
٥٢ ٥٣٠ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمونَ * رَبَّنَا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا
الشاهدين
المفردات
أحس عيسى أى علم ويقول أبو منصور اللغوى يقال أحسست بالشيء وحسست وقول الناس فى المعلومات محسوسات خطأ والصواب المحسات فأما المحسوسات فهى المقتولات يقال حسه إذا قتله
والأنصار الأعوان واستنصرهم طلب عونهم على إقامة الحق وبيان أمر الله
الموحى به
والحواريون هم كما يقول الإمام ابن عباس أصفياء عيسى
ويقول الفراء هم خواص عيسى
أما الحواريون في اللغة فهم الذين طهروا من كل عيب
وهؤلاء الحواريون كانوا اثنى عشر رجلا وكانت صناعتهم صيد السمك كما يقول الإمام ابن عباس رضى الله عنهما لقد استجاب هؤلاء للدعوة إلى الله وقالوا فى صدق وإخلاص
أنصار الله
ونحن
والدعوة إلى الله والاستجابة إلى هذه الدعوة معناها الإيمان الصادق
بالتوحيد الخالص

والتوحيد الخالص فى الماضى وفى الحاضر وفى كل مكان وفي كل زمن إنما هو الإيمان بأن الله وحده هو المتصرف فى الكون لا شريك له في الذات ولا شريك له فى الفعل من خلق ورزق وإعطاء ومنع وحياة وموت
وقد بين القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة هذه العقيدة في
استفاضة وفى دقة لا مزيد عليهما

وليس فى العالم الآن نص مقدس بالأسلوب الإلهى يشرح الإيمان بالله كما
يشرحه القرآن
-12-

والكلمة التي تعبر عن هذا في إحاطة شاملة وفى عمق عميق هي كلمة
الإسلام
ومن أجل ذلك عبر الحواريون عن شعورهم العامر بالإيمان بالله بقولهم لعيسى عليه السلام و وَاشْهدُ بأَنَا مُسْلِمُونَ وإذا أردنا شرحا لكلمة الحواريين ﴿وَاشْهد بأَنَّا مُسلمون فإننا نقول إن رسولنا صلى الله عليه وسلم سُئل عن الإسلام ما هو فقال أن يسلم لله قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك
لقد أسلم الحواريون قلوبهم لله فأصبحوا مسلمين
والإسلام بهذا المعنى هو التوحيد وإذا وحد الإنسان ربه فإنه يسير في جو إياك نعبد وإياك نستعين
وجو إياك نعبد وإياك نستعين هو الجو الإسلامي الصادق وهو جـو الأنبياء في رسالتهم الصافية
إن سيدنا نوحا يقول وأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ الزمر ١٢
لقد أمر أن يسلم قلبه لله تعالى وأمر أن يدعو قومه إلى ذلك
يقول الله سبحانه وتعالى
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَن لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَخَافُ
عليكم عذاب يوم أليم هود ٢٥ ٢٦
وأما هود فقد قال لقومه
ويا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ الأعراف ٦٥
وصالح أيضا قال
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرَهُ الأعراف ۷۳
وكل الرسل أمروا بالتوحيد وأمروا به أى أمروا وأمروا بإسلام القلب لله
-100

وكانوا بذلك مسلمين وكانوا بذلك يسيرون على منهج
إياك نعبد وإياك نستعين
وكان الحواريون مسلمين بهذا المعنى

والإسلام بهذا المعنى هو الدين إنه الدين فى إطلاقه المطلق زمانا ومكانا وفي تحديده المحدد في القلب وفى السلوك وهو الدين عند الله
إن الدين عند الله الإسلام آل عمران ۱۹
وإذا كان ما قدمنا منطقيا دقيقا لقضية إن الدين عند الله الإسلام فإن معنى ذلك أن إسلام القلب لله هو الدين منذ الأزل
ولقد جاءت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم به وبكيفية الوصول إلى تحققه في القلب والشعور
أما كيفية إسلام القلب لله في العصر الحاضر فقد تكفل بها القرآن الكريم لا غيره - في تفصيل مفصل وفى دقة دقيقة بالأسلوب الإلهى نفسه الذي قال الله
عنه
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر ٩
لقد رسم القرآن الكريم إسلام القلب لله منهجا ورسم إسلام القلب لله موضوعا أما إسلام القلب لله منهجا فإنه يبدأ بالتوبة الصادقة وهى إذا صدقت تثمر الإخلاص والله سبحانه وتعالى يقول
الا لله الدين الخالص الزمر ٣
والدين هنا بمعنى الاعتقاد القلبى وما يترتب عليه من سلوك فإذا تاب الإنسان وأخلص فإنه يؤثر الله على ما عداه ويقول كما قال الإمام أبو سعيد
الخراز
كل ما فاتك من الله - سوى الله - يسير وكل حظ لك - سوى الله - قليل
-1-

وذلك يدخلنا فى إسلام القلب لله موضوعا وهو يتلخص في
إياك نعبد وإياك نستعين
فإذا ما أسلم الإنسان قلبه لله منهجا وموضوعا حسبما رسم القرآن فقد صار
مسلما
ولقد حقق الحواريون إسلام القلب لله فكانوا مسلمين
وتابع الحواريون حديثهم قائلين
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
وما من شك فى أن من اتبع الرسون على الوضع السليم فإنه يسلم قلبه لله ومن أسلم قلبه لله فإنه يكون بذلك قد هيأ نفسه ليكتبه الله مع الشاهدين والشاهدون هم الصادقون المخلصون فى إيمانهم اعترفوا به قولا وصدقوا
به قلبا وأقاموه بجوارحهم
ويقول الله تعالى
٥٤ - ٥٨ ومكروا ومكر الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومظهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم الي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم
الان
أحس عيسى عليه السلام من بنى إسرائيل الكفر فنادى من أنصاري إلى
فأجابه الحواريون فى طمأنينة المؤمنين نحن أنصار الله امنا بالله واشهد بأنا
مسلمون به
ثم تابع الحواريون فى قولهم فقالوا
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فادينا مع الشاهدين به
وحينما رأى بنو إسرائيل أن عيسى عليه السلام بدأ يتخذ أعوانا وأنصارا
-18-

أرادوا به السوء وتمالئوا عليه وأحبوا له القتل يقول الله تعالى معبرا عن ذلك
ومكروا ومَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكرين
لقد كان مكرهم فى تدبير قتله أما مكر الله سبحانه وتعالى موجه دائما إلى الخير فهو خير الماكرين أى خير المدبرين للوصول إلى الخير ثم يقول الله سبحانه وتعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافِعُكَ إِلَيَّ ومُطَهَرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فوق الذينَ كَفَرُوا إِلى يوم القيامة ثُمَّ إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كُنتُم فيه تختلفون يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى عليه السلام مطمئنا له ومهدئا لنفسه إني مستوف مدة إقامتك بين بني إسرائيل ورافعك إلى صونا لك من مكرهم ومظهرك من خبثهم ورجسهم أما الذين اتبعوك فإني سأجعلهم فوق الذين كفروا بك والذين كفروا بعيسى عليه السلام هم اليهود لأن دعوته عليه السلام إنما كانت لليهود وهم الذين أحس منهم الكفر وهم الذين دبروا الشروع
في قتله
وفوقية أنصار عيسى على اليهور باقية إلى يوم القيامة ثم مرجع الجميع ومصيرهم إنما إلى الله سبحانه وتعالى هو وحده الذين يحكم بين الطرفين فيما كانوا فيه يختلفون

وهذا الحكم الذي بينه الله سبحانه وتعالى في إجمال هو قاعدة كلية
صادقة في كل زمان ومكان
يقول سبحانه
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأَعذبُهُمْ عَذَابًا شديدا في الدُّنيا والآخِرَةِ وَمَا لَهُم مَن ناصرين له
ولقد مقت الله سبحانه اليهود لأمور كثيرة تتصل بفطرتهم الخبيثة إن في فطرتهم نقض الميثاق وقتل الأنبياء بغير الحق والتمرد على الله سبحانه وتعالى في أمره ونهيه ولقد لعنهم الله سبحانه بقوله تعالى
فيما نقضهم ميثاقَهُمْ لَعَنَّاهُم المائدة ١٣
-14-

ولعنهم على لسان عدة من أنبيائه منهم داود عليه السلام وعيسى بن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا ينتاهون عن منكر فعلوه بسبب كل ذلك أعد الله سبحانه وتعالى لهم عذابا شديدا في الدنيا
والآخرة
إنه سبحانه شردهم فى البلاد وفرغ قلوبهم من الطمأنينة والهدوء النفسي ويتابع الله سبحانه وتعالى الحديث فيقول
وأما الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات فيوفيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ إنه سبحانه يوفيهم أجورهم فى الدنيا بطمأنينة نفس وهدوء بال وسعة في الرزق ونصر دائم
يستوى في ذلك الأفراد والجماعات فالقاعدة الإلهية الهامة هي أن كل من آمن بالله وعمل صالحا فإن الله سبحانه وتعالى يكتب له الفوز والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة
يقول سبحانه فيما يتعلق بالأفراد

من عمل صالحا من ذكر أو أُنثَى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون النحل ٩٧
ويقول سبحانه وتعالى عن الجماعات
ولَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
الأعراف ٩٦
وإذا كان الإيمان بالله سبحانه وتعالى يحدده توحيده تعالى عن الشرك
الظاهر والخفى فإن العمل الصالح الذى به - مع الإيمان الصادق - تتم السعادة في الدنيا والآخرة لا يعرف فى دقته وتفصيله فى العصر الحاضر إلا عن طريق القرآن الكريم لأنه هو الكتاب المقدس الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
-14-

إنه الذي يرسم الإيمان في صفائه ونقائه ويرسم العمل الصالح الذي يقرب
من الله سبحانه وتعالى
وتختتم هذه الآية الكريمة بقول الله تعالى
و اللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
والظلم ظلمات يوم القيامة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر رضی الله عنه وأخرجه مسلم في صحيحه
اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وهو ظلمات أيضا فى الدنيا عن أبي موسى رضى الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله ليملى للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القُرى وهي ظالمةٌ إِنَّ أَخَذَهُ أَلِيمٌ شَديد هود ١٠٢
والله سبحانه وتعالى لا يرحم الظالمين فى الدنيا ولا في الآخرة يقول
سبحانه
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع غافر ۱۸
ونعود إلى الآيات القرآنية يقول الله سبحانه ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم
أي هذا الذي قصصناه وبيناه على وجهه الصحيح في موضوع عيسى عليه السلام هو من الوحى وهو فى الوقت نفسه من القرآن الكريم ومن العلامات الدالة على نبوتك حيث علمك الله ما لم تكن تعلم من الحق في أمر عيسى عليه
السلام
- 11 -

ويقول الله تعالى
٥٩-٦٣ و إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكُم وأنفُسنا وأنفُسكُم ثُم نبتهل فتجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم
بالمفسدين
جاء نصارى نجران فى وفد مكون من رؤسائهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجون في عيسى ومكانته من الألوهية وأخذ رؤساء الوفد يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى
عليه السلام
وموقف الإسلام من عيسى عليه السلام وتكريم الإسلام لعيسى عليه السلام ولأمه البتول الطاهرة واضح لا لبس فيه إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ولكن الوفد النجراني أخذ يمارى فى ذلك وسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم قائلا
فمن أبوه يا محمد
وفي شأن هذه الوفد وفى شأن المحاجة نزلت هذه الآيات وما قبلها من سورة آل عمران إن قدرة الله فى الخلق أوجدت إنسانا بدون أب ولا أم هو آدم عليه السلام وأوجدت حواء من آدم عليه السلام وأوجدت عيسى من غير أب وأوجدت خلقا لا يحصيهم إلا الله من أب وأم وفي كل ثانية توجد البلايين من المخلوقات الدقيقة من غير أب أو أم
وما مثل عيسى عليه السلام فى الخلق إلا كمثل آدم بل إن خلق آدم يدخل في باب المعجزة بأعمق مما يدخل فيه عيسى عليه السلام بل إن خلق حواء يدخل في باب المعجزة بأعمق مما يدخل فيه عيسى عليه السلام
والخلق على وجه العموم إنما يكون بالأمر الإلهى كن أو إذا شئت
-111-

على مر العصور يعلمون هذه الحقيقة إنهم يعلمون أنه لا نجاة ولا إنقاذ للأمة الإسلامية إلا بالقرآن فعكفوا عليه مفسرين وموضحين ومستنتجين وداعين به إلى الله وهادين به إلى الحق فجزاهم الله خير الجزاء
وفي هذه السورة المباركة - سورة آل عمران - كثير من أضواء القرآن تتعلق بأصول العقيدة وبالمبادئ الأخلاقية والقوانين الربانية

وأرجو أن يكون شرحي لها مساهمة منى فى بيان القوانين الربانية التي تُصلح المجتمع وتنهض به
ولقد استفضت - أحيانا - استفاضة مبسوطة فى بعض الزوايا رأيت
الضرورة تقتضيها وأوجزت التفسير إيجازا فى بعض الآيات الواضحة وأكاد أقول إننى قاربت استكمال الحديث عن أصول العقيدة متابعة لتوجيهات السورة الكريمة وسيراً في ضوء أنوارها
والله أرجو أن ينفع بهذا التفسير وأن يهدى به وأن يهدى له وأن يجعله في
سجل أعمالي النافعة إنه سميع قريب مجيب
-11-
عبد الحليم محمود

بالإرادة الإلهية فإن الله سبحانه يريد فيتحقق ما يريد سبحانه على حسب ما
يريد وفى الوقت الذي يريد
وهذا البيان في شأن عيسى عليه السلام هو الحق من ربك الذي لا يكون
معه شك
فإذا حاجوك بعد هذا البيان فلا تجادلهم في شيء منه وذلك أن من يجادل في البدهيات لا يرجى منه أن يخضع للحق إذ هو تابع لهواه أو لمجرد الألف والعادة التي نشأ عليها وإنما سبيلك فى الرد عليهم أن تدعوهم إلى المباهلة أو الملاعنة وهى كما صورها القرآن الكريم بقوله
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فَقُل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نبتهل فنجعل لعنة الله على !
الكاذبين
ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة
يقول ابن إسحاق
فقالوا يا أبا القاسم ننظر فى أمرنا ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا يا عبد المسيح ماذا ترى فقال
والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبى مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم أنه ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى
بلادكم
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك
ترضاه لنا يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها فى أموالنا فإنكم عندنا رضا
- ۱۱ -

قال محمد بن جعفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين
فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول
ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فَرُحْتُ إلى الظهر مهجرا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليرانى فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال
اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه
قال عمر فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه
ويقول الله تعالى
٦٤ ﴿ قُل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلَمُونَ ﴾ إنها دعوة من القرآن الكريم إلى جميع الكتابيين إنه يدعوهم إلى كلمة سواء يقول الزجاج
يعنى بالسواء العدل وهو من استواء الشيء ويقال للعدل سواء وسواء
وسواء
ويقول صاحب الكشاف وتفسير كلمة سواء هو قوله تعالى
والا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
وقد أخرج ابن جريج عن أبي حاتم عن أبى العالية قال الكلمة السواء
لا إله إلا الله
وعن مجاهد

تعالوا إلى كلمة سواء قال لا إله إلا الله
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معنيا بأن يثبت هذا المعنى في انسجام وفي حكمة بالغة فقد أخرج ابن أبى شيبة ومسلم وأبو داود
-11-

وغيرهم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما
قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزِلَ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أُوتِي النَّبِيُّون من ربهم لا تفرق بين أحد منهم ونحن له
مسلمون البقرة ١٣٦
وفي الثانية
و قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلَمُونَ ﴾
ولعل القارئ الكريم يفهم الحكمة فى قراءة هاتين الآيتين في فجر النهار فالأولى منهما تدعو المسلمين إلى عدم التفرقة بين الأنبياء والرسالات فكلها في صفائها ونقائها دعوة إلى توحيد وإسلام الوجه لله تعالى وحده لا شريك له
وفي الثانية دعوة لأهل الكتاب إلى الصفاء الكامل الذي يتمثل في التوحيد وباجتماع الآيتين يشعر الإنسان بأن دين الله الواحد متتابع إلى أن ختمت الرسالات بالإسلام
وقد التبس على بعض الناس قوله تعالى
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
ومن ذلك ما روى عن عدى بن أبي حاتم أنه قال
ما كنا نعبدهم يا رسول الله
فقال صلى الله عليه وسلم
أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم
قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذاك
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قوله تعالى
-112-

الإنسانية منذ ظهورها لقد نزل الأنبياء جميعا يبشرون بالتوحيد - وكان كل نبي يدعو أمته إلى مثل ما دعا إليه محمدا صلى الله عليه وسلم - الإنسانية جمعاء أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ هود
وسورة يونس وسورة هود والكثير من سور القرآن - على وجه العموم - تتحدث عن دعوة الرسل قومهم إلى التوحيد
يقول سبحانه
ولقد أرسلنا نوحا إلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عذاب يوم أليم هود ٢٥ ٢٦
ويقول سبحانه
وإلى عادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُم مَنْ إِلَهِ غَيْرَهُ إِن أَنتُمْ إِلَّا مَفْتَرُون
ويقول سبحانه
هود ٥٠
وإلى ثمود أَخاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مَنْ إِلَهِ غَيْرَهُ هُوَ أَنشَأَكُم مَن
الأرض واستعمركم فيها فاستغفرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجيب هود ٦١
وهكذا نرى كل نبى يدعو إلى عدم الشرك بالله إنه يدعو إلى عبادة الله وحده فإذا اتجه الذهن إلى عدم تعدد الآلهة وإلى الوحدانية فإن هذا الاتجاه طبيعي وهو اتجاه حق
وهذا النوع من الشرك هو الذى يقول الله سبحانه وتعالى عنه
و إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء ٤٨
وهو الذي ينفيه الله منطقيا بقوله
لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدتا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصفُونَ ﴾
الأنبياء ٢٢
-11-

وبقوله
ما اتَّخَذَ الله من ولد ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذًا لذهب كُلُّ إِله بما خلق ولعلا بعضهم على
بعض سبحان الله عما يصفون المؤمنون ٩١
شعاره
بيد أن التوحيد فى عمومه وشموله هو أن يكون الإنسان خالصا لله تعالى
إياك نعبد وإياك نستعين
٦٥ ويا أهل الكتاب لم تُحاجون في إبراهيم وما أُنزِلَتِ التَّوراة والإنجيل إلا من بعده أَفَلا
تعقلون
٦٦ و ما أَنتُم هؤلاء حاججتم فيما لَكُم به علم فلمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
٦٧ و ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيا ولكن كان حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ٦٨ وإن أولى النَّاس بإبراهيم للذينَ اتَّبَعُوهُ وهَذا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا والله ولي الْمُؤمنين حينما ذهب نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التقوا عنده بأحبار من اليهود وكان من الطبيعى أن يكون الحديث فى الدين وما يتصل بالدين من أنبياء ورسل وتنازع الفريقان في إبراهيم عليه السلام فقالت أحبار اليهود كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى كان إبراهيم نصرانيا
وأخطأ هؤلاء وأولئك وذلك أنه حينما يكون النزاع على شخص في مجال الدين فإنما تكون نسبته إلى كتاب منزل من لدن الله سبحانه على رسول من رسله ولا يتأتى أن يكون نسبة إبراهيم عليه السلام إلى التوراة ولا إلى الإنجيل لأنهما
أنزلا من بعده
ويوجه الله سبحانه إلى اليهود والنصارى فيسألهم في استنكار إنكم تناقشون فيما لكم به علم كأمر موسى وعيسى عليهما السلام فلم المناقشة فيما ليس لكم به علم كأمر إبرهيم عليه السلام
- ۱۱۷ -

والله يقول الحق وهو يهدى إلى السبيل فى أمر إبراهيم إنه يعلم وأنتم لا تعلمون وإن المنطق وإن الحق واضح فى أن إبراهيم - على هذا الأساس - لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ونسبة إبراهيم إنما تكون إلى الأصول التي دعا إليها وهذه الأصول تتمثل في أنه كان حنيفا أي مائلا عن العقائد الزائفة وكان مسلما أي
موحدا
والإسلام والتوحيد يلتقيان بمعنى واحد ولم يكن إبراهيم مشركا إنه لم يكن مؤمنا إلا بالتوحيد وما دام ينتسب إلى التوحيد فإن أولى الناس به الذين اتبعوه فساروا على نهجه ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي يتخذ التوحيد أساس رسالته ومن اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فأقاموا عقيدتهم على التوحيد والله سبحانه ولى المؤمنين فهو لهم ناصر ومعين وحام
ويقول الله تعالى ٦٩-٧٤ ودَت طَائِفَةٌ من أهل الكتاب لو يُضلُّونَكُم وما يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون * وقالت طائفةٌ مَنْ أَهل الكتاب آمَنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تُؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قُلْ إِن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يُحاجُوكُم عند ربكم قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بيد الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

والطائفة اسم للجماعة التي تجتمع على دين أو رأى أو مذهب أو غير ذلك لقد حاول أهل الكتاب إضلال المسلمين بشتى الوسائل وصرفهم من الحق إلى الباطل وهم بفعلهم هذا إنما يضلون أنفسهم حينما ينصرفون عن الحق ويحاولون صرف الآخرين عنه وهم فى عملهم لا يشعرون أنهم يضلون أنفسهم وفى هذا المعنى يقول الله تعالى
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فاطر ۸
ولا يشعرون أيضا بأن الله تعالى يعرف نبيه بمكركم السيئ
ثم يتجه الله سبحانه إلى أهل الكتاب على وجه العموم فيخاطبهم أولا قائلا
-114-

يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون
إنهم يشهدون صدق محمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما أتى به ويشهدون صدقه فى نفسه ويشهدون صدقه في رسالته ويشهدون صدقه في كتبهم التي بشرت به ومنطق الصدق يوجب عليهم الإيمان به ولكن أهواءهم صرفتهم عنه
فكفروا به
ثم يخاطب الله تعالى أهل الكتاب ثانيا قائلا
و يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون
اللبس اختلاط الأمر وقد خلط اليهود باطلهم بالتوراة
لقد أخفى اليهود منها وأظهروا وأضافوا وحذفوا فأصبح الحق فيها

مختلطا بالباطل لقد أخفى اليهود وهم يعلمون ومن ذلك ما ورد فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما وجدوه فى كتبهم من نعته والبشارة به
هذا ومن الحيل التي فعلوها لإضلال المسلمين أن طائفة من اليهود قالوا إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا وإذا لقيتموهم آخره فصلوا صلاتكم
لعلهم يقولون
هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا فينقلبون عن دينهم
رواه عطية عن ابن عباس
وبوضح ذلك ويكمله قول الحسن والسدى
تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود فقال بعضهم لبعض ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار واكفروا آخره وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك فيشك أصحابه في دينهم ويقولون هم أهل الكتاب وهم أعلم منا فيرجعون إلى دينكم فنزلت هذه الآية
-114-

وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور وفى ذلك يقول الله تعالى
وقالت طَائِفَةٌ مَنْ أَهْلِ الكتاب آمَنُوا بِالَّذي أُنزِلَ عَلَى الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره
لعلهم يرجعون
ووجه النهار أوله
وعن هذه المكيدة يقول الإمام الرازي
الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه
الأول أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها كان ذلك إخبارا عن
الغيب فيكون معجزا
الثاني أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها آثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف
الثالث أن القوم لما افتضحوا فى هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن
الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس
لقد دبرت طائفة من أهل الكتاب هذه المكايدة ضد المسلمين
واستمروا يدبرون فقالوا لبعضهم
ولا تُؤْمِنُوا إِلا لمن تبع دينكُم
أي لا تصدقوا بنبى من الأنبياء إلا إذا كان من جنسكم الجنس اليهودي ونشأ بينكم متدينا بدينكم
قل لهم يا محمد إن الهدى من الله وحده إنه بيده سبحانه يهبه لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء إذا أتى الله تعالى إنسانا من رحمته مثل ما أوتيتم حسدتموه ودبرتم له المكائد أو خفتم وكرهتم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الشرائع والكتاب والوحى والعلم اللدنى حتى لا يحاجوكم عند ربكم ويعلنوا أنكم عرفتم الحق ولم
تتبعوه
۱۰ -

أيها القوم إن الفضل كل الفضل علما كان أو نعمة أو توفيقا بيد الله
يمنحه من يشاء والله سبحانه واسع عليم
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة و قُلْ إِنَّ الْهُدَى هَدَى اللهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مَثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ
نقول
لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا كنبيكم حسدتموه على ذلك
قُلْ إِنَّ الْفَضْل بيد الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم
أما رحمة الله تعالى فإنه سبحانه يمنحها من يشاء من عباده إذ هو
يختص برحمته من يشاء وهو تعالى ذو الفضل العظيم
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد
يختص من يشاء قال النبوة يختص بها من يشاء
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن يختص برحمته من يشاء قال رحمته
الإسلام يختص بها من يشاء
الوافر
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ذو الفضل العظيم يعنى
يقول الله تعالى
٧٦٧٥ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومِنْهُم مِّنْ إِن تأمنه بدينار لا يُؤدَه إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهُمْ قَالُوا لَيس علينا في الأميين سَبِيلٌ ويَقُولُونَ على الله الكذب وهم يعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بعهده واتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقين
أخذ الله تعالى يبين صفات أهل الكتاب فيما يتعلق بالأمانة والخيانة فأوضح سبحانه أن منهم من إذا أودعته قنطارا من الذهب أو الفضة فإنه يؤده إليك كاملا ومنهم من إذا أودعته دينارا واحدا لا يؤده إليك إلا ما دمت مواظبا
على الاقتضاء والمطالبة له
وقال السدى رحمه الله إلا مادمت قائماً على رأسه فإنه يعترف بأمانته
6
فإذا ذهبت ثم جئت جحدك
- ۱۱ -

الكلام في الاستعاذة
ويبدأ الإنسان قراءة القرآن بقوله
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وذلك اتباعًا لقوله - تعالى
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم النحل ٩٨
وهذه الاستعاذة يقولها الإنسان كلما بدأ قراءة القرآن سواء أكان ذلك في
الصلاة أم في غيرها
أما في غير الصلاة فإنه لا خلاف بين العلماء في البدء بالاستعاذة
وأما في الصلاة فإن ابن سيرين والنخعى وآخرين يتعوذون في كل ركعة وهذا هو ما نراه وذلك لأن قوله - تعالى
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم عام ولم يخصصه قرآن
ولا سنة
والمستعيذ من أمر مستجير منه والاستعاذة الاستجارة
وأما لفظ الرجيم وصفًا للشيطان فمعناه مرجوم " لقد رجمه الله
سبحانه بالمقت واللعنة وقال له حينما طرده من الجنة
قال فاخرج منها فإنك رجيم الحجر ٣٤
-1-

أما سر الخيانة فهو أن اليهود بقولون بألسنتهم ويعتقدون في قلوبهم أن
خيانة المسلمين لا إثم فيها ويقولون كما روى السدى
قد أحل الله لنا أموال العرب
إنهم يقولون
ليس علينا في الأميين سبيل
والأميون في نظرهم هم المسلمون قال ابن جريج
بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم ثمن بيوعهم فقالوا ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
وقال قتادة إنما استحل اليهود أموال المسلمين لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب ولو كانوا في نظرهم أهل كتاب لقالوا
إنهم ليسوا على ديننا فلا إثم علينا ولا حرج ولا حرمة لهم علينا ولم
يقل كتابنا إن لهم حرمة

ولقد ادعى اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه أما باقى الخلق فإنهم عبيد لهم
والعبد وما ملكت يداه لسيده
ولقد ادعى اليهود أيضا أن الأموال جميعها كانت لهم وأن ما في أيدى العرب هو مالهم والعرب ظلموهم وأخذوا أموالهم وهم بأكل أموال العرب إنما يستردون حقوقهم
وهم في قولهم هذا يفترون على الله الكذب وهم يعلمون أنه كذب ويعلمون أن الله قد أنزل فى التوراة وجوب الوفاء ونهى فيها عن الخيانة
عن سعيد بن جبير قال
لما نزلت ومن أهل الكتاب - إلى قوله و ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في
- ۱ -

الأميين سبيل قال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أعداء الله ما من شيء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمى هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر
والفاجر أما عن التقسيم في الآية فيقول عكرمة
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يُؤدَه إليك
قال هذا من النصارى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ﴾
قال هذا من اليهود و إلا ما دمت عليه قائما
قال إلا ما طلبته واتبعته
وعن الحسن في قوله ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك قال كانت تكون ديون لأصحاب محمد عليهم فقالوا ليس علينا سبيل في أموال أصحاب محمد إن أمسكناها مع أنهم أهل كتاب أمروا أن يؤدوا إلى كل مسلم عهده
والواقع أن هذا هو شأن اليهود أينما كانوا مع غير اليهود إنهم يصدقون مع بعضهم أما مع أصحاب الديانات الأخرى فإنهم كلما وجدوا مهربا من أداء ما عليهم هربوا وهم مع ذلك يزعمون أنهم أهل كتاب يستمسكون بما فيه وإنه لمن البدهي أن كل كتاب أنزل من عند الله فيه الأمانة والوفاء بالعهد
وعن موقف اليهود هذا يقول الله تعالى رادا عليهم ومكذبا لهم
بلى من أوفى بعهده واتقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المتقين
وفي هذه الآية الكريمة يبين الله الموقف الإسلامى فى سموه وفي جماله إنه
يوجب الوفاء بالعهد والأمانة
وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر
وإذا خاصم فجر
- ۱۳ -

ويقول الله سبحانه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود
وكل من يقول بغير ذلك فإنه يفترى على الله الكذب ولكن سلوك اليهود لا
يبالي بالمبادئ ما دام التعامل مع غير اليهود
يقول الله تعالى
۷۷ ۷۸ ﴿ إِنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً أُولَئِكَ لا خلاق لهم في الآخرة ولا يُكلَمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيهِم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويَقُولُونَ هُو من عند الله وما هو من عند الله ويَقُولُونَ عَلَى اللَّه الكذب وَهُمْ يَعْلَمُون
إن الله تعالى يبين في هاتين الآيتين بعض رذائل اليهود وموقفه سبحانه منهم ويشرح الباعث لهم على افتراء الكذب على الله سبحانه
ومن أمثلة هذا السلوك مارواه الإمامان البخارى ومسلم عن عبد الله بن مسعود - بمناسبة هذا النص القرآني - قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
ومن حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال مسلم لقى الله وهو
عليه غضبان
قال فقال الأشعث
في والله كان ذلك كان بينى وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينة قلت لا قال فقال لليهودى احلف قال فقلت يا رسول
الله إذن يحلف ويذهب بمالى فأنزل الله تعالى
- ١٢٤ -

و إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً أولئك لا خلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّ اللهُ
ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يُرْكَيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم
ویروى المحدثون عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقى الله وهو عليه غضبان ومن أمثلة سلوكهم بمناسبة هذه الآية أيضا ما روى عن عكرمة ومقاتل من أنها نزلت في اليهود عهد الله إليهم فى التوراة تبيين صفة النبي صلى الله
عليه وسلم
وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة وهو فى السوق فحلف بالله
لقد أعطى بها مالم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت
إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً أولئك لا خلاق لَهُم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
یز
وإذا كان ذلك بعض أسباب النزول فمما لا شك فيه أن النص القرآني عام وعلى ذاك يدخل فيه جميع ما أمر الله به وتدخل فيه العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق فكل ذلك من عهد الله الذي يجب الوفاء به كما يقول صاحب لباب التأويل
أما من أخلوا بذلك فإنه لا نصيب لهم في الآخرة لا نصيب لهم في الجنة ولا نصيب لهم من رضاء الله ولا يكلمهم الله كلاما يسرون به ولا ينظر الله إليهم نظرة مودة ورضا ولهم عذاب أليم
عن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ثلاثة لا يكلمهم الله يوم
القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب
أليم قال
قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر
110-

خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته
بالحلف الكاذب
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر أنه أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل ماله فإن الله تعالى يقول اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل مالم تعمل يداك
ثم يتحدث الله سبحانه عن مكر آخر من مكر اليهود الخبيث ومن فسادهم السيئ فيقول سبحانه

وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولُون هو من عند الله وما هُوَ منْ عند الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية
يخبر الله تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا فى ذلك كله ولهذا قال تعالى
ويَقُولُونَ على الله الكذب وهم يعلمون
وقال ابن عباس في قوله تعالى وإنَّ منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب
قال هم اليهود كانوا يزيدون في كتاب الله مالم ينزل الله وقال مجاهد يلوون ألسنتهم بالكتاب قال يحرفونه
-1-

يقول الله تعالى
۸۳-۷۹ و ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولُ للنَّاسِ كُونُوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون * وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمَّ جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتن صرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالُوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون * أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض
طوعا وكرها وإليه يرجعون
والآية الأولى تنفى أن يكون لبشر أتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله وهى عامة بيد أن من أسباب نزولها ما روى من أن بعض أهل الكتاب قالوا يا محمد أتريد أن نتخذك ربا قال معاذ الله ما بذلك بعثني فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس

وروى الحسن البصرى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا نسجد لك قال لا فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فنزلت هذه
الآية
والمراد بالحكم الفقه والعلم

ولا ريب فى أن كل رسول أرسله الله تعالى كان يبشر بالتوحيد
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون
يوسف ١٠٩
وهذا أصل من الأصول الكبرى للديانات فلا يتأتى أن يقول للناس كونوا
عبادا لي من دون الله
يقول الزجاج
ومعنى الآية لا يجتمع لرجل نبوة والقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله
لأن الله لا يصطفى الكذبة
- ۱۷ -

يريد الزجاج أن يقول
إن النبوة اصطفاء إنها هبة من الله تعالى لمن يصطفيهم واصطفاء الله
ينفي كل كذاب
وانظر إلى التصوير القرآنى المعبر في قوله تعالى
وإِذْ قَال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قُلْتَ للنَّاسِ اتَّخدُونِي وأُمِّي إِلهين من دون الله قال سبحانك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولُ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِن قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنت علام الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله و ورَبِّكُمْ وَكُنتُ عليهِم شَهِيدًا مَّا دَمتُ فِيهِمْ فَلَمَّا توفيتني كُنت أنت الرقيب عليهم وأَنتَ عَلَى كُلِّ شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحكيم
المائدة ١١٦ - ١١٨
ربي
إن الأنبياء لا يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله ولكنهم يدعون الناس ليكونوا ربانيين وعن الربانيين يقول ابن عباس رضى الله عنهما
هم الفقهاء المعلمون
ويقول قتادة
هم الفقهاء العلماء الحكماء
ويقول سيدنا على كرم الله وجهه
هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها
وقد ذكر أسلافنا كثيرا من الأقوال فى معنى الربانيين منها أيضا أنهم العلماء بالحلال والحرام
ومنها أنهم الذين جمعوا بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس
ويقول سيبويه الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته ولما مات حبر الأمة ابن عباس رضى الله عنه قال محمد بن الحنفية
رضي الله عنه
- ۱۸ -
4

اليوم مات رباني هذه الأمة
وتفسير الرباني مهما تعدد واختلف فإن معناه لا يتعارض وإنما ينسجم
ويتناسق ولا ينفى بعضه بعضا والقرآن الكريم يشير إلى معنى رباني حينما يقول
بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون
فالرباني يعلم الكتاب ويدرسه ويعمل به فيصبح وثيق الصلة بالجو الروحى جو الكتاب والوحى ومن آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة لا يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وهل يتأتى أن يأمر الناس بالكفر بعد أن
يكونوا مسلمين
ثم أخذ الله تعالى يبين الناموس العام الخالد وهو أن دين الله واحد يسير في تيار لا ينقطع منذ آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذه الوحدة في الدين أخذ الله تعالى ميثاق النبيين من أجل الذي أتاهم من كتاب وحكمة لئن جاءهم رسول يبشر بمثل ما يبشرون به ويصدق ما هم عليه فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وسألهم بعد أن أعلن لهم ذلك أ أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري - والإصر العهد الموثق - فقالوا أقررنا فقال لهم زيادة في التأكيد فاشهدوا ثم زاد فى التأكيد أكثر فقال وأنا معكم من الشاهدين
يقول
أخرج ابن جرير عن على كرم الله وجهه فى قوله تعالى فاشهدوا
فاشهدوا على أممكم بذلك وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم
هذا ولقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاتما للرسل والرسالات بكتاب يهدى للتي هي أقوم مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه فإن اتبعه أهل الكتاب فقد اهتدوا وإن تولوا عنه مع أنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم
فأولئك هم الفاسقون

وهؤلاء الذين تولوا ماذا يريدون إن دين الله فى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واضح لا يمارى فيه مخلص فهل يبتغى من تولى دينا غير دين الله إذا ابتغى غير دين الله فليعلم أن من فى السموات ومن فى الأرض قد أسلم لله
طوعا وكرها
-14-

فالمؤمن أسلم قلبه وجوارحه لله طوعا والكافر واقع تحت القهر والتسخير
فهو مستسلم كرها والجميع يرجعون إليه سبحانه يوم القيامة فيجزى كل إنسان
بعمله
٨٤ ٨٥ قُل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيُّون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من ا الخاسرين

لما بين الله سبحانه وتعالى أنه أخذ الميثاق على الأنبياء وعلى أممهم عن طريقهم فى تصديق الرسول الذى يرسله إليهم والذى يأتى مصدقا لما معهم بين ما ينبغى أن يكون عليه موقف المخلصين من الرسل والرسالات يقول جمال الدين
القاسمي
نكتة الجمع في قوله آمنا بعد الإفراد في قُل كون الأمـر عـامـا
والإفراد لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذان بأنه أصل في ذلك
أو الأمر خاص بالإخبار عن نفسه الزكية خاصة والجمع لإظهار جلالة قدره
ورفعة محله بأمره أن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك
أما الأسباط فإنهم أولاد يعقوب عليه السلام
ثم يعلق الله سبحانه وتعالى فى صراحة صريحة هذا الإعلان العام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
ومن أجمل ما قرأته فى ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تجيء الأعمال يوم القيامة فتجىء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة
فيقول إنك على خير وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول

إنك على خير ثم يجيء الصيام فيقول أنا الصيام فيقول إنك على خير ثم تجىء الأعمال كل ذلك يقول الله إنك على خير ثم يجىء الإسلام فيقول يا
رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله إنك على خير بك اليوم آخذ
L
- ۱۳۰ -

الحديث عن
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله - سبحانه وتعالى - وجهنا إلى أن نبدأ كل عمل نقوله أو نفعله به بسم الله الرحمن الرحيم
وبالبسملة تبدأ الفاتحة أى أن القرآن الكريم يبدأ بالبسملة
وقد جاء في الحديث
1
كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع وفى رواية " أجزم وفى رواية أبتر وكلها بمعنى واحد قال ابن القيم وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم وكأن الأول الوصف والثانى الفعل فالأول دال على أنه الرحمن صفته أي صفة ذات له سبحانه والثانى دال على أنه يرحم خلقه برحمته أى صفة فعل له سبحانه فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى ﴿ وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب ٤٣ إنه بهم رءوف رحيم التوبة ١١٧ ولم يجئ قط رحمن بهم فعلمت أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة و رحيم هو الراحم برحمته وقال - رحمه الله تعالى هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب

لقد وصف الله نفسه بـ الرحمن الرحيم ووصف نفسه بـ أرحم
الراحمين ويقول - تعالى - على لسان أحد رسله
إن ربي رحيم ودود هود ٩٠
أما هدف الرسالة الإسلامية فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيه
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء ١٠٧
رواه أبو داود وحسنه ابن الصلاح
1101

ولا إلى إقليم أو بلد معين كما تشير بعض الديانات
والدين الذي يدل أو ينتسب أو يشير إلى شخص معين أو إلى شعب
معين أو إلى إقليم معين بتحدد زمنه ضرورة بابتداء الشخص أو الشعب ويتحدد بالمكان ولكن كلمة الإسلام لا تدل على زمان ولا مكان فهي
لا تشير إلى زمن يحدها
ولا إلى مكان تتقيد به
وتضعنا هذه الكلمة مباشرة في جو عالمى مطلق بل في جو عالمي يتخطى حدود هذا العالم الأرضى - إذا أمكن ذلك - فلا يتقيد به ولا يتحدد بحدوده على أن تسمية أتباع الدين الإسلامى فى العصر الحاضر بالمسلمين كانت تسمية سابقة على وجودهم الزمنى فلقد بين الله سبحانه في آية من القرآن الكريم بعض جوانب الرسالة الملقاة على عاتق الأمة الإسلامية وأشار فيها إلى سيدنا إبراهيم - وهى آية من آيات التوجيه الإلهى الذى يجب أن يكون شعار كل مسلم - فقال سبحانه
ووجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكُمُ المُسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسولُ شهيدا عليكم وتَكُونُوا شُهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير
الحج ۷۸
ومن البديهي أن يكون الإسلام بهذه المكانة من العموم والشمول في المكان ومن عدم التحديد بالبعثة المحمدية فإن أساسه لا يختلف فيه اثنان وإن مبادئه الجوهرية حينما تعرض على النفوس المخلصة لا تجد إلا القبول والإذعان
الإسلام - إذن وفى ضوء ما سبق - هو الدين فى إطلاقه المطلق وفي تحديده المحدد فمما لا شك فيه أنه لا دين خارج إسلام الوجه لله وأن الدين في معناه الصحيح إنما هو إسلام الوجه لله
- ۱۳ -

وسواء عرفت الدين بهذا التعريف أو ذاك فإن معناه الصادق هو إسلام
الوجه لله
ومن هنا كان لفظ الإسلام أصدق تعبير عن الدين وكانت القضية " إن الدين عند الله الإسلام قضية لا شك فيها
وكانت القضية المترتبة على هذه
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ قضية - هي الآخرة - لا شك فيها
إن كل من يرفض إسلام الوجه لله إنما يرفض الدين
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ولا يعبر عن الإسلام فى الوقت الحاضر إلا القرآن والسنة النبوية الشريفة والقرآن هو الكتاب الوحيد فى العالم الآن الذى لم يغير ولم يبدل ولم يحرف وهو بالأسلوب الإلهى نفسه وليس فى العالم الآن كتاب بالأسلوب الإلهى غير القرآن كتاب
الإسلام
يقول الله تعالى
٨٦-٩١ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حقٌّ وَجَاءَهُم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَن تقبل توبتهم وأولئك هم الصَّالُونَ * إِنَّ الذين كفروا وماتوا وهُمْ كَفَّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أُولَئكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مَن ناصرين
إن الشهادة بأن الرسول حق أمرها ميسر لمن صدق في نظرته للأمور وأخلص في بحثه ومن أمثلة هؤلاء هذا الرجل الواسع الأفق الذي لم تستعبده التقاليد وأعنى به هرقل لقد أتاه كتاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه
- ۱۳۳ -

يدعوه إلى الإسلام فلم يهمل الكتاب ولم يمزقه وإنما قرأه في عناية وانتباه ثم أراد أن يكون صورة صحيحة عن صاحب الخطاب فسأل عما إذا كان بالمدينة بعض العرب الذين يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم
فقيل له إن بالمدينة تجارا من مكة يعرفون محمدا - باعتباره من مواطنيهم فأمر بإحضارهم وكان منهم أبو سفيان فقربه منه وأدناه وقال لهم إنى سائلة عن أمور فإن كذبني فكذبوه !
يقول أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا على كذبا لكذبت عليه !
ونترك المقدمات التي جاءت بالموضوع والأسئلة الأولى لأنها واضحة من النتائج التي انتهى إليها هرقل !
إن هرقل - بعد انتهى من الأسئلة - بدأ عن طريق الترجمان يقول لأبي
سفيان على مشهد من الملا الحاضر من أصحاب هرقل ومن أصحاب أبي سفيان
سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب
وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها !
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول
فذكرت أن لا

فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله !
وسألتك هل كان من آبائه من ملك
فذكرن أن لا
قلت لو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال
فذكرت أن لا
فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله
-12-

وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم
فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه
وهم أتباع الرسل !
وسألتك أيزيدون أم ينقصون
فذكرت أنهم يزيدون !
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم
وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه
فذكرت أن لا
وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب
وسألتك هل يغدر
فذكرت أن لا
وكذلك الرسل لا تغدر
وسألتك بم يأمركم
فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة
الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين
وقد كنت أعلم أنه خارج

لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أنى
أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه !
هذه الصورة التي كونها هرقل بمنطقه يمكن أن يكونها أو يكون مثيلات لها
كل إنسان اتسع أفقه ورحب تفكيره
وكل إنسان يصدق الله والحق لابد أن ينتهى إلى ما انتهى إليه هرقل من
قوله
- ۱۳۵ -

لو كنت عنده لغسلت عن قدميه
وإنما يغسل عن قدميه من أجل رسالته !
إذ إن من اصطفاه الله لرسالته جدير بأن يكون أهلا لذلك
هذا وإن من الناس فى كل زمان ومكان من يرى الأدلة فيؤمن ويشهد أن الرسول حق ثم يأتى المغريات وشهوات الدنيا وحب المال فينسلخ من كل ما آمن به وينقاد في عبودية ذليلة لأهوائه وشهواته والله - سبحانه - يصف هذا الصنف من الناس وصفا دقيقا فيقول سبحانه
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون الأعراف ١٧٥ ١٧٦
هذا الصنف من الناس لا يهديه الله لأنه اتخذ إلهه هواه والله لا يهدى
القوم الظالمين
أما جزاؤهم عند الله فهو اللعنة واللعنة عند الملائكة والناس أجمعين وهم خالدون في جو اللعنة وجو اللعنة كله عذاب وهذا العذاب لا يخفف عنهم ولا
يؤجل وهذا كله في شأن من كذب واستمر على تكذيبه إلى أن انتهت به الحياة أما من أغواه الشيطان فترة من الزمن ثم انتفض ضميره ثائرا على الإثم والانحراف فعاد إلى الله تائبا منيبا متضرعا وأخذ يصلح ما أفسد وجد في طاعة الله فإن الله بالنسبة لهم غفور رحيم ألم تر إلى الحارث بن سويد لقد رأى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأيقن أنه صادق فأسلم ثم لعبت به الأهواء فسافر إلى مكة مرتدا ثم ثار ضميره فكتب إلى قومه بالمدينة سائلا عما إذا كان له من توبة فنزلت هذه الآيات ولما علم بها عاد إلى المدينة تائبا منيبا وحسن إسلامه
-1-

ويقول الله بعد ذلك
وإن الذين كفروا بعد إيمانهم ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لن تقبل توبتهم وأُولَئِكَ هُمُ الصَّالُونَ * إِن الذين كفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذَهَبًا وَلَو افتدى به أُولَئِكَ لَهُم عذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مَن ناصرين
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ولم يتألم لهم ضمير ولم يرجعوا إلى الله تعالى بالتوبة بل كان من أمرهم أنهم يزدادون كفرا يوما بعد يوم فإن هؤلاء لن تقبل توبتهم التى يظهرونها سترا لأحوالهم ما دام الشرك في ضمائرهم يقول
الحسن وغيره
قال
لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو وقت الحشرجة لأن الله تعالى
وليست التوبة للذين يعملون السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حضر أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ
الآن النساء ١٨
فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته ا هـ
وقال ابن عباس إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم
وقال أبو العالية هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشرك ولم يتوبوا
من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك غير مقبولة إنهم هم الضالون أما الذين كفروا واستمروا على كفرهم حتى ماتوا عليه فإن جرمهم من العظم بحيث لن يقبل من أحدهم أية فدية حتى ولو كانت ملء الأرض ذهبا إن لهم عذابا مؤلما ولن يجدوا من ينصرهم والكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير والمعنى أنه لو أن للكافر ملء الأرض ذهبا يوم القيامة وأحب أن يفتدى نفسه به لما قبل ذلك منه
- ۱۳۷ -

يقول الله تعالى
۹ و لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم وأصل البر - كما يقول الإمام على بن محمد بن إبراهيم - التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أى توسع فى طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع
فيه
أخرج البخارى ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا أبرارا وتدخلوا في زمرة الأبرار
ويقول الله تعالى في هذا المعنى
و يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تُنفِقُون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعْلَمُوا أَنَّ الله عَني حَميدٌ
البقرة ٢٦٧
وقد روى الشيخان عن أنس بن مالك قال كان أبو طلحة أكثر الأنصار مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بير حاء وكانت مستقبلة المسجد وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما أنزلت هذه الآية و لن تَنالُوا الْبِرَّ َحتَّى تُنفقوا را مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
وإن أحب أموالى إلى بير حاء وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن
- ۱۳۸ -

تجعلها في الأقربين قال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في
أقاربه وبني عمه
ومن لطيف ما يروى من التفسير الإشارى ما ذكره جمال الدين القاسمي عن القاشاني في هذه الآية قال
كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر ولا يمكن التقرب إليه إلا بالتبرؤ عما سواه فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به وأشرك شركا خفيا لتعلق محبته بغير الله كما قال تعالى
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يُحبونهم كحب الله ﴾ البقرة ١٦٥
وآثر نفسه به على الله فقد بعد من الله بثلاثة أوجه وهي محبة غير الحق والشرك وإيثار النفس على الحق فإن آثر الله به على نفسه وتصدق به وأخرجه من يده فقد زال البعد وحصل القرب وإلا بقى محجوبا وإن أنفق من غيره أضعافه فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجاجه بغيره
والانفاق يستوى فيه من وسع الله عليه ومن قدر عليه الرزق يقول تعالى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللهُ لا يُكلف الله نفسا إلا ما آتاها
سيجعل
الله بعد عسر يسرا الطلاق ۷
أما من يبخل فإنما يبخل عن نفسه حيث يحرمها من الخير ويحول بينها
وبين الثواب
يقول الله سبحانه
ها أنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن
نفسه والله الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم
محمد ۳۸
إن الله تعالى يعوض المنفق عما يبذل من الخير أضعافا مضاعفة عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
- ۱۳۹ -

ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربوا فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله
6
وروى الإمام مسلم بسنده عن أبى هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه
وسلم قال قال الله تبارك وتعالى
يا ابن آدم أنفَقُ أُنْفق عليك
وقال صلى الله عليه وسلم

يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار
وعن المنذر بن جرير عن أبيه قال
الفاقة
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابى النمار أو العباء متقلدى السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من ا فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلي ثم خطب فقال يا أَيُّها الناسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
والآية التي في الحشر
و يا أَيُّها الذين آمَنُوا اتَّقُوا الله ولتنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله

النساء ١
الحشر ۱۸ تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال
فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل لقد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء

ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء

-12-

يقول الله تعالى
بس انت العز الحنين
٩٣ - ٩٥ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاً لَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسه من في أن تُنزَلَ التَّوْرَاةَ قُلْ فَأْتُوا بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صدق اللهُ فَاتَّبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين سبب نزول هذه الآيات الكريمة أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكل ذلك كله فلست على ملته
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك حلالا لإبراهيم قالوا كل ما نحرمه اليوم كان حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله
عز وجل
كُلُّ الطَعَامِ كان حلا لبني إسرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسه
وإسرائيل هو يعقوب وقد حرم بعض الأشياء على نفسه لسبب أو لآخر ذلك قبل أن تنزل التوراة وقد كان ما حرمه يعقوب على نفسه حلالا لإبراهيم وأولاده إسماعيل وإسحاق ولما أنكر اليهود أن الطعام كان حلالا لإبراهيم عليه السلام أمرهم الله تعالى بإحضار التوراة وتلاوتها فإنها تصرح بأن بعض أنواع الطعام حرمه إسرائيل على نفسه
ولقد حرم الله تعالى عليهم فى التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها وحرم
عليهم فيها أشياء أخرى عقاباً لهم يقول صاحب الكشاف
الآية رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات أُحلَّتْ لَهُمْ وبَصَدَهم عن سبيل الله كثيرا *
-121-

وهذه الكلمة القرآنية الكريمة تُبين - فى صورة لا لبس فيها - أن الرسالة الإسلامية إنما جاءت رحمة بالإنسانية وهى إذن - سواء نظرنا إلى أسسها وبواعثها أو إلى قواعدها ومبادئها أو إلى أهدافها وغاياتها - دعوة صريحة قوية لإسعاد البشرية
وقد قال صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه أبو صالح
أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة
وقال
أنا نبي الرحمة ۱

إنه صلوات الله وسلامه عليه وقد أرسله سبحانه برسالة الإسلام هدية الله إلى العالم - وكل من تقبل هذه الهدية راضية بها نفسه مطمئنا قلبه بها فإنه يتشبع بالرحمة فيكون باستمرار مصدر رحمة بالنسبة للآخرين أما إذا لم يكن كذلك فإن معنى هذا أنه لم يفهم الإسلام على ما أراده الله
ورسوله
يقول - صلوات الله عليه وسلامه - معرفا ببعض صفات المؤمنين مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ٢
ويقول الله - تعالى - للمؤمنين
وجعل بينكم مودة ورحمة الروم ٢١
ومن القصص ذات المغزى العميق أن رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه- كان يتحدث عن الرحمة ويحث عليها ويدعو إليها ويعرف بمنزلتها من الدين فقال بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - إنا نرحم أزواجنا وأولادنا وأهلنا فلم يرض هذا رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه - لأنه فهم
خرجه أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه
أخرجه الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه عن النعمان بن بشير
-1-

وأخذهم الربا وقد نُهُوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم
عذابا أليما النساء ١٦٠ ١٦١
وفي قوله
وعلى الذين هادوا الأنعام ١٤٦
لقد أرادو براءة ساحتهم وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا لسنا بأول من حرمت عليه وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم اهـ أما من افترى على الله الكذب بعد هذا البيان الإلهى وبعد التحدى لليهود
وبعد امتناعهم عن الإتيان بالتوراة فإنه من الظالمين
ولقد صدق الله تعالى فى البيان الذي أخبر به فأعلن ذلك يامحمد لهم وادعهم إلى إلى اتباع ملة إبراهيم قل لهم فَاتَّبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين آل عمران ٢٩٥
أما ملة إبراهيم فهى دينه وهى منهجه فى الحياة الذي رسمه الله له ومنهجه في الحياة هو الإلقاء بقياده كلية إلى الله سبحانه وتعالى الإلقاء بقياده إلى الله فى القول والإلقاء بقياده إلى الله في العمل وإذا ما ألقى الإنسان بقياده إلى الله سبحانه في حياته كلها كان مسلما يقول تعالى
وومن يرغب عن ملة إبْراهِيمَ إِلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة
لمن الصالحين * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسلم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين البقرة ١٣٠ ١٣١٠ ومفتاح الأمر في خُلق إبراهيم عليه السلام وفي الثناء عليه أيضا هو
- 1ET -

إسلامه وهو لم يكتف بأن أسلم فى نفسه وإنما قد وصى بهذه العقيدة بنيه يقول
تعالى
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدِّينِ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم
مسلمون
والإسلام الذي دان به إبراهيم عليه السلام ووصى به بنيه إنما هو إسلام الوجه لله سبحانه أى التسليم لله فى جميع الأمور ما صغر منها وما كبر إن لله سبحانه وتعالى نظاماً معينا فى الأوضاع الأخلاقية والأوضاع الاجتماعية في العالم الإنساني
وجوهر هذه الأوضاع إسلام الوجه لله سبحانه
ولقد حدد ابن الأنبارى المتوفى سنة ٣٢٨هـ معنى الإسلام من الناحية اللغوية البحتة فقال
المسلم معناه المخلص لله في عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان خلص
له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى
ولقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الإسلام فقال
أن يسلم لله قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك
والإسلام بهذا المعنى لا يختص ببيئة معينة ولا يشير إلى بيئة معينة ولا إلى شخص معين ولا إلى زمن معين
إن هذه الكلمة مجرد الكلمة تضعنا مباشرة في جو عالمي مطلق بل في
جو عالمى يتخطى حدود هذا العالم الأرضى - إذا أمكن ذلك - فلا يتقيد به ولا
يتحدد بحدوده
إن إسلام الوجه لله هو دين الملائكة وهو دين الأنبياء وهو دين | دین غیره وهل الله دين غير إسلام الوجه لله سبحانه !
ومن أجل ذلك كانت كلمة إسلام وكلمة دين بمعنى واحد
الله الذي لا
- ١٤٣ -

إن الدين في أي عصر وفى أى زمن معناه الخضوع لله والاستسلام له والعمل على مرضاته وهذا نفسه هو معنى الإسلام والدين والإسلام إذن
بمعنى واحد
هذا المنهج - من إسلام الوجه لله والخضوع له - إنما كان المنهج الذي رسمه
الله سبحانه دينا للإنسانيه أجمع
ويقول الله تعالى
٩٦ ٩٧ إِنَّ أَول بيت وضع للناس للذي ببكة مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمينَ * فيه آيَاتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
روى الإمام البخارى رضى الله عنه أنه حينما أسكن إبراهيم عليه السلام من ذريته عند بيت الله المحرم خاطب الملك السيدة هاجر مطمئنا لها قائلا لا تخافوا الضيعة فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع
أهله
هل كان بيت الله مبنيا قبل ذلك ومن بناه
إن إبراهيم عليه السلام يقول
ربَّنَا إِنِّي أَسكنت من ذُرِّيَّتِي بواد غير ذي زرع عند بيتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون
فهل كان بيت الله المحرم مرجودًا قبل إبراهيم
إن حديث الإمام البخاري يقول
إبراهيم ٣٧
وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن
شماله
-122-

ويقول الله تعالى في تحديد لا ليس فيه
وإن أول بيت وضع للنَّاسِ لَلَّذِي ببكة
وبكة في قول الله تعالى هى مكة فمتى بنى البيت
يروى الإمام البيهقى فى دلائل النبوة بسنده عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال
بعث الله جبريل إلى آدم فأمره ببناء البيت فبناه آدم
ثم أمره بالطواف به وقيل له
أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس
وروى عبد الرزاق عن عطاء رضى الله عنه أن آدم أول من بنى البيت والأحاديث النبوية متسقة مع القرآن الكريم تشير إلى أن أول بيت وضع للناس
إنما هو البيت الحرام وأن أول من بناه إنما هو آدم
وما من شك في أن البيت كان يُهمل ويُترك أحيانا فيتهدم ولكن معالمه تبقى حتى يأتي من يجدده
وقد جدده سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل والله سبحانه وتعالى يقول وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
العليم الله البقرة ۱۷
ولم يقل سبحانه
وإذ يضع إبراهيم القواعد
وإبراهيم وإسماعيل كانا إذن يرفعان القواعد التي وضعها آدم عليه السلام
لقد جاء إبراهيم ذات يوم إلى إسماعيل وقد أصبح شابا فتيا فقال له
الله أمرني بأمر
قال فاصنع ما أمرك ربك
-120-

أما هذه الآيات فإن منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه
حينما كان يرفع القواعد من البيت
ويقول الإمام ابن كثير
وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضى الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّواف منه ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال
واتَّخِذُوا من مقامِ إِبْرَاهِيمَ مُصلَّى البقرة ١٢٥
ومن الآيات تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه الله كما أهلك أصحاب الفيل ومشاعر الحج التي فيه كلها من الآيات
وبعد أن ذكر الله تعالى فضائل البيت من أنه أول بيت وضع للعبادة ومن أنه مبارك وهدى للعاملين وفيه آيات بينات مقام إبراهيم أردف ذلك بذكر الحج وشروط الحج وشروط الوجوب فيما يتعلق بالقيام به والاهتمام بشأنه فقال
سبحانه
يلي
عني
عن
العالمين
والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فَإِنَّ الله وقد ورد فى الحج جملة من الأحاديث الصحيحة والحسنة نذكر منها ما
عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - فيما أخرجه
البخاري ومسلم -
لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول
والمسجد الأقصى

وعن أبي سعيد الخدرى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما أخرجه
الإمام مسلم
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدى هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى
- EV-

وعن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فُرض عليكم الحجِّ فَحُجُوا فقال له رجل في كل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلتُ نعم لوجبت ولما استطعتم
وعن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة ۱ وأخرج البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال
العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
من حج الله عز وجل وفي لفظ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه أخرجه الترمذى وقال غفر له ما تقدم من ذنبه

وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير
خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنه وما من مؤمن يظلُّ يومه محرما إلا غابت الشمس بذنوبه
وهذه الآية هي آية وجوب الحج عند جمهور الفقهاء والمفسرين والحج أحد أركان الإسلام الخمسة وقد فرض على كل مسلم و مسلمة مرة في العمر عند
الاستطاعة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري عن ابن عمر
رضي الله عنهما
۱ أخرجه الترمذى وقال حديث حسن
٢ أخرجه الترمذي
- ١٤٨ -

بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان
وشرط الحج الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة
أما هذه الاستطاعة فإن أمرها فى الواقع الصحيح سهل ميسر في زمامنا الراهن فُسبُل المواصلات مريحة والأمن مستتب والنفقات ليست من الكثرة عند كثير من الناس بحيث تُعجز إنها عند العزم المصمم لا تلبث أن توجد في يسر
نسبي
وإنه إذن لمن الخداع الزائف أن يتعلل الإنسان بالاستطاعة فإن هذه الاستطاعة تتبع حرارة الإيمان ارتفاعا وانخفاضا والناس فى الغالب مستطيعون قادرون ولكن الأمل فى امتداد العمر والانغماس في غمرات المادة والاستغراق في شئون الدنيا يجعل الإنسان - وهو مستطيع - يمهل ويهمل حتى تنتهى به الحياة وفي مثل ذلك يقول سعيد بن جبير ومجاهد وطاووس رضى الله عنهم
عليه

لو علمت رجلا غنيا وجب عليه الحج ثم مات قبل أن يحج ما صليت
يقول صاحب الكشاف فيما نقله عنه القاسمي
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه مالا مزيد عليه
فمنها الإتيان بـ اللام وعلى في قوله والله على الناس حج البيت يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان
من التأكيد
أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له
والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في
صورتين مختلفتين
-129-

ومنها قوله ومن كفر مكان من لم يحج تغليظا على تارك الحج
ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ومنها قوله عن العالمين ولم يقل عنه وما فيه من الدلالة على
الاستغناء الكامل فكان أدلَّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه ا هـ يقول الله تعالى
۹۸ ۹۹ ﴿قُلْ يَا أَهل الكتاب لم تَكْفُرُونَ بِآيات الله وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يا أهل الكتاب لم تصدون عن تبغونها عوجا وَأَنتُم شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تعملون
فيها
وآيات الله هنا هي القرآن وهى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
أما القرآن فإنه على
حد
كلام الله تعالى
وآيات بَيِّنَاتُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُو العلم ﴾ العنكبوت ٤٩
إنه بأسلوبه آية بينة وبموضوعه آيةٌ واضحة وبإخباره عن الغيب آية لا مرية
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان آيةً من آيات الله في نفسه وفي
كل ما يتصل به من سلوك ومن خلق
يقول الإمام ابن عباس
آيات الله هنا هي القرآن الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم والشهيد في قوله تعالى والله شهيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ بمعنى الشاهد ويقول الإمام الخطابي
هو الذي لا يغيب عنه شيء كأنه الحاضر الشاهد
أما كلمة العوج بكسر العين فقد قال أبو عبيدة
العوج بكسر العين فى الدين والكلام والعمل والعوج بفتحها في الحائط
والجذع
-101-

شخص
وقال الزجاج العوج بكسر العين فيما لا ترى له شخصاً وما كان له
قلت عوج بفتحها تقول في أمره ودينه عوج وفى العصا عوّج وسبيل الله الذى كانوا يصدون عنه هو صراط الله وهو التوحيد وهو
الإسلام يقول سبحانه
وأن هذا صراطي مستقيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السبل فتفرق بكُم عن سبيله ذلكم
وصاكم به لعلكم تتقون الأنعام ١٥٣
يقول الله تعالى
١٠٠ ١٠١ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مَنِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ يَرُدُّوكُم بعد إيمانكم كافرين * وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفِيكُمْ رَسُولُه ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم
هاتان الآياتان لجماعة المسلمين عامة وإن كان سبب نزولهما حادثة خاصة
قال زيد بن أسلم
مر شأس بن قيس اليهودى - وكان شيخًا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين فمر على نفر من الأوس والخزرج فى مجلس جمعهم يتحدثون فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم فى الإسلام بعد الذى كان بينهم في الجاهليه من العداوة وقال قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذا البلد لا والله مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال اذهب إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه إن شئتم والله رددتها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم
-101-

قاصر محدود لما ينبغي أن يكون عاما شاملاً ولذلك رد عليه رسول الله -
الله عليه وسلم - بقوله
ما هذا أريد إنما أريد الرحمة العامة
صلى
وما من شك فى أن من الرحمة رحمة الأزواج والأولاد والأهل وقد حث على ذلك رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - بيد أن ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أن تتغلغل الرحمة فى الكيان الإنسانى كله حتى تصبح وكأنها من فطرته وطبيعته وجبلته فيكون الإنسان وكأنه قبس من الرحمة الإلهية ينثرها إذا سار وينثرها إذا جلس وينثرها أينما كان وينثرها حينما حل وإذا كان كذلك فإنه يكون قد حقق الطابع العام للرسالة الإسلامية واستحق أن يغمره الله برحمته يقول صلوات الله وسلامه عليه
الراحمون يرحمهم الرحمن ۱
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه الحاكم في المستدرك وأحمد في مسنده عن على - رضي الله عنه
اطلبوا المعروف من رحماء أمتى تعيشوا في أكنافهم ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن اللعنة تنزل عليهم يا على إن الله - تعالى - خلق المعروف وخلق له أهلا فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله ووجه إليهم طلابه كما وجه الماء في الأرض الجدبة لتحيا به ويحيا به أهلها إن أهل المعروف فى الدنيا هم أهل المعروف في
الآخرة

أما من لم ينبض قلبه بالرحمة ولم يتخذها شعارًا فإنه - والعياذ بالله - مطرود من رحمة الله يقول صلوات الله وسلامه عليه لا تنزع الرحمة إلا من شقى
أخرجه الإمام أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك
حديث صحيح كما رمز له السيوطى فى الجامع وكذا كنز العمال
- أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حيان والحاكم
- ۱۷ -

الظاهر وهي الحرة فخرجوا جميعا إليها وانضمت الأوس والخزرج على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله! فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضُهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مَن الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب يعنى شأسا وأصحابه ويردُّوكُم بعد إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
قال جابر فما رأيت قط يوما أقبح أولاً ولا أحسن آخرًا من ذاك اليوم قال زيد بن أسلم والفريق من الذين أوتوا الكتاب هو شأس بن قيس اليهودي وأصحابه وقال الزجاج معنى طاعتهم تقليدهم
ثم بين ا الله تعالى أن من كان لديه القرآن الكريم ومن كان لديه رسول الله حيا أو سنته بعد انتقاله فإنه لا يستجيب لأهل الكتاب الذين ديدنهم إضلال المسلمين بشتى الطرق وكيف يستجيب لهم مع أن كتاب الله عاصم من الضلال
واتباع رسول
الله
صلى
الله عليه وسلم فى حالة حياته وسنته بعد انتقاله
إلى الرفيق الأعلى يسير بالإنسان إلى هداية الله وإلى الاعتصام به ومن يعتصم بالله فإنه لا شك قد هدى إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
أخرج عبد بن حميد من طريق الربيع عن أبي العالية قال
إن الله قضى على نفسه أنه من آمن به هداه ومن توكل عليه كفاه ومن
أقرضه جزاه ومن وثق به أنجاه ومن دعاه استجاب له بعد أن يستجيب الله قال
الربيع وتصديق ذلك في كتاب الله
ومن يؤمن بالله يهد قلبه التغابن ١١
-101-

ومن يتوكل على الله فهو حسبه الله بالغ أمره الطلاق ٣
ومن يقرض الله قرضا حسنا يضاعفه له
ومن يعتصم بالله فَقَدْ هَدِي إِلَى صِرَاطٍ مُستقيم
وإذا سألك عبادي عني ف
فإنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيستجي
وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون البقرة ١٨٦
ويقول الله تعالى
۱۰ ويأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ يقول عكرمة رضى الله عنه فى سبب نزول هذه الآية الكريمة إن هذه الآية نزلت فى الأوس والخزرج حين اقتتلوا وأصلح النبي صلى الله
عليه وسلم بينهم
ونعود إلى قصة قتال الأوس والخزرج وما نرويه الآن هو جزء من قصة قتالهم يضاف إلى ما سبق وهذا الجزء الذى يضاف إلى ما سبق فإنه يذكره مقاتل ابن حيان على ما يلى
كان بين الأوس والخزرج عداوة فى الجاهليه وقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غُنْم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوسى منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحكمه في بني
قريظة
وقال الخزرجى منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم
السلاح فأتاهم النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية
-10-

يا أيها الذين آمَنُوا اتَّقُوا الله حق تقاته
وإذا كانت الآيه الكريمة نزلت بمناسبة هذا الاختلاف بين طائفتين من المؤمنين منبهة على أنه إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار
وتأمر المسلمين أن يلتزموا الإسلام فلا يخرجوا عليه بقتال بعضهم بعضا نقول إذا كانت الآية نزلت بمناسبة هذا فإنها عامة وقد تحدث كثير من أسلافنا في معناها - بكلمات جميلة نفيسة - ومن ذلك ما ذكره ابن مسعود - رضی الله عنه - قال
حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
وقال مجاهد هو أن تُجَاهدوا فى الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم وقيل حق تقاته يعنى واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم
وهنا نتساءل وهل يستطيع الإنسان أن يتقى الله حق تقاته
عن ذلك يقول صاحب محاسن التأويل
لا يتصور أن يكون فى هذه الجملة طلب ما لا يستطاع من تقوى بل المراد منها دوام الإنابة لله تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلبا وقالبا وهذا من
المستطاع لكل منيب
وقوله تعالى
فَاتَّقُوا الله ما استطعتم التغابن ١٦ أمر بعبادته قدر الاستطاعة بلاتكليف
لما لا يطاق إذ و لا يُكلف اللهُ نَفْسًا إلا وسعها البقرة ٢٨٦ وظاهر أن من أتى
بما يستطيعه من عبادته تعالى وأناب لجلاله وأخلص في أعماله وكان مشفقا في
طاعاته فقد اتقى
وقوله تعالى
الله
حق تقاته
فاتَّقُوا الله ما استطعتم بيان لقوله تعالى اتَّقُوا الله حق تقاته اهـ
-102-

والتقوى طريقها مرسوم إنه طريق رسمه الله ورسوله وهو يبدأ بالتوبة الصادقة وقد بين الله تعالى أنه فتح أبواب التوبة على مصاريعها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل والله سبحانه يقول في حديث قدسي
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا
فاستغفروني أغفر لكم
وإذا صدقت التوبة استتبعت أمرين
إنها تستتبع رد الحقوق بقدر الاستطاعة وعلى حسب ما يتاح من إمكانات في
الزمان والمكان
وإذا صدقت التوبة استتبعت العمل فيقوم الإنسان بالواجبات وينتهي عن
المحرمات
والتقوى لها ثمارها المحببة
إن الله سبحانه يقول
ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيثُ لا يحتسب الطلاق ٢٢
وهي تستتبع معية الله تعالى
واعلموا أن الله مع المتقين البقرة ١٩٤
ومن كان الله تعالى معه يُسرت له الأمور فى الدنيا الفوز والنصر والسعة في الرزق والطمأنينة وهدوء البال والسكينة
أما في الآخرة فإنه الفوز بمرضاة |
ويقول الله تعالى
الله تعالى
۱۰۳ واعتصموا بحبل اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أعداء فألف بين قُلُوبِكُمْ فَأَصبحتم بنعمته إخوانًا وكُنتُم على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون
كذلك
وحبل الله تعالى هو القرآن الكريم كما روى ذلك بسند صحيح عن ابن
مسعود
-100-

ويقول أبو سعيد الخدرى كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى
الأرض
وروى ابن مردويه بسنده عن عبد الله
رضی الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع
عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه
وهذه المعاني يفصلها - نوعا ما - سيدنا على بن أبى طالب فيقول عن
القرآن الكريم
الله
عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخير ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا تزيع به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به أفلح ومن دعى إليه هدى إلى صراط
مستقيم
وهذا الأمر بالاعتصام بالقرآن الكريم عام لجميع المسلمين ومن لم يعتصم بالقرآن فإنه يكون مخالفًا لأمر الله تعالى والاعتصام به إنما يكون
في العقيدة وفى الأخلاق وفى التشريع وفي نظام المجتمع
ويأمر الله سبحانه وتعالى بعدم الفرقة ولا تفرقوا
ويروى الإمام مسلم بسنده عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال
إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه
الله أمركم - ويسخط لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ويذكر الله تعالى المسلمين بنعمته سبحانه التى تتمثل في أن أصبحوا إخوانا
بعد التفرق والعداوة
-10-

لقد كان العرب فى جزيرة العرب فى عداوة مستمرة وكانت الأوس والخزرج
في حرب طيلة عشرين ومائة سنة بسبب قتيل قتل بينهم وكانت - لا محالة - ستفنيهم ولكن نعمة الله أدركتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فألف بينهم ويقول الله تعالى لرسوله فى ذلك - مبينا أن من وسائل النصر التآلف
والتعاضد
وهُوَ الَّذِي أَيدك بنصره وبالْمُؤْمِنِينَ * وألف بين قُلُوبِهِمْ لَو أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم الأنفال ٦٢ ٠ ٦٣
ويبين
الله تعالى لهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار - أى على طرف حفرة مثل شفا البئر - أى حافته - ليس بينهم وبين النار إلا الوقوع فيها وذلك بمجرد الموت - فأنقذهم الله تعالى منها بكتابه الكريم
والواقع أن توفيق الله تعالى لرسوله وللمؤمنين في تحقيق مبدا الأخوة كان توفيقا عظيما وقد وضع الله تعالى مبدأ الأخوة كأساس للتعامل بين أفراد المجتمع
فقال سبحانه
إِنَّمَا الْمُؤمنون إخوة الحجرات ١٠
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث بعدة أحاديث في صلة المسلم بالمسلم كلها توضح معنى الأخوة في الإسلام وهى أخوة قائمة على المبادئ الكريمة والمثل العليا فهو يقول
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب
يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله
يوم القيامة ۱
۱ متفق عليه
-100-

وفي رواية الترمذي
المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم
حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه
المسلم
وقال صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري
انصر أخاك ظالما أو مظلوما - فقال رجل يا رسول الله ! أَنْصُره إذا كان مظلوما - أرأيت إن كان ظالما كيف أنصره قال تحجزه أو تمنعه من الظلم
فإن ذلك نصره
يقول الله تعالى
١٠٤ وَلَتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةً يَدْعُونَ إِلَى الخير ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ الْمُنكَر
وأُولئك هم المفلحون
ونبدأ فنقول
إن كلمة من في قوله تعالى ولتكن إنما هى للتبعيض أخرجت من لا يستطيعون الدعوة إلى الخير ولا يستطيعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجزهم أو جهلهم أو ضعفهم
والأمة كلها إذن - ماعدا من لا يستطيعون - مأمورة بالدعوة إلى الخير ومأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك أن الآية الكريمة افتتحت بالأمر وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٍ
وهذه الصيغة أمر لأن اللام في قوله تعالى ولتكن لام الأمر
على أن القرآن صريح فى إيجاب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر على كل الأمة
يقول سبحانه
كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله
وتتفاوت استعدادات الناس ومراكزهم فيما يتعلق بمسئولية الأمر بالمعروف
-104-

والنهي عن المنكر فبعضهم يأمر بيده أى يغير المنكر ويقف في وجهه بالقوة وهذه
مرتبة الحكام
ومنهم من يقف في وجه المنكر بلسانه وذلك مرتبة كل عارف وليست خاصة بطبقة دون طبقة من الناس وذلك أن معرفة الأمى بأن السرقة حرام كمعرفة العالم بحرمتها وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخمر أو الاختلاس أو الاغتصاب والمسئولية تترتب على المعرفة فما دامت هناك معرفة فهناك مسئولية ولا تختص - إذن - مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القولية بعلماء الدين فحسب وإنما
هي موزعة على كل من يعلم بالمعروف ويعلم بالمنكر
ومن الناس من لا يستطيع أن يقف في وجه المنكر إلا بقلبه وهذه الطبقة - وإن كانت في المرتبة الأولى - طبقة الذين لا يستطيعون الجهاد باليد ولا الجهاد باللسان فإنها - فى حقيقة الأمر - تعم جميع أفراد الأمة أي أن المجاهد بيده يجب أن يكون في الوقت نفسه مجاهدا بقلبه
والمجاهد بلسانه يجب فى الوقت نفسه أن يكون مجاهداً بقلبه وينتفى الإيمان - فى وضعه السليم الصادق - بانتفاء الجهاد القلبى والجهاد القلبى معناه عدم الرضا عن فعل المنكر ومظهر عدم الرضا إنما هو اعتزال فاعل المنكر إذا لم يَرْعَو ولم يأخذ بالنصيحة فإذا كان تاجرا لا يشترى الإنسان منه وإذا كان مشتريا لا يبيعه وإذا كان صديقا يقطع صداقته فلا يؤاكله ولا يشاربه ولا يجالسه وإذا كان مرشحا لأية هيئة نقابية مثلا لا يساعده ولا يعينه ولا ينتخبه وذلك أن المجاهر بالمنكر محـاد الله ورسوله وجزاء الذين يحادون الله ورسوله الله - سبحانه - أن يعقد المؤمن صداقة ومودة بينه وبين الذين
معروف وقد حرم يجاهرون المنكر فقال سبحانه
لا تجد قوما يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ وَيُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عَنْهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلَا إِنَّ حزب الله هم المفلحون المجادلة ٢٢
-109-

هذا هو الجهاد القلبى إنه ليس جهادًا سلبيا كلا وإنما هو في حقيقة الأمر
علاج حاسم للمجاهرين بالمنكر وذلك أن المجاهر بالمنكر حينما يشعر بنفسه مهينا في المجتمع وحينما يشعر بأن الناس يعتزلونه كما يعتزلون وباء خبيثا فإنه يعود مضطرا أو مختارا إلى الجادة
وعن أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلی
عليه وسلم يقول
الله
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع
فبقلبه وذلك أضعف الإيمان
ولقد بدأت هذه الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير
والخير في الآية الكريمة هو الأخلاق الفاضلة
والأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطا لا ينفصل منه تنبع وعلى أساسه تقوم وعنه تصدر إنها جزء من الدين الإسلامي لا يتجزأ مصدرها هو مصدره إلهي رباني
وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى
يريد بعضهم أن يجعل أساس الأخلاق الضمير بيد أن ذلك خطأ بين فالضمير يربى ويُكَوِّن وتربيته وتكوينه هما شكله ونزعته واتجاهه الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط أين مثلا الضمير عند الأمريكي الأبيض بالنسبة للأمريكي الأسود وأين ضمائر البيض فى جنوب أفريقيا بالنسبة لأهل البلاد الأصليين وأين ضمير المستعمر أينما كان بالنسبة للمستعمر إن الضمير أحيانا يصنع كما تصنع المزيفات وهو إذن مقياس للأخلاق خاطئ
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة العامة ولكن المصلحة العامة كلمة غير محددة وكل من يتحدث باسم المصلحة العامة إنما يتحدث باسم فكرته هو سواء أكانت هذه الفكرةُ منحرفة أم ليست منحرفة
- 1 -

والمصلحة العامة إذن كأساس للأخلاق إنما هي أساس غير مضمون
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة الشخصية أو إلى اللذة أو إلى المنفعة
وكل هذا وارد الغرب الأوربى أو الغرب الأمريكى عندما انحرف هذا الغرب وألحد
أما وارد الشرق الإسلامى أو بتعبير أدق وارد الإسلام الإلهى فإن مقياس الأخلاق فيه إنما هو المبادئ الدينية إنما هو آياتُ القرآن وإنما هو الفضائل التي أوحاها الله سبحانه وتعالى هذه الفضائل التي حددها القرآن في أسلوب عربي مبين وركزها القرآن والسنة على أسس من الإيمان قوية ثابتة
ومنها مثلا
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي الْقُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَّرُونَ ﴾ النحل ٩٠
ومنها قوله تعالى
ليس البر أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب وَلَكِنَّ الْبِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيين وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبه الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بعهدهمْ إِذَا عاهدوا والصابرين في ا البأساء والضراء وحين البأس أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ
هم المتقون البقرة ١٧٧
ومن أجمعها الآيات الجميلة حقا التي تختتم بها سورة الفرقان والتي تبدأ
بقوله تعالى
وعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هُونًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا
-11-
الفرقان ٦٣

ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله قال
لا يطيع بعضنا بعضًا في معصية الله ويقال إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يُصَلُّوا لهم
ومن ذلك نرى المدى البعيد والشمول التام لمعنى التوحيد في الإسلام واهتمام الإسلام بالتوحيد في عمومه وشموله
ولقد كان التوحيد أول عقد البيعة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا
ويقول القرآن الكريم
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا
يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم الممتحنة ١٢
وحينما يسمع الناس الحديث عن الإشراك بالله يتجه ذهنهم في الأغلب
الأعم منهم إلى نفى تعدد الآلهة
إن الذهن يتجه إلى هذه العقيدة التى كانت عند اليونان - في عهودهم القديمة من تعدد الآلهة وعند العرب فى جاهليتهم من عبادة الأصنام - عقيدة
باطلة
لقد جعل اليونان إلها لكل ظاهرة من ظواهر الكون الكبرى وكذلك فعل قدماء المصريين فى عامتهم وشعبهم وكذلك فعل وثنيو العرب
بل إن الإنسانية - وقد بدأت بالتوحيد الخالص على لسان آدم عليه السلام قد انحرفت سريعًا إلى التعدد فأخذ الله سبحانه يرسل الأنبياء والرسل تباعا مبشرين بالتوحيد مجاهدين في سبيل منع التعدد في سبيل القضاء على الوثنية
المنتشرة
ولقد كان الأنبياء والرسل كثيرا كثرة تتناسب والانحراف المتوالي من
-110-

وبك أعطى قال الله عز وجل في كتابه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يـ
وهو في الآخرة من الخاسرين
ويقول الإمام أبو السعود في تفسيره
والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التى فُطر الناس عليها وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغير الإسلام واطمأن
بذلك أفظع وأقبح

والإسلام الذى نتحدث عنه هنا يقول عنه الراغب الأصفاني إنه فوق الإيمان وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل واستسلام لله في جميع
ما قضى وقدر كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله
وإذ قال لَهُ رَبُّهُ أَسلم قَالَ أَسْلَمْتُ لرب العالمين البقرة ۱۳۱
و إن الدين عند الله الإسلام
ويقول متحدثا عن يوسف عليه السلام
توفني مسلما يوسف ١٠١
وهذا المعنى الذى ذكره الراغب يرتبط ارتباطا وثيقا بالمعنى اللغوى لكلمة إسلام يقول ابن الأنبارى فى المعنى اللغوى للكلمة
المسلم معناه المخلص لله في عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان خلص
له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى
وسواء نظر الإنسان إلى المعنى الشرعى للكلمة أو إلى المعنى اللغوى فإنه
يجد أن هذا اللفظ لا يشير
زرادشت
إلى شخص معين كما تشير البوذية مثلا إلى بوذا والزرادشتية إلى
ولا إلى شعب معين كما تشير اليهودية إلى شعب بذاته
- ۱۳۱ -

حولها
قال وتعينني قال وأعينك
قال فإن الله أمرني أن أبنى هاهنا بيتا - وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما
قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبنى حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبنى
وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان
ربنا تقبل منا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم
قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان
وربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم البقرة ١٢٧
إنه أول بيت وضع للعبادة والعبادة فيه ألوان يقول تعالى وطهر بيتي للطَّائفين والقائمين والركع السجود الحج ٣٦
والطواف لا يوجد في مسجد آخر
أما كلمة بكة فقد قال الزجاج يصلح أن يكون هذا الاسم مشتقا من البك يقال بك الناس بعضهم بعضا أى دفع وعلى هذا فإن تسميتها بكة لازدحام الناس بها في أيام الحج ويقول سعيد بن جبير سميت بكة لأن الناس يتباكون
بها أي يزدحمون
العرب
وهى على كل حال تعنى مكة وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول
مك الفيصل ضرع أمه وامتكه إذا مص كل ما فيه من اللبن
وتسمى مكة الحاطمة لأنها تحطم من استخف بحرمتها
وهذا البيت مبارك باركه الله تعالى حيث جعل ثواب الصلاة فيه أضعافا
مضاعفة وباركه بالطواف فيه والعبادة والاعتكاف
وهو هدى للعالمين لما فيه من الآيات البينات
-12-

وبعد فإن الأعمال الإنسانية التي تصدر عن هذا الطابع العام والتي يدعو
إليها الإسلام لا حصر لها وأولها لا شك إنما هو رحمة الإنسان بنفسه ورحمته بنفسه إنما تتلخص في كلمتين عمل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه لقد رسم الدين مبادئ للفضيلة وقواعد للنجاة وحدد معالم الجريمة والمعصية وحذر من الوقوع فيها وجعل السعادة فى الدنيا والآخرة منوطة بعمل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه ولن يكون الإنسان على هدى ولن يصل إلى أن يكون قبسا من الرحمة الإلهية إلا إذا التزم التزاما كاملا بالتعاليم الدينية
وهذا يسلمنا إلى الفكرة الواضحة البديهية وهى أن العمل الإنساني في أيا اتجاه من اتجاهاته إنما حدده أحكم الحاكمين فى كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وما من شك فى أن من ابتغى الهدى في غيره أضله الله لأنه حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم وإذا كان الواجب الأول على الإنسان إنما هو رحمته بنفسه بالمعنى الذي أوضحناه فإن هذا الواجب يتضمن مالا يكاد يحصر من الواجبات الأخرى الإنسانية ومن أوائلها صلة الرحم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فيما رواه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ
بك من القطيعة

قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك
قالت بلى يا رب
قال " فهو لك
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقرءوا إن شئتم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم محمد
ومن بدهيات صلة الرحم أن يبدأ الإنسان بوالديه - وقد قرن الله صلتهما لأهميتها - بعدم الإشراك به في العبادة فقال - تعالى
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إيَّاه وبالوالدين إحسانا الإسراء ٢٣
- 14-

بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس لأمته فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم
والوحى يأتيه
فقاموا واعتذروا إليه وقالوا
اصنع ما رأيت
فقال صلى الله عليه وسلم لا ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فكان من حرب أحد ما كان فذلك قوله تعالى
وإِذْ غَدوت من أهلك ﴾ أى واذكر إذ غدوت من أهلك
۱۳ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلَةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢٤ و إِذ تَقُولُ للمؤمنين ألن يكفيكم أن يُمدَكُمْ رَبُّكُم بثلاثة آلاف من الملائكة
١٢٥ و بلَى إِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُم من فورهمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بخمسة آلاف
من الملائكة مسومين
١٢٦ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عند الله
العزيز الحكيم
۱۷ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين
۱۸ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يُعذبهم فَإِنَّهُم ظالمون
- ۱۷۷ -

وربيون كثير أي جموع كثيرة ومعنى ربيون الصالحون وتفسر بالعلماء الفقهاء كما يقول الحسن البصرى وكما يقول البخارى رضى الله عنهما ولعل المقصود بها هنا الأتباع وما من شك فى أن أتباع النبى الذين يقاتلون معه على الحق قوم صالحون
وموقفهم أنهم لم يضعفوا بسبب ما نالهم فى سبيل الله إنهم لم يستسلموا ولم يخضعوا لعدوهم وإنما كان شعارهم النصر أو الاستشهاد وصبروا والله يحب الصابرين
وهؤلاء الربيون كان شعارهم فى قلوبهم وعلى ألسنتهم هو الشعار الذي يتحلى به كل مؤمن صادق الإيمان وهو
ورَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِين أما جزاء الله تعالى لهم فهو
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسَن ثَوَاب الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
لقد صبر هؤلاء فأحبهم الله تعالى وأحسنوا في قتالهم دون وهن وفي التجائهم إلى الله تعالى بالتوبة والتضرع فأحبهم الله تعالى لقد ظفروا بأمرين يترتب على كل منهما الحب الربانى يالهم من سعداء !
١٤٩ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلَبُوا
خاسرين
١٥٠ بَل الله مولاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصرين
ويقول الله تعالى فى ذلك أيضا في سورة البقرة
ولن ترضى عنك اليهود ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبع ملتهم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَكَ من العلم ما لك مِن الله من ولي ولا نصير البقرة ١٢٠
وإن الله سبحانه دائما مولى الذين صدقوا في إيمانهم أي حافظهم من كل
سوء وناصرهم على أعدائهم
-19-

أو أخت عمرو فقال لا تبكه أو ماتبكيه مازالت الملائكة تظله بأجنحتها ١ وروى مسلم عن جابر رضى الله عنه قال قال رجل أين أنا يا رسول
الله إن قتلت
قال صلى الله عليه وسلم فى الجنة فألقى بتمرات كن في يده ثم قاتل
حتى قنل

ويقول الله تعالى
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة ومن يُقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما النساء ٧٤
ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ﴾ البقرة ١٥٤
الشهيد سعيد باستشهاده
يحدث ابن كثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جابر ابن عبد الله مهتما لاستشهاد أبيه فى غزوة أحد قال له مطمئنا ومبشرا
ألا أخبرك ما قال الله لأبيك
فقال جابر بلى
قال صلى الله عليه وسلم
المواجهة
ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وأنه كلم أباك كفاحا والكفاح
قال سلني أعطك
قال أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية
فقال الرب عز وجل
إنه قد سبق منى القول بأنهم إليها لا يرجعون
۱ رواه البخاري ومسلم
-۰۷-

في الله لومة لائم فعل ذلك مالك رضى الله عنه وأحمد بن حنبل وسفيان الثورى وعشرات غيرهم وكانت آية الميثاق هذه تحفز دائما صفوة العلماء على أن يجهروا بالحق وأن يعلنوا حكم الله تعالى رضى | الله عنهم وأرضاهم
۱۸۸ ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تحسبنهم بمفازة منَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
يذكر أبو سعيد الخدرى وآخرون أن هذه الآية الكريمة نزلت في المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو حتى إذا جاء صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه بأشغالهم أو بمرضهم أو بغير ذلك وكلها أعذار زائفة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عنهم ففضحهم الله تعالى بهذه
الآية
فكانوا يفرحون بالتخلف والعفو ويحبون مع ذلك أن يقال لهم في صورة من صور الحمد إنهم فى حكم المجاهدين ولهم ثواب المجاهدين لأن العذر حبسهم ولو لم يكن العذر لكانوا من المجاهدين
وعلى هذا التفسير تكون الآيات من سورة التوبة شرحا لها
يقول تعالى
فرح المُخلَفُونَ بِمقعدهم خلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سبيل الله وقَالُوا لا تنفرُوا فِي الْحرَ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ ُحرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قليلاً وليسبكُوا كثيرا جزاء بما كانُوا يَكسبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةِ مَنْهُمْ فَاسْتَتَذَنُوكَ للخروج فقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدا ولَن تُقَاتِلُوا معي عدُوا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مع الخالفين التوبة ۸۱ - ۸
وهي آيات تشرح الموضوع وتشرح النتيجة التى ترتبت عليه وهؤلاء الذين
يفعلون ذلك ليسوا بمنجاة من العذاب
مفازة منجاة ولهم عذاب أليم
-

لقد اختلف فيه أئمتنا ولا نريد أن نتعرض لهذا الاختلاف وإنما نريد أن نقول في اطمئنان وثقة
إن المسائل التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخوض فيها والمسائل التي كان الاتجاه العام في عهد الخلفاء الراشدين ينفر من الخوض فيها هي من المتشابه
فالمتشابه إذن هو ما تنفر منه الروح العامة للدين الإسلامي في عهده الأول عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه وخلفائه الراشدين وتتحرج من الخوض
فيه
مثل ماذا
أما أولى مسائل المتشابه التى نريد أن نتحدث - بتوفيق الله - عن شيء من تاريخها فهي مسألة القدر
لقد شغلت مسألة القدر أو الجبر والاختيار أو أفعال العباد عقول الإنسانية منذ أن كان الدين أى منذ ابتداء الإنسان على ظهر الكرة الأرضية وإذا أثيرت مسألة القدر فى أى وسط كان مهما كان قليل العدد فإنها تقسمه إلى قسمين يقول أحدهما بالجبر والآخر يقول بالاختيار لقد أثارها اليهود في دينهم ففرقت بينهم وقال بعضهم بالجبر وقال
الآخرون بالاختيار

وأثيرت في الديانة النصرانية على مجرى التاريخ فكان النزاع والجدل وكان التحيز لرأى والتعصب له وانقسم رجال المسيحية إلى فريقين يختصمان وأراد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن يتلافى انشقاق الأمة بسبب
إثارة هذه المشكلة فكان ينهى دائما عن إثارتها وعن الجدال فيها
روی عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون فى القدر فخرج مغضبا حتى وقف عليهم فقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم
- ۳۱ -

شريك لك وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين إنك إن تكلني إلى نفسى تقربني من الشر وتبعدنى من الخير فإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لى عندك عهدا تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد
أما عن الدين فيقول الزجاج
الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه وأن
يكون عادتهم وبه يجزيهم
وأما عن الإسلام فإننا نحب أن نقف وقفة توضح مفهومه
يقول ابن الأنباري المتوفى ۳۸ هـ في المعنى اللغوى للكلمة
المسلم معناه المخلص لله في عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى
وسواء نظر الإنسان إلى المعنى الشرعى للكلمة أو إلى المعنى اللغوى فإنه
يجد أن هذا اللفظ لا يشير
١ إلى شخص معين كما تشير البوذية مثلا إلى بوذا والزرادشية إلى
زرادشت
٢ ولا إلى شعب معين كما تشير اليهودية إلى شعب بذاته
ولا إلى إقليم أو بلد معين كما تشير النصرانية
والدين الذي يدل أو ينتسب أو يشير إلى شخص معين أو إلى شعب معين أو إلى إقليم معين يتحدد زمنه ضرورة بابتداء الشخص أو الشعب ويتحدد بالمكان ولكن كلمة الإسلام لا تدل على زمان ولا مكان فهى
لا تشير إلى زمن يحدها
ولا إلى مكان تتقيد به
وتضعنا هذه الكلمة مباشرة فى جو عالمى مطلق بل في جو عالمي يتخطى
- £V -

30
ومما يلاحظ أنه
في الآية رقم ۸ قال تعالى
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير
وهنا قال سبحانه
ويحذركم الله نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بالعباد
ولعل الحكمة فى ذلك أن موالاة الأعداء سيئة من كبريات السيئات وكأنها منفصلة عن غيرها فكان التعبير عنها لا يُشعر برحمة أو رأفة
۳۱ قل إن كنتم تحبون الله فَاتَّبِعُونِي يُحبكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله ع ۳ قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
إن الحب اتباع وحب الله تعالى فى حقيقته إنما هو اتباع ما أحب سبحانه وما أحبه تعالى قد أنزله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد حققه رسوله صلى الله عليه وسلم في صفائه ونقائه فحب الله تعالى إذن إنما هو اتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم
ويقول الله تعالى
ولقد كان لكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنةٌ لَمَن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله
كثيراً الأحزاب ٢١
إن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم خير ما يحقق النجاة في الدنيا والآخرة فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل الواقعي التطبيقي للدين الإسلامي
إنه الصورة الحية للقرآن الكريم وفى ميسور كل إنسان الاقتداء به إذا توافرت فيه ثلاثة شروط بينتها الآية الكريمة
أولها أن يرجو الله ورجاء الله يبينه الله سبحانه وتعالى بقوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يُشرك بعبادة ربه أحدا
-1-
الكهف ۱۱۱

وأبو الشعثاء والربيع ومقاتل
والرابع
أنه الفقيه العالم قاله سعيد بن المسيب
والخامس أنه التقي رواه سالم عن ابن جبير والسادس أنه الحسن الخلق روى عن الضحاك
والسابع أنه الشريف قاله ابن زيد
والثامن أنه الذى يفوق قومه في الخير قاله الزجاج
وقال ابن الأنباري السيد ها هنا الرئيس والإمام في الخير
وإذا كانت كلمة وسيدا أثارت كل هذه المعانى فإنها من جانب آخر أثارت جدلا حول إطلاقها على الآخرين وهل يجوز أن نقول سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم أو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه
يقول في ذلك العلامة إدريس بن أحمد الوزاني
واستعماله في غير الله سائغ نطق به الكتاب والسنة قال تعالى
وسيدا وحصورا
وقال سبحانه وألفيا سيدها لذا الباب يوسف ٢٥
وقال صلى الله عليه وسلم
أنا سيد ولد آدم ولا فخر
وقال عليه الصلاة والسلام
إن ابني هذا سيد
وقال للأنصار قوموا لسيدكم
أما الإمام النووي فإنه يقول
والأظهر جوازه مطلقا
ومما يؤيد قول الإمام النووى ما رواه الإمام البخاري في صحيحه من قول
سيدنا عمر
أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا

وسيدنا الذى أعتقه أبو بكر رضي الله عنه هو بلال بن رباح رضى الله عنه
- VA -

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شمول وتعميم كما يروى ابن
مردويه بسنده عن أبي جعفر الباقر قال
المنكر
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولتكن منكُمْ أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخير
ثم قال الخير اتباع القرآن وسنتى
ولقد أمرت الآية الكريمة بالدعوة إلى الخير ثم أمرت بالمعروف والنهي عن
وعن هذا المبدإ الإسلامى الأصيل يقول صاحب الإحياء
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهم المهم الذى ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانات وعمت الفتنة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشري الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد وإن لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذى خفنا أن يكون إنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحى بالكلية حقيقته ورسمه واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى فى تلافى هذه الفتنة وسد هذه الثلمة إما متكفلا بعملها أو متقلدا لتنفيذها مجددا لهذه السنة الدائرة ناهضاً بأعبائها ومتشمرًا في إحيائها كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى
الزمان إلى إماتتها ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها اهـ
وكما بين الله تعالى المعروف بيانا شاملا في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة فإنه سبحانه بين المنكر بيانا شافيا أيضًا ومن أجمع الآيات في بيان المنكر
قوله تعالى و قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيَّاهم ولا تقربوا الفوا ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي
-13-

أَحْسَنُ حتَّى يبلغ أَشُدَّهُ وأَوْفُوا الكيل والميزان بالقسط لا تكلف نفسا إلا وسعها وإِذا قلتم فاعدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرُونَ * وَأَنَّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تَتَّبعوا السبل فتفرق بكُم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون الأنعام ١٥١ - ١٥٣
وحينما نكون بصدد المعروف أو بصدد المنكر فإنما نعنى بذلك بيان الإسلام في المعروف وبيانه فى المنكر وذلك أن الغرب له معروف وله منكر وقد يختلف معروف الغرب ومنكره عن معروف الإسلام ومنكره وكثيرا ما يختلفان في الأخلاق وفي الاقتصاد وفي العقيدة وفى مثل هذه الحال فإنه يجب علينا إيثار الجو الإسلامي إيثارا كاملا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث النفيس الحاسم والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جاء به
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
من ابتدع في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضى | الله عنه
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
وصور رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع ووجوب الأخذ على يد المفسد فيه - حتى لا يكون الهلاك - بالصورة الرائعة التالية التي رواها الإمام البخارى عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا وإن أخذرا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا وروى الترمذى عن حذيفة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال
والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن
يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم

- ١٦٣ -

وعن أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
أفضل الجهاد كلمة حق عن سلطان جائر
*
ولقد هدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية إذا تهاونت في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن ابن مسعود رضى الله عنه
إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب
بعضهم ببعض ثم قال
ولعن الذين كفروا من بني إسرائيل عَلَى لِسَان دَاوُود و
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ المائدة ۷۸
ذلك بما عصوا
ثم قال كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد
الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم
وبعد فقد بين سيدنا أبو بكر رضى الله عنه وجوب الأخذ على يد الظالم
مبينا الأمر في غاية الدقة فى موضوع آية اشتبه على كثير من الناس تفسيرها فعنه رضى الله عنه قال
يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية
يأيها الذين آمنوا عليكم أَنفُسَكُمْ لا يضركُم من ضَلَّ إِذَا اهتديتم
المائدة ١٠٥ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ا
الله
بعقاب منه
-12-

يقول الله تعالى
١٠٥ ﴿ وَلا تَكُونُوا كالذين تفرقُوا واختلفوا من بعد ما جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ
عذاب عظیم أخرج الدارمي بسنده عن عبد الله بن مسعود قال
خط لنا رسول هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال
الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ثم قال
J
هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا وأن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السبل فتفرق بِكُمْ عَن سَبِيلِه ذَلِكُمْ وَصَاكُم به لعلكم تتقون الأنعام ١٥٣ وأن من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلى من الليل
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم
والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على الاتحاد وعدم الفرقة إنه
سبحانه وتعالى يقول
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكُمْ واصْبِرُوا إِنَّ الله مع الصابرين
الأنفال ٤٦
ويعرض الإمام ابن تيمية موقف السلف فيقول
إن السلف كان اعتصامهم بالقرآن والإيمان فلما حدث ما حدث في الأمة من التفرق والاختلاف صار أهل التفرق والاختلاف شيعا وعمدتهم في الباطن ليست على القرآن والإيمان ولكن على أصول ابتدعها شيوخهم عليها يعتمدون في التوحيد والصفات والقدر والإيمان بالرسول وغير ذلك - ثم ما ظنوا أنه يوافقها من القرآن احتجوا به وما خالفها تأولوه فلهذا تجدهم إذا احتجوا بالقرآن والحديث لم يعتنوا بتحرير دلالتهما ولم يستقصوا ما فى القرآن من ذلك المعنى
-10-

إذ كان اعتمادهم في نفس الأمر إلى غير ذلك والآيات التي تخالفهم يشرعون في تأويلها شروع من قصد ردها كيف أمكن ليس مقصوده أن يفهم مراد الرسول بل أن يدفع منازعه من الاحتجاج بها ثم قال
فعلى كل مؤمن ألا يتكلم فى شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ولا يتقدم بين يديه بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعلمه تبعا لأمره كما كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله ولا يوسوس دينا غير ما جاء به الرسول وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول فمنه يتعلم
وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل فهذا أصل أهل السنة
ولقد أخرج ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ادخلو على ولا يدخل على إلا قرشى فقال
يا معشر قريش أنتم الولاة بعدى لهذا الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
والواقع أن التفرق والاختلاف لهما أسباب
منها النزاع على الأشخاص - الذى انبثق منه أحزاب دينية تمثلت في المبدا في أنصار على - كرم الله وجهه - وأنصار خصومه - واستمر حزب على رضى الله عنه للآن وإن اندثرت الأحزاب التى وقفت فى وجهه فى أول الأمر وهو الخوارج والسفيانيون
بيد أن الملاحظة السهلة هى أن الإسلام - كعقيدة - لا دخل له في
الأشخاص باعتبارهم أشخاصا وليس فيه إلا شخصية الرسول صلى الله وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وانتقل إلى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا
عليه
أما غيره من الأشخاص فليس الأمر فيما يتعلق بهم ركنا من أركان الإسلام
-1-

ومع ذلك فقد وردت الأحاديث في مدحهم أنصارا ومهاجرين والمسلم من أهل السنة يقول دائما بشأن ما وقع من خلاف بين الصحابة
تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فيجب علينا أن نظهر ألسنتنا من التحدث
بالسوء عنها
ولقد اجتمع مرة أصدقاء الإمام الكبير سُفيان الثورى بعد وفاته وأخذوا يتحدثون عن مناقبه الفاضلة ولما سكتوا قال قائل إني لأعلم منقبة من أكرم المناقب لم تذكروها - فصغت إليه الآذان وهفت إليه الأفئدة فقال
سلامة صدره بالنسبة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وسلامة الصدر على وجه العموم من الأمور التى وردت فيها الأخبار الطيبة والبشريات الكريمة لمن تمتعوا بها ففى أخبار الصحابة رضوان الله عليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أحد الصحابة بالجنة في مجلس من المجالس ودعت هذه البشرى رجلا آخر أن يعرف سبب هذه البشرى طيلة ثلاثة أيام يتفقد عبادته ومعاملته فلم يجد منه شيئًا خارقا لقد وجده يصلى كما يصلى الصحابة في خشوع وينام ليله وإن كان يستيقظ قبل الفجر يتأهب بالعبادة والاستغفار كما يفعل الصحابة ويعمل بالنهار لكسب حياته وهذا يفعله كل
صحابی
وكان هذا السلوك العادى مما أثار دهشة الضيف كيف حظى بالبشرى ولا سهر ولا جد في العبادة أكثر من أداء الفرائض فسأله بعد هذه المدة التي قضاها في ضيافته ما سبب هذه البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فأخبره الرجل أنه لا يبيت وفى صدره شيء لأحد من المسلمين وإنما يبيت وهو سليم الصدر بالنسبة لكل مسلم ونحن الآن فى أشد الحاجة بالنسبة لهذا النوع من سلامة الصدر وذلك أنه مازال هناك قوم يسبون بعض الصحابة رضوان الله عليهم بل يصل بهم الأمر إلى الحديث الذى لايليق عمن قال له رسول الله الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وعمن أعز الله به الإسلام وعن كثير غيرهم ممن نصر الله بهم دينه وأحبهم رسوله وبشر البعض منهم بالجنة
صلى |
- 18 -

وبعد فإن هذا النوع من أسباب التفرق والاختلاف إنما كان بسبب الأشخاص وهو أشبه بالسياسة منه بالدين
وإذا كان هذا الموضوع مازال محتاجا إلى مزيد إيضاح فيما يتعلق بالأسباب
التي تتصل بالدين
يقول الله تعالى
١٠٦ ١٠٧ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فَذُوقُوا الْعَذَابَ بمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وأَما الذين ابيضت وجُوهُهُم ففي رحمة الله هُم
فيها خالدون
يقول الإمام البغوى
قال أهل المعاني بياض الوجوه إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وبثواب الله تعالى واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله يدل
عليه قوله تعالى
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة يونس ٢٦ وقال تعالى والذين كسَبُوا السَّيِّئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلةٌ يونس ٢٧ وقال وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة
القيامة ٢٢ ٢٤
وقال ﴿ وُجُوهٌ يَومئذ مُسفَرَةٌ * ضاحكةً مُستبشرة * ووُجُوه يومئذ عليها غبرةٌ * ترهقها فترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ا هـ عبس ٣٨ - ٤٢
والذين تبيض وجوههم هم المخلصون أما الذين تسود وجوههم فإنهم أهل
النفاق وأهل الرياء وكل من يعمل العمل يريد به غير الله تعالى وإذا كان الذين اسودت وجوههم يبكتون ويؤنبون وينتهى بهم الأمر إلى النار بكفرهم فإن الذين ابيضت وجوههم فى رحمة الله فيها خالدون
هم
-14-

۱۰۸ و تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله ـ يريد ظلما للعالمين
۱۰۹ ولله ما في السموات وما في الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمور
إن ما نتلوه عليك إنما هو آيات الله أى دلائله وإرشاداته والمبادئ التي أوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة بينة وهى كلها حق لا مرية فيه وإذا كان الله سبحانه يؤاخذ إنسانًا فإنما يؤاخذه بما كسبت يداه وما كان ربك بظلام للعبيد ولا حاجة لله سبحانه إلى الظلم وهو الغنى الذى له - ملكًا وتصريفا - ما في السماوات وما فى الأرض وإليه يرجع الأمر كله
١١٠ كنتم خير أمة أخرجت للنَّاسِ تأمرون بالمعروف وتنهون عن الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بالله ولو أمن أهل الكتاب لكان خيراً لَهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ۱۱۱ ولن يضروكم إلا أذى وإن يُقَاتِلُوكُمْ يُولُوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ وضربت عليهم الذلة أين ما ثُقِفُوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباء وا بغضب من الله وَضُرِبَتْ عليهم المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه ويَقْتُلُونَ الأَنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وَكَانُوا يعتدون
۱۱
يقول الزجاج
قوله كُنتُم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله كُتب عليكم الصيام البقرة ۱۸۳ وكتب عليكم القصاص البقرة ۱۷۸ فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه النبي صلى الله عليه وسلم يقول فى قوله تعالى كُنتُم خير أمة أخرجت للناس قال أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى 1
سمع
1 أخرجه الترمذى وقال حديث حسن
-19-

ويقول الإمام الخازن
وأصل الأمة الجماعة المجتمعة على الشيء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الجماعة الموصوفون بالإيمان بالله عز وجل وبمحمد صلى الله عليه وسلم خ
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
إن الله لا يجمع أمتى - أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم - على الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار 1
ضلالة ويد
وقوله تعالى تأمرون بالمعروف وتنهون عن الْمُنكَر وتؤمنون بالله
إنما هو بيان وتعليل لهذه الخيرية

لقد حدد الإسلام - بتسميته نفسها - رسالة الأمة الإسلامية بأنها الإسلام أو هي أن تسلم الإنسانية وجهها لله ولقد كلف الإسلام الأمة الإسلامية بذلك ووضع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موضع المبادئ الدينية المقررة بل جعله من الأسس التى تقوم عليها خيرية الأمة الإسلامية وتميزها عن غيرها فالأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله
ويلاحظ - من ترتيب الآية الكريمة - مدى الاهتمام الكبير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد ذكرها الله سبحانه قبل الإيمان به لينبه الأذهان إلى أهميتها وإن كان من المعلوم أن الإيمان بالله أساس كل عمل صالح وأنه بدونه لا تكون النجاة ولا الفلاح
وفي مقابل ذلك يلعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل لأنهم لم يكونوا يتناهون عن منكر فعلوه يقول تعالى
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون المائدة ۷۸ ۷۹۰
1 أخرجه الترمذي
- 1V -

وعن ابن مسعود رضى الله عنه - فيما رواه الإمام مسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ما من نبي بعثه الله في أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل إن الدين الإسلامى رسالة أوجب الله نشرها وإذاعتها على الأمة الإسلامية وكما أوجب الله نشرها وإذاعتها على الأمة الإسلامية في جانب العقيدة فقد أوجب نشرها وإذاعتها في جانب الأخلاق فى جانب الخير في جانب الفضيلة في جانب العدالة في جانب الرحمة وهذا الحديث الشريف بيان لأصل من الأصول
الإسلامية الكبرى في إصلاح المجتمع وفى القيام على توجيهه التوجيه الصحيح والمجتمع أى مجتمع كان تختلف إمكانات أفراده بحسب أوضاعهم وأمكنتهم في المجتمع فبعض الناس مسيطرون مهيمنون فى أيديهم سلطة القانون وسلطة تنفيذه وهؤلاء عليهم واجب الجهاد باليد أى بسلطة القانون الذي بأيديهم وأن يقوم جهادهم على أساس من الدستور الإسلامى وهو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية
وبعض أفراد المجتمع هيا الله لهم جو المعرفة والعلم فنهلوا من هذا المعين العذب وهؤلاء عليهم أن يبشروا بالفضيلة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا عن طريق الموعظة والإقناع والحجة والبرهان
وتأتى بعد ذلك الطبقة التي تجاهد بقلبها
وهذه الطبقة وإن كانت - فى المرتبة الأولى - طبقة الذين لا يستطيعون الجهاد باليد ولا الجهاد باللسان فإنها فى حقيقة الأمر تعم جميع أفراد الأمة أى أن المجاهد بيده يجب أن يكون فى الوقت نفسه مجاهدا بقلبه ۱
۱ ارجع إلى القول في مجاهدة المنكر عند تفسير قوله تعالى ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف
- ۱۷۱ -

وقال - صلوات الله عليه وسلامه

من بر بوالديه وأحسن إليهما فليس له من جزاء إلا الجنة
ويقول - صلوات الله وسلامه عليه - في الحث على صلة الرحم عموما من أحب أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ۱
ومن الرحمة - الرحمة بالجار وقد وردت فى ذلك الأحاديث الكثيرة يقول صلوات الله وسلامه عليه
مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أن سيورثه
وإذا كان الدين قد عين بعض الطوائف بالذات فإنه لم يرد بذلك أن تقتصر الرحمة عليهم لأن المقصود - كما يقول رسول الله الرحمة العامة الرحمة التي تعم العالم بأكمله بل تتجاوزه إلى العوالم الأخرى كل العوالم الأخرى ولذلك قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ الأنبياء ١٠٧ بصيغة الجمع لا بصيغة
الفرد
ونختتم هذا الحديث بآية كريمة من سورة المائدة يبين الله فيها شيئا من
حكمته من إنزال الدين الإسلامى يقول تعالى وقد جاءكم من الله نُورٌ وكِتابٌ مُبِينٌ * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم المائدة ١٥ - ١٦
فالدين إذن نشر السلام وإخراج من الظلمات وهداية إلى الصراط المستقيم ولاشك أن كل ذلك بعض معانى الرحمة ولاشك أن الرحمة خير ما يهدى إلى الإنسانية وخير ما يصدر عنها
- متفق عليه
**
- أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر وأخرجه أيضا الإمام
أحمد والبخارى ومسلم وأصحاب السنن عن عائشة - رضي الله عنها
-14-

أما قوله تعالى
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولُوكُم الأدبار ثُمَّ لا ينصرون
فقد قال مقاتل
إن رؤوس اليهود عمدوا إلى من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية أى لن يضروكم - أيها المؤمنون - إلا أذى
باللسان
وهذا ما كان من التهديد والطعن في الدين والتشكيك فيما أنزل
أما إذا قاتلوكم فإنهم سيفرون منهزمين ثم لا ينصرون وذلك أنه ضربت عليهم الذلة حيثما وجدوا ولا يتخلصون منها إلا بالإيمان الصادق بالله ورسوله أو بأمان وعهد من الناس وهم دائما فى غضب من الله ومقت منه وقد وضربت عليهم المسكنة أي أحاطت بهم كما يضرب الخباء على أهله أو كما يضرب البيت على ساكنيه وكأنهم يسكنون في المسكنة لا يخرجون منها
أما السبب فى ذلك فهو كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق كما قتلوا يحيى وغيره
إن ما نالهم وما ينالهم إنما لأنهم عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ۱۱۳ ليسوا سواء مَنْ أَهْلِ الكتاب أُمَةٌ قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم
يسجدون
١١٤ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الحيرات وأولئك من الصالحين
110 ﴿وما يفعلوا من خير فلن يكفرُوهُ وَالله عَليم بالمتقين
إن أهل الكتاب حينما سمعوا الدعوة افترقوا إلى فرقتين فرقة بقيت على ما
هي عليه مستمرة فى غيها متبعة تقاليدها ولم تستعمل فكرها وحريتها في التبصر فبقيت في ضلالها
- ۱۷ -

وفرقة أخرى يعبر عنها القرآن بكلمة أُمَّة ويصف هذه الأمة بأنها قائمة
يتلون آيات الله أثناء الليل فى هدوء وطمأنينة ويتلونه وهم يصلون
يقول حبر الأمة ابن عباس قائمة أي مهدية قائمة على أمر الله تعالى
لم يضيعوه ولم يتركوه
وقال مجاهد عادلة
وهذه الأمة من أهل الكتاب الذين أسلموا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا ويؤمنون باليوم الآخر على الوجه الصحيح وقد قوى إيمانهم فكان من ثمار ذلك أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى فعل الخيرات حتى لا تفوتهم الفرصة المواتية إذ إن الإنسان لا يدرى ما يحمله الغد في طياته وإنهم لمن
الصالحين
وكل ما يفعلونه من خير مسجل لهم فى سجل حسناتهم وسيوفون أجورهم
غير منقوصة والله عليم بالمتقين
١١٦ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغني عنهم أموالهم ولا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ
أصحاب النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ
۱۱۷ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ في هذه الحياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريح فيها صِرِّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسهمْ فَأهلكته وما ظلمهم اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
إن الله سبحانه أرسل الرسل بالدلائل والآيات البينات فمن آمن فقد استجاب الله تعالى ورضى عنه ومن كفر فلن يحول بينه وبين عذاب الله تعالى فدية من مال أو نصرة من ولد ومن كفر فمصيره إلى النار خالدا فيها ومن كفر فقد حبط عمله ومثل ما ينفق من نفقة فى أعمال البر كمثل زرع لقوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي أصابته ريح شديدة البرودة - والصر شدة البرودة - فأهلكته
والجو الإسلامى قرآنا وسنة يرشد إلى أن من أسباب الكوارث الأساسية الذنوب وقد نبه الله تعالى على ذلك أكثر من مرة ونبه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك
- ۱۷۳ -

ولقد أرسل سيدنا عمر رضى الله عنه إلى أحد قواده ينبه إلى خطورة
معاصى الجنود وأنه إذا ارتكبت المعاصى وفشت في الجيش كانت الهزيمة وكل من ارتكب إنما فأصابته كارثة فإن الله سبحانه وتعالى لم يظلمه بالكارثة ولكن
أَنفُسهمْ يَظْلِمُونَ
۱۱۸ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنتُم
قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخْفِي صُدُورَهُم أكبر قد بينا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تعقلون ۱۱۹ وها أنتم أولاء تُحبونهم ولا يُحبُّونَكُم وتؤمنُونَ بِالْكِتَابِ كُلَّه وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُوا عَلَيْكُمُ الأَنامل من الغيظ قُلْ مُوتُوا بغيظكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ۱۰ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إنَّ الله بما يعملون محيط
الشر
المفردات
لا يألُونَكُم خبالا لا يقصرون في أن يلقوا إليكم بالشر والخبال هو
وَدُوا مَا عَنتُمْ أحبوا عنتكم والعنت المشقة
يقول الإمام ابن عباس
كان رجال من المسلمين يواصلوا اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم
والبطانة خاصة الرجل ومن يسر إليهم بأسراره
والآية الكريمة وإن كان سبب نزولها خاصا إلا أن معناها عام فهي تحذر المؤمنين وتنهاهم عن اتخاذ البطانة من غيرهم لأن هذه البطانة وإن أظهرت المودة فإنها تسر الشر ولو لاحظهم المسلمون فى دقة لرأوا العداوة تظهر في كلماتهم وإن ما تخفيه صدورهم من الشر والبغضاء لأكثر مما يظهر على ألسنتهم
- \VE -

ويختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله
وقد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون
ومن إيمان المسلم أن يؤمن بالكتب كلها التي أنزلت على الرسل صلوات الله
وسلامه عليهم
بالقدر
فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن
وأراد فى الآية الكريمة بالكتاب جنس الكتب
والإيمان بالكتب معناه أن الله تعالى أنزل على رسله كتبا بيد أن هذه الكتب
بعضها اندثر وبعضها غير فيه وبدل
عنه
والقرآن هو المهيمن عليها المبين للصحيح الصادق منها وقد قال الله تعالى
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لَهُ لَحَافِظُونَ الحجر ٩
وأما قوله تعالى عَضُوا عليكم الأنامل من الغيظ فمعناه اشتد غيظهم شدة
عظيمة
وهم في عداوتهم لا يحبون لكم الخير فهم يحزنون إذا رزقتم الخير ويفرحون إذا أصابتكم السيئة وإن تتخذوا الصبر شعارا فإن مكرهم لا يضركم في قليل ولا كثير فالله تعالى بكل ما يعملون محيط وهو سبحانه مع الصابرين وقد قال سبحانه و ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين الأنفال ٣٠ أي يرد مكرهم عليهم
۱۱ وإذ غدوت من أهلك تُبوى المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ۱ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون وإذ غدوت من أهلك وإذ أصبحت خارجا من عند أهلك ﴿تَبوَى الْمُؤْمِنِين
مقاعد للقتال تنزل المؤمنين فى أماكنهم التى يبدأون المعركة منها والله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم
-10-

وإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما أما الطائفتان اللتان همتا بالفشل فعن جابر رضى الله عنه قال نزلت فينا إذْ هَمت طائفتان منكُمْ أَن تفشلا والله وليهما
قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل أما قوله وما يسرني أنها لم تنزل فإن ذلك لقول الله في الآية الكريمة الله وليهما ففى ذلك بشرى بأن الله وليهما وأن ما حصل منهما لم يخرجهما من ولاية الله تعالى فإنه ما كان إلا هما لم
يقع
وهاتان الآيتان تتحدثان عن موقعة أحد يقول أصحاب السيرة
غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها

يمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح قال محمد بن إسحاق والسدى عن رجالهما إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه
الله
ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد ا ابن أبى وأكثر الأنصار يارسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا
إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأى وقال بعض أصحابه يارسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إني رأيت فى منامى بقراً مذبوحة فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفى ثلما فأولتها هزيمة ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وكان يعجبه أن يدخلوا عليهم بالمدينة فيقاتلوا في الأزقة فقال رجل من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج
-18-

۱۹ ولله ما في السموات و
يغفرُ لمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَالله
غَفُورٌ رَحِيمٌ
بعد أن تحدث الله سبحانه عن غزوة أحد وهى الغزوة التي بدا فيها أن الجيش الإسلامي قد هزم أخذ يذكر المؤمنين بنعمه عليهم في بدر ليبين لهم أن الهزيمة لم تكن تخليا عنهم
وغزوة بدر فيها كثير من العظات والعبر لقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين قبل خوض المعركة وكان فى المسلمين شجاعة وكان فيهم ثقة في الله تعالى وكانت شجاعتهم مستمدة من ثقتهم فى الله سبحانه كان إيمانهم قويا وكلما كان الإيمان قويا أثمر الشجاعة ومن صالح الدولة أن تنشر الوعى الإيماني إذا أرادت أن يكون جيشها قويا شجاعًا وما من شك في أن كل من يعمل بأسلوب أو بآخر على ضعف الإيمان في النفوس خائن لوطنه كما هو عدو لدينه ومن الخائنين لدينهم ووطنهم هؤلاء الذين ينشرون الصور الخليعة أو ينتجون الأفلام المفسدة أو ينشرون كتب الجنس أو يؤلفونها أو يدعون إلى الآراء المستوردة
التي تنافي الإيمان
ونعود فنقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في خوض المعركة فقام المقداد بن عمرو وقال
يارسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون
فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - وبرك الغماد مكان بأقصى اليمن - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه
هذا الموقف من المقداد بن عمرو تمنى ابن مسعود رضى الله عنه أن يكون
صاحبه
روى عنه أبو نعيم أنه قال في ذلك شهدت من المقداد بن عمرو مشهدا لأن
أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به
- ۱۷۸ -

ولما قال المقداد ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به ولم يكن الأنصار قد أبدوا رأيهم بعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا على أيها الناس - وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم هم الأكثر عددا ولأنهم من جانب آخر حين بايعوه بالعقبة - قالوا
يارسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دورنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا
9
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو خارج
بلاده
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ
والله لكأنك تريدنا يا رسول الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل
قال سعد رضى الله عنه
قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يارسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن نلقى عدونا غدا إنا لصبر فى الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله
وقال سعد أيضا حسبما رواه ابن كثير
ولعل أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من
شئت وخذ من أموالنا ما شئت
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد كما سر من قبل بقول
الله
المقداد رضى عنهم أجمعين
۱۷۹ -

وكانت نتيجة الشورى العزم على خوض المعركة فلما استقر الأمر على النزول
في مكان معين تقدم الحباب بن المنذر وقال
يارسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا
نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة
قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة
به
فقال يارسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبنى عليه حوضا فنلمؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد أشرت بالرأى
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية
وجاء نصر الله باهرا قويا وضاء وعلى خلاف كل ما كانت تتوقعه الجزيرة العربية لقد نصرهم الله وكانوا أذلة نصرهم بإيمانهم ونصرهم لإيمانهم ثم أحب أن ينبههم إلى الشكر واقتضاهم بهذا التنبيه شكره فكان الشكر الذي اقتضاه زيادة في الشعور الإيماني إنه التقوى وكانت التقوى هى الشكر على النصر
ويخاطب الله تعالى رسوله مذكرا له بقوله للمؤمنين
ألن يكفيكم أن يُمدَكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزِلِينَ ﴾
يقول قتادة عن الإمداد المذكور في الآيه الكريمة
كان يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال
فاستجاب لَكُمْ أَنَى مُمدَّكُم بألف من الملائكة مُردفين الأنفال ٩ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسه آلاف كما ذكر هاهنا بثلاث آلاف من الملائكة منزلين وبلى إن
- 14 -

تصبروا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُم من فورهم هذا يُمْدِدْكُمْ رَبَّكُم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة كما وعد
وهذا الوعد وهذا المدد هو بشرى للمسلمين ولأجل أن تطمئن قلوبهم إلى رعاية الله لهم ولكن ذلك ليس هو السبب الحقيقى فى النصر فإن النصر يرجع إلى الله وحده كما أن كل الأمور بيد الله يسيرها بحكمته
ومن حكمته فى هذا النصر أن يقضى على جملة من رؤوس الكفر ومنهم أبوجهل ليقطع طرفا أي يهلك طائفة
ثم يعقب الله تعالى على ذلك بقوله لرسوله ليس لك من الأمر شيء وعقيدة المؤمن أن ليس لبشر مع ا الله شيء فهو سبحانه الذي يتوب على البعض ويعذب البعض بظلمهم وله سبحانه كل ما في السماوات وكل ما في الأرض يغفر لمن يشاء برحمته ويعذب من يشاء بعدله وهو الغفور الرحيم ۱۳۰ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الربا أضعافا مضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
۱۳۱ واتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعدت للكافرين
۱۳ وأطيعوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
۱ ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَعدَتْ
للمتقين
١٣٤ الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاء والكاظمينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
۱۳۵ ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن
يغفرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وهم يعلمون ١٣٦ وأولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
ونعم أجر العاملين
-141-

في فضل سورة آل عمران
1 عن أبي أمامة الباهلي رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول
اقرءوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو غيايتان - أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة
1
قال معاوية بن سلام بلغني أن البطلة السحرة الغيايتان مثنى غياية - بغين معجمة وياءين مثناتين تحت - وهي كل
شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة والغاشية ونحوها
- وعن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول
يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه
سورة البقرة وآل عمران
قال
وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد
كأنهما غمامتان أو ظلتان سود أو بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير
صواف يحاجان عن صاحبهما ۳
ا رواه مسلم
الترغيب والترهيب للحافظ المنذري
- رواه مسلم والترمذى وقال حديث حسن غريب
-Y -

۱۳۷ وقد خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةً
المكذبين
۱۳۸ هذا بيان للنَّاسِ وَهُدى وموعظة للمتقين
بعد أن تحدث سبحانه عن الربا - والربا من سمات قساة القلوب - تحدث سبحانه عن سمات المتقين وبدأ سبحانه الحديث مخاطبا لهم آمرا أن يبادروا إلى ما يوجب المغفرة فعبر سبحانه عن المبادرة إلى الأسباب بالمبادرة إلى المغفرة نفسها والمسارعة إلى المغفرة مسارعة إلى الجنة ولم يقل سبحانه
ثم إلى جنة وإنما قال وجنة كأن المغفرة والجنة لا بعد بينهما حتى
يفرق بينهما بثم
أما أسباب المغفرة فهى وإن كانت كثيرة إلا أنها تعود جميعا إلى التوبة
الصادقة
ولقد فتح الله كثيرا من الأبواب للدخول منها إلى المغفرة والجنة ومن هذه
الأبواب
من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه 1 من قام رمضان إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ۳ من جج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمة 4 من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ٥
۱ رواه الشيخان
رواه الشيخان
۳ رواه الشيخان
٤ رواه الشيخان
۵ رواه مسلم
-۱۸-

و إن تَتَّقُوا الله يجعل لَكُمْ فُرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ﴾ الانفال ٢٩
ورحمة الله أوسع من ذلك بكثير وهو سبحانه القائل
والله رءوف بالعباد آل عمران ٣٠
والجنة التي أمر الله تعالى بالمسارعة إليها عرضها السماوات والأرض فما بالك بطولها وقد أعدها الله تعالى للمتقين
أما المتقون فإنهم صفوة عباد الله تعالى وقد وصفهم سبحانه بأوصاف هي ذروة الخلق الكريم منها ما ذكره سبحانه وتعالى هنا وأولها الكرم إنهم ينفقون في كل أحوالهم ينفقون في السراء وينفقون في الضراء وينفقون سرا وينفقون جهرا وينفقون في اليسر وينفقون فى العسر ينفقون بالليل وينفقون بالنهار وآيات القرآن الكريم التي تحث على الإنفاق كثيرة وأحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم في البذل متعددة
ومن أحاديثه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة - فيما أخرجه الترمذى - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال
السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل
وسلم
وعن أبى هريرة - فيما رواه الشيخان - قال قال رسول الله صلى ا الله
عليه
ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط
منفقا خلفًا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا
بعد ذلك ذكر الله من صفاتهم
والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسنين
إن الأخلاق القرآنية تحدد الخلق الكريم فى حده الأدنى وترسم الفضيلة في
-۱۸۳-

درجاتها الأولى ثم لا يقتصر القرآن على ذلك وإنما يرسم القمم من مكارم الأخلاق ويوجه إلى السنام منها ويقود إلى المشارف العليا من درجات المقربين
إنه يتحدث عن المقتصد
وعن السابق بالخيرات
إنه يتحدث عن أصحاب اليمين
ويتحدث عن المقربين ويبين أن المقربين أقل عددا من أصحاب اليمين فهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
أما أصحاب اليمين فإنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين على حد التعبير عن أصحاب اليمين وعن المقربين في سورة الواقعة
هي
ولنضرب لذلك مثلا
إن مقابلة السيئة بالسيئة عدل
يقول الله تعالى
وجزاء سيئة سَيِّئَةٌ مَثْلُهَا ﴾ الشورى ٤٠
ولكن القرآن - مع بيان عدالة هذا - يذكر درجة أعلى من الخلق الكريم تلك
درجة كظم الغيظ
a
وهذا الذي - مع مقدرته على مقابلة السيئة بالسيئة - بكظم غيظه أسمى في ميزان الأخلاق الكريمة من الذى يقابل السيئة بالسيئة ولا يقف القرآن عند
هذا الحد ذلك
أنه يرسم درجة ثالثة من الخلق الكريم وذلك أنه يتجاوز مقابلة السيئة
بالسيئة
الغيظ
و كظم الغيظ إلى العفو
والعفو مع المقدرة أسمى من مقابلة السيئة بالسيئة وأسمى من كظم
- ١٨٤ -

ثم يتجاوز القرآن كل ذلك إلى الدرجة العليا ودرجة المقربين
وهى الإحسان
يقول تعالى
وجزاء سيئة سيئة مثلها فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرَهُ عَلَى الله
ويقول تعالى
والكاظمين الغيظ والعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
إنها درجات من الخلق الكريم كلها كريمة بيد أنها تتفاوت فيما بينها من
كريم إلى أكرم كتفاوت الناس فى الشرف من شريف إلى أشرف
ويصل المتقون إلى الذروة التى عبر ا الله تعالى عنها بقوله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسنين والإحسان هنا كما يعنى السخاء فإنه يعنى إتقان
العمل وإجادته
ومن أوصاف المتقين أنهم إذا أذنبوا ذنبا عظيما أو يسيرا ذكروا الله فاستغفروا ورجعوا إليه سبحانه بالتوبة الصادقة والتضرع المخلص إنهم يستغفرون ولا يصرون على الذنب
يقول
قال البغوى يقول الحسن البصرى رضى الله عنه
إتيان العبد ذنبا عمدا إصرار حتى يتوب
وعن أبي بكر رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عله وسلم
ما من عبد مؤمن يذنب ذنباً فيقوم فيتطهر ثم يصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذكروا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يعلمون ۱
1 أخرجه أبو داود والترمذي
11401

وعن ابن عباس رضى الله عنه فيما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال
من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا
ورزقه من حيث لا يحتسب
هؤلاء المتقون جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار
يقول الإمام المخازن
معنى الآية أن المطلوب بالتوبة أمران
أحدهما الأمن من العقاب وإليه الإشارة بقوله
مغفرة من ربهم
والثاني إيصال الثواب وإليه الإشارة بقوله
وجنات تجري من تحتها الأنهار
ثم ينبه الله تعالى الأذهان إلى سننه فى الكون ويدعوهم إلى النظر والتأمل يقول مجاهد قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم فسيروا في الأرض لتروا آثار الذين دمرهم الله جزاء تكذيبهم بالحق وتمردهم على ما أنزل
سبحانه
وهذا الذى بينه سبحانه إنما هو بيان للناس كافة وهو هدى من الضلال
وهو موعظة لقلوب المؤمنين على الخصوص
۱۳۹ و ولا تهنوا ولا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَونَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ
١٤٠ إن يمسكم فرح فقد مَس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شُهَدَاء وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالمين
١٤١ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
-١٨٦-

وأخذت الآيات تتحدث عن غزوة أحد بهذا الحديث الرائع
إن المؤمن - وكله ثقة بالله - لا يذل ولا يهن ولا يحزن إذا أصابته كارثة لأنه بإيمانه الصادق هو الأعلى دائما وشأنه فى الكوارث أن يتدبر العظة والعبرة وأن يسأل نفسه على علة الكارثة وعن حكمتها فإن الله سبحانه يؤاخذ الناس بذنوبهم والقرح هو الجراح وهو أثر الجراح من الألم وإذا كنتم قد أصابكم القرح
في أحد فإن القوم قد أصابهم القرح في بدر
والأيام دول يوم لك ويوم عليك ومن كان مع ا الله دائما كان الله معه دائما أما الحكمة فى هذه الهزيمة يوم أحد فذلك ليعلم الله - وهو العالم دائما - أى ليظهر الذين آمنوا إيمانا صادقا ومن أجل أن يتخذ منكم شهداء وكأن الله تعالى بهذه الكلمة يحب أن يتخذ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء يكرمهم بالشهادة ويبوئهم مكانة عظيمة في الشرف والبطولة والثواب
وحينما يكون من حكمة الهزيمة أن يتخذ الله شهداء فإنها لا تكون نقمة وإنما تكون نعمة ومن حكمة الهزيمة أن يطهر الله الذين آمنوا بالابتلاء والآلام
ويفنى الكافرين
والآية الكريمة تنبه إلى أنه إذا قتلكم المشركون فإنه استشهاد تعقبه الجنة
وإن قتلتموهم فهو هلاكهم وفناؤهم
وعن غزوة أحد يقول البراء بن عازب رضى الله عنه
جعل النبى صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من
-۱۸۷-

الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله
والرسول يدعُوكُمْ فِي أَخْرَاكُم
فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فأصابوا منا سبعين كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا
فقال أبو سفيان أفى القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفى القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقى لك ما يسوءك
فقال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم أمر بها ولم تسؤنى ثم أخذ يرتجز اعل هبل - اعل هبل
فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه
قالوا يا رسول الله ما نقول
قال قولوا الله أعلى وأجل
قال إن لنا العزى ولا عزى لكم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه
قالوا يارسول الله ما نقول
قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم
وروى هذا المعنى عن ابن عباس رضى الله عنهما وفي حديثه قال
أبوسفيان بوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال
فقال عمر رضى الله عنه لا سواء قتلانا فى الجنة وقتلاكم في النار
قال الزجاج الدولة تكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى
-۱۸۸-

وإن جندنا لهم الغالبون الصافات ۱۷۳
وكانت يوم
عليه وسلم
أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله
١٤٢ أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّةَ وَلَمَّا يعلم اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعلَم
الصابرين
١٤٣ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتُمُوهُ وأَنتُم تَنظُرُون ١٤٤ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أعقابكم ومن ينقلب على عقبيهِ فَلَن يَضُر الله شيئًا وَسَيَجْزِي الله الشاكرين ١٤٥ وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تَمُوت إلا بإذن الله كتاباً مُوْجَلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُوته
منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين
وتستمر الآيات في مخاطبة المؤمنين بمناسبة غزوة أحد
هل تصورتم دخول الجنة من السهولة بحيث يكون دون اختبار يظهر الله تعالى
فيه الذين جاهدوا منكم ويظهر فيه الصابرين
يقول حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه
ولما أخبر الله
عز وجل المؤمنين على لسان نبيه صلى
الله
عليه وسلم بما فعل بشهدائهم يوم بدر من الكرامة رغبوا فى ذلك فتمنوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون بإخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء الله منهم فأنزل الله هذه الآية
وشاع بين المسلمين - حينما انهزموا - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استشهد فعمت البلبلة حتى لقد جلس بعض الصحابة وألقوا ما بأيديهم وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم الأول فقال
أنس بن النضر عم أنس بن مالك
-149-

ياقوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ماقاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعنى المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعنى المنافقين - ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل
وأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك رضى الله
عنه قال
عرفت عينيه تحت المغفر تزهوان فناديت بأعلى صوتي
يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبى صلى الله عليه وسلم على الفرار فقالوا يانبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت
فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين
فأنزل
الله تعالى
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
والآجال بيدا
أحد إلا باذنه سبحانه
الله والآجال قدر إنها قدر علمه وقدره منذ الأزل ولا يموت
ويقول صاحب لباب التأويل
والمراد من الآية تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وأن الحذر لا يدفع المقدور وأن أحدا لا يموت قبل أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الخوف والجبن
ولقد كتب الله تعالى لكل نفس أجلا لا تتقدم عنه ولا تتأخر والناس في هذه الحياة يسيرون طرائق مختلفة منهم من يريد بعمله دنياه وإرادته مترتبة على نيته وسرائره ومنهم من يريد بعمله آخرته قصده إليها ورغبته مركزة فيها والله تعالى
-19-

يؤتى كلا حسبما يشاء - سبحانه - ويفسر هذه الآية فى تفصيل قوله تعالى
ومن كان يريد العاجلة عجلنا لَهُ فيها ما نشاء لمن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهُو مؤمن فأولئك كان سعيهُم مَشكُورًا كُلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً الإسراء ۱۸ - ۱ ويقول رسول ا الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البغوى بسنده عن أنس بن مالك ۱
من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب الله له
أما صلة النية بطرائق الناس في الحياة فيروى الإمام البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
١٤٦ وكأين من نبي قاتل معهُ رَبَّيُّون كثير فما وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا
ضعفوا وما استكانوا واللهُ يُحِبُّ الصَّابرين
١٤٧ وما كان قولهُمْ إِلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين
١٤٨ فَآتَاهُم الله ثواب الدُّنْيَا وَحُسن ثواب برة والله يحب المحسنين
وكأين من نبي وكم من نبي أى كثير
1 أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت بلفظ مقارب
-191-

ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم أنه يجىء ثواب قراءته كذا فسر بعض
أهل العلم هذا الحديث وما يشبهه من الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن وفي حديث نواس - يعنى هذا - ما يدل على ما فسروا إذ قال وأهله الذين كانوا يعملون به فى الدنيا ففى هذا دلالة على أنه يجيء ثواب العمل
" قوله بينهما شرق هو - بفتح المعجمة وقد تكسر وبسكون الراء بعدهما
قاف بينهما فرق يضيء

٣- وعن ابن بريدة عن أبيه رضى الله عنه مرفوعا
تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف
وأخرج سعيد بن المنصور والبيهقى فى شعب الإيمان عن عمر بن
الخطاب قال
من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء
ه وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير قال قرأ رجل البقرة وآل عمران فقال كعب
قد قرأ سورتين فيهما الاسم الذي إذا دعى به استجاب
۱ الم

إنها أول آية من سورة آل عمران وكما بدأت سورة البقرة بهذه الآية كذلك بدأت سورة آل عمران وفى القرآن الكريم عدة سور بدأت بحروف مختلفة أحيانا
ومتشابهة أحيانا أخرى
ا انظر كتاب الترغيب والترهيب
رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم
- ۱ -

١٥١ سنلقي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يَنزِلَ بِهِ سُلْطَانًا ومَأْوَاهُمُ النَّار وبئس مثوى الظالمين
وإذا صدق المسلمون في إيمانهم فإن المشركين يغمرهم الرعب والفزع منهم
وكلمة هو ما لم ينزل به سُلْطَانًا أى حجة وبيانًا من عنده وسميت الحجة
سلطانا لأنها لقوتها تدفع الباطل وتنفيه مثوى أي مقام ومستقر
١٥٢ ولقد صدقكُمُ اللَّهُ وَعدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشَلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وعصيتُم مِن بعد ما أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤمنين }
تحسونهم تقتلونهم
لقد صدقهم الله وعده فأخذوا يقتلون المشركين وكانوا منتصرين ولكن الرماة تنازعوا وعصوا بعد ما رأوا النصر فترك أكثرهم موقعه وأخذ يجمع الغنيمة مريدا الدنيا وبقى الأقل فى موقعه مريدا للآخرة فكانت الهزيمة لقد صرف المسلمون عن قتال المشركين فانهزموا وكانت الهزيمة ابتلاء من الله تعالى لعصيانهم ثم جاء العفو والله ذو فضل على المؤمنين ورحمة بهم ومن المعروف أن الرماة وعلى رأسهم عبد الله بن جبير لما انهزم المشركون قال بعضهم لبعض أى قوم ما نصنع بمقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ثم أقبلوا على الغنيمة وقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جبير أمير القوم فى نفر يسير دون العشرة ممن كان معه فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وتحولت الريح من نصر إلى
هزيمة
-۱۹۳-

١٥٣ إِذْ تصعدون ولا تلوونَ عَلَى أَحدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَتَابَكُمْ غَما بغم لكيلا تَحْزَنُوا على ما فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
واذكروا وقت الإصعاد في الأرض أى الإبعاد فيها أى الفرار وأنتم لا تلتفتون إلى أحد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى عباد الله إلى عباد الله ولكنكم فى فراركم لم تلتفتوا إلى نداء فكان جزاؤكم من الله تعالى عما بغم والغم الأول هو أنهم غموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خالفوا
أمره وتسبب ذلك في الهزيمة
والغم الثاني الجزاء الذي نالوه من القتل والهزيمة ثم عفا عنكم لكيلا
تحزنوا على ما في ما فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُم
يقول الإمام ابن عباس رضى الله عنه الذي فاتهم الغنيمة والذي
أصابهم القتل والهزيمة
والله خبير بما تعملون يسيرا كان أو عظيما وهو يجازيكم عليها
١٥٤ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمَ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَتَهُمْ أَنفُسَهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَا الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وليمحص ما في قلوبكم والله عَليم بذات الصدور
و أمنة معناها أمنا ممثلا فى إلقاء النعاس والنعاس أخف من النوم ولا ينعس إلا من يأمن
عن أبي طلحة قال غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفى يسقط من يدى وآخذه ويسقط وآخذه وهذا النعاس يغشى طائفة المؤمنين الذين أسلموا أمرهم لله وتوكلوا عليه أما المنافقون فقد أهمتهم أنفسهم وبقوا في خوفهم فلم يقع عليهم النعاس
وقد غمرهم من الشعور ما يغمر الذين خلت قلوبهم من الإيمان فهم يظنون
-198-

بالله ظن الجاهلية أى لا يؤمنون بأن الله بيده مقاليد الأمور وأن الأمر كله لله وهذا الظن غير حق وقد رتبوا على ظنهم القول هل لنا من الأمر من شيء أى أن محمداً لم يترك لنا شيئًا من الأمر منكرين بذلك أن الله سبحانه هو المتصرف الوحيد فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم الحق فيقول لهم إِنَّ الأمر كله لله ﴾ إنهم منافقون والمنافق يسر في نفسه ما لا يبديه وإنهم ليخفون في أنفسهم من
الشك والكفر مالا يظهرون
عن ابن عباس رضى الله عنه في قوله تعالى
يظُنُّونَ بالله غير الحق التكذيب بالقدر وهو قولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا
ويأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم الحق وهو أنهم لو كانوا في بيوتهم محصنين تحصينا كاملا ثم جاء أجلهم لخرج الذين قضى الله عليهم الموت إلى حيث مصيرهم المحتوم
على أنه من حكمة هذه الهزيمة أن يختبر الله ما في صدوركم فيظهره فاسدا أو صادقا ليميز الخبيث من الطيب وأيضًا من أجل أن يمحص ما في
قلوبكم
يقول قتادة أى يطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو وإظهار سرائر المنافقين وعلى ذلك يكون ﴿ وليمحص ما في قُلُوبِكُم للمؤمنين خاصة والله عليم بذات الصدور
١٥٥ وإن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنَّما استزلَهُمُ الشَّيْطانُ كسبوا ولقد عفا الله عنهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾
ما
إن الذين انهزموا ففروا يوم أحد إنما أوقعهم الشيطان في هذه الزلة ببعض
ما كسبوا
يقول الحسن البصرى رضى الله عنه
مَا كَسَبُوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة
ولقد عفا الله عنهم
-190-

قيل إن عثمان عوتب في هزيمة يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن
الله قد عفا عنه وقرأ هذه الآية وتنتهى الآية بقول الله تعالى
و إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَليم
١٥٦ ويا أَيُّها الذين آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذين كفروا وقَالُوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانُوا غُزَّى لَو كَانُوا عندنا ما مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون
١٥٧ و ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ١٥٨ وَلَئِن متم أو قتلتُم لإلى الله تُحْشَرُونَ
يخاطب الله المؤمنين أمرا لهم ألا يكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم حينما يسافرون للتجارة أو يذهبون إلى الجهاد ثم يموتون أو يقتلون لو كانوا قد أقاموا معنا في أماكنهم ما ماتوا وما قتلوا إن هذا القول المترتب على الاعتقاد بذلك يجعله الله حسرة فى قلوبهم حينما يموت أو يقتل بعض أحبائهم أو أقاربهم
في سفر أو في جهاد
والحق أن الأمر بيد الله يحيى ويميت وهو بما تعملون بصير على أن من قتل في سبيل الله أو مات فى طاعته فإن ما يناله من مغفرة ورحمة خير مما يجمع من مال وغنائم لو بقى على قيد الحياة
وما من شك فى أن كل من يموت أو يقتل فإنه إلى الله مرجعه إليه يعود
وإليه يحشر
ويقول الإمام الخازن علاء الدين على بن محمد عند تفسير هذه الآية
الكريمة
يعني لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب تحشرون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم وقد قسم بعض مقامات العبودية ثلاثة أقسام فمن عبد الله خوفا من ناره أمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله
-19-

تعالى لَمَغْفِرَةٌ من الله ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله تعالى ﴿ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبد الله شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلى له الحق سبحانه وتعالى في دار كرامته وإليه الإشارة بقوله لإلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ١٥٩ وفيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَولَكَ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فَإِذَا عزمت فتوكل على الله إِنَّ الله يُحب المتوكلين
إن رحمة الله تعالى وفقتك للرفق ولين الجانب ولو كنت قاسيا جافيًا لذهبوا عنك وانفضوا من حولك فتجاوز عن زلاتهم واستغفر الله لهم وشاورهم في الأمر
يقول الحسن البصري
قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من
بعده من أمته
وقالت عائشة رضى الله عنها - فيما رواه الإمام البغوى بسنده - ما رأيت
رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما من شك في أن كل ما نزل فيه وحى لا مجال للاستشارة فيه وموضوع
الاستشارة فيما لم ينزل فيه وحى
ويقول الله تعالى في ذلك أيضا

وأمرهم شورى بينهم ﴾ الشورى ۸
والشورى مبدأ هام من مبادئ الإسلام وإذا تحققت فى قطر فإنها تحول دون
الاستبداد والتحكم وطغيان الفرد وحينما تنتهى الشورى ويتبين لك الحق فاعزم
وإذا عزمت فتوكل على
الله
إن الله يحب المتوكلين
١٦٠ وإن ينصركم ! اللهُ فَلا غَالب لَكُمْ وَإِن يَخْذُلُكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مَنْ بعده
وعلى الله فليتوكل المؤمنون
-19V-

١٦١ وما كان لنبي أن
ل يَأْت بما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوفَى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كسبت وهم لا يُظْلَمُون
١٦٢ أَفَمَن اتَّبع رضوان الله كَمَن بَاءَ بسخط من الله ومَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وبئس المصير
١٦٣ و هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون
لا يتأتى أن يختلس نبى من الأنبياء شيئا من أسلاب الحرب
والغلول الاختلاس والسرقة السرية
ومن يختلس من غنائم الحرب خصوصا ومن غيرها على وجه العموم يأت بما اختلس يوم القيامة وينال جزاءه عذابا ومهانة من غير ظلم وقد ورد في الغلول أحاديث صحيحة منها ما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال
لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يارسول الله أغثتى فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يارسول الله أغثنى فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته نفس لها صياح فيقول يارسول الله أغثنى فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يارسول الله أغثنى فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يارسول الله أغثى فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك
-194-

وفى اللغة الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة
ولا ريب في أن من أطاع الله فاتبع رضوانه ولم يغل ليس مثله كمن عصى الله فعل فرجع بسخط من الله ومسكنة ومقره جهنم وبئس المصير
ويقول الإمام ابن عباس رضى الله عنه
يعنى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم ولمن باء بسخط من الله العذاب الأليم والله بصير بما يعملون
١٦٤ وَلَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بعث فيهم رسُولاً مَنْ أَنفُسِهِم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾
لقد أحسن الله إلى المؤمنين وكان فضله عليهم عظيما حيث بعث فيهم رسولا منهم وَوَجهُ الإحسان أو وجه المنة أنه صلوات الله وسلامه عليه يتلو عليهم القرآن الكريم كتاب الله الخالد المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويسلك بهم طريق تزكية النفس وطهارة القلب ويعلمهم ما أوحاه الله إليه ويعلمهم السنة التى ألهمه الله تعالى إياها ويخرجهم بذلك من الجاهلية إلى الإسلام ومن الضلال إلى الهدى ومن الجهل إلى العلم وقد كانوا من قبل في جهالة أخلاقية وفى جهالة علمية واضحة
والواقع أن الإسلام قد اتسم منذ ميلاده بسمة العلم
وقل رب زدني علمًا ﴾ طه ١١٤ هذا أحد شعارات المسلم
ومن استوى يوماه فهو مغبون ومن لم يكن إلى زيادة فهو إلى نقصان وهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإن مداد العلماء المتقين ليوزن في ميزان الخير والحسنات بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء
إن الله سبحانه وتعالى قد امتن علينا في آيات كثيرة من القرآن بأنه سخر لنا الليل والنهار والشمس والقمر وسخر لنا الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء والامتنان الإلهى بهذا معناه دعوة صريحة للمسلمين أن يستجيبوا إلى
-199-

التوجيه الإلهى فيسخروا كل ذلك بالعلم والمعرفة ويمتلكوا الكون مستعملين الملاحظة والتجربة فى نفع الإنسانية ولكن العلم والمعرفة فى الإسلام لا يقتصران على الجانب المادى لأن النظرة الحديثة الإسلامية أوسع بكثير وأعمق من النظرة الحديثة الأوربية التى تقصر العلم على الجانب المادي إن العلم المادى علم تسخير الكون يحث عليه الإسلام ولكنه لا يقف عنده
فغاية المسلم تتمثل في قوله تعالى ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المنتهى النجم ٤٢
وإن واقرأ باسم ربك توجهنا مباشرة نحو هذا المنتهى العلم عبادة وإذا كنا - كمسلمين - مدعوين إلى تسخير الكون مأمورين بتسخيره في سبيل الله وتذليله رجاء مرضاة الله فنحن بهذا متجهون إلى الله غير ناظرين إلى هذا التسخير وإنما إلى الكون وبذلك يكون التسخير نفسه عبادة
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت
1
هجرته لدينا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه فالسيطرة على الطبيعة فى الوضع الإسلامى الصحيح هجرة إلى الله إنها قراءة باسمه فهي داخلة فى نطاق اقرأ باسم ربك وإذا قرأت باسم ربك فأنت عابد فى أعمالك وفي أقوالك والعلم فى الإسلام على الوضع الصحيح إذن عبادة حتى في الجانب
المادي منه
ولا يتأتى ولن يتأتى أن يقف الإسلام عقبة فى سبيل العلم وأن يتعارض الإسلام مع العلم الحديث
إن مشكلة التعارض بين الدين والعلم إنما نشأت فى أروبا وبعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية التي حثت الإنسانية على التعلم والتى ولد المنهج العلمي الذي
۱ من حديث البخارى باب بدء الوحي
-Y-

يسمونه المنهج الحديث بين ربوعها والتي أنشأت على أساس هذا - من المنهج - حضارة ضخمة لا تزال تكشف كل يوم الكثير من أبحاثها العميقة
وما من شك في أن الحضارة الإسلامية هى التى قد قدمت للحضارة الغربية الحديثة منهجها وقدمت لها الكثير من الحقائق العلمية في كثير من المجالات
المختلفة
إن المنهج العلمي الحديث في أوربا يرجع إلى روجر بيكون فهو الذي أذاعه ونشره في أرجاء أوربا
ويتحدث الأستاذ بريفولت فى كتابه بناء الإنسانية فيقول عن روجر
بيكون
إنه درس اللغة العربية والعلوم العربية فى مدرسة إكسفورد على خلفاء العرب في الأندلس وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء من بعده - الحق في أن ينسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة والمناقشات التي دارت حول واضعى المنهج التجريبى هى طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية
وقد كان منهج العرب التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشاراً واسعا وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوربا 1
ويقول بريفولت أيضًا
لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث ولكن
ثماره كانت بطيئة النضج
۱ تجديد التفكير الديني في الإسلام تأليف محمد إقبال ترجمة الأستاذ عباس محمود العقاد
-۰۱-

تفسير
سورة آل عمران
بقلم
الإمام الدكتور
عبد الحليم محمود
دار غريب
للطباعة والنشر والتوزيع
القاهرة

وقد أثارت هذه الحروف تفسيرا وجدلا ونقاشا
ومن أصح الآراء في ذلك
أنها من المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله تعالى قال أبو بكر الصديق رضي
الله عنه
لله عزوجل في كل كتاب سر وسر الله فى القرآن الكريم أوائل السور
وتابع أبا بكر رضى الله عنه فى ذلك سفيان الثوري والشعبي وعامر وإلى هذا المعنى ذهب أبو صالح وابن زيد وبذلك أيضا قال جماعة من المحدثين لقد قالوا هى سر الله تعالى فى القرآن ولله فى كل كتاب من كتبه سر فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه ولا يجب أن يتكلم فيها ولكن نؤمن بها وتقرأ كما جاءت
ولقد روى هذا القول عن الإمام على رضى الله عنه وكثير غيره والطريقة الجميلة لتفسير الجلالين هى أنه كلما وردت هذه الحروف في أوائل السور يقول
كلمته التي لا تتغير
الله أعلم بمراده وهذا هو الرأى الذي نسير عليه
ومع ذلك فقد قيلت آراء أخرى منها أنها
1 - أسماء للسور
أن هذه الحروف المقطعة إنما هي اسم الله الأعظم ولكننا لا نعرف
كيف يتألف منها
والرأي الذي يبدو أن الشيخ محمد عبده يؤثره هو
هذه الحروف إشارة إلى حروف الهجاء ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم حينما تحداهم بالقرآن وبين لهم أنه مؤلف من هذه الحروف التي يتألف منها كلام الناس وذلك يوضح أن عجزهم عن الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله مع أنه مؤلف من الحروف التي يتألف منها كلامهم ونكتفي بهذا
- -

إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب فى أسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية 1
وإذا كـام الإسلام هو الذي أنشأ هذا المنهج وهذا العلم فمن الطبيعي
ألا يتعارض معه
على أن مسألة التعارض بين الدين والعلم إنما هي مسألة وهمية إذا نظرنا إلى حقيقة الأمر
وذلك أن العلم دائرته المادة والحس أما الدين فدائرته ما وراء الطبيعة
والخير والفضيلة فهما لا يلتقيان فى الموضوع فكيف يتعارضان
إن ملاحدة العصر الحاضر يتوهمون مشاكل لا أساس لها ثم يضعونها عنى بساط البحث ويتناقشون فيها ويتجادلون وعلى مر الزمن يضفى الإلف عليها - وهى وهمية - صورة من ظلال الحقائق فيظن بعض الناس أنها مشاكل جديرة بالبحث والنظر ومن ذلك مسألة التعارض بين العلم والدين مع أنه لا اتحاد بين
موضوعيهما
۱ المصدر السابق
-۰-

العلم في الإسلام أوسع دائرة
وإذا اقتصرت أوربا على العلم المادى فإن الإسلام لايقف عند ذلك وإنما يوجه الإنسانية إلى مصدر آخر للعلم والمعرفة هو القلب أو هو الروح والبصيرة
إن الإسلام يوجه الإنسانية إلى المعرفة الإشراقية أو الكشفية أو الإلهامية
ويجمع الإسلام الاتجاه العلمى الحديث إلى الاتجاه البصيري في قوله
30
إنَّ السمع والبصر والفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عنه مسؤولا الإسراء ٣٦
فالسمع والبصر هما أساس العلم المادى علم التجربة والملاحظة أما القلب فإنه أساس العلم الإلهامي
إن الله سبحانه وتعالى يوجه المسلم إلى الملاحظة والتجربة ويوجهه أيضا إلى الاستشراف للهداية والنور القلبى عن طريق الخلق الكريم والتقوى والإخلاص وحب الإنسانية والمعاونة في الخير
وإذا كان الإسلام أوسع نظرة فى الجانب العلمى عن الحضارة الحديثة وأدق وأشمل فإنه يختلف معها اختلافا جذريا حاسما في مسألة الإرادات والنوايا وفى أمر الأسباب والبواعث وفى اتجاه الغايات والأهداف
إن الحضارة الحديثة تقول
العلم لا صلة له بالأخلاق
أو تقول العلم لا أخلاقي
والعلم فى نظرها لا شأن له بالخير والشر
ولكن الإسلام يجعل أسس العلم متسمة بالخير ويجعل غايته منغمسة في الخير ويجعل من العلم قربى إلى الله ويجعل منه عبادة لله
-۰۳-

ومن هنا كانت حضارة الإسلام حضارة رحمة وهداية لا حضارة تدمير
وتخريب
غايته
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء ١٠٧
تلك حقيقة في الدين الإسلامي سواء نظرنا إلى أساسه أو نظرنا إلى
أما الرسول صلوات الله عليه فإنه رحمة مهداة
١٦٥ أو لما أصابتكُم مُصيبةٌ قَد أصبتم مثليها قلتم أَنَّىٰ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ
إنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير
١٦٦ ﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
١٦٧ وليعلم الذين نافقوا وقيلَ لَهُم تعالوا قَاتِلُوا في سبيل الله أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَو نعلم قتالاً لأتبعناكُم هُم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقُولُون بأفواههم مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم وَاللَّهُ أعلم بما يكتمون
١٦٨ والذين قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ
الموت إن كنتم صادقين
أحد
أفى شرعة الحق أنه حين أصابتكم مصيبة هى قتل سبعين منكم يوما وقد أصبتم مثليها يوم بدر إذ قتلتم سبعين وأسرتم سبعين تسألون مستنكرين كيف يحدث هذا ونحن على دين الإسلام وهم مشركون
إنكم أنتم السبب في ذلك بعصيانكم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو

درس لكم لعلكم تتبصرون فيه حتى لا تعودوا لمثله إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير فهو ينصركم حين تستحقون النصر ويخذلكم حين تستحقون الخذلان
على أن ما أصابكم يوم التقى الجمعان جمع المسلمين الممثل في جيشهم وجمع المشركين الممثل فى جيشهم إنما هو بعلم الله وبتقديره وبحكمته وذلك
ليظهر الله المؤمنين فى وضعهم اليقينى وليظهر المنافقين في وضعهم المذبذب
-٢٠٤-

وقد ظهر المنافقون على حقيقتهم فإنهم حينما قيل لهم تعالوا فقاتلوا في سبيل الله أو قاتلوا دفاعا عن أرضكم تمحلوا المعاذير وقالوا لا قتال في هذا اليوم ولو نعلم أنه سيجرى قتال لاتبعناكم إنهم بموقفهم هذا ونكوصهم عن القتال أقرب للكفر منهم للإيمان وما اعتذروا به إنما كان كلمات يألسنتهم وقلوبهم معرضة كل الإعراض عن الجهاد والله يعلم منهم ذلك لأنه عليم بما يكتمون ومن نفاقهم أنهم يقعدون عن القتال ويقولون - مخذلين للمؤمنين - عن الذين استشهدوا في سبيل الله لو أطاعونا وقعدوا مثلنا ما قتلوا فقل لهم يا محمد ادفعوا عن أنفسكم الموت حين ينزل بكم إن كنتم صادقين
١٦٩ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل ا الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ۱۷۰ فرحين بما آتَاهُمُ اللهُ مـ فضله من ويستبشرون بالذين لم يلْحَقُوا بِهِم مَنْ خَلْفِهِم
الا خوف عليهم ولا هم يحزنون ۱۷۱ ﴿يَستَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مَنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
-٢٠٥-

الشهيد
مكانة الشهيد عند الله
الكثيرة
أمه

إن مكانة الشهيد عند الله عظيمة جدا تصورها الأحاديث والآيات القرآنية
فمن ذلك أن حارثة بن سراقة كان قد استشهد في غزوة بدر فأتت وهى أم الربيع بنت البراء - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله ألا تحدثني عن حارثة فإن كان فى الجنة صبرت وإن كان غير
ذلك اجتهدت عليه في البكاء فقال صلى الله عليه وسلم
يا أم حارثة إنها جنان فى الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ۱ وروى الإمام مسلم والإمام البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من
الكرامة
وفى رواية لما يرى من فضل الشهادة
عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال
جيء بأبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مثل به فوضع بين يديه فذهبت أكشف عن وجهه فنهانی قومی فسمع صوت صائحة فقيل ابنة عمرو -
۱ رواه البخاري
-4-

قال أي رب فأبلغ من ورائى أى أبلغهم بهذه النعمة الكبرى في الجنة
التي يتقلب فيها الشهيد 1
فأنزل الله تعالى
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزَقُونَ * فرحين بما آتَاهُمُ اللهُ من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مَنْ خَلْفِهِم أَلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وَأَنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين آل عمران ١٦٩-١٧١
۱۷ الذين استجابوا للهِ وَالرَّسُول من بعد ما أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُم
واتقوا أجر عظيم
۱۷۳ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حسبنا الله ونعم الوكيل
١٧٤ فَانقلبوا بنعمة من الله وفضل لَم يَمْسَهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو
فَضْل عظيم
شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُغْلَبَ المسلمون في أحد الله حكمة في
كل ما يحدث وهو سبحانه يبتلى بالسراء كما يبتلى بالضراء وكل شيء عنده
بمقدار
وما أن انتهت المعركة وأصاب المشركون من المسلمين ما أصابوا حتى كر أعداء الله راجعين وظن المسلمون أنهم إنما رجعوا قاصدين المدينة ليدمروها وينكلوا بمن فيها من الرجال ويأسروا النساء والأولاد وشق على المسلمين ذلك فلم توهن الهزيمة من عزيمتهم ولم تفت من عضدهم وكان إيمانهم الذي لا يتزعزع وثقتهم في نصر الله وتوكلهم عليه سبحانه وتعالى كان كل ذلك دافعا لهم إلى أن وطنوا أنفسهم على أن يسبقوهم إلى المدينة لينازلوهم فيها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه
۱ رواه ابن مردويه ورواه البيهقي في دلائل النبوة
-YA-

اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوا الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها 1 قال على فخرجت فى آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وواجهوا مكة ولكن المشركين بعد أن ساروا فى طريق مكة تلاوموا فيما بينهم فقال بعضهم لم تصنعوا شيئًا
أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتوهم وقد بقى منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم وقال البعض الآخر لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى الذهاب
لملاقاتهم والسير وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بالمسلمين قوة وجلدا
وبلغت ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نصر الله أن لم يأذن بالذهاب لملاقاة العدو إلا لمن حضر الموقعة فقط اللهم إلا لجابر بن عبد الله الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يا رسول الله إنى أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك
وأجاب المسلمون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبوا نداءه وساروا في طريق القوم حتى بلغوا حمراء الأسد
ولما علم المشركون بذلك قالوا نرجع من قابل وساروا في طريقهم إلى مكة
وأنزل الله سبحانه
ويستبشرون بنعمة من الله وفضل وأَنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا الله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ القرحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنهُم وَاتَّقُوا أَجْرٌ عَظِيم
1 السيرة النبوية لابن كثير
الحديث من رواية ابن إسحق وابن أبي حاتم
-Y9-
آل عمران ۱۷۰۱۷۱

وبعد
فإنه إذا كان الإيمان بالله والثقة فيه دفعت المسلمين في أحد إلى هذه المواقف الخالدة فإن مما يزيد ذلك وضوحا ما رواه ابن هشام بخصوص موقف المسلمين في بعد المعركة ثاني يوم فيها قال
مر بأبي سفيان - وكان حينئذ قائد المشركين - ركب من عبد القيس فقال
لهم أبو سفيان أين تريدون
قالوا نريد المدينة
قال ولم
قالوا نريد الميرة
قال فهل أنتم مبلغون عنى محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكل في مقابل ذلك زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا
قالوا نعم
قال إذا وافيتم محمدًا فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم
عليه
ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فكان رد الفعل عند رسول الله صلى الله وسلم وأصحابه ما صوره الله تعالى بقوله
الذين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسِ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حسبنا
الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فضل عظيم آل عمران ١٧٣ ١٧٤
١٧٥ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوَفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
لقد قرأ ابن عباس رضى الله عنه يخوفكم أولياءه
ويكون المعنى على ذلك يخوفكم أيها المسلمون من يتبعونه من المشركين
والمنافقين
-۱۰-

وقراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه
a
وأولياؤه هم قريش ومن لف لفهم
قبل الفتح وينهى الله تعالى المسلمين عن الخوف منهم ويوجههم إلى الخوف منه سبحانه وحده وذلك مقتضى الإيمان
١٧٦ ﴿وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُم لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَا يجعل لهم حظا في الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
۱۷۷ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكفر بالإيمانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۱۷۸ ﴿وَلا يُحسبن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِنَّمَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
ولا يحزنك الذين يسارعون بأقوالهم وأفعالهم إلى الكفر إنهم بعملهم هذا لن يضروا الله شيئًا وإنما يضرون أنفسهم وذلك أن الله تعالى يريد أن يجعل لهم نصيبا فى ثواب الآخرة ولهم فيها عذاب عظيم
إن كان الذين كفروا قد أمهلهم الله فلم يعجل لهم العذاب فليس ذلك من الخير بالنسبة لهم وإنما أمهلهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين
روى الإمام البغوى بسنده عن عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيه رضى الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أى الناس خير
قال من طال عمره وحسن عمله
قيل فأى الناس شر
قال
من طال عمره وساء عمله
وقال جماعة من أهل العلم - فيما روى الإمام البغوى - أنزل الله عز وجل
هذه الآية فى قوم يعاندون الحق سبق فى علمه أنهم لا يؤمنون فقال إنما نملى لهم ليزدادوا إثما بمعاندتهم الحق وخلافهم الرسول
-۱۱-

والله لا إله إلا هو الحي القيوم
والقيوم هو القائم على كل شيء إن القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها إن خيراً فخيراً وإن شرا فشراً أو يعفو وعلى كل جارحة وعلى كل يابس ورطب وعلى الكون كله سمائه وأرضه وما بين السماء والأرض وهذه الآية الكريمة أثارت عند بعض الناس فكرة أثارت وما تزال تثير
التساؤل تلك هي فكرة اسم الله الأعظم

عن أسماء بنت يزيد رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين
وطه
وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم البقرة ١٦٣
وفاتحة سورة آل عمران و اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم ۱
وروت الآثار أن اسم الله الأعظم فى ثلاث سور البقرة وآل عمران

فلما أخذ محبو الاستطلاع يتبصرون في الأمر وجدوا أن المشترك هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقد جاء في تفسير الإمام حنفى إسماعيل روى عنه صلى الله عليه وسلم
اسم الله الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة اللَّهُ لا إله إلا هو الحى القيوم
القيوم البقرة ٢٥٥ وفى آل عمران الم الله لا إله إلا هو الحيا آل عمران ۱ وفى طه وعنت الوجوه للحي القيوم طه ١١١
وبعد هاتين الآيتين يذكر المفسرون مباشرة أنه قد نزل أكثر من ثمانين آية من
أول السورة في وفد نجران
- رواه أبو داود والترمذى وقال حديث حسن صحيح
- ۳-

وقال الزجاج هؤلاء قوم قد أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون أبدا وأن نفاقهم يزيدهم كفرا وإثما
۱۷۹ وَ ما كَانَ اللهُ لِيَدْرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عليه حَتَّى يَميرُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب وما كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَلَكُمْ عَلَى الْغَيبِ ولكنَّ الله يجتبي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وتتقوا فَلَكُمْ أَجر عظيم
قيل إن قوما من المنافقين أدعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نقاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية
ولقد أظهر المنافقون النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أظهر الله تعالى ذلك النفاق بأسباب طبيعية ظاهرة لكل إنسان وذلك بتخلفهم وكان من الممكن أن يطلع الله تعالى نبيه قبل ذلك بإعلان أسماء المنافقين حينما سأل كفار قريش رسول الله صلى عليه وسلم قائلين
أخبرنا عمن يؤمن بك ومن لا يؤمن
وسنة الله جارية على أنه سبحانه يجتبى يصطفى - يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما يشاء من غيبه كما يقول سبحانه وتعالى
عالم الغيب فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا الجن ٢٦
وكما يقول تعالى
ولا يُحيطُونَ بِشَيْءٍ مَنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاء البقرة ٢٥٥
واجتباء الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ولرسوله له علامات يذكرها
a
العلامة ابن خلدون فيقول في كتابه النفيس المقدمة
اعلم أن الله سبحانه
اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل
بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون "
بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة
۱ المقدمة لكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم
-۱-

وكان - فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار - الكائنات المغيّبة عن البشر التى لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال صلى الله عليه وسلم
ألا وإني لا أعلم إلا ما علمنى الله

واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة
وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم - فى حال الوحى - غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غش أو إغماء فى رأى العين وليست منهما في شيء وإنما هي - في الحقيقة - استغراق فى لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوى من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما به من عند
الله
ثم تنجلى عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقى عليه
قال صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الوحى -
أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علـى فـيـفـصم عنى وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل إلى الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول
ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط مالا يعبر عنه
ففي الحديث
كان مما يعالج من التزيل شدة
وقالت عائشة
كان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه
ليتفصد عرفا
-۱۳-

وقال تعالى
و إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا المزمل ٥
ولأجل هذه الحالة فى تنزل الوحى كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئى أو تابع من الجن وإنما لُبس عليهم بما شاهدوه من مظاهر
- تلك الأحوال
ومن يُضلل اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ الرعد ٣٣
ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم - قبل الوحى - خلُقُ الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع
وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته
وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ودعى إلى مجتمع وليمة فيها عُرِّس ولعب فأصابه غَشى النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئًا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه - بجبلته - يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل
له في ذلك فقال

إنى أناجي من لا تناجون
وانظر لما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم خديجة رضى الله عنها بحال
الوحى أول ما فجأه وأرادت اختباره
فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك
فاما فعل ذلك ذهب عنه
فقالت إنه ملك وليس بشيطان
ومعناه أنه لا يقرب النساء
وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها
-٢١٤-

فقال البياض والخضرة
فقالت إنه الملك
يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين وأمثال ذلك
ومن علاماتهم أيضًا دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدق
والعفاف
وقد استدلت خديجة رضي الله عنها على صدقه صلى الله عليه وسلم
بذلك وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا فى أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصحيح أن هرقل - حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام - أحضر من وُجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان - فيما سأل - أن قال
هاتين
بم يأمركم
فقال أبو سفيان بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال إن يكن ما تقول حقا فهو نبى وسيملك ما تحت قدمي
والعفاف الذي أشار إليه أبو سفيان هو العصمة فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوة ! !
ومن علاماتهم أيضًا أن يكونوا ذوى حسب في قومهم
وفي الصحيح
ما بَعَثَ الله نبيا إلا في منعة من قومه
وفي رواية أخرى
في ثروة من قومه
-٢١٥-

استدركه الحاكم على الصحيحين
وفى مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال
كيف هو فيكم
قال أبو سفيان هو فينا ذو حسب
فقال هرقل
والرسل تبعث في أحساب قومها
ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة
ربه ويتم مراد الله في إكمال دينه وملته ۱
۱۸۰ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراثُ السَّموات والأرض والله بما تعملون خبير ۱۸۱ ولقد سمع اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكَتُبُ مَا قَالُوا
وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
۱۸ وذلك بما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله ليس بظلام للعبيد به
روى الإمام الترمذى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
خصلتان لا يجتمعان فى مؤمن البخل وسوء الخلق
ويقول الله سبحانه
*
وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحُسَنَى فَسَتَيسره للعسرى * وما يـ عنه ماله
إذا تردى الليل ۸ - ۱۱
۱ المقدمة ص ۹۱ - ۹ ط المكتبة التجارية
-٢١٦-

يلى
ويقول سبحانه
ومن يُوق شح نفسه فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الحشر ٩
أما قوله تعالى
سيطوقُونَ مَا بِخَلُوا به يوم القيامة
فإن المفسرين يروون فى ذلك أحاديث صحيحة يذكر الإمام الخازن منها ما
عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرعًا له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعنى شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله الآية 1
قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السوداوان فوق عينى الحية وقيل هما
نقطتان تكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها
وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحنى اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب ق
عن أبي ذر قال انتهيت إلى النبى صى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل
الكعبة فلما رآني قال
هم
الأخسرون ورب الكعبة
قال فجئت حتى جلست فلم أتقار - أى لبثت - أن قمت فقلت
يارسول الله فداك أبي وأمي من هم
1 أخرجه البخاري
-۱۷-

قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله
وقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين
الناس
وإذا كان البخلاء يشحون بمالهم فلا ينفقون منه فى سبيل الله فليعلموا أن العذاب سينالهم من أجل ذلك فإنهم سيموتون بعد فترة تطول أو تقصر وهي مهما طالت قصيرة وسيتركون مالهم وما كنزوا وسيرته من يرث الأرض ومن عليها وسيجازيهم الله بما صنعوا إنه بما يعلمون خبير
وهذه الآية مقدمة للحديث عن هؤلاء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وهم اليهود الذين سخروا كعادتهم من كثير من المبادئ الإنسانية الكريمة التي دعا إليها الإسلام وذلك أنه حينما قال الله تعالى
من ذَا الَّذِي يُقرضُ الله قرضا حسنا فيضاعفهُ لَهُ ولَه أجر كريم الحديد ١١
يريد
الله تعالى بذلك إطعام الفقير وسد حاجة المسكين والإنفاق في سبيل الله حول اليهود هذا المعنى السامي الكريم إلى المعنى الذي يليق بلؤمهم فقالوا
ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني إن الله إذن فقير
ونحن أغنياء ! !
لقد سجل الله تعالى عليهم لؤمهم هذا وسجل عليهم شيئًا آخر هو من قمم الإجرام وهو قتلهم الأنبياء بغير حق
۱ هذا لفظ مسلم وفرقه البخارى بمعناه في موضوعين
-۱۸-

وسيجازيهم المحرق وهذا العذاب جزاء ما قدمتم من شر وإن الله ليس بظلام للعبيد ۱۸۳ ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا تُؤْمِنَ لِرَسُول حَتَّىٰ يَأْتِينَا بِقُرَبَانِ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ
الله تعالى على فعلهم الآثم ويقول تعالى لهم ذوقو العذاب
قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ١٨٤ ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذَبَ رُسُلٌ مَن قَبْلِكَ جَاءَوا بالبينات والزبر والكتاب المنير هؤلاء الذين بخلوا بما آتاهم الله من فضله والذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين قالوا إن الله عهد إلينا الانؤمن الرسول الله صلى | الله عليه وسلم - وهم يعلمون أن كل رسول له معجزات تختلف عن معجزات غيره وتعللهم - مع علمهم بذلك - في عدم الإيمان بمحمد إذن باطل ومع ذلك فقل لهم - حتى تنقض تعللهم وتبين للملا سوء نواياهم - قد جاءكم رسل من قبلى بالدلالات الواضحة وبالذي ذكرتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
>-
فإن كذبوك فهذا دأبهم وعادتهم فقد كذبوا رسلا سابقين جاءوهم بالدلائل البينة وبالزبر جمع زبور مثل رسول ورسل وزبور من الزبر وهو الزجر وذلك لما في هذه الكتب من النهي عن السوء والزجر عنه وجاءوهم بالكتاب اسم جنس والمقصود هنا على الخصوص التوراة والإنجيل
١٨٥ وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وإنَّما تُوفون أُجُورَكُم يوم القيامةِ فَمَن زُحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياةُ الدُّنْيا إلا متاع الغرور
ثم يأتى التنبيه العام للإنسانية أجمع في قوة وفى تأكيد وفى يقين كل إنسان لا محالة إلى الموت إنه اليقين الذى لا شك فيه ويقين آخر عند كل من آمن باليوم الآخر هو أن كل إنسان مجزى بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر
ويقين ثالث هو أن من كان مصيره الجنة فقد فاز فوزا عظيما عن أبي هريرة رضى الله عنه - فيما رواه الشيخان - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما رواه عن ربه
-۱۹-

أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر واقرؤوا إن شئتم
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
١٨٦ لتبلون في أموالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وتتسمعن من الذينَ أُوتُوا الكتاب من قبلَكُمْ ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلك من عزم الأمور
الابتلاء فى الأموال نقصانها والابتلاء فى الأنفس ما كان بسبب الحروب
من القتل وفقد الأولاد والأقارب
وقد خاطب الله بهذه الآية المسلمين منبها لهم على ما سيلقونه في سبيل نشر الدعوة من شدائد حتى يوطنوا أنفسهم على احتمالها وليس الأمر أمر الابتلاء في الأموال والأنفس فحسب وذلك أن المسلمين سيسمعون من أهل الكتاب ومن المشركين الكثير مما يسيئهم ويبين الله لهم الموقف الذى يجب أن يتخذوه وهو الصبر والتقوى فإنهما من عزم الأمور
يقول عطاء عن عزم الأمور أي حقيقة الإيمان
ومما لا شك فيه أن الصبر والتقوى من شعب الإيمان ۱۸۷ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتُوا الكتاب لتبيننَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنبذُوهُ وَرَاء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
إن هذه الآية الكريمة تتحدث عن ميثاق أى عهد أخذه الله على أهل الكتاب السابقين يوجب عليهم فيه بيان ما أوحاه الله تعالى على السنة الأنبياء بيانه
للناس وذلك أنه هداية وواجب العلماء نشر وإذاعة الهداية وأن لا يرتكبوا وزر الكتمان ولكنهم ألقوا بالكتاب جانبا لا يبالون به ولا بالعمل بما فيه واشتروا به حطام الدنيا من ماكل ورشاوى فبئس ما يشترون
وإذا كانت الآية الكريمة وردت فى اليهود والنصارى فإن الميثاق عام في كل أهل كتاب وقد فهم أسلافنا رضوان الله عليهم عموم الميثاق على أهل كل كتاب فشمل ذلك المسلمين
-۰-

يقول قتادة
هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئًا فليعلمه
وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة
ومن طرائف ما يروى فى ذلك أن الإمام الزهرى المحدث العظيم كان قد ترك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحسن بن عمارة فأتيته
فقلت له إن رأيت أن تحدثني
فقال أما علمت أنى تركت الحديث
فقلت له إما أن تحدثني وإما أن أحدثك فقال حدثني فقلت حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الحزاز قال سمعت على بن أبي طالب رضى الله
عنه يقول
يعلموا
ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن
فحدثني أربعين حديثا
ووعاه
ويقول قتادة هذه الكلمة النفيسة
علما
فبذله
وهذا سمع خيرا فقبله
طوبى لعالم ناطق ومستمع واع هذا علم
وعن عموم الميثاق يروى عن أبى هريرة أنه قال
لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتُوا الكتاب لتبينته للناس ولا تكتمونه
وأخرج أبو داود بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
من سئل عن علم فكتمه الجمه الله بلجام من نار يوم القيامة
ومن أجل ذلك كان علماؤنا رضى الله عنهم ينطقون بكلمة الحق لا تأخذهم
-۱-

وهو وفد من النصارى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقشه في
أمر الدين ويتحدث إليه فى أمر عيسى عليه السلام وقد دارت بين الوفد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مناقشات شديدة ولكنها لم تسفر عن نتيجة فطلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فتشاوروا فيما بينهم ثم امتنعوا ولقد ذكر المفسرون طرفًا من هذه المناقشات هنا وطرفًا منها هناك وتكاد ومعنى وإن كانت تختلف في الإيجاز والاستفاضة
كلها تتفق لفظاً
ويروي الإمام البغوى والإمام الخازن وغيرهما القصة على النحو التالي
تقريبا
قال المفسرون نزلت هذه الآية فى وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم وهم العاقب واسمه عبد المسيح وهو أمير القوم وصاحب مشورتهم الذى لا يصدرون إلا عن رأيه والسيد واسمه الأيهم وهو شمالهم القائم بما لهم وصاحب رحلهم الذي يقوم بأمر طعامهم وشرابهم وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم وكان ملوك الروم يكرمونه لما بلغهم عن علمه واجتهاده في دينه فدخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا وفدا مثلهم
وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم
فصلوا إلى المشرق فلما فرغوا كلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله
عليه وسلم
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما
قالا قد أسلمنا قبلك !!
قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصليب
وأكلكما الخنزير
قالا إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا في عيسى
- ٢٤ -

والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت فى المنافقين فإنها عامة - في جوهرها - في كل من يشاكلهم
تعالى
۱۸۹ ولله ملك السموات والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير
هذه الآية الكريمة فيها رد على هؤلاء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقد سبق ذكرهم وذلك أن من له ملك السموات والأرض لا يوصف بالفقر الله عن ذلك علوا كبيرا والآية أيضاً كأنها مقدمة لما بعدها من حديث فيه توجيه وعظة وعبرة
يبتدئه سبحانه يقول
١٩٠ ﴿ إِنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب ۱۹۱ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قياماً وقَعُودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات
والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
۱۹ ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ من تُدخل النار فقد أخريته وما للظالمين من أنصار ۱۹۳ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكُمْ فَآمَنَا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار
١٩٤ ربنا وآتنا ما وعدتَنَا عَلَى رُسُلك ولا تخزنا يوم القيامة إِنَّكَ لا تُخَلف الميعاد ١٩٥ فاستجاب لهُم رَبَّهُم أني لا أضيعُ عَمَلَ عاملٍ مَنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مَنْ بعض فالذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم وأُوذُوا في سبيلي وقاتَلُوا وقتلُوا لأَكفَرنَ عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن
روى الشيخان عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته قال فقلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فاضطجعت في عرض
-۳-

الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلى
قال عبد الله بن عباس
فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسى وأخذ بأذنى فقتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح
ويقول الإمام الخازن بعد أن روى هذا الحديث
وفي رواية فقمت عن يساره فأخذنى فجعلني عن يمينه
وفي رواية قال بت فى بيت خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال
و إن في خلق السموات والأرض واختلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتِ لِأُولِي الأَلْبَاب
وما من شك في أن فى خلق السماوات والأرض وفى اختلاف الليل والنهار مجال عظيم للفكر والتدبر فإن هذا الكون بما فيه من إتقان في الصنع وإبداع في التكوين ودقة في التركيب يدل بداهة على الصانع وأنه عالم
وإمساك هذا العالم دليل على الحياة والإرادة
يقول الله تعالى
إِنَّ اللَّه يُمسك السَّمواتِ وَالأَرْضِ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بعا
بعده
إنه كان حليما غَفُورا فاطر ٤١
- ٢٢٤ -

ويقول تعالى
وجَعَلَ اللَّيل سكنا والشَّمس والقمر حسبانا الأنعام ٩٦
ويقول سبحانه
هو الذي جعل لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً
وتأمل قوله تعالى
٦٧
وقُل أرأيتم إن جعل الله عليكُمُ اللَّيْل سرمدا إلى يوم القيامةِ مِنْ إِلَهُ غَيْرُ الله يَأْتِيكُم بضياء

أفلا تسمعون * قُل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهُ غير الله يَأْتِيكُم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعلَ لَكُمُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِي ولتبتغوا من فضله ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ القصص ۷۱ - ۷۳
والآيات التي توجه الإنسان إلى العظة والعبرة فى الكون كثيرة مستفيضة
منها مثلا
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلى السَّمَاء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضِ مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكُل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزْقًا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ق ٦ - ١١
ويقول الكندى فيلسوف العرب
إن في الظواهر والمظاهر التى تبدو للحواس لأوضح الدلالة على تدبير
مدبر أول
فإن في نظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه فى بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض وإتقان هيئته على الوجه الأصلح في كون كل كائن وفساد كل فاسد وثبات كل ثابت وزوال كل زائل لأعظم دلالة على أتقن تدبير - ومع كل تدبير مدبر - وعلى أحكم حكمة ومع كل حكمة حكيم وذلك أن اقتضاء التدبير للمدبر والحكمة للحكيم أمر لا يختلف فيه اثنان
-YYO-

وإذا كانت دلائل خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار يدركها أولوا العقول المتأملة فإن أولى العقول هم هؤلاء الذين لا يفترون عن ذكر الله تعالى
إنهم يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم
ويقول الله تعالى في سورة النساء
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قيامًا وقعودا وعلى جنوبكم النساء ١٠٣
ولقد وردت الأحاديث الكثيرة فى الحث على الذكر ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم بسنده عن عائشة رضى الله عنها من أنها كانت تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يذكر الله على كل أحيانه
وعن الذكر نروى ما يلي
روى البيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب
قال الله عز وجل
من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم بسنده
عن أبي هريرة
ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله عز وجل إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم
الرحمة وذكرهم الله تعالى فيمن عنده
وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه
ذكرته في نفسي وإن ذكرنى فى ملا ذكرته في ملأ خير منهم
وإن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا
وإن أتاني يمشي أتيته هرولة 1
۱ رواه البخاري ومسلم والترمذى والنسائي وابن ماجه ورواه أحمد بنحوه بإسناد صحيح وزاد في آخره قال
قتادة والله أسرع بالمغفرة
-٢٢٦-

وسلم
وعن معاذ بن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
قال الله جل ذكره
لا يذكرني عبد فى نفسه إلا ذكرته فى ملا من ملائكتي ولا يذكرني
في ملا إلا ذكرته في الملا الأعلى ۱
الله وعن عبد بن بسر رضى الله عنه أن رجلا قال يارسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأخبرنى بشيء أتشبث به قال
لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ٢
وعن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال لهم
إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت أي الأعمال أحب إلى الله قال
أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ۳
وعن أبي موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي يذكر الله ربه والذى لا يذكر الله مثل الحى والميت ٤
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فى طريق مكة فمر على جبل
يقال له جمدان فقال
۱ رواه الطبري بإسناد حسن
رواه الترمذى واللفظ له وقال حديث حسن غريب وابن ماجه وابن حيان في صحيحه والحاكم
وقال صحيح الإسناد
۳ رواه ابن أبي الدنيا والطبراني واللفظ له والبزار إلا أنه قال أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى
الله وابن حيان في صحيحه
٤ رواه البخاري ومسلم إلا أنه قال مثل البيت الذي يذكر الله فيه
-۷-

*
سيروا هذا جمدان سبق المفردون
D
قالوا وما المفردون يارسول الله
قال الذاكرون الله كثيرا ۱
وعن أم أنس رضى الله عنها قالت يارسول الله أوصني قال
اهجرى المعاصي فإنها أفضل الهجرة وحافظى على الفرائض فإنها أفضل الجهاد وأكثرى من ذكر الله فإنك لا تأتين الله بشيء أحب إليه من كثرة ذكره ٢
إن أولى الألباب يتفكرون في خلق السماوات والأرض بعقولهم وبقلوبهم
ويجدون صدى ذلك على ألسنتهم قائلين ربنا ما خلقت هذا الكون البديع باطلا سبحانك عن الباطل ويلجأون إليه تعالى فى أن يجنبهم عذاب النار فإن من يدخل النار مخلدا فيها فإن الخزى يحيط به والخزى فيما يتعلق بدخول النار خاص - كما يقول أنس وسعيد بن المسيب وغيرهما - خاص بمن يخلد في النار ولن يجد الظالمون الذين أشركوا بالله من يجنبهم عذاب جهنم
ويتابع أولوا الألباب دعاءهم بهذه الكلمات الجميلة الواضحه الوضاءة و رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعنا مناديًا محمدا يُنادي للإيمان أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفَرْ عَنَّا سَية ساتنا وتوفنا مع الأبرار في زمرتهم والأبرار من خيار
الصالحين ربَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَنَا عَلَى رُسُلك الجنة والرضوان
أما النتيجة فهي
فاستجاب لهم معلنا أني لا أُضيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مَنكُم مِّن ذَكَرٍ أَو أُنثَى
بعضكم من بعض في الطاعة والأخوة
۱ رواه مسلم واللفظ له والترمذى ولفظ يارسول الله وما المفردون قال المستهترون أي المكثرون
بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافا
رواه الطبراني بإسناد جيد
-۸-

فالذين هاجروا وأُخرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفَرَنَّ عنهم سيئاتهم ولأُدخلهم جنات تجري من تـ الأَنْهَارُ ثَوَابًا مَنْ عند الله واللهُ عِندَهُ
حسن الثواب
١٩٦ لا يَغُرنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبلاد
۱۹۷ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُم جهنم وبئس المهاد
۱۹۸ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نُزُلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار
لا يغرنك - أيها المسلم - ما فيه الذين كفروا من تصرف في أحوال التجارة والأرباح والعنى فإن ذلك متاع قليل هو مدة الحياة الدنيا وهي مهما طالت بالإنسان قصيرة ثم يكون مأواهم مصيرهم ومستقرهم جهنم وبئس الفراش
يفترشونه
أما الذين اتقوا ربهم فإن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها جزاء وثوابا والنزل ما يعد للضيف من وسائل الراحة من عند الله وما عند الله خير للأبرار
وأخرج الشيخان بسندهما عن عمر بن الخطاب قال
جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو فى مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت
فقال ما يبكيك
قلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم فيه وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة
لفظ البخاري المشربة الغرفة والعلية والمشارب العلالي
-۹-

۱۹۹ وإن من أهل الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وما أن إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِساب
عن مجاهد وغيره أنها نزلت فى كل من آمن من أهل الكتاب
وإن الذى يشهد لهذا بداهة قوله تعالى في الآية
ومَا أُنزِلَ إِلَيْهِم
إنهم بذلك أصبحوا مسلمين والمسلم خاشع لله تعالى وخشوعه يمنعه من أن يشترى بآيات الله ثمنا قليلا إنه صادق فيما يقول وصادق في سلوكه وإن لهم أجرهم الحسن عند ربهم ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب
يقول الله تعالى
٢٠٠ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ورابطوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَكُمْ تُفلحون وتختم هذه السورة الكريمة بالأمر بالصبر وللصبر مكانة عظيمة في الجو الإسلامي
وقد يسأل إنسان قائلا الصبر على ماذا
والواقع أن الأمر بالصبر في الآية الكريمة أعم من كل قول قيل فيه
إنه مثلا أعم من الصبر على الجهاد وأعم من الصبر على المصائب وأعم من الصبر على التكاليف إنه الصبر على ما يعرض للإنسان مما يحتاج إلى الصبر ويأمر الله تعالى بالمصابرة والمصابرة هي المغالبة فى الصبر وإذا كان الصبر يشير على الخصوص إلى صبر الإنسان فى نفسه فإن المصابرة هي أن يغالب الإنسان أعداءه على الصبر بحيث يفوقهم فيه ولا يسأم أو يمل
ويأمر الله تعالى بالمرابطة والمرابطة هي الثبات في الدفاع وهي العزم
المصمم على الوقوف المستمر حتى الفوز
ويأمر الله تعالى بالتقوى والتقوى فى عمومها اتقاء محارم الله
وتنتهى الآية الكريمة بقوله تعالى
لعلكم تفلحون
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبى الأمى وعلى آله وصحبه ومن
اتبع هديه إلى يوم الدين
-Y-
هذا وبالله التوفيق

الفهرس
الصفحة

٢٠
٣٠

٢٠٣
٢٠٦
-۳۱-
الموضوع
مقدمة في التفسير
الكلام في الاستعاذة
الحديث عن بسم الله الرحمن الرحيم
في فضل سورة آل عمران
مشكلة القدر
مشكلة الصفات
العلم في الإسلام أوسع دائرة
الشهيد

فقال النبى صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو
يشبه أباه
قالوا بلى
قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتى عليه الموت
قالوا بلى
قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه قالوا بلى
قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا
قالوا لا
قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
قالوا بلى
قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم
قالوا لا !
قال ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل
ولا يشرب
قالوا بلى !
قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته تضع المرأة ولدها ثم غُذى كما يغذَّى الصبى ثم كان يُطعم ويُشرب ويُحدث
عليهم
قالوا بلى !
قال فكيف يكون إلها كما زعمتم
فسكتوا

كما
فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فأنزل الله ردا
الم
الله لا إله إلا هو
يعنى إن كانت منازعتكم يا معشر النصارى فى معرفة الإله فهو الله الذي لا إله إلا هو فكيف تثبتون له ولداً فبين تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه لأنه الواحد الأحد ليس معه إله ولا له ولد ثم أتبع ذلك يما يجرى مجرى
-TO-

هذا الكتاب
كثير من
في هذه السورة المباركة - سورة آل عمران أضواء القرآن تتعلق بأصول العقيدة وبالمبادىء الأخلاقية
والقوانين الربانية
وأرجو أن يكون شرحي لها مساهمة مني في بيان القوانين
الربانية التى تصلح المجتمع وتنهض به
ولقد استفضت أحيانا استفاضة مبسوطة في بعض الزوايا رأيت الضرورة تقتضيها وأوجزت التفسير إيجازا في بعض الآيات الواضحة
وأكاد أقول إننى قاربت استكمال الحديث عن أصول العقيدة متابعة لتوجيهات السورة الكريمة وسيرا في ضوء
أنوارها
والله أرجو أن ينفع بهذا التفسير وأن يهدى به
وأن
يهدى
له وأن يجعله في سجل أعمال النافعة إنه سميع قريب مجيب
عبد الحليم محمود

الدلالة عليه فقال تعالى ﴿الحي القيوم أما الحي في صفة الله تعالى فهو الدائم الباقي الذي لا يصح عليه الموت وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معايشهم ومعادهم ٤٣ و نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام
0 و إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
٦ و هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم
أخرج عبد الحميد وابن جرير عن قتادة في قوله ونزل عليك الكتاب بالحق قال القرآن مصدقا لما بين يدي من الكتب التى قد خلت قبله وأنزل
التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله وعصمة لمن أخذ به وصدق به وعمل بما فيه وأنزل الفرقان هو القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم فيه حرامه وشرع فيه شرائعه وحد فيه حدوده وفرض فيه فرائضه وبين فيه بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته وفي و الفرقان قال قتادة والجمهور إنه القرآن قال أبو عبيدة
سمى القرآن فرقانا لأنه فرق بين الحق والباطل والمؤمن والكافر
ويلاحظ القارئ أن الله سبحانه عبر بكلمة و نزل في القرآن الكريم وعبر بكلمة وأنزل فى التوراة والإنجيل وذلك لأن كل واحد منهما أنزل في مرة
واحدة وأنزل القرآن في مرات كثيرة
وما من شك في أن أديان الله سبحانه كلها هدى للناس بل إنها - كأديان صادقة متحدة إنها الإسلام وإنها التوحيد والله سبحانه وتعالى يقول
إن الدين عند الله الإسلام
فإذا ما انحرفت الأديان عن طريق الله وإذا ما حرفت فإنها لا تكون هداية
ولا تكون صادقة في التعبير عن المبادئ التي رسمها الله تعالى للإنسانية
وفى ضوء هذا يفهم كلام قتادة السابق

- ٢٦ -

وعلم الله تعالى شامل لكل شيء يسيرًا كان أو عظيما ولقد خص الله
الأرض والسماء بالذكر هنا لأن حس الإنسان لا يتجاوزهما
وعن علم الله تعالى يقول القرآن الكريم
J
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هُو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الأَرْضِ وَلا رَطب ولا يابس إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِين الأنعام ٥٩
ويقول سبحانه وتعالى
وإن تجهر بالقول فَإِنَّهُ يعلم السر وأخفى طه ٧
ويقول عزوجل
يعلم خائنة الأعين وما تُخْفِي الصُّدُور غافر ١٩

وهو سبحانه الذى يكيف الإنسان في جميع أحواله منذ أن كان نطفة فيصوره في الرحم كيف شاء بحسب علمه وحكمته ۷ و هو الذي أنزل عليك الكتاب منهُ آيَاتٌ مُحكماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ والراسخون في العلم يقُولُون آمنا به كُلِّ مَنْ عند ربنا وما يذكَرُ إِلا أُولُوا الأَلْبَاب
في هذه الآية الكريمة عدة زوايا تحتاج إلى إيضاح
أولاً عن المحكم ما هو
وفيه الآراء كلها تلتقى دون تعارض منها
أ أنه الحلال والحرام روى عن ابن عباس ومجاهد
ب أنه ما علم العلماء تأويله

ج أنه ما استقل بنفسه ولم يحتج الى بيان ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد وقال الشافعي وابن الأنباري
هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا
د أنه الأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام ذكر هذا والذي
قبله القاضي أبو يعلى
- TV-

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال
المحكمات الحلال والحرام
يتصل بذلك ما
أخرج ابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود قال أنزل القرآن على خمسة أوجه حرام وحلال ومحكم ومتشابه وأمثال فأحل
الحلال وحرم الحرام وآمن بالمتشابه وأعمل بالمحكم واعتبر بالأمثال
وأما عن قوله تعالى هُنَّ أُمُّ الكتاب فهى أصله
قال ابن عباس وابن جبير فكأنه قال من أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام ومجمع الحلال والحرام أما عن المتشابه ففيه لأسلافنا آراء
منها
أ أنه مالم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة روى عن جابر بن
عبد الله
ب أنه الحروف المقطعة كقوله الم ونحو ذلك قاله ابن عباس أما عن الموقف من المتشابه فقد روى الشيخان عن عائشة رضى الله عنها قالت
تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية
و هو الذي أنزل عليك الكتاب منهُ آيات محكمات إلى آخرها وقال فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون على ما قاله ابن جريج والنفاق قد يكون ظاهرا جليا يشعر به صاحبه ويخفيه وقد يكون تلبيسا ومن علاماته البحث في المتشابه
موفور

والمراد بالفتنة أنها الكفر قال السدى والربيع ومقاتل وابن قتيبة
وقد يكون المراد التشكيك
وقد يكون المحاولة للإيقاع بين أفراد الأمة وطوائفها ولليهود في ذلك سهم
وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا
-YA-

إنهم لا يعلمونه وإنهم مستأنفون وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون فى العلم آمنا به وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعروة وقتادة وعمر بن عبد العزيز والفراء وأبو عبيدة وثعلب وابن الأنباري والجمهور
وأخرج ابن جرير عن عروة قال
الراسخون فى العلم لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الشعثاء وأبى نهيك قالا إنكم تصلون هذا الآية وهي مقطوعة وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا يد كل من عند ربنا فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا
وأخرج ابن سعد وابن الضريس فى فضائله وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال
قال
بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض
وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به وأخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول
لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلون وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب وأن یزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون به
ونحن نرى أنه مهما قيل في تفسير المتشابه من هذا الرأى أو ذاك فإن كل ما يتعلق بذات الله أو بصفاته فإنه من المتشابه وكل ما نهينا عن البحث فيه فإنه من المتشابه مثل القدر وأفعال الإنسان أمسير أم مخير
ونحب أن نستفيض فى ذلك حتى ينتهى بتوفيق الله إلى الجادة في هذين
۹ -

الأمرين فنقول وبالله التوفيق

مشكلة القدر
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم هذه الكلمة لعبد الله بن مسعود رضى الله
عنه تلخص المنهج الذي نحب أن يسير عليه العالم الإسلامي في أمر العقيدة نحب أن يسير عليه رأيا وفكرة ونحب أن يسير عليه من قبل ذلك -
استعدادا وتأهلا
وهذا الاستعداد والتأهل هل يتأتى على الخصوص بوساطة دور التعليم في جميع مراحله وبوساطة الصحافة والكتب التي تنشر

وهذه الكلمة النفيسة تتابع في معناها مالا يكاد يحصى من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار التي وردت عن كبار الصحابة وكبار التابعين يقول
تعالى
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينام
المائدة ٣
لقد كمل الدين فكفانا الله كل ابتداع وإذا كان الدين كاملا فما علينا إلا
الاتباع أما طريقة الاتباع فقد حددها الله في الآية الكريمة بقوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منهُ آيَاتٌ مُحكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقُولُونَ آمَتَا به كُلُّ من عند ربنا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُوا الأَلْبَاب والطريقة إذن أن نتبع الآيات المحكمات فى فهم ووعى وتأييد وهي ليست مثار جدل ولا خصومة وليست مجال نزاع يحتدم أو أهواء تثور وأن نؤمن بالمتشابه كما ورد وألا نتبعه متأولين فإن تتبع المتشابه إنما ينشأ عن القلوب التي تلونت بالزيغ والانحراف وهى التى تتبعه ابتغاء الفتنة وتتبعه لتأويله وتأويله إنما يعلمه
الله
ولكن ما هو هذا المتشابه
--

ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه
فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به
وعن أبى هريرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه ثم قال
أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا
في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا
واتخذ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه موقفاً حاسماً جازما بالنسبة لمنع الخلاف في هذه المسألة أو حتى مجرد إثارتها
ومضى رسول الله صلى الله عيه وسلم راضيا مرضيا وهو لا يسمح حتى
النفس الأخير من حياته الشريفة بأن تثار هذه المسألة
ولم تثر هذه المسألة فى عهد سيدنا أبى بكر لانشغال المسلمين بتوطيد دعائم الأمة الإسلامية منصرفين بذلك عن العبث حول دين الله

وكانت - درة سيدنا عمر كفيلة برد كل من تحدثه نفسه بإثارة هذه المشكلة
إلى جادة الصواب
ومسألة القدر إذن من المتشابه إنها من أهم مسائل المتشابه وهي فضلا عن ذلك عصية على الحل إنها ليست قابلة للحل وهى ليست قابلة للحل سواء أثيرت في الشرق أو في الغرب وسواء أثيرت فى القديم أو في الحديث أو أثيرت في البادية أو في الحضر إنها مفرقة بين الباحثين فيها ومهما طال الجدل بينهم فسوف لا ينتهون إلى نتيجة ومن أجل ذلك كانت الروح الإسلامية العامة تحرم
الخوض فيها
ومع ذلك فقد بدأت هذه المشكلة تتسلل شيئا فشيئا إلى المجتمع الإسلامي حتى لقد احتلت يوماً ما مركز الصدارة في الفكر الإسلامي النظرى ولقد مهدت السياسة أولا لهذا التسلل وكانت السياسة أول عامل من عوامل
إفساد التفكير النظرى الدينى فى المجتمع الإسلامي السليم كتب معاوية بن أبي سفيان - بعد أن تولى الملك - إلى المغيرة بن شعبة يطلب
- ۳ -

منه أن يكتب إليه بالحديث الذى كان يقوله صلوات الله وسلامه عليه أحيانا وهو على المنبر فكتب إليه المغيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر
كل صلاة إذا سلم
لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا
الجد منك الجد

وأخذ معاوية يذيع هذا الحديث الشريف من فوق المنابر مؤمنا بأنه من عوامل
توطيد مركزه في الأمة
هذا الاستعمال السياسي للأقوال الشريفة أثار بعض الضمائر التي لم تطمئن للخضوع والانقياد له فهبوا يعارضون فكرة الجبر التي أخذ معاوية بها مستندا إلى هذا الحديث الشريف
أمرين
ولسنا الآن بصدد التأريخ الكامل لهذه المشكلة ولقد بينا الآن على الأقل
أحدهما أن هذه المشكلة من المتشابه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
نهى عن الخوض فيها
ثانيهما أن السياسة هي التي بدأت بإدخال هذه المشكلة في البيئة
الإسلامية
أما النتيجة التي نريد أن نصل إليها من وراء كل ذلك فهي أن البحث في هذه المسألة يجب أن ينتزع كلية من محيط الفكر الإسلامى وأن تنتزع المسألة مما يسمونه علم الكلام فإذا ما فعلنا ذلك فإننا نكون قد أزلنا سببا هاما من الأسباب التي تفرق المسلمين بسبب الاختلاف في العقيدة ونكون بذلك قد ساهمنا بقسط وافر في سبيل التوحيد
* * *
--

أ يقول الله تعالى
مشكلة الصفات
سبحان ربك رب العزة عما يصفون الصافات ۱۸
ويقول سبحانه ليس كمثله شيء الشورى ١١
ويقول ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ هـ - مستنتجا ومرشدا إن الله ليس كمثله شيء فكيف يُدرك بقياس أو بإنعام نظر
أما حكماء المصريين القدماء فإنهم يقولون فى حكمة حكيمة محال
على من يفنى أن يكشف النقاب الذي تنقب به من لا يفني
ومن يفنى هو الإنسان

ومن لا يفنى هو الله الباقي
وسواء نظرنا إلى التراث الدينى الصحيح من قرآن أو سنة أو نظرنا إلى أصحاب الآراء السليمة التي فهمت الأوضاع الدينية فهما يتلاءم مع الروح الصحيح للتدين فإننا نجد أن الاتجاه العام في ذلك كله يبتعد بالإنسان ابتعاداً تاماً عن أن يقول في الله سبحانه ذاتا وصفاتا - برأيه
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا
إن هذا الأثر يرسم النهج السليم ويعبر عما يجب أن يكون عليه الإنسان إذا
أراد النجاة وابتغى السلامة
وما من شك فى أن البحث في الذات والصفات الإلهية من ناحية الصلة بينهما توحيدا أو تغايرا والبحث في الصفات الموهمة للتشبيه نفيا أو تأويلا إنما هو تهجم من الإنسان على مقام لا يرقى إليه وهم متوهم ولا خيال متخيل وإنه
لحق أن كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك
- ٣٤ -

وقد كان من الطبيعى أن يقدر الباحثون أنفسهم باعتبارهم من البشر حق قدرها وأن يقدروا الله حق قدره
ولو سار الأمر على هذا النسق لما تطاول البشر إلى مقام الله ولما تجاوزوا حدودهم وبالتالى لما كان هناك اختلاف وتنازع وافتراق في موضوع الصفات الإلهية
ولكن بعض الباحثين لم يلتزموا حدودهم كأفراد من البشر وغرهم عقلهم
وخدعهم شيطانهم فحاولوا بعقولهم أن يفتروا على الله مالم ينزل به سلطانا فكانت المشكلة الثانية في علم الكلام مشكلة الصفات - التي أثارت الجدل والخصومة والتفرقة بين المسلمين وجعلتهم فرقا تتنابز وتتخاصم ويرمى بعضها بعضا بالانحراف والضلال

ب ونشأت المشكلة حينما بدأ الباحثون يتعرضون للآيات التي وردت في
القرآن الكريم والتى توهم التشبيه كاليد والوجه والاستواء أو التي وردت في الأحاديث كالنزول والصورة والأصابع
بدأت المشكلة حينما تعرض بعض الباحثين لهذه الألفاظ وأمثالها تأويلا لها
أو نفيا لمعناها أو تفسيراً وشرحاً

ومنذ أن بدأ الحديث فيها بدأ الجدل حولها والنزاع واستمر خلال العصور عصرا تلو عصر ولا يزال للآن يثار الجدل بين أنصار الإمام الأشعرى وأنصار الإمام ابن تيمية
وكان النزاع حول موضوع الصفات وصلتها بالذات على وجه العموم يسير في
هدوء أحيانًا وفى عنف أحيانًا أخرى
وقد تولد عنه كثير من المشاكل الدامية كمشكلة خلق القرآن والمشاكل المبلبلة للأفكار والخواطر كمشكلة الصلاح والأصلح
وجدت هذه المشاكل وكثرت وتعددت كدليل واضح على عجز العقل البشرى
تجاه العظمة اللانهائية الإلهية
-ro-

ومع الإخفاق المتتابع في البحث فى هذا الموضوع منذ الأماد المتطاولة فإن البشرية لم ترعو ولم تتعظ ولا تزال مستمرة فى البحث تتخبط فيه وتتنازع ونتجادل وتختصم
ج والحكمة كل الحكمة إذن إنما هى موقف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فقد هدتهم نزعتهم الدينية السليمة إلى الموقف السليم وقدروا الله حق قدره وقدروا أنفسهم حق قدرها فسلموا من البلبلة والاضطراب وسلموا من التنازع والاختلاف وكانوا فرقة واحدة
لقد اتخذوا مبدأ أساسيا وقاعدة لا مراء فيها ولاشك هي قوله تعالى
ولیس کمثله شيء الشورى ١١
وهذه الآية تنسف كل تشبيه نسفًا مطلقًا فاحترز سلفنا الصالح عن التشبيه
حتى قالوا من حرك يده عند قراءة قوله تعالى خلقت بيدي ص ٧٥ أو أشار بإصبعه عند رواية الحديث الشريف " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
وجب قطع يده وقطع إصبعه
احترز السلف عن التشبيه ولكنهم احترزوا عن التعطيل أيضاً فهم يثبتون لله اتباعاً للقرآن - الإرادة والعلم والصفات الكريمة التى ورد بها القرآن الكريم والموقف الذى يقفه من أراد متابعة السلف الصالح إذن تجاه كلمات الصورة واليد والنزول إنما هو الإيمان بها مع التنزيه لله تعالى عن الجسمية وتوابعها وليس معنى ذلك أن هذه الألفاظ معطلة عن المعنى بل لها معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في جسم
وأن يؤمن بأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذي قاله
وألا يحاول لها تفسيراً ولا تأويلا
وشعار السلف معروف فى أمثال هذه الكلمات
- ٣٦ -

إنه أمروها كما جاء
وكانوا يذكرون في هذه الظروف الآية القرآنية الكريمة
وهو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكرُ إِلا أُولُوا الأَلباب
ولا مناص لمن يريد أن يحترز عن الزيغ من أن يمتنع عن التأويل والتفسير
وأن يمر هذه الكلمات كما جاءت
ويلخص الإمام الرازي في كتابه أساس التقديس المذهب السلفي في
كلمات موجزة دقيقة كل الدقة فيقول
إن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى فيها شيء غير ظواهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في
تفسيره
هذا هو مذهب السلف فى الصفات وهو مذهب لا يثير جدلا ولا خصومة
وليس من طبيعته ذلك إنه مذهب العبودية الصحيحة

وهو المذهب الذى يتمذهب به كل من عنده نزعة التدين السليمة
وهو مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل
والسلف الصالح رضى الله عنهم
ومن الطبيعي أن يكون مذهب الفرقة الناجية
ويجب على كل المسلمين الفاقهين لدينهم أن ينشروه في جميع أنحاء المملكة الإسلامية فهو أمانة في عنقهم وهو رسالة يجب عليهم نشرها منعا للحيرة
- ry -

والاضطراب عند الأفراد ومنعاً للاختلاف والتنازع بين الجماعات ونشرا للإسلام وتوحيدا للكلمة بين الأفراد والجماعات الإسلامية ويجب أن ينتزع بحث الصفات كلية من محيط الفكر الإسلامى وأن تنتزع المسألة مما يسمونه علم الكلام فإذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد أزلنا سببا آخره هاما من الأسباب التي تفرق المسلمين الاختلاف في العقيدة ونكون بذلك قد ساهمنا بقسط وافر في سبيل بسبب
التوحيد
۸ وربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذى وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن
يقول
اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
قلت يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب
قال نعم ما من خلق الله من بشر من بنى آدم إلا وقلبه بين أصبعين من
أصابع الله فإن شاء الله أقامه وإن شاء أزاغه

فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه
رحمة إنه هو الوهاب
قلت يا رسول الله ألا تعلمنى دعوة أدعو بها لنفسي
قال بلى قولى
اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من
معضلات الفتن ما أحييتني
وعن محمد بن جعفر بن الزبير فى قوله ربنا لا تزغ قلوبنا أى لا تمل
قلوبنا وإن ملنا بأجسادنا
- TA-

وهذا الدعاء مترتب على قوله تعالى
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
فدعا الراسخون فى العلم ألا يزيغ قلوبهم بتتبع المتشابه والبحث فيه
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك
وأخرج الحاكم وصححه عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
ويقول الراسخون في العلم - أيضا

۹ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد
وذلك يشبه التعليل لدعائهم بعدم الزيغ وذلك أن الله تعالى سيجمع الناس يوم القيامة للحساب والراسخون فى العلم أملهم كبير في ألا يكون في قلوبهم يوم الحساب شيء من الزيغ يحاسبون عليه
ثم يقول الله تعالى
۱۰ و إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود
النارية
۱۱ و كداب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد
العقاب
ويشبه هذا ما يقوله الله تعالى
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى سبا ٣٧
ومهما بلغت بهم زخارف الحياة الدنيا فسيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر في الدنيا أما في الآخرة فإنهم حطب النار
وما مثل صنعيهم فى الكفر إلا كمثل صنيع آل فرعون ومثل صنيع من كانوا قبل آل فرعون الذين كذبوا بآيات الله فنكل الله - تعالى - بهم بسبب آثامهم
- ۳۹ -

وقد ورد في أخذ الله الناس بذنوبهم قوله تعالى
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا يكسبون الأعراف ٩٦
وقوله سبحانه
ولو يُؤاخذ اللهُ الناس بما كسبوا ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل
مسمى
فاطر ٤٥
وقوله تعالى
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير الشورى ٣٠ وقد وردت أحاديث في هذا المعنى منها ما أخرجه ابن عساكر عن البراء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما
يغفر الله أكثر
وإذا كان الله تعالى يأخذ الآثمين بذنوبهم فإنه سبحانه يرضى ويحفظ
ويثبت المستغفر والمنيب إليه والمتقى يقول سبحانه ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ الطلاق ٢٢
ويقول تعالى
ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا الطلاق ٤
ويقول سبحانه
ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا الطلاق ٥
والذنوب من أسباب الهزيمة والخذلان فى الجيوش وقد أعلن ذلك سيدنا
عمر رضى الله عنه متابعا للجو القرآني
إن تنصروا الله ينصركُمْ ويُثبت أقدامكم محمد ٧

۱ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
۱۳ و قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرةً يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاءُ إِنَّ في ذلك لعبرة لأُولي الأبصار
وهؤلاء الذين كفروا مكذبين بآياتنا بلغهم أنهم مهما بلغوا من القوة فإنهم سيغلبون فى هذه الحياة الدنيا أما في الآخرة فإنهم إلى جهنم وبئس المهاد
أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال
يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا
فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا فأنزل الله
و قل للذين كفروا ستغلبون وتُحْشَرُونَ إِلَى جهنم وبئس المهاد و قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يُؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
وإذا كانت الآيتان قد نزلتا فى ظروف خاصة فإنهما بمفهوهما عامتان
لا تختصان بزمان محدود ولا مكان معين يقول تعالى
وإن جندنا لهم الغالبون الصافات ۱۷۳
إنهم الغالبون في كل زمان وكل مكان مكان ما استقاموا على طريق الله
سبحانه وتعالى
-21-

بسم الله الحر الخير
ربنا آتنا من لَدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
صَدَقَ الله العظيم

١٤ زين للناس الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن الماب
حكى عن الحسن رضى الله عنه أنه قال
الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات وأن تزيينها وظيفة الشيطان وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده ا هـ
والقناطير المقنطرة تعني الكثرة الكثيرة والخيل المسومة الخيل الحسان
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال
تسويمها حسنها
والأنعام هى الإبل والبقر والغنم والحرث الزراعة
وكل ذلك إنما هو ملاذ الحياة الدنيا والله سبحانه عنده حسن المرجع
ونحب أن نقول إن نظرة الإسلام إلى الدنيا أنها مزرعة للآخرة وأنها إذا كانت كذلك فإنها حسنة ولذلك كان كثير من الصحابة من كبار الأغنياء وكان من هؤلاء الأغنياء من بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وذلك لأنهم اتخذوا الدنيا مزرعة للآخرة وكانوا من الأغنياء الشاكرين والغنى الشاكر هو الغني الذي يتصدق ويوالى ويحسن وثوابه عند الله عظيم
ويقول الله تعالى
١٥ وقال أو نبتكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد
عن أبي سعيد الخدرى - فيما أخرجه الشيخان - أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال
إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة
فيقولون لبيك ربنا وسعديك
فيقول هل رضيتم
- EY -

فيقولون ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك
فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك
قالوا يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك
فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبداً
والذين اتقوا هم
١٦ الذين يقُولُون ربنا إننا آمَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
۱۷ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار
إنهم الذين صدقوا بآيات الله التى نزلت على لسان رسوله وأعلنوا إيمانهم واتجهوا إلى الله تعالى فى خضوع يرجونه غفران الذنوب والوقاية من عذاب النار وإنهم الصابرون وإنهم الصادقون وإنهم القانتون أي خاضعون لله مطيعون له وإنهم لينفقون أموالهم في سبيل الله لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ولا يرجون شكورا وعادتهم الثابتة أنهم يستغفرون بالأسحار
وقد جمعت الآيتان الكثير من صفات المؤمنين

ومن صفات المؤمنين التضرع إلى الله تعالى بالدعاء وقد حثنا الله سبحانه على الدعاء
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم غافر ٦٠
وبين سبحانه أنه قريب لا تباعد بيننا وبينه حواجز ولا فواصل وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ البقرة ١٨٦
وفي فضل الدعاء ما يلى
عن أبي هريرة رضى الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد والترمذي - عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال
ليس شيء أكرم على الله من الدعاء
-et-

وسلم
قال
داخرین
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض ۱ وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
الدعاء هو العبادة ثم قرأ
وقال رَبُّكُمُ ادْعُوني أستجب لكُم إِنَّا يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم

وروى عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الدعاء مخ العبادة
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها أو صرف
عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم
وسلم
فقال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر ٤
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
ما من مسلم ينصب وجهه لله عز وجل فى مسألة إلا أعطاه إياها إما أن
يعجلها له وإما أن يدخرها له في الآخرة ٥
- رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ورواه أبو يعلى من حديث على
٢ - رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح
2
- رواه الترمذي
رواه الترمذي والحاكم
ه رواه الإمام أحمد رضي الله عنه
- ٤٤ -

من صفاتهم الصبر بمعناه العام الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي
ومن صفاتهم الصدق وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا إنهم
يصدقون في الأقوال والأفعال والنيات
الفجر
ويقول سبحانه
وإن الله مع الصابرين البقرة ١٥٣
ويقول والله يحب الصابرين آل عمران ١٤٦
ومن صفاتهم أنهم قانتون مطيعون خاشعون في طاعتهم
ومن صفاتهم إنفاقهم في السر والعلن حسبما يستطيعون

ومن صفاتهم الاستغفار في الأسحار والسحر هو الزمن الذي قبيل طلوع
ويقول الإمام جمال الدين القاسمي
وقال الرازي واعلم أن المراد منه من يصلى بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك
فقوله
والمستغفرين بالأسحار آل عمران ١٧
يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل اهـ
وقد روى ابن أبي حاتم أن عبد الله بن عمر كان يصلى من الليل ثم يقول یا نافع هل جاء السحر
فإذا قال نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح
وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة
وروى ابن جرير عن حاطب قال سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد
وهو يقول
يارب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لى فنظرت فإذا هو
ابن مسعود
-20-

وثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه عن الجماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل
الآخر يقول
من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني
فأغفر له
ويقول صاحب الكشاف الواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في
كل واحدة منها
۱۸ شهدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إلا هو والْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز
الحكيم
۱۹ و إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الَّذينَ أُولُوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فَإِنَّ الله سريع الحساب
۰ و فإِن حاجوكَ فَقُلْ أسلمتُ وجهي الله ومن اتبعن وقُل للذين أوتوا الكتاب والأميين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
شهد الله أى بيَّن وأظهر أنه لا إله إلا هو وأقر الملائكة بذلك واعترفوا وشهد أولو العلم مع الأنبياء مؤمنين بما بينه الله تعالى وأظهره و بالقسط هو
العدل
ويقول الإمام جعفر الصادق وإنما كرر لا إله إلا هو لأن الأولى وصف التوحيد والثانية رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو
وكثير من الصالحين حين يقرءون هذه الآية الكريمة يقول الواحد منهم وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهى لى وديعة عند الله ومن الأدعية النفيسة في هذا المقام قول الرسول
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك أنت الله الذى لا إله إلا أنت وحدك لا
-2-

حدود هذا العالم الأرضي - إذا أمكن ذلك - فلا يتقيد به ولا يتحدد بحدوده إنها لا تحد بالبعثة المحمدية فسيدنا نوح عليه السلام يقول لقومه
فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأُمَرْتُ أَنْ أَكُون مِن المُسلمين
وسيدنا إبراهيم يقول عنه القرآن الكريم
یونس ۷
ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
آل عمران ٦٧
وحينما كان سيدنا إبراهيم يرفع القواعد من البيت هو وسيدنا إسماعيل أخذا يدعوان الله سبحانه قائلين
وربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أُمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم البقرة ۱۷ ۱۸
ولم ينس سيدنا إبراهيم وسيدنا يعقوب أن يوصيا بنيهما بالإسلام
يقول تعالى

وووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم
مسلمون به البقرة ۱۳
وحينما حضر سيدنا يعقوب الموت قال لبنيه مستفسراً ليذهب إلى ربه
مطمئنا
إما تعبدون من بعدي البقرة ۱۳۳
قالوا
نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونَحْنُ لَهُ مُسْلَمُونَ
- EA-
البقرة ۱۳

وقال سيدنا موسى لقومه
طور قال موسى يا قوم إن كُنتُم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كُنتُم مُسلمين يونس ٨٤
وسيدنا يوسف يتجه إلى الله بالحمد والشكر والدعاء
طرب قد اتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت
وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين يوسف ١٠١
وأوحى الله إلى الحواريين أن
آمنوا بي وبرسولي المائدة ١١١
قالوا
آمنا واشهد بأننا مسلمون المائدة ١١١
ولما أحس عيسى من قومه الكفر سألهم قائلا
من أنصاري إلى الله ﴾ آل عمران ٥٢
قال الحواريون
نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون آل عمران ٥٢
على أن تسميه أتباع الدين الإسلامي في العصر الحاضر بالمسلمين كانت تسمية سابقة على وجودهم الزمنى فلقد بين الله سبحانه في آية من القرآن بعض جوانب الرسالة الملقاة على عاتق الأمة الإسلامية وأشار فيها إلى سيدنا إبراهيم - وهي آية من آيات التوجيه الإلهي الذى يجب أن يكون شعار كل مسلم - فقال سبحانه
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الــديـــن من حرج ملة أبيكم إبراهيم هُوَ سَمَاكُمُ المُسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتُوا الزَّكَاةَ واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم
هر
النصير الحج ٧٨
- 29-

ومن البدهي أن يكون الإسلام بهذه المكانة من العموم والشمول في المكان ومن عدم التحديد بالبعثة المحمدية فإن أساسه لا يختلف فيه اثنان وإن مبادئه الجوهرية حينما تعرض على النفوس المخلصة لا تجد إلا القبول والإذعان
والقرآن يعرض الإسلام في أساسه وجوهره فى كلمات قليلة لا مناص من
الإيمان بها عندما يوجد الإخلاص يقول تعالى أمرا رسوله الكريم
قل إنما يُوحى إلى وحى إلى أنما إلهكم إله واحدٌ فهل أنتم مسلمون الأنبياء ١٠٨
ويأمره صلى الله عليه وسلم في خطابه مع أهل الكتاب أن يقول لهم وقل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
آل عمران ٦٤
ويُبين لهم الله سبحانه إحدى علامات الصادقين والمرسلين مفرقا بهذه المناسبة بين الكفر والإيمان فيقول
وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثُم يَقُول للناسِ كُونُوا عبادا لي من دون الله ولكن كُونُوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون آل عمران ۷۹ ۸۰
ويبين الله فى عموم شامل وفى شمول عام في صورة استفهام تقريري
جوهر التدين فيقول سبحانه
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه الله وهُو مُحسن ﴾ النساء ١٢٥
ومن هذه الآيات السابقة نعرف أن جوهر الإسلام هو
فى العقيدة إسلام الوجه لله ومعنى إسلام الوجه لله
الإيمان بوحدانيته كما ترشد إليه الآية الأولى مما أوردناه سابقا ووحدانيته ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا م
سبحانه تقتضي
آل عمران ٦٤

إنها تقتضى أن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا آل عمران ۸۰
وتقتضى أن نكون ربانيين والربانية في العقيدة أن يكون الله وحده هو المقصود والمرجو
- أما في الأخلاق فإن جوهر الإسلام هو الإحسان والربانية كما تكون في العقيدة فإنها تكون في الأخلاق والربانية في الأخلاق أن يتخلق الإنسان بالأخلاق التي أمر الله بها
والإسلام إذن كلمة شاملة لإسلام الوجه لله وللإحسان
والإحسان في الحقيقة يؤسس على إسلام الوجه لله وينبع منه فإسلامك الوجه لله فى النهاية هو الإسلام ولن يتأتى أن يعارض أحد أو يرفض إسلام الوجه لله اللهم إلا هؤلاء الذين خلت قلوبهم من الشعور بمعنى التدين
ومن البدهى إذن أن الإسلام - إسلام الوجه لله - هو طريق الهداية فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام الأنعام ١٢٥
أفمن شرح الله صدرة للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله
أولئك في ضلال مبين الزمر ٢٢
ومعنى إسلامك الوجه لله قد فسره الله سبحانه حينما وضح ذروته ممثلة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت
وأنا أول المسلمين الأنعام ١٦٢٠ ١٦٣٠
ولعل أول آية نزلت من القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى أيضاً وكانت بذلك توجيها من أول الأمر إلى أن يكون العمل باسم الله لا باسم شيء آخر أو كائن آخر
واقرأ باسم ربك الذي خلق العلق ١
وآيات أخرى أشارت إلى المعنى الذي نقصده ناهية عن أكل مالم يذكر اسم
الله عليه
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإِنَّهُ لفسق الأنعام ١٢١
-01-

مقدمة في التفسير
الكتاب العزيز المبارك
يقول الله - سبحانه - عن ليلة نزول القرآن
وإنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا
إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم الدخان ٣ - ٦
وهذه الليلة المباركة التى نزل القرآن فيها هي ليلة القدر وعنها وعن نزول
القرآن فيها يقول الله - سبحانه
و إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كُل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر القدر ١-٥
كيف حدث ذلك
في أوائل صحيح الإمام البخارى أصح الكتب بعد كتاب الله - سبحانه- وصف لكيفية نزول القرآن عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحى الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى

بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فقال فأخذني فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فقطنى الثالثة ثم أرسلني فقال
واقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم
العلق ١-٣
-0-

أما ما ذُبح على النصب فإنه فسق أيضا لأنه لم يُذكر اسم الله عليه أو
لأنه بتعبير آخر - لم يرد به وجه الله تعالى

والإسلام إذن وفى ضوء ما سبق - هو الدين في إطلاقه المطلق وفى تحديده المحدد فمما لاشك فيه أنه لا دين خارج إسلام الوجه لله وأن الدين في معناه الصحيح إنما هو إسلام الوجه لله
لله
وسواء عرفت الدين بهذا التعريف أو ذاك فإن معناه الصادق إسلام الوجه
ومن هنا كان لفظ الإسلام أصدق تعبير عن الدين وكانت القضية
إن الدين عند الله الإسلام
قضية لا شك فيها
وكانت القضية المترتبة على هذه
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
قضية هي الأخرى لا شك فيها
إن كل من يرفض إسلام الوجه لله إنما يرفض الدين
آل عمران ٨٥
وبمقدار بعد الإنسان أو قربه من إسلام الوجه لله يكون قربه أو بعده من
المعنى الصادق للدين
وليس بغريب - والأمر كذلك - أن يتحدث القرآن الكريم عن طائفة من أهل الكتاب انطوت جوانحهم على الإخلاص فيعلنون إسلامهم بمجرد أن يتلى عليهم القرآن بل يعلنون أنهم كانوا من قبله مسلمين يقول تعالى
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرُونَ * الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالُوا آمَنَا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ من ربنا إِنَّا كُنا من قبله مسلمين * أُولئك يؤتون
- OT -

مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين
القصص ٥١-٥٥
والنتيجة المنطقية لما سبق ما أعلنه القرآن الكريم بقوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نُوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُوا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يـ إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب الشورى ۱۳
ويقول سبحانه
يجتبي
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط وما أُوتِي مُوسى و
مسلمون آل عمران ٨٤
رون من ربهم
بين
منهم ونحن له
وإسلام الوجه لله هو التوحيد وإذا كانت سمة النصرانية في وضعها الراهن على ما يروى البيروني - هي التثليث فإن سمة الإسلام - حسبما يقول بحق - هي التوحيد إنها توحيد الله بالربويبة بالخلق بالإيجاد بالإعطاء
بالمنع
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء
وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير آل عمران ٢٦
إنه سبحانه يملك الملك فى اليسير منه والعظيم في الصحة في القوة في الجاه في الرزق في الغنى
وهو يملكه في الناحية القلبية وقلب الإنسان بين إصبعين من أصابع الرحمن وهو يملكه في الهداية ومن يهد الله فلا مضل له
وهو يملكه فى الآخرة مالك يوم الدين الفاتحة ٤
إنه سبحانه المتصرف المطلق فى الصغير والكبير لا يعزب عن علمه ولا
- ٥٣ -

عن قدرته ولا عن إرادته وحكمته مثقال ذرة فى الأرض ولا في السماء ولا أصغر
من ذلك ولا أكبر وهيمنته شاملة عامة مطلقة
ونعود فنذكر قوله تعالى
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَا مُسلَمُونَ
آل عمران ٦٤
أى فإن لم يعترفوا معكم بأنه يجب أن تخصص العبادة لله وحده وأن ينتفى الشرك به سبحانه وألا يتخذ المخلوقون بعضهم بعضا أربابا أي فإن لم يعترفوا بهذا التوحيد وأعرضوا فَأَعْلِنُوا أنكم مسلمون أي موحدون والإسلام - كما كانت الأديان فى نقائها وصفائها - من قبل - إنما هو التوحيد وهو دعوة إلى التوحيد فالتوحيد - أو إسلام الوجه لله جوهره وأساسه وكل تعاليمه ومبادئه إنما هي التوحيد وهى وسائل ومناهج للوصول بالإنسان إلى التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله إنها رسالة السماء الخالدة وأشهد أن محمدا رسول الله الذى بلغ الرسالة فأدى بهذا التبليغ الصادق
والأمانة التى وكلت إليه وهي التوحيد
التوحيد هو مبدأ الإسلام وجوهره ولكن التوحيد ليس مجرد قول وليس مجرد كلمة لا أساس لها في القلب والشعور وإذا لم يؤمن الإنسان بالتوحيد إيمانًا يملك عليه جميع أقطاره فيتغلغل في جميع أنحاء شعوره ووجدانه ويغمر قلبه
ونفسه ويكيف جسمه ويوجهه الوجهة السليمة فإنه لا يكون كامل الإيمان
توحيد
ومن أجل إيجاد الإنسان الموحد في صورة واقعية كانت تعاليم الإسلام

فالصلاة إنما هي انفصال عن كل ما سوى الله من أجل الاتصال بالله فهى
ومن هنا كان بدؤها الله أكبر لتشعر الإنسان من المبدإ أن جميع ما في
العالم من بشر تتعلق بهم الآمال أو يناط بهم الرجاء فإن الله أكبر منهم وأجل
وأعظم فيجب أن تتعلق الآمال به وحده وأن يقتصر الرجاء عليه سبحانه

-02-

ثم تتوالى جميع الأوضاع في الصلاة من قراءة وركوع وسجود وتشهد
لتعلن بكل حركة وبكل وضع الانفصال عما سوى الله من أجل الاتجاه إلى الله
وحده ومن أجل إسلام الوجه إليه سبحانه
والصوم إنما هو تنزه عن المادة وعن السوء فى القول والعمل فترة من الزمن من أجل مرضاة الله إنه تنزه عن النقص البشرى الذى يتمثل في شهوات المعدة لتخلص الروح فترة من التأمل فى كمال الله إنه محاولة للتخلق بأخلاق الله لأنه سبحانه الكمال المطلق الذى لا يحتاج إلى شيء والذي لابد لمن يأمل في شيء من الكمال - من أن يتحلى بما أراده سبحانه منه إنه تنزه عن النقص في
سبيل التوحيد
والزكاة إنما هى بذل المادة في سبيل الله إنها بذل المادة التي يجري وراءها البشر ويكادون يعبدونها بذلها بعد امتلاكها بذلها وقد كان فيها - لو أراد - الوسيلة للملاذ والشهوات إنها تجرد عن المادة توحيدا لله سبحانه
أما الحج - والله نسأل أن يكتبه لنا كل عام - فإنه تجرد كله إنه تجرد عن الماضي فهو فى بدايته التوبة عن الذنوب والآثام أى عن الفترات التي غفل الإنسان فيها عن ذكر الله فأشرك معه غيره واتخذ إلهه هواه فنسي الله فوقع
في المعصية والإثم

وهو تجرد حتى عن ملابس الماضى وهو تلبية من أول لحظاته
تلبية هي استجابة لله وحده أو هي توحيد خالص إنها استجابة كاملة للأمر
بنفى الشريك
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك
لا شريك لك
إن هذا النداء الذي يتعالى وله عبير طيب وله سنا متألق فيصعد إلى السماء فتفتح له أبوابها إن هذا النداء إنما هو الانطواء الكامل تحت راية التوحيد وتتوالى أعمال الحج كلها واضحة سافرة أو رمزية مستعلية معلنة
100-

التوحيد منادية به طائفة وراءه ساعية من أجله واقفة تستشرفه راجية من الله سبحانه وتعالى أن يقبل أصحابها في زمرة الموحدين يقول الله تعالي وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أَنَّهُ لا إله إلا أنا فاعبدون به
هذه بعض معالم التوحيد في العقيدة
الأنبياء ٢٥
ومعالم التوحيد فى الأخلاق ألا يصدر عن الإنسان ولا يرد في سلوكه الشخصي أو في سلوكه الاجتماعي أمر إلا عن توجيه إلهى
ومعالم التوحيد في النية أن يكون الإنسان فى كل ما يأتي وما يدع قاصدا وجه الله تعالى هو أن تكون حياته كلها لله وليست الحياة وحدها وإنما
الممات - أيضا
والتوحيد على العموم هو أن يهب الإنسان نفسه لله في قيامه وجلوسه في نومه ويقظته في حديثه وصمته فى غضبه ورضاه فى صداقته وعداوته في بيعه وشرائه في عمله وراحته فى أفكاره وآرائه فى توجيهه وإشارته في نصائحه وتحذيراته فى كل نفس يتنفسه أو طرفة عين يطرفها
ونعود فتذكر - كقانون جامع - أن توحيد الإنسان هو أن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له
ويقترب الإنسان من المثل الأعلى الإسلامى بمقدار قربه من هذه المعاني
عقيدة وأخلاقا وعلما
وقوله تعالى
والا لله الدين الخالص الزمر ٣
إنما يشير بها إلى خلوصه من كل شائبة شرك سواء أكان الشرك في العقيدة أم كان في الأخلاق والنية
والله سبحانه أغنى الشركاء فمن عمل عملا له ولغيره فإن الله سبحانه
10-

بريء من عمله وكذلك من اعتقد شريكا لله فالله برىء منه
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئى ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
وذلك كله يسلمنا إلى أن المعنى الحقيقي للإسلام هو كما ذكرنا
إسلام الوجه لله
ويعبر عن هذا فى وضوح جميل الحديث الشريف الذي رواه الصحابي
الجليل عمرو بن عبسة قال
قال رجل يا رسول الله ما الإسلام
قال - صلوات الله وسلامه عليه أن يسلم لله قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ۱
وما من شك في أن سلامة المسلمين من لسان الإنسان ويده إنما ترجع إلى سلامة قلبه لله وأنها على حد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
لوخشع قلبه لخشعت جوارحه
وعلى حد قوله صلى الله عليه وسلم
ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد
الجسد كله ألا وهي القلب
* * *
وقد يتساءل إنسان وما كيفية إسلام الوجه لله
ما الوسائل لذلك ما الطريق
رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح
-01-

أما الوسائل فإنها المبادئ الإلهية التى قررها الله سبحانه على لسان رسوله قرآنا كانت أو سنة قولية أو عملية
ولا مناص لكل من يريد أن يسلم وجهه لله سبحانه من أن يرجع في ذلك إلى القرآن ومن أن يرجع فى ذلك إلى السنة أى أنه لا مناص لكل من يريد من الهداية أو التدين أو الحق من أن يلجأ إلى القرآن والسنة
وذلك أن القرآن الكريم إنما هو النص الوحيد في العالم الآن الذي احتفظ بحفظ الله له - بالتعبير الإلهى الذى يشرح الدين ويوضحه دون تحريف بزيادة أو نقص والقرآن لم يحتفظ بما أوحاه الله بالمعنى فحسب
وإنما احتفظ بالتعبير نفسه وهذه المنزلة لا تدانيها منزلة ودرجة في الدقة والصدق ولا يضارعها غير حتى ولا من قرب
وإنها لمفخرة للمسلمين كبرى أن يكون الدين الذى يدينون به إنما يرجعون فيه إلى النص الإلهي نفسه فى دقته وفى نضارته وفى بركته وفى سنائه ولآلائه وإنها لمفخرة للغة العربية أن تحتفظ بالنص الإلهى الوحيد في العالم أن تحتفظ بالكتاب الذى أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير

أما النتيجة الأولى التي نريد أن نصل إليها فهى أن الدين وإسلام الوجه لله والتوحيد والإسلام كلها بمعنى واحد يفسر بعضها بعضا ويشرح بعضها بعضا وكلها مطلقة عامة لا يحدها زمان ولا مكان وكلمة الإسلام خير ما يعبر عنها في
جرسها وفى كمالها
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
المائدة ٣
والنتيجة الثانية هى أن جوهر الشخصية الإسلامية أو شخصية المسلم
إنما هى إسلام الوجه لله أو التوحيد أو التدين الصادق أو الإسلام
وبمقدار قرب المسلم من الإسلام يكون كمال شخصيته
1041

أما فيما يتعلق بأهل الكتاب فإنهم لم ينحرفوا مختلفين عن جهل بالتوحيد
وإنما اختلفوا على علم متبعين أهواءهم ونزعاتهم إنهم اختلفوا بغيا بينهم من أجل الدنيا فضلوا وأضلوا
۱ وإن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم
و أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين
كان دأب اليهود - ومازال - أنهم إذا تعارضت شهواتهم ومصالحهم المادية مع ما يدعو إليه أحد الناس دبروا المكائد لقتله حتى ولو كان نبيا ولقد قتلوا يحيى عليه السلام وقتلوا غيره من أنبيائهم وقتلوا كثيرين من الذين قامت دعوتهم على الأمر بالعدل ولقد دبروا قتل كل من اتجه إلى العدل في قضية الشرق الأوسط في العصر الحاضر من كبار الزعماء فهم الذين قتلوا كندى الرئيس الأمريكي الأسبق وغيره من كبار الذين لهم نفوذ وتأثير وكانوا يعملون فى جو الحق والعدالة و حبطت بمعنى بطلت
۳ ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثُم يتولى
وہ
فريق منهم وهم معرضون
٢٤ وذلك بأنهُم قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَات وَغَرَهُم فِي دِينِهم مَا كَانُوا يفترون ٢٥ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كُلُّ نفس ما كسبت وهم لا يُظْلَمُون
يقول صاحب كتاب محاسن التأويل
قال بعض المفسرين إن من دعى إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب
عليه الإجابة
وقد قال العلماء رضى الله عنهم يستحب أن يقول سمعا وطاعة لقوله
تعالى
-09-

وإنما كان قول الْمُؤْمِنِينَ إِذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقُولُوا سمعنا وأطعنا
وأولئك هم المفلحون النور ٥١
أما السر في التولى والإعراض فهو أنهم افتروا كذبا قائلين إن النار لن
تمسهم إلا أياما معدودات

ويكذبهم الله تعالى بمنطق رباني هو أن يوم الحساب توفى كل نفس جزاء
ما كسبت بالعدل وهم لا يظلمون

٢٦ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزعُ الْمُلَكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كُلِّ شيء قدير
۷ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب
ومفهوم
الملك في الآية الشريفة هو كل شيء في العالم إنه الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء وكل ما هو خارج الأرض والسماء إنه المال والجاه والقوة والذكاء والسلطان وهو نبضات القلب وطرفة العين والخطوة يخطوها الإنسان وهو الخواطر والأفكار والعزائم والنيات والإرادات وهو كل ما يملك ذلك كله يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء
وهو سبحانه يملك تصريف الطبيعة وتسيير الكون على أدق نظام فهو الذي يصرف الليل والنهار فى أزمنتهما وهو الذى يخرج الحي من الميت كما يخرج النبات من الأرض ويخرج الميت من الحي حينما يعود الأحياء إلى سلب الحياة منهم يقول سبحانه
كيف تكفُرُونَ بالله وكنتم أمواتا فأحياكُمْ ثُمَّ يُميتكم ثُمَّ يُحييكُم ثُمَّ إِليه ترجعون
- 1 -
البقرة

۸ ولا يتخذ المؤمنون الكافريـ أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ا
شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير
۹ وقل إن تَحْفُوا ما في صُدُورِكُم أَو تَبدُوهُ يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء
الأولياء جمع ولى ومن معاني ولى النصير والصديق
ويقول صاحب الكشاف من كتاب محاسن التأويل
نهوا أن يولوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر وقد كرر ذلك في القرآن ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم
لا تجد قوما يؤمنون بالله المجادلة
المائدة ٥١
والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان وقوله تعالى من دون المؤمنين حال أى متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا وفيه إشارة إلى أنهم الأحق بالموالاة وأن فى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء أى ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعنى أنه منسلخ من ولاية الله رأسا وهذا أمر معقول فإن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان قال
تود عدوى ثم تزعم أنني صديقك ليس النـوك عنك بعازب
۳۰ يوم تجد كل ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه
نفس
أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير
يبين الله تعالى لكل نفس أن ما عملت الخير سيكون بين يديها بينا واضحا وما عملت من سوء كذلك وحينما يكشف عنها الغطاء ويظهر لها ما عملت من السيئات والذنوب فإنها تتمنى أن يكون بينها وبين السوء مسافات شاسعة حتى
لا ترى قبح سوء مغبته
-1-

وكما وصف الله - سبحانه - ليلة نزوله بأنها مباركة فإنه وصف القرآن نفسه بأنه مبارك كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أُولُوا الألباب ﴾ ص ٩٢
ولقد استفاض القرآن الكريم فى وصف القرآن ونبدأ الحديث عن هذه الأوصاف بملاحظة نرجو القارئ أن يتدبرها معنا أن الله - سبحانه وتعالى - يختم سورة الشورى بهذه الآيات الكريمة
ووما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يُرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه على حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأَرْضِ أَلا إِلى الله تصير الأمور الشورى٥١-٥٣
في هذه الآيات الكريمة يذكر الله - سبحانه - صفتين من صفاته تعالى إنه علي حكيم الشورى ٥١
إنه – سبحانه - على فى الأرض وعلى على كل على في السماء إنه - سبحانه - على فى الأرض وهو على في السماء وهو – سبحانه - حكيم الحكماء إنه على حكيم دون تشبيه أو تمثيل
وبعد هذه الآيات الكريمة يبدأ القرآن مباشرة فى سورة الزخرف والآيات
الأولى منها
حم والكتاب المبين * إِنَّا جعلناه قرآنا عربيا لعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُم الكتاب
*
لدينا لعلي حكيم الزخرف ١ - ٤
وفي هذه الآيات يصف الله - سبحانه - القرآن الكريم بالوصفين اللذين وصف بهما نفسه ولكنه يزيد شيئا من التأكيد
إن القرآن على على كل ما عداه من قول إذا نظرت إليه من الناحية اللفظية وجدته في أعلى مستوى من مستويات البلاغة وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر البشر لقد أعجز البلغاء في كل عصر وتحداهم في كل بيئة

فتحقق الرجاء فى الله أن يخلص الإنسان وجهه لله في العبادة وأن يكون من ذوى الأعمال الصالحة وإلا كان رجاؤه فى الله شكلا لا حقيقة له وظاهرا لا جوهر له
أما الذين لا يرجون لقاء الله فيصفهم الله تعالى بقوله
وإن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا
غافلون يونس ٧
وهؤلاء لا نصيب لهم فى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
لم يتوافر فيهم شرط رجاء الله سبحانه

والشرط الثانى أن يرجو الإنسان اليوم الآخر
ورجاء اليوم الآخر هو رجاء النجاة فيه
ورجاؤه إذن إنما هو بالعمل للنجاة
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم الشعراء ۸۸ ۸۹ ومن لا يرجو اليوم الآخر فليس له فى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من نصيب
أما الشرط الثالث الذى يجب أن يتوافر فى الإنسان حتى يتأتى له الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أن يذكر الإنسان الله كثيرا وقد حدد الله الذكر بالكثرة ونص عليها سبحانه والذكر الكثير من سمات
المتدينين حقا
والتدين والذكر الكثير من سمات العقول الراجحة الذين يذكر الله صفاتهم في التفكر للعظة والاعتبار في خلق السموات والأرض
ومن صفاتهم الذكر فى جميع حالاتهم التي هم عليها وذلك كله على أساس
من الإيمان الخالص
-٦٣ -

يقول الله تعالى فى أسلوب رائع وفى معانى تتسلسل نورا وتتلألأ ضياء إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديًا يُنادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف
الميعاد آل عمران ١٩٠ ١٩٤
ويعقب الله على ذلك بقوله
فاستجاب لهم ربهم آل عمران ١٩٥
وبعد
فإنه إذا توافرت في الإنسان هذه الشروط فقد أصبح جديراً بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح بذلك من الذين يحبونه والمرء مع من
يقول الله تعالى
۳۳ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين
٣٤ و ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
المفردات
الاصطفاء الاختيار وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء
ويقول الزجاج معنى اصطفاهم فى اللغة اختارهم فجعلهم صفة خلقه
وآل إبراهيم من كان على دينه

وآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران كما
قال الحسن البصري رضي الله عنه
-2-

بعضها من بعض
أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال فى النية والعمل والإخلاص
والتوحيد
ويقول حبر الأمة ابن عباس رضى الله عنه
بعضهم من بعض في التناصر والدين لا في التناسل ا هـ
إنه سبحانه اصطفاهم فأعدهم إعداداً خاصا قبل ميلادهم أعدهم في أصلاب أجدادهم وآبائهم لقد تخير الله عز وجل لهم - بحكمته منذ الأزل - الأجداد والآباء يقول الإمام البوصيرى فى همزيته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم تزل في ضمائر الناس تختا
ر لك الأمهات والآباء
ويقول فى البردة أبان مولده عن طيب عنصره
لقد أعد سبحانه أوعيتهم - الجدات والأمهات - خَلقا وخُلقا وأعد سبحانه
الرسل والأنبياء وسطا وبيئة
إنه سبحانه يعدهم على عينه ﴿ ولتصنع على عيني طه ٣٩
واصطنعهم لنفسه واصطنعتك لنفسي طه ٤١
ويقول صلى الله عليه وسلم عن بعض ذلك فيما رواه الإمام مسلم
إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفانی
من بني هاشم
لقد رسم الله ماضيهم البعيد ورسم حاضرهم الذى عاشوه طفولة فشبابا فكهولة فشيخوخة رسمه منذ الأزل يقول سبحانه وتعالى في سيدنا عيسى عليه
السلام
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم
وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويُكلَمُ الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين
190-
آل عمران ٤٦٤٥

ويقول تعالى عنه
ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا مريم ٢١
وهذا الذي يذكره عزوجل بمناسبة سيدنا عيسى إنما هو عام في كل الأنبياء والرسل إن أمرهم كان مقضيا قبل أن يولدوا إن الله سبحانه وتعالى
قضى فى أزله أن يكونوا ذوى حسب فى قومهم وذوى منعة من عشيرتهم يقول ابن خلدون في علامات من يصطفيهم الله أن يكونوا ذوى حسب في قومهم وفي الصحيح
ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه
وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال كيف هو فيكم
قال أبو سفيان هو فينا ذو حسب
فقال هرقل وكذلك الرسل تبعث فى أحساب قومها
ومعناه أن تكون له عصبة وشوكه تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه ومن أمثلة ذلك ما قصه القرآن الكريم عن بعض الأنبياء كشعيب عليه السلام مثلا الذى قال له قومه يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز هود ٩١
وإذا كان الله قد أعدهم لاصطفائه قبل ميلادهم فإنه سبحانه حفظهم بسبب اصطفائه قبل أن يوحى إليهم حفظهم من الإثم والمعاصي يقول العلامة
ابن خلدون
ومن علاماتهم - أيضا - أنه يوجد لهم قبل الوحى خلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفى الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ودعى إلى مجتمع وليمة
--

فيها عرس ولعب فأصابه غشى النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال
إنى أناجي من لا تناجون
"
ويقول العلامة ابن خلدون عن الاصطفاء هذه الكلمات النفيسة
4
اعلم أن الله سبحانه قد اصطفى من البشر أشخاصا خصهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق
النجاة ا هـ
وإن من مظاهر الاصطفاء الواضحة الدعوة إلى تغيير القيم في المجتمع من
شر إلى خير ومن رذيلة إلى فضيلة ومن جاهلية إلى إسلام ونذكر من ذلك ما حدث بين النجاشي وسيدنا جعفر بن أبى طالب لقد سأل
النجاشي المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قائلا ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد
من هذه الملل
فأجابه جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه
أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسىء الجوار ويأكل القوى منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة
والأوثان
وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنات
- TV-

وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة
والصيام
قال فعدد أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل
لنا
وأمن النجاشي بأن ذلك لا يصدر إلا من شخص اصطفاه الله تعالى
والدعوة الخيرة تؤيد الاصطفاء
ويقول تعالى
٣٥ وإذ قالت امرأتُ عمران رب إني نذرتُ لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أن
السميع العليم
٣٦ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أُنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنني وإني سميتها مريم وإني أُعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم
۳۷ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إِنَّ الله يرزُقُ مَن يَشَاء
بغیر حساب کے
جلست السيدة حنة وعلى وجهها سمات الاهتمام والحزن ونظراتها معلقة بطائر يحنو على فرخه ويطعمه وأخذ خيالها يسرح يسرح عبر هذه السنين التي تقضت من عمرها الذى لم تتخلله البهجة بالأولاد يسرحون ويمرحون ويملئون البيت حبا وضجيجا حبيبا ومودة وفرحة
إنها حياة جدباء تلك التى لم تملأ جنباتها البهجة بالأولاد على هذا النسق كان يدور خيالها وعيناها ممتدتان إلى الطائر يطعم فرخه في حنان ومداعبة استمر خيالها يسير مع هواها واستمر شعورها بالرغبة في الولد يقوى ويتركز وإذا بها فجأة تسيل دموعها وتتجه إلى الله ضارعة في حرارة داعية في شوق ولهفة أن يهب لها ولدًا وقالت

اللهم لك على إن رزقتنى ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس
- 14-

يقول ابن إسحاق
كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت واستجاب الله لدعائها فلما شعرت بالحمل اتجهت إلى الله فى شكر وفي عرفان تؤكد من جدید نذرها
ويعبر القرآن عن ذلك بقوله
وإذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت
السميع العليم
وعمران الذي ذكرته الآية الكريمة ليس بعمران أبي موسى وبين موسى
وعيسى بون شاسع من الزمن
وأما قولها في الآية الكريمة محررا فمعناه معتقا وهي تقصد بذلك أنه معتق من أن يكون عبدا للدنيا ليعبدك وحدك
يقول الزجاج
كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم فى نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في معبدهم لقد سعدت السيدة حنة بهذا الحمل فهى تفكر في هذا الجنين في سعادة إنها تفكر فى صورته وتفكر فى بسماته وفى مداعباته وما كان خيالها يسرح مطلقا في جو هذا الجنين على أنه أنثى وإنما كان يسرح باستمرار في جوه - على أنه ذكر ها هو ذا قد أصبح شابا ذكيا فتيا يأخذ مكانته بين فقهاء المعبد وسدنته بين المسيرين لدفة الأمور الدينية والموجهين لها ثم ها هو حبر من كبار الأحبار له الكلمة المسموعة وو
وجاء أوان الوضع وفوجئت السيدة حنة مفاجأة لم تكن متوقعة
لقد كان المولود أنثى

ارتبكت السيدة حنة لحظة من الزمن وفكرت فى نذرها وفكرت في المقادير وفى سرعة اتجهت إلى الله تعالى وكأنها تعتذر أو تستغفر قائلة
طورب إني وضعتها أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بما وضعت وليس الذكر كَالأُنثَى وَإِنِّي سميتها مريم
-9-

وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم أما مريم هذه التي يحرص المفسرون
على بيان أنها ليست مريم أخت موسى فإن الله سبحانه أضفى عليها عنايته وشملها برعايته ويعبر سبحانه عن ذلك فيقول
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسناً آل عمران ۳۷
أما من ناحية كفالتها فقد تولى ذلك زكريا وكان لذلك قصة
قال السدى
انطلقت بها أمها فى خرقها وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم فوقعت
قرعتها على زكريا
وقال مقاتل
كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحد وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس
والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة ا هـ
وأخذت الطفلة تشب وتترعرع في كفالة زكريا

فلما بلغت السن التي تستطيع فيها الخدمة أخذت بتوجيه زكريا عليه السلام تعمل فى المعبد توفية لنذر أمها وتتعبد فيه إنها عاملة عابدة
واتخذت مريم عليها السلام محراباً
قال الأصمعي والمحراب ها هنا الغرفة والمحراب فى اللغة الموقع العالى الشريف كما يقول الزجاج
اتخذت مريم عليها السلام محراباً تعتكف فيه متعبدة متهجدة
وكان زكريا عليه السلام يدخل عليها من آن لآخر محرابها رعاية لها وعناية بها وتفـقـدا لأحوالها فكان - على دهشة منه - يجد عندها رزقا
- V -

ويعبر القرآن عن ذلك فيقول
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا
قال يا مريم أَنَّى لك هذا
وقالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
يقول الله تعالى
۳۸ و هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء لقد عاين زكريا عليه السلام ما تفضل الله به على مريم رضى الله عنها
من رزق وخرق للعادة فطمع فى الولد على كبر واتجه إلى الله في ضراعة اتجه إليه سبحانه من كل كيانه ومن أعماق نفسه ونادى ربه في جنح من الليل أو في هدأة من الناس وألح فى الدعاء بصور متعددة لقد نادى ربه نداء خفيا
وللقرآن في سرد القصة صور متعددة يوضح بعضها بعضا منها الصورة التي
قصها سبحانه في سورة مريم حيث قال زكريا عليه السلام
رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا مريم 2 فذكر أمره وبين حاله وبين فضل الله عليه حينما كان يدعو وأتبع ذلك
بذكر الأسباب التي دعته إلى هذا الطلب
وإني خفت الموالي من ورائي
أما الموالى فهم الذين يلونه في النسب وهم بنو عمه وخوفه منهم أن يضيعوا الدين وينبذوه وراء ظهورهم من أجل ذلك يدعو وتذكر في هذه اللحظة زوجه فقال - وكأنه يبين الموضوع من جميع جهاته أو كأنه يعرض القضية بجميع زواياها
وكانت امرأتي عاقرا مريم ٥
-VI-

وإذا نظرت إليه من ناحية المعنى فإنك تجده
ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصلت ٤٢
لقد أتى الباطل على كتب الله السابقة حين غُيرت وبدلت ولقد أثبت علم
تاريخ الأديان في أوربا وأمريكا هذا التغيير والتبديل بما لا مجال للشك فيه لقد أثبته مثلاً في فرنسا الأستاذ " شارل جنيير فى عدة كتب من مؤلفاته والأستاذ شارل قمة من قمم التحليل العلمى وقد احتل أكبر المناصب العلمية في علم تاريخ الأديان في فرنسا وهو منصب رئيس قسم تاريخ الأديان في جامعة باريس وأثبته الأستاذ لودس وهو من كبار أساتذة تاريخ الأديان في فرنسا أيضاً في عدة كتب من مؤلفاته

وأثبته غيرهم
أما القرآن فإن الأستاذ ديمومبين وعشرات غيره من المستشرقين الغربيين قد قالوا إن القرآن الذى نقرؤه الآن هو القرآن الذى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم - وصدق الله العظيم إذ يقول
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ الحجر ٩
ولم يدخل عليه الباطل من جانب المبادئ وإذا كان التغيير والتبديل في الكتب السابقة قد أفسد المبادئ التي أتت بها الأديان السابقة فإن المبادئ التي رسمها القرآن هداية للإنسانية باقية على الدهر تعلن عن مصدرها وأنها تنزيل من
حکیم حمید که فصلت ٤٢
وأى نظرة إلى هذه المبادئ تثبت صدقها
إنها في التشريع ترتكز على العدالة ﴿ اعدلُوا هُو أقرب للتقوى واتَّقُوا الله إن الله
خبير بما تعملون ﴾ المائدة ٨
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تذكرون ﴾ النحل ٩٠ وفي الأخلاق ترتكز على الرحمة
- V-

ولما استكمل العرض قال
فهب لي من لدنك وليا مريم ٥
أي يخلفني على أمر الدين وأمر الدعوة ويرثنى فى علمى ويرث من آل يعقوب طريقتهم فى الدعوة إلى الله سبحانه ثم يقول داعيا الله للمولود وكأن
الأمر قد استجيب له يقول
واجعله رب رضيا مريم
هذه هي المقدمات التى قصها الله تعالى في سورة مريم التي ذكر الله تعالى في أوائلها قوله سبحانه
ذكر رحمت ربك عبده زكريا مريم ٢
أما في سورة الأنبياء فإن الله سبحانه وتعالى يقول
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين الأنبياء ٨٩٠
أما فيما يتعلق فيما بين أيدينا من آيات كريمة عن قصة زكريا فإنه يقول
وهب لي من لدنك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاء
ومن كل ذلك نعلم أن رغبة زكريا فى الولد لم تكن لما جبلت عليه الطبيعة البشرية من حب الولد وإنما من أجل استمرار الدعوة إلى الله تعالى إنه يقول فهب لي من لَدُنكَ وَلِيًّا * يرثُنِي
والأنبياء كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تورث مالا فالوراثة هنا وراثة الدعوة والولاية للأنبياء هي ولاية منهج روحى واتباع
ويقول
و رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين

لم يقل زكريا رب لا تذرني فردا ثم سكت كلا وإنما أتبع ذلك بقوله
و وأنت خير الوارثين
أي إنى أطلب مع يقيني بأنك فى حكمتك العليا خير الوارثين تُصرف الكون
حسبما اقتضته حكمتك
- VT-

وفي الآيات الكريمة التي نشرحها يدعو بأن يرزقه الله ذرية طيبة
ومن ذلك نتبين أن طلب زكريا الولد إنما كان من أجل استمرار الدعوة وقد
ركزنا على ذلك متعمدين حتى يكون واضحا أن الأنبياء مع الله لا مع الدنيا وكذلك
الأمر عند الصديقين
لقد نذرت أم مريم ما فى بطنها لله تعالى وقال زكريا
رب هب لي من لدنك ذرية طيبة
وقال إبراهيم عليه السلام
رب هب لي من الصالحين الصافات ١٠٠
ويقول تعالى عن هؤلاء وغيرهم ممن هم مع الله
والذين يقولُون ربنا هب لنا من أزواجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلنا للمتقين إماما
الفرقان ٧٤
وهذا النوع من طلب الصفوة وأهل الخصوص الذين يهبون حياتهم له تعالى
ويهبون حياة أبنائهم من قبل ميلادهم ومن بعد ميلادهم لله تعالى ولا يكون هدفهم هو ما يهدف إليه من يطلبون الولد للاستئناس والنصرة المادية والمعونة على المعاش والقيام بأمر الأسرة فى الجانب المادى بل يكون هدفهم سائرا في تيار ما كرسوا حياتهم من أجله وهو الهداية للمجتمع والعمل على أن يستقيم على أمر الله تعالى أي أنهم يكرّسون حياتهم وحياة أبنائهم لإسعاد الإنسانية وذلك أن الاستقامة على أمر الله تقود المجتمع إلى السعادة والله سبحانه وتعالى يقول من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون غافر ٤٠
ويقول سبحانه
ولَوْ أَنَّ أَهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
- ۷۳ -
الأعراف ٩٦

لقد دعا زكريا عليه السلام وألح فى الدعاء فماذا كانت النتيجة
۳۹ فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن اللـه ك بيحيى مصدقا بكلمة من
الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين
حينما رأى سيدنا زكريا كرامة مريم رضى الله عنها على الله تعالى ومنزلتها عنده سبحانه طمع فى أن تكون له ذرية وما ذلك على الله بعزيز فدعا الله في إخلاص فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه
وهذه الاستجابة كان لها مقدمات ذكرها الله تعالى في سورة الأنبياء حيث
يقول سبحانه
وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا
خاشعين
إن مقدمات الاستجابة لزكريا عليه السلام وللأنبياء على وجه العموم ولعامة
البشر أيضا هي
أولا
ثانيا

كانوا يسارعون في الخيرات
كانوا يدعون الله تعالى خوفا ورهبا
وثالثا كانوا لله خاشعين
أما المسارعة في الخيرات فإنها تتضمن أشياء كثيرة منها ما ذكره الله
تعالى في آية البر يقول تعالى
ليس البرَ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم
دھ
الآخر والملائكة والكتاب والسنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأُولئك هم المتقون
البقرة ۱۷۷
-VE-

ومنها ما ذكره الله سبحانه وتعالى فى صفات المؤمنين حينما قال وقد أفلح الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ في صلاتهم خاشعونَ * وَالَّذِين هم عن اللغو معرض والذين هم للزَّكَاة فَاعِلُونَ * والذين هم لفروجهم حافظونَ * إِلا عَلَى أَزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ
الفردوس هم فيها خالدون المؤمنون ۱ - ۱۱
ومنها ما ذكرته السيدة خديجة رضوان الله عليها حينما قالت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
والله ما يخزيك الله أبداً ثم عللت ذلك بقولها
إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين
على نوائب الحق
والمسارعة فى فعل الخيرات إذن من أسس استجابة الدعاء
وأما ثانيا فإن من أسس استجابة الدعاء الدعاء رغبا والدعاء رهبا أما الدعاء رغبا فهو الدعاء المتجه إلى الله تعالى رغبة فى مرضاته لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء
الفرج
شيء
وقال رَبِّكُمُ ادْعُونِي غافر ٦٠
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضى الله عنه سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل وأفضل العبادة انتظار

وقال صلى الله عليه وسلم من لم يسأل الله يغضب عليه
كانوا يدعونه رغبا في مرضاته ورغبا فيما عنده لأنه سبحانه المالك لكل
- Yo-

وعن ذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه
ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ورغبا في التوفيق إلى فعل الطاعات وفى تثبيت القلب على الإيمان وكان
من دعائه صلوات الله وسلامه عليه
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
ويدعونه رغبا في مغفرته وكان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من الدعاء
بالمغفرة تعليما للأمة ومن دعائه في ذلك
اللهم اغفر لي خطيئتى وجهلى وإسرافى فى أمرى وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطئى وعمدى وهزلى وجدى وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم
وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
تعالى
وكل ذلك ينطوي تحت قوله تعالى
ويدعوننا رغبا الانبياء ٩٠
1
وكانوا يدعونه رهبا منه أى من غضبه ومن عذابه
وأما ثالثاً فإن من أسس استجابة الدعاء أن يكون الداعي خاشعا لله
وكانوا لنا خاشعين
وقد حقق زكريا عليه السلام كل ذلك بنص القرآن الكريم ولما كان الأمر
كذلك كانت النتيجة أن نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب
أن الله يبشرك بيحيى

- متفق عليه
- ٧٦ -

وهذه التسمية تسمية الله تعالى إنه سبحانه هو الذي سمي ابن زكريا
بيحيى سماه قبل أن يولد وقد قيل فى سر هذه التسمية كلمات جميلة فقتادة رضي الله عنه يقول
سمى يحيى لأنه حيى بالعلم والحكمة التي أوتيها
ويقول الحسن بن الفضل
سمى يحيى لأن الله تعالى أحياه بالطاعة فلم يعص ولم يهم
ثم أخذ الله تعالى يبين صفات يحيى
ونعود إلى الآية الكريمة من جديد
لقد استجاب الله سبحانه دعاء زكريا لأنه كان يسارع في الخيرات ويدعو الله رغبا ورهبا وكان من الخاشعين ونادت الملائكة زكريا وعرفته أن الله يبشره أما صفات هذا المولود فهى أولا أنه مصدق بكلمة من الله بيحيى يقول أبو عبيدة وكثير غيره إن الكلمة كتاب الله وآياته وجهه أن العرب
تقول أنشدني فلان كلمة أي قصيدة
ويستأنس لقول أبي عبيدة بقول الله تعالى
يا يحيى
خذ الكتاب بقوة مريم ١٢
ومن صفات يحيى أنه سيد
ولقد تحدث الصحابة والتابعون عن معنى كلمة وسيدا وقد جمع الإمام
أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى بعض هذه الأقوال فقال
وفى معنى السيد ثمانية أقوال
أحدها أنه الكريم على ربه قاله ابن عباس ومجاهد
والثاني أنه الحليم التقى روى عن ابن عباس أيضا والضحاك
والثالث أنه الحكيم قاله الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء
- VV -

ومن ذلك نعلم فى يقين أنه لا مانع من أن نقول على الفاضل من الناس سيد
وفي قمة الأفاضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة وأولياء الله رضى الله عنهم أجمعين
ومن صفات يحيى عليه السلام ما ذكره الله تعالى بقوله حصورا
والحصور فيما رأى ابن عباس رضي الله عنه وجماعة من الصحابة
والتابعين هو الذي لا يأتى النساء
ويقول صاحب لباب التأويل
الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه وإنما تركه للعفة والزهد
ومع أن أكثر المفسرين فسروا حصُوراً بالممتنع عن النساء حتى لقد قال صاحب اللباب إن هذا هو الصحيح فإن الرأى الذى نراه ونرى أنه هو الصحيح هو تفسير الحصور بأنه الذى لا يدخل مع القوم فى الميسر وفي اللهو كما ذكر ذلك صاحب الكشاف ويستشهد على ذلك بقول الأخطل
وشارب مريح بالكأس نادمنى
لا بالحصور ولا فيها بسار
فاستعير لمن لا يدخل في اللهو وقد روى أن يحيى عليه السلام مر وهو طفل
بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت
ويقوى هذا الرأى ما روى من أنه تزوج
هذا ومن أوصاف يحيى التي ذكرها الله تعالى وختم بها الكلام عن أوصافه
قوله تعالى
ونبيا من الصالحين
والآن نتساءل ماذا كان أثر ذلك في نفس زكريا
- V9 -

٤٠ و قال رب أنى يكُونُ لِي غُلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما
يشاء
٤١ و قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تُكلّم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيــــرا و سبح بالعشي والإبكار
المفردات
عاقر عقيم لا تلد آية علامة رمزاً إشارة العشى من زوال الشمس إلى أن تغرب الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى
المعنى
لقد دعا زكريا ربه أن يرزقه من يخلفه فى الدعوة وألح في الدعاء وكان قد حقق شروط استجابة الدعاء واستجاب الله دعاءه ونادته الملائكة مبشرة من لدن الله بيحيى فلما سمع زكريا البشرى غمره السرور ولم يشك في تحقق البشارة ودفعه السرور إلى الاستفسار والاستعلام وانتهاز الفرصة المتاحة للإحاطة بالأمر
فسأل
بأية كيفية يكون لى ولد أيكون بإزالة العقم عن امرأتى ورد شبابي أو يكون وأنا على ما أنا عليه وقد وهن العظم منى وامرأتى على ما هي عليه من الكبر
والضعف
يقول الحسن
كان زكريا يقول كيف ذلك أتجعلنى وامرأتى شابين أم ترزقنا ولدا على الكبر منا ترزقنى من امرأة أخرى قاله مستفهما
نعمائك
وجاءه الرد حاسما
كذلك الله يفعل ما يشاء
ولكن فرحة زكريا كانت أعظم من أن توقفه عند ذلك الحد فعاد يقول ارب اجعل لي آية أى علامة أعرف بها الحمل حتى أؤدي لك شكر
يقول أبو الفرج بن الجوزي
إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر وليتعجل السرور لأن شأن
الحمل لا يتحقق بأوله فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام قال آيتك ألا تكلم النَّاسِ ثَلاثَةَ أَيَّام إلا رمزا
- A -

إن العلامة التى تطلبها على وقت الحمل أن يُعتَقَل لسانك عن الكلام طيلة ثلاثة أيام اللهم إلا ما يكون منك من إشارات تتخاطب بها مع الناس إشارات باليد أو بالرأس
لقد عُقل لسانه عن الكلام ولكنه لم يعتقل عن ذكر الله تعالى
يقول الإمام علاء الدين على بن محمد
قال جمهور المفسرين عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع إبقائه
على قدرة التسبيح والذكر ولذلك قال في آخر الآية
واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ا هـ
يعني في أيام منعك من تكليم الناس وهذه من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لأن قدرته على التسبيح والذكر مع عجزه عن تكليم الناس بأمور الدنيا وذلك مع صحة الجسم وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في هذه الأيام لعبادة الله تعالى وذكره ولا يشغل لسانه بشيء آخر توافراً منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة وشكراً لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله وأن يكون ذلك دليلا على وجود الحمل ليتم سروره بذلك

ثم نبهه الله تعالى بالذكر وأمر بالإكثار من الذكر في أكثر من آية من
كتاب الله تعالى إنه سبحانه وتعالى يقول في الذكر
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا
تكن من الغافلين الأعراف ٢٠٥
أما الذكر الكثير فإن الله سبحانه وتعالى يقول
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ اذْكُرُوا الله ذكرًا كثيرا * وسَبْحوه بكرة وأصيلا
الأحزاب ٤١ ٤٢
ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب العقول المستنيرة التي رضى عنها لأنها اهتدت بهديه فبين سبحانه - مادحاً لهم - أن من صفاتهم أنهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
-A1-

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء ١٠٧
وفي العلاقات الاجتماعية ترتكز على الأخوة إنما المؤمنون إخوة الحجرات ۱۰ وفي العقائد ترتكز على أساس العدل والرحمة والأخوة وهو التوحيد والإنسان الموحد حقا هو الإنسان الذي أحب الإسلام أن يكون مثلا للإنسانية أجمع وفي الآيات الكريمة وصف القرآن بأنه نور ومن أسماء الله النور ويقول الله سبحانه وق والقرآن المجيد ق 1
ويقول طوبل هو قرآن مجيد البروج ۱
ومن أسمائه الله المجيد
ومن أوصاف القرآن أنه عزيز وإنه لكتاب عزيز فصلت ٤١ ومن أسماء
الله - تعالى - - العزيز
وفي نهاية الحديث عن هذه الأوصاف التى فى القرآن والحديث يطول في ذلك نبين أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم على وصف نفيس للقرآن هو أنه قرآن كريم وهو - أيضا - وصف يعبر عن اسم من أسمائه – سبحانه
فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنَّهُ لقسم لو تعلمون عظيمٌ * إِنه لقرآن كريم في كتاب
مكنون لا يمسه إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مَن ربِّ العالمين الواقعة ٧٥ - ٨٠ يقول صاحب لطائف الإشارات إنه لقرآن كريم ﴾ الواقعة ۷۷ والكرم نفى الدناءة أي أنه غير مخلوق ويقال هو قرآن كريم لأنه من عند رب كريم على رسول كريم على لسان ملك كريم و في كتاب مكنون ﴾ الواقعة ٧٨ يقال في اللوح المحفوظ ويقال في المصاحف وهو محفوظ عن التبديل لا يمسه إلا المطهرون الواقعة ۷۹ عن الأدناس والعيوب والمعاصى ويقال هو خبر فيه معنى الأمر أى لا ينبغي أن يمس المصحف إلا من كان متطهراً من الشرك وعن الأحداث ويقال لا يجد طعمه وبركته إلا من آمن به ويقال لا يقربه إلا الموحدون فأما الكفار فيكرهون سماعه فلا يقربوه
وقد تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن في استفاضة ومن
- A -

ويصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بصفات يرضى عنها اختتمها بقوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعدَّ اللهُ لَهُم مُغفرة وأجرا عظيما الأحزاب ٣٣
ومن الأمر بالذكر في القرآن الكريم قوله تعالى
فإذا قضيتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكُم النساء ١٠٣
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية
أي بالليل والنهار فى البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر
والمرض والصحة والسر والعلانية
ويقول الله سبحانه وتعالى

ولذكر الله أكبر العنكبوت ٤٥
ويقول ابن عباس رضى الله عنهما عن هذه الكلمة القرآنية الكريمة إن
لها وجهان
أحدهما أن ذكر الله تعالى لكم أعظم من ذكركم إياه
والآخر أن ذكر الله أعظم من كل عبادة سواه
وبعد فقد استغرق زكريا في الذكر حينما أتته الآية وهى اعتقال لسانه عن الكلام وكان ما كان من تحقيق وعد الله وما كان ربك نسيا
٤٢ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين
٤٣ و يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين
لقد تقبل الله مريم رضى الله عنها بقبول حسن وأنتبها نباتا حسنا وتزكت مريم عليها السلام بالعبادة وصفت نفسها ورق شعورها فأصبحت من الصفاء بحيث ترى الملائكة
-AY-

يقول
ورؤية الملائكة ومخاطبتهم أمر أقره القرآن الكريم إن الله سبحانه وتعالى
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي ا أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم فصلت ٣٠ - ٢٢
وقول الملائكة لأولياء الله
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
صريح في أن الملائكة أولياء للصالحين من عباد الله في الحياة الدنيا ويتحدثون إليهم فيها ويبشرونهم بأنهم أولياؤهم أيضا في الآخرة
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى الملائكة ويتحدث معهم ولا يراهم من بجواره ومن طريف ما يروى فى ذلك أن السيدة خديجة رضوان الله عليها - وهى الذكية الفطنة - قامت بتجربة على جبريل عليه السلام
يقول
يقول الإمام ابن خلدون في ذلك - وقد اعتمد على الأحاديث الصحيحة -
وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضى الله عنها
بحال الوحى أول ما فجأه وأرادت اختباره
فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك
فلما فعل ذلك ذهب عنه
فقالت إنه ملك وليس بشيطان
ومعناه أنه لا يقرب النساء
وروى البيهقى هذه القصة في شيء من التفصيل وذلك أن خديجة رضى الله عنها قالت الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته
يا ابن العم تستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك
فقال نعم
- Ar -

فقالت إذا جاءك فأخبرني
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاءه جبريل فرآه رسول
الله صلى الله عليه وسلم
فقال يا خديجة هذا جبريل
فقالت أتراه الآن
قال نعم
قالت فتحول فاجلس إلى شقى الأيمن فتحول فجلس
فقالت أتراه الآن
قال نعم
قالت فتحول فاجلس فى حجرى فتحول فجلس في حجرها فقالت هل
تراه الآن
قال نعم
فحسرت رأسها فشالت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس
في حجرها فقالت هل تراه الآن قال لا
قالت ما هذا بشيطان إن هذا الملك يا ابن عم فاثبت وأبشر ثم أمنت
به وشهدت أن ما جاء به هو الحق
وقال ابن إسحاق فحدثت عبد الله الحسن هذا الحديث فقال
قد سمعت أمى فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام
قال البيهقي وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر
احتياطا لدينها وتصديقا
ويقول ابن خلدون أيضاً

وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض
والخضرة
فقالت إنه ملك
- AE-

يعنى أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر
والشياطين
وعن ذلك يقول الإمام البوصيري
وأتاه فى بيتها جبرئيل ولذى اللب فى الأمـ ور ارتياء
ماء
فأماطت عنها الخمار لتـ دری أهو الوحى أم هو الإغ فاختفى عند كشفها الرأس جـبــري ل فما عاد أو أعيد الغطاء
فاستبانت خديجة إنه الكن
ز الذي حاولته والكــيـــمــيـــاء
وبعد
فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال
هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال فنزل منه ملك فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال له
أبشر لنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفًا منهما إلا أوتيته ۱
وبعد

فإن الملائكة تتحدث مع الذين قالوا * ورَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فصلت ۰
ومن هؤلاء مريم عليها السلام
ونعود إلى الآية

قالت الملائكة لمريم رضى الله عنها
و إن الله اصطفاك وفى ذلك يقول الإمام ابن عباس
- رواه مسلم والنسائي
- ٨٥ -

اصطفاها على عالمى زمانها وبهذا قال الحسن البصرى وابن جريج رضى
الله عنهم
ويقول ابن الأنباري وهذا قول الأكثرين
وتابعت الملائكة كلامها فقالت ﴿ وطهرك
وطهارتها هنا من الكفر كما يقول مجاهد رضى الله عنه أو من الفاحشة والإثم كما يقول مقاتل رضى الله عنه والأولى أن يقال طهرها من كل سيئ من الأقوال والأفعال
ثم يتابع الملائكة حديثهم فيقولون واصطفاك على نساء العالمين
وإذا كان الاصطفاء فى الأول على عالمى زمانها فإن الاصطفاء الثاني خصص ذلك بأنه اصطفاء على الناس دون الرجال
يقول الإمام ابن الجوزى لما أطلق الاصطفاء الأول أبان بالثاني أنها مصطفاة
على النساء دون الرجال
وهذه الحالة من الاصطفاء تقتضى شكر الله تعالى
ومن شكر الله تعالى القنوت لله سبحانه
يا مريم اقنتي لربك
والقنوت كما يقول الراغب الأصفهاني
لزوم الطاعة مع الخضوع وفسر بكل منهما في قوله تعالى
وقوموا لله قانتين البقرة ۸
وقوله تعالى كل له قانتون قيل خاضعون وقيل طائعون وقيل ساكتون ولم يعن به كل السكوت وإنما عنى به ما قال عليه السلام
إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هي قرآن وتسبيح وعلى هذا قيل أى الصلاة أفضل فقال طول القنوت أى الاشتغال بالعبادة ورفض كل ما سواه
ومن شكر الله تعالى على الاصطفاء السجود له سبحانه
واسجدي
-4-

يروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمى خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل الصفة - رضي الله عنه قال كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته
فقال سلني
فقلت أسألك مرافقتك في الجنة
فقال أو غير ذلك
فقلت هو ذاك
قال أعنى على نفسك بكثرة السجود
والسجود إذن مما يعين على ترويض النفس لتتزكى وهو بذلك من الوسائل التى توصل إلى الجنة وإلى مرضاة الله تعالى ويتناسب مع مرتبة
الاصطفاء
وفي هذا المعنى يروى الإمام مسلم أيضا عن أبي عبد الرحمن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليك بكثرة السجود
فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة والسجود الذى يحث عليه رسول الله صلوات الله عليه وسلامه في هذه الأحاديث والسجود الذي أمرت به مريم عليها السلام ليس هو مجرد الحركة المعروفة وإنما هو - مع هذه الحركة - المعنى العميق فى النفس الذي يتمثل فيه جلال الله وعظمته ورحمته ووده ويتمثل فيه الخضوع لهذا الجلال وهذه العظمة والانقياد المطلق لرحمة الله
فإذا ما كان السجود تعبيرا عن التطامن والتذلل وذلك معناه الصحيح كان ذلك عبادة وخضوعاً لله سبحانه وتعالى - وكان بذلك سبيلا إلى الجنة وإلى
أكثر من الجنة وهو القرب من الله يقول الله تعالى في كتابه العزيز
واسجد واقترب العلق ١٩
- AV -

ويقول صلوات الله عليه في هذا المعنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
ومن أجل هذه القيمة أيضا مدح الله من يعبرون عن خضوعهم لآياته
واستجابتهم لأمره بقوله تعالى
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنا الذين إذا ذُكَرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبِّحُوا بحمد رَبِّهِمْ وَهُمْ لا
يستكبرون السجدة ١٥
والذين هداهم الله واجتباهم
إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا مريم ٥٨
ومن صفات عباد الرحمن التى يزكيهم الله بها أنهم
يبيتون لربهم سجدا الفرقان ٦٤
وتنتهى النصائح لمريم رضوان الله عليها بقول الملائكة لها
واركعي مع الراكعين
٤٤ ﴿ ذلك من أنباء الغيب نُوحيه إليك وما كُنت لديهم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامهُم أَيُّهُم يَكْفُلُ مريم
وما كنت لديهم إذ يختصمون
المفردات
ذلك إشارة إلى ما تقدم من القصص
أنباء أخبار
الغيب ما غاب عن الإنسان
والوحى يقول عنه الإمام ابن قتيبة هو كل شيء دللت به من كلام أو
متاب أو إشارة أو رسالة

وأقلامهم هى قداحهم التي طرحوها مقترعين
في هذه الآية الكريمة يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيشير بكلمة ﴿ ذلك إلى ما تقدم من قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ويعلن سبحانه إلى الناس أجمعين أن هذه الأخبار إنما هي غيب لم يشهدها محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هى من الله سبحانه
- ۸۸ -

لرسوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً حينما كانوا يلقون بقداحهم مقترعين على مريم أيهم يكفلها وما كان حاضرا حينما اختصموا فيها ففصلت في خصامهم القرعة
إن الحديث عن ذلك من عالم الغيب
ومن هذا القبيل قوله تعالى
وما كنت بجانب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الأَمر وَمَا كُنت من الشاهدين
القصص ٤٤
ولَكنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطاول عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيَا فِي أَهْلِ مدين تتلو عليهم آياتنا
ولكنا كنا مرسلين القصص ٤٥ وما كنت بجانب الطُّورِ إِذْ نادينا ولكن رحمةً مِّن رَّبِّكَ لَتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُم مَن نَذِيرٍ مَن
قبلك لعلهم يتذكرون القصص ٤٦
وعن موضوع الغيب الماضى الذى أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الإمام ابن كثير
ينبه الله تعالى على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهد وراء وهو رجل أمى لا يقرأ شيئا من الكتب نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى
ذلك من أنباء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ ومَا كُنت لديهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلامهم أَيُّهُم يكفلُ مريم وما كنت لديهم إِذْ يختصمون
أي وما كنت حاضرًا لذلك ولكن الله أوحاه إليك وهكذا لما أخبره عن نوح
وقومه وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال الله تعالى تلك من أنباء الغيب نُوحيها إليك ما كُنت تعلمها أنت ولا قَوْمُكَ من قبل هذا فَاصْبِرْ إِنَّ
العاقبة للمتقين هود ٤٩
- A4 -

وقال في آخر السورة ذلك من أنباء القرى نقصه عليك هود ١٠٠
وقال بعد ذكر قصة يوسف
وذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرونه
يوسف ١٠٢
وقال في سورة طه
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا طه ٩٩
وقال ها هنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها وكيف كان
ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ القصص ٤٤
وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربى الذى كلم الله موسى من الشجرة
التي هي شرقية على شاطئ الوادى

وما كنت من الشاهدين لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك
ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ونسوا حجج الله عليهم وما
أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين ا هـ
والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو سبحانه يمنح من ذلك من
يشاء ما شاء يقول سبحانه
ولا يُحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء البقرة ٢٥٥
والغيب أنواع فمنه هذا النوع الماضى الذى أخبر الله تعالى به رسوله
صلى الله عليه وسلم وذكرته هذه الآيات القرآنية
ومنه الغيب المادى الخاص بالمستقبل وقد أخبر الله تعالى رسوله بأنواع
منه كقوله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم
الم
غلبت سرُومُ * في أدنى الأَرْضِ وَهُم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع
سنين - الروم ١-٤
ولهذه الآية الكريمة قصة يذكرها المحدثون وبذكرها المفسرون وذلك أنه
كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فشق ذلك عليهم وفرح المشركون بذلك لأن فارس لم يكن لهم كتاب وكانوا يجحدون البعث ويعبدون الأصنام والروم أصحاب كتاب فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم فإن قاتلتمونا لنظهرنَّ عليكم فنزلت هذه الآية فخرج بها أبو بكر الصديق إلى المشركين فقالوا لأبى بكر نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس فقال أبو بكر البضع ما بين الثلاث إلى التسع فقالوا الوسط من ذلك ست فوضعوا الرهان وذلك قبل أن يحرم الرهان فرجع أبو بكر إلى أصحابه فأخبرهم فلاموه وقالوا هلا أقررتها كما أقرها الله لو شاء أن يقول ستا لقال
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما البضع من بين ثلاثة إلى تسع فخرج أبو بكر فقال لهم أزايدكم في الخطر وأمدُّ في الأجل إلى تسع سنين ففعلوا فقهرهم أبوبكر
وأخذ رهانهم
وإذا كانت معرفة الغيب الماضى من دلائل النبوة فإن معرفة الغيب المستقبل من دلائل النبوة من باب أولى ولكن هذا وذاك ليس هو الغيب الذي قال الله تعالى
فيه
و عالم الغيب فلا يُظهِرُ عَلَى غَيبه أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول
-41-
الجن ٢٦ ٢٧

عدة زوايا ونقتصر هنا على ذكر أربعة أحاديث
1 عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال
من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه لا ينبغى لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام
الله
1
٢- عن عبد الله - يعنى ابن مسعود - رضى الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يَخلُق من كثرة الرد اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات أما أنى لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ٢
عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم إن لله أهلين من الناس قالوا من هم يا رسول الله قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ۳
عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -
إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ٤
١- رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد
- رواه الحاكم وقال تفرد به صالح بن عمر عن إبراهيم الهجري وهو صحيح
- رواه النسائي وابن ماجة والحاكم وقال الترمذي إسناده صحيح
رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد والترمذي وقال حسن صحيح
-9-

وهذا الغيب هو غيب عالم الإلهيات أو هو غيب ما وراء الطبيعة من أمثال الجنة والنار وما فى الجنة من نعيم مقيم وما فى النار من عذاب دائم وكذلك فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته وكل ذلك لا يجوز للإنسان أن يصدر عن رأى
شخصي وإنما نقول عما ورد منه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم
ربنا
نؤمن به على مراد الله فيه ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَا بِهِ كُلِّ مَنْ عند
وهذا الغيب هو الذى وصف الله تعالى المؤمنين به حينما قال مادحا لهم الذين يؤمنون بالغيب البقرة ٤
٤٥ - ٤٨ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ له كن فيكون * ويُعلَمُهُ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل
بدأ القرآن الكريم يتحدث عن قصة عيسى عليه السلام بعد أن تحدث
عن أمه وعن زكريا
إن الملائكة كما بشرت مريم عن الله تعالى بأنه اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين فإنها أخبرتها بأن الله تعالى يبشرها بكلمة منه وفى معنى ذلك يذكر المفسرون أقوالا جمعها صاحب روح المعاني قائلا
وإطلاق الكلمة على من أطلقت الكلمة عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة
أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بنى آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهر وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا محض الجود - وعلى ذلك أكثر المفسرين - وأيدوا ذلك بقوله تعالى
و إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون
آل عمران ٥٩
-AY-

وقيل أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به فى الكتب السالفة ففى التوراة - فى الفصل العشرين من السفر الخامس - أقبل الله تعالى من سيناء وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران - وسينا - جبل التجلى لموسى - وساعير - جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه - وفاران - جبل مكة وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به قد جاء كلامي
وقيل لأن الله تعالى يهدى به كما يهدى بكلمته ا هـ
وسمى الله تعالى المولود إن اسمه المسيح عيسى ابن مريم
أما كلمة المسيح فقد ذكر المفسرون لها معانى عدة منها ما قاله مجاهد
وغيره من أنه
الذنوب
الصديق
ومنها ما ذكر أبو سليمان الدمشقى من أن الله تعالى مسحه فطهره من

ومنها ما ذكر ثعلب من أنه كان يمسح الأرض أى يقطعها وذلك أنه كان
كثير السياحة
ولفظ عيسى اسمه ونسب إلى أمه لأنه من غير أب
ثم أخذ القرآن الكريم فى ذكر بعض صفاته فهو وجيه فى الدنيا والآخرة أما وجاهته فى الآخرة فهى وجاهة الأنبياء والرسل ومنزلتهم عند الله منزلة الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه
وأما وجاهته في الدنيا فيعبر عنها الحب النابع عن قلوب الذين سمعوا مواعظه واستجابوا لدعوته الصادقة أثناء حياته وهو في حياته الدنيوية وفى حياته الآخروية من المقربين عند الله تعالى
وإذا كانت وجاهته في الدنيا مقدرة منذ الأزل فإنها بدأت منذ أن كلم
الناس في المهد
-4-

الكهولة
و يكلم الناس في المهد وكهلا
يقول ابن عباس رضى الله عنهما
تكلم ساعة المهد ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق
ويقول ابن الانباري
كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ومن أربى عليها فقد دخل في
ويقول الإمام ابن عباس رضى الله عنه
ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهرا
ويذكر ابن جرير الطبرى شيخ المفسرين
أن الله سبحانه حينما أخبرهم بأنه يكلم الناس في المهد وكهلا فإنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه وأن الأيام تنقله من حال إلى حال
وفوجئت مريم عليها السلام بهذه البشارة من الله تعالى إنها تعلم أن الولد لا يكون إلا عن أب وهى لم تتزوج ولم يتصل بها إنسان فكيف يأتيها الولد
فاتجهت إلى الله سبحانه مستفسرة
طورب أَنَّىٰ يَكُونُ لِي ولد ولم يمسسني بشر
ومعنى المس الجماع وجاء الرد حاسما
قال كذلك الله يخلُقُ مَا يَشَاءُ إِذا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونَ
ثم يتابع القرآن الكريم الحديث عما تفضل الله تعالى به على عيسى عليه السلام وذلك أن الله تعالى يعلمه الكتاب أى الكتابة بالقلم كما قال الإمام ابن
عباس رضى الله عنهما
-92-

ويعلمه الكتاب والحكمة
وقد تحدث القرآن الكريم عن الحكمة وبين سبحانه أنه يؤتي الحكمة من يشاء البقرة ٢٦٩ وأنه ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا البقرة ٢٦٩
ولقد أتى الله تعالى الحكمة داود عليه السلام
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمهُ ممَّا يَشَاء البقرة ٢٥١
وأتى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم الحكمة وجعل شطر
رسالته تعليم الحكمة
ولقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب آل عمران ١٦٤
ولقد ذكر الله سبحانه أمثلة للحكمة منها بعض ما أوحاه الله إلى محمد
صلى الله عليه وسلم وقال في نهايته
وذلك مما أوحى إليك ربُّك من الحكمة الإسراء ٣٩
إنه سبحانه وتعالى يقول
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإيَّاكُم إِن قتلهم كان خطئًا كبيرا
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا الإسراء ٣٢
الإسراء ۳۱
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلُومًا فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا
يسرف في القتل إنه كان منصورا الإسراء ٣٣
ويقول
ولا تمش في الأرض مرحا إِنَّكَ لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا
كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئَهُ عند ربك مكروها الإسراء ۳۸
الإسراء ۳۷
-90-

ثم يقول سبحانه
ذلك مما أوحى إليك رَبُّكَ من الحكمة ولا تجعل مع
ملوما مدحور الإسراء ٣٩
في جهنم
ويتحدث القرآن الكريم - كمثال - عن بعض ما آتاه الله لقمان قائلا ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر الله ومن يشكر فإنَّما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد لقمان ۱
وإننا إذا تروينا فيما ذكره الله سبحانه من الحكمة وجدنا أنها مبادئ في العقيدة أصفى ما تكون العقيدة ومبادئ فى الأخلاق أكرم ما تكون الأخلاق وتتضمن الحكمة - إذن - الصدق عقيدة وأخلاقا وإن كل ما يساير الدين
الصحيح فى العقيدة والأخلاق هو من الحكمة
ويقول الله تعالى مستمرا في سرد الصفات الخاصة بسيدنا عيسى عليه
السلام التى بشرت الملائكة بها السيدة مريم
٤٩ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربِّكُم أَنِّي أَخَلُقُ لَكُم من الطين كهيئة الطير فأنفُخُ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأَبْرِئُ الأكمه والأبرص وأُحيِي الموتى بإذن الله وأَنبَئُكُم بما تأكلون وما ندخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ
المفردات
آية
معجزة أو علامة
الأكمه الذي يولد أعمى
الأبرص الذي به وضح وهو بياض معروف يخالف لون الجلد وهذا
وأحب أن أقول
إننا نواجه بمناسبة هذه الآية الكريمة أمرًا يجب أن نبين رأينا فيه بوضوح وهذا الأمر هو أمر المعجزات والكرامات
-9-

إن بعض الناس حاول فى هذا الموضوع التأويل وحاول أن يلوى الألفاظ والجمل لتؤدى معانى أخرى غير المعانى التي تدل عليها دلالة ظاهرة واضحة سواء أكان الأمر أمر الأسلوب القرآني أم أمر الأحاديث النبوية إنهم في الأسلوب القرآني يلوون ويتعسفون ويخرجون عن اللغة العربية وعلى ما تعارف عليه الناس في كل العصور لينتهوا بذلك إلى إنكار المعجزات والكرامات أما فيما يتعلق بموقفهم من الأحاديث فإنهم اتخذوا موقفا لا يرضى الله
ورسوله ولا يرضى المؤمنين الصادقين
أيها الإخوة المؤمنون

إن الأحاديث تتناسق مع القرآن الكريم فى الدلالة على إثبات المعجزات
والكرامات
لقد ذكرت الأحاديث الصحيحة كثيرا من المعجزات والكرامات التي حدثت للسابقين أنبياء وأولياء وحدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثت في عهده وموقف المنكرين من هذه الأحاديث مع صحتها صحة تامة هو موقف المنحرفين في كل عصر إن ما نسميه قوانين الطبيعة إنما هو في الواقع عادات
الطبيعة
وخرقها ليس بمستحيل عقلا
وخرقها لا يترتب عليه المستحيل
وعادات الطبيعة لا تسيطر على رب الطبيعة
إن القرآن الكريم يحدثنا فى أسلوب لا لبس فيه عن المعجزات التي تفضل الله بها على رسله وأنبيائه
ويحدثنا عن الكرامات التي منحها سبحانه لأوليائه وأصفيائه
ألم يحدثنا القرآن الكريم فى الآية الكريمة التي نحن بصددها بصورة لا تحتمل التأويل بأن عيسى عليه السلام كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله
- ۹۷-

ألم يحدثنا عن سيدنا موسى عليه السلام بأنه ألقى عصاه فإذا هي ما يأفكون وبأنه أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين
تلقف
وسيدتنا مريم ألم تحمل بسيدنا عيسى من غير أب خارقة بذلك قوانين الطبيعة وكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنَّى لك هذا !
قالت هو من عند الله
وجمهرة المسلمين على مر العصور عامتهم وخاصتهم وقممهم الشوامخ في العلم والدين هم من الذين يثبتون الكرامات والمعجزات ويؤمنون بها
ثم إن هؤلاء الذين تجرى على أيديهم المعجزات أو الكرامات لا ينسبونها لأنفسهم وإنما ينسبونها إلى المتفضل الرهاب صاحب القدرة والقهر إنهم ينسبونها إلى من هو على كل شيء قدير
يقول الإمام ابن كثير
قال كثير من العلماء بعث الله كل نبى من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار وحيرت كل سحار فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل الأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذى شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم
التناد
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله عز وجل فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله و بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا ولم كان بعضهم لبعض ظهيرا وما ذاك إلا من كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا اهـ
-44-

ويقول العلامة ابن خلدون
ومن علاماتهم أيضا وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الخوارق فى الغالب - تقع مغايرة للوحى الذى يتلقاه النبى ويأتى بالمعجزة شاهدة مصدقة
والقرآن هو بنفسه الوحى المدعى وهو الخارق المعجز فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحى فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه

وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم
ما من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة
يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة فى الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحى كان التصديق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة
ويعلق صاحب كتاب الشفاء فيقول
ومعنى هذا عند المحققين بقاء معجزته ما بقيت الدنيا وسائر معجرات الأنبياء ذهبت للحين ولم يشاهدها إلا الحاضر لها ومعجزة القرآن يقف عليها
قرن بعد قرن إلى يوم القيامة
يقول الله تعالى مستمرا فى بيان صفات سيدنا عيسى عليه السلام
-99-

٥١,٥٠ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم
بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إِنَّ الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
أتى عيسى عليه السلام مصدقا للتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام مصدقا لها في صفائها ونقائها كما أنزلت من السماء نوراً وهداية ولم ينزل عيسى عليه السلام بشرع جديد وإنما كان علماء اليهود يختلفون في بعض الأمور بين الحل والحرمة فأبان عيسى عليه السلام الحق فى الموضوع فأحل لهم بعض ما كانوا قد حرموا على أنفسهم كما قال تعالى في الآية الآخرى
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه الزخرف ٦٣
ثم قال عيسى عليه السلام وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مَن رَّبِّكُمْ
والآية هنا بمعنى الإثبات والحجة قد تكون معجزة مادية وقد تكون دلالة عقلية أما النتيجة التي تترتب على ذلك منطقيا فهي
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُون
والتقوى هى اجتناب ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه وهي بهذا المعنى
تتضمن أمرين
الأمر الأول اتقاء المعاصى فهى فى هذه الناحية يتمثل فيها جانب الترك ولكنها أيضا تتضمن فعل الطاعات لأن الله سبحانه وتعالى حينما أمر بالطاعات فقد نهى فى ثنايا الأمر عن تركها وتركها معصية والتقوى إذن من هذا الجانب يتمثل فيها العمل الإيجابي وتحديدها على هذا أنها امتثال الأوامر واجتناب النواهى وقد سئل أحد الصحابة عن التقوى فقال للسائل
أما سرت يوما في طريق به شوك
قال نعم سرت فقال له ماذا فعلت
قال شمرت واجتهدت فقال له فذلك هو التقوى
00
أي هي تشمير عن المعاصى واجتهاد فى الطاعات فإذا ما حققها الإنسان في صدق وإخلاص فإنها تستتبع ترك بعض المباحات لما ورد من أن الصحابه
رضوان الله عليهم كانوا يتركون بعض المباحات خوفا من أن يقعوا في الحرام
-1 -

وقد جاء في الحديث الصحيح - فيما أخرجه البخارى ومسلم - عن النعمان
ابن بشیر رضى الله عنهما قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن فى الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب
فإذا ما حقق الإنسان التقوى على هذا الوضع كان الله معه يقول
سبحانه
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والذين هم محسنون النحل ۱۸
وإذا ما كان الله معهم فإنهم لا يخافون ولا يحزنون يقول سبحانه وتعالى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الأعراف ٣٥
ومن تحقق بالتقوى فقد ضمن الله سبحانه وتعالى له الإخراج من كل ضيق
يقع فيه أو هم ينزل به وضمن له أيضا سعة الرزق ويقول سبحانه ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب الطلاق ٣٤٢ أما في الآخرة فإنه يساق إلى الجنة سوقا يقول سبحانه وتعالى وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ﴾ الزمر ٧٣
فإذا ما وصلوا إلى الجنة فتحت لهم أبوابها وحياهم خزنتها قائلين
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين
والتقوى دعوة كل رسول وقد دعا عيسى عليه السلام قومه قائلا فاتَقُوا الله
-11-