Go Back





فضيلة الدكتور
عبد الحليم محمود
العَالِمُ العَابِدُ العَارِفُ بالله
ذو النون المصرى
دار الرشاد

فضيلة الدكتور
عبد الحليم محمود
العَالِمُ العَابِدُ العَارِفُ بالله
ذو النون المصرى

بسم اند الحمر الحمر
ربَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَنِئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
سورة الكهف ١٠
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
سورة البقرة ٢٨٦

يارب
كيف لا انتهج بك سُرورا
وقد كنتُ أَحْدَحُ بِبَابِكَ حَتَّى
جعلتني من أهل التوحيد
ذُو النون

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم
الدين وبعد
فإن المراجع الأساسية التي رجعت إليها عن ذي النون مراجع
محدودة إنها
- السر المكنون في مناقب ذي النون للإمام السيوطي
- حلية الأولياء لأبي نعيم
- الطبقات الكبرى للإمام الشعراني ٤ - طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي
ه ـ الكواكب الدرية للمناوى
٦ - مجموعة ما ترجم عن المستشرق نيكلسون ثم يأتي بعد ذلك ما هو طبيعي لكل باحث نص من هنا أو نـ هناك واستشارة لهذا الكتاب أو ذاك وكشف في معجم من المعاجم أو في أحد التفاسير
من
هذه المراجع التي رجعت إليها هي المراجع الموجودة عن ذى النون ورجوعى إليها وحدها لم يكن عن تقصير في البحث أو التنقيب وإنما كان لأنها هي فقط الموجودة
ومع قلة هذه المراجع فإننى لم أشعر بأنني في حاجة إلى غيرها لقد كانت كافية بالنسبة إلى الهدف الذي كان أمامي

6
إنني لم أكتب - وما أردت - عن ذي النون رسالة دكتوراه ولا بحثاً أكاديمياً وإنما أحببت ذا النون فأحببت أن أكتب عنه لأشرك غيرى فى حبه وإن من حق ذي النون علينا أن نعرفه وأن نعرف به إنه عالم وهو صوفي وهو رجل أخلاق وهو عبقرية من العبقريات ثم هو مصرى
ولقد أحببته منذ اللحظات الأولى للقراءة عنه لقد كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات حينما طلبت إلى الإذاعة إذ ذاك - أن أكتب المادة التاريخية العلمية عن ذي النون لتتخذ من ذلك أساساً لتمثيلية عنه
وعشت مع ذى النون فترة قصيرة ولكنها كانت نفيسة لقد عشت معه في سياحاته الكثيرة الممتعة وقد كان كثير الأسفار وهو يقص بعض ما حدث له من مقابلات فيها الغرائب وفيها العظات والعبر
وعشت معه في محنته وليس أمر المحن ببـعـيـد عن ذوى
العبقريات إن الجمهور لا يمكن أن يَرْقَى إلى مستوى العباقرة والعباقرة لا يمكنهم أن يجاروا الجمهور في مألوفاته والعالم يتغير من حال إلى حال بسبب هذا الصراع بين العباقرة والجمهور ولكن الجمهور يألف شيئاً فشيئاً بعض أفكار العباقرة ثم يأخذها عادات له ولكنها هي نفسها تكون منطلقاً لعباقرة يأتون فيحدثون تغييراً ترفضه الجماهير ثم تألفه شيئاً فشيئاً وهكذا
دواليك
۱۰۔

ولقد امتحن ذو النون وصبر على المحنة التي اعتبرها منحة لقد الراضين الحامدين الذين يرون أن كل ما يأتى به
عليها صبرا صبر المحبوب محبوب والمحبوب هنا هو الله وخرج ذو النون من محنته خروج الراضين الحـامـديـن أيضاً فالأمر منه وإليه
وعشت مع ذى النون متتلمذاً على روح صافية ترى الأمور بمنظار الربانيين وإن للربانيين نظرة بعيدة كل البعد عن نظرة غيرهم إنها نظرة هؤلاء الذين وصلوا إلى
كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ به وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِ بِهَا ورِجْلَهُ الَّتى يَمْشي بها
وهذه النظرة التي تكون نتيجة لجهاد النفس طويلاً حتى تَتَزكَّى
وتصفو يهبها الله تعالى منحتين
* إحداهما
* والثانية
وإِنْ سَالَني لأعطيئَه
ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأعيذَنَّه
بيد أن هذه النفوس الربانية وصلت إلى درجة لا تسأل فيها إلا
سؤال عبادة
إنها أيقنت بحكمة ربها وبرحمته فرضيت بثمار الحكمة والرحمة وألقت بمقاليدها إلى الحكيم الرحمر
۱۱۔

ولكنه سبحانه قال
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دعان 1
وهم يسألونه القرب وهو قريب إنهم يسألونه زيادة القرب وليس لزيادة القرب نهاية وهناك باستمرار قرب هو أقرب مما يسبقه
من قرب
إنه سبحانه يقول
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّى فَإِنّى قَريب ٢
وهذا القرب هو أملهم كل أملهم
وهم يستعيذون به استعاذة عبادة وذلك أنه ـ سبحانه ـ أمـر
بالاستعاذة
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ۳ ولكن هؤلاء قد وصلوا إلى الدرجة التي يقول سبحانه عنها إن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان إلا مَن اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوين ٤
والتي يقول الشيطان نفسه عنها
إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ٥
۱ سورة البقرة ١٨٦ ٤ سورة الحجر ٤٢
۳ سورة الأعراف ٢٠٠
٥ سورة الحجر ٤٠
-۱-

أما غير الشيطان فإنهم لا يرونهم في الحقيقة وهل يرى هؤلاء مع الله أحداً انظر إليه سبحانه وتعالى يقول
قل اللهم مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١ إن الله ـ سبحانه ـ يملك الكيف والكم والزمن والمكان والحركة والخلق والأمر ويملك القوة والجاه والمال والذكاء والأنفاس والبصر في العين والسمع في الأذن ويملك نبضات القلب وهمسات الفؤاد
وهو سبحانه ـ كما يملك هبة ذلك إلى من يشاء ـ يملك نزعه ممن
يشاء إنه إليه يرجع الأمر كله
يقول سبحانه
أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ CD أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ ٢ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ CD لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَّتُم تَفَكَّهُونَ ﴾ ٣
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أَجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي
تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴾ ٤
۱ سورة آل عمران ٢٦
سورة الواقعة ٥٨ ٥٩
۳ سورة الواقعة ٦٣ - ٦٥ ٤ سورة الواقعة ٦٨-٧٢

ويقول سبحانه
فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ CD أَنَّا صَبَيْنَا الْمَاءَ صَبًّا هِ ثُمَّ شَقَقْنَا
J
الأَرْضَ شَقًّا CD فأنبتنا فيها حبا CD وعنبا وَقَضبا CD وزيتونا ونَخْلاً O
وَحَدَائِقَ غَلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ ١
ويقول سبحانه
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَميتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءُ حَسَنًا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢
ويقول تعالى
أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَتُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ
أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ٣
ويقول تعالى
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِف بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالِ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن

يَشَاءُ وَيَصْرِفَهُ عَن مَن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرقه يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ ٤
إنه الأول والآخر والظاهر والباطن وإليه يرجع الأمر كله
ولا حول ولا قوة إلا به
۱ سورة عبس ٢٤ - ٣٢
۳ سورة السجدة ٢٧
سورة الأنفال ۱۷ ٤ سورة النور ٤٣
_12_

وانظر إلى حديث ابن عباس حينما قـ
رسول الله
يَا غُلامٍ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلمات احفَظ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظُ اللَّهَ تَجِدُهُ تجَاهَكَ إذا سألت فاسأل الله وإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتمعت علَى أنْ يَنفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وإِن اجْتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضِرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْء قد كَتَبَهُ اللهُ عَليكَ رُفعت الأقلامُ وجَنَّتَ الصُّحُفُ ۱ وفي رواية
احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعرِفُكَ فِي الشدَّة واعلم أنَّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبُكَ وما أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطَتُكَ واعلم أنَّ النَّصْرَ معَ الصَّبرِ وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وأنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً
إن هذا الحديث العجيب النفيس الفاخر هو من شعارات
الربانيين إنهم حفظوا الله فاطمأنوا إلى حفظه لهم وأنه تجاههم وتعرفوا إلى الله في الرخاء فاطمأنوا إلى تعرفه لهم في الشدة وكانوا له فكان لهم
إنهم لا يرون معه سبحانه أحداً في التصريف وهل معه أحد تأمل بربك هذه الآيات
۱ رواه الترمذي وقال حديث حسن
_10_

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَةٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٍ يعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وجَعَلَ بينَ الْبَحْرِينِ حَاجِرًا أَإِلَهُ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهُ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ CD أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بَشَرًا بَين يَدَى رَحْمَتِهِ أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ CD أَمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومَن يرزقكم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَةٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١
""
إن ذا النون كان من هؤلاء ومن أجل ذلك اعتبر محنته منحة إنه ما كان يشعر - طيلة محنته - إلا بالمعيَّة وكان يأنس ـ في محنته -
بالمعية
إلام توصله هذه المعيَّة إلى خير بلا شك إلى خير أسمى
أو إلى قرب أقرب إنه مغتبط بمحنته

لقد عشت معه فيها مع ندرة الأخبار عنها وعشت معه أرافقه في مجالاته العلمية
۱ سورة النمل ٥٩ - ٦٤

وكما جاهد ذو النون حتى تزكَّت نفسه فقد جاهد أيضاً في سبيل المعرفة المعرفة في مجالين على الخصوص وأعترف ـ في تواضع لا أُشكر عليه ـ أننى لم أستطع ـ وقد حاولت ـ أن أجاريه في أحد هذين المجالين وهو مجال الكيمياء
لقد حاولت أن أفهمه فى هذا المجال فما استطعت إلى ذلك سبيلاً ويذكر ابن القفطى أن ذا النون اشتغل بالكيمياء ويرى أنه وصل في الكيمياء إلى أن كان من طبقة جابر بن حيان فيها ويبدو أنه عالج الكيمياء على الطريقة الروحية كما عالجها على الطريقة العلمية المادية وكما أجرى التجارب من الجانب المادي فإنه أجراها من الجانب الروحي
إن نيكلسون يقول
ومن الراجح أن ذا النون المصرى كان يستخدم الأدعية ويستعمل البخور أو على الأقل كان يفعل ذلك كما أخبرنا رجل زاره يوماً فرأى بين يديه طستاً من ذهب وحوله الند والعنبر يُسجر فصاح به ذو النون قائلاً هل أنت ممن يدخل على الملوك في حال بسطهم
وإن لذي النون رسائل فى الكيمياء موجود بعضها في دار الكتب
المصرية
أما المجال الثاني فهو مجال العلم الروحي
-۱۷۔

وما من شك فى أن وصول ذى النون إلى الصفاء والنقاء والطهر أدى به إلى الثمار الشهية من الإلهام المضىء الذى يعبر عنه في سهولة ويسر
وهذا الجانب هو الذي سرت معه فيه فكان نبراساً جميلاً نهتدى به ونحب أن نهدى إليه إنه يتصل بالتفسير الكريم وشرح الأحاديث الشريفة والسير على نسق الرسول وعلى نسق
المهتدين من الصحابة والتابعين
من
ومن هنا كان
حبى

لذي النون وتقديرى له وكتابتي عنه وأرجو
الله التوفيق والهداية

حياته
إنه أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصرى يقول عنه صاحب الكواكب الدرية
العارف الناطق بالحقائق الفاتق للطرائق ذو العبارات
الوثيقة والإشارات الدقيقة والصفات الكاملة والنفس العالمة العاملة والهمم الجليَّة والطريقة المرضية والمحاسن الجـزيلة المتبعة والأفعال والأقوال التي لا تخشى منها تبعة زَهَتْ به مصر وديارها وأشرق بنوره ليلها ونهارها ۱
ويقولون في وصفه
كان رجلاً نحيفاً تعلوه حمرة
كيف كان ذو النون في طفولته وشبابه في ذلك يقول يوسف بن الحسين استأنست بذي النون فقلت له
أيها الشيخ ما كان بدء شأنك
قال
كنت شاباً صاحب لهو ولعب
ونحب أن نقف ونقول أولاً إنه كان يعيش الحيــاة الــعــاديـة
للشبان لا يعبأون بوقت يمر لا يشغلونه بما يفيد ولا تعنى الكلمة أنه كان عاصياً سيئ الأخلاق لأنه يقول بعد ذلك
1 الكواكب الدرية ص ٢٢٣
۱۹۔

وخرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام
ثم يقول
ومعى بضيعة فى المركب مع تجار من مصر

وهذه الكلمة الأخيرة قد ترشد إلى أنه اشتغل في شبابه
بالتجارة ويبدو أن هذه الحجة كانت الأساس في اتجاهه إلى الله والواقع أن الحج من الوسائل الكبرى للتوبة الصادقة والإخلاص والصدق وأن أعمال الحج منذ أن تبدأ بالتوبة ولبس الملابس البيضاء - ملابس غير مخيطة لم يدخلها المقص ولم تعمل فيها الإبرة ولم تُدنَّس بالذنوب - وصلاة ركعتين مع النية التي تتجه إلى الله في العون والمثوبة ثم الجهر بالتلبية أي الاستجابة الخالصة لله في أعماله ثم بقية الأعمال التى تنتهى برجم مصدر الشر إبليس - ثم الطواف على طهر ونقاء
إن كل ذلك فيما أفترض هو مبدأ تحول ذي النون إني أفترض - إذن أن هذا الحج كان من العوامل المهمة في حياة ذي النون وأنه فصل فيها بين مرحلتين
إحداهما المرحلة العادية الأولى
* والثانية هي مرحلة التزكية
ذلك فهناك مجال لاحتمالات أخرى وهذه الاحتمالات ومع نأخذها على أنها رمزية جميلة في رمزيتها أو نأخذها على أنها حقيقة عجيبة في وصفها
۰۔

أحد هذه الاحتمالات ما روى من أنه سئل عن
فقال
خرجت من مصر لبعض القرى فنمت في الطريق في بعض الصحارى ففتحت عيني فإذا بقُبَّرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض فانشقت الأرض فخرج منها سكرجتان إحداهما ذهب والأخرى فضة وفي إحداهما سمسم والأخرى ماء فجعلت تأكل من هذه وتشرب من هذه فقلتُ حسبی قد تبتُ ولزمت الباب
إلى أن قبلني "

1 a
هذه هي قصة الاحتمال الثاني
وما من شك في أن الرزق مضمون وأن الله سبحانه قد ضمن
الرزق
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾
ثم يقسم الله تعالى على ذلك فيقول
فَوَرَبَ الـ رَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقِّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ۳
ويقول سبحانه
وما من دابة فِى الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ٤
۱ حلية الأولياء لأبي نعيم
سورة الذاريات ٢٢
۳ سورة الذاريات ۳
۱-
٤ سورة هود ٦

وهذه القصة التى تُروى على لسان ذى النون أهي قصة رمزية أراد بها ذو النون أن يوضح عناية الله بمخلوقاته ورحـمـتـه بهـم ورعايته لهم وهو سبحانه الرحيم الودود الرءوف الرحيم أرحم الراحمين وخير الكرماء
أم هي قصة حقيقية وأن لله تعالى عجائب في الكون تظهر
لذوى البصيرة لا يعدها عد ولا تحدها حدود !
وليست القصة بمستحيلة وإنها لفى غاية الجمال في الدلالة على جميل عناية الله بمخلوقاته
واحتمال ثالث يقول صاحب الكواكب الدرية عن ذي النون وكان اسمه ثوبان بن إبراهيم وقيل الفيض وأصله من النوبة
ثم نزل إخميم فأقام بها فسمع يوماً صوت لهو ودفاف
فقال
ما هذا
قيل عرس
وسمع بجانبه بكاء وصياحاً
فقال
ما هذا
فقيل فلان مات
فقال

أعطى هؤلاء فما شكروا وابتلى هؤلاء فما صبروا وأقسم أن لا يبيت بالبلد فخرج فوراً إلى مصر فَقَطَنَهَا


وهذه في الواقع قصة عادية تحدث كل يوم ويمر بها الناس فلا تثير في نفوسهم شيئاً
ومع ذلك فإنها عبرة للذين هيا الله نفوسهم للتأمل في عبر الحياة حينما تمر بهم والحياة مليئة بالعبر يمر بها قوم فلا يلتفتون إليها ويمر بها آخرون فيفكرون ويتأملون ويدخلون في نطاق من يقول الله

تعالى فيهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النار ۱ لقد هيأ الله نفس ذي النون في تلك الساعة فأثرت فيه عبرة الحياة فكانت الهداية وهذه الاحتمالات لا ينفى بعضها بعضاً ومن الممكن أن تكون قد تكاتفت وتعاونت فانتهت به إلى التأثير في جميع أقطار نفسه فتاب وأناب وسلك الطريق
ثم إنها لا تنفى احتمالاً رابعاً له قيمته الكبرى في نظرنا وذلك أن صاحب الحلية يقول وكان شيخه فى الطريق شقران العابد - هل كان شقران أساس هدايته هل تلقفه قبل أن تتحول به
الحياة من طريق إلى طريق فكان الموجه له والمرشد له بعد
الحج
۱ سورة آل عمران ۱۹۱
۳۔

أم تلقفه وهو في حيرة يتحسس الطريق حتى يسير آمناً مطمئناً
إنها احتمالات كلها ممكنة
ولعلها جميعاً تعاونت فأخرجت لنا ذا النون المصرى رضوان الله
عليه
ومهما يكن من شيء فإننا نرى أن توبة ذي النون إنما بدأت برحلته هذه إلى الحج ويبدو أنه أخلص النية في هذا الحج فرجع منه كيوم ولدته أمه
ورسول الله م يقول
مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُتْ ولَمْ يَفْسُقُ خَرَجَ مِنْ ذُنوبِهِ كَيَوْمٍ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ورسول الله يتناسق مع القرآن الكريم في هذا إذ يقول الله
تعالى
الْحَجِّ أَشْهُرٍ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَتْ وَلَا فُسُوقَ
وَلَا جِدَالَ فِي الْحَج ۱ والرفث فحش اللسان والفسوق فحش الجوارح والجدال النزاع والمشاحنة إن ذا النون تأثر ـ لا شك - بالحج وهو حينما يتحدث عن الحجة الأولى يتحدث معها عما شاهده فيها من تجليات الله على بعض عباده وأن ذلك أثر في نفسه

هذه
بيد أن العامل الحاسم في حياة ذى النون إنما هو لقاؤه بـ شقران
العابد
۱ سورة البقرة ۱۹۷
٢٤۔

وكان شقران شخصية ممتازة قوية وإن كنا لم نعثر له على كتب أو ترجمة مستفيضة ولكن الإمام الشعراني يقول عنه
شقران المغربي العابد شيخ ذي النون المصرى عارف ظَهَرَ ضياؤه وطاب ذكره وثناؤه كان ذا أحوال باهرة ومقامات
فاخرة ومن كلامه
إن لله عباداً خرجوا إليه بإخلاصهم وشمروا إليه بنظافة
إسرارهم فأقاموا على صفاء المعاملة وبادروا إلى استماع كلامه بحضور أفهامهم فعند ذلك نظر إليهم بعين الملاحظة فأجزل لهم المواهب وحُقَّتْ لهم منه العطايا فشموا روائح القرب من قربه وهَبَّتْ عليهم رياح اللقاء من تحت عرشه فتطايرت أرواح قلوبهم إلى ذلك الروح العظيم ثم نادت لا بَراح
وقال
ألا خل خدوم
ألا صديق يدوم
ألا حليف وداد
ألا صحيح اعتقاد
أين من استراح قلبه بحب الله
أين من ظهر على جوارحه نور خدمة الله
أين من عرف الطريق
أين من نظر بالتحقيق
6
_TO_

أين من سقى فباح أين من بكي وناح - أولئك تحف
من البحار
بهم الملائكة بالليل والنهار وتسلّم عليهم الحيتان
ومن كراماته
أنه أراد ليلة أن يغتسل فلم يجد ماء فلحظ إلى السماء وقال اللهم قد عجزتُ عن الماء وانقطع رجائي من غيرك فاعطف على قلة حيلتي فسمع وقع الماء في الإناء فقام إليه فوجده بارداً فحرك شفتيه فإذا به قد سخن
وقد مات بمصر ودفن بالقرافة بقرب قبر عقبة اهـ
أين التقى به ذو النون وكيف أخذ العهد عليه وما هى الكيفية التي رسمها له ليسير فى معراجه إلى الله كل هذه أسئلة لا نجد لها جواباً من التاريخ ولكنها أسئلة ليست بجوهرية في موضوعنا ذلك أن الطريق الذي يرسمه الشيخ ـ كل شیخ صادق ـ معروف في جوهره إنه يبدأ بالتوبة الصادقة النصوح وهذه هي الخطوة الأولى الأساسية وهي خطوة من صـمـيـم الشرع فالتوبة من الذنوب واجبة بل هي مطلوبة ولو لم تكن هناك ذنوب من الذنوب المتعارف عليها وقد قال الله سبحانه إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ ١
۱ سورة البقرة ٢٢٢
٢٦۔

أي الذين يكثرون من التوبة وما التوبة إلا خضوع وتضرع وتذلُّل فهى من صميم العبودية ومن أجل أنها من صميم العبودية
كان رسول الله لم يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم مائة مرة ولقد حث الله عباده على التوبة بشتى الأساليب من ذلك قوله تعالى في حديث قدسي فيما رواه الرسول عن الله تبارك
وتعالى
يَا عبادي إِنَّكُم تُخطئون بالليل والنَّهارِ وأَنا أَغْفِرُ الذُّنوبَ
جميعاً فَاسْتَغفِرُونى أَغْفِرْ لَكُمْ
أي استغفرونى استغفاراً صادقاً والاستغفار الصادق هو توبة صادقة فإذا فعل الإنسان ذلك غفر الله له وتاب عليه والتوبة الصادقة تَجُبُّ ما قبلها إنها تضع التائب في مرتبة البراءة فإذا ما تاب المريد لقنه الشيخ الذِّكْر
والذكر من صفات أولى الألباب وذلك أن من صفاتهم ـ التي ذكرها الله سبحانه ـ أنهم
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ ١
والأمر بالذكر في القرآن الكريم استغرق الأزمنة والأحوال المختلفة للإنسان سواء أكان تسبيحاً أم تهليلاً وحمداً وتكبيراً
وحوقلة
۱ سورة آل عمران ۱۹۱
۷-

وهذه هي الباقيات الصالحات وهذه هي المنجيات الحاميات ولقد قال الله سبحانه وتعالى عن النبي ذي النون عليه السلام فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسبحين CED للبث في بطنه إِلَى يَوْمِ يَعْدُونَ ١
لقد نجاه التسبيح
ولقد قال أحد من أصابتهم كارثة لإخوته
ألَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ
أى أنهم لو اتَّبعوا كلامه وسبحوا الله لما أصابتهم الكارثة ومن الذكر الذى يصفه الشيخ لمريده الصلاة على الرسول
والله سبحانه وتعالى يقول
إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وسلموا تسليما ۳
فالشيخ - إذن فى أخذه بيد المريد إنما يبدأ بالتوبة ويثنى بالذكر ولكن الشيخ وقد أخلص وجهه لله وملأ الله عليه جميع أقطار
نفسه فأصبح ربانياً يقود مُريده عن طريق الأسوة أيضاً إن المريد يرى في شيخه الاعتماد على الله والتوكل عليه وابتغاء مرضاته في كل ما يأتى من الأمور وما يدع منها
۱ سورة الصافات ١٤٣ ١٤٤
سورة القلم ۸ ۳ سورة الأحزاب ٥٦

إنه يرى في شيخه الصدق والرأفة والرحمة ومواساة البائسين والعطف على المساكين وهداية الحياري ويرى فيه التأسي برسول الله والعمل بما أمر به القرآن والانتهاء عما نهى عنه القرآن فيقتدی بشیخه ويتأسى به
التوبة الذكر الأسوة وأمر رابع هو تأثير الشيخ روحياً في المريد وهذه الظاهرة معروفة من قديم إن نظرة الشيخ لمريده لها
أثرها
ولقد وجد ذو النون في شقران العابد الشيخ المرشد فاتبعه إلى
أن أصبح هو نفسه شيخاً مرشدا



محنته
يقول الله تعالى
1
وكذلك جعلنا لِكُلِّ نَبِي عَدُوا مَنَ الْمُجْرِمِينَ ١
ولقد أخذ بعض المؤرخين يعد أعداء الأنبياء من المجرمين ومن الممكن أن يعد الإنسان أعداء أولياء الله من المجرمين أيضاً وذلك أن كثيراً من الناس قد ملأ الشر قلوبهم إلى درجة أنهم لا يتحملون رؤية الأتقياء الأولياء
ومع أن الله سبحانه يقول في حديث قدسي
مَنْ عَادَى لِي وَلِيَا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ فإن الكثيرين يعادون أولياء الله لما فى قلوبهم من شر ولما في
نفوسهم من حب الإيذاء
ولقد كان لذي النون أعداء
إنهم أعداء التسامي في العلم وفي الخلق وفي التصوف
وتكتل هؤلاء الأعداء يقول صاحب الكواكب الدرية عن
ذي النون
ولما تكلَّم بعلوم لدُنْيَّة لا علم لأهل
مصر ر بها وشوا به إلى
خليفة بغداد فحمل إليه في جماعة مغلولاً مقيداً فقدم للقتل فكلم الخليفة فأعجبه فأطلقه ورفقته وقال
إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم
۱ سورة الفرقان ۳۱
۳۱۔

ولكن أهل مصر قوم طيبون فبمجرد أن رأوا ذا النون ـ وفي يده
الغُل وفى رجله القيد - أخذوا يبكون وإذا بذي النون يعلن هذا من مواهب الله ومن عطاياه وكل فعاله عذب حسن طيب
ثم أخذ ينشد مخاطباً الله سبحانه بشعره
لَكَ منْ قَلْبى المكانُ المَصُونُ كُلُّ هَمَّ فِيكَ يَهُونُ لَكَ عَزْمٌ بِأَنْ أَكُونَ قَتِيلاً فيك والصَّبْرُ عَنْكَ مَا لَا يكونُ
ويقص ذو النون بعض أخبار من هذه المحنة فيقول لما حملتُ من مصر فى الحديد إلى بغداد لقيتني امرأةٌ زَمْنَةٌ فقالت إذا دخلت على المتوكل فلا تَهَبَّهُ ولا تَرَ أنه فوقك ولا تحتج لنفسك محقاً كنت أو متهماً لأنك إن هبته سلطه الله عليك وإن حاججت عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالاً لأنك بَاهَتَ الله فيما يعلمه وإن كنت بريئاً فادع الله تعالى أن ينتصر لك ولا تنتصر
لنفسك فيكلك إليها
فقلت لها سمعاً وطاعة
فلما دخلت على المتوكل سلَّمتُ بالخلافة
فقال لي ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة
فسكت
فقال وزيره هو حقيق عندى بما قيل فيه ثم قال لى لم لا تتكلم

فقلت
يا أمير المؤمنين إن قلت لا كذَّبتُ المسلمين وإن قلت نعم كذبت على نفسي بشيء لا يعلمه الله تعالى منى فافعل أنت ما ترى فإني غير منتصر لنفسى
فقال المتوكل هو رجل برىء مما قيل فيه
فخرجت إلى العجوز فقلت لها جزاك الله عنى خيراً فعلتُ
ما أمرتني به فمن أين لك هذا
فقالت
من حيث خاطب به الهدهد سليمان عليه السلام اهـ
تريد بذلك ما قال الهدهد
وجتك من سبا بنيا يقين ۱ أي عن مشاهدة
وتريد قول الهدهد
أخطتُ بمَا لَمْ تُحط به ٢

بيد أن قصة هذه المحنة انتهت إلى كثير من الخير ولقد فصلها
بعض من كتب عن ذي النون من حيث خاتمتها وذكر البعض ما لم يذكره الآخرون ومن أجل ذلك نحب أن نذكر بعض ما ذكروه روى أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم بن يحيى اليزيدي قال لما حمل ذو النون إلى جعفر المتوكل أنزله في بعض الدور وأوصى
به زرافة
۱ سورة النمل
۳۳

وقال إذا أنا رجعت غداً من ركوبى فأخرج إلى هذا الرجل
فقال له زرافة إن أمير المؤمنين أوصانى بك
فلما رجع من الغد قال له
انظر بأن تستقبل أمير المؤمنين بالسلام فلما خرج إليه قال له سلم على أمير المؤمنين
فقال ذو النون
ليس هكذا جاء الخبر إنما جاء في الخبر أن الراكب يسلّم
على الراجل
فتبسم أمير المؤمنين وبدأه بالسلام فلما نزل قال له
- أنت زاهد أهل مصر
قال
كذا يقولون "
فقال له زرافة إن أمير المؤمنين يحب أن يسمع من كلام الزهاد
فأطرق ملياً ثم قال
يا أمير المؤمنين إن لله عباداً عبدوه بخالص من السر فشرفهم بخالص من شكره فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغى حتى إذا صارت إليه ملأها لهم من سرّ ما أسروا إليه
أبدانهم دنيوية وقلوبهم سماوية قد احتوت قلوبهم من المعرفة حتى كأنهم يعبدونه مع الملائكة بين تلك الفُرَج وأطباق السموات لم يخبوا في ربيع الباطل ولم يرتعوا فى مصيف الآثام ونزَّهوا الله أن

يراهم يتواثبون على حبائل المكر هيبة منهم له وإجلالاً أن يراهم يبيعون أخلاقهم بشيء لا يدوم وبكثرة من العيش مزهودة فأولئك الذين أجلسهم على كراسى أهل المعرفة بالأدواء والنظر في منابت الداء فقال لهم إن أتاكم عليل منْ فَقْدى فَدَاوُوه أو مريض من ذكرى فادنوه أو ناس لنعمتى فذكروه أو مبارز لى بالمعاصي فنابذوه أو محب لى فواصلوه يا أوليائى فيكم عاتبت ولكم خاطبت ومنكم الوفاء طلبت ولا أحب استخدام الجبارين ولا تولّى المتكبرين ولا مصافاة المترفين يا أوليائى وأحبائي جزائى لكم أفضل الجزاء وإعطائي لكم أفضل العطاء وبذلى لكم أفضل البذل وفضلى عليكم أوفر الفضل ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ومطالبتي لكم أشد المطالبة أنا مقدس القلوب وأنا علام الغيوب وأنا أعلم بمجال الفكر ووساوس الصدور من أرادكم بسوء قصمته ومن عاداكم أهلكته ثم قال ذو النون
وَرَدَتْ قلوبهم على بحر محبته فاغترفت منه ريّاً من الشراب
فسهل عليها كل عارض عرض لها دون لقاء المحبوب قد سكنت لهم النفوس ورضوا بالفقر والبؤس واطمأنت جوارحهم على الدؤوب
على طاعة الله بالحركات وضعنت أنفسهم عن المطاعم والشهوات فتوالوا بالفكرة واعتقدوا الصبر وأخذوا بالرضا ولهوا عن الدنيا وأقروا بالعبودية للملك الديَّان ورضوا به دون كل قريب وحبيب
4

فخشعوا لهيبته وأقروا له بالتقصير وأذعنوا له بالطاعة ولم يبالوا
بالقلة إذا دخلوا فأهل تُقَى وإذا عوملوا فإخوان حياء وإذا تكلموا فحكماء وإذا سئلوا فعلماء وإذا جهل عليهم فحلماء فلو رأيتهم لقلت عَذَارَى فى الخدور قد تحركت لهم المحبة في الصدور بحسن تلك الصور التى قد علاها النور وإذا كشفت عن القلوب رأيت قلوباً لينة منكسرة وبالذكر نائرة وبمحادثة المحبوب عامرة لا يشغلون قلوبهم بغيره ولا يميلون إلى ما دونه قد ملأت محبة الله صدورهم فليس يجدون لقرب المخلوقين شهوة ولا بغير الأنس بمحادثة الله لذة إخوان صدق وأصحاب حياء ووقار وتُقَى وَوَرَع وإيمان ومعرفة ودين فاستقبلوا الوفاء بالصبر على لزوم الحق واستعانوا بالحق على الباطل فأوضح لهم الحُجَّة ودلَّهم على المَحَبَّة فرفضوا طريق المهالك وسلكوا خير المسالك أولئك هم الأوتاد الذين لهم تُوهب المواهب وبهم تُفتح الأبواب وبهم يُنشأ السحاب وبهم يدفع العقاب والعذاب وبهم يُسقى العباد والبلاد فرحمة الله علينا وعليهم
لقد سبق أن ذكرنا أن المتوكل بعد أن سمع كلام ذي النون قال
إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم "
ويبدو أن المتوكل أخذ بعد ذلك - يستدعى ذا النون ويسمع منه فصاحب السر المكنون يذكر قصة طويلة يطلب فيها المتوكل من ذى
٣٦

النون أن يحدثه بأعجب ما رأى في سياحاته ويحدثه ذو النون ولعل من آثار ذي النون هذا السلوك الذي اتخذه المتوكل بالنسبة
لأهل السنة من إيقاف التنكيل بهم ومن اضطهادهم ومما لا شك فيه أن ذا النون أثر في نفس المتوكل من هذا الجانب لقد أثر فيها إلى درجة أن المتوكل كان إذا ذكر عنده أهل الورع يبكى ويقول
إذا ذكر أهل الورع فَحَيَّهَلاً بذي النون إن المتوكل في صلته الوثيقة بالمعتزلة لم ير فيهم هذا اللون من
العبودية لله والصلة به ومن الورع والزهد وما كان المعتزلة - في يوم من الأيام - يتجهون هذا الاتجاه أو يتحدثون بهذا الأسلوب المؤثر أو تبدو شخصيتهم في هذه الصورة التي ترى فيها قلوباً امتلأت بحب الله سبحانه كلاً وإنما كانت هذه الصورة كثيرة في أهل السنة ومهما يكن من شيء فإنه قد آن الأوان لرجوع ذي النون إلى مصر معززاً مكرماً
ومر ذو النون بحاجب المتوكل هذا الرجل الذي عرف ذا النون
عن قرب فعرف عبادته وذكره وتسبيحه ونحب أن نذكر هنا قصة
عن وداعه لذي النون يقول

دخل على ذو النون ليودعنى فقلت له
-۳۷۔

اكتب لي دعوة ففعل فقربت إليه جام لوزينج فقلت له
كُل من هذا فإنه ينفع الدماغ وينفع العقل
فقال
العقل ينفعه غير هذا
قلت ما ينفعه
قال
اتباع أمر الله والانتهاء عن نهيه أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنَّما
العَاقِلُ مَنْ عَقَلَ عَن الله أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ
فقلت له أكرمني بأكله
قال
أريد الذ من هذا
قلت وأي شيء تريد
فقال
هذا لمن لا يعرف الحلوى ولا يعرف أكلها وإن أهل معرفة الله
يتخذون خلاف هذا اللوزينج قلت لا أظن أحداً فى الدنيا يُحسن أن يتخذ أجود من هذا فإن
هذا من مطبخ أمير المؤمنين المتوكل على الله
قال
خُذْ لباب مكنون محض طعام المعرفة واعجنه بماء الاجتهاد وطابق صفو الوداد ثم اخبز لوزينج العباد بحر نيران نفس
الزهاد وأوقده بحطب الأسى
۳۸

وهكذا أخذ ذو النون يحدثه بهذا الأسلوب المجازي عن مأكول
أهل الله حتى قال له
ثم كُل بأنامل التفويض فى ولائم المناجاة بوجدان خواطر القلوب فعند ذلك تفريج كرب القلوب ومحل سرور محب الملك المحبوب

ثم ودعنى وخرج رحمة الله عليه عاد ذو النون لمصر معزّزاً مكرماً ولعل من مقادير الله سبحانه أن محنة ذى النون إنما كانت رسالة يؤديها إلى المتوكل الذي بدأ حياته بمعاداة أهل السنة فلما أدى الرسالة ونصح للمتوكل انتهت مهمته
في بغداد وعاد إلى مصر التي كان يهفو فؤاده إليها
ولعل من تصرفات المقادير أن تكون هذه المحنة من الأسباب التي تجعل حياة ذي النون حياة هادئة فإنه وقد عاد معززاً مكرماً من عند الخليفة احترمه الوالى واحترمه غير الوالى ممن يسيرون في اتجاهات الخليفة يسخطون إذا سخط ويرضون إذا رضى
أكانت محنة أم كانت ـ كما عبر عنها ذو النون بقوله ـ
هذا مِنْ مِنح الله وعطاياه

۳۹

وفاته
أما عن وفاة ذى النون فإننا نكتفي بنقل النصوص الآتية
يقول صاحب السر المكنون
روى المنذري في تاريخه عن أبي محمد بن رمان بن حبيب النضري قال لما مات ذو النون رأيت على جنازته طيوراً خضراً فلا أدرى أى شيء كان ومات عندنا بمصر فأمر أن يُجعل قبره مع الأرض ويقول الإمام الشعراني
منهم أبو الفيض ذو النون المصرى رضى الله تعالى عنه واسمه ثوبان بن إبراهيم وكان أبوه نوبياً توفي سنة خمس وأربعين
ومائتين وكان رجلاً نحيفاً تعلوه حمرة وليس بأبيض اللحية ولما توفى بالجيزة حمل في قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس مع جنازته ورأى الناس طيوراً خضراء ترفرف على
جنازته حتى وصلت إلى قبره
ويقول صاحب الكواكب الدرية
ودفن بالقرافة وقبره بها ظاهر مقصود بالزيارة وعليه أنس
ومهابة
وكلموه ـ وهو في النزع ـ فقال
لا تشغلوني فقد عجبتُ من كثرة لطف الله بي

٤١۔

المحدث المتبع للسنة
إن الاقتداء برسول الله من أجل الأمور التي يسعى إلى تحقيقها الصوفية وهم يرون - في صدق - أن القرب من الله سبحانه لا يتأتى إلا بالسير فى الطريق الذي سلكه رسول الله
إن الله سبحانه يقول لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ۱
وكيف يقتدى الإنسان برسول الله إذا لم يكن على معرفة بسيرته ومن أجل هذه المعرفة درس الصوفية السيرة النبوية
درسوها في مظانها من كتب السيرة ومن كتب الحديث
وبعض الصوفية خطا خطوة أخرى فاشتغل بالحديث وأصبح
محدثاً
ومن هؤلاء الفضيل بن عياض
أما فيما يتعلق بذي النون فإنه درس السيرة دراسة مستفيضة درسها ليقتدى بها ودرسها ليرشد إليها
ودرس
تعالى
الحديث بل وأسند الحديث عن الأئمة ـ رحمهم الله
عن مالك والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والفضيل بن
عياض وغيرهم
۱ سورة الأحزاب ۱

ولكن أمره في إسناد الحديث سار على ما وصف صاحب الحلية
إذ يقول
شَغَلَتْهُ الرعاية عن الرواية
وذو النون هو الذي يقول
من علامات المحب لله متابعة حبيب الله في أخلاقه وأفعاله
وأمره وسننه
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ١
ومن كلمات ذي النون التي لهـا مـغـزاهـا فـيـمـا يتعلق باتباع السنة الشريفة ما يحدث به محمد بن سعيد الخوارزمي قال
D
سمعت ذا النون ـ وقد سئل عن المحبة ـ قال
أن تحب ما أحب الله وتبغض ما أبغضه الله وتفعل الخير كله وترفض كلُّ مَا يشغلُ عن الله وألا تخاف في الله لومة لائم العطف للمؤمنين والغلظة على الكافرين واتباع رسول الله
مع
في الدين
ومن الأحاديث التي أسندها ذو النون ما يلي يقول أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصرى حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس قال
قال رسول الله
إنَّ لله - عَزَّ َوجَلَّ - أحبَّةً مِنْ خَلْقه قيل من هم يا رسول الله
قال أَهْلُ القُرآن هُمْ أَهْلُ الله وخَاصَّتُه
۱ سورة آل عمران ۳۱
٤٤۔

ويقول أبو الفيض ذو النون حدثنا فضيل بن عياض عن ليث مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله
تَجَافَوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِي فَإِنَّ اللهَ تَعالى آخِذٌ بيدهِ كُلَّما عَثر ۱
ولقد روى ذو النون هذا الحديث الشريف بعدة طرق
ويقول سمعت الفضل بن هانئ سمعت مالك بن أنس الله سمعت جعفر بن محمد يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت على بن أبي طالب
رحمه
يقول سمعت رسول الله يقول سمعت جبريل يقول مَنْ قَالَ مِنْ أُمَّتِكَ - يَا مُحَمَّدُ - كلَّ يومٍ مائة مَرَّة لا إلهَ إلا اللهُ الملك الحق المبين كان أماناً مِنَ الفقرِ وأُنْساً مِنْ وَحْشَةِ القبرِ واستجلب به الغنى واستقرع به باب الجنة ويقول ذو النون حدثنا مالك بن سمى عن أبي صالح عن أبي

هريرة بينه قال قال رسول الله مَنْ قالَ في كل يوم سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ـ مِائَةَ مَرَّة - غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ ويقول ذو النون المصرى حدثنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن
عمر قال قال رسول الله
۱ روى من طرق أخرى
ينبغى أن يفهم معنى هذا الحديث وأمثاله على وجهه الصحيح أي من قالها مؤمناً بها إيمان يقين يعصمه من أن يستسلم لغير الله من نزغة أو شهوة أو حب جاه أو مال فمن قالها على هذا الوجه كانت لها ثمارها من الخيرات الكثيرة
_20_

الدُّنيا سجْنُ المؤمن وجَنَّةُ الكَافِر
ويقول ذو النون المصرى حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن
عمر أن النبي قال
مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلُ أخرجه الخطيب في رواة الحديث والحديث في الموطأ
ويقول ذو النون حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي بكر أنه سمع أنس ابن مالك يقول قال رسول الله
يَتْبَعُ الميت ثلاث فَيَرْجِعُ اثنانِ ويَبْقَى واحدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ
وعَمَلَهُ فَيُرجعُ أَهْلُهُ ومَالُهُ ويَبْقَى عَمَلُه ١
ومن أقواله لرجل
ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك إحكام ما افترض الله عليك واتقاء ما نهاك الله عنه فإن ما تعبدك الله به خير لك وأفضل مما تختاره لنفسك من أعمال البر الذى لم يجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد وإنما ينبغي للعبد أن يراعى أبداً ما وجب عليه من فرض يُحكمه على تمام حدوده وينظر إلى ما نهى عنه فيتقيه على إحكام ما ينبغي واعلم أن الذى منع العباد عن ربهم وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وما أعد الله لأوليائه وأعدائه حتى يكونوا كأنهم مشاهدون لها التهاون عن إحكام ما افترض عليهم فى قلوبهم وأسماعهم
1 حديث صحيح
٤٦۔

وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ولو أحكموها أدخل عليهم الفوائد حتى تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم الله من معوناته وفوائد كراماته ولكنهم حقروا محقرات الذنوب وتهاونوا بما فيهم من العيوب فحُرِمُوا ثوابَ الصادقين
_EV

ذو النون الـعـالـم
إن صلة رجال التصوف بالعلم على وجه العموم - صلة وثيقة إنهم يتصلون ـ من قرب - بكتاب الله سبحانه يتلونه مـتـعـبـدين بتلاوته ويكثرون تلاوته متقربين إلى الله بهـا فـيـفـتـح الله عليهم الكثير من أنواره فيشيرون إلى هذه الأنوار ويتذكرون بعض ما فتح
الله عليهم وهم يتصلون - عن قرب - بسنة رسول الله وذلك من أجل الاقتداء به فيستفيدون منها لغة وأسلوباً وفقهاً وأنواراً إن الذين أرخوا للجنيد يقولون
كان الكَتَبَةُ يحضرون مجلسه لألفاظه والمتكلمون لتحقيقه والفقهاء لتقريره والفلاسفة لدقة نظره ومعانيه والصوفية لإشاراته وحقائقه وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتي في
حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة وهو القائل من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يـقـتـدى بـه في هذا
الأمر لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنَّة ولم يكن الجنيد بدعاً من الصوفية فالفضيل بن عياض كان إماماً في الحديث وهو ممن أسند عنهم البخارى
ومعروف الكرخى كان أحمد بن حنبل وابن معين ـ كما يقول الغزالي - يختلفان إليه ويسألانه ولم يكن في علم الظاهر مثلهما وسرى السقطى كان أوحد أهل زمانه في علوم التوحيد

والحارث ! حاسبى هو - كما قال التميمي - إمام المسلمين في الفقه والتصوف والحديث والكلام ويقول عنه الإمام الغزالي المحاسبي خير الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع
الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال
وأبو سليمان داود الطائي يقول عنه الذهبي كان إماماً فقيهاً ذا فنون عديدة وسهل التسترى حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وكان يُسأل عن الزهد والورع والفقه وهو ابن عشر سنين فيحسن الإجابة وهو القائل هذه الكلمة التي لها مغزاها العميق
ما أعطى أحد شيئاً أفضل من علم يستزيد به افتقاراً إلى الله وأبو تراب النخشبي تتلمذ على الإمام الشافعي وتتلمذ عليه الإمام أحمد بن حنبل
ومنصور بن عمار كتب إليه بشر المريسى سائلاً ما قولك في القرآن أمخلوق أم لا
نعمة
فكتب إليه هذه الكلمة النفيسة أما بعد عافانا الله وإياك من كل فتنة فإن يفعل فأعظم بها من وإلا فهى الهلكة اعلم أن الكلام في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس له والله تعالى الخالق وما دون الله مخلوق والقرآن كلام الله وانته إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن من المهتدين ولا تبتدع في القرآن من قبلك اسماً تكن من الضالين

وَذَرُوا الذين يلحدُونَ في أَسمائه سَيُجزونَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 1 ويوسف بن الحسين كان عالماً أديباً
وأبو عبد الله الترمذى قال الحافظ ابن النجار في تاريخه كان إماماً من أئمة المسلمين له التصانيف الكثيرة في التصوف وأصول الدين ومعانى الحديث
وأبو بكر الوراق الترمذى له التصانيف في الرياضيات وأبو سعيد الخراز له التصانيف في التصوف سلوكاً وثمرة وأبو العباس أحمد الآدمى وهو القائل من ألزم نفسه آداب الشريعة نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب مع الله فى أوامره وأفعاله وأخلاقه
وهو القائل كل ما سئلت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففى ميدان الحكمة فإن لم تجده فَزنْهُ بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع
الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان
وأبو حمزة البغدادى كان عالماً بالقراءات فقيهاً وكان الإمام أحمد بن حنبل يثير أمامه المسائل ثم يسأله
ما تقول فيها يا صوفي وإذا أردت أن أسير على هذا النسق أمكن عد مئات من الصوفية
العلماء
ولابد للصوفي من العلم بسيرة رسول الله حتى يحسن الاقتداء به فلابد له ـ إذن ـ من قراءة كتب الحديث والسيرة وفي
ذلك علم كثير
۱ سورة الأعراف ۱۸۰
_01_

ومع أن صلة الصوفية بالعلم واضحة من خلال التاريخ فإنه يحسن بنا هنا أن نذكر ونذكر ببعض الأعلام في العلم والتصوف إن الشيخ الأكبر ۱ معجزة من معجزات الدنيا لقد كان قمة في الفلسفة وكان قمة فى التفسير وكان قمة فى الفقه وكان قمة في اللغة وكان شاعراً وإذا أردت أن تقول إنه في العلم الكسبي لا مثيل له فإن لك من كتبه ما يبرر قولك بيد أن هذا العلم الكسبى يسير فيه ـ في كل أجزائه - تيار إلهامي يتجلى في وضوح ومن أجل هذه النفاسة في إنتاجه يرى كثيرون ممن درسوا آثاره أنه أعظم شخصية علمية في العالم وهو ـ من غير شك ـ حسنة من حسنات أتباع محمد

والإمام الغزالي إنه قمة في كل ما تناوله قلمه من أبحاث في الفقه وفي أصول الفقه وفى الفلسفة وفى التصوف وكتابه إحياء علوم الدين ـ وهو أضواء من هدى الكتاب والسنة ـ خالد على
الدهر
والإمام الشعراني الله له من الآثار العلمية الكسبية الوهبية ما
لا يكاد يحيط به محیط ونعود فنقول إن ذا النون لم يكن بدعاً من الصوفية في الجانب العلمي ولقد صفات ذي النون البارزة أنه كان طلعة وما سياحاته الكثيرة
كان
من
ـ التي سنذكر بعضها إن شاء الله - إلا أثراً من آثار هذه الصفة البارزة
۱ هو محيى الدين بن عربي
٥٢

وكانت هذه الصفة تقود ذا النون إلى ارتياد المجاهيل في العلوم كما كانت تقوده إلى ارتياد المجاهيل من الأقاليم وتبدو شخصية ذى النون الحقيقية فى وضوح فيما يذكره عنه ابن
القفطي في كتابه إخبار العلماء بأخبار الحكماء حيث يقول ذو النون بن إبراهيم الإخميمى المصرى من طبقة جابر بن حيان في انتحال صناعة الكيمياء وتقلد علم الباطن والإشراف على كثير من علوم الفلسفة وكان كثير الملازمة لبربا بلدة إخميم فإنها بيت من بيوت الحكمة القديمة وفيها التصاوير العجيبة والمثلات الغريبة التي تزيد المؤمن إيماناً والكافر طغياناً ويقال إنه فُتح عليه علم ما فـيـهـا بطريق الولاية وكانت له
کرامات أما المسعودي ـ الذى توفى بعد ذي النون بمائة سنة كاملة ـ وكان أول مصدر تكلم عنه فيخبرنا بأنه جمع معلوماته عن ذي النون من أهل إخميم عندما زار هذا البلد وهو يروى عنهم أن أبا الفيض ذا النون المصرى الإخميمى الزاهد كان حكيماً سلك طريقاً خاصاً واتخذ في الدين سيرة خاصة وكان من المعنيين بحل رموز البرابي في إخميم كثير الطواف بها وأنه وفق إلى حل كثير من الصور والنقوش المرسومة عليها ۱
وكان الإمام في هذا الطريق هو الإمام جعفر الصادق يقول
صاحب كتاب الصوفية في الإسلام
۱ الصوفية في الإسلام ص ۹ ۱۰
Lor

جعفر الصادق - المتوفى سنة ١٤٨ هـ ـ يذكر عنه كما يقول صاحب تذكرة الأولياء أنه ألف رسالة في الكيمياء والفأل والتطير وأن جابر بن حيان - الكيميائي المعروف ـ كان يُدعى جابراً الصوفي وأنه تقلد ما تقلد ذو النون المصرى علم الباطن الذي يطلق عليه ابن القفطى اسم مذهب المتصوفين من أهل الإسلام 1
وقال السلمي دخلت عليه فرأيت بين يديه طستاً من ذهب وحوله ند وعنبر فأعطانى درهماً فأنفقت منه إلى أن وصلت إلى
مقصدی
ويقول المستشرق نيكلسون
ويُؤثر عنه أنه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع وعرف التوحيد بالمعنى الصوفي ففيما ذكرناه - فيما أعتقد ـ ما يكفي للدلالة على أن ذا النون لا أبا يزيد البسطامى - كما يعتقد مستر هو نفيلد - كان
له أكبر الأثر في تشكيل الفكرة الصوفية ٢
وعن عبد الحكم بن أحمد بن سلام الصدفي قال
سمعت ذا النون المصرى يقول
قرأت في باب مصر بالسريانية فتدبرته فإذا فيه يقدر المقدرون
والقضاء يضحك
ولعل مما يتصل بهذا الجانب - الجانب العلمي - وينيره بصورة
أوضح أن نذكر الآن تقدير العلماء لذي النون
۱ الصوفية في الإسلام ص ١١ الصوفية في الإسلام ص ۸
02

قال أبو المحاسن إن ذا النون كان أول من تكلم فى م
الأحوال ومقامات أهل الولاية
وقال عنه مسلمة بن قاسم كان عالماً صالحاً زاهداً ورعاً مفتيًا في
وانتسب
العلوم واحداً في عصره ويقول جامى هو رأس هذه الفرقة فالكل أخذ عنه إليه وقد كان المشايخ قبله ولكنه أول من فسر إشارات الصوفية وتكلم فى هذا الطريق ۱
وهو أحق رجال الصوفية - على الإطلاق ـ بأن يطلق عليه اسم
واضع أسس التصوف
وهو العارف الناطق بالحقائق ۳
E
وكان أول من تكلم بمصر في ترتيب الأحوال وفي مقامات الأولياء فُحول الرجال فقال جهلة المتفقهة إنه زنديق ويتحدث عنه صاحب الحلية فيقول ومنهم العَلَم المضى والحكم المرضى الناطق بالحقائق الفاتق للطرائق له العبارات الوثيقة والإشارات الدقيقة نظر فعبر وذكر فاز دجر أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصرى رحمه الله
تعالى " وأقام سهل التسترى سنين لا يسند ظهره للمحراب ولا يتكلم فلما كان ذات يوم بكى واستند وتكلم وبالغ في إبراز المعاني
العجيبة والإشارات الغريبة فقيل له فيه فقال
۱ الصوفية في الإسلام ص ٧ ٣ ٤ الكواكب الدرية ص ۳
00

كان ذو النون بمصر حياً فما تكلمت ولا استندت إجلالاً له
والآن قد مات فقيل لي تكلم فقد أذنت ۱
وقال ابن يونس
كان عالماً فصيحاً حكيماً امتحن وأوذى لكونه أتاهم بعلم لم
يعهدوه
تقديره للعلم قال ذو النون
كان الرجل من أهل العلم يزداد بعلمه بغضاً للدنيا وتركاً لها
واليوم يزداد الرجل بعلمه للدنيا حباً ولها طلباً
كان الرجل ينفق ماله على علمه واليوم يكسب الرجل بعلمه مالاً كان يُرى على صاحب العلم زيادة فى ظاهره وباطنه واليوم يرى
على كثير من أهل العلم فساد الظاهر والباطن
وكان يقول للعلماء
أدركنا الناس وأحدهم كلما ازداد علماً ازداد في الدنيا زهداً وبغضاً وأنتم اليوم كلما ازداد أحدكم علماً ازداد في الدنيا حباً وطلباً ومزاحمة أدركناهم وهم ينفقون الأموال فى تحصيل العلم وأنتم اليوم تنفقون العلم في تحصيل المال
وكان يقول موجهاً الحديث للعلماء في صلتهم بالحكام وذوى
اليسار
1 الكواكب الدرية ص ٢٢٣
٠٥٦

العجب - كل العجب - من هؤلاء العلماء كيف خضعوا للمخلوقين ذون الخالق وهم يدَّعون أنهم أعلى درجة من جميع الخلائق !
وسئل عن الحديث لم لا تشتغل به
فقال
للحديث رجال وشغلى بنفسى استغرق وقتي والحديث من أركان الدين ولولا نقص دخل على أهل الحديث والفقه لكانوا أفضل الناس في زمانهم ألا تراهم بذلوا علمهم لأهل الدنيا يستجلبون دنياهم فحجبوهم واستكبروا عليهم وافتتنوا بالدنيا لما رأوا من حرص أهل العلم والمتفقهين عليها فخانوا الله ورسوله وصار إثم كل من تبعهم في عنقهم جعلوا العلم فخاً للدنيا وسلاحاً يكسبونها به بعد أن كان سراجاً للدين يُستضاء به
ويحمل ذو النون حملة قوية على كل من ينحرف في سلوكه من العلماء فيقول قد غلب على العُبَّاد والنُّساك والقُرَّاء ـ في هذا الزمن ـ التهاون بالذنوب حتى غرقوا فى شهوة بطونهم وفروجهم وحُجبوا عن شهود عيوبهم فهلكوا وهم لا يشعرون أقبلوا على أكل الحرام وتركوا طلب الحلال ورضوا من العمل بالعلم يستحى أحدهم أن يقول - فيما لا يعلم ـ لا أعلم
هم عبيد الدنيا لا علماء الشريعة إذ لو علموا بالشريعة لمنعتهم عن القبائح إن سألوا الحوا وإن سُئلوا شَدُّوا لبسوا الثياب على
_OV_

قلوب الذئاب اتخذوا مساجد الله التى يُذكر فيها اسمه لرفع أصواتهم باللغو والجدال والقيل والقال واتخذوا العلم شبكة يصطادون بها الدنيا فإياكم ومجالستهم " ونأتى هنا بنموذج من إجابات ذى النون عن بعض الأسئلة يروى أبو بكر بن أبي الدنيا قال قال بعض المتعبدين
كنت مع ذي النون المصرى بمكة فقلت له
- رحمك الله لم صار الوقوف بالجبل ولم يصر بالكعبة
قال
لأن الكعبة بيت الله والجبل باب الله فلما قصدوه وافدين أوقفهم
بالباب يتضرعون
فقيل له يرحمك الله فالوقوف بالمشعر الحرام كيف صار
بالحرم قال
لما أذن لهم بالدخول إليه أوقفهم بالحجاب الثاني وهي المزدلفة فلما طال تضرعهم أمرهم بتقريب قُربانهم فتطهروا بها من الذنوب التي كانت لهم حجاباً دونه وأذن بالزيارة إليه على طهارة
قيل له فَلمَ كُره الصوم أيام التشريق
قال
لأن القوم زاروا الله وهم فى ضيافته ولا ينبغي للضيف أن يصوم عند مَنْ أضافه
قيل له يرحمك الله فتعلق الرجل بأستار الكعبة لأى معنى
۵۸

قال
هو مثل الرجل تكون بينه وبين أخيه جناية فيتعلق بثوبه
ويتضرع إليه ليغفر له جُرمه وجنايته
ويروى سعيد بن عثمان الخياط يقول سمعت ذا النون يقول - وقد سأله رجل -
يا أبا الفيض رحمك الله من أراد التواضع كيف السبيل إليه
فقال له
افهم ما ألقى إليك من أراد التواضع فليوجه نفسه إلى عظمة الله فإنها تذوب وتصفو ومَنْ نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه لأن النفوس كلها حقيرة عند هيبته ومن أشرف التواضع أن لا ينظر إلى نفسه دون الله ومعنى قول النبي
يقول
مَنْ تَوَاضَعَ للَّه رَفَعَهُ اللَّهُ
مَنْ تَذَلَّلَ بِالمَسْكَنَة والفقر إلى الله رَفْعَهُ اللَّهُ بِعِزّ الانقطاع إليه
وبعد
فإنَّا نختم هذا الفصل بقول ذي النون
ا تَكلَّمَ الناسُ مِنْ عَيْن الأعمال وتكلَّمتُ مِنْ عَيْن المنَّة "

الصوفي
إنه من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن سكت نطقت عنه
الجوارح بقطع العلائق الصوفية
إنهم قوم آثروا الله على كل شيء فآثرهم الله على كل شيء
من أين جاء هذا الاسم
لقد سئل ذو النون لم لزمتم هذا الاسم - اسم التصوف ـ وهل هو مشتق من معنى أو لقب
فقال
قيل إن اسم الصوفية كان في الأصل صفوية من الصفاء وذلك أنهم يسترون العمل ويكتمونه فلا يشوبه الرياء وقيل إنهم كانوا في الأصل صُفَتيَّة مأخوذ من أهل الصفة وقيل إنه اسم لزمهم على غير اشتقاق وإنما هو لمن تَبَتَّل منقطعاً إلى الله من العباد فأخلص المجاهدة
وقيل إنه عَلَم غير مشتق من نسبة ولا عمل
C
وكانوا يلبسون الصوف لأنه أدعى إلى التقشف وأشبه بلباس
الصالحين
وكان التصوف سمة المجتهدين في العبادة "
الطريق
من طرائف ذي النون أنه سئل عن السفلة من هم
-٦١

فقال
مَنْ لا يعرف الطريق إلى الله تعالى ولا يتعرَّفه والقرب من الله سبحانه وتعالى سعادة
ويقول ذو النون
بأول قدم تطلبه تدركه وتجده
لابد من البدء بالطلب والطلب في إخلاص وصدق وهذا
طريق الإنابة
وأما طريق الاجتباء فلا شروط له إن الله سبحانه وتعالى يقول
ذلك
الله يجتبي إِلَيْه مَن يَشَاءُ ويهدى إِلَيْهِ مَن يُنيب ١ للتصوف - إذن - طريقان طريق الاجتباء وطريق الإنابة وعن
يعبر
ذو النون فيقول - فيما رواه يوسف بن الحسين
سمعت ذا النون يقول
العطايا مواهب والطاعات مكاسب والناس رجلان دارج وواصل
فالدارج سائر على طريق الإيمان
والواصل طائر بقوة المعرفة
ولكل دليل فدليل الإيمان العلم ودليل المعرفة الله تعالى
فمتى يلحق السائر الطائر "
ويلخص ذو النون الطريق إلى الله والسعادة التي تتأتى عنه في
إيجاز محكم جميل فيقول
۱ سورة الشورى ۱۳
-٦٢-

إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله فإذا استقرت عنده درجة الهيبة دامت طاعته لربه فإذا أطاع تولد من الطاعة الرجاء فإذا استقرت درجة الرجاء تولدت من قبل الرجاء المحبة فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبه استتبعت درجة الشوق فإذا اشتاق أداه شوقه إلى الأنس بالله فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم "
ومدار الطريق ـ فيما يرى ذو النون ـ على أربع
حب الجليل وبغض الفانى القليل واتباع التنزيل وخوف
التحويل
وينبغي للمريد أن يُحكم الأصل ثم يطلب الفرع كيف يسأل عن الزهد وهو لم يُحكم الورع وقبل الورع التوبة ولربما نظرت إلى الرجل يسأل عن الرضا وهو لا يدرى ما القنوع وإننا لا نتحدث هنا عن طريق الاجتباء فإنه في حقيقة الأمر ليس طريقاً بالمعنى العادي
إنه جذبة من جذبات الحق في لحظة بعدها يتبدل المرء حالاً بعد حال ويدخل رحاب الحق - جل وعلا ـ عبداً من عباده المخلصين لقد اختارته العناية منذ الأزل وأدركته في الوقت الذي اختارته
الحكمة
أما طريق الإنابة فهو الطريق بالمعنى العادى للكلمة ولابد فيه من الطلب فإذا صدقت النية فى الطلب وصدقت العزيمة جاءت
الهداية
4
٦٣

وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنيب ١
وإن قلة تأسف إنسان - كما يقول ذو النون ـ على الحق إنما تكون من قلة قدر الحق عنده فإذا عرف الإنسان قدر الحق فإنه يسعى في
طلبه
ما هو أول القدم الصادق في طلب الله سبحانه
إنه الفرار - من كل شيء - إلى الله
فَفِرُوا إِلَى الله ٢
التوبة
وأول مقام فى الفرار إلى الله التوبة الصادقة حتى يبدأ المسير إلى الله على طهر وحتى يكون العهد مع الله على ترك المعاصي وتوبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة
يقول ذو النون لله عباد تركوا الذنوب حياءً من كرمه بعد أن تركوها خوفاً من
عقوبته
ولو قال لك الله تعالى افعل ما شئت فلست آخذك بذنب لكان ينبغي أن يزيدك كرمه استحياءً منه وتركاً لمعصيته إن كنت حراً كريماً عبداً شكوراً فكيف وقد حذرك
وهذا الذى يقوله ذو النون إنما يستلهم فيه قول رسول الله
ا نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْبٌ لو لم يخف الله لم يَعْصِه
لم يعصه حياء منه وهذا من صفات أصحاب النفوس الكريمة
۱ سورة الشورى ۱۳
_8
سورة الذاريات ٥٠

المريد
ومنذ أن يبدأ الإنسان الطريق بالتوبة الصادقة يسمى مُريداً ويوالي ذو النون النصح للمريد ومن کلامه إياك أن تكون للمعرفة مُدَّعياً أو بالزهد محترفاً أو بالعبادة متعلقاً وفر من كل شيء إلى ربك
وتحذير ذي النون من التعلق بالعبادة إنما هو توجيه إلى أن الرقي في مقامات القرب إنما مرده إلى الله سبحانه لا إلى العبادة ولذلك يجب أن يكون تعلُّق المريد دائماً بالله لا بأعماله وليس في طريق الفرار إلى الله عقبات وذلك أن الرزق مضمون
والرزاق موجود يقول ذو النون معاتباً الذين لا يفرون إلى الله إن الله رَزَقَنا قُوْتَنَا وكلَّفَنا دون طاقتنا فلا بما رزقنا اكتفينا ولا بما كلَّفَنا ائتمرنا

وذو النون في نصائحه للمريدين يحذِّرهم - باستمرار - الدنيا والدنيا في عرف الصوفية إنما هى الشهوات والأهواء وقد عبر الله سبحانه عنها بقوله
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُوَ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي

الأَمْوَالِ وَالأَولاد كَمَثَلِ غَيْثَ أَعْجَبَ الْكُفَّار نباته ثُمَّ يهيج فتراه مصفرا ثم
يَكُونُ حُطَامًا وفي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَان وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ ١
۱ سورة الحديد ۰
0

وبقوله سبحانه
زين للنَّاسِ حُبُّ الشَّهوات من النساء والبنين والقناطِيرِ الْمُقَنطَرة من الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ ۱
ويقول ذو النون
استقرت منازل الدُّجى وثبتت حجج الله على خَلْقه فأخذ بحظه ومُضَيِّعٌ لنفسه فمناره حكمته وحُجَّته كتابه فقامت الدنيا ببهجتها فأقعدت المريد وألْهَت الغافل فلا المريد طلب دواءه ولا الغافل عرف
داءه
ثم خَصَّ الله خصائص من خلقه فعرفهم حكمته فنظروا من أعين القلوب إلى محجوب الغيوب فساحت أرواحهم في ملكوت السماء ثم عادت إليهم بأطيب جنى ثمار السرور فعند ذلك صيروا الدنيا معبرا والآخرة منزلاً همتهم وقلوبهم عند ربهم ولن تفنى النفس إلا بالعلم
بالله
وقد سئل عن الآفة التي يُخدع بها المريد عن الله فقال
يُريه الألطاف والكرامات والآيات
قيلا
له يا أبا الفيض فبم يُخدع قبل وصوله إلى هذه الدرجة
قال بوطء الأعتاب وتعظيم الناس له والتوسع في المجالس
وكثرة الأتباع فنعوذ بالله من مَكْرَه وخَدعه
۱ سورة آل عمران ١٤
-٦٦

قال وسمعت ذا النون وقد سئل ما أساس قسوة القلب للمريد
فقال
ببحثه عن علوم رضيت نفسه بتعليمها دون استعمالها والوصول
إلى حقائقها
ومن أهم النواحي التي كان يهتم بها ذو النون ـ في نصـائـحـه
للمريدين - هي الادعاء فهو يقول مثلاً
كل مدح محجوب بدعواه عن شهود الحق لأن الحق شاهد لأهل الحق لأن الله هو الحق وقوله الحق ولا يحتاج أن يدعى إذا كان الحق شاهداً له فأما إذا كان غائباً فحينئذ يدعى وإنما تقع الدعوى
للمحجوبين " وقال
من ادعى مقاماً حجب به عن الله والمحققون لا يدعون يقول ذو النون
كلَّتْ السنة المحققين عن الدَّعَاوَى ونطقت السنة المدعين
بالدعاوى
1
وينصح المريد بالتزام العبودية
والعبودية أن تكون عبدًا فى كل حال كما هو ربك فى كل حال "
وإذا خرج مريد من حوزة الأدب يرجع إلى حيث شاء ولكي يستفيد المريد لابد له مع الأدب من التواضع
-٦٧٠

يقول ذو النون يا معشر المريدين من أراد منكم الطريق فلْيَلْقَ العلماء بإظهار الجهل والزهاد بإظهار الرغبة والعارفين بالصمت وذلك ليزيده
العلماء علماً والزهاد زهداً والعارفون معرفة
قال الله تعالى
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء والمساكين والعاملينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضَةً من الله والله عليم حكيم 1
ولقد حرص ذو النون - الحرص كله ـ أن يجعل طريق المريد أول الأمر طريقاً ربانياً فبين المسالك والمهالك
لقد بين علامات الانحراف وعلامات القبول عن سعيد بن
عثمان عن أبى الفيض ذي النون المصرى قال
إن لله لصفوةً من خَلْقه وإن لله لخيرةٌ من خَلْقه
قيل له يا أبا الفيض فما علامتهم
قال
إذا خلع العبد الراحة وأعطى المجهود فى الطاعة وأحب سقوط
المنزلة
قيل له يا أبا الفيض فما علامة إقبال الله - عز وجل - على
العبد
۱ سورة التوبة ٦٠
٦٨

قال
إذا رأيته صابراً شاكرًا ذاكرًا فذلك علامة إقبال الله على العبد قيل وما علامة إعراض الله عن العبد
قال
إذا رأيته ساهياً لاهيًا مُعْرِضاً عن ذكر الله فذاك حين يُعرض
الله عنه "
ثم قال
وَيْحَكَ كَفَى بِالمُعْرِضِ عن الله خسراناً وهو يعلم أن الله مُقْبِل
عليه وهو مُعْرِضُ عن ذكره
قيل له يا أبا الفيض فما علامة الأنس بالله
قال
إذا رأيته يُؤنِسُكَ بِخَلْقِهِ فإنه يُوحِكَ مِنْ نفسه وإذا رأيته يُوحشكَ مِنْ خَلْقه فإنه يُؤنسكَ بنفسه
ثم قال أبو الفيض
الدنيا والخلق لله عبيد خَلَقَهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم ونهاهم وحذَّرهم وأنذرهم فحرصوا على ما نهاهم الله عنه وطلبوا الأرزاق - وقد ضمنها الله لهم - فلا هم فى أرزاقهم استزادوا ولا هم
للطاعة استجابوا
ثم قال
عَجَباً لِقُلُوبِكُمْ كَيْفَ لا تَتَصدَّع !! ولأجسامِكُمْ كَيْفَ لا تتضعضع !! إذا كنتم تسمعون ما أقول لكم وتعقلون !!
-9

ومن أقواله
إن المريد إذا صدق سَعْيُهُ فيما بينه وبين الله حلاه في صدور المؤمنين وحَلَّى ذكره في أفواه المحسنين شغلهم شغل يغلب على
جميع الاشتغال وحبهم له يحول بين الأهل والمال "
ويوجب ذو النون على المريد ألا يقول شيئاً إلا إذا كان مستندا إلى
حجة من الكتاب والسنة وفي ذلك يقول
أشَدُّ المريدين نفاقاً من لحظ لحظة أو نطق بكلمة بلا حجة استبانها فيما بينه وبين ربه
وقال
أخفى المريدين نفاقاً من تكلم بكلمة أو عمل عملاً على سبيل الغفلة ثم سئل عن الحجة في ذلك فاحتج بحجة لم تقع له قبل الفعل استنادًا عن الناس واستحساناً لقوله ونتهى في هذا بهذه النصيحة التى يُسديها ذو النون للمريدين عن العباس بن حمزة قال
دخلت على ذى النون وعنده نَفَر من المريدين وهو يقول لهم توسدوا الموت إذا نمتم واجعلوه نُصب أعينكم إذا قمتم كونوا
كأنكم لا حاجة لكم إلى الدنيا ولابد لكم من الآخرة
الذكر إن المريد بعد أن يأخذ على شيخه العهد على التوبة يبدأ ـ فيما يبدأ به ـ بالذكر
-۷۰-

والذكر في عُرف القوم ركن مهم من الأركان التي لابد منها للقرب من الله سبحانه وتعالى
ولقد أمر الله تعالى بالذكر إنه سبحانه أمر بالذكر الكثير ولم يحدد له وقتاً وإنما أطلقه إطلاقاً فهو مطلوب في الصباح وفي
المساء وفي الآصال وفي الضحى وفي الليل وفي كل وقت ولم يحدد الله سبحانه له حالة بعينها فهو مطلوب إذا كان الإنسان قائماً وإذا كان قاعداً وإذا كان مضطجعاً
وقد جعله الله صفات ذوى الألباب من ورتب الله عليه الكثير من الفوائد للعبد في دنياه وفي أخراه والاستغفار من الذكر يقول الله سبحانه في شأنه
وَاستَغفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحيمٌ وَدُودٌ ١
ويقول سبحانه
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم
مدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ
أَنْهَارا ٢
ويقول رسول الله
مَنْ لَزِمَ الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيقٍ مَخْرَجاً وَمِنْ كُلِّ هَم
فَرَجاً ورَزَقَهُ مِنْ حيثُ لا يَحْتَسِب
۱ سورة هود ۹۰ سورة نوح ۱۰ - ۱
۷۱-

ويقول - صلوات الله وسلامه عليه ـ أعطيتُ أمانين لأمتى ثم تلا
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يستغْفِرُونَ ١
ثم قال فإذا مضيت بقى الأمان الثاني الاستغفار
وكثرة التسبيح من الوسائل المنجية يقول سبحانه فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ CED لَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
ويقول سبحانه
ألَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ﴾ ٣
والصلاة على رسول الله من الذكر وعنها يقول الشاعر
إذا كنتَ في ضَيْقَ وهَمَّ وفَاقَة وأَمْسَيْتَ مَكْرُوباً وأَصْبَحْتَ في حَرَج فَصَلِّ عَلَى المُخْتَارِ مِنْ آلِ هاشم كَثِيرًا فَإِنَّ اللهَ يَأْتِيكَ بالفَرَج أما الفائدة الكبرى للذكر الصافى المخلص فهي القرب من الله
سبحانه
والصوفية يستعملون الذكر للقرب من الله تعالى
ولذي النون الكثير فيما يتعلق بالذكر إنه يقول
۱ سورة الأنفال ٣٣
۳ سورة القلم ۸
سورة الصافات ١٤٣ ١٤٤
۷-

من القلوب قلوب تستغفر قبل أن تُذنب فتُثاب قبل أن تُطيع
ولقد سئل عن الذكر فقال
هو غيبة الذاكر عن الذكر
ويقول
من ذكر الله ذكرًا على الحقيقة نسى في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا عن كل شيء
ومن كلام ذي النون
من استأنس بشيء من الدنيا لم يجد صَافِيَ لذَّة ذكْر مَوْلاه وقال أبو جعفر المغربي سمعت ذا النون يقول إذا أكرم الله عبداً ألزمه ذكره وألزمه بابه وتعرف إليه بالبر والفوائد ومده من عنده بالزوائد ويصرف عنه أشغال الدنيا ويصرف عنه البلايا فيصير من خواص الله وأحبابه فطُوبَى له حياً وميتاً
لو علم أبناء الدنيا بحضّ المقربين وتلذُّذ الذاكرين وسرور المحبين
لماتوا كَمَدًا ۱
وقال ذو النون
من المحال أن تجد طعم ذكره ثم لا يشغلك به عما دونه
وكان ذو النون ينبه إلى أن من علامة إعراض الله عن العبد أن تراه ساهياً لاهياً لاغياً مُعْرِضاً عن ذكر ربه تثقل عليه
مُجَالَسَةُ الذاكرين
1 أخرجه البيهقى

وكان ينبه أيضاً إلى أن
لكل قوم عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكره
وروى عن يوسف بن الحسين قال سمعت ذا النون يقول لن ينال أحد اليقين في المعرفة والتوكل إلا بدوام ذكر الله بالقلب وكثرة مناجاته وقطع ما شغل القلوب عن ذكر الله والله ولى
المؤمنين "
الورع
ونعود إلى التوبة من جديد ونتحدث عن آثارها
إن التوبة إذا صدقت استتبعت - لا محالة - الورع
والورع هو تحرى الحلال في كل شيء ولـه شـأنـه العظيم في
التقوى وفي تنوير القلب
ولقد تحدث الرسول الله عن تحرى الحلال متناسقاً مع القرآن
الكريم في ذلك
عن
عطاء عن ابن عباس قال تليت هذه الآية عند النبي يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا ۱ فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلنى مستجاب الدعوة فقال يا سَعْدُ أَطَبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتَقَبَّلُ منه أربعين
يوماً وأيما عبد نَبَتَ لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به
۱ سورة البقرة ١٦٨
_VE_

وعن أبي هريرة له قال قال رسول الله
يا أيُّها الناس

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
علیم ۱
وقال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ٢
ثم ذكر الرجل يُطيلُ السَّفَرَ أَشعَثَ أغْبَرَ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذَّى بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنَّى يُستجاب لذلك ۳
ويقول ذو النون
من لم يفتّش على الرغيفين من الحلال لا يفلح في طريق الله - عزَّ
وجل
وذو النون ـ متابعاً للقرآن والسنة - لا يقصر الورع على الجانب المادى وإنما يعممه على كل شيء فقد قال له رجل مرة إن امرأتي تقرأ عليك السلام فقال انه
لا تُقرئونا من النساء السلام "
إنه يحب أن يعيش في سلام مع قلبه ونفسه
۱ سورة المؤمنون ٥١
سورة البقرة ۱۷
۳ أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه والإمام أحمد في مسنده

على أن أمر الورع المادى سهل بالنسبة لذي النون ومن اتبعه على طريقته لقد وصل ذو النون بالحياة المادية بالنسبة للمريد إلى حدها الأدنى إنه يقول للمريد
من طلب مع الخبز ملحا يأكله لم يفلح في الطريق أبداً وكان ذو النون يعنى بذلك ألا يتكلف الإنسان شيئاً فإذا وجد الخبز الحلال ففيه الكفاية ولله الحمد والشكر وإذا وجد ـ دون طلب ـ مع الخبز شيئاً آخر فإن فضل الله عظيم وله الحمد والشكر وكان ذو النون يحذر دائماً من الجرى وراء شهوة الطعام إنه
يقول
لا تسكن الحكمةُ مَعدَةً مُلئت طعاماً
وكان يقول
ما شبعت من الطعام - قطُّ - إلا عصيت أو هممت بمعصية ولكن الأمر الشاق في الورع هو الجانب الروحي وهذا لابد له
من جهاد النفس حتى تتزكى
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَاهَا ١
وهذا النوع من الجهـاد مـارسـه ذو النون حتى تغلب على نفسه وهواه وسيطر - بفضل الله - عليهما وقال كلمته التي صدرنا بها
هذا الكتاب
كيف لا أبتهج بك سروراً وقد كنتُ أكْدَحُ ببابك حتى جعلتني من
أهل التوحيد
۱ سورة الشمس ٩
٧٦٠

الزهد
وإذا صدق الإنسان فى الورع قاده ذلك إلى الزهد والزهد هو
التحقق بقوله تعالى
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ ١
إنه عدم تعلق القلب بالدنيا أو هو سيطرة الإنسان على دنياه
بحيث لا تستعبده إنه
ألا يملكك شيء ولا يستعبدك شيء
لقد تحدث ذو النون عن الزهد وبين بعض تعريفات الناس له
فقال
>>

اعلموا ـ إخوانى - أن الناس قد تكلموا في الزهد بمعان مختلفة
فبعضهم قال
الزهدُ تَرْكُ حُبِّ المنزلة
وقالت طائفة
الزهدُ تَرْكُ راحة النفوس من جميع ما تستريح إليه
وقالت طائفة
الزهدُ تَرْلُ ما شَغَلَ عن الله
وقالت طائفة
الزهدُ رَفْض الدنيا وقصَرُ الأمل
وقالت طائفة
الزهد الثقة بالله
۱ سورة الحديد ٢٣
VV

وقالت طائفة
الزهدُ الإيثار لله وتَرْكُ كلُّ ما شغل عن الله
وقالت طائفة
الزهد إخراج المخلوقين من القلب وحب الخلوة ولعل ذا النون كان يرى أن كل هذه التعريفات صادقة والواقع أنه لا يتأتى أن يكذب الإنسان تعريفاً منها فكلها موجهة إلى الخير وإلى الرشد بيد أن ذا النون يضيف إليها - هنا وهناك ـ توضيحاً جديداً لبعض زواياها ولقد قال
اعلموا أن صفة الزاهد مَنْ لم يطلب المفقود حتى يفقد الموجود
وقال
>>
سُلِبَ الغِنَى مَنْ حُرِمَ الرضا ومَنْ لم يُقنعه اليسير افتقر في طلب
الكثير
وقال
مَنْ وثق بالمقادير لم يغتم "
وقال
من عرف الله رَضى بالله وسر بما قَضَى الله
وقال
عليك بالقصد فإن الرضا بقليل الرزق يزكّى يسير العمل
ومهما يكن من أمر الزهد ومهما يكن من منزلته الرفيعة في
التقوى فإنه ليس إلا مرحلة في الطريق
يقول ذو النون عن الزهاد
۷۸

الرُّهَاد مُلوك الآخرة وَهُمْ فقراء العارفين
ومرة أخرى يقول
وهم مساكين العارفين "
الزهد مرحلة إنه مرحلة ضرورية وهو يُسلم إلى التوكل
التوكل
والتوكل من المقامات السامية ولقد وعد الله سبحانه أن يكون
حسب المتوكلين فقال
ومن يتوكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسبُهُ ۱
ويشرح ذو النون بعض جوانب التوكل فيقول ـ كما رواه يوسف ابن الحسين
إن الله خَصَّ أهل ولايته بالانقطاع إليه ليعرفهم فضله وإحسانه فانصرفت هموم الدنيا عن قلوبهم وعَظُمَ شُغْلُ الآخرة في صدورهم لما ركبها من هيبة ربهم فألزموا قلوبهم العبودية وطرحوا أنفسهم
في ساحة التوكل "
قال الله تعالى
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ٢
فالمتوكل على الله قد اكتفى - بعلمه بالله - عن الاشتغال بغيره حتى اتصل خوفه ورجاؤه بالله لأنه لا مانع ولا معطى إلا الله فلم ترغب عن الله بجهلك فتخضع لمن دونه عند تخويف الشيطان !
۱ سورة الطلاق ٣
-۷۹

واعلم أن أخص المتوكلين عليه يحجب عنهم كل آمنة فهم ينظرون
إلى الله تعالى ولا يأملون غيره فقد حجب قلوبهم عمن سواه بما يرجون من إحسانه واستغنوا بذكره عن ذكر غيره
واعلم أنك لا تكون متوكلاً حتى تصفو من كل مالك ولا ترى إلا الله وحده ولا تقدر أن تفر من رزقك كما لا تقدر أن تفر من الموت أما سمعت الله يقول
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يميتكم ثم يحييكم 1
فاقطع الاشتغال بذكر الأسباب من قلبك واعلم أن الله يرزقك بسبب وبغير سبب ألا ترى أنه وعدك أن يرزقك وغيب عنك علمه ولو احتلت - بكل حيلة - أن يأتيك قبل وقته أو بعد وقته لم تقدر على ذلك
فيما قصد لك لا يمنعك غيره
والتوكل يزيد وينقص مثل الإيمان
أما قوله
فاقطع الاشتغال بذكر الأسباب من قلبك فإنه هو وما ماثله من التعبيرات التي تتحدث عن التوكل قد أثار الكثير من سوء الفهم و من الجدل الناشئ عن سوء الفهم إن رسول الله الله وكبار الصحابة من أمثال أبي بكر بيه وعمر وخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص أجمعين وغيرهم كانوا من كبار المتوكلين على الله سبحانه وكانوا - وعلى رأسهم الرسول - يتخذون لكل أمر 1 سورة الروم ٤٠

عدته في الحرب وفى السعى على المعاش وفي تدبير الأمر الذي
يوكل إليهم
وكل ذلك اتباعًا لتوجيهات القرآن الكريم
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ ۱
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ٢
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۳
لقد اتخذ أسلافنا رضوان الله عليهم الأسباب لكل أمر والعدة لكل حادث ولكنهم لم يعتقدوا - في يوم من الأيام ـ أن الأسباب هي الفاعلة إنها ليست إلها والفاعل الحق هو الله سبحانه ومن هنا كان
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله إن الأسباب ليست مؤثرة بنفسها وكل أمر مرجعه إلى الله
وَإِلَيْهِ يُرجعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾ ٤
إن الصالحين يتخذون لكل أمر عدته ولكنهم لا ينسون أن
الله إنهم لا ينسون الله في المبدأ فهو الموفق
C
الفاعل هوا ولا ينسون الله في الوسط فهو الميسر ولا ينسون الله في
الآخر
فإليه المصير
۱ سورة الملك ١٥
سورة الأنفال ٦٠
۳ سورة المزمل ٢٠
٤ سورة هود ١٢٣
AL

أَفَرَأَيْتُم ما تُمنون CD أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن تُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِتَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ ED وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَىٰ فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ CD لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُعْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ CD أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أَجَاجًا فلولا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي
3
تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴾ ١
فلينظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامه TD أَنَّا صَبَنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَفَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا CD فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا CD وَعِنَبا وَقَصْبًا CD وزيتونا ونَخْلاً CD
وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبا
وانظر معى إلى قوله تعالى
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ويشف
صدور قوم مؤمنين ۳
وآيات الجهاد في القرآن وآيات العمل وآيات كسب الرزق
إن كل ذلك حث على الأخذ بالأسباب
۱ سورة الواقعة ٥٨-٧٢
سورة عبس ٢٤ - ٣١
۳ سورة التوبة ١٤
۸-

ومع ذلك فإن السبب الأول والعامل الأخير مرده إلى الله ولقد كافح رسول الله كفاح الأبطال متخذاً الأسباب في الصغير والكبير من ألوان كفاحه وكان فى كل خطوة من خطواته
معتمداً على الله تعالى
وفي ضوء ذلك ينبغى أن نفهم فكرة التوكل عند الصوفية أما ثمرة التوكل فإنها الاطمئنان إلى النتائج وكأن العبد يقول يا رب هأنذا قد بذلت كل ما أستطيع بوسائلى التي أملكها لم أقصر في ذلك والنتيجة إليك وأنت الحكيم الرحيم عليك توكلت وإليك أنيب إنى واثق فى حكمتك مطمئن إلى رحمتك
راض بقضائك
ويقول ذو النون في التوكل
من توكل وثق ومن تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه
وسأله رجل فقال
يا أبا الفيض ما التوكل
فقال له
خَلْعُ الأرباب وقطع الأسباب
فقال له زدني فيه حالة أخرى
فقال
إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية
وإذا صدق التوكل أسلم إلى الرضا

الرضا
والرضا هو التسليم الكامل القلبى لكل ما يأتي عن الحكيم
الرحمن إنه منزلة
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۱
ولن تجد بين المسلمين من لا يعترف بأن الرضـا مـقـام سـام وأنه المقام الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم وذلك أن كل مسلم يعترف بأن الله أحكم الحاكمين وأنه أرحم الراحمين ومن كان كذلك فلابد من الرضا بقضائه
وقد يجد الإنسان من يجادل في مقام الزهد أمـا فـي مـقـام الرضا فلا تجد ـ نظريا ـ من يجادل فيه بيد أن واقع الناس يختلف عن نظرياتهم فواقع الناس هو عدم الرضا وكل صغيرة وكبيرة إنما هي محل شكوى وقليل جداً من يقول في كل أحواله الحمد لله
وإذا قالها فيما يرضيه فإنه لا يقولها فيما لا يتفق مع هواه وإن لذي النون عن مقام الرضا - الكثير من النفائس إنه يقول
طُوبَى لمن أَنْصَفَ رَبَّهُ عز وجل "
قيل وكيف ينصف ربَّه
قال
يقر له بالآفات في طاعته وبالجهل فى معصيته وإنْ آخَذَه بذنوبه
رأى عدله وإن غفر له رأى فضله وإن لم يتقبل منه حسناته لم يره
۱ سورة المائدة ۱۱۹
٨٤

ظالماً لما معه من الآفات وإن قبلها رأى إحسانه لما به من
الكرامات
ويقول
لم يحب الله من لم يَرْضَ بقدره ولم يَرْجُ الله من لم يثق بقسمه
وقال
مَنْ وثق بالمقادير لم يغتم
وعن يوسف بن الحسين قال سمعت ذا النون يقول من قال لو لكان فقد ولى الأمر غير الله
فإذا استمر المتصوف فى مقاماته مع الذكر أسلمه ذلك إلى
معرفة الله بالله
المعرفة
وذو النون يقسم المعرفة إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول
حظ مشترك بين عامة المسلمين
القسم الثاني
معرفة خاصة بالفلاسفة والعلماء
القسم الثالث
وهو العلم بصفات التوحيد خاص بالأولياء الذين يرون الله
بقلوبهم
ولقد سئل ذو النون عن كمال العقل وعن كمال المعرفة فقال
_AO_

إذا كنت قائماً بما أمرت تاركاً لتكلُّف ما كُفيت فأنت كامل العقل وإذا كنت بالله - عز وجل - متعلقاً وغير ناظر إلى سواه من أحوالك
وأعمالك فأنت كامل المعرفة
أما أغلب الأحوال التى استعبد الله سبحانه بها العارف فهى
بحسب رأى ذي النون
* رؤية كل شيء منه
* ورجوعه في كل شيء إليه
* وسؤاله إياه كل شيء
والعارف ـ كما يقول ذو النون - لا يلزم حالة واحدة إنما يلزم ربه
في الحالات كلها
أما عبادة العارفين فعنها يقول
إن لله عبادا عبدوه بخالص من السِّرِّ فشرَّفهم بخالص من شكره فهم الذين تمر صحفهم مع الملائكة فرغى حتى إذا صارت إليه ملأها لهم من سر ما أسروا له
إن حظ العارفين في الأشياء هو ومن أجل ذلك لا يبالون ما فاتهم مما هو دونه والعارف فى كل يوم أخشع لأنه كل ساعة أقرب وسئل ذو النون بم عرف العارفون ربهم
فقال
إن كان بشيء فبقطع الطمع والإشراف منهم على اليأس مع التمسك منهم بالأحوال التي أقامهم عليها وبذل المجهود من أنفسهم ثم إنهم وصلوا - بعد - إلى الله بالله
٨٦

وقال
إن العارف استغنى بربه فمَنْ أغنى منه وورثه ذكره وأناخه
بفنائه فاستأنس به
أما رسالة العارفين فهي
نشر لا إله إلا الله فى مجالس الذاكرين
* وتفريج كرب التوابين
والدلالة على الله بلسان التوحيد لجميع العالمين

ومع كل ذلك فإن لكل قوم - كما يقول ذو النون ـ عقوبة وعقوبة
العارف انقطاعه عن ذكر الله
وإذا ما وصل الإنسان إلى المعرفة فقد أصبح صوفياً
* وهنا يمكن أن نتساءل
- إذا ما وصل إلى المعرفة هل يتأتى أن ينتكس أيمكن أن ينتكس الصوفي فيصبح من أهل الدنيا
عن ذلك يقول ذو النون
ما رجع من رجع إلا من الطريق ولو وصلوا إليه ما رجعوا فازهد فى الدنيا تَرَ العجب
إن العارف لا ينتكس لقد قطع المقامات التي تربطه بالدنيا إنه أصبح ربانياً وأصبح قلبه خالياً مما سوى الله سبحانه إنه أصبح في سعادة بالله أو أصبح على حد تعبير ابن سينا ـ مبتهجا بالله إنه وصل إلى الحالة التي يقول فيها الصوفية
۸۷

نحن في سعادة لو عَلِمَها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم " إنها السعادة التى أثرها إبراهيم بن أدهم الله على ملاذ الدنيا كاملة موفورة وإنها السعادة التى أثرها الفضيل بن عياض على حياة الفتوة والشطارة وأمجاد القوة والغلبة وهى السعادة التي يؤثرها كل من وصل إليها على ما عداها
أينتكس كلاً وحاش لله أن ينتكسوا من وصلوا إليه إن مقام المعرفة هو مقام الواصلين وعن هذا المقام ينبثق مقام
المحبة
المحبة
يقول ذو النون
أموت وما ماتت إليكَ صَبَابتي ولا رويت من صرف حبك أوطارى مناي المنى كل المني أنتَ لى مُنّى وأنتَ الغنى كل الغني عند إقتارى وأنت نُهَى سُؤلى وغاية رغبتى وموضع شكواي ومكنون إضمارى تَحَمل قلبي - فيا - مَا لا أبثَّهُ وإن طال سقمى فيك أو طال إضرارى وبين ضلوعي منكَ مَا لكَ قد بَدًا ولم يَبْدُ باديه لأهل ولا جَارِ أثرت الهدى للمهتدين ولم يكنْ مِنَ النور في أيديهم عُشْرُ مِعْشَارِ فَنَلْنِي بِعَفْو منكَ أَحْيَا بِقُربهِ وغِثْنى بيُسْرِ مِنكَ يَطردُ إعسارى
ويربط ذو النون المحبة والذكر فعن سعيد بن عثمان قال سمعت ذا النون يقول
۸۸

وَيْحَكَ مَنْ ذَكَرَ الله على الحقيقة نسى فى حبه كل شيء ومن نسي في حبه كل شيء حفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضاً في كل شيء ويعتبر ذو النون محبة الله سراً لا يجوز الخوض فيه لئلا يسمعه
العوام وقد تذاكر القوم المحبة في مجلسه فقال
كُفُّوا عن هذه المسألة حتى لا تسمعها النفوس فتدعيها ثم أنشد
الخَوْفُ أولى بالمسيء
والحبُّ يَجْمَلُ بالتَّقِيِّ
إذا تاله والحزن
وبالنَّقِي مِنَ الدَّرَن
وهذا الموقف هو موقف المقدس للمحبة الذي يصل تقديسه لها إلى السمو بها حتى عن الحديث عنها
وكان ذو النون يهيجه السماع إذا اتصل بحب الله سبحانه فقد حدثوا أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعهم قوال منشد
فابتدأ ينشد صغيرُ هَوَاكَ عَذَّبني فَكَيْفَ بِهِ إِذا احْتَكَمَا وأنت جمعت من قلبي هَوًى قَدْ كَانَ مُشْتَركَا أمَا تَرَتَى لِمُكْتَئِبِ إِذا ضَحِكَ الخَلِيُّ بَكَى
فانتشى ذو النون ومن شدة نشوته سقط على وجهه وظل الدم يقطر منه وهو لا يدرى ولحب الله على الحقيقة علامات منها ما حدث به محمد بن أحمد ابن عبد الله بن میمون قال سمعت ذا النون يقول

قل لمن أظهر حب الله احذر أن تذلُّ لغير الله ومن علامة المحب
لله الا يكون له حاجة إلى غير الله
ومنها ما حدث به سعید بن عثمان قال سمعت ذا النون يقول من علامة المحب لله تَرُكُ كل ما شغلَ عن الله حتى يكون الشغل له ۱ كله
به
ويصف ذو النون مدى تعلق المحبين بربهم فيقول خَوفُ النار إذا قيس إلى خوف القطع عن المحبوب كقطرة الماء تقذف فى أعظم المحيطات
الود
وعن المحبة تنبثق أحوال عدة فعنها ينبثق حال الود وهو حال من الحالات الشريفة السامية ولقد سمى ا الله نفسه الودود
ويقول على لسان أحد رسله
J 4
إِنَّ رَبِّي رَحيم ودود ٢
والصوفية كثيراً ما يلجأون إلى هذا الاسم الشريف في دعائهم
ومن ذلك قول شاعرهم
ومن علينا يا ودود بجذبة بها تَلْحَقُ الْأَقوامَ مَنْ سَارَ قَبْلَنا
وعن الود يقول ذو النون
الحب لله عام والودُّ لله خاص لأن كل المؤمنين يذوقون حُبَّهُ
وينالونه وليس كل مؤمن يَنالُ وُده
1 أخرجه البيهقي في الزهد

سورة هود ۹۰

ثم أنشأ يقول
مَنْ ذاق طعم الوداد هَجَر جميعا مَنْ ذاق طعم الوداد خلى لذيذ الرقاد مَنْ ذاق طعم الوداد سلى طريق العباد
مَنْ ذاق طعم الوداد أنـس بـــرب الـعـبـــــاد
وعن المحبة ينبثق حال الأنس بالله
الأنس
ويقول ذو النون عن ذلك
الأنس بالله من صفاء القلب مع الله والتفرد بالله الانقطاع من
كل شيء سوى الله
وفي تاريخ ابن عساكر عن أحمد بن قطن بن أبي قطن قال سئل ذو النون - وأنا حاضر عنده -
- متى يجد العبد حلاوة الأنس بالله عز وجل
قال
إذا قَطَعَ العلائق ورَفَضَ الخلائق وكان من أهل الحقائق وعمل
بالرقائق
وقال
فحينئذ ينجو من البوائق "
إذا أحب القلب الخلوة فقد أوصله حب الخلوة إلى الأنس بالله
ومَنْ أنس بالله استوحش من غير الله فلله در قلوب انست بجلال
الله وارتعدت فزعاً لهيبته
-91

وعن البرقي قال سمعت ذا النون يقول
الأنس بالله نور ساطع والأنس بالخَلْق غَم واقع ولقد وصل ذو النون بالأنس بالله إلى منزلة يقول عنها
أدنى منازل الأنس أن يُلْقَى فى النار فلا يغيب عن مأموله
الشوق
أما عن الشوق فيقول ذو النون
الشوق أعلى الدرجات والمقامات إذا بَلَغَهُ اسْتَبطاً الموت شوقاً إلى
ربه وحباً للقائه والنظر إليه
وعن أحمد بن يوسف قال
سئل ذو النون عمن استحق الاشتياق فقال
إذا استحق الاشتياق قَرُبَ من باب الخلاق وشربَ مِنْ كأس المذاق
فَشَاق واشتاق وهذه كلمات تلقى بعض الضوء على ما سبق أن ذكرناه في باب
التصوف
سأل أبو عبد الله بن سهل ذا النون قال متى أتوكل
قال
اليقين إذا تَمَّ سُمِّى توكُلاً
قلت متى يتم حبى لربي
قال
إذا سمحت الدنيا فى عينيك وقَذَفت أملك فيها بين يديك

قلت فمتى أخاف ربي
قال
إذا سرحت بصرك فى عظمته ومَثَلْتَ لنفسك أمثال نقمته
قلت فمتى يتم صومى
قال
إذا جوعت نفسك من البغضاء وأمَةً لسانك من الفحشاء
قلت فمتى أعرف ربي
قال
إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر
قلت فمتى أشتاق إلى ربى

قال
إذا جعلت الآخرة لك قراراً ولم تُسمّ الدنيا لك مسكناً ودارا
قلت فمتى أشتد في بعض الدنيا
قال
إذا جعلت الدنيا طريق مخافة لا تلتفتُ إلى ما قطعت منها وجعلت
الآخرة ساحةً مأمونةً لا تأمن إلا بالنزول فيها
قلت فمتى أحب لقاء ربي
قال
إذا كنت تقدم على حبيب وتصبر عن أمر قريب
قلت فمتى أستلذ الموت

قال
إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك وجعلت الآخرة تُصب عينيك قلت فمتى أتقى شهوات مطاعم الأرض
قال
إذا خالط قلبك الملكوت ومُزج في سرائر الجبروت
قلت فمتى تطیب معرفتی
قال
إذا استوحشت من الدنيا واشتد فرحك بنزول البلاء
قلت فمتى أستقبح الدنيا
قال
إذا علمت أن زينتها فساد كل معنى وأن محاسنها تفضي إلى كل
حسرة
قلت فمتى أكتفى بأهون الأغذية
قال
إذا عرفت هلاك الشهوات وسرعة انقطاع عذوبة اللذات
قلت فمتى القنوع التام
قال
إذا كان زخرف الدنيا عندك صغيراً وكان خوف الآخرة لك ذكرا
قلت فمتى آمر بالمعروف
قال
إذا كانت شفقتك على غيرك وخالفت العباد لمحبة ربك

قلت فمتى أُوثر الله ولا أُوثر عليه سواه
قال
إذا أبغضت فيه الحبيب وجانبت فيه القريب
قلت فمتى أفزع إلى ذكره وأنس بشكره
قال
إذا سررت ببلائه وفرحت بنزول قضائه
الخلوة
والحديث عن التصوف يكون قاصراً إذا لم نتحدث عن
الخلوة وما من شك في أن الخلوة فترة من الزمن ضرورية للمريد إنها تصرفه إلى الله صرفاً كلياً فتصفو تُربته ويستنير قلبه بالذكر المتوالي ويرى في خلوته وتأملاته الدنيا على حقيقتها متاع الغرور
ويقترب من الله في خلوته بسجوده وبصفاء سريرته ولقد كتب السهروردي في كتابه عوارف المعارف فصولاً
جميلة عن الخلوة وشروطها وأذكارها وكتب غيره عنها
والناس ـ عادة ـ يستجمون جسمانياً كل عام وإن استجمامهم الروحى ـ ولو أسبوعاً واحدا ـ أوجب لهم وأفضل أثراً لمجتمعهم
وأهدى إلى الرشد
ويقول ذو النون عن الخلوة
90

1
لم أرَ شيئًا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة لأنه إذا خَلاً لم يَرَ غير الله فإذا لم ير غيره لم يحركه إلا حكم الله ومن أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص واستمسك بركن كبير من أركان الصدق ومن تَزَيَّنَ بعمله فحسناته سيئات
ولكن ذا النون حينما تمكن نور الإخلاص من نفسه قال
ليس من احتجب عن الخَلْق بالخلوة كَمَن احتجب عنهم بالله
سر الملكوت
في هذه الكلمة يبين ذو النون سر الملكوت وهي كلمة من النفاسة بحيث رأينا أن نختم بها فصل التصوف حتى تكون خاتمة
لهذا الفصل
يقول أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم
قلت لذي النون
- كم الأبواب إلى الفطنة
قال
أربعة أبواب أولها الخَوفُ ثم الرَّجاءُ ثم المحبَّة ثم الشوق
ولها أربعة مفاتيح
فالفرض مفتاح باب الخوف والنافلة مفتاح باب الرجاء وحب العبادة مفتاح باب المحبة وذكر الله الدائم بالقلب واللسان مفتاح
باب الشوق وهي درجة الولاية

فإذا هممت بالارتقاء فى هذه الدرجة فتناول مفتاح باب الخوف فإذا فتحته اتصلت إلى باب الفطنة مفتوحاً لا غلق عليه فإذا دخلته فما أظنك تطيق ما ترى فيه حينئذ يجوز شرفك الأشراف ويعلو
مُلْكُكَ مُلْكَ الملوك واعلم - يا أخى - أنه ليس بالخوف يُنال الفرض ولكن بالفرض ينال الخوف ولا بالرجاء تُنال النافلة ولكن بالنافلة ينال الرجاء كما أنه ليس بالأبواب تُنال المفاتيح ولكن بالمفاتيح تُنال الأبواب واعلم أنه مَنْ تَكَامَلَ فيه الفَرْض فقد تَكَامَلَ فيه الخوف ومن جاء
الله
بالنافلة فقد جاء بالرجاء ومن جاء بمحبة العبادة وصل إلى ومن شغل قلبه ولسانه بالذكر قَذَفَ الله فى قلبه نور الاشتياق إليه وهذا سر الملكوت فاعْلَمْهُ واحْفَظْهُ حتى يكون الله - عز وجل ـ هو الذي
يناوله من يشاء من عباده

۹۷-

صاحب الكرامات
لقد كتبنا عن الكرامات كثيراً في بعض كتبنا فلا نعيد ما سبق أن كتبنا ويكفينا هنا أن نقول
إن القرآن الكريم ذكر الكثير من الكرامات والكثير من المعجزات فكل مسلم ـ إذن - يؤمن بها إن الإيمان بها جزء من الإيمان الإسلامي وبهذا ينحصر الخلاف عند المسلمين في صحة الرواية وفي دقة النقل فمن اعتقد بصحة الرواية ودقة النقل سلَّم بالكرامة ومن شك في الصحة أنكر وكلاهما يؤمن مع القرآن بأن الله قد أجرى الكثير من المعجزات على أيدى الأنبياء والكثير من الكرامات على أيدى
الصالحين وقد رويت عن ذى النون كرامات كثيرة وروى الشيخ الأكبر بعضها ومما رواه الشيخ الأكبر ما يذكره صاحب الكواكب الدرية بقوله
ومن مقاماته الفائقة وأحواله المدهشة الخارقة أن روحه الشريفة كانت تدبر أجساماً متعددة فقد قال العارف ابن عربي الروح الواحد يدبر أجساماً متعددة إذا كان له الاقتدار على ذلك ويكون ذلك في الدنيا للولى بخرق العادة وفي الآخرة نشأة الإنسان تعطى ذلك
قال وكان ذو النون المصرى وقضيب البان ممن له هذه القوة كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن من يد ورجل وسمع وبصر وكما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما وقع منها فكذا
۹۹

هذه الأجسام التي تدبرها روح واحدة أي شيء وقع منها يسأل عنه ذلك الروح الواحد وإن كان عين ما يقع من هذا الجسم عين ما يقع مع الآخر اهـ
قال
وروى ابن باكويه فى كتاب أخبار العارفين عن أبي العباس
كنت ماراً بمصر فرأيت حلقة فإذا رجل تعلق بآخر والدم
يسيل على ثيابه فوقف عليهم ذو النون وقال ما لك قال هذا كسر ضرسی فأخذ ضرسه ووضعه في مكانه وقرأ عليه فإذا بالضرس كما كان فلما تفرق الناس عنه تعلقت به وقلت
أرى معك اسم الله الأعظم فقال تَنَحَ عنّى فقلت
لا أفارقك أو تعلمنيه فأقبل على وقال

يا هذا إذا رَقَّ قلبك فادعُ بما شئتَ فَذَاكَ اسمُ الله الأعظم " وعن أبي عبد الله بن الجلاء قال كنت مع ذى النون بمكة فجعنا أياماً فقام يوماً ذو النون قبل الظهر فصعد الجبل للطهارة وأنا معه أحمل الماء فرأيت قشور الموز في الوادى فأخذت قطعتين أو ثلاثاً فقلت إذا تباعد الشيخ للطهارة أكل هذا فلما صعدنا الجبل وتباعدنا عن الناس قال ارْمِ قشور الموز فرميت فمضى وفرغ من وضوئه ورجعنا إلى المسجد وصلينا وجلسنا وإذا شاب يجيء ومعه طبق فقال له الشيخ اتركه ثم قال لى كُلَّهُ قلت وحدى ! فقال أنت طلبته وأنا لم أطلبه فأكلت وحدى وأنا خجل

-۱۰۰-

السائح
ذكر الله تعالى من أوصاف المؤمنين أنهم السائحون فمن
هم السائحون أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم
لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه
وروى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة
فقال النبي علم
سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله
إن كلمة السياحة كلمة شريفة وصف الله سبحانه وتعالى بها
المؤمنين وهي تدل على معنيين
أحدهما السفر من أجل طلب العلم
وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أشاد بالعلم والعلماء في كتابه العزيز ورسول الله تحدث عن العلم والعلماء وبيَّن أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ولقد سافر علماء الإسلام من أجل طلب العلم أسفاراً هي من الكثرة بحيث لا يستطيع عاد أن يعدها وأما المعنى الثاني للسياحة فإنه السفر تعبداً واعتباراً وعظة واستجماماً روحياً وتفرغا لله سبحانه أسبوعاً أو أسبوعين إنه
-11

سفر روحي في مقابلة السفر للاستجمام الجسماني
والناس إذا كان أكثرهم يسافرون للاستجمام الجسماني فإن بعض المؤمنين يسافرون استجماماً روحياً إلى الحج أو إلى زيارة ولى من أولياء الله أو إلى الخلوة مع الله فترة من الزمن تطول أو تقصر بحسب الفراغ المتاح والظروف المناسبة ومما ذكره صاحب كتاب محاسن التأويل عند شرح هذه الكلمة الشريفة ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين السائرون في الأرض وهو مأخوذ من السيح سيح الماء الجارى والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات وروی مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال هم
المهاجرون
وعن عكرمة أنهم المنتقلون لطلب العلم
قال ابن كثير
جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة
فقال النبي
سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله
۱۰-

أقول لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية لالتقى مع كل ما روى
عن السلف فيها لأن الجهاد في سبيل الله كما يُطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ومنه الهجرة والصوم والسفر للتفقه فى الدين أو للاعتبار بل ذلك هو الجهاد
الأكبر هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية أعنى الضرب في الأرض خاصة الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم لكان بمفرده كافياً في المعنى مشيراً إلى وصف عظيم وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه وهو الحق في تأويل الآية اهـ ولقد كان ذو النون المصرى من أكثر الناس سياحة وكان في سياحاته كثير الملاحظات لما يراه من مشاهد العظة والاعتبار وكان يقص بعض ما جرى له في سياحاته من أمور تفيد الناس في صلتهم بربهم وتفيدهم في تهذيب أخلاقهم وزيادة الشفافية في نفوسهم أما هذه السياحات - إذا نظرنا إليه هو - فإنها كانت من هوى نفسه لقد خلقه الله طلعة محباً للعلم عاملاً على كشف المجهول مرتاداً لكل مجالات المعرفة ومن هذه المجالات مجال المعرفة للأماكن والبقاع التي لم يرها إنه مجال معرفة للعظة والاعتبار والتفكر والله سبحانه وتعالى يقول

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتِ لِأُولِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النار ۱
ويقول سبحانه
قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
ويقول أيضاً
أَو لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا
كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاق ﴾ ۳
ويقول تعالى
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَو لَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ ٤
من أجل كل ذلك ساح ذو النون ساح طالباً للعلم وساح
متعبداً وساح مفكراً
ونذكر الآن بعض سياحاته
۱ سورة آل عمران ۱۹۰ ۱۹۱
۳ سورة غافر ۱
٢ سورة النمل ٦٩
٤ سورة فصلت ٥٣
١٠٤۔

يا أمل المؤملين

عن محمد بن أحمد الشمشاطى قال سمـ ذا النون المصرى
يقول
بينما أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية تدعو وهى تقول في دعائها
يا من هو عند ألسن الناطقين يا من هو عند قلوب الذاكرين يا من هو عند شكر الحامدين يا من هو على نفوس الجبارين والمتكبرين قد علمت ما كان منى يا أمل المؤملين
قال ثم صرخت صرخة وخرت مغشياً عليها
إذا اعتلات فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك
قال وسمعت ذا النون يقول
دخلت إلى شواطىء نيل مصر فجاءني الليل فـقـمـت بين زروعها فإذا أنا بامرأة سوداء قد أقبلت إلى سنبلة ففركتها ثم
امتنعت عليها فتركتها وبكت وهي تقول
یا من بَرأه حَباً يابساً فى أرضه ولم يك شيئاً أنت الذي صيَّرته حشيشا ثم أنبته عوداً قائماً بتكوينك وجعلت فيه حَبَاً متراكباً
ودورته فكوَّنته وأنت على كل شيء قدير
وقالت عجبت لمن هذه مشيئته كيف لا يُطاع ! وعجبتُ لمن هذا
صنعه كيف يُشْتَكى !
_10_

فدنوت منها فقلت من يشكو أمل المؤملين
فقالت لي
أنت يا ذا النون إذا اعتللتَ فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك واطلب دواءك ممن ابتلاك وعليك السلام لا حاجة لي في مناظرة
الباطلين ثم أنشأت تقول
وكيف تنام العينُ وَهْيَ قَريرةٌ ولم تَدْرِ في أي المحلين تنزل
إن المحب هو الصبور
وعن أبي عثمان سعيد بن الحكم قال سمعت أبا الفيض ذا النون ابن إبراهيم يقول بينما أنا أسير ذات ليلة ظلماء في جبال بيت المقدس إذ سمعت صوتاً حزيناً وبكاء جهيراً وهو يقول
يا وحشتاه بعد أنسنا يا غربتاه عن وطننا وا فقراه بعد غنانا وا دلاه بعد عزّنا
فتبعت الصوت حتى قربت منه فلم أزل أبكى لبكائه حتى إذا أصبحنا نظرت إليه فإذا رجل ناحل كالسن المحترق فقلت يرحمك الله لم تقول مثل هذا الكلام
فقال
دعني فقد كان لي قلب فقدته ثم أنشأ يقول

>>
قَدْ كانَ لي قلب أعيش به بين الوَرَى فَرَمَاهُ الحِبُّ فَاحْتَرَقَا
فقلت له
لم تشتكى ألم البلاء وأنت تنتحل المَحَبَّهُ إنَّ المحب هو الصبور على البلاء لمن أَحَبَّهُ حُبُّ الإله هو السرور مع الشفاء لكل كُرْبَهُ
من يَرْجُ النجاة يجتهد
وعن إسرافيل قال سمعت ذا النون يقول
سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام يقول
إن لله عبادا عرفوه بيقين من معرفته فشمروا قصدًا إليه احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب صحبوا الدنيا بالأشجان وتنعموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين راغب ولا تزودوا منها إلا كزاد الراكب خافوا البيات فأسرعوا ورجوا النجاة فأزمعوا بذكره لهجت ألسنتهم فى رضا سيدهم نصبوا الآخرة نُصب أعينهم وأصغوا إليها بآذان قلوبهم فلو رأيتهم رأيت قوماً ذبلاً شفاههم خمصــاً بطونهم حزينة قلوبهم ناحلة أجسامهم باكية أعينهم لم يصحبوا العلل والتسويف وقنعوا من الدنيا بقوت طفيف لبسوا من اللباس أطماراً بالية وسكنوا من البلاد قفارًا خالية هربوا من الأوطان واستبدلوا الوحدة من الإخوان فلو رأيتهم لرأيت قوماً ذبحهم الليل بسكاكين السهر وفصل الأعضاء منهم بخناجر
-۱۰۷-

التعب خُمْص لطول السُّرَى شَعْتُ لفقد الكَرَى قد وصلوا الكَلالَ
بالكلال وتأهبوا للنقلة والارتحال
بين جبال الشام
يا من استأنس به المجتهدون فوجدوه سريعًا مجيبا
وعن محمد بن أحمد الشمشاطي قال سمعت ذا النون يقول بينما أنا سائر بين جبال الشام إذا أنا بشيخ على قطعة من الأرض قد تساقط حاجباه على عينيه كبَرًا فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد على السلام ثم أنشأ وهو يقول بصوت عليل
يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريباً ويا من قصد إليه الزاهدون فوجدوه حبيباً ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه سريعاً
مجيباً
ثم أنشأ يقول
وَلَهُ خَصَائِصُ مُصْطَفين لحبِّهِ اخْتَارَهُم فِي سَالِفِ الْأَزْمَانِ اخْتَارَهُم مِنْ قَبْلِ فَطْرَةِ خَلْقَه فَهُمُ ودائعُ حِكْمَة وَبَيَانِ
ثم صرخ صرخة فإذا هو ميت
في بلاد العرب
لا تترك الزاد ليوم معادك
وعن سعيد بن عثمان قال سمعت ذا النون يقول
۱۰۸

بينما أنا في بلاد العرب إذا أنا برجل على عريش من وعنده عين ماء تجرى فأقمت عليه يوماً وليلة أريد أن
البلوط
أسمع كلامه فأشرف على بوجهه فسمعته يقول
شهد قلبى لك بالنوازل وكيف لا يشهد قلبى بذلك وكل أمورهم إليك فحسب من اغتر بك أن يألف قلبه غيرك هيهات هيهات لقد خاب لديك المقصرون سيدى ما أحلى ذكرك أليس قَصَدَك مؤملوك فنالوا
ما أملوا وجدت لهم منك بالزيادة على ما طلبوا
فقلت له يا حبيبي إنى مقيم عليك منذ يوم وليلة أريد أن أسمع
من كلامك
فقال لي
الآن "
قد رأيتك يا بَطَّال حين أقبلت ولكن ما ذهب رَوْعُكَ من قلبي إلى
فقلت له ولم ذلك وما الذى أفزعك منى
فقال
بطالتك في يوم عملكَ وفَراغُكَ فى يوم شغلك وتَرْكُكَ الزاد ليوم
معادك ومقاماً على المظنون
فقلت إن الله تعالى كريم ما ظن به أحد شيئاً إلا أعطاه
فقال
إنه لكذلك إذا وافقه العمل الصالح والتوفيق
في بلدة شاهرت
وعن سعيد بن عثمان قال سمعت ذا النون يقول
۱۰۹۔

وصف لي رجل بشاهرت فقصدته فأقمت على بابه أربعين يوماً فلما كان بعد ذلك رأيته فلما رآنی هرب منی فقلت له سألتك بمعبودك إلا وقفت على وقفة فوقف فقلت سألتك
بالله بم عرفت الله وبأى شيء تعرف إليك الله حتى عرفته
فقال لي نعم رأيتُ لى حبيباً إذا قربت منه قربني وأدناني وإذا بعدتُ ناداني وإذا قمتُ بالفترة رغَبنى ومنَّاني وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني وإذا عملتُ بالمعصية صبر على وتَانَّاني فهل رأيت حبيبًا مثل هذا انصرف عني ولا تشغلني ثم ولّى
في تيه بني إسرائيل
وعن سعيد بن عثمان قال
كنت مع ذي النون في تيه بنى إسرائيل فبينما نحن نسير إذا بشخص قد أقبل فقلت يا أستاذ شخص
فقال لي
انظر فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق فنظرت فإذا امرأة فقلت إنها امرأة فقال صديقة ورب الكعبة فـابتـدر إليها وسلّم عليها فردت السلام ثم قالت
ما للرجل ومخاطبة النساء !
فقال لها إني أخوك ذو النون ولست من أهل التهم
فقالت
مرحباً حياك الله بالسلام

فقال لها ما حَمَلَك على الدخول إلى هذا الموضع
فقالت آية في كتاب الله تعالى
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَا جِرُوا فِيهَا ۱
فكلما دخلت إلى موضع يُعصَى فيه لم يهننى القرار فيه بقلب قد أَبْهَلَتْهُ شَدَّةً محبته وهام بالشوق إلى رؤيته
فقال لها صفي لي
فقالت يا سبحان الله أنت عارف تتكلم بلسان المعرفة
تسألني!
فقال يحق للسائل الجواب
فقالت نعم المحبة عندى لها أول وآخر فأولها لهج القلب بذكر المحبوب والحزن الدائم والتشوق اللازم فإذا صاروا إلى أعلاها شغلهم وجدان الخلوات عن كثير من أعمال الطاعات ثم أخذت في الزفير والشهيق وأنشأت تقول
أحبُّكَ حُبَّين حُبَّ الهَوَى وحباً لأنكَ أهل لذَاكَا فأما الذي هو حُبُّ الهَوَى فَذِكْرٌ شُغِلتُ به عَمَّن سِوَاكَا وأما الذي أنت أهل لَهُ فَدَشْفُكَ لى الحُجْبَ حَتَّى أراكَا
فما الحمدُ فِي ذا ولا ذَاكَ لي ولكنْ لَكَ الْحَمْدُ فِي ذَا وَذَاكَا
ثم شهقت فإذا هي قد فارقت الدنيا
۱ سورة النساء ۹۷
۱۱۱-

على شاطئ نيل مصر وعن محمد بن أحمد الشمشاطى قال سمعت ذا النون يقول بينما أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية عليها دباء
منقطعة
شعث الكلال ۱ وإذا القلب منها متعلق بحب الجبار وهى في نيل مصر وهو يضطرب بأمواجه فبينما هى كذلك إذ نظرت إلى حوت ينساب بين الوجبتين فرنت بطرفها إلى السماء وبكت وأنشأت تقول لك تفرد المتفردون فى الخلوات ولعظيم رجاء ما عندك سَبَّحَ الحيتان فى البحور الزاخرات ولجلال هيبتك تصافقت الأمواج في البحور المستفحلات ولمؤانستك استأنست بك الوحوش في الفلوات واجودك وكرمك قصدتُ إليك يا صاحبَ البِرِّ والمُسَامَحَاتِ ثم ولت عنى وهي تقول
يا مُؤْنِسَ الأبرار في خَلَواتهُمْ يَا خَيرَ مَنْ حَطَّتْ بِهِ النَّزَّالُ مَنْ نالَ حبكَ لا ينالُ تَفجِّعاً القلبُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَاكَ مُحَالُ
ثم غابت عنى فلم أرها فانصرفت وأنا حزين القلب ضعيف
الرأي
في مقبرة البصرة
وحدث يوسف بن الحسين قال بعض الصوفية
۱ أي ثياب بالية
-۱۱۔

سمعت ذا النون يقول
رأيت سعدون في مقبرة البصرة في يوم حار وهو يناجي ربه
ويقول بصوت عال
أحد أحد فسلمت عليه فرد على السلام
فقلت بحق من ناجيته إلا وقفت
فوقف ثم قال لي
قُلْ وأوجِزْ
قلت توصينى بوصية أحفظها منك وتدعو لي بدعوة
فأنشأ يقول
يا طَالبَ العِلْمِ هَهُنَا وَهُنَا وَمَعْدِنُ العلمِ بِينَ جَنْبَيْكَا إِنْ كُنْتَ تَبغى الجنانَ تَسكنها فأذرف الدمع فوق خَدَّيْكَا وقم إذا قَامَ كُلُّ مُجْتَهِد تَدْعُوهُ كَى مَا يَقُولُ لَبَّيْكَا
ثم مضى وقال
یا غيَاثَ المستغيثين أغثْنى
فقلت له ارفق بنفسك فلعله يلحظك فيغفر لك فصرف يده
من يدى وعدا ۱ وهو يقول
أنسْتُ بِهِ فَلَا أَبْغِي سِوَاهُ مَخَافَةَ أَنْ أَضَلَّ فَلَا أَرَاهُ
فَحَسْبُكَ حَسْرَةً وَضَنَا وَسُقْماً بِطَرْدِكَ مِنْ مَجَالِسِ أَوْلِيَاهُ 1 أسرع وجرى

سياحة في طلب المباح

وحدث يوسف بن الحسين عن الفتح بن شخرف قال
سمعت ذا النون يقول
خرجت في طلب المباح فإذا أنا بصوت فعدلت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله وخرج على ساحل الكمه ۱ يقول
في دعائه
أنت تعلم أن الإصرار مع الاستغفار لؤم وتركي الاستغفار مع معرفتي بسعة عفوك عجز يا إلهي أنت خصصت خصائصك بخالص الإخلاص وأنت الذي تضنُّ بضنائنك عن شوائب الانتقاص وأنت الذي سلّمت قلوب العارفين عن اعتراض الوسواس وأنت الذي آنست
الأنسين من أوليائك فأعطيتهم كفاية رعاية ولاية المتوكلين عليك تكلؤهم في مضاجعهم وتطّلع على سرائرهم وسرى عندك مكشوف
وأنا إليك ملهوف وأنت بالإحسان معروف
ثم سكت فلم أسمع له صوتاً
في بيت الله الحرام
وحدث محمد بن يزيد قال سمعت ذا النون يقول
خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينما أنا بالطواف إذا بشخص متعلق بأستار الكعبة وإذا هو يبكي ويقول في بكائه
1 الذهول وتغير اللون
١١٤۔
4

كتمتُ بلائى عن غيرك وبُحْتُ بسرى إليك واشتغلت بك عَمَّن سواك عجبتُ لمن عرفك كيف يسلو عنك ولمن ذاق حبك كيف يصبر
عنك ! "
ثم أنشأ يقول
دوقْتَنِي طِيْبَ الوِصَالِ فَرْدْتَنِي شوقاً إِلَيكَ مُخَامِرَ الحَسَرَات ثم أقبل على نفسه فقال
أمهلك فما ارعويتَ وسَتَرَ عليك فما استحييت وسلبك حلاوة
المناجاة فما باليت
قال فلم أتمالك أن أتيت الكعبة مستخفياً فلما أحس تَجَلَّل بخمار كان عليه ثم قال يا ذا النون غُض بصرك من مواقع النظر فإني حرام فعلمت أنها امرأة
ثم أنشأت تقول
لَمْ أَذُقْ طَعْمَ وَصْلِكَ حَتَّى زَالَ عَنِّى مَحَبَّتِى لِلْأَنامِ
ثم قالت
أوْجَعْتَنِي أَمَا عَلَمتَ أنه لا يُبْلَغَ إِليه إِلا بِتَرْكِ مَنْ دُوْنَهُ
في بعض سياحاته
وقال ذو النون رأيت في سياحتي شيخاً فقلت
- كيف الطريق إلى الله
قال
دع طريق الخلاف والاختلاف
-110

قلت أليس اختلاف العلماء رحمة
قال
إلا في تجريد التوحيد
قلت ما تجريده
قال
فقدان رؤية ما سواه لوجدانه
قلت أو ليس من عرف الله طال همه
قال
بَلْ مَنْ عَرَفَهُ زَالَ هَمُّه
قلت هل يكون العارف مسروراً
قال
وهل يكون محزوناً !
قلت أليس من عرف الله صار مستوحشاً
قال
معاذ الله بل يكون مهاجراً متجدداً
قلت وهل يأسف العارف على شيء غير الله
قال
وهل يعرفُ الله فيأسف عليه
قلت وهل يشتاق إلى ربه
قال

وهل يغيب عنه طرفة عين حتى يشتاقه !
-١١٦

قلت ما اسم الله الأعظم
قال
أن تقول الله وأنت تَهَابُه
قلت كثيراً ما أقوله ولا تداخكنى هيبة
قال
لأنك تقول الله من حيث أنت لا من حيث هو
قلت عظني
قال
حَسْبُكَ من الموعظة علمُكَ بأنه يراك
قلت فما تأمرني
قال
لاطلاعه عليك في كل أحوالك لا تَنْسَهُ
وعن إسرافيل قال سمعت ذا النون يقول
نظرت إلى رجل في بيت المقدس قد استغرقه الوله فقلت
له ما الذي أثار منك ما أرى
قال
ذهب الزهاد والعُبَّاد بصَفْو الإخلاص وبقيتُ في كَذَرِ الانتقاص
فهل من دليل مرشد أو حكيم موقظ
-۱۱۷۔
4

في نواحي الشام
ومن وقائعه في سياحاته ما حكى قال
ا بينما أنا أسير فى نواحى الشام إذ وقعت على روضة خضراء وإذا بشاب يصلى تحت شجرة فسلمت فأوجز في صلاته ولم يرد ثم كتب بإصبعه في الأرض
مُنِعَ اللسَانُ مِنَ الكَلَامِ لَأَنَّهُ سَبَبُ الفَسَادِ وَجَابُ الآفات فَإِذا نَطَقْتَ فَكُنْ لِرَبِّكَ ذَاكِراً وَإِذَا سَكَتَ فَعَدَ مَوْتَكَ آت
قال فبكيت وكتبت بإصبعي في الأرض
وَمَا مِنْ كَاتِبِ إِلَّا سَيَبْلَى وَيُبقى الدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ فَلَا تَكْتُبْ بِكَفَّكَ غَيْرَ شَيْءٍ يَسُرُّكَ فِي القِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ فصاح الشاب فمات فقمت لأجهزه وأدفنه وإذا بقائل خَل عنه فإن الله وعده ألآ يتولاه إلا ملائكته فالتفت فلم أره
في بعض سياحاته
وقال بينما أنا أسير في بعض سياحاتى إذا أنا بصوت حزين كثيب موجع القلب أسمع الصوت ولا أرى الشخص وهو يقول سبحان مُفْنى الدهور سبحان مُخَرِّب الدور سبحان باعث من في
القبور سبحان مُميت القلوب
فاتبعت الصوت فإذا بإنسان يقول
۱۱۸

ا سبحان من لا يَسَعُ الخَلْقَ إلا سَتْرُه سبحانك ما ألطفك بمن
خالفك وأوفاك بعهدك سبحانك ما أحلمك على من عصاك
ثم قال
سَيِّدي بحلمك نطقتُ وبفضلك تكلمت فيا إله من مضى قبلى ومن يكون بعدي بالصالحين الحقنى ولأعمالهم وَفَقْنى
ثم قال
إن الزهاد والعُبَّاد نزل بهم الزمان فأبلاهم وحَلَّ بهم البلاء فأفناهم فهل أنتظر إلا مثل ما أصابهم فانصرفت وتركته باكياً
على جبل المقطم
وقال وصف لى رجل بجبل المقطم فقصدته فمكثت عنده أربعين يوماً ثم سألته فقلت فيم النجاة
قال
في التقوى والمراقبة
قلت زدنی
قال
فر من الخَلْق ولا تأنس بهم
قلت زدنی
قال
إن لله عباداً أطاعوه فَسَقَاهُم كأساً من محبته فهم في شربهم
عطاش وفى عطشهم أروياء ثم تركنى
۱۱۹۔

في التيه
وقال صحبت زنجيّاً فى التيه فكان إذا ذكر الله ابيض فورد على أمر عظيم فسألته فأنشد
ذَكَرْنَا وَمَا كُنَّا نَسِينَا فَنَذْكُرُ وَلَكِنْ نَسِيمُ القُرْبِ يَبْدُو فَيَظْهَرُ ثم قال أيضاً
أنتَ في غَفْلة وقَلْبَكَ سَاهِي نَفِدَ العُمْرُ والذنوبُ كَما هي جَمَّةٌ أُخْصِيَتْ عَليكَ جَمِيعاً فِي كِتَابٍ وَأَنتَ عَنْ ذَاكَ لَاهِ لَمْ تُبَادِرٌ بِتَوْبَةِ مِنْكَ حَتَّى صِرْتَ شَيْخاً فَحَبْلُكَ اليَوْمَ وَاهِ فَاجْتَهِدْ فِي فِكَاكِ نَفْسِكَ واحْذَرْ يَوْمَ تَبْدُو السَّمَاتُ فَوْقَ الجِبَامِ قال ذو النون
فمَا طَرَقَ سمعى مثل حكمة ذلك الزنجي فعلمت لله تعالى عباداً تعلو قلوبهم بالأذكار كما تعلو الأطيار في الأوكار لو
فتشت منهم القلوب لما وجدت فيها غير حب المحبوب
في جبل نيسان
وقال اجتمعت في جبل نیسان بامرأة متعبدة كالشَّن البالي
كأنها تخبر عن أهل المقابر فسألتها أين وطنك
قالت
ما لي وطن إلا النار أو يعفو العزيز الغفار
۱۰۔

قلت هل من وصية
قالت
شمر عن ساق الجد وَدَعْ ما يتعلق به البَطَالون من الرجاء الكاذب الذي لا تحقيق لهم فيه ولا يدرون كيف العواقب فوالله لا يَرِدُ غدًا
المنازل إلا المضمرون ۱
في جبال بيت المقدس
وقال بينما أنا أسير فى جبال بيت المقدس إذ سمعت قائلاً يقول
ذهبت الآلام عن أبدان الخُدّام ولهيت بالطاعة عن الشراب
والطعام وألفت أبدانهم طول القيام بين يدي الملك العلام فتبعت الصوت فإذا شاب قد علاه اصفرار فلما رآنی تواری منى بالشجر فقلت له ليس الجفاء من أخلاقهم فأوصني
فخر ساجداً وجعل يقول
هذا مقام مَنْ لاذَ بك واستجار بمعرفتك وألف محبتك فيا إله
القلوب وما تحويه من جلال عظمتك احجبني عن القاطعين لي
عنك ثم غاب فلم أره
1 الذين استعدوا من قبل
-۱۱۔

في جبل لبنان
وقال رأيت في جبل لبنان رجلاً أغبر نحيفا يصلى فسلَّمتُ فَرَدَّ فما زال راكعاً ساجداً حتى صلى العصر ثم استند إلى حجر
ولم يكلمني فقلت ادع لي
قال
انسك الله بقربه
فقلت زدنی
قال
منْ آنسه الله بقربه أعطاه أربعاً عزاً من غير عشيرة وعلماً من
غير طلب وغنّى بغير مال وأنساً بغير جماعة
ثم شهق فلم يفق إلا بعد ثلاث ساعات
فقال

انصرف عنى بسلام
قلت أوصني
قال
أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلاً
على شاطئ غدير
وقال ابن باكويه حدثنا بكر بن أحمد الجيلي قال سمعت
يوسف بن الحسين الرازي يقول
۱-

كنت مع ذي النون المصرى على شاطئ غدير فنظرنا فإذا
بضفدع خرج من الغدير فركبه عقرب وجعل الضفدع يسبح حتى عبر فقال ذو النون إن لهذا العقرب لشأناً فامض بنا نقفو على أثره فإذا رجل نائم سكران وإذا حية قد جاءت فصعدت إلى صدره وهى تطلب أذنه فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها فانقلبت فانفسحت ورجعت العقرب ونزلت إلى الغدير وجاءت الضفدع بها إلى الجانب الثاني فَحَرَّكَ ذو النون الرجل النائم ففتح عينيه فقال يا فتی انظر مِمَّ نجاك الله هذه العقرب جاءت فقتلت هذه
الحية التي أرادتك
ثم أنشأ ذو النون يقول
يَا غَافِلاً والجليل يحفظهُ مِنْ كُلِّ سوء يدبُّ فِي الظُّلَمِ كَيفَ تَنامُ العُيونُ عَن مَلِكِ يَأْتِيكَ مِنْهُ فَوائِدُ النَّعَمِ
فرفع الشاب رأسه ونهض وقال إلهى هذا فعلك
بمن
عصاك
فكيف فعلك بمن يطيعك ثم ساح
حديث مع بعض متعبدى العرب
روى يوسف بن الحسين قال قال ذو النون
دخلت على بعض متعبدى العرب فقلت له كيف أصبحت
قال
۱۳

أصبحت في بحابح نعمه أجول وبلسان فضله وإحسانه أقول نعماؤه على باطنة وظاهرة وغصون رياض مواهبه على مشرقة
زاهرة
سبحانه ما أمهله بالأنام قال وقال ذو النون
دخلت على متعبدة فقلت لها كيف أصبحت
فقالت
أصبحت من الدنيا على فناء ومبادرة فى أخذ الجهاز متأهبة لهول يوم الجواز له على نعم أعترف بتقصيرى عن شكرها وأتنصل عن
ضعفى عن إحصائها وذكرها فقد غفلت القلوب عنه وهو منشيها وأدبرت النفوس عنه وهو يناديها فسبحانه ما أمهله بالأنام مع
تواتر الأيادي والإنعام "
أطعِ الله إِذا خَلَوْتَ يُجِبْكَ إِذا دعوتَ
وقال رأيت في تيه بنى إسرائيل سوداء قد استلبها الولهُ من حب الرحمن شاخصة ببصرها نحو السماء فقلت السلام عليك
يا أختاه قالت
وعليك السلام يا ذا النون
قلت من أين عرفتني
قالت
4

إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أدارها حول العرش
فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فعرفت روحی روحك في ذلك الجولان
قلت أراك حكيمة فعلميني مما علمك الله
قالت
يا أبا الفيض ضع على جوارحك ميزان القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله ويبقى القلب نقيّاً لا شيء فيه غيره فحينئذ يقيمك على الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة
قلت زیدینی
قالت
خذ من نفسك لنفسك وأطع الله إذا خلوت يُجِبْكَ إذا دعوت
والسلام "
من استغنى بالله أمن من العدم
وقال
كنت في جبل الشام فرأيت رجلاً قاعداً مطرقاً فقلت
- ما تصنع هنا
قال أنظر وأرعى
قلت ما أرى عندك إلا الأحجار فما الذي تنظره وترعاه
فنظر إلى مُغْضَباً وقال
أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي فبحقِّ مَنْ أطلعك على إلا
4
رحت عنى
۱۵

قلت كلمنى بشيء أنتفع به وأذهب
قال
مَنْ لزم الباب أثبت من الخدم ومَنْ أكثر ذكر الذنوب أعقبه كثرة الندم ومن استغنى بالله أمن من العدم ثم تركنى ومضى
لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
وقال رأيت بسواحل الشام امرأة فقلت من أين أقبلت
قالت
من عند قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع
قلت وإلى أين
قالت
إلى قوم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله 1
في اليمن
علامة الخوف من الله
وعن ذي النون قال
وصف لي رجل باليمن قد برز على الخافقين وسما على المجتهدين وذكر لى بالحكمة ووصف لي بالتواضع والرحمة فخرجت حاجاً فلما قضيت نُسكى مضيت إليه لأسمع من كلامه وأنتفع بمواعظه أنا وأناس كانوا معى يطلبون منه مثل ما أطلب
1 الكواكب الدرية - للمناوى
١٢٦۔

ومعنا شاب عليه سيما صالحين فخرج إلينا فجلسنا إليه فبدأ الشاب بالسلام عليه وصافحه فأبدى له الشيخ البشر والترحيب فسلمنا عليه جميعاً ثم بدأ الشاب بالكلام فقال
إن الله بمنه وفضله قد جعلك طبيباً لسقام القلوب ومعالجاً
لأوجاع الذنوب ولى جرح قد تفل وداء قد استكمل فإن رأيت أن تتلطف لى ببعض مراهمك وتعالجني برفقك
فقال له الشيخ
ما بدا لك
فقال له الشاب يرحمك الله ما علامة الخوف من الله تعالى
فقال
أن يؤمنه خوفه من كل خوف غير خوفه
ثم قال يرحمك الله متى يتيسر للعبد خوفه من الله
قال
إذا أنزل نفسه من الدنيا بمنزلة السقيم فهو يحتمى من أكل الطعام مخافة السقام ويصبر على مضض كل دواء مخافة طول الضنا قال فما علامة المحب لله
قال
إن درجة الحب درجة رفيعة
قال صفها لي
قال
۱۷۔

إن المحبين لله شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب إلى عزّ جلال الله فعبدوه بمبلغ استطاعتهم له لا طمعاً في جنته ولا خوفاً
من ناره
قال فشهق الفتى وصاح صيحة كانت فيها نفسه
في المغرب
القرآن حديثه والذكر رفيقه
قال يوسف بن الحسين سمعت ذا النون يقول
وصف لى رجل بالمغرب وذُكر لي من حكمته وكلامه ما حملني على لقائه فرحلت إليه فأقمت على بابه أربعين يوماً على أن

يخرج من منزله إلى المسجد ويقصدنى فكان يخرج وقت كل صلاة ويصلى ويرجع كالواله لا يكلم أحداً
قلت له يوماً
يا هذا إنى مقيم هنا منذ أربعين صباحاً لا أراك تكلمني
فقال لي
هذا لساني سبع إن أنا أطلقته أكلني
فقلت له عظنى رحمك الله موعـ عظة أحفظها عنك
قال
وتفعل
قلت نعم إن شاء الله
قال
۱۸

لا تحب الدنيا وعُدَّ الفقر غنّى والبلاء من الله نعمة والمنع من الله عطاء والوحدة مع الله أنساً والذل عزا والحياة موتاً واليأس غفلة والطاعة حرفة والتوكل معاشاً والله لكل شدَّة عُدَّة ثم مكثت بعد ذلك شهراً لا يكلمنى فقلت رحمك الله إنى
أريد الرجوع إلى بلدى فإن رأيت أن تزيدني في الموعظة
فقال اعلم أن الزاهد في الدنيا قُوْتُه ما وجد ومسكنه حيث أدرك ولباسه ما ستره الخلوة مجلسه والقرآن حديثه والله الجبار العزيز أنيسه والذِّكْر رفيقه والصمت جنبه والخوف سَجِيَّته والشوق مَطيَّته والاعتبار فكره والصبر وساده والحكمة كلامه
والعقل دليله والعلم خليله والجوع إدامه والبكاء دأبه قلت بم يتبين الزيادة والنقصان

قال
عند المحاسبة للنفوس
بم عرفت الله
وروى أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن عثمان قال
سمعت ذا النون يقول
وصف لي رجل صالح فقصدته فأقمت على بابه أربعين يوماً
فلما كان بعد ذلك رأيته فلما رأني هرب منى فقلت له سألتك بالله بم عرفت الله وبأى شيء تعرف إليك الله حتى عرفته
۱۹۔

فقال
نعم رأيت أن لي حبيباً إذا قربت منه قرَّبنى وأدناني وإذا بعدت عنه صاح بي وناداني وإذا قمت بالفترة رغبني ومَنَّاني وإذا عملت بالطاعة زادني وأعطاني وإذا عملت بالمعصية صبر على وتأناني فهل رأيت حبيباً مثل هذا انصرف عنى ولا تشغلنى
إن لله عباداً لو أقسموا على الله لأبرهم

حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم قال
قلت لذي النون
- صف لنا من خيار ما رأيت فذرفت عيناه وقال
ركبنا مرة في البحر نريد جدة ومعنا فتى من أبناء نيف وعشرين سنة قد ألبس ثوباً من الهيبة فكنت أحب أن أكلمه فلم أستطع بينما نراه قارئاً وبينما نراه صائماً وبينما نراه مسبحاً إلى أن رقد ذات يوم ووقعت في المركب تهمة فجعل الناس يفتش بعضهم بعضاً إلى أن بلغوا الفتى النائم فقال صاحب الصرة
لم يكن أحد أقرب إلى من هذا الفتى النائم
فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته فما كان منه إلا أن توضأ
للصلاة وصلى أربع ركعات ثم قال
- يا فتى ما تشاء
۱۳۰

فقلت إن تهمة وقعت في المركب وإن الناس قد فتش بعضهم
بعضاً حتى بلغوا إليك
فالتفت إلى صاحب الصرة وقال
أكما يقول
فقال نعم لم يكن أحد أقرب إلى منك
فرفع الفتى يديه يدعو وخفت على أهل المركب من دعائه وخيّل إلينا أن كل حوت في البحر قد خرج وفي فم كل حوت درة فقام الفتى إلى جوهرة في فم حوت فأخذها فألقاها إلى صاحب الضرة
وقال
- في هذه عوض عما ذهب منك وأنت فى حلَّ
كيف السخاء
وعن محمد بن أحمد الشمشاطى قال سمعت ذا النون يقول بينما أنا أسير في جبال أنطاكية إذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف فسلمت عليها فردت السلام ثم قالت
- الست ذا النون
قلت عافاك الله كيف عرفتني
قالت
عرفتك باتصال معرفة حب الحبيب ثم قالت
أسالك عن مسألة
قلت سلى
۱۳۱-

قالت
كيف السخاء
قلت البذل والعطاء
قالت
هذا سخاء في الدنيا فما السخاء في الدين
قلت المسارعة إلى طاعة المولى لينال منه خيراً
قالت
لينال منه خيراً !
قلت نعم الحسنة بعشرة أمثالها
قالت
سر يا بَطَال هذا فى الدين قبيح ولكنَّ المسارعة إلى طاعة المولى أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد منه شيئاً بشيء وَيْحَكَ يا ذا النون إني أريد أن أطلب منه شيئاً - منذ عشرين سنة ـ فأستحى منه أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب أجراً ولكن أعمل تعظيماً لهيبته وعزته وجلاله ومرت وتركتنى ۱
كل مطيع مستأنس
وقال وجدت مكتوباً على صخرة ببيت المقدس
كل عاص مستوحش وكل مطيع مستأنس وكل خائف هارب
وكل راج طالب وكل قانع غنى وكل محب ذليل
1 أخرجه أبو نعيم في الحلية
-۱۳-

ففكرت فإذا هي أصول لكل ما استعبد الله به الخلق
سبحانه ما أمهله للأنام !
حدثنا سعيد بن الحكم قال سمعت ذا النون يقول دخلت على متعبدة فقلت لها كيف أصبحت
قالت
أصبحت من الدنيا على فناء مبادرةً للجهاز متأهبة لهول يوم الجواز لله على نعم أعترف بتقصيرى عن شكرها وأقر بضعفى عن إحصائها وذكرها قد غفلت القلوب عنه وهو مُنشيها وأدبرت عنه النفوس وهو يناديها فسبحانه ما أمهله للأنام مع تواتر الأيادي
والإنعام "
في بلاد الشام
سبحان من أذاق قلوب العارفين حلاوة الانقطاع إليه قال وسمعت ذا النون يقول
بينما أنا أسير في بلاد الشام إذا أنا بعابد خرج من أحــد الكهوف فلما نظر إلى استتر بين الأشجار ثم قال
أعوذ بك - سيدى - ممن يشغلني عنك يا مأوى العارفين وحبيب
التوابين ومُعين الصادقين وغاية أمل المحبين
۱۳۳

ثم صاح
وا غماه من قلة البكاء وا كرباه من طول المكث في الدنيا
ثم قال
سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه فلا شيء الذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته
ثم مضى وهو يقول

قدوس قدوس قدوس
فناديته أيها العابد قف لي فوقف لى وهو يقول
- اقطع عن قلبى كل علاقة واجعل شغله بك دون
فسلمت عليه ثم سألته أن يدعو الله لى فقال
خَلْقك
- خَفَّفَ الله عنك مُؤَنَ نَصَب السير إليه وذلك على رضاه حتى لا
يكون بينك وبينه علاقة طلب منفعة أو دنيا

ثم سعى من بين يدى كالهارب من سبع "

المناجي
إن المناجاة لله - سبحانه - تختلف باختلاف درجات الناس الروحية وهي تتناسق عند كل شخص مع درجته في معراجه إلى الله سبحانه وتعالى إن مناجاة الذين بدءوا معراجهم إلى الله تعالى عن طريق الخطوة الأولى وهى التوبة إنما تكون في جو ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ١
تكون في جو هذه الآية بمعناها المألوف أي أنه بعد ارتكاب
المعصية يحاول إزالتها أو إزالة آثارها بالتوبة الصادقة ونقول " بمعناها المألوف لأن هذه الآية الكريمة يقولها المرتكب للمعصية فتكون بمعنى ويقولها الصالحون فيتلون معناها بلون آخر ويقولها الصديقون الذين لا يرتكبون المعاصي وذلك لأنهم صدقوا مع الله واستقاموا على الطريقة فيأخذ المعنى شكلاً
آخر
ويقولها الأنبياء والمرسلون فلا يكون بينها وبين المعصية المألوفة صلة من قريب أو بعيد لقد طلب أبو بكر الصديق إلى رسول الله شيئاً من الدعاء ينتفع به فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الآتى
۱ سورة الأعراف ۳
۱۳۵

اللهمَّ إنِّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وفى رواية كبيراً ولا يغفرُ الذنوب إلا أنت فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم
$1
وهذا الدعاء إنما هو دعاء من جو التوبة ولكنه على لسان أبي بكر لا يمت بسبب - من قريب أو من بعيد ـ إلى جو المعاصي التي
تحدث من العامة أو الجهلة
ورسول الله يقول
يا أيُّها الناسُ تُوبوا إلى اللهِ َواسْتَغْفِرُوه فَإِنَّى أتوبُ إليه وأستغفره في اليوم مائة مَرَّة
وتوبة رسول الله إنما هي توبة عبادة تتصل بكثرة الحسنات ولا صلة لها بالسيئات
ولقد كان من دعاء رسول الله - كما روى الشيخان
بسندهما ـ عن أبي موسى عبد الله بن قيس يه
" اللهم اغفر لي خطيئتى وجَهْلى وإسرافي في أمرى وما أنتَ أعلمُ به منّى اللهم اغفر لى جدّى وهَزْلى وخَطئى وعمدى وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررت وما أعلنتُ وما أنتَ
أعلم به منى أنتَ المقدِّم وأنتَ المؤخَّر وأنت على كل شيء قدير وهذا الدعاء من رسول الله وأمثاله إنما هو عبادة لله سبحانه في صورة من صور العبادة وهى صورة التذلل والعبودية والابتعاد عن كل صور الفخر والكبرياء وادعاء الكمال وجو التوبة ـ بحسب هذا الشرح الذى شرحناه ـ يختلف باختلاف
-١٣٦

الذين يناجون الله ويتسامى هذا الجو شيئاً فشيئاً ويسير من التوبة عن المعاصى إلى التوبة التي هي عبودية تلك التي إذا أكثر الإنسان
منها أدخلته في رحاب حب الله له
إن الله يحب الله ابين ١
ومناجاة أهل الورع إنما هي جو
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك "
وهذا الدعاء بمعناه الحرفي هو من سمات أهل الورع وعادة يكون في النواحي المادية ولكن معناه أيضاً يخضع لألوان كثيرة من المعاني بحسب القائلين ويتسع المعنى فيشمل الوجدانيات خطرات النفس وهمسات الضمير
ومناجاة الزاهدين إنما تكون تضرعاً إلى الله سبحانه حتى يُسر
لهم التحقق بمعنى الآية الكريمة
لكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٢
فإذا وجد التحقق بمعنى الآية الكريمة وجد الزهد
وقد يكون من مناجاة الزاهدين طلب السعة في الرزق مثل اللهم وسع على رزقى فى دنياى ولا تَحْجُبْنِي بها عن أُخْراى
ولكن هذا الدعاء يكون في جو
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ
۱ سورة البقرة ٢٢٢ ۳ سورة الحديد ۳
۱۳۷-

وأبو الحسن الشاذلى الذى كان يقول هذا الدعاء كان يقول أيضاً
عن الدنيا
اللهمَّ اجْعَلْها في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا "
وهذا يتماشى مع جو الآية الكريمة
ولا يتنافى الغنى والزهد إذن - حينما يتحقق الإنسان بالجو
الشريف للآية القرآنية الكريمة
ومناجاة المتوكلين تكون في جو الآية الكريمة
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أنبنا وإليك المصير
وهم يوقنون با ن بالحقيقة القرآنية
ومن يتوكل على الله فهو حسبه ٢
وأجواء المناجاة لا تكاد تُحدُّ
منها جو مؤمن آل فرعون وهو جو
وأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۳
وثمرة هذا الجو إذا تحقق به الإنسان هو ما ذكره الله تعالى بقوله فَوقَاهُ اللهُ سَيِّئات مَا مَكَرُوا وحاق بآل فرعونَ سُوءُ الْعَذَاب ٤
ومنها الجو اليونسي
۱ سورة الممتحنة ٤
سورة الطلاق ٣
۳ سورة غافر ٤٤
٤ سورة غافر ٤٥
۱۳۸

لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
وهو جو توحيد لا إِلَهَ إلا أنت وتنزيه
سبحانك
ونسبة
الظلم بمعناه العام إلى النفس إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
ومنها جو الرضا

رضى الله عنهم ورضوا عنه ۳
ومنها
الحب جو
يحبهم ويحبونه ٤
وأسمى الأجواء في المناجاة - على الإطلاق ـ إنما هو جو رسول
الله وهو جو " الإسلام " إسلام النفس لله إنه جو رسول الله الذى عبر الله سبحانه وتعالى عنه
صراحة في القرآن الكريم قائلاً قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ومحياي ومماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ CD لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا أوَّلُ الْمُسلمين D ٥ إنه الجو الذي بينه رسول الله حينما سئل عن الإسلام فقال أن يُسلم لله قلبكَ
فإذا ما أسلم الإنسان قلبه لله انطوت فى ذلك كل المقامات التوبة الدائمة الورع الزهد التوكل التفويض الفناء المحبة
۱ سورة الأنبياء ۸۷ ۳ سورة المائدة ۱۱۹

١٦٢ ١٦٣
٥ سورة الأنعام
سورة الأنبياء ۸۷
٤ سورة المائدة ٥٤
۱۳۹

إن إسلام القلب لله أساس المقامات وذروتها وهو المعنى
الحقيقي لكلمة إسلام
ومن هنا كانت مناجاة رسول الله لا تعدلها مناجاة ولقد تابع المسلمون رسول الله في إسلام القلب الله
وتابعوه في مناجاته واختلفت مناجاتهم باختلاف منازلهم وإن الصوفية بل وغير الصوفية يُعجبون ـ كل العجب ـ بمناجاة ابن عطاء الله السكندرى ويُعجبون - كل الإعجاب ـ بمناجاة أبي الحسن الشاذلي متمثلة في أحزابه وأدعيته
ونحن هنا نذكر مجموعة من مناجاة ذى النون المصرى إنها تمثل درجته الروحية السامية وسيرى القارئ بنفسه مدى السمو الذي بلغه ذو النون
يروى أبو عثمان سعيد بن الحكم قال سمعت ذا النون يقول إلهى إن كان صَغُرَ في جَنْبِ طاعتك عملي فقد كَبُرَ فِي جَنْبِ رجائك أملى
إلهي كيف أنقلب من عندك محروماً وقد كان حُسْنُ ظني بك
منوطاً
إلهى فلا تُبطل صدق رجائى لك بين الآدميين إلهي سمع العابدون بذكرك فخضعوا وسمع المذنبون بحسن عفوك فطمعوا
إلهي إن كانت أسقطتنى الخطايا من مكارم لطفكَ فقد آنسَنِي اليقين إلى مكارم عطفك
- ١٤٠

إلهي إنْ أَمَنَتْنِى الغفلة من الاستعداد للقائك فقد نَبَّهَتْني المعرفة
لكرم آلائك
إلهي إن دعانى إلى النار أليم عقابك فقد دعاني إلى الجنة جزيلُ
ثوابك
ويقول
أَمُوتُ وَمَا مَاتَتْ إِلَيْكَ صَبَابَتِي ولا قُضِيَتْ مِنْ صِدْقٍ حُبِّكَ أَوْطَارِى مُنَايَ المُنَى كُلُّ المُنَى أَنْتَ لِى مُنَى وَأَنْتَ الغِنَى كُلُّ الغِنَى عِنْدَ افْتِقَارِى وَأَنْتَ مَدَى سُؤْلِي وَغَايَةُ رَغْبَتِي وَمَوْضِعُ آمَالِي وَمَكْنُونُ إِضْمَارِى

تَحَمَّلَ قَلْبِي فِيكَ مَا لَا أَبُلُّهُ وَإِنْ طَالَ سُقْمِي فِيكَ أَوْ طَالَ إِصْرَارِي وَبَيْنَ صُلُوعِي مِنْكَ مَا لَكَ قَدْ بَدَا وَلَمْ يَبْدُ بَادِيهِ لَأَهْلِ وَلَا جَارِ وَلِي مِنْكَ فِي الْأَحْشَاءِ دَاءٌ مُخَامِرٌ فَقَدْ هَدَّ مِنِّى الرُّكْنَ وَانبَتَ إِسْرَارِى

أَلَسْتَ دَلِيلَ الرَّكْبِ إِنْ هُمْ تَحيَّرُوا وَمُنْقَذَ مَنْ أَشْفَى عَلَى جُرُفْ هَارِ أثَرْتَ الهُدَى للمُهتَدينَ وَلَمْ يَكُنْ منَ النُّور في أيديهم عشر معشار
قتلني يعفو مِنْكَ أحظى بِقُرْبِهِ أغِثْنِي بِيُسْرٍ مِنْكَ يَطْرُدُ إِعْسَارِي

-181

وعن عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي قال
سمعت أبا الفيض ذا النون يقول
إلهي من ذا الذي ذاق طعم حلاوة مناجاتك فَأَلْهَاهُ شَيء عن
طاعتك
ومرضاتك
أم من ذا الذى ضمنت له النصر في دنياه وآخرته فاستنصر بمن هو مثله في عجزه وفاقته
أم من ذا الذي تكفلت له بالرزق فى سقمه وصحته فاسترزق غيرك بمعصيتك في طاعته
أم من ذا الذي عرفته آثامه فلم يحتمل خوفاً منك مؤونة فطامه أم من ذا الذي أَطْلَعْتَهُ على ما لديك ثم انقطع إليك من كرامته
فأعرض عنك صَفْحاً إخلاداً إلى الدعة في طلب راحته أم من ذا الذي عرف دنياه وآخرته فآثر الفاني على الباقي لحمقه وجهالته
أم من ذا الذي شرب الصافى من كأس محبتك فلم يستبشر بقوارع
محنتك
أم من ذا الذي عرف حُسن اختيارك وقدرتك على نفعه وضره فلم يكتف بك عن علم غيرك به ولم يستغن بك عن قدرة عاجز مثله! وعن سعيد بن الحكم القنفذى قال سمعت ذا النون يقول كيف لا أبتهج بك سروراً وقد كنتُ أكْدَحُ ببابك حتى جعلتني من
أهل التوحيد
-١٤٢

وعن عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي قال
سمعت أبا الفيض ذا النون بن إبراهيم المصرى يقول
إلهي وسيلتي إليك نعمك على وشفيعي إليك إحسانك إلى إلهي أدعوك في المَلاً الملأ كما تُدْعَى الأرباب وأدعوك في الخلا الخلاء كما تُدعى الأحباب أقول في الملا يا إلهي وأقول في
الخلا يا حبيبي
أرغب إليك وأشهد لك بالربوبية مقراً بأنك ربي وإليك مَرَدى ابتدأتني برحمتك من قبل أن أكون شيئاً مذكوراً وخلقتنى من تراب
ثم أسكنتنى الأصلاب ونقلتنى إلى الأرحام
أنشأت خلقى من مَنِي يُمْنَى ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث بين دم
ولحم ملتاث وكونتني في غير صورة الإناث ثم نشرتني إلى الدنيا تاماً سوياً وحفظتني في المهد طفلاً صغيراً صبياً ورزقتنى من الغذاء لبناً مَرِيّاً وكَلَّفتنى حجور الأمهات وأسكنت قلوبهنَّ رقّةً لى وشفقة على وربيتني بأحسن تربية ودبرتني بأحسن تدبير وكَلاتَنى من طوارق الجن وسلمتنى من شياطين الإنس وصنتنى من زيادة فى بدنى تشينني ومن نقص فيه يعيبني فتباركت ربی و تعالیت یا رحیم فلما استهللت بالكلام أتممت على سوابغ الإنعام وأنبتني زائداً في كل عام فتعاليت يا ذا الجلال والإكرام حتى إذا ملكتنى شأنى وشددت أركاني أكملت لي عقلى ورفعت حجاب الغفلة عن قلبي وألهمتنى النظر فى عجيب صنائعك وبدائع

عجائبك وأوضحت لى حجتك ودللتني على نفسك وعرفتني ما جاءت به رسلك ورزقتنى من أنواع المعاش وصنوف الرِّيَاش بِمَنَّكَ العظيم وإحسانك القديم وجعلتني سوياً
ثم لم ترض لى بنعمة واحدة دون أن أتممت على جميع النعم وصرفت عنى كل بلوى وأعلمتنى الفجور لأجتنبه والتقوى لأقترفها وأرشدتني إلى ما يقربني إليك زُلْفَى فإن دعوتك أجبتني وإن سألتك أعطيتني وإن حمدتك شكرتنى وإن شكرتك زدتني إلهي فأى نعمك أُحصى عدداً
وأى عطائك أقوم بشكره
كم أسبغت على من النعماء
وكم صرفت عنِّى من الضراء
إلهي أشهد لك بما شهد لك باطني وظاهرى وأركاني إلهي إني لا أطيق إحصاء نعمك فكيف أطيق شكرك عليها وقد
قلت وقولك الحق
وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ﴾ ۱
أم كيف يستغرق شكرى نعمك وشكرك من أعظم النعم عندى وأنت المنعم به علی كما قلت سيدى ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نَعْمَةٍ فَمِنَ
الله وقد صدقت قولك

۱ سورة النحل ۱۸ ٢ سورة النحل ٥٣

١٤٤۔

إلهى وسيدى بلغت رسلك بما أنزلت إليهم من وحيك غير أني
أقول بجهدى ومنتهى علمى ومجهود وسعى ومبلغ طاقتی الحمد لله على جميع إحسانه حمداً يعدل حمد الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين حتى تقيم قلبي بين ضياء معرفتك وتذيقنى طعم محبتك وتبرد بالرضا منك فؤادى وجميع أحوالى حتى لا أختار غير ما تختاره وتجعل لى مقاماً بين مقامات أهل ولايتك ومضطرباً فسيحاً في ميدان طاعتك
إلهي كيف أسترزق من لا يرزقنى إلا من فضلك أم كيف أسخطك في رضا من لا يقدر على ضرى إلا بتمكينك ! فيا مَنْ أسأله إيناساً به وإيحاشاً من خلقه ويا من إليه التجائى
في شدتي ورجائي ارحم غربتى وهَب لى من المعرفة ما أزداد به يقيناً ولا تكلني إلى نفسى الأمارة بالسوء طرفة عين

وحدثنا سعيد بن الحكم قال سمعت ذا النون يقول خرجت في طلب المناجاة فإذا أنا بصوت فعدلت إليه فإذا أنا برجل قد غاص في بحر الوله وخرج على ساحل الكمه وهو يقول في دعائه
أنت تعلم أني لأعلم أن الاستغفار مع الإصرار لؤم وأن تركى الاستغفار مع معرفتى بسعة رحمتك لَعَجْز
إلهي أنت الذي خصصت خصائصك بخالص الإخلاص وأنت الذي سلَّمْتَ قلوب العارفين من اعتراض الوسواس وأنت الذي آنست
4
_120_

الأنسين من أوليائك وأعطيتهم كفاية رعاية المتوكلين عليك تكلؤهم في مضاجعهم وتَطَّلِعُ على سرائرهم وسرِّى عندك مكشوف وأنا إليك ملهوف
قال ثم سكت فلم أسمع له صوتاً
ثم سمعته يقول
لك الحمد يا ذا المن والطُّول والآلاء والسعة إليك توجهنا وبفنائك أنخنا ولمعروفك تعرضنا وبقربك نزلنا يا حبيب التائبين ويا سرور العابدين ويا أنيس المنفردين ويا حرز اللاجئين ويا ظهر المنقطعين ويا من حَبَّبَ إليه قلوب العارفين وبه
انست أفئدة الصِّدِّيقين وعليه عكفت رهبة الخائفين
يا من أذاق قلوب العابدين لذيذ الحمد وحلاوة الانقطاع إليه يا من يقبلُ من تاب ويعفو عَمَّنْ أناب ويدعو المولّين كَرَماً ويرفع المقبلين إليه تفضلاً
يا من يتأنَّى على الخاطئين ويَحْلُمُ عن الجاهلين يا من حل عقدة الرغبة من قلوب أوليائه ومحا شهوة الدنيا عن
فكر قلوب خاصته وأهل محبته ومنحهم منازل القرب والولاية ويا من لا يُضيع مطيعاً ولا يَنْسَى حبيباً يا من منح بالنوال ويا مَنْ جَادَ بالاتصال يا ذا الذي استدرك بالتوبة ذنوبنا وكشف بالرحمة غمومنا وصَفَح عن جرمنا بعد جهلنا وأحسن إلينا بعد إساءتنا يا آنس وحشتنا ويا طبيب سقمنا
4
- ١٤٦

يا غياث من أسقط بيده وتمكّن حبل المعاصى من عنقه وفَرَّ حَذَر الحياء عن وجهه هَبْ خدودنا للتراب بين يديك يا خير من قدر
وَأَرْأَفَ مَنْ رَحِمَ وعَفَا
وكان ذو النون يقول في مناجاته
يا واهب المواهب ومُجزل الرغائب أعوذ بك من النزول بعد الوصول ومن الكدر بعد الصفاء ومن الوحشة بعد الأنس ومن طائف الحسرة لعارض الفترة ومن تغيير الرضا
وروى ابن باكويه عن يوسف بن الحسين قال كان من مناجاة ذى النون أنه كثيراً ما كان يقول
وجهى
1
اللهم بحياتك الدائمة القائمة على كل نفس بما كسبت أُكْس
حياء وارزقني طاعة أطعك بها في الدنيا
وكان يقول
لَئِنْ مددت يدى إليك داعياً لطالما كفيتنى ساهياً كيف يَشْقَى
بالدعاء من كُفى قبل الدعاء
اللهم حسبي من سؤالي علمك بحالي
وقال وسمعت ذا النون يقول
لَئِنْ مددت يدى إليك داعياً لطالما كفيتني ساهياً
أأقطع منك رجائى بما عملت يداي
حَسْبِي مِنْ سؤالي علْمُكَ بحالي
_1EV

وقال
إلهي إنَّ الشيطان لك عَدُوٌّ ولنا عَدُوِّ ولم تغظه بشيء أَنكَى له من عفوك عنا فاعفُ عنا
وعن عبد الله بن محمد بن میمون قال سمعت ذا النون يقول
في مناجاته
سیدی زمان مكيد وبلاء عتيد وجهد جهيد وأمل بعيد وشيطان مريد وعَيْشَ حدود وعدوّ حسود وخُلْفٌ موجود ووفاق مفقود فكيف النجاة إلا بعصمتك أيها المعبود "
وعن محمد بن عبد الملك قال سمعت ذا النون يقول
اللهم اجعلنا من الذين استنبطوا الحَذَر وقرأوا صُحف الخطايا وأكثروا [ من التفكير فى ] دواوين الذنوب فأورثهم الفكرة الصالحة
في المنقلب 1
وعن أحمد بن على البغدادي قال
كنت عند ذي النون وعنده جماعة من المتعلمين فقالوا
- ادع لنا يا أبا الفيض
فقال لهم
جَعَلَكم الله من الذين سلكوا خلاف دار الظالمين واستوحشوا من
مؤانسة الجاهلين واجتنبوا ثمار الكلِّ فورثهم حُسنَ المآب فقطعوا الأحزان ووصلوا إلى الجنان وأمنوا من البَوَار فاستقرت بهم الدار
بقرب الملك الجبار
1 أخرجه أبو نعيم
-١٤٨

وعن محمد بن أحمد الشمشاطى قال سمعت ذا النون يقول إن لله عباداً ملاً قلوبهم من صفاء محبته وهيج أرواحهم بالشوق إلى رؤيته فسبحان من شوق إليه أنفسهم وأدنى منه هممهم فهو مؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم إلهي لك تواضعت أبدانهم وإلى الزيادة منك انبسطت أقدامهم فأذقتهم من حلاوة الفهم ما طَيَّبْتَ به عيشهم وأَدَمْتَ به نعيمهم لهم أبواب سماواتك وأبَحْتَ لقلوبهم الجولان في ملكوتك عليك مُعَوَّلُ شوق المشتاقين وإليك هَفَتْ قلوب العارفين وبك انست قلوب الصادقين وعليك عكفت رهبة الخائفين وبك استجارت أفئدة المقصرين فهم لا يسكنون إلى محادثة الفكر فيما لا يعنيهم ولا يفترون عن التعب والسهر
ففتحت
4
يناجون ربهم بألسنتهم ويتضرعون إليه بمسكنتهم يسألونه العفو عن زلاتهم والصَّفْح عما وقع من الخطايا في أعمالهم فهم الذين ذابت قلوبهم بذكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار الذيز خفيت أعمالهم عن الحفظة فوقع بهم ما أملوه من عفوه ووصلوا إلى ما أرادوا من محبته فهم - والله - الزهّاد والعباد الذين حملوا أثقال الزمان فلم يتألموا وثبتوا فى مواطن الامتحان فلم تزل أقدامهم عن موضعها حتى ملهم الدهر وهابتهم المصائب وذهبوا بالصدق والإخلاص عن الدنيا
إلهى
فبك نالوا ما أملوا إذ كنت لهم - سَيِّدى - مؤيداً ولعقولهم معيناً حتى أنطقتهم بلسان الصادقين في علمك وأوصلتهم إلى
- ١٤٩

منازل المخلصين في معرفتك فهم إلى وعد سيّدهم مطيعون وإلى ما
عنده ناظرون
ذهبت الآلام من أبدانهم لما أذاقهم من حلاوة مناجاته ولما أذاقهم من طرائف الفوائد من عنده فيا حسنهم والليل قد أقبل بِحَنَادِس 1 ظلمته وهدأت عنهم أصوات خليقته وقد قدموا إلى خدمة سيدهم الذى وفقهم لما يعلمون ويؤملون فخطر على سرهم أن ذلك المقام الذي يقومون فيه لرب العالمين فانخلعت قلوبهم وذهلت عقولهم وصاروا كالمعلق بين السماء والأرض أخيار أبرار أنسوا بيقين المعرفة وسكنوا إلى روح الحياة والمراقبة ٢
وقال
4
أسألك باسمك الذي ابتدعت به عجائب الخلق أن تجعلنا من الذين شربوا بكأس الصفا فأورثهم الصبر على طول البلا حتى تولهت قلوبهم في الملكوت وجالَتْ بين سائر حُجب الجبروت ومَالَتْ أرواحهم في ظل برد نسيم المشتاقين الذين أناخوا فى رياض الراحة ومَعْدِن العزّ وعَرَصَات المخلَّدين وقال ذو النون
إلهى ما أصغى إلى صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير اء ولا ترتُّم طير ولا تنعم ظل ولا دوى ريح ولا قعقعة رعد إلا
1 الهندس الظلمة والليل الشديد الظلمة وأسود حندس شديد السواد والجمع حنادس والحنادس ثلاث ليال في آخر الشهر ٢ أخرجه أبو نعيم
-١٥٠

وجدتها شاهدة بوحدانيتك دالة على كمال عزك وعلى أنه ليس كمثلك شيء وأنت غالب لا تُغلب وعليمٌ لا تجهل وحليم لا تسفه وعدل لا تجور وصادق لا تكذب
إلهي فإني أعترف بما دل عليه صنعك وشهد له فعلك فَهَبْ لي - اللهم - طلب رضاك برضاي عنك ومَسَرَّةَ الوالد لولده بذكرك لحبى لك ووقار الطمأنينة وتَطَلُّبَ القرب منك
إلهي عرفني عيوب نفسى وافضحها عندى للتنزه عنها وأبتهل إليك بين يديك خاضعا ذليلاً فى أن تغسلني منها واجعلني من عبادك الذين شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم تجول فى ملكوتك وتتفكر في عجائب صنعك وترجع بفوائد معرفتك وعوائد إحسانك قد ألبستهم خلع محبتك وخلعت عنهم لباس التزين بغيرك
إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك منّى حجاباً إلا هتكته ولا حاجزاً إلا رفعته ولا وعراً إلا سهلته ولا باباً إلا فتحته وبَردْ بالرضا منك فؤادى وجميع أحوالى حتى لا أختار غير ما تختاره وتجعل لى مقاماً بين مقامات أهل ولايتك ومضطرباً فسيحاً في ميدان
طاعتك
إلهي كيف أسترزق من لا يرزقني إلا من فضلك
أم كيف أستنصر من لا ينصرني إلا بك أم كيف أسخطك في رضا من لا يقدر على ضرى إلا بتمكينك فيا من أسأله إيناساً وأماناً من خلقه ويا من إليه ألجأ في شدتي ورخائی ارحم غربتي وهَب لى من المعرفة ما أزداد به يقيناً ولا تكلني إلى نفسى الأمارة بالسوء طرفة عين
-101

وعن عثمان بن محمد العثماني قال أنشدني العباس بن أحمد لذي النون المصرى
إِذَا ارْتَحَلَ الْكِرَامُ إِلَيْكَ يَوْمًا لِيَلْتَمِسُوكَ حَالَا بَعْدَ حَالِ فَإِنَّ رِحَالَنَا حَطَّتْ لِتَرْضَىٰ بحِلْمِكَ عَنْ حُلُولٍ وَارْتِحَالِ أَنَخْنَا فِي فِنَائِكَ يَا إِلَهِي إِلَيكَ مُعَرِّضِينَ بِلَا اعْتِدَالِ فَشَئْنَا كَيْفَ شَئْتَ وَلَا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِنَا يَا ذَا الْمَعَالِي
وعن يوسف بن الحسين قال سمعت ذا النون يقول أقسمت بفعلك المحمود وعهدك المعقود ألا أتخذ دونك خليلاً وسمعته يقول
أشرق لنوره السموات وأنار لوجهه الظلمات حَجَبَ جلاله عن العيون وواصل به معارف القلوب ونَاجَـاه على عرشه السنة
الصدور
إلهي تسبح لك كل شجرة ولك تقدّس كل مَدَرَة بأصوات خفية
ونغمات زكية إلهى
قد سَعَتْ بين يديك قدمى ورفعتُ إليك بصرى وسَعَتْ إلى مواهبك يدى وصرخ إليك صوتى وأنت الذى لا يُضجره النداء ولا يخيب من دعاك
إلهي هَب لى بصراً يرفعه إليك صدقه فإنَّ من تعرف بك غير مجهول ومن يلوذ بك غيرُ مَخذول ومن يبتهج بك لمسرور ومن
يعتصم بك لمنصور ۱
1 أخرجه أبو نعيم
-١٥٢-

وعن الحسن بن على بن خلف قال سمـ إسرافيل يقول
سمعت ذا النون يقول

يا رب أنت الذي دخل فى رحمتك كل شيء فلم تَضَلُّ إِلا عَمَّن
ارتحل به الشك إلى جحدك
وفي الحلية قال ذو النون
اللهم اجعلنا من الذين تفكروا فاعتبروا ونظروا فأبصروا وسمعوا فتعلقت قلوبهم بالمنازعة إلى طلب الآخرة حتى أناخت وانكسرت عن النظر إلى الدنيا وما فيها ففتقوا بنور الحكم ما رتقته ظُلَمُ الغَفَّلات وفتحوا أبواب مغاليق العمى بأنوار مفاتيح الضياء وعمروا مجالس الذاكرين بحسن استدامة الثناء
اللهم اجعلنا من الذين أسْبَلْتَ عليهم سُتُور عصمة الأولياء وحصنت قلوبهم بطهارة الصفاء وزيَّنتها بالفهم والحياء فطيرت همومهم في ملكوت سمواتك حجاباً حجاباً حتى انتهت إليك فرددتها بطرائف الفوائد اللهم اجعلنا من الذين سهل عليهم الطاعة ومُكَّنوا من أزمة 1 التقوى ومنحوا بالتوفيق منازل الأبرار فزينوا وقُرِّبوا وأكرموا بخدمتك
۱ أزمة التقوى أي لزومها والمواظبة عليها
1
-١٥٣

وقال
إنك ملك مُقْتَدر وأنا عبد مُفْتَقر ر أسألك العفو تذللاً فأعطنيه
تفضلاً
وقال
إلهي إن كان صغر فى جنب طاعتك عملى فقد كبر في جنب
رجائك أملى
إلهي أنا عبدك المسكين كيف أنقلب من عندك محروماً وقد كان حسن ظنى بجودك أن تقبلني بالنجاة مرحوما
إلهي سمع العابدون بذكرك فخضعوا وسمع المذنبون بحسن
عفوك فطمعوا
إلهى
إن كانت أسقطتنى الخطايا لديكَ فاصْـفحـها لي بحسن
تولى عليك
إلهى

إن كانت أسقطتنى الخطايا من مكارم لطفك فقد آنسنى
اليقين إلى مكارم عطفك
وعن على بن الهيثم المصرى قال
سمعت ذا النون المصرى العابد أبا الفيض يقول
اللهم اجعلنا من الذين جَازُوا ديار الظالمين واستوحشوا من
مؤانسة الجاهلين وشابُوا ثمرة العمل بنور الإخلاص واسْتَقوا من
عين
الحكمة
وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح اليقين ولججوا في
بحر النجاة ورَسَوا بشط الإخلاص
_102_

اللهم إليك تقصد رغبتى وإيَّاك أسألُ حاجتي ومنك أرجو نجاح
طلبتي وبيدك مفاتيح مسألتي لا أسألُ الخير إلا منك ولا أرجوه من غيرك ولا أيأس من روحك بعد معرفتى بفضلك يا من جمع كل شيء حكمته ويا من نفذ في كل شيء حكمه يا من الكريم اسمه لا أجد لي غيرك فأسأله ولا أثق بسواك فآمله ولا أجعل لغيرك مشيئة من دونك أعتصم بها وأتوكل عليه فمن أسأل إن جَهِلْتُكَ وبمن أثق بعد إذ عرفتك
اللهم إن ثقتى بك وإن الهتنى الغفلات عنك وأبعدتني العثرات منك بالاغترار أنا نعمة منك وأنا قدر من قدرك أجرى في نعمك وأسرح في قدرك لا أزداد على سابقة علمك ولا أنتقص من عزيمة أمرك فأسألك يا منتهى السؤال وأرغب إليك يا موضع الحاجات أنْ تَهَبَ لى إيماناً أقدم به عليك وأنْ تَهَب لى يقيناً لا تُوهنه شبهة إفك ترحب به صدری وتيسر به أمرى ويأوى إلى محبتك قلبي حتى لا ألهو عن شكرك ولا أنعم إلا بذكرك يا من لا تَمَلُّ حلاوة ذكــره السنُ الخائفين ولا تَكلُّ من الرغبات إليه مدامع الخاشعين أنت منتهى سرائر قلبي في خفايا الكتم وأنت موضع رجائي بين إسراف
الظلم
من ذا الذي ذاق حلاوة مناجاتك فَلَهِىَ بمَرْضاةِ بَشَرٍ عن طاعتك ومرضاتك
رَبِّ أفنيتُ عمري في شدة السهو عنك وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك ثم لم أستبطئ لك كَلاءةً ومَنَعَةً في أيام اغتراري بك وركوني إلى سبيل سخطك وعن جهل - يا رب - قرَّبَتْني الغرة إلى
- ١٥٦

غضبك أنا عبدك ابن عبدك قائم بين يديك متوسل بكرمك إليك فلا يزلني عن مقام أقمتنى فيه غيرُك ولا ينقلنى من موقف السلامة من نعمك إلا أنت أتنصل إليك مما كنت أواجهك به من قلة استحيائي من نظرك وأطلب العفو منك يا رب إذ العفو نعمة لكرمك يا من يُعصَى ويُتاب إليه فيرضى كأنه لم يُعصَ بكرم لا يُوصف وتحنُّن لا يُنعت يا حنَّانُ بشفقته يا متجاوزاً بعظمته لم يكن لي حول فأنتقل عن معصيتك إلا فى وقت أيقظتنى فيه لمحبتك وكما أردت أن
أكون كنت وكما رضيت أن أقول قلت خضعت لك وخشعت لك إلهي لِتُعِزَّنِى بإدخالى في طاعتك ولتنظر إلى نظر من ناديته فأجابك واستعملته بمعونتك فأطاعك يا قريب لا تبعد عن المغترين ويا ودود لا تَعْجَلْ على المذنبين اغفر لي وارحمني يا أرحم الراحمين
وعن عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي قال سمعت ذا النون
يقول

إلهى إن أهل معرفتك لما أبصروا العافية ولمحوا بأبصارهم إلى
منتهى
4
العاقبة وأيقنوا بجودك وكرمك وابتدائك إيَّاهم بنعمك ودللتهم على ما فيه نفعهم إذ كنت متعالياً عن المضار والمنافع استقلوا كثير ما قدَّموا من طاعتك واستصغروا عظيم ما اقترفوا من عبادتك واسْتَلانوا ما اسْتَوْعَرَهُ غيرُهم بذلوا المجهود في طلب مرضاتك واستعظموا صغير التقصير في أداء شكرك فنحلت لذلك
_10v

أَنْشَأَ الشَّيْءَ قَبْلَ الكَوْنِ مُبْتَدعاً
مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قَدِيمِ كَانَ فِي الأَبَدِ
وَدَهْرَ الدَّهْرَ وَالْأَوْقَاتِ وَاحْتَكَمَتْ
بِمَا يَشَاءُ فَلَمْ تَنْقُصُ وَلَمْ تَرْدِ
إِذْ لَا سَمَاء وَلَا أَرْضٌ وَلَا شَبَحٌ
فِي الكَوْنِ سُبْحَانَهُ مِنْ قَاهِرٍ صَمَدِ
مَا ازْدَادَ بِالخَلْقِ مُلْكًا حِيْنَ أَنْشَاهُمْ
وَلَا يُرِيدُ بِهِمْ دَفْعاً لِمُضطهد
وَكَيْفَ وَهُوَ غَنِيٌّ لَا افْتِقَارَ بِهِ
والخلق تضطر بالتصريف والأدد
وَلَمْ يَدَعْ خَلْقَ مَا لَمْ يَبْدُ خَلْقَتُهُ
عجزاً عَلَى سُرْعَة مِنْهُ وَلَا تُوَّد
إِحَاطَةٌ بِجَمِيعِ الغَيْبِ عَنْ قَدَرٍ
أَحْصَى بِهَا كُلَّ مَوْجُود وَمُفْتَقَد
وَكُلُّهُمْ باضطرار الفقر مُعترف
إلى فواضله في كُلِّ مُعْتَمَد
العَالِمُ الشَّيْءَ فِي تَصْرِيفِ حَالَته
مَا عَادَ مِنْهُ وَمَا يَمْضِي فَلَمْ يَعْدِ
-١٦٠

وَيَعْلَمُ السِّرَّ مِنْ القُلُوبِ وَمَا
يَخْفَى عَلَيْهِ خَفِي جَالَ في خَلَد
وَيَسْمَعُ الحِسَّ مِنْ كُلِّ الوَرَى وَيَرَى
مَدَارِجَ الذَّرِّ فِي صَفْوَانِهِ الجَلْدِ
وَمَا تَوَارَى مِنَ الْأَبْصَارِ فِي ظُلَمِ
تَحْتَ الثَّرَى وَمَرَارِ الغَمْرِ وَالثَّمَرِ ۱
الأول الآخرُ الفَرْدُ المُهَيْمِنُ لَمْ
يَعْزُبُ وَلَمْ يُنْكَرْ لِلْقُرْبِ وَالبُعْدِ
دَانِ عَلَى عِلْمٍ قديم لَا زَوَالَ لَهُ
وَلَمْ يَزَلْ أَزَلِيَا غَيْرَ
وَجَلَّ فِي الكُنْهِ عَنْ وَصْفِ الصَّفَاتِ وَعَنْ
مَقَالِ ذَوِي الشَّلِّ وَالإِلْحَادِ وَالعِنْدِ
مَنْ لَا يُجَازَى بِنُعْمَى مِنْ فَوَاضْلِهِ
وَلَمْ يَتْلُهُ بِمَدْحِ وَصَفُ مُجْتَهِد
بِلُغَاتِ العَارِفِينَ بِهِ
لَمْ تَدْرِ مَا غَيْرَهُ رَبِّاً وَلَمْ تَجِدِ
۱ الماء القليل
-١٦١-

الخَالِقُ النُّوْرَ وَالظُّلْمَاءَ وَهْيَ عَلَى
بَرَأَ السَّمَوَات سَقْفاً ثُمَّ أَنْشَأَهَا
تُقلُّهُنَّ مَعَ الْأَرْضِينَ قُدْرَتُهُ
وَبَثَّ فِيهَا صُنُوفا مِنْ بَدَائِعِهِ
مِنْ كُلِّ جِنْسِ بَرَا أَصْنَافَهُ وَذَرَا
فِيهَا الْمَلَائِكُ بِالتَّسْبِيحِ خَاضِعَةٌ
وَصَيَّرَ المَوْتَ فَوْقَ الخَلْقِ لَا لَجا
فَالْكُلُ مَيْتٌ وَكُلٌّ هَالِكُونَ خَلاَ
أفنى القُرُونَ وَأَفْنَى كُلَّ ذِي عُمُر
مَا تَقَاذَفَ بِالْأَمْوَاجِ وَالزَّبَدِ
سَبْعاً طِبَاقَا بِلَا عَوْنٍ وَلَا عَمَدِ
وَكُلُّ ذلِكَ لَمْ يَنْقُلْ وَلَمْ يَؤُدِ
مِنَ الخَلائِقِ مِنْ مَثْنَى وَمِنْ وَحَد
أَشْبَاحَهُ بَيْنَ مَكْسُو وَمُنْجَرِد
لا يَسْأَمُونَ لِطُولِ الدَّهْرِ وَالْأَمَدِ
مِنْهُ وَلَا هَرَبِّ مِنْهُ إِلَى سَنَدِ
وَجْهِ الإِلَهِ الكَرِيمِ الدَّائِمِ الصَّمَدِ
عُمْر نُوحٍ وَلَقَمَانِ أَخِي لَبَدِ
-١٦٢-

يَا رَبِّ إِنَّكَ ذُو عَفُو وَمَغْفِرَةِ
فَنَّجِّنَا مِنْ عَذَابِ الْمَوْقِفِ النَّكِدِ
وَاجْعَلْ إِلَى جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ مَوْتَلَنَا
مَعَ النَّبِيِّينَ وَالْأَبْرَارِ فِي الخُلْدِ
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزّ مِنْ مَلك
مَنِ اهْتَدَى بِهُدَى رَبِّ الْعَالَمِينَ هُدِى

-١٦٣

يقول سبحانه
الواعظ
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ ۱ لقد جعل الله سبحانه من وسائل الدعوة إليه الموعظة الحسنة ويقول تعالى عن القرآن الكريم
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ٢
ويقول تعالى
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصدور 3
ويقول تعالى
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ
والحكمة يَعظُكُم به ٤
فالقرآن الكريم موعظة بالقرآن الكريم
۱ سورة النحل ١٢٥ سورة المائدة ٤٦ ٣ سورة يونس ٥٧ 4 سورة البقرة ۳۱
من الله لعباده وهو سبحانه يعظ عباده
-10-

وقال
1
مَنْ تقرَّب إلى الله بما فيه تَلَفُ نَفْسه حَفِظَها عليه
وقال
الصدقُ سيف الله ما وُضعَ على شيء إلا قَطَعَهُ
وقال
لا تشغلنك عيوب الناس عن عيوب نفسك فلستَ عليهم برقيب
وقال
الحسد داء لا يبرأ وحسب الحسود من الشر ما يلقاه
وقال
مَنْ قَنَع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه
وقال
يأتي زمان تكون الدولة فيه لأهل الدنيا على أهل الآخرة
وقال
العاقل يعترف بذنبه ويجود بما لديه ويزهد فيما عنده وَيَكُفُّ
أذاه ويتحمل أذى غيره
وقال
الكَيِّسُ من بَادَرَ بعمله وسَوَّف بأمله واستعد لأجله
وقال
كيف أفرح بعملي وذنوبي مزدحمة ! أم كيف أفرح بعملي
و عاقبتي مُبهمة !

وقال
العزُّ الذي لا ذُلَّ فيه سكوتك عن السفيه عَطَبُ السفيه بيده
وفيه
-١٦٨

وقال في ختام كلامه يوماً
وَلِمَ لا تذوب أبدانُ العُمَّال وتذهل عقولهم والعَرْضُ على الله أمامهم وقراءة كتبهم بين أيديهم والملائكة وقوف بين يدى الجبار
ينتظرون أمره فى الأخيار والأشرار !
ثم قال
مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نُصْبَ أعينهم "
وقال
قلوب أهل الهوى سجون البلاء فإذا أراد الله أن يعذَّب البلاء حبسه في قلوب أهل الهوى فيصيح إلى الله بالاستغاثة والخروج من
قلوب أهل الهوى
وقال
طُوبَى لمن تطهَّر ولَزِمَ الباب طُوبَى لمن تَضَمَّر للسباق طُوبَى لمن أطاع الله أيام حياته
وقال
حق الجليس أن تَسُرَّه فإن لم تَسُرَّه فلا تَسُؤْهُ لم يكسب محبة الناس في هذا الزمان إلا رجلٌ خَفَّفَ المئونة عليهم وأحسن القول فيهم
وأطاب العشرة معهم

وقال له رجل أوصنى
فقال
ا بِمَ أوصيك إنْ كنتَ ممن قد أيد منه في علم الغيب بصـدق التوحيد فقد سبق لك - من قبل أن تُخلق إلى يومنا هذا ـ دعاء النبيين والمرسلين والصديقين وذلك خير لك من وصيَّتي لك وإن يكن غير
ذلك فلن ينفعك النداء
-١٦٩

عن المكروه قبل فوات الإمكان وسارعوا فى الإحسان تعويضاً عن الإساءة ولأقوا النعم بالشكر استجلاباً لمزيده وجعلوه نُصْبَ أعينهم عند خواطر الهم وحركات الجوارح من زينة الدنيا وغرورها فزهدوا فيها عياناً وأكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً وأحرزوا ذخراً وتزودوا منها بالتقوى وشَمَّروا فى طلب النعيم بالسير الحثيث والأعمال الزكية وهم يظنون بل لا يشكون أنهم مقصرون وذلك أنهم عَقَلوا فعرفوا ثم اتَّقَوْا وتفكّروا فاعتبروا حتى أبصروا فأمسكوا ألسنتهم عن الكلام من غير عى خوفاً من التزين فيسقطوا من عين الله فأمسكوا مع عقول صحيحة ويقين ثابت وقلوب شاكرة وألسن ذاكرة وأبدان صابرة وجوارح مطيعة
أهل صدق ونصح وسلامة وصبر وتوكل ورضاً وإيمان عقلوا عن الله أمره فشغلوا الجوارح فيما أُمروا به من طاعة وذكر وحياء وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوم الحق وهجروا الهوى بدلالات العقول وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن ولهم في كل إشارة منها دمعة ولذة وفكرة وعبرة ولهم مقام على المزيد للزيادة فرحمة
الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين
قال وسمعت ذا النون يقول
إيَّاك أن تكون فى المعرفة مُدَّعِياً وتكون بالزهد محترفاً وتكون
بالعبادة متعلقاً
فقيل له يرحمك الله فَسر لنا ذلك
۱۷-

ثم قال ذو النون
هُمْ ـ يا أخى - قوم قد ذَوَّبَ الحزن أكبادهم وأَنْحَلَ الخوف أجسامهم وغير السهر ألوائهم وأقلق خوفُ البعث قلوبهم قد سكنت أسرارهم إليه وتذللت قلوبهم عليه فنفوسهم عن الطاعة لا
تَسلُو وقلوبهم عن ذكره لا تخلو وأسرارهم في الملكوت تعلو الخشوع يخشع لهم إذا سكتوا والدموع تخبر عن خَفَى حُرقتهم إذا كمدوا قد نسوا مرح الشهوات بحلاوة المناجاة فليس للغفلة عليهم مَدْخَلٌ ولا للهو فيهم مَطْمَع قد حجب التوفيق بينهم وبين الآفات وحالت العصمة بينهم وبين اللذّات فيا طُوبَى للعارفين ما أغنى عيشهم وما ألثَّ شربهم وما أجَلَّ حبيبهم وقال ذو النون
إن لله خالصة من عباده ونجباء من خَلْقه وصفوة من بريته صحبوا الدنيا بأبدانهم وأرواحهم فى الملكوت معلقة أولئك نجباء الله من عباده وأمناء الله فى بلاده والدعاة إلى معرفته والوسيلة إلى دينه هَيْهَات بَعُدوا وفاتوا وَوَارَتْهُم بطون الأرض وفجاجها على أنه لا تخلو الأرض مِنْ قائم فيها بحُجَّته على خَلْقَه لئلا تبطل حجج
الله
ثم قال
وأين ! أولئك قوم حَجَبَهُمُ الله عن عيون خلقه وأخفاهم عن
آفات الدنيا وفتنها ألا وهم الذين قطعوا أودية الشكوك باليقين واستعانوا على أعمال الفرائض بالعلم وهربوا من وحشة الغفلة
6
6
LIVE

وتسربلوا بالعلم لانقاء الجهالة واحتجزوا عن الغفلة بخوف الوعيد وجدوا في صدق الأعمال لإدراك الفوت وخلوا عن مطامع الكذب ومعانقة الهوى وقطعوا عُرَى الارتياب بروح اليقين وجاوزوا ظلم الدجى ودحضوا حجج المبتدعين باتباع السنن وبادروا إلى الانتقال عن المكروه قبل فوت الإمكان وسارعوا فى الإحسان تعويضاً عن الإساءة ولاقوا النعم بالشكر استجلاباً لمزيده وجعلوه نُصْبَ أعينهم عند خواطر الهمم وحركات الجوارح من زينة الدنيا وغرورها فزهدوا فيها عياناً وأكلوا منها قصدًا وقدموا فضلاً وأحرزوا ذخراً وتزودوا منها بالتقوى وشمَّروا فى طلب النعيم بالسير الحثيث والأعمال الزكية وهم يظنون بل لا يشكون أنهم مقصرون وذلك أنهم عقلوا فعرفوا ثم اتقوا وتفكّروا فاعتبروا حتى أبصروا فأمسكوا ألسنتهم عن الكلام من غير عى خوفاً من التزين فيسقطوا من عين الله فأمسكوا مع عقول صحيحة ويقين ثابت وقلوب شاكرة وألسن ذاكرة وأبدان صابرة وجوارح مطيعة

أهل صدق ونصح وسلامة وصبر وتوكل ورضاً وإيمان عقلوا عن الله أمره فشغلوا الجوارح فيما أمروا به من طاعة وذكر وحياء وقطعوا الدنيا بالصبر على لزوم الحق وهجروا الهوى
بدلالات العقول وتمسكوا بحكم التنزيل وشرائع السنن ولهم في كل
إشارة منها دمعة ولذة وفكرة وعبرة ولهم مقام على المزيد للزيادة فرحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المؤمنين والصالحين وقال ذو النون
معاشرة العارف كمعاشرة الله يَحْتَمِلُ عنكَ وَيَحْلُمُ عليكَ تخلقاً
4
بأخلاق الله الجميلة
۱۷۵-

وقال
أهل الذِّمَّة يُحملون على الحال المحمودة والمباح من الفعل فما الفرق بين الذَّمى والحنيفي الحنيفى أولى بالحلم والصفح
والاحتمال

وعن غيلان المذكر قال
أخبرني ذو النون أن الناس على ثلاثة مقامات في الدنيا
* قوم اشتغلوا بمعادهم عن معاشهم
وقوم اشتغلوا بمعاشهم ومعادهم
وقوم اشتغلوا بمعاشهم عن معادهم
فأما من اشتغل بمعاشه عن معاده فمقامه مقام الهالكين وأما من اشتغل بهما فمقامه مقام المخلصين
وأما من اشتغل بمعاده عن معاشه فهو من العارفين
وعن يوسف بن الحسين قال سمعت ذا النون يقول لله عباد تركوا الذنب استحياء من كرمه بعد أن تركوه خوفاً من عقوبته ولو قال لك اعمل ما شئت فلستُ أخذك بذنب كان ينبغي أن يزيدك كرمه استحياء منه وتركاً لمعصيته إن كنت حراً كريماً عبدًا شكوراً فكيف وقد حذرك !
وعن سليم بن موسى قال قال ذو النون
إن حقوق الله أثقل من أن يقوم بها العباد وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العاد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين
١٧٦

وقال ذو النون
الدنيا دنية وحبها خطيَّة والدُّنُو منها بليَّة الدنيا يكفى صفتها منْ وَصفها وإنما يعتبر بها مَنْ عَرفَها مَنْ طلب الدنيا سبقته ومَنْ هرب منها لحقته ومَنْ عصى الدنيا أطاعته ومَنْ أطاعها عَصَتْه بك ما فعلت بأبيك وزائلة عنك كما زالت عن أخيك
الدنيا فاعلة
وقال يوسف
قلت لذي النون في وقت مفارقتي له
- من أجالس
قال
عليك بصحبة مَنْ تُذكَّرك بالله رؤيتُه وتقع هيبته على باطنك ويزيد في عملك مَنْطِقُهُ ويزهدك فى الدنيا عَمَلُه ولا يعصى الله ما دمت فى قربه يَعظُكَ بلسان فعله ولا يَعظُكَ بلسانِ قَوْلِهِ

-۱۷۷۔

الحكيم
لقد تحدث القرآن الكريم عن الحكمة وبين سبحانه أنه
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۱
وَمَن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتى خيرًا كثيرًا ٢
ولقد أتى الله الحكمة داود عليه السلام وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ والحكمة وعلمهُ ممَّا يَشَاءُ ٣
وأتى الله الحكمة آل إبراهيم
وأتى الله سبحانه محمداً ع الحكمة وجعل شطر رسالته
تعليم الحكمة لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعْلَمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مين ٤
ولقد ذكر الله سبحانه أمثلة للحكمة منها بعض ما أوحاه الله
إلى محمد وقال في نهايته
ذلك مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ من الحكمة ٥
۱ سورة البقرة ٢٦٩
٤ سورة آل عمران ١٦٤
۳ سورة البقرة ٢٥١
5 سورة الإسراء ٣٩
۱۷۹۔

الله ولما في قلوبهم من نور القرآن وهدى السنة فإن كلماتهم
تشتمل على كثير من ألوان الحكمة
ونذكر لذي النون ما يأتي
قال ذو النون قال الحسن
ما أخاف عليكم مَنْعَ الإجابة وإنما أخاف عليكم مَنْعَ الدعاء
وقال ذو النون
ليس بعاقل مَنْ لم يُنْصَفْ مِنْ نفسه وطَلَبَ الإنصاف من الناس
وقال
كل مطيع مستانس وكل عاص مُسْتَوحش وكل محب ذليل وكل
خائف هارب وكل راج طالب
وسئل ذو النون ما سبب الذنب
قال
اعقلْ - وَيْحَكَ ما تقول فإنها من مسائل الصدِّيقين سبب الذنب النظرة ومن النظرة الخطرة فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت وإن لم تتداركها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد ذلك باطن لم يظهر على الجوارح فإن تداركت

الشهوة وإلا تولد منها الطلب فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه
الفعل
وقال
مَنْ عَرَفَ قَدْرَ الدنيا كلها لم يكن للدنيا عنده قدر
وقال
لم يزل المنافقون يسخرون بالفقراء في كل عصر
۱۸۳۔

وقال سعيد بن الحكم سئل ذو النون من أدوم الناس عناء
قال
أسوؤهم خُلقاً
قيل وما علامة سوء الخلق
قال
كثرة الخلاف
قال وسمعت ذا النون يقول
سئل جعفر بن محمد عن السفلة فقال
مَنْ لا يبالى ما قال ولا ما قيل فيه
وقال يوسف بن الحسين سمعت ذا النون يقول
مَنْ تَزيَّن بعمله كانت حسناته سيئات
قال وسمعت ذا النون يقول أدنى منازل الأنس أن يُلْقَى فى النار فلا يغيب هَمَّه عن مأموله
وقال نصر بن أبي نصر قال ذو النون
الخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المحن
وسئل ذو النون ما أَخْفَى الحجاب وأشده
قال
رؤية النفس وتدبيرها
وقال إسحاق بن إبراهيم الخواص سمعت ذا النون يقول
VAE

مَنْ أدرك طريق الآخرة فليكثر مساءلة الحكماء ومشاورتهم وليكن أول شيء يسأل عنه العقل لأن جميع الأشياء لا تُدرك إلا

بالعقل ومتى أردت الخدمة لله فاعقل لم تخدم ثم اخدم
وقال ذو النون
حرم الله الزيادة فى الذوق والإلهام في القلب والفراسة في الخُلُق على ثلاثة نفر على بخيل بدنياه سخى بدينه سيئ الخلق مع
الله
فقال له رجل صف لنا سيئ الخلق مع الله
فقال
يقضى الله تعالى قضاء ويُمضى قدرًا وينفذ علماً ويختار لعبده أمرًا فترى صاحب سوء الخُلُق مع الله مضطرب القلب في ذلك كله غير راض به وإنما شكواه من الله إلى خَلْقه فما ظنك
وقال ذو النون
مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الهوى متابعة الشهوات وعلامة التوكل انقطاع المطامع
وقيل لذي النون متى يأنس العبد بربه
قال
إذا خافه أنس به وإنما علمتم أنه مَنْ وَاصَلَ الذنوبَ نُحى عن باب
المحبوب
وقال
مَنْ عَمِيَ عن عيوب نفسه انكشفت له عيوب الناس فَمَقَتَتْهُ
القلوب "
1A0

وقال
ما أعز الله عبدا بعزّ هو أعزُّ له من أن يدله على ذل نفسه وما أذل الله عبداً بذل هو أذلُّ له من أن يحجبه عن ذلّ نفسه

وقال

ليس بعاقل مَنْ تعلَّم العلم فعرف به ثم آثر ـ بعد ذلك ـ هواه على عمله وليس بعاقل مَنْ طلب الإنصاف من غيره لنفسه ولم ينصف من نفسه غيره وليس بعاقل مَنْ نَسيَ الله في طاعته وذكر الله تعالى في مواضع الحاجة إليه "
وقال
من وثق بالمقادير استراحَ ومَنْ تقرَّبَ قُرِّبَ ومَنْ صَفَا صُفى له وعن يوسف بن الحسين قال
سمعت ذا النون يقول
أنت ملك مقتدر وأنا عبد مفتقر أسألك العفو تذللاً فأعطنيه
تفضلاً " وقال ذو النون
كيف أفرح بعملى وذنوبي مزدحمة ! أم كيف أفرح بأملى و عاقبتى مبهمة ! وقال
قد غفلت القلوب عنه وهو مُنشيها وأدبرت النفوس عنه وهو يناديها فسبحانه ما أمهله للأنام مع تواتر الآلاء والإنعام !!
وقال
طُوبَى لعبد أنصف ربه أقر له بالآفات في طاعته وبالجهل في
معصيته فإن آخذه بالذنوب رأى عدله وإن غفر رأى فضله
-١٨٦

وعن محمد بن أحمد بن سلمة النيسابورى قال
سمعت ذا النون يقول
یا خراساني احذر أن تنقطع عنه فتكون مخدوعاً قلت وكيف ذلك
قال
لأن المخدوع من ينظر إلى عطاياه فينقطع عن النظر إليه بالنظر
إلى عطاياه
ثم قال
تعلق الناس بالأسباب وتعلَّقَ الصَّدِّيقون بولى الأسباب
ثم قال
علامة تعلق قلوبهم بالعطايا طلبهم منه العطايا ومن علامة تعلق قلب الصدِّيق بولىّ العطايا انصباب العطايا عليه وشغله عنها
به
ثم قال
ليكن اعتمادا على الله في الحال لا على الحال الله مع ثم قال
اعقل فإن هذا من صفوة التوحيد
وقال
من أعلام الإيمان اعتمامُ القلب بمصائب المسلمين وإرشادهم إلى
ما فيه مصالحهم وإن كرهوه "
وكان يقول
إن الله - تعالى - أنطق اللسان بالبيان وافتتحه بالكلام وجعل
۱۸۷۔

فقيل له ما الأنس بالله
قال
العلم والقرآن
وكان ما يقول
إن الله - تعالى - لم يمنع أعداءه الجنة بخلاً وإنما صَانَ أولياءه الذين أطاعوه أن يجمع بينهم وبين أعدائه الذين عصوه
وقال
مفتاح العبادة الفكرةُ وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهَوَى وكان يقول
تواضع لجميع خَلْق الله تعالى وإيَّاك أن تتواضع لمن يسألك أن تتواضع له فإن سؤاله إيَّاك يدل على تَكَبرِهِ في الباطن وتواضعك له يكون له عونا على التكبر
وقال
حق "
لا تتواضع لمتكبر فتذلَّ نفسك في غير محل وتُكَبِّر نفسه بغير
وقال
إنما يُختبر ذو البأس عند اللقاء وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء وذو الأهل والولد عند الفاقة والبلاء والإخوان عند نوائب القضاء وقال
لم يكسب محبة الناس - في هذا الزمان - إلا رجلٌ خَفَّفَ المئونة عليهم وأحسن القول فيهم وأطابَ العشرةَ
معهم
۱۸۹۔

وقال ذو النون إن سكتَ عَلِمَ ما تريد وإن نطقت لم تنل بنطقك ما لا يُريد وعِلْمُهُ بمرادك ينبغي أن يغنيك عن مسألته أو ينحيك عن مطالبته
وقال
إن الطبيعة النقية هي التي تكفيها من العظة رائحتها ومن الحكمة
إشارة إليها
وقال
أكثر الناس هَمَا أَسْوَؤُهم خُلقاً وسئل ذو النون من أدوم الناس عناء
قال
أَسْوَؤُهم خُلقًا
قيل وما علامة سوء الخلق
قال
كثرة الخلاف
وقال ذو النون
دارت رحى الإرادة على ثلاث
على الثقة بوعد الله والرضا ودوام قرع باب الله
وقال
حَقَّ الجليس أن تَسُرَّه فإن لم تَسرَّهُ فَلا تَسُؤْهُ
-۱۹-

وقال
بصحبة الصالحين تطيب الحياة والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذَكَّرك وإنْ ذكرت أعانك
وكان يقول
كنا إذا سمعنا شاباً يتكلم بالمجلس أيسنا مِنْ خيره وقال
اعلم أن أعمال الجوارح يصدقها عقد ضمائر القلوب
وقد قال رسول الله
في ابن آدم مُضْغَةٌ إِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الجَسَدِ وَهِيَ القَلْبُ
وقال
لا يستقيم إيمانُ عَبْد حَتَّى يَستقيم لسانه ولا يستقيمُ لسانه حتَّى يستقيم قلبه

وقال ذو النون سمعت عابدا يقول
إن لله عباداً أبصروا فنظروا فلما نظروا عقلوا فلما عَقَلُوا عَلموا فلما علموا عملوا فلما عملوا انتفعوا رفع الحجاب فيما بينهم وبينه فنظروا بأبصار قلوبهم إلى ما ذخر لهم من خفى محجوب الغيوب فقطعوا كل محجوب وكان هو المنى والمطلوب
وقيل لذي النون
ما علامة الأنس بالله
قال
إذا رأيت أنه يُوحشك منْ خَلْقه فإنه يُؤنسك بنفسه وإذا رأيت أنه
يُؤنسك بخَلْقه فاعلم أنه يُوحشك من نفسه
-۱۹۳-

وقال ذو النون
إذا لم يكن في عملك حبُّ ثناء المخلوقين ولا مخافة ذَمهم فأنت
حكيم مخلص إن شاء الله ۱
وقال
مَنْ أَحَبَّ الله استقلَّ كلَّ عمل يعمله
وقال
مَنْ لَمْ يَعرِفْ قَدْرَ النَّعَمِ سُلِبَهَا مِنْ حيثُ لا يعلم وقيل له مَنْ أقرب إلى الكفر
قال
ذو فاقة
وقال
ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زيَّنه بزينة أفضل من الحلم وكَمَال ذلك
التقوى
وقال رجل لذي النون متى أزهد في الدنيا
قال
إذا زهدت في نفسك
وعن يوسف بن الحسين قال
دخل ذو النون على مريض يعوده فرآه يئن فقال
1 أخرجه أبو نعيم
-190-

ليس بصادق فى دعواه مَنْ لم يصبر ضره
فأجاب المريض
ليس بصادق في حبه مَنْ لم يتلذذ بضُره
فقال ذو النون
ولا صَدَقَ في حبه مَنْ رَأى حبه لربه وعن يوسف بن الحسين قال قلت لذي النون متى أخالط الناس
قال
إذا انمحى حُبُّ الدنيا من قلبك
وعن يوسف بن الحسين قال سمعت ذا النون يقول
كتب إلى بعض إخواني وقد اعتل ادع الله لي
فكتبت إليه
سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك النقم واعلم يا أخي أن
العلة منزلة يأنس إليها أهل الصَّفَا والهمم ومَنْ لم يَعْدَّ البلاء نعمةً فليس من الحكمة في شيء فاستَح من الله أن تشكوه والسلام
وعن يوسف بن الحسين قال
سمعت ذا النون يقول
إخراج الموجود حُسْنُ ظنَّ بالمعبود
قال وسئل ذو النون عن اسم الله الأعظم فقال هو ذا أنا أقرأه عليكم فتعلموا فقرأ
-١٩٦

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
الله خَبِيرٌ بمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 9 لا يستوى أصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل أَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ CD هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبَرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الحكيم ١
وقرأ
اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ٢
ثم قال
إذا قرأت بهذا على ما تحبُّ يَنْفَسِحُ لك
۱ سورة الحشر ١٨ - ٢٤ سورة البقرة ٢٥٥
-۱۹۷-

وعن يوسف بن الحسين قال
سمعت ذا النون يقول
إذا سألني السائل وكان مُسْتَحقَّاً للجواب استفدت نصف الجواب
من مسألته
وعن أبي عثمان سعيد بن الحكم قال
سمعت ذا النون يقول
ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ولا طابت
الجنان إلا برؤيته
وعن محمد بن أحمد بن عبد الله قال
سمعت ذا النون يقول
طُوبَى لمن كان شعار قلبه الورع ولم يُعْمِ بَصَرَ قلبهِ الطَّمَع
وكان محاسباً لنفسه فيما صَنَع
وقال
لا عَيْش إلا مع رجال تحنُّ قلوبهم إلى التقوى وترتاح إلى الذكر ودق عليه رجل الباب فشوش وقته فنظر إليه من عالم الهيئة
وقال
اللهم مَنْ شَغَلَنى عنكَ فاشغلْهُ بكَ
وعن عبد الله بن سهل قال
سألت ذا النون فقلت
- متى أعرف ربي
۱۹۸۔

متناثرات وطرائف
هذه المتناثرات تجمع بعض الأمور المهمة مثل ثلاثيات ذي النون ولقد عنى ذو النون بالثلاثيات التي توضح أمراً من الأمور وتجمع في
كلمات قليلة زوايا من موضوع عام
وقد جمعنا ـ في هذه المتناثرات - بعض ردوده على السؤال التقليدى كيف حالك أو كيف أصبحت وهي ردود طريفة لم يلتزم فيها ذو النون الرد التقليدي
وجمعنا - أيضاً في هذه المتناثرات - بعض ما هو طريف من
مفردات ذي النون
كان ذو النون يقول في قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ۱
كأنه الآن في أذني
وسئل عن السماع والصوت الحسن فقال
وارد يزعج القلب إلى الحقِّ فمن أصْغَى إليه بحق تحقق أو بنفسه تَزَنْدَق
وسئل عن سماع العظة الحسنة بالنغمة الطيبة فقال
مزامير
أنس في مَقَاصِير قُدْسِ بألحان توحيد في رياض تمجيد
بمطربات الغواني في تلك المعانى المؤدِّية بأهلها إلى النعيم الدائم في مقعد صدق عند مليك مقتدر
۱ سورة الأعراف ۱۷
۰۱۔

ثم قال
هذا طَعْمُ الخبز فكيف طَعْمُ النظر "
قال وسمعت ذا النون يقول - وقد وقف عليه رجل فسأله شيئاً۔
فقال له ذو النون
إن المتكفل برزقك غير مُتَّهم عليك "
وعن إسرافيل قال سأل رجل ذا النون المصرى عن سؤال فقال
له ذو النون
قلبي لك مقفل فإن فتح لك أجبتك وإن لم يُفْتَح لك فاعذرني
واتهم نفسك
وقال
وسئل عن السفلة فقال
مَنْ لا يبالى ما قال ولا ما قيل فيه
وقال
إن للولي خمسة أشياء خُص بها دون الناس
الوَجْهُ الحَسَن والخُلُقُ الحَسَن والقلبُ الرَّحيم ولسان لطيف
واجتناب المحارم
وقال
إن الله يغَارُ أن يجمع بين أحبابه وأعدائه في دار فلذلك جعل
لكل فريق دارًا
وعن يوسف بن الحسين الرازي قال
سمعت ذا النون يقول

فيا وارث الأرض ومَنْ عليها ويا باعث جميع مَنْ فيها وَرَتْ أملى
فيك منى أملى وبَلَّغْ هَمِّى فيك مُنتَهَى وسائلى

وقال
اطلب الحاجة بلسان الفقر لا بلسان الحكم
وقال
اسْتَح من الله أن تسأله ما تحب وأن تأتى ما يكره
وقال
إن سرورك بالمعصية إذا ظفرت بها أشدُّ من المعصية وعن محمد بن عبد الله بن میمون قال سمعت ذا النون يقول وقد جاءه رجل يسأله أن يدعوا له - فقال
إن كنت أيدت بصدق التوحيد في الغيب فكم من دعوات سبقت
لك وإن كان غير ذلك فأي دعاء ينفعك !
ويروى يوسف بن الحسين قائلاً بلغنى أن ذا النون يعلم اسم الله الأعظم فخرجت من مكة قاصداً
إليه حتى وافيته في جيزة مصر
و مكث يوسف بن الحسين يخدم ذا النون سنة ثم قال له يا أستاذ أنا رجل غريب وقد اشتقت إلى أهلي وقد خدمتك سنة وقد وَجَبَ حقى عليك وقيل لى إنك تعرف اسم الله الأعظم وقد جربتنى وعرفت أنى أهل لذلك فإن كنت تعرفه فعلمنى
إياه
_YE_

قال فسكت ذو النون عنى ولم يجبني بشيء وأوهمنى أنه لعله يقول لي ويعلمني ثم سكت عنى ستة أشهر فلما كان بعد ستة أشهر ـ من يوم مسألتي إياه ـ قال لي

يا أبا يعقوب ألست تعرف فلاناً - صديقنا - بالفسطاط الذي يجيئنا وسَمَّى رجلاً
فقلت بلی

قال فأخرج إلى من بيته طبقاً فوقه مكبة مشدوداً بمنديل فقال
أوصل هذا إلى مَنْ سَمَّيتُ لكَ بالفسطاط
قال فأخذت الطبق لأؤديه فإذا طبق خفيف يدل على أن ليس في جوفه شيء فلما بلغت الجسر الذي بين الفسطاط والجيزة - قلت في نفسي ذو النون يبعث إلى رجل بهدية وها أنا أرى طبقاً خفيفاً لأبصرن أى شيء فيه
قال فحللت المنديل ورفعتُ المكبة فإذا فأرة قد قفزت من الطبق فمرت قال فاغتظت وقلت إنما سخر بي ذو النون ولم يذهب وهمي إلى ما أراد في الوقت
قال فجئت إليه وأنا مُغْضَبٌ فلما رآني تبسم وعرف القصة
وقال
يا مجنون ائتمنتُكَ فى فأرة فَخُذْتَني أئتمنك على اسم الله الأعظم ! قُمْ عنّى فارتحل ولا أراك بعد هذا
-٢٠٥۔

ومن كلامه
لا يزال العارف ما دام فى دار الدنيا مترددًا بين الفقر والفخر فإذا
ذَكَرَ الله افتخر وإذا ذَكَر نفسه افتقر
وقال
سَلْ ما بَدَا لك من أمره ونهيه وتَلَقَّ ذلك بالتسليم والرضا والخضوع ولا تنقَّب بعقلك عما قد أُخْفى عنك من أسراره مثل القدر وغيره فإن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
يقول ذو النون
ثلاثة من علامة التوفيق
الوقوع فى عمل البر بلا استعداد له والسلامة من الذنب مع الميل إليه وقلة الهرب منه واستخراج الدعاء والابتهال
وقال يوسف بن الحسين
سألت ذا النون
- ما علامة الأخوة
قال
ثلاث الصفاء والتعاون والوفاء
فالصفاء في الدين والتعاون في المواساة والوفاء في البلاء
وقال ذو النون
ثلاثة من أعلام الورع
٢٠٦۔

ترك الشبهة باحتمال المضرة فى المال والبدن وبذل الفَضْلَة خوفاً
من دخول الخلل فى الفريضة والكفُّ عن الفضول خشية قساوة
القلب وقال
ثلاثة من أعلام التُّقَى

مفارقة الذنب وسرعة الدمعة والانتفاع بالموعظة
وقال
ثلاثة من أعمال الكمال
تَرْك الجولان في البلدان ۱ وقلة الاغتباط للنعماء عند الامتحان
وصفو النفس في السر والإعلان
وقال
ثلاثة من أعلام المحبة
الرضا فى المكروه وحسن الظن فى المجهول وحسن الاختيار في
المحذور
وثلاثة من أعلام الصواب
الأنس به فى جميع الأحوال والسكون إليه في جميع الأعمال
وحب الموت بغلبة الشوق في جميع الأشغال
وثلاثة من أعمال اليقين
النظر إلى الله - تعالى - فى كل شىء والرجوع إليه في كل أمر
والاستعانة به فى كل حال
1 أي لغير غرض صحيح
-۰۷-

وثلاثة من أعمال الثقة بالله
السخاء بالموجود وترك الطلب للمفقود والاستنابة إلى فضل
الموجود
وثلاثة من أعمال الشكر
المقاربة من الإخوان فى النعمة واستغنام قضاء الحوائج قبل
العطية واستقلال الشكر لملاحظة المنة
وثلاثة من أعلام الرضا
ترك الاختيار قبل القضاء وفقدان المرارة بعد القضاء وهيجان
الحب فى حشو البلاء
وثلاثة من أعمال الأنس بالله
استلذاذ الخلوة والاستيحاش من الصحبة واستحلاء الوحدة
وثلاثة من أعلام حسن الظن بالله
قوة القلب وفُسحة الرجاء في الزيَّة ونفى الإياس بحسن الإنابة
وثلاثة من أعلام الشوق
حب الموت مع الراحة وبُغْضُ الحياة مع الدعة ودوام الحزن مع
الكفاية
وقال ذو النون
ثلاث من علامات الخوف
الورع من الشبهات ملاحظة للوعيد وحفظ اللسان مراقبة لنظر العظيم ودوام الحمد إشفاقاً من غضب الحليم "
۰۸

وثلاثة من أعلام التسليم
مقابلة القضاء بالرضاء والصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء
وثلاثة من أعلام الإيمان
إسباغ الطهارات وارتعاش القلب عند الفرائض حتى يؤديها
والتوبة عند كل ذنب خوفا من الإصرار
وثلاثة من أعلام حسن الخلق
قلة الخلاف على المعاشرين وتحسين ما يرد عليه من أخلاقهم وإلزام النفس اللائمة فيما يختلفون فيه كَفَاً عن معرفة عيوبهم وثلاثة من أعلام الرحمة للخلق
بكاء القلب لليتيم والمسكين وفقدان الشماتة بمصائب المسلمين وبذل النصيحة لهم متجرّعاً لمرارة ظنونهم وإرشادهم إلى صالحهم
وإن جهلوه وكرهوه
وثلاثة من أعلام الاستغناء بالله
التواضع للفقراء المتذلّلين والتعظُم على الأغنياء المتكبرين وترك
المعاشرة لأبناء الدنيا المستكبرين "
وثلاثة من أعلام الحياء
وجدان الأنس بفقدان الوحشة والامتلاء من الخلوة بإدمان التفكّر
واستشعار الهيبة بخالص المراقبة
4
4
D
وثلاثة من أعلام المعرفة
الإقبال على الله والانقطاع إلى الله والافتخار بالله
-۱۱۔

وثلاثة من أعلام الرُّشْد
حسن المحاورة والنصح عند المشاورة والبر فى المجاورة
وثلاثة من أعلام السعادة
الفقه في الدين والتيسير للعمل والإخلاص في السعي
وثلاثة من أعلام الصَّلاح في الغنى
الزهد في الحرام تاركًا له وإخراج الحقوق من المال أداءً للفرض فيه والتواضع لجميع الناس خوفاً من المكر
وثلاثة من أعلام الصلاح في الفقر
القناعة بالمقدَّر له من الرزق وطلاقة الوجه إظهاراً للشكر عن
النعم وترك التواضع للمكثر طمعا فيه
وثلاثة من أعلام حب الآخرة
كثرة البكاء والذكر لها ودوام الشوق لها وبغض الدنيا من أجلها
وثلاثة من أعلام اليقين
قلة المخالفة للناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه
عن ذمّهم فى المنع والرَّويَّة
وثلاثة من أعلام التَّوكُل
نقض العلائق وترك التملُّق فى العلائق واستعمال الصدق في
الخلائق
وثلاثة من أعلام الصبر
۱-

التباعد عن الخلطاء في الشدة والسكون عليه مع تجرع غُصَص
البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة
وثلاثة من أعلام الزَّهْد
قصر الأمل وحب الفقر واستغناء مع صبر
وثلاثة من أعلام العبادة
حب الليل ليسهر بالتهجد والخلوة وكراهة الصبح لرؤية الناس
والغفلة والبَدَار بالصالحات
ويمكن أن يُعد من ثلاثياته ما حدث به علی بن عبد الله الکرخی
قال
سمعت ذا النون يقول
مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الهوى متابعة الشهوات وعلامة
التوكل انقطاع المطامع
ويروى عبد القدوس بن عبد الرحمن قال قيل لأبي الفيض ذي النون
- كيف أصبحت
قال
أصبحت تعباً إن نفعني تعبى والموت يجد في طلبى
وقيل له كيف أصبحت
فقال
أصبحت مقيماً على ذنب ونعمة فلا أدرى من الذنب أستغفر أم
على الـ النعمة أشكر
۱۳

وقيل له كيف أصبحت
قال
أَصْبَحْتُ بَطَالاً عن العبادة متلوثاً بالمعاصي أتمنى منازل
الأبرار وأعمل عمل الأشرار
وأرسل الوليد بن عتبة الدمشقي إلى ذى النون كتاباً يسأله فيه عن
حاله فكتب إليه
كتبت إلى تسألني عن حالى فما عسيتُ أن أخبرك به من حالي
وأنا بين خلال موجعات
أبكاني منها أربع
حب عينى للنظر ولساني للفضول وقلبي للرياسة وإجابتي
إبليس - لعنه الله - فيما يكرهه الله
وأقلقني منها أربع
عين لا تبكى من الذنوب المنتنة وقلب لا يخشع عند نزول العظة وعقلٌ وَهَنَ فَهُمُهُ فى محبة الدنيا ومعرفـ رفة كلما قبلتها وجدتني بالله
أجهل
وأضناني منها أربع
أنَّى عدمتُ خير خصال الإيمان الحياء وعدمتُ خير زاد الآخرة التقوى وفنيت أيامي بمحبتى للدنيا وتضييعي قلبا لا أقتنى مثله
أبدًا
٢١٤۔

وسأله بعضهم عن حاله فقال
ما لي حال أرضاها ولا حال أرضاها كيف أرضى حالى لنفسي
وأنا لا أفي بما أراد منى !
أم كيف لا أرضى حالى ولا يكون منّى إلا ما أراد من الأحوال ! ولست أدرى أيهما أحسن حُسنُ حالى فى إحسانه إلى أم حُسْنُ
حالي في سوء حالي إذ كان هو المختار لى !
وقال
من وثق بالمقادير استراح ومَنْ تقرب قرب ومن صَفًّا صُفِىَ له والحق - في نظر ذى النون لا يمكن وصفه إلا بصفات السلب
ولذا يقول
كلُّ ما تصور في وَهُمِكَ فالله بخلاف ذلك
وقال
مَنْ أراد التواضعَ فَلْيُوجَهُ نَفْسَهُ إلى عظمة الله فإنها تذوب
وتصفو
ومَنْ نظر إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه لأن النفوس كلَّها
فقيرة عند هيبته
وقال
احذر أن تنقطع عن الله فتكون مخدوعاً وكلُّ مَنْ نَظَرَ إلى عطائه
ولم ينظر إليه فهو مخدوع
٢١٥۔

وقال
أهل القرآن هم الذين أَنْصَبُوا الأبدان حتى نحلت أبدانهم وذبلت
شفاههم وهملتْ عيونهم "
رضي الله عن ذى النون وصلى الله وسلَّم على سيدنا ومولانا محمد الفاتح لما أُغلق والخاتم لـمـا سبق ـ وعلى آله وصـحـبـه
أجمعين

٢١٦۔

مراجع الكتاب
١ - القرآن الكريم
٢ - أخبار العارفين لابن باكويه
- إخبار العلماء بأخبار الحكماء لعلى بن يوسف القفطى
٤ - تاریخ ابن عساکر

ه - الجامع الصحيح للترمذى
٦ ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصبهاني - السر المكنون فى مناقب ذى النون لجلال الدين السيوطى
- السنن الكبرى للبيهقي
- شعب الإيمان للبيهقى
۱۰ - صحيح البخاري ۱۱ ۔ صحیح مسلم
١٢ - طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ١٣ - الطبقات الكبرى للإمام الشعراني
١٤ - عوارف المعارف للسهروردي
١٥ - الكواكب الدرية للمناوى
١٦ - مجموعة ما ترجم عن المستشرق نيكلسون ١٧ ـ محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي ۱۸ ـ المسند للإمام أحمد بن حنبل
١٩ - الموطأ للإمام مالك بن أنس

-۱۷۔

الموضوع
مقدمة
حياته
الفهرس
من كلام شيخه شقران العابد ومن كراماته
محنته
وفاته
المحدث المتبع للسنة
ذو النون العالم
- تقديره للعلم
الصوفي
- الصوفية
الطريق
- التوبة
- المريد
الذكر
الورع
الزهد التوكل
الصفحة
9
۱۹

٢٦

٤١
٤٣

0
٦١
٦١
٦١

0

VV

۱۹

- الرضا
- المعرفة
المحبة
الود
الأنس
الشوق
الخلوة
- سر الملكوت
• صاحب الكرامات
السائح
- يا أمل المؤملين
- إذا اعتللت فلا تجعل علتك إلى مخلوق مثلك
إن المحب هو الصبور
النجاة يجتهد من يرج
- بين جبال الشام
يا من استأنس به المجتهدون فوجدوه سريعا مجيباً
- في بلاد العرب
لا تترك الزاد ليوم معادك
- في بلدة شاهرت
- في تيه بني إسرائيل على شاطئ نيل مصر
۰-
٨٤
٨٥
۸۸

۹۱
۹
۹۵
٩٦
۹۹
۱۰۱
10
10
1
۱۰۷
۱۰۸
۱۰۸
۱۰۹

۱۱

۱۱
۱۱۸
۱۱۸
۱۱۹
۱۰
۱۰
۱۱

۱۳

١٢٥
١٢٦
١٢٦
۱۸
- في مقبرة البصرة
- سياحة في طلب المباح في بيت الله الحرام - في بعض سياحاته
في نواحي الشام
- في بعض سياحاته على جبل المقطم في التيه
- في جبل نیسان
في جبال بيت المقدس
- في جبل لبنان
على شاطئ غدیر
- حديث مع بعض متعبدى العرب - سبحانه ما أمهله بالأنام !
أطع الله إذا خلوت يُجبك إذا دعوت من استغنى بالله أمن من العدم - لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
في اليمن علامة الخوف من الله
في المغرب
القرآن حديثه والذكر رفيقه
۱-

۱۹
۱۳۰
۱۳۱
۱۳
۱۳۳
۱۳۳
۱۳۵
١٦٥
۱۷۹
۰۱
۱۷
۱۹
- بم عرفت الله
- إن لله عبادا لو أقسموا على الله لأبرهم
- كيف السخاء
كل مطيع مستأنس
ـ سبحانه ما أمهله للأنام !
في بلاد الشام
سبحان من أذاق قلوب العارفين حلاوة الانقطاع إليه
-
المناجي
الواعظ
الحكيم
متناثرات وطرائف
مراجع الكتاب
فهرس محتويات الكتاب

ذو النون المصرى
Ty
يتناول هذا الكتاب حياة واحد من أهم رجال التصوف
D
الإسلامي بل قطب كبير من أقطابهم إنه ذو النون
المصرى العارف بالله والعالم العابد والورع الزاهد والمتوكل السائح والمناجى البليغ والواعظ الحكيم والولى الكبير صاحب الكرامات والمحدث المتبع للسنة ذو العبارات الوثيقة والإشارات الدقيقة والصفات الكاملة والنفس العالمة العاملة والمحاسن الجزيلة والأقوال والأفعال الحميدة الجليلة الذى زهت به مصر وديارها وأشرق بنوره ليلها ونهارها
ويشتمل الكتاب على دراسات مهمة عن حياة ذي النون المصرى وعلاقته بالحكام وذوى النفوذ والسلطان وموقفه من الفقهاء ومعاملاته مع المريدين وغيرهم وأرائه وتأملاته ونظراته العميقة حول الذكر والورع والزهد والصبر والتقوى والرضا والتوكل والاجتهاد والسياحة والطاعة والاستغناء بالخالق عن المخلوق والخوف من الله والانقطاع إليه والأمل فيه والمعرفة والمحبة والود والأنس والشوق والخلوة والأحوال والمقامات وأسرار الملكوت إلى غير ذلك مما يهم المسلمم الراغب في معية الله الودود الرحيم ودار الرشاد إذ تقدم إلى جماهير القراء في مصر والعالم العربي والأمة الإسلامية كتاب ذو النون المصرى لفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود تدعو الله العلى القدير أن ينفع به المؤمنين وأن يهدى به غيرهم إلى سبيله القويم وأن يتقبله خالصاً لوجهه الخالد الكريم
دار المعارف

الناشر
عصام رشاد