Go Back





الإمام عبد الحليم محمود
اسناد السائرين
الحارث بر البند الی سبی
I
دار المعارف

مقدمة
يتسم التاريخ - سياسيا كان أو فكريا - بفترات تبدو فيها الحيوية الجارفة وهذه الحيوية تتركز فى شخص أو أشخاص نابغين يلقون بأنفسهم في مجرى الحياة الهادئ الوديع فتضطرب الحياة وتموج ويعلو موجها وينخفض وتصطرع القوتان - قوة الشعب الذي يتبع التقاليد وقوة المصلحين النابغين فترة تطول أو تقصر ثم تنحسر الأمواج وتهدأ الأمور فإذا بالحياة تأخذ لونا جديدا وإذا بالقيم قد تغيرت في قليل أو في
كثير
ومهما يكن من شيء فإن عظماء الرجال - على أى وضع قضوا نحبهم - لا يتركون هذا العالم إلا وقد تركوا أثرا لا ينمحى أبد الدهر
وقد ينشأ النابغة فيجد نفسه في ميدان المعركة مختارا أو مضطرا وتشرع نحوه الأسنة وتتجه إليه السيوف المهندة فيدافع ويهاجم ويغلب أو يُغلب ويترك على كل حال أثرًا
ونشأ المحاسبي وفى العالم الإسلامى قوتان هائلتان تصطرعان
1 - أهل السنة ويمثلهم الإمام أحمد
بن حنبل
- المعتزلة ولهم ممثلوهم فى البصرة والكوفة وبغداد
وهذا الصراع بين المعتزلة وأهل السنة صراع طبيعي لا يخلو من مثله
دين من الأديان

إنه الصراع الخالد بين النصيين والعقليين
إنه النزاع الأبدى بين الذين يقولون إن الدين نص تفسره أسباب النزول واللغة والرواية والذين يقولون إن الدين نص يفسره العقل
ويوضحه
ويظن بعض الناس - للوهلة الأولى - أنه لا يمكن أن يكون هناك طرف ثالث في هذه الخصومة
فالإنسان إما نصى وإما عقلى ولا يحتمل الأمر حلا ثالثًا
ونشأ المحاسبي ليعلن هذا الحل الثالث
لقد هاجم المعتزلة هجومًا عنيفًا وألف كتابا خاصا كان من بين أهدافه الرد عليهم سماه فهم القرآن
نزعتهم
لقد رأي في نزعتهم العقلية طغيانًا لا يتناسب ومقام العبودية ورأى أن تحكم العقل فى القرآن وتجعله يسيطر على النص ولو كان الأمر كذلك لكان القائد في الحقيقة وواقع الأمر هو العقل لا الكتب المقدسة وإذا كان المعتزلة قد خدموا الدين خدمات جليلة تتمثل في دفاعهم المجيد عنه ورد هجمات أعدائه وتأييده منطقيًا وعقليا فإنه مما لاشك فيه أن العقل لو ترك وشأنه لا يمكنه أن يتسلل إلى عالم ما وراء الطبيعة فيفسر لنا غامضه ويوضح لنا من أمره ما انبهم لابد إذن أن يخضع العقل للنص
ومذهب المعتزلة إذن لا يسير فى عالم ما وراء الطبيعة على النهج
الصواب
هناك إذن إفراط وتفريط
والعبودية الحقه
إلى المعرفة الحقة

فيما يرى المحاسبي – هي المنهج الصحيح للوصول

ودخل المحاسبى المعركة وسلاحه فيها عبودية حقة وإخلاص لاحد له وتقوى تغمر كل الجوارح ومن قبل ذلك ومن بعده دراسة مستفيضة للدين وسائله وغاياته جزئياته وكلياته
التقوى والعلم إذن كانا سلاحه في المعركة
واحتدم النزاع وكان لابد من أن يحتدم وثار الفقهاء على المحاسبي وكان لابد أن يثوروا فقد كان المحاسبى ينهج في درسه نهجًا آخر غير الطريق العادي التقليدي
Lje
كان يتحدث في الإخلاص وفى الورع وفى الزهد وفى الخشوع
الخالص لله
وكان يتحدث في هيبة الله وجلاله وعظمته
وكان يتحدث فى محبة الله والأنس به والقرب منه
وكان حديثه عذبا طلقا ساميًا فكانت تخشع له الأفئدة وتلين له القلوب وتسيل له الدموع ويتذكر الناس ما لله من فضل فترق قلوبهم
ويتعاهدون على الاستقامة
وملأت سمعة المحاسبى أرجاء بغداد ثم عبرتها إلى جميع أرجاء المملكة الإسلامية المترامية الأطراف وكلما أخذت شهرته في الازدياد كلما كثر خصومه وشانئوه !!!
ولكنه كان يسير في طريقه ثابت الخطى لا يعنيه سوى أن يكون الله
راضيا عنه ! ! !
وتكشفت له الحجب وزالت عنه المساتير ووصل إلى المعرفة الحقة
فأعلن طريقها
وطريقها ليس حسّا يخطىء ولبس عقلا يضل وإنما هو

بصيرة وضاءة
وروح
صافية
واستمرت الخصومة بين النصيين ويمثلهم الإمام أحمد والبصيريين ويمثلهم الإمام المحاسبي والعقليين ويمثلهم المعتزلة
ومن غريب الأمر أن أية قوة من هذه القوى لم تخر صريعة بل بقيت
قوية واستمرت فى كفاح ونضال حتى يومنا هذا
تسلسلت فكرة المحاسبي وتمثلت خير تمثل فى الإمام الغزالي ثم في بقية الصوفية من بعده حتى كان العصر الحاضر فكان يمثلها في أسلوب جديد وتعبير صادق المرحوم الشيخ عبد الواحد يحيى الذي توفي في بداية النصف الثانى من القرن الحاضر
وتسلسلت فكرة الإمام أحمد فتمثلت فى الإمام ابن تيمية الذي وضع لها المنطق وأرسى لها القواعد والأصول واستمرت قوية إلى عهدنا الحاضر وكان يمثلها المرحوم الشيخ رشيد رضا تمثيلاً قوياً وتسلسلت فكرة المعتزلة راكدة حينًا وقوية حينا آخر حتى كان جمال
الدين الأفغاني فدفعها دفعا قويا إلى عالم الظهور
وكان الشيخ محمد عبده من أهم العوامل في نشرها ملطفة خفيفة تكاد تخفي أو تكاد تلبس ثوب السلفية
وحمل اللواء من بعده المرحوم الشيخ المراغى والمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق وفكرة الإمام محمد عبده تتمثل فيهما حقيقة لا في الشيخ رشيد رضا كما يظن كثير من الناس لا تزال تلك القوى الثلاث تتصارع حتى عهدنا هذا ونعتقد أنها ستستمر ذلك أنها تمثل نزعات فطرية فى بنى الإنسان فبعضهم واقعي يتجه إلى النص ولا يريد أو لا يمكنه أن يسير إلى أبعد منه وبعضهم

يحتفظ بشخصيته قوية جارفة لا تلين فهو عقلى أو اعتزالي وبعضهم رقيق الشعور مرهف الحس ملائكي النزعة فهو بصيري
أو صوفى
نزعات ثلاث تقوم على فطر مختلفة وهذه الفطر ستستمر في بني البشر ما دام على وجه الأرض أفراد من النوع الإنساني ومن هنا كان خطأ هؤلاء الذين يحاربون التصوف أو الاعتزال أو النصيين على أمل أن يقضوا على اتجاه من هذه الاتجاهات

روی صاحب طبقات الصوفية بسنده عن الحارث بن
المحاسبي بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق
أسد
ولقد وضع المحاسبي هدفًا له في الحياة يسعى إلى تحقيقه هو حسن الخلق لقد وضعه هدفًا يعمل على تحقيقه فى نفسه ووضعه هدفًا يعمل على تحقيقه في مجتمعه
أما فيما يتعلق بنفسه فإنه أخذها بتحقيق صفة العبودية على أساس من القرآن الكريم والسنة الشريفة لا يحيد عنه
وإنه ليعبر عن شعاره في ذلك فيقول هذه الكلمة التي تصفه حالاً
ومقالا
إذا أنت لم تسمع
نداء الله فكيف تجيب داعي الله
ومن استغنى بشيء دون الله جهل قدر الله
ولم يجهل المحاسبى قدر الله فلم يستغن بشيء دونه سبحانه وأما فيما يتعلق بالمجتمع فإن المحاسبى أخذ في نشر حسن الخلق فيه

بسمته واتباعه للسنه وبدروسه التي كانت تفعل الأعاجيب في القلوب وبكتبه التى تبين حسن الخلق وسائل وغايات والتي لا يزال لها إلى الآن أريج عطرى يتجدد على مر الزمن فيهدى الحياري وينير الطريق أمام السالكين

ولكن من هو المحاسبى ومالنا نتعجل فنتحدث عن المحاسبي في القمة قبل أن نبدأ معه من البداية
إنه الحارث بن أسد وكنيته أبو عبد الله
ولقد نشأ بالبصرة واستمر بها سنوات لا يتأتى لنا تحديدها في يقين جازم ثم ذهب إلى بغداد ويبدو أنه ذهب إليها في سن مبكرة واستقر به
المقام فيها
متى ولد
إننا لا نعلم بالضبط تاريخ ميلاده إذ أن الكتب القديمة التي تحدثت عنه لم تذكر ذلك بيد أن الملابسات ترشد إلى أنه ولد – على التقريب في العقد السابع من القرن الثاني الهجرى

أما وفاته فإن الكتب التى أرخت له تحدد سنة ٢٤٣ هـ ثلاث وأربعين ومائتين للهجرة
وحياته الشخصية لا نكاد نعلم عنها شيئًا وقد يمكننا أن نقول استنتاجا إنه قضى طفولته في شيء من اليسر والرخاء ذلك أن والده حينما توفى ترك ثروة تقدر بسبعين ألف درهم
ويروى المؤرخون أن المحاسبى حينما توفى والده لم يأخذ من الثروة شيئًا تورعًا ذلك أن والده كان يقول بالقدر أي أنه كان قدريا
يدين

بمذهب المعتزلة ويقول المؤرخون الحياة المحاسبى إنه لم يستسغ أن يشترك في الميراث توسعا في تطبيق القاعدة الإسلامية التي تحرم التوارث بين أهل دينين مختلفين
ولكن المحاسبي - فيما يبدو - امتنع عن ذلك لمجرد الورع والزهد فيما تجره الثروة وتستتبعه من تفكير فيها وتدبير لها وتنمية وحفظ
هذه الحادثة ترشد إلى أمور
الأمر الأول هو أن أسرة المحاسبي كانت أسرة ميسورة الأمر الثاني هو أن والد المحاسبى كان من الذين اشتركوا في الثقافة الدينية والجدل الكلامى وساهم فى ذلك بنصيب وحدد المعسكر الذي يقف
جنديا في جيشه وما من ريب في أن العامة حينئذ لم يكونوا في صف المعتزلة وما كان الذي يدين بما يدين به المعتزلة يفعل ذلك إلا بعد دراسة واختيار وأن الطريق التقليدي الذى كان يتبعه الجمهور الأعظم من الأمة إنما هو طريق أهل السنة والأمر الثالث الذى ترشد إليه الحادثة هو ورع المحاسبي الذي حمله على أن يزهد في الميراث مع حاجته إليه تورعا وتقوى عن شخصية المحاسبي يقول الجنيد كنت
شيئًا
ونبأ آخر نتبين منه كثيرا أقول للحارث عزلتي أنسى
فيقول كم تقول عزلتي أنسى لو أن نصف الخلق تقربوا منى
ما وجدت بهم
لبعدهم
أنسا ولو أن نصف الخلق الآخر نأى
عنى
ما استوحشت
هذه القصة ترشدنا إلى قوة شخصية الإمام المحاسبي والواقع أن

الظروف والأحوال الثقافية التي أحاطت بالمحاسبي وموقف المحاسبي منها وحديث تلاميذه عنه - وإن كان نادرًا - كل ذلك يرشد إلى أنه كان
صاحب شخصية إيجابية قوية
ومما يستأنس به تأييدا للقصة السابقة وإشارة إلى ما للمحاسبي من شخصية إيجابية قوية وبيانا عابرًا عن بعض أساليبه في تأليف كتبه ما رواه الجنيد أيضا بقوله
كان الحارث المحاسبى يجيء إلى منزلنا ليقول اخرج معى نصحر نذهب إلى الصحراء فأقول له
تخرجنى عن عزلتي وأمنى على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية
الشهوات فيقول
اخرج معى ولا خوف عليك فأخرج معه فكأن الطريق فارغا من
كل شيء لا نرى شيئًا نكرهه
فإذا حصلت معه فى المكان الذى يجلس فيه قال لى
سلنی
فأقول له ما عندى سؤال أسأله
فيقول سلني عما يقع في نفسك
فتنثال على السؤالات فأسأله عنها فيجيبنى عليها للوقت
ثم يمضى إلى منزله فيعملها كتاباً
ترشد هذه القصة إلى أن المحاسبي لم يكن يخشى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات وأنه لم يكن يؤثر العزلة وما فيها من أمن على النفس وعدم تشتيت للفكر كلا إنه يجابه الحياة محاولا السير بها إلى ما يراه حقا
وإصلاحًا

أما فيما يتعلق بطريقته فى التأليف فإنه يعمل أحيانًا على تلبية
ما يرغب المتحدثون الإجابة عنه وهى طريقة حية إنها استجابة لما يحب المجتمع أن يرى الرأى الصريح فيه إنها تتصل بالحياة الواقعية ولم تكن كتبه كلها على هذا النسق فإن بعضها كان إسهاما في الحركة المقاومة لحركة الاعتزال وكان بعضها حلقات فى التخطيط الذي رسمه
المحاسبي للإصلاح الأخلاقي في المجتمع

على أننا قد تعجلنا الحوادث مرة أخرى فتحدثنا عن المحاسبي في القمة ولم نتدرج معه تدرجا طبيعيًا
ولنعد إلى المحاسبى أول مقدمه بغداد كان ذلك فيما يبدو في سن مبكرة
نسبيا
وكانت بغداد حينئذ تموج بمختلف التيارات الفكرية ثقافة يونانية
وافدة تريد أن تأخذ حق الإقامة سيدة متغلبة وثقافة فارسية يحاول نشرها الفرس بما لهم من تأثير ونفوذ وبما لهم من مال وثراء وبما لديهم من ترف فكرى وبما فى نفوسهم من كبت لزوال ملكهم يحاول أن يتنفس - شاعراً أو غير شاعر – في صورة ثقافة تنافس الثقافة الإسلامية البحتة
وثقافة عربية مشوبة بثقافات أخرى تريد أن تجد حلا للتعارض والتنافس بين مختلف الألوان والأجواء الثقافية وثقافة إسلامية بحتة تجاهد في أن تفوز بقيادة المجتمع إلى الهداية الربانية والرشاد الإلهى
وجاء المحاسبى بغداد متعلاً ومتثقفا أو مستزيدا من العلم والثقافة يبتغى السير على السنن المستقيم

۱
وأخذ في الدرس في جد واجتهاد فتشعبت به الطرق وتجاذبته الثقافات المختلفة تحاول كل منها أن تستأثر به وحدها ولكل منها مغرياتها ولكل منها منطقها
ووقف المحاسبي مستوعبا متأملا مترويا
هل طال به الوقوف
متى خرج من تأمله
متى استقر به الاتجاه
ذلك ما لا نعلمه إذا نظرنا إلى الزمن
بيد أن المحاسبي وإن لم يعن بالتأريخ لحياته تأريخا زمنيا فإنه ترك لنا أثرا نفسيا أبان فيه عن بعض أحوال معاصريه وتحدث فيه عن حيرته الفكرية وعن أسبابها وعن كيفية خروجه منها
وهذا الأثر نعتبره أساسا لكتاب المنقذ من الضلال راسا للإمام الغزالي تخطيطه وموجها له إلى كتابته بل وراسا له الطريق في حياته
الروحية
من
ولعل التشابه بين هذا النص الذى نثبته الآن وكتاب المنقذ الضلال يجعل بعض الناس يستنتج أن التشابه قوى بين المحاسبي والغزالي في حياتهما ولنا فى ذلك رأى سنذكره فيها بعد إن شاء الله ولأهمية هذا النص بالنسبة للمحاسبى ولعصره وبالنسبة لصلته بكتاب من الضلال صلة وثيقة نثبته بأكمله وإن كان فيه بعض الطول وقد كتبه المحاسبي مقدمة لكتابه الوصايا الذي طبع أخيرًا بالقاهرة يقول
المنقذ
المحاسبي

في مفتتح كتابه الوصايا

بعد مقدمة موجزة
أما بعد فقد انتهى إلينا أن هذه الأمة تفترق على بضع وسبعين
فرقة منها فرقة ناجية والله أعلم بسائرها

فلم أزل برهة من عمرى أنظر اختلاف الأمة وألتمس المنهاج الواضح والسبيل القاصد وأطلب من العلم والعمل وأستدل على طريق الآخرة بإرشاد العلماء وعقلت كثيرًا من كلام الله عز وجل بتأويل الفقهاء وتدبرت أحوال الأمة ونظرت في مذاهبها وأقاويلها فعقلت
ما قدر لي
ذلك من
وأن
ورأيت اختلافهم بحرًا عميقًا قد غرق فيه ناس كثير وسلم منه عصابة قليلة ورأيت كل صنف منهم يزعم أن النجاة فيمن تبعهم الهالك من خالفهم ثم رأيت الناس أصنافا
فمنهم العالم بأمر الآخرة لقاؤه عسير ووجوده عزيز
ومنهم الجاهل فالبعد عنه غنيمة
ومنهم المتشبه بالعلماء مشغوف بدنياه مؤثر لها
ومنهم حامل علم منسوب إلى الدين ملتمس بعلمه التعظيم والعلو ينال بالدين من عرض الدنيا
ومنهم متشبه بالنساك متجر بالخير لا غناء عنده ولا بقاء لعلمه ولا معتمد على رأيه
ومنهم حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل
ومنهم منسوب إلى العقل والدعاء مفقود الورع والتقى ومنهم متوادون على الهوى يتفقون وللدنيا يتبادلون ورياستها
يطلبون ومنهم شياطين الإنس عن الآخرة يصدون وعلى الدنيا يتكالبون وإلى جمعها يُهرعون وفى الاستكثار منها يرغبون فهم في الدنيا أحياء وعن العرف موتى بل العرف عندهم منكر والسوء معروف فتفقدت في الأصناف نفسي وضقت بذلك ذرعا

١٤
فقصدت إلى هدى المهتدين بطلب السداد والهدى واستر شدت العلم وأعملت الفكر وأطلت النظر فتبين لى فى كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإجماع الأمة أن اتباع الهوى يعمى عن الرشد ويضل عن الحق ويطيل المكث في العمى !!!
فبدأت بإسقاط الهوى عن قلبي ووقفت عند اختلاف الأمة مرتادا لطلب الفرقة الناجية حذرًا من الأهواء المردية والفرقة الهالكة متحررا
من الاقتحام قبل البيان والتمست سبيل النجاة المهجة نفسي ثم وجدت باجتماع الأمة فى كتاب الله المنزل أن سبيل النجاة في التمسك بتقوى الله وأداء فرائضه والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده والإخلاص لله تعالى بطاعته والتأسى برسوله فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء فى الآثار فرأيت اجتماعًا واختلافا ووجدت جميعهم مجتمعين على أن علم الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأمره وأن الفقهاء عن الله العاملين برضوانه الورعين عن محارمه المتأسين برسوله المؤثرين الآخرة على الدنيا أولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجتمع عليهم والموصوفين أقفوا آثارهم وأقتبس من علمهم فرأيتهم أقل من القليل ورأيت علمهم مندرسا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء۱
وهم المنفردون بدينهم
فعظمت مصيبتي بفقد الأدلاء الأتقياء وخشيت بغتة الموت أن يفاجئني
۱ رواه مسلم وابن ماجة والترمذي والطبراني

على اضطراب من عمرى لاختلاف الأمة فانكمشت في طلب عالم لم أجد لى من معرفته بدا لم أقصر فى الاحتياط ولم أن۱ في النصح فقيض لي الرءوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا
ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى ووجدتهم مجتمعين على نصح الأمة لا يرجون أحدًا في معصيته ولا يقنطون أحدًا
من رحمته
يرضون أبدًا بالصبر على البأساء والضراء والرضا بالقضاء والشكر
على النعماء
يحببون الله تعالى إلى العباد بذكرهم أياديه وإحسانه ويحثون العباد على الإنابة إلى الله تعالى
علماء بعظمة الله تعالى وعظيم قدرتة وعلماء بكتابه وسنته فقهاء في دينه علماء بما يحب ويكره ورعين عن البدع والأهواء تاركين التعمق والإغلاء مبغضين للجدال والمراء متورعين عن الاغتياب والظلم والأذى مخالفين لأهوائهم مالكين الجوارحهم ورعين فى مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم مجانبين للشبهات تاركين للشهوات مجتزئين بالبلغة من الأقوات متقللين من المباح زاهدين في الحلال مشفقين من الحساب وجلين من المعاد مشغولين بشأنهم مؤثرين على أنفسهم من دون غيرهم لكل امرئ
منهم
شأن يغنيه علماء بأمر الآخرة وأهاويل القيامة وجزيل الثواب وأليم العقاب ذلك أورثهم الحزن الدائم والهم المضنى فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها
1 لم أبطىء ولم أتوان

ولقد وصفوا للآداب صفات وحددوا للورع حدودا ضاق لها صدری وعلمت أن آداب الدين وصدق الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه شبهى ولا يقوم بحدوده مثلى فتبين لى فضلهم واتضح لى نصحهم وأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة والمتأسون بالمرسلين والمصابيح لمن والهادون لمن استرشدهم فأصبحت راغبا في مذهبهم مقتبسا بهم من فوائدهم قابلا لآدابهم محبا لطاعتهم لا أعدل شيئًا ولا أوثر بهم
استضاء
عليهم
أحدا
ففتح الله لى علما انفتح لى برهانه وأنار لى فضله ورجوت النجاة لمن أقر به أو انتحله وأيقنت بالغوث لمن عمل به ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجباً على فاعتقدته في سريرتى وانطويت عليه بضمیري وجعلته أساس ديني
وبنيت عليه أعمالي وتقلبت فيه بأحوالى
وسألت الله عز وجل أن يوزعنى شكر ما أنعم به على وأن يقوينى على القيام بحدود ما عرفني به مع معرفتى بتقصيرى في ذلك وأني لا أدرك شكره أبدا

ووجد المحاسبي نفسه حينئذ في معسكر أهل السنة على وجه العموم
وفي تيار الصوفية منهم على وجه الخصوص
ولم يكن المحاسبى ذا طبيعة سلبية فكان لابد من أن يدخل المعركة ودخل المعركة في قوة قوية مسلحًا بالعلم والتقوى ومن أجل ذلك كان ذا أثر مزدوج
لقد أثر باعتباره قدوة وأسوة
وأثر باعتباره عالما باحثًا

أما كتبه فإنها من الكثرة بحيث قدرها بعضهم بمائتي مصنف حسبها روى السبكي في طبقات الشافعية والمناوى في الكواكب الدرية وهذه الكتب - فى أغلبها الأعم - إنما هي في هداية النفوس وترقيق القلوب والسير بالأرواح إلى عالم الفلاح إنها في أغلبها في علم التصوف
والسلوك
المحاسبي
يقول التميمي كما جاء في الكواكب الدرية عن هو إمام المسلمين فى الفقه والتصوف والحديث والكلام ولقد كتب المحاسبى فى هذه العلوم جميعها بيد أن مسحته الظاهرة ونزعته الواضحة والكثرة الكثيرة من كتبه إنما كانت في التصوف والكلام أما كتبه في الكلام فقد بقى منها أهم كتبه في هذا الموضوع وهو كتاب فهم القرآن حققه ونشره حديثًا الدكتور حسين القوتلي بلبنان ومنهجه في الكتاب يفهم من عنوانه إنه كان يرجع إلى القرآن في الرد ويتخذ منه مرشدًا وهاديًا ولعل السبب في إهمال كتبه الكلامية وفقدها هو حملة الإمام أحمد بن
حنبل عليها
١١٤
يقول الخطيب البغدادى فى كتابه تاریخ بغداد جزء ۸ ص بن حنبل يكره للحارث نظره فى الكلام وتصنيفه الكتب
وكان أحمد
فيه ويصد الناس عنه
من
الضلال
ويذكر هذه المسألة الإمام الغزالي في كتابه المنقذ ويفصل الرأى فيها ويحسم المسألة بحل موفق فيقول لقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي – رحمهما الله تصنيفه في الرد على المعتزلة

فقال الحارث الرد على البدعة فرض
فقال أحمد نعم ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها فبم نأمن أن يطالع الشيهة من تعلَقُ بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر إلى الجواب ولا يفهم كنهه يقول الإمام الغزالي
وما ذكره أحمد حق ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت فالجواب عنهما واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية
اهـ
ولقد أصاب الإمام التوفيق في رأيه
وما من
شك في أن المعتزلة إذ ذاك كانوا يعملون جاهدين على نشر
وأن بدعتهم بدعتهم كانت معروفة مشهورة ومهما يكن من شيء فقد كان الإمامان أحمد والمحاسبي متعاصرين وحدث بينها اختلاف فى الرأى يتعلق بالكتابة في المسائل الكلامية وحمل الإمام أحمد على كتب الإمام المحاسبي في علم الكلام فقل تداول الناس واختفت شيئًا فشيئًا ولعل بعضها لا يزال موجودًا
لها

فيما يبدو

ولعل من المحتمل أن يكشف المستقبل عنها كما حدث ذلك بالنسبة لكتاب فهم القرآن على أن رأى المحاسبي في المسائل الكلامية معروف تحدث عنه الشهرستاني وغيره ممن كتبوا في الملل والنحل وهو الرأى السلفي ولم تكن حملة الإمام أحمد عليه لرأيه وعقيدته فذلك أمر يتفق فيه الإمامان وإنما كان إنكار الإمام أحمد عليه للأسلوب والطريقة التي ينصر بها الدين
وما من ريب فى أن ما قام به الإمام المحاسبي في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الانحراف إنما هو في الوقت نفسه انتصار للإمام بن حنبل وتقوية له وعون على بلوغه غايته رضى الله عنهما
أحمد

۱۹
أما كتبه في أدب النفس وتزكيتها وفى الإنابة إلى الله والرجوع إليه
وفى الرعاية لحقوقه وفى التصوف على وجه العموم فقد بقى منها كثير عرفنا منه جملة صالحة لا تزال مخطوطة وطبع البعض في أوربا والقاهرة وسوريا ومن كتبه المخطوطة في دور الكتب
١ - كتاب المسائل في الزهد - فصل من كتاب العظمة
- كتاب في المراقبة
٤ - أحكام التوبة ه - كتاب العلم
٦ - كتاب الصبر والرضا
ومن كتبه المطبوعة
كتاب التوهم
أول ما طبع للمحاسبى كتاب التوهم طبع في القاهرة سنة ١٩٣٧ وقد عنى الدكتور اح أربرى بتحقيقه وكتب مقدمته الدكتور أحمد أمين وفي المقدمة يقول عن الكتاب

نحا فيه منحى طريفًا يدل عليه اسمه فلم يقتصر على ما ورد من الأخبار في الخوف والرجاء كما فعل غيره بل استعمل توهمه – وبعبارة أخرى خياله - في وصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب وأسْلَسَ لخياله القياد فتخيل ما تخيل وصور ما صور فهي لوحة جميلة لفنان أجاد ألوانها أو رواية رائعة لكاتب جمل
منظرها وفصل مواقفها وصقل لغتها حتى يؤثر بالحقيقة التي تتضمنها في نفوس القارئين والسامعين أكبر الأثر وأبلغه

رسالة المسترشدين
وطبع له في حلب رسالة المسترشدين حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه عبد الفتاح أبو غدة

وهذه الرسالة اللطيفة الحجم يوجه فيها المحاسبي الإرشاد للمسترشدين الذين يريدون أن يكونوا من ذوى الألباب العالمين بالله وبأمره ومنهاج ذوى الألباب - كما تحدده الرسالة إنما هو رعاية مصادر الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وما اجتمع عليه المهتدون من الأئمة وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا الله إليه عباده وقال عز وجل وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِياً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى عضوا عليها

بالنواجذ ٢
والرسالة إنما هي إرشادات توضح بعض زاويا هذا المنهج فهي تتحدث عن التوبة والتقوى والخطرات والخوف من الله والصبر والرضا وغير من أحوال اللائذين إلى الله السالكين إليه
ذلك
۱ آية ١٥٣ من سورة الأنعام
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحة وقال الترمذي
حديث حسن صحيح

كتاب الوصايا

وطبع له في القاهرة أخيرا كتاب الوصايا تحقيق وتقديم عبد القادر أحمد عطا
والعنوان مكتوب هكذا الوصايا أو النصائح الدينية والنفحات القدسية لنفع جميع البرية
وموضوعه هو موضوع الكتاب السابق وإن كان على صورة أوسع وبأسلوب بين الجدة وهو أقل تعمقا وجزالة من أسلوب الكتاب السابق
كتاب الرعاية لحقوق الله عز وجل
ما
هو
وكتاب الرعاية هو أكبر الكتب التي بين أيدينا من كتب المحاسبي مخطوطة كانت تلك الكتب أم مطبوعة وربما لا يوجد فيها فقد من كتبه أكبر منه ويقع فى حوالي أربعمائة وستين صحيفة وهو على كل حال أهم كتبه في نظر القدماء والمحدثين حتى لقد عرف به وإذا لم يذكر أحد المؤرخين القدماء من كتب المحاسبى إلا كتابًا واحدًا فإنه يكون الرعاية وهو بالنسبة للمحاسبي كإحياء علوم الدين بالنسبة للغزالي وقد حاول المحاسبي أن يشرح فيه الطريق الذى يحقق الرعاية لحقوق الله تعالى وقد بلغ في تحليل نزعات النفس ونزعات الهوى حدا لا يجارى يقول الأستاذ مسينيون عن هذا الكتاب
إن المحاسبي سما فيه بالتحليل النفسى إلى مرتبة لا تجد لها مثيلاً في الآداب العالمية إلا نادرا
وحينها قرأه المرحوم الشيخ زاهد الكوثرى قال معبرا عن حقيقة
ظاهرة

لقد كان أثر الإمام المحاسبى على الإمام الغزالي كبيرا لقد تبطن الإمام الغزالى كتاب الرعاية في كتابه الإحياء
المسائل في أعمال القلوب والجوارح
وقد طبع هذا الكتاب بالقاهرة فحققه الأستاذ عبد القادر أحمد عطاء والكتاب بحوث مفصلة في الكلام عن إدخال السرور على المسلم والإسرار بالعمل والجهر به وطلب الشهرة بالعمل أو لزوم المداراة والكلام عن الغرور والحديث عن النوافل وأعمال القلوب والمواعظ المطلوبة والجدال المرذول والتفويض إلى الله فى كل الأمور والحديث عن النفس وألوان الغفلة التي تعتريها وحدود النظر الجائر من الحرام وختمه بحديث عن النذور
وأسلوب الكتاب أسلوب علمى تحليلى يسرى فيه الحماس وتبدو
روح المحاسبي اليقظة المتوثبة
كتاب أدب النفوس
وهو كتاب يفهم موضوعه من عنوانه أنه في أدب النفوس وفيه يشرح المحاسبي الطريق التي يتخذها الإنسان لتهذيب نفسه وتزكيتها وهو في رسمه لهذه الطريق يتبع السنن الإسلامي
وإذا كان يرسم الطريق فإنه أيضًا يتحدت عن الصفات التي ينبغى يتحلى بها الإنسان حتى يكون في مرضاة من الله وفي نعمة منه
كتاب فهم القرآن
أن
ولقد كان يظن إلى عهد قريب أن كتاب فهم القرآن قد فقد وكان الأسف عليه شديدًا ثم كان السرور حينما أعلن أن الكتاب موجود وحينها

أخرجه الدكتور القوتلي في ثوب أنيق معلقا عليه ومقدما له ونشره مع كتاب مائية العقل للمحاسبى أيضا في مجلد واحد فجزاه الله خيرا

أثر المحاسبي في الفكر الإسلامي إن تأثير المحاسبى فى الأجيال التالية له لا ينكر إنه من الواضح أن تلميذه الأكبر - وإن لم يلتق به - كان الإمام الغزالي إن الإمام الغزالى يعترف بأنه قرأ كتب الحارث المحاسبي قال ذلك في كتابه المنقذ من الضلال ولقد قرأ أيضا سيرة الحارث المحاسبى وتحدث عن الخلاف الذي كان بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل
ثم إنه نقل عنه في كتابه الإحياء اكثيرا من الأراء والنصوص وفى كتاب الإحياء يقول عنه الإمام الغزالي دون تحفظ ولا استثناء هذا التقدير الهائل المحاسبى خير الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه هذه الشهادة أو التقدير من الإمام الغزالي كان له أثر كبير في كتاب الإحياء فإن كتاب الإحياء تضمن تقريبا كتاب الرعاية وكلمة
الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله سبق أن ذكرناها إذ يقول لقد تبطن الإمام الغزالى كتاب الرعاية في كتابه الإحياء ولكن أثر المحاسبى كان أيضا كبيرا قبل الإمام الغزالي يقول السبكي
عنه

٢٤
عالم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين الجامع بين علمى الباطن
والظاهر ويقول الشعراني عنه
إنه أستاذ أكثر البغداديين
لقد كان رحمة الله عليه أستاذ أكثر البغداديين وعالم العارفين في زمانه وامتد تأثيره إلى الإمام الغزالى وإلى الصوفية من بعده واستمر هذا التأثير قرنا فقرنا واستمر تقدير العلماء الصوفية له قرنا فقرنا حتى إذا كان القرن الحادي عشر الهجرى وكان المناوى صاحب التأليف الكثيرة المشهورة المعروفة كتب عن المحاسبي في كتابه الكواكب الدرية
يقول
المحاسبي البصرى علم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين في أوانه عالم سار بنا فضله وصو في طار نبله برع في عدة فنون وتكلم على الناس فأراهم الجوهر المكنون وأحيا القلوب بون وعظه وشنف الأسماع بدرا
لفظه
تصانيفه مدونة مسطورة وأقواله مبوبة مشهورة وأحواله مصححة مذكورة وكان في علم الأصول راسخًا راجعا وعن الخوض في الفضول جانحًا وللمخالفين الزائفين قامعا وناطحا وللمريدين مربيا وناصحا قال التميمي
هو إمام المسلمين فى الفقه والتصوف والحديث والكلام
وقال غيره
له المصنفات النافعة الجمة بحيث تبلغ نحو مائتي مؤلف وناهيك
برعايته وكتبه فى هذه العلوم أصول لمن صنف فيها
وقال في الإحياء
المحاسبي خير الأمة فى علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين

عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات وكلامه جدير بأن
يحكى على وجهه على أن التقدير الذي نحب أن نعيد تسجيله هنا ما كتبه الأستاذ
هو
لويس مسينيون عن كتاب الرعاية فى كتابه مصطلحات التصوف إن المحاسبي سمافيه بالتحليل النفسى إلى مرتبة لا نجد لها مثيلاً في
الآداب العالمية إلا نادرا
رحم
الله تعالى الإمام المحاسبى رحمة واسعة ونفعنا بما تركه لنا من
تراث روحی مجید

*
الباب الأول
المحاسبي
البيئة التي عاش فيها المحاسبي
*
التأثيرات الأجنبية
الأبحاث الخاصة بالمحاسبي
* منهجه في التفسير

البيئة التي عاش فيها المحاسبي
حياته وشخصيته
ولد المحاسبي في البصرة بالعراق عام ١٦٥ للهجرة تقريبا ٧٨١ م ولكنه قضى جل حياته فى بغداد حيث توفى عام ٢٤٣ هـ ٨٥٧ م
ولعل دراسة البيئة التى عاش فيها المحاسبى وإيضاحها يعيننا على تفهم فكر أستاذ السائرين

الإسلام ليس دين العقائد الغامضة
فآيات القرآن تتجه مباشرة إلى القلب والروح ولا تحتاج للجدل في النظريات التجريدية الضاربة فى أغوار ما وراء الطبيعة
أنها
والأحاديث الشريفة التى تنير سبل المؤمنين لا يمكن أن يدعى تنشئ أو تسهم في إنشاء مذهب ميتافيزيقي جدلى يتنافس فيه هذا وذاك
ولا عجب فالإسلام بعيد كل البعد عن التفلسف العقيم وجوهره إنما هو إسلام الإنسان وجهه لإرادة الله تعالى التى جاء القرآن وتحدث النبي تعبيرا عنها وإيضاحا لها
والمبادئ الإلهية - فيما يختص بالعقيدة الإسلامية – تستخلص في يسر من القرآن والحديث
والآيات القرآنية التالية تجمل جوهرها

الرَّحِ
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ
وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۱
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٢ هو يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ٣ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنُ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ٤
والحديث التالي وحده يجمل - أيضا - جوهر العقيدة والعبادة والأخلاق الإسلامية فقد سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإسلام
فقال
أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا وهكذا كان تعريف العربي الذي يعتنق الإسلام بأحكام الدين وحدوده أمرا سهلا ميسرا
والإسلام معنى بالحياة الخلقية المؤسسة على مخافة الله والخشوع له
۱ سورة الإخلاص
سورة البقرة - الآيات من ١ - ٥
۳ النساء ١٣٦
٤ النساء ١٢٥

أمره
والمسلمون يخشون الله القدير ويتقون العقاب الذي ينزله بمن يعصى
والقرآن يقص عاقبة هؤلاء الذين خرجوا عن طاعته ويحذر في العديد من مخالفة المبادئ الأخلاقية ومن غضب الله
آياته من
معه
وتصوير جهنم فيه يبلغ من القوة حدا لا يستطيع المتأمل فيه إلا أن يتحاشى ما يؤدى إلى غضب الخالق أو يخرج على شريعته - كذلك فإن تصوير نهاية العالم ويوم البعث والنشور في القفآن لابد وأن يثير القلق في النفوس الميالة إلى الشر من مغبة أعمالها
يقول أحمد أمين فى تقديمه لكتاب التوهم للمحاسبي
وكتاب التوهم كتاب طريف في بابه قد بني على أساس في الدين والتصوف معروف وهو الخوف والرجاء أو الترغيب والترهيب وقد نوه بهذا الأساس القرآن الكريم فقد خوف حتى أرعب فقال تعالى إن بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ۱
وكان من قبيل الترهيب ما ورد فيه من وصف النار وعذابها وفظائعها وفي الصحيحين عن أنس قال
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين ولهذا فمن السهل أن نفهم كيف يبكى المؤمنون خشية عند تلاوتهم القرآن وكيف يكون القرآن التقوى والورع
۱ آية ١٢ من سورة البروج الخنين بكاء انتشاق الصوت
مع
الأنف
من

يود لو أنه
ولهذا - أيضًا - نقدر كيف كان أبو بكر - رضى الله عنه - خلق طيرا بينما عمر يود لو أنه خلق عود قش۱ أما الحسن البصرى لم يخلق أبدا فكان يود
أن
ولكن ليس هذا كل ما فى القرآن فالخوف وحده يذهل الناس من التفكير في أمر الجماعة الإسلامية ويصرفهم عن العمل على تحقيق ما يدعو إليه نبي الإسلام ولذلك فإنه إلى جانب الآيات السابق ذكرها تكثر أيضا الآيات التي تبعث الأمل في النفوس وتصور الجنة أبدع تصوير بل إن آيات الوعيد في القرآن مقرونة في غالبها بآيات الترغيب فالله القادر على العقاب هو أيضًا إله الرحمة والمحبة وإلى جانب الجحيم بنيرانه الملتهمة تتفتح أبواب الجنة يقول أحمد أمين عن القرآن
الكريم
وقد أمل حتى طمأن فقال قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعًا وفى الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ماكان من العمل والآيات التالية خير بيان لما قدم
منه
وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا للظَّالِمينَ نَارًا أَحَاطَ بهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَانُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى
۱ المحاسبيى كتاب الرعاية الحقوق الله والقيام بها
آية ٥٣ من سورة الزمر

الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ١
۳۳
إن يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلَّى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغلى في الْبُطُونِ كَعَلِيُّ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُق إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا کنتم بِهِ تمترُونَ إِن المتقينَ فِي مَقَامِ أمين في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذِلكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأولى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العظيم ٢
وفي القرآن غير الآيات السابقة الكثير الذي لا يقل عنها وعدًا
ووعيدا
ولقد اتبع الصوفية - ونخص بالذكر منهم المحاسبي – المنهج القرآني في الدعوة وسوف نعرض فيما بعد لهذا الموضوع تفصيلا ونكتفى هنا بإثبات أن هذا المنهج قد أتى بخير الثمار فى جذب القلوب إلى الإيمان كان الناس في فجر الإسلام تنبض صدورهم بالتقوى وخشية الله وبالأمل في الدنيا والآخرة ولا يعيرون دقائق المسائل الفلسفية اهتماماً
يذكر
لم يكن يخطر في بالهم أن يتساءلوا عندما يتأملون في الله تعالى كيف
أو لماذا
1 الكهف آية ۹
آية ٤٠ - ٥٧ من سورة الدخان

كانت عقيدتهم البسيطة تتلخص فى خشية الله وتقواه وفى الأمل في رحمته وإذا ما جنح البعض إلى الخروج عن الطريق السوى كانت صلابة أبي بكر أو درة عمر كفيلة برده إلى الصواب
هذه البيئة الدينية برجالها الأشداء كانت وسوف تبقى أبدا المثل الأعلى للمجتمع الإسلامي ولن يمارى مسلم قط في أن خير العهود وأعمها برا وتقوى كانت زمن النبي والخلفاء الأول
عرضنا ما تقدم لنبرز ما طرأ على الإسلام في أعقاب فجره هذا من تيارات عاصرها المحاسبي تيارات كانت من الأسباب الأولى لرد الفعل الصوفي الذي ازداد تحمسًا بازدياد تأثيراتها على الفكر الإسلامي ومجتمع
المسلمين
ولعل هذا يعيننا في إدراك ما أراده المحاسبى وما عمل من أجله وهو المفكر الذي احتل مكان صدارة بين الرعيل الأول من صوفية الإسلام

كان مولد المحاسبي في مغرب خلافة المهدى وهو من أوائل الخلفاء العباسيين وكان قد بلغ من العمر خمس سنوات عندما تولى الخلافة هارون الرشيد وكانت الأمة الإسلامية حينئذ غنية بالمفكرين البارعين وخاصة في رحاب العاصمة بغداد
نذكر منهم على سبيل المثال
مالك المتوفى سنة ١٧٩ هـ
وأبو يوسف المتوفى سنة ١٨٢ هـ
وابن الحسن المتوفى سنة ٢٠٤ هـ
والشافعي المتوفى سنة ٢٠٤ هـ في الشريعة

وتذكر منهم

العلاف المتوفى سنة ٢٢٦ هـ
والنظام المتوفى سنة ٢٣١ هـ
والجاحظ المتوفى سنة ٢٢٥ هـ في الإلهيات والأدب
وأبو نواس في الشعر
والكرخي والحافى وذو النون في التصوف
ولا ننسى عدو المعتزلة اللدود الإمام ابن حنبل المتوفى سنة ٢٤١ هـ ومجرد ذكر هذه الأسماء يكفي للدلالة على عمق الحياة الفكرية في هذه
الفترة
بصدد
وإننا لندهش عندما نتصفح كتاب الفهرست لكثرة الكتب التي ألفت أو ترجمت سواء أكنا بصدد الطب أم بصدد الفلك وسواء أكنا الدراسات المادية أم الروحية فإن الدراسات والبحوث تسير في حماس بالغ متواصل إننا نشير بذلك إلى الفوارق بين البيئة الدينية في هذا العصر الذي أخذ في الدراسة الدقيقة المعقدة فابتعد في جو العقيدة الإسلامية عن الروح السهلة التي سادت في بيئة فجر الإسلام
لم يهتم المحاسبي بالعلوم المادية أو العلوم البحتة التي ليس من ورائها تهذيب أو إصلاح للنفس ولم تدخل هذه العلوم في مجال تفكيره وتأملاته وإنما انشغل قلبه بكل ما كان من الأمور التى تتعلق بالبيئة الدينية فماذا كانت عليه تلك البيئة أو على الأصح ماذا كان في تلك البيئة من عوامل أثارت ثائرة الضمائر التقية وأنبتت هذا القدر الوافي من
المتصوفين

٣٦
لقد كانت بيئة بالغة التعقيد وذات مفارقات كثيرة لم تخل من مدعى الألوهية على غرار بابك الخراساني۱ الذي وصلت أصداء الجدل بين أنصاره ومؤيديه حتى بغداد
ولم تخل من الشيعة المتطرفين الذين يرفعون عليا إلى درجة الإله ومن الشيعة المعتدلين الذين – برغم اعتدالهم - يعتبرونه أرفع درجة من بنى البشر وأحق بالخلافة من الخلفاء الثلاثة الأول
وكانت تغص بالفرق الدينية إلى حد أحصيت معه بثلاث وسبعين
تطبيقا من مؤرخى الملل والنحل للحديث المعروف
والذي يهمنا على الأخص من كل هذا هو شأن الفريقين الدينيين الذين دخلا في جدل عنيف بالغ العنف وانقسمت الأمة من ورائها حزبين وانتهى الخلفاء أنفسهم إلى التدخل تأييدا لفريق منها أو للآخر وعلى سبيل المثال كان الخليفة المأمون نفسه يكتب ويبرهن ويقدم بأنصار الفريق الآخر في
الحجة دفاعًا
أحد الفريقين بينما يرمى عن
غياهب السجون
هؤلاء كانوا المعتزلة من ناحية وأهل الحديث من الناحية الأخرى وقد نسير إلى القول بأن هذا الخلاف يكاد يكون خلافا طبيعيا كل من يجد فى نفسه ميلا إلى الفلسفة والتفكير الخاص فهو معتزل وكل إنسان النصوص ولا يقبل التفكير الخاص فهو من أهل الحديث
محافظ يحترم
وكانت جماهير الأمة بطبيعة الحال في جانب أهل الحديث وبدأ الصراع في بداية عهد الخلفاء الأمويين ولكنه لم يبلغ ذروته إلا في
۱ الفهرست لابن النديم
٤٨٠ - ص
٤٨٣ ط القاهرة ١٣٤٨ هـ
ص

خلال الفترة التي عاشها المحاسبي عندما دخل فى حلبة المعركة عدو المعتزلة العنيد أحمد بن حنبل
وتاريخ الفريقين لا يهمنا هنا وكذلك عرض آرائها تفصيلا فسوف نتناول تلك الآراء فى الفصول الخاصة بالنظرية الدينية ولكننا نريد على الأخص إيضاح التعارض بين هذه البيئة التي عاش فيها المحاسبي وبين بيئة عصر الإسلام الأول ولقد رأينا كيف بلغت تقوى الله وبساطة العقيدة أرفع الدرجات لدى المسلمين الأول وكيف وصلت الروح الدينية إلى القمة في بيئتهم ولا غرو
أن كانت تلك البيئة غاية رجاء الضمائر المتدينة
---
على العكس من ذلك في عصر المحاسبي – اندفع المعتزلة إلى النظريات المجردة في الإلهيات وأرادوا - فيما زعموا – تصحيح مفهوم الإله وفي رأيهم أن المفهوم الديني لدى الجمهور مفهوم فاسد يجب تصحيحه وراحوا يعملون في سبيل هذا الرأى واستخدموا المنطق وكانوا أهل منطق يوناني مجيدين وتحمسوا لفكرة التطهير فلم يتورعوا عن إثبات النتائج العجيبة لمنطقهم هذا وادعوا أنها غاية الفكر الرفيع وإن بدت لجماهير الأمة ولأهل الحديث وللمتصوفين تناقضات وبدعا وكفرًا كانت بعض هذه النتائج تقول
إن خالقية الله قد انتهت إلى حد لا يقدر أن يخلق شيئًا آخر
وكانت تقول
إن العبد قادر على أشياء لا يقدر الله عليها
وتقول يجب على الله أن يعمل لعبده ما هو خير له ۱
۱ اعتقادات فرق المسلمين لفخر الدين الرازي ط القاهرة سنة ١٩٣٨
ص ٤١
11

۳۸
والقول بمثل ذلك - والقائلون به من قادة الفكر - كان أمرًا لا يقبله ضمير ديني مشبع بخشية الله وتقواه خاصة وأن الأمر لم يقتصر على تلك المقولات عن الجالية
فالإله في تصوير المعتزلة ليس له من صفات إنه لا يمكن أن يُرى ولا يمكن أن يلمس وهو ليس إلى أعلى وليس إلى أدنى وليس في اليمين ولا في اليسار وليس له يد أو عين
ولقد صاح رجل من الناس عند سماعه لهذه النظريات على لسان أحد
المعتزلة
لعل هؤلاء أن يزعموا بعد ذلك أن لا إله في السماء

وهذا الرجل - ولا شك كان يعبر عن مكنون رأى جماهير الأمة وبعدما انتهى المعتزلة في هذا الشأن إلى تطهير مفهوم الله بزعمهم بحماسهم إلى مجال آخر إلى أصحاب النبي هؤلاء الذين قال عنهم
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
اندفعوا
هؤلاء الصفوة الذين يوليهم الجميع أرفع مقامات الاحترام والذين تروى في مناقبهم أحاديث لا تحصى ولا تعد سواء منها الصحيح أو المؤلف
عن طيب قصد
فماذا فعل بهم المعتزلة
لقد اندفعوا في الهجوم عليهم وانتقاد أعمالهم والتهجم على سيرتهم وكان هذا العمل – في حد ذاته - غاية في الإثارة فما باله وهو طرف من أطراف عديدة في نسيج أعم وأشمل
وكان أيضًا – في حد ذاته

كافيًا لإثارة إنسان بلغ من رقة الإحساس
ما بلغه المحاسبي الذي كان يخشى الله ويتقيه ويحبه والذي كان يقول عن

۳۹
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنهم سرج الأرض ومصابيحها وزهرة الدنيا وزينتها المقدمون بالفضل على خواص الأمم السالفة والسابقون غدًا بالطاعة في الآخرة خلف الأنبياء عليهم السلام وأئمة الحق وحملة العلم ومعادن الحكمة ومناهل التقوى والقوام بأركان الدين وشرائعه الذين بين الله وجل فضلهم بباطن الحكمة على لسان نبيه فقال عز وجل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَرَاهُمْ ركعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ

عز
السجود ۱ وقال تعالى ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَن اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٢ وقال عز وجل ﴿لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة ۳
فمدح أصحاب رسول الله في مواضع كثيرة من كتابه وهم أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء عليهم السلام وأعمالهم أفضل الأعمال وأشرفها ومقاماتهم أرفع المقامات وأعلاها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم
خير أمتى أولها
وقال
مد
أحدهم ولا نصيفه
خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
۱ آية ٢٩ من سورة الفتح ٢ آية ٦٤ من سورة الأنفال ۳ آية ۱۸ من سورة الفتح

وقال
إن الله اختار أصحابي على جميع
وقال
الأمم
خير الناس القرن الذين بعثت فيهم
وهذا يكثر فى السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا ما كان يذكره المحاسبى عن الصحابة مضيفا إليه أن الأحاديث في شأنهم كثيرة وكان يشهد لأحدهم - وهو أبو بكر – بأنه أدى الأمانة التي حملها بمثل ما أدى الأنبياء أماناتهم
وفي الجانب الآخر كان أهل الحديث أهل اتباع محافظون يسيرون

على نهج التفسير الذي يكاد يكون حرفيًا للنصوص – ولا يستطيعون وذلك في رأى الصوفية على الأقل النفاذ إلى الروح العميقة للكلمة الإلهية وللحديث النبوى فلا يرون منها سوى الثوب الخارجي رغم
حماسهم البالغ وصلابتهم

كان هناك – إذن – فى جانب فريق ينزع إلى الفلسفة بل يغالى في التفلسف وفي الجانب الآخر فريق النصيين وعلى الفريقين ثارت الضمائر الدينية الرقيقة ومنها نشأ كل هؤلاء الصوفية فى ذلك العصر وكان المحاسبي من الأمعهم ولسوف نجد في البيئة الاجتماعية والبيئة الدينية اللتين عاش فيهما المحاسبي سبباً آخر لازدهار التصوف ولكن علينا قبل ذلك أن نزيل شيئًا من اللبس الذي قد ينشأ من حديثنا السابق ذلك أننا جعلنا الصوفية في موقف الاستقلال تجاه أهل الحديث
وهناك بعض العلماء يقرب بين الاتجاهين - والواقع أن الصوفية أقرب

٤١
في كثير إلى أهل الحديث منهم إلى المعتزلة وإننا لنجد بين صفوف الصوفية بعض المحدثين وتفرقتنا إذن إنما هى بين الصوفية والمحدثين الشكليين أو من يسمون بالحشويين ذلك أن ميولهما كانت متعارضة مثلما يتعارض أهل الشكل وأهل الروح ومثلما يتعارض المتشددون وأهل الرفق واللين فالصوفية - على النقيض من أهل الحديث الشكليين - يستطيعون بما أوتوا من إدراك عميق لأسرار القلوب أن يتفهموها وينفذوا إلى عللها ويجدوا لها المعاذير وكلمة الحلاج عند قتله معروفة ولا زالت خير البرهان على ذلك اغفر لهم - وبالإضافة إلى ذلك فإن أهل الحديث الحشويين كانوا أعداء الصوفية عبر التاريخ يقول الأستاذ ماسينيون متحدثًا عن المحاسبي ومنذ عام ٢٣٢ هـ - ٨٤٦م اضطر إلى التوقف عن التدريس بسبب رد الفعل العنيف الذي كان يحرم كل اتصال بعلم الكلام ولو جاء الأمر من رجال مثل المحاسبي لم يلجئوا لأساليب المعتزلة في المنطق والجدل إلا ليقاوموهم
به
من
أما السبب الآخر فى نشأة الكثير من المتصوفة فهو ما نسميه هنا الصراع - الصراع العنيد من أجل السيطرة السياسية والدينية أو أجل القضاء على العقبات التي تحول دون الملذات تلك التي وحدت تربتها الخصبة مع الفتوحات الجديدة أما في المجال السياسي فقد كان الصراع بين الفرس والعرب يريد فيه كل فريق أن يكون له اليد العليا في أمور الدولة واحتدمت بسببه المؤامرات والدسائس في بلاط الخلفاء
كذلك كان هناك صراع الشيعة للقضاء على الخلافة القائمة نفسها وهو
صراع صامت خفى ولكنه بالغ النشاط

٤٢
وأما في المجال الديني فالأموف أكثر تعقيدا
كان المعتزلة يريدون السيطرة وكان أهل السنة يريدون السيطرة وكان الخوارج يريدون السيطرة كما كانت كل العقائد الدينية – التي بدت وكأن الإسلام قضى عليها - تتزين في أثواب جديدة وتصبو هي الأخرى إلى العودة للحياة
كل ذلك كان يغلى فى مرجل المناقشة والخصام والجدل وانتهزت مختلف الفرق كل فرصة مواتية وجرت الخليفة نفسه إلى التدخل في فتنها وكان من العسير على الخليفة نفسه أن يفرض رأيه بل كثيرا ما كان عاجزا عن ذلك العنف المعارضة وصلابتها
الأفضل
ومن
وكانت هناك أيضًا طرفا فى الصراع الشعوبية ونظرياتها تدور حول أفضلية الأجناس أو الشعوب من الأكفأ العرب أم اللاعرب ۱
في هذا الموضوع كتبت الفصول والدراسات المطولة واشترك الأدباء والشعراء في الجدل يشجعهم على ذلك الأمراء والقادة ولعل الجدل الذي بحثنا أكثر يهم من غيره كان هذا الذي دار بين هؤلاء الذين تعرفوا على رخاء الحياة الجديدة بعد الفتوحات فانغمسوا في ملذاتها وأغرقوا فيها وبين أصحاب الزهد والخلق الصلب الذين هبوا
المقاومتهم فقد كان هناك شعراء على شيء كثير من المجون - أمثال أبي نواس - يحبون الحياة بملذاتها الدنيوية وحولهم تلتف حاشية من أناس كرهوا التزمت - فيما زعموا - والتشدد في الأخلاق ولكنهم بسبب
۱ أحمد أمين ضحى الإسلام جـا ص ٤٩ فما بعدها ط القاهرة ١٩٣٣

٤٣

مراكزهم الاجتماعية لم يستطيعوا الكشف عن حقيقة نفوسهم لذلك عاونوا وأيدوا الشعراء سرًا وشاركوا من ورائهم في الخلفاء في المعركة ضد صلابة المتكلمين والفقهاء ولا أدل من ديوان أبي نواس على مجون الشعراء - وعلى خصوبة خيالهم فيما يتعلق بالملذات وكذلك على تنوع أساليبهم في الهجوم على الفقهاء فهو يقول مبتدئا إحدى
قصائده
عنك لومي فإن اللوم إغراء دع
وداوني بالتي كانت
هي
الداء
وكانت هذه الصراعات الشاملة للسيطرة في المجال السياسي أو الديني ثم تلك الحرب الضروس بين أهل المادة وأهل الروح سببا في نشأة كثير من النزعات الصوفية أو في إحيائها
كان رد الفعل الصوفى فى هذه البيئة نشيطا غاية في النشاط وكان الندوات والخطب والكتب بالإضافة إلى القدوة العملية وسيلة الصوفية إلى بلوغ الهدف
ولكن ما هو هذا الهدف
لقد كان هدفهم أن يعيدوا المسلمين إلى حظيرة الإيمان الصحيح إن محمدا هدى الوثنيين وجعل منهم أهل دين ورفع إلى أسمى الدرجات قيمهم الأخلاقية وبعث فيهم الإيمان بمثل التقوى الخالصة وكان مجتمع المسلمين في عهده المثل الأعلى ولكن هذا المثل الأعلى شابته الشوائب من بعده ووجب إنقاذه وإعادة بهائه إليه بمثل ما كان له في سابق الزمان وهذا ما أراده أهل التصوف إعادة المسلمين التائهين إلى الإيمان وإلى أصول دينهم القويم

35
تلك هي
الأمانة التي ابتغوها لأنفسهم وتلك هي الغاية التي جاهد من
أجلها المحاسبي
ولقد حضر ابن حنبل نفسه إحدى الندوات التى كان يتحدث فيها هذا
الصوفي حضرها متخفيا
أنه ویروی انفعل الحديثه بالبكاء واهتزت له
۱
مشاعره حتى إنه فقد الوعى
وكان المنهج الذي اتبعه المحاسبى فى تآليفه لتحقيق غايته منهجًا مزدوجًا امتثالاً بالقرآن الترهيب و الترغيب ومؤلفه كتاب التوهم مشبع بمذهبه هذا يصور فيه فى قوة العقاب الشديد الذي ينتظر أهل الشر في هذه الدنيا ولكنه في مقابل ذلك يبدع في ذكر ما خصص في الجنة من نعيم للخيرين وهذا المنهج القرآنى الخصب أتى أيضًا بثماره الوافرة عند لجوء المحاسبي إليه فكانت كتبه - على حد تعبير معاصريه عبرة ٢ ولكنه في منهجه لم يقتصر على الترهيب والترغيب بل إنه ليبدع في إنشاء أساليب الشفاء والوقاية للنفس الإنسانية في سعيه إلى
الله
كتب
يرضاه
تطهير القلوب من كل أنماط النفاق والرذيلة من كل ما هو شر لا وإلى تحصين المؤمن ضد خبائث النفس وسبلها الملتوية وإلى الكشف عن منابع الشر وكيف يتردى فيه الإنسان وإلى البحث عن الوسيلة لاتقائه إن أمكن أو للخلاص منه والنجاة
ولن يدرك القارئ مدى نفاذ بصيرته اللماحة ومدى معرفته بخبايا النفوس إلا بالإطلاع على مؤلفيه كتاب الرعاية لحقوق الله والقيام بها و كتاب بدء من أناب إلى الله تعالى

۱ تاریخ بغداد جـ ٨ ص ۱۱ - ۱۸ ط القاهرة ابن الجوزي تلبيس إبليس ص ١٦٦ ط القاهرة سنة ١٩٢٨

وبعد
أن عرضنا فيما سبق للبيئة التي عاش فيها المحاسبي نود هنا أن
نتأمل شيئا في شخصيته وحياته
أما
عن
حياته الخارجية فلا نعرف عنها - للأسف شيئًا كثيرا
وطفولته وشبابه فترتان مجهولتان
من خلال
وأما عن الرجل فى نضجه شيخًا وكهلاً فلم تصلنا سوى نوادر قليلة ولكن شخصيته رغم النقص الظاهر فى الوثائق بشأنها تبرز لنا هذه النوادر وتشف من ثنايا تعاليمه إن أمعنا فيها النظر وشخصية الرجل ساطعة مسيطرة فهو صاحب عبقرية خلاقة وهو رجل أصول١ وهو إنسان صريح بالغ الصراحة ومخلص عميق الإخلاص
ولنرو فى هذا المقام بعض النوادر التي تتعلق به
كان الجنيد مثال الصوفى التقى المحافظ المتحرز وكان يميل إلى حياة العزلة بعيدا عن ضوضاء المجتمع فزاره المحاسبي يوما ودعاه إلى السير معه وبعض الرفاق فى الصحراء فكره الجنيد الدعوة خشية الاتصال بالناس والسير معهم ولكن المحاسبي انطلق به غصبا وقال له كم تقول لى أنسى في عزلتي لو أن نصف الخلق تقربوا منى ما وجدت ولو أن النصف الآخر نأى عنى ما استوحشت لبعدهم"

بهم
أنساء
وكان المحاسبي شديد الحاجة فاجتاز بالجنيد يوما وهو جالس على بابه قال الجنيد فرأيت في وجهه زيادة الضر من الجوع فقلت له يا عم لو دخلت إلينا نلت من شيء عندنا فقال أو تفعل قلت نعم وتسرنى بذلك وتبرنى فدخلت بين يديه ودخل معى وعمدت إلى بيت عمى وكان ص ط القاهرة
1 أبو نعيم الأصفهاني حلية الأولياء جـ ١
۱۹۳۸ - ۱۹۳
حلية الأولياء جـ ١٠ ص ۷ ط القاهرة

أوسع من بيتنا لا يخلو من أطعمة فاخرة لا يكون مثلها في بيتنا سريعا فجئت بأنواع كثيرة من الطعام فوضعته بين يديه فمد يده وأخذ لقمة فرفعها إلى فيه فرأيته يلوكها ولا يزدردها فخرج وما كلمنى فلما كان الغد لقيته فقلت ياعم سررتني ثم نغصت على فقال يا بني أما الفاقة فكانت شديدة وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي قدمته إلى ولكن بيني وبين الله علامة اإذا لم يكن عند الله مرضيا ارتفع إلى أنفى منه فورة فلم تقبله نفسی فقد رميت بتلك اللقمة في دهليزكم وخرجت
هنا
ودعا المحاسبي تلاميذه يوما إلى بيته وكان عنده عصفور يصفر أحيانا صفيرا حادا ودخل أحد التلاميذ فبعث العصفور بصفيره الحاد فانزعج التلميذ وصرخ وعندئذ قام المحاسبى وتناول سكينا وسار إلى التلميذ يريد ضربه به وتدخل التلاميذ الآخرون وهدءوا من ثائرة أستاذهم۱
ولكن على ماذا كان غضب الأستاذ وثورته
لقد ظن إذ خاف التلميذ من صفير العصفور أنه ممن يؤمن بمذهب الحلول وأراد بقتله في الحال أن يقضى على الكافر
الحلول
إنه المذهب الذى لا يمكن السكوت عليه
إنه المذهب الذي يثير لدى المحاسبي رد فعل فورى بالغ العنف وهذه

في جلاء - مدى إحساسه المرهف بكل ما يتعلق
النادرة الأخيرة تبين
بأمور الدين كما تبرز سرعة تأثره

فيما
بكل ما أو يشهد يسمع

من
1 الهجويري كشف المحجوب ص ۱۸ - ۱۸۳ من ترجمة نيكولسون ط
لیدن سنة ١٩١١

٤٧
شأنه أن يجرح معتقداته الدينية المتأصلة وكذلك مصارعته دائما إلى الرد
العملي الحاسم

وكان المحاسبي أيضًا صاحب عبقرية نابهة
إنه أول من
أنشأ ونظم ما يمكن أن نطلق عليه علاج النفس أو العلاج النفسانى للشر وإنه لأستاذ في هذا المجال ومعرفته العميقة لأسباب وآثار ووسائل علاج الرذائل التي تنتهي إلى ارتكاب الذنوب قد تدعونا إلى الظن بأن المحاسبي في شبابه صارع مثلها وتغلب عليها ولما بلغ ما بلغ في العمر والتقوى تحدث عنها عن تجربة وإدراك شخصى للعوامل النفسية كيف تثور وكيف يمكن للإنسان أن يتغلب عليها بعون الله
أن دون
يقع فيها
ولكن شيئًا
من هذا لم يثبت لدينا ولو أن الأمر كان هكذا لانتهز أعداؤه هذه الفرصة المواتية للتهجم عليه ولكنهم لم يفعلوا ولم يجدوا إلى النيل منه في سيرته وأخلاقه سبيلا
وإنا لنضطر إلى القول بأن بصيرة المحاسبى النفاذة – فيما يتعلق بخبايا النفوس البشرية - هي السبب الحقيقى لكل هذه الألمعية في تناول
موضوعاتها
وكان الحسن البصرى قد لمس فى بعض مؤلفاته مجال النفس البشرية ولكن ما قاله عنها لا يمكن وصفه بأكثر من أفكار مشتتة لا وحدة أو
اتصال يذكر بينها
وكما يقول الأستاذ ريتر وهو على حق

٤٨
إن المحاسبي في الواقع هو منشئ مبادئ التحكم الأخلاقي المنظم في الذات في إطار التقوى الإسلامية

"
وتنسب أيضا إلى المحاسبى صفة أخرى أنه كان رجل الأصول يقول ذلك ابن خلكان ۳ ويحدد البغدادى تلك الأصول بأنها أصول الديانات ۳ ومن المعروف أنه إذا أطلقت كلمة الأصول فإنها تدل على البحث في علم الكلام بيد أن المحاسبي بسبب علاجه للأصول وتأليفه في علم الكلام قد اكتسب عقلية تنظم وتستوعب وتخرجنا من فوضى التفاصيل المشتتة إلى الأحكام العامة وهذه الأحكام قد تظهر عرضا في مناسبة ما عند بعض المفكرين ولا يكون لها من مغزى خاص ولكنها لدى المحاسبي وفيرة مواتية وتدل على عمق وشمول إدراكه للموضوع الذى يتناوله بالبحث وعلى معرفته التامة الدقيقة به وعلى أن النتائج التي يخلص إليها صادرة عن تفكير ناضج مترو نافذ ألمعى لذلك أصبحت هذه النتائج من بعده أحكاما أساسية

- عند أحد على حد علمنا
إنها أحكام عبقرية مبتكرة لانجدها سواه ولنضرب بعض الأمثلة تدعيا وتوضيحا لما نقول
wec
الفرض أمور معلومة فى الإسلام وواجبات المسلم قد حددت في
غير ما غموض
فالفرض ليس فيه من متشابهات أما النفل فهو شيء عام وليس
۱ هلموت ريتر الإسلام جـ ۱ ص ۳
ابن خلكان وفيات الأعيان طبعة بولاق سنة ١٢٧٥ هـ ۳ الخطيب البغدادی تاریخ بغداد جـ ۸ ص ۱۱ - ۱۸

هناك إجماع تام فيما يتعلق بما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم نفلا أو بمدى حثه
المسلمين على هذا
بيد أن المحاسبي يحسم المسألة بطريقة قاطعة جذرية فيقول كل فرض مقرون بنفل والنفل أنشئ أساسا لكمال الفرض وإن إثبات مثل هذا الحكم يقتضى دراسة شاملة للديانة الإسلامية ومعرفة بها في كل تفاصيلها تدعو إلى الإعجاب وقد أثبته المحاسبي في قضية طال فيها الجدل حول الجوع وسوف نعود إليها في الفصل الخاص بالزهد من هذا الكتاب
۱
وإلى القارئ مثال آخر بشأن تفكير المحاسبي المشبع بإرادة التقنين ثار الجدل حول مسألة ما يؤذن للمؤمن بسماعه في غير إثم فحسم المحاسبى الجدل إذ رجع بالقضية إلى قضية أخرى أكثر وضوحا فقال ما لا يؤذن لك بقوله فلا يؤذن لك أيضا بسماعه وهكذا وفي غير ما إسهاب أو إملال قضى على النميمة والغيبة وغيرهما من المحرمات صراحة في القول وختامًا لحديثنا في هذا الشأن نسوق حكما أخيرا للمحاسبي إذ يقول واجعل لنفسك غاية من كل عمل تحب فيه أن تلاقى الله

وكنية المحاسبي لم تعلق بالحارث عشواء بل إنها الكنية التي تشير في وضوح إلى الطريق الفكرى لهذا الإنسان المخلص العميق الإخلاص وإخلاصه - في رأينا - من أبرز جوانب شخصيته ولهذا نتوقف عنده
قليلا
۱ المحاسبى كتاب المسائل في الزهد مخطوط جار الله ص ١٥

وكيف لا يكون المحاسبي مخلصًا
أحبا في المال أو الجاه الدنيوى إننا نعلم يقينا أنه رغم فقره قد رفض
میراثا لا يستهان به من أبيه لأسباب دينية رآها
أم حماية لنفسه من الاضطهاد
لقد حورب في عنف عنيف ولم يتنازل عن
آرائه
ولقد اضطهد سنوات طوال وحرم من التدريس في الفترة الأخيرة من
حياته
لا إن المحاسبي كان يخشى الله ولا يعرف النفاق وأسلوبه في الحديث إلى القلوب أقوى برهان على ما نقول
ويتحدث المحاسبي فى كتبه عن الإخلاص ويؤكد ضرورته للإنسان باعتباره أساس كل خير وفى رأيه أن لا ثواب عند الله لعمل لم يصدر عن
نية خالصة
أما الرياء الذي يعرض له فى فصول مطولة من كتابه الرعاية فالحاسبى يرجف منه ويقبحه ويعمل بكل وسيلة وبكل قواه على القضاء عليه في المجتمع وهو دائم الترديد في كتاباته الحديث
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه وكذلك الحديث
عن عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ
۱ السمعانى كتاب الأنصاب ص ۰۹ طبعة لندن ۱۹۱۹ رواه البخاري ومسلم


طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر
السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى
ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه قال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا
قال صدقت
قال فعجبناله يسأله ويصدقه
قال فأخبرني عن الإيمان
قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن
بالقدر خيره وشره
قال صدقت
قال فأخبرني عن الإحسان
قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
قال فأخبرني عن الساعة
قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن أمارتها
قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء
يتطاولون في البنيان
قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لى
یا عمر
أتدرى
من السائل
قلت الله ورسوله أعلم

قال جبريل أتاكم يعلمكم دينكم۱
والمحاسبي يعتبر الصدق وسيلة إلى مرضاة الله ولنذكر هنا بعضا من
أحاديثه الوفيرة في هذا الشأن
علامة الرجل الذي أدرك إرادة الله
أن نيته خير من عمله عمله خير من كلامه وهو دائم التأمل في
الله ۳
اعلم أن الحكيم الذي رسخت عقيدته يرعى في الصدق مجانبة غضب
تحريف الدين من انحراف القلوب ٤
ولا حاجة بنا - فيما نظن

إلى تأكيد إخلاص المحاسبي أكثر مما
فعلنا فإخلاصه واضح للعيان ساطع فى كل مؤلفاته وفى كل أعماله

وقد تغرى بعض الدراسات الصوفية السطحية بالمقارنة والقرن بين المحاسبي والغزالي والنظر إلى الثانى منهما على أنه تأثر بالأول تأثرا فائقًا فعلى غرار كتاب الوصايا للمحاسبي ألف الغزالي كتابه الرائع المنقذ
من
الضلال
والواقع أن الغزالي يقدر المحاسبى حق قدره وقد قرأ كتبه وهو يستشهد بالكثير من نصوصها فى مؤلفه إحياء علوم الدين غير أن
۱ رواه الإمام مسلم في صحيحه
المحاسبى رسالة المسترشدين ص ٢٤ ۳ المحاسبى رسالة المسترشدين ص ٢٤ ٤ المحاسبى رسالة المسترشدين ص ٢٥
<

٥٣
الغزالي قرأ ودرس أيضًا مؤلفات متصوفين آخرين أمثال أبي طالب المكي
"
والجنيد والشبلى والبسطامى۱ والمسائل المتصلة بين المتصوفين كثيرة وقد تلتقى عبقرية الغزالي في طريق البحث والإنشاء مع فكر المحاسبى النابه أما فيما يتعلق بكتابي الوصايا والمنقذ فميل المفكرين إلى التأريخ لحياتهم الشخصية ميل طبيعي يرتبط بفطرة حب البقاء والرغبة في تخليد النفس
لطيف
أما فيما يتعلق بشخصيتهما فالغزالي والمحاسبي مختلفان إنه لا يمكننا تصور الغزالى إلا أشعريا صوفيا أو شاعرا عاطفيًا إنه إنسان وديع رقيق الإحساس متردد بعض التردد احتاج إلى ستة أشهر ليتخذ قرار الرحيل عن بيئته وإن رسخ اليقين لديه بوجوب ذلك ثم لم يرحل إلا حين اضطر إلى الرحيل اضطرارًا وتردد كثيرا في الإفصاح للناس عن نيته الحقيقية في هجرة بغداد حيث كان يقيم وتعلل بالسفر إلى مكة بينما كان غرضه الشام٢ وعلى العكس من ذلك كان المحاسبى مثال الثورى والقائد المطاع كان رجل الانفعال المفاجىء والقرار الحاسم والروح المسيطرة القوية المراسي فلما حملته مقاديره إلى التصوف لم يثبت أن نفذ فيه إلى مصاف الزعامة الأولى ومع كل ذلك فإنه لا يمكن إنكار أثر المحاسبي في الغزالي والغزالى نفسه يعترف بذلك ولا ينكره
ومهما كان بين الصوفية من اختلاف فى كثير من النواحي فإن وجوه التشابه بينهم كثيرة ومن هنا كان بين الغزالى والمحاسبي اختلاف وتشابه وهذا طبيعي
۱ الغزالى المنقذ من الضلال ص ۱۱ ص ۱۳ طبعة دمشق سنة ١٩٣٤
الغزالي المنقذ من الضلال ص ١٢٦ - ص

٥٤
التأثيرات الأجنبية
ثبت لدينا يقينا من قراءة مؤلفات المحاسبى أنه كان ذا ثقافة عربية إسلامية خالصة ولا تقل هذه الثقافة فى أصالتها العربية الإسلامية عما
كانت عليه ثقافة ابن حنبل مثلاً
بأي تأثيرات أجنبية
قط

وهو الذي يتهم على حد علمنا
ونذكر بادئ ذي بدء أن المحاسبي عربي أصيل

ثم إنه يبنى أحكامه على الدوام على كتاب الله وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم
وكان شعاره شعار الحسن
إن أردت أن تعرف نفسك فاختبرها بالقرآن
كان هذا الشعار في قلبه على الدوام يعلنه ويردده ويستوحيه ويطبقه كان على معرفة عميقة بالقرآن يتلوه ويرجع إليه في كل حين يسترشد به ويحتكم إليه ومع ذلك فقد ظن بعض الذين كتبوا عن المحاسبي أنه وقع تحت تأثير تيارات فكرية وأجنبية مسيحية على وجه الخصوص ويعبر بروكلمان عن ذلك بقوله أول نموذج أدبى معروف لدينا في التصوف من النزعة المسيحية القديمة
إلى الزهد يتمثل في أبي عبد الله الحارث بن
أسد المحاسبي
۱
"
ويستشهد أوتوسنبيس من ناحيته بكتاب المستشرق نيكولسون
تراث الإسلام فيقول
۱ بروکلمان تاريخ الأدب العربي جـ ١ ۱۹۸ طبعة ۸۹۸

والأستاذ نيكولسون يقدر لكتاب الرعاية رقته وأفكاره المبتكرة ولكنه يقرر أن المحاسبى فى هذا الكتاب يستمد الكثير من المصادر
اليهودية والمسيحية في سبيل الهداية ١
وتؤمن الأستاذة مارجاريت سميث أيضا بذلك٢ كما يؤمن به الدكتور زكي مبارك ۳ الذى أثار رأيه اهتمامنا باعتباره رأى عربي في عربي ولكن تبين لنا أن زكى مبارك لم يدرس المحاسبي إلا من خلال بعض النصوص التي وردت في مؤلفات الغزالي
ونريد هنا أن نفصل القول فى هذه القضية التي أثيرت حول المحاسبي وهي قضية تتعلق عامة بالتأثيرات الأجنبية في التصوف الإسلامي وعلماء المستشرقين لم يتفقوا على مصدر هذه التأثيرات الأجنبية وإن
قالوا إنها كانت السبب الرئيسي في نشأة التصوف الإسلامي بعضهم يرى غلبة التأثير الفارسي والبعض الآخر يضع المسيحية في الصف الأول من المؤثرات وهناك من يقول بسبق الأثر الهندى وعلى الأخص منه أثر البوذية
ولا يخلو الأمر
الإسلامي
من دعاة الزعم بنفوذ الأفلاطونية الجديدة إلى التصوف
إلى آخر النظريات الكثيرة المعروضة أمامنا في هذا المجال ولكن ما هي حقيقة الأمر وما هو مصدر التصوف الإسلامي لا نريد هنا مناقشة النظريات المذكورة فذلك عمل يخرج عن نطاق
۸۳
ص
٢٨٦
۱ أوتوسبيس إسلاميات جـ ٦ ص مارجاريت سميث صوفى من أوائل الصوفية فى بغداد ص ٦٠ ص ۸ ۳ زكي مبارك التصوف الإسلامي جـ ٢ ص ۱۷۷ ص ۱۷۹
00

٥٦
دراستنا ولكننا نود أن نذكر في هذا المقام بما أثبته الأستاذ ماسينيون في قوة ومستندًا إلى البراهين اللغوية والتاريخية الفاصلة من أن التصوف الإسلامي نشأ أساسا من التأمل في القرآن۱
أما فيما يتعلق بالمحاسبي بالذات فقد تأملنا طويلا في السبب أو الأسباب التي يمكن أن تكون قد حملت الذين تعرضوا له إلى القول بوقوع تأثير مسيحى عليه
لم يثبت لدينا أنه عاشر المسيحيين بصفة خاصة لم يعاشرهم على أى
حال أكثر مما عاشرهم رجال من أمثال الإمام بن حنبل ولم يثبت لدينا أنه درس الأناجيل بصفة خاصة فهو في ذكره لها إنما يورد النصوص التي جاء بها سابقوه من الكتاب المسلمين وعندما يتحدث
عن المسيح بطريقة مباشرة فإنما يستمد حديثه من القرآن والإمام أحمد بن حنبل في مؤلف واحد من مؤلفاته هو كتاب الزهد يجمع من كلمات المسيح أكثر مما اجتمع في كتب المحاسبي كلها وقد أورد ابن حنبل بين دفتر المؤلف المذكور فصلا في نصائح المسيح وفصلا آخر في حكمة المسيح وثالثا في زهد المسيح ومن الأمور ذات المغزى أن الأحاديث المنسوبة إلى المسيح في الزهد
أقل رفعة وقوة من تلك الواردة من مصادر عربية خالصة والمقارنة في كتاب ابن حنبل بين الفصول التي تعتمد على أحاديث عربية خالصة وبين تلك التي تعتمد على مصادر مسيحية دراسة تفيد الكثير في هذا المجال
۱ لويس ماسينيون دراسة فى أصول المصطلحات الفنية للتصوف الإسلامي
طبعة باريس سنة ١٩٢٢

۵۷
وقد رأينا أن السبب فى القول بالتأثير المسيحي لدى المحاسبي أسبابا
ثلاثة هي
- 1

قضية الكسب الحلال
كلمة حكماء التى كثيرًا ما يستخدمها المحاسبي
الأمثال والمواعظ المسيحية كحكاية باذر الحبوب
أما قضية الكسب الحلال فسوف نتناولها تفصيلا فيها بعد ونكتفى الآن بالقول بأن الصوفي أيا كان وفى أى بيئة وجد يستلهم على الدوام في كل خطاه حبه الله ويوقن على الدوام بأن كل ما في هذه الدنيا إلى زوال وفى إحساس الصوفي المخلص عداوة طبيعية دائما لكل ما هو جاه مادى
أو غنى دنيوى والصوفى يثور بطبعه على كل ما يرى فيه عقبة – مباشرة أو غير
مباشرة - تعوقه عن الاتصال بالله
إنه يكره العوامل التى تلهيه عن التأمل فى ذات المعبود وحياته يجب أن تكرس كلها وعلى الدوام للعبادة والصوفي لا يطلب – أو على الأصح
يجب

أن لا يطلب ويكبح جماح شهواته ليتحرر من كل طمع فى الدنيا فيخلو إلى الله
هذه الدنيا بل عليه أن يقهر نفسه لنفسه شيئا من
لذلك نرى أنه من طبع الصوفى مجانبة القيم المادية لهذه الحياة الدنيا وأخصها بالذكر السعي الحثيث إلى المال وليس هذا فيما نعتقد - بالأمر المقصور على المسيحيين وهو ما يدعونا إلى القول بأن القضية المذكورة ليست دليلا يعتمد عليه أو يؤخذ به
ومسألة الحكماء تتسم بشيء من الغموض وقد يرى البعض أن الفلاسفة أو المسيحيين ويتناول الأستاذ ريتر مثلا هذه القضية
الكلمة
تعنى

ол
1
فيقصرها على معنى معين ويلغى من معانى الكلمة الكثير وإننا لا نرى هذا الرأي والسبب ساطع الوضوح فالقرآن يحدثنا عن الحكماء في آيات كثيرة مثل قوله تعالى
وَيُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
وَمَا يَذْكُرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ ٢
وقوله سبحانه وتعالى
ورَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٣
وقوله سبحانه وتعالى
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يعظُكُمْ بهِ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 4
وغيرها
٤
ومترجمو معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية يقابلون كلمة الحكمة بلفظ عام لا يترجمها على وجه الدقة وعلى أي حال فهذه الكلمة لا تعنى ما يقصد بالحكمة الفلسفية سواء منها المفهوم الرواقي أو
غيره
وإذا جمعنا آيات القرآن التي فيها ذكر للحكمة فسوف يتضح لنا أن المقصود معنى خاص هو المعرفة الدينية الصادرة عن العناية الربانية
۱ هلموت ريتر مخطوطات الحارث بن أسد المحاسبي ص ٥
سورة البقرة ٢٦٩
۳ ۱۹ من سورة البقرة
٤ ٢٣١ من سورة البقرة

۵۹
ولقد أدرك المفسرون ذلك وصرح به بعضهم وهذا في رأينا هو المعنى الحقيقي للحكمة في القرآن
ولكن ماذا كان يقصد المحاسبى منها وهو القائل عن القرآن

أنه يحوى تفسير وعلم كل شيء ويجب استذكاره ليل نهار
والعمل على تفهمه وتطبيقه ۱
ونريد أن ننبه القارئ إلى مسائل ثلاث نرى ضرورة عرضها في هذا
المقام
الأول أن المحاسبى ألف كتابًا في أخلاق الحكيم والكتاب للأسف ضائع ولكن المحاسبى يخبر في موضع آخر أنه عرض فيه تفصيلا لنية ارتكاب الذنوب وهل هذه النية ذنب أم لا
وفى هذا الكتاب المخصص للتعريف بالحكيم يحكم المحاسبي في القضية بجلاء ووضوح حسب المفاهيم الإسلامية ونحن على يقين من أنه في وصفه لأخلاق الحكيم ودراستها وتحليلها أو في عرضه لها مثالاً لكمال الشخصية الخالية من شوائب الشر لم يستمد بحثه من خلال أوصاف حكماء المسيحية أو الفلاسفة وإنما وكان هذا أمرا طبيعيا وجد صفات الحكيم في

القرآن ووجد مثاله في النبي والصحابة

والثانية أن المحاسبى فى كتابه المسائل في أعمال القلوب والجوارح يعرض القضية هل الكلام خير من السكوت فيذكر رأى زيد ومفاده أن الكلام خير ثم يضيف قال حكيم عن رأى زيد إن زيدا عرف أن
۱ المحاسبي كتاب أدب النفوس ص ۹۰ مخطوط جار الله المحاسبي كتاب المسائل في أعمال القلوب والجوارح ص ۹ مخطوط جار الله

كثرة الكلام ضرر ولكن ضررها أقل من ضرر السكوت۱ فهل ناقش المسيحيون والفلاسفة آراء زيد وهل وصلت أصداء
نقاشهم حتى المحاسبي إننا نشك في ذلك كثيرًا والمسألة الثالثة أن المحاسبى يقول في مناسبة أخرى إذا نوى رجل عمل خير أثابه الله حسنة واحدة إن لم يتمه فإن أتمه
أثابه الله عشر حسنات وهذا ما يقول به بعض الحكماء والأمر هنا يتعلق بمسألة محددة في الإسلام وفي رأينا أن المحاسبي لم يكن ليصدر في معالجتها عن آراء فيلسوف أو مسیحی هذا بالإضافة إلى أن كلمة حسنة الواردة هنا كلمة إسلامية خالصة
وإنا لنتساءل بعد ذلك ماذا كان يعنى المحاسبي بكلمة حكماء إنه يروى فى بداية كتاب الوصايا كيف وجد القوم الذين يهتدى بهم بعد طول
معاناة وقلق
قوم رأيت فيهم علامات التقوى وغنى النفس يرعون حقوق الله ويفضلون الحياة الأخرى على الحياة الدنيا
ويواصل المحاسبى سرد فضائل هؤلاء القوم والذي يعنينا هنا أنهم كانوا من المسلمين وإن لم يذكر أسماءهم كما أنه لم يورد أسانيد الأحاديث
المروية في كتابه
بيد أن هؤلاء القوم كانوا هداة له فيما يتعلق بأمور الدين الإسلامي وحصيلة تعاليمهم - التي ضمنها كتاب الوصايا - حصيلة إسلامية خالصة ويقول المحاسبي
۱ المحاسبي كتاب المسائل في أعمال القلوب والجوارح ص۱۳ مخطوط
جار الله
المحاسبي الزهد ص ۱۳

٦١
إن القوم المذكورين كانت تهديهم المعرفة الصادرة عن العناية الربانية
في أمور الدين وقد ذكرنا فيما سبق أن هذا هو المعنى القرآني لكلمة حكمة فهل هؤلاء هم الذين يعنيهم المحاسبي بالحكماء إننا لا نقطع بذلك ولكننا نريد هنا فقط أن نبطل حجة القائلين بأن الحكماء ليسوا سوى المسيحيين أو الفلاسفة وعلى أي حال فإن كلمة حكمة بمعنى المعرفة الصادرة عن العناية الربانية يستخدمها المحاسبي في كتاب الرعاية كما يذكر في هذا الكتاب حديثا للحسن البصرى يعطى للكلمة نفس المعنى
ولو سلمنا بأن من بين الناس الذين تعنيهم كلمة حكماء بعض
المسيحيين فهل يفرض هذا أن المحاسبي قد تأثر بالمسيحية إنه أمر لا نقره فالأحاديث التي ينسبها إلى الحكماء إما إسلامية خالصة أو هي حاملة لمغزى عام مستخدم فى البيئة الإسلامية والبيئة المسيحية على حد سواء
وقد يعمد البعض أمثال الأستاذة مارجريت سميث ۱ إلى التعلل في هذا الصدد باستخدام المحاسبى للأمثال والمواعظ مستندين بالذات إلى حكاية باذر الحبوب
ولكن هذه القصة في الواقع لا تدل على اتجاه بعينه بل إنها تروى عبرة شائعة ذاعت فى سائر الأمم وبالإضافة إلى ذلك فإن المحاسبي لم يوردها إلا توضيحا لآرائه
إنه لا يتخذ قط الأمثال أساسًا للرأى وإنما يذكرها لمحض التفصيل
والإيضاح
۱ مارجاریت سمیت صوفى من أوائل صوفية بغداد ص ۸۳

وكل الأمثال التي ترد لديه فهو قد استمدها من مسلمين آخرين فأسباب القول بالتأثير المسيحى على الصوفي الذي يعنينا ليست إذن بالأسباب المقنعة لذلك نعتقد أنه لا مناص من تأكيد ما سبق أن عرضناه بشأن ثقافة المحاسبي من أنها كانت ثقافة عربية إسلامية خالصة ونضيف إلى ما تقدم أن من الأمور ذات المغزى أن المحاسبي لا يرى في المسيحيين غير قوم ضلوا عن سبيل الله ۱ ثم هو – مع تقديره الرفيع للمسيح نبيا أنه لم يبلغ من مراتب السمو الروحي أعلاها معتمداً
- يرى
في ذلك على الحديث التالي لو أن إيمان عيسى كان أقوى لطار فى السماء بدلاً من أن يمشى على
الماء

ومع ذلك كان صاحبنا محل نقد عنيف وقد اضطر في أواخر حياته أن
يتوقف عن التدريس
ونثبت هنا أولاً أن الانتقادات التى وجهت إليه لم تتعرض في شيء إلى
إخلاصه ثم إنها لا تحمل أى اتهام له بالخروج عن الدين وإنا لنرى في هذه الانتقادات تشريفا للمحاسبي ولا أدل على ذلك من
تلخيصها وهي
أساسا
من شقين
الأول منهما القول بأن منهج المحاسبى في علاج النفس يعتبر نوعا من الاستحداث لأشياء لم يتناولها سابقوه أمثال مالك أو الثورى وهذا النقد - إجمالاً للقول - لا يثبت إلا أنه كان ذا عبقرية مبتكرة ألمعية ٢
۱ المحاسبي مختصر كتاب فهم الصلاح ص ٥٤ مخطوط جار الله ۱ ابن الجوزي تلبيس إبليس ص ١٦٦ ط القاهرة سنة ١٩٢٨

٦٣
والثاني وكان ابن حنبل على رأس المنتقدين للمحاسبي في هذا نوجزه في أن المحاسبي في دفاعه عن العقيدة وحربه على الذين يعتبرهم من الخارجين على الدين استخدم نفس أساليب المتكلمين في
الصدد
الجدل

وموضوع النقد في نظر منتقديه أعدائه قبل أن يشرع في هدمها وكان الرأى عندهم أن عرض آراء هؤلاء القوم الخارجين على الدين - ولو من أجل تيسير إبطال حججهم - أمر غير مقبول۱ وهذه الانتقادات في الواقع مردها إلى حماس المحاسبى وإخلاصه اللذين دفعا به إلى عرض الآراء الخارجة قبل كل شيء ليحاج أصحابها في غير ما تجن أو
أنه عنى في كتاباته بأن يعرض نظريات
تضليل
المنقذ
۱ ابن الجوزي تلبيس إبليس ص ١٦٧ ط القاهرة ۱۹۸ وكذلك الغزالي
من الضلال ص ۱۰۹

الأبحاث الخاصة بالمحاسبي
كتبه وترتيبها التاريخي
يقول الهجویری مؤلف كشف المحجوب إن المحاسبى زعيم إحدى الطرق الصوفية الاثنى عشر وأنه مفكر ذا
قدر كبير
ورغم ذلك فالمحاسبى لم يثر اهتمام المستشرقين بشكل ملحوظ ولهم العذر في ذلك فأهدافهم لا تتفق مع دراسته إذ هو على طرف نقيض من نظرياتهم حول أصول التصوف الإسلامى ولما كانت التأثيرات الأجنبية بعيدة عنه كل البعد برزت لديه وتجلت فى صورة ملفتة الثقافة العربية القرآنية الإسلامية
لذلك رأوا تجنبه وإبقاءه فى الظلام وإن بذل الأستاذ ماسينيون بعض الجهود المشكورة لبيان فضله وقدره
ومن الأمور ذات الدلالة الواضحة فى هذا الصدد أن الأستاذ نيكولسون ألف أربع كتب في الإسلام والعرب ۱ منهم ثلاثة في التصوف والرابع في تاريخ الأدب العربي - وهذا الأخير يتناول أيضًا التصوف في مناسبتين منه - ولم يذكر مرة واحدة اسم المحاسبي وهو يعرض له في
۱ نيكولسون صوفية الإسلام - دراسات فى التصوف الإسلامي - فكرة الشخصية في
التصوف

تاريخ أدبى للعرب

کتاب خاص تراث الإسلام ولكن في سطور مختصرة للغاية والمستشرقون عامة لا يتحدثون عن المحاسبي سوى عرض يتحدثون عنه في كلمات سريعة لا تعتمد على دراسة مطولة أو براهين قوية ومفادها أن نزعته الصوفية كانت على الأخص متأثرة بالمسيحية يقولون هذا وينتقلون إلى مواضيع أخرى وكأنهم يهربون من المحاسبي لأنهم يشعرون في مكنون سرهم أن الإفاضة في دراسته تبطل
حجتهم
وكان للأستاذ ماسينيون - قبل غيره من المستشرقين - الفضل الحقيقي في التعريف بالمحاسبي لقد عرض له في مواضع كثيرة من كتابه مأساة الحلاج ثم خصه بقدر كبير من البحث في كتابه دراسات في أصول المصطلحات الفنية للتصوف الإسلامي
وفي عام ١٩٣٥ نشرت الأستاذة مارجريت سميت كتابا شاملا عن المحاسبي أفدنا كثيرًا من قراءته حيث أنها قامت بأبحاث واسعة في مختلف مكاتب المخطوطات وانتهت إلى اكتشاف وثائق هامة الصوفي أدت إلى اتجاهات جديدة نحو مصادر الدراسات الخاصة به
عن
هذا
وقد عرضنا - وسوف نعرض فيما يلى من بحثنا لبعض الأفكار والآراء التي بنت عليها مؤلفها ونشر الأستاذ أوتوسبيس ورقات ثلاث من مخطوطة من كتاب
للمحاسبي اكتشفت في المكتبة الشرقية لبانكيبور بالهند ۱ كما أصدر الأستاذ هلموت ريتر كتيبا من ثلاث عشرة صفحة يتضمن
1 أوتوسبيس في دراسات إسلامية الجزء السادس ص ٢٨٣ - ٢٨٦

٦٦
مخطوطًا آخر له وجد بمكتبة إستامبول وعنوانه كتاب بدء من أناب إلى
الله تعالى
أما الأستاذ آرثر آربري فقد حقق و نشر کتاب التوهم للمحاسبى
هذا مجمل ما قام به المستشرقون مندرارات فيما يتعلق بالمحاسبي وهو ليس بالكثير إن قورن بإنتاجهم الأدبى والعلمى الهائل بشأن ابن عربي
مثلا
وقبل أن ننتقل إلى بيان مؤلفات المحاسبي ونتناولها بالتحليل مع ترتيبها ترتيباً تاريخياً وموضوعيًا نريد أن نعرض الملاحظات التالية بشأن بعض هذه المؤلفات

نسب إلى المحاسبي كتاب البعث والنشور ۱ ونحن على يقين
أنه ليس للمحاسبى وذلك للأسباب الآتية من
أ لقد ألف المحاسبي في نفس الموضوع كتابه الرائع المشوق التوهم وليس من المعقول أن يكون قد سطر إلى جانبه مؤلفا في مثل هزال كتاب البعث والنشور المنسوب إليه
ب كتاب التوهم يعمد إلى وصف القيامة والحساب والجحيم والجزاء المخيف المخصص لمن عصى الله ثم يأخذ فى بيان السعادة التي تنتظر في الجنة كل من رعى حقوق الله وبعد ذلك يأخذ بيد القارئ في رفق وتمهل ليسير في موكب الأطهار إلى مشهد الصفاء مشهد الذات الإلهية التي بها وحدها تكمل السعادة ٢
أما في كتاب البعث والنشور المنسوب إليه فترتيب الأحداث مختلف
۱ مخطوط بمكتبة باريس
لويس ماسينيوس دراسات ص۳

٦٧
وغير منطقى والحديث عن رؤية الذات الإلهية يأتي في الفصول الوسطى منه وكان الأولى أن يكون وصف هذه المرتبة الأسمى من السعادة في
خاتمته

و جهنم
جـ وأخيرا فالكتاب بالغ الهزال يدعو إلى السخرية فيه من الخرافات عن المسلمين ما لا يصدقه عقل عاقل وبالتالي لا يجرؤ على تسطیره رجل رشید جبريل يبكي على أمة محمد تعطف عليها ومالك حارس الجحيم يسأل عن أخبارها ولا ندري كيف تتحمل لهيب النار لا ! ليس ذلك من فكر وعمل المحاسبي وهو ما يدعونا إلى الجزم بأن كتاب البعث والنشور لم يصدر عنه وبأن نسبته إليه محض تجن وافتراء
- يذكر الأستاذ ريتر في بحثه الذي أشرنا إليه سابقا أن كتاب النصائح منسوب إلى المحاسبي و أن أمر هذه النسبة يحتاج إلى مزيد من
الدراسة
ولقوله سببان قد يدعوان للشك في نسبة المخطوط إلى المحاسبي الأول منهما أن بالصحيفة للمخطوط أمر يسترعى الانتباه إذ نقرأ فيها أن جلساء المحاسبى قالوا له عندما رأوه سكت عن الحديث يا أخانا - وأنت البر بإخوانه - لقد اجتهدت في النصح لنا وقولك الصدق ثم طلبوا إليه أن يزيدهم من حديثه وأن يفصل لهم ما تجب معرفته لتطهير إيمانهم عندئذ قال لهم عبد الله إلخ
والأمر الذي يسترعى الانتباه هنا هو ذكر المحاسبي في سياق الحديث مما يدعو إلى الظن بأن الكتاب صدر عن أحد تلاميذ المحاسبي ممن حضر جلسته وسجل مختصرًا لحديثه

٦٨
ولكننا نعلم أن المحاسبي دأب على كتابة ما كان يلقيه من دروس محتفظًا فيها بالأسئلة التى تلقى إليه وبأجوبته عليها وليس أسلوب الحوار هذا بفريد أو مستغرب في مؤلفاته
والسبب الثاني الذي قد يشكك في نسبة كتاب النصائح إلى أن به هجوما على ابن عوف الذي كان من صفوة أصحاب
المحاسبي
النبي
ومثل هذا الهجوم من رجل مثل المحاسبي يحترم ويحب هؤلاء الصحابة في عمق وإخلاص أمر عجب ولسوف نتحدث فيما بعد عن تفصيل هذا الهجوم ومبرراته ولكن الشك فى نسبة المؤلف إلى المحاسبي لهذا السبب يتلاشى سريعا إذ نجد أن الغزالي أيضا وهو يحترم ويحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمق وإخلاص یورد رد ذكر هذا الهجوم بالذات على ابن عوف في كتابه الإحياء ۱

إنه يورده ويوافق عليه ويمتدح له المحاسبي في حماس وكان الغزالي حجة في النقد الفلسفي وإذا هو امتدح المحاسبي لفصل من كتاب النصائح فقد أثبت نسية الكتاب إليه وهذا في رأينا فصل الخطاب في القضية ولكننا نحب أن نضيف ما يلى
إن ذكر المحاسبي لنفسه فى مؤلفاته أمر جرى عليه أسلوبه في النقاش والعرض وله أمثله كثيرة غير الذي ذكرناه

- إن الأفكار التي يعبر عنها في كتاب النصائح لا تخرج عن الإطار المعروف لاتجاهاته
٣ - وقد تفضل الأستاذ ماسينيون باطلاعنا على بضع ورقات من
۱ الغزالى الإحياء ص ۹ ط الحلبي ١٣٤٦هـ

9
مخطوط كتاب فهم القرآن ۱ جمع فيها المحاسبي آيات من القرآن تتعلق بموضوع يبحث فيه وهو يفسر ويشرح الآيات التي يراها أكثر مطابقة لأحاديث النبى ثم يأخذ في شرح الآيات الأخرى التي قد تبدو لأول وهلة غير مطابقة والتي قد يرى فيها مجادلوه حجة لهم
إنه في الواقع بحث في الإلهيات
٤ - في النصوص الخاصة بمؤلفات المحاسبى نجد ذكر الكتاب له بعنوان كتاب الكف عما سخر بين الصحابة ولكننا لا نرى معنى لكلمة سخر ونعتقد أنه يجب قراءتها شَجَر ليستقيم المعنى
ویروى السمعانى نقلاً عن ابن شدهان أن المحاسبي ألف كتاباً يقال له كتاب الدماء وأنه يشرح فيه كيف أن الدماء التي سالت بين أصحاب النبي لم تضر بوحدة العقيدة للأمة الإسلامية ويروى ابن شدهان -
أيضا - أنه وإخوان له اعتمدوا على كتاب المحاسبي هذا
وإنا لنرى - كما ترى الأستاذة مارجاريت سميت۳ أن كتاب الكف عما شجر بين الصحابة و كتاب الدماء المذكوران ليسا في الواقع سوى مؤلف واحد من مؤلفات المحاسبى رغم اختلاف عنوانيها وتدل تسمية الكتاب في الحالين على أنه يعرض للخلافات التي ثارت بين الصحابة في الفترة الأخيرة من عهد عثمان وأدت إلى قتله ثم إلى النزاع بين على من ناحية وبين عائشة ومعاوية من ناحية أخرى
۱ ذكره المحاسبي في فصل من كتاب العظمة المخطوط ص ۷
٥٣٩
السمعانى كتاب الأنصاب ص ۳ حوفى من أوائل صوفية بغداد ص ٥٨

وكانت هذه الخلافات في عصر المحاسبى موضوع نقد مرير وعلى الأخص من جانب المعتزلة الذين ألقوا باللوم على أصحاب النبي ويمكن التعرف على موقف المحاسبي بالنسبة إلى هذه القضية من خلال مؤلفاته الأخرى إذ لا شك فى أنه أراد تبرئة ذمة الصحابة وتطهيرهم من كل
ذنب
فهو يقول - مثلا - عن الذين يتهجمون على عائشة أم المؤمنين إنهم قوم ضلوا۱
وهو يثور لعثمان ثالث الخلفاء ويذكر نقلا عن أبي قلابة أن قتلة عثمان إنما قتلوه غيرة ٢
ويكرر العبارة في نفس الصحيفة دونما داع حقيقي إليها في المعنى ثم هو يروى بعد ذلك في نفس الكتاب نقلا عن قائل لم يذكر اسمه مارجوت شرا لعثمان إلا وقع على الشر ولو رجوت قتله لقتلت أنا ۳ وكان المحاسبى لا يذكر عليا إلا على أنه من أصحاب النبي ذوى الفضل الكبير
وقد رأينا فيما سبق كيف كان تقديره للصحابة عامة ه - يروى ابن الحاج٤ أن المحاسبي في كتابه رسالة الإرشاد يقول إن الغناء حرم على المسلم كتحريم أكل الدابة الميتة التي لم تذبح
ذبعًا شرعيا
ولقد استنتجنا من هذا أن رسالة الإرشاد المذكورة هي نفس كتاب
1 الرعاية ص ۱۱۱
الرعاية ص ١٤٠
۳ الرعاية ص ١٤٥
٤ المدخل ص ٢٦٦ ط القاهرة

۷۱
المسترشد المعروف للمحاسبى وأعدنا قراءة الكتاب الأخير فوجدنا تأكيدا لاستنتاجنا من نص الكلمات بذاتها التي استشهد بها ابن
فيه
الحاج
٦ - نشر الأستاذ أوتوسبيس ۱ الورقات الثلاث الأخيرة المتبقية من مخطوط بعنوان كتاب الصبر والرضا للمحاسبي ويقول الناشر بشأنها
لم أجد في المصادر المتاحة لى أى ذكر لكتاب الصبر والرضا هذا ونحن نعتقد أن الكتاب المذكور لم يكن يحمل هذا العنوان وإنما سمى أصلا بـ كتاب الرضا ولما كان البحث في الصبر مقرونا بالبحث في الرضا فالأرجح أن العنوان قد حرف يدلنا على ذلك أن المحاسبي في كتابه المسائل في أعمال القلوب والجوارح ص ۱۳۸ يقول
إنه ألف كتاب الرضا ولا نعقل أن يكون كتابا آخر في الصبر والرضا

بعد ذلك

قد ألف
وبعد الملاحظات التمهيدية السابقة بشأن مؤلفات المحاسبي نورد فيها
يلى لمحات موجزة لما وصلنا إليه منها
١ - كتاب الرعاية لحقوق الله والقيام بها
تساءلنا يوما لو فقدت سائر مؤلفات المحاسبي – باستثناء الرعاية فهل يكفينا هذا الكتاب دليلا على فكر مؤلفه
۱ دراسات إسلامية جـ ٦ ص ٢٨٣ - ٢٨٦

۷
المحاسبي
وكاد الجواب على هذا التساؤل أن يكون بالإيجاب فالواقع أن كتاب الرعاية يحتوى على الخطوط العريضة لكتب المسماة بـ التوهم و الزهد و المكاسب و بدء من أناب إلى الله وهو يحتوى على كتابيه المسائل في أعمال القلوب و آداب النفوس ليس فقط في خطوطها العريضة ولكن في بسط أكثر تنظيا وأكمل منطقاً
ثم هو يحتوى أيضًا على جوهر الآراء التي عبر عنها في كتاب الوصايا يحتويها مع زيادة في الحرص على تحديد المعاني وترتيبها
ومن خلال هذا المؤلف وحده يمكننا التعرف على المحاسبي في علوم الدين وعلى المحاسبي في الأخلاق وعلى المحاسبي في معرفة النفس الإنسانية
ولو فقدت الرعاية لأمكننا التعرف من كتبه الأخرى على المحاسبي في مجال النظريات الأخلاقية بيد أن هذه الكتب الأخرى لن تغنينا شيئًا كثيرا في تحديد وإيضاح قدر المحاسبي كمستكشف لأسرار النفس الإنسانية ومعالج لها
لقد كتب المحاسبى مؤلفه هذا مبتغيا هدفًا جوهريا هو أن يبين
للإنسان ما يجب عليه اتباعًا وتنفيذا لإرادة الله ولكنه لم ينفذ إلى هذا الموضوع مباشرة وإنما اعتقد أن الإنسان يحتاج بادئ ذي بدء إلى نصائح رشيدة قبل السير به إلى الغاية المرجوة نصائح
يتفتح لها قلبه وينطلق عقله واعيا للحديث
لهذا يقدم لكتابه بنصائح فى حسن الاستماع ثم يعرض موضوعه

وهو
لا شارحًا مفسرا ولكن مبينا ضرورة إخضاع الإنسان نفسه لإرادة الله الأمر الذي ينبع من التقوى ويؤدى بالإنسان إلى القيام بما أمره الله به ومجانبة ما نهاه عنه وما أمر الله به من معروف وكذلك ما نهى عنه والمحاسبي في الرعاية لم يحاول حصر وسرد الواجبات والمحرمات وإنما اهتم قبل كل شيء بـ المنهج الذى ينهجه الإنسان في تطبيقه للأوامر والنواهي عمليا بإخلاص وتطهر
وللوصول إلى هذه الغاية التى يلاحظ المحاسبي أن الناس يبتعدون عنها شيئا فشيئا على توالى الأيام وفى كل مكان فهو يرسم لهم طريق التوبة وما يتبعها من عودة الإنسان إلى الله
يكون
وعندما يصل الإنسان إلى مدارج التوبة وينوى مخلصا الطاعة لله مع ذلك في صراع دائم مع ما يمكن أن نسميه بـ عناصر الشر التي قد تضله في غفلة منه عن سواء السبيل فهذه العناصر دائمة اليقظة وهي دائمة التلمس لفريستها في الإنسان الضعيف بطبعه
ويرى المحاسبي أن عنصرى الشر هما النفس عنصرا داخلياء و إبليس العنصر الخارجى الذى ينفذ من النفس إلى الإنسان ليوحى له بالشر والمحاسبى يحذر منهما ويبين شدة مكرهما ولا يكتفى بذلك بل يحذر الإنسان من عوامل الضلال مثل إخوان السوء أو مجتمعات الفساد رأى المحاسبي – لأن

في
ومعرفة عناصر وعوامل الشر لا تكفى تجعل الإنسان أهلا للقيام بالعمل كما ينبغى له لذلك فهو يعرض الأساس الذي بدونه لا يثاب المرء على عمل ذلك الأساس هو الإخلاص ومقابلة للإخلاص فو يتحدث أيضًا تفصيلاً عن الشيء الذي يلغى ألا
وهو الرياء

والرياء فيما يحدثنا عنه لا يلغى العمل فحسب وإنما هو إلى جانب ذلك من أكبر ما ينقص البشر والمحاسبي يهتم بما ينقص البشر ويذكر منها أهمها وهي في نظره بعد
الرياء الكبر والعجب والغرة والحسد
ثم هو لا يكتفى بشرح العواقب الوخيمة لهذه السيئات وإنما يبين أسبابها وكيف يكون تجنبها والعلاج منها
وفي الفصل الأخير من الرعاية يرسم المحاسبي للإنسان برنامجاً يسير عليه فى الليل والنهار وينهى كتابه بالنصيحة التي يمكن استخلاصها
من الحديث التالي
ماذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب الرجل للمال
والشرف في دينه
هی
وهكذا فإن فرحة الرجل بتكريم الناس له لما يظهر من بره وتقواه
الخدعة الكبرى
ويتضح مما سبق أن المحاسبى اهتم في كتابه أكبر الاهتمام بمعرفة أسرار
القلوب
ويمكن القول بأن المحاسبى لم يسطره ألا لتطهير القلوب وتخليصها من الآفات وتحريرها من كل ما عدا الله أو من كل ما يعوقها عنه تعالى وختاما لهذا الموجز عن الرعاية نعود إلى ذكر الأستاذ ماسينيون في تقديره لها إذ قال بعد ذكر قوت القلوب للمكى و الإحياء للغزالي
تعريب
ولكن أيا منها لم يصل إلى ما وصل إليه المحاسبي في تسلسل
أحوال النفوس وفي منهج علم النفس التجريبي۱
۱ لويس ماسينيون دراسات ص ٢١٦

- كتاب الوصايا ۱
Yo
أنه
جدير
يتكون هذا المخطوط من ٥٦ ورقة وهو من بعد الرعاية أضخم مؤلفات المحاسبي الموجود بين أيدينا أما من ناحية قيمته الأدبية فلا نرى بأن يوضع فى الصف الأول من كتبه والعنصر النفيس فيه أن المحاسبي يعرض لمحات من حياته ويشف عن حيرته وقلقه خلال بحثه عن الطريق الذى ينبغى عليه اتباعه ثم هو يتضمن نقدًا عنيفا لاذعا للغنى عامة وغنى ابن عوف بالذات ولكنه مع ذلك نقد مشوش يفتقر إلى المنطق وبراهينه ظلت ضعيفة رغم اجتهاده وقد لوحظت بعض في هذا الجزء من الكتاب
ومن
التناقضات
الأمور ذات المغزى الواضح أن أحاديث كثيرة يعتمد عليها في هذا المقام لیست بذات سند قوی ولا تعد من مجموع الأحاديث الصحيحة
وقد خصص المؤلف قرابة الثلث الأول من الكتاب للموضوعات السابقة وينتقل بعدها مباشرة إلى مسألة التقشف في الحياة مقابلا بها الفصول الخاصة بالغنى
وهذا الموضوع بطبيعة الحال فرصة مواتية لهجوم مجدد على الغنى لم تكن لتفوت صاحبنا ثم هو يتحدث عن الإسراف اذى ينهى الله عنه في مختلف أشكاله وعن البخل فيقول
إن البخيل بعيد عن الجنة
وينصح بالاقتصاد فى مخالطة الناس فهى مصدر لارتكاب الذنوب
۱ مخطوط بالمتحف البريطاني رقم ۷۹۰۰ وطبع حديثا بالقاهرة

إلا من تعاونوا بالمخالطة على البر والتقوى
حظه
وفصول الوصايا تتوالى بعد ذلك فيوصى المحاسبي بأن يأخذ المرء من المتاع الحلال وأن يحذر إبليس وأن يتجنب آفات القلوب مثل الكبر والعجب وأن يتأمل فى حقوق الله ويرعاها وأن لا ينساق في الجدل أو يتهور في البحث في قضايا الإلهيات التي بعثت الفتنة بين المسلمين وأن الأحاديث التي تصل العبد بالله وأن يجتهد في أداء ما يرضى الله وأن يلزم نفسه بالصلاة في مواقيتها وبالصوم والحج وأن يطهر نيته ويجتنب ارتكاب الذنوب ويدعو الله سرا ويتفكر في كتابه على الدوام ويتخلص من المال الحرام
يبتغى

وبعد ذلك يعود المحاسبي للمرة الثالثة مما يدعو الدهشة - إلى حديث الغنى لا للهجوم والنقد ولكن لبيان جوانب الحرام منه ويذكر في هذا الصدد قول أحد الصحابة
إذا كان الكسب حلالاً فالعمل طاهر ۱
والفصل مبحث فى نفس القضية وفى حقوق الله في المال ووجوب
الإنفاق في سبيل الله
ويختم الكتاب بحديث الشكر الواجب الله ويوصى بأن يكون العمل
خالصا لوجهه لا ابتغاء الثناء والتكريم
- كتاب أدب النفوس ٢

وهو مخطوط يبحث فى نفس مباحث الرعاية وتحليل الجوانب
١ ص ٣٤ من مخطوط الوصايا مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ١١٠١
liven

۷۷
النفسية فيه أقل عمقًا وإن كان ينزع إلى التصوف بصورة أوضح من
الرعاية
٤ - كتاب المكاسب والورع والشبهات۱
وهذا المخطوط من المؤلفات الأساسية للمحاسبي لقد كتبه في فترة متأخرة من عمره
لذلك فهو يعكس آراءه فى القضايا الكبرى بعد طول اختمار لها في
فكرة
قضية الكسب الذي لا يرفضه إن كان حلالاً
وقضية الورع
ثم قضية الشبهات
وأهمية الكتاب الخاصة ترجع إلى ما يظهر فيه من معرفة صاحبه الواسعة لآراء الغير وإدراكه التام لها بحيث يجلى لنا ما بينها من دقائق
الخلاف
إنه يذكر فيه أربع مرات الإمام أحمد بن حنبل وهذا دليل إخلاص المحاسبي وصفاء نفسه فهو قد اختلف ابن حنبل ولكنه مع مع ذلك ينظر إليه نظرة المقدر لأهمية آرائه ويبرز لنا المحاسبي أيضًا في هذا الكتاب قلق أهل التقوى في عصره بالنسبة إلى ما هو حلال وإلى ما هو حرام أو متشابه
۱ مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ١١٠١

VA
ه - كتاب ماهية العقل ومعناه ۱
يبحث هذا الكتاب في جوهر العقل ويشرح ماهيته ووظائفه وفائدته وقد نشر أخيرًا فى لبنان تحقيق الدكتور حسين القوتلي
- كتاب المسائل في أعمال القلوب والجوارح ويبحث في القضايا الخاصة ببعض مشاعر القلوب وبعض أعمال الجوارح ولا توجد وحدة بين المسائل التي يتناولها
إنه يعرض لعمل الخير ابتغاء مساعدة الغير وإسعادهم ويعرض لعمل الخير سرا ولأثر الملبس وغيره في التفريق بين الناس ولتقوى الله ولوسائل تطهير العمل وللنوافل وللتفويض ولمعرفة ومراقبة النفس وللغرة ولنسيان الفروض أو المحرمات ولما هو حلال أو حرام في النظر إلى المرأة
وينتهى الكتاب بمسألة النذر الله وما يتصل به من أحكام
۷ - كتاب التوهم۳
وقد سبق أن تحدثنا عنه
- كتاب المسائل في الزهد ٤
قد يوهم عنوان الكتاب بأن المحاسبى خصصه للبحث في الزهد فقط
۱ مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ۱۱۰۱ مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ١١٠١ ۳ مخطوط بمكتبة أكسفورد رقم ٦١١ وطبع حديثا
٤ مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ١١٠١ وطبع حديثاً

وواقع الأمر أنه يبدأ بعرض مفهوم الزهد وأصوله وأسبابه ودوافعه ثم
يتطرق إلى الموضوعات التالية
القصد في الكلام
التأمل بأنواعه
ما يجب على العبد من الشكر الله
الفروض والنوافل
الفقر
إبليس ومكره وكيف يكون التخلص منه
الحسد والكبر وأسبابهها
المختلفة الصدق في صوره
الرياء ومظاهره
15
طاعة الله وكيف يعمل الإنسان لتقويتها وتطهيرها والعوامل التي
تقوضها مثل سوء رغبة النفس
ويبحث بعد ذلك في أفضل العبادات
وفى هذا المقام يخصص المحاسبي دراسة هامة لمسألة العطف على الفقراء ومساعدة من يحتاج إلى الرعاية ويقول إن الله في غنى عن عبادتك وتفضلها عنده مساعدتك للغير ثم ينتقل المؤلف إلى إسداء نصائحه النفسية للمعلم وللتلميذ ويعرض الصلاة ومكانتها وكيف تقام في مواقيتها وللنزوع إلى الشر أو إلى الخير والتعريف بها تعريفاً دقيقاً
ثم يعود إلى ذكر إبليس هل هو يعلم بعمل الإنسان مستقبلا أم لا هل هو يدعو إلى الخير أم لا

A
وفي نهاية الكتاب يأتى حديث الزهد للمرة الثانية تحقيقا لعنوان الكتاب فيخصص للحديث فصلا عن الزهد فيما يتعلق بالطعام
۹ - كتاب بدء من أناب إلى الله تعالى۱
وهو كتيب صغير الحجم نافذ الفكرة عميقها ويتناول بالبحث الطريق الذي يجب أن يسلكه للوصول إلى الحق هؤلاء الذين ارتكبوا الذنوب وقست قلوبهم لخلوها من التقوى وعصوا أمر الله كما يعرض للوسائل والمبادئ التي تعين على مقاومة النفس وتدفع بالإنسان إلى الصراط المستقيم
وميزة هذا الكتاب أن المؤلف يدرج فيه للنفس فصولاً غاية في الأهمية وهو يصورها وكأنها كائن مستقل ينزع بطبعه إلى الشر وفي مقابلة النفس تقف إنية الإنسان وهي التي تقلق وتضطرب لابتعاد النفس عن سبيل الله والمحاسبي هنا يعمل فى براعة باهرة على تحذير الإنسان من مكر النفس حتى تسيطر الأولى على الثانية فتجنبها عبث الحياة الدنيا وتعيدها إلى سبيل الله وهو الغاية العظمى
وقد صور
هذا الصراع بين الإنسان ونفسه في تعبيرات تبلغ أحيانًا
أقوى درجات التأثير
۱۰ - فصل من كتاب العظمة ٢
يختص هذا المخطوط بمسألة وحدة الله والله واحد ليس في الإمكان أن
يكون اثنين ولا ثلاثة
۱ مخطوط جار الله بمكتبة استامبول رقم ١١٠١ مخطوط جار الله بمكتبة إستامبول رقم ١١٠١

۸۱
وبراهين المؤلف على ذلك تعتمد على وحدة وتآلف الخلق وكل مخلوق له مكانه المعلوم وغرضه المعلوم
آخر
إن كل مخلوق يعتمد على مخلوق غيره وهذا المخلوق يعتمد بدوره على
فالعالم سلسلة وإن تكسرت إحدى حلقاتها تكسرت السلسلة وهو الدليل على أن خالق الخلق واحد وهذا هو البرهان المعتاد للمحاسبي في التدليل على وحدة الله والانسجام الذي يسود العالم جميعه سببه واحد وهو الله وما وقع من كوارث على الشعوب القديمة التي رفضت التوحيد هو البرهان في رأى المحاسبي على هذا التوحيد
۱۱ - مختصر كتاب فهم الصلاح
وهو مخطوط يبحث في شعائر الصلاة والإعداد الروحى لها من المؤمن حتى يحقق الغاية المطلوبة ألا وهى تقوى الله
۱ - كتاب في المراقبة
وهو مخطوط يتعلق بمسألة المراقبة وقد قسم المؤلف هذه المسألة إلى
بنود أربعة
i
فة الله معر
ب معرفة إبليس
۱ مخطوط جار الله بمكتبة إستاسبول رقم ١١٠١
ويسمى
أيضا بـ شرح المعرفة مخطوط القاهرة ت ا س ٣

۸
جـ معرفة النفس
د معرفة ما يجب عمله وكيف يكون الإخلاص في العمل ويعرض أيضًا للصفات العشر التى يتصف بها أهل المراقبة والتي يصلون بواسطتها إلى مدارج روحية عليا كما يتحدث عن النية وعن
التوبة
1-
۱۳ - كتاب إحكام التوبة
وهو يبحث في قضايا التوبة كما يدل على ذلك عنوانه وسوف نعرض
له تفصيلا فيما يلى من الفصول
١٤ - كتاب المسترشد
وهو كتاب يمكن وصفه بأنه مجموعة نصائح لا يكاد يرتبط بعضها بالبعض وتهدف إلى إنارة السبيل في مسائل الدين لمن يبتغى ذلك


كتاب العلم ٣
ويمكن أن نسميه بـ كتاب المعرفة
والمحاسبي يقسم هذه المعرفة إلى ثلاثة أقسام الم أ معرفة الحلال والحرام
ب معرفة ما يتعلق بالحياة الأخرى
۱ مخطوط القاهرة ت ا س ٣
مخطوط القاهرة ت أ س وطبع ببيروت طبعة أنيقة فاخرة تحقيق
عبد الفتاح أبو غدة
۳ مخطوط بمكتبة ميلانو رقم ٢ م ٤٦٠

جـ معرفة الله

والمؤلف يقسم المؤمنين أيضًا فريقين فريق ظاهره التقوى وهم عدم
وفريق الذين يسعون إلى التطهر من كل ذنب خفى والخلاصة التي يؤكدها أنه لا يمكن الجمع بين حب الحياة الدنيا ومحبة
الله فلابد من الاختيار
أما المحاسبي فقد اختار الله منذ البداية
١٦ - كتاب الصبر والرضا ۱
وهذا المخطوط يبحث فى أهم مبادىء الزهد الصبر على ما يكتبه الله والخضوع التام لإرادته وقد فقد هذا المخطوط فيما عدا الورقات الثلاثة
الأخيرة منه التي نشرت
۱۷ - المعرفة
وأوله ما استعان أحد على نفسه وإحراز دينه بمثل المراقبة شرح فيها المعرفة الله ولغيره وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر

رسالة في التصوف
بالمكتبة البلدية بالإسكندرية ضمن مجموعة هي الحادية عشرة منها
مؤلفات مفقودة
هناك كتب للمحاسبى لم يتبق منها شيء يذكر مثل
۱ مخطوط بالمكتبة الشرقية بمدينة بانكيبور رقم ١٠٥

ΛΕ
كتاب التنبيه الذى تحتفظ مكتبة إستامبول بربع ورقة مخطوطة منه
أما الكتب التالية فهي مفقودة بأكملها كتاب أخلاق الحكيم الذي ذكره المحاسبي في المسائل في أعمال القلوب والجوارح وكتاب الدماء الوارد ذكره في كتاب الأنصاب للسمعانى والذى تحدثنا عنه فيما سبق
وقد ذكر أبو على بن شاذان يوما كتاب الحارث في الدماء فقال على هذا الكتاب عول أصحابنا فى أمر الدماء التي جرت بين الصحابة وفي هذا الكتاب يتحدث المحاسبى عما وقع بين الصحابة من القتال وقد ذكره أبو على الفضل بن شاذان المتوفى سنة ٣٥٠ هـ فى كتابه الكف عما شجر بين الصحابة الذي قرأه الذهبى واقتبس منه اليافعي كثيرا عن ثروة ابن عوف في كتابيه روض الرياحين في مناقب الصالحين وكتاب نشر المحاسن الغالية جـ ٢ ص ۳۸ - ۳۸۳ و كتاب التفكر والاعتبار المشار إليه فى الفهرست لابن النديم
الترتيب التاريخي لمؤلفات المحاسبي

ترتيب مؤلفات المحاسبى ترتيباً تاريخيا أمر تعترضه عقبات كثيرة فالقدماء لم يذكروا شيئًا مما قد ينير السبيل في شأن هذا الترتيب والمستشرقون لم يحاولوا القيام به أصلا أما المؤلفات ذاتها فلا نجد فيها إشارات تعيننا أو تاريخاً يستدل منه على الفترة التي كتبت فيها ونحن نعرض هنا محاولتنا لوضع هيكل هذا الترتيب التاريخي وكان
النا
۱ تاريخ بغداد جـ ٨ ص ۱۱ وتهذيب التهذيب جـ ٢ ص ١٣٤ ١٣٦

--
هدفنا منها تفسير التناقض على الأصح التطور - في موقف المحاسبي الخاص بالكسب وإننا لنعترف بأنها محاولة مبدئية ولكن عذرنا في ذلك بأنها أول محاولة من نوعها بشأن كتب هذا الصوفى والفكرة الأولى التى أسسنا عليها هذا التصنيف تصدر من أ أن المحاسبي لم يولد صوفيا لقد تصوف على مراحل ميل إلى التصوف ثم نزعة صوفية تقوى شيئًا فشيئًا ثم الوصول إلى قمم التصوف بعد سنين طويلة يقول الأستاذ ماسينيون في هذا
يبدو أن المحاسبي تدرج في تكوينه على يد معلمين مختلفين ولم يتعلق لم يتحول إلى التصوف إلا في فترة
أنه بأحد منهم تعلقا خاصا كما يبدو متأخرة وتحت تأثير أزمة نفسية ١
ونحن نرى أن المحاسبى لم يتحول فجأة وبطريقة حاسمة إلى التصوف فكتبه لا تدل على شيء من هذا ولكننا نعتقد ذلك أنه لم مع
يرتفع إلى أعلى مدارج تصوفه إلا في فترة متأخرة وفي رأينا أن المحاسبي سار في بدء حياته كمؤلف على الأساليب
الشائعة لدى كتاب عصره ولم يخرج عنها في شيء كثير ورغم ظهور النزعة الصوفية لديه فى هذه السنين المبكرة فإن المؤلف يغلب عليه طابع الكتاب من علماء الدين وقد اتخذنا نموذجًا لكتب هذه المرحلة كتابه فهم القرآن وهو الذي يناقش فيه قضايا الدين
والإلهيات إنه كتاب جدل لا يفترق عن غيره من كتاب علماء عصره ويتقدم المحاسبي في مسالك التصوف ويتقدم في العمر فيصل إلى
1 لويس ماسينيون دراسات ص ۱

٨٦
مرحلة النضوج تلك التي يعتمد فيها الإنسان على حصيلة وافرة من التجارب وتشرف فيها قواه الفكرية على أوج قدراتها ويصل حينئذ إلى درجة عالية من التصوف اسمى - بكل تأكيد - مما اتصف به في بدء حياته الفكرية
ولكن الأمر الذي يميز الفترة الثانية هذه هو ما يبرز في مؤلفاته من مقدرة رائعة على التحليل النفسي
والنموذج الجلى لكتبه حينئذ هو الرعاية والتصوف فيه ليس بالشمول الذي نجده مثلا فى كتاب الوصايا ولكن براعته الفائقة في تحليل الآفاق التي تضل النفوس وقدرته الفكرية البالغة أرفع الدرجات في تناول هذه الآفات ودقة إدراكه لأسبابها وآثارها ووسائل علاجها كل ذلك لا يتأتى معا لرجل في مقتبل شبابه الفكرى أو في مرحلة كهولة القوى العقلية
وفى السنين الأخيرة من حياته يصل تصوف المحاسبي إلى أعلى قممه وتتسم مؤلفاته في هذه المرحلة بطابع الوصايا الصوفية الموجهة إلى هؤلاء الذين يسعون نحو السبيل السوى وهى لا تفتقر إلى التحليل النفسي بيد أن هذا التحليل يصبح وكأنه الصدى المؤلفات المرحلة السابقة رجع والنموذج الذي يمثل كتبه حينئذ هو الوصايا الذي يقصد في بدايته كيف وصل إلى الطريق المستقيم ثم يأخذ في النصح بما يجب عمله وبما يجب تجنبه للوصول إلى هذا الطريق والكتاب لا يوحى في تأليفه وأسلوبه بالكثير من الجهد المنظم
المتواصل
إن المحاسبي لا يعنى فيه حتى بإثبات أسانيد الأحاديث التي يرويها هل يكون ذلك لضعف في الذاكرة لديه أم لأنه أصبح هو المرجع الذى

لا نزاع فيه والذى لا ينازع يؤمن الناس بمجرد كلمته ويؤمن هو نفسه أن لا حاجة به إلى البحث عن الأسانيد وذكرها
مهما يكن من أمر فكتاب الوصايا أقل عمقًا من كتاب الرعاية
نرى إذن أن المحاسبي تدرج في مراحل ثلاثة
الأولى منها كانت تأليفه خلالها على نهج تأليف معاصريه
والثانية مرحلة التحليل النفسى الذى يبرز ويتطلب الجهد والتجربة
الفكر
ونضوج ثم أخيرا فترة التأمل الديني والصوفى ولم تخل أى من هذه المراحل من التصوف ولكن التصوف تدرج فيها بشكل واضح غاية الوضوح
ولا نقول بأنه كان هناك تحول مفاجئ جذرى من مرحلة إلى أخرى فلا شيء يدل على هذا في مؤلفات المحاسبي بل نلحظ وجود علائق قوية تربط كل مرحلة بالأخرى
كذلك لا نقول بهذا التقسيم على فترات متساوية
ونرى أن المرحلة الأولى استغرقت من بدء حياة المحاسبي الأدبية الذي لا نستطيع تحديده - إلى حوالى سن الثامنة والثلاثين من عمره وقد يكون هذا الرأى مجالا للجدل وقد نتهم فيه بشيء من المجازفة ولكننا أدخلنا في الاعتبار عاملا هاما هو ظروف التعليم والدراسة في عصر المحاسبي والعقبات التي كانت تعترض طريق طالب العلم خاصة فيما يتعلق بالحصول على الكتب أما المرحلة الثانية فنميل إلى ترجيح أنها امتدت حتى سن والستين أو أكثر قليلا ذلك أننا نعلم أن المحاسبي عاش حتى الثامنة
الخامسة

والسبعين وغالب الظن أنه كان على صحة طيبة
ونعرض فيما يلى بعض الملاحظات التى سوف تدعم ما ذكرناه وإن لم تعط الحجة القاطعة
فهناك قضيتان تتناقض فيهما مواقف المحاسبي ولا تفسير لهذا التناقض إن لم تأخذ فى الاعتبار المبدأ الذي بنينا عليه تصنيفنا القضية الأولى قضية الكسب فهو يجيز الكسب في كتاب ويتحرج منه في آخر وسوف نعرض تفصيلاً لهذه المسألة في مناسبة تالية والحل الذي اهتدينا إليه يقوم على ضوء من هذا الاختلاف في الفكر أما القضية الثانية فهى تختص بالجدل في الدين والإلهيات وكان هذا
مع
الإمام
أحمد
بن حنبل
النوع من الجدل السبب الأكبر في الخلاف ولكننا ترى المحاسبى فى كتب أخرى يوصى بتجنب الجدل في الدين
والإلهيات ويذمه فما تفسير ذلك
كان هذا الجدل أمرًا شائعا في عصر المحاسبي وقد شارك فيه خلال

وبفضل التجربة التي
المرحلة الأولى من حياته الأدبية ولكنه فيما بعد عاشها - اقتنع بأن الجدل لا يزيد الناس إلا خلافاً
وهذا التحليل المنطقى للاختلاف الظاهر فى آراء المحاسبي يؤيد -
ولا شك

ما قلنا عن الترتيب التاريخي لمؤلفات المحاسبي
كتاب الوصايا
المختلفة
وهو يروى فيه كيف ألفه بعد النظر في عدد لا يحصى من الطرق درس تفسيرات وشروح العلماء وأطال التأمل في أحوال أن وبعد الأمة والمذاهب الشائعة وبعد أن كاد يستسلم لليأس لما رآه من فتن بين الناس وادعاء لدى أصحاب الرأى ولكنه لم ينقطع عن التفكير والتأمل

وعن امتحان الناس وتجربة أمورهم ولم ينقطع بحثه عن المرشد الهادى وهو لم يوفق - من أول وهلة فى التعرف على هذا المرشد فانتابه القلق خشية أن يفوته العمر قبل الوصول إلى الغاية واستحث نفسه جادا في البحث أكثر من ذي قبل
وفى النهاية نراه يلتقى بقوم أهل تقوى ويتخذ منهم فأ أدلاء إلى الهداية
ويداوم على مخالطتهم لينهل من لدنهم المعرفة
وقد جعل مما تعلمه منهم شعارًا له فلما انتهى أجلهم بالموت رأى من واجبه وحتما عليه أن يواصل الدعوة التى أقاموها بأن ينشر من حوله ما تعلمه على أيديهم
إنها في الواقع حياته كلها تلك التي يقصها علينا المحاسبي في هذا
الكتاب ولا مناص من أن يكون قد خطه في آخر سنيها وهناك دليل آخر مادى فى كتابه الرعاية الذي اتخذناه مثالا لمؤلفات المرحلة الثانية
ذلك أنه يذكر فيه بابك ويفهم من حديثه عنه أنه مات ونحن نعلم أن بابك توفى عام ۱ للهجرة وبالتالى فالمحاسبي كتب هذا المؤلف بعد أن بلغ السادسة والخمسين من عمره
وهذا الدليل بطبيعة الحال لا يحدد لنا تاريخ التأليف تمام التحديد ولكننا نكرر هنا ما سبق عرضه من أن الرعاية تمتاز بنشاط فكرى متدفق لا يتأتى فى إنتاج رجل يشرف على الكهولة الفكرية والملاحظ من ناحية أخرى أن الكتاب لا يتضمن أي إشارة إلى
أحداث لاحقة للتاريخ المذكور
ولا نريد هنا أن نخاطر بترتيب كل مؤلفات المحاسبي فهذا الأمر

يحتاج إلى أدلة أخرى أكثر دقة من تلك التي ذكرناها كما يحتاج إلى دراسة أعمق لأسلوب المؤلف حتى يمكن تحديد ما نسميه بـ الكتب الانتقالية
أي تلك التي تصل بين مرحلتين من مراحل حياة الصوفى ونحن نكتفى بأن نثبت تصنيفنا التاريخى لما نجده من مؤلفاته أكثر إيضاح لمراحل حياته الأدبية الثلاثة التي عرفنا بها
مؤلفات المرحلة الأولى
إن إنتاج تلك المرحلة التي نتحدث عنها من حياته هي بالذات هذا النمط من الجدل في الدين والإلهيات الذى شغله فترة ما وأثار عليه حملة
ابن حنبل والمحاسبي يستنكرها في كتبه الأخرى التي وصلتنا وفى رأينا أن موقفه لا يختلف عما قام به الكثير غيره من علماء المسلمين انشغلوا خلال فترة من حياتهم بمسائل الإلهيات والجدل فيها ثم تركوا هذا الأمر فى مرحلة تالية وندموا على ما عملوا ومن
الرازي
ما هي مؤلفات هذه المرحلة
ذلك
الإمام
إن التمثيل لمؤلفات هذه المرحلة من الصعوبة بمكان وذلك لفقد كثير
من كتب المحاسبي
من مؤلفات المرحلة الثانية
- المسائل في أعمال القلوب والجوارح
الرعاية
- بدء من أناب إلى الله تعالى كتاب أدب النفوس

ملاحظات بشأن كتابي المكاسب و التوهم
كتاب المكاسب للمحاسبى يقدم لنا براهين تبلغ الغاية في قوتها المنطقية والأدلة التي يعرضها تأييدًا لنظرياته أو تلك التي يستخدمها
لبيان خطا غيرها من النظريات تعتمد على تنظيم وتسلسل نادرين والكتاب عامة يتجلى في تأليفه تركيز ذهنى فائق ونشاط فکری متصل
وهو يحوى من الآراء المختلفة المتنوعة - مع بيان درجات تفاوتها الدقيقة ومن ذكر لأسماء ومراجع لا تحصى - ما يدل دلالة واضحة على أن عقل المحاسبي في فترة كتابته كان في أوج نشاطه لذلك نرى أنه ليس من مؤلفات المرحلة الثالثة وهو أيضا ليس من مؤلفات المرحلة الأولى بالدليل القاطع فالمحاسبي يذكر فيه الخليفة المأمون على أنه قد مات ونحن نعلم أن المأمون توفى عام ۱٨ للهجرة وبالتالي يكون المحاسبي ألف كتابه بعد الثالثة والخمسين من عمره ولم لنا سوی ترجيح أن المكاسب من مؤلفات المرحلة الثانية من حياته
يبق
كاتبا
أما كتاب التوهم فهو يمتاز بأسلوبه البليغ وإن الوصول إلى مثل هذه المرتبة من البلاغة مع اليسر في التعبير يحتاج إلى ممارسة للكتابة زمنًا طويلا وهو الأمر الذي دعانا إلى عدم اعتباره من مؤلفات المرحلة
الأولى
ويدفعنا هذا الاعتبار إلى ترجيح أن الكتاب أنشئ في بداية المرحلة
الثانية من حياة المؤلف الأدبية
من مؤلفات المرحلة الثالثة
كتاب الوصايا

۹
منهجه في التفسير
نرى الكثير من المتصوفين يخالفون الفقهاء في بعض الآراء وأراد
فريق منهم أن يضفى شرعية على منهجه في التفسير فـ فأنشأ ما
سمى
الظاهر او المعنى الباطن ورجع بالبحث - في سبيل ذلك
بالمعنى

إلى

قصص الخضر وموسى وتاريخهما في القرآن - في رأي هؤلاء المتصوفين - هذا الموقف من التفسير ولكن يتضح مما قالوا أنهم غالوا وشطوا في
يبرر
الاعتماد على المعنى الباطن
فابن عربی
- مثلا - كان بارعًا في ذلك وتفسيره في ديوان ترجمان الأشواق نموذج خالص للمنهج المذكور ونريد هنا أن نتبين ما إذا كان المحاسبى يلتزم بمعنى النصوص أم هو
يسمى
على العكس من ذلك يحاول أن يفرض عليها ما يراه فإن ما بالمعنى الباطن ليس فى الواقع سوى تفسير للنصوص بما يتفق والآراء الشخصية وكان هذا منهج الإسماعيليين والباطنية عامة كما نريد حسم قضية التأثيرات الأجنبية لدى المحاسبي فإن كان يلتزم بالسنة التزاما صريحا فلا محل - إطلاقا - فيما يخصه للقول بها أو التساؤل عنها يذكر المحاسبي في كتابه المسائل في أعمال القلوب والجوارح الجملة التالية عن أبي الأحوص

لكل آية من القرآن ظهر وبطن وحد ومطلع
1

1 المحاسبى المسائل ص ١١٦ تحقيق عبد القادر عطا سنة ١٩٦٩

ويفسر هذا بقوله
أما ظاهرها فتلاوتها وأما باطنها فتأويلها وأما حدها فمنتهي فهمها وعند هذه الخلة فرق الله سبحانه بين الكاذبين والصادقين فمن تلاها أو من صادق بلغ منتهى فهمها لأن أقل الصدق من المريد المؤمن بعد الإيمان بالآية أن يفهمها عن ربه وإن لم يعمل بها وإنما قصر الناس عن فهمها لقلة تعظيمهم لقائلها
وأما مطلعها فمجاوزة حدها بالغلو والتعمق والفجور والمعاصي
فمن ذلك قول الله عز وجل وتِلْكَ حُدُودِ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ ۱ وتبين لنا هذه الفقرات من كتاب المحاسبى كيف كان المؤلف يشرح
لفظ الباطن شرحًا يختلف كل الاختلاف عما سبق ذكره وفي بعض الصفحات من كتابه أدب النفوس يحذرنا المحاسبي من الأعتماد على العقل فيما يتصل بالسنة فالسنة لا تكتسب بالعقل إنها تكتسب بالتمثل بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالخضوع لكلمات القرآن وباتباع السنن الشريفة والاسترشاد بسير الخلفاء ولا أدل على مدى تمسك المحاسبى بالنص من الفقرات التالية من فصل من كتاب الرعاية نعتبره ه النموذج الأمثل لمنهج هذا الصوفى وهى لا تبين عظم احترامه للنص فحسب وإنما يعرض مبدأ الحل الواجب اللجوء إليه فى حال الشك
ويتحدث المحاسبى فى هذا الفصل عن سرور العبد عندما يظهر عليه عمله قبل فراغه منه وبعد فراغه وهل يحبط هذا السرور ثواب العمل العمل عند الله أم لا ثم هل هو مذموم أم محمود
من
۱ آية ۹ من سورة البقرة
می می لی

العبد بسرور
والفقرات التي نوردها من الفصل المذكور تتعلق خاصة لثناء الناس عليه قبل الفراغ من العمل وهى على شكل حوار مثلها في
ذلك مثل سائر فصول الكتاب يقول المحاسبي
قلت فإن اطلع عليه من قبل أن يفرغ من العمل فيسر بذلك قال ذلك مختلف فيه أيحبط أم لا إن كان سروره من حب المنزلة
والحمد
قلت أفليس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن رجلا قال يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرنى
ذلك
قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية
قال هذا الحديث لم يقل فيه فيطلع عليه بعد فراغى منه أو قبل فراغى منه وقد يجوز أن يكون علم به قبل أن يفرغ منه ويجوز أن يكون بعد فراغه فإن يكن قبل الفراغ من العمل فذلك أشد وقد اختلف في ذلك فقالت طائفة لاشيء عليه لا يضره السرور منه بالعزم المتقدم لله عز
عن
وجل بالإخلاص الذى به دخل العمل وروت هذا الحديث وحديثا الحسن أنه قال إنها سروران فإذا كانت الأولى الله عز وجل لم يضره
الثانية
وقالت فرقة يحبط عمله إذا كان قبل الفراغ منه لأنه قد نقض العزم الأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل
بخاتمته
وكذلك يروى عن معاوية رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم إن العمل

۹۵
كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أى العمل بخاتمته وبالله التوفيق
والحديث قد روى من راءى بعمله ساعة حبط ما كان قبله ولا معنى لهذا عندهم إلا ما سألت عنه من سرور هذا بالرياء قبل أن يفرغ من العمل فقد راعى بعمله ساعة فحبط ما كان قبله ولا معنى لهذا عندهم إلا ما سألت عنه من سرور هذا قبل أن يفرغ من العمل فقد راءى بعمله فقد حبط ما مضى منه وما بقى إلا أن يتمه على غير
العقد
ذلك
وأما حديث الحسن فإنما روى إذا كانت الأولى لله فلا تهدمه الثانية أي لا تكسره
وأما ما روى في الحديث الآخر لا يضره فهذا معناه ألا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله عز وجل ولم يقل إذا عقد على الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره
وأما حديث النبى فليس فى مسألة السائل قال يارسول الله فيسرنى من قبل حب المحمدة فيكون فيه حجة وقد يمكن أن يكون - إذا لم يصرح لم كان سروره لمعان كثيرة
قلت فما تقول أنت
قال كنت لا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه الحبط فكنت أقف لاختلاف الناس في ذلك والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء وأما اليوم فقد تبين لى ذلك فأنا أقطع به لأنه عمل على الرياء من أول قدم وختم عمله به وقد أحبطت السنة عمل المرائي وهذا قد ختم عمله بالرياء

٩٦
4
قلت فما تقول في الحديث الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قد أخبرتك بما يمكن أن يكون به سروره لاطلاعهم فإن يكن للنعمة أو لطاعتهم فيه أو للقدوة فله أجران أجر للعمل وأجر لسروره طاعة لربه عز وجل إذ ظهر عمله فسر ليقتدى به فأخبره سروره
لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أن له أجر ما ظهر من عمله فسر ليقتدى به
وإن كان سروره لحب الحمد والثناء فذلك عقد الرياء فلا أجر له يصح في الكتاب ولا في السنة تأويل من تأوله
وإن السائل سأل عن ذلك فأجابه النبي وإن الأمة مجمعة على الكتاب والسنة أنه ليس فيهما أن الله عز وجل يأجر على الرياء ولا يقول ذلك أحد من علماء الأمة
وإن أحسن حال المرائى أن يعفى له عما اعتقد من الرياء ويبقى له أجر عمله ولا يحبط كما تأول من ترخص فى ذلك واحتج بحديث الحسن أن ذلك لا يضره فأما أن يقول أحد له أجر عمله وأجر سروره بالرياء فذلك مالا يقوله أحد فإن احتج بالحديث فإنه لا يحتج أن الله عز وجل يأجر على الرياء
والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له أجرين أجر السر وأجر العلانية فأحسن أحواله أن يكون قال له لك أجر ما أسررت ولا يضرك ماظهر وأما أن يكون له على عقد الرياء أجر ثان فالذي لم يراء بعدما اطلع عليه وأخلص الله قلبه ونفى خطرات الرياء عن قلبه أخس أجراء والمرائى أعظم أجرا له أجران على قياس هذا القول وذلك مالا يقوله
مسلم يعقل

فلولا أن الرجل كان في مسألته ما يدل على أن سروره كان طاعة لربه وإن لم يكن له بذلك علم وأشفق من اطلاعهم وسروره به لقلة علمه فلا يمكن أنه كان سروره إلا ببعض ماذ كرنا من النعمة أو لطاعة من اطلع عليه فيه أو لأن يقتدى به
وقد روى عن عبد الرحمن بن مهدى أنه قال إنما معنى هذا الحديث أنه أراد القدوة وقوله أجر العلانية يدل على ما قال عبد الرحمن لأن
سروره سرور بما
فعله سرور بما أعلن
من
عندهم
فإن اقتدوا به كان له مثل أجرهم
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فعمل بها كان له مثل أجر من يعمل بها والله أعلم بما أراد
غير أن الكتاب والسنة لم يدلا على أن له أجرًا على الرياء وأن الله عز وجل لم يجعل المرائى أعظم أجرا من المخلص
وتأول بعضهم في ذلك منهم عبد الرحمن بن مهدى أنه قال إنه ندم على ما اعتقد من الرياء فلذلك جعل له النبي صلى الله عليه وسلم أجرين أجرًا على طاعته وأجراً على توبته
وقد أخطأ من قال ذلك لأن المرائى إذا ندم على ريائه أجر على توبته وحبط عمله إذ قد أحبطه بالرياء والحديث مع ذلك علمه من يرويه غير متصل لا يرفعه إلى أبى هريرة وأكثرهم يوقفه على أبي صالح ١ ومنهم من يرفعه إلى أبى هريرة والله أعلم أمحفوظ الحديث أم لا فإن كان محفوظا فلا وجه له إلا ما ذكرنا وإلا تركنا السنن بالتناقض له وخرجنا من إجماع العلماء
وقد يمكن أن يكون اطلع عليه بعد العمل فسر به ولم يعلم لم كان
۱ وأبو صالح كذاب

۹۸
سروره فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن سروره بذلك لا يضره وأن له أجرين أجر له على عمله وأجر له فيها ظهر للعباد أن يعملوا بمثل عمله فيؤجر فيهم إذا اقتدوا به فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون سروره بالأجر فيهم
لا بالرياء
وإنا لنترك للقارئ أن يستخلص من هذا النص من الرعاية
ما يراه ولكننا نود هنا إثبات الملاحظات التالية
إن المحاسبى فى عرضه للقضية يذكر مختلف الآراء - لا يقطع فى المسألة بغير يقين فإذا ما ثبت لديه الرأى لا يتردد في
الحسم
يربط القضية الخاصة محل المناقشة بقضية أخرى أكثر شمولاً
ولا تقيل الجدل وهى هنا حبط عمل المرائي
إذا رأى في تفسير معين للحديث ما يخالف السنة عامة ويناقض ما جاء بكتاب الله عمد إلى شرحه دون إخلال بقواعد التفسير بحيث
يتفق مع المبادئ الثابتة المأخوذ بها
مهتم
اهتماما واضحا بالإسناد
هذه الدقة في التفكير وهذا الإخلاص فى العرض يبينان لنا مدى
تعلق المحاسبي بالسنة وتطبيقه لها في غير انحراف أو إعراض

الله
الباب الثاني
في العقيدة
موقف المحاسبي من الفرق المحاسبي والمذاهب
الفرض والنفل
القيامة في تصور المحاسبي

#

الله
أ مفهوم فكرة الله
بلدان
كتب المحاسبي كثيرًا في مسألة وجود الله ولكن البراهين التي عرضها
في هذا الشأن لم تصلنا بكامل تفاصيلها
وفي القرآن نجد دليلين على وجود الله
الأول منهما يخاطب العقل ويقوم على أن لكل معلول علة وأن الخلق لابد له من خالق
والثاني كأنه يخاطب الضمير فيسأل مثلا
و أني الله شَكٍّ فاطِرِ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ ۱
ونحن
لا نعلم إن كان المحاسبى قد أتى بغير ذلك من البراهين ولكنه على أي حال كان يرى أن شرط النجاة الأول للإنسان هو معرفة الله بالوسائل التي مكنه الله من معرفته بها
وهذه الوسائل في رأى المحاسبي تكمن في خلق العالم وفي تنظيمه وفى
قدرة الله على منح الحياة لمخلوقاته وإماتتها
من امید

أن
أما ما وصلنا مما كتبه المحاسبى عن وحدانية الله فهو كثير ويبدو هذه المسألة كانت من شواغله الكبرى مثله في ذلك مثل الكثير من
۱ آية ١٠ من سورة إبراهيم
۱۰۱

۱۰
المسلمين وعظم شأن هذه المسألة لدى المسلمين عامة إلى ما أولاه يرجع إياها القرآن والنبي من صدارة
وكان لابد للإسلام من أن يهتم بقضية وحدانية الله لأنه قد نشأ في بيئة الوثنية الشائعة بين عرب الجاهلية ولذلك حارب الإسلام تعدد الآلهة أجل
وسأل الكثير من مداد العلماء في الحديث عن قضية التوحيد ومن القضاء على كل الآثار الوثنية واندفاعًا منهم في تطهير مفهوم توحيد الله رفض المعتزلة القول بصفات الله مخالفين فى ذلك رأى أهل السنة بل اعتبر المعتزلة هذه الصفات بالشكل الذى صوره بها أهل السنة نوعا من
تعدد الآلهة إن المعتزلة اعتبروا الذات والصفات وحدة واحدة ويتحدث المحاسبي عن مسألة الوحدانية في الكثير من مؤلفاته وعلى الأخص في الفصل المتبقى من كتاب العظمة الذي يتناولها بصورة خاصة والصفحات المحفوظة من كتاب التنبيه التي يخبرنا فيها بأنه بحث الموضوع أيضًا في كتابه فهم القرآن
وهناك برهان يعتمد عليه المحاسبى فى أغلب ما كتبه حول الوحدانية وهو البرهان المبنى على الانسجام الذي يسود العالم في سائر أرجائه
إن كل الموجودات فى هذا العالم إنما وجدت لغرض محدد وكل جزئية أساس الجزئية أخرى ترتبط بها وهذه بدورها أساس لأخرى
منه إنما هي
فكل جزئية تخدم أخرى وتخدمها أيضًا جزئية غيرها
فالنبات مثلاً إذا كان الغرض منه وجود الحيوان فهو نفسه لا يمكن أن يكون له وجود إلا بالتراب ولا توجد له حياة إلا بالماء وبالتالى فالكل سلسلة وكل حلقة من السلسلة لازمة حتما لتألف المجموع
ويتحدث المحاسبى فى استفاضة عن ارتباط الكل بالكل فيشمل بيانه

السماء
الأشياء
في السماء كما يشمل الأرض وما على الأرض من
ثم يبين أن هذا التآلف لابد من أن يكون له خالق واحد إذ لو كان هناك خالق ثان لما وجد التآلف فإذا اجتمع اثنان وجد الاختلاف بالضرورة بين إرادتيهما حيث يطلب كل منها أن يكون له الملك كله ولا يتأتى بغير ذلك الكمال
ومن لم يطلب ذلك منها فهو إذن يقبل الوصف بالنقصان والناقص محتاج والمحتاج مخلوق
ومن ناحية أخرى فمن أراد منها الملك والكمال وأدركها منع الآخر
منها وبالتالي فليس ممكنا أن يكون هذا الآخر هو الإله وهذا الآخر إذا أراد الملك والكمال ولم يدركها فهو عاجز ولو كان عاجزا عما يريد لنفسه فلابد وأن يكون عاجزا عما يريده بالنسبة إلى
الغير
وإذن فنحن أمام أمرين لا يصح إلا واحد منهما إما أن يكون كلاهما قادرًا وإما أن يكون أحدهما قادرًا وفرض إمكان أن يكون الاثنان قادرين محال لأن كلا منها يطلب الكمال لنفسه وتحقيق إحد الإرادتين يستلزم فناء الأخرى وتحقيق الإرادتين معًا محال لأن كلا منها تطلب
الملك كله
إذن فليس إلا إله واحد والقول بالتوفيق بين اثنين محال فيما يتعلق بالإله لأن التوفيق لا يتأتى بغير تنازلات متبادلة أي أن يتنازل كل طرف عن شيء ما
وهذا محال بالنسبة للإله وهو من أمر المخلوقات

12
ويقدم المحاسبى دليلاً آخر على وحدانية الله من الكوارث التي حلت بالشعوب الأولى وجاء ذكرها فى القرآن وقد حلت الكوارث بهذه الشعوب لأنها لم تصدق بما جاء به الأنبياء وهم يدعونهم إلى التوحيد
فالمحاسبي يؤمن بوجود الله وبوحدانيته وهو أيضًا يؤمن بخلوده ويؤكد هذا الخلود دائما ولكن براهينه على ذلك لم تصلنا في المؤلفات المتبقية
عنه

أما فيما يختص بصفات الله فلم نجد في كتبه التي وصلتنا تفصيلاً صريحاً لمواقفه من الجدل الذي ثار حول هذا الموضوع بين المعتزلة وأهل السنة ولكن رأيه ذلك مع يتضح لنا في يسر لسببين
الأول منهما أنه يرفض ما قال به جهم في هذا الأمر ۱ ومعروف أن جهما كان ينكر الصفات ويرى أنها متضمنة في جوهر الذات الإلهية ٢ ويرفض المحاسبى أيضًا آراء المعتزلة الذين أخذوا بهذه
الفكرة

أما السبب الثاني فهو موقفه المحدد كل التحديد من الجدل الخاص
بخلق القرآن وهى المسألة التي سوف نعرض لها فيما بعد
وإن رفض آراء جهم والمعتزلة فى صفات الله ثم الأخذ بالرأى القائل بأن القرآن غير مخلوق أمران لا يدلان إلا على أن المحاسبي كان يؤمن الذات ويتفق في موقفه مع أهل السنة وعلى أي حال
بوجود الصفات
فالشهرستاني يؤكد لنا هذا حيث يذكر أن المحاسبي من الذين جاهدوا
۱ المحاسبي الرعاية ص ٢٤
الشهرستاني كتاب الملل والنحل جـ ١ ص ٩١

160
ضد المعتزلة بشأن الصفات وأنه اعتمد في ذلك على الآيات التي تقول بها وأنه يتفق في الرأي مالك وابن حنبل۱ مع
ولم نجد كذلك في مؤلفات المحاسبي التي وصلتنا تفصيلا لموقفه من
المشبهة
ولكننا نرى إمكان تحديد هذا الموقف بما يلى
إنه يرفض رأى جهم الذي يعارض المشبهة
ولكنه في نفس الوقت يرفض رأى المشبهة ويؤمن بأن الله لا شبيه له وكان هناك رأى وسط يمثله مالك وابن حنبل لا يأخذ بما يقول به المشبهة ولا بنقيض ما يقولون به أى برأى جهم وهذا الرأى الوسط يتلخص في أن الله في القرآن يقول بأن له اليد والعين فنحن نصدق بذلك كما أنه ليس هناك ما يدعو إلى تفسير هذه الآيات بالمجاز ونحن لا نعرف ما أراده الله بقوله هذا والإيمان لا يحتم علينا أن نعرفه إن ما يحتمه الإيمان هو التصديق بأن الله لا شبيه له وهذا ما نصدق به فإذا رفض المحاسبى رأى المشبهة ونقيضه لم يبق له إلا أن ينضم إليهذا الرأى الوسط وهو الأمر الذى يؤكده لنا الشهر ستاني بقوله إن المحاسبي في هذا المجال يتفق في الرأي مع مالك وابن حنبل٢
هل الله في كل مكان كانت هذه المسألة مثار جدل بين المعتزلة وأهل السنة
۱ الشهرستاني كتاب الملل والنحل جـ ١ ص ٣٦ ٣٧ الشهر ستانى كتاب الملل النحل جـ ۱ ص ۹۷

١٠٦
أما فيما يتعلق برأى المحاسبى بشأنها فقد تفضل الأستاذ ماسينيون باطلاعنا على نص لهذا الصوفى يحدده
1
وفي القرآن آيات كثيرة فسرت تفسيرات مختلفة وفى النص المذكور للمحاسبى نراه يجمع الآيات التي تقول بأن الله في أعلى أو في السماء ويتخذ هذه الآيات أساسًا لمذهبه ثم يفسر الآيات الأخرى – التي تقول مثلا بأن الله معنا حيثما كنا - تفسيرا يتمشى مع هذا المذهب والمحاسبي يرى أن الله في السماء على عرشه وليس الله حالا في الأشياء أو المخلوقات هو مالك الملك فوق العالم لا نظير له في جلاله ورفعته وقوله إنه معنا لا يعنى كونه معنا بذاته وإنما هو معنا بعلمه

وفى نفس الفصل المذكور يقول المحاسبى صراحة بأن الله ليس في أي من مخلوقاته
وهذا ينير لنا الطريق ويفسر موقفه من وحدة الوجود وهو في كتابه المسائل في أعمال القلوب والجوارح يروى الحديث
التالي من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه
۱ فصل من كتاب فهم القرآن نشر ضمن كتاب تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراس والحلبي المطبوع بالقاهرة ص ٣٦٧ رواه الإمام البخاري

۱۰۷
ويقول المحاسبي إن الحديث معناه أن الله يزيد عقل العبد وجسمه قوة حتى يزيد من عبادته له بطاعته ولكنه لا يعني بأي حال أن الله كائن بذاته في سمع العبد أو في بصره تعالى الله ذلك عن وقد رأى البعض تعميم فكرة وحدة الوجود لدى أغلب المتصوفين
المسلمين
ويسرنا هنا بوجه خاص أننا نستطيع نفيها نفيا قاطعا بالنسبة إلى المحاسبي على الأقل
وما سبق ذكره يتبعه أيضًا أن المحاسبي لا يؤمن بحلول الله في الإنسان وهذا الرأى بالنسبة إليه ليس بالرأى العارض وإنما نراه يكرره في مواضع أخرى
ونذكر على سبيل المثال تفسيره للحديث القدسي
يا ابن آدم إن تقربت إلى فتراً تقربت إليك شبرا وإن تقربت إلى شبرا تقربت إليك ذراعًا وإن تقربت إلى ذراعا تقربت إليك باعا وإن أتيتني سعيا أتيتك هرولة يقول المحاسبي في هذا الحديث وإنما هذا على حسن المعونة وسرعة الإجابة والهداية بالسداد والتوفيق والاكتناف بالعصمة ۱

ويذكر نفس الحديث في موضع آخر فيقول إنه يعنى العون والتوفيق ثم يضيف أن الله لا ينزل إلى أحد سواء كان العبد تقيا أم كان
عاصيا
۱ من الرعاية ص ۱
في المسائل في أعمال القلوب والجوارح ص ۱۸

۱۰۸
والمحاسبي يرى أن لله الاختيار فى كل ما يريد ولا حق لخلقه عليه وهو يقصد بحديثه هذا المعتزلة الذين يقولون بأن للناس على الله حقوق وبأن الإنسان الذي فعل الخير سوف يكون له الثواب وبأن الله عليه منح أفضل ما عنده للمخلوقات البشرية إذ يفرض عليه ذلك العدل والحكمة فكرة الصلاح والأصلح
يتحتم
أما المحاسبي فيقول إن الله يفعل ما يريد يغفر أو لا يغفر حسب
هو -
ما يشاء فالعالم من خلقه والعالم ملكوته وموقفه هذه المسألة من فيما يبدو - الموقف التقليدي
فهو يقول بأن الله هو الكمال المطلق وبأن عدل الله لابد أن يكون كمال العدل ثم يكرر أن الله هو الرحمة وهو الكرم لا يبتلى العبد إلا ليزيده تقوى فيزيده قرباً فالأمراض مثلا ليست إلا وسيلة لتطهير الإنسان من ذنوبه والمحسن التي تمر به هدفها أن تحث قلبه على البحث عن سبل الالتجاء إلى الله
ولكن إذا كان الله هو الرحمة فكيف يكون البلاء العظيم
وهو عصيان الله الذى يؤدى بالإنسان إلى الجحيم
يتلخص المحاسبى من هذه المشكلة بقوله مثلا إننا من ملك الله وإذا تصرف الإنسان في شيء من ملكه فلا يقال له هذا ظالم أو هذا شر وعلى أي حال فقد حقق أهل السنة التوفيق بين القول بعدل الله والقول بأنه يفعل ما يشاء فقالوا إن العدل الإلهى معناه أن الله يفعل ما يشاء بإرادته وبعلمه في ملكه ولما كان الأمر كذلك فظلمه إذن محال ونحن نعتقد أن المحاسبي لم يخرج عن هذا الرأى

هناك اتجاه إلى المواجهة بين مفهوم المسلمين الله ومفهوم المسيحيين له

19
فيما يختص بحبه لمخلوقاته حيث يبرز الله في المفهوم الإسلامي - كما يزعمون - إلها شديد العقاب بعيدا كل البعد عن مخلوقاته ويبرز في مفهوم المسيحيين إله رحمة وعطف لاينى ويبحث عن الشاة الضالة ليهديها
والواقع أن القرآن يستخدم - في سبيل استعادة العاصى إلى الطريق السوى - التهديد بالجزاء والوعد بالثواب وإن وصف الله فيه بأنه شديد
العقاب فهو إلى جانب ذلك الغفور الرحيم المحب لعباده ولا ندري لأي غرض يد أب البعض في عرضهم للمفهوم الإسلامي على تفصيل جانب الوعيد فيه وكتمان جانب الوعد الجميل فيزداد الخلاف بين أتباع الدين الإسلامي وأتباع المسيحية
وليس لنا هنا أن نشرح هذا الأمر أو أن نقول فيه رأينا الخالص ولكننا نريد فقط أن نعرض لما قاله المحاسبى في هذه القضية إذ يحدثنا بما يلي في كتابه ماهية العقل ۱ فيقول عن الله سبحانه يدعوك إن أدبرت ويقبلك إن رجعت ويحمدك على حظك ويثنى عليك بما وهب لك ويحضك على النظر لنفسك
"
إنما يمرضك لِيُصِحكَ – إن عقلت

ويفقرك ليغنيك ويمنعك ليعطيك يمنعك القليل الفاني لترضى فيعطيك الجزيل الباقي ويميتك ليُحييك ويفنيك ليبقيك ويداويك بالأمراض لتبرأ من سقم الذنوب ويغمك بالأوجاع ليغسلك من درن الخطايا ويعركك بالبلاء ليلين قلبك لطلب
الفوز
ابتدأك بالنعم قبل أن تسأله وثناها بعد ما ضيعت شكره وأدامها مع دوام الإعراض منك عنه ۱
بإحسانه
۱ ماهية العقل للحارث المحاسبي ص ۳۷

ولسوف نزيد من إيضاحنا لموقف المحاسبى عند عرضنا لمفهوم الحب لديه فيما يلى من هذا البحث
ويرى المحاسبي أن العقل عن الله تعالى لا غاية له لأنه لا غاية لله عز وجل عند العاقل بالتحديد بالإحاطة بالعلم بحقائق صفاته ولا بعظيم قدر ثوابه ولا عقابه إذ لم يعانيها ولو عاين الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بصفاته لما أحاط به علما ولكن قد يقع اسم الكمال على الأغلب فى الأسماء في العقل عن الله تعالى لا العقل بالكمال الذى لا يحتمل الزيادة
ألا تراه عز وجل يقول الرسوله ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلما ۱ وقال ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ علما ٢

وروى عن الملائكة أنها تقول القيامة
رب
ما عبدناك حق عبادتك
يوم
فلا أحد يساوى الله عز وجل فى العلم بنفسه فيعرف عن عظمته تعالى كمال صفاته كما يعلم الله عز وجل عن نفسه
فأعظم العاقلين عنده العارفين عقلاً عنه ومغرفة به الذين أقروا
بالعجز إنهم لا يبلغون في العقل والمعرفه کنه معرفته۳ وفي القرآن
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
۱ طه آية ١١٤
۳ العقل وفهم القرآن ص ۱۹ ۰
طه آية ۱۱۰

أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفظهُمَا وَهُوَ الْعلى العظيم
ب الله والعالم

خلق الله العالم لا من شيء والعالم ليس بخالد والدليل على عدم خلود العالم عند المحاسبى هو الدليل الشائع المؤسس على القول بأن الحركة الملازمة للمخلوقات ليست بخالدة
فهو إذن يبرهن على عدم خلود العالم بعدم خلود الحركة۳ وخلق الله الناس في العالم ولم يتركهم لعقلهم يهديهم ويرشدهم إليه بل
أرسل إليهم الرسل هداة للحق وخاتمهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الرسل جميعا من البشر وهم خير البشر ولكنهم لا يتصفون بغير صفات البشرية والمحاسبى لا يرى في محمد سوى بشرا أوحى الله إليه بالرسالة طبقًا لما جاء في القرآن والحديث ولم ينظر إليه قط على أنه من بشر إن محمدا كان عبد الله ورسوله اصطفاه لوحیه وختم به
أكثر
٤
أنبياء 4
جاء بالرحمة لبنى الإنسان جميعا الذين يتبعونه منهم والذين يتولون
عنه على حد سواء
فأما الذين اهتدوا بهديه فلهم الجنة ورضوان من الله ومن كان منهم يرتكب الذنوب فسيذيقه الله العذاب ثم يعفو عنه وهو الغفور الرحيم
بعباده
وأما الذين تولوا فلم ينزل الله بهم في حياتهم الدنيا من الكوارث مثل
۱ البقرة ٢٥٥ الرعاية ص ٥
۳ کتاب العظمة ص ۷
٤ المحاسبي المسترشد ص ۱

۱۱
۱
ما أنزل بالشعوب الأولى التي ضلت عن سبيله وعصته والأدلة التي يعتمد عليها المحاسبي إثباتًا لنبوة محمد
الأدلة هی الشائعة لدى المسلمين فالقرآن معجزة لم يستطع بشر أن يأتي بمثله أو بمثل
سورة منه
ثم هناك المعجزات الأخرى التى حصلت خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتلك التي وقعت بعد مماته أى الأمور التي تنبأ بها وتحققت فعلا وقبل ذلك كله فهناك ذكر الله لمحمد بأوصافه فى الكتب السماوية السابقة على القرآن ٢ ولكن المعجزات فى هذا العالم لا تقع في كل مناسبة وبغير مناسبة والمحاسبي يضع لها حدودًا ورأيه هذا جدير بالتقدير والإعجاب خاصة إذا علمنا أن أنصار الصوفية بالذات كانوا أكثر القائلين بالكرامات تحمسًا وكانوا يرونها في كل أمر وإذا تصفحنا الكتب الجامعة للتراجم - ولاسيما تلك التي ألفت فى عصور تدهور التصوف الإسلامي - لوجدنا أنها لا تكف عن ذكر الكرامات بغير حساب
أما المحاسبي فيرى أن الأنبياء وحدهم يختصون بالمعجزات وهي من دلائل نبوتهم وأنه ليس للبشر من غير الأنبياء أن يأتوا بالمعجزات ويتحدث عن إبليس فى كتاب المسائل في الزهد فينكر معرفته بأسرار قلوب الناس
لأنه لا يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور إلا الله رب العالمين فهذا علم وصف الله به نفسه فلا يعلمه أحد إلا من وصف من رسله قال الله تعالى
1 المحاسبى كتاب العظمة ص ۸ المحاسبي كتاب العظمة ص ۸

هو فَلَا يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول ۱
وليس الشيطان من رسل الله عز وجل
وقال عيسى عليه السلام
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ فما في القلوب أخفى
مما في البيت
۳
ومن حجج النبيين عليهم السلام أنهم يخبرون من يدعون بما يحدثون به أنفسهم بما يُعلمهم الله عز وجل فلو كان الشياطين يعلمون دخائل الناس ما ثبتت حجج النبيين معاذ الله أن نقول هذا ولو علمت ما في القلوب كان ما في الأرحام أظهر مما في القلوب ۳ ويقول المحاسبى فى كتاب المراقبة إن من يزعم أنه رأى أمورًا تتعلق بالحياة الأخرى أو بالله أو بعرشة ومن يزعم أنه رأى الله فهو كاذب ومن زعم أنه رفع إلى السماء وكلم الله أو زعم أ أنه أوحى إليه فهو أن يضل الناس ومن زعم أنه رأى الملائكة والحوريات فهو
ضال يريد كاذب وعليك مجانبة من يقول بمثل ذلك
ويكرر المحاسبي نفس المعنى في كتب أخرى له
عن القرآن
أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ليس بمخلوق وهنا يتجلى
۱ سورة الجن آية ٢٦ ٢٧
آل عمران آية ٤٩
۳ المسائل في أعمال القلوب والجوارح ص ۸۱ ۸

112
موقف المحاسبى من مسألة الصفات التي منها تتفرع مسألة خلق القرآن
وهو يرى أن القائلين بخلق القرآن قوم ضالون۱
ويقول الكلاباذي

إن رأى المحاسبى فى كلمات الله أنها من صفات الله القديمة ولم تخلق ولكن المحاسبي الذي يؤمن بأن القرآن لم يخلق يرى في نفس الوقت أن
الأحرف التي تكون كتاب الله مخلوقة۳
٤
وفي القرآن تفسير كل شيء والفرق بين القرآن وبين كلام البشر كالفرق بين الله وبين المخلوقات٥
والمحاسبي يوصى على الدوام بالتأمل في القرآن وبالخضوع لأحكامه وأوامره في الأعمال

وهو يرى فى القرآن والرسل بيانًا من الله للبشر كما يرى أنهم تحذير منه حتى يعلم الهالكون حقيقة أمرهم ولكن هل نحن أحرار فى اختيار سبل نجاتنا وهل في إمكاننا أن نهتدى إلى معرفة ما هو خير لنا
أما فيما يختص بإمكانية المعرفة فالمحاسبى يرى أن العقل الذي منحنا الله قادر على التفكر وعلى معرفة حقيقة ما أنزله الله كما يرى أن كل إنسان بلغ سن الرشد ومن الله عليه بالعبر والكتب وأبصره بخلقه الذي
۱ الرعاية ص ۱۱۱
التعرف ۱۹
٤ أدب النفوس ٩٥
0 أدب النفوس ۷۰
۳ مأساة الحلاج الماسينيون ص ٢٩ ٦ رسالة المسترشدين ۱

۱۱۵
يشهد بالخالق قد تحمل مسئولية ناتجة من أنه عاقل ۱ والله لا يهلك قوما
إلا ويذكرهم ويخاطب عقلهم بما يفهم من عبر
يقتصر
وإذا كان الله قد من علينا بالعقل فلكي يخاطبنا بواسطته ولكن المحاسبي يرى أن عمل العقل بالنسبة للوحى يجب أن على التبشير بما أنزله الله وأن دوره ليس أن يستبد بالفكر ولكن أن يثبت صحة ما أنزله الله ۳
هل لنا الاختيار فى العمل والسلوك عامة هل لنا الاختيار في الخير والشر أم أننا لسنا آلة سوی في يد المقادير
الواقع أن إيضاح موقف المحاسبى من هذه التساؤلات أمر شاق كان كل نشاطه وعمله ابتغاء إصلاح الظروف الأخلاقية للناس فهل كان للناس اختيار في اتباعه هو بالذات
وإن لم يكونوا كذلك فلماذا بذل جهده لإصلاحهم ومن ناحية أخرى فهو يذم المعتزلة لقولهم بالاختيار ثم هو يقول
وسوف نعرض لهذا الموضوع تفصيلا فيما يلى من بحثنا
إن الله علة كل عمل وإنه لا شيء إلا من الله وبه٤ بل إننا نجد من بين كتاباته ما أن مصير الإنسان أراده الله له وحدده أزلاً خيراً
كان أو شرا٥
یعنی
۱ ماهية العقل ١٠٥
٤ الرعاية ص ٩٧
المحاسبى ماهية العقل ص ٢٠٦ ٢٠٧ ٥ ماهية العقل ص ۱۰۹
۳ المحاسبى ماهيات العقل ص ۱۰۸

١١٦
ومن الأمور ذات المغزى أن المحاسبى فى رفضه المذهب جهم ذم شطره الخاص بوحدة الذات والصفات لا ذلك الذى يتعلق بالجبر والاختيار ۱ وبالإضافة إلى ذلك فالشهر ستانى
--
الذي يضم المحاسبي
للسلفيين - يخبرنا بأن السلفيين كانوا جبريين يؤمنون بأن كل نعمة وكل كربة من الله ٢
ذلك نجد المحاسبى مصرًا في دأب على السعى لإصلاح الناس ومع ونجده يهتم اهتماما فائقا بالوعظ والإرشاد ويصرح بأن ذلك فرض واجب على المسلم فلا مناص وأمره هذا من القول بأنه لم يأخذ بالجبرية على إطلاقها
جـ ما ينتج عن معرفة الله
رأينا فيما سبق أن قدرتنا على معرفة الله محدودة ولكن ما هو نتاج هذه المعرفة في الحدود المتاحة لنا
يقول المحاسبي
إذا تم عقل المؤمن عن ربه أفرده عز وجل بالتوحيد له في كل المعاني فعلم أنه مالك له لا غيره وأن عتيق ممن سواه فتواضع لعظمته واستعبد وخضع الجلاله ولم يذل لمن سواه وعقل عنه أنه الكامل بأحسن الصفات المتنزه من كل الآفات المنعم بكل الأيادى والإحسان فاشتد حبه له لما يستأهل لعظيم قدره وكريم فعاله أياديه وحسن وعقل عنه أنه لا يملك نفعه وضره في دنياه وآخرته إلا هو فأفرده
1 الرعاية ص ٢٤
الشهرستاني كتاب الملل والنحل جـ ١ ص ٥٤

خلقه
بالخوف والرجاء وحده وآمن به وأيس من جميع فهو الموحد له إذ عقل وحدانيته وتفرده بكل معنى كريم ووصف جميل وجلال وعظمة ونفاذ قدرته ومضى إرادته وإحاطة علمه وقديم أزليته وأوليته
فإذا كان كذلك زايل الكبر على العباد الخضوعه لجلال مولاه فتواضع للحق ولم لا يحقر مسلما لشدة معرفته بصغر قدر نفسه ولما جنى من الذنوب على نفسه ولعلمه بأن خواتيم الأجل بسوء العواقب وحسن من الشقاء والسعادة قد سبق بهما العلم ونفذت فيهما المشيئة
الخاتمة
فقد أمن من عرفه كبره وبغيه وقد عقل عن الله جل وعز حججه على خلقه وأعذاره إلى خلقه بأنه ليس لهم بظالم وأنه قد بدأهم بالرحمة قبل
العقوبة وقد سبقت منه الأيادى قبل الشكر طويل الحلم دائم التأني جميل الستر مقيل العثرات محسن إلى من تبغض إليه متقرب إلى من تباعد منه وعقل عنه أمره وآدابه وأحكامه وعقل داء النفوس ودواءها
فمن عرفه أمل الرشد منه وأن يحيا بمنطقه ويعقل عن الله جل ذكره
بتأديبه له وعقل عن الله عز وجل ما عظم من قدر ثوابه في جنته بدوامه وطيب العيش فيه وزوال الآفات والتكدير والتنغيص والنقص عنه وأنه فوق ما تحب النفوس لا يُحسن أحد أن يخطر بباله ذكر كثير مما أعد فيها وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم
أعد الله عز وجل فى جنته مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وكفاك بالله تعالى واصفًا عما أعد لأوليائه إذ يقول عز من قائل

۱۱۸
هو فلا تعلم نَفْس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ۱
فقد أخبرنا أنه جاوز في الكمال والنعيم وقرة العيون وصف
الواصفين ومعرفة العارفين وذكر الذاكرين لجميع النعيم فعظم في قلبه جوار مولاه وما أعد فيه لمن أناب إليه وأطاعه فشخص إليه بعقله فاتصل ما استودع قلبه من العلم بذلك لمشاهدته بعقله حتى كأنه رأى عينه وكما قال حارثة كأني أنظر إلى عرش ربى بارزا وإلى أهل الجنة يتزاورون
وكما قال الحسن وذكر أولياء الله في الدنيا فقال
صدقوا به فكأنما يرون ما وعدوا رأى العين فلما اتصل عقله بمشاهدة ذلك حنّ واشتاق فلما حن واشتاق تعلق قلبه واشتغل فلما اشتغل قلبه بالشوق إلى جوار ربه سلا عن الدنيا فلها عنها ولم يفكر في دار الدنيا - أين هي من جوار ربه إذ يقول عز وجل لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ٢

قيل في التفسير تفكروا فيهما فعلموا أن الدنيا دار فناء وأن الآخرة دار جزاء وبقاء فعقل نعت ربه لزوال الدنيا وفنائها وأن كل ما أخذ منها لغير القربة إلى ربه في جواره ناقص من درجات القرب وكمال النعيم في جوار ربه وأن فيه الحساب والسؤال عن نعيمها بالحبس عن السبق في أوائل الزمن إلى جوار ربه ومولاه وأنها مشغلة له عن الاشتغال بر به ما دام فيها حتى ما يعدله من الأنس بربه وحلاوة مناجاة سيده فارتفع قلبه عنها وتمنى أن لو استغنى أن يتناول منها شيئًا فلم يجد بدا الأخذ منها ما يقويه على طاعة ربه خوفًا أن يمسك عن القوت فينقطع
من
عن عبادة ربه
۱ السجدة آية ۱۷
من سورة البقرة ۱۹ ۰

۱۱۹
فكان نصيبه منها القوت من الغذاء ولم يتكلف ما جاز بلغة القوت من غذائه وستر عورته وإن تكلف طلبه لم يتكلف إلا لقربة إلى ربه فإن ابتلى منها بما فوق غذائه وستر عورته من مثل ميراث أو غيره فمبذول كله لربه يفرح بإخراجه ويغتم أن يمكث عنده أقل من طرفة عين
وعقل عن الله تعالى آياته فى تدبيره وحكمته في آثار صنعته ودلائل حسن تقديره فعلم أنه بقدرة نافذة قدرها وبحكمة كاملة أتقنها وبعلم محيط اخترعها نافذ سمع حركاتها وبنصر مدرك لها خلقها وغوامض كوامنها وما وارته حجبها وسوايرها
فكأن
وبسمع
دبر
لطائف
فاستدل بذلك أنه الإله العظيم الذى لا إله غيره ولا رب سواه جميع الأشياء عين يعتبر بها ويُجلَّ ويُعظمُ لما يرى ويسمع من مولاه وسيده فدام ذكره وزالت عن الله عز وجل غفلته وغفل عن الله تعالى أنه ما يبلغه غاية العلم به ولا بلطائف محابه والقرب إليه والفهم لما كلمه به فكان سیده اجتهاده ودوام | اشتغاله بر به غير تارك ولا منقطع عن طلب الازدياد من العلم بربه والتزيد في الفقه عنه أعلى في قلبه وأعظم أعمال النوافل إذ عقل عن ربه أن أقل كثير
مع
عنده قدرا الازدياد من من قليل المعرفة يورث التعظيم والهيبة ويبعث على الاجتهاد ويورث الطاعات والشغل عن جميع العباد وعقل عن الله تعالى أنه ابتدأ عباده بالرحمة والتفضل والإحسان بعد تقديم العلم منه لهم أنهم سيعصونه ويخالفون أمره فلم يمنعه ذلك عن ابتدائهم بالنعم والتحنن والرحمة والإحسان وجعل أفضل أوليائه عنده الرحماء بخلقه المتحننين على عباده الناصحين لبريته وهم رسله الداعون العباد إلى نجاتهم والمحذرون لهم من هلكتهم المتحملون منهم الأذى والمتحننون عليهم بالرحمة والنصح والإشفاق مع أذاهم لهم وتكذيبهم

۱۰
إياهم واستهزائهم بهم لا يكافئونهم بمثل ما نالوا منهم ولا ينصرفون عن الإشفاق عليهم إذ سمعوا الله جل ثناؤه يصفهم إذ قالوا لنوح هو إنا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين ۱
وقالوا لهود
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ٢
ثم وصف جوابها فقال نوح
بی
لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَم مِنَ اللهِ مَالَا تَعْلَمُونَ أَوعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۳
بی
وصف رد هود عليهم فقال يَا قَوْم لَيْسَ فِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَبْلَغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَو عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرِ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مَنْ بَعْدِ قَوْمٍ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٤
أى تظفرون بثواب الله إن قبلتم منى فأخبرهم بعد تسفيههم له أنه لم ينصرف من أجل ذلك عن النصيحة لهم لعلهم يفلحون
وقال إبراهيم عليه السلام
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مَنِيٍّ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥
1 الأعراف آية ٦٠
الأعراف آية ٦٦
۳ الأعراف آیات ٦١ - ٦٣
٤ الأعراف آيات ٦٧ - ٦٩
٥ إبراهيم آية ٣٦

۱۱
وقال النبي ووصف نبيا من الأنبياء شجه قومه فهو يمسح الدم عن
وجهه وهو يقول
رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
وروی
أفاق قال
أن نوحا عليه السلام كان يخنقه قومه حتى يغشى عليه فإذا
رب اغفر لقومى إنهم لا يعلمون
وفضل النبي صديق هذه الأمة عليها بالرحمة لها فقال أرحم أمتى بها أبو بكر
فلما عقل عن الله عز وجل ما ابتدأ العباد به من الرحمة وأنه خص أعظم خلقه عنده قدرًا وفضله بها على جميع العباد
ألزم قلبه رحمة الأمة فأحب محسنهم وأشفق على مسيئتهم ودعا إلى الله
سبحانه إذا أمكنه

مدبر هم ولم يدخر مالا عن فقيرهم ففضل ماله
سأله المجهود من
منهم
ما يقدر عليه
عليهم مبذول والمواساة في قوته منهم لم يتبرم بطلبه ولم يضجر بإعطائه للرحمة التي في قلبه آذاه وأساء ومن إليه لم يجد في نفسه كراهية للعفو والصفح عنه يعدهم جميعا كأقرب الخلق منه كبيرهم مثل أبيه وصغيرهم كولده وقرنه كأخيه فكل هؤلاء يحب الإحسان إليهم وأن لا يفارق قلبه الشفقة عليهم وعقل عن الله تعالى عظيم قدره وقدر ما يطلب من ثوابه وما يخاف من عقابه وعظيم الأيادى وكثرة النعيم عنده خلقه من أهل وأن جميع سمواته وأرضه لو دأبوا جميعًا واجتهدوا عمر الدنيا كلها وأبدا ما أدوا شكر نعمه ولا أدوا ما يحق في عظمته
فكيف بالحلول في جواره والنجاة من عذابه
فقد عقل أى رب يعبد وأى ثواب يطلب ومن أي عقاب وعذاب

يهرب وأى نعيم يشكر والشكر أيضا ممن هو ومن من به فلما عقل ذلك كله عن ربه استقل واستصغر جميع دؤوبه واجتهاده ذلك ۱ لعظيم ما عقل من جميع
1 العقل وفهم القرآن ص ۱ ص ۹

موقف المحاسبي من الفرق
كان للفرق في الإسلام منبعان
أولهما السياسة التي نشأت عنها فرقتان الخوارج والشيعة إثر مشكلة وهى مشكلة سياسية أساسا وإن استترت بالدين
الخلافة
وثانيهما يرجع والجهمية والمرجئة
بالتحديد إلى الخلافات الدينية التي نشأت عنها المعتزلة
وفى مواجهة كل هذه الفرق كان يقف أهل السنة أن المحاسبى اندفع في حماس بالغ في الجدل ضد فرق عصره
ویروی
وعلى الأخص المعتزلة
وبين أيدينا نصوص ثلاثة۱ في مؤلفاته تذم فرقًا مختلفة أما فيما يتعلق بالخوارج والشيعة فمن اليسير تبين أسباب ذمه لهما لقد كان شعار الخوارج لعن عثمان وعلى وجعلوا ذلك أمرا يسبق ما عداه ثم كانوا يكفرون من يرتكب الكبائر ويرون من الواجب على الناس أن يخلعوا كل خليفة لا يتبع السنة ونحن ندرك أن رجلا مثل المحاسبي يخلص الاحترام للصحابة لم ير بدا من الحملة على الذين ينالون
منهم
۱ الأول والثانى فى الرعايا ص ٢٤ ١١١ والثالث في كتاب الوصايا
ص ۰
الشهر ستانى كتاب الملل والنحل جـ ١ ص ١٢٤
۱۳

ونراه في كتاب المكاسب ۱ يأخذ برأى على في الخوارج وكان على
يقول
لابد من إمارة برة أو فاجرة حتى تستمر وحدة الأمة وتتصرف
أمورها
وكان الخوارج دائمى الثورة على الخليفة يثيرون في الناس الفتنة لأدنى القضايا شأنا
ولم يكن المحاسبي - وهو المسلم الذى يصبو إلى نمو وازدهار الأمة الإسلامية - ليقف موقف اللامبالاة أمام عمل فرقة آذت هذه الأمة ولم
تجد غضاضة في إيذائها ما قدر لها ذلك
إنه يسمى الخوارج بـ الحرورية وغالب الظن أنه يقصد بهذا الاسم حديثا اختلفه أعداء هذه الفرقة السياسيين ونشروه بين الناس وهو الذي يذم قوما يخرجون من حروراء أما
عن الشيعة فالمحاسبى يعارض على الأخص فريقًا يغالي في تقدير
مكانة على ويرفعه فوق البشر بل يرى فيه جوانب إلهية وقد اندفع أتباع هذا الفريق مغالين في نقد الخلفاء الراشدين الثلاثة واتهامهم كل من عارض عليا من أمثال عائشة وطلحة والزبير وسمى مذهبهم بـ الرافضة وهو المذهب الذى استنكره المحاسبي أشد الاستنكار وذمه ذما عنيفا
أما الزيدية وهى المذهب المعتدل فى الشيعة فالشهر ستانى يروى أن أتباعها كانوا جميعا معتزلة
ونحن نعتقد أن المحاسبى لم يعارض الزيدية هذه لسبب بسيط وهو أنه
۱ ص
۳
من الكتاب تحقيق عبد القادر أحمد عطار

۱۵
يشملهم في نقده للمعتزلة وحملته عليهم
وبصفة عامة يمكن القول أن موقف المحاسبي لم يكن تشيعا من قريب أو بعيد أنه عند ذكره للخلفاء يوردهم بترتيبهم التاريخي وهو يرى فيهم صفوة الأمة
ويقول عن أول الخلفاء إنه أشد الخلق بعد نبيه في دينه وأقومه
بأمره ۱
ويصف عائشة التي انتقدها الشيعة أعنف انتقاد
المؤمنين

بأنها أم
ومن الأمور ذات المغزى الواضح أن حديثه عن على لا يتضمن أى تقدير خاص به يفرق فيه بينه وبين الخلفاء من قلبه كما اعتاد الشيعة في حديثهم عن على رضى الله عنه
نود
هذا فيما يختص بالفرق التي نشأت بسبب الظروف السياسية
أما

6
عن المعتزلة والجهمية فقد تحدثنا عنهما فى بداية هذا الفصل ولكننا أن نضيف فيما يتعلق بالجهمية - أن الشهر ستاني – وكان يعتبر المحاسبي من السلفيين يخبرنا أن جميع السلفيين ينتقدون الجهمية ويعارضونها ٢
وأما عن المرجئة فلعل السبب في موقف المحاسبي منهم موقف العداء إهمالهم للقيمة العظيمة بالنسبة للأعمال المنجية
ومذهبهم في جوهره لا يختلف كثيرا عما يدعو إليه المحاسبي ولكن نفس هذا المذهب كان ينتهى بهم إلى اللامبالاة بطاعة الله
۱ في كتابه المكاسب ص ۱۹۱ تحقيق عبد القادر أحمد عطا الشهرستاني كتاب الملل والنحل جـ ۱ ص ۹

١٢٦
ولعل حديث أحد قادة المرجئة يوضح ما نذكره من أن الاختلاف بينه وبينهم ليس بالخلاف الجوهرى
يقول يونس السامري إن الإيمان هو معرفة الله والخشوع له ومحبته ومن جمع هذه الصفات فهو مؤمن وطاعة الله ليست بالجزء الذي لا يتجزأ من الإيمان وإهمالها لا يعنى الانتقاص من شأنها
وإذا كان الإنسان مخلصًا في إيمانه فسوف يغفر الله في الآخرة ما أهمل
من طاعته
وقد يقال بناء على ما عرضناه إن الهوة كبيرة بين هذا المفهوم ومفهوم أهل السنة ولكن الأمر الذى يدعونا إلى اعتقاد بأن الاختلاف في الواقع ليس بذي شأن وجهة نظر قائد المرجئة المذكور في الخشوع لله ومحبته إذ هو يفسر ما سبق بقوله إذا امتلأ قلب المؤمن بالخشوع الله وبمحبته لم يعصه ولم يرتكب
الذنوب ۱
فالحقيقة إذن أن الإيمان فى رأيه إذا ملأ قلب الإنسان كان من نتائجه
يهتم
ترك معصية الله بيد أن مذهب المرجئة هذا في عمومه لا بمسألة الثواب على الأعمال وهذا هو السبب في معارضة المحاسبي لهم وذمه
إياهم
1 الشهرستانى جـ ١ ص ١٤٥ ١٤٦

يقال عادة
--
المحاسبي والمذاهب
وإن لم يكن هذا القول دقيقا – إن في الإسلام مذاهب
أربعة الحنفى والمالكي والشافعي والحنبلي
ويبدو
أن مؤسس المذهب الأول منها وهو أبو حنيفة لم ينل عناية المحاسبي فهو لا يذكره ولا يورد اسمه في مؤلفاته ونرى أن سبب هذا الموقف يكمن فيما يرويه لنا الشهرستاني من أن أبا حنيفة وصف خطأ بالمرجى - هذا مع العلم بأن الشهرستاني نفسه في
صفحة تالية من كتابه يصنف أبا حنيفة في صفوف المرجئة ۱ والواقع أن مذهب أبي حنيفة في العقيدة الإيمانية قريب جدا من المرجئة وإن لم يكن مرجنًا
وبالإضافة إلى ذلك كان أبو حنيفة من المدافعين عن الشيعة وحبس لهذا السبب ومات في الحبس فلا غرو وأمر أبى حنيفة بين المرجئة - أو قريبا منهم - وبين الشيعة أن يتجنب المحاسبي ذكره أو التعرض لفكره أما مالك فلم يأت بغداد قط وكانت وفاته في السنة التي بلغ فيها
اله
المحاسبي الرابعة عشرة من عمره ولعل هذا هو السبب في عدم القول بأن المحاسبي كان مالكيا وقد سبق أن ذكرنا عداوة ابن حنبل للمحاسبي
فلا يبقى إذن سوى المذهب الشافعى أمامنا نضم إليه هذا الصوفى
۱ الشهرستاني ج
ص
١٤٧ ١٥١
۱۷

۱۸
وهذا ما عمد إليه السبكى فى كتابه طبقات الشافعة وقد أخذت برأيه الأستاذة مارجريت سميث في كتابها الذي أشرنا إليه فيما سبق
ولكن يبدو أنها لم تدرس الأمر حق دراسته
فالسبكي يميل إلى حشد كل من شهد مجالس الشافعي - ولو لفترة
بسيطة

في قوائم الشافعية
والشافعي أقام بعض الوقت في بغداد ولا نستبعد أن يكون المحاسبي قد حضر جلساته ولكن هل يتبع ذلك أن المحاسبي شافعي لم يكن مبدئيا اعتراض على الأمر ولكننا أردنا التحقق منه وتمحيص أثره عن قرب في مؤلفات المحاسبي فراعنا أن هذه المؤلفات تكاد تكون خالية من أي ذكر للشافعي إن المحاسبي - إذا فحصنا لكتبه لا يذكر الشافعي إلا في مناسبات معدودة ولا يذكره فى أى منها باعتباره صاحب مكانة عالية لديه وإنما يرجع إليه كما يرجع لغيره في غير ما تقدير خاص ومن الشائع لدى أتباع المذاهب أن يسبقوا ذكر أستاذهم بلقب
صح

إمامنا والمحاسبي لا يفعل ذلك عند حديثه عن الشافعي
وهو في كتاب المكاسب يورد اسم ابن جنبل أربع مرات وابن حنبل إمام مذهب وفى كتاب إحكام التوبة نرى صاحبنا يثنى ثناء حارًا على إمام مذهب آخر هو مالك لا الشافعي
ويبدو أن المحاسبي كان معجبا به
وقد دعتنا كل هذه الاعتبارات إلى تساؤل حاولنا تحرى الدقة قدر ما أتيح لنا من إمكانيات في الإجابة عليه هل كان المحاسبى يأخذ بمذهب بعينه من هذه المذاهب أم لا يقسم المسلمون إلى ثلاثة أقسام فيما يتعلق بموقفهم من المذاهب

۱۹
۱ - المقلدون البسطاء وهم جمهرة الناس
- المتبعون الذين ينهجون على مذهب محدد ويدركون مغزى الحجج والبراهين التي أسس عليها ويواصلون اتباعه في سيره المنطقي - المجتهدون أى منشئو المذاهب وهم بطبيعة الحال قلة
ويدور حديث شائع على الدوام بأن هناك اختلافا في المبادئ يفرق بين مؤسسى المذاهب فيقال مثلا
إن أبا حنيفة يميل إلى القياس أساسًا للتشريع ويفضله في ذلك على السنن الضعيفة وأنه يأخذ بـ الرأي ويطبقه
كما يقال أيضًا إن مالكًا مع اعتماده على القرآن والحديث يأخذ في
الاعتبار ما هو متبع بين أهل المدينة من عرف وعادات والواقع أن القول بوجود خلافات في المبادئ بين أصحاب المذاهب يبدو ضربا من المبالغة
وهناك مزاعم كثيرة فى هذا الشأن ليست سوى اغترار بالقشور مثل تلك التي تدعى لأبي حنيفة حرية فكر تفوق كثيرا ما كان للشافعي أو ابن حنبل وهذا الأخير يعتبر عادة من أهل السنة المتشددين فكلهم على حد سواء في الحقيقة يقيمون الفقه على القرآن والأحاديث الموثوق بها والإجماع وكلهم على حد سواء يبتغون الحدود الإسلامية الصحيحة وهدفهم هو التدوين المنظم لما نزل به القرآن ولما جاء به محمد من
تعاليم
أما المسائل الخاصة بقضايا جدت بعد وفاة النبي فكان همهم قبل كل شيء أن يكون ما يشرعونه لها مطابقًا للقرآن ولفكر الرسول صلى الله عليه وسلم في
حقيقته وروحه

۱۳۰
وصحيح
أن أبا حنيفة كان يعتمد بعض الاعتماد على الرأي ولكنه لم يلجأ إليه إلا في الحالات التي لم يجد بشأنها حديثا أو سنة موثوقا بها وحتى في مثل هذه الحالات لم يكن يستقل بالرأى بل أوجب أن يكون
هذا الرأى مؤسساً على مبادئ من الإسلام واضحة
ولم يكن ليتردد في الرجوع عن رأيه إن قوبل فيه بحديث صحيح وللشافعي حكمة ما زالت ذائعة بين علماء المسلمين إذ يقول الحديث فهو مذهبي
إذا صح وما دامت الأسس والأهداف واحدة لدى سائر منشئ المذاهب فلابد أن تكمن الاختلافات فى التفاصيل وحدها وهذا هو ما كان فعلا

وهذه الاختلافات فى التفاصيل معلومة لدينا لذلك كان من اليسير التعرف على مذهب المحاسبي بتحقيق تمسكه ببعض التفاصيل دون
الأخرى ولا نظن أننا فى حاجة إلى إثبات أن المحاسبي لم يكن من المقلدين البسطاء الذين لا رأى لهم بيد أن الأمر قد يختلف إن قلنا بأنه من
المجتهدين
ونريد أولا الإجابة على السؤال
هل كان المحاسبى من طائفة المتبعين
يستطيع الباحث أن يتأكد دون جهد ومن مجرد تصفح مؤلفاته من أ المحاسبي لم يكن بالرجل الذى يلقى الرأى في غير فهم له أو تثبت من
براهینه
وهذا فى الحقيقة خلاصة ما يطلب من المتبعين ولكن المتبعين برغم

۱۳۱
كل منهم
ذلك لا يكونون لأنفسهم جملة آراء من مصادر مختلفة وإنما يتبع بعينه على آخر كان
مذهبا محددًا فإذا فضل – لأسباب شتى تفصيلا

مالكيًا أو شافعيًا أو غير ذلك
فهل كان المحاسبي حقيقة من هذه الفئة من الناس
إنه في مختصر كتاب فهم الصلاح يرجع إلى مصادر عدة لا نجد من بينها الشافعى وشعائر الوضوء والصلاة الواردة فى هذا الكتاب لا تمت إلى مذهب بالذات شافعيًا كان أو مالكيا أو غير ذلك
لأى
والمسائل التي يعرض لها في كتاب المكاسب لا تدل أيضًا على انتمائه
من هذه المذاهب والكتابان المذكوران يعتمدان فحسب على القرآن والسنة وسير الصحابة ولا قيمة عند المؤلف لآراء أصحاب الرأى إلا بمقدار استيحائها للسنن وصحة نقلها ومن الأمور التي يتميز بها المحاسبي في الكثير مما كتب أنه صراحة عن مسئوليته القاطعة عن الرأى بعبارات مثل أحب إلى أن أو يفضل عندى أن ويتبع هذه العبارات بلفظ
يعبر
لأن فيورد حججه ويؤيدها بالآيات أو الأحاديث والملاحظ أنه عند الرجوع إلى رأى غيره لا يتعلق به وإنما يولى جل اهتمامه إلى البراهين التى أسس عليها ولذلك فهو يذكر لنا في أغلب الأحوال مصادر رأى الغير
وقد يعمد إلى عرض الآراء التي يجدها صادرة عن رجال ذوى مكانة مرموقة بشرط أن تكون مبنية على براهين مقنعة وفي مثل هذه الحالات
يترك للقارئ أن يقرر ويختار الأصلح منها أو الأصح

۱۳
والمحاسبي يرى أيضًا أن المرجع الوحيد الصحيح للإنسان يجب أن يكون في القرآن والسنة سواء في مجال الأخلاق أو في مجال التشريع والحكم فيقول مثلا
إن أردت العلم فاختبر نفسك بالقرآن والقرآن أربع
أمر ونهى وترهيب بالجحيم وترغيب في الجنة إذا تركت القرآن تركت الشفاء وإذا اتبعته دخلت الجنة ۱ والمحاسبي لا يكتفى بإثبات رأيه هذا فى القرآن والسنة وإنما هو يردده في كل مناسبة
ولو أنه قال به مجردًا لما كان له من قيمة سوى قيمة المبادئ النظرية ولكنه يواصل دائما شرح وسائل التمسك به وتطبيقه وفي شروحه نجد اليوم سبيلا للتعرف على مصادر فكره وآرائه
يقول المحاسبي بأن القرآن يحتوى على آيات محكمات اتفق المسلمون على تفسيرها ولكنه يحتوى أيضًا على آيات كانت محل تفسيرات مختلفة من علماء التفسير ولكل عالم أن يجتهد وأن يبين ما رأى باجتهاده وثوابه عند الله تعالى وفى الكتاب أيضًا آيات متشابهات ولا يحاول تفسيرها إلا الضالون المغرضون يريدون من ذلك بلبلة أذهان المسلمين وإثارة الفتنة بين الناس وكذلك الأمر بالنسبة إلى سنة النبي
فمن الضرورى إذن أن يعلم المؤمن الباحث عن الحق أن في القرآن والسنة كلمات لا تحتاج إلى البحث أو التفكر وأنه لن يضار شيئا إن اتبع
ما أمرت به وتجنب مانهت عنه
۱ المحاسبي المراقبة ص ۱۱

۱۳۳
كما يجب على هذا المؤمن أن يعلم أن هناك كلمات وأمورًا يجب الرجوع بشأنها إلى الكتاب والسنة والإجماع للتوصل إلى حقيقة معناها وهى كلمات وأمور تحتمل الخطأ والصواب بسبب ضعف النفس والنسيان والشهوات ومكر إبليس
وينبغي على المؤمن أمامها أن يأخذ حذره وأن يفكر على روية وأن يحاول التخلص من نزغ الشهوات
والقياس الصحيح بالمراجع المذكورة لا يمكن أن يقوم به إلا من كان أهلا له وبغير هذا الشرط لا يصح القياس وعلى المؤمن الذي ليس بأهل
ما تلقاه أهل له ثم يمحص
للقياس الصحيح أن يسأل من هو ويتفكر فيه حتى يتبين الخطأ من الصواب
من
جواب
والمؤمنون الذين ليسوا أهلا للقياس - أى بصفة عامة غير العرب وبعض النساء اللائي لا يميزن الصحيح من الباطل – ينبغي عليهم تقليد
العلماء
أما فيما يتعلق بالمتشابهات فعلى المرء قبولها على علاتها ولله معرفة ما خفى من معانيها وليس هذا بالأمر العسير على المؤمن فهذه الآيات لا تتضمن أمرًا بعمل أو نهيًا عن عمل وكل ما يوجبه الله منها على المؤمن أن يصدق بها ۱ وما سبق من تلخيصنا لبعض كتابات المحاسبي يبين أنه لم يطلب من الذين يريدون الاعتماد مباشرة على السنن في سلوكهم إلا أن يكونوا قادرين على ذلك ولم يقصر الأمر على أشخاص محدودين
هو
1 المحاسبى الرعاية الحقوق الله ص ١٠١

١٣٤
والاعتماد مباشرة على المصادر هو بعينه ما يسمى بـ بـ الاجتهاد أى إنشاء قواعد مستنبطة من المصادر
والإنسان الذي يسير على هذا النهج - ولو لنفسه وحده - لا يمكن عدلاً إلا أن يضم إلى طائفة المجتهدين
وعلى العكس من ذلك فقد قصر المحاسبى طائفة المقلدين البسطاء على غير العرب ثم على بعض النساء اللائى لا يميزن الصحيح من الباطل
ولما كان السبب الذي يقدمه بالنسبة إلى هاتيك النساء سببا عاما فنحن نرجح أنه كان يضم أيضا إلى هذه الطائفة كل من لا يستطيع
التمييز
أما المتبعون فهم في نظره جماعة الذين لا يقدرون على الرجوع مباشرة إلى السنن ولكنهم مع ذلك أهل تمييز يعرفون الصحيح من الباطل
**
وضم المحاسبي وهو العربي الأصيل العالم إلى جماعة المتبعين أمر لا يجعل بنا بعد ما تبين لنا فيما سبق من خصائص المجتهدين التي يتصف بها
بيد أن ضمه إلى جماعة المجتهدين يثير من ناحية أخرى اعتراضات لها وجاهتها وعلى الأخص من جانب بعض المسلمين الذين يريدون - لأسباب قيمة أن يحدوا من هذه الجماعة ما ذلك ونود أن نوجز هنا الأسس التي تبنى عليها هذه الاعتراضات ومدى

حجيتها بالنسبة إلى المحاسبي
وسعهم
شرط المجتهد الأول أن يكون على معرفة واسعة عميقة باللغة

۱۳۵
العربية حتى يدرك ما دق من فروق المعانى التى قد يكون لها أبعد الأثر في مغزى الكلام ثم عليه أن يكون عالماً بالقرآن علما حقيقيا وكذلك بالحديث وبالظروف التى أحاطت بنزول الآيات القرآنية وبالمناسبات التي جاءت فيها الأحاديث النبوية
فأما
أن
معرفة اللغة العربية معرفة متقنة فلا نظن أنها سبب يمنع من يكون المحاسبى من المجتهدين وهو الذى أظهر في مؤلفاته قيا بلاغية
نفيسة لا تنكر ثم إنه من أصل حفظت للغة العربية أصالتها
تفوقا
عربی خالص و ولد في مدينة اشتهرت بأنها
ولا نرى مجالاً للجدل في القول بأن المحاسبي في هذا الميدان لا يقل
أبي حنيفة مثلاً عن وأما العلم بالحديث فمن الثابت أن مؤرخى المحاسبي يصفونه بلقب المحدث ومؤلفاته تبين صحة ما لقبوه به وفى هذا المجال أيضا لا أن نضعه في مرتبة أدنى من مرتبة أبي حنيفة
يصح
وفيما يتعلق بالعلم بالقرآن وبالظروف التي أحاطت بالنصوص فمن المعروف أن المتصوفين يرتبون أهمية كبرى عليه ويختصونه بوافر الدراسة وكان المحاسبي من العلماء المرموقين في تعمقه وفهمه للقرآن ونستطيع الجزم دون أي مبالغة بأنه لا يقل عن أى مؤسسي المذاهب في هذا المجال

ولكننا لا نريد القول بأن المحاسبى مجتهد في كل المجالات
فالشريعة الإسلامية قسمان
١ - أحدهما يتصل بالعلاقة بين الإنسان وربه في أمور مثل الصلاة
والصوم وغيرهما وهو العبادات

١٣٦
- والثاني في مجال العلاقات بين الناس في أمور مثل التجارة والمبادلات والصناعات وغيرها وهو المعاملات
والمحاسبي لم يبد اهتماما كبيرًا بناحية المعاملات من الشريعة حيث كان في المقام الأول معلم أخلاق ولذلك لا نستطيع القول بأنه مجتهد في
هذا المجال
أما فيما يتعلق بالعبادات فينبغى الاعتراف بأنها الميدان المختار للفكر
الصوفي
لا
نريد أن نقتصر على القول بأن المحاسبي كان مجتهدا في ونحن هذه الناحية بل نذهب إلى أبعد من ذلك قائلين إنه فيها أكثر أهلية من
كثيرين غيره
فالمحاسبي كان متصوفا وكان شغله الشاغل تحقيق العبادة لله كاملة مطلقة وقد بلغ في ذلك ما لم يكد يبلغه كثيرون وكانت طبيعته الصوفية تعينه على إدراك إرادة الرسول التي يراها تعبيرا عن إرادة الله تعالى
تخلصت
ولقد تحدث عن الصلاة في مؤلفه مختصر كتاب فهم الصلاح حديثا يفصح عن روح من سائر التأثيرات سوى ما جاء بالسنن وقراءة هذا الكتاب تشعر نا بأن التقوى لدى المحاسبى بلغت من عمق الإخلاص
مبلغا يغبط عليه
وإذا كان المحاسبي يجمع كل الشروط المطلوبة في المجتهد فلا نرى ما يدعو إلى عدم القول بذلك وخاصة فى المجال الذي كان شغله الشاغل
طوال حياته وهناك بعد ذلك مجال كان تعمق المحاسبى فيه أقل درجة بل نرى أن استعداداته له لم تكن مثل استعداداته للحكم فى مسائل العلاقة بين الله

۱۳۷
والإنسان ذلك هو المجال الذي يتضمن مسألة ماهية العقل بيد أن المحاسبى كان فيه أيضا صاحب اجتهاد وهو يصرح لنا بذلك قائلاً إنه ألف كتابه ماهية العقل ومعناه معتمدًا أولاً على الكتاب والسنة والإجماع ثم على الاستنباط إن أمكن فالقياس في الحدود المشروعة۱
۱ المحاسبي ماهية العقل ص ۱۱

أ الفرض
الفرض والنفل
تحتل مسألة الفروض مكانة فى الإسلام قد تفوق مكانتها في الأديان
الأخرى
لذلك وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالمشرع
إن الإسلام سهل في عقيدته وهو يولى جل اهتمامه إلى الناحية الأخلاقية
وإذا لم تكن الفروض فيه شاملة للأخلاق فهى مع ذلك لدى المسلمين جزء جوهری وضرورى من العلاقات بين الله والناس وبين الناس بعضهم
و بعض
والفروض لا تختص فقط بالجسم والحواس بل إنها ترمى أيضًا في
جانب كبير منها إلى تطهير القلوب وسوف نعرض للفروض الخاصة بتطهير القلب في فصولنا التالية عن الأخلاق ونكتفى هنا بالحديث عن الفروض عامة ولما كانت المسألة مسألة جوهرية بالنسبة إلى الغاية التي نبتغيها من هذا البحث فلن نكتفى من الموضوع بالأمثلة المختلفة التي نوردها بل سوف نعمد في موضع آخر إلى عرض مخطوط صغير الحجم من مؤلفات المحاسبي عددًا وافرا من هذه الأمثلة وإن كان أغلبها بالسلب لا بالإيجاب
يتضمن

۱۳۸

۱۳۹
إن مسألة الفروض موضوع يتعرض له المحاسبي في الكثير من
مؤلفاته وهو يرى يرى أنه لا اختيار للإنسان في القيام بها أو
۱
عدم القيام بها بل
إن مجرد التفكير في تركها ذنب ١ فكيف بتركها ولما كانت ذات أهمية عظمى لنجاة الإنسان فإن المحاسبي يعرض لها باستفاضة فى كتاب الرعاية وهو كتاب غير صغير الحجم ويكاد يكون مقصورًا كله على تعليم الإنسان كيف يقوم بالفروض التي تلزمه والمحاسبى يعرض فيه بصفة خاصة للسبل الكفيلة بحسن القيام بها ويرى هذا الصوفى أن الله يطلب من ٢ الإنسان فروضًا وهو في كتاب الوصايا يوجز الرأى فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة فيقول فيهما نقله
عن
أحد العلماء
فإن البر والفاجر كلهم مجمعون على أن الله حق والرسول عليه الصلاة والسلام حق والقرآن والرسول حق والكتاب والملائكه حق والبعث والجنة والنار حق ليس بينهم اختلاف وأن الصلوات الخمس بوضوئها والغسل من الجنابة وصوم شهر رمضان والزكاة والحج وبر الوالدين وأداء الأمانة وكف الأذى وإنصاف الناس من نفسك واجب
على كل مسلم وأن ما قال الله حق و حرمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتِكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُم اللاتي فِي خَجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ
۱ المحاسبي الزهد ص ۱۳ ص ٧٦ تحقيق عطا طبعة صبيح

١٤٠
الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَينِ إِلَّا مَاقَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
۱
غَفُورًا رَحِيا 1
نكاحهن حرام والخمر حرام والسرقة والزنا والتطفيف والغش والخيانة والكذب وأشباهه حرام ليس بين البر والفاجر في هذا خلاف
وأهل السنة وأهل البدع فى هذا سواء ليس بينهم اختلاف وهذا الموجز بكل تأكيد لا يحصر سائر الفروض سلبًا وإيجابًا ولكننا نلاحظ أن بين تلك الفروض التي يسردها فروضًا تتصف بالعموم والشمول مثل كف الأذى
ونريد أن نضيف إلى القائمة السالفة فرض الجهاد الذي يهتم به المحاسبى اهتمامًا خاصًا ولا يكتفى بذكره على أنه واجب من واجبات المسلم بل يقدم الوصايا والإرشاد إلى الجنود حتى يلقوا ثواب عملهم عند الله وسوف نعرض لذكر بعض الفروض الأخرى فيما يلى من بحثنا

ومن الواجب على المرء حسن القيام بهذه الفروض ومن أجل ذلك تجب عليه معرفتها ومعرفة مواقيتها ووسائل الوفاء بها ثم أولوياتها في وجوب رعايتها
فإذا وجب عليك فرضان فابدأ بأوجبهما عليك في الكتاب والسنة وإن حضر وقتهما جميعا كحاجة الوالدة والوالد فابدأ بحاجة الوالدة وإنما مثلت هذا المثال فى الوالدين لئلا يطول تفسير كل شيء من ذلك فقس على هذا المثال ما أشبهه من ذلك
فليبدأ العبد بحاجة والدته لأن برها مقدم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجتماع
۱ النساء آية ۳

العلماء على تقديمها فى البر والطاعة على الوالد وكذلك إن لم يكن له والدة ولا والد وكانت له قرابة فأصابتهم خلة أو حاجة مما يلزم إزالته أو صلتهم ولم تقدر أن توسع عليهم جميعًا فابدأ بالأقرب فالأقرب وبذلك جاءت السنة فى الوالدين والقرابة حين سئل النبي فقال
له السائل
یا رسول الله من أبر قال أمك قال ثم من قال أمك
قال ثم من قال أباك
قال ثم من قال أدناك فأدناك
وكذلك كل ذى رحم محرم تبدأ به قبل من ليس بمحرم فإن استووا في القرابة فابدأ بأحوجهم إلا أن تكون واسعًا لهم أجمعين فتعمهم حينئذ
بالبر والصلة وكذلك لو ملك العبد ما يحج به وليس له ما يخلف لوالديه أو أحدهما أو أهله وولده إذا كانوا لا يقدرون على ما يقوتهم أقام وأثر الإنفاق عليهم على الحج وكان هذا أوجب عليه فى السنة وعند علماء الأمة وكذلك الميعاد يكون على العبد فيحضر وقت الجمعة أو آخر وقت صلاة من الصلوات الخمس فليبدأ بالصلاة التى يخاف فواتها قبل الميعاد وإن ضيعه فليس بمضيع له لأنه بدأ بما هو أوجب منه لأن المسلمين قد أجمعوا على أنهم إنما يتواعدون على غير ترك الصلاة المفترضة وإن لم يتكلموا به فذلك عقد
قلوبهم وكما إذا وجب عليه فرض قد حضر وقته فإنه يبدأ به قبل مالم يحضر وقته من الفروض وكالرجل يريد الحج في وقت فيه سعة من الأيام فيأمره والداه أن يقيم إلى آخر الوقت للحج فليطعهما ويبدأ بحاجتهما

١٤٢
حتى يأتي الوقت المضيق عليه فوته
كذلك جنازة القرابة تحضر يخاف فواتها فليبدأ بها وكذلك الميعاد يكون عليه قبل أن يخاف فوات الحج أو الصلاة فليبدأ بميعاده وكذلك يكون عليه الميعادان أحدهما لوقت معلوم من النهار والآخر لا وقت له معلومًا من النهار من الأيام كقوله آتيك اليوم أو الليلة أو آتيك ولا يذكر وقتا فليبدأ بالذي له الوقت المعلوم
وكذلك تفوته الصلاة المفروضة بنسيان أو نوم أو تفريط ويحضر وقت صلاة أخرى فليبدأ بالفائتة إلا أن يخاف فوات الداخلة فيبدأ بالداخلة ولا يضيعها كما ضيع الأخرى
والأمثلة التي ذكرناها توضح بعض الحالات التي يعرض للمرء فيها فرضان في آن واحد ولا يستطيع القيام بأحدهما دون الانتقاص من الآخر وإذا كان فى فرض فحضر فرض دونه فليتم ما هو فيه ولا يقطعه وذلك كالجمعة يدخل مع الإمام فيها أو صلاة الغداة في آخر وقتها فيدعى لجنازة قرابة فلا يقطعها لذلك وليتم ما بقى منها ونحو ذلك وقد اختلف في بعض ذلك وكذلك إذا كان فى الحج المفروض محرما به فكتب إليه والداه ألا تقيم ساعة فليتمه ولا يخرج منه
وقد يعرض الواجب فيؤديه بالاستعانة بالمعاصي كاكتساب الحرام والشبهة المجمع على تركها يريد بذلك غذاء عياله وأداء ما وجب عليه
من حقهم
أداء
أهله حق
كذلك الوالدان يهجرهما أو أحدهما إذا آذيا أهله أو ظلماها
يريد بذلك
ولعله أن يتأول فيقول امرأتى أسيرة فى يدى وقد أوصيت بها وكذلك

أهله يضربها أو يضيعها أو يشتمها بغير حق يريد بذلك رضاء والديه فعليه ألا يفعل شيئًا من ذلك فإن فعل فقد قام بواجب مستعينًا بمعصية الله عز وجل وهو حقيق ألا يتقبل منه ذلك وأن يغضب الله عز وجل عليه
وإن كان في فرض فعرض له فرض أوجب منه قطعه بعدما يدخل فيه بقلبه كالصلاة يدخل فيها فى أول وقتها أو أوسطه ثم يذكر أن عليه صلاة فائتة فليقطعهما وليصل الفائتة ثم يصلى هذه الصلاة التي قد بقى لها
وقت
وكذلك إن كان جالسا لميعاد ثم ذكر أن عليه صلاة فائتة فإنه يترك الميعاد ويبدأ بالصلاة الفائتة إذا خشى فوت الصلاة الثانية الداخلة قبل أن يقضى الفائتة كالعصر تفوته فخشى أن تغيب الشمس وأشباه ذلك وكذلك إن حرّج عليه والده أن لا يخرج عن بلدهم فيحضر النفير للحرب لظهور المشركين على المسلمين وليس فى وجوههم من يقوم بقتالهم فعليه الخروج وترك المقام وكذلك الصلاة يدخل فيها في أول وقتها فيرى رجلاً قد أضجع للقتل ظلا أو امرأة مستكرهة على الزنى وهو يقوى على أن يغير ذلك فليغير ذلك وليقطع الصلاة
وقد يطلب العبد الورع والنوافل فيضيع الفريضة وهو لم يتمها وقد يطلب العبد الورع بتضييع الواجب بترك المال وهو حلال غلطا خشية ألا يحل له أخذه ويترك الصناعة والتجارة والميراث الحلال يريد بذلك السلامة فيضيع العيال فيجيعهم ويعريهم ويسخط عليه الوالدان ويضيعها وهو يقدر على المال أو العمل الحلال
وكذلك يدع الحج مخافة أن يكون خالط ماله حرام من غير أن يعرف

١٤٤
شيئا
يعنيه فيه وكذلك أن يخرج من البلدة يخاف ألا يسلم فيها فيسخط
عليه والداه ويضيع عياله
وقد يضيع الفرض للوسوسة تعرض من الشيطان فيدع الفرض إرادة أن يؤديه على ما أمر ومخافة أن لا يجزيه أداؤه إلا بذلك يحسب أن ذلك عليه هو الواجب فيكثر الوضوء ويطيله حتى يذهب وقت الصلاة كطلوع الشمس لصلاة الفجر أو كفوت الجمعة وكذلك في الغسل من الجنابة أو يشتغل بالاستبراء ويرى أن ذلك واجب عليه وأنه لا يجزئه إلا ذلك ويتشاغل بذلك حتى تخرج أوقات الصلوات فيضيع الفرض بطلب إقامة الفرض غلطًا ووسواسًا
وسائر الأمثلة التي أوردناها تبين كيف يكون حسن أداء الفروض ذلك ليست بالحصر الكامل لكل ما يراه المحاسبي واجبًا على مع
ولكنها
المؤمن
ب النفل

النفل هو العمل الذي لا يوجبه الدين وإن كان يوصى به ويحث عليه لكونه فضيلة
لذلك يمثل النفل ناحية هامة من الإسلام وإن لم يلزم به المؤمن والمبدأ في رأى المحاسبى أن كل فرض يقابله في نفس الوقت نفل
مثله ۱
والنوافل ذات فوائد جمة رغم كونها غير واجبة ويقول المحاسبي جميع ما تطوع به العباد من النوافل التى لم تفرض عليهم ست خصال
۱ المحاسبي الزهد ص
0

١٤٥
إحداهما تكفير الذنوب وتكميل الفرائض وكذلك جاء عن النبي رواه عنه أبو هريرة وتميم الداري أن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة تعرض عليه صلاة الفريضة فإن كانت كاملة قبلها وإن كانت ناقصة قيل انظروا فإن كان له تطوع قال أكملوها به قال أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم
ثم تؤخذ الأعمال على سائر ذلك
وقال تميم الدارى عن النبي مثل حديث أبي هريرة إلا أنه قال فإن لم يكن له تطوع أخذ بطرفيه وألقى في النار فسبحان الله يتفضل على العبد حتى يكمل بتطوع عه فرضه حتى كان
عمل التطوع فرضًا في الدنيا
أما تكفير السيئات فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم
أتى السوق وقال لا إله إلا الله كفرت عنه ألف سيئة وقال من ما طلعت الشمس على رجل محرمًا ملبيًا فغابت عنه إلا غابت بذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه
وقال عليه الصلاة والسلام
من توضأ فغسل وجهه فذكر الله كفر عنه عن كل عضو أصاب من الذنب ما أصاب الماء
ذلك
وقال خفقان القلب في سبيل الله يحات الذنوب فياليته يفعل بنا
وإنما خص بالنافلة التى لا يكمل بها فرض ولا يكفر بها ذنب من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكذلك يرويه ابن المبارك أن النبي كان في مسير له فأوتر على بعير وترك ابن رواحة يوتر بالأرض
فقال النبي صلى الله عليه وسلم

١٤٦
عنك
بن رواحة أمالك في أسوة حسنة قال
بلی یا رسول الله ولكنك تعمل في عتق وأنا أعمل في رق
والأحاديث كثيرة فى العفو عن الذنوب بفضل النوافل
ومن
وأما الخصلة الثانية فشكر النعم ليرضى بذلك المنعم ولا يزيلها ذلك ما روى مسعر وسفيان ابن عيينة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة أن النبي كان يقوم حتى تورم قدماه فقيل له يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدًا شكورا
وكان على بن أبى طالب إذا جاءه شيء يعجبه يقول
الحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات
أما الخصلة الثالثة فتجريد القلوب وحياتها وعمارتها ليرجع ذلك إلى
قلوبهم لقوله عز وجل
1,
وَالَّذِينَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
ومن
ذلك الحديث القدسي قوله تعالى من عادى وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه
الخصلة الرابعة جزع من خسران العمر أن تمضى منه ساعة بغير
۱ آية ۱۷ من سورة محمد
رواه الإمام البخاري

١٤٧
طاعة وكذلك يروى في تفسير قوله عز وجل ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ۱ قال لا تدع أيام عمرك دون أن تعمل فيها لنفسك الخصلة الخامسة وهى أعظم الخصال وهي التي تهيج من قلوب أهل الاشتغال بالله تعالى المحبة له وهى الكراهية والجزع من مدخل طرفة عين بينهم وبين ربهم بالغفلة حباً له واشتغالاً بذكره وكذلك كل محب لمحبوب يجزع من كل حائل يحول بينه وبين الأسباب المشغلة كراهة أن تحل في قلوبهم الغفلة عن ربهم
وأما الخصلة السادسة فلخفة الحساب وقلة الحبس ولقربه من الله تعالى في الآخرة في الارتفاع فى الدرجات لأنهم إنما يدخلون الجنة بعد الرحمة بالتقوى ويعلون في درجاتهم بالقربة إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ألا تراه يقول تبارك وتعالى
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرات إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۳ ولنضرب الأمثلة فى حسن القيام بالنوافل لنبين في إيجاز ما يراه المحاسبي في بعض منها فقد يخدع المريد في البر الذي هو نافلة فيزيله العدو وهوى النفس عن الفضل إلى النفس فتستريح النفس إلى ما بينها أو يزيله العدو عن فضل ما بينها نفاسة عليه بالفضل وقد يعرض له أمران أحدهما أفضل من الآخر وقتها واحد ويزيله العدو والهوى عن أفضلهما إلى أدناهما كعيادة أخ مريض وزيارة أخ وحالهما سواء فى الحب والطاعة فيبدأ بالزيارة ويدع العيادة والعيادة صحیح أفضل لأنها زيارة وعيادة أو كالأخ المستقل بنفسه بوجود القوت وآخر
۱ آية ۷۷ من سورة القصص
آية ٤٨ من سورة المائدة

١٤٨
محتاج فيبدأ بالمستقل ويدع المحتاج وكزيارة أخوين أحدهما أنفع له في دينه والآخر أقل منفعة وإن كان قد يسلم معهما جميعا فيصده العدو عن المنفعة حسدًا منه والنفس تصده عن إتيانه خشية أن يستفيد ما ينغض عليها لذتها ويحملها على ما يثقل على النفس وفيه الفضل وكالدعاء للإخوان من الأغنياء على ألوان الأطعمة يريد بذلك البر والأجر وصلة الإخوان الفقراء ووضعه ما ينفق على الأغنياء فيهم أولى وكجنازة الغنى والفقير فيؤثر الذهاب مع جنازة الغنى لأياد تقدمت يريد أن يكافيء على أيادى الدنيا بالطاعة ويرى أن ذلك أفضل أو مداراة له أو مخافة لسانه ويرى أن ذلك أولى به والله أحق أن يؤثر فليأت الفقير إن كان أقرب جوارًا أو كان أفضل فى الدين أوليس معها من يقوم بها وربما آثر الذهاب مع جنازة الغنى بعد علمه أن الفقير أفضل لأثرة هواه فقد ضيع ما هو أولى به وأحث له على العمل على تعمد منه
وقد يعرض له مجلسان المحدثين أحدهما يحدث من الحديث بما هو أنفع في دينه وإتيانه أسلم من الخوض في الباطل فيأتي الذي هو أقل منفعة وأقل سلامة له والأولى به طلب المنفعة والسلامة
وكذلك طلب الحديث الذى قد سمعه مرة أو مرارا يريد بذلك ليعرف الإسناد من وجوه عدة ويعرض له جنازة أو عيادة مريض أو ذهاب في حاجة مع أخ مكروب أو مضطرب أو ضعيف غريب فيذهب إلى الحديث أن ذهابه إلى ذلك الحديث فضل والأولى به إتيان الجنازة أو عيادة المريض أو زيارة أخ يستفيد منه ما يزداد به خيرا أو إغاثة الملهوف لأنه إنما يطلب العلم لمثل هذه الخصال فإذا تركها ففى ماذا يستعمل العلم وليس يذهب إلى حديث هو به جاهل أو قد سمعه مرة أو مرتين أو
یری
مرارا إلا أن يكون فيه زيادة علم يستفيده فهو يخاف فوته

١٤٩
فإن كان يستفيد بذها به علا ينهاه عن رديء أو يدله على هدى فليذهب حينئذ فإن الذهاب إلى العلم أفضل
ذلك إلى
وكذلك الصلاة تعرض له في موضعين أحدهما تلهى النلس بالنظر والاستماع إلى كلام يكون فيه والآخر تسكن فيه الجوارح وينقطع فيه اللهو ويفرغ القلب ويكثر منه الفهم فيصده النفس والعدو عن هو أخف فيصلى حيث يلهو ويسهو إما بغلط يرى أن ذلك الموضع أفضل أو يؤثر هواه
ما
وكذلك يصوم فيضعف فينقطع عن إتيان الجنازة وعن طلب العلوم وعن عيادة المرضى أو عن الصلاة فلا يكاد أن يأتى برا بالنهار فالإفطار أولى به إلا أن يكون قد ينقطع عن بعض ويأتى بعضا فالصوم حينئذ أولى به لأن الصائم لا يخلو من الضعف وقد ينقطع أيضًا عن مثل ذلك البعض وهو مفطر فالإفطار خدعة إلا أن يكون ما ينقطع به عنه أفضل من الصوم ويكون لا ينقطع عن مثله في الإفطار
وقد يعرض له الفضلان أحدهما له وقت يفوت والآخر لا يفوت وقته وتكون النفس قد سخت بإتيان أحدهما أن يبدأ به أيهما كان وإتيان الآخر بعد فيصد النفس والعدو بإتيان ما لا يفوت وقته عما يفوت وقته كالجنازة تعرض وعيادة المريض الذى لا يخاف عليه عجلة الموت لظاهر العادة وكذلك المجلس من العلم لا غنى به عنه والجلوس للذكر والحديث مع الإخوان الذين لا يفوت لقاؤهم متى أراد فيدع العلم ويجلس معهم وكذلك قد يصلى وهو نشط قوى فتدعوه نفسه إلى النوم فتقول له إنه أقوى لك على أكبر غدًا فيقطع الصلاة وليس به ضعف ولا يعرف من نفسه بالنهار ضعفًا قاطعا فإن عرف ضعفًا قاطعا فلينظر حينئذ إن كان يقطعه ذلك الضعف عما هو أفضل من الصلاة صلى بقدر مالا يضعف بالنهار

١٥٠
ذلك الضعف وإن كان يقطعه عما دون الصلاة أتم الصلاة ولم يقطعها وكذلك المجلس قد يكون فيه مما يستفيد فيه ما ينفعه فتذكر النفس برا هو أدنى منه فيقوم إليه ويقطع ما هو فيه
وكذلك أن يكون صائاً فيفطر السرور أخ له لعله لا يغتم إن لم يفطر ولم يتكلف الطعام من أجله فإن كان تكلفه من أجله أو علم أنه يغتم وهو أخ مستحق للأخوة سره وأفطر وإن كان غير ذلك من الإخوان لم يفطر إلا أن يكون تكلف ذلك من أجله وحده أو يحلف عليه فيفطر حينئذ للحديث لأمر النبي أن يبر القسم
قال البراء بن عازب أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبر القسم وكذلك يدع العمل من الصوم والصلاة وغيرهما فيقطعه بعد ما يدخل فيه خشية ألا يسلم من الرياء والتصنع وقد أراد الله عز وجل به فذلك غلط إنما عليه المجاهدة بالإباء والكراهة ولو أطاع في ذلك نفسه لما بقى له كثير عمل إلا عرض له فى ذلك الرياء وغيره فلم يؤمر الناس بذلك أو يقطع العمل فى العلانية ليعمله فى السر وقد جرب من النفس الخدعة إذا صار إلى السر ترك العمل وكسل عنه فإن كان قد عوده الله عز وجل القوة على ذلك فليأته سرا فهو أحرز وأفضل
يصمت
وقد يقطع العمل خشية أن يقول هو مراء كالرجل يصلى في المسجد وحده والناس حوله جلوس أو يذكر الله عز وجل وهم يخوضون أو وهم فيما لا يحل أو يعرض عليه الطعام وهو صائم وهم مفطرون أو يبيت مع قوم وقد عوده الله القيام من الليل فيدع ذلك كله خشية أن يقولوا مراء فذلك غلط وترك فضل عظيم وعقده في الترك رياء منه يحب يدوم حمدهم وينظروا إليه بعين الإخلاص لا بالرياء وقد
لأنه
أساء
بهم
الظن أيضًا

151
وقد يقطع العمل خشية سوء الظن وإشفاقًا فيما يرى عليهم فقد خدعته نفسه لتستريح وقد أساء الظن بهم وقد يدع العمل وهو نشط لا يرى من نفسه فترة ولا ضعفًا فتدعوه نفسه إلى الترك وتقول المداومة على القليل أفضل فذلك خدعة من
النفس وسكون إلى الراحة فليغنم ما عرض له من البر إلا أن يجد من نفسه ضعفًا فإن تركه كراهة الفترة ورجاء المداومة فهو حينئذ أفضل وعلى كل فالعبد المعنى بنفسه المؤتم بكتاب ربه عز وجل وسنة نبيه همته محاسبة نفسه ليميز بين خطراته أيها الله عز وجل أرضى أو أيها الله عز وجل أسخط ونخلص مما سبق أنه إذا عرض للعبد أمران واجبان في وقت واحد بدأ بأوجبهما قبل الآخر الذي هو دونه في الوجوب أو عرض له واجبان لأحدهما وقت يفوت والآخر لا يفوت وقته بدأ بما يفوت وقته قبل الآخر فإن كان في فرض فعرض له فرض دونه لم يخرج منه إلى ما هو دونه
حتى يتمه
فإن كان في فرض فعرض له فرض أوجب منه قطع ما هو فيه ودخل في أوجبهما
وإن عرضت له نافلة وهو فى واجب لم يقطعه من أجلها وكذلك الفضل والتطوع يبدأ بالأفضل فالأفضل كما كتبت له وعلى قدر الأوقات وإذا نوى المؤمن العمل فعليه أن يعرض عما يقوله عنه الناس وقولهم فيه يجب أن لا يكون مدعاة لترك العمل أو قطعة ولا أن يكون هو السبب في القيام لهذا العمل

١٥٢
فإن عرض له فضلان ولم يتبين أيهما أفضل فلينظر أيهما يحب أن يأتيه الموت وهو عليه
ولكن النفل مهما كان أمره وفضله يجب أن لا يتم بواسطة ما هو ذنب
أو مكروه كالتصدق أو إطعام الفقير من مال تجارة حرام كذلك يجب الامتناع عن النفل إن نتج عنه ارتكاب الذنوب كالصوم مثلاً إذا أدى إلى التضرر والغضب ومسبة الوالدين أو الأهل أو الخدم أو إذا عاق عن السعى للرزق والإنفاق على الأهل وعندئذ يجب الإفطار لأن فرض الإنفاق على الأهل أوجب من الصوم ۱
1 اعتمدنا في مسألة حسن القيام بالفرض والنفل على كتاب الرعاية ص
٢٥ - ٣١

القيامة في تصور المحاسبي
يتضمن القرآن آيات عديدة تتعلق باليوم الآخر وخاصة في الأجزاء المكية منه نذكر منها على سبيل المثال قوله تعالى
إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطَّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النَّفوسُ زوجتْ وَإِذَا الْمَوءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وإِذَا الْجَحِيمُ سُعَرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ
وقوله
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَتَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ
وإذَا الْقُبُورُ بعيرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخْرَتْ ٢
وقوله
وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيحٍ لَا يُسْمِنُ نْ جُوع وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِها رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَّةٌ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُونَةٌ ۳
۱ من سورة التكوير من إلى ١٤ من سورة الانفطار من ١ إلى ٥ ۳ من سورة الغاشية من 1 إلى ١٦
١٥٣

والمحاسبي يتحدث عن القيامة فى مواضع مختلفة من مؤلفاته وهو يسعى بذلك على النهج القرآنى فى تحذير الناس إلى غرس التقوى في قلوبهم بالوعد ثم بالوعيد وقد خصص كتاباً لوصف اليوم الآخر وما يلقاه الإنسان بعد الممات هو كتاب التوهم
والواقع أنه لم يصدر هذا المؤلف كبحث ديني لشرح ما سوف يكون يوما ما في الآخرة ولكنه يصور فيه العالم الآخر ومصير الإنسان حسبها يتخيله هو منها وهو لا يناقش حجة أو يذكر مصادر علم وإن كان لا يخرج عن إطار
فكر أهل السنة وكتاب التوهم روائي وأروع ما يلفت نظر القارئ له بادئ ذي بدء أسلوبه العربي الباهر الذي يعتبر من مآثر المحاسبى الباقية على مر الزمن ثم إنه جعل من وصفه الآخرة نموذجًا أدبيا فريدًا واستطاع أن ينفذ بكل فصل منه إلى أعماق قلوب قارئيه
هذا لم يصدر عن عالم إلهيات بل هو من إنشاء شاعر
وليس لنا هنا أن نتناول مزايا هذا الكتاب من ناحية اللغة والأسلوب وإننا لنكتفى بعرض هيكله الأساسي
يرى المحاسبي أن الإنسان إذا حضر أجله رأى ملاك الموت في مظهر جميل غاية في الجمال أو فى مظهر مخيف ويحدثه هذا الملاك إما بالوعود الباسمة وإما بالوعيد حسبما أتى في دنياه من خير أو من شر وبعد أن يهال عليه التراب ينزل إليه ملكان يسألانه فإذا كانت حياته رت عليه الإجابة وإن كانت حياته شرا تردد في الإجابة وأثقل يسر
خيرا
عليه

١٥٥
ويفتح الملكان طاقة في القبر يلمح منها الجنة بكل روعتها أو جهنم وما أعد فيها من عذاب طبقا لما كانت عليه إجاباته
ويندثر جسم الميت ولكن يبقى فى روحه إلى يوم البعث إما السعادة وإما الشقاء
فإذا مات سائر البشر ولم تعد الأرض تحمل مخلوقا من الأحياء ولم يبق إلا الله الخالد تسمع أرواح الناس نداء يدعوها إلى الحساب الأخير عندئذ تنشق القبور ويخرج منها الجميع إلى حيث مصدر النداء وإذا اجتمع الكل اندثرت الكواكب وانطفأ نور الشمس والقمر وأظلمت الأرض وانشقت السماء وعندئذ تنزل الملائكة لتنصت إلى الحساب الأخير
ويرى الناس الملائكة كالعمالقة فيسألونهم إذا كان الله بينهم فيرتعد
الملائكة لذكر اسم الله ويجيبون
سبحان الله إنه ليس بيننا
ثم يصطفون حول المخلوقات المجتمعة ولما يكتمل التفاف الملائكة بالمخلوقات تعود الشمس إلى الظهور من فوق رءوسهم وتبلغ حرارتها مقدار عشر سنوات من الحرارة ولا ظل إلا ظل عرش الله ويستمر لظى الشمس والضيق الناتج عنه ثلثمائة عام حتى تطلب المخلوقات حسابا ولو كان مصيرها إلى جهنم وتتوسل في سبيل ذلك إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى حتى يشفعوا لهم فى ذلك عند الله فيكون جوابهم إن غضب الله عظيم وإنهم مشغولون بأنفسهم وإن كانوا أنبياء عندئذ تسعى المخلوقات إلى محمد فيشفع لها عند الله فيأذن الله
بالحساب

10
ويأمر الله جبريل بأن يحضر إليه جهنم وترتعد جهنم نفسها خشية عقاب الله ولكنها ترى أن غضب الله يقع على المخلوقات فتغضب هي الأخرى عليها ويسأل الله أنبياءه ماذا كان موقف الناس من دعوتهم فيجيبون على استحياء لسنا ندرى وأنت العليم وفي هذه اللحظة يتنكر الابن لأبويه والأبوان لابنها والصاحب لصاحبه وكل يسعى إلى ذكر ما كان له من فضل على الآخر في الدنيا حتى يظهره في الآخرة
1
وقبل الحساب تمد جهنم برقبتها لتلتهم بعض المخلوقات مستبقة الحكم عليهم" ثم تأتى الجنة فتستقبل من المخلوقات من كان يحمد الله في كل حال ومن كان يسهر الليل في ذكره ومن لم تشغله أمور الدنيا عن عبادته ثم تطير الكتب فتستقر فى أيدى الناس إما اليمين منها وإما الشمال٢ ثم ينصب الميزان ويتقدم إليه الناس والملائكة يزنون أعمالهم فإذا رجحت أعمال الخير قسمت للمرء الجنة وإلا كان مصيره جهنم
وتأتى كائنات من لهب لتسير بالناس إلى الله فيقرأ كل إنسان كتابه ويسأله الله عما اقترفه من شر فى الدنيا وكيف ارتكب هذا الشر برغم ما أفاضه عليه من نعم يكون حكم الله له أو عليه ولكن على الإنسان قبل دخول الجنة أو السقوط في جهنم أن يجتاز شريطًا ضيقًا حادا كالسيف قد علق من فوق النار يمشى عليه حاملا ذنوبه على ظهره وكل خطوة فوقه ألم رهيب ولهيب النار يصعد إليه
جميع
۱ ولا يذكر المحاسبي لهذا الأمر سبباً ونرى أنه يعني هنا تلك المخلوقات التي لا تستحق حسابا وحكما لشرها المتأصل فيها البادى عليها هذه الكتب سجل أعمال البشحفى الدنيا والكتب التي تستقر باليد الشمال
دليل اتهام أما التي تستقر باليد اليمنى فهى مظهر تكريم وثناء

١٥٧
ويلفح من فوقه فمن كان ممن حكم عليهم زلت قدمه وسقط فالتهمه الجحيم ۱
أما الرجل الذي كان خيرًا في دنياه فيمشى عللا الشريط في يسر وثقة ويرى الجنة قبيل الوصول إلى نهاية الشريط
وقبل دخول الجنة يغتسل فى عين ماء طاهرة شافية يرتد بها إلى الشباب ويتوج بالجمال ثم يشرب من عين أخرى فيتطهر من كل آفات القلوب فإذا ما أتم ذلك كانت له الجنة التى يعرض المحاسبي لها بالوصف بعد ذلك ووصفه تجميع لكل العجائب التي يمكن أن تخطر على بال فمن أرض الجنة تتصاعد العطور والقصور عليها من الأحجار الكريمة والنساء فيها مكتملات الجمال وينبهر المرء أمام الجمال الساطع الذي يشهده في هاتيك الحور العين وهن كثرة يسقين الرجال ما طاب من الشراب في كنوس من فضة وذهب حليت باللؤلؤ
وهذا الفصل من كتاب المحاسبى ملفت للنظر بما فيه من تصوير بارع للملذات الجسدية مع الحور ولا شك أن الموضوع مهيأ للتخيلات الشاعرية بصفة خاصة بيد أن أسلوب المحاسبي في اللوحات التي ابتكرها فكره وصل هنا إلى قمة كماله
رسم
ويمكن القول بأن هذا الفصل واسطة العقد من الكتاب وإننا لنرى – كما يرى الأستاذ ماسينيون والأستاذ آربرى۳ - أن كل ما جاء به المؤلف من وصف مبدع إنما هدفه في الحقيقة أن يكون
1 يطنب المحاسبي في تفاصيل عذاب الجحيم والملاحظ أنه يتحد دائما عن
العذاب الجسدي الذي يلاقيه فيه الإنسان
ماسينيون دراسات ص
۳
۳ آربری مقدمة كتاب التوهم

مقدمة
المختارة

ومقدمة موسيقية بروعة لغتها لتجلى الذات الإلهية للصفوة
الأحجار
فإذا ما نال أهل الجنة حظهم من هذه النعم ناداهم الملائكة إلى سعادة أخرى أن يمتطوا جيادا سماوية زينت رءوسها بتيجان من النفيسة فإذا ما وصلوا إلى غايتهم أجلسوا في مقاعد وثيرة وأتم الله إكرامهم بوليمة أطباقها من ذهب وخدمها الملائكة ويواصل المحاسبى وصف ما يلقاه أهل الجنة من رضوان ربهم ثم ترفع الستر ويتجلى عليهم الله فى روعة كماله فإذا رأوا الله كان لهم بذلك من السعادة ما لم يقدروا قط على تخيله فالله الخالد لا شبيه له ويسلم الله عليهم ويحدثهم وينصتون إليه فى شوق ويشعرون بسعادة لا تحد تنزل في قلوبهم وتستنير وجوههم بانعكاسات هذه السعادة العليا وأخيرا يأذن الله لهم بالعودة إلى الجنة ليعيشوا فيها أبدا خالدين في
النعيم والسعادة لتى أفاضها على عباده المخلصين

الباب الثالث
الأخلاق عند المحاسبي
* النظرية الأخلاقية النفسية عند
المحاسبي
* الطبيعة الإنسانية والنجاة
* المرشد
* الله والعمل الصالح
* الخير
*
مراقبة الذات المحاسبة
مرتكب الذنوب والطريق النفساني إلى النجاة
* الرياء يحبط عمل الخير
* عناصر الشر
* آفات النفس
الغرة
* الحسد
السلوك اليومي

النظرية الأخلاقية النفسية عند المحاسبي
القول بأن المحاسبى صاحب نظرية أخلاقية قائمة بذاتها وأن هذه النظرية مستقلة عن رأيه فى النفس وأن هذا الرأى في النفس لا يرتبط بدوره ارتباطا وثيقا بنظريته الدينية قول لا تقره الدراسة الصحيحة
لفكره
فالأخلاق ومعرفة النفس والدين مفاهيم تتداخل كلها وتمتزج لدى
هذا الصوفي
وإذا أردنا مزيدا من الدقة فعلينا أن نقول بأن الأخلاق ومعرفة النفس
لديه ينبعثان من الدين ويقاسان بمعاييره وهدفهما خدمته وإبداع المحاسبي الأصيل إنما يظهر في تحليله النافذ المتكامل للنفس وغاية هذا التحليل الوقاية من الشر ومن ارتكاب الذنوب وعلاجها أساسا والنجاة منهما ومع يعتمد على الدين وأن هدفه الأوحد مرضاة الله والتوصل إلى سبيل النجاة فتحليله هذا للنفس الإنسانية يبلغ مرتبة رفيعة في الأصالة والابتكار
أنه
واعتمدنا أساسا في بلورة اتجاهاته هنا على كتابه الرعاية وهو أهم مؤلفاته بالإضافة إلى أنه يتناول الموضوعات التي تعنينا بصفة خاصة وقد ألف كتاب الرعاية فى فترة متأخرة من حياة المحاسبي الفكرية وكان ثمرة لفكر ناضج مكتمل النضوج ونعتقد أنه يحتوى على آرائه النهائية ويعبر عنها خير تعبير وهذا لا يعنى بطبيعة الحال أننا لن نرجع في بحثنا إلى مؤلفات المحاسبى الأخرى
١٦١

١٦٢
ولا نجد مناصًا في بدء ترتيبنا لأفكار المحاسبى من ذكر العقبات الجمة
التي لقيناها ففى مؤلفاته تتداخل الفصول بعضها في بعض والمحاسبي يضع لكل كتاب من كتبه ولكل فصل من فصول كتبه
عناوين محددة غير أنه لا يلتزم كثيرا بهذه العناوين
عمل
ولكننا اهتدينا في دراستنا للمحاسبي بما يلى إنه يرى أن هناك مشاعر للقلوب جوهرية بغيرها لا يصح ولا يقبل وتأتى بعد ذلك مشاعر وأعمال أخرى تصح ونقبل طبقًا لما يكون عليه أساسها وهذا ما نسميه بالنظرية فيما يتعلق بفكر صاحبنا ولو أردنا - تيسيرًا على القارئ - أن نصنف نظرية المحاسبي بين النظريات الأخلاقية الكبرى لأتينا بها تحت عنوان نظرية النجاة فغايتها في الواقع هى تمكين الإنسان من إنقاذ روحه بالخضوع لتعاليم الدين حتى يستطيع يوما ما أن يكون من عداد الفائزين بالآخرة
السعيدة

الطبيعة الإنسانية والنجاة
إن الله تبارك وتعالى خلق النار فقال الجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها
<<
وخلق الجنة فقال الجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لا بها أحد إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال يسمع اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ۱
فالجنة بما احتوته من سعادة هي لمن ترك ما يهوى قلبه وتشتهيه نفسه ورعى حقوق الله رعاية صحيحة والنار بما فيها من عذاب هي لمن استجاب لمنازع السوء فى نفسه وللهوى ولم يراع ما أمر الله به ولكن طاعة الله ليست بالأمر الهين فالإنسان جبل على حب ما وافقه وبغض ما خالفه والشهوات واللذات والغرائز الكريهة تبدو له ذات بريق تنزع إليه نفسه بينما الأعمال التي أمر الله عز وجل بها وندب إليها أكثرها ممل للقلب متعب للجوارح
والغاية هي
ما
نہی
مقاومة هذه الطبيعة الإنسانية حتى يستطيع المؤمن أن يجانب
الله عنه وأن يقوم بما أمر به
۱ المحاسبي الرعاية ص ١٣
١٦٣

١٦٤
وكلما كان هذا الصراع كريها في الطبع ثقيلا على النفس وجب على الإنسان البدء به ومواصلته
فالله قد خلق ليبتليهم ومن انتصر فى هذا الصراع كانت له الجنة وأن يقاوم الإنسان طبيعته لا يعنى القضاء على هذه الطبيعة فطلب ذلك محال ويرى المحاسبى أن للكائن من أهل السماوات والأرضين ثلاث طبائع - الملائكة وقد طبعهم الله على العقول والبصائر وعراهم عن الهوى والشهوات وهم دائبون في طاعه الله عز وجل ذكره لا يفترون إذ لم يجعل فيهم الأضداد التي بها يفترون والأهواء والشهوات التي تصد وتؤثر على الطاعات والذكر ولم يجعل لهم ثواب نعيم الجنان إذ لم يجاهدوا الأهواء ولم يتحملوا الآلام والنصب وكذلك ليس خليقا أن يدخلوا
النار وقد أجيروا من عذابها
المرون

الأنعام والطير والهوام - وقد طبعت على ضد الملائكة
- وهى
الفئة
الأدنى من ما تغتذى وتطلب معاشها وتحذر على نفسها وأولادها بقدر ما عرفت من المكروه ولم يجعل لها الله عقلا تدرك به الأمر والنهي والعلم للعواقب لذلك فقد رفع عنها العقاب في كل ما أصابته من الشهوات ولم يؤاخذها بما أتت من شر وجعل آخر مصيرها أن تكون ترابا
الأحياء اء خلقها الله على الشهوات وجعل فيها المعرفة بقدر
وهكذا نجد من ناحية طبيعة الملائكة وكلها عقل وبصيرة ومن ناحية أخرى طبيعة الأنعام والطير والهوام وكلها شهوات لا عقل فيها وبين النقيضين تجد الطبيعة الإنسانية مكانها وهى ثانية الطوائف الثلاث وفيها من طبيعة الملائكة العقل الذى يحتمل الأمر والنهي ويعرف العواقب ولكن فيها أيضا الغرائز التى تحب كل ما يوافقها وتبغض كل ما يخالفها أو يؤذيها وأمر الله الإنسان أن يجاهد - بما
أعطاه
من عقل-

10
ما دعت إليه النفس من قبل غريزتها وخلق الثواب وخلق لعقاب لهذا الإنسان الذي يدرك معنى صراع النفس ولكنه قد يترك لها العنان غير مبال بما أمر به الله ولكن يجب أن لا نتخيل أن الله كلف الإنسان بالقضاء على الغرائز فالقضاء عليها قضاء على الإنسان ولن تزول هذه الغرائز أبدا ولن يتحول الإنسان إلى ملاك
ولا شك في أن هناك رجال يسكتون نداء الغريزة في نفوسهم وهم الأقوياء بيد أن غرائزهم لا تنمحى وإن استكانت
إنها تضعف وتخمد بالمجاهدة ولكن سرعان ما تتيقظ إذا وجدت
الظرف المواتى لها وقد تتخذ صورًا يغتر لها الإنسان
ومقاومة الشهوات والغرائز التي تدعو الإنسان إلى المعصية لا تعنى مقاومة كل الشهوات والغرائز الإنسانية فالهدف هو تطويع النفس بما
يرضى الله
المرشد
تطرقت بنا بحوثنا فى التصوف إلى ما قد يكون هناك من علاقة بين نظرية المعرفة لدى الصوفية وبين نفس النظرية عند اللا أدرية فلاحظنا صلة وثيقة بين الفريقين وإن بدا هذا لأول وهلة تناقضا عجيبا إن التدرج المنطقى الذى يؤدى بالمتصوفين إلى التصوف هو الذي يؤدى باللا أدرية إلى الشك ولدى الجميع نفس اليقين العميق بأن الإنسان لن يجد السبيل إلى الحقيقة المطلقة لأن حواسه وعقله قاصرين عن ذلك وكان
هذا هو السبب والأساس في تحول الغزالى إلى التصوف

١٦٦
لم يصل إلى الحقيقة بعد طول الجهاد فراح يبحث عنها في طريق آخر غير الذي دأب عليه راح يبحث عنها خارج نفسه إن صح هذا التعبير وقصور الإنسان عن إدراك الحقيقة أمر ذو شأن كبير لدى المحاسبي أيضًا
ونحن لا نعلم إن كانت الأزمة التي مر بها قد اتسمت بنفس النهج المنطقى الذي سارت عليه عند الغزالى ولكننا نقرأ في كتاب الوصايا أن المحاسبى قلق كثيرًا لعدم توصله إلى الحقيقة وخشى أن ينتهى أجله قبل أن يدرك مراده وفي ذلك يقول
فعظمت مصيبتي لفقد الأدلاء الأتقياء وخشيت بغتة الموت أن يفجأني على اضطراب من عمرى لاختلاف الأمة فانكمشت في طلب عالم لم أجد لى من معرفته بدا ولم أقصر فى الاحتياط ولا في النصح فقيض لى الرءوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا ۱
وإذا كنا لم نعثر على شيء كثير من التفاصيل الخاصة بالطريق الذي سلكه هذا الصوفى من أجل الوصول إلى غايته فإننا نجد مع ذلك في كتاباته معلومات تبلغ درجة كبيرة من الوضوح والتحديد بشأن المتشكك تجاه الآراء الشخصية وهو القائل
موقفه
قد ينفى العبد العجب بالرأى الخطأ بتهمة نفسه لمعرفته ما بنيت عليه في الخلقة أن من شأنها السهو والغفلة ولما جرب منها من كثرة غلطها وكثرة زللها وسوء تأويله مالا يحصى مرارا كثيرة في كل ذلك أنه یری مصيب لا يشك عند نفسه في ذلك ثم يتبين له بعد أنه قد كان غفل و غلط وكان استحسانه لذلك من قبل الهوى وتزيين الشيطان ولو لم يبعثه على تهمتها إلا ما يعرف من عامة هذا الخلق من غلطهم وقولهم في دين
۱ المحاسبي الوصايا ص تحقيق عبد القادر عطا

١٦٧
الله عز وجل بغير الحق وكلهم يزعم فيها يدعى الحق وهو على باطل وهو – مع ما هو عليه من الباطل - لا يشك أنه محقق صادق وأن من خالفه مبطل كاذب وقد علم أن النفوس طبعها بعضه قريب من بعض بل كلها لا تعرى من السهو والغفلة وما نفسه إلا من أنفس الخلق من ولد آدم عليه السلام بنيته كبنيتهم وغريزته كغريزتهم ومع ذلك فإن المزين لهم واحد وهو الشيطان المرصد لهم بالعداوة والباغى لهم الزلل والعصيان فإن أثبت في قلبه هذه المعرفة بنفسه اتهمها
ولم يزل ذلك شأن الصالحين العارفين بأنفسهم يقول ابن مسعود رضى
الله عنه أيها الناس اتهموا الرأى
ويقول سهل بن حنيف أيها الناس اتهموا آراءكم
ويقول عمر رضی الله عنه اتهم رجل رأيه۱
فهل يعني ذلك الإخلاد للشك

أمامنا لا بكل تأكيد فأمامنا المرشد الهادى والمصباح المنير القرآن وإلى جانبه السنة والإجماع وفى القرآن تفسير كل شيء فلنتفكر فيه ليل نهار وعلينا بفهمه والعمل به
ومن ابتعد عن القرآن ابتعد عن الشفاء ومن اتبعه استقر في نعيم
الجنان ۳
وليست الحقيقة

إلا السنة ٤ في الواقع
۱ الرعاية ص
٢٤٠
9
٢ أدب النفوس ص
۳ المراقبة ص ١١
٤ أدب النفوس ص ١٣٤

الله والعمل الصالح
إلى أي حد يكون فضل الله في الأعمال الصالحة التي يأتيها الإنسان المعروف أن علماء الدين المسلمين أثاروا هذه القضية وناقشوها والواقع أنهم لم يحصروها في الإطار الضيق الذى نضعه لها الآن وإنما بحثوا مسألة الأعمال الإنسانية في مجموعها الصالح منها والخبيث وكان رأى المعتزلة جازمًا بأن الله لا يتدخل في عمل الإنسان
فالإنسان هو الذي يأتيه وهو المسئول عنه
وكانت هناك وجهات نظر متفاوتة الصلة بفكرة القضاء والقدر وموقف المحاسبي تجاه الأعمال الصالحة يتميز شيئا ما عن غيره فهو يرى أن الله يوقظ ضمير الإنسان بما يذكره به من غضبه والعقاب الذي أعده لمن يقع يصفه من النعم العظمى التي خصصها لمن أطاعه
۱
عليه ثم إن الله هو الذي يشرح قلب الإنسان ويحثه على الخير ثم هو الذى يمنحنا من فضله ويقوينا فى العمل الصالح ولكن هذا لا يعنى أن الله هو الذي يقوم بالعمل لأنه بغير فضل من الله لا يتجه الإنسان إلى هذا العمل حيث لا يمهله فيه هوى النفس بل يشغله بغيره
قال
ومما يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال ما أصاب داود - صلى الله عليه وسلم - الذنب إلا بإعجاب أعجبه من نفسه أن
۱ هلموت ريتر مخطوطات الحارث بن أسد المحاسبي ص ۹۸

١٦٩
يا رب ما تأتى ليلة إلا وإنسان من آل داود قائم وما يأتي يوم إلا وإنسان من آل داود صائم فأوحى الله عز وجل إليه يا داود إن ذلك لم يكن إلا بى ولولا عونى إياك ما قويت على ذلك وسأكلك إلى نفسك وفي حديث آخر وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك فطاعة الله أعجب بها فأدركته العقوبة على ذلك
الندم والحزن أيام حياته والتبعة في الآخرة
حتى أصاب ذنبًا أورثه
يوم
حنين
لأصحاب
ومن ذلك ما قال الله عز وجل في كتابه العزيز في محمد صلى الله عليه وسلم وهم خير عصابة على وجه الأرض بل لا عصابة تعبد الله عز وجل غيرهم ومن تبعهم غضاب الله عز وجل ينصرون دين الله عز وجل
مستجمعون لقتال أعداء الله عز وجل فقال الله عز وجل وَيَومَ حُنَيْنٍ إذ أعْجَبتِكُمْ كَثرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَت عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحْبَتْ ثُم وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ۱ فيمكن - إذن - تلخيص موقف المحاسبي من الأعمال الإنسانية
فيما يلي الله يحض الإنسان على الخير
وهو يقويه عليه
ولولا هذا الفضل من الله لما استطاع الإنسان إلى العمل الصالح سبيلاً بما يقع عليه من تأثير هوى النفس ودعوة الشيطان
1 الرعاية ٤٠٧ - ٤٠٨ والآية من سورة التوبة ٢٥

لماذا
الخير
لعل الصواب قبل التعرض لمفهوم الخير عند المحاسبي أن نبحث

في نظره يجب على الإنسان عمل الخير
قيل عن الكثير من المتصوفين إن الهدف من عمل الخير لديهم ليس دخول الجنة وتجنب الجحيم أو حسن المقام فى الدنيا ولكنه تقرب من الله
وسعى إلى محبته
وهذه الفكرة موجودة فعلا عند المحاسبى ولكنها ليست بالوحيدة المسيطرة عليه فهو يقول ويردد أن هدف عمل الخير تجنب العقاب في
الآخرة والفوز بنعيم الجنان
غير
أن قمة هذا النعيم الأخروى هى بطبيعة الحال مشاهدة الله وكتاب التوهم دليل واضح لنا في هذا الأمر
ومع
ذلك فحسن المقام فى الدنيا جزء مما يهدف إليه الإنسان بعمل
الخير يقول المحاسبى عن رعاية حقوق الله
وجعل الله القيام بها مفتاحا لكل خير في الدنيا والآخرة وهى التقوى ولأهلها أعد الجنة ولأهلها جعل الأمن في الآخرة وإياهم وعد قبول الأعمال وإياهم سمى بالولاية ورفع عنهم الخوف والحزن في يوم المخافة والأحزان ولهم جعل النصر فى الدنيا والمعونة على طاعته ولهم
جعل المخرج من كل ما ضاق على العباد ولهم ضمن الرزق من غير الوجوه التي يحتسبونها ۱
۱ الرعاية
۱۷۰

۱۷۱
وفى نفس المعنى يقول أيضًا
ففی نعیم الطاعة في الدنيا والظفر بنعيم الآخرة عوض من تنغيص
لذات الدنيا ١ ففي طاعة الله يجد العبد النعيم المقيم الحقيقي
والمحاسبي – إذن – يقر فكرة النعيم في الدنيا ولكن الأمر الجوهرى عنده هو نعيم الآخرة وهو يجمع مختلف الغايات التي يبتغيها الناس من عمل الخير فيجدها أربعا
أولها - خيرها وأشرفها - وأصحابها يأتون الخير رعاية لحقوق الله وهم يدركون عظمته بقلوبهم فتكون سعادتهم في تقربهم منه بطاعته وثانيها يأتى أصحابها الخير ليسكنوا بجوار ربهم في الجنة وينعموا بما وعد به عباده وثالثها أصحابها يخشون العقاب الشديد الذي أعد لمرتكبي الذنوب
ويمنعهم خوفهم من التفكر في الثواب ورابعها أصحابها كل من تعفف وعلم أن الله يطلع على سائر أعماله ونياته فكره أن يريه نفسه وهو يعمل أو ينوى على غير ما ارتضاه له ٢ والآن ما هو الخير في نظر المحاسبي
مفهوم الخير لديه ليس بالمؤسس على براهين منطقية يثبتها أو بالمستخلص من فلسفة تستقل عن المجال الديني الخير - فيما يراه هو وبكل بساطة - ما يقول الدين الإسلامي إنه خير وليس هذا بالمفهوم العجيب أو الذى يفتقر إلى المنطق فالمحاسبي مؤمن كل الإيمان بالإسلام ولا شك لديه فى الوحي الذي نزل على
۱ الرعاية
أدب النفوس ص ۹۳

۱۷
محمد فهو جزء لا يتجزأ من العقيدة وحتمية الإسلام لا تقبل في
فكره الجدل
إذن وما دامت القوانين الإلهية هى القوانين الحقة وهي وحدها الباقية الكاملة فليس من داع إلى البحث عن الخير في غير ما تعلمنا إياه وقد عرضنا من قبل لوجهة نظر المحاسبى فى الآراء الشخصية تحت عنوان المرشد ولقوله
وقد علم أن النفوس طبعها بعضه قريب من بعض بل كلها لا تعرى من السهو والغفلة
لذلك نعتقد أن مجرد التفكير فى بناء مفهوم الخير على أساس غير الدين لم يكن ليخطر للمحاسبي
كذلك
المحال تصوره مرددا لقول المعتزلة بأن العقل يمكنه بذاته من
إثبات ماهية الخير فهو يختلف عنهم في هذا كل الاختلاف حتى في الألفاظ التي يستخدمها فكلمة الحسن مثلا الشائعة لدى المعتزلة والتي هي مصطلح فلسفى أكثر منه دينى لا ترد في كتابات المحاسبي إلا نادرا وهو يعبر عن نفس المعنى بكلمات دينية أصيلة مثل البر أو الخير مرادفين لـ الحسن وفى ضد الحسن لا يستخدم كلمة القبيح وإنما يلجأ إلى كلمتى المعصية و الشر
ولما كان هدف الأخلاق في نظر المحاسبي هو نجاة الإنسان فليس من
المستغرب أن يصبح كل عمل في سبيلها خير ولسوف نعمد بادئ ذي بدء إلى بيان مبدأ ينبني عليه فيما يراه مفهوم الخير وليس هذا المبدأ في الواقع ورغم مظهره – بالمبدأ المستقل عن الدين حيث يلجأ المحاسبي في شرحه إلى اعتبارات دينية بحتة

۱۷۳
هؤلاء الذين سوف يفوزون بالنجاة هم أهل العدل و أهل الفضل والعدل ضرورة للنجاة والعدل حسن السلوك أما الفضل فليس بفرض إنه نفل ومن العدل أى من الفروضش الصبر والورع والإنصاف ومن الفضل أى من النوافل وليس من الفروض الزهد والرضا والإحسان ومن انشغل بالعدل عن الفضل عفا الله عنه أما من انشغل بالفضل ولم يعدل فهو ضال يتبع هواه وحتم على من يبتغى العدل أن يعرف معنى الإنصاف ۱
وفى موضع آخر من نفس الكتاب وهو أدب النفوس يقول المحاسبي إن الأمور التى تؤدى للنجاة أربعة
أولها وأهمها معرفة الله
وثانيها وهو أيضًا على درجة كبيرة من الأهمية – أن يكون العمل لوجه الله وليس إرضاء لخلقه
وثالثها ترك ما نهى الله عنه والقيام بما أمر به

أما رابعها فحمد الله على ما أفاض من نعم إذن فالمبدأ المؤسس عليه مفهوم الخير ليس أن يكون الإنسان عادلاً فحسب ولكن أن يكون عدله مطابقا للمفاهيم التي حددها الإسلام ولذلك شرح لنا المحاسبى أنه من المحتم على المريد للعدل أن يعرف معرفة عليه أن يعرف متى يعمل وكيف يعمل
صحيحة ما أمر الله به كذلك يتحتم فيكون عمله طاهرا خالصا
۱ المحاسبي أدب النفوس ص المحاسبي أدب النفوس ص

١٧٤
والإنسان الذي لا يعمل الخير لابد أن يتحلى بخصائص عدة أولها الصدق والصدق في نظر المحاسبي هو بكل بساطة السنن الإسلامية والصادق من اتبعها اتباعا أمينا
ثم الإخلاص أى أن تكون أعمال الإنسان لوجه الله لا يبتغى منها
جزاء ولا شكورا
فضله
ثم الحمد أي دوام حمد الله على نعمه فكل النعم من وأخيرا الرجاء والخشية رجاء قبول العمل وثوابه وخشية الله
وعقابه
والرجاء والخشية يجب أن يكونا متوازيين لدى الإنسان كما وجه إلى ذلك الرسول ۱
ولما كان الخير فى رأى المحاسبى هو القيام بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه فلا عجب في الاهتمام الكبير الذي يوليه لـ التقوى وفى نظره إليها على أنها مفتاح النجاة
والتقوى في مفهومه الخوف والحذر من الله خوفًا وحذرًا ينطويان على ضرورة أداء ما أمر به والابتعاد عما نهى عنه
والتقوى تتعلق بالجوارح كما تتعلق بالضمائر وحقيقتها في الجوارح القيام بالحق وترك المعاصى وحقيقتها فى الضمير إرادة الديان في الفرض وإخلاص العمل له في النفل
وبغير التقوى لا تقبل أعمال الطاعات التى ندب الله إليها عباده ولم
يفترضها عليهم
۱ المحاسبي أدب النفوس ص

۱۷۵
والتقوى أساس طاعة الله وهى أيضا مصدر الورع والدافع إلى كل
أعمال الخير
فالتقوى أول منزلة العابدين وأعلاها وبها تزكو أعمالهم لأن الله - عز وجل لا يقبل عملاً إلا ما أريد به وجهه
وبغير التقوى لانجاة في الأخرى
ألم
يعد الله جنته لأهل التقوى أفى هذه الجنة مكان لمن لم يتقه لقد أمر الله جل ثناؤه فى كتابه في آيات كثيرة بها وعظم قدرها وقدر القائمين بها ونبهنا النبى الله عليها بسنته وعظم قدرها والعلماء من بعده إلى عصرنا هذا
غير أن التقوى ليست بالشيء الذي يختص به الدين الإسلامي وحده
إنها أمر عام وتوجد حيث يوجد كل دين منزل
ويقول المحاسبي بأن الله أوصى بها أنبياءه وعباده قبل الإسلام كما أوصى بها نبي الإسلام والمؤمنين ۱
ولكن التقوى إن اقتصرت على القيام بما أمر الله به ومجانبة ما نهى عنه وعلى فرض عمل الخير وترك الشر فلن تكون شاملة لمفهوم الخير
كله
فالنوافل والفضل جزء لا ينكر من الأخلاق بل لعله من زاوية معينة أسمى مكوناتها والقيام بالفرض ليس سوى تنفيذ الإنسان لما أمر به وإن كانت كبيرة من وجهة النظر الدينية - لا تعادل في رأى
وقيمته

رجل الأخلاق التطوع بالعمل الصالح
۱ المحاسبي الرعاية ص ٦ - ٨

١٧٦
ولكن الدين الإسلامي لم يغفل هذه الناحية وبالتالي نرى مهتما بها إهتماماً جليا
ما
اسبی
ولقد رأينا في عرضنا للمبدأ الذى أسس عليه مفهوم الخير لدى هذا الصوفى أنه اتخذ مما هو عدل الواجب الأخلاقي ولكنه لم يهمل إبراز أكثر هو من العدل أي العمل الصالح التطوعي أو الفضل والحقيقة أن الفرض ليس إلا أقل القليل الواجب إنه من وجهة نظر الإسلام - ومن وجهة نظر المحاسبي - لا يشمل كل مفهوم الخير فقد لزم أولا وضع قوانين واجبة يؤسس عليها النظام الاجتماعي ووضعها الإسلام في صورة الفروض ثم تكون بعد ذلك الدعوة إلى الخير التطوعي والحث عليه وهذا ما قام به الإسلام أيضًا
والمحاسبي - طبقا للمبادئ الإسلامية - يخص النوافل والفضل بمكانة كبيرة ولكنه - بطبيعة الحال - يجعلها في الترتيب بعد الأعمال الواجبة وفي تفصيله للأعمال التى هى الخير يجعلها طائفتين
أعمال القلوب وأعمال الجوارح
فأما فيما يختص بالثانية فقد عرضنا لمعظم جوانبها في صفحات سابقة تحت عنوان الفرض والنفل و الذنب والتوبة
وأما فيما يتصل بأعمال القلوب فسوف نعرض لها بعد قليل حيث نريد - أولا - إثبات أمر جدير بالملاحظة وهو أن هذه الفروض والنوافل ليست – في عمومها - بذات طابع محدد يجعلها صالحة للبيئة التي نشأت فيها فحسب بل إن القليل منها الذى يختص بالشعائر وبالتالى
الذي يحمل طابعا إسلاميا بحثاً قد أنشئ لغاية أخلاقية ولا ينكر أن هذه الفروض والنوافل إنما هى من الدين قبل كل شيء

۱۷۷
وأن هدفها الأخير هو النجاة في الأخرى ولكن لما كان من أغراضها السمو بالضمائر البشرية وإصلاح العلاقات بين الناس فهي – أيضا وبنفس الدرجة من القيم الأخلاقية
وعلى أي حال فالدين والأخلاق يربط بينهما أوثق الصلات بل إننا
لنشك كثيرًا في إمكان وجود أخلاق منفصلة عن الدين
ولنعد الآن إلى أعمال القلوب المفروضة حيث يقول المحاسبي إنها
تتلخص في ثلاثة أمور
۱ - الإيمان بالله
٢ - الاعتقاد بالسنة ومجانبة البدع
يرضيه
- الاعتقاد بضرورة طاعة الله ومجانبة كل مالا وهذه الأعمال الثلاث للقلوب تتضمن بدورها فروعًا عديدة فهى تفترض على سبيل المثال الخشوع وترك العجب والكبر كما تفترض إيثار المحتاج ودوام الدعاء للأمة الإسلامية ومخافة الله ومجانبة الغرة والتخلص من الحقد والبغضاء
وتفترض
أيضا ا الصبر والشعور بالرضا واليقين بأن ما في الدنيا زهو
باطل فان وترك الحسد
وتفترض كذلك الثقة بالله وبالتالى التوكل والتخلص من الشهوة إلى متاع الدنيا وبالتالى الزهد وعدم الخوف مما سوى الله وترك الرياء
والغضب وهما اللذان يؤديان بالإنسان إلى مالا يرضاه الله
وفي مؤلفه كتاب في المراقبة يعلق المحاسبى أهمية كبرى على قواعد عشر تصل - في رأيه - بالإنسان الذى يتبعها إلى مرتبة رفيعة من وجهة النظر الأخلاقية

۱۷۸
أما الذى لا يأخذ بها فهو يسير إلى التهلكة تلك القواعد العشر هي
- الامتناع عن القسم بالله سواء حانثا أو غير حانث
- الامتناع عن نقض العهد إلا عند الضرورة الجابرة ولأن يعمل الإنسان خير من أن يعطى العهود
له
- الامتناع عن القذف والمسبة وعن إيذاء أى من المخلوقات - الامتناع عن الدعاء بالشر على أحد من الناس ولو كان ظالماً والامتناع عن إيذاء الغير مقابلة لأذاهم
- الامتناع عن رمى الغير بالكفر أو الرياء وعن وصف الناس بالكفر لمجرد ارتكابهم ذنباً من الذنوب
- الامتناع
عن
أو الرغبة فيه إن كان إتيانه ذنبًا الالتفات إلى شيء
سواء في ذلك ما يتصل بالقلوب أو الجوارح

ألا يكون اعتماد الإنسان في أمر من الأمور على أحد من الناس
بل يعتمد دائما على الله
ألا يكون رجاؤه إلا في الله
وأخيرا - وهذه القاعدة العاشرة هي منبع جميع القواعد السابقة – أن يرى الإنسان في كل من يلقاه إنسانًا خيرًا منه ولو كان هذا الذي يلقاه جاهلاً أو كافرا فلا أحد يعلم بما خصه به الله أوخص غيره من مستقبل الأعمال وإذن فيجب على الإنسان ألا أحدا من الناس وأن يحسن
الظن بسائر الناس۱

يحقر
عرضنا فيهما سبق ملامح من تفاصيل الخير كما يراها المحاسبي ولكننا ۱ المحاسبي أدب النفوس ص ۱۹ والمراقبة ص ٧٦

۱۷۹
بطبيعة الحال لم نأت بجميع هذه التفاصيل وبصورة عامة فإن هذا الصوفي يهتم في المقام الأول بفروض القلب وينظر إليها على أنها أصل شجرة فروعها من فروض الجوارح ويقول بألا وجود للفروع بغير الأصول
وإذن فالبدء يكون بالأصل ثم يصير التدرج إلى الفروع۱
والمحاسبي لا يرى الخير - أى خير - خيرًا إلا إن أسس على النية وهذه النية يجب أن تكون طاهرة وخالصة ٢ ومعنى أن تكون طاهرة وخالصة عنده ألا يكون لها غاية سوى مرضاة الله
وهو يعطى أهمية خاصة لطهر وإخلاص النية التي يحب أن لا تكون إلا لوجه الله ويعتبر أن هذين العاملين أشق الخطوات التي تنبغى على الإنسان في طريق النجاة ويقول إن الخير قد يدنس حال عمله لأسباب عديدة ولذلك يوصى ويلح فى الوصية بتطهير النية وبالمجاهدة الدائمة من أجل هذا
ولسوف نعرض في فصل تال بعنوان الرياء كعنصر إحباط لعمل الخير ومن الميسور – إذن – أن نفهم سبب اهتمام المحاسبي اهتمامًا زائدا بمسألة المحاسبة أى مراقبة الضمير - التي بها يستطيع الإنسان أن
يميز الخير من الشر
۱ المحاسبي أدب النفوس ص المحاسبي أدب النفوس ص ۸۹
۹۸

مراقبة الذات المحاسبة
إذا أراد الإنسان أن يتجنب ارتكاب الذنوب حتى ولو كان غافلاً عنها وأن يحيط علا بالذنوب التى قد يكون ارتكبها في الماضي فعليه بمراقبة الذات أو المحاسبة
والمحاسبة على حد قول المحاسبى هى النظر والتثبت بالتمييز لما كره الله عز وجل مما أحب۱
والمحاسبة على وجهين أحدهما بالنظر إلى مستقبل الأعمال والثاني إلى ما استدبره الإنسان منها فأما المحاسبة في مستقبل الأعمال فقد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء الأمة
JOE
وفى كتاب الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۳ وفي هذا تحذير منه لنا وتنبيه على ذكره تعالى في كل ما نأتى وما ندع واتقائه في أداء فرائضه واجتناب نواهيه
وقال النبي إذ سأله رجل أن يوصيه ويعظه إذا أردت أمرًا فتدبر عاقبته فان كان رشدًا فامضه وإن كان غبا
فانته عنه
وقال عمر رضى الله عنه
۱ المحاسبي الرعاية لحقوق الله ص ۹
آية ٢٣٥ من سورة البقرة
۱۸۰

۱۸۱
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا
للعرض الأكبر
وكتب إلى أبي موسى
حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة
وقال سلمان رضى الله عنه
اتق الله عند همك إذا هممت وعند حكمك إذا حكمت المحاسبة فيما يستقبل من الأعمال هی
هذه
الأعمال فهى أيضًا قد قد أوصى بها الكتاب
وأما المحاسبة فيما مضى من والسنة وقال بها علماء الأمة ففى كتاب الله سبحانه وتعالى وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١
وهو أمر منه تعالى باستدبار الأعمال التي مضت ليكون الندم على
الذنوب فالتوبة إلى الله
وفى الكتاب الكريم أيضا
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ٢
وفي هذه الآية لم يقل ما تقدم وإنما تعنى الآية النظر لما مضى لتكون
التوبة من الذنوب التي مضت فيما مضى من الأعمال
وروى عن عمر رضى الله عنه أنه كان يضرب قدمه بالدرة إذا جنه
الليل ويقول لنفسه
۱ سورة النور آية ٣١
الحشر آية ۱۸

۱۸
ماذا عملت اليوم وقال الحسن في تفسير المحاسبة في مستقبل الأعمال ومستدبرها إن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها الله عز وجل وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر عن غير محاسبة
إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول
والله إنك لتعجبنى وإنك لمن حاجتى ولكن هيهات هيهات حيل بيني
وبينك
ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول لها ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا والله لا أعود لهذا إن شاء الله أبدا ۱
وكذلك أهل الدنيا فى صناعاتهم وأعمالهم إذا أراد أحدهم أن يبتدئ العمل رواه فى نفسه وقدره ومثله فى وهمه وصوره في العاقبة كيف يكون إذا فرغ منه فإذا تمثل فى وهمه على ما يريد من الإحكام والتمام ابتدأ فيه
فيه
حتى إذا فرغ منه عرضه خشية أن يكون وقع منه زلل أو نسيان فأخطأ وفرط في إحكامه فإن رأى تفريطًا أتم ما بقى منه وأصلح ما فسد منه فعمال الله عز وجل أولى بذلك أن يتثبتوا قبل أعمالهم ويمثلوها في أوهامهم كيف تكون بعد فراغهم منها فلا فراغ لهم من جميعها إلا عند
موتهم
"

وكذلك المستأجرون من أهل الدنيا إنما فراغهم من أعمالهم إذا أتموها
۱ المحاسبى الرعاية لحقوق الله ص ۹ - ۱۱

المحاسبي الرعاية لحقوق الله
ص

۱۸۳
وإنما يحكمونها ويستعرضونها بعد فراغهم منها قبل أن يعرضوها على من استأجرهم لتكون على ما أراد وأحب وكذلك عمال الله جل وعز يتثبتون في أول أعمالهم يعرضونها بعد فراغهم منها كيف تكون إذا عرضت على خالقهم
هل هي كما يرضى بها عنهم وهل أتموها كما أمرهم فشتان بينها هذا مخلوق استأجر مخلوقا بقليل فان مكدر ممزوج بالغموم ولا يخلو أن يناله من هم يعترض أو حزن يعتري أو مصيبة فاجعة أو سقم نازل أو موت مفاجئ وفيه الحساب حتى يتتبع عليهم جميع
ما عملوا واكتسبوا فيحاسبون عليه
والذي عمل له الصادقون ملك عظيم وعدهم على أعمالهم الأجر الكبير الباقى الذى لا ينفد ولا يعترض فيه غم ولا يعترى فيه حزن ولا يحل بالعمال فيه سقم ولا يختم عيشهم بالموت ولا يتتبع عليهم فيه
۱
الحساب فالتفكير والتثبت قبل العمل والتمييز بين الخير وبين والشر الذي قد يكون عالقا به واستدبار الأعمال الماضية ومراجعتها للتوبة عما قد يكون لحق بها شر كل ذلك فرض وضرورة على الإنسان والرجل التقى نفسه إذا ما تأمل في أعماله الماضية لن يجد يومًا من أيام حياته خلا من ذنب فما بال المهمل المتكاسل في أعماله
ولكن الإنسان لا يجب أن يقصر تفكيره على الماضى بل ينبغي أن يعتبر نفسه على الدوام محاطا بشهوات الدنيا وإغرائها وأن يعلم أنه لابد منحرف عن سبيل الله - شاعرًا بذلك أو غير شاعر – إن لم يعمل فكره في النظر والتثبت وتمييز الخير من الشر ومراقبة الذات أي المحاسبة
۱ الرعاية ص ٨ - ١٠

مرتكب الذنوب
والطريق النفساني إلى النجاة
أراد المحاسبى أن يرشد مرتكب الذنوب إلى سبيل التوبة والنجاة فألف في ذلك رسالة هى كتاب بدء من أناب إلى الله تعالى وليست هذه المسألة التى طرحها بالمسألة البسيطة ذات الحل المواتي والعسر فيها يرجع في المقام الأول إلى تعدد تركيبات النفس الإنسانية
واختلافاتها
وقد تحدث عنها المحاسبى فى كتب أخرى من مؤلفاته غير هذا الذي ذكرناه ونحن هنا نعرض للمنهج الذي قال به في كتاب الرعاية من أجل تمكين مرتكب الذنوب من الاستهداء إلى طريق نجاته وهذا المنهج أكثر منطقا فيما نرى
من غيره ولا يحمل ذلك الطابع المميز للتصوف الذي
نجده فى منهج كتاب بدء من أناب إلى الله تعالى
والتقدير الصحيح لبراعة التحليل النفساني في المنهج الذي نعرضه لا يتأتى كاملاً إلا إذا راعينا على الدوام أنه تعبير عن فكر رجل مؤمن يوجه حديثه إلى المؤمنين
ولسوف نرى أننا إذا رغبنا في تجريد هذا المنهج من المعالم القليلة الخاصة بالمسلمين لما قلل ذلك من قيمته الذاتية بل لجعل منه منهجا صالحا لأصحاب أديان أخرى
ومهما كان أمر البيئة الدينية التى قد يؤخذ به فيها فقيمته من الناحية
التربوية والأخلاقية باقية
١٨٤

۱۸۵
ولعل القارئ يعجب للاهتمام الخاص الذى نوليه لهذه المسألة فيما يلى
من بحثنا
وعذرنا في ذلك أننا نسعى إلى إيضاح الطابع المميز لفكر الصوفي الذي
ندرسه وهو طابع التحليل النفساني
يقسم المحاسبى الناس إلى منازل ثلاث
فمنهم من يرجع إلى قلب طاهر لم تعتوره الشهوات ولم يعتد اللذات من الحرام ولم تعتقبه الذنوب ولم يعله الران ولم تغلب عليه القسوة
نشأ على الخير لا صبوة له إلا الزلة عند السهو مثلها ثم
فرعاية حقوق الله عز وجل والقيام بها على هذا أسهل والمحنة عليه أخف ودواعي النفس له أقل وأضعف لأن قلبه طاهر والله عز وجل عليه
ذنوبه والنفس من
معه
تنازعه
مقبل وله محب ومتول وآخر تائب من بعد صبوته وراجع إلى الله سبحانه عن جهالته ونادم على ما سلف من ذنوبه في أيامه قد أعطاه العزم أن لا يعود إلى تضييع شيء من فرضه ولا يعاود شيئًا مما سلف إلى عادتها لترده برغبتها إلى لذتها وهو يقمعها ويجاهدها ويخوفها عواقب ما كان منها وعدوه يذكرها ما فاتها من لذاتها ويدعوها إلى ما تركت من شهواتها أما هو فيذكرها قبيح ما كان منها ويعظم منة الله عز وجل عليها بنقلها عما يسخط ربها عليها فلم يلبث إلا قليلا أن صدق الله عز وجل في مجاهدته وأمسك نفسه عن الشهوات التي تنقص عزمه حتى يمده الله عز وجل بمعونته فيسهل عليه سبيل الطاعة كما ضمن لمن أناب
إليه فقال عز وجل
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا ﴾ ۱
۱ العنكبوت آية ٦٩

١٨٦
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ١
وقال عز وجل
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذَا لا تيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ٢ فوعدهم الله تبارك وتعالى أن يحملهم على الطريق المستقيم ويريهم الحق جهارًا سرمدا لأنه كريم يتقرب ممن يتباعد منه فكيف بمن يتقرب
إليه ويتحبب إلى من يتبغض إليه فكيف بمن يتحبب إليه وكذا روى أبو هريرة عن النبي أنه قال يقول الله عز وجل يا بن آدم إن تقربت إلى فتراً تقربت إليك شبرا وإن تقربت إلى شبرا تقربت إليك ذراعًا وإن تقربت إلى ذراعًا تقربت إليك باعا وإن أتيتني سعيا أتيتك هرولة
وإنما هذا على حسن المعونة وسرعة الإجابة والهداية بالسداد والتوفيق والاكتناف بالعصمة فما يلبث هذا التائب إلا يسيرا حتى يقبل الله عز وجل عليه بمعونته فيتغلب على هوى نفسه ويقوى الله منه ضعفه ويميت منه دواعى شهواته فيقهر العقل منه الهوى ويغلب العلم منه على الجهل ويسكن قلبه الخوف والحزن والهم ويواصل فيه الأحزان بعد طول لهوه واتصال أفراحه بالدنيا كلما ذكر ما كان منه من ذنوبه هاج خوفه وغلب همه وطال حزنه فإذا غفل عن الذكر سها عن الفكر فنازعته نفسه فمال إلى بعض الزلل الذى لم يعر من مثله الصالحون عند غفلاتهم وسهوهم ثم يرجع إلى الله عز وجل بقلب طاهر من الرين والدنس قد فطمه
۱ محمد آية ۱۷
النساء آيات ٦٦ - ٦٨

۱۸۷
عن عادته وأعقبه بالخوف من الأمن والإصرار وبالرجاء الصادق من الغرة والتسويف فهو من سالف ذنوبه هارب لرحمة ربه عز وجل وبهر به طالب له حتى يلقاه وهو من عذابه آمن
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إن العبد ليذنب الذنب فيدخله ذنبه الجنة قيل يا رسول الله وكيف يدخله ذنبه الجنة قال لا يزال نصب عينيه تائبا منه هاربا منه حتى يدخله ذنبه الجنة
وقيل لسعيد بن جبير من أعبد الناس قال رجل أصاب من الذنوب فإذا ذكرها اجتهد
وروى عن النبي أنه قال
خياركم كل مفتن تواب
يخبرك أن خيار أمته لن يعروا عن الزلل وأن علمهم بالله عز وجل لن يدعهم حتى يرجعوا إليه بالتوبة والإنابة
الخوف مقر مع
والثالث مصر على ذنبه مقيم على سيئاته ونسيانه يغلبه الهوى وضعف ذلك بأن الله عز وجل معادًا يبعثه فيه ومقاما يوقفه فيه ويسائلة عما كان منه وثواباً وعقابًا يصرفه من بعد السؤال إلى أحدهما ثم يحل فيه مخلدًا إلا ماشاء الله الملك الكريم من بعد التخليد في العذاب
الأليم فهذا إقرار بالإيمان في قلبه قد زايل به الجحد وصدق به الرب عز وجل والقلب بالشهوات مشغول عن الفكر والرين له مانع عن الذكر إلا الخطرة تهيج من الإيمان بذكر المعاد ثم لا تجد موضعا تستقر فيه لما غلب على قلبه من القسوة وتتابع فيه من الغفلة فقلبه هائج باشتغال الدنيا ولا يتفرغ للفكر ولا يجد حلاوة للذكر

۱۸۸
وكيف يكون للذكر فيه مستقر والأشغال تنازعه والغفلات تغلب
عليه
فهذا محتاج إلى ما يحل به عقود الإصرار من قلبه فيتوب إلى ربه من ذنبه فيلحق بصاحبيه اللذين من قبله الناشيء على غير صبوة والمنيب بالتوبة إلى خالقه تعالى۱
ونتساءل ما الذى يبعثه على التوبة وترك الإصرار
إنه الخوف والرجاء لربه لأن الله نهاه عما يهوى قلبه وتشتهيه نفسه فجعله للطبع موافقًا خفيفًا وفى المباشرة لذيذا وكذا روى عن المصطفى أنه قال حفت النار الشهوات
فأخبر أن العمل الذى يدخل به عامله النار شهى في النفوس فمن ترك ما يهوى قلبه وتشتهيه نفسه مما كره ربه فقد احتجب عن النار واستوجب الحلول في جوار الله
والأعمال التي أمر الله بها وندب إليها أكثرها ممل للقلب متعب للجوارح أو مشغل عن أضداده من اللذات وذلك كريه في الطبع ثقيل
على النفس
وكذلك يقول الله تعالى
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
٢
شر لكم وقال ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ۳
۱ الرعاية لحقوق الله ص
البقرة آية ٢١٦
۳ النساء آية ۱۹

۱۸۹
وقال الصادق المصدوق
حفت الجنة بالمكاره
فأخبر أن الحجاب الذى حفت به الجنة هو الفعل الذي هو كريه في النفس ثم أخبر أنه من حمل نفسه على ذلك المكروه حتى يؤدى حقوق الله تعالى عليه دخل الجنة والله العليم الكريم أعلم بخلقه وبما يصلحهم فعلم من هذا العبد قبل أن يخلقه أنه إذا طبعه على حب ما وافقه وبغض ما خالفه ثم علم
نفسه
ما يوافقه مما يخالفه فهاجت لذلك شهواته ونازعته إلى ذلك نفسه ولا سيما من خاض في استعمال الشهوات عمره لن يدع ما تشتهى إلا أن يخلق له عذابًا أليا ثم يتهدده به ولن يتحمل ما يكره إلا أن يخلق له نعيما مقيا ثم يرجيه ذلك النعيم ويعده أياه فخلقهما جميعا لعلمه بخلقه وما أراد من كرامة أوليائه وهوان أعدائه وعلم أن هذا العبد الضعيف الجاهل إذا غيب عنه الثواب والعقاب وصارا مذكورين في الخبر لا بالعيان لم يسمح قلبه بترك الشهوات وتحمل المكاره إلا بالخوف لما خوف والرجاء لما رجی فخوف عباده وتهددهم ورجاهم ووعدهم ليخوفوا أنفسهم ويرجوها فيخافوه وكذلك وصف الله الذين فهموا ذلك عنه وخافوه فقال عز وجل وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ١
فأخبر عز وجل أنه لما خاف ربه نهى نفسه
1,
عن الهوى
وقال ﴿يَخشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وقال جل وعلا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ۳
۱ النازعات آية ٤٠
الرعد آية ۱
۳ الأنبياء آية ٤٩

۱۹۰
فأخبر أن ما غاب عنهم من العقاب هم له خائفون ولما رجاهم من له راجون وأنهم لما خافوا ورجوا هربوا وطلبوا وإنما جعل
الغيب هم
الجزاء من العقاب والثواب والرهبة والرغبة من الله تعالى ليذلوا للمجازي فيعبدوه بالخضوع له والذلة ليورثهم في الآخرة النعيم والعز وأخبر أنهم لما رغبوا ورهبوا خضعوا له بالذلة وكذلك أهل الدنيا من خاف منهم ذل لمن يخاف حتى يعفو عنه ومن طمع منهم ذل لمن يرجوه حتى
ينال منه ما يأمل وسارع في محبته
وكذلك وصف الله أولياءه فقال
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعين ۱
قال الحسن هو الخوف الدائم
وقال مجاهد الذل فى القلب يعنى ذل الخوف لأنهم لما رجعوا ما غاب عنهم من الثواب تحملوا المكروه فوصفهم في كتابه فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
301
يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ
وقال عز وجل
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أحدا ٣
وقال عز وجل
ومَن كَانَ لقاء الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآت ٤
يرجو
1 الأنبياء آية ۹۰
البقرة ۱۸
۳ الكهف آية ۱۱۰
٤ العنكبوت آية ٥

۱۹۱
من
قيل في التفسير ثواب الله
فلما خافوا هربوا وجانبوا ما نهاهم عنه كما وصفهم فقال
1,
ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾
وقال تعالى
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٢
وقال تعالى
وَيَخشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافون سوءَ الْحِسَابِ ۳
قلت فيم ينال الخوف والرجاء
قال بتعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد قلت فيم ينال عظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد
قال بالتخويف من شدة العذاب والترجي لعظيم الثواب
والتخويف ينال بالفكر فى المعاد والفكر ينال بالذكر والذكر بالتيقظ الغفلة لأن الله جل وعز إنما خوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا ورجانا
لنرجيها
والتخويف تكلف من العبد بمنة الله عز وجل وبفضله عليه وقد يخطر الله جل وعز الخوف بقلب العبد المؤمن من غير تكلف إذا أراد أن يتفضل عليه بذلك وإن لم يخطره بباله لم يكن العبد عنده معذورا بتركه التكلف للتخويف كما أمره أن يخوف نفسه لأنه أمره بالفكرة في المعاد وذلك هو التخويف والترجى وتهدده وأوعده ليتفكر في ذلك فيخافه
ويرجوه
1 إبراهيم آية ١٤ النازعات آية ٤٠
۳ الرعد آية ۱

۱۹
فإذا أراد هذا العبد المصر أن يصل إلى ما يحل به إصرار قلبه ويبعثه على التوبة من ذنوبه فليعن بطلب الخوف بالتخويف بالفكر في المعاد وهجوم الموت وعظيم حق الله عز وجل وواجب طاعته ودوام تضييعه لأمره وركوبه لنهيه
قلت فمن أين ثقلت الفكرة على العباد
قال ثقلت الفكرة على العباد لثلاث ضلال فقد تجتمع على بعضهم فتثقل عليه الفكرة وقد يثقلها على بعضهم المخلة هذه الخلال الثلاث أو من
الخلتان فإحداها قطع راحة القلب عن النظر فى الدنيا بالذكر في الآخرة لأنه إذا تفكر سجن عقله عن الدنيا فقطعه عن راحته بالفكر في الدنيا والنظر في أمورها والخلة الثانية أن الفكر فى المعاد وشدائده تلذيع للنفس وغم لها حين تذكر المعاد والحساب وما لها وما عليها لأن الموحد المقر إذا تفكر في ذلك هاج منه الغم والحزن لإيمانه بذلك فيثقل الفكر على النفس من أجل ذلك لأنه يثقل عليها ما أهاج عليها الغموم والأحزان والخلة الثالثة أن النفس والعدو إبليس قد علما أن المريد إذا أراد الفكر في معاده أنه إنما يطلب بالفكر خوفا يقطعه عن كل لذة لا تقرب إلى
ربه ويحمله على كل مكروه يتحمله فيها أوجب عليه فالنفس يثقل عليها الفكر إذا علمت أنه إنما يطالب بما يقطع به عنها لذتها أيام حياتها ويحملها على ما تكره ويثقل عليها وقد علم العدو أنه إنما يطالب ما يبطل عنه مكائده ويدحض حجته ويخالف محبته فلهذه
الخلال الثلاث ثقلت على المريدين الفكرة
قلت فما الذي يخففها قال العناية

۱۹۳
قلت فما تورث العناية
قال عظيم المعرفة بعظيم قدر ما ينال المفكر بالفكرة من المنافع في الدنيا والآخرة وبعظيم قدر ضرر الغفلة عن الفكر في المعاد قلت فإن اعترضته هذه الثلاث الخلال عند ذكره عظيم قدر ما ينال بالفكرة من المنافع فيم يدفعهن عند ذلك إذا ثقلت الفكرة عليه
باعتراض الخلال الثلاثة
قال يرجع العبد إلى نفسه فى هذه الثلاث خلال إذا عرضت له عند إرادته الفكرة أو عرض بعضها دون بعض لأن كل خلة منها فيها عبرة بذكر سببها من شدائد الآخرة بل أعظم وأطم فيرجع إلى نفسه بالعتاب لها وبالتوبيخ في ذلك فيقول لها أتجزعين أن أسجن عقلك عن النظر فى الدنيا فكيف بسجنك في النار
أبدًا
فتحملي هذا الثقل القليل للنجاة من السجن الطويل أتجزعين من سجن عقلك فيك عن النظر في الدنيا لنجاتك وفوزك في
المعاد
ولا تجزعين إن تركت الفكرة التي تحجزك عن المعاصى التي تورثك السجن وتكبك في النار أبدا
فمن السجن فى النار فاجزعى وتحملى هذا القليل الفاني للنجاة الدائمة وأما جزعك من تلذيع ذكر العقاب فكيف جزعك من مواقعته فالفكرة فيه أيسر من مباشرته فتحملى تلذيع ذكره للنجاة من الخلود فيه وأما فرارك من النظر فيما ينجيك من عذاب الله كراهية أن ينغص عليك لذاتك في دنياك فكيف بالتنغيص عليك لذات الآخرة وحرمان

١٩٤
ما فيها من نعيمها مع أن الله ليس بتاركك إن صدقته مع الآخرة حتى ينعمك بطاعته في الدنيا
نعيم
ما تنالين من
ساند
ففي نعيم الطاعة فى الدنيا والظفر بنعيم الآخرة عوض من تنغيص لضات الدنيا وليس لذات الدنيا وليس لذات بنعيم لو تعقلين بل شغل قلب لا ينقضى وهم لا ينفد وحرص لا راحة معه ظلمة القلب إذا مع سلبت بمعصية الله نور الطاعة والنعيم بها فالذل والهم في لذاتك في الدنيا والعز والغنى والنعيم في الاستبدال بها التنعم بطاعة ربك لأن ترك اللذة الله ألذ عند المريد وأبقى فى القلب لذة منخاللذة بمواقعة ما كره الله لأن العبد يصيب اللذة ساعة أو أقل من ساعة ثم يعقبه الندم الطويل وإذا

تركها لله ثم ذكر أنه تركها لطلب رضاه فكلما ذكرها أمل ورجا أن يكون قد رضی عنه بتركه لها ووجد سرور ذلك ولذته فيبقى ذلك السرور في قلبه حتى يموت والذى يفتح الفكرة ويعرف طريقها اجتماع الهم مع المطالبة بالعقل والتوكل على الرب تعالى لا على العقل
ويجيب المحاسبي بعد ذلك على محدثه الذى يسأله أن يدله على مفتاح الفكرة إن خفت وضل عن طريقها فيقول
قلت فاجتماع الهم بم ينال
قال بخلتين
إحداهما قطع شغل الجوارح عن كل شيء سوى ما يريد أن يتفكر فيه لأن النظر بالعين يلهي القلب ويشغله واستماع الأذن كذلك ومس
اليد كذلك
والثانية أن يمنع قلبه أن ينظر ويتفكر في شيء من أمور الدنيا سوى
ما يريد أن يتفكر فيه
فإذا قطع العبد شغل جوارحه من الظاهر وقطع فضول الفكر من

١٩٥
الباطن ومنع قلبه من الفكر إلا فيما يريد أن يتفكر فيه اجتمع همه وحضر عقله وكذلك رأينا أهل الدنيا إذا أراد أحد منهم أن يحكم شيئا من أمر دنياه من تقدير عمل يعمله أو حساب يريد أن يحكمه منع سمعه وبصره أن يشتغل بشيء سوى ما يريد عمله وإحكامه ومنع قلبه أن ينظر في غير ذلك كراهية أن لا يحكم حسابه إن اشتغل قلبه بالفكر في غيره أو نظرت العينان أو استمعت الأذنان إلى شيء غير ذلك
فإذا اجتمع همه ثم تفكر بالتوكل على الله لا على عقله فتحت له الفكرة بمنة الله لأن العبد قد يغفل ذلك إذا اجتمع همه واتكل على عقله لما
يعرف
من
فطنته وقد يوسوس
إليه العدو أن الفكرة إنما كانت تستغلق عنك باشتغالك فأما إذا حضر همك فإنه ستفتح لك الفكرة فيتكل على عقله وينسى ربه تعالى فأخاف أن لا يفتح له ما يريد من خير ومن ذلك حديث سليمان النبي عليه السلام في الولد أنه قال لأطوفن الليلة بمائة امرأة فتحمل كل امرأة بغلام يقاتل في سبيل الله
فرسانا
ولم يقل إن شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم
فما حملت منهن امرأة واحدة جاءت بشق غلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم لو قال إن شاء الله لكان كما قال فإذا تفكر في المعاد بتخويف نفسه عظم قدر العذاب عنده فإذا عظم قدر العذاب فى قلبه هاج الخوف حتى لا يملكه فما مثل التخويف في جنب الخوف إلا كمثل الوقود فى جنب الغليان كالموقد يوقد تحت القدر المملوءة فكلما أدام الوقود اشتد الغليان
فكذلك العبد كلما أدام الفكر بالتخويف في ذكر العقاب وكثرة

١٩٦
الأهوال وعظيم السؤال مع المعرفة بعظيم حق الله جل وعز وواجب طاعته وأنه العامه ذلك مضيع هاج الخوف
فإذا هاج الخوف قذف القلب بالإصرار على الذنوب وسخا عنها نفسا فندم وتاب وخشع وأناب
فمن أدمن الفكر بالتخويف لنفسه فيما تهدده ربه وتوعده به هاج خوفه فأطفأ نار شهواته التي أصر عليها فسخا بترك الإصرار نفسا وأقلع عن الذنوب وخاف عاقبتها ولا سيما إذا أدمن الفكرة وهو يتلو کتاب الله عز وجل فيتفكر فى وعده ووعيده وأهوال القيامة وشدائدها وتلك أنجع الفكرة إذا كانت بتلاوة كتاب الله عز وجل
قلت فهل يستوى المصرون في ذلك
قال لا المصرون في منازل شتى فمنهم من كثرت ذنوبه وعظمت بليته وطالت غفلته واحتجابه بها عن الآخرة فإذا أعمل قلبه في الفكرة بالتخويف لما خوفه ربه عز وجل لم يهج منه الخوف سريعا لطول غفلته وغلظ القسوة فيه ومنهم من قلت ذنوبه ولم تطل به الغفلة ولا احتجابه بها عن الآخرة ومنهم تائب من بعض ذنوبه وهو مصر على ما بقى من ذنوبه وهم في طلب الخوف متفاوتون
قلت ففصل لى بين من عظم بلاؤه واشتد مرض قلبه وبين غيره من المذنبين قال إن للعدو خدعًا من الدعاء عند مطالبته الخوف لمن عظم ذنبه وطالت غفلته وغلظت القسوة فيه فإذا أعمل قلبه في الفكر بالتخويف لما

۱۹۷
خوفه ربه لم يهج منه الخوف سريعًا لطول غفلته وغلظ القسوة في قلبه
لأنه قد أعضل داؤه فلا في أمراض أبدانهم إذا طال السقم بأحدهم وأغفل داءه حتى أعضل لم ينجع الدواء فيه إلا بطيئًا وكذلك من طال مرض قلبه وأعضل داؤه لم ينجع التخويف فيه سريعا
ينجع أكثر الدواء فيه سريعا وكذلك أهل الدنيا
فللعدو وللنفس تثبيط منها بالدعاء عند طلب الخوف فإذا لم ينجع التخويف فيه سريعا دعته نفسه وعدوه إلى الملال والسامة والانصراف عن الفكر وأنه ليس بمقامك ولا يهيج الخوف من مثلك إنما تعنى نفسك فيترك الفكرة والطلب ويعتقد المنى والتسويف إلا أن يكون لبيبا فطنا فإن كان لبيبا فظنا رجع إليهما بالزجر لهما عن دعائها وقال لها إن عظيم ما يطالب من النجاة وعظيم ما قد حل به من البلاء المسلم له إلى عذاب الله إلا أن يعفو الكريم تعالى يزيلان السآمة والملال في طلب الخوف ويبعثان على الدوام بالفكر بالتخويف وإنما هذا مقام مثلى لأنه إنما خوف العاصين من عباده ليخافوه وتهدد بالتخويف من عظم ذنبه وطالت غفلته ليتيقظ من رقدته ويفيق من سكرته ولكن دائي قد أعضل وسقم قلبي قد طال فالدواء بالفكر والتخويف أولى بى إذا أعضل دائي وطالبت غفلتي فإن أدمن على ذلك هاج الخوف بإذن ربي
ولذلك مثال من الدنيا كالداء إذا أعضل لم يبرأ صاحبه إلا بدوام التداوى وكالثوب إذا كثر وسخه لم ينق إلا بإدامة غسله فإذا أدمن المصر الفكر بالتخويف سخت نفسه بالتوبة وكذلك التائب من بعض ذنوبه المقيم على بعضها قد يكون بعض ما هو مقيم عليه قد غلب على قلبه حبه وطالت به غفلته ودامت له عادته ومطالبة الخوف في عاقبة ذنبه ذلك

۱۹۸
عسيرة وهو دون المصر على أكثر ذنوبه إلا انه يحتاج أيضا إلى الدوام على الفكر ودفع خدع النفس والعدو بمثل ذلك حتى يسخو نفسًا بالتوبة ويندم على جملة ما عمل من الذنوب وينوى أن لا يعود وقد أنجع حينئذ
فيهما الخوف
قلت فالندم على جملتها يجزيه دون معرفتها بأعيانها
قال لا لأن كثيرًا من الذنوب يسترها الهوى ويحول بين العبد وبينها النسيان وللعدو والنفس خدع عند ذلك إذا علما أنه قد غلبهما وصار إلى الندم واعتقاد التوبة من ذنوبه أرياه أنه لا ذنوب له إلا الذنوب التي يذكرها في ذلك المقام
وقد تكون له ذنوب أخر كثيرة وكانت في أحواله فيما مضى من عمره من كلام لا يظنه ذنباً أو عمل لا يعده خطأ أو مظلمة لا يرى أنها مظلمة لغلبة الهوى وقد يخيل إليه أنه قد تاب من جميع ذنوبه وهو مصر على أكثرها أو بعضها وهو لا يعلم لأنه في وقت الخوف أطوع ما كان لربه وليس له جارحة تتحرك بما يكره مولاه وهذا لا يكاد يعرف جميع ذنوبه تلك الساعة فإن كان عاقلاً متيقظًا علم أن له ذنوبا كانت في أحواله فيها مضى من عمره كثيرة ومثله مما كان فيه من الغفلة عليه أكثر ذنوبه يعمى من كلام يتكلم به لا يظنه محرمًا عليه أو عقد ضمير بالسوء لم يكن يراه
فيه مخطئا بل قد يسمع به فيتعجب ممن يأتيه وهو يفعله وهو تائب ولا يعرفه
قلت فيم يعرفها أي الذنوب
قال يعرفها بتذكر ساعاته فيما مضى من أيامه فإنه لا يعرفها إلا

۱۹۹
بذلك ويتذكر أحواله في ساعاته فيما مضى من عمره كيف كان فيها من حق ضيعه أو ذنب قد ركبه فيعرض أيامه الخالية فى عمره وأحواله في أيامه وحركاته وسكونه
وضميره في أحواله فيذكر غضبه ورضاه وكيف كان فيه
ومحبته وبغضه واكتسابه وإنفاقه وإمساكه ورد ما كان عليه من حق وأخذه ما كان له عند غيره من حق كيف كان قد أخذه أبحق أم بظلم ومنطقه ولحظه واستماعه وخطاه برجله وبطشه بيده ومظالم العباد عنده فى أموالهم وأعراضهم وحقوق من يجب له عليه لحق أقربائه من وغيرهم فيتذكر تذكر من يريد الطهارة قبل لقاء الله ويتذكر مظالم العباد عنده تذكر من أوقف نفسه للقصاص قبل القصاص بين يدى الله فإذا تذكر كيف كان منذ أصبح إلى أن أمسى فى جميع هذه الأحوال وكيف كان إذا أمسى إلى أن أصبح فعرض كل جارحة على حيالها في حيالها في عمل ليلة ونهاره وكيف كان قلبه في أعماله الصالحة ما كان يريد بها وعلام كان يدور وما الذي كان يبعثه على الأعمال وكيف كانت عقود ضميره الحسد على الدين وغيره وجميع أعمال قلبه ذكر حقوقًا كثيرة لله ضيعها فكلما ذكر حقا قد ضيعه هاج الندم من قلبه على ما مضى من تفريطه فى حقوق ربه وأعطى العزم على أن يقوم به الله عز وجل فيما يستقبل من عمره فكلما مر به الذنب قد اكتسبه هاج حزنه وندمه وخاف أن يكون قد نظر إليه الله جل وعز بمقت وغضب وآلى على نفسه ألا يقبله بعدها ولا يرحمه أيدًا فأعطى العزم ألا يعود إلى ذنب أبدا واتصل الرجاء بالخوف فمنع منه الإياس ورجع إلى نفسه بذكر الرجاء أنه لو كان أوجب ألا يرحمنى أبدًا لما أهاج قلبي بالرجاء
من
ولا تسخى قلبى بالتوبة فالرجاء والخوف هائجان في قلبي

ثم فزع قلبه إلى ذكر ذى الجود والكرم وأيادى الله السابقة فيمن كان
أعظم
منه ذنباً وأطول غفلة
ثم رأى آثار الجود والتفضل عنده إذا نظر إلى نفسه قد هاج الخوف منها وتذكرت ما مضى من الذنوب لتطهر من أدناسها قبل لقاء ربها عز وجل
فهاج الرجاء حينئذ أن يكون في سابق علمه وقدره وليا لربه وأن ذلك الوقت تاريخ حكم ولايته وخاتمة من أسعده ليطهره قبل لقائه ويزينه للعرض عليه فيعطى الله العزم بالتوبة عند كل ذنب يذكره وتضييع حق يعرفه وأداء المظالم إلى أهلها في عاجل الدنيا والتذلل لهم لرجاء التعزز في
الآخرة
وأن يقوم بجميع حقوق الله وما كان عليه منها أداؤه كصلاة ضيعها في جهالته وصيام أو قطعها رحم
فإذا عزم
العبد القيام بجميع حقوق الله بعد معرفته بذلك فعند ذلك للعدو وللنفس خدع يريانه أنه إنما ينال القيام بما عزم عليه بعقله وقوته
وأنه بعد عزمه لن يغلب وينسى التوكل على ربه فلا يؤمن عليه الخذلان
ومن
ذلك حديث سليمان عليه السلام أنه لم يعط ما أراد بقصد عزمه
إذ أغفل التوكل على ربه عز وجل
وكما أنزل الله على النبي يعاتب أصحابه في يوم حنين حين قال منهم من قال لن نغلب اليوم من قلة فأنزل تبارك وتعالى في ذلك يعاتبهم بما أغفلوا التوكل عليه قوله جل وعز

۰۱
ويوم حنين إذْ أَعْجَبتُكُمْ كَثرَتكُم فلم تعن عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ
الأرض بما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيتم مُدْبِرينَ
والأحاديث كثيرة في ذلك
فإن كان عبدا عاقلاً رجع حينئذ إلى ضعف نفسه وإلى ذكر قوة ربه تعالى فرغب إليه فى المعونة من عنده على أداء حقوقه ورعايتها وناجاه بقلب راغب راهب
فعزم وتوكل واستغاث واستعان وتبرأ من الحول والقوة إلا بربه تبارك وتعالى وقطع رجاءه من نفسه ووجه رجاءه كله إلى خالقه ومولاه فإنه سيجد الله قريباً مجيباً متفضلاً متحننا
وكذلك أمر من أناب إليه وعزم على طاعته
أما الأولى بالعبد بعد ذلك


أن يلزمه قلبه فهو أن يعلم أن الله
تعالى محنا فيما يستقبل من عمره وأن عدوه لم يمت وأن طبعه قائم لم ينقلب ولم يحل وأن الدنيا بزينتها ومكروهها لم تتغير
وعليه أن يلزم قلبه الحذر لست خلال
فإحداها أن يحذر أن يعود إلى ذنب قد عزم على تركه حذرا أن تغلبه نفسه بهواها عند غفلته ونسيانه فيعود فيه لما هاج من شهوته والثانية أن يكون ذنب قد مضى من عمره ستره الهوى والشهوة في حال توبته فيعرفه فيها يستقبل فيعطى الندم عليه والعزم ألا يعود فيه فيحذر أن تعود النفس إلى عادتها ومطالبة هواها ولذتها في وقت غفلته
۱ التوبة آية ٢٥

۰
والثالثة أن يعرض له ذنب لم يكن فيما مضى من عمره لأن النفس إذا منعت أبوابا من الشهوات أخر تستريح إليها عوضًا مما قطعت عنه من الشهوات واللذات
وتلك الخلال الثلاث تتعلق بالحذر
من الذنوب
أي بما
نہی
الله عنه
أما الخلال الثلاث التالية فهى تختص بالأعمال الواجبة أي تلك
التي فرضها الله على العبد وهي
۱ - حق الله عز وجل مما أوجب العمل به قد كان مضيعًا له فأعطاه العزم أن يقوم الله تعالى به فيحذر أن يضيعه فيها يستقبل من عمره لاستقبال مكروه من تعب أو مشغل عن راحة الدنيا أو واضع من قدره عند المخلوقين كطلب الحلال وغيره أو استدلال منهم له كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحقوق الله تعالى فيما يخالف أهواء العباد
- أن يكون حقا لله عز وجل قد ضيعه فيما مضى من عمره سترته كراهية النفس للقيام به وهواها للراحة فى تركه فلم يعرفه في حال توبته فيحذر أن تعود النفس إلى عادتها من تضييع حق ربها فيقدم الحذر ليفطن
له إن عرض

أن يبتلى ويمتحن بحق لم يبتل به من قبل ولم يجب عليه كالعيال وغيرهم فيضيع ما وجب عليه من ذلك
فعلى العبد أن يلزم قلبه لهذه الخلال الست وبهذا يكون الحذر والتيقظ وتدارك النسيان والخطأ
فالعبد إذا عرضت له حاجة من حوائج الدنيا تيقظ في الليل لها حتى لا تفوته فما بال حاجته من أمر الآخرة

۰۳
فإذا تطهر من هذه الخلال الست بالتوبة فقد صحت توبته وساوی الذي لم يكن له صبوة فى رعاية حقوق الله عز وجل فيها يستقبل من عمره وساوى التائب من قبله الذى لم تستصعب عليه نفسه عند التوبة فقد ساوى هذا التائب من قبله الذى قلت كلفته ولم تغم عليه ذنوبه عند توبته وساوى من لم تكن له صبوة لأنه قد تظهر كما تطهر مما يكره الله عز وجل وعليهم جميعا حسن القيام بحق الله عز وجل فيما بقى من
أعمارهم ورغم دقة وتفصيل الوصايا التي عرضناها فيما سبق فهي لم تشمل كل ما كتبه المحاسبى لنفس الغاية في مختلف مؤلفاته
ويمكن القول بأنه قد أنشأ من هذه الوصايا – وعلى الأخص في كتابيه الرعاية و بدء من أناب مذهبًا حقيقتا يفصح كل الإفصاح عن طابع التحليل النفسي في فكره

الرياء يحبط عمل الخير
عمل الخير يهدف عامة إلى غرض وقد يكون غرضه مثلا النجاة أي الثواب من رضوان الله والعمل الذى يهدف إلى هذه الغاية يجب أن يكون طاهرا خالصًا
وهذا شرطه الذى لا مناص عنه وإلا فلا قيمة له ولا ثواب ۱
ولكن العمل قابل لأن يحبط وعامل إحباطه الرياء فالإنسان لا يستطيع أن يقوم دائما بعمل الخير سرا فإذا أداه علنا حمده الناس عليه وعظموا له من قدره وعندئذ فإن نفسه التي حرمت من كثير مما تهواه - تجد فى هذا الحمد والتعظيم ثوابا للعمل فتدفع به دون إدراك منه إلى الرياء بطلب الحمد والثناء لما يقوم به علنا من عمل ولذلك يحبط العمل ولكن ليس هذا إلا جانبًا واحدًا من جوانب الرياء فالرياء أعم وأشمل ومع أنه يعتبر في كل مظاهره وأنه مذموم حيثما وجد في الأعمال فلن نعرض له هنا أساسًا إلا بوصفه عامل إحباط
للخير
نقصا
والرياء هو القيام بالعمل إرادة محمدة الناس لا ابتغاء وجه الله تعالى وهو الإرادة وحدها إلا أنه عد وجهين
أحدهما أعظم وأشد والآخر أهون وأيسر
۱ وسوف يجد القارئ في فصل آخر من بحثنا هذا تفسير المحاسبي للإخلاص
في العمل
٢٠٤

٢٠٥
وإنما الوجه الذي هو أشد الرياء وأعظمه إرادة العبد العباد بطاعة الله
عز وجل
وأما الوجه الذي هو أدنى وأيسر فإرادة العباد بطاعة الله عز وجل وإرادة ثواب الله عز وجل يجتمعان في القلب
ولكن كلا الوجهين رياء وكلاهما نهى الله عنه نهيًا صريحا وأجمع على
ذمه النبي والصحابة رضوان الله عليهم
ففي كتاب الله تعالى
ومَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَاهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُم في الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحِيطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١
وفي الحديث
إن الله عز وجل يقول للملائكة إذا رفعت عمل العبد إن عبدى هذا
لم يردنى فاجعلوه في سجين
وفي السنة
سئل النبي صلى الله عليه وسلم یا رسول الله فيم النجاة
فأجاب لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق یا فاجر یا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب
فخذ أجرك ممن كنت تعمل له
وروى عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال
۱ هود آية ١٥ ١٦

۰۶
رأيت النبي يبكي فقلت
ما يبكيك فقال
أمر تخوفته على أمتى الشرك أما إنهم لا يعبدون صنا ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرًا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم فكان أخوف ما أخاف عليهم الرياء ويكثر ذم الرياء في القرآن والحديث والمحاسبي يذكر من ذلك أمثلة عديدة ولكن ذم الرياء إلى درجة الحكم بإبطاله للعمل لا يقتصر على ما يظهر منه في الأعمال الدينية بل يشمله حيثما وجد وفي أي عمل كان
ومظاهر الرياء لا تحصى ولا تعد وتصنيفها فى منازل متميزة عمل يكاد يكون محالا لذلك فلن نشير فيما يلى إلا إلى بعض أصناف من الرياء يراها المحاسبي مذمومة بصفة خاصة
وأعظم المرائين عند الله عز وجل رياء من راءى بالإيمان واعتقد التكذيب والشك أو الريب وكذلك المنافق الذى ذكره الله عز وجل في غير موضع من كتابه
ومن بين الآيات العديدة التي يذكرها المحاسبي في هذا الصدد قوله
تعالى
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ ۱ ويشرح المحاسبي أن المنافق المرائى لا يفعل ذلك اعتقادا منه في الصلاة ولكن ليظن الناس أنه مؤمن بالفرائض قائم بها
۱ النساء آية ١٤٢

۰۷
وطائفة أخرى أمرها أهون من الأولى شيئًا ما تضم الرجل يرانى بالفرض وإن كان معتقدًا أن الله عز وجل ربه وأن ذلك عليه مفترض كالزكاة يكون ماله بيد غيره فيقول زكه كراهة أن يذمه الناس على تركه الزكاة
وكذلك الحج والصيام يحضر معه فى شهر رمضان من يفطن له إن أفطر وهو لو أمكنه الإفطار لأفطر فيمسك عن الطعام والقلب يتقلب
على خلوة يأكل فيها أو يأتى فيها أهله أو ما لا يحل له
وهناك بعد ذلك الرجل الذى لا يزكى ولا يصوم ولا يحج وبكذب
القول
إني قد زكيت وحججت وصمت لئلا يذم بترك الفرائض فلا يحمله على صلاته إلا الخوف من المذمة
حتى إنه ليصلى على غير وضوء لئلا يذموه
الحمد
فذلك الرياء بالفرض لا على عقد المنافقين على التكذيب والشك في القلب ولكن مع اليقين بأنه محرم وأن الله عز وجل لا شك فيه وأنها عليه مفترضة ولكن الكسل والتهاون فيظهر أداءه كراهة الذم وحب ويأتي بعد ذلك المرائى بالسنن الواجبة ولولا من يحضره ره أو من يتفقده لتركها إيثارا لحاجته أو كسلا عنها
ثم فرقة ممن يظهر النسك ترائى بإظهار الورع فيطيل الصمت ويمسك عن الغيبة وينهى عنها ويمسك عن الخيانة ويؤدى الأمانة ويستغفر إذا ظهرت من أحدهم الزلة
والله عز وجل يعلم منه أنه لو خلا بذلك لما فعله وإنما يفعل ذلك لقبول الشهادة منه أو لطلب دنيا أو طلب حسن الثناء أو خوف من مذمة

۰۸
وهناك الطائفة التي تضم المرائى بإكمال الفرائض التي إذا تركها كان خرجًا أو منقوصا في فرضه
فإن خلا له الموضع خفف صلاته وإن رآه الناس أتمها كراهية مذمتهم وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من صلى صلاة حيث يراه الناس فأتمها وأكملها فإذا خلا خففها فتلك استهانة يستهين بها ربه عز وجل
ويلى هؤلاء المرائى بإكمال الفريضة بما لو تركه لم يكن حرجًا ولا منقوصا يعلم الله عز وجل أنه لو خلا ما طابت نفسه أن يقصر عما يجزيه غيره ولما زاد على ذلك فإذا رأه الخلق حسن وعمل وتتبع
لا
الاتباع فيها
يريد بذلك أن يحمد بشدة التحرز للفرض
ويتبعه في الرياء المرائى بالتزيد في السنن الواجبة بعد ما أدى ما يجب عليه ليثنى عليه وهناك أيضا من أهل الرياء الذين يذكرهم المحاسبي
المرائي بالنوافل تكلفا إذا اطلع على بعض ما ينقصه في الدين أو خاف أن يظن به أنه لا يريد الله عز وجل بذلك يخاف أن
عندهم
تزول منزلته وتغير حاله فى القلوب التي كانت فيها وأيضا المرائي بالعمل يريد الله عز وجل ويريد غيره ولولا إرادة الخلق وحمدهم بذلك ما عمله ولو خلا لما عمله الله عز وجل وحده فلما اجتمع له الأجر والحمد أنشط له
والأنماط المذكورة من الرياء أنماط من ذنوب المعصية ولكنها لا تتضمن
ذنوبا أخرى إضافية
وإلى القارئ منازل من الرياء تختلف في نوعها عما سبق

فهناك من يرائي بالنوافل ابتغاء غاية هى فى حد ذاتها ذنب ويظهر التقوى والورع و يجعل طاعة الله عز وجل سلما وبضاعة ينال بها معاصيه كالذي يريد الوصية ليختانها أو أخذ المال للغزو والحج
يختانه
LE
ثم المرائي بالنوافل لمعصية هو مقيم عليها مخافة أن يفطن له ليبرأ في القلوب ويظن به البراءة مما يدعى عليه وكذلك إن كان مقيما على فجور يستره بالنوافل والتورع وإظهار الطاعات والبر
وأيضًا المرائى بالتطوع لينال بذلك الدنيا والأجر عند الله أعظم
لو كان يعلم ويسرد المحاسبى من نماذج المرائين غير ذلك الكثير وإنا لنكتفى بهذا القدر منها حيث يوفى بالغرض من بحثنا

أما العوامل التي تدفع بالإنسان إلى الرياء فهي
ثلاثة عقود فى ضمير النفس حب المحمدة وخوف المذمة والضعة في الدنيا والطمع فيها في أيدى الناس
وأصل هذه العوامل الذي منه تشعبت هو
معرفة النفس بلذة ما ينال من الحمد والبر وما يدخل عليها من ضرر الذم وغمه فلما عظمت المعرفه بذلك بعثت العبد على اعتقاد هذه الخلال الثلاث فيبدأ عند اللقاء بالسلام والبشر والإعظام والهيبة والتوسعة له في المجلس والتكرمة له بتشريفه وقبول الشهادة وتصديق الحديث وحسن
الظن به
وأما الطمع فمعرفته بأن من يره الناس بما يظهر من طاعة ربه فإنه

۱۰
يوصل بالأموال وتهدى إليه الهدايا ونقضى له الحوائج ويسارع إلى إقراضه المال
وأما خوف المذمة فمعرفته أن من ذمه الناس يكذب صدقه ويساء به الظن في الخير فكيف فى الشر ترد عليه شهادته ويرد عليه قوله ويقصى مجلسه ويعرض عنه ويرد بغير قضاء حاجة ويستحى من صحبته وربما
وضع عليه ذنب غيره ويحمل عليه لغيره وربما كان مظلومًا فلما عرف عظيم قدر هذه الخلال فى الخير اعتقد حب حمدهم وخوف مذمتهم والطمع لما فى أيديهم فورثته المعرفة بذلك الرغبة وغلبت على قلبه فهاج دواعى هذه الثلاث الخلال إلى الرياء هذه العوامل الثلاث تدفع إذن بالإنسان إلى الرياء غير أن كل واحدة منها كفيلة بذلك وليس من الضروري اجتماعها
والرياء ينفى بالمعرفة والكراهة إن اجتمعا وإن افترقا لم ينتف
الرياء
فخطرات الرياء تتسرب إلى القلوب بوسائل خفية قد لا يدرك العبد
مغزاها
فيملأ حلاوة حب الحمد ورهبة الذم قلبه ولا يكون في القلب موضع
فراغ يذكر به أن ذلك هو الذي يحبط عمله وقد تملأ قلبه انفعالات كالغيظ أو الغضب فينسي عزمه على تجنب الرياء وينسى ذكر ربه جل وعز
وسواء تسربت خطرات الرياء خفية إلى قلب العبد أو تسترت في الانفعالات المختلفة فالعلة واحدة وهى فقدان المعرفة التي يتبعها زوال
الكراهة

۱۱
ولكن المعرفة لا تكفى فقد يأتى الإنسان العمل الحرام وهو يعلم أنه حرام تغلبه شهوته وحب نفسه للملذات خاصة إن لم يخش في ذلك عقابًا من الناس
فلا تنفع المعرفة والكراهة إذا افترقتا عند عارض الداعي إلى الرياء
والمعرفة تكتسب بالمحاسبة التي سبق لنا أن عرضنا أمرها أما الكراهة فهى الخلة العسيرة المنال على الإنسان فهو يحب المدح والثناء وغرائزه تدفعه دائما إلى ما تهواه نفسه ثم إن نفسه وعدوه ينشطان على الدوام بغية إعمائه عن سواء السبيل والغرائز وهوى النفس والشيطان سواء كل على انفراد أو مجتمعين يدعونه إلى الرياء وإلى ما يجده فيه من أغراض الدنيا فإذا خضع المرء لهم حبط عمله وبطل
ولكن الإنسان ليس غرائز وأهواء فحسب فقد قرن الله ذلك فيه بـ غريزة العقل وتفضل عليه بالهداة المرشدين فقرن مع العقل العلم والكتاب والسنة وبهم يستطيع العبد أن يقاوم الشر ويذكر النعيم الأكبر المقيم الذي يوليه الله لمن خلصت نيته وطهرت وبالإضافة إلى ذلك يجد له عقله دعامتين إذا تفكر فيهما تمكن من
مجاهدة الغرائز وهوى النفس والشيطان
أولهما كيف يكون مصيره عند الله
والثانية ماهى حصيلة الرياء في الدنيا
فأما الأولى فالمرائي يتحبب إلى العباد بالبعد عن الله عز وجل ويتزين لهم بالشين عند الله عز وجل ويتقرب إليهم بالتباعد من الله عز وجل ويتحمد إليهم بالتذمم لله عز وجل ويطلب رضاهم بالتعرض لسخط الله عز وجل ويطلب ولا يتهم بالتعرض للعداوة من الله عز وجل

۱
ويحرم في الآخرة الثواب ويحبط عمله في الدنيا ويبطل أجره في يوم فقره
وحاجته وفاقته
قد
فلا تسأل عن تقطع نفسه بالحسرات والندامة إلا أن يكون أخلصه قبل القيامة إذا رأى موضع منفعة الإخلاص وموقف ضرر الرياء وإن كانت حسناته راجحة على حاله لما عنده من العمل الخالص سوى ذلك فقد خسر بعض حسناته التي تقرب بها من ربه جل وعز ويعلو بها في جنته مع سؤال الله عز وجل له وتوفيقه إياه على الرياء والحياء منه أنه قدم في الدنيا في عمله عليه غيره في الهيبة والمحمدة والتقرب وما يناله في الدنيا بإظلام قلبه وخبث نفسه وزوال الرجاء عن قلبه إذ علم بريائه وتشتت همومه في طلب حمدهم لا يحصى لأنه كثير عددهم لا يحصى من يعامل منهم ورضاؤهم لا يدرك لأن بعضهم يرضى بما يسخط بعضهم وأما ما ينال منهم مع تعرضه لهذا البلاء العظيم وما يترك به من رضا الله عز وجل في الدنيا والآخرة فإنهم لم يزيدوه بحمدهم في أجل ولا رزق ولا اجترار عافية ولا صرف بلاء ولا دفع مكروه مما قدر الله عز وجل
ولك
وأما الطمع فيها أيديهم فإنه لم ينل ما لم يقدر له وإن كان نال شيئًا فإنما نال قدر له مما لو كان أخلص عبادة ربه لنال ما نال لا محالة فأحبط عمله وتعرض لمقت ربه وحرمان ثوابه من غير ازدياد في رزق ولا أجل ولا اجترار منفعة في دين أو دنيا على ما قدر له فكيف لا يزهد عاقل فيما يضره في الدنيا والآخرة بغير اجترار ومنفعة
له
وأما المذمة فإنه لا ينزل به من البلاء ما لم يقدر له ولن يناله من الذم

۱۳
مالم يقدر ولا يصرف مخافة ذمهم شيئا من العاقبة والرزق ولا يقطع من الأمل ما قدره الرحمن جل وعز
فكيف لا يزهد عاقل في هذه الخلال الثلاث إذا عرف ضررهن وأنه لا ينال منفعة في دنياه بشيء منهن وأن أمر الله مفروغ منه وأن هذه الخلال الثلاث خدعة وغرور تضر الضرر الأكبر ولا تنفع في شيء من
الأشياء
15
فإذا عقل العبد هذا كما وصفت له أنه يحبط عمله ويبطل أجره وتشتت همومه ويتعرض لمقت ربه عز وجل زهد فى هذه الخلال الثلاث ولم
يعتقدهن
لجمال

أ النفس
عناصر الشر
إذا كان الإنسان يأتى الشر فالعنصر الرئيسي الدافع له إليه هو

النفس والواقع أن إبليس - هذا العدو الدائم النشاط للإنسان – هو أيضًا عنصر هام من العناصر الدافعة إلى الشر ولكنه لا يستطيع تحقيق أغراضه إلا بواسطة النفس فإغراءات الحياة الدنيا لا تضل العبد عن الصراط السوى إلا إن مالت إليها نفسه ولاشيء قط في الدنيا يسقط الإنسان في الذنوب إلا إن لاقى ذلك من نفسه هوى أو قبولاً لذلك حذرنا الله منها في مواضع كثيرة من كتابه يقول مثلا هو ومَا أُبَرى نفسى إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَارَحِمَ رَبِّي
لذلك وجب على الإنسان اليقظة الدائمة لمكرها به وعليه أن يتفكر في الأمثلة التالية حتى يستطيع مقاومة أغراضها الشريرة ويأخذ حذره منها
۱ - أن العزم منها في حال الرضا مبذول على الحلم وهي بالنسبة للحلم
سخية غير ممتنعة
فكل إنسان من كافر أو من مؤمن يحلم عند الرضا فإذا غضبت
1 يوسف آية ٥٣

۱٥
فطلبت منها الحلم امتنعت منه فظهر منها من السفه والحقد وسوء الخلق مالو يظهر من بعض الولدان لكان قبيحا
فمن بذل الشيء حيث لا يحتاج إليه ومنعه عند الحاجة أليس مخادعا وليس بصادق يخذلك عند الحاجة ويعدك عند الغناء أنه يغنيك فمن أعدى لك ممن فعل ذلك بك ومن أكذب وأفجر ممن فعل
ذلك بك

وكذلك الإخلاص تعطيك قبل العمل وليس الإخلاص إلا نية الإخلاص أن يخلص عند العمل إشفاقا زعمت على العمل أن يحبط في يوم فقرك وفاقتك إليه تعطيك ذلك سخية غير ممتنعة
فإذا عرض العمل هاجت هى بالدعاء إلى الدخول فيها وعدت أن تفر منه وامتنعت مما وعدت أن تقوم به وهاجت الشهوة بالرياء وامتنعت من الإخلاص وامتنعت مما يقبل به عملك ودعتك إلى ما يحبط به عملك في يوم
فقرك وفاقتك
وكذلك تعطيك الورع في حال العدم وإنما ذلك نية الورع فتزعم أنها تدع ما يكره الله عز وجل حين تعرض للبلاء خوفا من أن يغضب الله عليك فتستوجب العذاب وتحرم الثواب
حتى إذا قدرت وامتحنت جاشت بشهوتها فطلبت ما زعمت أنها تدعه إذا عرض لها إشفاقًا عليك من النار وحرمان الثواب وامتنعت مما زعمت أنها تقوم به من الورع رجاء الأمن من العذاب والظفر بالفوز والثواب فهل يقدر أعدى الأعداء لك إلا أن يعطيك من الأمن ما تعتز به لتسكن فتطمئن ولا تحذره وتأمنه حتى إذا عرض ما وعدك أن يعطيك
كان هو الذي يطلب هلاكك وعطبك لينال ما يريد ويشتهى

٢١٦
من
٤ - وكذلك الزهد تعطيك قبل الملك حتى يخيل إليك أنك الزاهدين حتى إذا ملكت الدنيا أو القليل منها هاجمت منها الرغبة وكانت
هي
المطالبة والمنازعة إلى الرغبة والصادة عن الزهد
-0
وكذلك الرضا في حال الرخاء والعافية قبل وقوع القضاء بالبلاء والمصائب حتى يخيل إليك أنك من الراضين
فإذا نزلت مصيبة أو بلاء امتنعت من الرضا بل كانت هي التي تهيج للجزع والتسخط وتثبط عن الرضا وتصد عنه
-
وكذلك تعطيك التوكل والثقة بالله عز وجل ما واتتها الأسباب والدنيا وكفيت المؤونة فإذا جاءت حال يحتاج فيها إلى النظر إلى الله عز وجل لا إلى خلقه والأسباب التي دون الله عز وجل تعلقت بالأطماع وهاج رجاء المخلوقين وخوفهم ولزم القلب الاهتمام بالأسباب وظهر التصنع والتملق للخلق فغدرت بك حين احتجت إليها وكانت هي التي تصد عن التوكل وتثبط عنه

الأمثلة السابقة ينجلى لنا غرض النفس وهي التي لا ترجو ومن
للإنسان سبل النجاة
وهي
لا تكف عن نشاطها فى التضليل والحث على التهلكة فإن قدر الله عبده على مجاهدتها واليقظة لها فصار يذكرها بالوعيد والوعد واستطاع أن يقهر بذلك هواها وغريزتها ويحول بينها وبين الشر الظاهر والباطن لجأت إلى وسائل أخرى من مكرها و طلبت الشر الخفى الغامض تريد أن تنال لذتها فيها أجيبت إليه كأنها لا تريد أن تصل إلى

۱۷
خير من عمل الآخرة ولكنها تحوم على أن تنال لذتها لاتبالي فيم نالتها كائنا ما كان غير مكترثة
وكل ما يضل العبد عن سواء السبيل فهو راحه للنفس وسرور بل إن العبد لا يكاد يأتى برا إلا وشهوتها ضده
ومنه ما لا تعب عليها فيه كالسكوت عن الخوض في الباطل وغض البصر وترك الغيبة ذلك لأنه وإن لم يكن لها متعباً فإنه مشغل عن محبتها وهواها
وهي في سبيل إحباط ما يشغل عنها فيمنع تحقيق شهواتها تستخدم من وسائل التضليل ما أمكنها
فقد يجد العامل لله عز وجل القوى العزم الزاهد في الدنيا نشاطًا من نفسه للطاعة وشهوة منها لها لا تكاد تصبر عنها كأنها طبع منها بل قد يكون في بعض الحالات أكثر من الطبع
وتفسير الأمر أن ذلك لم يكن منها ابتداء ولا هو موافق لها في الخلقة في ضعفها ولا في حال قوتها
وقد كانت أولاً جاهدة حريصة أن لا يكون ذلك منها فلما وهب الله عز وجل للعبد قوة العزم والمواظبة على مجاهدتها والقمع لها فينست أن يجيبها إلى محبتها وقهر الطبع منها قوة العزم ونور الحق وغلبت عليه هموم الآخرة وأحزانها سكنت عن دعائها وانقطعت عن طلب عادتها وهى مع ذلك على خلقتها وهيبتها
ولو وجدت منه فترة لرجعت إلى أسوأ أحوالها ولرفضت أكثر طاعتها لربها عز وجل

۱۸
منه
ويزيد المحاسبى موقف النفس إيضاحًا فيضرب المثل التالى لمحدثه ومثل ذلك كأسير من بلاد العدو استأسرته وفرقت بينه وبين ماله وأهله وولده وأرضه ووطنه وقد كان جاهدك قبل الأسر على أن يكون هو المستأسر لك حتى أتاك من أعانك عليه فشده لك كتافًا وأمكنك فلم يزل بعد ما أمكنك منه يجاذبك إلى الرجوع إلى بلاده ويطلب منك غفلة ليقتلك أو يستأسرك فيرجع بك معه إلى منزله ووطنه فلم تزل تضربه وتقهره حتى انقاد لك من الخوف وسارع إلى خدمتك وأنت متخوف أن يجد فرصة فيرجع ويتركك ويرفض ما في يديه مما استرعيته عملك أكنت له حامدًا أو في أمره متزينا
من
مع
ذلك
فكذلك نفسك قد كانت حريصة على الركون من قبل إلى الدنيا فأبى الله عز وجل إلا أن يوفقك ويسددك وأعانك عليها حتى أيست منك أن تنال محبتها
فأجابت مسرعة على غير انقلاب من طبعها ولا تغيير لغريزتها وأنت مع إجابتها لك متوقع رجوعها
ولكن هناك فرق بين النفس والأسير لأن الأسير لا يرى أن الخير فيما يراد به وهى قد علمت أن يراد منها خير لها
فقد ساوت الأسير فى مخالفته وفضلت عليه في الشر فهي شر وأعجب عصيانا وإباءً من الأسير إذ عصت بعد العلم بأنك إنما تدعوها إلى نجاتها وتجانب هلكتها فالحمد الله وحده والذم لها والحذر والخوف منها والأمر الذي يعين الإنسان على قهر نفسه وإخضاعها هو التفكر في وعيد الله وما أعده لمرتكبى الذنوب من ألوان العذاب في الجحيم وقد

۱۹
عرضنا لهذا تفضيلا فيما سبق من بحثنا تحت عنوان الطريق النفساني إلى
النجاة
ب إبليس
أمرنا الله بأن لا نطيع عدوه في شيء وعدو الله هو عدو الإنسان وهو
إبليس
قال تعالى في كتابه
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عدو فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا إِنما يَدْعُو حِزبه لِيَكُونُوا مِنْ
۱
أَصْحَاب السعير 1
والغاية التي يسعى إليها إبليس تهلكة العبد وإحباط أعماله وهو ينشط بمكره ووسائله الخفية إلى تضليل العبد وإدخال الرياء والعجب والكبر في أعماله من حيث لا يدرى حتى تحبط ولا يكون لها ثواب عند
الله
غير أن إبليس لا يعلم علم اليقين أسرار قلوب البشر فهو قد خبر وتابع ما يظهر ولكنه طالت مقارنته للإنسان وتفقده له ولأحواله حتى لم
تخف عليه حاله فعرف مطالبه ومذاهبه وقد ابتلي به العبد
فعند كل خير صده عنه صدا من غير علم منه بما يحدث غير أنه علم أن خيرا قد أحدثه العبد وكذلك يعلم أن شرا قد أحدثه العبد لا يعلم أي خير ولا أى شر فيعارضه عند حدوث الخير بالصد وعند
حدوث الشر بالتزيين
۱ فاطر آية ٦
المحاسبي مراقبة ص ۳

۰
اهتمامه
وكذلك الإنسان إذا طالت مقارنته لإنسان آخر فإنه يهتم بأمره ويعلم وسروره ومن غير أن يعلم ما الذى سره وما الذي غمه ولكن الإنسان إذا عظمت رغبته في الطاعة الله عز وجل عليه ومن بالزهد فإنه يجعله يفعل من الخير الأقل بدعائه له ألا يفعل وبذلك يغفل الأكثر فيتقبل الشيطان من الإنسان عند ذلك ترك الأكثر
عن
أن يصيب ولما كان الناس يختلفون في درجات إقبالهم على الخير والشر فإن إبليس لا يستعين بنفس الأساليب للتغرير بهم جميعا فقد يوسوس لهم بترك الفرائض أو يدفعهم إلى إهمال النوافل وقد يوسوس لهم بارتكاب الذنوب الصريحة أو يدفعهم إلى الأعمال أو الأفكار المشكوك في أمرها وهو يترقب من الإنسان الفرصة المواتية التي يضعف فيها ويسهل اقتياده إلى الشر ولكن هناك من العباد من يراصده لأنه قد ييأس منه إلا في موضع الغفلة فلما كثرت عليه الوسوسة كثر احتراسه ونفى وساوسه فيراصده بتضييع الاحتراس ويحمل عليه بالملاهي وينبذ إليه بها فإن نفى الوسوسة وصار إلى الذكر وحسم الأشياء خنس عنه ولم يلح عليه لأنه إذا ذكر عند الوسوسة أيس من الغفلة وإن أراد الشيطان الطمع بالغفلة عن الطاعة أعرض عنه اللعين بالوسوسة كأنه لم يوسوس إليه ولم يردها كيلا يزداد الطاعة وصفهم الله في كتابه
وهم
الذين
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ
مبصرون
۱
1 الأعراف آية ۰۱

۱
فمن الناس إذن من يستمع لوسوسة الشيطان ولكن منهم أيضًا من يصده ويتجنبه ويحذره وهؤلاء ليسوا في مقام واحد لأنهم يختلفون في قوة العزم على الخير
ومثلهم مثل رجال أربعة أرادوا مجلس حديث أو ذكر يخافون أن يفوتهم منه بقدر إبطائهم عنه في طريقهم أو صلاة في جماعة أو جمعة فمر أحدهم برجل من أهل الضلالة فعرض له للتثبط والنهي عن الذهاب يريد أن يصده فلما رآه يأبى أن يرجع قبل أن يجادله فقام عليه يجادله ويخاصمه والضال يحب طول المجادلة بينهما ليفوته بقدر ما يحبسه
بخصومته
ومر الثانى عليه فنهاه عن الذهاب إلى الموضع الذي يريده فوقف منتهرا له رادًا عليه فاغتنمها الضال بقدر ما يفوته يحبسه بالوقفة عليه
ومر
الثالث وهو يمشى
ماشيًا أو راكبًا فعرض له بالنهي والتثبط وقد علم ما لقى أصحابه من الحبس فمضى ولم يقف ولم يحدث معنى ومر الرابع وقد علم ما لقى أصحابه من الحبس فلما أحس بصوته إن كان ماشيا سعى وإن كان راكبًا حرك راحلته بالسرعة ليغيظه وليدرك ما يطلبه تاما ولا يكون كأصحابه الذين قبله فيوشك إن عادوا عليه أن يعرض لهم ويدع هذا الرابع لأنه اتخذ دعاءه عبرة وزيادة في الخير بالسرعة إليه والإعراض عما دعاه إليه العدو وكذلك القوى الكيس من
المخلصين۱

۱ الرعاية ص

ولكن ما العمل
هل يجب على الناس أن يحذروا إبليس
أم أن عليهم أن يشتغلوا عنه بالتوكل على الله عز وجل وبالطاعة حتى يكون هو الذي يزجر عدوهم عنهم
ويقول المحاسبي إن أهل الفكر عرضوا في ذلك آراء عديدة مختلفة عامتها غلط إلا قولاً واحدًا
فأحد ما قالوه أن فرقة من البصريين قالت إنما يحتاج إلى الحذر من ذلك الضعفاء فأما الأقوياء فقد انقطعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بحبه فليس للشيطان عليهم سبيل إذ قطعوا حب الدنيا من قلوبهم وأبدلوا قلوبهم إلزام حب الله عز وجل لها والاشتغال بالسيد وبمناجاته فقد خنس الشيطان عنهم وذل واعتزل
وقالت فرقة من أهل الشام إنما يحتاج إلى الحذر من قبل يقينه
وضعف توكله
ملکه مالا
فأما من أيقن بأن الله عز وجل لا شريك له في تدبيره ولا يحدث في يريد وأنه لا يضر ولا ينفع شيء إلا به وأن الشيطان عبد مخلوق ذليل مهين لا تنفذ له خطرة ولا مكيدة إلا بإذن الله عز وجل فيها فالعارف بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل بالتوكل والاستحياء منه أن يراه يحذر مخلوقا دونه فالحذر لغير الله عز وجل نقص من اليقين والتوكل وقالت فرقة من أهل العلم كلا الفريقين غالط
أما ما قالت الأولى فإن من الاشتغال بالله عز وجل والحب له حذر ما حذر منه واتباع أمره فيمن أمر بالحذر منه لأنه عز وجل يقول

۳
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحَابِ السَّعِير ١
لهما
وقال عز وجل للناس كلهم لا يحاشي ضعيفا ولا قويا يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَكُمُ السَّيْطَان كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ" الآيات والأحاديث التي تحضنا على الحذر من إبليس من فلو كان الله عز وجل يحب الأمن منه لأحد ويزيل الحذر عنه لأحبه
وغير ذلك
أى آدم وحواء وأزاله عنها في جنته وليس لها فتنة ولا شيء نهيا عنه إلا شجرة واحدة فكيف بنا في فتن لا تحصى في القلب والجوارح ومالا يحصى من ملاذ الدنيا وشهواتها
وأمر الله نبيه بصلاة الخوف ففعل ذلك طاعة لربه لا اشتغالاً بعدو الله والكفار عدو تراهم الأعين وتسمع أصواتهم الآذان والشيطان عدو يراك ولا تراه
فأي العدوين أولى أن تحترز منه وأى النزغتين أولى أن تحذر عدو تراه وإن غفلت عنه فأصابتك نزغته م تخل من أجر أو شهادة أو عدو يراك فلا تراه وإن أصابتك نزغته لم تخل من إثم أو خسران عمل أو موت أو دخول إلى النار
فقد تبين غلط الفرقة التي قالت إن من الاشتغال بالله عز وجل الإعراض عما حذر الله منه طاعة الله عز وجل واتباعًا لأمره فذلك بين عند من عقل أمر الله عز وجل
۱ فاطر آية ٦
الأعراف آية ۷

٢٢٤
وأما الفرقة الثانية التى قالت إنه من اليقين والتوكل على الله عز وجل أن لا يحذر عدو الله فهذا غلط منها أيضا لأن أولياء الله عز وجل لم
يحذروا العدو باعتقاد منهم أنه يضر أو ينفع دون الله عز وجل ولكن طاعة الله عز وجل اعتقاد أنه لا تضر خطراته إن عصم الله ولا ينفع حذره إن خذل الله عز وجل
مع
عز وجل
ودوام الحذر هو عصمة من الله عز وجل لأن الحذر مهما دام حجز العبد
عن القبول منه
فكيف يكون من يحذره قد نقص توكله وحذره عصمة من الله عز وجل على العبد فيها أعظم النعم
وذلك كما أمر الله النبي بصلاة الخوف وأمره أن يأخذ حذره من
عدوه هو والمؤمنون
فرعى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ما أمروا به لا ينقص ذلك من يقينهم ولا توكلهم لعلمهم أنه لا يكون إلا ماقدر ولا يشغلهم عنه ذلك ولكن اتباعًا لأمره واشتغالاً بما أحب وأراد
فليس من اتبع أمر الله عز وجل مع اليقين بناقص التوكل واليقين
ولكن ناقص اليقين من ضيع أمره إرادة كمال اليقين
وهذا قول الفرقة المتبعة لكتاب الله عز وجل والسنة
ولكن كيف الحذر من إبليس
أهو انتظار وتوقع متى يعرض أم نحذر بغير انتظاله
يقول المحاسبي إن الفرقة التى دانت بحذره اتباعًا لأمر الله عز
وجل اختلفت إلى ثلاث فرق كلها غالطة إلا فرقة هي
الثالثة

٢٢٥
والأولى ترى ما يلى
إذا أمرنا الله عز وجل بمجاهدة من لا نراه وخوفنا منه وأعلمنا أن في ظفره بنا الهلكة ولا يكون في قلوبنا شيء أغلب عليها ولا ألزم لها من حذره فننتظر متى يعرض بفتنة لأن الاشتغال عنه يورث النسيان والنسيان يورث قبول خطراته بغير معرفة وذلك يؤدى إلى التهلكة وتقول الفرقة الثانية
ذلك غلط لاشتغالها بانتظار الشيطان ولم تؤمر بذلك وذلك إرادة الشيطان منا أن نخلى قلوبنا من ذكر الله عز وجل وذكر الآخرة ونعمرها بذكره وارتقاب خطراته ولكن نلزم قلوبنا ذكر الآخرة وذكر ما يعرض فلا نكون قد تعطلنا من ذكر الآخرة ولا نكون ناسين لمن أمرنا بحذره كراهة أن يأتي على غفلة
وقالت فرقة وهم أهل العلم وأولى بالحق كلتا الفرقتين غالطة
أما الأولى ففرغت قلوبها من ذكر الآخرة وجعلت عبادتها إلزام قلوبها ذكر الشيطان فقد أدخلت ذكر الشيطان في القلب غلطا أكثر مما أدخلت ذكر الله عز وجل في قلوبهم وإنما أمرت بالحذر من أن تغفل عن الذكر والعمل فإذا ودعت الذكر فقد أصاب العدو ما أراد وإن جاءت خطرة إلى قلب فارغ من الذكر يوشك أن يقبلها إذ ليس فيه نور من ذكر الآخرة ولا قوة اشتغال بالله عز وجل
وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى فى بعض معناها إذ جعلت ذكر الله عز وجل وذكر الشيطان في القلب مستويين فكأنما أمرت بذلك ذكر الله عز وجل وذكر الشيطان والاشتغال بالله عز وجل وبالشيطان

٢٢٦
ولم يبلغنا عن أحد من الأقوياء ولا الضعفاء أنه فعل ذلك ولا دان به لأن الله عز وجل أمر عباده بطاعتت وندبهم إلى الاشتغال به عن خلقه إبليس وغيره وأمرهم بالحذر منه حين يعرض بفتنته فاشتغل أولياء الله عز وجل وأهل الخالصة من عباده بذكر ربهم وذكر ما ندب إليه وأحبه وألزموا قلوبهم حذر ما حذرهم منه على غير انتظار له ولا اشتغال بذكره
لا
والحذر يلزم القلب من العناية بالنجاة من العدو والخوف من فتنته ثم أن يهيج الذكر والتيقظ حين يعرض العدو بخطراته
يمنع
الاشتغال به
وإن ذلك لموجود فيما هو أشد من أمور الدنيا فإن نام والحذر في قلبه من ذهاب النوم تيقظ في غير وقته الذى كان يستيقظ له من الحذر اللازم لقلبه فكذلك المشتغل بذكر ربه الذي لم يذهب عقله أولى أن
يوقظه ويذكره الحذر من عدوه وإن اشتغل بذكر ربه ترك ذكر عدوه والاشتغال به لأن المستيقظ من النوم من غير ذكر دائم فى قلبه وكيف يذكر وهو نائم لا يعقل ولكنه أيقظه الحذر فكذلك العامل الله عز وجل المشتغل بذكره اللاهي عن ذكر الشيطان بالاشتغال بربه عز وجل إذا عرض عارض منه ذكره الحذر في قلبه وقواه الذكر على أن يفطن للعارض ويتحرك للعارض
فإن عرضت خطرة ذكرها وكان أقوى على ردها لأنها تعرضت بقلب مشغول بالله عز وجل فيرده بأهون الرد
ومثل الذي يفرغ قلبه أو بعضه لانتظار خطرة من الشيطان مثل من يريد أن ينزف الماء القذر من بئر والماء من المجرى إليها واصل فهو ينزف والماء إليها يجرى فيقطع أيامه بالنزف ولم تجف البئر من
الماء
ومثل الذي يلزم الاشتغال بالله عز وجل قلبه مثل من جعل لمجراها

۷
سكرا ۱ وسدا فإذا جاء الماء رده بذلك السكر والسد من الغير كلفة
ولا عناء
تنا
فهذه الفرقة للقرآن والسنة والصالحين أتبع وعلى رد الخطرات أقوى
وأبعد من الخدع والنقص٢
جـ فتنة الحياة الدنيا
النفس عامل داخلى نشط للشر وإبليس عامل خارجي نشط له أيضًا وهناك عامل آخر للشر لا يظهر أثره إلا إذا ووجه به الإنسان أو اتخذ إبليس والنفس من فتنته سبيلا لأغراضهما ذلك هو إغراء الحياة الدنيا ورد فعل المحاسبى لهذا العامل من عوامل الشر يظهر لنا من موقفه تجاه الزهد فهو لا يكتفى بعرض رأيه بشأنها بل يحذر المؤمن من إغراءات الدنيا ويجد فيها اختبارًا له وفتنة ومن بين فتن الحياة الدنيا يذكر المحاسبي مجالس الغناء وأماكن اللهو عامة باعتبارها أشدها إغراء بل ويذهب إلى حد القول بأن ارتيادها محرم على المؤمن تحريم أكل الميته أما فيما يختص بالأصحاب فهو بطبيعة الحال لا يحمل على من كان منهم نافعا لصاحبه في دينه ولكن هؤلاء قلة بين الناس لذلك فهو يحدثنا عامة عن سوء عاقبة الإكثار من الأصحاب بل هو يقول خير لك الإقلال من الأصحاب بل خير لك تركهم تأمن لدينك وتقوى على مجاهدة النفس
إبصارك أصحابك عند لقياهم وإبصارهم إياك فتنة حديثك إليهم
1 أى سدا أو حاجزا
راجع الرعاية ص ٢٣٤ ٢٣٦ نشر دار الكتب الحديثة

۸
وحديثهم إليك فتنة تركك لهم أو تركهم لك فتنة ١ تعظيمك لهم وتعظيمهم لك فتنة ٢
إذا رحلت للحج وليس معك من تعرفه ويعرفك فذلك خير وما عداه فهو فتنة وكن حذرًا حتى لا تفتن ۳
"
ويواصل المحاسبى وصاياه للمؤمن بالحذر من الأصحاب والإخوان
فمجالستهم ينبعث منها الرياء وحب الحمد والثناء والحسد والطمع في
غير طاعة الله وطلب الأجر من المخلوقات دون الله
كل هذا
من عواقب مجالسة الناس بل قد يكون من آثارها إحباط
العمل فلا أجر ولا ثواب في الآخرة لمن لم يستطيعوا مقاومة لفتنة في
الدنيا
۱ فهو يؤدى إلى الغيبة والنميمة فهو من الرياء ويدخله العجب بالنفس ۳ المحاسبي أدب النفوس ص ٦٨ ٦٩

آفات النفس
ونعرض في هذا الفصل لأهم آفات النفس فيما يرى المحاسبي وقد حدثنا عنهما تفصيلاً في كتاب الرعاية
أ العجب
العجب آفة في كثير من العباد عظيمة
وهذه الآفة أو هذا الشعور المذموم يعمى قلب الإنسان حتى يرى المعجب أنه محسن وهو مسىء وأنه ناج وهو هالك وأنه مصيب وهو مخطئ ولا يلبث صاحبه المعتقد له أن يركن إلى الغرة فيستصغر ما علم به من ذنوبه وزلله وينسى كثيرًا منها ويعمى عليه أكثرها حتى لا يظنه ذنباً فيستكثر عمله فيغتر به فيقل خوفه وتشتد بالله عز وجل غرته وإذا عرف كثرة ذنوبه واستعظمها ثم قنط لم ير أنه يقبل منه التوبة
فأقام عليها فأمسح عن العمل الله عز وجل بالطاعة فيهلك لذلك ذم النبي والصحابة رضوان الله عليهم العجب ذما شديدا ففي الحديث
ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه
أما ابن مسعود فيقول
الهلاك في اثنين القنوط والعجب
فدل ابن مسعود بقوله هذا أن فى العجب الهلاك لأنه إذا أعجب زكى
۹

۳۰
نفسه فإذا ازكاها لم يتهمها ولم تعظم عليه مخالفتها أمر ربها وظن أنها
ناجية
وقال مطرف
لأن أبيت نائماً وأصبح نادما أحب إلى من أن أبيت قائما وأصبح
معجباً والعجب يكون باجتماع اثنتين اما
الأولى أن يعظم لدى العبد ما يقوم به من عمل فيدل به والثانية أن ينسى منة الله عليه وفضله الذى به في الحقيقة كان عمله فمن بما اصطنع من معروفه فحبط أجره
ويعمد المحاسبى تيسيرًا على قارئه إلى تقسيم العجب إلى قسمين
العجب بالدين والعجب بالدنيا والنفس
أما العجب بالدين فعلى أربعة وجوه
أولها العجب بالعمل الديني فرضًا أو نفلا
وثانيها العجب بالعلم أى ما حفظ وفهم من القرآن والسنة وقول
علماء الأمة
وثالثها العجب بالرأى والصواب أى ما استنبط قياسًا على
الكتاب والسنة والإجماع مشبها بها حكمه مثل حكمه ورابعها العجب بالرأى الخطأ أى ما كان عن غير استنباط من كتاب ولا سنة ولا إجماع الأمة وإنما هو تأويل بغير الحق وانتحال له على سبيل الجهل من قبل هوى النفس مع اعتراض من الظن أنه حق
فأما الإعجاب بالعمل والعلم والرأى الصواب فمعنى واحد لأنه كله الله من عز وجل ونعمة منه وله أول يكون عنه وقد ينفرد أوله فلا يكون عجبا فأما أوله الذى يكون عنه العجب فالاستكثار والاستعظام
منة

۳۱
للعمل والاستحسان للعلم والرأى الصواب
ونسی نعمة ربه عز وجل عليه ومنته بذلك
واليس العجب علمك بما عملت وعلمت ولكن الإضافة إلى نفسك ونسيان منة المولى بذلك فأما إذا علمت أن ذلك كان بمنة الله عز وجل وأن نفسك لو تركتها ومحبتها لركنت إلى خلاف ذلك فنفرد الله عز وجل بالمنة في ذلك فلست معجبا
وشهوة النفس تدفع بالإنسان دائما إلى المخالفة وتسعى إلى منعه عن الخير لأن العبد لا يكاد يأتى برًا إلا وشهوتها في ضده إن قام الليل فشهوتها في راحتها وكذلك إن صام فشهوتها في الإفطار وكذلك جميع أعمال الطاعات فعلى العبد إذن أن يذكر ويعترف أن العمل من الله عز وجل نعمة أنعم بها عليه لا ابتداء من نفسه وأن عليه في ذلك الشكر وأنه غير قائم بالشكر على ذلك مقصر عن شكره لم يستأهل ما من يستأهل أن يسلبه لتضييعه شكر نعم الله عز وجل عليه
عليه
به بل
أما الوجه الرابع للعجب وهو العجب بالرأى الخطأ فيقول المحاسبي بشأنه إن الرأى الخطأ ليس بنعمة فيوصف بنسيان النعم فيه ولكنه بلاء وخذلان ونقص فإذا كان الرأى على غير الكتاب والسنة والإجماع فعن العجب كان وهو الذى أهلك عامة العباد حتى ضلوا وكفروا وابتدعوا وأخطئوا في دين الله عز وجل وقد ذمه النبي وذم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العجب بالرأى والعلماء بعدهم وأخبروا أن فيه الهلكة والعجب بالرأى الخطأ يكون من قبل هوى النفس مع اعتراض من الطن أنه حق يظنه بغير يقين

۳
وهو يصدر عن الإغفال والجهل وعن ترك تهمة النفس واستحسان الرأى بغير علم وضح له ولا دليل عليه من الله عز وجل وقد ينفى العبد العجب بالرأى الخطأ بتهمة نفسه وترك الاستحسان لشيء من رأيه إلا بدليل بين وحجة واضحة من الكتاب والسنة أو قياس عليهما واستنباط حكم فى نازلة المعرفته ما بنيت عليه النفس في الخلقة أن من شأنها السهو والغفلة ولما جرب منها من كثرة غلطها وكثرة زللها تأويله مالا يحصى مرارا كثيرة فى كل ذلك يرى أنه مصيب لا يشك عند نفسه في ذلك ثم يتبين له بعد أنه قد كان غفل وغلط وكان استحسانه لذلك من قبل الهوى وتزيين الشيطان وقد سبق لنا في خلال بحثنا هذا أن عرضنا لموقف المحاسبي من
وسوء
الأحكام الخاطئة المبنية على الآراء الشخصية للناس
ولننتقل الآن إلى ما يحدثنا به المحاسبى فيما يتعلق بالنمط الثاني من العجب وهو الذى تثيره أمور هذه الحياة الدنيا والعجب من قبل الدنيا يكون بالنفس أو بالمال أو بالحسب أو بالكثرة
من الخدم والولد والعشيرة والأصحاب
والعجب بالنفس هو العجب بالجمال والجسم بعظمه وتمامه والقوة
والعقل والعمل وحسن الصوت
فأما بالجمال والجسم فاستحسان ذلك من نفسه ونسيان ما يلزم العبد من الشكر الله عز وجل على ذلك ونسيان القدر فى البداءة وما يتقلب فيه الآفات من ومصير الجمال والجسم إلى الفناء والبلى وينفى العجب بالنفس بذكر العبد للنعمة وما وجب عليه من الشكر وبالتفكر في قدرة الله الذى يستطيع أن يبدل جماله بالقبح وأن الجسم من
التراب وسيعود ترابا

۳۳
فإذا عرف نفسه وقدره ومصيره وما عليه من الشكر وما ضيع منه وما وجب عليه بتضييعه الشكر من العقاب زال عنه العجب واهتم بالشكر وتواضع للمنعم أما العجب بالقوة فهو استعظامها ونسيان الشكر والاتكال عليها ونسيان الاتكال على الله عز وجل كما حكى عن قوم عاد حين قالوا مَنْ أَشَدُ مِنَّا قُوَّةً ۱
1,
فأعجبوا بقوتهم واتكلوا عليها وظنوا أنهم بها يتخلصون من عذاب
الله عز وجل وكانت عاقبة قوم عاد عبرة للناس من بعدهم وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم قول سليمان عليه السلام لأطوفن الليلة بمائة امرأة فلما لم يقل إن شاء الله لم يكن ما أراد من الولد كذلك كان أمر
داود حين قال لربه إن ابتليتني صبرت
فاتكل على قوته ونسى التوكل على الله تعالى فندم على ما كان منه طوال حياته وقد يجترى العبد أيضًا بما أعطى من القوة على الحروب في
معاصى الله عز وجل ويعير غيره بضعفه ويفتخر عليه بقوته وينفى العجب بالقوة بمعرفة العبد أنها من الله عز وجل نعمة فضله بها
لينظر كيف استعماله لها في طاعته ولو شاء هدها بعاهة أو بسقم أو ضعف فيلزم نفسه وجوب الشكر عليها ويخاف إن استطال بها واستعملها في معصية الله عز وجل أن يهدها أو یكسرها بعقوبة منه وأما العجب بالعقل والذهن والفطنة فهو استحسان ذلك واستعظامه
۱ آية ١٥ من سورة فصلت

٢٣٤
ونسيان النعمة بالتفضل به والاتكال عليه أن يدرك به ما يريد وما يؤمل من علم أو رأى أو أحكام دين الله عز وجل أو دنيا وترك التوكل على الله عز وجل في ذلك جميع حتى يخرجه ذلك إلى قلة التثبت لإعجابه بعقله حتى
يخطىء في دين الله عز وجل ويقول عليه بغير الحق ويخرجه أيضًا إلى ترك التفهم ممن علمه أو أمره أو ناظره حتى يحرم الفهم للحق ويأبى إلا القول بالخطأ أو الغلط ويخرجه إلى تحقير من دونه ممن لم يعط من الفطنة مثل ما أعطى وإن كان أورع منه وأفضل عملا حتى يسمى ممن هو أورع منه وأفضل منه جهالا حمقى ويراهم كالحمير التي لا تعقل إذ فضل عليهم بالفطنة والذهن ويستطيل عليهم ويرى أن لا قدر لهم ويستصغر ما عملوا من خير ويرى أنه خير منهم وإن ضيع العمل لفطنته
ولعقله
كثيرا
وينفى هذا العجب بمعرفة العبد بجهله مهما أعطى من الفطنة وبسهوه وغفلته وقلة ما يدرى بعقله وإن كان قد أعطى من الفطنة أكثر مما أعطى غيره فقد وجب عليه فى ذلك الشكر وإنما فضل بالذهن لتعظم الحجة عليه ولتوكيد الطاعة باللزوم لها ولينظر الله عز وجل كيف استعماله لعقله في الفهم عنه والاشتغال به وأن ما أعطى من العقل بيد الله عز وجل ولو شاء أن يغيره ويزيله ببعض الآفات كما رآه فعل ذلك بمن هو مثله ومن هو فوقه لفعل فلا يأمن من أن يسلبه الله عز وجل عقله
فإذا عرف ضعفه وجهله وقلة ما يدرك بعقله وأن مافضل به منة منه عليه فيه الشكر وعظيم الحجة وجوب الحق وأنه لذلك مضيع فإذا عرف ذلك علم أن من لم يؤت من الفطنة مثل ما أوتى أحسن حالاً منه إذ لم يشكر الله عز وجل على ما فضله به عليه وأن الحجة عليه أعظم منها على
من دونه

٢٣٥
وقد يرى كثيرًا ممن هم دونه فى الفطنة أطوع الله عز وجل منه ومن العجب العجب بالحسب وهو استعظام القدر من أجل الآباء
والأصل فإن كانوا من أهل الشرف فى الدنيا من الذين شرفوا في الدنيا بالدين فيستعظم قدره من أجلهم وينسى منة الرب عز وجل إذ خلقه من الكرام الصالحين ورفع عنه محنة ضعة القدر فيعجب إذا استعظم قدره من أجل آبائه
حتى ليخيل إليه بل قد يقطع بعضهم أنه ناج بغير عمل وأنه مغفور له وإن كثرت ذنوبه وإن لم يتب منها فيستطيل بذلك ويتكبر ويفتخر على غيره ويحقره ويأنف منه إن كان ذا قرابة أو جارًا أو غيره ممن هو دونه في الحسب ويختال في مشيته ويرى أن الخلق شبيه بالعبيد بل قد يرى بعضهم أن الأمة عبيد له فيخالف آباءه في فعالهم ويريد أن يكون عند الله عز وجل مثلهم وذلك الاغترار بالله عز وجل والجهل بأمره
وينفى العبد هذا العجب بمعرفته ما وجب عليه من شكر الله عز وجل إذ جعله من ذرية من تولاه وأحبه وأنه مجزى بعمله دون عمل آبائه وأنهم إنما نجوا بالطاعة وشرفوا بها وأنه وإن خالف طريقهم فحكمه أن يخالف
به إلى غير دارهم وهى النار
من
ومن
ذلك قول الله عز وجل
إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم
ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
يا معشر قريش لا يأتى الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا
تحملونها على رقابكم تقولون
1 الحجرات آية ۱۳

٢٣٦
بطنا
یا محمد یا محمد - فأقول هكذا [يعني أعرض عنكم] وقال حين أمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين فناداهم بطنا حتى صار إلى أن قال
يا فاطمة بنت محمد ويا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لأنفسكما فإني لا أغنى عنكما الله شيئًا من
ومن
يتضح
هذا لنا أن الآباء والأجداد لن يغنوا عن العبد شيئًا عند لقاء ربه وأن عليه ما كان عليهم من العمل إن أراد لنفسه سبيل النجاة فإذا عرف ذلك عرف نفسه وزال عنه اغتراره وعجبه واهتم بالشكر وخاف من الذنب وخاف أن يكون من دونه ينجو ويهلك هو إذ كان أتقى لله عز وجل منه فإذا عرف نفسه بهذه المعرفة وأنزلها بهذه المنزلة قل فخره وخيلاؤه وحقريته غيره بل يتواضع لهم ويتشبه بآبائه فإن الله عز وجل إنما رفعهم بتواضعهم له في خلقه ومخافتهم على أنفسهم وقد يكون العجب من عبد كان له الحسب في الدنيا وليس له آباء صالحون فيستعظم قدر نفسه حتى يخرج إلى الكبر والخيلاء والفخر والاستطالة على الناس والحقرية لهم ويرى لنفسه الفضل عليهم وينفى هذا العجب بأن يعلم العبد أن أصله في البداية أصل الناس كلهم وخلقته كخلقتهم ولم يفضل عليهم فى الخلقة بشيء إذ الخلق واحد والأب واحد والأم واحدة والموت والبلاء في رقبته والحساب عليه والثواب والعقاب أمامه وأنه قد استوجب العذاب بذنبه وأن عليه الشكر إذ جعله في موضع لا يشينه فيكون عند الناس وضيعا فعليه في ذلك الشكر وأن آباءه من تقدم منهم فى الشرك غير معجب بهم ولا يليق بهم
الإعجاب ولا لهم عند الله عز وجل قدر

۳۷
والحديث عن النبي أنه قال
افتخر رجلان عند موسى عليه السلام قال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد عشرة معه فمن أنت فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بآبائه تسعة من أهل النار أنت عاشرهم في النار
فإن تفكر العبد في ذلك رجع على العجب بأن عرف نفسه وكف عن
الذنوب
أما العجب بكثرة العدد من الولد والخدم والموالى والعشيرة والأتباع والأصحاب فهو الاستكثار بهم والاتكال عليهم بالتحرز والغلبة بهم والتزين والاتكال على عددهم ونسيان الاتكال على الله عز بهم
لغيرهم
وجل
فيستطيل المعجب بالكثرة على الناس ويجترئ على المشاتمة والقتال والضرب لغيره متكلا على كثرتهم لينصروه ويمنعوه ويحمله ذلك على جحد الحقوق والجور والظلم وينفى هذا العجب بمعرفة العبد بضعفه وضعف من أحاط به من العباد وأن من لم ينصره ا الله عز وجل فلا ناصر له ومن لم يقه الله عز وجل فلا واقى له وأن الاتكال عليهم دون الإتكال على الله عز وجل حتى لا ينفعه جمعهم ولا كثرتهم وعليه أن يذكر أن الله لم يتجاوز عن مثل هذا العجب يوم حنين وإن كان من خير عصابة على وجه الأرض فترك المسلمين لأعدائهم - وكانوا قلة ينالون منهم حتى عرفوا ضعفم إن لم ينصرهم الله أعانهم بعد ذلك وهو خير الناصرين

وكذلك ينفى هذا العجب بمعرفة العبد أن الجمع سيتفرق عنه وأنه

۳۸
الله من
سيخلو بنزع الموت وحده ثم يموت فيسلمونه إلى البلى ولا يغنون عنه عز وجل شيئا وأن كل من استعان فأعانوه عليه أو استطال بهم أو ظلم بفوتهم إن ذلك كله مثبت عليه مجزى به حين يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ومن يعجب بهم جميعا
بل يتمنى يوم القيامة - إن لم يعف الله عز وجل عنه أنهم فداؤه من النار فإذا ألزم قلبه هذه المعرفة زال عنه العجب بذلك واهتم بالعمل
وخاف المقدور واتكل على الرب عز وجل لا على غيره والمال أيضًا قد يثير العجب في الإنسان فلا يعود يطلب من الدنيا
سوى الشهوات ويتعظم على الفقراء ويحتقرهم
ويروى عن النبي أنه رأى رجلاً غنيا قد قبض ثيابه وكفها أن تصيب ثياب رجل فقير إلى جنبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أخشيت أن يعدو فقره على غناك
وينفى العبد هذا العجب بمعرفة أنه إنما ابتلى به للفتنة والامتحان وأن الحقوق عليه أكثر وأوجب منها على الفقير
وقد أشفق الصالحون من كثرتها واشفق عبد الرحمن بن عوف وخباب وغيرهما من ذلك
فإذا ألزم قلبه هذا خاف من كثرة ماله ورأى أن الفقير خير منه وأنه إنما فضل عليه بالبلاء والفتنة وكثرة واجب الحقوق ويعلم أن الله عز وجل من عليه بالمال لينظر كيف شكره وأنه لا يعرف أنه شكرا الله عز وجل
قد
كما يحق له فيشفق من ذلك ويزول عنه العجب بالمال إن شاء الله

۳۹
ب الكبر
إن الكبر من عظيم الآفات عنه تشعب أكثر البليات يستوجب به من الله عز وجل رعة العقوبة والغضب لأن الكبر لا يحق إلا الله عز وجل ولا يليق ولا يصلح لمن دونه
سر
لذلك دمت السنة من يظهر عليه الكبر من الناس وللدلالة على شدة هذا الذم يكفى ذكر حديث واحد من الأحاديث العديدة التي يسردها المحاسبي في هذا المقام وهو قوله صلى الله عليه وسلم
لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر والكبر ينتج في كثير من الأحيان عن نقائص أخرى مثل العجب
والحقد والحسد والرياء
ولكن أصله الأصيل هو جهل معرفة القدر فإذا جهل العبد قدره
تكبر وإذا كان أكثر العلماء يسمى من تكبر معجبًا ويصف العجب بصفة الكبر فإن المحاسبي يقول
إن أول بدو الكبر العجب فمن العجب يكون أكثر الكبر فمنه سمى
بالكبر ولا يكاد يكون المعجب أن ينجو من الكبر
فلما كان العجب هو الذى أخرج إلى الكبر وعنه كان فإنه يسمى به دلت أخلاق الكبر عليه لأنه قد يستعظم ما أعطى من دين أو دنيا ولا يتعظم به على أحد فذلك العجب إذا نسى منة الله عز وجل بذلك فإذا تعظم به على غيره وأنف منه فحقره فقد تكبر

٢٤٠
لأنه إذا أعجب بنفسه ولم يحقر غيره كان معجبا ولم يكن متكبرا فإذا أعجب بنفسه ثم نظر إلى غيره وقال في نفسه أنا خير منه محتقرا له مزدریا به سمى حينئذ الكبر عجباً من أجل أنه هو أهاجه على الكبر
وليس الكبر هو العجب
والكبر على وجهين
حدهما بين العباد وبين ربهم عز وجل وهو أعظم الكبر
والآخر
خر بين العبد وبين العباد
وهذا الوجه الثانى للكبر خصلتين
إحداهما الحقرية لهم والأنفة منهم وذلك أنه أنه یری خير منهم والخصلة الثانية رد الحق عليهم أن يقبله منهم وهو يعلم ما أنه حق إن أمره بعضهم بخير أو أنهاه عن منكر أو ناظره في دين فيرد الحق وهو
يعلم
كما أن هناك الكبر فى الدين والكبر بالدنيا
ولا جدال في أن الكبر بين العباد وبين ربهم هو أعظم الكبر عند الله وقد يبلغ الكبر بالناس أن يستنكفوا عن عبادة الله ويأنف بعضهم الركوع له لأن التحنية عندهم 1 كانت ضعة يأنفون منها
ومن
ذلك قول حكيم بن حزام
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائما
1 أي عند العرب

٢٤١
وقال أبو سفيان يا معشر قريش إن الله لا يصنع بتحنيتكم شيئًا والكبر فى الدين هو الكبر الذى يكون عن العجب في الدين بالعلم
والعمل
فإذا كان من قبل العلم فإن العالم إذا أعجب بعلمه أخرجه عجبه إلى الكبر تعظاً على العباد فيتكبر على العوام وإن كان بعضهم أتقى الله عز وجل منه
وذلك الذي خافه عمر رضى الله عنه على العلماء حين قال تواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم
عند الله بجهلكم أى لا يزكو عند الله إذا تكبرتم به
فإذا تكبر العالم بعمله حقر من دونه فى العلم وازدراه وأقصاه وأبعده واستذله وانتهره واستخدمه وامتن عليه بما يعلمه وتعظم على العوام وانقبض عنهم ليبدءوه بالسلام ويتسخرهم ويغضب عليهم إن استخف بشيء من حقه
وإن حاج أو ناظر أحدا منهم رد الحق على علم وإن وعظ عنف وإن وعظ عنف تعززا
ولا يرد على ذلك بأن العلم يزيد العبد تواضعًا فالمحاسبي يرى في العلم ما يراه وهب من أنه كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيًا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فتزداد المرة مرارة وتزداد الحلوة حلاوة ويكثر ماؤها بالحلاوة ويكثر ماء المرة بالمرارة فكذلك العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها
كذلك يكون الكبر عن العمل فيصل بالعبد إلى أن يحقر من دونه ممن

٢٤٢
لا يعمل مثل عمله سواء أكان أعلم منه أو أجهل منه ويأنف إن وعظوه لأنه فوقهم في العمل وهم مضيعون مفرطون فإن بدأ أحدا منهم بالسلام أو أجابه إلى دعوته أو أنس به رأى أنه قد صنع إليهم معروفا ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ويرى أنهم هالكون كأنه
قد أتاه الله عز وجل الأمان بأنه لا يعذبه
عنه
من
وقد ذكر رجل للنبي وحمدت فيه تقواه لقيه النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال
إني أرى في وجهه شعفة ۱ من الشيطان
ثم قال له
أسألك بالله حدثتك نفسك أنه ليس في القوم أفضل منك
فأجاب اللهم نعم
وقد يكون الكبر عن الرياء وصاحبه يرد الحق على من ناظره أو أمره أنفا أن يخطىء فتتضع منزلته أو يقال فلان غلب فلانا وإن كان يعلم في قلبه أن الذى ناظره أو أمره خير منه ولكن يظهر الأنفة والتعزز رياءً
لا كبرا من قلبه
من الكبر الكبر الذي يخرج إليه الحقد
أما فيما يختص بالكبر بالدنيا فيحدثنا المحاسبي في شأنه بمثل ما حدثنا به في شأن العجب بالدنيا وفصل من أسبابه ما عرضنا له في فصلنا عن
۱ علامة

٢٤٣
العجب أي الحسب والقوة والمال وكثرة العدد ولا نرى داعيا لتكرار نفس الحديث هنا

وينفى العبد الكبر بمعرفته بقدره فى الدين والدنيا ويعرف قدره بمعرفته ببدايته وحياته وعاقبته
أما بدايته فقد مضت الدهور ولم يكن فيها شيئًا مذكورًا وأوجده الله عز وجل بعد العدم إذا لم يكن شيئا مذكورًا فأوجده الله عز وجل ميتًا وبدأه بموته قبل حياته لأنه خلقه من تراب فبدأه بموته قبل حياته وبضعفة قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبجوعه قبل شبعه وبعريه قبل ستره وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه
فالأحوال الأولى ابتدأه بما يعرفه بها نفسه ليشهد عليها بالذلة والضعف والقلة والحاجة والمسكنة ليعرف بذلك صغر قدره ولتردعه معرفة ذلك عن الكبر
والنعمة الثانية عليه الله من عز وجل سابغة إذ عرف بها ربه الذي نقله من الأحوال الدنية المذمومة إلى الأحوال الرفيعة فيخضع ويذل لمولاه
شكرا
فمن كان بدوه هذا البدو وأحواله هذه الأحوال فإنه عن الكبر بمعزل كما قال لقمان لابنه
يابني ما للترابي وللكبر وصدق رحمه الله
كيف يتكبر الإنسان وهو أقذر المخلوقات الأقذار تسرع إليه إن

٢٤٤
تهاون بنفسه أن يغسلها أو ينظفها صار أنتن من الدواب ووكلت به
الأمراض ذلك وهو مع عبد ذليل أمره إلى غيره يجوع كرها مقهورا ويعيش كرها مقهورا ويغلبه النوم كرها مقهورا
يريد من نفسه مالا يقدر يريد أن لا يجوع ولا يعطش ولا يظماً ولا يمرض فينزل به من ذلك خلاف مراده ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد ينسى الشيء فيذكر ثم هو ذلك لا يأمن أن يكون مع تلفه فيما يريد ويحب ولعله يكون تلفه فى شبعه أو نومه فلا يقوم منه عبد مملوك ذليل يقلبه غيره ولا يأمن في ليله ونهاره أن يسلب سمعه وبصره وجميع جوارحه وعقله أو بعض ذلك
وقد رأى الله عز وجل فعل ذلك بكثير خلقه من ثم هو مع ذل لا يضمر بقلبه ولا يحرك جارحة من جوارحه ولا يكتسب ولا ينفق
ولا يأكل ولا يشرب إلا وعليه من يحصى ذلك كله عليه حتى يحاسب به وينظر فيه ثم هو مع ذلك لا يأمن أن يسلب ملكه فعليه في ملكه مالك وليس هو لنفسه بمالك ولا على ما أراد فيها بقادر وهو مع ذلك مخالف
لمالكه ومولاه
قد استوجب بذلك من العذاب ما إن لم يعف عنه كانت الخنازير والكلاب خيرا منه وأفضل
فإذا تذكر العبد وتفكر زال عنه الكبر ولزمه الخضوع والذلة والتواضع للمولى عز وجل
ولو خلق الإنسان من خير الأشياء وساعدته الأقدار فلم يسقم ولم
يمرض ولم يعتوره قدر فى جسمه ولا فاقة نازلة به ولا يحل به الموت

٢٤٥
ولا عذاب عليه في الآخرة ما كان الكبر مع هذه النزاهة والطهارة يصلح للعبد ولا يليق لأنه عبد مملوك فذل العبودية ضد الكبر فإذا عرف العبد قدره فى الدين والدنيا بمعرفته ببدايته وحياته وعافيته فلابد وأنه تارك للكبر وتائب إلى الله منه
وأن

وإذا أراد العبد أن يعرف إن كان قد وفى حقيقة بعزمه على ترك الكبر يسير مدى إخلاص نفسه ذلك فعليه بتفقدها أي نفسه عند الداعي من القلب إلى الكبر وعند الأعمال التي يأنف منها المتكبرون فأما الداعى من القلب إلى الكبر فمثل الخطرة تهيج بالإعجاب بالنفس تدعو العبد إلى أنه خير من أخيه المسلم
وأما اختبار النفس عند الأعمال التى يأنف منها المتكبرون فيقدم المحاسبي المثل عليه بما يروى
أن عبد الله بن سلام حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنيك ما يكفونك
قال أجل ولكني أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى يجربها أتصدق في ذلك أم هي
كاذبة

قد
الغرة
يرى القارئ أننا أطلنا فى هذا الفصل الخاص بالغرة ولكن أهميته ترجع إلى عرض المحاسبى لكل ما لا حظ من صور الغرة في البيئة الدينية التي مارسها وهو يتحدث هنا عن الفقهاء والمتكلمين والمتصوفين على حد سواء ونريد أن نلفت نظر القارئ بصفة خاصة إلى الفقرات التي تتعلق بالمفاهيم الصوفية كالتوكل والزهد وغيرهما فالمحاسبي يرى الغرة حينما تخرج النظريات الصوفية فيها عن
السنن الإسلامية

نطاق
يرى المحاسبي أن الغرة غرتان غرة بالدنيا عن الآخرة وغرة بالله
عز وجل وبالآخرة
وأولاهما تنبني على إيثار الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة وقد قال
تعالى فيها
فيها
و وما الحياةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ۱
غير أن الغرة التي تثير اهتمام المحاسبي بوجه خاص فيطيل الحديث
ويفصله هى الغرة بالله ونجدها لدى الكافرين والمؤمنين على حد
سواء
۱ آية ١٨٥ من سورة آل عمران
٢٤٦

٢٤٧
لم
أما ما اغتر به الكافرون عن الله عز وجل فهو ما رأوا من فعل الله عز وجل من إكرامه لهم بالدنيا ورفعتها وسعتها فظنوا بذلك أن ذلك يكن من الله عز وجل إلا لمنزلتهم عنده وأنهم أحق بالخير من غيرهم ثم هم بعد ذلك على وجهين
فرقة منهم شكاك في الآخرة يقولون في أنفسهم وبألسنتهم إن يكن لله عز وجل معاد فنحن أحق به من غيرنا ولنا فيه النصيب الأوفر اغترارا بما ظهر لهم من خير الدنيا وكرامتها
وكذلك وصف الله عز وجل لنا قول العاصى بن وائل إذ يقول
ولا وتين مَالاً وَوَلَدًا فقال عز وجل
أطلَعَ الْغَيْبَ أم اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا
وقال الله عز وجل

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتَهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لِلْحُسْنَى ٢ ويغترون أيضًا بما فضلهم الله عز وجل بنعم الدنيا على غيرهم فيرون أن ما خص الله عز وجل به أهل الإيمان أنه لو كان عند الله هدى ما وفق الضعفاء له وتركهم فيغترون ويجانبون الهدى إن لو كان هذا هدى لكنا نحن أحق أن نؤتاه ممن هو دوننا
ويغتر الكافرون بنعم الله عز وجل في الدنيا فلا
یرون أن الله عز وجل
أخذهم بعقوبة في الدنيا وأنه إنما أعطاهم ما أعطاهم من الدنيا لما علم
۱
آية ۷۷ ۷۸ مریم
فصلت آية ٥٠

٢٤٨
منهم من الخير وأنهم عنده بالمنزلة العظمى قال الله عز وجل في المغتر بنعم الدنيا
أَو لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وأكثر جمعا ۱
والفرقة الأخرى من الكفار يغترون بما زين لهم من سوء أعمالهم بعبادات يعبدون بها غير الله عز وجل يحسبون أنهم يحسنون صنعا فالغرة من الكافرين خدعة من النفس بالظن أن له عند الله عز وجل
قدرا لما أكرمه به من الدنيا أو عمل ضلال يحسبه هدى وأما الغرة عند المسلمين فهى بطبيعة الحال مجال بحث المحاسبي
المفضل
وهو يفرد بابا للغرة من عوام المسلمين وعصاتهم نذكر منه النص
التالي
وأما الغرة من عوام المسلمين وعصاتهم فهى خدعة من النفس والعدو يذكرون الرجاء والجود والكرم يطيبون بذلك أنفسهم فيزدادون بذلك جرأة على الذنوب فيقيمون على معاصى الله عز وجل يظنون أن ذلك رجاء منهم كما قال وهب بن منبه لابنه - يابني إياك والغرة بالله عز وجل فإن الغرة بالله عز وجل المقام على معصيته وتمنى مغفرته فالغرة من الموحد خدعة من نفسه يتمنى المغفرة مع المقام على المعصية
وذلك الرجاء الكاذب يظنه منه رجاءً صادقا
1 القصص آية ۷۸

٢٤٩
وأما الرجاء الصادق لله عز وجل فهو في معنيين أحدهما ا حسن الظن بالله عز وجل حيث وضعه الله عز وجل لأن رجاء المذنبين من عباده أن لا يقنطوا وأن يتوبوا إلى ربهم من ذنوبهم
قال تعالى
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ١
وقال ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢

فرجا الله العبد المغفرة على التقوى وإن عظمت ذنوبه وكثرت أن لا يمنعه كثرة ذنوبه وعظمها أن يتوب إلى ربه عز وجل ولا يخاف خوفا
يقنط معه فيقيم على المعصية خوفا أن لا يقبل له توبة فرجا الله عز وجل العاصى من عباده المغفرة على التوبة ألا يقنطوا
من
أجل ذنوبهم فهذا أحد المعنيين
ولكن الله عز وجل لم يقصر فضله على أن يرجو العبد مغفرته إذا تاب وعمل صالحًا بل رجا الجنات والمنازل العالية والقربة منه عز وجل في درجات العاملين له من عباده وذلك هو الوجه الثاني للرجاء الصادق
قال تعالى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ٣
۱ طه آية ۸
۳ آل عمران آية ۱۸۵
٢ الأنعام آية ٥٤

٢٥٠
وبهذه الآية وغيرها أخبر الله عز وجل أن الجزاء والثواب أجور العمال على الأعمال ليرجوا ذلك الجزاء فيعملوا تلك الأعمال رجاء أن ينالوا ذلك الثواب ثم أخبر أنهم الراجون دون المغترين
وقيل للحسن إن قوماً يقولون نرجو الله عز وجل ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئًا طلبه
ومن
خاف شيئا هرب منه
من
ويفرق المحاسبي بين الرجاء والغرة فيقول الرجاء هو ما هاج من الطمع والأمل فى الله عز وجل فسخا نفس العاصى بالتوبة وحال بينه وبين القنوط وبعث العبد على الطاعة لله عز وجل والتشمير والاجتهاد رجاء ما وعد العاملين والغرة خدعة النفس والعدو بذكر الرجاء بالتوحيد أو بالآباء الصالحين أو بعمل قليل ضعيف فتطيب نفسه بتلك الخدعة حتى تهون عليه ذنوبه لظنه أنها مغفورة وذلك موجود في فطر العباد في دنياهم أنهم إذا ضيعوا العمل عذلوا أنفسهم وعدوه منهم تفريطًا فإن قعدوا عن الأعمال وهم يظنون أنهم يعطون الأجر عدوا ذلك من أنفسهم حمقا وغرة
ثم هو يضرب المثل لهذا الفرق بين الرجاء والغرة بعبد قال له مولاه إذا عملت كذا وكذا محكما تاما أعطيتك ألف دينار وإن أفسدته لم أعطك شيئًا وضربتك ألف سوط
فترك إحكامه للذة شغلته وأفسده على عمد للذة آثرها لا ينالها إلا بفساد ذلك العمل
وهو مع ذلك طيب النفس يطيبها ويرجيها ألف دينار غير خائف لما توعد به من ضرب ألف سوط

٢٥١
ألم يك مغرورا قد غرته نفسه فوضع الرجاء في غير موضعه فكذلك المغتر بالله عز وجل أقام على ما أوجب عليه حرمان جواره والحلول في عذابه طيب النفس راجيا للثواب غير خائف من العذاب أفليس هذا مغترًا مخاطرًا بنفسه وإن كان مولاه عظيم العفو قد يفعل ذلك له وقد لا يفعل ألم يك قد اغتر وخاطر بنفسه وغرته نفسه وخدعته لأن العقاب فى الحكم عليه يقين لا شك فيه والرجاء للمغفرة من غير توبة مع الإصرار شك لا يقين فيه
لأن الله عز وجل جعل الرجاء مزيلاً للقنوط الذي يمنع من التوبة والعمل باعنا على الطاعة والقربة منه
ويؤكد المحاسبى هذا الأثر الذى جعله الله للرجاء فيعيد ذكره مرارا وفي أساليب شتى ويروى الحديث التالي للنبي صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يخلق أى يبلى فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان يكون أمرهم كله طمعًا لا خوف معه إن أحسن أحدهم قال يتقبل مني وإن أساء قال يغفر لى
ويعلق المحاسبي على هذا الحديث وغيره بأن علة ذلك زوال الخوف عنهم فلم يخافوا عقوبة على ذنوبهم ولم يشفقوا على إحسانهم فيحذروا على أعمالهم لتخلص بالقبول إلى ربهم عز وجل
وبعد عرضه للغرة عند المسلمين عامة وللفرق بين الغرة والرجاء يتناول
بالتحليل مختلف أنواع المغترين من الناس
فهناك المغتر بالعلم
والمغتر بالعبادة أو العمل
والمغتر بالآباء والأجداد الصالحين

٢٥٢
فأما هؤلاء الذين يغترون بالعلم فأقوام شتى
فلا يرى
فمنهم فرقة تغتر بكثرة الرواية وحسن الحفظ مع تضيع واجب حق الله عز وجل وتخيل نفس أحدهم إليه وعدوه أن مثله لا يعذب لأنه من العلماء وأئمة العباد الحافظين على المسلمين علمهم ويعمى عليه أكثر ذنوبه أن مثله فيما بلغ من العلم يرانى ويعجب بنفسه أو يتكبر أو يحسد وإنما يفعل ذلك الجهال الذين لا يعرفون العلم ولا يحفظونه فيقل خوفه وحذره من عذاب الله عز وجل ويغفل التفقد لنفسه إذ كان يرى أن مثله لا يعمل بالأخلاق الدينية لأنه قد ارتفع بالعلم عن ذلك يتهم نفسه فإذا لم يتهمها لم يتفقد من نفسه الأخلاق المذمومة عند الله عز وجل ولم يحذرها فيضمر ما يكره الله عز وجل وهو يرى أنه برىء
فلا
ذلك من جميع وقد يعلم بعض هذه الفرقة بكثير من ذنوبه فلا يفزعه ذلك ولا الله عز وجل من أجله يرى أنه قد قام مقاما من العلم لا يعذب مثله
من
يرهب
وإنما ينفى العالم من هؤلاء هذه الغرة بمعرفته أن العلم حجة عليه وأن الله عز وجل جمله ما أعظم به عليه حجته وشدد عليه به في القيامة
المسألة
فإن ضيع العمل فلم يقم بواجب الحق لله عز وجل وبترك ما نهى عنه في ظاهره وباطنه كان عند الله عز وجل أعظم وأشد عذابا من الجاهل وإنما جعل الله عز وجل العلم وعلمه عباده ليعرفوا به ما أوجب عليهم وأحب فيقوموا لله عز وجل بذلك وليعرفوا ما حرم الله عز وجل
فيجانبوه
فمن ضيع أمر الله عز وجل بعد علم فهو جاهل بالله عز وجل فلا علم
للمغتر

كما روى عن أبي الدرداء
٢٥٣
عن
الله
ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للعالم سبع مرات والفرقة الثانية يغتر أحدهم بالفقه فى العلم بالحلال والحرام وبالبصر بالفتيا والقضاء فهو يغتر كغرة الحافظ للعلم وأعظم غرة حتى لا يرى أن أحدًا أعلم بالله عز وجل منه لأنه قد علم الحلال والحرام والفتيا والقضاء فهو القائم للأمة بدينها ومفزعها إليه ولولا مثله ضاع الدين وما عرف حلال من حرام واستصغر أهل الرواية والحفظ إذ لم يفقهوا الحلال والحرام ويعلموا الحكم والقضاء فهو عند نفسه القائم بالدين دون غيره وأن الله عز وجل لا يعذب مثله وأنه لا يعتقد ما كره الله عز وجل لأن مثله لا يركن إلى ما كره الله عز وجل ولا يطمع الشيطان في مثله فيغتر بذلك فيقل حذره من الله عز وجل ورهبته له ولا ينفى هذا الصنف من العلماء تلك الغرة إلا بمعرفته أن الفقه عز وجل فيها عظم من نفسه وأخبر به من جلاله وهيبته ونفاذ قدرته وما وعد من ثوابه وتواعد به من عقابه أعظم الفقه وأشرفه فإذا عرف العالم ذلك وقدره هاب الله عز وجل وأجله واستحياه حتى كأنه يشاهد الجنة والنار بقلبه فحينئذ يهاب الله عز وجل ويخافه فيترك كل ما فقه فيه من حرا الله عز وجل ويشتاق إلى جواره ويأتي المحاسبي ببعض الأدلة الأخرى على ما يراه من غرة العالم الحافظ والعالم بالفقه ولا نرى مجالا هنا لسردها مكتفين بالقدر السابق ولكننا نود أن نشير إلى أنه - فى هذه الصفحات الخاصة بالغرة من كتاب الرعاية - يستخدم كلمة الحكمة بمعنى فيض النور الإلهى على الإنسان في أمور الدين
ويرجو
امه

٢٥٤
واصطلاح الحكمة بهذا المعنى يستخدمه غير المحاسبي مؤلفون آخرون بل إن المحاسبي يذكر في نفس هذه الصفحات حديثا للحسن البصرى ترد فيه الكلمة بالمعنى المذكور
وتأتى بعد ذلك فرقة من العلماء علمت العلم وعملت بمعانيه في حقوق الله عز وجل التي تحق لله عز وجل على عباده من حقه وحبه وخوفه ورجائه وحسن التوكل عليه والرضا بقدره ومعانى ما ذم الله ونهى عنه من الأخلاق الدنية والمذمومة عنده فخسنت عباراتهم بذلك ويصفون تعظيم الله عز وجل وحبه والحياء منه وخوفه ورجاءه
فلا يشك أحد منهم عند نفسه أنه لا يصف خلقًا مما يقرب إلى الله عز وجل إلا وهو قائم به ولا خلقا ذمه الله إلا وهو مجانب له لأنه علم أنه لم يعبر بلسانه إلا عما في قلبه فيظن أنه لم يعظم الله بلسانه إلا وهو معظم له بقلبه إذ كان إنما يؤدى لسانه عن قلبه
وكذلك الحياء الله عز وجل وجميع الأخلاق الكريمة فلولا أن هذه من الأخلاق ساكنة قلبه لازمة له معتقد لها بالعمل بها ما علمها ولا أحسن أن يصفها إذ كان وصفه بلسانه إنما هو ترجمة عما فى قلبه وكذلك ما يصف من تضييع حقوق الله عز وجل وما نهى عنه
وإنما ذلك كله لمعرفته بغير اعتقاد نية ولا عمل بضمير ولا جارحة
إلا بالشيء اليسير الذي لا يعزى أن يناله عامة المسلمين
وتلك هي معرفة اللسان من الكتاب والعلم وحفظ كلام المتكلمين ممن عمل منهم بما يقول فهو يصف الإخلاص لمعرفته بجملها ويصف الخوف لمعرفته ما الخوف لا أنه تكلف الخوف حتى خاف الله وحذره ثم وصف الخوف بعد القيام به وكذلك جميع أخلاق الدين ولكن يصف ما عرفه من

٢٥٥
العلم من محبة الله عز وجل وما يكره من غير تفقد منه لنفسه ولا قيام
ذلك بما يجب في جميع
ولكن كيف للعالم أن ينفى الغرة وما الدليل عنده أنه مغتر يقول
المحاسبي
إن الوصف للعلم غير العمل به فليبل نفسه عند العمل بذلك فإنه يبين له أنه مغتر
الي فمثل هذا العالم المغتر يصف الزهد فى الدنيا حتى إذا أوتى منها شيئًا تشاغل به عن نفسه وآثر به هواه ولذته
وكذلك يصف الإخلاص فإذا عرض العمل هاج الرياء وافتقد
الإخلاص
وكذلك الأمر في كل ما أحسن وصفه بلسانه فإذا افتقد عامة ما كان يصف من الأخلاق المحمودة المقربة إلى الله عز وجل عند موضع الحاجة إليها وغلبت عليه الأخلاق المذمومة عند الحاجة منه إلى مجانبتها علم أنه كان مغتراً بما كان يصف بلسانه
وغرة هذا العالم إنما تنفى بتفقد النفس عند الأعمال والمحاسبي يهتم إهتماماً واضحًا بأمره ويقول في نهاية الفصل الذي
خصصه له
وإنما أطلت الوصف في هذه الفرقة لأنها عظيمة غرتها قد غلب ذلك على كثير ممن يتعبد ويرى أنه النساك العاملين الله عز وجل
من
ومن الفرق الأخرى من العلماء المغترين
فرقة جدلة خصمة مغترة بالجدال والرد على المختلفين من
أهل
الأهواء وأهل الأديان يتأول في ذلك أنه لا يصح لعبد عمل حتى يصح

٢٥٦
إيمانه والقول بسنة نبي الله فليس عند أحدهم أحد يعرف ربه ولا يقول عليه الحق غيره أو من كان مثله
عند
ثم هم فرقتان
قطعت
فرقة ضالة مضلة لا تفطن لضلالتها لا تساعها في الحجاج ومعرفتها بدقائق مذاهب الكلام وحسن العبارة بالرد على من خالفها فهم أنفسهم من القائلين على الله عز وجل بالحق والرادين لكل ضلالة لا أحد أعلم منهم بالله ولا أولى به منهم وكل الأمم ضالة سواهم وأن الله عز وجل لا يعذب مثلهم بل لا ينجو أحد في زمانهم غيرهم والفرقة الثانية من المغترة بالجدل والبصر بالحجاج تقول بالحق ولا تدين بغيره وقد اغترت بالجدل ترى أنه لا يصح لها قول دون الفحص والنظر وقيام الحجة على من خالفها وقد اغتر جبذلك حتى أعمارها بالاشتغال عن الله عز وجل وعمى عليها أكثر ذنوبها وخطئها إلا أن اعتقادها السنة دائم مع اغترارها أما الفرقة الضالة فإنها تنفى ذلك بأن ترجع إلى نفسها فتعلم أن من القرآن محكما ومتشابها وكذلك من السنة فلا يقضبمتشابه على محكم ولكن يقضى بالمحكم على المتشابه وأن الخطأ في التأويل لا يحصى فتتهم نفسها وتعلم أن الله عز وجل سائلها عما تدين به وأن الجماعة قد مضت على الهدى وسنة نبيها ولا تخرج من إجماعها وإن حسن ذلك في عقولها فإن تثبتت كما وصفت لك أبصرت ضلالتها ولم تغتر بشدة حجاجها إذ علمت أن غيرها ممن خالفها شديد الحجاج بصير بالجدل عندها ضال مضل فكذلك لا تأمن أن تكون عند الله عز وجل كذلك وإن أبصرت الجدل والخصومات فإن اتهمت نفسها على الآراء والتأويل وتثبتت عند المتشابه
وهو

٢٥٧
فقضت بالمحكم عليه وتوقفت فيما لم يجعل الله لها النظر فيه ولم يخرج من
إجماع ما مضى زالت عنها غرتها وثابت إلى ربها من ضلالتها
وأما الفرقة المصيبة للحق مع غرتها عن الله عز وجل بالخصومات والجدل عما هو أولى بها فإنما تنفى غرتها بذلك بأن تعلم أن الله عز وجل تعبد من مضى بما تعبدها به وقد أدرك كثير منهم ناسا من أهل البدع والأهواء فما جعل عمره ولا دينه غرضا للخصومات ولا اشتغل بذلك عن النظر لنفسه والعمل ليوم فقره
ودموا الجدل والخصومات ورووا ذلك عن نبيهم قال ما ضل قوم قط إلا أتوا الجدل
أصحابه
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بسنته عن الجدل والخصومات وغضب على حتى كأنما فقى فى وجهه حب الرمان حمرة من الغضب إذ خرج عليهم وهم يختصمون وهم كانوا أولى الخلق بالفهم والبصر بالحجاج فقال أبهذا بعثت أم بهذا أمرتم أن تضر بوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا به وما نهيتم عنه فانتهوا عنه ثم هو في نفسه قد بعث إلى جميع الأديان فما جادلهم إلا بما تلا عليهم من التنزيل ولو شاء كلمهم بالمقاييس ودقيق الكلام ولو كان ذلك كان هو أولى به وعليه أقوى فلم يقم الحجة إلا بالتنزيل وأضرب عن جدلهم بالدقائق وعلم أن ذلك لله عز وجل رضا ومحبة فترك الجدل والخصومات من السنة
هدى
ويعود المحاسبى فى هذا المقام إلى الرأى الذي يستند إليه في كثير
مما كتب
وهو أن الإنسان لابد مخطئ إن خرج عن حدود السنة الصحيحة

٢٥٨
أما الذين يغترون بالعبادة والعمل فمنهم فرقه تتكلف الرضا والزهد والتوكل والحب الله عز وجل على غير حقيقة ولا معرفة بما هو أولى بها يتقلل أحدهم من اللباس والطعام زهدا فى الدنيا وبعضهم يخرج إلى الحج بغير زاد ويدع المكاسب يؤم التوكل بذلك
وكل هذه الفرق مغترة بالله عز وجل تتكلم بما يكره الله تعالى وهى لا تشعر وترائى بما تعمل وتتكبر وتعجب وتأتى كثيرا مما يكره الله عز لا تشعر لم تعرف التقوى إلا بالاسم الغالب عليهم اتباع
وجل وهى
أهوائهم في طاعتهم وتقشفهم وقد يقال إن هذه الفرقة أولى بالرحمة من الفرق التي وصفت قبلها إذ كابدت أهواءها وحملت المكروه على أبدانها
مع
ولكن المحاسبى يرد على هذا بقوله إن مجانبة الهوى العمل اليسير أعظم وأشد على النفس من تحمل المكروه والشدائد في الأعمال الكثيرة إذا كان معها الهوى
وهذه الفرقة أسخى المغترين أنفسًا بالأعمال وأشدهم تحمللمكروه في
ظاهر الطاعات
فالذي تعرف به غرتها أن ترجع إلى أنفسها بدعائها إلى العزم على طلب التقوى وتعريف النفس أنها أصل الطاعات ولا تزكو الأعمال إلا بها حتى إذا عرفتها ما هى فى السر والعلانية امتحنت أنفسها عند دواعيها إلى كل خير وشر في باطنها حتى تعلم هل طهرت قلوبها وهل طهرت جوارحها وما الذى هو أولى بها أن تبدأ به في الوجوب من
الفروض عليها
وعلى أهل هذه الفرقة أيضًا إن طلبوا نفى الغرة أن يتبعوا في أعمالهم سنن الصحابة وأن يأتسوا بهم

٢٥٩
وليذكروا أن أحدًا من السابقين فى الإسلام لم يدع المؤمنين إلى ترك الكسب الحلال أو السفر بلا زاد وأن الفضل في العمل وحمل الزاد مع اليقين بأن الأرزاق إلى الله عز وجل ولا رازق إلا الله عز وجل
وكذلك جميع الفرق من المتقشفين عليها بتفقد أنفسها حتى تعرف غرتها تخاف الله عز وجل بما هو أولى بها
ومن الذين يغترون بالأعمال
فرقة لا ترى أنه يجب عليها من الورع فى زمانها إلا الورع في المطعم والملبس وتظن أنها إذا بلغت أصعب الدرجات من الورع وأعزها في زمانها قد أحكمت التقوى وقامت به فعمى ببعض الورع أكثر الورع عليها في قلوبها وجوارحها وتنفى غرتها بأن تعلم أن الله عز وجل لم يرض منه بالحلال وحده وأنه قد يعذب من طاب مطعمه إذ لم يخف الله عز وجل في غير ذلك
ذلك
وفرقة قد غلب عليها الاستيحاش من الناس والخلوة وهى مع تتصنع بفرارها وتحب أن تشتهر به وترتاح قلوبها بأن تتفكر في عظيم خلق الله عز وجل وواجب طاعته وكثرة عدد ما يلزمها من مجانبة ما كره ربها عز وجل ونهى عنه في ظاهرها وباطنها
مما
هل أحصت ذلك كله حتى لم تضيع الله عز وجل حقا ولم ترتكب نهيا الله عز وجل عنه
نہی
فإذا تفكر أحدهم في ذلك علم أنه لم يقم بحقوق الله عز وجل كلها في طول عمره ولم يسلم مما كره أن يأتيه بجارحة أو بقلب وأن القليل من
عمله الذي يغتر به تعتوره الآفات التي تفسده أو تحبطه
فحقوق الله عز وجل عظيمة والطاعة واجبه والمعاصى في الظاهر

٢٦٠
والباطن كثيرة التي لا يكاد يسلم منها والقليل من عمله تعتوره الآفات التي تخالطه فتفسده
هذا بالإضافة إلى كثرة الزلل والخطأ وغلبة الغفلة والنسيان وهناك أيضًا فرقة اغترت بالغزو والحج وقيام الليل وصيام النهار
مصحح
لمطعمة
فقد خيل إلى أحدهم أنه من عمال الله عز وجل والمشتغلين به والذابين عن محارمه فقد عمى على أحدهم ذنبه فهو غير وملبسه من الشبهات وغير ذلك وجوارحه منتشرة عليه في أكثر عمره فيما یکره ربه عز وجل وهو غير متفقد لنفسه لا يخيل إليه أنه ينبغي المثله أن يتفقد نفسه وإن علم منها ببعض التفريط هان عليه لما عنده من العبادة والعلم والغزو والحج وهو مع ذلك غير متفقد للإخلاص فيما يعمل ولا عارف به دون تفقده
وتنفى غرتها بتفقدها أنفسها حتى تعرف أنها كانت مشتغلة بالنوافل عن واجب الحق والقيام بالفرض
لا يحل
ونجد كذلك فرقة الغالب منها تقديم العزم لله سبحانه بإخلاص العمل له في كل ما تعمل والعزم على الرضا والتوكل وما أشبه ذلك وترك الكبر والعجب وسوء الظن والكذب والغضب وإشفاء الغيظ فلما سخت أنفسها بالعزم على ذلك ونحوه عدت نفسها من أهله والقائمين عز وجل به بعزمها على الإخلاص
الله
فإذا عرض العمل سهت وغفلت فراءت وتنفى غرتها بمعرفتها أن العزم على العمل ليس بالعمل وأن العزم على العمل أقل مؤنة على النفس
بعد
من العمل لأن العزم لا تعب فيه ولا مؤنة على النفس ولا ترك لذة مقدرة عليها وأن النفس قد تعزم ثم تضيع العمل كراهة تحمل المؤنة

٢٦١
والتعب وقد تعزم على ترك اللذة ثم تواقعها عند الظفر لأن المحنة عند المقدرة أشد على النفس فليس للعبد أن يحكم لنفسه مثلا بالحلم إلا عند أو بالإخلاص إلا عند العمل وليس له أن يدعى الرضا إلا عند
الغضب الامتحان

الحسد
إن الحسد فى الكتاب والسنة على وجهين وهما موجودان في اللغة فأحدهما غير محرم فبعضه فرض وبعضه فضل وبعضه مباح وبعضه يخرج إلى النقص والحرم وأما الوجه الآخر فمحرم كله ولا يخرج إلا إلى مالا يحل والحسد الذي ليس بمحرم هو المنافسة والدليل على أن المنافسه حسد
قول الله عز وجل
وفى ذلِكَ فَلْيَتَنافس الْمُتَنَافِسُونَ ١
وقول النبي صلى الله عليه وسلم
لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله عز وجل مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله عز وجل علا فهو يعمل به ويعلمه الناس ونجد في حديثه شرحًا لهذا المبدأ وتفسيرًا إذ يقول
مالا
مثل هذه الأمة مثل أربعة
رجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علا ورجل آتاه الله عز وجل علما ولم يؤته
فيقول رب العلم لو أن لى مثل مال فلان كنت أعمل فيه بمثل عمله
فهما في الأجر سواء
۱ المطففين آية ٢٦
٢٦٢

٢٦٣
ويقول رب المال لو أن لى مثل علم فلان كنت أعمل فيه بمثل
عمله
فذلك
هو الحسد الذي هو منافسة أحب أن يلحق به وغمه أن يكون دونه لم يحب له شرا
ويمكن أن نقول عنه هو أن العبد يرى بغيره نعمة في دين أو دنيا فيغتم ألا يكون أنعم الله عليه بمثل تلك النعمة فيحب أن يلحق به ويكون مثله لا يغتم من أجل المنعم عليه نفاسة منه عليه ولكن غما ألا يكون
مثله
ويصبح الحسد فرضًا واجبًا إن كان منافسة من العبد لمن يفضله في القيام بالفروض واجتناب ما نهى الله عنه
لأنه إن لم يغتم ويحزن بتخلفه عمن قام بفرض الله عز وجل عليه واجتنب ما نهى عنه ولم يحب أن يكون مثله كان عاصيا مقيما على تضييع الفرائض وركوب المحارم
والحسد فضل وتطوع إن كان منافسة فى التقرب من الله تعالى بالفضل
والتطوع
والحسد مباح إن كان ما رأى العبد بغيره من النعم يتعلق بلذات الدنيا
الحلال
فاغتم أن لا يكون له مثله وأحب أن يلحقه به إلا أن يخرج إلى
السخط على الله عز وجل
غير
نقصا
من الفضل ومن الزهد
أن هذه المنزلة من الحسد تعتبر أما إن رأى العبد غيره يتجرع اللذات الحرام وينفق المال فيما لا يحل

٢٦٤
له فاغتم أن لا يكون مثله وأحب أن يكون مثله فذلك لا يجوز بل هو ارتكاب للذنوب لأنه تمنى لنفسه الحرام
والحسد هنا من قبيل المنافسة في الحرام وإن لم يكن حسد غش وحب
للشر وكراهة الخير للغير وفى ذلك يقول للنبي صلى الله عليه وسلم
ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في معاصى الله عز وجل ورجل لم يؤته الله عز وجل مالاً فيقول لو أن لى مثل مال فلان كنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الوزر سواء
نجد
أن
وفي الوجوه السابقة التي يذكرها المحاسبي من معانى الحسد شعور العبد لا يتعدى كراهة التقصير عن منزلة غيره ومحبة المساواة واللحوق به مع ترك التمنى أن يزول عن من نافسه حاله التي هو عليها ويجيب المحاسبي على سؤال عن هذا الحسد الذي هو منافسة مم يكون فيقول
ما كان في الدين فمن حب طاعة الله عز وجل والعزم على القيام بها لو أعطى أسبابها التي بها تنال وما كان من دنيا فمن حبه الدنيا وحب سعتها والنعم بها
وأما المعنى الثانى للحسد فهو الحسد المحرم كله قد ذمه الله عز وجل
في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته واجتمع علماء الأمة عليه وهو كراهة النعم أن تكون بالعباد ومحبة زوالها وذلك أن يكون العبد إذا رأى بعبد مسلم نعمة في دين أو دنيا أو بلغة أنها به كرهها وساءته وأحب زوالها عنه
ويكون الحسد في هذا المقام من الكبر والعجب والحقد والعداوة

٢٦٥
والبغضاء والرياء وحب المنزلة والرياسة أن يعلوه غيره وشح النفس بالخير مما يجده العبد على قلبه إذا رأى النعم بغيره
أما ما كان من الكبر فإنه يأنف أن يعلوه من كان دونه أو يساويه أو يعلوه من هو مثله في دين أو دنيا
فإذا أنف منه وازدراه ورثة ذلك الحسد له فأحب أن تزول عنه نعمة الله
عز وجل لئلا يصير إلى المنزلة التي يعلوه بها أو يساويه
ويحمله الحسد له أن يرد الحق حسدًا أن يعلوه به فيرفعه عليه وكذلك الأمر في الحسد الذي يكون على الرياسة وحبا المنزلة عند الناس فإنه يورث رد الحق وتركه على علم
وأما ما كان من الحسد عن الحقد والعدواة والبغضاء فهو أشد الحسد وذلك ما وصفه الله عز وجل عن الكفارة وعداوتهم وبغضهم للمؤمنين فقال وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيظُ ل مُوتوا بِغَيْظِكُمْ إِن الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمَسكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تصبكُمْ سَيِّئَة يَفْرَحُوا بِهَا ١
۱
وقد يكون عن الحسد الذى عن العداوة والبغضاء القتل وأخذ المال والسعاية بمن يحسده وهتك ستره وغير ذلك فالمبغض حسده أعظم الحسد وأشده
وأكثر أنواع الحسد انتشارا بين الناس هو ذلك الذي ينشأ عن حب ظاهر الدنيا كالإخوة يتحاسدون أو أخ يحاسد الأخ عند أبيها أو أمهما أو
۱ آل عمران آية ۱۱۹ ۱۰

٢٦٦
قرابتها وكان هذا حال يوسف وإخوته وكذلك التجار وغيرهم يتحاسدون على مال الدنيا وكل يجب أن تزول النعم عن غيره
وكثيرا ما ينشأ الحسد بين الناس الذين يقومون بنفس العمل كالعالم يحسد العالم ولا يكاد يحسد غيره وأهل التجارات الحسد يسرع أهل من كل تجارة إلى من شاركهم فيها أو بين الناس الذين يعيشون نفس الظروف فمن دنا من العبد في القرابة أسرع إليه بالحسد ممن تباعد عنه والقرب والجوار يورث الحسد بين المتقاربين والجيران
كذلك يكون الحسد في الأشكال والأمثال فى النسب أو في القدر أو في الغنى أو فى التجارة أو فى الصناعة أو في الولاية
وأما شح النفس وقلة سخائها بالخير للعباد فذلك شر الحاسدين لا يحسد المعنى عداوة ولا غيرها أكثر أنه لا من تسخو نفسه للعباد بما من الله عز وجل عليهم غما يجده على قلبه أن رأى بغيره نعمة لغير عداوة يعرفها ولا غير ذلك أكثر من شح نفسه بالخير لهم نفاسة منه أن يصل
إليهم الخير
ويسأل المحاسبي عن الوسائل الكفيلة بنفى الحسد المحرم الذي يكره صاحبه مايرى من النعم بغيره ويحب زوالها عنه فيجيب سائله بيسير من الأمر أن تعلم أنك قد غششت تحسده وتركت نصيحته وشاركت أعداءه - إبليس والكفار - في محبتهم ا للمؤمنين زوال النعم عنهم وكراهة ما أنعم عليهم به وأنك قد سخطت قضاء الله عز
وجل الذي قسم لعباده
من
من
المسلمين
فإذا علمت ما قد دخل عليك من هذا الضرر العظيم بغير منفعة في دين

٢٦٧
ولا دنيا صرفك ذلك عن الحسد إن كنت مؤمنًا بالله عز وجل خائفا على نفسك من غضبه وعقابه فلم تتعرض لوجوب غضبه عليك من غير اجترار منفعة في دين أو دنيا صارت إليك ولا هي إليك صائرة لو زالت النعمة عن من تحسده لأنها إن زالت عنه لم تصر إليك
وأيسر
من
ذلك كله لو كان الذى تحسده أبغض الناس إليك وأشدهم عداوة لك أنه لا تزول النعمة عنه بحسدك له لأن الله عز وجل لو أطاع الحاسدين فى المحسودين لما بقى عليهم نعمة
ولو فعل بالمحسودين ما يحب الحاسدون لهم لما بقى على النبيين صلوات الله عليهم أجمعين نعمة ولأفقر الأغنياء لحسدهم لهم ولأضل المؤمنين لحسد الكافرين لهم
ولو كان يضر المحسود حسد الحاسد له فيزيل عنه بحسده النعم لدخل عليك أعظم الضرر لأنك لا تعرى أن يحسدك غيرك فلو كان
الحسد يضر لما بقيت عليك نعمة
فإن أردت أن لا يطيع ربك عز وجل فيك الحاسدين فأنت أهل ألا
تحسد عباده اتباعا لمحبته وشكرا له على ذلك ويضرب المحاسبي مثلاً برجل أراد أن يرمى يرمى عدواً له بحجر فلما رماه الحجر على عين الرامي فأصابها رجع
له
وأعاد الرمي فرجع الحجر أيضا على عينه فأصابها حتى فعل ذلك
مرارا
فلم يك هذا أبدا ليرمى عدوه وقد علم وتبين له أنه لا يصيب عدوه وإنما يصيب نفسه

٢٦٨
فكذلك الحاسد قد كان فى نعمة قبل أن يحسد من حسده وهى الحسد فلما حسد وأحب زوال النعمة عنه زالت عن
السلامة
من
النعمة التي كانت عليه وهى نعمة السلامة من
الحسد
نعمة
الحاسد
فأنت مغموم وهو مسرور فعذبت نفسك بنعيم غيرك بغير منفعة دخلت
عليك فأنزلت بنفسك الغم بغيرك وأثمت وتعرضت للعقوبة فهل من فرق بين الحاسد وبين الرامى لذى يرجع إليه مارماه فيصيبه إن الحاسد أعظم بلاء وضررًا فلو رجع الحجر على عينك بدل الإثم كان خيرا لك لأن عينك ذاهبة بالموت
عنه
وإثم الحسد لا يبلى ولا يفنى حتى يوقفك الله عز وجل عليه ويسألك

ولا يطلب المحاسبي من العبد أن يكون طبعه طبع الملائكة فيسكت تماماً دواعي الحسد في النفس ويقول
إنك لا تقدر أن تسكت عدوك إبليس ولا تغير طبعك ولم تكلف ذلك أن تجعل طبع نفسك بهيئة لا يغفل ولا يسهو ولا ينازع إلى محبوب ولا مكروه
ولكنه يطلب منه أن يعمل على ترك الحسد إذا رآه نفذ إلى قلبه وأن يكون كارها له على الدوام
أما إذا لم يستطع التخلص منه كلية فعليه ببذل الجهد حتى يكون من قبل عقله |

٢٦٩
كارها لما ينازعه إليه طبعه وحتى لا يخرج به الحسد إلى العمل أو القول وأن يجاهد نفسه ليكتمه في أعماق ضميره
ويسأل المحاسبي

فإن ساءني ما رأيت من النعم وتمنيت زوالها فينزل به من البلاء ما يزيلها عنه كالغنى يزول عنه وينزل به الفقر
ثم ندمت على ذلك أيكون للمحسود عندى مظلمة يجب التحلل منها
فيجيب بقوله
أما ما كان من عمل القلب ولم تستعمل به جوارحك فذلك ذنب بينك وبين الله عز وجل
فإذا خرجت إلى غيبة أو تكذب عليه أو تغتاله بغائلة تحرمه بها منفعة فعليك الاستحلال من ذلك وما أشبهه
وأما مالم يعد القلب فهو ذنب عظيم ولرب شيء لاقصاص فيه أعظم من كثير مما فيه القصاص

السلوك اليومي
يحدثنا المحاسبي في مواضع مختلفة من مؤلفاته عن السلوك اليومي الذي ينبغي على المؤمن اتباعه كما يحدثنا عن الأعمال التي يجب عليه القيام بها أو تلك التي تجب مجانبتها أو الحذر منها
وأراد أن يوجز ويبلور كل هذا مع المنهج العملى المناسب له فأفرد فصلاً خاصا - في نهاية كتاب الرعاية له تأديب المريد وسيرته وتحذيره
الفتنة بعد هدايته
ونود
أن نسترعي انتباه القارئ إلى الأهمية القصوى التي يلقيها المحاسبي على النية في سلوك المؤمن اليومى
تحفظ
يقول المحاسبى إنه يجب على المؤمن الحذر من الموت في كل لحظة قال تعالى الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ موتِها والتي لم تمت في مَنَامِهَا ۱
ولذلك كان الرسول إذا نام قال حين يضطجع اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما به عبادك الصالحين
خائفا أن يموت فى منامة يدعو بالمغفرة إن قضى موته في منامه
وبالحفظ والتوفيق إن استيقظ حيا
١ الزمر آية ٤٢
۷۰

۷۱
وكان بعض العلماء إذا أراد أن ينام قال لأهله السلام عليكم يا أهلاه فودعهم خوفا أن لا يستيقظ
فحق على المريد الخائف من الله عز وجل أن لا يأمن بغتة الموت على
كل حال وفي منامه حين ينام
لذلك
وجب
عليه قبل النوم أن يعطى الله سبحانه الندم على ما كان منه والعزم على التوبة وأنه إن أصبح حيا اجتنب كل ما يكره الله عز وجل وأدى ما وجب عليه ورد ما أمكنه من المظالم إلى أهلها من مال أو استحلال في عرض
فإن مات في منامه لقى الله عز وجل مغفورًا له ذنوبه إن شاء الله وإن أصبح حيا كان عازما على التوبة مهيجا له على الحياء من الله عز
وجل ويتابع المحاسبى وصيته للمريد فيقول
فكلما أصبحت حمدت الله عز وجل إذ أبقاك ولم يتوفك في منامك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا استيقظ من منامه
الحمد لله الذى أحياني بعدما أما تنى ولم يتوفنى في منامي
ثم
تأخذ نفسك بالوفاء بالعزم وتذكرها قرب العهد وتهيجا على الحياء من الرب عز وجل
فكلما نمت جددت العزم وذكرت الموت للعبرة بالنوم لأنك كالميت وقد سماه الله عز وجل وفاة وتخاف الله عز وجل أن يتوفاك في نومك
فإذا أصبحت ذكرت النشور والبعث والعرض على الله عز وجل لأن

۷
الله عز وجل سماه بعثا وهو شبيه به وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ ذكر النشور فقال
اللهم بك أحيا وبك أموت وإليك النشور
ثم إذا أردت أن تقوم أخذت ثوبك ثم تأخذ سواكًا إن أمكنك فتستاك
تنوى به طهارة فيك ومرضاة ربك واتباع سنة نبيك ثم تتوضأ فتغسل يديك اتباعًا لسنة نبيك ثم توضىء أطرافك لأداء فرض الوضوء الذي أوجبه عليك ربك عز وجل لتؤدى فرض
الصلاة التي لا يقبلها الله عز وجل إلا به ولقول النبي صلى الله عليه وسلم
لا تقبل صلاة بغير طهور

ففي هذا دليل على أنها بالطهور مقبولة ممن رحمه الله عز وجل الأمل والرجاء أن يقبل الله عز وجل
فلتلزم قلبك
صلاتك
أدائك الفرض مع
فكلما استنشقت أو تمضمضت أو وضأت طرفا من أطرفك أملت كفارة ما أصبت من الذنوب بجوارحك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
إنه يكفر عن العبد المؤمن ما أصاب بمواضع الوضوء من الذنوب فإذا فرغت من وضوئك أتيت مسجدك ونويت بإتيانك المسجد أداء الصلاة في الجماعة اتباعا لسنة نبيك فإذا قضيت صلاتك نظرت أيهما أفضل وأوجب لزومك المسجد أو دخولك منزلك أو غدوك لمعاشك أو لبر واجب أو تطوع فأى ذلك كان أولى بك فأته
فإن دخلت منزلك ذكرت الإشفاق الذى وصف الله عز وجل به أولياءه

۷۳
الذين أباحهم الله عز وجل جواره وأدخلهم داره وإذ قالوا حيث
استقرت بهم الدار هو إنا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴾ ۱
1,
قد اغتبطوا في إشفاقهم في أهلهم فألزم قلبك الإشفاق رجاء أن تأمن به في الجنة مع المشفقين من أوليائه فإن زل أحد منهم نهيته لنمضى أمر الله
جهنم لقوله تعالى
عز وجل فيهم بأن تقيهم نار قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ ٢

قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم
فإن أردت أن تخرج فى حاجة أو إلى سوقك فقدم النيات قبل خروجك
وإن قدرت أن لا تدع شيئا أن تطيع الله ترجو
حاجتك أو
سو
عز وجل في طريقك أو في رقك أن تنوى به فافعل فإن أجرك على قدر نيتك فكلما نويت أكثر ان لك الأجر أكثر فإذا خرجت فانو كلما قدرت عليه مما يمكن من النية فإن فعلته أجرت على نيتك وعلى فعلك وإن لم تفعل ذلك أجرت على نيتك
فإن خرجت إلى سوقك نويت إن مررت ببعض المجالس أن تسلم عليهم وإن رأيت مظلومًا أن تنصره و وإن رأيت منكرا فاستطعت أن تغيره غيرته وإلا أنكرته بقلبك وإن مررت بأذى أن تميطه عن الطريق وتنوى إن لقيت الأصحاب والمعارف أن تسلم عليهم وتسألهم عن حالهم الله عز وجل على قدر أقدارهم ممن تحبه لله عز وجل أو تعنى به لقرابة أو غير ذلك نويت أن تسأله عناية منك بأمره لتؤجر على سلامك
۱ الطور آية ٢٦ ٢ التحريم آية ٦

٢٧٤
كان
وسؤالك وعنايتك به وتحمد له الله عز وجل أو للرحم وصلة له ومن يسر بأن تبشر به إن لم تكن تعنى به نويت أن تسلم عليه لإدخال السرور
عليه
وكن حذرا قبل الاعتراض من الخطرة بدواعى الرياء لأن العدو حين تلقى من تسلم عليه يخطر ببالك أنه يستخفك أو يحمدك أو يجفوك إن لم تسلم عليه ليسبق إلى قلبك ذلك فيشغلك أن تحتسب الثواب في سلامك وسؤالك فتعتقد ما خطر به فلا تحتسب الثواب فى سلامك ولا في سؤالك
فلا
تدع أن تنوى بإفشائك السلام على المجالس في العامة الأجر
والثواب كما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول
أفشوا السلام بينكم
وتنوى إن سئلت عن حالك أن تحمد الله عز وجل فإذا سئلت أجبت بعقل محتسب للثواب ولا تكن كمن يجيب فهم ولا احتساب لثواب الله عز وجل
وتنوى أيضًا إن رأيت امرأة أن تغض بصرك وإن سمعت لهوا أو معصية الله عز وجل لم تصغ إليه وأن تعتبر بما ترى بعينك وتسمع وتشم بأنفك فأنت مأجور على نيتك فعلت شيئا من ذلك أو لم تفعله
بأذنيك
وإن كنت تريد أن تأتى سوقك نويت أيضا هذه النيات أن تأتى مع سوقك أو سببا لمعاشك صنعة أو وكالة أو غير ذلك لطلب الحلال والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وللثواب في نفسك وعيالك للإكتساب عليهم والاستغناء عن الناس والتعطف على الأخ والجار وأداء الزكاة وكل حق فيه واجب تأمل بذلك أن تلقى الله عز وجل ووجهك كالقمر ليلة البدر وتنوى الورع في سوقك وأن تدع كل ربح وأجرة وإصابة تعرض لك

۷۵
وإن كانت الدنيا كلها إن عرض لك فيها ما يكره الله عز وجل
وتنوى الإخلاص في ورعك في تجارتك إذا ظهر للمشترى منك أو من تشترى أنت منه أو تعامله فى صنعة أو غيرها أو وكالة وتنوى عون المسلم في تجارتك إن استعانك لجاهك أو ببصرك أو بغير ذلك واعتبارك بأهل السوق وبما ترى فيه
وأن تذكر الله عز وجل فى السوق محتسباً لما جاء به الحديث
إن الله عز وجل يعجب من الذى يذكره في السوق وكذلك إن غدوت إلى شرى شيء من تجارتك أو تقاضى دينك أو قضاء ما عليك أو شرى شيء لأهلك أو بيع شيء تريد بيعة أو إلى صنعتك نويت كل ما قدرت عليه مما أمكنك فيه أن تأمل الله عز وجل فيه وترجوه فإن الله عز وجل معطيك على قدر حسبتك وأملك فيه ورجائك من ثوابه وكذلك إن أردت الذهاب إلى علم لم تدع ما أمكنك من النية والحسبة في الطاعات فتغدو وأنت تنوى أن تتبع بذلك أمر الله عز وجل ورسوله تطلب العلم وما ينفعك في دينك لتستدل به على خير أو تنهى به عن شر وتأمل أن يسهل الله عز وجل لك بذهابك طريقا إلى الجنة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وكذلك تأمل أن تضع الملائكة أجنحتها لك رضا بما تصنع كما رواه صفوان بن عسال عن النبي والتزاحم العلماء في حلق الذكر وكذلك تنوى أن ترتع في روضة من رياض الجنة كما جاء في الحديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل وما رياض الجنة
قال حلق الذكر

٢٧٦
وكذلك السلام على من تسلم عليه ومسألته على قدر ما أمكنك وكذلك زيارة أخ أو قضاء حاجة مسلم أو اتباع جنازة أو عيادة مريض لا تدع من النيات مما جاء به العلم وأمكن أن تؤمل الله عز وجل له
شيئًا
إلا نويته واحتسبته ورجوته

*
التوكل
الباب الرابع
نظرية الزهد والتصوف
الورع
الزهد
التفويض
الرضا
المحبة
موت المحاسبي
خاتمة

التوكل
يقتصر الحديث عن النظرية الصوفية لدى بعض الكتاب على وصف المراحل التي يمر بها الصوفى مشبهًا إياه بالمسافر الذي يقترب من غايته كلما قطع شوطا في رحلته
والصوفي كالمسافر لا يستطيع أن يقطع شوطًا قبل آخر بل عليه أن يمر بسائر مراحل طريقة الواحدة بعد الأخرى
والمراحل الصوفية تسمى بـ المقامات
ويحدثنا كتاب التصوف أيضًا عما يسمونه بـ الأحوال وليس هناك اتفاق كامل في الآراء حول الفرق بين المقام و الحال ولكن المفهوم السائد في غالب الأمر هو أن المقام يشير إلى مرحلة تتصف بشيء من الاستقرار ويصل إليها الإنسان بجهده الشخصى بينما الحال يعبر عن ظرف عارض سريع الزوال عن هبة من الله أو فضل أو فيض لا حكم للإرادة الإنسانية عليه في ظهوره أو زواله
والمقامات محددة في عددها مثلها في ذلك مثل أعمال الإرادة الإنسانية
أما الأحوال فلا حصر لها لأنه ليس في استطاعة الإنسان أن
يحصى
نعم الله

نبحث عن مفهوم المحاسبى لمسألة المقامات والأحوال إننا لا نعلم عن هذا الأمر عند المحاسبى إلا الشيء اليسير بل إن
۷۹

۸۰
كل ما نعلمه ما نقله إلينا الهجويري من أن الحال في رأس هو المحاسبي قد يتصف بالدوام۱
يسمى
ونريد هنا أن نعرض لكل ما تجده فى كتابات المحاسبي مما قد بالمقامات أو بالأحوال دون أن نتوقف عند التميز بينها ولكن لما كانت هذه المسائل مشتتة فى مختلف مؤلفات صاحبنا فقد رأينا من المفيد أن نعرض بادئ ذي بدء وعلى سبيل المثال تصنيفا للمقامات يقدمه السهروردي في كتابه عوارف المعارف وهو يأتى الترتيب التالي
۳ - الزهد - الورع
- E
١ - التوبة الصبر ه - الفقر ٦ - الشكر ٧ - الخوف - الرجاء ۹ - التوكل ۱۰ - الرضا وقد نجد أن بعض هذه المقامات يرى فيها مفكرون آخرون
أحوالاً فالسراج مثلا يعتبر الخوف حالا وكذلك الرجاء ونحن لا نعثر لدى المحاسبى على ترتيب محدد للمقامات أو الأحوال ولكننا نعلم أنه على غرار السهر وردى يجعل الصبر قبل الخوف والتوكل قبل التفويض
أما هنا فسوف نتبع ترتيبا مختلفًا بحكم ما سبق أن عرضنا له من فكر المحاسبي فنبدأ بحديث التوكل ثم الورع ثم الزهد والتفويض والرضا وأخيرا المحبة ونترك جانبا الموضوعات التى أثرناها في فصول أخرى كالتوبة والخوف والرجاء

التوكل يفيد ثقة المؤمن المطلقة فى الله ويقينه بأن أيا من الأعمال في
۱ عن ترجمة نيكولسون لكشف المحجوب ص۱۷۹

۸۱
هذه الدنيا لا يغير من المصير المحتوم
ومن مفهوم يمكن تطبيقه فى سائر الأحوال ويؤمن به المسلمون جميعا وحديث التوكل فى المؤلفات الإسلامية يشتمل دائما وفي كثير من التفصيل على مسألتى المال والكسب الحلال هل يتعارضان مع التوكل وإذا وثق العبد في الله وآمن بمصيره أى أيقن بأنه صائر لا محالة إلى قدره له الله منذ القدم وأنه نائل نصيبه المحتوم من الخير أو الشر ومن الغنى أو الفقر بإرادة الله وأن العمل - قل أو كثر لن يغير شيئا مما سوف يكون ومما كتبته عليه يد الله من قبل أن ينشيء العالم إذا أيقن المؤمن بذلك كله فكيف لا يكون سعيه إلى ما ضمنه له الله من رزق في العبادة وإهمالاً لحقوق الله
ما

نقصا
ولقد أثارت المسألة جدلاً مستفيضا بين الكثيرين من الصوفية والفقهاء وكتاب تلبيس إبليس يبين مدى ما وصل إليه هذا الجدل من
عنف وحدة
ونريد قبل كل شيء إيضاح بعض جوانب موقف الإسلام من القضية إن المال يحتل مكانا هاما من نصوص القرآن والأحاديث والفقه ففي القرآن نجد تنظيما وتشريعاً للميراث والأحاديث تكمل نصوص للقرآن في ذلك وكل كتاب فقه إسلامي يتضمن فصلاً مطولاً في الإرث كذلك نجد في القرآن والأحاديث تشريعا للزكاة وللوصية وللصدقة وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالمال
اعترف الإسلام إذن بمنافع المال وأهمية دوره فلا غرابة في أن يحث على العمل وهو وسيلة اكتساب المال وأغلب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا من ذوى المهن أو الوظائف

۸
ولكن القول بأن للمال أهمية زائدة في المفاهيم الإسلامية خطأ فاحش فالمال مهما كان أمره ليس في الواقع إلا جزء من القيم المادية الفانية في الحياة الدنيا والسعى لاكتسابه وإن سمح به الدين وحث عليه بل وأوجبه إلا أنه لا يداني في شيء مسعى الإنسان إلى اكتساب القيم الروحية التي لا تفنى والمتعلقة بالعالم الآخر
وعلينا أن لا ننسى أن الإسلام دين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي ولا يمكن أن يكون للدين وللنبي صلى الله عليه وسلمهدف إلا ما سما إلى الله والآخرة والمال في حد ذاته ليس بذلك والهدف الحق للإسلام والنبي نجاة الإنسان ومن أجل هذا كان الاهتمام بالمال منصبا على تحويله إلى أداة لخير الإنسان وعلى تحويل شهوته الدنيئة فى قلب الإنسان إلى التراحم والإنفاق في سبيل
الله
وهذا هو السبب لما نجده في القرآن من وعيد متكرر للذين يكنزون الذهب والفضة أو الذين يلهيهم حب المال عن القيام بحقوق الله ولعل أبا ذر الذي قيل عنه إنه أو اشتراكي في الإسلام لم يبتعد كثيرا عن المفاهيم الإسلامية حين كان يحمل فى مواعظه على بذخ بلاط۱
معاوية وإسراف الأمراء وكان شعاره الآية القرآنية التالية
وَيَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِن الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لِيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيل اللهِ وَالذِينَ يَكْذِرُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَها في سبيل الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم
فإنفاق المال في أغراضه الصحيحة لا يمكن أن يكون الاوسيلة لبلوغ
۱ وكان معاوية أميرا على الشام
التوبة آية ٣٤

۸۳
الأهداف العليا الرفيعة واستخدامه في أغراض دنيا يؤدى بالإنسان إلى الانسياق في سبل الشيطان ولابد للإسلام كدين أن يذمه في هذه الحال
والعمل لاكتسابه مسموح به بل هو مطلوب ما دام
حلالاً
أما العمل لاكتسابه من غير الطرق الحلال فهو أمر ينهى عنه الإسلام في قوة ويتوعد من يقوم به بشر العقاب في الدنيا والآخرة
والخلاصة هي في أرجائها لاكتساب المال ولقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفقر وقال اليد العليا خير من اليد السفلى ولكن ذلك كله مشروط بأن يكون
أن الله أمر بالضرب والمشى في مناكب الأرض والسعى
الكسب حلالاً وأن لا يتسم بالجشع أو بالحسد أو بالحرمة

ولنعرض الآن وعلى ضوء ما تقدم موقف المحاسبي من هذه المسألة إنه يقول في كتابه المكاسب ۱
فأخبر جل ثناؤه بقسمة الرزق بين خلقه وتوليه ذلك في مواضع من كتابه جل وعز كثيرة ثم دعا الخلق - سبحانه – إلى التوكل بعد أن أعلمهم بكفالته لهم وتقسيمه بينهم
فأوجب جل وعز التوكل وفرضه على الخلق
فهل نفهم من ذلك أن كل عمل للإنسان سعيا وراء رزقه الذي قسمه الله وتولاه يعتبر في الإسلام نقصا في التوكل وذنبا
۱ من ۱۷۸ ص ۱۷۹ تحقیق عبد القادر عطا

٢٨٤
يجيب المحاسبي على هذا التساؤل بالنفى قائلاً
فالذى يجب على الناس فى جملتهم من التوكل المفترض عليهم التصديق الله جل وعز فيها أخبر من قسم وضمان الكفاية وكفالتها من سياقة الأرزاق إليهم واتصال الأوقات التى قسمها في الأوقات التي وقتها بتصديق تقوم الثقة به في قلوبهم وتنتفى به الشكوك عنهم والشبهات ويصفو به اليقين وتثبت به حقائق العلم أنه الخالق الرازق المحيى المميت المعطى المانع المتفرد بالأمر كله
فإذا
صح هذا العلم فى القلوب وكان ثابتا في عقود الإيمان تنطق به الألسنة إقراراً منها بذلك لسيدها وترجع إلى ذلك بالعلم عند تذكرها وقع
الان
سم
عليها بالتوكل
وعلى أي حال فإن عامة الناس إذا خرجوا بالذكر في وقت الطلب أذعنوا بالقلوب والألسنة أنهم لا يصلون إلى شيء من ذلك بالحيلة وأن
الحركة غير زائدة لهم فى أنفسهم ولا موصلة لهم إلى الزيادة والعمل والسعى للرزق ليسا سوى حركات الطبع الذي عليه البنية وهذا من خلق الله في العباد
وإن لم تزل حركات الطباع وما فى الخليفة من محبة الكثرة وتعجيل الوقت والتسبب إليه بالأسباب فلم يزل الله سبحانه عنهم اسم التوكل
لأن ما في الطباع من الحركة لا يخرجهم مما أوجبنا من التصديق لهم لأن الله لم يستعبدهم بإزالتها وإنما استعبدهم بإقامة الطاعة وأخذ الشيء من حيث أباح أخذه
أما ما حرمه الله على العبد من الحركة فهو التعدى لما أمر الله والتجاوز لحدوده وذلك أن الله سبحانه لما فرض التوكل على خلقه وأباح لهم

٢٨٥
الحركة في ذلك ولما غيب عنهم من محبة تعجيله حد للخلق حدودًا في الحركة وفرض عليهم فروضًا أحكمها
فإن خالفوا ذلك ثبتت عليهم بخلافة الحجة فمن كانت حركاته في طلب الرزق على ما وصفنا كان الله جل وعز بذلك مطيعا محمودا عند أهل العلم ولكن هناك من مراتب الحركة الإنسانية ما هو أرفع في الدرجة وأعلى في الرتبة فإن السعى للرزق أمر حلال ومحمود ولكن أجله مع إحكام فرض التوكل في أصله والزيادة في العمل بالمعرفة الله ومع طهارة القلب وإدامة الذكر وكثرة التقرب إلى الله بالنوافل فذلك هو حقيقة التوكل ومحكمه والتعالى في ذروة ما أقيم فيه الأنبياء والصديقون وخواص المؤمنين
السعى من
أما الدلائل على أن الحركة فى طلب الرزق أمر حلال محمود فهي كثيرة وفى وجوه عديدة ونجدها فى القرآن والحديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسير
الصحابة
ففى القرآن ترى مثلاً ورجال لا تلهيهم تجَارَةٌ وَلَا بَيْعَ عَنْ ذِكْرِ
الله
وفي الحديث ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم
ويقول الرسول عن نفسه
كنت أرعى الغنم لأهل مكة بالقراريط
وفي القرآن قصص الأنبياء كانوا يحترفون مهنا منهم موسى وداود
۱ آية ۳۷- من سورة النور

٢٨٦
ومن الحديث أطيب ما أكل المؤمن من كسبه
وهو حديث يقول عنه المحاسبي إنه
لا يدفعه أهل العلم والنقل ولا أعلمهم يختلفون فيه أما الدلائل المستخلصة من سير الصحابة فيأتي بها المحاسبي بعد فصل طويل في امتداح أخلاقهم ويبدأ كعادته بذكر الخلفاء الأربعة الأول
فقد كان من أبى بكر لما استخلف أن رأى الكسب على عياله أفضل الأعمال وأوصل القربة وأعلى الطاعة
فمضى إلى السوق متكسبًا عليهم فأدركه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم وكلموه فى ذلك ثم فرضوا له فرضا رضى به وإنما كان ذلك لرضى منه حتى يفرغ لأمور المسلمين ويولي أمتهم كل عنايته
وكذلك كان عمر بن الخطاب إذ رأى بعد استخلافه أنه لم يعد يجد من الوقت ما يسمح له بالكسب إلا إذا أهمل الأمانة التي وقعت عليه فكان يأخذ ما يصفه بقوله
ثوبين للشتاء والقيظ وظهرًا أحج عليه وقوت رجل من قريش ليس بأرضعهم ولا بأرفعهم ولكنه كان ذلك يتساءل مع
والله ما أدرى أيحل لى أم لا
وقد سار عثمان وعلى من بعده على نهج أبي بكر وعمر ويروى المحاسبي بعد ذلك قصة عبد الرحمن بن عوف إذا آخى النبي بينه وبين قيس بن الربيع نعرض قيس على عبدالرحمن نصف ما يملك وكان مال قيس المال الصامت الذى يرغب فى مثله ولكن ابن عوف رفض
قائلا

۸۷
لا حاجة لى بذلك دلني على السوق
فمضى إلى السوق متكسبًا على نفسه وذلك لما عند عبدالرحمن من فضل الكسب وفضل الحركة لطلب الثواب
وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أطيب ما أكل الرجل من كسبه فآثر عبد الرحمن الكسب على مال طيب عرض عليه من غيره مسألة ولا إشراف من نفس
تلك
الأدلة التي يسوقها المحاسبي وقد استخلصها من الكتاب هی
والسنة وفعل أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويختم حديثه عنها بقوله
والأخبار في هذا والاحتجاج بها كثيرة
وفيما أوردنا وذكرنا من ذلك كفاية إن شاء الله
والحركة للكسب إذن ليست حراما إنها حلال بل هي فرض على
العباد
والمحاسبي في كتابه رسالة المسترشدين يوصى المؤمن بأن لا يجعل
نفسه قط عالة على الآخرين
وذلك أن العبد إذا جعل نفسه في وصاية غيره فقد حريته في الدعوة إلى الحق متنزها عن الرياء
وفى وصاياه الخاصة بالسلوك اليومى للعبد فى مختلف مؤلفاته يفرد المحاسبي مكانًا للكسب والعمل
ففي كتاب الرعاية يحدثنا مطولاً عن العمل الذي يحبه الله من

۸۸
العبد وفي كتاب المسائل في الزهد يذكر الحديث التالي للرسول صلى الله عليه وسلم الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله القائم ليله
والصائم نهاره
ويقول المحاسبي
فأفضل الأعمال لكل أهل زمان ما كانت عليه الأوائل من تعليم السنن والعطف على أهل العدم لأن الله الغنى الحميد لا ينتفع بطاعة ولا تضره معصية وإنما أمرك بطاته لينفعك فأحب الأشياء إليه من ما عاد نفعه على غيرك
طاعته
بل إن السعى للرزق فرض على المؤمن فى كثير من الأحيان وتركه ذنب كالسعي في رزق الأب والأم والزوجة والأولاد المعوزين ألم يقل
النبي كفى بالمرء شرا أن يضيع من يعول
ويعلق المحاسبي على هذا الحديث قائلا
ولا يكون قول النبي ذلك وهو لا يجب عليه عيلتهم ولا حينما تكون عيلتهم تطوعًا منه يتطوع به لأن الشر بلاء واقع وعقوبة نازلة والله جل ثناؤه لا يعاقب على ترك مالا يجب
وعلى أي حال فلم يختلف المسلمون في أن مثل هذا السعى واجب
عليهم
والمحاسبي لا يكتفى بأن يسوق الأدلة والدفاع عن هذا الرأى وإنما
يقوم ينقد من يحرمون الكسب

۸۹
فيقول بأن هناك أقواماً يزعمون أن السعى للرزق يتعارض مع
التوكل
مما
وهم
في الواقع إنما جهلوا حقيقة السنة وسير الأنبياء في كل زمان يرويه لنا القرآن
فمن ذلك ما زعم شقيق وذلك أنه قال لما ضمن الله تعالى الرزق والكفاية كانت الحركة شكا فيها ضمن فحمل الأمر في ذلك على رأيه فخالف الكتاب والسنة وما عليه أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة التابعين من بعدهم
ويتابع المحاسبي نقده للفرق الأخرى القائلة بعدم التكسب وذلك بأسلوب غاية في التشويق معتمدًا على الكثير من الأدلة والبراهين غير ذلك التي ذكرناها فيما سبق ولذلك لانرى أن هناك أي مجال للاختلاف حول آراء المحاسبي فيما يتعلق بالكسب
وكتابه المكاسب الذي اعتمدنا عليه أساسًا في بحثنا قد ألف في فترة متأخرة من عمره بعد بلوغه الرابعة والخمسين
فهو إذن يعبر عن آرائه فى فترة النضوج بل يمكن القول بأن الآراء التي ضمنها هذا الكتاب هى آراؤه النهائية في الموضوع

وما سبق من العرض يتعلق كله بالكسب فى الأرزاق الضرورية للحياة ولم نتحدث بعد عن موقف المحاسبى من الثراء والبذخ ولسوف نأتى إلى هذا الموضوع في فصل تال عند بحثنا في مسألة الزهد ولنحاول الآن النظر فيها إذا كانت الحركة عامة - أو الحذر أو اليقظة
أو التدبير - يتعارض شيء منها مع التوكل

۹۰
والمسألة هي نفس مسألة الكسب وإن كانت مسألة الكسب أكثر تعقيدا فمن ناحية نجد الإرادة الإلهية الخالدة بما قدرته من مصير للإنسان لا مغير له ومن الجانب الآخر نجد الحركة والعمل من أجل إصلاح ظروف الحياة الإنسانية ومن أجل مجانبة الشر
ولا نريد الإطالة في شرح موقف المحاسبي ولا نحتاج إلى ذلك فقد كانت حياته كلها سعيًا إلى إصلاح الإنسان ومحاولة لتجنيبه الشر والنجاة منه ومؤلفاته بأكملها تعبر في قوة عن هذا الموقف
ولنكتف بذكر بعض النصوص ذات المغزى الواضع من كتابه الرعاية يدلنا فيها على المبدأ الذى يحكم موقفه من مثل هذه المسائل
عامة
وفى هذا النص يتحدث المحاسبي عن إبليس وينبه القارئ إلى أن إبليس من عناصر الشر التي تدفع إلى إرتكاب الذنوب ويحذر منه ثم يتحدث عن قوم من أهل الشام يزعمون أن الحذر من إبليس لا
يصح
فالحذر لغير الله عز وجل نقص من اليقين والتوكل فأولى الثقة بالله عز وجل واليقين لأنه لا ضار ولا نافع غيره
ويرد المحاسبي على هذا القول بأنه غلط فالعبد لا يحذر إبليس إلا لأن الله أمره بذلك والحذر من إبليس لا يكون خوفا منه فهو لا يغيرها مما أراده الله شيئًا وإنما يكون واجبًا طاعة الله واتباعا لأمره فيمن أمر
بالحذر منه
أجل بل إن الأمر الإلهى بذلك نعمة على العبد وعون له ألم يحذر النبي بأمر ربه من أشياء أقرب إلى البشر من إبليس وهل

۹۱
كان نقصا في التوكل أن أطاع النبي كلام الله إذ أمره بأخذ حذره من العدو وبصلاة الخوف في الحرب وهل كان نقصا منه في التوكل أن قام
بحفر الخندق
إن اليقين ليعمر القلب بأن الله خالق كل شيء ومحرك كل شيء ولكنه أمر بأمور طاعتها واجبة وتركها بزعم أنها نقص في التوكل
عليه ليس سوى مخالفة لأمره
فالطاعة إذن هي السبيل الصحيح وناقص اليقين من ضيع أمره
إرادة كمال اليقين
أما التعلق بالأسباب والعلل وعدم النظر إلى غيرها فذلك الغلط الذي يجب على المؤمن مجانبته

الورع
وموقف المحاسبى من الحركة لدى الإنسان يدل على قاعدة عامة عنده
أن العمل الذى يؤدى إلى الكسب الحلال حلال
وهذا يدخلنا فى مجال الورع والورع يجب أن يلزم الكسب ويسيطر
عليه
إلا أنه ليس بالقاصر على الكسب فحسب
والمحاسبي في حديثه عن الورع يعمم تطبيقاته وهو يعرف الورع بما يلي ۱
المجانبة لكل ماكره الله عز وجل من مقال أو فعل بقلب أو جارحة والحذر من تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارحة وينال الورع بالمحاسبة أى التثبت فى جميع الأحوال قبل الفعل أو الترك من العقد بالضمير أو الفعل بالجارحة
ويتم الورع بأربعة أشياء
شيئان واجب تركها وشيئان ترك أحدهما استبراء خوف أن يكون مما كره الله عز وجل والآخر يترك احتياطيًا وتحرزا
فأما الشيئان الواجب تركهما
۱ من كتاب المكاسب
۹

۹۳
فأحدهما ما نهى الله عز وجل عنه من العقد بالقلب على الضلال والبدع والغلو في القول عليه بغير الحق ولا يعتقد إلا الصواب والآخر ما نهى الله عز وجل عنه من الأخذ والترك من الحرام بالضمير والجوارح وأما أحد الشيئين الآخرين فترك الشبهات خوف مواقعة الحرام وهو لا يعلم استبراء لذمته لتمام الورع
وأما الشيء الرابع فترك بعض الحلال الذي يخاف أن يكون سببًا وذريعة إلى الحرام
مما
حرم
وذلك كترك فضول الكلام لئلا يخرجه ذلك إلى الكذب والغيبة وغيرهما الله تعالى القول به فهذه الخلة عون على الورع لا واجب عليه تركها ومجانبتها والدليل إلى الحق القرآن والسنة فعلى الناس ترك كل ما حرم فيها أو كان من المتشابهات
فالورع إذن في تطهير القلب والجوارح ولكن على العبد أن يحذر مكائد النفس التي تعطيك الورع في حال
العدم
فتزعم أنها تدع ما يكره الله عز وجل حين تعرض للبلاء خوفا من أن يغضب الله عليك فتستوجب العذاب
حتى إذا قدرت وامتحنت جاشت لشهوتها فطلبت ما زعمت أنها
تدعه
۱
۱ من كتاب الرعاية

٢٩٤
فالورع لا يتبين حقيقة إلا فى الامتحان بترك الشهوة مع القدرة ونية الورع لا تكفى ليكون الورع
وينتقد المحاسبى من يقصر الورع على أشياء معينة مثل فرقة لا ترى أنه يجب عليها من الورع فى زمانها إلا الورع في غذائها من المطعم والملبس
فعمى ببعض الورع أكثر الورع عليها في قلوبها وجوارحها۱ وعذاب الله قد يقع على من لم يخف الله في كل ما كان من الورع حتى وإن طاب مطعمه
۱ من كتاب الرعاية
ربعة منال
سفنا باله

الزهد
والورع أمر محمود بكل تأكيد ولكنه ليس سوى مرتبة في تدرج القيم الروحية وتعلوها مرتبة أخرى هي الزهد
فمحاسبة النفس لتمييز الحلال الطيب من الحرام أو المشتبه في أمره عمل لا جدال فيهما يعود به من نفع على العبد ولكن خير منه أن يترك
العبد الدنيا والدنيا ليست سوى بلاء لا عودة إليه والانشغال بالدنيا ابتعاد عن
الله
والتحرر من الدنيا وسيلة إلى التقرب من الله والتفرغ لعبادته والدواعي التي تبعث على الزهد كثيرة
منها أن الدنيا لا قيمة فى الحقيقة لها بل إنها لا تساوى عند الله جناح
بعوضة والانشغال بما لا قيمة له أمر لا يقره عاقل
ويقول المحاسبى لمحدثه في كتاب أدب النفوس
عجب أن تحب الدنيا وتنشغل بها وأنت تعلم علم اليقين أن لا قيمة لها وتترك من أجلها سبل الصالحين وأهل التقوى وتبتعد عن صحبة النبي
في الجنة
ولو تركت الدنيا لتفوز بصحبة النبي التركت الأقل لتفوز بالخير
الأعظم وكيف يعقل أن تترك من أجل الدنيا الفانية صحبة النبي خالدا في جوار الله ومن أحبهم الله والرسل
٢٩٥

٢٩٦
ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك فمما يبعث العبد على الزهد أيضا خفة المؤنة والراحة من عظيم الكلفة لأنه إذا حل بالزهد حط الكريم عنه فى الدنيا مؤنة الرحلة واستراح من تعب النقلة وحلت نفسه الطمأنينة ١
وهكذا نرى أن المحاسبى لا يدعو إلى الزهد لغرض الزهد في حد ذاته
فهو ليس غاية وإنما هو وسيلة إلى اثنتين
الاطمئنان في الدنيا والفضل في الأخرى
ولنحدد هنا أن الحرمان من متاع الدنيا ليس هو جوهر الزهد وإنما جوهر الزهد التحرر من الدنيا وعدم الخضوع لمتاعها ولرب مكثر بغير الإكثار مشغول ليس بذاكر دنياه لأن الآخرة قد
غلبت على مناه وهو على ما أعطاه الله من الدنيا شاكر ولرب مقل قد ظهر الزهد على ظاهر بدنه وقلبه مشغول بالرغبة فقد استقل كل ما صار إليه من الدنيا ٢
**
بقى علينا بعد هذا أن نجلى مسألتين كانتا مثار مناقشات عديدة وهما المتعلقتان بالمطعم والغنى
أما أولاهما فهي هل الزهد يتطلب الاقتصار في الطعام على أقل القليل بل على القدر الذي يقيم الأود فحسب منه إن أساطير كثيرة تروى فى هذا المجال وتصور بشكل لا يكاد يقبله العقل مدى ما ذهب إليه المتصوفون في الإقلال من
۱ من المسائل في الزهد وغيره من المسائل في الزهد وغيره ص
٠٤٤ ٤٥
الغذاء

۹۷
ويقول الرواة معللين ذلك إنه الزهد وبلغا من شأن هذه الأساطير - ولا شك في انتسابها مع ذلك إلى أصل من الواقع – أن غرست في الأذهان فكرة التعفف الزائد فى الطعام كمرادف المفهوم الزهد
وموقف المحاسبي في هذه المسألة موقف وسط متعقل ولنعرض أولا لموقفه بشأن قضية الجوع باعتباره غاية في حد ذاته وهو يقدم لها حلا يبنيه على مبدأ أساسي مبتكر يبلغ الغاية في البساطة ويسر التطبيق فيقول بأن الله فرض فروضًا واضحة محددة لا شبهة فيها أما النفل فيعرض له كما يلى
واعلم أن كل فضيلة نافلة لها شبيه من الفريضة مما فرض الله يستدل
بها على ما نقل
فإذا أشكل علينا شيء من أنواع النفل فلم ندر أفضل هو أم ليس بفضل فانظر في أصول الفرض فإن كان له فى الفرض أصل فهو فضل وإلا فلا ۱
هذا إذن هو الحكم كل فضيلة نافلة لها شبيه من الفريضة فقد رغب الله فى صدقة النفل وقد فرض الزكاة ورغب في الصوم وقد فرض رمضان ولم يفرض عليه – أي النبي - الجوع ولا العطش فالذى ينال جوعًا وعطشا بلا
بمأجور
صوم
فلیس
ويقطع المحاسبي بناء على ما أسسه من مبدأ بأن الله لم يفرض الجوع فريضة ولم يرغب فيه نافلة إلا أن يجوع العبد ليؤثر على نفسه بطعامه
أهل المسكنة ٢
۱ من المسائل في الزهد وغيره
من المسائل في الزهد وغيره ص ۸۷

۹۸
الشق
فهل يحل الأكل إلى الشبع ومما طاب من الطعام ملء البطون لقد أخرج المحاسبى الجوع كغاية من الفروض والنوافل وهو في هذا المسألة يقف أيضا موقفا متعقلا فيقول في كتاب المسائل في من الزهد بأن الطبائع تختلف من الناس فمنهم من يحتاج إلى الطعام في وقت أكله ويستغنى عنه عند ذلك الوقت فى يوم آخر وربما احتاج إلى طعام في حال ويستغنى عن مثله فى غير تلك الحال ولكن أفضل ما أخذ من الطعام ما تحتاج إليه النفس ليس فيه زيادة ولا نقصان۱ ويوصى المؤمن في كتاب الرعاية بأن لا يتعفف عن الطيبة و يتكلفها إذا وجد بنفسه ضعفًا عن القيام بالطاعة الواجبة وفي كتاب المكاسب نجد النصوص التالية
الأطعمة
فمن دعا الناس إلى الجوع فقد عصى الله وهو يعلم أن الجوع قاتل وقد فعل ذلك بخلق كثير من زوال العقل حتى تركوا الفرائض
ومنهم من يعمد إلى سكين فيذبح نفسه
ومنهم من يتغير طبعه
خلقه ويسوء
ومن دعا إلى الشبع فقد عصى الله ولم يحسن أن يطيعه لأن الشبع ثقل على البدن وصلابة عن وعيد الله فى القلب وغلظ في الفهم وفتور في

الأعضاء ونصل من هذا أيضا إلى النتيجة المحتومة وهى أن أفضل ما أخذ من الطعام ما تحتاج إليه النفس وهو أمر يختلف باختلاف الطبائع وهناك أحوال يفضل فيها ترك الإنسان لبعض طعامه إيثارا للمسكين أو السائل ولكن المحاسبى يوصى بعدم الجور على النفس حتى في مثل
۱ من المسائل في الزهد ص ٢٢٧
من الرعاية

۹۹
هذه الأحوال فيعطى العبد فضول الطعام ويأخذ الأقل من الكفاية ويؤثر
بالأكثر 1
"
ولكن ما هدف الأقل من الكفاية في نظر المحاسبي يجب أن لا ننسى أنه متصوف وعبادة الله هى الأمر الوحيد الذي يعنيه لذلك يقول
فأفضل الجوع جوع القانع وجوع التكلف يفتضح بالشبع وإن كان في الصوم جوع فإنما معناه الترهب لله عز وجل والسياحة لذلك وكذلك يروى عن الله عز وجل قال
الصوم لى وأنا أجزى به يدع ابن آدم طعامه وشرابه من أجلى٢ وختاما لهذا الموضوع نود أن نذكر نصين يعبر أن خير تعبير عن فكر
المحاسبي وليس النصان من كتابات المحاسبى ولكنها صادران عن أحد أعداء الصوفية الألداء وهو ابن الجوزى فى كتابه تلبيس إبليس
لا نأمر بالشبع ولكننا نحرم الجوع الذي ينهك القوى ويضعف الجسد فإذا ضعف الجسد ضعفت العبادة ۳
فإن تزهد وآثر اجتناب الشهوات لعلمه بأن الحلال يوجب عدم الإفراط أو أن طيب الطعام يدعو إلى الإكثار ومزيد النوم والكسل فعليه
بمعرفة ما هو ضار إن تركه وما هو ليس بضار إن أتاه
وإذن فليأخذ من الطعام ما يكفى لأن يقيم أوده ولا يضر بجسد بجسده ٤
**
۱ من المسائل في الزهد وغيره من المكاسب ص ۷ ۳ ابن الجوزي تلبيس إبليس ص ٢١٦ ٤ ابن الجوزي تلبيس إبليس ص ١٥١

۳۰۰
يعرض المؤلفون عادة لموضوع الغنى فى الفصول الخاصة بالتوكل
أنه
ولكننا نرى موضوع مرتبط ارتباطا أوثق بالزهد والزهد هو ترك الدنيا فهل هناك تعارض أساسي بينه وبين الغنى نريد أن نعرض أولاً للغنى الذى لا يأتى عن التكسب بالعمل بل عن الإرث مثلا والمحاسبي يميل بعطفه إلى الفقراء ولكنه لا يذم الغني ذما
مطلقا أو على وجه التحديد - هو لا يقطع بالرأى في هذه المسألة بشكل
حاسم فالغنى إن استخدم ماله فى الطاعات يعتبر صاحب فضل ومن الصالحين وطاعة الله هي معيار الحكم على الإنسان غنيا كان أم فقيرا۱ بل إن المال نعمة من نعم الله ٢
وبالإضافة إلى ذلك فإن المحاسبى يحض المؤمنين على العطف على أهل العدم ومساعدتهم ويعتبر هذا من خلق الصفوة الفائزين بالآخرة ۳ وهو يبين فضل الصدقة وما ينتج عنها من خير ولعل النص التالي من رسالة المسترشدين يعبر أحسن تعبير عن فكر المحاسبي في
هذا المجال
واعلم أن محبة الغنى مع اختيار الله لعبده الفقر تسخط ومحبة الفقر
مع اختيار الله لعبده الغنى جور وكل ذلك هرب من الشكر لقلة المعرفة وتضييع للأوقات من قصر
العلم
۱ من كتاب الرعاية من كتاب أدب النفوس
۳ من المسائل في الزهد وغيره

وذلك أن إيمان الغنى لا يصلحه الفقر وإيمان الفقير لا يصلحه الغنى كما جاء في الخير أن الله تعالى يقول
إن من عبادى من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن من عبادى من
لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك
وكذلك في الصحة والسقم
فمن عرف الله لم يتهمه ومن فهم عن الله رضى بقضائه ولو لم يكن لأهل العلم إلا هذه الآية لكفتهم
و وربُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيرَةُ ۱ تقول إن هذا النص يعبر أحسن تعبير عن فكر المحاسبي ذلك أنه بالقضية إلى مفهوم الرضا أى المسرة والقناعة والخضوع في كل ما أراده الله سواء كان نعمة أو ابتلاء وضد ذلك كما يقول المحاسبي يكون السخط و الجور
يرجع
وقد يعترض المعترضون بأن المحاسبي رفض تسلم المال الذي استحقه إرثًا عن أبيه ونحن لا ننكر هذا ولكنه كان يعلل موقفه بأسباب لا تمت إلى مفهوم الغنى ولكن المحاسبي وإن كان لا يذم الغنى الذي يأتي من مصادر غير الكسب بالعمل إلا أنه يضع لذلك شروطًا
فهو يشرح في المسائل في الزهد وغيره ما يجب على الأغنياء من الشكر الله وأداء فروضه فى ماله - كالزكاة وغيرها - والإنفاق في سبيله
من رسالة المسترشدين ص ١٦٣ ص ١٦٤ أبو غدة
۳ آية ٦٨ من سورة القصص

٣٠٢
وعدم
التعلق بالدنيا حتى لا يكونوا عبيدا للعبيد ثم يوضح أن شرط الغنى الجوهرى هو أن يكون المال حلالاً
وقد يعجب البعض من أن المحاسبى وهو المفكر المتصوف الزاهد
لا يذم الغنى والواقع أن انتقادته فى سائر مؤلفاته لا تنصب على الغنى في حد ذاته وإنما على سوء استخدام المال والتعلق به ولكنه وإن كان لا يذم الغنى إلا أنه دائاً يميل بعطفه إلى الفقراء وسوف نعرض فيما بعد لأسباب هذا
أما
موقف المحاسبى من الحركة لجمع المال فهو أقل وضوحا

وهو
في
أنشط الناس وأبرعهم في جمع
كتاب المكاسب يذكر لنا ابن عوف المال - مثالاً ودليلاً على صدق فكرة يعرضها وذلك بعد التقديم لروايته عنه بفصل مطول في مناقب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم
أما في كتاب الوصايا فهو على العكس من ذلك ينتقد ابن عوف ويحمل عليه
وقد يبدو لنا انتقاده له أكثر عنفا مما هو عليه حقيقة إن لم نضع في اعتبارنا ما كان يكنه المؤلف من حب واحترام عميق لأصحاب الرسول
وعلى أي حال فموقف المحاسبى من ابن عوف سواء كان بالمديح له أو بالهجوم عليه ليس في الواقع سوى تعبير عن رأيه في اكتساب المال وإننا لنعتقد أن كلا كتابيه - وإن كان أحدهما تقديرا والآخر ذما - صادق أصيل
فما السبب إذن في هذا التناقض

۳۰۳
هل هو تحول في الرأي
إن الغزالي في حديثه عن هذا الفصل من كتاب الوصايا الذي ينتقد المحاسبي فيه ابن عوف يخبرنا أن صاحبه إنما سطره ردا على فرقة من العلماء ذوى الثراء احتجوا تحليلا لثرائهم بسيرة ابن عوف ۱
فهل في هذه الرواية السبب الحقيقى لموقف المحاسبي هل أثير سخطه - وهو الذى يؤثر الفقر على الغنى بكثرة ترداد سيرة ابن عوف
هل أصبح اسم ابن عوف إذ يذكر في كل مقال عن المال والغنى ويضرب به المثال في كل أمر يتعلق بهما شبحًا أمام صاحبنا أراد التخلص
منه
قد يكون ذلك
وأسلوب المحاسبي في ذكره بكتاب الوصايا يدل على شيء من الغضب بل إنه أسلوب شديد القسوة لا يتورع عن استخدام العبارات
الجارحة والتشبيهات النابية
إننا لنؤمن بتحول فى الرأى لدى المحاسبي ولكننا نعتقد أن التحول أكثر تعقيدا
هذا سبب
سمح لنفسه في
ولا نريد أن نقف عند القول الشائع بأن المحاسبي كتاب الوصايا بما لم يسمح به لها في مؤلفاته الأخرى
فقد يكون هذا صحيحا بالنسبة إلى ذكره لأحاديث مشكوك فيها أو مختلفة وليس غرضها سوى الحض على محاسن الأخلاق ولكنه لا يمكن
۱ الغزالى إحياء علوم الدين جـ ٣ ص ۸۹

٣٠٤
أن يكون أساسا للحكم في قضية تتعلق بالشرع وتمس أحد أصحاب
النبي
إننا نجد السبب الحقيقى فى هذا التحول بين رحاب البيئة التي عاش فيها المحاسبى ثم في طبيعة المحاسبي كإنسان
كان أهل التقوى في زمانه يهتمون أشد الاهتمام بمسألة طعامهم يريدونه حلالاً خالصًا وكان ذلك مثار قلق دائم لديهم يرون الشبهات والحرام في كل شيء فيزداد قلقهم حتى يبلغ بهم كراهة تناول الطعام ذلك أن أساس التطهر عندهم كان الحلال والأحاديث التي استندوا إليها في هذا عديدة

والمحاسبي نفسه وصل به الأمر إلى حد القول بأن سائر الأعمال من صلاة وصوم وجهاد وحج مع القيام بالطاعات كل ذلك لا يقوم مقام تصفية الخبز۱
كان الحلال في نظرهم أمرًا عسيراً مناله ويروى عن أبي وائل مسروق
أنه قال
إن أهل بيت بالكوفة يوجد على مائدتهم رغيف من حلال لأهل بيت
غرباء
فكيف كان إذن علاج المؤمنين لهذا الحال
وكيف أرادوا النجاة بأنفسهم من الشبهات والحرام وأما الأكياس فإنهم أخذوا القوت قصدًا ورفضوا ما سوى ذلك
وقد كان الأوزاعي يقول
اشتبهت الأمور فليس نأخذ إلا القوت
۱ من المكاسب
من المكاسب

٣٠٥
وطائفة اختارت المباح من الجبال والأودية والرمال من ورق الأثل ولقط البذر والحشائش التى لها ثمن إذا ادخرت فجمعوا منها لصيفهم في
شتائهم
وطائفة اختارت ما ألقته الرياح وما ظهر من الحشيش والكلأ على وجه الأرض من كلأ الصحراء إذا اشتد بهم الجوع
وطائفة اختارت المنبوذ المطروح الملقى
وطائفة اختارت المسألة لأخذ القوت منها
وطائفة اختارت أن تجمع من اللقاط خلف الحصادين من القمح
والشعير
الله
وطائفة فتشت الورع فاختارت كد اليد أو ضرب السيف في سبيل
ضرب السيف تحت كل راية مع كل أمير بر أو فاجر وهكذا وإن ورع هؤلاء الناس في طعامهم قد يكون مبالغا فيه ولكنه مهما كان الأمر يدل على مدى إهتمامهم بالحلال وتعلقهم به
ولم يكن السعى من أجل جمع المال ليحظى بتأييد أهل التقوى في مثل
هذه البيئة وقد يعترض معترض بوجود تجار أثرياء ذلك
مع بين المسلمين
والرد يأتى من المحاسبى في كتاب المكاسب فتجار هذا الزمان كأنهم لا يؤمنون بيوم | الحساب من الدخول في كل مالا يجوز والتسارع إلى كل مأثم وإلى كل مالا يجوز من المكاسب وترك ما تعهدوا به وركوب ما نهوا عنه لا يتورعون عن مكاسب أموال

٣٠٦
الظالمين ولا يجانبون أهل الرياء ولا أهل قطع الطريق والسل ثم هو يقول في كتاب آخر
الدنيا عامة تطلب فى زماننا بكل الوسائل خيرا كانت أم شرا٢ ولا نشك في أن هذه الحال التى كان عليها المسلمون قد أثارت لدى المحاسبي تأملات وأفكار شتى
ولكن الأمر مهما استفحل خطره لم يكن الباعث الحقيقى لغضبه فأهل
الورع في المطعم مهما بلغ فضلهم ليسوا سوى أهل تطرف والتجار الذين يصفهم سوف يتحملون وحدهم وزر أعمالهم أما أساس البلاء كله ومرتع الشيطان فى الدنيا فقد وجده المحاسبي في المال وتعلق الناس به۳
إنه المال الذي يدفع بالناس إلى التفريط في حقوق الله ويغريهم
غير
بالملذات الحرام التي كانت تزخر بها بغداد في ذلك العصر أن المحاسبي لم ير فى بادئ الأمر أن يحمل على التكسب لجمع المال بل إنه تردد فى ذلك ولعله ظن أن في إمكانه علاج هذه الآفة بالتحذير منها وبيان أسبابها وسبل النجاة
ولعله أيضًا ظن أن الناس قد يجتهدون فى مجانبة الأمور التي تبعدهم عن الله إن هو عرفهم بها وبأخطارها
ونعتقد أن هذا هو السبب الذي دفع به إلى مثل الأبحاث التي نرى خير تعبير عنها في كتب الرعاية و أدب النفوس و المسائل في
الزهد
1 من كتاب المكاسب من كتاب أدب النفوس
۳ من كتاب الوصايا

۳۰۷
ثم هو يرى أن الآفة ذلك باقية وشرها يستفحل والناس يطلبون مع المزيد من الملذات الجديدة كلما زادت صلاتهم بالحضارات الخارجية وبغداد تصبح السوق العامرة التي يقصدها كل طالب شهوة فيجد فيها تحقيقا لرغباته كلها يشتريها بماله
إن المال إذن أصل الفساد ورأس البلايا ويح المحب للدنيا وعندئذ يزول التردد فليس أمام الصوفي غير طريق الدعوة إلى تحريم التكسب لجمع المال أى الغنى بوصفه أداة الشيطان للتغرير بالعباد وقام بحملته في غير ما تحفظ واندلع به الغضب حتى هاجم في سورته ابن عوف نفسه الذي كان من قبل فى كتابه المكاسب يضرب به المثل في الورع ويصوره قدوة للمسلمين
وكان طبع المحاسبى أيضا من أسباب عنف حملته
ولقد كان تصوفه يزداد يومًا بعد يوم وزهده في كل مالا يقربه من الله يحكم كل فكره ولذلك نفذ صبره عندما ثبت لديه مدى الشر الذي ينتج عن جمع المال مدى تعلق الناس به لإشباع شهواتهم التي تلهيهم عن الله وفى غضب بالغ راح يحطم كل ما احتج به أعداؤه ولم يتورع في سبيل
ذلك
عن انتقاد ابن عوف ونختم هذا الفصل بنص آخر من كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي لا يكاد يفترق فى معناه عما يقول به المحاسبي في المال وجمعه
لا ننكر الخوف من إغراءات الغنى ولا ننكر أن الكثير من الناس
أن
تجنبوا الغنى خشية فتنته ورأوا أن المال الحلال أقل من القليل ويندر يخلو القلب من شهوة المال ويندر أيضا أن يقدر القلب على الاشتغال
بالآخرة مع الغنى

٣٠٨
لذلك كان الخوف من إغراءات المال سبب تجنب قدمائنا الاشتغال بالغنى ويفضلون عليه الاشتغال بالعادة والتفكر والذكر واكتفوا في دنياهم بالقليل اهـ

ومع كل ذلك فإن الصوفية على بكرة أبيهم يرون أن الأمر الحق هو
قول الله تعالى
1,
هو لكيلا تأسوا على ما فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ١ فإذا لم تستعبد الدنيا الإنسان فهو صالح وإن كان من أصحاب الملايين أما إذا استعبده المال فهو غير صالح وإن كان في المال مقل ولقد كان أبو
الحسن الشاذلى رضوان الله عليه يقول عن الدلاا
اللهم اجعلها أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا
ويقول اللهم وسع على رزقى في دنياى ولا تحجبني بها عن أخراى والمال خير وبركة إذا لم يستعمل فى معصية الله وهو شر وفساد إذ
استعمل في معصية الله وفى هذا فصل المقال
۱ آية ٢٣ من سورة الحديد

التفويض
التوكل هو الاعتقاد بأن لا شيء يكون إلا بإرادة الله
و والتفويض هو جوهر التوكل أى أظهر ما يجد العبد في الثقة بالله والتوكل مبعثه الثقة بالله فإذا ما عمر قلب العبد به انتهى إلى
التفويض
ويحل بالعبد من التفويض خير كثير في الدنيا والآخرة
فمن وهبة الله ذلك زالت عنه هموم الدنيا والخوف من العباد والطمع فيهما في أيديهم وترك النظر من المؤمن إلى حياته فهذه راحة للقلوب وفراغ منها لطاعة الله ويدل على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لرجلين فوضا أمركما إلى الله تستريحا
ويستطرد المحاسبى فى كتابه أعمال القلوب والجوارح في تحليل
التفويض فيقول
والتفويض عمل نية لا مؤنة له على القلب والبدن بل فيه الراحة
للقلب والبدن
وكيف تلحق المؤنة والهم من فوض أمره إليا لله تعالى وتبرأ من النظر إلى نفسه أو إلى أحد سوى من فوض إليه أمره
لأن من فعل ذلك من أهل الدنيا ففوض أمره إلى من اعتقد أنه يقوم به لمستريح القلب والبدن قليل الهم والغم والاهتمام والاحتيال
۳۰۹

٣١٠
فكيف بمن فوض أمره إلى الله عز وجل الملك الأعلى الذي لا يكون
شيء إلا ما أراده ودبره ولا يفوته شيء ولا يعجزه شيء
ذلك فإنه أمر بالتفويض إليه وضمن للمفوضين إليه الكفاية ومع
الماهمهم والقيام لهم بما فرضوا إليه من أمورهم
والتفويض من خالص متوكل على الله عز وجل للثقة به والمعرفة بنفاذ قدرته ورحمته ورأفته
فالتفويض الإلجاء من قلب المؤمن إلى الله تعالى في الأمور كلها التي تخاف وترجا أو يحتاج إليها من أمور الدنيا والآخرة يوم الحساب
والمريدون في ذلك رجلان
رجل اعتقد من قلبه أنه ألجأ أموره كلها إلى الله متبرئًا من الحول
نفسه والقوة من ومن الخلق إلا إلى الله تعالى ولا ينتظر لطفا ولا صنعا إلا من عنده قد طابت رسخت نفسه بالجائه الأمور إلى مولاه وهو مع ذلك على خطر أن يخدعه الشيطان فيدخل عليه النسيان والغفلة في أنه يملك أمره ولكنه عجز عنه فلجأ إلى مولاه فعند ذلك دخل عليه الشيطان
من باب من العجب دقيق لا يفطن إليه إلا العلماء الأذكياء والرجل الثاني اعتقد في قلبه أنه لا مر له ولا حول ولا قوة ولا ملك له يحتاج أن يلجئه إلى ربه ولكن ربه مالك نفسه وجميع أموره فإنما معناها بتفويضه أموره أنه فوض الأمور التي لا يملكها إلى الله عز وجل والله مالك كل شيء فالتفويض هنا عام فيقول في نفسه الأمور كلها لله بالله تكون وتتصرف فألجأت الأمور كلها إلى الله عز وجل وأنا منتظر لما يقضى ويقدر أحسن الظن به إذ من على بالانتظار لذلك أن يلط

۳۱۱
بي وينظر إلى ويحسن إلى ويختار لى فلا أمر لي فأفوضه والأمر كله لربي فقد فوضت إليه الأمور كلها وألجأتها منتظرا لصنعه ولطفه وإنما قولى أفوض أمرى إلى الله أى الذي لا أملكه وإي تسميتى لست أعنى بها ملكي إنما قولى أمرى معناه أمرى الذي أحتاج إليه من
ملك ربي لا من ملكي فهو المالك له
كقولي أحتاج إلى رزقى الذى لم أملكه بعد فكذلك يكون التفويض فهذا الذي لم تدخل عليه أى أغلوطة ووضع نفسه من العبودية حيث وضعها مولاه وأفرد الله بالربوبية والقدرة والتدبير لها دون سواه فهذا الذي يكفيه الله ويختار له
فإن غلط رجوت أن يتجاوز الله عن غلطه إذ كان الغالب على قلبه تفويض الأمور كلها إلى ربه
والمفوض مكتف مستريح ألم تسمع مولاى يقول يخبر عن قول العبد
الصالح وكيف فعل به حين فوض إليه أمره فقال وأفوض أمرى إلى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 1
فقال الله عز وجل
۱
فَوقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلَ فِرْعَونَ سُوءُ الْعَذَابِ ويسأل المحاسبي بعد ذلك عما ينال به التفويض الله فيقول بغير كبير مؤنة في قلب ولا تعب فى بدن ولا تعليم من
أحد
۱ سورة غافر آية ٤٤
سورة غافر آية ٤٥

۳۱
ولا إنفاق من مال ولا عمل من جارحة إلا المناجاة الله عز وجل باللسان بعد اعتقاد القلب
وهو أن يتفكر المريد المؤمن فى صغر قدره فى نفسه وما أزيل عنها من الطلب لشيء من نفسه أو من غيره إلا ما أعطاه مولاه ومن عليه به فيعقل من صغر نفسه وضعفها ومهانتها وقلة حيلتها وضعف جميع الخلائق ومهانتهم أنهم لا يريدون ولا يحدثون من فعل خير أو صرف مكروه إلا ما دبره المولى الكريم
ويتفكر ويتذكر أن الرب هو القادر وأنه لا إله إلا الذي لا يكون إلا ما أراد ودبر وأنه لا يعجزه شيء أراده وأنه وجميع العباد لا ينالون خيرا ولا يصرفون عن أنفسهم سوءا إلا ما صرفه عنهم
إلا من عند
ريهم
فإذا عقل علم أن الجهل منه أن ينظر إلى نفسه أو أحد سوى مولاه لنفسه على ماصنع أو عزم على طاعة أو معاش وقد فوض أمره إلى الله تعالى وبرأ نفسه من تدبير شيء من أمره
ثم يسأل كيف يجوز للعبد طلب معاش أو اهتمام لأمر دينه أو معاتبة لنفسه على ما صنع أو عزم على طاعة أو معاش وقد فوض أمره إلى الله تعالى وبرأ نفسه من تدبير شيء من أمره
فيرد على ذلك بقوله
إن ذلك لا يمنعه أن يعاتب نفسه على تفريطها ويعدلها على ذنوبها اتباعا لما أمره الله عز وجل أن يفعل ذلك بنفسه يعلم أنه لم يصر إلى ذلك
1 كتاب المسائل ص ١٤٥ ١٤٦

۳۱۳
إلا بتوفيق الله تعالى الذى فوض أمره إليه فبعثه ووفقه إلى عذل نفسه وقدر له أن يفعله
وكذلك إن عزم على أمره فى آخرته أو طلب معاشًا يقويه على طاعة ربه لم يعزم على ذلك لأن الأمر إليه ولكن من الله عليه بالعزم على ما يقرب إلى مولاه من طاعة أو معاش لا تقوم الطاعة إلا به سبحانه فهذا قبل أن يعزم يتكلف العزم ويعلم أن ذلك التكلف من مولاه فهو من به عليه فإذا عزم علم أن العزم هو من تقدير الله عز وجل وإذا طلب رزقًا أو طاعة فوض إلى مولاه أن يقدر له ذلك فإن خطر له خاطر يدعوه إلى رجاء حيلته أو تدبيره أو معونة أحد ورجع إلى انتظار المقدور من ربه فهو في طلبه كأنه ليس يطلب من قبل نفسه أو من قبل أحد من خلقه فهو
نفى ذلك
لأنه يعتقد ألا له ذلك يتم
من خلق الله
لا يركن إلى الخطرات ولا ينفيها إلا بذكر قدر مولاه وأن الأشياء كلها
۱
بیده
۱ من كتاب المسائل ص ١٤٦ - ١٤٧

الرضا
التوكل نتاج الثقة بالله فإذا ما بلغ أقصى مدارجه كان التفويض
ولكن التفويض لا يتعلق إلا بمستقبل الأمور
وإذا ما نظر العبد إلى القدر الذى كتبه الله له فقد يتخذ موقفا من
ثلاث
الغضب والسخط وهو مالا يرضاه الإسلام
- الصبر وهو فى رأى المحاسبى أقل درجات الإيمان الواجب وهو يجب على العبد وجوب الورع
1,
- الرضا بما كتبه الله وهو راحة القلب واطمئنانه إذا نظر العبد إلى ما أراده الله له
ويقول المحاسبي إن العبد ليس له ذم ما قدر له وخير له أن يرضى به فإن لم يستطع إلى الرضا سبيلا فأدنى ما يجب عليه الصبر وهناك من يعمم معنى الرضا فيطلقه على حال العبد في السراء والضراء ولكن المحاسبى لا يرى إطلاقه إلا على حال الرضا في الضراء أما قبل أن يبتلى الإنسان فحقيقة ما يجده في قلبه ليست بالرضا وإنما
نية الرضا
۱ من أدب النفوس ص
0

٣١٥
وقد سئل المحاسبي عن السبيل إلى مقام الرضا فقال
علم القلب بأن المولى عدل في قضائه غير متهم وأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه فحينئذ أبصرت العقول وأيقنت القلوب وعلمت النفوس وشهدت لها العلوم أن أجرى بمشيئة ما علم أنه خير لعبده في اختياره ومحبته وعلمت القلوب أن العدل من واحد ليس كمثله شيء فخرست الجوارح من الاعتراض على من قد علمت أنه عدل في قضائه غير متهم فى حكمه فسر القلب من قضائه ۱
فالرضا هو راحة القلب واطمئنانه والناس تختلف أحوالهم في الرضا
يقول أهل التصوف المسلمون
إن العبد الذي أنعم الله عليه بالرضا لا يشتهى شيئًا ولكنهم يقولون - وهذا رأى المحاسبي أيضا
إن من تصل الرضا فى قلبه قد يطلب فضل ربه ولا يكون في طلبه نفى
للرضا
ويسرد المحاسبى أفضالاً ثمانية قد يطلبها العبد من الله الرضا مع بقضائه منها الشفاء من المرض أو زوال الفقر أو العون على بعض ظروف تعوق عن كمال العبادة
ولكن هناك أيضًا من يطلبون من الله أن يزيد من ابتلائهم٢ والمحاسبي يرى أن من يسكت على بؤس الأمة الإسلامية محتجا بالرضا فهو ضال وأن من يحرم الدواء في حال المرض فهو ضال وأن من
۱ من حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني جـ ۱۰ ص۸۹
٢ أوتوسبيس مجلة إسلاميكا جـ ٦ ص ٢٨٣ - ٢٨٦

٣١٦
لا
يرجو من الله شيئا فهو ضال وأن من يكف عن طلب زوال الذنوب
وأسبابها فهو ضال
يقول الهجويري إن المحاسبى يعتبر الرضا حالا لا مقاما وهو يعرف الرضا من وجهة نظر المحاسبي بأنه راحة القلب ثم يقول وذلك رأى صحيح فراحة القلب واطمئنانه ليسا الصفات من المكتسبة في الإنسان وإنما هي من نعم الله عليه۱ ولا تجادل فيما يقرره الهجويرى من أن المحاسبي يعتبر الرضا حالاً وقد يكون ذلك صحيحًا خاصة أن ذكرنا مرة أخرى ما يقوله الهجويرى نفسه من أن المحاسبى لا ينفى صفة الدوام في الأحوال غير أننا نود الإشارة إلى أن حديث المحاسبي عن الرضا لا يبين منه
هذا بل هو يعرض له ضمن المقامات وكأنه واحد منها ثم إننا نجد في حلية الأولياء - وقد ذكرنا هذا النص آنفًا – أن سائلاً يسأله فكيف السبيل إلى مقام الرضا
ويجيب المحاسبي على السؤال بإيضاح السبيل دون أن ينفي كون
الرضا مقاما
1 الهجويري كشف المحجوب ترجمة نيكولسون ص ١٨٠

المحبة
إن فكرة المحبة بين الله والعباد ليست بالفكرة الغريبة عن الإسلام بل إن الكثير من الآيات القرآنية تحدثنا عن محبة الله لعباده ومحبة عباده له
02
مثال ذلك
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا مَنْ يَرتد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على المؤمِنِين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجاهدون في سبيل الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
واسع عليم ۱
وقوله سبحانه
آمنوا
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحبونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ أَشَدُّ حُبَا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوةَ
جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ
ونعتقد
أنه من هذه الآيات وغيرها نبع مفهوم الحب الإلهى لدى
صوفية الإسلام
ويقول المحاسبي بأن محبة العبد الله أصلها في محبة الله للعبد ولا نجد تعبيرا عن فكر المحاسبى فى هذا المجال خيرا من حديثه في فصل في المحبة الذي أورده أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء
يقول المحاسبي
۱ المائدة آية ٥٤
البقرة آية ١٦٥
۳۱۷

۳۱۸
بهم
إن أول المحبة الطاعة وهى منتزعة من حب السيد عز وجل إذ كان هو المبتدئ بها وذلك أنه عرفهم نفسه ودلهم على طاعته وتحبب إليهم على غناه عنهم فجعل المحبة له ودائع فى قلوب محبيه ثم ألبسهم النور الساطع فى ألفاظهم من شدة نور محبته في قلوبهم فلما فعل ذلك عرضهم سرورا بهم على ملائكته حتى أحبهم الذين أرضاهم لسكن أطباق سمواته نشر لهم الذكر الرفيع عن خليقته قبل أن يخلقهم مدحهم وقبل أن يحمدوه شكرهم لعلمه السابق فيهم أنه يبلغهم ما كتب لهم وأخبر به عنهم ثم أخرجهم إلى خليقته وقد استأثر بقلوبهم عليهم ثم رد أبدان العلماء إلى الخليقة وقد أودع قلوبهم خزائن الغيوب فهى معلقة بمواصلة المحبوب فلما أراد أن يحيبهم ويحيى الخليقة بهم أسلم لهم هممهم ثم أجلسهم على كراسى أهل المعرفة فاستخرجوا من المعرفة المعرفة بالأدواء ونظروا بنور معرفته إلى منابت الدواء ثم عرفهم من أين الداء
مهیج
وبم
يستعينون على علاج قلوبهم ثم أمرهم بإصلاح الأوجاع وأوعز إليهم في الرفق عند المطالبات وضمن لهم إجابة دعائهم عند طلب الحاجات نادى بخطرات التلبية من عقولهم فى أسماع قلوبهم أنه تبارك وتعالى يقول
من فقدی فداووه وفارا من خدمتي
يبيح
المحبة
يا معشر الأدلاء من أتاكم عليلا فردوه وناسيا لأيادي ونعمائى فذكروه لكم خاطبت لأنى حليم والحليم لا يستخدم إلا الحلماء ولا للباطلين ضنا بما استأثر منها إذ كانت منه وبه تكون فالحب الله هو الحب المحكم الرصيد وهو دوام الذكر بالقلب واللسان الله وشدة الأنس بالله وقطع كل شاغل شغل عن الله وتذكار النعم والأيادى وذلك أن من عرف الله بالجود والكرم والإحسان اعتقد الحب له إذ عرفه بذلك أنه عرفه بنفسه وهداه لدينه ولم يخلق في الأرض شيئًا

۳۱۹
إلا وهو مسخر له وهو أكرم عليه منه فإذا أعظمت المعرفة واستقرت
هاج الخوف من الله وثبت الرجاء
ويقول المحاسبي في ماهية هذه المحبة
فالحب الله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه
فالحب هائج غالب والخوف لقلبه لازم لا هائج إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية وهدى لأركان شدة الخوف وحل الأنس بقلبه الله فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا
وما فيها ١
ويقول
وذلك أن الحب إذا ثبت في قلب عبد لم يكن فيه فضل لذكر إنس ولا جان ولا جنة ولا نار ولا شيء إلا ذكر الحبيب وذكر أياديه
وكرمه
ثم يقول
الشوق عندى سراج نور من نور المحبة غير أنه زائد على نور المحبة الأصلية والمحبة الأصلية عنده هي حب الإيمان
ويقول
وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه يحسن الدلالة عليه وما يوحى إلى قلبه فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه فأبين
۱ الحلية
نے
۱۰
ص

۳۰
شواهد المحبة الله شدة التحول بدوام الفكر وطول السهر بسخاء الأنفس على الأنس بالطاعة وشدة المبادرة خوف المعالجة والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة فلذلك قيل إن علامة الحب الله حلول الفوائد من الله بقلوب
من
۱
اختصه الله بمحبته اهـ
ويقول أيضًا
أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله كل عمل عمله بالإخلاص لله والإشفاق عليه من عدوه
وإن قل لك فهو المقبول إذا كان على حقيقة التقوى معمول كما قال على بن أبي طالب عمل صالح دائم مع التقوى وإن قل وكيف يقل ما يتقبل وذلك أن المحب الله هو على الركن الأعظم من الإيمان الذي يمكن أن يستكمله العبد ولا يحسن به ادعاؤه وهو ركن المعرفة بالنعم وإظهار الشكر للنعم٢
ويقول
المنقطع إلى الله عز وجل عن خلقه ظاهره ظاهر أهل الدنيا وباطنه باطن المجلين الهائبين لربهم لأنه صرف قلبه إلى ربه فاشتغل بذكر رضاه عن ذكر رضا خلقه فطاب فى الدنيا عيشه وتطهر من آثامه وأنزل الخلق بالمنزلة التي أنزلهم ربهم عبيدا إذ لا يملكون له ضرا ولا نفعا فآثر رضاء الله على رضاهم فسخت نفسه بطلب رضی الله وإن سخط خلق الله يرضى الله بسخط كل أحد ولا يسخط الله برضی أحد خلقه فملاك من أمره في جميع ذلك ترك الاشتغال والتثبيت المراقبة الرقيب عليه۳
۱ الحلية جـ
۱۰
ص ۷۹
الحلية جـ ١٠ ص ٨٤
جميع
۳ الحلية جـ ١٠ ص ٨٦

۳۱
ويقول
علامة أهل الصدق من المحبين وغاية أملهم في الدنيا أن تصبر أبدانهم على الدوام وأن تخلص لهم النيات من فسادها ومنهم من يريد في الدنيا رعة الإجابة وغاية أملهم في الآخرة أن ينعمهم
شواهد الكرامات عند سر بنظره إليهم فنعيمها الإسفار وكشف الحجاب حتى لا يمارون في رؤيته والله ليفعلن ذلك إذا استزارهم إليه۱ بهم
ولكن هناك ما يهدد النور فى قلب العبد بالانطفاء
وإنما مهیج الشوق في القلب من نور الوداد فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به وليس يطفى ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان فإذا أمن على العمل من عدوه لم يجد لإظهاره وحشة السلب فيحل العجب وتشرد الدعوى وتحل العقوبات من المولى وحقيق على من أودعه الله مع وديعة من حبه فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان يسرع به السلب إلى الافتقاد
النفس
والخوف والرجاء يجب أن يلازما قلب المحب على الدوام خوف لماذا
ورجاء لماذا
يقول المحاسبي
خوفًا لما ضيعوا في سالف الأيام لازماً لقلوبهم ثم خوفًا ثابتاً لا يفارق قلوب المحبين خوفًا أن يسلبوا النعم إذا ضيعوا الشكر على ما أفادهم فإذا تمكن الخوف من قلوبهم وأشرفت نفوسهم على حمل القنوط عنهم
۱ الحلية جـ ١٠ ص

YA
الحلية جـ ١٠ ص

۳
عند
هاج الرجاء بذكر سعة الرحمة من الله فرجاء المحبين تحقيق وقر بانهم الوسائل فهم لا يسأمون من خدمته ولا ينزلون في جميع أمورهم إلا أمره لمعرفتهم به أنه قد تكفل لهم بحسن النظر ۱
VV
۱ الحلية جـ
ص

موت المحاسبي
قال المحاسبى ساعة موته لمن حوله
إن رأيت ما أحببت بسمت لكم وإن رأيت ما لا أحب وجدتموه على
وجهی
وقال رجل ممن شهدوا موته رأيته يبتسم ثم يموت1
۱ الخطيب البغدادی تاریخ بغداد جـ ٨ ص ۱۱ - ۱۸
۳۳

خاتمة
نود أن نعرض هنا للمسائل العامة التى أدى بحثنا هذا إلى تصحيح أو إضاءة جديدة لبعض جوانبها
وأولى هذه المسائل تتعلق بالفرق بين التصوف الإسلامي والتصوف
المسيحى ويتحدث الأستاذ باستيد R Bastide عن هذا الأمر في مؤلفه مشاكل الحياة الصوفية Probleiues de Lavie Myztigne
والأستاذ باستيد لم يعكف على دراسة التصوف الإسلامي دراسة مباشرة متعمقة غير أن الآراء التي يقدمها في جرأة لن تعدم أن تجد طريقها للتأثير على القراء غير المتخصصين فالمؤلف يقول في معرض الحديث عن نظرية موريزييه Meurizier التي تقرر أن الزهد ينتج آليا عن
ضعف عضوى معين
لاشك أن هذه النظرية صحيحه فيما يتعلق بالأشكال الدنيا من التصوف وهى صحيحة إلى حد ما بالنسبة للتصوف الهندى وللتصوف الإسلامي ثم يستطرد شارحًا فيقول أما المسيحى فهو يحذر على حد سواء جانبي الإسراف من تخمة أو ضعف وينبغي تحاشى الخلط بين التفاني في التأمل ونوبة الضعف من الجوع ولما كانت القديسه تريزا ترى من راهباتها هزالا كانت تجبرهن على الازدياد من الطعام فالشيء الذى يجب تجنبه ليس هو الغذاء
٣٢٤

٣٢٥
الصحيح ولكنه الشره والشيء الذى يجب النهى عنه ليس النوم الشافى
ولكنه الكسل
ونريد
الضعف ويوصى
أن نوضح هنا أن دفاع الأستاذ باستيد عن التصوف المسيحي أمام نظرية موريزييه يكاد يكون مطابقا لفكر المحاسبي الذي لا يختلف في هذا المجال عن فكر القديسة تيريزا فيما يتعلق بصحة الإنسان العامة فقد كان هذا الصوفى ينصح بالنوم عند التعب وينهى عن الصوم عند بأن يأخذ كل إنسان حاجته من الطعام الذي يلائم تكوينه البشرى وكان يقول بأن الدعوة إلى الإكثار من الأكل ذنب ولكنه يقول بأن الدعوة إلى الجوع هى أيضًا ذنب وهو يتحدث في كتاباته عن النتائج الضارة التى ينتهى إليها الجوع ونؤكد أن نظرية المحاسبي كانت تجنب الشره لا النهى عن الطعام المقوى والابتعاد عن الكسل لا رفض النوم الشافي

يرى الكثير من المؤلفين أن فكرة وحدة الوجود منتشرة بين غالب الصوفية ولكن ادعاءهم هذا لا يعتمد على تحقيق دقيق للأمر فالقسيس لامنس Lammens مثلا - في كتابه الإسلام – يذكر الأنطاكي وبشر الحافي والمحاسبي وسرى السقطى والترمذى وأبا يزيد البسطامي ويقول إن نظرياتهم تؤدى إلى فكرة وحدة الوجود ولا نريد هنا أن نناقش ما يراه بالنسبة إلى كل من الصوفية المذكورين الذين كانوا بعيدين كل البعد عن وحدة الوجود ونكتفى بأن ننبه القارئ إلى ما فصلناه فيما سبق من أن المحاسبي كان يعارض في صرامة هذه النظرية وينفيها في عنف عنيف

٣٢٦
خصص جولد تزيهر Goldziher - في كتابه عقيدة الإسلام وشريعته
فصلا للتصوف الإسلامي
هذا ما نرجحه من
والآراء المقدمة في الفصل المذكور لا تعتمد على بحث واف بل هي في اعتقادنا خاطئة فى غالب ما تذهب إليه ولعل سبب تبنى جولد تزيهر لأفكار تشبع بها قبل الدراسة العميقة بشأن التصوف الإسلامي أراد تطبيقها – دون تمييز – على كل أهل التصوف الإسلامي
فإذا ما قلبنا صفحات هذا الفصل وجدنا منهجه يتلخص في تناول

شخصية صوفية معينة تحقق في بعض نواحي مذاهبها ما ير غب المؤلف إثباته ويخرج من تحليل بعض جوانبها إلى تأكيد النظرية التي يبغيها ثم هو يختار شخصية أخرى يخرج من دراستها إلى رأى تال ومجموع النتائج يطلقه في جرأة على الجميع مثال ذلك أنه ابتداء من نصوص لشقيق أن يذكر اسمه - ينطلق إلى تعميم مذهب التوكل تم هو يتخذ من جلال الدين ومن ابن الفارض مطية لنظريات أخرى يقدمها على أنها من علائم الفكر الصوفى عامة ولو اتبعنا منهج جولد تزيهر هذا لاستطعنا في غير ما عناء جمع نصوص وفيرة تقول عكس ما يدعيه
دون
وفيما يتعلق بآرائه الخاصة بالتأثيرات الخارجية على التصوف الإسلامي نكتفى بإرشاد القارئ إلى كتاب الأستاذ ماسينيون - Maseignon
دراسات
ونشير بوجه خاص إلى مسألة التأثيرات الهندية التي أوضح الأستاذ ماسينيون مداها المحدود الذي لم يكن له وجود قبل القرن الرابع الهجرى ونريد هنا أن نعرض لما يصفه جولد تزيهر بـ الفكرة المميزة التي
تتجلى بوضوح في التصوف خلال هذا العهد القديم وهي التوكل

۳۷
مع
والمؤلف يرى أن التوكل يمثل الموقف الزاعم بأن الثقة في الله تتعارض العمل بل إن العمل ذنب ويمكن القول بأن رأى جولد تزيهر رأى خاطئ إذ ألقى على علاتة تعميماً في التصوف الإسلامي ولقد عرضنا فيها سبق كيف أن المحاسبى انتقد شقيقا فى التوكل ثم كيف أنه لم يكن ينظر إلى التوكل أو حتى إلى التفويض على أنها يمكن أن يعوقا الإنسان عن السعى للرزق بل كان يقول بوجوب السعى على الإنسان
ولم يكن بالصوفى الوحيد الذى يدعو إلى هذا فبجانبه وعلى نفس الطريق نرى الترمذى والتسترى والثورى وغيرهم كثيرين وإذا أردنا
لا مثلا من عصر حق فأمامنا ابن عطاء الله السكندرى وهناك أمر هام فات جولد تزيهر وهو يكذب نظرية جولد تزيهر تكذيبا صارحًا فيما يتعلق بشقيق نفسه وذلك أن شقيقا كان مجاهدا من كبار المجاهدين وكان لا يخرج من موقعة إلا إلى موقعة فكيف يمكن أن يقال إن شقيقا يرى تعارضا بين بين التوكل والعمل
وهناك مسائل أخرى خاصة بالتصوف الإسلامي يتعرض لها جولد
تزهر وينهج فيها نفس النهج من التعميم مثال ذلك التفسير الباطني للنصوص ونؤكد أن المحاسبى لم يتجة قط إلى هذا التفسير ولا نجد له أثرا في مؤلفاته
米米米
عرضنا في فصول كتابنا هذا للأسباب التي أدت إلى رد الفعل الصوفي في عصر المحاسبي ورأينا أنها كانت تتعلق بالمجتمع وظروفه ولكننا بينا من ناحية أخرى أن المحاسبي كان مسلما صادق الإسلام بل كان من الذين يحرصون على التعلق بالنصوص وبالتعاليم الأخلاقية التي فرضها

۳۸
الدين وفى هذا المجال نؤيد كل التأييد رأى الأستاذ ماسينيون إذ يقول في كتابه دراسات
من سمات المحاسبي المميزة أنه - وهو الباحث العالم بكل أسرار المسائل الفقهية - ينطلق فى فكره من تصور للتقوى بالغ البساطة بل هو - في كتاب التوهم - يأخذ بأفكار الحشوية في نهاية العالم ومصير
الإنسان
والإسلام الذي يتعلق به المحاسبي في كل أمر ولكل أمر يشمل سائر جوانب نشاط المجتمع ويحتويها جميعًا سواء فى مجال السياسة أو التشريع أو الأخلاق أو العلم فهو يسيطر على كل ما ظهر من هذا المجتمع في حيز
الحياة
فإذا قلنا من ناحية بأن الأسباب التى تؤدى إلى رد الفعل الصوفي تتعلق بالظروف الاجتماعية ثم قلنا من ناحية أخرى بأن آراء ومواقف الصوفي الذي اتخذناه موضع بحثنا تحدها وتحددها ظروف مجتمعه فهل يترتب على ذلك أن ننتهى إلى القول بأن التصوف مسألة يختص بها علم الاجتماع
دون سواه
سوف نعرض لهذا فيما بعد
تحدثنا أيضًا عن التأثيرات الأجنبية وأكدنا أن لا وجود لها بالنسبة إلى المحاسبي ومنهجه في التفسير وتعلقه الشديد بالنصوص لا يسمحان بالقول بغير ذلك
وقد يسأل سائل ألم تكن هناك تأثيرات أجنبية على أهل التصوف الإسلامي نحن لا ننفى ذلك فمن المحتمل أن بعض المفكرين تأثروا بالتيارات الخارجية كما لا شك أنهم بدورهم أثروا في هذه التيارات ولكن

۳۹
لماذا الرغبة الملحة فى ربط سائر الصوفية المسلمين بها وإطلاقها عليهم عامة بينها المنطق والواقع يدعوان إلى كثير من الاحتياط والتحديد في عصر المحاسبي كانت الكتب الأجنبية المترجمة وفيرة ولكن في هذا العصر عاش رجال من أمثال مالك وابن حنبل لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بوقوعهم تحت تأثيرات خارجية
غير
333
أن بعض الكتاب يريدون قسرًا أن يثبتوا تأثير التصوف المسيحي على متصوفى الإسلام وعلى رأس هؤلاء القسيس لا منس الذي لا يأبه في سبيل تحقيق غايته بأي نص أو سند صحيح وهو يكاد يقول بأن الغزالي كان مسيحيا
وهناك محققون ومستشرقون ما زالوا إلى عهد قريب يناقشون مثل هذه الآراء الهزيلة بالرغم مما أوضحه الأستاذ ماسينيون من دراسته في جلاء أن القرآن هو منبع التصوف الإسلامي سواء في عهده الأول أو في مختلف مراحل تطوره
ونعتقد أن المسألة لم تعرض للآن عرضًا صحيحا وهذا سبب الجدل الكثير الذي لم يأت بنتائج يقينية فالمؤلفون لا يدرسون شخصية صوفية بالذات لمعرفة ما إذا كانت واقعة تحت تأثيرات أجنبية أم لا بل هم في غالب الأمر يتخيرون شخصية يرون أنها قابلة لأن تكون سندا لنظرياتهم ومنها ينطلقون في التعميم والتأكيد دون مبالاة بما قد يعترض رأيهم الذي تشبعوا به من قبل ثم يعممون الأمر ويطلقون الحكم لذلك نؤمن بأن المسألة ليست هى هل هناك تأثيرات أجنبية على التصوف الإسلامي وما هي هذه التأثيرات
لكن هل كانت هناك تأثيرات على هذا أو ذاك من أهل التصوف وما مداها

ذلك هو الوضع الصحيح للمسألة ولن ينكر أحد أن بعض المتصوفين المسلمين وقع تحت تأثيرات خارجية شكلية تختلف في مصادرها باختلاف كل شخصية
أجل كانت هناك تأثيرات خارجية على فلان و فلان من المتصوفين قلة قليلة تأثرت لا في الجوهر وإنما في الأشكال
ولكن الأمر لا يجب أن يقف عند هذا الحد فى البحث والتقصى ونريد أن نخرج إلى رأى آخر ألا وهو أن المسألة نفسها – سواء في صيغتها التي عارضناها أو في تلك التي قدمناها - مسألة تعتبر خاطئة لا أساس لها إن أريد بها وصف الصوفية باعتبارهم أهل تصوف فالجانب المشترك لدى المتصوفين جميعا غير قابل بطبيعته لأي تأثير
ونحن لا نجادل فى أن رجالاً قد تأثروا بتيارات خارجية معينة غير أنهم تأثروا بها كمؤلفين أصحاب نظريات يتحدثون إلى أهل عصرهم
لا باعتبارهم متصوفين
وهذا العنصر الغير قابل لأى تأثير خارجي هذا العنصر الذي يشترك فيه المتصوفون جميعًا هو الذى سوف نحاول تحديده وتعريفه أي أننا نضع على بساط البحث السؤال التالى ما هو تعريف التصوف
قد

يجول بالخاطر بادئ ذي بدء أن التصوف هو القول بوحدة الوجود
وقد يرد ذكر الجذب Exface على أنه الحالة الوجدانية التي يعتبرها الكثيرون جوهر التصوف ولا نرى خيرًا من حديث ديلاكروا H Dela croix نسوقه هنا لتحيح هذه الفكرة

۳۳۱
ظن أغلب علماء النفس أن هذه الحالة هي المميزة للمتصوفين
المسيحيين يعودون إذ يخرجون منها إلى وضع عامة المسيحيين وأمن بعض علماء الدين على هذا الرأى ولكنه رأى يتعارض في الواقع لأصالة كبار المتصوفين المسيحيين هؤلاء الذين استبدلوا الجذب Exface هذا الحال المتقطع الذى لا يدوم - بتصوف دائم متناسق وإن تبدل الشخصية الذي يصلون إليه لا يمكن أن يتأتى إلا تدريجيا في مراحل يعتبر الانجذاب أدناها
ورأى آخرون ضعف التعريفات التي تلجأ إلى نظرية في الإلة أو إلى الانجذاب فراحوا يحاولون وصف التصوف بأنه منهج حياة وقال بهذا مؤرخون للتصوف كما قال به بعض المتصوفين أنفسهم فالنوري مثلا يقرر
ليس التصوف رسومًا ولا علومًا ولكنه أخلاق ولكن هناك سؤال يترتب بالضرورة على هذا التعريف وهو أى منهج من مناهج الحياة فالاختلافات كثيرة ولا يستهان بها بين مناهج حياة المتصوفين ومرجع هذه الاختلافات في غالب الأمر تباين البيئات والأديان فالزواج مثلا عند المسلمين لا يخل بحب الله وجل متصوفى الإسلام كانت لهم نساء وذرية وتناول الخمر وأكل وأكل لحم الخنزير يحر مهما الإسلام بينما يرى المسيحيون أن شرب الخمر فى طقوس القربان وسيلة إلى التقرب من المسيح كذلك استخدام الطيب عند أتقياء المسلمين لا يدرك مغزاه الحقيقي بعض الباحثين الغربيين ومنهم جولد تزيهر في حديثه عن التقوى وأمثلة اختلاف مناهج الحياة عديدة لذلك لا يمكن قصر التعريف للتصوف على أنه منهج حياة

وإذن فلا نلمس لدى أهل التصوف وحدة فى النظريات ولا تشابها في

۳۳
السلوك غير أننا نستخلص من حديث الجميع وسلوكهم أن في قلب كل منهم صراعًا إنه صراع ينتج عن سعيهم إلى منع الغرائز من إشباع شهواتها وعن تطلعهم إلى التنزه عن هذه الدنيا هناك دائما صراع بين الروح - مبدأ الخير في الإنسان - وبين النفس – مبدأ الشرفية وكتاب بدأ من أناب إلى الله للمحاسبى يجلى لنا هذا الصراع المأسوى الذي لا ينتهى فى أعماق البشر وكثيرًا ما يحدثنا المحاسبي عنه في مؤلفاته وهو القائل خير الناس معرفة بالله أتعبهم قلبًا وأكثرهم هما وليس المحاسبي بالمتصوف الوحيد الذي يحدثنا عن هذا الصراع ولكننا نتخذه هنا مثالا للتصوف الإسلامي
فإذا ما تحولنا إلى التصوف المسيحى لوجدنا القديسة تريزا لا تهدأ من الصراع الداخلي ولا تجد الراحة وبلسم القلق إلا في الرؤى التي تأتيها والقديس بولس أيضا ينوء كاهله بحدة الشهوات فيستصرخ في عذابه من يخلصنى من جسد الأموات هذا ولا عجب أن يكون الصراع أعنف وأشد ضراوة في التصوف الهندى وهو الذي يبدأ بالقضاء على كل الشهوات
سمی
ما هذا الصراع الداخلي هو منبع بالمقامات الصوفية تلك المقامات التي ليست في الحقيقة سوى مواقف معينة بالنسبة إلى الله والقدر والعالم الغرائز تطلب إشباع شهواتها ولكن فى إرضائها ارتكاب للذنب لذلك وجب بادئ ذي بدء اتخاذ موقف حاسم فيما يتعلق بالحلال والحرام وهذا هو الورع - أول المراحل التي يمر بها المتصوفون المسلمون بعد التوبة ولكن الإنسان غير منزه من الخطأ وقد يصل به الأمر إلى تخيل الحرام في كل شيء ويلتهب حينئذ الصراع ويشتد عنفا أهذا حلال

۳۳۳
أذاك حرام كيف السبيل إلى البقين وفى مثل عصره الفاسد - وكل
عصر إن عاش فيه صوفى فهو في عينيه فاسد

في مثل هذا العصر لابد
من الوصول مهما غلا الثمن إلى الزهد في الدنيا
وهنا نجد سؤالا يفرض نفسه علينا وما هو الزهد أليس هو أيضًا موقفا معينًا يتخذ تجاه متاع الدنيا
وهكذا ننتهى إلى أن ما سمی به المقامات الصوفية ليس في الواقع سوى مواقف تنتج عن الصراع المذكور
ثم إن هذا الصراع لا يقتصر على فترة محدودة من حياة الصوفي إنه صراع دائم فالكمال غير محدود ومن ظن أنه وصل إليه وجد نفسه أمام درجة أرفع منه يقول الحديث الشريف لو كان إيمان عيسى أقوى لطار في السماء بدلاً أن يمشى على الماء وغرائز الإنسان لا يمكن القضاء من عليها تمام القضاء فإن انهزمت استكانت حتى تجد فرصة للتوثب هذا ما يقول به المحاسبى أما القديسة تريزا فتعلن أن الشيطان دائم الكيد للروح الساعية إلى الله حتى يعيدها إلى أدنى المدارج التي بدأت منها
سعيها وإنما الشيء الذي يميز صراع الصوفى من غيره هو الهدف الذي يبغيه هذا الهدف هو النجاة ولا يجادل أحد في أن مفهوم النجاة يختلف باختلاف الأديان التي ينتمي إليها المتصوفون أو باختلاف الدرجات التي يصل إليها هؤلاء المتصوفون من الثقافة والعلم فهو قد يكون بالنسبة إلى البعض تفان في الحب الإلهى بينما نجده بالنسبة إلى غيرهم في مرضاة الله ولكن وحدة الهدف تبقى هيهى عبر المتغيرات النجاة
وهناك
صور مختلفة للصراع الصوفى
فإذا ما اشتدت الشهوات وقويت الغرائز ظهر النمط الذى
يرسمه لنا

٣٣٤
أناتول فرانس A France في باففنو شخصية Pahnucer ونريد تأكيد أن
با فنوس
=
قبل انهزامه وسيطرة غرائزه عليه

كان يسير على نهج
صوفي تماما كالصانع الذى يتحول إلى فلاح فلا يلغي هذا أنه كان من قبل صانعا وفي بعض الأحوال الأخرى يؤدى هذا الصراع إلى الجنون وحالة الجنون لا يمكن أن تلغى مع ذلك الصفة السابقة لها فالفيلسوف الذي
يفقد صوابه لا ينفك يوصف بأنه كان فيلسوفا
فهل سمة التصوف المميزة إذن هي أنه صراع
لسنا نحن وحدنا بالذين يرون هذا الرأى بل نعتز بأنه أيضا رأى أحد كبار متصوفى الإسلام وهو السهر وردى صاحب عوارف المعارف والسهروردى لا ينظر إليه على أنه تعريف معين يسرده بين مختلف
ما قيل في تعريف التصوف ولكنه يعتبره شاملا لكل ما قيل
وإلى القارئ نص حديث السهروردي وأقوال المشايخ فى ماهية التصوف تزيد على ألف قول ويطول نقلها ونذكر ضابطًا يجمع جمل معانيها فإن الألفاظ وإن اختلفت متقاربة المعاني
فنقول
الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفى الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوائب النفس ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه فبدوام الافتقار ينقى من الكدر وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى
ربه
فبدوام تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائم بر به على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ اللَّهِ شُهَدَاءَ

٣٣٥
بِالْقِسْطِ ۱ وهذه القوامية الله على النفس هي التحقق بالتصوف
قال بعضهم التصوف كله اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوف والسرفيه أن الروح مجذوبة إلى الحضرة الإلهية يعنى أن روح الصوفي متطلعة منجذبة إلى مواطن القرب وللنفس بوصفها رسوب إلى عالمها و انقلاب على عقبها
ولابد للصوفى من دوام الحركة بدوام الافتقار ودوام الفرار وحسن التفقد لمواقع إصابات النفس ومن وقف على هذا المعنى يجد في معنى التصوف جميع المتفرق في الإشارات۱

ولكن ما جدوى هذا التعريف للتصوف
إنه يوفق بين مفهومين في التصوف أولهما القائل بأن التصوف ليس سوى نوع من الفردية المتصاعدة
وثانيهما المفهوم الاجتماعي للتصوف
فالصراع الصوفي صراع فردى لا جدال في ذلك
بيد أن الإنسان الذى يثور في داخله هذا الصراع يبقى بعد ذلك خاضعا للمؤثرات الدينية والاجتماعية باعتباره صاحب عقيدة ومذهب۳
۱ المائدة ۸
عوارف المعارف جـ ۱ ص ۰۸
۳ لقد كتب الدكتور عبد الحليم محمود بعد ذلك بسنوات كتابات مستفيضة عن التصوف وعن الصوفية ونشرت هذه الأبحاث في عدة كتب وكان البحث الذي كتبه في تعريف التصوف ونشره في كتاب المنقذ من الضلال الذى حققه ونشره مع دراسات عن التصوف من أوفى الأبحاث وأدقها في هذا الشأن

٣٣٦
وبعد فلعلنا بهذه الرسالة قد ألقينا الضوء على شخصية الصوفي الشهير المحاسبى وأبرزنا جوانب فكره الرصين
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين
YJ

محتويات الكتاب
الصفحة

٥٤

۹
۱۰۱
۱۱۱
۱۳
۱۷
۱۳۸
١٥٣
11
١٦٣
مقدمة
الباب الأول المحاسبي
البيئة التي عاش فيها المحاسبي التأثيرات الأجنبية
الأبحاث الخاصة بالمحاسبي
منهجه في التفسير
الباب الثاني في العقيدة
مفهوم فكرة الله
الله والعالم
موقف المحاسبي من الفرق
المحاسبي والمذاهب
الفرض والنفل
القيامة في تصور
المحاسبي
الباب الثالث الأخلاق عند المحاسبي
النظرية الأخلاقية النفسية عند المحاسبي
الطبيعة الإنسانية والنجاة
۳۳۷

۳۳۸
المرشد
الله والعمل الصالح
الخير
مراقبة الذات المحاسبة
مرتكب الذنوب والطريق النفساني إلى النجاة
الرياء يحبط عمل الخير
عناصر الشر
آفات النفس
الغرة
الحسد
السلوك اليومي
التوكل
الورع
الزهد
التفويض
الرضا
الباب الرابع نظرية الزهد والتصوف
المحبة
موت المحاسبي
الخاتمة
الصفحة
١٦٥
١٦٨
۱۷۰
۱۸۰
١٨٤
٢٠٤

۵۹
٢٤٦
٢٦٢
۷۰
۷۷
۹
٢٩٥
۳۰۹
٣١٤
۳۱۷
۳۳
٣٢٤