Go Back





M
فلسفة من جميل
حلفيل
للإمام الأكبير
الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ الأزهر
دار الكتاب المصرى
القاهرة
الناشرون
دار الكتاب اللبناني
بيروت

فلسفة النطفيك
وَرِسَ اللهُ حَنُ بن يقظان
تأليف وتحقيق فضيلة الإمام الأكبير الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ الازهر
دار الكتاب اللبناني
مكتبة المدرسة
بيروت - لبنان
باروت - لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أيب

وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة جنونه ويقول لقد أفرطت في تحقيقك وتدقيقك حتى أنك قد انخلعت عن غريزة العقلاء واطرحت حكم المعقول فإن من أحكام العقل أن الشيء إما واحد وإما كثير فليتند في غلوائه وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه
أشخاص
وأما قوله حتى الخلعت عن غريزة العقلاء واطرحت حكم المعقول فنحن نسلم له ذلك ونتركه مع عقله وعقلائه فإن العقل الذي يعنيه هو وأمثاله إنما هو القوة الناطقة التي تتصفح الموجودات المحسوسة وتقتنص منها المعنى الكلي والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله فليد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها وليرجع إلى فريقه الذين يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
ابن طفيل

مقدمة
يضعنا التاريخ مباشرة وجها لوجه أمام ابن طفيل صاحب رسالة لا حي بن يقظان وهو في طور النضج والاكتمال العلمي دون أن يحدثنا عن نشأته أو يصور لنا شيئاً من بدايته
ويصمت التاريخ كذلك أو يقلد ابن طفيل في صمته فلا يكاد يذكر عنه شيئاً حتى بعد أن بلغ القمة ووصل إلى مرتبة الوزارة وكل ما أثر عنه لا يكاد يتعدى بضع صفحات تضمن معظمها كتاب و المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشني وكتاب مركز الإحاطة بأدباء غرناطة للسان الدين بن الخطيب وهذا الذي ذكر على قلته به أخطاء
تاريخية وفلسفية أرشدنا إلى معرفتها رسالة حي بن يقظان نفسها

ولقد أجهد الأستاذ ليون جوتييه نفسه مشكوراً في تقصي الأخبار عن ابن طفيل وجمعها ومع ذلك فلم يكد يتيسر له إلا ما جاء في الكتابين السابقين ومع قلة هذه المصادر فقد أخذ الأستاذ جوتييه في دراستها ووصل منها إلى نتائج ذات قيمة لخصت أو اقتبس منها الكثير في المقدمة النفيسة التي كتبها الأستاذان الجليلان جميل صليبا وكامل عياد الرسالة حي بن يقظان
وإذا كان التاريخ القديم قد مر في سرعة خاطفة بحياة ابن طفيل فلم يسجل منها إلا القليل فإن المصادر الحديثة كذلك تكاد تقتصر على

ما كتبه الأستاذ ليون جوتييه
والحق أن هذا الأستاذ قد قدم إلى العلم وإلى ابن طفيل خدمة عظيمة فإنه قد ألف كتاباً في حياته وفلسفته وفضلا عن ذلك فقد قام بترجمة رسالة حي بن يقظان إلى الفرنسية بعد أن حققها تحقيقاً علمياً من ناحية النص واختلاف الطبعات والمحفوظات أن الأستاذ ومع قد جوتييه صحح بعض الأخطاء التي وقع فيها الكثير من المستشرقين في دراساتهم العابرة لابن طفيل ومع ما بذله من مجهود يشكر عليه فإن ابن طفيل لا يزال في حاجة إلى دراسة عميقة تبين أغراضه الحقيقية وأفكاره التي نثرها خلال قصته فمر عليها الكثيرون مروراً عابراً دون
أن يمنحوها ما ينبغي لها من أهمية ودرس
إن الجهود لم تتضافر بعد على دراسة ابن طفيل كما تضافرت على دراسة غيره كابن رشد أو ابن سينا لذلك لا يزال هذا الفيلسوف في أوسع وإلى بحث أشمل وأرجو أن تسد المساهمة
حاجة إلى درس العلمية التي أقوم بها الآن بعض النقص في هذه الحلقة
على أني أريد أن أحدد عملي تحديداً صريحاً إنه ينقسم إلى ثلاثة
أقسام
۱ - الكتابة عن حياة ابن طفيل
- T

إخراج رسالة حي بن يقظان
- شرح فلسفته على وضعها الصحيح شرحها في ذاتها وتحديد الصلة الفكرية بين ابن سينا والغزالي وابن باجة من جانب وابن طفيل من جانب آخر
أما عن حياة ابن طفيل فالكاتبون يلتقون عند مصادر واحدة

بيد أن لكل كاتب طريقته في المرض
ويستقون من نبع واحد والاستنتاج وهذا القسم على كل حال ضئيل
وأما عن إخراج الرسالة فطبعاتها متعددة ومخطوطاتها معروفة ولكل إنسان اجتهاده في تصحيح النص
أما العمل الحاسم وهو فهم فلسفة ابن طفيل فهماً صحيحاً وتحديد مصادرها وبيان ما بين ابن طفيل وابن سينا والغزالي من صلة فكرية لا أكاد ألتقي فيه من قرب أو من بعد بمن كتبوا عن ابن طفيل
فاني
سواء القدماء منهم والمحدثون
والله ولي التوفيق

الفصل الأول
ابن طفيل حياته وآثاره

ابن طفيل حياته وآثاره
هو أبو بكر محمد بن عبد الملك محمد بن محمد بن بن طفيل القيسي فهو ينتسب إلى قبيلة قيس تلك القبيلة التي بلغت من الشهرة حداً جعل اسمها يطلق على ما سوى اليمنيين من العرب وقد ولد في وادي آش - وهي بلدة في واد خصيب تبعد عن غرناطة بحوالي ستين كيلومترا - في أوائل القرن السادس الهجري
هذا كل ما يذكره التاريخ عن طفولته وشبابه لكن ما المركز الاجتماعي الذي كانت تشغله أسرته كيف قضى طفولته وأين قضاها كيف تعلم وعلى من تعلم كل ذلك يهمله التاريخ إذ يمضي سريعاً فيضعه في غرناطة دارساً للطب ثم يضعه في منصب أمين الأسرار الحاكم ولاية غرناطة ثم كاتم أسرار لدى الأمير أبي سعيد حاكم طنجة وهو أحد أولاد عبد المؤمن ثم يمضي التاريخ سريعاً فيضعنا أمام ابن طفيل طبيب أبي يعقوب يوسف صاحب المغرب بل صديقه ووزيره قويت الصلة بين الفيلسوف وأبي يعقوب لأسباب عدة منها
وقد
1 كان كلاهما ينتسب إلى قبيلة قيس وصلة الدم عند العرب معروفة فهما أبناء عمومة كما يقول العرب
رقیق
وكان كل منهما أديباً يقول المراكشي عن أبي يعقوب حواشي اللسان حلو الألفاظ حسن الحديث أعرف الناس كيف

أنه
تكلمت العرب وأحفظهم بأيامها ومآثرها وجميع أخبارها في الجاهلية والإسلام كان أحسن الناس الفظاً بالقرآن وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو وأحفظهم للغة العربية صح عندي كان يحفظ أحد الصحيحين الشك مني إما البخاري أو مسلم وأغلب أنه البخاري حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن
ظني
هذا هو أبو يعقوب أما ابن طفيل فسنتحدث عن أدبه فيما بعد
۳ وكان كل منهما فهماً فيما يتعلق بالمعرفة العلمية العامة فكان عند أبي يعقوب إيثار للعلم شديد وتعطش إليه مفرط وكذلك كان الفيلسوف الطبيب الفلكي العالم بالتشريح
٤ وأخيراً كان كل منهما منغمساً في الفلسفة أما ابن طفيل فهو فيلسوف بطبعه وكان متحققاً يجميع أجزاء الفلسفة وأما أبو يعقوب فقد طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة فجمع كثيراً من أجزائها وبدأ من ذلك بعلم الطب ثم تخطى ذلك إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة وأمر يجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن

اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب لكل هذه الأسباب كان الانسجام تاماً بينه وبين الملك حتى إنه كان يقيم في القصر عنده أياماً ليلا ونهاراً لا يظهر
وقد أدى ابن طفيل عن طريق هذه الصلة حق الزمالة العلمية أداء فكان يجلب العلماء من جميع الأقطار ويحض الملك على إكرامهم وتهيئة الجو المناسب لهم
خير

وهو الذي نبه الملك ووجه نظره إلى ابن رشد و فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم
في رحاب هذا الملك عاش ابن طفيل عيشة هادئة مطمئنة كان فيها الطبيب وكان فيها المستشار العلمي وهو الذي حفز ابن رشد - تحقيقاً لرغبة أبي يعقوب - على العمل العظيم الذي قام به من تلخيص كتب أرسطو وشرحها
ماذا أنتج ابن طفيل في فترته هذه الهادئة المطمئنة ان المؤرخين يحدثوننا عن تصانيف في أنواع الفلسفة من الطبيعيات والإلهيات وغير ذلك ويحدثوننا عن رسالة في النفس وعن رسائل تبودلت بينه وبين ابن رشد في الطب ويذكر البطروجي الفلكي وابن رشد أن ابن طفيل وفق النظام فلكي يخالف النظام الذي وضعه بطليموس
بيد أننا على جهل قام بهذا النظام الفلكي وبغيره من النواحي الأخرى والمصدر الوحيد الذي نعتمد عليه هو رسالة حي بن يقظان فهي الكتاب الوحيد الذي بقي من رسائل ابن طفيل واذا كان ابن طفيل طبيباً بحكم وضعه في القصر وفلكياً بشهادة أحد كبار الفلكيين وفيلسوفاً إلهيا فانه كان أيضاً أديباً ورسالة حي بن يقظان تبرهن على ذلك في وضوح تأنق في الأسلوب وبراعة في التعبير وسلاسة في التركيبات ولقد طوع اللغة لأفكاره فأدى المعنى في دقة تامة بأسلوب بارع
يقول الدكتور أحمد أمين بحق و نحن لو قارنا بين ابن سينا وابن طفيل من الناحية الأدبية وجدنا أن ابن طفيل أرقى من ابن سينا بكثير من حيث اللغة والأدب فعبارة ابن طفيل أدبية مشرقة وعبارة ابن سينا مغلقة غامضة ويظهر أن ابن طفيل كان مثقفاً ثقافة

أدبية أرقى من ثقافة ابن سينا ففي كثير من عبارات ابن سينا وألفاظه ما يدل على أنه كان يستقي معلوماته اللغوية من المعاجم لا من كتب الأدب فجاءت بعض الأحيان نابية أما ابن طفيل فيستقي معلوماته اللغوية والأدبية من كتب الأدب والمثقفين بها فجاءت عبارته أنصع وأبلغ ١
وإذا كان ابن طفيل أديباً ناثراً فقد كان شاعراً أيضاً واذا كان نثره يمتاز على نثر ابن سينا فقد كان شعره يمتاز على شعر ابن سينا أيضاً وقد كان في شعره صاحب مزاج ذلك أنه لم يكن يتكسب ولذلك اقتصر شعره تقريباً على العواطف والفلسفة فمن شعره
به
العاطفي

ولما التقينا بعد طول تهاجر وقد كاد حبل الود أن يتصرما جلت عن ثناياها وأومض بارق فلم أدر من شق الدجنة منهما وساعدني جفن الغمام على البكي فلم أدر دمعاً أينما كان أسجما فقالت وقد رق الحديث وأبصرت قرائن أحوال أذعن المكتما نشدتك لا يذهب الشوق مذهبا هون صعباً أو يرخص مأنما فأمسكت لا مستغنياً عن نوالها ولكن رأيت الصبر أوفى وأكرما
ومن شعره في صلة الروح بالبدن
نور تردد في طين إلى أجل فانحاز علواً وخلى الطين للكفن يا شد ما افترقا من بعد ما اعتلقا أظنها هدنة كانت على دخن ان لم يكن في رضى الله اجتماعها فيا لها صفقة تمت على غبن
- ۱ - احمد امین حي بن يقظان
١٤

ومن شعره
المعاني السامية
اختلاف الناس من حيث الاستعداد الطبيعي لتقبل
ما كل من شم نال رائحة للناس في ذا تباين عجب قوم لهم فكرة تجول بيهم بين المعاني أولئك النجب وفرقة في القشور قد وقفوا وليس يدرون لب ما طلبوا لا غاية تنجلي لناظرهم منه ولا ينقضي لهم أرب لا يتعدى امرؤ جبلته قد قسمت في الطبيعة الرتب
يقظان
هذا النزر اليسير هو كل ما نعلم عن حياة ابن طفيل وعن آثاره التي بادت بيد أنه لحسن الحظ قد بقي أثره الخالد حي بن وهو قصة بلغت من القوة المنطقية حد الروعة في أسلوب جزل سلس وقد حوت آراء ابن طفيل في أهم المشاكل الفلسفية ولا نبالغ إذا قلنا انها مذهب فلسفي كامل تتجلى فيه الدقة بكل معانيها وقد صور فيها ابن طفيل حي بن يقظان وقد نشأ في جزيرة منعزلة عن العالم لا أثر فيها لبني البشر فأخذ ينظر ويتأمل ويستنتج متدرجاً من المحسوس إلى المعقول ومن الجزئيات إلى الكليات حتى وصل الى تكوين فكره عن الله وعن الملأ الأعلى ثم أخذ في الرياضة الروحية حتى وصل الى طور الولاية ثم شاءت الظروف أن يصل الى جزيرته عابد متدين بدين سماوي أراد العزلة ليتفرغ للعبادة فالتقى به حي بن يقظان وبعد تفاهمهما وأخذ كل منهما عن الآخر التزم حي بن يقظان ما ذكره له العابد من شعائر دينية وبعد محاولة فاشلة لهداية المدينة التي نشأ فيها العابد عاد حي الى جزيرته واستقر فيها الى
أن أتاه اليقين

هذا في كلمات مجمل القصة وعليها اعتمدنا في الكتابة عن فلسفة ابن طفيل
ولقد استمر ابن طفيل في صحبة أبي يعقوب الى سنة ٨٥٨٠ حيث توفي أبو يعقوب
ولما قام بالأمر من بعده ولده أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور مكث ابن طفيل في صحبته بيد أن حياته لم تطل بعد صديقه فقد وافته المنية بعد وفاة أبي يعقوب بسنة واحدة أي سنة ٥٨١هـ فاحتفل بدفنه احتفالاً يليق بمكانته وسار أبو يوسف يعقوب بنفسه في جنازته رحمه الله رحمة واسعة
1

الفصل الثاني
ابن طفيل فلسفته

۱ ابن طفيل والفلاسفة
يتحدث الكثيرون ممن درسوا ابن طفيل عن صلته بالفلاسفة فيزعم بعضهم أنه تأثر بابن باجه بينما يذهب آخرون إلى تأثره بالفارابي ويزعم آخرون أنه كان التلميذ المخلص لابن سينا بل انه في رأيهم قد أخذ عن ابن سينا كل شيء حتى أسماء أبطال قصته ويزعم آخرون أنه كان متأثراً بالغزالي ووصل بهم الأمر الى الزعم بأنه تأثر بالفرس وبالهنود فضلا عن اليونان ولعل في كلام ابن طفيل نفسه إذا فهم بطريقة سطحية ما يسند هذه المزاعم كلها على اختلافها وتعارضها بيد أن ابن طفيل لم يدرس حقيقة في تمعن وعمق ولو درس في دقة وتمحيص لظهرت شخصيته مستقلة متميزة وظهر له فلسفة تستقل بطابع خاص ينفي هذه المزاعم على تعددها وتباينها
ولنوضح هذه الظاهرة
أ - أما موقفه من الفارابي فإن ابن طفيل يعلن في صراحة أن كتب الفارابي كثيرة الشكوك ويضرب أمثلة على ذلك ويقول عن رأيه في السعادة وانها في هذه الدار الدنيا فهذا قد أيأس الخلق جميعاً من رحمة الله وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة إذ جعل مصير الكل إلى العدم وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر
كان ابن طفيل ينفر من الفارابي وكان يصفه بسوء المعتقد في
۱۹

النبوة أنه ليس في حاجة إلى ذكر آراء الفارابي لشكوكه ریوی ولسوء معتقده لقد قرأ كتب الفارابي طبعاً ولكنه قرأها قراءة الناقد ورفضها جملة إن لم يكن تفصيلاً فليس من المعقول مع هذا أن يكون قلده واحتذاه
ب - أما ابن باجه فلم يكن في أهل الأندلس حسبما يرى ابن طفيل أثقب منه ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق روية ولكنه - حسب رأيه أيضاً - قد شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته كان ابن باجه يحث على الاستكثار من المال والجمع له وتصريف وجوه الحيل في اكتسابه وهذا صارف في رأي ابن طفيل عن مواصلة المعرفة والوصول فيها الى المراتب العليا مراتب أولى الصدق على حد تعبيره
ولذلك وصل ابن باجه الى رتبة أهل النظر فقط وصل إلى رتبة ينتهي اليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري ولم يتخطها انها المرحلة الأولى ولكنها ليست الأخيرة وهذه المرحلة الأخيرة مرحلة أهل الولاية هي كل هم ابن طفيل وإذا كان ابن طفيل يرى أن مرحلة النظر العقلية هذه قد تصل بالإنسان الى الصواب في الرأي وأن ابن باجه قد حقق هذا المنحى فانه ذلك يرى أنها مع مرحلة بدائية قد رفض العقل وهو أساس هذا المنحى
بل انه - كما سنرى فيما بعد
من المعرفة

مع
ج - أما ابن سينا فقد أعجب به ابن طفيل ذلك أنه طريقته العقلية الصارمة قد تنسم مقام أولى الصدق وأخذ في وصفه وإن لم يكن قد تذوقه يقول البارون كرادي فو عن ابن سينا انه درس التصوف دراسة موضوعية فية وهذا حق فلم يكن في طبيعة
T

ابن سينا أن يتصوف ولكن ذكاءه المدهش وقوة فطنته وحدسه البارع كل ذلك جعله يصف مراتب التصوف في كثير من الدقة
يتفق ابن سينا إذا مع ابن باجه في المرحلة العقلية النظرية وفي دقتها فيها بيد أن ابن سينا يريد عن ابن باجه أنه تنسم رائحة ما وراء الطبيعة عن بعد ووصفها وصفاً موضوعياً فيه دقة وفيه جمال ومن هنا كان إعجاب ابن طفيل به واذا كان ابن طفيل يخاطب ابن باجه حينما يتحدث عن الحالة التي يشعر بها الواصلون فيقول له ولا تستحل طعم شيء لم تذق ولا تتخبط رقاب الصديقين فإنه يذكر وصف ابن سينا لهذه الحالة في إعجاب ولكن ابن سينا مع هذا لم يصل الى مرتبة العارف وهي المرتبة التي يتطلبها ابن طفيل ولا يبغي بها بديلا وهي ليست مرتبة نظرية عقلية انها مرتبة تذوق وكشف ومشاهدة كان ابن سينا بطبيعته بعيداً عنها بل إن مرتبة النظر التي وصل اليها ابن سينا نفسها ما أدت اليه من نتائج مضافا اليها فلسفة أرسطو وفلسفة الفارابي وما كتبه أهل الأندلس لا تكفي في رأي ابن طفيل للمعرفة النظرية مع أنها في نظره المرحلة الأولى يقول ابن طفيل ولا تظنن أن الفلسفة التي وصلت الينا في كتب أرسطو وأبي نصر وفي كتاب الشفاء تفي بهذا الغرض الذي أردته ولا أن أحداً من أهل الأندلس كتب فيه شيئاً فيه كفاية
وقد زعم بعض الكاتبين أن هناك شبها بين رسالة ابن طفيل وقصة حي بن يقظان لابن سينا ولكن هذا الشبه معدوم فقصة ابن سينا قصة رمزية سمجة الأسلوب عادية المعنى ولا أدل على ذلك من أنك اذا جردتها عن رمزيتها أصبحت عادية يمكن لكل شخص أن يكتبها
ومن هذه النظرة يتضح أن ابن طفيل كان معتقداً برأيه معتزاً

بفكرته فلم يكن تابعا لابن سينا ولا مقلداً له وانما كان ابن سينا يمثل في نظره مرحلة من مراحل المعرفة ليست هي السنام ولا القمة
سهل
د - أما الغزالي فان ابن طفيل يقول فيه أدبته المعارف وحذقته العلوم ويقول ولا شك عندنا في أن الشيخ أبا حامد ممن السعادة القصوى ووصل الى تلك المواصل الشريفة المقدسة
ولهؤلاء الذين يزعمون أن ابن طفيل تأثر بالغزالي عذرهم حين ينساقون الى ذلك متأثرين بهذا الرأي الذي يبديد ابن طفيل
أن الغزالي قد رفض العقل رفضاً صارماً جازماً ومرحلة النظر في بید رأيه لا تثبت حقيقة ولا تؤدي الى يقين ورسالة ابن طفيل في مراحلها الأولى العقلية رد صارم على هذا الاتجاه وكان ابن طفيل إنما كتبها خاصة لتكون دليلاً علمياً على فساد هذا الاتجاه لا بد من النظر العقلي في رأي ابن طفيل وهو وإن كان مرحلة أولى فهو مرحلة لا بد منها انه لا يلتقي مع الغزالي في فكرته عن هذه المرحلة ويثبت في يقين جازم انها مرحلة مؤدية إلى المعرفة ولكن الغزالي في رأي ابن طفيل وصل الى المواصل الشريفة المقدسة فهل تأثر ابن طفیل به في هذه المرحلة التي تعتبر أسمى المراحل والتي يهدف اليها وإليها و حدها ابن طفيل
ان رد ابن طاقة على ذلك واضح لا لبس فيه و لكن كتب المصنون بهاء المشتملة على علم المكاشفة لم تصل الينا
الغزالي
إن ابن طفيل بن المسترشد بالا يسير على طريق التقليد ثم يقول ٠٠إنا نريد أن نملك على المسالك التي تقدم عليها سلوكنا ونسبح بك في البحر الذي قد عبرناه أولا حتى يقضي بك الى ما أفضى

بنا اليه فتشاهد بذلك ما شاهدناه وتحقق ببصيرة نفسك كل ما
تحققناه
ويقول عما كتبه وقد اشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في کتاب ولا يسمع في معتاد خطاب وهو من العلم المكنون الذي لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله ولا يجهله إلا أهل الغرة به
وأظن أنا لسنا في حاجة بعد ما تقدم إلى أن نقول ان ابن طفيل كان مستقل الرأي وكان له نهج خاص في وسيلة المعرفة
كيف كان هذا النهج ذلك ما سنوضحه فيما يلي
إن صاحب النظر الثاقب والفطرة المستعدة يمكنه أن يتدرج في المعرفة من المحسوس إلى المعقول ومن المعلوم إلى المجهول حتى يصل إلى تكوين فكرة من عالم ما وراء الطبيعة إنه يمكنه ذلك حتى ولو نشأ منعزلاً عن العالم كلية وهذا هو الوضع الذي كان عليه حي بن يقظان في عزلته التامة عن العالم منذ أن ولد وفي هذا يتفق ابن طفيل مع ابن سينا وابن باجة ويختلف معها فابن سينا وابن باجة يقولان مع این طفيل بإمكان الوصول الى فكرة عن الملأ الأعلى ولكن هذه الفكرة - حسب رأيهما - نتيجة بحث ودراسة وتعليم وثقافة ولم يدر بجلدهما أنها قد تتكون كذلك في العزلة التامة والإنسان المتوحد عند ابن باجة هو إنسان تربى وتثقف ونشأ في بيئة انسانية
وفي هذا المنزع يرد ابن طفيل أيضاً على الغزالي الذي رفض العقل ورأى أن لا قيمة له فيما يتعلق باليقين
ويتابع ابن طفيل سيره وإذا كان قد اعتمد على العقل في المبدأ

الاختلاف
فإنه الآن يعتمد على الرياضة الروحية إنه الآن صوفي بكل معنى الكلمة وتؤدي الرياضة بابن طفيل إلى الإشراق ويؤدي الإشراق الى معرفة يضطر معها ابن طفيل إلى رفض العقل وهنا يختلف كل ابن سينا وابن باجة ولكنه في نزعته يختلف أيضاً مع مع الغزالي فإذا كان الغزالي قد رفض العقل فانه رفضه قبل أن يصل إلى الإشراق إنه رفضه بأدلة عقلية أما ابن طفيل فلم يرفضه إلا بعد المشاهدة إلا بعد أن وصل إلى مقام أولى الصدق فرأى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
و موقف ابن طفيل في هذا موقف طبيعي فان الاعتماد على العقل في المبدأ طبيعي فاذا ما وصل الانسان إلى حق اليقين كان رفضه للعقل طبعاً أيضاً
فانه حينما
ويسير ابن طفيل فيرى أن ما وصل اليه عن طريق المشاهدة يتفق مع الدين واذا كان حي بن يقظان قد نشأ في عزلة تامة اتصل بأسال أخذ عنه الشعائر الدينية وعمل بها وآمن بالرسالة
هذا هو النهج الذي سار عليه ابن طفيل وهو يختلف فيه عن ابن سينا والغزالي وابن باجة ويختلف فيه أيضاً عن أرسطو وأفلاطون انه ليس بمقلد فيه وإذا قلنا إنه تأثر بغيره فانه متأثر كتأثير أفلاطون بمن سبقه وتأثر أرسطو بمن تقدموه
"
ودرس
لقد درس أفلاطون الأرفية وهي شرقية الأصل الفيثاغورية وهي استمرار للأرفية ولقد تتلمذ أرسطو على أفلاطون ودرس في عمق نظريات الفلاسفة الذين تقدموه فوافقهم وخالفهم فاذا كان لأفلاطون وأرسطو مع كل هذا أصالتهما فلابن طفيل أصالة أيضاً

وإذا كان التشابه في الآراء لا يعني التقليد واذا كانت كل فكرة ناشئة قد سبقت بما يشابهها ويماثلها فليس معنى ذلك أن كل فكرة ناشئة هي تقليد محض واذا كان ابن طفيل قد أعجب بالنار المشتعلة وراعه لهيبها المتصاعد إلى عنان السماء فليس معنى ذلك أنه ذهب الى ثقافة الفرس هذه الفكرة وإذا كان قد وضع حيتا في جزيرة على خط الاستواء فليس معنى ذلك أنه تأثر بالهنود
وأخذ منهم
ان الكتاب الحديثين يتهافتون كل التهافت على إرادة عزو كل فكرة إلى مصدر قديم ويتكلفون في سبيل ذلك كل التكلف وكأن لهم غراماً خاصاً بهذا الاتجاه وكل ذلك تكلف يأباه المنهج العلمي الصحيح

موضوع
الفلسفة
قبل أن نتحدث عن فلسفة ابن طفيل نريد أن نبين الموضوع العام للفلسفة والوسيلة التي تؤدي الى معرفتها وعن رأي الدين ورأي ابن
طفيل في الوسيلة الصحيحة التي توصل الى معرفة ما وراء الطبيعة

دارت المباحث الفلسفية حول مجموعتين من المسائل كانتا مدار بحثها
في كل العصور تقريباً
المجموعة الاولى
نسميها مجموعة نظرية وهي تتعلق بالعلة الأولى وبأصل الكائن والغاية
من وجوده ومصيره
أما المجموعة الاخرى
فهي المجموعة العلمية وهي تتعلق بالسلوك للفرد أو للأسرة أو والغاية التي من أجلها ينبغي أن نعمل والبواعث التي تدفعنا
للدولة

الى العمل
۱ المجموعة النظرية
انها البحث في الالهيات وقد نشأ هذا البحث منذ نشأة الانسان تقريباً ونشأ بطريقة طبيعية ساذجة وأخذ عمر الزمن يتسع وتتعدد
۶

مشاكله وتتعقد حتى وصل الى حد كبير من السعة والعمق ولا يزال البحث فيه للآن مستمراً
أ إن وجود الإنسان في هذا العالم دعاه إلى أن يسأل نفسه - وهذا طبيعي من أين أتى هذا العالم هل نشأ عن العدم أو عن وجود سابق وهل هو أزلي لا أول له فكيف إذا تحرك وكيف دبت فيه الحياة أم أن له علة أولى واذا كان الأمر كذلك فكيف نشأ عن هذه العلة الأولى أكان ذلك صدوراً وفيضاً أم كان عن خلق وابتداع وسواء كان العالم صادراً عن الله أو مخلوقاً له فما هي الصفات التي تتصف بها العملة الأولى هل هذه الصفات تتمشى مع
التنزيه المطلق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ " أم تتجه إلى التشبيه
يدان مبسوطتان ووجه وعرش يستوي عليه استواء حقيقياً
الله
ان التنزيه المطلق هو الكمال المطلق والكمال يستدعي علماً كاملاً وقدرة تامة وإرادة لا تقف في سبيلها عقبة فهل علم الله شامل للكليات والجزئيات - لا يعربُ عَنهُ مثقال ذرة في السموات ولا في الارض ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلَا أَكْبَرُ الَّا في كتاب
مبين

أم أنه يعلم الكليات فقط
أم
أن علمه خاص بذاته لا
شأن له بهذا العالم المتغير الناقص عالم الكون والفساد وما صلة علم الله بالزمن هل يعلم ما كان على أنه كان وما هو كائن على أنه كائن
۱ - سورة الشورى ۱۱
- سورة سبأ آية ۳

وما سيكون على أنه سيكون هل يخضع علم الله للزمن أم أن علم الله خارج عن الزمن فكيف نتصوره
وإذا كانت قدرة الله مطلقة فما صلتها بالمستحيل هل المستحيل بالنسبة لها ممكن وكيف يدخل في تصورنا أن يكون الشيء معدوماً موجوداً في آن واحد أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل فهل يمكن في حالة كهذه أن نصفها بأنها مطلقة
وإرادة الله ما صلتها بالخير والشر هل أراد الله الخير والشر كليهما فذهب الجبر إذا صحيح أم أن إرادة الله لا تتعلق بالشبر وهل تكون في تلك الحالة مطلقة هل يريد الله أن يعصى أم أن الله يعصى رغما عنه وكيف يكون الله جباراً رحيماً قهاراً لطيفاً
معزاً مذلاً
يقول اسماعيل صبري مخاطباً الله عز وجل
ور الوجود يشف عنك لكي أرى غضب اللطيف ورحمة الجبار
كيف نتصور الله رحمانا رحمة مطلقة وجباراً جبروتاً مطلقاً كيف نتصوره لطيفا قهاراً
ب ورأى الإنسان أن كل شيء في هذا العالم يموت أو يتحلل ویفنی سواء في ذلك الجمادات والكائنات الحية فنشأ عن ذلك السؤال هل الموت فناء مطلق فيصدق قول الشاعر
الطبية
حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو
أم أن بعد هذه الحياة حياة أخرى قال مَنْ يحي العظام

وهيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الذي اساء أول مرة وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَحْضَرِ ناراً فاذا أَنتُم مِنْهُ تُو قدونَ أَوَلَيْسَ الذي خلق السموات والأرض بقادر على أَنْ يَخْلُق مثلَهُمْ بلى وهو الخلاق الْعَلِيمُ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول لَهُ كُنْ فَيَكُون
وإذا كانت هناك حياة أخرى فما هي خصائصها أهي روحانية محضة أم هي مزيج من الماديات والروحانيات وهل هي لانهائية هل نعيم الجنة وعذاب النار خالدان أبداً أم أن كل ذلك سيفني يوماً ما ويبقى الله ولا شيء معه
ج وما هدف الله من إيجاد هذا العالم ! هل خلقه لعبادته أم
خلقه ليعرف إن كمال الله في غنى عن هذا وذاك فلم أوجده تبحث الفلسفة الإلهية في مشكلة المبدأ والمصير والغاية إنها تريد الإجابة عن من أين وإلى أين ويتم أو هي بتعبير آخر تبحث في العملة الأولى تبحث في خصائصها وفي صلتها بوجود العالم وبمصيره وبالغاية التي من أجلها أوجدته
المجموعة العملية
أما المجموعة العملية فانها تهدف إلى تحديد الخير والشر
١- سورة يس آية ۷۸ - ۸

انها تريد

أن تصل الى تحديد الخير الأسمى أي السعادة وإلى تحديد الطريق الموصل الى هذه الغاية أي الواجب وكل فيلسوف يعمل على تحديد السعادة وتحديد الواجب وقد تشعبت الآراء بطبيعة الحال وتعارضت ولا تزال الى الآن متشعبة متعارضة
وكما تعارضت الآراء في الأخلاق وتناقضت فقد تعارضت وتناقضت أيضاً في مسائل الإلهيات ونشأت بسبب ذلك مشكلة المعرفة

۳ مشكلة المعرفة
هل في إمكان الانسان أن يصل بعقله إلى الكشف عن معميات ما وراء الطبيعة وعن مشاكل الأخلاق أم أن العقل قاصر عن ذلك واذا كان العقل قاصراً فهل هناك من وسيلة أخرى تصل بنا إلى معرفة هذا العالم المحجوب

ثم ما هو موقف الدين من البحث العقلي فيما وراء الطبيعة والأخلاق هل يقر الدين حرية البحث فيهما أم أن ذلك يتعارض مع الروح الدينية وما موقف ابن طفيل من هذه المشكلة وسيلة المعرفة والاتجاه الديني في شأنها
ان هذه المسائل تحتاج الى شيء من التفصيل لأهميتها الكبرى في كل عصر وفي كل بيئة انها مشكلة العصور الماضية ومشكلة العصر الحاضر مشكلة من مشاكل المستقبل أيضاً
وهي

منذ أن نشأت الفلسفة وجد تياران مختلفان خاصان بوسيلة المعرفة
فيما وراء الطبيعة
أحدهما تيار عقلي يعتمد على العقل ويثق فيه
والآخر اشراقي يرتكز على الرياضة الروحية

وكان للدين تجاه كل منهما موقف معين
أ التيار العقلي وموقف الدين منه
يرى ابن طفيل أن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من البحث فيما وراء الطبيعة على طريقة أهل النظر وحذرت منه ورأى ابن طفيل وهو فيلسوف له قيمته الكبرى ولكن بعض رجال الدين في العصر الحاضر يرى غير رأيه فعلام يستندون إن الإسلام فيما يرون يدعو إلى البحث العقلي فيما وراء الطبيعة ففيه نصوص كثيرة تحثنا على التأمل والتفكير وعدم التقليد وعلى ألا نتبع الأجداد والأسلاف في منحاهم التفكيري فهو يتهكم ويسخر بهذه الطائفة التي قالت إنا وجدنا آباءنا على أُمَّةٍ وانا على آثارهم مُقْتَدُون قالَ أَوَلَوْ جنتكُمْ بأهدى ثما وجدتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا انا بما أُرْسِلْتُم به كافِرُونَ والقرآن يدعو الى عدم اتباع الظن فانه لا يغني من
الحق شيئا

ثم إن الإسلام يدعو الى الاجتهاد والاجتهاد استعمال للفكر وبعث للشخصية ودعوة الى البحث العقلي هذا ما يرى هؤلاء الذين يزعمون انتسابهم إلى الشيخ محمد عبده
بيد أننا إذا تصفحنا القرآن الكريم وتتبعنا الأحاديث فسوف لا
۱ - الزخرف الآيات من ٢٣ - ٢٤

نعثر على نص يدعو إلى طرح مشكلة الألوهية على بساط البحث ليرى
الانسان فيها رأيه سلباً أو إيجاباً وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأخلاق

أما إذا نظرنا إلى طبيعة الدين في نفسها وإلى تلك المبادىء التي تلقاها الرسول عن الملأ الأعلى والتي أحكمت ثم فصلت من لدن حكيم خبير والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لأنها تنزيل من حكيم حميد إذا نظرنا الى هذا فاننا في الواقع لا نستسيغ اعتقاد أن الدين الذي هذا شأنه يدعونا بعقلنا الانساني أن نبحث قضاياه و نقف منها موقف الحكم ونقرها أو لا نقرها هذا من ناحية المبدأ العام
أما الآيات التي تدعو المؤمنين الى التأمل والتبصر فليس لها في الواقع من معنى آخر سوى أنها تستحثنا على التأمل لأجل العبرة ولأجل زيادة الإيمان وتثبيته لا لزعزعته أو للحد من حرارته
بقيت مسألة الاجتهاد ولكن الاجتهاد ما هو إلا بحث لمعرفة ما أتى به الرسول ولذلك تجد عند كل مجتهد تلك الفكرة المستقيمة الصحيحة التي تقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ومهما قيل في هناك أصحاب رأي وأن هناك أصحاب حديث فكل ما بينهما من
أن
ما
فرق أن هؤلاء لا يتحرجون في الأخذ بالأحاديث وأن أولئك رأوه من كثرة الاختلاق والكذب على الرسول - كانوا يتحرجون من تلك التاحية ولكن هؤلاء وأولئك كان مقصدهم وكانت غايتهم - ذلك - الوصول الى الخطة التي يتبعها الرسول
لا
ريب في
ليس في الاجتهاد إذن دعوة الى الاستقلال أو الى التحرر بل هو على العكس يرشد إلى أن المسلم الحقيقي هــو ذلك الذي يتبع
۳۳

الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويتحرى ذلك
جهده
وموقف المجتهد في ذلك هو بالضبط موقف المؤرخ الذي يبحث وينقب لا لأجل أن يستنتج رأياً هو حر فيه بل لأجل أن يصل الى معرفة الحقيقة كما كانت وكما أننا نقر لكثير من المؤرخين بالعبقرية أو بعمق التفكير فإنه لا يقلل من شأن المجتهد أن نقول عنه انـــــه مجتهد لأجل أن يصل الى ما كان عليه الرسول أو الى ما أراده الرسول
وليس هنا فرق أيضاً بين المجتهد وبين العالم الطبيعي اللهم إلا أن أن المجتهد يريد يوضح الواقع حسب ما كان في فترة معينة أما عالم الطبيعة فيريد أن يكتشف الواقع كما كان وكما هو الآن وكما أننا مع اعترافنا لكثير من علماء الطبيعة بالسمو وبالنبوغ لا نصفهم تجاه ما يكشفونه من قوانين الطبيعة بالاستقلال الفكري فكذلك لا يمكننا أن نصف المجتهد بالاستقلال في الرأي والحرية فيه
إذا كان الإسلام لا يدعو إلى حرية الرأي فهل يقرها الواقع أن الحديث في هذا الموضوع شائك ولكنه ليس شائكا من الوجهة الدينية وإنما هو شائك من وجهة العادة والعرف والوسط الذي لا يفكر ولا يتبصر والذي لا يعتقد كثير من أفراده إلا عن طريق التقليد والاتباع ولكننا مع ذلك نحاول أن نبسط الرأي في هذا واعتقد أننا سنتفق في
النهاية
نريد أولاً أن نحدد تلك الناحية التي من الممكن أن يقال إن للإنسان فيها حرية رأي

حينما يتحدث الناس عن الأديان وحرية الرأي فانهم يعممون الموضوع ويطلقونه اطلاقا من غير تفرقة أو تمييز بين ناحية وأخرى ولكننا اذا تأملنا قليلا فاننا نجد أن هناك ناحية تخضع للحس أو التجربة ولا يمكن فيها الاختلاف وبالتالي لا يمكن أن يكون فيها مجال الحرية الرأي ان الأشخاص لا يختلفون في أن الحديد مثلا يتمدد بالحرارة أو أن الماء يتجمد في درجة معينة ويغلي في درجة معينة تلك الجزئيات التي لا يختلف فيها اثنان قد عبر الدين عن موقفه منها على لسان الرسول في تلك الجملة البسيطة العميقة أنتم أعلم بشؤون دنياكم
لكن هذه الجزئيات التي توضع تحت قانون عام تفرض الفروض لتفسيرها وهذه الفروض يقر العلم نفسه انها قابلة للتغيير في أي لحظة اذ ليست إلا فروضاً وللعلم أن يفرض اذاً ما يشاء ويدعي ما يريد ولكن ذلك لا يستتبع أن الدين - لو فرضنا أن للدين رأياً في ذلك - مخطىء وفي الواقع ليست تلك مهمة الدين وما مهمته إلا تهذيبية روحية هي السمو بالانسان نحو هدف أعلى يرقى به خلقيا وروحيا ويكاد ينتزعه من طبيعة الحيوانية الى طبيعة ان اشبهت شيئاً فانها تشبه الطبيعة الملائكية الصافية الخيرة وتلك الناحية الروحية الخلقية هي بالضبط التي يعنينا التحدث عنها الآن والتي يعنينا أن نحدد الى أي مدى يسمح الدين فيها بحرية الرأي وهي تشمل ما وراء الطبيعة والأخلاق والتشريع
أ - الى أي مدى يسمح الدين بحرية الفكر فيما يتعلق بما وراء الطبيعة اننا نعلم أن كل الأديان نبذت هؤلاء الذين لم يعتقدوا بوجود الإله وأنكرت وشنعت على هؤلاء الذين لم يؤمنوا به أفي الله شك ولم تنكر الأديان على هؤلاء فحسب وانما أنكرت ونبذت كل أولئك الذين لم يستكملوا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
to

وليس الأمر كذلك فقط بل في الأديان أيضاً دلائل وإشارات الى أن الطريق المستقيم ليس هو حرية الرأي وانما هو اتباع الوحي منه آيات محكمات هُنَّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زَيْغٌ فيتبعون ما تشابة مِنْهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تأويله وما يعلم تاريلَهُ إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقولونَ آمَنا كل مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وجاء في الأثر إذا ذكر القدر به فأمسكوا وموقف الدين في تلك الناحية موقف طبيعي حكيم ذلك أن تلك الناحية - ما وراء الطبيعة - لا يمكن مطلقاً أن يصل فيها الانسان الى رأي اذ ان الانسان لا يمكنه أن يكون رأيــا إلا في المحسوس أما الأشياء الغيبية فكل رأي فيها هو بلا شك ضرب من الأوهام ولا يمكن أن يقر الدين ذلك النوع خصوصاً إذا اتصلت المسألة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وفي الواقع كيف يمكننا أن نكون رأياً في تلك الناحية والدين يرشدنا إلى أن كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك وهــذه الخطة خطة الاتباع في تلك هي خطة السلف الصالح خطة الإمام مالك وغيره وهي كذلك خطة الشيخ محمد عبده تفسيره جزء عم حيث كلما ذكرت الجنة أو النار وكلما ذكر شيء من المغيبات يقول هذه أشياء أخبرنا الله بها لا نعلم حقيقتها ولكنا بها مؤمنون قلنا ان موقف الدين من تلك الناحية موقف طبيعي لما سبق ولأن تفكير الإنسان أيضاً محدود ذلك التركيب الخاص الذي نحن عليه ولقد صور إكزتوفان منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً ذلك حيث يقول الأحباش يقولون عن
الناحية
بسبب

۱ - سورة آل عمران آية ۷
٣٦

آلهتهم انهم سود فطس الأنوف ويقول أهل تراقيا ان آلهتهم زرق العيون حمر الشعور ولو استطاعت الثيرة والخيل لصورت الآلهة على مثالها وقد وصفهم هوميروس وهزيود بما هو عند الناس موضوع تحقير وملام
اذا كان التفكير محدوداً الى تلك الدرجة واذا كان الانسان لا يمكنه أن يتصور الغيبيات وألا يأتي فيها إلا بضلال مبين فكيف يمكن أن يتصور أن الدين يقر حرية الرأي في تلك الناحية ان ابن خلدون موفق في رأيه اذ ضمن لمن يبحث في تلك النواحي ألا يعود إلا بالخيبة ريقول ابن عبد البر قد نهينا عن التفكير في الله وأمرنا بالتفكير في خلقه الدال عليه وفي الأثر تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا وفي هذا القول فصل
ب -
لنأخذ الآن في الحديث عن الأخلاق والتشريع وموقف الدين من حرية الرأي فيهما وبما أن الانسان لا يكاد يجد حداً فاصلا بــين والتشريع فاننا سنتحدث عنها كوحدة تشمل علاقة الناس
الأخلاق
بعضهم ببعض وسلوك بعضهم ببعض وسلوك الانسان كفرد
هذا الموضوع الذي يعتقد كثير من الناس أن الانسان يمكنه أن يكون فيه رأياً حراً كل الحرية نعتقد أيضاً أن لا يقر حرية الرأي فيه كما لا يقرها فيما وراء الطبيعة ذلك أن الانسان لا يمكنه أن يكون حراً بكل معنى الكلمة في تلك الناحية وان ما نسميه حرية ليس له من حرية الرأي بمعناها الحقيقي قليل أو كثير فان الانسان في رأيه مرتبط أشد الارتباط يحسمه المادي وبغرائزه و بعواطفه وأهوائه وبيئته وحظه من الثقافة وكل ذلك يجعله مقيداً في رأيه لا حرية له فيه ولتوضيح ذلك نقول اننا اذا تركنا جانباً عبارات تضحكنا في كثير

من الأحيان والتي هي الواقع صحيحة الى حد كبير مثل قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت أو قل لي من تصاحب أقل لك من أنت نقول اذا ضربنا صفحاً عن أمثال تلك العبارات فاننا نشاهد بالتجربة أننا حينما ننظر الى شخص نتصور الى حد ما خلقه أو تفكيره ويمكننا أن نقول ان ذلك الشخص كريم أو لثيم أو خبيث أو طيب ذكي أو غبي ! ا قد تخطىء في بعض الأحيان ولكن المسألة في الواقع تكاد تكون مادية محضة هذا الشخص بصورته التي هو عليها من تضخم أو اعتدال في الشفتين ومن بريق أو خمود في العينين ومن ارتخاء أو عدمه في الفك الأسفل ومن جفاف أو سماحة في الوجه من كل تلك النواحي المادية المحضة يمكنك أن تكون مصيباً في حكمك عليه وليس ذلك في الناحية الخلقية فحسب وإنما في ناحية التفكير أيضاً اذا كان هذا لا يكفي في الاستدلال على أن التفكير الإنساني تابع للناحية الجسمانية فإنه يفتح لنا الطريق على الأقل الى تلك الناحية التي نريد أن نستدل عليها ببراهين أخرى وهي ناحية انه ليس هناك ذلك الرأي الحر الذي يصل اليه كل انسان بعقل خالص إذ ليس هناك ذلك العقل الخالص
وعـــــــله
كل شخص يعرف الدور الهـ الذي تلعبه الغرائز في التفكير فغريزة حب الاطلاع تحمل الانسان على الفضول والتطفل وتفكيره يعملان لتبرير موقفه هذا - وتحمله غريزة حب الحياة على الاستكانة والضعف والذلة أو على الافتراس والهجوم وعقله في كلا الحالين يعمل لتبرير موقفه وكم يبرر العقل من مواقف حينما تثور
۱ - قال أعرابي ما رأيت نفا شخص إلا عرفت خلقه فقيل له فان رأيت وجهه فقال
ذك كتاب أقرأه
۳۸

الغريزة الجنسية
وأظن من البديهي أنه لو ترك الانسان وشأنه لسيرته الغرائز أكثر مما يسيره العقل والقانون الأخلاقي
وليست الغرائز هي كل شيء في الحياة وانما هنا العاطفة هذه العاطفة التي تدعو الإنسان الى أن يقف مناصراً مبرراً لعمل أقاربه أو لا العمل من يحبهم بسبب أن الحق معهم وانما بسبب صلتهم به انه ينصر أباه ظالماً أو مظلوماً وهو يضحي في سبيل وطنه سواء كان هو المعتدي أو المعتدى عليه وهو في كل الأحوال ينصر عشيرته الأقرب فالأقرب محسنين كانوا أو مسيئين وكم لعبت العصبية من أدوار في التاريخ وكم أتى العقل والمنطق وبررا المواقف المختلفة المتعارضة والتي يناقض بعضها بعضاً
والعادة ! أليست تسيره كذلك فاذا تعود شيئاً وأراد أن يتخلى عنه وكان من الصعب ذلك فانه لا يعدم الوسائل أيضاً لتبريره بعقله أو بمنطقه
وبعد هذا وذاك هذه الأعمال التي ندعوها إرادية وهذا التفكير الذي ندعوه استقلالياً محضاً أليس هو البيئة التي نعيش فيها ودرجة الثقافة التي وصلنا اليها
الانسان مسير لا خير تلك حقيقة قال بها كثير من علماء الدين فيا مضى وقال بها العلم الحديث الذي عزا السبب إلى البيئة والى حالة الجسم والى الأكل والى الراحة والتعب والى غير ذلك مما لا يعد من المؤثرات التي تؤثر في الانسان في كل لحظة وتوجهه الى ما تريد لا الى ما يريد لذلك كان الاختلاف ولا يزال في تلك الناحية
۳۹

وما لنا نتحدث عن تلك المسألة كأنها شيء جديد أو كأنها شيء مركب معقد كل شخص منا يشاهد أن الاختلاف في الرأي يكاد يكون بعدد ما في العالم من رؤوس وقد اختلف الناس في الرأي منذ أن أوجد الله العالم

واذا كان الأمر كذلك واذا كان تحديد الخير وهو غاية القانون وغاية الأخلاق غير ممكن فهل يتصور أن تقر الأديان حرية الرأي في تلك الناحية هل يتصور أن الأديان تدعو الى التفرقة وهي التي أمرت بالاعتصام بحبل الله والاجتماع على كلمته واتباع ما أمر وعدم التفرق شيعاً والخضوع خضوعاً مطلقاً لما أنزله الله فلا وربك لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أنفُسِهِمْ حَرَجًا مَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قُلْ إِن كُنتُمْ تُحبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ٢٠
وهو
واذا كان من المسلم به أن الناجي هو من اتبع الله ورسوله من اتبع الوحي وان الانسان لا يمكنه أن يصل الى الخير المطلق اذا استقل برأيه أفليس ذلك ان الأديان لا تقر حرية الرأي في تلك الناحية
ولَوْ أَتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمواتُ وَالْأَرْضِ وَمَنْ
1 - النساء آية ٦٤
- آل عمران آية ۳۱ - المؤمنون آية ۷

نعود فنقول إن ابن طفيل يرى ان الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من البحث فيما وراء الطبيعة على طريقة أهل النظر وحذرت منه ولعل فيما سبق ما يوضح رأيه تمام الوضوح ولعل فيه كذلك ما يوضح أن الدين لا يقر حرية الرأي في الأخلاق أيضاً
ب التيار الاشراقي
اذ كان العقل قاصراً عن ادراك ما وراء الطبيعة وقد بينا ذلك بياناً واضحاً في المقدمة التي كتبناها للمنقذ من الضلال فهل من سبيل آخر الى المعرفة رأى كثير من الناس أن الرؤيا أثناء النوم تكتشف المستقبل انها قراءة للوح المحفوظ ومعرفة للغيب المحجوب ومهما قال الباحثون الحديثون في تعليل الأحلام فإن الرؤيا الصحيحة جزء من النبوة لا شك في ذلك ولا ريب والرؤيا ليست علما عقلياً انها ليست منطقاً وتفكيراً فمن أي قوة تصدر
والنبوة اصطفاء من الله واختيار منه لا شك في ذلك ولا ريب ولكن الرسول يصطنعه الله لنفسه ويربيه على عينه ويهذبه فيحسن تهذيبه ويصرفه عن هذا العالم وما فيه من فساد وتخبط فيوجهه الى
السماء ويشغل باله بالملإ الأعلى فتكون الرياضة الروحية ويكون الوحي
والكتب السماوية وعلى الخصوص القرآن توجه دائماً نظر الانسان الى أن وراء العقل معرفة لدنية تفيض على الانسان فيضاً عن طريق اتصال عاشر بالله المعراج أو عن طريق غير مباشر جبريل القرآن ذكر للخضر عليه السلام وهو عبد من عباد الله آتاه الله

وفي
من
٤١

لدنه علما
هذا وغيره وجه الأنظار الى وسيلة أخرى للمعرفة غير العقل ومن هنا كان التيار الإشراقي وهو تيار قديم
كان رسول الله صلوات الله عليه خاتم الأنبياء ولم يكن خاتم الأولياء وكان خاتم الأنبياء ولم يكن أولهم والأنبياء كثيرون منهم قصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لم نقصص عليك والأولياء العد وكل أمة كان لها هاديها نبياً كان أو ولياً
من
لا يكاد يحصيهم
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحقِّ بشيراً ونذيراً وان من أمة الا خلاً فيهـ نذیر والأديان في جوهرها متحدة شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين ما وشی به نوحاً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى أن أقيموا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه
وعيسى
مع
ولو تدبرنا تاريخ التيار الإشراقي لاعتقدنا بصدق الأثر الذي يدل على أن الأرض لم تخل في يوم من الأيام من عارف بالله واعترفنا الإشراقيين بأن الاسناد أو السلسلة أو الطريق أو السنة في اتصال مستمر لم ينقطع منذ عهد آدم أو على الأقل منذ أقدم عهد عرف فيه
۱ - غافر ۷۸
- سورة فاطر ٢٤
- الشورى ۱۳
٤٢

تاريخ البشرية وصدقنا بأن الميراث الروحي متصل الحلقات يسلمه كل عارف بالله الى مريد أو مريدين يسلمونه الى من يليهم من بيئتهم أو بيئة أخرى حتى اذا ما انتابه شيء من الفتور أدركه الوحي صارخاً مدوياً باعثاً للروح من جديد فيشرق الفجر ويتألق السناء ويغمر نور الله الأرض وضاء باهراً يقول الإمام الغزالي في كل عصر جماعة من المتألهين لا يخلي الله سبحانه العالم منهم فانهم أوتاد الأرض ببركاتهم تنزل الرحمة الى أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال عليه السلام بهم تمطرون وبهم ترزقون ومنهم كان أصحاب الكهف وكانوا في سالف الأزمنة على ما نطق به القرآن
كانت
أجل إن الطريق متصل إنه كان موجوداً في الأقاليم التي تعتبر وثنية كبلاد اليونان في العصر القديم مثلاً يقوك ابن أبي أصيبعة عن فيثاغورس وهو في قوله يصور نزعة فيثاغورس تصويراً صادقاً كان فيثاغورس يعتقد أن هناك عالماً فوق الطبيعة روحانيا نورانياً لا يدرك العقل حسنه وبهاءه وان الأنفس الزكية تحتاج اليه وان کل انسان هذب نفسه بالتبرؤ من العجب والتجبر والرياء والحسد وغيرها من الشهوات الجسدانية فقد صار أهلا أن يلحق بالعالم الروحاني ويطلع على ما شع من جواهره من الحكمة الإلهية وأن الأشياء الملذة للنفس تأتيه حشداً أرسالاً كالألحان الموسيقية الآتية الى حاسة السمع فلا يحتاج الى أن يتكلف لها طلبا وكان يأمر بالعمل بالعدل والتحلي يجميع الفضائل والكف عن الخطايا ومجاهدة المعاصي والاكثار من الصيام والمواظبة على قراءة الكتب انتهى
ملخصاً
ومن المعروف أن الفيثاغورية استمرار للأرفية وأن الأرفية استمرار
٤٣

لما يماثلها في الشرق ولقد وضح الصوفية توضيحاً تاماً الطريق السيكولوجي الذي يتدرج بالإنسان خطوة خطوة حتى يصل بالإنسان الى المعرفة الإشراقية وقد رسم هذا الطريق ابن طفيل رسما دقيقاً هو
ما سنأخذ الآن في تصويره

٤ السعادة ووسيلتها
أو
المعرفة وطريقها
يقول الجنيد اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب ويرى ابن طفيل أن كمال ذات الانسان ولذتها وسعادتها انما هو بمشاهدة الموجود الواجب الوجود على الدوام مشاهدة بالفعل أبداً حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم والى ذلك بحسب تعبير ابن طفيل أشار الجنيد شيخ الصوفية وامامهم عند موته بقوله لأصحابه هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر وأحرم للصلاة
كيف تتأتى هذه المشاهدة بالفعل
يرى ابن طفيل لذلك وسيلة حاسمة لا نرى أنها تخرج في جوهرها عما ذكره الصوفية إنها حسب رأيه ملازمة الفكرة في الله كل ساعة وهذا هو الذكر الذي يقول به الصوفية وليس الذكر في رأيهم إلا استحضار صورة الله في القلب باستمرار ولكن ملازمة الفكرة في جلال الله وحسنه وبهائه ليس من السهولة بمكان فالجسم له حاجاته ومطالبه وله شهواته ونزواته والخيال يجمع ويتشعب والعالم الخارجي يتعاون

مع العالم الداخلي للانسان فيصرف الذهن عن التركيز المستمر ولعلاج ذلك اتخذ ابن طفيل الطريق الذي اتخذه الصوفية أيضاً فهذا البدن المظلم ذو الاعضاء المنقسمة والقوى المختلفة والمنازع المتفننة يجب أن تقال حاجاته ورغباته إلى أدنى حد ممكن ومن الحزم أن يفرض الانسان لنفسه حدوداً لا يتعداها ومقادير لا يتجاوزها إنه يكفيه فيما يتعلق بلباسه ما يقيه الحر اللافح والبرد القارس وذلك شيء ضئيل لا يستدعي من الانسان إذا اقتصر عليه تشتيت ذهن ولا روية تصرفه عما هو بصدده
أما فيما يتعلق بطعامه وشرابه فيقتصر على ما يمسك رمقه ولا يزيد عليه وإذا أخذ حاجته من الغذاء فيجب أن يقيم عليه حتى يشعر بضعف يقطعه عن بعض الاعمال التي تجب عليه وإذا تتبعنا روح ابن طفيل أن خير الطعام هو الفواكه التي تم نضجها
وجدناه يرى
الانسان في
فاذا ما التزم مسألة الغذاء والكساء ما تدعو اليه الضرورة في بقاء الروح واذا ما نظم الانسان نفسه من هذه الجهة كان عليه ايضاً أن يلتزم النظافة التامة فيتطهر ويتزكى جسمانيا مستعملا في ذلك الروائح الطيبة حتى يصل إلى أن يتلألأ حساً وجمالا ونظافة وطيباً فذلك أبعث للروح أن تنتعش وللعاطفة أن ترق وللاستعداد أن
يصفو
ويجب أن يساعد الانسان غيره وكان حي يقوم بمساعدة الحيوان بل ويعمل على مساعدة النبات في نموه ويصل به الأمر إلى أن يعاون الماء في جريانه فيزيل العقبات التي تقف في طريقه
كل ما تقدم لم يكن الا تهيئة ضرورية الخطوة تتلو هذه الخطوة التالية هي كما قلنا ملازمة الفكرة في الموجود الواجب الوجود وفي

سبيل تركيز الفكرة كان حي يغمض عينيه ويسد أذنيه ويضرب جهده عن تتبع الخيال ويروم بمبلغ طاقته ألا يفكر في شيء سواء ولا يشرك به أحداً ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث لها فتغيب عنه جميع المحسوسات وتخلص فكرته أحياناً عن الشوب ويشاهد الموجود الواجب الوجود ثم تكر عليه القوى الجثمانية فتفسد عليه حاله وترده إلى أسفل السافلين
وقد مكث
حي فترة طويلة من الزمن يجاهد قواه الجثمانية وتجاهده وينازعها وتنازعه حتى لاح له أن المرحلة الأخيرة في سبيل الوصول الى مقام أولى الصدق هي التشبه بالله والتخلق بأخلاقه وأن يصبح ربانياً
والتشبه بالله على ضربين تشبه به في الصفات الثبونية وتشبه به في صفات السلب أما التشبه به في الصفات الثبوتية فيقتصر على العلم به جل وعز دون أن يشرك به شيئاً من صفات الأجسام فأخذ نفسه بذلك وأما التشبه به في صفات السلب فمعنى ذلك التنزه عن الجسمية وفي سبيل ذلك يجب أن يطرح الانسان أوصاف الجسيمة عن ذاته وحينما وصل حي الى هذه المرحلة رأى أن الاستدارة على نفسه حركة والحركة من أخص صفات الأجسام فعدل عنها ورأى أن الاعتناء بأمر الحيوان والنبات والاهتمام بإزالة عوائقها من صفات الأجسام أيضاً اذ لا يراها أولاً إلا بقوة جسمانية ثم يكدح في أمرها بقوة جسمانية أيضاً فأخذ في طرح ذلك كله عن نفسه إذ هي يحملتها مما لا يليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن واقتصر على السكون في مغارته مطرقا غاضاً بصره معرضاً عن جميع المحسوسات مجتمع الهم والفكرة في الله وحده ووصل به الأمر الى أن كان بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك
{Y

بيد أنه كان في استفراقه بمشاهدة الموجود الواجب الوجود يشعر أن ذلك شوب في المشاهدة المحضة فأخذ يجاهد نفسه بذاته ويعلم ويطلب الفناء التام حتى تأتى له ذلك وغابت ذاته وتلاشى الكل واضمحل وصار هباءً منثوراً ولم يبق إلا الواحد الحـــــق الموجود الثابت الوجود وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائداً على ذاته د من المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ القهار واستغرق حي في حالته هذه فشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
D
بشر
سره
انه الآن في طور الولاية وقد تدرج في المراتب الى أن أصبح مرآة مجلوة يحاذى بها شطر الحق تلك هي السعادة انها اللذات العلى انها البهجة التامة البهجة بالحق عز وجل انها المعرفة الحقيقية
أ صلة هذه الحالة باللغة
تلك حال تبدو من الغرابة بحيث لا يصفها لسان ولا يقوم بها بیان لأنها من طور غير طور هما وعالم غير عالمها
ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلاً وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان من حيث هي الألوان ويطلب أن يكون السواد مثلاً حلواً أو حامضاً
ومتى حاول إنسان إثبات ما يراه أصحاب المشاهدة على حقيقة أمره في كتاب استحالت حقيقته لأنه إذا كسى الحروف والأصوات وقربه
٤٨

من عالم الشهادة لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال
بل اننا لا نجد في الألفاظ الجمهورية ولا في الاصطلاحات الخاصة أسماء تدل على الشيء الذي يشاهد به ذلك النوع من المشاهدة ولذلك لا نسميه قوة إلا على سبيل المجاز
وإذا كانت اللغة قاصرة كل هذا القصور فلم حاول من وصل إلى تلك الحالة التعبير عنها
ان تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور لا يستطيع من وصل اليها وانتهى الى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل
ومع
ذلك ففي الحديث عنها خطورة فقد زلت به أقدام قوم وظن بآخرين أن أقدامهم زلت وهي لم تزل
فاسدة
وإذا كان ابن طفيل - وهذه آراؤه قد تحدث عنها فان الذي اضطره الى افشاء السر وهتك الحجاب ما ظهر في زمنه من آراء ضررها فخشي على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء وأرادوا تقليد السفهاء أن يظنوا تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها فرأى أن يلمع اليهم بطرف من سر الأسرار ليجتذبهم
عم
الى جانب التحقيق

ب صلتها بالعقل
ولا سبيل اليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري ذلك انها حالة ذوقية لا تتأتى عن طريق الإدراك النظري المستخرج بالمقاييس وتقديم المقدمات وانتاج النتائج
ولأنها لا تتأتى عن طريق ذلك فان ما يشاهد فيها يخالف العقل
والمنطق
وهنا يرفض ابن طفيل العقل ويسلم تسليماً باتاً بأنه الخلع عن غريزة العقلاء واطرح حكم المعقول فنحن نسلم له ذلك ونتركه مع عقله وعقلائه فان العقل الذي يعنيه هو وأمثاله انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة وتقتنص منها المعنى الكلي والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها
وليرجع الى فريقه الذين يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
هذه الحالة نور في نور انها لا تناسب الخفافيش الذين يعيشون في الظلام حتى إذا ما أشرق الفجر وتلألأ السناء عشيت أبصارهم فأنكروا وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة
وأصروا
۱ - الروم ٧

ج صلتها بالدين
يتفاوت الناس في فهمهم للنصوص الدينية يتفاوت طبائعهم واستعدادهم فمنهم أهل الظاهر الذين يتمسكون بحرفية النصوص ومنهم أهل التأويل هؤلاء فرق مختلفة فبعضهم يؤول ليصل بالنصوص الى الانسجام مع قضايا أنه لا مفر من التسليم بها وهذا شأن المعتزلة مثلاً
عقلية
یری
وبعضهم يؤول لينسجم النص مع عقيدة مذهبية كالشيعة ولكن طائفة أخرى ترى أن الدين روحي أولاً وقبل كل شيء وفهمه فهماً صحيحاً لا يتأتى إلا بدوام الفكرة فيه وملازمة العبرة به والغوص على معانيه حتى تتجلى روحانيته ويتلألأ نوره
هذا النهج من الفهم لا يتنافى قط مع ما يراه أصحاب المشاهدة في مقامهم الكريم لقد كان أسال - صاحب حي – من أصحاب التأويل الروحي ولما وصف له حي الذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق عز وجل ووصف له ذات الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى ووصف له ما أمكنه وصفه بما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين لم يشك أسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خاطره وتطابق عنده المعقول والمنقول وقربت عليه طرق التأويل ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له ولا مغلق إلا انفتح ولا غامض إلا اتضح وصار من أولي الألباب وتحقق عنده - وهو المتدين بدين سماوي - ان حيا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فاقتدى به وأخذ بإشاراته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي كان قد تعلمها في
ملته
01

ولما وصف أسال لحي جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط فهم ذلك كله ولم ير فيه شيئاً على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم وعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه صادق في قوله رسول من عند ربه فآمن به وصدقه و شهد برسالته
6
ثم جعل يسأل أسال عن الفرائض والعبادات فوصف له الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبهها من الأعمال الظاهرة فتلقى ذلك والتزمه وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للأمر الذي صح عنده صدق قائله
وطور
لا خلاف إذا بين الدين وبين ما يراه أرباب المشاهدة والفكرة الأساسية في ذلك أن الدين نتيجة صلة صادقة بين الله وبين عبد من عباده اختاره الله لنشر رسالة السماء وتبليغها الى المرسل اليهم المشاهدة الاشراقية لا يعدو هو الآخر أن يكون صلة بين الله وبين عبد جاهد جهاداً عنيفاً حتى وصل الى السعادة الكلية والمشاهدة الحقيقية فاتصل بالملا الأعلى وأخذ عنه
وإذا كان طور المشاهدة لا ينسجم مع المقل لأن العقل حسي مادي فانه ينسجم مع الدين لأن كلا منها سماوي إلهي
د من شروطها
تحدثنا فيما سبق عن الرياضة الروحية كمرحلة للوصول الى مرتبة أولى الصدق بيد أن الرياضة الروحية لا تتأتى إلا إذا سبقها
٥٢

صحة النية وصدق العزم وفراغ من الشواغل واقبال بالهمة كلها على الله وذلك يحتاج الى مقدار من لزمان غير يسير
وإذا كان ذلك كله ضرورياً فانه لا يفيد ولا يغني عن شرط أساسي أصيل ذلك هو الفطرة المستعدة وهذه الفطرة المستعدة لا تكتسب اكتساباً وإنما هي هبة إلهية منذ الميلاد يقول ابن طفيل
لا يتعدى امرؤ جبلته قد قسمت في الطبيعة الرتب
والناس متباينون من حيث الجبلة تبايناً عجيباً فبعضهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا وبعضهم قد اتخذوا إلههم هواهم ومنهم المحبون للخير الراغبون في الحق إلا أنهم لنقص فطرتهم لا يطلبون الحق من طريقه ولا يلتمسونه من بابه كل هؤلاء لا سبيل لهم إلى الحكمة ولا حظ لهم منها
لا يفوز بالسعادة إذا إلا صاحب النظرة المستعدة وهو وإن كان شاذاً نادراً إلا أنه موجود إنه الذي أراد حرث الآخرة
سعيها وهو مؤمن
لها
و سعی
الآن وقد حددنا المعرفة عند ابن طفيل والسبيل الموصلة اليها وحددنا صلتها باللغة والعقل والدين والجبلة سنأخذ إن شاء الله في الحديث عن رأي ابن طفيل في ثلاث من المشاكل الفلسفية المعظمي وهي 1 العالم
الله ۳ الروح
والله الموفق
۳

ه العالم
أ حقيقة الجسم
·
الامتداد
يقوم
يرى ابن طفيل أن ليس معنى الجسم - من حيث هو جسم – الصفرة أو الخضرة أو السواد أو البياض أو الثقل أو الخفة وإنما هو في الطول والعرض والعمق بيد أن الامتداد لا يمكن أن بنفسه فلا بد من أن يوجد الممتد الامتداد إذا وما يوجد فيه هذا الامتداد ذلك لا غيره هو معنى الجسم ولا يفهم الجسم إلى مركباً من هذين المعنيين وأحدهما لا يستغني عن الآخر لكن الذي يتبدل ويتعاقب على أوجه كثيرة من تثليث الى تربيع الى تكعيب وهو معنى الامتداد يشبه الصورة التي لسائر الأجسام ذوات الصور الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأشكال فهو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة
أما
ب كل متناه جسم
والسماء وما فيها من التراكب أجسام لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة الطول والعرض والعمق وكل جسم سماوياً كان أم أرضياً له نهاية والجسم الذي لا نهاية له أسطورة من الأساطير أو خرافة من الخرافات
٥٤

فهذا الجسم السماوي مثلا متناه من هذه الجهة التي تلينا والتي يقع عليها حسنا أما الجهة التي تقابل هذه الجهة فمن المحال أن تمتد الى غير نهاية ولأني إن تخيلت ان خطين اثنين يبتدئان من هذه الجهة المتناهية ويمران في سمك الجسم الى غير نهية حسب امتداد الجسم ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي ثم أخذ ما بقي منه وأطبق طرفه الذي كان فيه موضع القطع على طرف الخـــــط الذي لم يقطع منه شيء وأطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم يقطع منه شيء وذهب الذهن كذلك معهما إلى الجهة التي يقال انها غير متناهية فإما أن نجد الخطين أبداً يمتدان الى غير نهاية ولا ينقص أحدهما عن الآخر فيكون الذي قطع منه جزء مساوياً للذي لم يقطع منه شيء وهو محال كما أن الكل مثل الجزء محال أبداً بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتداد معه فيكون متناهياً فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أولاً وقد كان متناهياً صار كله أيضاً متناهياً وحينئذ لا يقصر عن الخط الآخر الذي لم يقطع منه شيء ولا يفضل عليه فيكون إذاً مثله وهو متناه فذلك أيضاً متناه فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط جسم متناه فاذا فرضنا أن جسما غير متناه فقد فرضنا باطلا ومحالاً
الناقص
معه

وإما ألا
يمتد
ج قدم العالم وحدوثه
الجسم إذاً امتداد وممتد وكل جسم متناه فالعالم متناه وأيضاً بيد أن المشكلة الأساسية هي حدوث العالم وقدمه هل العالم شيء حدث بعد ان لم يكن وخرج الى الوجود بعد العدم أم أنه كان

موجوداً فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه ان كل فرض من
ما
هذين الفرضين عليه اعتراضات فقدم العالم يعترضة استحالة وجود لا نهاية له ويعترضه أيضاً أنه لا يخلو من الحوادث فهو لا يمكن أن يتقدم عليها وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث فهو أيضاً محدث ولكن حدوثه لا يفهم إلا على معنى أن الزمان تقدمه والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه فاذا لا يفهم تأخر العالم عن الزمان وإذا كان حادثاً فلا بد له من محدث وهذا المحدث الذي أحدثه لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك الطارىء طرأ عليه ولا شيء هناك غيره أم لتغير حدث في ذاته فان كان فما الذي أحدث ذلك
التغير
د ما يلزم عن اعتقاد قدم العالم أو حدوثه
اعتقاد
بيد أن المشكلة الأساسية في نظر ابن طفيل ليست هي حدوث العالم أو اعتقاد قدمه وإنما هي فيما ينشأ عن كل من الرأيين وهو يرى أنه سواء اعتقادنا قدم العالم أو حدوثه فان الناتج عن ذلك واحد وهو ان هذا العالم لا بد له من موجد ومحرك
"
فان
أما إذا كان العالم حادثاً فالأمر ظاهر وأما إذا كان قديماً معنى ذلك عند ابن طفيل أن الزمان لم يتقدمه وانه متأخر عن الله بالذات وإن كان غير متأخر عنه الزمان كما أنك إذا أخذت في قبضتك جسماً من الأجسام ثم حركت يدك فان ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعاً لحركة يدك حركة متأخرة عن حركة يدك تأخراً بالذات وإن كانت لم تتأخر بالزمان عنها بل كان ابتداؤهما معاً
٥٦

فكذلك العالم كله معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان إنما أمره إذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ١٠
العالم اذا مفتقر الى الله في وجوده والموجودات لا قيام لشيء منها إلا بالله فهو إذا علة لها وهي معلولة له سواء كانت محدثة الوجود بعد أن سبقها العدم أو كانت لا بتداء لها من جهة الزمان ولم يسبقها العدم قط انها على كلا الحالين معلولة وهو في ذاته غني عنها وبريء منها
هـ أبدية العالم
وإذا كان لا وجود للعالم الحسي إلا بالله فان بقاءه به أيضاً وقد يستحيل فرض عدمه إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي وانما فساده أن يبدل لا أن يعدم بالجملة وبذلك نطق الكتاب العزيز حينما وقع هذا المعنى منه في تسيير الجبال وتصييرها كالعهن والناس كالفراش وتكوير الشمس والقمر وتفجير البحار يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسموات
۱ - سورة يس ۸
ay

1 الله
العالم مركب من مادة وصورة وصورته هي استعداده لضروب الحركات انها استعداد فقط فلا يمكن اذاً أن يخرج الى الوجود بنفسه بل لا بد من فاعل يخرجه الى الوجود أما ذلك الفاعل فلا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس لأنه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسماً من الأجسام ولو كان جسماً من الأجسام لكان من جملة العالم وكان حادثاً واحتاج الى محدث ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسماً لاحتاج الى محدث ثالث والثالث إلى رابع ويتسلسل ذلك الى غير نهاية وهو باطل فاذا لا بد للعالم من فاعل ليس يحسم واذا لم يكن جسماً فليس الى إدراكه بشيء من الحواس سبيل لأن الحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام أو ما يلحق الأجسام

الله إذا لا يحس وهو لهذا لا يمكن أن يتخيل لأن التخيل ليس شيئا إلا احضار صور المحسوسات بعد غيبتها واذا لم يكن جسماً فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق وهو منزه عن ذلك وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام
واذا كان الله فاعلاً للعالم واذا كان فاعلاً لحركات الفلك على اختلاف أنواعها فعلاً لا تفاوت فيه ولا فتور ولا قصور فهو لا محالة قادر
على العالم وعلى حركته وعالم بهما ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيفه
۵۸

У
وسواء قلنا بقدم العالم أو حدوثه فلا بد من وجود فاعل غير جسم
ولا متصل يجسم ولا منفصل عنه ولا داخل فيه ولا خارج عنه إذ الاتصال والانفصال والدخول والخروج هي كلها من صفات الأجسام وهو منزه عنها ولما كانت المادة من كل جسم مفتقرة الى الصورة إذ تقوم إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل فاعل فجميع الموجودات اذا مفتقرة في وجودها الى الله ولا قيام لشيء منها إلا به فهو إذا علة لها محدثة وهي أو قديمة معلولة له متعلقة الوجود به مفتقرة اليه ولولا دوامه لم تدم ولولا وجوده لم توجد ولولا قدمه لم تكن قديمة وهو في ذاته غني عنها وبريء منها
العالم كله اذا بما فيه من السموات والأرض والكواكب وما بينها وما فوقها وما تحتها فعله وخلقه ومتأخر عنه بالذات وان كان غير متأخر بالزمان انه معلول ومخلوق الله بغير زمان انما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول لَهُ كُنْ فَيَكُون ٢٠
ومن تصفح الموجودات على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها والتعجب من جميل صنعته ولطيف حكمته ودقيق علمه يتبين له أقل الأشياء الموجودة فضلاً عن أكثرها من آثار الحكمة وبدائع الصنعة
۱ - تبارك
- سورة يس ۸
۵۹

ما يقضي منه كل العجب ويتحقق عنده ان ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْقَالُ ذرة في السنوات ولا في الأرض ولا أَصْغَرُ من ذَلِكَ ولا أكبرة
انه أعطى كل شيء خلقه ثم هداه لاستعماله وهو الذي أفاض البهاء والقوة والفضيلة ونعمه لا تحصى وهو في ذاته أبهى وأكمل انه الكمال انه فوق الكمال
أما صفات الله فانها على ضربين
۱ - صفات ثبوت كالعلم والقدرة والحكمة وهي كلها راجعة إلى حقيقة ذاته التي لا كثرة فيها بوجه من الوجوه إذ الكثرة من صفات الأجسام وعلم الله إذا ليس معنى زائداً على ذاته بل ذاته علمه وعلمه هو ذاته فهو العالم والمعلوم والعلم إن صفات الثبوت كلها ترجع إلى معنى واحد وهو حقيقة ذاته
هي
- صفات السلب أما صفات السلب فانها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية ولواحقها وما يتعلق بها ولو على بعد

وحينما يصل الإنسان إلى مرتبة الغناء عن ذاته وعن جميع الذوات فلا يرى في الوجود إلا الله يخطر بباله ان ذاته هي ذات الله وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق بلى ليس ثم شيء إلا ذات الحق ولكن
-- سورة سبأ ٣
۶۰

هذه الشبهة إنما هي من بقايا ظلمة الاجسام وكدورة المحسوسات فان الكثير والقليل والواحد والواحدة والجمع والاجتماع والافتراق هي كلها من صفات الاجسام لأن الكثرة إنما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض والواحد أيضاً لا تكون إلا بالاتصال ولا يفهم شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة

والعالم الإلهي البراءته عن المادة لا يجب أن يقال فيه كثرة ولا وحدة ولا كل ولا بعض بل إنه لا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة إلا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة فلا يعرفه إلا من شاهده ولا تثبت حقيقته إلا عند من سعد به
العالم الالهي
والأفلاك وإن كانت أجساماً فان لها ذواتاً بريئة عن المادة أطلق عليها الفارابي الملائكة ومن وصل إلى الاستغراق المحض والفناء التام يشاهد للفلك الأعلى الذي لا جسم وراءه ذاتاً بريئة عن المادة ليست هي ذات الواحد الحق ولا هي نفس الفلك ولا هي غيرهما وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرايا الصقيلة فانها ليست هي الشمس ولا المرآة ولا غيرهما ولهذه الذات المفارقة من الكمال والبهاء والحسن ما يعظم عن أن يوصف باللسان ويدق عن أن يكسى بحرف أو صوت وهي في غاية من اللذة والسرور والغبطة والفرح بمشاهدة
ذات الحق
ويشاهد الإنسان أيضاً للفلك الذي يليه وهو فلك الكواكب


الثابتة ذاتاً بريئة عن المادة أيضاً ليست هي ذات الواحد الحق ولا ذات الفلك الأعلى المفارقة ولا نفسه ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد أنعكست إليها الصورة من مرآة أخرى مقابلة للشمس ويرى الإنسان لهذه الذات ايضا من البهاء والحسن واللذة مثل ما رأى لتلك التي للفلك الأعلى وهكذا إلى أن ينتهي الإنسان إلى عالم الكون والفساد وهو جميعه حشو فلك القمر فيرى له أيضاً ذانا بريئة عن المادة ليست شيئاً من الذوات التي شاهدها قبلها ولا هي
سواها

ولهذه الذات سبعون الف وجه في كل وجه سبعون ألف فم في كل فم سبعون ألف لسان يسبح بها ذات الواحد الحق ويقدسها ويمجدها لا يفتر ويرى لهذه الذات التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة من الكمال واللذة مثل الذي رآه لما قبلها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج قد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها

وذلك كله لا يصفه الواصفون ولا يعقله إلا الواصلون العارفون
۶

الإنسان

طبيعتها متمايزة
۷ الروح
أ الروح من أمر الله
حسبما يرى ابن طفيل - مكون من ثلاثة أجزاء هي في
أحدها - البدن المظلم الكثيف ذو الأعضاء المنقسمة والقوى المختلفة
والمنازع المتفننة

ضباب هوائي لطيف مسكنه التجويف الفارغ الذي
ثانيها
بالقلب

ثالثها - روح هو من أمر الله تعالى وهذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل وهو بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم والموجودات تستفيد منه بحسب استعدادها وكما أن من الموجودات ما لا يستضيء بنور الشمس فمنها ما لا يظهر أثر الروح فيه لعدم الاستعداد كالجمادات أما النباتات وأما الحيوانات فيظهر الروح فيها بحسب استعدادات كل نوع منها وفي قمة الاستعدادات من من حيث كمال استعدادها للتأثر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين

٦٣

ب وحدة الروح
والانسان واحد بذلك الروح وجميع الأعضاء إنما هي خادمة له ومنزلة الروح في تصريف الجسد كمنزلة المحارب الذي يستخدم السلاح والروح الذي لنوع واحد شيء واحد لا يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة ولو أمكن أن يجمع جميع الذي تفرق في القلوب منه ويجعل في وعاء واحد لكان كله شيئاً واحداً بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد يفرق على أوان كثيرة ثم يجمع بعد ذلك
بل الروح الحيواني الذي الجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة وإن كان فيه اختلاف بسير اختص به نوع دون نوع كماء بعضه أبرد من بعض وهو في أصله واحد
بل الروح واحمد في النبات والحيوان ولكنه في أحدهما أتم وأكمل وفي الآخر قد عاقه عائق كماء واحد قسم بقسمين أحدهما جامد والآخر سيال
والروح في نفسه أيضاً واحد وحدة مطلقة إنه مثلا العارف والمعروف والمعرفة وهو العالم والمعلوم والعلم لا يتباين في شيء من
ذلك

ج براءة الروح عن الجسمانية
إن إدراك الإنسان الله لم يكن بواسطة العين أو الأذن بل ولا


في جسم
بواسطة القوة الخيالية وإنما كان بواسطة الروح وإذا كانت كل قوة لا تدرك إلا جسماً أو ما هو في جسم وإذا كان الله بريئاً من صفات الأجسام جملة فإذن لا سبيل إلى إدراكه إلا شيء ليس يحسم ولا هو قوة في جسم ولا تعلق له بوجه من الوجوه بالأجسام ولا هو داخل فيها ولا خارج عنها ولا متصل بها ولا منفصل عنها الروح إذا أمر غير جسماني لا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام

وإذا كان الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام فإن الشيء الذي ليس بجسم ولا يحتاج في قوامه إلى الجسم لا يتصور فساده البتة الروح إذن لا يمكن فساده وهو أمر رباني إلهي لا يدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه بل يتوصل إليه به
د العذاب والنعيم في الدار الآخرة
ينتقد ابن طفيل الفارابي انتقادا مراً لقوله بأن السعادة الإنسانية إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار ويقول إنه أيأس الخلق جميعاً من رحمة الله تعالى وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة إذ جعل مصير الكل إلى العدم وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها
جبر
والروح - حسبما يرى فيلسوفنا - بعد مفارقته للبدن يستمر في عذاب أو في نعيم فمن عرف الله ثم أعرض عنه واتبع هواه حتى وافته منيته وهو على تلك الحال يبقى في عذاب طويل وآلام لا نهاية

لها فإما أن يتخلص من الآلام بعد جهد طويل وإما أن يبقى في آلامه بقاء سرمديا بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياتة الجسمانيه
وأما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود قبل أن يفارق البدن وأقبل بكلية عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه ولم يعرض عنه حتى وافته منيته وهو على حال من الاقبال والمشاهدة بالفعل فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها وغبطة وسرور وفرح دائم لاتصال مشاهدته لذلك الموجـــــود الواجب الوجود وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الامور الحسية التي هي - بالإضافة إلى تلك الحال - آلام وشرور وعوائق فيشاهد من الحسن والبهاء ما لا يصفه الواصفون ويشعر بلذة لا يعقلها إلا الوصلون العارفون
وإلى هنا انتهى ما أردناه من الحديث عن ابن طفيل
• رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمانِ وَلَا تَجْعَل في قُلُوبِنَا غِلا الَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ
والحمد لله أولاً وآخراً
- الحشر ١٠


حي بن يقظان
لابي بكر بن طفيل الاندلسي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم الأعظم القديم الأقدم العليم الأعلم الحكيم الأحكم الرحيم الأرحم الكريم الأكرم الحليم الأحلم و الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم و كان فضل الله عليك عظما أحمده على فواضل النعماء وأشكره على تتابع الآلاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق الطاهر والمعجز الباهر والبرهان القاهر والسيف الشاهر صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العظائم وذوي المناقب والمعالم وعلى جميع الصحابة والتابعين إلى يوم الدين وسلم تسليماً
كثيرا
F

مقدمة
الباعث على تأليف الرسالة

سألت أيها الأخ الكريم الصفي الحميم منحك الله البقاء الأبدي وأسعدك السعد السرمدي أن أبت إليك ما أمكنني بثه من أسرار الحكمة المشرقة التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فاعلم أن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بطلبها والجد في اقتنائها
بحيث
الحال التي شهدها ابن طفيل

والحمد الله - إلى
ولقد محرك مني سؤالك خاطراً شريفاً أفضى بي مشاهدة حال لم أشهدها قبل وانتهى بي إلى مبلغ هو من الغرابة يصفه لسان ولا يقوم به بيان لأنه من طور غير طور هما وعالم غير عالمهما غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل حتى إن بعضهم
۷۱

قال في هذه الحال سبحاني ما أعظم شأني ! وقال غيره أنا
الحق ! وقال غيره ليس في الثوب إلا الله !
وأما الشيخ أبو حامد الغزالي رحمة الله عليــــه فقال متمثلة عند وصوله إلى هذا الحال بهذا البيت
فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وإنما أدبته المعارف وحذقته العلوم
رأي ابن طفيل في الفلاسفة
ابن باجة
وانظر إلى قول أبي بكر بن الصائغ المتصل بكلامه في صفة الاتصال فإنه يقول إذا فهم المعنى المقصود من كتابه ذلك ظهر عند ذلك أنه لا يمكن أن يكون معلوم من العلوم المتعاطاة في مرتبته وحصل متصوره بفهم ذلك المعنى في رتبة يرى نفسه فيها مباينا الجميع ما تقدم مع اعتقادات أخر ليست هيولانية وهي أجل من أن تنسب إلى الحياة الطبيعية بل هي أحوال من أحوال السعداء منزهة عن تركيب الحياة الطبيعية خليقة أن يقال لها أحوال إلهية يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء من عباده
وهذه الرتبة التي أشار اليها أبو بكر ينتهى إليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري ولا شك أنه بلغها ولم يتخطها
۷

وأما الرتبة التي أشرنا إليها نحن أولا فهي غيرها وإن كانت إياها بمعنى أنه لا ينكشف فيها أمر على خلاف ما انكشف في هذه وإنما تغايرها بزيادة الوضوح ومشاهدتها بأمر لا نسميه قوة إلا على المجاز إذا لا نجد في الألفاظ الجمهورية ولا في الاصطلاحات الخاصة أسماء تدل على الشيء الذي يشاهد به ذلك النوع من المشاهدة وهذه الحال التي ذكرناها وحركنا سؤالك إلى ذوق منها هي من جملة الاحوال التي نبه عليها الشيخ أبو علي حيث يقول ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضة حداً ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه ثم إنه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض ثم إنه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئاً عاج عنه إلى جناب القدس فيذكر من أمره أمراً فيغشاه غاش فيكاد يرى الحق في كل شيء ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوف مألوفاً والوميض شهاباً بيناً وتحصل له معارفة مستقرة كأنها صحبة مستمرة إلى ما وصفه من تدريج المراتب وانتهائها إلى النيل بأن يصير سره مرآة مجلوة يحاذي بها شطر الحق وحينئذ تدر عليه اللذات العلى ويفرح بنفسه لما يرى بها من أثر الحق ويكون له في هذه الرتبة نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه وهو بعد متردد ثم إنه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة وهناك يحق الوصول
المقدمات
فهذه الأحوال التي وصفها رضي الله عنه إنما أراد بها أن تكون له ذوقاً لا على سبيل الادراك النظري المستخرج بالمقاييس وتقديم وإنتاج النتائج وإن أردت مثالاً يظهر لك به الفرق بين ادراك هذه الطائفة وإدراك سواها فتخيل حال من خلق مكفوف البصر إلا أنه جيد الفطرة قوي الحدس ثابت الحفظ مسدد الخاطر

فنشأ مذ كان في بلدة من البلدان وما زال يتعرف أشخاص الناس بها و كثيراً من أنواع الحيوان والجمادات وسكك المدينة ومسالكها وديارها وأسواقها بما له من ضروب الإدراكات الأخر حتى صار بحيث يمشي في تلك المدينة بغير دليل ويعرف كل من يلقاه ويسلم عليه بأول وهلة وكان يعرف الألوان وحدها بشروح أسمائها وبعض حدود تدل عليها ثم انه بعد أن حصل في هذه الرتبة فتح بصره وحدثت له الرؤية البصرية فمشى في تلك المدينة كلها وطاف بها فلم يجد أمراً على خلاف ما كان يعتقده ولا أنكر من أمرها شيئاً وصادف الألوان على نحو صدق الرسوم عنده التي كانت رسمت له بها غير أنه في ذلك كله حدث له أمران عظيمان أحدهما تابع للآخر وهما زيادة الوضوح والانبلاج واللذة العظيمة فحال الناظرين الذين لم يصلوا الى طور الولاية هي حالة الأعمى الأولى والألوان التي في هذه الحال معلومة بشروح أسمائها تلك الامور التي قال أبو بكر إنها أجل من أن تنسب إلى الحياة الطبيعية يهبها الله لمن يشاء من عباده وحال النظار الذين وصلوا إلى طور الولاية ومنحهم الله تعالى ذلك الشيء الذي قلنا إنه لا يسمى قوة إلا على سبيل المجاز هي الحالة الثانية وقد يوجد في النادر من كان أبداً ثاقب البصيرة مفتوح البصر غير محتاج الى النظر
هي
ادراك اهل النظر وادراك اهل الولاية
ولست أعني - أكرمك الله بولايته - بإدراك أهل النظر ها هناء ما يدركونه من عالم الطبيعة وبإدراك أهل الولاية ما يدركونه مما بعد الطبيعة فإن هذين المدركين متباينان جداً بأنفسهما ولا يلتبس أحدهما بالآخر بل الذي نعنيه بإدراك أهل النظر ما يدركونه مما بعد

الطبيعة مثل ما أدركه أبو بكر ويشترط في ادراكهم هذا أن يكون حقاً صحيحاً وحينئذ يقع النظير بينه وبين إدراك أهل الولاية الذين يعتنون بتلك الأشياء بعينها مع زيادة وضوح وعظيم التذاذ وقد عاب أبو بكر هذا الالتذاذ على القوم وذكر أنه للقوة الخيالية ووعد بأن يصف ما ينبغي أن يكون حال السعداء عند ذلك بقول مفسر مبين وينبغي أن يقال له ها هنا لا تستحل طعم شيء لم تذق ولا تتخط رقاب الصديقين ! ولم يفعل الرجل شيئاً من ذلك ولا وفى بهذه العدة وقد يشبه أن عن ذلك ما ذكره من ضيق الوقت واشتغاله بالنزول إلى وهران أو رأى أنه إن وصف تلك الحال اضطره القول إلى أشياء فيها قدح عليه في سيرته وتكذيب لما أثبته من الحث على الاستكثار من المال والجمع له وتصريف وجــــوه الحيل في اكتسابه
منعه

وقد خرج بنا الكلام إلى غير ما حركتنا إليه بسؤال بعض خروج بحسب ما دعت الضرورة إليه وظهر بهذا القول أن مطلوبك لم يتعد أحد غرضين
- إما أن نسأل عما يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الولاية فهذا مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب ومق حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب استحالت حقيقته وصار من قبيل القسم الآخر النظري لأنه إذا كسي الحروف والأصوات وقرب من عالم الشهادة لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال واختلفت العبارات فيه اختلافا كثيراً وزلت به أقدام قوم عن الصراط المستقيم وظن بآخرين أن أقدامهم زلت وهي لم تزل وإنما
Yo

كان ذلك لأنه أمر لا نهاية له في حضرة متسعة الأكناف محيطة غير
محاط بها

- والفرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا إن سؤالك لن يتعدى أحدهما هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر وهذا أكرمك الله بولايته شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات ولكنه أعدم من الكبريت الأحمر ولاسيما في هذا الصقع الذي نحن فيه لأنه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس به إلا رمزاً فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت ولا تظن أن الفلسفة التي وصلت الينا في كتب أرسطو وأبي نصر وفي كتاب الشفاء تفي بهذا الغرض الذي أردته ولا أن أحداً من أهل الأندلس كتب فيه شيئاً فيه كفاية وذلك أن نشأ من بالأندلس من أهل الفطرة الفائقة قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها قطعوا أعمارهم بعلوم التعاليم وبلغوا فيها مبلغاً رفيعاً ولم يقدروا على أكثر من ذلك ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق فنظروا فيه ولم يفض بهم إلى حقيقة الكمال فكان فيهم
منه
من قال
أن برح بي
علوم الورى اثنان ما إن فيها من مزيد حقيقة يعجز تحصيلها و باطل تحصيله ما يفيد
عودة الى ابن باجة
ثم خلف من بعدهم خلف آخر أحذق منهم نظراً وأقرب إلى

الحقيق
له
ولم يكن فيهم أثقب ذهناً ولا أصح نظراً ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن الصائغ غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته وأكثر ما يوجد من التأليف فإنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها ككتابه د في النفس و تدبير المتوحد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة وأما كتبه الكاملة فهي كتب وجيزة ورسائل مختلسة وقد صرح هو نفسه بذلك وذكر أن المعنى المقصود برهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول عطاء بينا إلا بعد عسر واستكراه شديد وان ترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق الأكمل ولو اتسع له الوقت مال لتبديلها فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل ونحن لم نلق شخصه
وأما من كان معاصراً له ممن لم يوصف بأنه في مثل درجته فلم
تر له تأليفاً
وأما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا فهم بعد في حد التزايد أو الوقوف على غير كمال أو ممن لم تصل إلينا حقيقة أمره
الفارابي
واما ما وصل إلينا من كتب أبي نصر فأكثرها في المنطق وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك فقد أثبت في كتاب الملة الفاضلة بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها بقاء لا نهاية له ثم صرح في السياسة المدنية بأنها منحلة وصائرة إلى
۷۷

العدم وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة ثم وصف في شرح كتاب الأخلاق شيئاً من أمر السعادة الإنسانية وانها إنما تكون في هذه الحياة وفي هذه الدار ثم قال عقب ذلك كلاما هذا معناه وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز فهذا قد أيأس الخلق جميعاً من رحمة الله تعالى وصير الفاضل والشرير رتبة واحدة إذ جعل مصير الكل إلى العدم وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر هذا مع ما صرح به من سوء معتقده في النبوة وانها بزعمه للقوة الخيالية وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا
حاجة إلى إيرادها
ابن سينا
وأما كتب و أرسطو طاليس فقد تكفل الشيخ أبو علي بالتعبير عما فيها وسلك طريق فلسفته في كتاب الشفاء وصرح في أول الكتاب أن الحق عنده غير ذلك وأنه إنما ألف ذلك الكتاب على مذهب المشائين وان من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتابه في الفلسفة المشرقية ومن عني بقراءة كتاب الشفاء وبقراءة كتب أرسطو طاليس ظهر له في أكثر الأمور أنها تتفق وإن كان في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو وإذا أخذ جميع ما تعطيه كتب أرسطو وكتاب الشفاء على ظاهره دون أن يتفطن لسره وباطنه لم يوصل به إلى الكمال حسبما نبه عليه الشيخ أبو علي في كتاب الشفاء
۷۸

الغزالي
وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فهو بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع ويحل في آخر ويكفر بأشياء ثم ينتحلها ثم إنه من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب التهافت إنكارهم لحشر الأجساد وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة ثم قال في أول كتاب الميزان إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع ثم قال في كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر کتاب و ميزان العمل حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام

رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه
- ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل و مستر شد
٣- ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده
ثم قال بعد ذلك ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى بذلك نفعاً فإن من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة ثم تمثل بهذا البيت

هي
خذ ما تَرَاهُ وَدَعْ شيئاً سَمِعْتَ
هي
في طلعة الشمسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحل
فهذه صفة تعليمه وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع بها إلا من وقف عليها ببصيرة نفسه أولا ثم سمعها منه ثانياً أو من كان معداً لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة وقد ذكر في كتاب الجواهر أن له كتباً مضنوناً بها على غير أهلها وأنه ضمنها صريح الحق ولم يصل إلى الأندلس في علمنا منها شيء بل وصلت كتب يزعم بعض الناس أنها تلك المضنون بها وليس الأمر كذلك وتلك الكتب كتاب و المعارف العقلية وكتاب النفخ والتسوية و مسائل مجموعة وسواها وهذه الكتب وإن كانت فيها إشارات فإنها لا تتضمن عظيم زيادة في الكشف على ما هو مثبوت في كتبه المشهورة وقد يوجد في كتاب المقصد الأسنى ما هو أغمض مما في تلك وقد صرح هو بأن كتاب المقصد الأسنى ليس مضنونا به فيلزم من ذلك أن هذه الكتب الواصلة ليست هي المضنون بها وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه الواقع في آخر كتاب المشكاة أمراً عظيما أوقعه في مهواة لا مخلص له منها وهو قوله – بعد ذكر أصناف المحجوبين بالأنوار ثم انتقاله إلى ذكر الواصلين - إنهم وقفوا على أن هذا الموجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة فأراد أن يلزمه من ذلك أنه يعتقد أن الحق سبحانه في ذاته كثرة ما تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً !
ولا شك عندنا في أن الشيخ أبا حامد بمن سعد السعادة القصوى
ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة لكن كتبه المضنون بها المشتملة
على علم المكاشفة لم تصل إلينا

من
ولم يتخلص لنا نحن الحق الذي انتهينا إليه وكان مبلغنا العلم إلا بتتبع كلامه وكلام الشيخ أبي علي وصرف بعضها إلى بعض وإضافة ذلك إلى الآراء التي نبغت في زماننا هذا ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة حتى استقام لنا الحق أولاً بطريق البحث والنظر ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة وحينئذ رأينا أنفسنا أهلا لوضع كلام يؤثر عنا وتعين علينا أن تكون – أيها السائل - أول من اتحفناه بما عندنا وأطلعناه على ما لدينا لصحيح ولائك - وزكاء صفائك غير أنا إن القينا إليك بغايات ما انتهينا إليه من ذلك من قبل أن تحكم مباديها معك ولم يفدك ذلك شيئاً أكثر من تقليدي مجمل ! هذا إن أنت حسنت ظنك بنا بحسب المودة والمؤالفة لا بمعنى أنا نستحق أن يقبل قولنا ونحن لا نقنع لك بهذه الرتبة ولا نرضى لك إلا ما هو أعلى منها إذ هي غير كفيلة بالنجاة فضلا عن الفوز بأعلى الدرجات وإنما نريد أن نحملك على المسالك التي قد تقدم عليها سلوكنا ونسبح بك في البحر الذي قد عبرناه أو حتى يقضي بك إلى ما أفضى بنا إليه فتشاهد من ذلك ما شهدناه وتتحقق ببصيرة نفسك كل ما تحققناه وتستغني عن ربط معرفتك با عرفناه
أمر
وهذا يحتاج إلى مقدار معلوم من الزمان غير يسير وفراغ من الشواغل وإقبال بالهمة كلها على هذا الفن فإن صدق منك هذا العزم وصحت نيتك للتشمير في هذا المطلب فستحمد عند الصباح مسراك وتنال بركة مسعاك وتكون قد أرضيت ربك وأرضاك

وأنا لك حيث تريده من أملك وتطمح إليه بهمتك وكليتك وأرجو أن أصل من السلوك بك على أقصد الطريق وآمنها من الغوائل والآفات وإن عرضت الآن إلى لمحة يسيرة على سبيل التشويق
۸۱

والحث على دخول الطريق فانا واصف لك قصة حي بن يقظان و أبسال وسلامان الذين سماهم الشيخ أبو علي ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب و ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهــو
شهید
۸

التي
قصة
حي بن يقظان
عنهم
أن جزيرة من جزائر الهند
الله ذكر سلفنا الصالح - رضي تحت خط الاستواء وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء وهي التي ذكر المسعودي أنها جوار الواقواق لأن تلك الجزيرة أعدل بقاع الأرض هواء وأتمها الشروق النور الأعلى عليها استعداداً وإن كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الاطباء فإنهم يرون أن أعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع فإن كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم أنه ليس على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية فلقولهم إن الاقليم الرابع أعدل بقاع الأرض وجه وإن كانوا إنما أرادوا بذلك أن ما على خط الاستواء شديد الحرارة كالذي يصرح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة وتبين فيها أيضاً أن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية وقد تبين فيها أيضاً أن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة فأما الأجسام الشفافة التي لا شيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة ولم يذكره من تقدمه فإذا صحت هذه المقدمات فاللازم عنها أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة

أجسام أخر تماسها لأن الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضاً
تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها وأحوالها في التسخين والتبريد ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين ولا الشمس أيضاً تسخن الهواء أولاً ثم تسخن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء وكيف يكون ذلك ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحـــــر أسخن كثيراً من الهواء الذي يبعد منه علواً فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير فإن الحرارة تتبع الضوء أبداً حتى إن الضوء إذا أفرط في المرآة المقعرة أشعل ما حاذاها وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية أن الشمس كروية الشكل وأن الأرض كذلك وأن الشمس أعظم من الأرض كثيراً وأن الذي يستضيء من الأرض بالشمس أبداً هو أعظم نصفها وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت اشد ما يكون الضوء في وسطه لأنه أبعد المواضع من الظلمة ولأنه يقابل من الشمس أجزاء أكثر وما قرب من المحيط كان أقل ضوءاً حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رؤوس الساكنين فيه وحينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون فإن كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رؤوس أهله كان شديد البرودة جداً وإن كان مما تدوم فيه المسامتة كان شديد الحرارة وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام عند حلولها برأس الحمل وعند حلولها برأس الميزان وهي في سائر العام ستة أشهر جنوباً منهم وستة أشهر شمالاً منهم فليس عندهم حر مفرط ولا برد مفرط وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة
٨٤

وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا لا يليق بما نحن بسبيله وإنما نبهناك عليه لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب فمنهم من بت الحكم و جزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكون في تلك البقعة من غير أم ولا أب ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبراً نقصه
عليك فقال
كثيرة
إنه كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف الفوائد عامرة بالناس يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذ لم يجد لها
كفواً
وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سراً على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم ثم انها حملت منه ووضعت طفلا فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن أروته من الرضاع وخرجت به في أول الليل من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر وقلبها يحترق صبابة به وخوفاً عليه ثم إنها ودعته وقالت
جملة
اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكوراً ورزقته في ظلمات الأحشاء وتكفلت به حتى تم واستوى وأنا قد سلمته إلى لطفك ورجوت له فضلك خوفاً من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد فكن له ولا تسلمه يا أرحم الراحمين !
ثم قذفت به في اليم فصادف ذلك جري الماء بقوة المد فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها وكان المد يصل
۸۵

ذلك الوقت إلى موضع لا يصل اليه إلا بعد عام فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة مستورة عن الرياح والمطر محجوبة عن الشمس تزاور عنها اذا طلعت وتميل اذا غربت ثم أخذ الماء في الجزر وبقي التابوت في ذلك الموضع وعلت الرمال بهبوب الرياح وتراكمت بعد ذلك حتى سدت مدخل الماء إلى تلك الأجمة فكان المد لا ينتهي اليها وكانت مسامير التابوت قد فلقت وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء إياه في تلك الأجمة فلما اشتد الجوع بذلك الطفل بكى واستغاث وعالج الحركة فوقع صوته في ظبية فقدت طلاها فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت الى التابوت ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه فحنت الظبية وحنت عليه ورحمت به وألقمته حلمتها وأروته لبنا سائغاً وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه
الأذى
أذن
هذا ما كان من ابتداء أمره عند من ينكر التولد ونحن نصفه هنا كيف تربى وكيف انتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم

وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فإنهم قالوا إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها اخر بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى و كانت هه الطينة المسمرة كبيرة جداً وكان بعضها يفضل بعضاً في اعتدال المراح والتهين لتكرا الأمشاج وكان الوسط منها أعدل ما فيها واتمه مشابهة بمزاج الإنسان فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها

شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جداً منقسمة بقسمين بينها حجاب رفيق ممتلئة يحسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به فتعلق به عند ذلك و الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبئاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هــــو دائم الفيضان على العلم فمن الأجسام ما لا يستضيء به وهو الهواء الشفاف جداً ومنها ما يستضيء به بعض استضاءة وهي الأجسام الكثيفة غير الصقيلة وهذه تختلف في قبول الضياء وتختلف بحسب ذلك ألوانها ومنها ما يستضيء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها فإذا كانت هذه المرآة مقعرة على شكل مخصوص حدث فيها النار لإفراط الضياء وكذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى فياض أبداً على جميع الموجودات فمنها ما لا يظهر أثره فيه لمـــــدم الاستعداد وهي الجمادات التي لا حياة لها وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم ومنها ما يظهر أثره فيه وهي أنواع النبات بحسب استعداداتها وهذه بمنزلة الأجسام الكثيفة في المثال المتقدم ومنها ما يظهر أثره فيه ظهوراً كثيراً وهي أنواع الحيوان وهذه بمنزلة الأجسام الصقيلة في المثال المتقدم
ومن هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس ومثالها وكذلك أيضاً من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله المروح أنه يحكي الروح ويتصور بصورته وهو الإنسان خاصة وإليه الإشارة بقوله إن الله خلق آدم على صورته فإن قويت فيه هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها وتبقى هي وحدها وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته كانت
AY

حينئذ بمنزلة المرآة المنعكسة على نفسها المحرقة لسواها وهذا لا يكون إلا للانبياء صلوات الله عليهم أجمعين وهدا كله مبين في مواضعه اللائقة به فليرجع إلى تمام ما حكـــــوه من وصف ذلك التخلق
القوى
قالوا فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة خضعت له جميع وسجدت له وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها فتكون بإزاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارات بينها حجب لطيفة ومسالك نافذة وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارات الأولى إلا أنه ألطف منه
وسكن في هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة
الأولى
وتكون أيضاً بإزاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقرارة الثانية نفاخة ثالثة مملوءة جسماً هوائياً إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة وتوكلت بحفظها والقيام عليها فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه
واحتاج بعضها إلى بعض فالأولى منها حاجتها إلى الأخريين حاجة استخدام وتسخير والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس والمدبر إلى المدير وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء
رئيس لا مرؤوس وأحدهما وهو الثاني اتم رئاسة من الثالث
۸۸

فالأول منهما لما تعلق به الروح واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار الصنوبري وتشكل أيضاً الجسم الغليظ المحدق به على شكله وتكون لحماً صلباً وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلباً واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وإفناء الرطوبات إلى شيء عمده ويغذوه ويخلف ما تحلل منه على الدوام وإلا لم يطل بقاؤه واحتاج أيضاً إلى أن يحس بما يلائمه فيجتذبه وبما يخالفه فيدفعه فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة وتكفل له العضو الآخر بحاجته الأخرى وكان المتكفل بالحس هو الدماغ والمتكفل بالغذاء هو و الكبد واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدهما بحرارته وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق بعضها أوسع
من بعض بحسب ما تدعو إليه الضرورة فكانت الشرايين والعروق
ثم ما زالوا يصفون الخلقة كلها والأعضاء يحملتها على حسب ما وصفه

الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم لم يغادروا من ذلك شيئاً إلى أن كمل خلقه وتمت أعضاؤه وحصل في حد خروج الجنين من البطن واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة وأنها كانت قد تهيأت لأن يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في خلق
الإنسان من الأغشية المجللة الجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك
الأغشية بشبه المخاض وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف

ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه
فلبته ظبية فقد طلاها

ثم استوى ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع الأولى في معنى التربية فقالوا جميعاً
6
وما وصفته الطائفة

نشأة
حي بن يقظان
إن الظبية التي تكفلت به وافقت خصباً ومرعى أثيثاً فكثر لحمها و در لبنها حتى قام بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي وألف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه

ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حولان وتدرج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر ! فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها ومتى عاد إلى اللبن أروته ومتى ظمىء إلى الماء أوردته ومتى ضحا ظللته ومتى خصر أدفأته وإذا جن الليل صرفته إلى مكانه الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك مما ملىء به التابوت أولاً في وقت وضع الطفل فيه وكان في غدوهما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح
ويبيت معهما حيث مبيتهما
حي
يقلد الحيوانات
فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرق بينهما وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما

يريده وأكثر ما كانت محاكاته الأصوات الظباء في الاستمراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها ولم تنكره ولا أنكرها فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد تغيبها عن مشاهدته حدث له نزوع إلى بعضها وكراهية لبعض
الحاجة تدفعه الى التفكير
وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيونات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الريش وكان يرى ما لها من العدو وقوة البطش وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها مثل القرون والأنياب والحوافر والصياحي والمخالب ثم يرجع إلى نفسه فيرى ما به من العري وعدم السلاح وضعف العدو وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها
وكان يرى أترابه من أولاد الظباء قد نبتت لها قرون بعد أن لم تكن وصارت قوية بعد ضعفها في العدو ولم یر لنفسه شيئا من ذلك كله فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهاً فيهم ومن أيضاً ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوان فيراها مستورة أما يخرج اغلظ الفضلتين فبالأذناب وأما مخرج أرقها فبالأوبار وما أشبهها ولأنها كانت أيضاً أخفى قضباناً منه فكان ذلك يكربه ويسوده و اطوال همه في ذلك كله وهو قد
۹۱

قارب سبعة أعوام ويئس من أن يكمل له ما قد أضر به نقصه اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئاً جعل بعضه خلفه وبعضه قدامه وعمل من الخوص والحلفاء شبه حزام على وسطه علق به تلك الأوراق فلم يلبث إلا يسيراً حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة وربما كان ذلك أطول لبقائه ! إلا أنه على كل حال قصير المدة واتخذ من أغصان الشجر عصيا وسوى أطرافها وعدل متنها وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له فيحمل على الضعيف منها ويقاوم القوي منها قنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة ورأى أن ليده فضلا كثيراً على أيديها إذ أمكن له بها من ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته ما استغنى به عما أراده من الذنب والسلاح الطبيعي
وفي خلال ذلك ترعرع وأربى على السبع سنين وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان يستتر بها فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من أذناب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الإقدام على ذلك الفعل إلى أن صادف في بعض الأيام نسراً ميتاً فهدي إلى نيل أمله منه واغتنم الفرصة فيه إذ لم ير للوحوش عنه نفرة فأقدم عليه وقطع جناحيه وذنبه صحاحاً كما هي وفتح ريشها وسواها وسلخ عنه سائر جلده وفصله على قطعتين ربط احداهما على ظهره والأخرى على سرته وما تحتها وعلق الذنب من خلفه وعلق الجناحين على عضديه فأكسبه ذلك ستراً ودفئاً ومهابة في نفوس جميع الوحوش حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه
فصار لا يدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته
۹

وربته فإنها لم تفارقه ولا فارقها إلى أن أسنت وضعفت فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويحتني لها الثمرات الحلوة ويطعمها
العاطفة باعث قوي على التفكير والتجربة

وما زال الهزال والضعف يستولى عليها ويتوالى إلى أن أدركها الموت فسكنت حركاتها بالجملة وتعطلت جميع أفعالها فلما رآها الصبي على تلك الحالة جزع جزعاً شديداً وكادت نفسه تفيض أسفاً عليها فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعها ويصيح بأشد ما يقدر عليه فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغييراً فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها فترجع إلى ما كانت عليه يتأت له شيء من ذلك ولا استطاعه وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك لأنه كان يرى أنه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر شيئاً حتى يزول ذلك العائق وكذلك كان يرى أنه إذا أدخل إصبعيه في أذنيه وسدهما لا يسمع شيئاً حتى يزول ذلك العارض وإذا أمسك أنفه بيده لا شيئاً من الروائح حتى يفتح أنفه فاعتقد من أجل ذلك أن جميع ما له الإدراكات والأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها فإذا أزيلت تلك
العوائق عادت الأفعال
بشم
من
فلما نظر إلى جميع أعضائها الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة - وكان

يرى من ذلك العطلة قد شملتها ولم يختص بها عضو دون عضو - وقع في خاطره أن الآفة التي نزلت بها إنما هي في عضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد وإن ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه الأعضاء الظاهرة فلما نزلت به الآفة عمت المضرة وشملت العطلة وطمع لو أنه عثر على ذلك العضو وأزال عنه ما نزل به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه
من

وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة لا تجويف فيها إلا القحف والصدر والبطن فوقع في نفسه أن العضو الذي بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة وكان يغلب على ظنه غلبة قوية انه إنما هو في الموضع المتوسط هذه المواضع الثلاثة إذ كان قد استقر في نفسه أن الأعضاء جميع محتاجة إليه وأن الواجب بحسب ذلك أن يكون مسكنه في الوسط وكان أيضاً إذا رجع إلى ذاته شعر بمثل هذا العضو في صدره لأنه كان يعترض سائر أعضائه كاليد والرجل والأذن والأنف والعين ويقدر مفارقتها فيتأتى له أنه كان يستغني عنها وكان يقدر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه فإذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره لم يتأت له الاستغناء عنه طرفة عين وكذلك كان عند محاربته للوحوش أكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره لشعوره بالشيء
الذي فيه
فلما جزم الحكم بأن العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو في صدرها أجمع على البحث عليه والتنقير عنه لعله يظفر به
آفته ویری فيزيلها ثم إنه خاف أن يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي

نزلت بها أولاً فيكون منعيه عليها
ثم إنه تفكر هل رأى من الوحوش وسواها من صار في مثل تلك الحال ثم عاد إلى مثل حاله الأول فلم يجد شيئاً ! فحصل له من ذلك اليأمن من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو تركها وبقي له بعض رجاء في رجوعها إلى تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه
أخذه في التشريح ومعرفته بالقلب
فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة أشباه السكاكين وشق بها بين أضلاعها حتى قطع اللحم الذي بين الأضلاع وأفضى الى الحجاب المستبطن للأضلاع فرآه قوياً فقوي ظنه بأن مثل ذلك الحجاب لا يكون الا لمثل ذلك العضو وطمع بأنه اذا تجاوزه ألفى مطلوبه فحاول شقــــه فصعب عليه لعدم الآلات ولأنها لم تكن الا من الحجارة والقصب فاستحدها ثانية واستحدها وتلطف خرق الحجاب حتى انخرق له فأفضى إلى الرئة فظن أولا أنها مطلوبه فما زال يقلبها ويطلب موضع
الآفة بها
وكان أولاً لنما وجد منها نصفها الذي هو في الجانب الواحد فلما رآها مائلة الى جهة واحدة وكان قد اعتقد أن ذلك العضو لا يكون في الوسط في عرض البدن كما هو في الوسط في طوله فما زال
الا
۹۵

يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة مربوط بعلائق في غاية الوثاقة والرئة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها فقال في نفسه وان كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من هذه الجهة فهو في حقيقة الوسط ولا محالة أنه مطلوبي لا سيما مع ما أرى له من حسن الوضع وجمال الشكل وقلة التشتت وقوة اللحم وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم الأعضاء أر مثله لشيء من
فبحث عن الجانب الآخر من الصدر فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع ووجد الرئة كمثل ما وجده من هذه الجهة فحكم بأن ذلك العضو هــــو مطلوبه فحاول هتك حجابه وشق شغافه فبكد واستكراه ما قدر على ذلك بعد استفراغ مجهوده
وجرد القلب فرآه مصمتاً من كل جهة فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة فلم ير فيه شيئاً ! فشد عليه يده فتبين له أن فيه تجويفا فقال لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو وأنا حتى الآن لم أصل إليه فشق عليه فألفى فيه تجويفين اثنين أحدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى والذي من الجهة اليمنى مملوء يعلق منعقد والذي من الجهة اليسرى خال لا شيء فيه فقال لن يعدو مطلبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين ثم قال أما هذا البيت الأيمن فلا أرى فيه غير هذا الدم المنعقد ولا شك أنه ينعقد حتى صار الجسد كله إلى هذا الحال إذ كان قد شاهد أن الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت ولم يكن هذا إلا دما كسائر الدماء وأنا أرى أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به عضو دون آخر وأنا ليس مطلوبي شيئاً بهذه الصفة إنما مطلوبي الشيء
لم
99

الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة عين وإليه كان انبعائي من أول وأما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني كثير منه فما ضرني ذلك ولا أفقدني شيئا من أفعالي فهذا بيت ليس فيه مطلوبي وأما هذا البيت الأيسر فأراه خالياً لا شيء فيه وما أرى ذلك لباطل فإني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما هو لفعل يختص به فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطلا ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه ! فارتحل عنه وأخلاه وعند ذلك طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ ففقد الادراك وعدم الحراك

فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث فصار عنده الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء ما هو وكيف هو وما الذي ربطه بهذا الجسد والى أين صار ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد وما السبب الذي أزعجه ان كان خرج کارها وما السبب الذي كره اليه الجسد حتى فارقه ان كان خرج مختاراً
وتشتت فكره في ذلك كله وسلا عن ذلك الجسد وطرحه وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته إنما كانت ذلك الشيء المرتحل وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها لا هذا الجسد العاطل وأن هذا الجسد يجملته إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها لقتال الوحوش فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه ولم
هو

يبق له شوق إلا إليه
وفي خلال ذلك أصل ذلك الجسد وقامت منه روائح كريهة فزادت نفرته عنه وود أن لا يراه ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتاً ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه ! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي ! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها التراب وبقي يتفكر في ذلك الشيء المتلف للجسد ولا يدري ماهو ! غير أنه كان ينظر إلى أشخاص الظباء كلها فيراها على شكل أمه وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه أن كل واحد منها إنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك
الشبه
وبقي على ذلك برهة من الزمن يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبيها حسبما يرى لكل واحد من اشخاص الحيوان والنبات أشباها - كثيرة فلا يجد شيئا من ذلك وكان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من كل جهة فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك
۹۸

معرفته النار وتعوده أكل اللحم
واتفق في بعض الأحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل
المحاكة

فلما بصر بها رأى منظـ راً هاله وخلقاً لم يعهده قبل فوقف يتعجب منها ملياً وما زال يدنو منها شيئاً فشيئاً فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها فحمله العجب بها وبما ركب الله تعالى في طباعه من الجراءة والقوة على أن يمد يده إليها وأراد أن يأخذ منها شيئاً فلما باشرها أحرقت يده فلم يستطع القبض عليها فاهتدى إلى أن يأخذ قبساً لم تستول النار على جميعه فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر فتأتى له ذلك وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه - وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكني قبل ذلك
ثم مازال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل ويتعهدها ليلا و نهاراً استحساناً لها وتعجباً منها وكان يزيد أنسه بها ليلا لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء فعظم بها ولوعه واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه وكان دائما يراها تتحرك إلى جهة فوق و تطلب العلو فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان
يشاهدها
وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء بأن يلقيها فيها فيراها مسئولية عليه إما بسرعة وإما ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه
۹۹

وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختبار لقوتها شيء من
أصناف الحيوانات البحرية - كان قد القاه البحر إلى ساحله - فلما أنضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه فأكل منه شيئاً فاستطابه فاعتاد بذلك أكل اللحم فصرف الحيلة في صيد البر والبحر حتى مهر في
ذلك

وزادت محبته للنار إذ تأتى له بها من وجوه الاعتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلك فلما اشتد شغفه بها لما رأى من حسن آثارها وقوة اقتدارها وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمـــه الطبية التي أنشأته كان من جوهر هذا الموجود أو من شيء يجانسه وأكد ذلك في ظنه ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته وبرودته من بعد موته وكل هذا دائم لا يختل وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره بإزاء الموضع الذي كان قد شق عليه من الظبية فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيوانا حياً ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خالياً عندما شق عليه في أمه الظبية لرآه في هذا الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه وتحقق هل هو من جوهر النار وهل فيه شيء من الضوء والحرارة أم لا فعمد إلى بعض الوحوش واستوثق منه كتافاً وشقه على الصفة التي شق بها الظبية حتى وصل إلى القلب فقصد أولاً إلى الجهة اليسرى منه وشقها فرأى ذلك الفراغ مملوءاً بهواء بخاري
وشق قلبه
يشبه الضباب الأبيض فأدخل إصبعه فيه فوجده من الحرارة في كاد يحرقه ومات ذلك الحيوان على الفور فصح عنده أن ذلك البخار الحا هو الذي كان يحرك هذا الحيوان وأن في كل شخص من أشخاص احيوانات مثل ذلك ومتى انفصل عن الحيوان مات
ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها

وأوضاعها وكمياتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى ومن أين يستمد وكيف لا تنفد حرارته فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء والأموات ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان وإن كان كثيراً بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له أو مؤدية عنه وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام ويصيد جميع صيد البحر والبر فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم إلى ما يدفع به نكاية غيره وإلى ما ينكي بها غيره
وكذلك آلات الصيد تنقسم الى ما يصلح لحيوان البحر وإلى ما يصلح الحيوان البر وكذلك الأشياء التي يشرح بها تنقسم الى ما يصلح للشق والى ما يصلح للكسر والى ما يصلح للثقب والبدن واحد وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصريف
كذلك ذلك الروح الحيواني واحد واذا عمل بآلة العين كان فعله ابصاراً واذا عمل بآلة الأذن كان فعله سمعاً واذا عمل بآلة الأنف كان فعله شما واذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقاً واذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمساً واذا عمل بالعضد كان فعله حركة واذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء
ولكل واحد من هذه أعضاء تخدمه ولا يتم لشيء من هذه
۱۰۱

فعل الا بما يصل اليها من ذلك الروح على الطرق التي تسمى عصباً ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت تعطل فعل ذلك العضو وهذه الأعصاب انما تستمد الروح من بطون الدماغ والدماغ يستمد الروح من القلب والدماغ فيه أرواح كثيرة لأنه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة فأي عضو عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة الآلة المطرحة التي لا يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها فإن خرج هذا الروح يحملته عن الجسد أو فني أو تحلل بوجه من الوجوه تعطل الجسد كله وصار الى حالة الموت فانتهى به هذا النحو من النظر على رأس ثلاثة أسابيع من منشئه وذلك أحد
وعشرون عاماً
اهتداؤه لاستعمال الآلات
وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجوه حيله واكتسى يجلود الحيوانات التي كان يشرحها واحتذى بها واتخذ الخيوط من الأشعار ولحا قصب الخطمية والخبازي والقنب وكل نبات ذي خيط
وحصن عليه
وكان أصل اهتدائه الى ذلك انه أخذ من الخلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة واهتدى الى البناء بما رأي من فصل الخطاطيف فاتخذ مخزناً وبيتاً لفضلة غذائه بباب من القصب المربوط بعضه الى بعض لئلا يصل اليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه واستأنف جوارح الطير ليستعين بها في الصيد واتخذ الدواجن لينتفع ببيضها وفراخها واتخذ من صياصي البقر الوحشية شبه الأسنة وركبها في القصب القوي
۱۰

وفي عصي الزان وغيرها واستعان في ذلك بالنار وبحروف الحجارة حتى صارت شبه الرماح واتخذ ترسه من جلود مضاعفة كل ذلك لما رأى من عدمه السلاح الطبيعي
ولما رأى أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها إلا أنها كانت تفر عنه فتعجزه هرباً فكر في وجه الحيلة في ذلك فلم پر شيئاً أنجح له من أب يتألف بعض الحيوانات الشديدة العدو ويحسن اليها باعداد الغذاء الذي يصلح لها حتى يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها وكان بتلك الجزيرة خيل برية وحمر وحشية فاتخذ منها ما يصلح له وراضها حتى كمل له بها غرضه وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتأتى له بذلك ما أمله من طرد الحيوانات التي صحبت عليه الحيلة في أخذها وانما تفنن في هذه الأمور كلها في وقت اشتغاله بالتشريح وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان وبماذا تختلف وذلك في المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عاماً
معنى الوحدة والكثرة في الجسم والروح
ثم إنه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر فتصفح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد من الحيوانات على اختلاف أنواعها والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد والدخان واللهيب والجمر فرأى لها أوصافاً كثيرة وأفعالاً مختلفة وحركات متفقة ومتضادة وأنعم النظر في ذلك والتثبت فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض وأنها من

الجهة التي تتفق بها واحدة ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عـــــن بعض فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر وينتشر له الوجـــــــود انتشاراً لا يضبط
وكانت تتكثر عنده أيضاً ذاته لأنه كان ينظر إلى اختلاف أعضائه وأن كل واحد منها منفرد بفعل وصفة تخصه وكان ينظر كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة الى أجزاء كثيرة جداً فيحكم على ذاته بالكثرة وكذلك على ذات كل شيء ثم كان يرجع الى نظر آخر من طريق ثان فيرى أن أعضاءه وان كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض لا انفصال بينها بوجه فهي في حكم الواحد وأنها لا تختلف الا بحسب اختلاف أفعالها وأن ذلك الاختلاف انما هو بسبب ما يصل اليها من قوة الروح الحيواني الذي انتهى اليه نظره أولاً وأن ذلك الروح واحد في ذاته وهو حقيقة الذات وسائر الأعضاء كلها كالآلات فكانت تتحد عنده ذاته بهذا
الطريق
ثم كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوان فيرى كل شخص منها واحداً بهذا النوع من النظر ثم كان ينظر إلى نوع منها كالظباء والخيل والحمر وأصناف الطير صنفاً صنفاً فكان يرى اشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضاً في الأعضاء الظاهرة والباطنة والإدراكات والحركات والمنازع ولا يرى بينها اختلافاً إلا في اشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه وكان يحكم بأن الروح الذي الجميع ذلك النوع شيء واحد وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة وأنه لو أمكن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد
أن
12

لكان كله شيئاً واحداً بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد يفرق على أوان كثيرة ثم يجمع بعد ذلك فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد إنما عرض له التكثر بوجه ما فكان يرى النوع كله بهذا النظر واحداً ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثرة أعضاء الشخص الواحد التي لم تكن كثرة في الحقيقة
أن هذه الأفعال
هي

ثم كان يحضر أنواع الحيوان كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس وتغتذي وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت وكان قد علم أخص أفعال الروح الحيواني وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني فظهر له بهذا التأمل أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة وإن كان فيه اختلاف يسير اختص به نوع دون نوع بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوان كثيرة بعضه أبرد من بعض وهو في أصله واحد وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد وإن عرض له التكثر بوجه ما فكان يرى جنس الحيوان كله واحداً بهذا النوع من النظر ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها فيرى كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضاً في الأغصان والورق والزهر والثمر والأفعال فكان يقيسها بالحيوان ويعلم أن لها شيئاً واحداً اشتركت فيه هو لها بمنزلة الروح للحيوان وأنها بذلك الشيء واحد وكذلك كان ينظر إلى جنس النبات كله فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو
ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات فيراهما جميعاً متفقين في الاغتذاء والنمو إلا أن الحيوان يزيد على النبات بفضل
10

الحس والإدراك والتحرك وربما ظهر في النبات شيء شبيه به مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس وتحرك عروقه إلى جهة الغذاء وأشباه ذلك فظهر له بهذا التأمل أن النبات والحيوان شيء واحد بسبب شيء واحد مشترك بينهما هو في أحدهما أتم وأكمل وفي الآخر قد عاقه عائق ما وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين أحدهما جامد والآخر سيال فيتحد عنده النبات والحيوان
ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو من الحجارة والتراب والماء والهواء واللهب فيرى أنها أجسام مقدر لها طول وعرض وعمق وأنها لا تختلف إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار وبعضها بارد ونحو ذلك من الاختلافات وكان يرى أن الحار منها يصير بارداً والبارد يصير حاراً وكان يرى الماء
"
يصير بخاراً والبخار ماء والأشياء المحترقة تصير جمراً ورماداً ولهيباً ودخانا والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية فيظهر له بهذا التأمل أن جميعها شيء واحد في الحقيقة وإن لحقتها الكثرة بوجه ما فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات

ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عنده النبات والحيوان فيرى أنه جسم مماثل هذه الأجسام له طول وعرض وعمق وهو إما حار واما بارد كواحد من هذه الأجسام التي لا تحس ولا تتغذى وإنما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير ولعل تلك الأفعال ليست ذاتية وإنما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام الأخر لكانت مثله فكان ينظر اليه بذاته مجرداً عن هذه الأفعال التي تظهر ببادي الرأي أنها صادرة عنه فكان يرى
١٠٦

أنه ليس إلا جسما من هذه الأجسام فيظهر له بهذا التأمل أن الأجسام كلها شيء واحد حيها وجمادها متحركها وساكنها إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالاً بآلات ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها أو سارية إليها من غيرها وكان في هذه الحال لا يرى شيئاً غير الأجسام فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئاً واحداً وبالنظر الأول يرى الوجود كثرة لا تنحصر ولا تتناهى وبقي بحكم هذه الحالة
مدة
ثم إنه تأمل جميع الأجسام حيها وجمادها وهي التي هي عنده تارة شيء واحد وتارة كثيرة كثرة لا نهاية لها فرأى أن كل واحد منها لا يخلو من أحد أمرين إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء إذا حصل تحت الماء وإما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لتلك الجهة وهي جهة السفل مثل الماء وأجزاء الأرض وأجزاء الحيوان والنبات وأن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى عن إحدى هاتين الحركتين وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه الحجر النازل يصادف وجه الأرض صلباً فلا يمكن أن يخرقه ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر ولذلك إذا رفعته وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل طالباً للنزول وكذلك الدخان في صعوده لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه فحينئذ ينعطف يميناً وشمالاً ثم إذا تخلص من تلك القبة خرق الهواء صاعداً لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه
وكان

أن الهواء اذا ملی به زق جلد وربط ثم غوص تحت یری الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء وذلك بخروجه من تحت الماء فحينئذ
۱۰۷

يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك
ونظر هل يجد جسماً يعرى عن احدى هاتين الحركتين أو الميل الى إحداهما في وقت ما فلم يجد ذلك في الأجسام التي لديه وانما طلب ذلك لأنه طمع أن يجده فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم دون أن يقترن به وصف من الأوصاف التي هي منشأ التكثر
"
فلما أعياه ذلك ونظر إلى الأجسام التي هي أقل الأجسام حملا للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين الوصفين بوجه وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة فنظر إلى الثقل والخفة هل هما للجسم من حيث هو جسم أو هما لمعنى زائد على الجسمية فظهر له أنهما لمعنى زائد على الجسمية لأنهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم لما وجد جسم إلا وهما له ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة والخفيف لا يوجد فيه الثقل وهما لا محالة جسمان ولكل واحد منها معنى منفرد به عن الآخر زائد على جسميته وذلك المعنى الذي به غاير كل واحد منهما الآخر ولولا ذلك لكان شيئاً واحداً من جميع الوجوه فتبين له أن حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف مركبة من معنيين أحدهما ما يقع فيه الاشتراك منها جميعاً وهو معنى الجسمية والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما على الآخر وهو إما الثقل في أحدهما وإما في الآخر المقترنان بمعنى الجسمية أي المعنى الذي يحرك أحدهما
الخفة
علواً والآخر سفلا
1A

أول ما لاح له من العالم الروحاني أو الصورة والنفس
هي
وكذلك نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منها مركبة من معنى الجسمية ومن شيء آخر زائد على الجسمية إما واحد واما أكثر من واحد فلاحت له صور الأجسام على اختلافها هو أول ما لاح له من العالم الروحاني اذ صور لا تدرك بالحس وانما تدرك بضرب ما من النظر العقلي ولاح له في جملة ما لاح من ذلك أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب - وهو الذي تقدم شرحه أولاً - لا بد له أيضاً من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة التي تختص به من ضروب الإحساسات وفنون الادراكات وأصناف الحركات وذلك المعنى هو صورته وفصله الذي انفصل به عن سائر الأجسام وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية
وكذلك أيضا للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان شيء يخصه هو صورته وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية وكذلك لجميع أجسام الجمادات وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد شيء يخصها به يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها وذلك الشيء هو صورة كل واحد منها وهو الذي يعبر النظار عنه بالطبيعة
فلما وقف بهذا النظر على أن حقيقة الروح الحيواني الذي كان تشوقه إليه أبداً مركبة من معنى الجسمية ومن معنى آخر زائد على
۱۰۹

هي
الجسمية وأن معنى هذه الجسمية مشترك ولسائر الأجسام والمعنى الآخر المقترن به ينفرد به هو وحده هان عنده معنى الجسمية فاطرحه وتعلق فكره بالمعنى الثاني وهو الذي يعبر عنه بالنفس فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها لا من جهة ما هي أجسام بل من جهة ما ذوات صور تلزم عنها خواص ينفصل بها بعضها عن بعض فتتبع ذلك وحصره في نفسه فرأى جملة من الأجسام تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما أو أفعال ما ورأى فريقاً من تلك الجملة أنه يشارك الجملة بتلك الصورة يزيد عليها بصورة أخرى يصدر منها أفعال ما ورأى طائفة من ذلك الفريق مع أنها تشارك الفريق في الصورة الأولى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة تصدر عنها أفعال ما خاصة بها مثال ذلك أن الأجسام الأرضية مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان وسائر الأجسام الثقيلة هي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحركة إلى أسفل ما لم يعقها عائق عن النزول ومتى حركت إلى جهة العلو بالقسر ثم تركت تحركت بصورتها إلى أسفل وفريق من هذه الجملة وهو النبات والحيوان مشاركة الجملة المتقدمة في تلك الصورة يزيد عليها مع صورة أخرى يصدر عنها التغذي والنمو والتغذي هو أن يخلف المتغذي بدل ما تحلل منه بأن يحيل إلى التشبه بجوهره مادة قريبة منه يجتذبها إلى نفسه والنمو هو الحركة في الأقطار الثلاثة على نسبة محفوظة في الطول والعرض والعمق
فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان وهما لا محالة صادران عن صورة مشتركة لهما وهي المعبر عنها بالنفس النباتية
وطائفة من هذا الفريق وهو الحيوان خاصة
مع مشاركته

الفريق المتقدم في الصورة الألى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة يصدر عنها الحس والتنقل من حين إلى آخر
ورأى أيضا كل نوع من أنواع الحيوان له خاصية ينحاز بها عن سائر الأنواع وينفصل بها متميزاً عنها فعلم أن ذلك صادر عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان وكذلك لكل واحد من أنواع النبات مثل ذلك فتبين له أن الأجسام المحسوسة التي في عالم الكون والفساد بعضها تلتئم من معان كثيرة زائدة على معنى الجسمية وبعضها من معان أقل وعلم أن معرفة الأقل أسهل من معرفة الأكثر فطلب أولاً الوقوف على حقيقة الشيء الذي تلتثم حقيقته من أقل الأشياء ورأى أن الحيوان والنبات لا قلتثم حقائقها إلا من معان كثيرة لتفنن أفعالهما فأخر التفكر في صورهما وكذلك رأى أن أجزاء الأرض بعضها أبسط من بعض فقصد منها إلى أبسط ما قدر عليه وكذلك رأى أن الماء شيء قليل التركيب لقلة ما يصدر عن صورته من الأفعال وكذلك رأى النار
والهواء

وقد كان سبق إلى ظنه أولاً أن هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض وأن لها شيئاً واحداً تشترك فيه وهو معنى الجسمية وأن ذلك الشيء ينبغي أن يكون خلوا من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذه الأربعة عن الآخر فلا يمكن أن يتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل ولا أن يكون بارداً ولا أن يكون رطباً ولا يابساً لأن كل واحد من هذه الأوصاف لا يعم جميع الأجسام فليست إذن للجسم بما هو جسم فإذا أمكن وجود جسم ! لا صورة فيه زائدة على الجسمية فليس تكون فيه صفة من هذه الصفات ولا يمكن أن تكون فيه
۱۱۱

صفة إلا وهي تعم سائر الأجسام المتصور بضروب الصور
حقيقة الجسم
فنظر هل يجد وصفاً واحداً يعم جميع الأجسام حيها وجمادها فلم يجد شيئاً يعم الأجسام كلها إلا معنى الامتداد الموجود في جميعها في الأقطار الثلاثة التي يعبر عنها بالطول والعرض والعمق فعلم أن هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم لكنه لم يتأت له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها حتى لا يكون فيه معنى زائد على الامتداد المذكور ويكون بالجملة خلوا من سائر الصور
ثم تفكر في هذا الامتداد إلى الأقطار الثلاثة هل هو معنى الجسم بعينه وليس ثم معنى آخر أو ليس الأمر كذلك فرأى أن وراء الامتداد معنى آخر هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد وأن الامتداد وحده لا يمكن أن يقوم بنفسه كما أن ذلك الشيء الممتد لا يمكن أن يقوم دون امتداد واعتبر ذلك ببعض هذه الأجسام المحسوسة ذوات الصور كالطين مثلاً فرأى أنه إذا عمل منه شكل ما كالكرة مثلاً كان له طول وعرض و عمق على قدر ما ثم إن تلك الكرة بعينها لو أخذت وردت إلى شكل مكعب أو بيضي لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق وصارت على قدر آخر غير الذي كانت عليه والطين واحد بعينه لم يتبدل غير أنه لا بد له من طول وعرض وعمق على أي قدر كان ولا يمكن أن يعرى عنها غير أنها لتعاقبها عليه تبين له أنها معنى على حياله ولكونه لا يعرى بالجملة عنها تبين له أنها
من حقيقته
۱۱

فلاح له بهذا الاعتبار أن الجسم بما هو جسم مركب على
الحقيقة من معنيين
أحدهما يقوم منه مقام الطين للكرة في هذا المثال
والآخر يقوم مقام طول الكرة وعرضها وعمقها أو المكعب أو أي شكل كان له وأنه لا يفهم الجسم إلا مركباً من هذين المعنيين وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر ولكن الذي يمكن أن يتبدل ويتعاقب على أوجه كثيرة وهو معنى الامتداد يشبه الصورة التي لسائر الأجسام ذوات الصور والذي يثبت على حال واحدة وهو الذي ينزل منزلة الطين في المثال المتقدم يشبه معنى الجسمية التي لسائر الأجسام ذوات الصور وهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة
كل حادث لا بد له
محدث من
فلما انتهى نظره إلى هذا الحد وفارق المحسوس بعض مفارقة وأشرف على تخوم العالم العقلي استوحش وحن إلى ما ألفه من عالم الحس فتقهقر قليلا وترك الجسم على الإطلاق إذ هو أمر لا يدركه الحس ولا يقدر على تناوله فأخذ أبسط الأجسام المحسوسة التي وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها فأول ما نظر إلى الماء فرأى أنه إذا خلي وما تقتضيه صورته ظهر منه برد محسوس وطلب النزول إلى أسفل فإذا سخن إما بالنار واما بحرارة
شاهدها

۸

الشمس زال عنه البرد أولاً وبقي فيه طلب النزول فإذا أفرط عليه بالتسخين زال عنه طلب النزول إلى أسفل وصار يطلب الصعود إلى فوق فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا أبداً يصدران عن صورته ولم يعرف من صورته أكثر من صدور هذين الفعلين عنها فلما زال هذان الفعلان بطل حكم الصورة فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها أن تصدر عن صورة أخرى وحدثت له صورة أخرى بعد أن لم تكن وصدر عنه بها يكن من شأنها أن تصدر عنه وهو بصورته الأولى
أفعال
لم
فارتسم في نفسه
فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بد له من محدث بهذا الاعتبار فاعل للصورة ارتساماً على العموم دون تفصيل
شيء
أكثر من
ثم إنه تتبع الصور التي كانت قد عاينها قبل ذلك صورة صورة فرأى أنها كلها حادثة وأنها لا بد لها من فاعل ثم إنه نظر إلى ذوات الصور فلم ير أنها استعداد الجسم لأن يصدر عنه ذلك الفعل مثل الماء فإنه إذا أفرط عليه التسخين استعد للحركة إلى فوق وصلح لها فذلك الاستعداد هو جدورته إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه بعد أن لم تكن مثل الكيفيات والحركات وفاعل يحدثها بعد أن لم تكن فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض هو استعداده بصورته ولاح له مثل ذلك في جميع الصور فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها وهذا المعنى الذي لاح له وهو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به وفي محكم التنزيل فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنْ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْت
١١٤

ولَكِنَّ الله رَمَى
قلما لاح له من أمر هذا الفعل لاح على الإجمال دون تفصيل حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل ولأنه لم يكن بعد فارق عالم الحس جعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات وهو لا يعلم بعد هل هو واحد أو كثير فتصفح جميع الأجسام التي لديه وهي التي كانت فكرته أبداً فيها فرآها كلها تتكون تارة وتفسد أخرى وما لم يقف على فساد جملته وقف على فساد أجزائه امثل الماء والأرض فإنه رأى أجزاء هما تفسد بالنار وكذلك الهواء راه يفسد بشدة البرد حتى يتكون منه ثلج فيسيل ماء
وكذلك سائر الأجسام التي كانت لديه ولم ير منها شيئاً بريئاً عن الحدوث والافتقار الى الفاعل المختار فاطرحها كلها وانتقلت فكرته إلى الأجسام السماوية
الاجسام السماوية
وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه وذلك ثمانية وعشرون عاماً فعلم أن السماء وما فيها من الكواكب أجسام لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة الطول العرض والعمق لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة فهو
جسم فهي اذن كلها أجسام
1 - سورة الانفال ١٧
١١٥

كل جسم
متناه
ثم تفكر هل هي ممتدة إلى غير نهاية وذاهبة أبداً في الطول والعرض والعمق إلى غير نهاية أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد فتحير في ذلك بعض حيرة ثم انه بقوة فطرته وذكاء خاطره رأى أن جسماً لا نهاية له أمر باطل وشيء لا يمكن ومعنى لا يعقل وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال أما هذا الجسم السماري فهو متناه من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي فهذا لا أشك فيه لأنني ادركه ببصري وأما الجهة التي تقابل هذه الجهة وهي التي يداخلني فيها الشك فإني ايضاً اعلم من المحال ان تمتد إلى غير نهاية لأني إن تخيلت ان خطين اثنين يبتدئان من هذه الجهة المتناهية ويمران في سمك الجسم الى غير نهاية حسب امتداد الجسم ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي ثم أخذ ما بقي منه وأطبق طرفه الذي كان فيه موضع القطع على طرف الخط الذي لم يقطع منه شيء وأطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم يقطع منه شيء وذهب الذهن كذلك معهما إلى الجهة التي يقال إنها غير متناهية فإما أن نجد
أنه
الخطين أبداً يمتدان إلى غير نهاية ولا ينقص أحدهما عن الآخر فيكون الذي قطع منه جزء مساوياً للذي لم يقطع منه شيء وهو محال كما أن الكل مثل الجزء محال وإما أن لا يمتد الناقص معه أبداً بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتداد معه فيكون متناهياً فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أولاً وقد كان متناهيا صار كله أيضاً متناهياً وحينئذ لا يقصر عن الخط الآخر الذي يقطع منه شيء ولا يفضل عليه فيكون إذن مثله وهو متناه فذلك أيضاً
١١٦

متناه فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط فكل جسم متناه فإذا فرضنا أن جسما غير متناه فقد فرضنا باطلا ومحالاً
جسم
فلما
كروية الفلك
صح عنده بفطرته الفائقة التي تنبهت لمثل هذه الحجة أن السماء متناه أراد أن يعرف على أي شكل هو وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده فنظر أولاً إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب فرآها كلها تطلع من جهة المشرق وتغرب من جهة المغرب فما كان منها يمر على سمت رأسه رآه يقطع دائرة عظمي وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب رآه يقطع دائرة أصغر من تلك وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين كانت أصغر من دائرة ما هو أقرب حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب دائرتين اثنتين احدهما حول القطب الجنوبي وهي مدار سهيل والأخرى حول القطب الشمالي ومدار الفرقدين ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولاً وكانت هذه الدوائر كلها قائمة على سطح أفقه ومتشابهة الأحوال في الجنوب والشمال وكان القطبان معاً ظاهرين له وكان يترقب إذا طلع الكوكب على دائرة كبيرة وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة وكان طلوعها معاً فكان يرى غروبهما معاً واطرد له ذلك في جميع الكواكب وفي جميع الأوقات فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة وقوى ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب الى

لمشرق بعد مغيها بالمغرب وما رآه ايضاً من انها تظهر البصره على
قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها وانها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات أقرب الى بصره منها في وقت آخر ولو كانت كذلك لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره فيراها في حال القرب اعظم مما يراها في حال البعد لاختلاف ابعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على
الاول فلما لم يكن شيء من ذلك تحقق عنده كروية الشكل وما زال يتصفح حركة القمر فيراها آخذة من المغرب الى المشرق وحركات الكواكب السيارة كذلك حتى تبين له قدر كبير من علم الهيئة وظهر له ان حركاتها لا تكور الا بأفلاك كثيرة كلها مضمنة في فلك واحد هو اعلاها وهو يحرك الكل من المشرق الى المغرب في اليوم والليلة وشرح كيفية انتقاله ومعرفة ذلك يطول وهو مثبت في الكتب ولا يحتاج منه في غرضنا الا للقدر الذي أوردناه فلما انتهى الى هذه المعرفة ووقف على أن الفلك يجملته وما يحتوي عليه كشيء واحد متصل بعضه ببعض وأن جميع الأجسام التي كان ينظر فيها أولا كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه وأنه كله أشبه شيء بشخص من اشخاص الحيوان وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان وما فيه من ضروب الأفلاك المتصل بعضها ببعض هي بمنزلة أعضاء الحيوان وما في داخله من الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات التي كثيراً ما تكون فيها أيضاً حيوان كما يتكون في العالم الأكبر
قدم العالم وحدوثه
فلما تبين له انه كلها كشخص واحد في الحقيقة واتحدت عنده
۱۱۸

كان
اجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الأجسام التي فيه عالم الكون والفساد تفكر في العالم يجملته هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن وخرج إلى الوجود بعد العدم او هو امر كان موجوداً فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه فتشكك في ذلك ولم يترجح عنده احد الحكمين على الآخر وذلك أنه كان اذا ازمع على اعتقاد القدم اعترضته عوارض كثيرة من استحالة وجود ما لا نهاية له بمثل القياس الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية له وكذلك أيضاً یری ان هذا الوجود لا يخلو من الحوادث فهو لا يمكن تقدمه عليها وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث فهو أيضا محدث واذا از مع على اعتقاد الحدوث اعترضته عوارض اخر وذلك أنه كان يرى ان معنى حدوثه بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على معنى أن الزمان تقدمه والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان وكذلك أيضاً كان يقول إذا كان حادثاً فلا بد له من محدث وهذا المحدث الذي أحدثه لم أحدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك الطارىء طرأ عليه ولا شيء هناك غيره أم لتغير حدث في ذاته فان كان فما الذي أحدث ذلك التغير وما زال يتفكر في ذلك عدة سنين فتتعارض عنده الحجج ولا يترجح عنده أحد الاعتقادين على الآخر
ما يلزم عن كل من الاعتقادين
فلما أعياه ذلك جعل يفكر ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين فلعل اللازم عنهما يكون شيئاً واحداً فرأى أنه إن اعتقد
۱۱۹

حدوث العالم وخروجه إلى الوجود بعد العدم فاللازم عن ذلك ضرورة أنه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه وأنه لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود وأن ذلك الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس لأنه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسما من الأجسام ولو كان جسما من الأجسام لكان من جملة العالم وكان حادثاً واحتاج إلى محدث ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضاً جسما لاحتاج إلى محدث ثالث والثالث إلى رابع ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية وهو باطل فإذا لابد للعالم من فاعل ليس يحسم وإذا لم يكن جسمها فليس إلى إدراكه بشيء من الحواس سبيل لأن الحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام أو ما يلحق الأجسام وإذا لا يمكن أن يحس فلا يمكن أن يتخيل لأن التخيل ليس شيئاً إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها وإذا لم يكن جسما فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق وهو منزه عن ذلك وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام وإذا كان فاعلاً للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ١٠
وأنه أيضاً أنه إن اعتقد قدم العالم وأن العدم لم يسبقه وأنه لم يزل كما هو فإن اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه وكل حركة فلابد لها من محرك ضرورة والمحرك إما ان يكون قوة سارية في جسم من الأجسام - إما جسم المتحرك نفسه وإما جسم آخر خارج عنه -
لملك ٠١٤
۱۰

وإما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة في جسم وكل قوة
سارية في جسم وشائعة فيه فإنها تنقسم بانقسامه وتضاعف بتضاعفه مثل الثقل في الحجر مثلاً المحرك له إلى اسفل فإنه ان قسم الحجر نصفين وان زيد عليه آخر مثله زاد في الثقل آخر مثله فإن أمكن أن يتزايد الحجر أبداً إلى غير نهاية كان تزايد هذا الثقل إلى غير نهاية وإن وصل الحجر إلى حد ما من العظم ووقف وصل الثقل إلى ذلك الحد ووقف لكنه قد تبرهن أن كل جسم فإنه لا محالة متناه فإذن كل قوة في جسم فهي لا محالة متناهية فإن وجدنا قوة تفعل فعلا لا نهاية له فهي قوة ليست في جسم وقد وجدنا الفلك يتحرك أبداً حركة لا نهاية لها ولا انقطاع إذا فرضناه قديماً لا ابتداء له فالواجب على ذلك أن تكون القوة التي تحركت ليست في جسمه ولا في جسم خارج عنه فهي إذن لشيء بريء عن الأجسام وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية وقد كان لاح له في نظره الأول في عالم الكون والفساد أن حقيقة وجود كل جسم إنما هي من جهة صورته التي هي استعداده لضروب الحركات وان وجوده الذي له من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك فإذن وجود العالم كله إنما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة وعن صفات الأجسام المنزه عن أن يدركه حس أو يتطرق إليه خيال سبحانه وإذا كان فاعلا الحركات الفلك على اختلاف أنواعها فعلا لا تفاوت فيه ولا فتور ولا قصور فهو لا محالة قادر عليها وعالم بها
فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى اليه بالطريق الأول ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم أو حدوثه وصح له على الوجهين جميعاً وجود فاعل غير جسم ولا متصل يجسم ولا منفصل عنه ولا داخل فيه ولا خارج عنه إذ الاتصال والانفصال والدخول والخروج هي كلها من صفات الأجسام وهو منزه عنها
۱۱

افتقار العالم الى الله
وهي معلولة
ولما كانت المادة من كل جسم مفتقرة إلى الصورة إذ لا تقوم إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل هذا الفاعل تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها إلى هذا الفاعل وأنه لا قيام لشيء منها إلا به فهو إذن علة لها له سواء كانت محدثة الوجود بعد أن سبقها العدم أو كانت لا ابتداء لها من جهة الزمان ولم يسبقها العدم قط فإنها على كلا الحالتين معلولة ومفتقرة إلى الفاعل متعلقة الوجود به ولولا دوامه لم تدم ولولا وجوده لم توجد ولولا قدمه لم تكن قديمة وهو في ذاته غني عنها وبريء منها ! وكيف لا يكون كذلك وقد تبرهن أن قدرته غير متناهية وأن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها ولو بعض تعلق هو متناه منقطع فإذن العالم كله بما فيه من السماوات والأرض والكواكب وما بينها وما فوقها وما تحتها فعله وخلقه ومتأخر عنه بالذات وإن كانت غير متأخرة بالزمان كما أنك إذا أخذت في قبضتك جسماً من الأجسام ثم حركت يدك فإن ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعاً لحركة يدك حركة متأخرة عن حركة يدك تأخراً بالذات وإن كانت لم تتأخر بالزمان عنها بل كان ابتداؤهما معا فكذلك العالم كله معلول ومخلوق لهذا الفاعل
بغير زمان إنما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ
1- پس ۰۰۸

فلما رأى أن جميع الموجودات فعله تصفحها من قبل ذا تصفحاً على
طريق الاعتبار في قدرة فاعلها والتعجب من غريب صنعته ولطيف حكمته ودقيق علمه فتبين له في أقل الأشياء الموجودة فضلا عن أكثرها من آثار الحكمة وبدائع الصنعة ما قضى منه كل العجب وتحقق عنده أن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوت ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر
ثم تأمل في جميع أصناف الحيوان كيف أعطى كل شيء خلقه 1 ثم هداه لاستعماله فلولا انه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خلقت له في وجوه المنافع المقصودة بها لما انتفع بها الحيوان وكانت كلا عليه فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء وأرحم الرحماء
كمال الله
ثم انه مهما نظر شيئاً من الموجودات له حسن أو بهاء أو كمال أو قوة أو فضيلة من الفضائل أي فضيلة كانت تفكر وعلم أنها

من فيض ذلك الفاعل المختار جل جلاله ومن جوده ومن فعله فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها وأكمل وأتم واحسن وابهى واجمل وأدوم وأنه لا نسبة لهذه إلى تلك فما زال يتتبع صفات الكمال كلها فيراها له وصادرة عنه ویری أنه أحق بها من كل من يوصف بها دونه
وتتبع صفات النقص كلها فيراه بريئاً منها ومنزها عنها وكيف لا
۱۳

يكون بريئاً منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض أو ما يتعلق بالعدم وكيف يكون العدم تعلق أو تلبس بمن هو الموجود المحض الواجب الوجود بذاته المعطي لكل ذي وجود وجوده فلا وجود إلا هو فهو الوجود وهو الكمال وهو التمام وهو الحسن وهو البهاء وهو القدرة وهو العلم وهو هو و كُلِّ شَيْءٍ هَالِك إِلَّا وجهها
فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد على رأس خمسة أسابيع من منشئه وذلك خمسة وثلاثون عاماً وقد رسخ قلبه من أمر هذا الفاعل ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات والبحث عنها حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء الأشياء إلا ويرى فيه أثر الصنعة من خينه فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع حتى اشتد شوقه اليه وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس وتعلق بالعالم الأرفع المعقول
من
روحانية الذات
فسادها وعدم
سبب
لا فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لوجوده وهو سبب لوجود جميع الأشياء أراد أن يعلم بأي شيء حصل له هذا العلم وبأي قوة أدرك هذا الموجود فتصفح حواسه كلها وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس فرأى أنها
١ - القصص ۸۸

كلها لا تدرك شيئاً إلا جسما أو ما هو في جسم وذلك أن السمع إنما يدرك المسموعات وهي ما يحدث من تموج الهواء عند تصادم الأجسام والنصر إنما يدرك الألوان والشم يدرك الروائح والذوق يدرك الطعوم واللمس يدرك الأمزجة والصلابة واللين والخشونة والملاسة وكذلك القوة الخيالية لا تدرك شيئاً إلا أن يكون له طول و عرض و عمق وهذه المدركات كلها من صفات الأجسام وليس لهذه الحواس إدراك شيء سواها وذلك لأنها قوى شائعة في الأجسام ومنقسمة بانقسامها فهي لذلك لا تدرك إلا جسماً منقسماً لأن هذه القوة إذ كانت شائعة في شيء منقسم فلا محالة أنها إذا أدركت شيئاً من الأشياء فإنه ينقسم بانقسامها فإذن كل قوة في جسم فإنها لا محالة لا تدرك إلا جسما أو ما هو جسم وقد تبين أن هذا الموجود الواجب الوجود بريء من صفات الأجسام من جميع الجهات فإذن لا سبيل إلى إدراكه إلا بشيء ليس يحسم ولا هو قوة في جسم ولا تعلق له بوجه من الوجوه بالأجسام ولا هو داخل فيها ولا خارج عنها ولا متصل بها ولا منفصل عنها وقد كان تبين له أنه أدركه بذاته ورسخت المعرفة به عنده فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني لا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام وان كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسمانية فإنها ليست حقيقة ذاته وإنما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود
فلما
علم
أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه ويحيط بها أديمه هان عنده بالجملة جسمه وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة التي أدرك بها الموجود الشريف الواجب الوجود ونظر في ذاته تلك الشريفة هل يمكن أن تبيد أو تفسد وتضمحل أو هي دائمة البقاء فرأى أن الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام
۱۵

بأن تخلع صورة وتلبس أخرى مثل الماء إذا صار هواء والهواء إذا صار ماء والنبات إذا صار تراباً أو رماداً والتراب إذا صار نباتاً فهذا هو معنى الفساد وأما الشيء الذي ليس يجسم ولا يحتاج في قوامه إلى الجسم وهو منزه بالجملة عن الجسمانية فلا يتصور فساده
البتة
مصير
الذات او العذاب والنعيم
يعلم
فلما ثبت له أن ذاته الحقيقية لا يمكن فسادها أراد أن كيف يكون حالها إذا اطرحت البدن وتخلت عنه وقد كان تبين له أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها فتصفح جميع القوى المدركة فرأى أن كل واحدة منها تارة تكون مدركة بالقوة وتارة تكون مدركة بالفعل مثل العين في حال تغميضها أو إعراضها عن البصر فإنها ومعنى مدركة بالقوة أنها لا تدرك الآن
تكون مدركة بالقوة

وتدرك في المستقبل وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر تكون مدركة بالفعل - ومعنى مدركة بالفعل أنها الآن تدرك وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة وتكون بالفعل وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى ادراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعد مثل من خلق مكفوف البصر وإن كانت قد أدركت بالفعل تارة ثم صارت بالقوة فإنها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت بذلك المدرك وتعلقت به ونحنت إليه مثل من كان بصيراً ثم عمي فإنه لا يزال يشتاق إلى المبصرات وبحسب ما يكون الشيء المدرك أتم وأبهى وأحسن يكون الشوق إليه أكثر
١٢٦

والتألم لفقده أعظم ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه إذ الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم فإن كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه وهو فوق الكمال والبهاء والحسن وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال إلا صادر من جهته وفائض من قبله فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد أن تعرف به فلا محالة أنه ما دام فاقداً له يكون في آلام لا نهاية لها كما ان من كان مدركا له على الدوام فانه يكون في لذة لا انفصام لها وغبطة لا غاية وراءها وبهجة وسرور لا نهاية لهما
وقد كان تبين له أن الموجود الواجب الوجود متصف بأوصاف الكمال كلها ومنزه عن صفات النقص وبريء منها وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى إدراكه أمر لا يشبه الأجسام ولا يفسد لفسادها فظهر له بذلك أن من كانت له مثل هذه الذات المعدة لمثل هذا الادراك فإنه إذا طرح البدن بالموت فإما أن يكون قبل في مدة تصريفه للبدن - لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود ولا اتصل به ولا سمع عنه فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده
ذلك -
وأما
جميع القوى الجسمانية فإنها تبطل ببطلان الجسم فلا تشتاق أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى ولا تحن إليها ولا تتألم لفقدها وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن وأما أن يكون قبل ذلك - في مدة تصريفه للبدن – قد تعرف بهذا الموجود وعلم ما هو عليــــه من الكمال والعظمة والسلطان والقدرة والحسن إلا أنه أعرض عنه واتبع هواه حتى وافته منيته وهو على تلك الحال فيحرم المشاهدة وعنده الشوق اليها فيبتي
۱۷

في عذاب طويل وآلام لا نهاية لها فاما أن يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك واما أن يبقى في آلامه بقاء سرمديا بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياته الجسمانية وأما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود قبل أن يفارق البدن وأقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه ولم يعرض عنه حتى وافته منيته وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل فهذا اذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها وغبطة وسرور وفرح دائم لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي - بالإضافة الى تلك الحال - آلام وشرور وعوائق
السعادة ووسائلها
فلما تبين له أن كمال ذاته ولذتها انما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام مشاهدة بالفعل أبداً حتى لا يعرض عنه طرفة عين لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم
واليه أشار الجنيد شيخ الصوفية وامامهم عند موته بقوله لأصحابه هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر ! وأحرم للصلاة
ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل حتى لا يقع منه اعراض فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة فما هو الا أن يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات أو يخرق سمعه
۱۸

صوت بعض الحيوان أو يتعرضه خيال من الخيالات أو يناله ألم في أحد أعضائه أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر أو يحتاج الى القيام لدفع فضوله فتخل فكرته ويزول عما كان فيه ويتعذر عليه الرجوع الى ما كان عليه من حال المشاهدة الا بعد جهد وكان يخاف أن تفجأه منيته وهو في حال الإعراض فيفضي الى الشقاء الدائم وألم الحجاب
فساءه حاله ذلك وأعياه الدواء فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها وينظر أفعالها وما تسعى فيه لعله يتفطن في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود وجعلت تسعى نحوه فيتعلم منها ما يكون سبب نجاته فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح والاستظلال والاستدفاء وتجد في ذلك ليلها ونهارها الى حين مماتها وانقضاء مدتها ولم ير شيئاً منها ينحرف عن هذا الرأي ولا يسعى لغيره في وقت من الاوقات فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت اليه ولا تعرفت به بوجه من
الوجوه وانها كلها صائرة إلى العدم أو إلى حال شبيه بالعدم
فلما حكم بذلك على الحيوان علم أن الحكم له على النبات أولى إذ ليس للنبات من الإدراكات إلا بعض ما للحيوان وإذا كان الأكمل إدراكا لم يصل إلى هذه المعرفة فالأنقص إدراكا أحرى أن لا يصل أنه رأى أيضاً أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد مع
ثم إنه بعد ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات جارية على نسق ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغير والفساد فحدس حدساً قوياً أن لها ذوات سوى أجسامها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وأن تلك الذوات العارفة ليست
4
۱۹

اجسام ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته هو لعارفة وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية ويكون لمثله هو على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة وأنه من جملة الأجسام الفاسدة ومع ما به من النقص فلم يعقه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية أولى بذلك وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وتشاهده على الدوام بالفعل لأن العوائق التي قطعت به هو عن دوام
المشاهدة من العوارض المحسوسة لا يوجد مثلها للأجسام السماوية
ثم إنه تفكر لم اختص هو من بين سائر أنواع الحيوان بهذه الذات التي أشبه بها الأجسام السماوية وقد كان تبين له أولاً من أمر المناصر واستحالة بعضها إلى بعض ان جميع ما على وجه الأرض لا يبقى على صورته بل الكون والفساد متعاقبان عليه أبداً وان أكثر هذه الأجسام مختلطة مركبة من أشياء متضادة ولذلك تؤول إلى الفساد وانه لا يوجد منه شيء صرفاً وما كان منها قريباً من أن يكون صرفاً خالصاً لا شائبة فيه فهو بعيد عن الفساد جداً مثل الذهب والياقوت وان الأجسام السماوية بسيطة صرفة ولذلك هي بعيدة عن الفساد والصور لا تتعاقب عليها وتبين له هنالك أن جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد منها ما تقوم حقيقتها بصورة واحدة ومنها ما الاستقصات الأربع
زائدة على معنى الجسمية

وهذه هي

تتقوم حقيقتها بأكثر من ذلك كالحيوان والنبات فما كان قوام حقيقته بصور أقل كانت أفعاله أقل وبعده عن الحياة أكثر فإن عـــــدم الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة طريق وصار في حال شبيهة بالعدم وما كان قوام حقيقته بصور أكثر كانت أفعاله أكثر ودخوله في حال الحياة أبلغ وإن كانت تلك الصورة بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها كانت الحياة حينئذ في غاية الظهور
۱۳۰

هي
والدوام والقوة فالشيء العديم للصورة جملة هو الهيولى والمادة ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم والشيء المتقوم بصورة واحدة الاستقصات الأربع وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد ومنها تتركب الأشياء ذوات الصور الكثيرة وهذه الاسطقصات ضعيفة الحياة جداً إذ ليست تتحرك إلا حركة واحدة وإنما كانت ضعيفة الحياة جداً لأن لكل واحد منها ضداً ظاهر العناد يخالفه في مقتضى طبيعته ويطلب أن يغير صورته فوجـــــوده لذلك غير متمكن وحياته ضعيفة والنبات أقوى حياة منه والحيوان أظهر حياة منه وذلك أن ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة استقص واحد فلقوته فيه يغلب طبائع الاستقصات الباقية ويبطل قواها ويصير ذلك المركب في حكم الأسطقص الغالب فلا يستأهل لأجل ذلك من الحياة إلا شيئاً يسيراً كما أن ذلك الاسطقص لا يستأهل من الحياة إلا يسيراً ضعيفاً وما كان من هذه المركبات لا تغلب عليه طبيعة الطقص واحد منها فإن الاستقصات تكون فيه متعادلة متكافئة لا يبطل أحدها قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته بل يفعل بعضها في بعض فعلاً متساوياً فلا يكون فعل أحد الاستقصات أظهر فيه ولا يستولي عليه أحدها فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الأسطقصات فكأنه لا مضادة لصورته فيستأهل الحياة بذلك ومتى زاد هذا الاعتدال وكان أتم وأبعد من الانحراف كان بعده عن أن يوجد له ضد أكثر وكانت حياته أكمل
ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب شديد الاعتدال لأنه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء صار في حكم الوسط ولم يضاده شيء من الأسطقصات مضادة بينة فاستعد بذلك لصورة الحيوانية فرأى أن الواجب على ذلك أن يكون أعدل ما في
۱۳۱

هذه الأرواح الحيوانية مستعداً لأتم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد وأن يكون ذلك الروح قريباً من أن يقال إنه لا ضد لصورته فيشبه لذلك هذه الأجسام السماوية التي لا ضد لصورها ويكون روح ذلك الحيوان وكأنه وسط بالحقيقة بين الأسطقصات التي لا تتحرك إلى جهة العلو على الإطلاق ولا إلى جهة السفل بل لو أمكن أن يجعل في وسط المسافة التي بين المراكز وأعلى ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه فساد لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا النزول ولو تحرك في المكان لتحرك حول الوسط كما تتحرك الأجسام السماوية ولو تحرك في الوضع لتحرك على نفسه وكان كروي الشكل إذ لا يمكن غير ذلك فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية

وهو الجسماني

ولما كان قد اعتبر أحوال الحيوان ولم ير فيها ما يظن به أنه شعر بالموجود الواحب الوجود وقد كان علم من ذاته أنها قد شعرت به قطع بذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح الشبيه بالأجسام السماوية وتبين له أنه نوع مباين لسائر أنواع الحيوان وأنه إنما خلق لغاية أخرى وأعد لأمر عظيم لم يعد له شيء من أنواع الحيوان و كفى به شرفا أن يكون أخس جزأيه أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد المنزهة عن حوادث النقص والاستحالة والتغير ! وأما أشرف جزأيه فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجـــــود وهذا الشيء العارف أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام ولا يدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه بل يتوصل إليه به فهو العارف والمعروف والمعرفة وهو العالم والمعلوم والعلم لا يتباين في شيء من ذلك إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها ولا هنالك ولا صفة جسم ولا لاحقا يحسم !
جسم
۱۳

فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر اصناف الحيوان بمشابهة الأجسام السماوية رأى أن الواجب عليه أن يتقبلها ويحاكي أفعالها ويتشبه بها جهده وكذلك رأى أنه يجزئه الأشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود فيه شبه ما منه من حيث هو منزه عن صفات الأجسام كما أن الواجب الوجود منزه عنها فرأى أيضاً أنه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه من أي وجه أمكن وأن يتخلق بأخلاقه ويقتدي بأفعاله ويجد في تنفيذ إرادته ويسلم الأمر له ويرضى يجميع حكمه رضاً من قلبه ظاهراً وباطناً
بحيث يسر به وإن كان مؤلماً الجسمه وضاراً به ومتلفاً لبدنه بالجملة
وكذلك أيضاً رأى أن فيه شبها من سائر أنواع الحيوان يحرثه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفساد وهو البدن المظلم الكثيف الذي يطالبه بأنواع المحسوسات من المطلوب والمشروب والمنكوح ورأى أيضاً أن ذلك البدن لم يخلق له عبثاً ولا قرن به لأمر باطل وأنه يجب عليه أن يتفقده ويصلح من شأنه وهذا التفقد لا يكون منــــه إلا بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض
1 - إما عمل يتشبه به بالحيوان غير الناطق

وإما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية
- وإما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود
فالتشبه الاول يجب عليه من حيث له البدن المظلم ذو الاعضاء المنقسمة والقوى المختلفة والمنازع المتفننة
والتشبه الثاني يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه
۱۳۳

القلب وهو مبدأ لسائر البدن ولما فيه من القوى

والتشبه الثالث يجب عليه من حيث هو هو أي
دو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود
من
وكان أولاً قد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود حتى يكون بحيث لا يعرض عنه طرفة عين
ثم انه نظر في الوجه الذي يتأتى له به هذا الدرام فأخر له
النظر انه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام الثلاثة من التشبهات
اما التشبه الاول فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة بل هو صارف عنها وعائق دونها إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة والأمــــــور المحوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة وإنما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشه الثاني بالأجسام السماوية فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق ولو كان لا يخلو من تلك المضرة
واما التشبه الثاني فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام لكنها مشاهدة يخالطها شوب إذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليها حسبما يتبين
بعد هذا
واما التشبه الثالث فتحصل به المشاهدة الصرفة والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفلت و تلاشت
١٣٤

وكذلك سائر الذوات كثيرة كانت أو قليلة إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود جل وتعالى وعز
لا
تدوم
فلما تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الثالث وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني وأن هذه المدة له إلا بالتشبه الأول وعلم أن التشبه الأول - وإن كان ضرورياً فإنه عائق بذاته وإن كان معيناً بالعرض لا بالذات لكنه فالزم نفسه أن لا يجعل لها خطأ من هذا التشبه الأول إلا بقدر الضرورة وهي الكفاية التي لا بقاء الروح الحيواني بأقل منها
ضروري

ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين
احدهما ما يمده من داخل ويخلف عليه بدل ما يتحلل منه وهو
الغذاء
والآخر ما يقيه من خارج ويدفع عنه وجوه الأذى من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافاً كيفما اتفق ربما وقع في السرفه وأخذ فوق الكفاية فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدوداً لا يتعداها ومقادير لا يتجاوزها وبان له أن الفرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العودات إليه
فنظر أولاً في أجناس ما به يتغذى فرآها ثلاثة أضرب
1 - إما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته إلى غاية تمامه أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاعتذاء بها
وهي
١٣٥

وإما ثمرات النبات الذي قد تم وتناهى وأخرج بذره ليتكون منه آخر من نوعه حفظاً له وهي أصناف الفواكه رطبها
ويابسها
- وإما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها إما البرية وإما
تلك
البحرية وكان قد صح عنده أن هذه الأجناس كلها من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود الذي تبين له أن سعادته في القرب منه وطلب التشبه به ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة لكنه لما لم يمكنه ذلك لأنه إن امتنع عنه آل ذلك إلى فساد جسمه فيكون ذلك اعتراضاً على فاعله أشد من الأول إذ هو أشرف من الأشياء الأخر التي يكون فسادها سبباً لبقائه فاستسهل أيسر الضررين وتسامح في أخف الاعتراضين ورأى أن يأخذ من هذه الأجناس إذا أيها تيسر بالقدر الذي يتبين له بعد هذا فأما إن كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذ أن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه كبير اعتراض على فعل الفاعل وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب وصلح ما فيها من البزر لتوليد المثل على شرط التحفظ بذلك البزر بأن لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات مثل الصفاة والسبخة ونحوهما فإن تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي كالتفاح والكمثرى والإجاص ونحوها كان له عند ذلك أن يأكل إما من الثمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر كالجوز والقسطل وإما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها والشرط
عدمت
١٣٦

عليه في هذين أن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً وأن لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها فإن عدم هذه فله أن يأخذ من الحيوان أو من بيضه والشرط عليه في الحيوان أن يأخذ من أكثره وجوداً ولا يستأصل منه نوعاً بأسره
هذا ما رأه في جنس ما يتغذى به
واما المقدار فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها
واما الزمان الذي بين كل عودتين فرأى أنه إذا أخذ عن حاجته من الغذاء أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه حتى يلحقه ضعف يقطع به عن بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا
فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج فكان الخطب فيه عليه يسيراً إذ كان مكتسباً بالجلود وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج فاكتفى بذلك ولم ير الاشتغال به والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه وهي التي تقدم شرحها
ثم أخذ في العمل الثاني وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها والتقيد لصفاتها وتتبع أوصافها فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب
الضرب الاول أوصاف لها بالإضافة ما تحتها من عالم الكون والفساد ومما تعطيه إياه من التسخين بالذات أو التبريد بالعرض والإضاءة والتلطيف والتكثيف إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود
۱۳۷

والضرب الثاني أوصاف لها في ذاتها مثل كونها شفافة وناصعة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها وبعضها على مركز غيرها
والضرب الثالث أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود مثل كونها تشاهده مشاهدة دائمة وتعرض عنه وتتشوق إليه وتتصرف بحكمه وتتسخر في تتميم إرادته ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته فجعل يتشبه بها جهده في كل واحد من هذه الأضرب الثلاثة
اما الضرب الاول فكان تشبه بها فيه ان ألزم نفسه أن لا يرى ذا حاجة أو عامة أو مضرة أو ذا عائق من الحيوان أو النبات وهو يقدر على إزالتها عنه إلا ويزيلها فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش عطشاً يكاد يفسده أزال عنه ذلك الحاجب إن كان مما يزال وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر المؤذي وتعهده بالسقي ما أمكنه ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقة أو سبع ناشب أو تعلق به شوك أو سقط في عينيه أو أدنيه شيء يؤذيه أو مسه ظمأ أو جوع تكفل بإزلة ذلك كله عنه جهده وأطعمه
وسقاه
نشب به
ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سقي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق من حجر سقط فيه أو جرف انهار عليه أزال ذلك كله عنه وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية
وأما الضرب الثاني فكان تشبه بها فيه ان الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر
۱۳۸

الأوقات وتنظيف ما كان من أظفاره وأسنانه ومغابن بدنه وتطبيبها بما أمكنه من طيب النبات وصنوف الدواهن العطرة وتعهد لباسه
بالتنظيف والتطبيب حتى كان يتلألاً حسناً وجمالاً ونظافة وطيباً
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة فتارة كان يطوف بالجزيرة ويدور على ساحلها ويسيح بأكنافها وتارة كان يطوف ببيته أو ببعض الكدى أدواراً معدودة إما مشياً وإما هرولة وتارة يدور على نفسه حتى يغشى عليه
وأما الضرب الثالث فكان تشبه بها فيه ان كان يلازم الفكرة في ذلك الموجود الواجب الوجود ثم يقطع علائق المحسوسات ويغمض عينه ويسد أذنيه ويضرب جهده عن تلبيع الخيال ويروم بمبلغ طاقته أن لا يفكر في شيء سواء ولا يشرك به أحداً ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات وضعف الخيال وسائر القوى التي تحتاج إلى الآلات الجسمانية وقوى فعل ذاته - التي هي بريئة من الجسم فكانت في بعض الاوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله وترده إلى أسفل السافلين فيعود من ذي قبل فإن لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الاغذية عن الشرائط المذكورة ثم انتقل الى شأنه من التشبه بالاجسام السماوية بالاضراب الثلاثة المذكورة

ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده وينازعها وتنازعه وفي الاوقات التي يكون له عليها الظهور وتتخلص فكرته من الشوب يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث ثم جعل يطلب التشبه الثالث ويسعى في تحصيله فينظر في صفات الموجود

الواجب الوجود وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل أنها على ضربين اما صفة ثبوت كالعلم والقدرة والحكمة واما صفة سلب كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الاجسام ولواحقها وما يتعلق بها ولو على بعد
وان صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكون فيها شيء من صفات الاجسام التي من جملتها الكثرة فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية بل ترجع كلها الى معنى واحد هي حقيقة ذاته فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين

عامه هي
ذاته
أما صفات الإيجاب فلما علم أنها كلها راجعة الى حقيقة ذاته وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه اذ الكثرة من صفات الاجسام وعلم ان علمه بذاته ليس معنى زائداً على ذاته بل ذاته بذاته وعلمه بذاته هو ذاته تبين له أنه ان أمكنه أن هو يعلم فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائداً على ذاته بل هو هو ! فرأى أن التشبه به من صفات الإيجاب هو أن يعلمه فقط دون أن يشرك به شيئاً من صفات الاجسام فأخذ نفسه بذلك
وأما صفات السلب فإنها كلها راجعة الى التنزه عن الجسمية فجعل يطرح أوصاف الجسمية عن ذاته وكان قد اطرح منها كثيراً في رياضته المتقدمة التي كان ينحو بها التشبه بالأجسام السماوية إلا أنه أبقى منها بقايا كثيرة كحركة الاستدارة - والحركة من أخص صفات الأجسام وكالاعتناء بأمر الحيوان والنبات والرحمة لها والاهتمام بإزالة عوائقها فإن هذه أيضاً من صفات الأجسام إذ لا يراها أولاً إلا بقوة هي جسمانية ثم يكدح في أمرها بقوة جسمانية أيضاً فأخذ في طرح ذلك كله عن نفسه إذ هي يحملتها مما لا يليق بهذه الحالة
12

التي يطلبها الآن وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقاً غاضاً بصره معرضاً عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركة فمتى سنح لخياله سانح سواه طرده عن خياله جهده ودافعه وراض نفسه على ذلك ودأب فيه مدة طويلة بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته فانها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود فران يسوءه ذلك ويعلم أنه شوب في المشاهدة المحضة وشركة في الملاحظة وما زال يطلب الفناء عن نفسه والاخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السماوات والأرض وما بينها وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق وغابت ذاته في جملة تلك الذوات وتلاشى الكل واضمحل وصار هباء منثوراً ولم يبق إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائداً على ذاته ه من الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
ففهم
كلامه
وسمع
نداءه
ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ! ولا خطر على قلب بشر فلا تعلق قلبك بوصف أمر لم يخطر على قلب بشر فإن كثيراً من الأمور التي تخطر على قلوب البشر قد يتعذر وصفها فكيف بأمر لا سبيل الى خطوره على القلب ولا هو من حاله ولا من طوره ! ولست أعني بالقلب جسم القلب ولا الروح التي في تجويفه بل أعني
۱ - غافر ١٦
181

صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الإنسان فإن كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له قلب ولكن لا سبيل لخطور ذلك الأمر على واحد من هذه الثلاثة ولا يتأتى التعبير الا عما خطر عليها ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلا وهو بمنزلة من يريد أن يذوق ألوان ويطلب أن يكون السواد مثلا حلوا أو
حامضاً
الألوان من حيث هي لكنا مع ذلك لا تخليك عن اشارات نومىء بها الى ما شاهده من عجائب ذلك المقام على سبيل ضرب المثل لا على سبیل قرع باب الحقيقة اذ لا سبيل الى التحقق بما في ذلك المقام الا بالوصول اليه
فاصنع الآن يسمع قلبك وحدق ببصر عقلك الى ما أشير به اليك لملك ان تجد منه هدياً يلقيك على جادة الطريق 1 وشرطي عليك أن لا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أودعه هذه الأوراق فإن المجال ضيق والتحكم بالألفاظ على أمر ليس من شأنه أن
يلفظ به خطر
اشارات من عجائب المشاهدة
فاقول انه فني عن ذاته وعن جميع الذوات ولم ير في الوجود الا الواحد الحي القيوم وشاهد ما شاهد ثم عاد الى ملاحظة الأغيار عندما أفاق من حاله تلك التي هي شبيهة بالسكر خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى وأن حقيقة ذاته وان الشيء الذي كان يظن أولا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئاً في الحقيقة بل ليس ثم شيء الا ذات الحق وأن ذلك بمنزلة
هي
ذات الحق
١٤٢

نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها فإنه وان نسب الى الجسم الذي ظهر فيه فليس هو في الحقيقة شيئاً سوى نور الشمس وان زال ذلك الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قبله فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول ولم يكن له معنى وتقوى عنده هذا الظن بما قد كان بان له من أن ذات الحق عز وجل لا تتكثر بوجه من الوجوه وان علمه بذاته هو ذاته بعينها فلزم عنده من هذا ان من حصل عنده العلم بذاته فقد حصلت عند ذاته وقد كان حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها ونفس حصولها هو الذات فاذن هو الذات بعينها وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقة التي كان يراها أولاً كثيرة وصارت عنده بهذا الظن شيئاً واحداً وكانت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته فعلم أن هذه الشبهة إنما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام وكدورة المحسوسات فان الكثير والقليل والواحد والوحـــدة والجمع والاجتماع والافتراق هي كلها من صفات الأجسام وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق عز وجل لبراءتها عن المادة لا يجب أن يقال انها كثيرة ولا واحد لأن الكثرة إنما هي مغايرة الذوات بعضها البعض والوحدة أيضاً لا تكون إلا بالاتصال ولا يفهم شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة غير أن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جداً لأنك إن عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا أوهم ذلك معنى الكثرة فيها وهي بريئة عن الكثرة وإن أنت عبرت بصيغة الإفراد أوهم ذلك معنى الاتحاد وهو مستحيل عليها وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك
١٤٣

في سلسلة جنونه ويقول لقد أفرطت تدقيقك حتى أنك قد انخلعت عن غريزة العقلاء واطرحت حكم المعقول فان من أحكام العقل ان الشيء اما واحد واما كثير فليتئد في غلوائه وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو بين أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث كان ينظر فيه بنظره فيراه كثيراً كثرة لا تنحصر ولا تدخل تحت حد ثم ينظر فيه بنظر آخر فيراه واحداً وبقي في ذلك متردداً ولم يمكنه أن يقطع عليه بأحد الوصفين دون الآخر هذا والعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد وفيه تفهم حقيقتها وفيه الانفصال والاتصال والتحيز والمغايرة والاتفاق والاختلاف فما ظنه بالعلم الإلهي الذي لا يقال فيه كل ولا بعض ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة الا و توهم فيه شيء على خلاف الحقيقة فلا يعرفه الا من شاهده ولا تثبت حقيقته الا عند من حصل فيه وأما قوله حتى النخلعت عن غريزة العقلاء واطرحت حكم المعقول فنحن نسلم له ذلك و نتركه مع عقله وعقلائه فان العقل الذي يعنيه هو وأمثاله انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة وتقتنص منها المعنى الكلي والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها وليرجع الى فريقه الذين يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
فان كنت ممن يقنع بهذا النوع من التلويح والإشارة الى ما في العالم
١ - الروم ٧
١٤٤

الإلهي ولا تحمل الفاظنا من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها اياه فنحن نزيدك شيئاً مما شاهده و حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم ذكره فنقول
انه بعد الاستغراق المحض والفناء التام وحقيقة الوصول شاهد للفلك الأعلى الذي لا جسم وراءه ذاتا بريئة عن المادة ليست هي ذات الواحد الحق ولا هي نفس الفلك ولا هي غيرهما وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة فانها ليست هي الشمس ولا المرآة ولاهي غيرهما ورأى لذات ذلك الفلك المفارقة من الكمال والبهاء والحسن ما يعظم عن أن يوصف بلسان ويدق أن يكسى بحرف أو صوت ورآها في غاية من اللذة والسرور والغبطة والفرح
بمشاهدة ذات الحق جل جلاله

وشاهد أيضاً للفلك الذي يليه وهو فلك الكواكب الثابتة ذاتاً بريئة عن المادة أيضاً ليست هي ذات الواحد الحق ولا ذات - الفلك الأعلى المفارقة ولا نفسه ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست اليها الصورة من مرآة أخرى مقابلة للشمس ورأى لهذه الذات أيضاً من البهاء والحسن واللذة مثل ما رأى لتلك التي للفلك الأعلى وشاهد أيضاً للفلك الذي يلي هذا وهو فلك زحل ذاتاً مفارقة للمادة ليست هي شيئا من الذوات التي شاهده قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست اليها الصورة من مرآة قد انعكست اليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس ورأى لهذه الذات أيضاً مثل ما رأى لما قبلها من البهاء واللذة وما زال يشاهد لكل فلك ذاتاً مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئاً من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك
١٤٥
۱۰

وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء واللذة والفرح ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الى أن انتهى الى عالم الكون والفساد وهو جميعه حشو فلك القمر فرأى له ذاتاً بريئة عن المادة ليست شيئاً من الذرات التي شاهدها قبلها ولا هي سواها ولهذه الذات سبعون ألف وجه في كل فم سبعون ألف لسان يسبح بها ذات الواحد الحق ويقدسها ويمجدها لا يفتر ورأى لهذه الذات التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة من الكمال واللذة مثل الذي رآه لما قبلها وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج قد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى اليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها ثم شاهد لنفسه ذاتاً مفارقة لو جاز أن تتبعض ذات السبعين ألف وجه لقلنا إنها بعضها ولولا أن هذه الذات حدثت بعد أن لم تكن لقلنا إنها هي ! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه لقلنا إنها لم تحدث ! وشاهد في هذه الرتبة ذواتا مثل ذاته لأجسام كانت ثم اضمحت ولأجسام لم تزل معه في الوجود وهي من الكثرة بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة أو هي كلها متحدة إن جاز أن يقال لها واحدة ورأى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يصفه الواصفون ولا يعقله إلا الواصلون العارفون وشاهد ذواتا كثيرة مفارقة للمادة كأنها مرايا صدئة قد ران عليها الخبث وهي مع ذلك مستديرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس ومولية عنها بوجوهها ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم قط بباله ورآها في آلام لا تنقضي وحسرات قد أحاط بها سرادق العذاب وأحرقتها نار الحجاب ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب وشاهد هنا ذواتا سوى هذه
لا
تنمحي
6
12

المعذبة تلوح ثم تضمحل وتنعقد ثم تنحل فتثبت فيها وأنعم النظر
إليها فرأى هولا عظيما وخطباً جسيما وخلقاً حثيثاً وأحكاما بليغة وتسوية ونفخاً وإنشاء ونسخاً فما هو إلا أن ثبت قليلا فعادت إليه حواسه وتنبه من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي وزلت قدمه عن ذلك المقام ولاح له العالم المحسوس وغاب عنه العالم الإلهي إذ لم يمكن اجتماعها في حال واحد إذ الدنيا والآخرة كضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى فان قلت يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة أن الذوات المفارقة إن كانت لجسم دائم الوجود لا يفسد كالأفلاك كانت هي دائمة الوجود وإن كانت الجسم يؤول إلى الفساد كالحيوان الناطق فسدت هي واضمحلت وتلاشت حسبما مثلت به في مرايا الانعكاس فان الصورة لا ثبات لها الا بثبات المرآة فاذا فسدت المرآة صبح فساد الصورة واضمحلت هي فأقول لك ما أسرع ما نسيت العهد وحلت عن الربط ألم نقدم إليك أن مجال العبارة هنا ضيق وأن الألفاظ على كل حال توهم غير الحقيقة وذلك الذي تو همته انما أوقعك فيه أن جعلت المثال والممثل به على حكم واحد من جميع الوجوه ولا ينبغي أن يفعل ذلك في أصناف المخاطبات المعتادة فكيف هاهنا والشمس ونورها وصورتها وتشكلها والمرايا والصور الحاصلة فيها كلها أمور غير مفارقة للاجسام ولا قوام لها الا بها وفيها فلذلك افتقرت في وجودها اليها وبطلت ببطلانها
الأجسام
وأما الذوات الإلهية والروح الربانية فانها كلها بريئة عن ا ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها فلا ارتباط ولا تعلق لها بها وسواء بالإضافة إليها بطلان الأجسام أو ثبوتها ووجودها أو عدمها وإنما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد ولا حاجة بها إلى الأجسام بل الأجسام محتاجة إليها ولو جاز عدمها
١٤٧

لمدمت الأجسام فانها هي مباديها كما أنه لو جاز أن تعـ ذات عدم الواحد الحق - تعالى وتقدس عن ذلك لا إله إلا هو ! - لعدمت هذه الذوات كلها ولعدمت الأجسام ولعدم العالم الحسي بأسره ولم يبق موجود إذ الكل مرتبط بعضه ببعض والعالم المحسوس وإن كان تابعاً للعالم الإلهي شبيه الظل له والعالم الإلهي مستغن عنه وبريء منه فانه ذلك قد يستحيل فرض عدمه إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي وإنما فساده أن يبدل لا أن يعدم بالجملة وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هـذا المعنى منه في تسيير الجبال وتصييرها كالمهن والناس كالفراش وتكوير الشمس والقمر وتفجير البحار يوم تبدل الأرض والسموت

فهذا القدر هــــو الذي أمكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الألفاظ فان ذلك كالمتعذر
تمام خبر حي بن يقظان
وأما تمام خبره إلى العالم المحسوس وذلك بعد جولانه حيث جال سئم تكاليف الحياة الدنيا واشتد شوقه للحياة القصوى فجعل يطلب العود إلى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولا حتى وصل اليه بأيسر من السمي الذي وصل به أولا ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى ثم عاد إلى عالم الحس ثم تكلف الوصول إلى مقامه بعد
- فسأتلوه عليك إن شاء الله تعالى وهو أنه لما عاد
١٤٨

ذلك فكان أيسر عليه الاولى والثانية وكان دوامه أطول وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم بز عليه سهولة والدوام يزيد فيه طولا مدة بعد مدة حتى صار بحيث يصل إليه متى شاء فكان يلازم مقامه ذلك ولا ينلني عنه إلا لضرورة بدنه التي كان قد قللها حتى كاد لا يوجد أقل منها وهو في ذلك كله يتمنى أن يريحه الله عز وجل من كل بدنه الذي يدعوه إلى مفارقة مقامه ذلك فيتخلص إلى لذته تخلصاً دائماً ويبدأ عما يجده من الألم عند الإعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة البدن وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه وذلك خمسون عاماً وحينئذ اتفقت له صحبة أسال وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى
قصة سلامان وأسال
ذكروا أن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين في صفة مبدئه انتقلت إليها ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الانبياء المتقدمين صلوات الله عليهم وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالامثلة المضروبة التي تعطي خيالات تلك الاشياء وتثبت رسومها في النفوس حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة
وتتقوى وتظهر حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها
وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل والرغبة في الخير يسمى أحدهما أسالا والآخر سلامان فتلقيا تلك الملة وقبلاها أحسن قبول وأخذا على أنفسهما بالتزام جميع شرائعها والمواظبة على جميع
١٤٩

أعمالها واصطحبا على ذلك وكانا يتفقهان في بعض الأوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة الله عز وجل وملائكته وصفات المعاد والثواب والعقاب فأما أسال منها فكان أشد غوصاً على الباطن وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل وأما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر وأشد بعداً عن التأويل وأوقف عن التصرف والتأمل وكلاهما مجد في الأعمال الظاهرة ومحاسبة النفس و مجاهدة الهوى وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد وتدل على أن الفوز والنجاة فيهما وأقوال أخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة فتعلق أسال بطلب العزلة ورجح القول بها لما كان في طباعه دوام الفكرة وملازمة العبرة والغوص على المعاني وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك بالانفراد وتعلق سلامان بملازمة الجماعة ورجح القول بها لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف فكانت ملازمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس ويزيل الظنون المعترضة ويعيذ من همزات الشياطين و كان اختلافهما في هذا الرأي
افتراقها

سبب
وكان أسال قد سمع عن الجزيرة التي ذكر أن حي بن يقظان تكون بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل وأن الانفراد بها يتأتى لملتمسه فأجمع على أن يرتحل اليها ويعتزل الناس بها بقية عمره فجمع ما كان له من المال واكترى ببعضه مركبا تحمله الى تلك الجزيرة وفرق باقيه على المساكين وودع صاحبه سلامان وركب متن البحر فحمله الملاحون الى تلك الجزيرة ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنها فبقي أسال بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل ويعظمه ويقدسه ويفكر في أسمائه الحسنى وصفاته العليا فلا ينقطع خاطره ولا تتكدر فكرته واذا احتاج الى الغذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد به جوعته وأقام على تلك الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أنس
10

بمناجاة ربه وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تحفه وتيسيره عليه في مطالبه وغذائه ما يثبت يقينه ويقر عينه وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة فكان لا يبرح عن مغارته الا مرة في الأسبوع لتناول ما سنح من الغذاء فلذلك لم يعثر عليه أسال بأول وهلة بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة ويسيح في أرجائها فلا يرى انسياً ولا يشاهد أثراً فيزيد بذلك أنه وتنبسط نفسه لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب المزلة والانفراد الى أن اتفق في بعض تلك الأوقات أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأسال قد ألم بتلك الجهة فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر
فأما أسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين وصل الى الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو اليها فخشي ان هو تعرض له وتعرف به أن يكون ذلك سبباً لفساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله وأما حي بن يقظان فلم يدر ما هو لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك وكان عليه مدرعة سوداء من شعر وصوف فظن أنها لباس طبيعي فوقف يتعجب منه ملياً وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء فلما رآه في الهرب خنس عنه وتوارى حتى ظن أسال أنه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة فشرع أسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع والتواجد حتى شغله ذلك عن كل شيء فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلا قليلا وأسال لا يشعر به حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه ويشاهد خضوعه وبكاءه فسمع صوتاً وحروفاً منظمة لم يعهد مثلها من أصناف الحيوان ونظر الى اشكاله وتخطيطه فرآه على صورته وتدين له أن المدرعة التي عليه ليست جلداً
بشند
۱۵۱

أعطافه
طبيعياً وانما هو لباسه هو ولما رأى حسن خشوعه وبكائه لم يشك في أنه من الذوات العارفة بالحق فتشوق اليه وأراد أن ما عنده یری وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه فزاد في الدنو منه حق أحس به أسال فاشتد في العدو واشتد حي بن يقظان في أثره حق التحق به - لما كان أعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم فالتزمه وقبض عليه ولم يمكنه من البراح فلما نظر اليه أسال وهو مكتس يجلود الحيوانات ذوات الأوبار وشعره قد طال حتى جلل كثيراً منه ورأى ما عنده من سرعة العدو وقوة البطش فرق منه فرقاً شديداً وجعل يستعطفه ويرغب اليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان ولا يدري ما هو غير أنه كان يميز فيه شمائل الجزع فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من بعض الحيوانات ويجر يده على رأسه ويمسح ويتملق اليه ويظهر البشر والفرح به حتى سكن جأش اسال وعلم أنه لا يريد به سوءاً وكان أسال قديماً لمحبته في علم التأويل قد تعلم أكثر الألسن ومهر فيها فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج إفهامه فلا يستطيع وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو غير أنه يظهر له البشر والقبول فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه وكان عند أسال بقية من زاد كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة فقربه إلى حي بن يقظان فلم يدر ما هو لأنه لم يكن شاهده قبل ذلك فأكل منه أسال وأشار إليه ليأكل ففكر حي بن يقظان فما كان ألزم نفسه من الشروط في تناول الغذاء ولم يدر أصل ذلك الشيء الذي قدم له ما هو وهل يجوز له تناوله أم لا ! فامتنع عن الأكل ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه وقد كان أولع به حي ابن يقظان فخشي إن دام على إمتناعه أن يوحشه فأقدم على ذلك الزاد وأكل منه فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط الغذاء وندم
١٥٢

على فعله وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم فلم تتأت له المشاهدة بسرعة فرأى أن يقيم مع أسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه ولا يبقى في نفسه هــــو نزوع إليه وينصرف بعد ذلك إلى مقامه دون أن يشغله شاغل فالتزم صحبة اسال ولما رأى أسال أيضاً أنه لا يتكلم أمن من غوائله على دينه ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله فشرع أسال في تعليمه الكلام أولا بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق فينطق بها مقترناً بالإشارة حتى علمه الأسماء كلها ودرجه قليلا قليلا حتى تكلم في أقرب مدة فجعل أسال يسأله عن ومن أين صار إلى تلك الجزيرة فاعلمه حي بن يقظان أنه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أباً ولا أما أكثر من الظبية التي ربته ووصف له شأنه كله وكيف ترقى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول
شانه
فلما
لا تعارض بين حقائق الدين وحقائق المشاهدة
جميع
الأشاء
أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس سمع العارفة بذات الحق عز وجل ووصف له ذات الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين لم يشك أسال في أن التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خاطره وتطابق عنده المعقول والمنقول وقربت عليه طرق التأويل ولم يبق عليه مشكل
١٥٣

عنده من
في الشرع الا تبين له ولا مغلق الا انفتح ولا غامض الا اتضح وصار من أولي الألباب وعند ذلك نظر الى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فالتزم خدمته والاقتداء به والأخذ بإشاراته فيما تعارض الأعمال الشرعية التي كان قد تعلمها في ملته وجعل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه فجعل اسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم وكيف الآن بعد وصولها اليهم ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيئاً على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم
هي
فعلم
أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه صادق في قوله رسول من عند ربه فآمن به وصدقه وشهد برسالته
ثم جعل يسأله عما جاء به من الفرائض ووضعه من العبادات فوصف له الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبهها من الأعمال الظاهرة فتلقى ذلك والتزمه وأخذ نفسه بأدائه امتثالاً للأمر الذي صح عنده صدق قائله إلا أنه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منها ولا يدري وجه الحكمة فيها
أحدهما - لم ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم واعتقاد أشياء في ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها وكذلك في أمر الثواب والعقاب !
والأمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح

الاقتناء للاموال والتوسع في المآكل حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل والإعراض عن الحق
وكان رأيه هو أن لا يتناول أحد شيئاً الا ما يقيم به الرمق وأما الأموال فلم تكن لها عنده معنى وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال كالزكاة وتشعبها والبيوع والربا والحدود والعقوبات فكان يستغرب ذلك كله ويراه تطويلا ويقول ان الناس لو فهموا الأمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل وأقبلوا على الحق و استغنوا عن هذا كله ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته أو تقطع الايدى على سرقته أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة
كلهم
وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه أن الناس ذوو فطر فائقة وأذهان ثاقبة ونفوس عازمة ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة الرأي وضعف العزم وأنهم كالأنعام بل هم أضل
والنقص وسوء
سبيلا !
فلما اشتد إشفاقه على الناس وطمع أن تكون نجاتهم على يديه حدثت له نية في الوصول إليهم وايضاح الحق لديهم وتبيينه لهم ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم فأعلمه أسال بما هم عليه من نقص الفطرة والإعراض عن أمر الله فلم يتأت له فهم ذلك وبقي في نفسه تعلق بما كان قد أمله وطمع أسال أيضا أن يهدي الله على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين كانوا أقرب إلى التخلص من سواهم فساعده على رأيه ورأيا أن يلتزما ساحل البحر ولا يفارقاه ليلا ونهاراً لعل الله أن يسنى لهما عبور البحر فالتزما ذلك وابتهلا الى الله تعالى بالدعاء أن لهما من أمرهما رشداً فكان من أمر الله عز وجل أن سفينة في البحر ضلت مسلكها ودفعتها الرياح وتلاطم الأمواج الى ساحلها فلما قربت من البر رأى
یایی
100

يحملوهما
ممهم
حي
أهلها الرجلين على الشاطىء فدنوا منهما فكلمهم أسال وسألهم أن فأجابوهما الى ذلك وأدخلوهما السفينة فأرسل الله اليهم ريحاً رخاء حملت السفينة في أقرب مدة الى الجزيرة التي أملاها فنزلا بها ودخلا مدينتها واجتمع أصحاب أسال به فعرفهم شأن ابن يقظان فاشتملوا عليه اشتمالاً شديداً وأكبروا أمره واجتمعوا اليه وأعظموه ويحلوه وأعلمه أسال أن تلك الطائفة هم أقرب الى الفهم والذكاء من جميع الناس وأنه ان عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز وكان رأس تلك الجزيرة وكبيرها سلامان وهو صاحب أسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة ويقول بتحريم العزلة فشرع حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة اليهم فما هو الا أن ترقى عن الظاهر قليلا وأخذ في وصف ما سبق الى فهمهم خلافه فجعلوا بنقبضون منه وتشمئز نفوسهم مما يأتي به ويتسخطونه في قلوبهم وان اظهروا له الرضاء في وجهه اكراماً لغربته فيهم ومراعاة لحق صاحبهم أسال !
وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهاراً ويبين لهم الحق سراً وجهاراً فلا يزيدهم ذلك الا نبواً ونقاراً مع أنهم كانوا محبين للخير راغبين في الحق الا أنهم لنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقه ولا يأخذونه يجهة تحقيقه ولا يلتمسونه من بابه بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق أربابه فينس من اصلاحهم وانقطع رجاؤه من قبولهم
وتصفح طبقات الناس بعد ذلك فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة ولا يزدادون بالجدل الا اصراراً وأما الحكمة فلا سبيل لهم اليها ولاحظ لهم منها قد
١٥٦

غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون خَتَمَ اللهُ على قُلُوبِهِم وَعَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
تغشتهم

فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط وظلمات الحجب قد بهم والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم الا بالدنيا وقد نبذوا أعمالها على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم واشتروا بها ثمناً قليلا وألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع ولم يخافوا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار بان له وتحقق على القطع أن مخاطبتهم بطريق المكاشفة لا تمكن وأن تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق وأن حظ أكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة انما هو حياتهم الدنيا ليستقيم له معاشه ولا يتعدى عليه سواه فيما اختص هو وأنه لا يفوز منهم بالسعادة الأخروية الا الشاذ النادر وهو من أراد حرث الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن
به
"
فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى" وأي تعب أعظم وشقاوة أطم ممن إذا تصفحت أعماله من وقت انتباهه من نومه حين رجوعه الى الكرى لا تجد منها شيئاً إلا وهو يلتمس به تحصيل غاية من هذه الأمور المحسوسة الخسيسة إما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة يقضيها أو غيظ يتشفى به أو جاه يحرزه أو عمل من أعمال الشرع يتزين به أو يدافع عن رقبته وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض في بحر لجي وإن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلى رَبِّكَ
D
- البقرة ٧
- النازعات ۳۹۰۳۸۰۳۷
101

حتما مقضيّاً ١ فلما فهم أحوال الناس وان أكثرهم بمنزلة الحيوان
أن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل الناطق علم ووردت به الشريعة لا يمكن غير ذلك ولا يحتمل المزيد عليه فلكل عمل رجال وكل ميسر لما خلق له سُنّة اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قبل وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً "
لا
فانصرف الى سلامان وأصحابه فاعتذر عما تكلم به معهم وتبرأ اليهم منه وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة وقلة الخوض فيما يعنيهم والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها والإعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من اهمال الشريعة والإقبال على الدنيا وحذرهم عنه غاية التحذير وعلم هو وصاحبه أسال أن هذه الطائفة المريدة القاهرة لا نجاة لها الا بهذا الطريق وأنها ان رفعت عنه الى يفاع الاستبصار اختل ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها وان هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين فازت بالأمن وكانت من أصحاب اليمين و أما السابقون السابقون فأولئك المقربون فود عاهم وانفصلا عنهم وتلطفا في العود الى جزيرتهما حتى يسر الله عز وجل عليهما العبور اليها وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولا حتى عاد اليه واقتدى به أسال حتى قرب منه أو كاد وعبدا الله بتلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين
1 - مریم ۰۷۱
- الاحزاب ٦٢
١٥٨

هذا
أيدنا الله واياك بروح منه - ما كان من نبأ حي بن يقظان وأسال وسلامان وقد اشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في كتاب ولا يسمع في معباد خطاب ومن هو العلم المكنون الذي لا يقبله الا أهل المعرفه بالله ولا يجهله الا أهل الغرة بالله وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانة به والشح عليه الا أن الذي سهل علينا افشاء هذا السر وهتك الحجاب ما ظهر في زماننا هذا من آراء فاسدة نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها فيزيد بذلك حبهم فيها وولوعهم بها فرأينا أن نلمع اليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم الى جانب التحقيق ثم نصدهم عن ذلك الطريق ولم نخل ذلك ما أودعناه مع هذه الأوراق اليسيرة من الأسرار عن جانب حجاب رقيق وستر لطيف ينهتك سريعاً ان هو أهله ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه وأنا أسأل اخواني الواقفين على هذا الكلام أن يقبلوا عذري فيا تساهلت في تبيينه فلم أفعل ذلك الا لأني تسنمت شواهق يزل الطرف عن مرآها وأردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق وأسال الله التجاوز والعفو وأن يوردنا من المعرفة به الصفو انه منعم كريم والسلام عليك أيها الأخ

المفترض اسعافه ورحمة الله وبركاته
١٥٩

۱۹
٢٦

٤١

٤٨
۵
DO
0


٦٣

٦٧
متناه
فہرس
مقدمة
الفصل الأول ابن طفيل حياته وآثاره الفصل الثاني ابن طفيل فلسفته
- ابن طفيل والفلاسفة
- موضوع الفلسفة
- مشكلة المعرفة
أ التيار العقلي وموقف الدين منه ب التيار الإشراقي
- السعادة ووسيلتها أو المعرفة وطريقها أ صلة هذه الحالة باللغة
ب صلتها بالعقل
ج صلتها بالدين
د من شروطها
ه - العالم أ حقيقة الجسم ب كل
ج قدم العالم وحدوثه
جسم
د ما يلزم عن اعتقاد قدم العالم أو حدوثه
هـ أبدية العالم
٦ - الله
العالم الإلهي
الروح أ الروح من الله
ب وحدة الروح ج براءة الروح عن الجسمانية
د العذاب والنعيم في الدار الآخرة
حي بن يقظان لابي بكر بن طفيل الاندلسي