الإمام
الدكتور عبد الحليم محمود
الإسلام والعقل
A
دار المعارف
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
وكأنه سبحانه وتعالى يقول
لقد أرسلت لكم رسولا دائماً هو القرآن الكريم الذي ضمنت حفظه ولستم في حاجة إلى إرسال بعده فرسالته مستمرة أبدية خالدة
إنها الصراط المستقيم وهي الهداية الدائمة
وهى بالأسلوب الإلهى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل
من حكيم حميد
فاهتدوا بها وتمسكوا بالحق الذي ترشد إليه
وإذا
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولا كتاب منير قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان
يدعوهم إلى عذاب السعير
۳
وبعد فيقول الله تعالى
لله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم
وهذا الكتاب إنما هو تفصيل وتوضيح لما سبق
وما أظن أنني فرحت فى يوم من الأيام بظهور كتاب لى بمقدار ما فرحت
حين ظهر هذا الكتاب فى طبعته الأولى
وذلك أنه
يعبر عن منهجى الخاص فى حياتى الفكرية منهج الاتباع وأنا أسير في هذا المنهج تبعاً لتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
۳ لقمان آية ۰ و ۱
ونشأت لظروف خاصة بهذا الجو اليونانى الذى تعارض فيه الدين الوثنى مع
منطق العقل العبقرى
وكانت النتيجة أن التزم عباقرة اليونان العقل العقائد والأخلاق
وأخضعوا - كل مسألة عقدية أو أخلاقية - للعقل
ولما فعلوا ذلك اختلفوا اختلافاً بيناً
وأصبحت كل مسألة صغيرة أو كبيرة موضع اختلاف بين هؤلاء العباقرة
لا يصلون فيها إلى رأى واحد
ولا يصلون بالتالى إلى اتفاق
وكل من قرأ التاريخ الفلسفي يعرف أن كل من يسير في مسائل العقائد والأخلاق على المنهج اليونانى يصل إلى نفس النتيجة الاختلاف والتعارض في الرأي وعدم الوصول إلى نتيجة يقينية وإذا نظرت إلى كثير من أضاليل الفكر فستجد مصدره النهج اليونانى
إن الأدب المكشوف نبتت جذوره في اليونان
وإن المسرح الفاجر الذى أسس على الأدب المكشوف نبتت جذوره في
اليونان
وإن التماثيل العارية - سافرة فاضحة - إنما مردها إلى اليونان
وكل ذلك إلى بدعة فكرية يونانية هي الفن للفن والأدب يرجع
للأدب
وبدعة أخرى مردها إلى اليونان أيضاً هي العلم للعلم
وما كان كل ذلك في الحضارات الأخرى
لقد كان الأدب والفن والعلم في الحضارات الأخرى يسير في خدمة
۱۰
الفضيلة والإنسانية والسمو الروحى
فلما نشأت الحضارة اليونانية نزلت بالقيم والمعايير إلى المستوى البشرى في نقصه وتخبطه ولم تحاول قط السمو الإنسانى إلى الآفاق العليا التي أحبها الله
وأنزلها على لسان رسله
ونزلت الحضارة اليونانية بالعقائد أيضاً إلى المستوى البشرى في نقصه
وتخبطه
وجعلت من
مسألة وجود وترجمت هذه الفلسفة بأمر المأمون وأخذ الناس شيئاً فشيئاً يألفون البدعة بدعة الجدل البشرى بما فيه من نقص وتخبط لم يتفق عباقرة اليونان على رأى ولم يستقروا على أمر في عالم
الله مسألة قابلة للأخذ والرد والإنكار والإثبات
الفكر
وإذا جمعت آراءهم بأكملها لم تجدها إلا مجموعة من المتناقضات المتعارضة المضطربة التى لا يتميز فيها الحق من الباطل ولا سبيل عقليا لتمييز حقها من باطلها لأن المقياس العقلى للتمييز بين الحق والباطل فى عالم العقليات لم يوجد ولن يوجد ولم يخترعه أرسطو ولم يبتدعه ديكارت إنك حينما تكون بصدد التراث اليونانى الفكرى تكون بصدد ركام مركوم لا تعرف عقلياً أو منطقيًّا حقه من باطله
وسمعته
أمر المأمون بترجمة هذا التراث ودراسته والعناية به ولاكته الألسن و الآذان وه تداولته الأيدى وعكفت عليه الأذهان و تبنته بعض العقول فأخذت مسألة إثبات الإلهية تبدو شيئاً فشيئًا وكأنها طبيعية
B
والملاحدة في كل عصر يسرهم أن تأخذ مسألة إثبات الإلهية هذا الوضع ومادام الإثبات مشروعاً فإن الرد مشروع إنه يسرهم أن ينزل المؤرخون بهذه المسألة عن جو القداسة لينزلوا بها هم إلى جو الإنكار وكان لهم ما أرادوا وأصبحت المسألة مجالاً للجدل وما من شك في أن لكل أمة مقدسات
وإن من أقدس مقدسات الأمة الإسلامية عقيدتها
فلنرجع بها إلى جو الفطرة الطاهرة والشعور الصافى والبداهة الواضحة وإذا شذ عن ذلك شاد فليكن في القانون ما يمكن
القضاء من ردعه
ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم
12
القسم الثاني
في علم الكلام
الفصل الأول
الفلسفة وعلم الكلام
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
وقد اتبع سلفنا الصالح هذه النصيحة النبوية المعللة فلم يحاولوا قط الابتداع وما يتأتى قط أن ينشأ الابتداع في الأوساط الدينية السليمة الأوساط التي تكون لديها الشعور الدينى الحى بالأسوة الحسنة والفهم الواعي للروح الدينية الخالصة
وقد تهيأ لسلفنا الصالح التأسى بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وتهيأت لهم تلاوة القرآن فى تدبر وفهم ففصلوا في صورة حاسمة بين ما يتأتى للإنسان أن يسير فيه على ضوء التجربة وأن يبتدع فيه ويخترع وينسق ويؤلف وهو الأمور التى تتصل بالمادة والحس وتتصل بعالم الطبيعة رضه وسمائه وما بين أرضه وسمائه وبين ما لا يتأتى للإنسان أن يصل إلى معرفته إلا ظنا أو وهماً وهو عالم ما وراء الطبيعة وعالم الخير والشر وهذان العالمان - عالم ما وراء الطبيعة وعالم الأخلاق – كانا باستمرار
موضوع جدل ومثار نقاش بين الذين يريدون أن يصلوا إلى حقائقها عن طريق العقل المجرد الذي لا يستند إلى دين
وانقسم العقليون منذ أن دار البحث في هذه المسائل عقليا إلى فريقين
۱۰۷
تری
فريق يثبت ما وراء الطبيعة والأخلاق وفريق ينكرهما
وانقسم المثبتون إلى طوائف لا تكاد تحصر وكل طائفة تنتسب إلى زعيم أنه العبقرى على الإطلاق الموفق في كل ما يأتى وما يدع المصدق في
كل ما يشير به أو يعلل له
وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن تعلن كل طائفة الحرب على الطائفة الأخرى مكذبة لها مستجهلة لها رامية زعيمها بالغباء والجهل 1 ومن البديهى أن السبب في هذا النزاع هو أن كل زعيم يختلف عن الآخر في الصورة التي يرسمها بعقله لعالم ما وراء الطبيعة ولأسس الأخلاق
ومبادئها
ب ومن البديهي أن سبب هذا الاختلاف فيما وراء الطبيعة والأخلاق إنما هو اختلاف العقول فى فطرتها وجبلتها واختلافها بسبب الفطرة الموروثة وبسبب البيئة الطبيعية والبيئة المنزلية واختلافها بحسب الثقافة كمها وكيفها واختلافها بحسب مؤثرات وظروف وملابسات لا تكاد تدخل تحت
حصر
إن نوع الطعام ودرجة الحرارة ودرجة نقاء الهواء ودرجة ارتفاع المكان الذي يعيش فيه الإنسان وقربه أو بعده عن شاطئ البحر والوظيفة والعمل والأصدقاء إن كل ذلك له تأثير على تفكير الإنسان ارتفاعاً وانخفاضاً وعمقاً وضحالة ومن الطبيعى والأمر كذلك أننا لو ربطنا المعرفة الخاصة بعالم ما وراء الطبيعة وعالم الأخلاق بالعقل – وشأنه كما بينا – لربطناهما بأساس يتأرجح ويتذبذب ولا يستقر على قرار
حـ وقد حاولت الإنسانية - منذ أن بدأت تفكر عقلياً في الإلهيات
1A
والأخلاق أن تخترع مقاييس وموازين - عقلية – تقيس بها الصحة والخطأ في هذين العالمين فكانت النتيجة إخفاقاً متتابعاً
لقد أخفق منطق أرسطو - منطق القياس - في معرفة حقائق الإلهيات
والأخلاق وكانت أخطاء أرسطو في هذين الميدانين لا تحصى ولكثرتها ولعنف الهجوم عليها يئس تلاميذ أرسطو وهم أيضاً فلاسفة من إصلاحها وانهزموا فى ميدان الدفاع عنها
وأخفق منطق فرنسيس بيكون - منطق الاستقراء – في الكشف عن عالم الغيب وعالم الخير والشر وما كان يتأتى له أن يكشف عنها وهو منطق
الكشف
عن القوانين المادية وتبين الحقائق فى عالم الحس عالم الكون
والفساد ولم يتطاول قط إلى كشف الحقائق في عالم البقاء والخلود وأخفق منهج ديكارت ولم يرض عنه كثير من معاصريه من الفلاسفة ولم يرض عنه كثير ممن أتى بعده منهم وهاجموه في حياته وبعد مماته وبقيت حقائق ما وراء الطبيعة والأخلاق بعد ديكارت كما كانت
قبله موضوعاً للجدل العقلي الذي لا ينتهى
والملاحظ - على كل حال منذ أن بدأ التفكير العقلي في الإلهيات والأخلاق - أن السنوات تتوالى وعشرات السنوات وعشرات القرون
ولم تنته الإنسانية عقليا إلى حل هذه المسائل
D
إنها لم تنته إلى حلها عقليا في الغرب ولم تنته إلى حلها عقليا في الشرق ولم توفق إلى حلها فوق قمم الجبال ولم تصل إلى حلها على شواطئ البحار
د إن المعنى الذي نستنتجه من ذلك كله – وهو استنتاج يقرب من أن
۱۰۹
يكون بديهيا - أن حل مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق عن طريق
العقل مستحيل
وأن وضعها إذن موضع البحث العقلى خطأ
وأنه يجب
البشرية
أن
تعيد الإنسانية النظر فى إختصاصات القوى والملكات
وإذا أعادت الإنسانية النظر في اختصاصات القوى والملكات البشرية فإنها ستجد لا محالة - أن الوضع القديم - الوضع الذي كان قبل نشأة هذا اللون من البحث العقلى عند الإغريق هو الحكمة بعينها
وهذا الوضع القديم هو الذى أعاده الإسلام واتبعه المسلمون في
القرن الأول الإسلامى واستمر منذ بدأ الإسلام إلى نشأة المعتزلة أما هذا الوضع فهو أن لكل قوة من القوى الإنسانية اختصاصاً معيناً لا يتأتى أن تتعداه فقوة الحس ميدانها الطبيعة بل الظاهر المحس من
الطبيعة
إن ميدانها الألوان والأصوات والروائح والطعوم
إن ميدانها الإحساس الجسمانى فى الجسم البشرى وفى خارجه وهو ميدانها فى الحدود التي رسمها الله تعالى لها
وميدان العقل ودائرته إنما هو الفهم الواعي لما يلاحظ ويشاهد ويُحس ثم الاستنتاج والاستنباط مما يلاحظ ويشاهد ويحس فإذا كان الأمر أمر غيب ومساتير فليس للعقل في ذلك رأى ولا اختراع ولا ابتداع وكل ضرب من ذلك يقوم به العقل إنما هو خبط عشواء وسير في متاهات وسياحة في صحراء - دون مرشد - لا علامات فيها ولا أدلة
ومن
هنا كان هذا النتاج الفلسفى الضخم - ما وراء الطبيعة
أسسه والأخلاق - يشوبه الوهم في الكثير من
نتائجه
وفى الكثير من ولا يمكن الاهتداء عقلياً إلى ما فيه من الصواب الثابت أو الخطأ
والانحراف
ولكن الإنسان ليس حا وعقلاً و وحسب بل ليس الإنسان إنساناً بحسه
وعقله فقد ينزل به حسه وعقله إلى المستوى الحيوانى البحت فيعيش عيشة
السائمة بل قد ينزل به حسه إلى مستوى أقل من المستوى الحيوانى ويصير من
هذه الطائفة التي ينطبق عليها قول الله تعالى
الملائكة
وإن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا كم والإنسان إذن إنسان بروحه الشفافة ونفسه الزكية وبصيرته المضيئة إنه ذلك الذي تزكى إنه الذى صفت روحه صفاء يقربه من وإذا ما صفت الروح وتزكت النفس زال عن البصيرة ما تراكم عليها من صدأ كان يحجبها باستمرار عن أداء وظيفتها وإذا ما تركت النفس أصبحت محلاً للإلهام وللمعرفة المستنيرة فى عالم ما وراء الطبيعة وعالم الخير
والشر
وفهم
الحكماء القدماء - قبل العصر اليونانى - ذلك فلم يستعملوا قط الجدل أو القياس أو الابتداع العقلى والاختراع المنطقى وإنما استعملوا – من أجل معرفة الإلهيات - التنسك والعبادة والذكر واستخلاص النفس لله أو - بالتعبير القرآني – التزكية كانت تزكية النفس إذن وسيلتهم إلى المعرفة وكلما زادت تزكية النفس أصبح الشعور بعالم ما وراء الطبيعة وأصبح التمييز بين
۱۱۱
الخبر والشر ميسوراً واضحاً
هـ وسبيل تزكية النفس هذا من أجل المعرفة سبيل فهمه الكثير من الألمعيين في العصر اليوناني ومما لا شك فيه أن بذوره الأولى جاءتهم من
الشرق
لقد كانت فرقة الأورفية فى العصر اليونانى الأول تمثل هذا الاتجاه تمثيلاً
واضحاً
وكانت الفيثاغورية من بعدها تسير فى هذا الطريق وتؤمن أنه الوسيلة الصحيحة للوصول إلى عالم الغيب لقد كان الجانب التنسكي وكانت العبادة وكان الذكر كان كل ذلك وغيره مما يتصل بوسائل استخلاص النفس لله شيئاً عادياً في الفيثاغورية لقد كانت الفيثاغورية تصفية نفس وتطهراً أخلاقياً كانت ابتعاداً عن الرجس وانغماساً في عالم الخير وكانت بعبارة مختصرة تطهيراً للباطن
والظاهر وجاءت الأفلاطونية
وكان أفلاطون يصطفى من تلاميذه ذوى النفوس الشفافة والشعور
المرهف وهم قلة قليلة فيسلك بهم سبيل التنسك سبيل التزكية وعلى أثر ذلك جاءت الأفلاطونية الحديثة التي تنتسب إلى أفلوطين المصرى والتى بلغت بطريق التنسك والتزكية شأواً بعيداً
ولكن الجانب الحيوانى فى الإنسان كان يجره باستمرار إلى الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى ولم يكن طريق التطهر والتزكية من السهولة بحيث
يلجه كل طارق
۱۱
وهذا الكتاب يشرح وجهة نظرى وهي وجهة نظر وجه إليها القرآن الكريم ووجهت إليها السنة النبوية الشريفة وسار على سننها أئمتنا الهداة
المهديون
وهو كتاب أتقرب به إلى الله سبحانه وأرجوه سبحانه أن مهدی له وأن يهدى به وصلى الله وسلم على الأسوة الحسنة والقدوة الربانية سيد ولد آدم الشفيع الذي نرجو شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
۱
إن الارتفاع بالنفس سبيل شاق ومن أجل ذلك عدل الشطر الأكبر من اليونان عن طريق التزكية - إلى طريق الجدل العقلى فكانت الفلسفة العقلية اليونانية وكان الانحراف عن الطريق السليم
والذي تولى كبر ذلك ودعم أركانه وبلغ به القمة إنما هو أرسطو ومما لا مماراة فيه أن الانحراف فى البحث عما وراء الطبيعة يدين بالكثير أو
بالأكثر إلى أرسطو
وأخفق أرسطو فيما وصل إليه من نتائج عما وراء الطبيعة
وأخفق الذين تابعوه
وأخفق الذين أتوا من بعدهم
وترى الإنسانية هذا الإخفاق المتتابع ولكن المحاولات لمعرفة الغيب عن
طريق العقل لم تنته بعد
ومع
ذلك فقد كان عند الكثير من مفكرى اليونان حدس صادق بالوضع الصحيح في مثل هذه الأمور لقد كانوا يؤمنون بأن الفكرة الصحيحة عن معالم الغيب وعن الأخلاق إنما تتأتى عن طريق رسول يتلقى عن
الله الوحى
ليبلغه إلى بني البشر والقصة التالية توضح هذا الشعور لديهم فقد اجتمع – كما يقص أفلاطون - سقراط واثنان من الفيثاغوريين هما
سمباس وقابس وأخذوا يتحدثون عن خلود النفس والاستدلال عقليا – على بقائها فلا يكاد يستقيم لهم الدليل في وضوح وثبات ثم يسكت سقراط ويسكت الجميع وبعد هنيهة يقول سمباس إن العلم بحقيقة هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ولكن من الجبن - اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر
مدى العقل فيجب إما الاستيثاق من الحق وإما - إن امتنع ذلك - استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به فى اجتياز الحياة كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب مادام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن أعنى إلى وحى إلهى "
المركب الأمتن الآمن إذن إنما هو الوحى الإلهى أما العقل فمثلُ من
يتذرع به كمثل من يخاطر بقطع البحر على لوح من خشب لقد حاول اليونانيون إذن البحث العقلى لاجتياز خضم ما وراء الطبيعة لأنه لم يكن لديهم وحى يرجعون إليه فى الهداية والإرشاد ولو كان لديهم هذا الوحى لما اختاروا العقل به بديلاً ولما كانت الفلسفة اليونانية العقلية ولبقى توزيع اختصاصات القوى الإنسانية والملكات البشرية على استقامته الأولى
الحس لعالم الطبيعة
والعقل للاستنتاج مما يأتى
به
الحس
أما الروح والبصيرة فإنها لعالم الغيب وعالم الخير
ولقد تأثر علم الكلام الإسلامي بالتيار العقلى اليوناني في نهجه العقلى وفى اتجاهه الاختراعى الابتداعى وكان علم الكلام بذلك فلسفة يرتطم بكل ما يعترض الفلسفة من عقبات وأضاع - بمقدار قربه من الفلسفة – ما كان ينبغى له من قداسة وكان بابتعاده عن النهج القرآنى السليم الفطرى مثيراً لكثير من المشاكل التي تفرق المسلمين وتجعلهم فرقاً وأشياعا متنافرين متخاصمين ومع ذلك فإن العودة إلى النهج السليم ميسورة وعلى قادة المسلمين فكرياً ودينياً أن يساهموا في إيضاحه
الفضل الثاني
علم الكلام الراهن
1
كانت الدعوة الإسلامية - منذ نشأتها - دعوة إلى التوحيد وقد عمل صلوات الله وسلامه عليه جاهداً فى أن يوطد أركان هذه العقيدة
الرسول
6
في نفوس الذين اتبعوه ولم يفعل ذلك عن أمره وإنما فعله منفذاً للوحى المعصوم وللآيات القرآنية الكريمة ذلك أن القرآن في جميع أجزائه قد جعل هذه العقيدة أولى العقائد الجوهرية لا إله إلا الله إنها كلمة التوحيد كلمة الإخلاص وهى أول ما ينطق به الشخص حينما يعتنق الإسلام
وهى
وتوحيد الله هو جوهر وحدة الدين
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين
۱ لقد ابتعد علم الكلام - على مر الزمن - عن القرآن مقترباً من الفلسفة حتى إنه ليوشك أن يصير فلسفة عقلية بحتة ونريد أن نرسم صورة موجزة كل الإيجاز صورة هيكلية بالغة الاختصار لما ينبغي أن يكون عليه علم التوحيد وذلك يقتضى أمرين الهدم والبناء لذلك ستحدث أولاً عما يجب أن يزول عن مباحث علم الكلام ثم نتحدث عما يجب أن يتجه إليه
١١٥
العقيدة ووحدة الأخلاق من أهم العوامل التي تتجه بالمؤمنين إلى الوحدة
الشاملة
المؤمن أخو المؤمن
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد أحب لأخيك ما تحب لنفسك
والإنسان لا يحتاج إلى تعمق كبير ليرى أن الدين الإسلامي إنما هو دين التوحيد ودين الوحدة وأن النزاع والاختلاف والتفرق والشذوذ ليس
لها في
ومع
الله دین
مكان من
ذلك فقد تفرق المسلمون
ولسنا الآن بصدد البحث عن أسباب تفرق المسلمين واختلافهم – في شيء من التفصيل – ولكننا بصدد البحث عن وحدة العقيدة وعن الأسباب التاريخية القديمة التي أخذت - ولا تزال - تهدم في الأساس المتين الذي أقامه وعمل على تمكينه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وإذا ما تبينا هذه الأسباب تبينا فى الوقت نفسه طريقة تلافي الاختلاف في العقيدة وربما تبينا من ذلك بعض أسباب تفرق المسلمين وبعض العلاج لإزالة هذا التفرق فيما لا شك فيه أن الاختلاف في العقيدة من دواعي التفرق في الأمم بل في الأمة الواحدة وأن الاتفاق فى العقيدة من دواعي الوحدة وقد أتى على هذا الاختلاف فى العقيدة أمد من الدهر طويل فتمكن من النفوس ولا مناص إذن من أن نستفيض في شرح الداء حتى يمكن العلاج في شيء من التوفيق إن شاء الله تعالى
بيد أننا سوف لا نقتصر على ذلك فإن الاقتصار على ذلك نصف
المرحلة ولو اقتصرنا عليه لكنا مقصرين ونريد إذن - والله المستعان - أن نحاول في المرحلة الثانية بيان طريقة السلف الصالح في الاعتقاد وفى الاستدلال عليه وأن نضرب أمثلة لبعض مظاهر إيمانهم القوى الذى غير وجه العالم ونشر كلمة الله
ومما لا شك فيه أن الاختلاف في العقائد وتفرق الأمة الواحدة إلى فرق متعددة آثار سيئة ونتائج وخيمة ولا ريب أن المسلمين على بكرة أبيهم يودون أن تعود الوحدة في العقيدة إلى ماكانت عليه فى الصدر الأول وإنهم ليتلمسون الوسائل لإحياء
الشعور الدينى الذى يأبى التفرق والتنازع في مجالات الإيمان
وقد ترك الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما - الأمة الإسلامية وكان يتمثل فيها خير تمثيل الآية
القرآنية الكريمة إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ٥
والآية الكريمة
1
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون عليه أن الأمة الإسلامية تفرقت بعد وحدة وتنازعت بعد اتفاق
بید
نعود فنتساءل ما العوامل التي أدت إلى الاختلاف في العقيدة وليس بعسير تبيين هذه العوامل وتوضيحها فإن القرآن الكريم والسنة
٥ الأنبياء ٩٢
٦ المؤمنون ٥٢
۱۱۸
الذي
الشريفة قد بينا ذلك فى وضوح وفى أسلوب لا لبس فيه وبينا أيضاً العلاج ينجع وقد وضح سلفنا الصالح نهج الكتاب والسنة في أمر العقائد والأساس الأول فى القرآن هو التمييز الحاسم الذي ميز به القرآن بين ميدانين أطلق لنا الحرية فى أن نبحث فى أحدهما ما شاء الله لنا أن نبحث مؤيدين أو شارحين أو متفهمين وذلك هو ميدان الآيات المحكمات أما الآخر الذى لنا أن نبحث فيه فإنه المتشابه يقول الله تعالى
ليس
۷
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ٧ أما الأحاديث الشريفة التي ترسم للمؤمنين الطريق الذي يجب أن يتبعوه احتفاظاً بالوحدة واتباعاً للنهج الصحيح وابتغاء للطمأنينة القلبية فإنها كثيرة وسنذكر منها الكثير فى أثناء هذا البحث إن شاء الله تعالى أما الآن فسنكتفى بثلاثة
قال صلوات الله وسلامه عليه اتبعوا ولا تبتدعوا فإنما هلك من قبلكم بما ابتدعوا في دينهم وقالوا بآرائهم وخالفوا سنن أنبيائهم فضلوا وأضلوا
وقال صلوات الله وسلامه عليه فى إحكام دقيق وفى إيجاز محكم ه اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول
۷ آل عمران ۷
۱۱۹
أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن أمتك مختلفة بعدك
قال فقلت فأين المخرج فقال كتاب الله
رسمت الآية القرآنية الكريمة ورسمت الأحاديث النبوية الشريفة طريق الوحدة في العقيدة والاطمئنان إجمالاً وعموماً وسبيلنا الآن أن نبين المراد بالمحكم والمتشابه ونبين طريق الاتباع وطريق الابتداع ونشرح كيفية التزام كتاب الله حتى نخرج من الاختلاف لننضوى تحت راية الاعتصام بكتاب الله في وحدة متناسقة وبالله التوفيق
مشكلة القدر
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
هذا الحديث الشريف يلخص المنهج الذي نحب أن يسير عليه العالم
الإسلامي في أمر العقيدة
نحب أن يسير عليه رأياً وفكرة ونحب أن
يسير
عليه
من قبل ذلك
استعداداً وتأهلاً
وهذا الاستعداد والتأهل يتأتى على الخصوص بوساطة دور ا التعليم في جميع
مراحله وبوساطة الصحافة والكتب التي تُنشر وهذا الحديث الشريف يسانده في معناه ما لا يكاد يحصى من
القرآنية والأحاديث النبوية
التابعين يقول الله تعالى
6
الآيات
والآثار التي وردت عن كبار الصحابة وكبار
۱۰
ديناً
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
لقد كمل الدين فكفانا الله كل ابتداع وإذا كان الدين كاملاً فما علينا
إلا الاتباع أما طريقة الاتباع فقد حددها الله في الآية الكريمة التي سبق ذكرناها ۸ والطريقة إذن أن نتبع الآيات المحكمات في فهم ووعى وتأييد
أن
وهي ليست مثار جدل ولا خصومة وليست مجال نزاع يحتدم أو أهواء تثور وأن تؤمن بالمتشابه كما ورد وألا نتبعه متأولين
فإن تتبع المتشابه إنما ينشأ عن القلوب التي تلونت بالزيغ والانحراف وهي التي تتبعه ابتغاء الفتنة وتتبعه لتأويله وتأويله إنما يعلمه الله ولكن ما هو هذا المتشابه
لقد اختلف فيه أئمتنا ولا نريد أن نتعرض لهذا الاختلاف وإنما نريد أن
نقول في اطمئنان وثقة
إن المسائل التي نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخوض فيها والمسائل التي كان الاتجاه العام فى عهد الخلفاء الراشدين ينفر من الخوض فيها هي من المتشابه فالمتشابه إذن هو ما تنفر منه ـه الروح العامة للدين الإسلامي في عهده الأول عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه وخلفائه الراشدين وتتحرج من الخوض فيه
مثل ماذا
۸ وهو قوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات من أ أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ومايذكر إلا أولو الألباب
تأويله إلا الله
۱۱
أما أولى مسائل المتشابه التى نريد أن نتحدث - بتوفيق الله - عن شيء مر
تاريخها فهي
مسألة القدر
لقد شغلت مسألة القدر أو الجبر والاختيار أو أفعال العباد عقول الإنسانية منذ أن كان الدين أى منذ ابتداء تاريخ الإنسان على ظهر الكرة
الأرضية
وإذا أثيرت مسألة القدر فى أى وسط كان مهما كان قليل العدد فإنها تقسمه إلى قسمين يقول أحدهما بالجبر والآخر يقول بالاختيار لقد أثارها اليهود في دينهم ففرقت بينهم وقال بعضهم بالجبر وقال الآخرون بالاختيار
وأثيرت في الديانة النصرانية على مجرى التاريخ فكان النزاع والجدل وكان التحيز لرأى والتعصب له وانقسم رجال المسيحية إلى فريقين يختصمان وأراد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن يتلافى انشقاق الأمة بسبب إثارة هذه المشكلة فكان ينهى دائماً عن إثارتها وعن الجدال فيها روی عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون في القدر فخرج مغضباً حتى وقف عليهم فقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضاً ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به
وعن أبي هريرة قال خرج رسول الله له ونحن نتنازع في القدر
فغضب حتى احمر وجهه ثم قال
القسم الأول
في الفلسفة
أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا
في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تتنازعوا
واتخذ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه موقفاً حاسماً جازماً بالنسبة لمنع الخلاف في هذه المسألة أو حتى مجرد إثارتها
ومضى رسول الله ل راضياً مرضيا وهو لا يسمح حتى النفس الأخير من حياته الشريفة بأن تثار هذه المسألة ولم تثر هذه المسألة فى عهد سيدنا أبي بكر لانشغال المسلمين بتوطيد دعائم الأمة الإسلامية منصرفين بذلك عن العبث في
دین
الله
وكانت درة سيدنا عمر كفيلة برد كل من تحدثه نفسه بإثارة هذه المشكلة إلى
جادة الصواب ومسألة القدر إذن من المتشابه إنها من أهم مسائل المتشابه عن ذلك عصية على الحل إنها ليست قابلة للحل وهى
فضلاً وهی ليست قابلة للحل سواء أثيرت فى الشرق أو فى الغرب وسواء أثيرت في القديم أو في الحديث أو أثيرت فى البادية أو فى الحضر إنها مفرقة بين الباحثين فيها ومهما طال الجدل بينهم فسوف لا ينتهون إلى نتيجة ومن أجل ذلك كانت الروح الإسلامية العامة تحرم الخوض فيها ومع ذلك فقد بدأت هذه المشكلة تتسلل شيئاً فشيئاً إلى المجتمع الإسلامي
حتى لقد احتلت يوماً ما مركز الصدارة فى الفكر الإسلامي النظرى ولقد مهدت السياسة أولاً لهذا التسلل وكانت السياسة أول عامل من عوامل إفساد التفكير النظرى الدينى فى المجتمع الإسلامي السليم ! كتب معاوية بن أبي سفيان - بعد أن تولى الملك - إلى المغيرة بن شعبة
۱۳
يطلب منه أن يكتب إليه بالحديث الذى كان يقوله صلوات الله وسلامه عليه أحياناً وهو على المنبر فكتب إليه المغيرة أن رسول الله كان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم
لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا راد لما قضيت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وأخذ معاوية يذيع هذا الحديث الشريف من فوق المنابر مؤمناً بأنه من عوامل توطيد مركزه في الأمة هذا الاستعمال السياسي للأقوال الشريفة أثار بعض الضمائر التي لم تطمئن إلى هذه الصورة التي اعتبروها استخداماً للدين والتي لم يروا فيها مظهراً للخضوع والانقياد له فهبوا يعارضون فكرة الجبر التي أخذ معاوية يبشر بها مستنداً إلى هذا الحديث الشريف ولسنا الآن بصدد التأريخ الكامل لهذه المشكلة ولقد بينا على الأقل
أمرين
أحدهما هو أن هذه المشكلة من المتشابه لأن الرسول لا نهى عن
الخوض فيها
ثانيهما أن السياسة هى التى بدأت بإدخال هذه المشكلة في البيئة
الإسلامية
أما النتيجة التي نريد أن نصل إليها من وراء كل ذلك فهي أن البحث في هذه المسألة يجب أن ينتزع كلية من محيط الفكر الإسلامي وأن تنتزع المسألة مما يسمونه علم الكلام فإذا ما فعلنا ذلك فإننا نكون قد أزلنا سبباً هاماً
من الأسباب التي تفرق المسلمين بسبب الاختلاف في العقيدة ونكون بذلك
قد ساهمنا بقسط وافر فى سبيل التوحيد وبالله التوفيق
ا يقول الله تعالى
مشكلة الصفات
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
ويقول سبحانه ليس كمثله شيء
ويقول ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ هـ - مستنتجاً ومرشداً ه إن الله ليس كمثله شيء فكيف يدرك بقياس أو بإنعام نظر أما حكماء المصريين القدماء فإنهم يقولون في حكمة حكيمة محال على من يفنى أن يكشف النقاب الذي تنقب به من لا يفنى
ومن يفنى هو الإنسان ومن لا يفنى هو الله الباقي
وسواء نظرنا إلى التراث الدينى الصحيح من قرآن أو سنة أو نظرنا إلى أصحاب الآراء السليمة التي فهمت الأوضاع الدينية فهماً يتلاءم مع الروح الصحيح للتدين فإننا نجد أن الاتجاه العام في ذلك كله يبتعد بالإنسان ابتعاداً أن يقول في الله سبحانه ذاتاً وصفات – برأيه عن
تاما
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا فى ذاته فتهلكوا إن هذا الأثر يرسم النهج السليم ويعبر عما يجب أن يكون عليه الإنسان إذا
١٢٥
أراد النجاة وابتغى السلامة وما من شك في أن البحث فى الذات والصفات الإلهية من ناحية الصلة بينهما توحيداً أو تغايراً والبحث في الصفات الموهمة للتشبيه نفياً أو تأويلاً إنما هو تهجم من الإنسان على مقام لا يرقى إليه وهم متوهم ولا خيال متخيل وإنه لحق أن كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك وقد كان من الطبيعى أن يقدر الباحثون أنفسهم باعتبارهم من البشر حق
قدرها وأن يقدروا الله حق قدره
ولو سار الأمر على هذا النسق لما تطاول البشر إلى مقام الله ولما تجاوزوا حدودهم وبالتالى لما كان هناك اختلاف وتنازع وافتراق في موضوع الصفات
الإلهية
ولكن بعض الباحثين لم يلتزموا حدودهم كأفراد من البشر وغرهم
التي
عقلهم وخدعهم شيطانهم فحاولوا بعقولهم أن يفتروا على الله ما لم ينزل به سلطاناً فكانت المشكلة الثانية في علم الكلام - مشكلة الصفات – أثارت الجدل والخصومة والتفرقة بين المسلمين وجعلتهم فرقاً تتنابز وتتخاصم ويرمى بعضها بعضاً بالانحراف والضلال ب ونشأت المشكلة حينما بدأ الباحثون يتعرضون للآيات التي وردت في القرآن الكريم والتي توهم التشبيه كاليد والوجه والاستواء أو التي وردت في الأحاديث كالنزول والصورة والأصابع بدأت المشكلة حينما تعرض بعض الباحثين لهذه الألفاظ وأمثالها تأويلاً لها أو نفياً لمعناها أو تفسيراً وشرحاً ومنذ أن بدأ الحديث فيها بدأ الجدل حولها والنزاع واستمر خلال العصور
١٢٦
عصراً تلو عصر ولا يزال الآن يثار الجدل بين أنصار الإمام وأنصار الإمام ابن تيمية
الأشعرى
وكان النزاع حول موضوع الصفات وصلتها بالذات على وجه العموم يسير في هدوء أحياناً وفى عنف أحياناً أخرى
وقد تولد عنه كثير من المشاكل الدامية كمشكلة خلق القرآن والمشاكل المبلبلة للأفكار والخواطر كمشكلة الصلاح والأصلح وجدت هذه المشاكل وكثرت وتعددت كدليل واضح على عجز العقل البشرى تجاه العظمة اللانهائية الإلهية
ومع الإخفاق المتتابع فى البحث في هذا الموضوع منذ الآماد المتطاولة فإن البشرية لم ترعو ولم تتعظ ولا تزال مستمرة في البحث تتخبط فيه وتتنازع وتتجادل وتختصم ح والحكمة كل الحكمة إذن إنما هي موقف سلفنا الصالح رضوان
الله
عليهم
فقد هدتهم نزعتهم الدينية السليمة إلى الموقف السليم فـ قدروا الله حق قدره وقدروا أنفسهم حق قدرها فسلموا من البلبلة والاضطراب وسلموا من التنازع والاختلاف وكانوا فرقة واحدة لقد اتخذوا مبدأ أساسياً وقاعدة لا مراء فيها ولا شك هي قوله تعالى ليس كمثله شيء
وهذه الآية تنسف كل تشبيه نسفاً مطلقاً فاحترز سلفنا الصالح عن
التشبيه حتى لقد قالوا من حرك يده عند قراءة قوله تعالى خلقت بيدى أو أشار بأصبعه عند رواية الحديث الشريف
قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن
۱۷
وجب قطع يده وقطع أضبعه
احترز السلف عن التشبيه ولكنهم احترزوا عن التعطيل أيضاً فهم يثبتون الله - اتباعاً للقرآن - الإرادة والعلم والصفات الكريمة التي ورد بها القرآن الكريم والموقف الذي يقفه من أراد متابعة السلف الصالح إذن تجاه كلمات الصورة واليد والنزول إنما هو الإيمان بها مع التنزيه لله تعالى عن الجسمية وتوابعها وليس معنى ذلك أن هذه الألفاظ معطلة عن المعنى بل لها معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في جسم وأن يؤمن بأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله ع فهو
كما وصفه وهو حق بالمعنى الذى أراده وعلى الوجه الذي قاله وألا يحاول لها تفسيراً ولا تأويلاً
وشعار السلف معروف فى أمثال هذه الكلمات إنه أمروها كما جاءت
وكانوا يذكرون فى هذه الظروف الآية القرآنية الكريمة هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله كم
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو
الألباب
ولا مناص لمن يريد أن يحترز عن الزيغ من أن يمتنع عن التأويل
۱۸
والتفسير وأن يمر هذه الكلمات كما جاءت
ويلخص الإمام الرازى فى كتابه أساس التقديس المذهب السلفي في
كلمات موجزة دقيقة كل الدقة فيقول
إن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى فيها شيء غير ظواهرها ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في
تفسيرها
@
6
هذا هو مذهب السلف في الصفات وهو مذهب لا يثير جدلاً
ولا خصومة وليس من طبيعته ذلك إنه مذهب العبودية الصحيحة وهو المذهب الذي يتمذهب به كل من عنده نزعة التدين السليمة وهو مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والسلف الصالح رضى الله عنهم
جميع
أنحاء
ومن الطبيعى أن يكون مذهب الفرقة الناجية ويجب على كل المسلمين الفاقهين لدينهم أن ينشروه في المملكة الإسلامية فهو أمانة في عنقهم وهو رسالة يجب عليهم نشرها منعاً للحيرة والاضطراب عند الأفراد ومنعاً للاختلاف والتنازع بين الجماعات ونشراً للإسلام وتوحيداً للكلمة بين الأفراد والجماعات الإسلامية ويجب أن ينتزع بحث الصفات كلية من محيط الفكر الإسلامي وأن تنتزع المسألة ا يسمونه علم الكلام فإذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد أزلنا سبباً آخر هاما من الأسباب التي تفرق المسلمين بسبب الاختلاف في العقيدة ونكون بذلك قد ساهمنا بقسط وافر فى سبيل التوحيد
مما
۱۹
وجود الله
مشكلة القدر من المباحث التي يجب ألا يبحث فيها المسلمون ومشكلة الصفات من المباحث التى يجب ألا يبحث فيها المسلمون ويجب أن تنتزع هاتان المشكلتان من مباحث علم الكلام يجب أن تنتزعا بكل مالهما من فروع ومن شعب أما المسألة الثالثة التي يجب أن تنتزع أيضاً فهى البحث في وجود
سبحانه وتعالى
والواقع
الله
6
أنه حين بدأ الرسول ع الجهر بدعوته بعد نحو ثلاث
سنوات من الإسرار بها فإنه صلوات الله وسلامه عليه لم يبدأ بإثبات وجود الله وإنما بدأ بالبرهنة على صدقة هو وتحدى العرب بصدقه ومن قبل ذلك حين فاجأه الملك فى الغار ونزل الوحى لم يبدأ الملك أو لم يبدأ الوحى بإثبات وجود الله وإنما بدأ الأمر بأن يقرأ الرسول صلوات الله وسلامه
عليه باسم ربه
اقرأ باسم ربك الذي خلقك
ومضى القرن الأول كله ولم يحاول إنسان قط أن يتحدث حديثاً عابراً أو مستفيضاً عن إثبات وجود الله تعالى ومضى أكثر القرن الثاني والمسألة فيما يتعلق بوجود الله -- لا توضع موضع البحث ذلك أن وجود الله إنما هو أمر بدهى لا ينبغى أن يتحدث فيه المؤمنون نفياً
۱۳۰
أو إثباتاً ولا سلباً أو إيجاباً إن وجود الله من القضايا المسلمة التي لا توضع
في الأوساط الدينية موضع البحث لأنها فطرية
وإن كل شخص يحاول وضعها موضع البحث إنما هو شخص في إيمانه دخل وفي دينه انحراف فما خفى الله قط حتى يحتاج إلى أن يثبته البشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ومن المعروف أن الدين الإسلامي لم يجئ لإثبات وجود الله وإنما جاء لتوحيد الله وإذا تصفحت القرآن أو التوراة حتى على وضعها الحالى أو الإنجيل حتى فى وضعه الراهن فإنك لا تجد أن مسألة وجود الله قد اتخذت في أي سفر منها مكانة تجعلها هدفاً الأهداف الدينية أو احتلت
من
مكاناً يشعر بأنها من مقاصد الرسالة السماوية
والقرآن الكريم يتحدث عن بداهة وجود الله حتى عند ذوى العقائد
المنحرفة يقول سبحانه
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض - ليقولن الله
إنهم يقولون إن الخالق هو الله مع أنهم مشركون أو منحرفون بوجه من الوجوه فى إيمانهم بالله تعالى وما نزلت الأديان قط لإثبات وجود الله
وإنما نزلت لتصحيح الاعتقاد في الله أو لتصحيح طريق التوحيد
أما الآيات الكثيرة التى يظن بعض الناس أنها نزلت لإثبات الوجود فليست من ذلك فى قليل ولا فى كثير إنها تبين عظمة الله وجلاله وكبرياءه وهيمنته الكاملة على العالم ما عظم من أمره ودق منه لا تفوت هيمنته صغيرة ولا كبيرة ولا يخرج عن سلطانه ما دق وما جل وقد أتت على هذا الوضع لتقود الإنسان إلى إسلام وجهه الله إسلاماً كاملاً
۱۳۱
الفصل الأول
القرآن هاد للعقل
يحلو لكثير من الناس أن يتحدث عن موقف القرآن من العقل ويذكر في
بحثه أو محاضرته
إن القرآن هو كتاب العقل وأنه بأكمله دعوة صارخة لتحرير العقل من عقاله وأنه يدعونا بعبارات تختلف أسلوبها وتتحد في معناها إلى استعمال العقل ووزن كل شيء بميزانه وأنه يترك لنا الحرية في أن نعتقد ما يرشد إليه عقلنا وأن نتبع السبيل الذى ينيره منطقنا أو يهدينا إليه تفكيرنا
وهم
6
في هذا يؤمنون في إخلاص أنهم يخدمون الدين بموقفهم ويؤيدون القرآن بإيمانهم ويعتبرون ذلك نسقاً فريداً في المذاهب ونمطاً من
سعة الأفق لا تصل إلى سموه العقائد السابقة أو المعاصرة
وهم لا يلقون القول دون أن يستندوا في آرائهم على الآيات القرآنية نفسها وعلى موقف المسلمين أنفسهم فى تاريخهم الطويل من الفكر الإنسانى ومن المفكرين الذين اتبعوا منطقهم وتفكيرهم
الخاص
ومن الآيات التي يستدلون بها والتى يتقدمون بها كشاهد الآيات
الكريمة التالية
ويجب على المؤمن ألا يقيم وزناً - أى وزن – لأى نتاج فكرى في عالم
ما وراء الطبيعة سواء خالف معتقده أو وافقه إنه في معتقده يدين الله وحده وكفى بالله مصدراً وكفى بالله هادياً وكفى بالله مرشداً ومن يعتصم بالله فقد
هدى إلى صراط مستقيم ومن يعتصم بالله فهو حسبه إن كل ما عدا الهدى الإلهي في عالم الدين إنما هو وثنية وضلال
كانت الفلسفة اليونانية فلسفة وثنية بشرية وقد أرادت أن تجد لجاماً يعصمها من الخطأ فاخترعت فنا وثنياً آخر هو فن المنطق فما أجدى ولا أغنى
ولا تقدم بالفكر الوثنى فى عالم الصواب شروى نقير
وبقيت هذه الفلسفة الوثنية - عبر القرون - على ما هي عليه فيها كل
سمات الوثنية من ضلال وخرافات ولقد كانت الأمة اليونانية معذورة بعض العذر فما كان في ربوعها دين منزل من السماء تلجأ إليه مهتدية مسترشدة وما كان مثلها في ذلك إلا كمثل العصر الجاهلي في الجزيرة العربية فلجأت إلى العقل والهته وأخذت تثبت به وتنكر فضلت وأضلت وجاءت الديانة النصرانية مصححة للوضع فعزلت فكرة الألوهية من تدنيس الوثنية وسمت بالله جل جلاله عن أن تضع وجوده موضع البحث ثم تسللت إليها - كمكروب خبيث - وثنية اليونان فجعلت من وجود الله - مجرد وجود الله - باباً ضخماً من أبواب البحث أو من أبواب اللاهوت الكنسي ونزلت بذلك الفكرة الدينية المقدسة عن الله إلى مستوى الجو الوثنى البشرى !
وجاء الإسلام تطهيراً كاملاً للعقيدة وتزكية تامة للإيمان وأعلن بمجرد
۱۳۳
التسمية الإسلام الحرب على التدخل البشرى في دين الله ورسالته فما الإسلام إلا الاستسلام المطلق لله سبحانه وتعالى إنه الاسترسال مع الله على ما يرضيه وهل للإنسان غير هذا بالنسبة الله وهل للمؤمن أن يتصرف تصرفاً آخر وهل إذا تصرف تصرفاً آخر سمى مؤمناً إن الاسترسال مع الله على
ما يحب هو الإسلام وهو الدين لا دين غيره يقول الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام الله
ويقول سبحانه
منه كم
ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه
وإن كل من لا يستسلم الله فى وحيه استسلاما مطلقاً فإنه يبتغى – في قليل
أو في كثير حسب انحرافه – غير الإسلام دينا
ولقد كان الإسلام توجيهاً وكان مبادئ
ومن توجيه الإسلام أن وجود الله لا ينبغي أن يوضع موضع البحث وكل من وضعه موضع البحث فإنه بذلك يعدل عن توجيه الله تعالى إلى توجيه بشرى إنه يبتغى غير الإسلام موجهاً
وابتغى المسلمون الأول الإسلام توجيهاً كما ابتغوه مبادئ وسار الأمر على ذلك إلى أن تسللت الفلسفة اليونانية - كمكروب خبيث - إلى الجو الإسلامي تسللت في عهد المأمون وتولى كبر هذا التسلل المأمون وشجعه على ذلك معتزلة عصره وقابل المؤمنون ذلك بكثير من النفور وحق لهم ذلك فما كان منطق الدين ولا منطق الفطرة السليمة يقضى بأن تكون راية العصمة راية الدين الإلهى مرفوعة ترفرف على ربوع الأمة الإسلامية في محيط العقيدة فنميل بهذه الراية قليلاً أو كثيراً لنرفع بجوارها راية أرسطو أو راية أبيقور
١٣٤
ورفع المأمون راية الانحراف والوثنية بجوار راية الهداية المعصومة وعارض المؤمنون واحتجوا وبينوا أن الوثنية - ولو وافقت الدين – فهى وثنية ولكن النهج الوثنى أخذ يقوى شيئاً فشيئاً ثم طلب التصريح بالإقامة واستوطن ومعاذ الله أن تكون عقائد الإسلام الكبرى – الإيمان بالله وبالرسالة وبالبعث – قد تلوثت بالوثنية كلا وإنما الذي تلوث بالوثنية – وإلى حد
كبير - إنما هو النهج والنزعة والاتجاه فى البحث ومنهج البحث وليس ذلك بالأمر الهين أو الذي لا يؤبه له كلا فذلك له خطورته في جانب قوة الإيمان
وضعفه
وفرق بين أن تأخذ قضايا الوحى مأخذ المستسلم المسترسل معها على ما تريد وأن تأخذها محكماً فيها عقلك مؤولاً لها أو عادلاً بها إلى اتجاه خاص أو شارحاً لها على نزعة معينة وبتعبير آخر فرق بين أن تصدر عن الوحى متفهماً له بعقلك وبين أن تصدر عن عقلك متفهماً للوحى ولعل بعض الناس لا يرى فرقاً في التعبيرين ولكن الفرق كبير إذا نظرنا إلى الوضع الإنسانى فهو إما أن ينطلق عن الوحى قائداً العقل إلى الخضوع له وإما أن ينطلق عن العقل محاولاً تأويل الوحي بما
يوافق النتائج التي وصل إليها العقل والأول طريق المؤمنين والمسلمين والثانى طريق الفلاسفة أو نهج الوثنيين والنهج الوثني - نهج إثبات وجود الله عقليا – هو الذي أتاح الانحراف الكامل أي إنكار وجود الله فما دام النهج الوثني قد أعطى حق الوجود فإن الوثنية – كمنهج - تأتى بالوثنية كنتائج
مسألة
الله
إن وضع وجود موضع البحث هو الذي هيا لذوى الفطر
۱۳۵
المنحرفة أن يلحدوا في دين الله وأن يكفروا به سبحانه هذه نتيجة أما النتيجة الثانية فإنها ضعف الإيمان إذا كنت تضع الوجود الإلهى - مجرد الوجود – موضع بحث فمعنى ذلك أنك وضعته موضع شك وريبة ولو لم يكن كذلك لما وضع موضع البحث وإذا كان الوجود الإلهى - مجرد الوجود – موضع شك وريبة فما بقى من أمور الدين لا يوضع موضع شك وريبة إن الإيمان في هذه الأوضاع الوثنية لا يتأتى له إلا أن يخبو شيئاً فشيئاً حتى يصبح كلا إيمان وهذا هو ما حدث فى الأمة الإسلامية لقد وصل إيمانها إلى درجة يشبه أن يكون معدوماً وما ذلك إلا لتغلغل النهج الوثني في بحث قضايا الدين ومبادئه لقد أصبحت قضايا الدين كل قضاياه موضع بحث وهل يتأتى أن تبقى قضية من قضايا الدين في مجال اليقين بعد أن وضع وجود الله - وجوده سبحانه – موضع البحث نستغفرك اللهم ونتوب إليك ونعود فنقول إن الدين فى نفسه محفوظ بحفظ الله لكتابه العزيز إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
مجرد
ولكن الذي نشكو منه إنما هو النهج أو المنهج أو النزعة أو الاتجاه في البحث إن الذى نشكو منه إنما هو
منهج البحث الوثنى واذا شئت قلت إنما هو منهج البحث اليونانى سئل أحد العارفين عن الدليل على الله
فقال الله
فقيل له فما العقل فقال العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله أما الإمام الكبير العارف بالله ابن عطاء الله السكندري الذي جمع
بين
١٣٦
رئاسة الشريعة ورئاسة الحقيقة فإنه يقول
إلهى كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هى التى توصل إليك
يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء
يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء
كيف يتصور أن
كيف يتصور
أن
كيف يتصور
أن
يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء
كيف يتصور
أن
يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء
أن
كيف يتصور يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء
كيف يتصور
أن
يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود شيء
شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأصله فأثبت الأمر من وجود أصله والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه وإلا
فمتى غاب حتى يستدل عليه ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل
إليه
في
الأحزاب الدينية
الإسلام الأول كان كل شيء مصطبغاً بالصبغة الدينية وينبثق عصر
عن جو مصطبغ بالصبغة العامة للدولة صبغة الدين
۱۳۷
ولا غرابة فى هذا فإن الإسلام ليس عقيدة قلبية فحس
يتضمن جميع قوانين المجتمع
6
ولكنه نظام
إنه عقيدة وعبادة وأخلاق كما أنه تشريع ونظام للمجتمع ومبادئ عن الاتجاه العام للدولة بحيث تكون في إطار الوحى أمة تسلم نفسها لله سبحانه محكمة كتابه وسنة نبيه
من أجل ذلك قلنا الأحزاب الدينية ولم نقل الأحزاب السياسية وما كان لكلمة السياسة وجود بمعناه الحالي في ذلك العصر هذه الأحزاب نشأت نشأة ميسرة تشبه أن تكون طبيعية
لقد نشأ عقب انتقال رسول الله الله إلى الرفيق الأعلى سؤال عادى ينشأ
في كل مجتمع من الذى تولى الأمر بعد الرسول
إن الإسلام لا يعترف بطبقية أساسها النسب فقط والشرف في الإسلام والفضيلة إنما يتبعان التقوى
وفى الإسلام مبادئ - أشرف ما تكون المبادئ – بالنسبة لذلك إن
عند الله أتقاكم ۹
أكرمكم ه إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
رواه مسلم وابن ماجه عن أبى هريرة
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
10
رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره رواه أحمد ومسلم والحاكم
وغيرهم
۱۳۸
۹ الحجرات ۱۳
۱۰ المؤمنون ١٠١
وإن الجو الإسلامي كله يوحى
بأن فضل الشخص لا يرجع إلى مال ولا إلى جاه ولا إلى منصب ولا إلى نسب وإنما إلى صلته بالله ومن أجل ذلك لم تتجه الجمهرة العظمى من المسلمين إلى أسرة بذاتها لتولى
الحكم
إن الحكم في الإسلام خلافة
والخلافة اتباع الرسول الله الله
إنها خلافة له ومن أجل ذلك كان الخليفة يتحرى ما كان يفعله الله
ويسير على نسقه
والأمر شورى
وشاورهم في الأمر
وأمرهم شورى بينهم كم
۱۱
۱
وقد غرس رسول الله المبادئ الشورى بسلوكه في غزوة بدر حينما
استشار المسلمين في حرب المشركين وكانت نتيجة الشورى ترجيح فكرة
الحرب وأشير على رسول الله لعل الله في موضع نزوله في هذه الغزوة وأخذ بالمشورة واستشار المسلمين في موضوع الأسرى واستشار المسلمين في غزوة الأحزاب وانتهت المشورة بحفر الخندق
واستشار المسلمين في أمور أخرى كثيرة
ولما انتقل الرسول الله إلى الرفيق الأعلى اجتمع الصحابة في سقيفة
۱۱ آل عمران ١٥٩
۱ الشورى ۳۸
۱۳۹
بني ساعدة وتشاوروا في الشخصية المثلى لتولى الخلافة وانتهى بهم الرأى إلى
أبي بكر رضي الله عنه
ولقد كان أبو بكر رضوان الله عليه
6
جديراً بها
ولقد قام رضوان الله عليه بها خير قيام
ورأى أبو بكر رضى الله عنه أنه خليفة رسول الله ع وقد اختارته الأمة لمصلحتها الدينية والدنيوية وهذا معناه التفويض فى اختيار من يخلفه وتلك وجهة نظر لا غبار عليها
إن المسلمين اختاروه خليفة أى ألقوا إليه قيادتهم واثقين به في أمور
مصالحهم فاختار لهم - وقد أسلموا إليه الأمر - من يخلفه
وتحرى هو الأمر واستشار واستخار ولم يأل جهداً في النصيحة واختار
في نهاية حياته وهو مقبل على ربه اختار عمر رضى الله عنهما ولكن البعض من الصحابة لم يأخذوا بوجهة النظر هذه وأخذ منطقهم وضعاً آخر إن الأقرب إلى رسول الله الله أولى بحمل الرسالة إذا كان يصلح لها فإذا لم يكن في الأقربين من يصلح فيكون الخليفة في من يليهم وهكذا إنها القربى والصلاحية ولا يخرج الأمر عن ذلك إلا إذا انعدمت الصلاحية الحقة تماماً
وكان هذا الفريق يتخذ من سيدنا على كرم الله وجهه مثلاً كريماً لتولى
الخلافة
ولقد كان سيدنا على مثلاً كريماً للخلافة ومن الذي يعارض في ذلك
١٤٠
لقد كان مثلاً أعلى في الصلاح والتقوى وفى الشهامة والبطولة وفى
العلم
ولكن الأمور سارت على غير ما يحب هؤلاء إنها سارت على غير ما يأملون حينما اختير سيدنا عمر وسارت على غير ما يحبون حينما اختير سيدنا عثمان
وكان هذا الفريق يقوى على مر الزمن ويكثر عدده خصوصا في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه
وعثمان رضي الله عنه هو ذو النورين وهو الذي قال عنه رسول
الله ما
المال هو من
اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه راض رواه ابن هشام وقال عنه له عندما وضع في حجر رسول الله الله مبلغاً من الكثرة بحيث أفاد المسلمون منه فائدة كبرى في حربهم قال عنه
ما على عثمان ما فعل بعد اليوم رواه أحمد والترمذي ثم هو من العشرة المبشرين بالجنة وانتهت حياة عثمان بهذه المأساة التي لا نحب الخوض فيها مراعاة لحرمة
هو
الصحابة ولكن الذي نستطيع أن نؤكده أن سيدنا
عليا
براء من دم
عثمان وكذلك كبار صحابة رسول الله الله وتولى سيدنا على الخلافة تولاها عن طريق الشورى وكانت خلافته
صحيحة
ولكن حدث ما حدث
من
المأساة الكبرى والحرب التي سقط فيها تسعون
ألفا
من فرسان الصدر الأول للإسلام
١٤١
وتولى معاوية الحكم وتغيرت صورة الحكم فيعد أن كان خلافة أ خلافة أصبح
ملكاً عضوداً
وبعد
أن كان ترسماً دقيقاً لخطوات رسول الله لا أصبحت شخصية
الحاكم لها دخلها في الأمر
ومنذ أن حدثت هذه الأحداث وجد في الأمة أحزاب
حزب العلويين أو الشيعة
حزب الخوارج
وحزب الأمويين
وحزب المرجئة
وأصبح النزاع نزاعاً يدور حول أشخاص ومن أجل أشخاص وأصبح في الأمة أحزاب تدين بالولاء لأشخاص
والإسلام لا يعترف بأشخاص إنما يعترف بمبادئ وأخلاق وصفات
عليا وشعاره
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الإسلام يعترف بأنبياء ورسل ذوى عصمة أما غيرهم من البشر فلا عصمة لهم في نظر الإسلام
إن الإسلام يهتم بالمبادئ والمثل العليا والقيم الكريمة ومكارم الأخلاق أما الأشخاص فلا يتأتى أن تكون سبباً في التفرقة بين الأمة ويجب على المسلمين جميعاً أن يعلموا حق العلم أن الإسلام ليس من عقائده
ما يتصل بالشخصيات اللهم إلا الرسول الله فإذا أخرجنا الشخصيات من محيطنا الاجتماعي فإن كل الأحزاب التي تقوم
١٤٢
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ١ كم
ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل
أولئك هم الغافلون أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وماخلق الله من شيء وأن أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون ۳
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس بهم
ناراً أحاط
٤
الشراب وساءت مرتفقا حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجرون لاتجثروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آيات تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستکبرین به سامراً تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون كم ٥
۱ البقرة ۱۷۰
الأعراف ۱۷۹ ۳ الأعراف ١٨٥
٤ الكهف ٢٩
٥ المؤمنون ٦٤ - ٧١
على الشخصيات إيماناً بها أو معارضة لها تسقط من نفسها وما من شك فى أن البطولات تفرض التقدير على المجتمع وهذا أمر جرى
عليه العرف وتناسقت العواطف مع العرف وشعور الإنسان المتزن يسير مع العرف ومع العواطف
إن الإنسانية تحترم البطولات التي تقدم لها أعمال الخير سواء أكانت بطولات علمية أم بطولات أخلاقية تهدى إلى الرشد وتدعو إلى سبيل الله ولكل إنسان مطلق الحرية فى أن يقدر فلانا أو أن يفضله على فلان أما أن تدخل الأشخاص - غير الأنبياء والرسل - فى العقائد فإن ذلك الأمر بعيد عن
الجو الإسلامي الذي من شعاراته قوله تعالى
ظر إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأول قواعد التقريب أن نسقط من عقائدنا ما يتصل بالأشخاص ولنا أن
نحترم منهم من ولكن ذلك وحده غير كاف فى السير بالفرق إلى الوحدة وإذا كان ذلك يلغى الأحزاب الدينية فإنه لا يقضى على الفرق الدينية
نشاء وأن نصرف النظر عمن نشاء
الفرق الدينية
إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز عن القرآن الكريم هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء
١٤٣
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
وما يذكر إلا أولو الألباب
۱۳
أما الآيات المحكمة فإنها سهلة ميسر فهمها
وأما الآيات المتشابهات فإنها الآيات التي تتصل بالغيب
ولقد
مدح الله سبحانه في أوائل كتابه المؤمنين بالغيب فقال الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم
المفلحون
12
وأولئك هم
وإذا سألت عن المتشابهات فإنها - إذن - الذات الإلهية من حيث هي غيب وأسرار الذات الإلهية من حيث هى قضاء وقدر وصفات الله من حيث صلتها بالذات العلية ومها اختلف علماء الكلام وعلماء التفسير فى المتشابه ما هو فإنه لا يتأتى الاختلاف في أن ما نهى رسول الله لا الله عن البحث فيه هو من
المتشابه
ولقد نهى رسول الله الا الله كثيراً عن البحث في القضاء والقدر وصلة
ذلك باختيار الإنسان أو
عدم
اختیاره
إن البحث في مسألة الجبر والاختيار والقضاء والقدر يثير كثيراً من
العقول
۱۳ آل عمران ۷
١٤ البقرة ١ - ٥
١٤٤
أهي مقادير تجرى فى أعنتها والإنسان فى محيطها كالريشة في مهب
الرياح أم أن الإنسان له إرادته وحريته واختياره
إنه البحث الخالد الذى أثار وما زال يثير جدلاً حادا بين المتكلمين وبين الفلاسفة وهو بحث يقسم الباحثين - منذ اللحظات الأولى – إلى فريقين
الفريق الذي يقول بالجبر
والفريق الذي يقول بالاختيار
ولقد فرق هذا البحث بين علماء اليهود منذ أن نشأت اليهودية وما زال
إلى الآن يفرق بينهم في الرأي وفرق بين الفلاسفة منذ نشأة الفلسفة في اليونان القديمة
وفرق بين النصارى وما زال يفرق بينهم في الرأي وتكلم المسلمون الأوائل منذ العهد المدنى وكان الرسول ينهاهم نهياً
حاسماً عن البحث في هذا الموضوع وكان من أوامره الله
هذا الموضوع
إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبراني وابن حدس وكان رسول الله لا ينذر ويهدد ويوعد كل من يثير وله أحاديث كثيرة في ذلك ولكن كثيراً من الناس لا يستجيبون لنداء الهداية وتغلبهم نزعاتهم أو
نزغاتهم على أنفسهم فيسيرون فى طرق من البحث نهوا عن السير فيها ولم يأخذ هؤلاء عظة وعبرة من نتائج هذا البحث عند اليهود وعند النصارى تلك النتائج التى كانت التفرقة المستمرة على مر القرون وعدم الوصول إلى حل للمشكلة
١٤٥
وسار بعض المسلمين في الطريق الذي سار فيه من قبلهم وافترقوا كما افترق من قبلهم ونشأ
بسبب ذلك فرق تنازعت وتشاحنت
مسألة الجبر والاختيار مسألة عصية على الحل أبية على الاتفاق
وهي
كذلك
وهي كذلك قديماً كذلك غرباً إنها كذلك شرقا وهى حديثاً ولا مفر للعاقل من أن يقول في ذلك مع الراسخين في العلم آمنا به كل من عند ربنا
وتأمل معى سؤالين سألها عالمان من كبار العلماء كل لصاحبه أتقول إن الله يحب أن يعضى مذهب الجبر أتقول إن الله يعصى رغماً عنه مذهب الاختيار
والله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعصى وهو سبحانه لا يـ
ماذا إذن
يعصى بالرغم عنه
ويجب - إذن - أن نسقط البحث في الجبر والاختيار فذلك
من أسرار
آمنا به كل من عند ربنا
الله سبحانه فإذا سقط البحث فى الجبر والاختيار سقط جانب كبير من عوامل
التفرقة بين المسلمين
البحث في الذات والصفات
إن كنه ذات ما - أيا كانت هذه الذات - لم يصل بعد البحث إلى بيانه
ورسول الله لا يقول
تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا رواه أبو الشيخ ورواه
١٤٦
ولكن المتكلمين والفلاسفة تعدوا حدودهم فبحثوا في صلة الذات بهذه
الصفات فاختلفوا
وهذه الصفات من يد ومن وجه ماذا تعنى أتعنى يداً ووجهاً أم قدرة وذاتاً أنأخذها على ظاهرها أم نؤولها
وبحث المتكلمون والفلاسفة في ذلك واختلفوا وجروا وراءهم في الاختلاف الكثيرين وتعدوا حدودهم
ولم يكن ذلك مطلوباً فى العقيدة ولن يتأتى أن يقول قائل إن تحديد معنى الرحمن على العرش استوى في الاستطاعة الإنسانية أو هو مطلوب في العقيدة
وما من شك في أن أسلافنا قد وقفوا من ذلك موقف المستبصر المستنير
إنهم كانوا يقولون في كل ذلك
آمنا بذلك على مراد ربنا
أو يقولون
آمنا به كل من عند ربنا
وكل ذلك من المتشابه بل فى مركز الدائرة من المتشابه
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وما يعلم تأويله إلا الله كله ا وإذا رأيت الباحث المجادل الذى يجرى وراء تحديد الغيب فاعلم أنه من الذين في قلوبهم زيغ وإذا سقط البحث في ذلك وقلنا آمنا به على مراد ربنا سلمنا وسلمت عقائدنا واسترحنا وأرحنا الأمة من اتباع ما تشابه منه
١٤٨
وتأمل
معی
قول رسول الله
إن المقسطين عند الله يوم القيامة عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين
14
يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ۱۹
وتأمل
ر وهو معكم أين ما كنتم ده ۰
وتأمل
ل ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم
القيامة إن الله بكل شيء عليم ۱
وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم
ما تكسبون
وهو سبحانه ليس كمثله شيء
إننا إذا أسقطنا البحث في المتشابه انهار صرح الاختلاف الذي يعمل كل أعداء الإسلام على أن يستمر وأن يتسع وإذا ما سرنا دائماً فى هذا التيار فإن أعين أعداء الإسلام تقر ويفرحون لتحقيق أمانيهم في إثارة النزاع والتفرقة بين المسلمين ولكن الله غالب على أمره وسنعتصم به سبحانه
۱۹ رواه
أحمد
ومسلم والنسائى
٢٠ الحديد ٤
۱ المجادلة ۷
الأنعام ۳
١٤٩
ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم
سنعتصم به فلا نجعل الأشخاص يفرقون بيننا وسنعتصم به فلا نبحث في
المتشابه وبذلك نرضى الله سبحانه ورسوله عل
وكلتا يديه
يمين
يقول رسول الله له فيما رواه أحمد ومسلم والنسائى عن عبد الله
ابن عمرو - رضى الله عنهما إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وكيف نتصور وكلتا يديه يمين
إن الأوضاع العادية ترينا دائماً أن إحدى اليدين يمين والأخرى يسار ونحن بعقلنا المحدود نتصور دائماً الأمر كذلك ولكن الحديث الشريف ينبثق
عن
قاعدة عامة تتمثل في قوله تعالى
ليس كمثله شيء
وتتمثل في قوله تعالى
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
والواقع أن الذات الإلهية أعز وأمنع من أن يصل إلى وصفها العقل البشرى
بمقاييسه و موازينه إن الذات الإلهية غيب والغيب يؤمن به الإنسان دون تصور له
إلا إذا شبه بشيء رآه أو سمعه أحس به على وجه العموم
اللهم
١٥٠
والإنسان هكذا خلق إنه لا يمكنه أن يتصور إلا ما شاهده أو أحسه
بإحدى حواسه
والله سبحانه غيب ولقد قال الإمام ابن عبد البركلمة في غاية العمق إن الله ليس كمثله شيء فكيف يدرك بقياس أو بإنعام نظر إن الله لا يدرك من حيث ذاته بقياس ولا يدرك من حيث الذات بإنعام النظر إنه
ليس كمثله شيء
هذه النظرة المؤسسة على القرآن والسنة هى النظرة التي وصل إليها الفلاسفة
المؤلهون
الله
ولقد وصل الأمر ببعض الفلاسفة المؤلهين إلى أنهم لا يتحدثون عن إلا بالسلب فهم إذا أحبوا أن يقولوا الواحد يقولون اللا اثنين مثلا أو تعبيراً سلبياً يؤدى معنى الواحد
وذلك أن كل وصف إنما هو تحديد وكل تحديد هو تقييد وكل تحديد
هو حصر والله سبحانه لا حاصر له
ومن
هنا كانت حتمية الالتزام بما ورد فى النص الإلهي وهذا الالتزام
لا يفسر ولا يؤول ولا يترجم إلى تصور معين وإنما يقال آمنا به على مراد
الله سبحانه فإذا قال الله سبحانه
يد الله فوق أيديهم
فإن الموقف الحتمى أن نقول
آمنا به على مراد الله ولا شيء غير ذلك وكل تفسير وكل تأويل هو
انحراف عن الصراط المستقيم
وفى مقابلة الفوقية حينما ترد فى نص نقول آمنا به على مراد الله وفى هذه الحالة لا يتأتى أن يتساءل إنسان عن الجهة التي تقتضيها الفوقية وذلك أنه
مادام الأمر آمنا به على مراد الله لا يتأتى هذا السؤال
والاستواء
و
آمنا
به على مراد الله
فإنك بأعيننا آمنا به على مراد الله ولقد عبر ا الله سبحانه
بأعيننا ولم يقل بعيننا ولا بعينينا
وهكذا في كل ما يرد عن الذات الإلهية
وما من شك في أن الحديث فى الذات الإلهية إنما هو من المتشابه ومهما قال المفسرون في تفسير المتشابه فإنه مما لا شك فيه أن الحديث في الذات الإلهية إنما هو من المتشابه بل هو مركز المتشابه ونحن نعلم الموقف القرآني من المتشابه يقول سبحانه عن القرآن الكريم
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ۳
لقد نهينا فى قوة عن البحث والجدل فى المتشابه
فإذا لم نبحث ولم نجادل واتبعنا التوجيه القرآنى فإنه لا يكون بيننا - أعنى أمة الإسلام - فرقة مصدرها المتشابه الاستواء الفوقية اليد إلخ والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يه وشيء آخر لا ندرى كيف جرؤ الباحثون من أهل السنة ومن المعتزلة على
١٥٢
۳ آل عمران ۷
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو
1
كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعيركية وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ۷ هذه الآيات الكريمة بل والقرآن في جملته والأحاديث الشريفة في جملتها وتاريخ الإسلام إن كل ذلك يدل – حسبما يرون – على أن الإسلام دين العقل وإذا ما تساءلنا الآن عما يعنون بقولهم إنه دين العقل أجابوا بأنه يحتكم إلى
العقل
ويرون بذلك أنه يحكم العقل فى المسائل والمبادئ والقواعد وينتهى ذلك لا مناص بأن يكون العقل هو القائد وليس الدين وذلك قلب للأوضاع وانحراف عن الصراط المستقيم ! !
الصراط المستقيم فيما يتعلق بصلة الدين بالعقل فهو
1 - أولاً جاء الدين هادياً للعقل في مسائل معينة هي أولاً ما وراء الطبيعة أي العقائد الخاصة بالله سبحانه وبرسله صلى الله عليهم وسلم
٦ لقمان ۱
٧ الزخرف ١٩ - ٢٤
البحث فيه وذلك هو موضوع الذات والصفات
لقد وصل الأمر بالباحثين فى تطاولهم وجرأتهم وكبريائهم أن يبحثوا في هل الذات الإلهية والصفات الإلهية شيء واحد أو أن الذات غير الصفات هل هي هي أو هي غيرها أو لا هي هي ولا هي غيرها إن الإنسان حينما يكون الأمر متصلاً بالله ليس له إلا الانكسار والخشية والخضوع والتضرع إلى الله سبحانه في أن يهبه التواضع وأن يرزقه الرغبة إليه
والرهبة منه وأن يقول مع الشاعر الرقيق إسماعيل صبرى يارب أهلنى لفضلك واكفنى شطط العقول وفتنة الأفكار أما أن يصل الأمر إلى هذا الحد من التطاول على المجال الأقدس فإن ذلك لا يكون الموقف منه إلا الموقف الذي التزمه الأئمة مالك والشافعي
وأحمد بن حنبل وسفيان الثورى وأهل الحديث التحريم
لقد
حرم
حق رضی الله
هؤلاء الأئمة الأفاضل الحديث فى ذلك تحريماً مطلقاً وكانوا على
عنهم
لقد كانوا متناسقين مع القرآن والسنة ومع العقل والمنطق ونحن يجب علينا وجوباً مطلقاً أن نسير في ذلك على هدى من القرآن والسنة وعلى سنن
أئمتنا رضى الله عنهم
وبعد إذا فعلنا ذلك أمنا من الزلل وأدينا الله حقه
الكثير من
ونرجو
الخلاف فيما بيننا وهذا هدفنا من المقال
من
القداسة وأزلنا
الله أن يهدى له وأن يهدى به إنه سميع قريب مجيب
١٥٣
المذاهب الفقهية
لقد طبق رسول الله العالم الإسلام كما أحبه الله سبحانه وتعالى طبقه في مختلف مواقفه طبقه بكلامه وطبقه بعمله وطبقه بمشاعره
يرسم
6
ويتخذونه
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسيرون حسما قدوة ويعملون كما يعمل وبذلك تواترت سنته الله العملية وكانوا رضى الله عنهم يشرحون هذه السنة وكانوا يروون ما تحدث به في مواقفه
المتنوعة ولقد حفظ بعض الصحابة ما لم يحفظه الآخرون ثم تفرقوا في البلاد في الأمة الإسلامية وحفظت الأمة الإسلامية فى مختلف البلاد عن هؤلاء الصحابة الكثير وأخذوا يروون ما حفظوا ونشأ قوم اتجهوا إلى جمع هذه الأحاديث في صحاح وفى مسانيد وتحروا فيها الصدق نافين عنها كل ما يمكن أن يناله الشك وقاموا فى سبيل ذلك بما لم يصل إلى مثله المؤرخون أساليب النقد وتحرى الصحة
الحديثون من
وكان رسول الله الله له أوضاع تسير على نسق واحد في بعض المسائل وتختلف في بعضها الآخر إنه لو كان يلتزم سلوكاً واحداً فيما هو فرض كالقراءة والركوع والسجود والجلوس للتشهد فى الصلاة وكصيام شهر رمضان والإمساك الكامل فيه عن الطعام والشراب وهكذا
١٥٤
ومن
أما فيما يتعلق بالسنن فإن رسول الله الله ما كان يلتزم بصورة حتمية سلوكاً واحداً وإنما كان يأتى فى بعض الأحيان ما لم يأته في أحيان أخرى أمثلة ذلك ما كان يقوله الله بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الفاتحة وما كان يقوله من دعاء في سجوده وهل كان له في وقوفه بين يدى الله للصلاة يرخى ذراعيه أو يقبضها واضعاً اليمنى على اليسرى وهكذا
ومثل هذه الأمور تحدث في أعمال العبادة كما تحدث في البيع والربا
والإجارة وغيرها من أعمال التعامل بين الناس
ومذاهب الفقهاء تدور فى هذا الفلك إنه لا اختلاف بينهم في الركوع والسجود مثلاً ولكن الاختلاف بينهم في غير الفروض الواجبة الأداء ولكن هذه الأمور الهيئة التي ليست بفروض ولا واجبات قد استغلتها جهات يسرها التفرقة بين المسلمين وجهات أخرى مهمتها التفرقة بين المسلمين حتى تصرفهم الفرقة عن الأخذ فى مهام الحياة الكبرى وحتى تضعفهم هذه الفرقة فتصرفهم عن الإصلاح الحقيقى للمجتمع
ولقد اخترع لهم أعداء الإسلام مسائل للاختلاف فمسألة السدل والقبض والسدل هو إرخاء اليدين في الصلاة والقبض هو وضع اليد اليمنى على اليسرى حينما يكون الإنسان واقفاً بين يدى الله لقد اختلف فيها بعض العلماء في بعض الأقطار إلى درجة حادة ويعجبني
موقف عالم مستنير وقف فى جلسة احتد فيها النقاش حدة سيئة فقال يا علماء الإسلام أسألكم بالله إذا وقف الإنسان في الصلاة ومد يديه
١٥٥
تماماً أمامه هل تفسد صلاته
قالوا لا
فقال فإذا رفع يديه تماماً إلى أعلى هل تفسد صلاته
فقالوا لا
وأخذ يسألهم فإذا أرخاها فإذا ضمها إلى بعضها وهكذا أخذ يسألهم عن الأوضاع المختلفة لليدين ويقولون إنها لا تفسد
الصلاة
فقال لهم في النهاية علام اختلافكم يا علماء الإسلام علام شقاقكم ونزاعكم واختلافكم إنها فتنة فجنبوا الإسلام عنها وجنبوا المجتمع شرها وهدأ الجميع وعرفوا أن حدتهم في الخلاف إنما تقوم على غير أساس
صحيح
وعلى كل حال فإن منشأ الاختلاف بين الفقهاء هو استناد بعضهم إلى ما روته الأحاديث من حالات رسول الله اللهم من أمر السنن واستناد البعض الآخر إلى ما روته الأحاديث من حالات أخرى
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وكل مذاهب الفقه إنما هى آراء فى مدرسة واحدة هي المدرسة الإسلامية أو هي مدرسة رسول الله الله
بيد أن ضيق الأفق عند بعض المتأخرين هو الذي جعلهم يقيمون من هذه
الآراء مذاهب منفصلة منفصلة الأتباع ينتصر كل منهم لمذهبه ويوشك هذا الانفصال أن يزول الآن فى واقع المسلمين وليس له على كل
حال الحدة التي كانت له في الماضي
ܘܙ
وإذا كانت المذاهب آراء مجتهدين فى مدرسة رسول الله الله وهذا يشبه أن يكون بدهيا فإن الذى مازال غامضاً نوعاً ما في أذهان بعض الناس إنما هو أمر الاجتهاد ولقد حاول البعض أن يشيع بين الناس أن باب الاجتهاد قد أغلق وأن المجتهدين هم هؤلاء الذين نبغوا في الماضى من أمثال الإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهم
وأخذ آخرون يجادلونهم فى ذلك يرون أن باب الاجتهاد مازال مفتوحاً
ولكنهم يتحدثون عن الاجتهاد وكأنه ميسر لكل من يريد والواقع أنه لا يتأتى لشخص مستنير ذى بصيرة مضيئة أن يقول إن فضل الله قد اقتصر على عدد محدود من الناس هم المجتهدون السابقون وذلك أنه من البديهي أن كل من تتوافر فيه شروط الاجتهاد يمكن أن يكون مجتهداً أما شروط الاجتهاد فهى
۱ - معرفة متمكنة للغة العربية ولقد كان الإمام مالك رضي الله عنه وكان الإمام الشافعى رضى الله عنه وكان غيرهما من المجتهدين من فحول اللغة العربية الأفذاذ
– حفظ القرآن الكريم حفظاً متقناً وفهمه فهماً لا يقل عن فهم كبار المفسرين ويتضمن ذلك معرفة أسباب النزول فى الآيات التي كان لها أسباب نزول وذلك أنه وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن معرفة أسباب النزول تساعد على فهم الجو الذى نزلت فيه الآية كما تساعد على التعمق في فهمها
٣- معرفة الأحاديث معرفة لا تقل عن معرفة المحدثين وخصوصاً
١٥٧
الأحاديث التي تتصل بالأحكام وذلك أن الأحاديث الخاصة بالأحكام تفسر
الكثير مما لا تفصله بعض الآيات القرآنية
٤ - معرفة السنة العملية لرسول الله الا الله والسنة العملية متواترة لأن الذين لازموا رسول الله علل الله في مكة ثم الذين لازموه في المدينة كانوا كثرة كثيرة – ولقد شاهدوا ما فعله رسول الله له وتابعوه عمليا فيما قام به ونقلوا ذلك لمن شاهدهم من بعد وهكذا
10
معرفة سيرة رسول الله الله في صورة واضحة وهذه الأمور التي ذكرناها يقرنا عليها كل من عنده صورة للاجتهاد ما هو وكيف يكون
وهى وإن كانت متعددة فإن بعضها يدخل فى بعض وبعضها يفسر ببعض وبعضها أسباب وبعضها نتائج وكل منها يساعد على فهم الآخر فهي – إذن – ميسورة ولكن لابد من إتقانها
والأمر الهام الذى نحب بتوفيق الله تعالى أن نأخذ في الحديث فيه الآن هو
هدف الاجتهاد
يظن بعض الناس أن هدف الاجتهاد إنما هو تيسير الأمور أو اختراع رأى أو ابتداع فكرة أو إبداء رأى شخصى
لو كان الأمر كذلك لما كان هناك من حاجة إلى شروط أوكد في التحصيل أو جهد فى المعرفة - كلاً إن الاجتهاد ليس كذلك إن رسول الله الله يقول فيما رواه الشيخان
من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله من دعا إلى
١٥٨
هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك
من
آثامهم شيئاً رواه مسلم
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذرى قال قال رسول الله الله يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين رواه البيهقي
M
وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله الله
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به رواه في شرح السنة وقال النووى فى أربعينه هذا حديث صحيح رويناه في كتاب
الحجة بإسناد صحيح إن هدف الاجتهاد أمران
الأمر الأول هو الاجتهاد في المسائل التي كانت في عهد الرسول الله للوصول إلى ما كان عليه النبي الله في هذه المسألة أو تلك إنه بذل الجهد للوصول إلى حكم يقينى فى مسألة أو مسائل كانت على عهد الرسول الله وهذا لا يتصل من قرب أو من بعد بالابتداع أو الاختراع أو الرأى الشخصى وأما الأمر الثاني فهو الاجتهاد في مسألة حدثت بعد عهد النبي الله من
أجل ربطها بقاعدة عامة من قواعد الدين الإسلامى محللة أو محرمة إن القرآن الكريم وإن السنة النبوية الشريفة فيهما قواعد عامة يدخل فيها ما لا يحصى من الجزئيات ومهمة المجتهد هي أن يربط المسألة الحديثة بالقواعد العامة وهو فى هذا لا حرية له إنه مقيد بالقياس وبالقواعد العامة ليس له في
١٥٩
هذا حرية الانطلاق كيفما يريد كلاً إنه فى كل ظروفه متبع لا مبتدع
ورسول الله الله يقول في نوعى الاجتهاد
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
والذي نريد أن ننتهى إليه هو
1 - المذاهب الفقهية آراء في مدرسة الرسول ل لم ل وهي بهذا الاعتبار
لا تفرق ولا تفصل بين فرد وفرد ولا بين جماعة وجماعة
- باب الاجتهاد مفتوح إذا توافرت الشروط والمسألة ليست مسألة جدل في هذا وإنما هي مسألة اجتهاد في أن تتوافر الشروط ٣ - الاجتهاد لا ابتداع فيه وهو ليس رأياً شخصياً
وبعد كل ذلك نقول إننا قبل هذا الحديث وبعده نشترط فى المجتهد أن يكون متحلياً بفضيلة
التقوى
إن قمم الفقهاء جميعاً من الأولياء والاجتهاد الصادق عند المجتهدين القمم هو فتح من الله ونور من لدنه سبحانه
ونحن نزور الإمام الشافعى مؤمنين بأنه من أولياء الله وأهل العراق يزورون
الإمام أبا حنيفة مؤمنين بأنه من الأولياء وهكذا
ولن يأتى فتح الله إلا لمن تحلى بالتقوى والله سبحانه وتعالى يقول
ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم
١٦٠
الفصل الثالث
الإمام الغزالي والمتكلمون
يحتل البحث في نظرية المعرفة مكاناً كبيراً فى العصر الحاضر حتى لقد رأى بعض المفكرين أن نظرية المعرفة إنما هي نصف الفلسفة وإنه لمن الطبيعي أن يبحث الإنسان فى الوسائل التي تؤدى به إلى الهدف الذي يريده ومن هنا كانت أهمية نظرية المعرفة فى الفلسفة الحديثة بيد أن البحث فى هذا الجانب أصبح فى العصر الحاضر كأنه هدف لا وسيلة فأصبحت نظرية المعرفة تدرس لنفسها ومن الواضح أنه من الانحراف عن الطريق الفلسفي المستقيم أن يوجد إنسان يستمر طيلة حياته يبحث فى نظرية المعرفة من جميع أطرافها ويقتصر على ذلك فلا يتخطاه إلى المعرفة نفسها ومع ذلك يطلق عليه الباحثون لقب فيلسوف
كأنها
جزء من
الفلسفة
ومن أجل ذلك أخذ بعض المفكرين يتهكمون على بعض دارسي الفلسفة في العصر الحديث لأنهم يشغلون أنفسهم بالوسيلة عن الغاية أى يشغلون أنفسهم بنظرية المعرفة ولا يلقون بأنفسهم فى خضم المعرفة نفسها يرتشفون منه
وينهلون
11
وانتقدها
وشغلت نظرية المعرفة الإمام الغزالى لقد فكر في وسائل المعرفة ودرسها وسواء كانت الوسيلة هى الحس أو هي العقل فإنه قدر كلاً حق تقديره ووضعه في مكانه المناسب له وسنتحدث عن ذلك حينما نتحدث عن موقفه من الفلسفة
وشغل نفسه بنظرية المعرفة من حيث الاتجاهات والطرق والسبل التي سارت فيها طوائف مختلفة من الباحثين فوصلوا إلى نتائج مختلفة تتفق أحياناً وتختلف وتتعارض في كثير من الأحايين
وبدأ بحثه في هذا الجانب بحصر الطالبين للحق السالكين سبيله سواء كانوا
سائرين على الطريق الصحيح أم متنكبين سواء الصراط فوجدهم لا يعدون أربع فرق
١ - المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر ٢ - الباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون
بالاقتباس من الإمام المعصوم
٣ - الفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان ٤ - الصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة ١ وهذا الحصر للسالكين سبل طلب الحق أوسع مما تبحث فيه الفلسفة الحديثة إذ الفلسفة الحديثة تهمل إهمالاً يكاد يكون تاماً
١ المنقذ من الضلال
طريقة
١٦٢
والقرآن
ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب ٢ ولقد كان الهدف الأول لجميع الرسل السابقين هو التوحيد في هذا المعنى وفى تأكيده وفى إظهاره صريح ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
غیره کاری
غیرہ کیا ہے
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله
ويبين القرآن أن هذه العقيدة عامة مطلقة إنها العقيدة الأولى التي أكدها
جميع الرسل
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون ۳
وحينما يقول الله سبحانه وتعالى
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
٤
عليكم شهيداً 4
فإنه آثر أن يقول أمة بالإفراد لا أمماً ولا يعني شيئاً آخر غير
الإسلامية الواحدة الموحدة
الأمة
والتوحيد إذن سار في جميع أجزاء الرسالة الإسلامية ولا شك أن وحدة
الشورى ۱۳
۳ الأنبياء ٢٥ ٤ البقرة ١٤٣
11
بحيث لا يصدر ولا يرد إلا باسمه سبحانه ولا يأتى ما يأتى أو يدع ما يدع إلا في
سبيله تعالى
ومضى القرن الأول على ذلك ومضى القرن الثاني أو أكثره على الفطرة ثم كانت الفلسفة اليونانية والفلسفة اليونانية فلسفة وثنية لأنها تصدر عن العقل لا عن الوحى وكل فكرة تصدر عن العقل لا عن الوحى فى عالم ما وراء الطبيعة أي في عالم العقيدة إنما هي فكرة وثنية أى أنها فكرة لا حق لها في الوجود لأن عالم العقيدة إنما هو من اختصاص الله يبينه على لسان رسله وكل تدخل من الإنسان في هذا العالم إنما هو تدخل فيما ليس للإنسان التدخل فيه اقتحام لساحة محرمة مقدسة لا ينبغى أن يدخلها الإنسان إلا دخول الساجد الخاشع الخاضع المسلم لما جاء به الوحى الإلهى إن الفلسفة اليونانية فى عالم العقيدة فلسفة وثنية إنها وثنية حتى حين تثبت وجود الله ولا يخرجها إثباتها وجود الله عن أن تكون وثنية إنها وثنية بالمبدأ الذي قامت عليه وهو مبدأ تأليه العقل البشرى ويستوى بعد ذلك أن
لأنه
ذلك يبرر
تكون قد أثبتت وجود الله أو أنكرته وهي حينما تثبت وجود الله عقلياً ليس في ذلك كبير فائدة ولا وجودها ولا قيمة لما تثبته وإثباتها والعدم سواء ذلك أن العقل الذي أثبت هو العقل الذي يمكنه أن ينكر وهو العقل الذي ينكر بالفعل ولا لزوم إذن للطنطنة والتصفيق الذى نحيي به كل عبقرية فكرية في الشرق أو في الغرب تحاول فكرياً أن تثبت وجود الله
إننا لا نقيم عقيدتنا على فكر بشرى مهما كان هذا الفكر عبقرياً
۱۳
الطبراني في الأوسط وابن عدى والبيهقى فى الشعب
والله سبحانه وتعالى يقول
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ١٥
ويقول
١٦
ليس كمثله شيء "
ولقد ذكر القرآن الكريم سبحانه وتعالى صفات تشترك في الاسم مع صفات
الإنسان
لقد وصفه سبحانه بالعلم والإرادة والقدرة
وقال سبحانه
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما
ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما
وقال
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
هذه الصفات من إرادة وقدرة ما صلتها بالذات
أهي هي أهي غيرها
۱۷
۱۸
وبحث في ذلك المتكلمون والفلاسفة واختلفوا وكان لا مفر من الاختلاف لأن ذلك غيب والغيب يثير الاختلاف دائما وكان على
المسلمين أن يتفكروا في آلاء الله وفى التفكير في آلاء الله استثارة للشكر
والتقوى والخشية
١٥ الصافات ۱۸۰
١٦ الشورى ۱۱
۱۷ الفتح ١٠ ۱۸ الرحمن ٢٦ ٢٧
١٤٧
وباليوم الآخر وبالغيب الإلهى على وجه العموم وثانياً في مسائل الأخلاق أى الخير والفضيلة وما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني ليكون الشخص صالحاً
وثالثاً في مسائل التشريع الذى ينتظم به المجتمع وتسعد به الإنسانية وجاء الدين هادياً للعقل في هذه المسائل بالذات لأن العقل إذا بحث فيها
مستقلا بنفسه فإنه لا يصل فيها إلى نتيجة يتفق عليها الجميع ومعنى ذلك أنه لو ترك الناس وعقولهم فى هذه المسائل فإنهم يختلفون ويتفرقون فرقاً عديدة ويتنازعون ولا ينتهى الأمر إلى الوحدة والانسجام ولا إلى الهدوء والطمأنينة
بهم
٢ - وجاء القرآن يفهمه العقل فى المحكم فيه ولا يناقض العقل في المتشابه منه ذلك أن القرآن
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ومايذكر إلا أولو الألباب کی ۸
وقد أراد الإسلام من المسلم أن يستمسك بالمحكمات استمساكاً تاماً وأن
يعتصم بها اعتصاماً كاملاً
له ومن يعتصم
بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ۹
وأن يسلم الأمر لله فى المتشابه اللهم إلا إذا فتح الله عليه بوساطة الإلهام
۸ آل عمران ۷ ۹ آل عمران ۱۰۱
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن
لا رتاب المبطلون له
وهذا في شأن الداعى وتستمر الآيات فيقول الله تعالى بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا
الظالمون
وهذا في شأن الدعوة
وهذا المنهج هو منهج الرسول على الله يتابع فيه القرآن فإنه الله حين أمر بالجهر بالدعوة تحدى العرب بصدقه أى أنه كان يبين صدق الداعي ولما جاءه عتبة يفاوضه فى شأن النزول عن دعوته لم يعمل شيئاً أنه قرأ عليه صدر السورة الكريمة سورة فصلت وهذا المنهج هو الذى اتبعه أصحاب الآفاق الواسعة من البشر في الوصول إلى تعرف الحقيقة عن طريق حال الداعى وقيمة الدعوة وهو المنهج الذى نريد أن نلتزمه إن شاء الله تعالى متخذين من الوسائل لذلك آراء بعض الذين اتبعوه ومن الله نرجو العون والهداية
سوی
إن الله يصطفى من الناس رسلاً
1
إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين يصطفيهم فيعدهم إعداداً خاصا قبل ميلادهم يعدهم في أصلاب
۱ آل عمران ۳۳
۱۷۸
بعضها فنعطيه أيها شاء
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون
ويكثرون
فقالوا بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله ل فقال يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة فى العشيرة والكمال في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم وكفرت من مضى من آبائهم فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منى بعضها
فقال له رسول الله له قل يا أبا الوليد أسمع
قال يابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً
وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا
الطب
وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل
حتى يداوى منه
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله الله يستمع منه قال أقد فرغت
يا أبا الوليد
قال نعم
قال فاسمع مني
۱۹۳
ولا أمير ولا باسم منفعة شخصية ولا باسم مصلحة إقليمية ولا باسم غاية
مادية أيا كانت ولا باسم وطن أو بيئة وإنما هى باسم ا
وإذا كانت باسم الله فإنها تفيد الشخص باعتباره فرداً وتفيد المجتمع الخاص الذي نسميه وطناً
وتفيد المجتمع الإسلامي العام
بل وتفيد الإنسانية جمعاء
الله
وإذا ما تجردت القراءة لله تعالى وكان هدفها الأول والأخير هو الله مصدر الخير والنور كانت خيراً وكانت نوراً في الأرجاء وفى جميع
الأزمان
جميع
وما كان يقصد القرآن قط بهذه الكلمة الأولى القراءة وحسب وإنما كانت القراءة رمزا لكل ما يأتيه الإنسان فى الجانب الإيجابي وكل ما يدعه الإنسان في الجانب السلبي
ربك
إن هذه الكلمة الأولى تريد – بمفهومها وروحها
اقرأ باسم ربك تحرك باسم ربك تكلم باسم ربك اعمل باسم ربك أما إذا امتنعت عن حركة أو فعل فينبغى أن يكون ذلك أيضا باسم
ويكون معنى الآية فى النهاية جرد حياتك كلها وكيانك كله أسباباً
وغايات لله سبحانه وتعالى وإذا كانت الآية الكريمة واضحة المعنى فى الجانب الإيجابي الذي يحث على القراءة والذى يحث على أن تكون القراءة باسم الله فإن الجانب
وتلفتت الحضارة أو ممثلو الحضارة أو الذين يقومون على الحضارة تلفتوا يميناً وشمالاً على الأصول والقواعد التي يمكنهم أن يقيموا عليها نظمهم
البشرية وتساءلوا ماذا يمكن أن يحل محل الدين
إن الدين نظام اجتماعي وتشريعي وأخلاقي فما الذي يمكن أن يحل هذه النظم لأنها نظم دينية يقوم
محل هذه النظم إذا أردنا أن نتخلص من
فما هي المصادر والمنابع التي
عليها رجال الكنيسة رجال محاكم التفيش نستقى منها إذا أردنا أن يسود الاطمئنان في المجتمع
أما المصادر فما كان يمكن وما كان يتأتى إلا أن تكون مصدرين
۱ - العقل في ناحية ما وراء الطبيعة
والضمير في ناحية الأخلاق
إذن لجأت الحضارة الحديثة فيما وراء الطبيعة إلى العقل ولجأت في الأخلاق إلى الضمير فالعقل هو الذي يؤسس ما وراء الطبيعة والضمير
هو الذي نرجع إليه في الأخلاق
ولكن تخبط العقل لأنه يختلف من إنسان لآخر ومن بيئة لأخرى
ومن زمن لزمن ومن مكان لمكان
ومن ثقافة لأخرى
وأخذ الضمير من جانبه أيضاً يوحى بإيحاءات مختلفة فالضمير ليس إلا أثراً للبيئة وللثقافة وللوسط الذي يعيش فيه ليس الضمير معصوماً قط وإنها لفكرة خرافية كون الضمير معصوماً والضمير إذا تخلص من سيطرة الدين فإنه يوحى بالفساد كما يوحى بالصلاح لأنه ابن البيئة فإذا كانت البيئة إجرامية فالضمير إجرامي وإذا كانت البيئة صالحة فالضمير صالح
٢٢٤
يُعد الإمام الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم
محمود صاحب ورائد مدرسة الفكر الإسلامي والتصوف في العصر الحديث ولقب بأبي التصوف في العصر الراهن فقد أثرى المكتبة العربية بأمهات الكتب بين تحقيق وتأليف وترجمة فمنها دراساته القيمة عن الإمام الغزالي المنقذ من الضلال و دلائل
وكتابه
*
النبوة و القرآن في شهر القرآن إلى جانب ما كتبه عن رواد التصوف على مر العصور الإسلامية المختلفة
والإمام الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود له عمق وغزارة الآراء الفقهية ودقة الاجتهادات مما جعله يكسب صفوف المعارضين
قبل المؤيدين إلى جانب اللباقة والدراية الكاملة
في عرض أى موضوع أو مسألة تتعلق بأمور } الدين وأيضا يمتاز بقوة ورصانة الأسلوب
والعبارات مما يدل على المهارة الفائقة والملكة
اللغوية فلهذا اكتسب هذا العالم الجليل احترام
축
كل الفرق والمذاهب الإسلامية في شتى بقاع 1 العالم وسيبقى هذا العالم وتراثه في قلوبنا على
مر
العصور
الفصل الثالث
الإمام الشافعي والفكر اليوناني
أنه قال
روى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان
أرسطاطاليس هذا النص من الإمام الشافعي رضى الله عنه يبين لنا أن هذا الإمام الجليل يفرق - ككل ذوى البصائر المشرقة - بين مصدرين من مصادر المعرفة لكل منهما طريقته وسنته ولكل منهما أسلوبه وجوه أو بكلمة
واحدة لسانه
أما أحدهما فهو المصدر الإلهى إنه الوحى
وأما الثانى فهو المصدر البشرى عقليا كان أو حسياً وللمصدر الإلهى ميدانه إنه عالم الغيب وعالم الأخلاق وللمصدر البشرى ميدانه إنه عالم الطبيعة إنه العالم المادى المحس وحينما تسير أمور الإنسانية على ما ينبغى أن تكون عليه فإنها تسلم نفسها الله
في كل ما يتعلق بالدين عقيدة كان أو شريعة أو أخلاقاً
وتكدح - التزاماً لأمر الله - في عالم الطبيعة حتى تنتهى إلى تسخيره
٤٢
يطمئنون إليه ويستسلمون فيما يختص بالعقيدة أو الإيمان بما وراء الطبيعة وفيما يختص بالأخلاق أو بتحديد الخير
والظاهرة الملاحظة في كل الأوساط على مر التاريخ أنه كلما كان الدين يقينيا ثابتاً وكلما كان الإيمان قويا مسيطراً قل النزوع إلى الفلسفة وقل البحث العقلى فى مجالات الغيب
أما السبب في ذلك فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى بحث عميق وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه على التقريب موضوع الدين فالدين يجيب في اختصار أو فى استفاضة عن أسئلة للفلسفة يجيب عنها في صورة حاسمة عازمة لا تعرف التردد ولا الشك
والمؤمن الذي غلب عليه الإيمان وسيطر على نفسه الدين لا يستسيغ أن
يتجاوزه ويتفلسف
ولماذا يتفلسف
إنه مؤمن وإنه مؤمن بقضايا دينه ولا يخالجه الشك قط في صحة هذه القضايا فهل يعقل والأمر كذلك أن يترك اليقين أعنى قضايا الوحي المعصومة ليحاول عن طريق العقل البشرى أن يدرس الموضوع من جديد إنه إن فعل ذلك فمعناه أنه يشك فى قضايا دينه شاعراً بذلك أو غير شاعر معناه أنه يترك التمسك بهداية الله ليتمسك بهداية البشر ومعناه أنه يترك اليقين إلى الظن لأن نتائج العقل البشرى فى مجالات ما وراء الطبيعة ظنية
كلها
ونشأ التفلسف في صورة نظرية منظمة فى اليونان لأول مرة في عهدها بالحضارة الثقافية لضعف التدين فيها ولم ينشأ التفلسف في البيئات الإسلامية
۵۸
الجريمة وكانوا بلا أدنى قلق يشاهدون الفرد مشنوقاً من أجل اختلاس
تافه
1
ولكننا عندما نوازن بين أحوال الضمير في العصر الواحد في أقطار
مختلفة فإننا نجد أيضاً فروقاً لا تكاد تحصى ولا تعد
فالشعوب التي يسود فيها نظام تعدد الزوجات لا تعتبر من يتزوج بعدد منهن بريئاً فقط بل إنها فوق ذلك لتعد هذا العمل منه سامياً ومشرفاً إلى حد كبير وإن مشاعر الحياء القوية جدا عند الشعوب المتحضرة لا تهز قليلاً
ولا كثيراً مثل زنوج الكنغو وسكان جزائر تايتي ٥
ويقول
ومن ناحية أخرى فإنه لا شيء أغرب من مشاهدة بعض الالتزامات التي تقتضيها حياة بعض البدائيين وليس من المجهول ما يعد من المحرمات الدينية
عندهم مثل تحريم بعض أنواع اللحوم أو بعض أنواع الأشربة أو خروج
النساء بدون حجاب وأمر الطقوس السائدة في البلاد الأوقيانوسية معروف مشهور فهى تعتبر من الآثار ما قد يظهر لنا طبيعيًّا بل فوق ذلك ما يظهر ضروريًا إنها تحرم تناول الطعام تحت السقف والمكث في المسكن إذا كان المرء مريضاً واستعمال الأيدى فى التغذية بعد فراغ المرء من حلق شعره أو بعد فراغه من صنع زورق على أن الدلالة العميقة إنما هى مظاهر اختلاف الضمير في البيئة
٤ المصدر السابق
٥ المصدر السابق
المتكلمين وتهمل أيضاً إهمالاً يكاد يكون تاما هؤلاء الذين يزعمون أنهم
أصحاب التعليم ومن المخصوصين بالاقتباس من الإمام المعصوم ويبدأ الإمام الغزالي بعد هذا الحصر بالبحث في عمق هذه الطرق واستقصاء ما عندها مبتدأ بعلم الكلام
وعلم الكلام الذى كان على عهد الإمام الغزالي هو علم الكلام الذى ندرسه الآن فإذا تحدث الإمام الغزالى عنه فليس ذلك الحديث مختصا بالفترة التي عاش فيها الإمام الغزالى وإنما هو يصل إلى العصر الحاضر وإلى هذا النهج من الدراسة الموجودة في كتب علم الكلام المتداولة الآن وإذا تحدث عنه الإمام الغزالى فإنما يتحدث حديث الواثق الخبير فقد حصل وطالع كتب المحققين فيه وصنف فيه ما أراد الله أن يصنف ثم كان له في النهاية رأيه الشخصي
وهذا الرأى الشخصى رأى جرىء حاسم يتفق حقيقة مع الوضع الإسلامي الصحيح ولكن الظروف أوجدت الإمام الغزالي في بيئة كان لعلم الكلام فيها – على ما هو عليه - قداسته واحترامه فحاول الإمام الغزالى أن يعلن رأيه على أساليب مختلفة وعلى أنماط متعددة منها المجامل الرفيق الذي لا يرضى كل الرضا ولكنه يتسامح فى أسلوبه ويجامل في تعبيراته ويعطف ويشفق ومع يتبين في وضوح أن الوضع خطأ وفى أحيان أخرى تضيق نفسه بالوضع الخاطئ فيغضب ويثور ويحسم الأمر في أسلوب قوى وفى حدة ما كان الإنسان يتوقعها من صاحب الاقتصاد في الاعتقاد
ذلك
ومن أجل أن يكون رأى الغزالى مقنعاً ومن أجل أن يأخذ رأيه المكانة التي يريدها والذيوع والانتشار الذى يطمح إليه أخذ يستشهد بآراء أئمة السلف
١٦٣
علم الكلام كالإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم
من السلف الصالح الذين نؤمن بسعة علمهم وبإخلاصهم وباتباعهم للنهج الديني الصحيح والآن نذكر رأيه في صورته الحاسمة إنه يتحدث عن علم الكلام في كتابه النفيس إحياء علوم الدين فيقول وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء لهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف هذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ٢ ويرى الإمام أن المتكلم لا يزيد على العامى إلا في صنعة الكلام ولأجله سمیت صناعته كلاماً
أما إذا تساءلت عن إيمان المتكلمين فإن إيمانهم ممزوج بنوع
ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام
۳
استدلال
ويروى الإمام الغزالى أن أهل الحديث من السلف ذهبوا إلى جميع تحريم الكلام وإلى التحريم أيضاً ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وسيأتى توضيح رأيهم هذا الاتجاه الذي سار فيه الإمام الغزالى إنما هو اتجاه الصوفية على وجه
٢ الإحياء حـ ١
۳ الإحياء حـ ١
١٦٤
العموم وهو فيما نرى الرأى الصحيح الذى انتهى إليه الإمام الغزالي بعد تجربة
ممحصة وخبرة واعية
نصوص
هذه النصوص مأخوذة في قسمها الأول من كتاب الإمام السيوطي صون المنطق والكلام عن فنى المنطق والكلام ونحن نتفق مع الإمام السيوطي اتفاقاً كاملاً في وجهة نظره في هذا الكتاب
والقسم لا على أنه رأى الإمام الغزالى وإنما على أن الإمام الغزالى جامع لمختلف الآراء في موضوع علم الكلام فأخذنا منه وجهة نظر خاصة أخذناها على اعتبار أن الإمام الغزالي إنما هو دور المؤرخ الناقل ليس إلا
الثاني من هذه النصوص مأخوذ من كتاب إحياء علوم الدين
دور
القسم الأول
قال لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله
وأخرج الهروى عن معاوية أنه قام فقال أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون بأحاديث ليست فى كتاب الله ولا تعرف عن رسول الله الله أولئك جهالكم "
١٦٥
وأخرج الهروى عن عائشة قالت كان رسول الله الله إذا لم يعلم الشيء لم
يقل فيه برأيه ولم يتكلفه
رأيتنا
وأخرج الهروى عن سهل بن حنيف قال يأيها الناس اتهموا رأيكم فلقد رسول الله الله يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله
مع
أمره لرددناه [ الحديث أخرجه البخاري ]
وأخرج الهروى عن عمر بن الخطاب قال يأيها الناس اتهموا الرأى على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله برأيي اجتهاداً والله ما آلوا عن الحق وذلك أبي جندل يوم
وأخرج الهروى عن ابن عباس قال إياكم والرأى فإن الله رد على الملائكة الرأي قال إنى أعلم مالا تعلمون وقال لنبيه ع التحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل بما رأيت
وقال شيخ الإسلام إسماعيل الهروى فى باب ذم اتباع متشابه القرآن
والجدال به عن عائشة قالت تلا رسول الله الله هذه الآية وهو الذي أنزل عليك الكتاب فقال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فألئك الذين
سمی
الله فاحذروهم وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ
هم
دین
قال أصحاب الخصومات والمراء في الله وأخرج عن أبى قال ما استبان لك فاعمل به وانتفع به وما شبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه
وأخرج عن سعيد بن المسيب قال قام عمر بن الخطاب في الناس فقال
1
أيها الناس ألا إن أصحاب الرأى أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلت منهم أن يعوها فعاندوا السنن برأيهم فضلوا وأضلوا كثيراً والذي نفس عمر بيده ما قبض الله نبيه ولا رفع الوحى عنهم حتى أغناهم عن الرأى ولو كان الدين يؤخذ بالرأى لكان أسفل الخف أحق بالمسح من ظاهره فإياكم وإياهم ثم إياكم وإياهم
وأخرج الهروى عن هشام بن عبد الملك أنه قال لبنيه إياكم وأصحاب الكلام فإن أمرهم لا يؤول إلى الرشاد
وأخرج الهروى عن مالك قال إياكم والبدع قيل يا أبا عبد الله وما البدع قال أهل البدع الذين يتكلمون فى أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان
وأخرج عن مالك قال من طلب الدين بالكلام تزندق
وأخرج عن عبد الرحمن بن مهدى قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل
وعن يونس بن عبد الأعلى قال سمعت الشافعي يقول إذا سمعت الرجل
يقول الاسم غير المسمى والشيء غير الشيء فاشهد عليه بالزندقة وقيل لأبي حنيفة ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام فقال مقالات الفلاسفة عليك بالأثر وطريقة السلف وكل محدثة فإنها بدعة
وإياك
١٦٧
وعن الأوزاعي قال عليك بآثار السلف وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها بالقول
وأخرج عن عبد الله بن داود الخريبي قال سألت سفيان الثورى عن الكلام فقال دع الباطل أين أنت عن الحق اتبع السنة ودع الباطل وأخرج عن أحمد بن مهدى قال سألت أبا جعفر النفيلي عن الخوض في الكلام فقال سئل الأوزاعي عنه فقال اجتنب علماً إذا بلغت فيه المنتهى نسبوك للزندقة عليك بالاقتداء والتقليد
وأخرج عن أبي يوسف القاضي قال من طلب الدين بالكلام تزندق
أبي
وأخرج عن بالخصومة والكلام علم وأخرج عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة لعن الله عمرو بن عبيد
يوسف قال العلم بالخصومة والكلام جهل والجهل
فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام قال وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام
وأخرج
فسألته
الأنماطي
قال سمعت المزنى
عن أبي القاسم عثمان بن سعيد يقول كنت أنظر فى الكلام قبل أن يقدم الشافعي فلما قدم الشافعي أتيته عن مسألة في الكلام فقال لى تدرى أين أنت قلت نعم أنا في المسجد الجامع بالفسطاط فقال له أنت فى تاران قال أبو القاسم وتاران موضع في بحر القلزم لا تكاد تسلم منه سفينة ثم ألقى على مسألة من الفقه فأجبت فيه فأدخل شيئاً أفسد جوابي فأجبت بغير ذلك فأدخل شيئاً أفسد جوابي فجعلت كلما أجبت بشيء أفسده ثم قال لي هذا الفقه الذي فيه الكتاب والسنة وأقاويل الناس يدخله مثل هذا فكيف الكلام في رب
١٦٨
العالمين الذى الزلل فيه كفر فتركت الكلام وأقبلت على الفقه وأخرج عن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت محمد بن داود قال لم يحفظ في دهر الشافعى كله أنه تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه ولا عرف به مع بغضه لأهل الكلام والبدع
وأخرج عن طريق عبد الله أحمد بن حنبل عن أبيه قال كان بن الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلده وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهى الكلام إنما همه الفقه وأخرج عن المزنى أن رجلاً سأله عن شيء من الكلام فقال إنى أكره
هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي
وأخرج من طريق أبي داود وأبى ثور قالا سمعنا الشافعي يقول مامن
أحد ارتدى بالكلام فأفلح
وأخرج من طريق الحسين بن إسماعيل المحاملي قال قال المزني سألت مسألة من الكلام فقال سلنى عن شيء إذا أخطأت فيه قلت
الشافعي عن
أخطأت ولا تسألنى عن شيء إذ أخطأت قلت كفرت وأخرج عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال قال لى الشافعي يا محمد إن سألك رجل عن شيء من الكلام فلا تجبه فإنه إن سألك عن دية فقلت درهماً أو دائقاً قال لك أخطأت وإن سألك عن شيء من الكلام
فز للت قال لك كفرت
وأخرج عن الربيع بن سليمان سمعت الشافعى يقول المراء في الدين يقسى
القلب ويورث الضغائن
وأخرج عن ا
الربيع قال قال لى الشافعي يا ربيع اقبل منى ثلاثة أشياء
19
لا تخض في أصحاب رسول الله الله فإن خصمك النبي الله يوم القيامة ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل ولا تشتغل بالنجوم فإنه يجر إلى التعطيل وأخرج عن محمد بن عبد العزيز الأشعرى صاحب الشافعي قال قال الشافعي مذهبي فى أهل الكلام تقنيع رءوسهم بالسياط وتشريدهم من
البلاد
وأخرج عن الكرابيسي قال قال الشافعي حكمي في أهل الكلام حكم
عمر في صبيغ وأخرج عن أبي ثور والكرابيسى والزعفرانى قالوا سمعنا الشافعي يقول
بهم
في
حكمي فى أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على
الكلام
عن أبي ثور قال قلت للشافعى ضع فى الكلام شيئا فقال من ارتدى بالكلام لم يفلح
وأخرج من طريق ابن خزيمة سمعت يونس بن عبد الأعلى قال قال الشافعي لأن يبتلى الله المرء بما نهى عنه خلا الشرك خير من أن يبتليه
بالكلام وأخرج عن الزعفراني قال كان الشافعي يعتم بعامة كبيرة كأنه أعرابي وبيده هراوة وكان أذرب الناس لساناً وكان إذا خيض في مجلسه بالكلام نهى عنه وقال لسنا بأصحاب كلام
۱۷۰
وأخرج عن
أحمد
بن الوزير القاضي قال قلت لأبي
عمر الضرير
الرجل يتعلم شيئاً من الكلام يرد به على أهل الجهل فقال الكلام كله جهل وإنك كلما كنت بالجهل أعلم كنت بالعلم أجهل عن عثمان بن سعيد الدارمي قال لا نكيف هذه الصفات ولا نكذب بها ولا نفسرها
ولقد ذكر يونس بن عبد الأعلى عن الشافعى أنه قال ما من ذنب يلقى الله به عبد بعد الشرك بالله أعظم من أن يلقاه بهذا الكلام قال فقلت له فإن صاحبنا الليث بن سعد كان يقول لو رأيت رجلاً من أهل الكلام يمشى على الماء فلا تركن إليه فقال الشافعي لقد قصر إن رأيته يمشى في الهواء فلا
تركن إليه
وقال يونس بن عبد ا
الأعلى
عن الشافعي قال مذهبي في أهل الكلام
مذهب عمر في صبيغ تقنع رءوسهم بالسياط ويسيرون من البلاد وأخرج عن جعفر الفرعانى قال سمعت الجنيد بن محمد يقول أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلب - والقلب إذا عرى من الهيبة بالله عرى من
الإيمان ثم هو نفسه قد بعث إلى جميع أهل الأديان فما جادلهم إلا بما تلى عليهم من التنزيل ولو شاء كلمهم بالمقاييس ودقيق الكلام ولو كان ذلك هدى كان أولى به وعليه أقوى فلم تقم عليهم الحجة إلا بالتنزيل وضرب عن جدلهم بالدقائق وعلم أن ذلك رضى ومحبة لربه فترك الجدل والخصومات من
السنة
ما يؤمنى أن أقيم الحجة ببعض التأويل أو القياس أرى أنه أهدى وهو عند الله كذب عليه وقد تبين لى ذلك فيما مضى من عمرى قد كنت أقول
۱۷۱
القول ثم يتبين لى أنه خطأ فأرجع
عنه "
وما من كلام نسمعه لفرقة منهم إلا والخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صنعة الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بعودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعاً وجعلوه مبطلاً وحكموا بالفلج الخصمه عليه
والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطلة ويكون الحق فى ثالثة غيرهما فمناقضة أحدهما به قول خصمه لأنهما مجتمعان معاً مذهبه وإن كان مفسدا
صاحبه غير مصحح في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحداً من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلاً صحيحاً وإنما هو أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال
ويدوم الاختلاف ويقل الصواب
قال الله تعالى ﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً كم فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فإنه ليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من
المفضى
الاختلاف
إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله سبحانه بهم
۱۷
الإلهى عن شيء من أسرار هذا المتشابه الذى لا يناقض العقل ولا يتعارض مع
مبادئه
- وجاء القرآن حاسماً لا يتردد ولايقر التردد ولا يتشكك ولا يقر التشكك وكان الأمر كذلك لأنه جاء بالحق الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه
الحق المتزن
ولا من خلفه الحق المعصوم لقد جاء بالحق العاقل المعقول والموزون لقد جاء بالحق الذى كل ما عداه باطل ولقد تركز الحق في مسائل الدين بين دفتي هذا الكتاب الموحى وفيا أخبر به الرسول صلوات الله وسلامه عليه شرحاً له وتفسيراً وإبانة وعلى من أسلم أن يتبع هذه المبادئ أو هذا الحق اتباعاً لا تردد فيه ولا انحراف عنه
عن
أن يستشير
- وجاء القرآن لا يستشير الإنسان في شيء وتعالى الله المخلوق وتعالى الرب عن أن يستشير المربوب وتعالى العليم الحكيم عن يحتكم إلى البشر أو يحكمهم فيما أنزله إليهم هداية وتربية
أن
هذا هو موقف الدين من العقل وهو موقف يقرنا عليه كل من له شعور دينى سليم وهو موقف ترشدنا إليه الآيات السابقة نفسها ونأخذ منها - كمثال عام - قوله تعالى لرسوله
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه
بهم
1
بئس الشراب وساءت مرتفقا ك ١٠ في هذه الآية الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الله أن يخبر بأن
ما أتى به إنما هو الحق وإذا كان هو الحق فإن كل ما عداه باطل
۱۰ الكهف آية ٢٩
۱۹
عنه
ثم قال في صفة الحق بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو
زاهق ٤
القسم
الثاني
ونأتى الآن إلى ما ذكره الإمام الغزالى فى كتابه إحياء علوم الدين ط
الشعب جـ ١ ص ١٦٣ وما بعدها إنه يقول
فإن قلت تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن للناس فى هذا غلو وإسرافاً في أطراف فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد إن لقى الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن
دين الله تعالى
وإلى التحريم ذهب الشافعى ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل
يوم
ناظر
الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه حفصاً الفرد وكان من متكلمى المعتزلة يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه
وقال أيضاً قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام
٤ كلام أبي أحمد بن محمد الخطابي في كتابه الغنية عن الكلام
۱۷۳
وحكى الكرابيسى أن الشافعى رضى الله عنه سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه أخزاهم الله ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص فقال له من أنا فقال حفص الفرد لا حفظك الله ورعاك حتى تتوب مما أنت فيه
وقال أيضاً لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من
الأسد
وقال أيضاً إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له
قال الزعفراني قال الشافعي حكمى فى أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب بهم والسنة وأخذ في الكلام
وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبداً ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفى قلبه دغل وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبى مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له ويحك الست تحكى بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأى والبحث !
وقال أحمد رحمه الله علماء الكلام زنادقة وقال مالك رحمه الله أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل
يوم لدين جديد يعنى أن أقوال المتجادلين تتفاوت
وقال مالك رحمه
الله أيضاً لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء فقال
١٧٤
بعض أصحابه في تأويله إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أى مذهب
كانوا
وقال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقال الحسن لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر ولذلك قال النبي ٥ هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون أى المتعمقون في البحث والاستقصاء جدلاً
واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله ويعلم طريقه ويثنى عليه وعلى أربابه فقد علمهم الاستنجاء ٦ وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا
عن
القدر
وعلى هذا استمر الصحابة - رضي الله عنهم - فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة
في
وقد ذكر الإمام الغزالى بعد ذلك رأى الفريق المعارض لهذا ورأيه الشخصى ولكننا نكتفى هنا بأن نذكر رأى الأئمة الذين نقتدى عبادتنا ورأى المحدثين
٥ حديث هلك المتنطعون مسلم من حديث ابن مسعود
بهم
٦ حديث أن النبي عل لا يعلمهم الاستنجاء مسلم من حديث سلمان الفارسي ۷ حدیث ندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ابن ماجه من حديث أبي هريرة تعلموا الفرائض وعلموها الناس الحديث وللترمذى من حديث أنس وأفرضهم زيد بن ثابت
۱۷۵
إننا مع هؤلاء ومهما قيل من آراء أخرى فإننا نكتفى برأى هؤلاء ونعتز بأن نكون في صف الشافعى ومالك وأحمد بن حنبل والثورى
وجميع المحدثين
١٧٦
الفصل الرابع
علم الكلام فيما ينبغى أن يكون
هذه المسائل التي ذكرناها تكون - مع فروعها ولوازمها – ثلاثة أرباع علم الكلام التقليدى على التقريب
وقد يتساءل القارئ عن علم الكلام فيما ينبغى أن يكون وعلم الكلام فيما ينبغى أن يكون إنما يدور حول النبوة أولاً إنه يدور حول إثباتها على وجه العموم وإثباتها فى استفاضة على وجه الخصوص بالنسبة لسيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
ويدور ثانياً حول بيان أن الدعوة - في آياتها المحكمات – إنما هي آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وأن الذين يرتابون فيها هم المبطلون وأن الذين يجحدون بها هم الظالمون وبتعبير آخر يتركز علم الكلام في الداعي والدعوة إنه يتركز فى الداعى فى صورة مستفيضة ويتركز في الدعوة على صورة مجملة
وهذا الذى نذكره إنما هو المنهج الذي اختطه القرآن والآية الكريمة التالية تجمع الجانبين يقول الله تعالى
۱۷۷
أجدادهم وآبائهم فيتخير الله وجل لهم الأجداد والآباء يقول الإمام
البوصيرى عن رسول الله الله
لم تزل في ضمائر الكون تحتا ر لك الأمهات والآباء
ويقول أبان مولده عن طيب عنصره
يعد سبحانه أوعيتهم - الجدات والأمهات – خلقاً وخلقاً ويعد سبحانه الرسل بعد ميلادهم وسطاً وبيئة
يعدهم على عينه ولتصنع على عينى كم
ويصطنعهم لنفسه واصطنعتك لنفسى
ويقول عن كل ذلك فيما رواه الإمام مسلم إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشاً واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفاني من بنى هاشم ورسم حاضرهم الذى عاشوه طفولة فشباباً الله ماضيهم البعيد رسم فكهولة فشيخوخة منذ الأزل يقول سبحانه وتعالى في سيدنا عيسى عليه
لقد
السلام
إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن
الصالحين
r
ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيا وهذا الذي يذكره عز وجل بمناسبة سيدنا عيسى عليه السلام من أنه
آل عمران ٤٥ - ٤٦
۳ مریم ۱
۱۷۹
كان أمرًا مقضياً قبل ميلاده ليس خاصا بسيدنا عيسى إنما هو عام في كل الأنبياء والرسل إن أمرهم كان مقضيَّاً قبل أن يولدوا بل إن الله سبحانه وتعالى قضى في أزله أن يكونوا ذوى حسب في قومهم وذى منعة من
عشيرتهم
وللرسل والأنبياء علامات مميزة وسمات محددة يتحدث عنها ابن خلدون
حديثاً دقيقاً فيقول
اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصاً خصهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينه وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزاتهم عن النار ويدلونهم على طريق
النجاة
وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التى لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله
بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال له ألا وإنى لا أعلم إلا ما علمنى الله
واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند
بيان حقيقة النبوة
وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحى غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشية أو إغماء في رأى العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب
۱۸۰
لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوى من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له فى صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلى عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقى إليه قال له وقد سئل عن الوحى أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عنى وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثل لى الملك رجلاً فيكلمني فأعى ما يقول ويدركه في أثناء ذلك من الشدة والغط مالا يعبر عنه ففي الحديث و كان مما يعالج من التنزيل شدة
وقالت عائشة كان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم منه وإن جبينه ليتفصد عرقاً
U
ظاهر
وقال تعالى إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلا ولأجل هذه الحالة فى تنزل الوحى كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئى أو تابع من الجن وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من تلك الأحوال ومن يضلل الله فماله من هاد ومن علاماتهم أيضاً أنه يوجد لهم قبل الوحى خلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفى الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر بإزاره ودعى إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشى النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه
الله
عن
ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان
لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال
۱۸۱
إلى أناجي من
لا
تناجون
وانظر لما أخبر النبي خديجة رضي الله عنها بحال الوحى أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلنى بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك
ذهب عنه فقالت إنه ملك وليس بشيطان
ومعناه أنه لا يقرب النساء
وكذلك سألته أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها عن
فقال البياض والخضرة
فقالت إنه الملك
يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر
والشياطين وأمثال ذلك
ومن علاماتهم أيضاً دعاؤهم إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة
L
بذلك وكذلك
والعفاف وقد استدلت خديجة على صدقه أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفى الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي لا يدعوه إلى الإسلام أحضر من وجد ببلده من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال بم يأمركم فقال أبو سفيان بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه فقال
إن يكن ما يقول حقًّا فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين والعفاف الذي أشار إليه هرقل هو العصمة
فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلاً على صحة
۱۸
وما من ريب في أن كل شخص يعمل فكره ويجيل نظره ويتأمل في هذا الحق فإنه لا محالة - إذا أخلص - سينتهى بالاعتراف والإقرار والإيمان أما من أضرب عن ذلك صفحاً واتبع الآباء والأسلاف لمجرد أنهم آباء
وأسلاف فإن مثله كمثل البهيمة التى تسير وراء أصحابها لمجرد أنهم يقودونها
وتتبعهم لأنهم يسيرون أمامها
شاء ومن
6
من الناس أن يؤمن بهذا الحق الذى ليس بعده إلا الباطل فليؤمن به وليتبع الهدى الهادى ومن شاء أن يكفر بالحق ويتبع الباطل معرضاً عن الحق فله ذلك ولكن ليعلم أن الله سبحانه أعد لمن لم يتبع الإيمان ناراً أحاط سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بهم
11
بئس الشراب وساءت مرتفقا
والقرآن دين العقل بهذه المعانى فهو
هاد للعقل ومرشد له وقائد
وهو مبادئ يفهمها العقل في سهولة ويسر
وهو لا يناقض العقل
وعلى العقل أن يلجأ إليه في كل ما أتى به
91
على أن القرآن فى حقيقة الأمر نزل ليقود الإنسانية نحو الكمال
الروحي والإنسان إنسان بالجانب الروحى منه وكلما سيما الإنسان روحيا كان أعلى في معنى الإنسانية
والمعنى الروحى ووسيلة المعنى الروحى لاسبيل إلى تحديدهما من الإنسان نفسه وإنما تحديدهما موكول إلى الله سبحانه ذلك أن السمو الروحي قرب
۱۱ الكهف ۹
۰
نبوته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوة ومن علاماتهم أيضاً أن يكونوا ذوى في حسب قومهم وفى الصحيح ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه وفى رواية أخرى فى ثروة من قومه استدركه الحاكم على الصحيحين وفى مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح
قال كيف هو فيكم
قال أبو سفيان هو فينا ذو حسب
فقال هرقل وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها ومعناه أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه
أفعال
ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته ومن علاماتهم أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهى يعجز البشر عن مثلها فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور
العباد وإنما تقع فى غير محل قدرتهم 4 اهـ
فإذا أصبحت نفوسهم - بتربية الله وعنايته – أهلاً للتلقى فاجأها الوحى وهي سائرة فى الوادى المقدس وفى البقعة المباركة
وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى
٤ مقدمة ابن خلدون تحقيق الدكتور على عبد الواحد
۱۸۳
إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه
فتردی 0
فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إلى أنا الله رب العالمين ٦
ويفاجئها الوحى وهى فى غار حراء
وعندنا في الإسلام الوثيقة الوحيدة فى العالم كله عن كيفية بدء الوحي وهي وثيقة تحمل في طياتها كثيراً من المعانى الخاصة بالنبوة وبصفات الرسول وهي تشير في صراحة ويسر وسهولة إلى كثير من الآيات الدالة على صدق رسول الله وخاتم النبيين ولا مناص من الاستفاضة فى شرحها وتحليلها فهي ذخيرة من العبرة والهداية للمتأملين وهذه الوثيقة رويت بشتى الطرق وبمختلف الأسانيد والقرآن يشير إلى الحالة التى نذكرها بصراحة لا لبس فيها يقول
سبحانه
وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى
صراط مستقیم
V
0 طه ٩ - ١٦
٦ القصص ۹ ۳۰
۷ الشورى ٥٢
١٨٤
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبین کی ۸
أما الوثيقة التي نتحدث عنها فإننا ننقلها هنا عن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى وهو کتاب صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت أول ما بدئ به رسول الله الله من الوحى الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ
قال ما أنا بقارئ
قال فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني
فقال اقرأ
قلت ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد
فقال اقرأ
فقلت ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وريك
الأكرم كم فرجع بها رسول الله ل يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسى
۱۸۵
١٩٥
۸ الشعراء ۱۹۳
فقالت خديجة
كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل
وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى
- ابن عم
خديجة - وكان امرأ قد تنصر
في الجاهلية وكان يكتب الكتاب
العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً
قد عمى فقالت له خديجة يابن عم اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة يا بن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله الله
ما رأى
6
خبر
فقال له ورقة هذا الناموس الذى نزل الله على موسى ياليتني فيها
جذعاً ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك
فقال رسول الله الله أو مخرجيهم
قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى قال ابن شهاب وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال وهو يحدث عن فترة الوحى عن رسول الله فقال في حديثه بينا أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصرى فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني فأنزل الله تعالى ويأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجرك
١٨٦
فحمى الوحى وتتابع
ولنبدأ الآن بتحليل هذه الوثيقة الغنية بالمعاني الزاخرة بالمفاهيم الثرية
بالدلالات
تقول السيدة عائشة رضى الله عنها
أول ما بدئ به رسول الله الا الله من الوحى الرؤيا الصالحة في النوم
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
U
وتعبير السيدة عائشة يفهم منه أن الرؤيا الصالحة من الوحى ومن الأحاديث التي تسند هذا وتؤيده الأحاديث التي ترشد إلى أن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وهذا الذي قالته السيدة عائشة هو أحد الأدلة على النبوة والذي انتهى
إليه عباقرة الفكر وأساطين الآفاق الذهنية الرحبة
فهذا هو الفارابي يتحدث في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة عن الرؤيا فيكتب فصلاً مستقلا عن سبب المنامات ثم يتبع هذا مباشرة بفصل آخر في الوحى ورؤية الملك
وهو يرى أن الرؤيا الصادقة إنما هى اتصال بين الأرض والسماء يتم حينما تكون المحسات الواردة عن طريق الحواس لا تستغرق القوة المتخيلة استغراقاً
تاما
وهذا الذي يتم من هذه الصلة حينما تكون الحواس معطلة بالنوم قد جربه أكثر الخلق إن لم يكن كلهم وجميع الناس إذن عندهم جزء من
۱۸۷
النبوة يرشدهم إلى الاستدلال على صحتها وإمكانها إذا تبصروا فيه وترووا
في أمره وهذه الفكرة تسلمنا إلى التحدث عن رأى الإمام الغزالي إنه يتحدث في كتابه إحياء علوم الدين في الاستدلال على أن الاتصال بين السماء والأرض - في صورة الوحى - أمر ممكن وموجود ويذكر الدليل القاطع
الذي لا يقدر أحد على جحده ويراه أمرين
أحدهما
وهو
الرؤيا الصادقة
الذي سنقتصر على ذكره هنا إن شاء الله تعالى - عجائب
فإنه ينكشف بها الغيب - وإذا جاز ذلك فى النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلن يفارق النوم اليقظة إلا فى ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسات فكم من مستيقظ غائض لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه بيد أن الإمام الغزالي يفصل الأمر بعض التفصيل حينما يعود إلى الموضوع في كتابه المنقذ من الضلال فيشرح الأمر في صورة أوفى نوعاً ما إنه
يقول
وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له إن من الناس من يستيقظ مغشياً عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره وأقام البرهان على استحالته وقال القوى الحساسة من أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها فبأن لا يدركها مع ركودها أولى وأحق وهذا نوع قياس يكذبه
۱۸۸
الوجود والمشاهدة فكما أن للعقل طوراً من أطوار الآدمى يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات والحواس معزولة عنها فالنبوة أيضاً عبارة عن
طور يحصل فيه عين لها نور يظهر فى نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل ولقد حددت السيدة عائشة رضي الله عنها الرؤيا بأنها الصالحة وهذا التحديد له أهمية كبرى فما من شك أن الأمركما يقول الرسول صلوات الله
وسلامه عليه
الرؤيا الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من
النبوة وإن الرؤيا من الله والحلم من الشيطان
وإن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وأنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا
الصالحة
هذه الأحاديث التى نقلناها عن الإمام البخارى رضى الله عنه تساندها أحاديث أخرى وينتهى الأمر بالأحاديث إلى تقسيم ما يراه النائم إلى ثلاثة
أقسام الله قسم من وهو الرؤيا الصادقة وقسم من الشيطان وقسم مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في النوم
وهذه الأقسام تشتمل على جميع ما يراه الإنسان في النوم أما العلم الحديث فقد بين في وضوح تام أثر العوامل الخارجية والعوامل الداخلية الباطنية فى الرؤيا لقد أبان فرويد فى جلاء أثر الميول الكامنة في تشكيل الرؤى
۱۸۹
والأحلام وخاصة لدى الكهول والشبان واستطاع هرفى و مورى أن
يبرهنا على أن
الحلم
6
غالباً ما يكون امتداداً لإحساس سابق أو نتيجة
لإحساس مقارن فقد يحلم الإنسان بحريق في حجرته في الوقت الذي يقع فيه بصيص من الضوء على حدقته في أثناء نومه أو بأنه يضرب على أثر ألم في ظهره وقد حدث مرة أن رأى شخص أن داره تنهار به في الوقت الذي انكسرت فيه إحدى قوائم سريره ولقد وصل الأمر بهرنى أن ظن – بناء على ما سبق – أنه يمكن أن يتصرف الإنسان في أحلامه ويشكلها كما يشاء فمتى ربط صلة بين بعض الإحساسات وذكريات معينة استطاع في نومه
استعادة هذه الذكريات بإثارة الإحساسات المتصلة بها وقديماً حاول الإغريق أن يحتفظوا بأحلامهم أو يثيروها بواسطة بعض
الطقوس الدينية 1
وهذا الذي يذكره العلم الحديث في تفسير الرؤيا حق لا مراء فيه بيد أن فيه قصوراً واضحاً وجوهرياً عن التفسير الديني للرؤيا
فالدين يذكر ما يذكره العلم الحديث ويزيد عليه ما هو بدهى عند كل إنسان من وجود نوع الرؤيا الصادقة هو كشف للغيب وتنبؤ به سواء أكان غيباً مكانياً أم غيباً زمانيا وهذا النوع من الرؤيا الصادقة تعترف به الأديان السماوية الكبرى جميعها فهى تتحدث عن رؤيا يوسف عليه السلام ورؤيا الملك الذي استدعى يوسف عليه السلام من السجن لتأويل رؤياه ويقول القرآن الكريم في شأن رسولنا عليه الصلاة والسلام
۹ عن كتاب فى الفلسفة الإسلامية للدكتور إبراهيم مدكور
۱۹۰
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله
آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون
بید
أن الطريف في موضوع الرؤيا أن لها معبرين أو مؤولين أو مفسرين فإنها فى الأغلب الأعم رمزية وحل هذه الرموز إنما هو فن
قائم بنفسه اشتهر به رجال وكتبت فيه كتب
فمن الرجال مثلاً محمد بن سيرين وعبد الغنى النابلسي وخليل بن
شاهين الظاهرى وكل منهم ألف في هذه المادة كتاباً
الله
ولقد كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يسأل الصحابة رضوان عن رؤياهم ويعبرها لهم ويحدثهم هو أحياناً عن رؤيا له ويعبرها
عليهم
ومن ذلك ما قاله صلوات الله عليه وسلامه فيما رواه مسلم رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأوتينا برطب
من رطب ابن طاب
فأولت الرفعة لنا فى الدنيا والرفعة فى الآخرة وأن ديننا قد طاب وتعبير الرؤيا وتفسيرها فن يشترك فيه الآن علماء التحليل النفسي وهؤلاء
الذين يلهمهم الله التعبير من الصالحين بيد أن علماء التحليل النفسى يقتصرون على تعبيرها في جوانبها الحسية المادية ويكتفون بذلك أما الآخرون فإنهم يعبرونها في جوانبها الغيبية الصادقة ولا يضير الحق أن يسجن علماء التحليل النفسى أنفسهم وأن يسجن العلم الحديث نفسه في سجن المادة والحواس فإن الحق في أمر الرؤيا واضح أبلج والناس من شرقيين وغربيين ومن قدماء ومحدثين يلاحظون وجود الرؤيا الصادقة ووقوعها يجرى فى دائرة تجاربهم
۱۹۱
بعد أن تحدثت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن أول ما بدئ به رسول الله لا الله من الوحى الرؤيا الصالحة في النوم
فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
بعد أن ذكرت السيدة عائشة هذا أخذت تصف حال رسول الله
صلوات الله عليه وسلامه قبل الوحى
لقد
حبب
الله إليه
الخلاء فكان يغادر مكة ويبتعد عن حياتها الصاخبة
التي كان يرى فيها من الضلال الشيء الكثير
يتركها ليخلو بغار حراء فريداً يتأمل ويرجو ويسجد لله متعبداً خاشعاً طالباً رضاه وآملاً في هدايته
كان يتحنث في هذا الغار أى يتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله
ويتزود ليعود من جديد إلى النسك وإلى العبادة لم يكن إذن يطلب مالاً أو ثراء أو لذة مادية أو جاهاً أو مجداً عند الناس إنه يطلب الهداية ويبحث عنها
ولقد وضح عزوفه عن زخارف الحياة وضوحاً بيناً فى قوله وسلوكه وتذكر السيرة النبوية نبأين لهما مغزى واحد عميق
أما النبأ الأول فهو أن
عتبة
بن ربيعة وكان سيداً في قومه قال يوماً
L
وهو جالس في نادى قريش ورسول الله الله جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل
۱۹
من
الله تعالى - وإذا لم يكن قرباً من الله فليس بسمو روحي – والقرب من الله أو بتعبير أدق تقريب الله للإنسان إنما مرجعه هدفاً ووسيلة هو
الله نفسه
وكل من حاول أن يتخذ طريقاً آخر فإنما يجرى وراء سراب
والغاية والوسيلة حددها الله فى كتابه الكريم إنه حددهما بالأسلوب الإلهى نفسه أي أن التعبير عنهما - التعبير نفسه - إنما كان من الله سبحانه ومن فضل الله على المسلمين وعلى اللغة العربية أن كانت وسيلة فهم الإسلام هي التغبير الإلهى بما فيه من دقة كاملة وجمال معجز وكمال غير
منقوص
ومادام الأمر كذلك فليس للعقل إلا التسليم والخشوع والخضوع أو بتعبير
أدق السجود وهو ليس سجوداً تعسفيا أو تحكمياً وإنما هو سجود مصدره الإيمان عند الله ومادام من عند الله فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد ولأنه أحكمت آياته ثم
اليقيني بأن هذا
فصلت
من
من
من لدن حكيم خبير
ذلك نتبين أن الدين هاد للعقل وأن العقل يجب أن يخضع ويسجد
للوحي الإلهي
ونعود من جديد إلى المسألة التى بدأنا بها الحديث نعود من جديد إلى
مسألة القرآن والعقل سيقولون ولكن القرآن يطالب دائماً بالتفكر والتدبر
فاعتبروا يأولى الأبصار ١٢
۱ الحشر
قال افعل
6
فقال بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم کتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم
لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه
ثم مضى رسول الله ل يقرؤها عليه
فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما
يسمع منه
ثم انتهى رسول الله الله إلى السجدة منها فسجد ثم قال
قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم
أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ! ! !
فلما جلس إليهم قالوا
ما وراءك يا أبا الوليد قال
وراثى أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه
قال
هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
قد يقول قائل إن هذا العرض قد عرض على محمد من فرد واحد ولو
١٩٤
أنه عرض عليه الا الله من هيئة تستطيع تنفيذه لقبل هذا القول ينقضه أن عتبة كان مفوضاً من زعماء قريش وينقضه أيضا الخبر الآخر الذي ترويه كتب السيرة وهو
لقد اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث - أخو بني عبد الدار - وأبو البختري بن هشام والأسود ابن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام - عليه لعنة الله - وعبد الله بن أبي أمية والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان وأمية بن خلف اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض
ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه
أن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فأتهم
فجاءهم رسول الله ل سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيا كلمهم فيه بدو وكان عليهم حريصاً يجب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس
إليهم فقالوا له يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقى أمر قبيح إلا جئته فيما بينهم وبينك
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً
وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا
۱۹۵
وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا
وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى
تبرئك منه أو تعذر فيك
فقال لهم رسول الله الله
ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل على كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم
هذا العزوف عن المجد والجاه عند الناس وعن المال والثراء وعن الدنيا كلها تؤيده حياته صلوات الله عليه وسلامه من أولها إلى آخرها ويؤيده القرآن تأييداً حاسماً صريحاً
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شيء
شهید کچی ۱۰
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ١١
١٠ سبأ ٤٧
۱۱ هود ١٥ ١٦
١٩٦
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم
يصلاها مذموماً مدحوراً ۱
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع
الغرور
۱۳
وعن جبير بن نفير رضى الله عنه قال دخلت على عائشة رضى الله عنها فسألتها عن خلق رسول الله ل فقالت القرآن وحقيقة الأمر أن رسول الله له كان في كل ما يأتيه وكل ما يدعه قرآنا مطبقاً ومن هنا كان قول الله سبحانه وتعالى في بيان ذلك في شأنه إن أتبع إلا ما يوحى إلى ١٤ و وإنك لعلى خلق عظيم الله اهير ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين
10
لا يعلمون 0
وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولأن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من
العلم
مالك
من
الله
من ولى ولا واق ١٦
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك كي ١٧
۱ الإسراء ۱۸
۱۳ الحديد ۰
١٤ يونس ١٥
١٥ الجائية ١٨
١٦ الرعد ٣٧
۱۷ هود ۱۱
۱۹۷
كانت تأتيه الدنيا فينفقها وهو جالس أتى إليه صلوات الله وسلامه عليه
--
سبعون ألف درهم فوضعها كما يروى هارون بن رباب – على حصير ثم
قام إليها يقسمها فما سائلاً رد حتى فرغ منها
وبينما هو عائد من حنين تكاثرت الأعراب عليه يسألونه وخطفوا رداءه فوقف رسول الله الله وقال أعطوني ردائى لو كان لي عدد هذه العضاة شجر عظيم له شوك نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدونى بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً ويقول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه مالي وللدنيا
ويقول عرضت على الدنيا فأبيتها
وقال صلوات الله وسلامه عليه
خيرت بين أن أكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً فاخترت أن أكون عبداً رسولاً
ولقد كان رسول الله - علي - كما يروى عن أنس رضي الله عنه – أحب شخص إلى الأنصار والمهاجرين ولكنهم كانوا إذا رأوه لا يقومون له لما يعرفون من كراهيته له أى القيام له ويقول ل لأصحابه
إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف
تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء
ويقول لأصحابه وهم جالسون حوله
إن مما أخاف عليكم من بعدى ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا
وزينتها
إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما كان يتطلع إلى الدنيا في مختلف
۱۹۸
جوانبها وهو يقرأ قوله تعالى
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله
عنده حسن المئاب
۱۸
عزوفه عن الدنيا قضية هي من البداهة بحيث تفجأ في النظرة الأولى كل دارس السيرته له
وحينما رفعه الله إليه لم يترك الضياع والعمارات والبساتين ولم يترك الآلاف المؤلفة من الذهب والفضة وإنما ترك وراءه مبادئ الحق التي أوحاها الله إليه والتى مكث طوال حياته يجاهد بقوله وعمله في سبيل إقامتها ونشرها ويكافح كفاحاً لا يهدأ ولا يفتر في سبيل تدعيمها وترك وراءه رجالاً يؤمنون بهذه المبادئ وبأنهم مكلفون – باعتبارهم من
المسلمين – بنشرها وإذاعتها بين أرجاء العالم أجمع وترك عبيراً يتضوع رحمة ويشع نوراً مهما طالت القرون وتطاولت
الأزمنة
إنه ع هو تلك الصورة الحية للتطبيق القرآني فكان
عازفاً عن الدنيا ما فى ذلك من شك وكان عازفاً عن الدنيا لسعيه وراء
الآخرة وعزمه المصمم على أن يكون فيما يأتي وفيما يدع مرضيا لله تعالى
كان كذلك كان صادقاً حتماً ومن
6
وعزوفه عن الدنيا من أقوى الأدلة على صدقه وعلى إخلاصه صلوات الله
وسلامه عليه
۱۸ آل عمران ١٤
۱۹۹
D
أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه خديجة رضي الله عنها بما
حدث له وقال
لقد خشيت على نفسى فقالت السيدة الكريمة
كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل
وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق لم تطلب السيدة خديجة رضوان الله عليها دليلاً ولا إثباتاً ولا برهاناً ولا معجزة وإنما استدلت بحالته وبحياته وأخلاقه على صدقه صلوات الله وسلامه عليه
وإذا كان علماء الكلام يكادون يقصرون كلامهم في إثبات النبوة على المعجزة فإن آفاقاً من التفكير أوسع وإشراقات من الإلهام أسمى تتجه بالاستدلال إلى وسائل أخرى مضافة إلى المعجزة
يقول الإمام الغزالي
فإن وقع لك الشك فى شخص معين أنه نبي أم لا فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو التواتر والتسامع فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون - رحمه الله فقيهاً وكون جالنوس طبيباً معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير بل بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبها
الشافعي
۰۰
وتصانيفها فيحصل لك علم ضرورى بحالها
فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه ل على أعلى درجات النبوة وأعضد ذلك بتجربة ما قاله فى العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق فى قوله من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم
كيف صدق فى قوله من أعان ظالماً سلطه الله عليه وكيف صدق فى قوله من أصبح وهمومه هم واحد هو التقوى كفاه الله تعالى هموم الدنيا والآخرة فإذا جربت ذلك في ألف وألفين حصل لك علم ضرورى لاتتمارى
فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا ثعباناً وشق القمر فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ربما ظننت أنه سحر وتخييل وأنه من الله إضلال فإنه يضل من يشاء ويهدى من يشاء الله
وترد عليك أسئلة المعجزات فإن كان مستنداً إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الأشكال والشبهة
عليها
فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك حتى يحصل لك علم ضرورى لا يمكنك ذكر مستنده على التعين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من
حيث لا يدرى ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد
۰۱
فهذا هو الإيمان القوى العلمى
وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ولا يوجد إلا في طريق
الصوفية
وينحو الإمام الغزالى فى اتجاهه هذا إلى أن إثبات النبوة له - فضلاً عن
المعجزة - طريقان
أحدهما حالة الشخص
ثانيها دعوته
وإذا كان الإمام الغزالى ينحو هذا النحو فإنما هو فيه متبع للقرآن الكريم فقد تحدث القرآن الكريم عن المعجزة الكبرى وهى القرآن نفسه وتحدى
العرب به
لقد تحداهم به في عنف وتحداهم متدرجاً بهم إذ طلب إليهم أولاً
أن يأتوا بمثله فقال تعالى
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً
14
فلما عجزوا طلب إليهم أن يأتوا بعشر سور مثله
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم
من دون الله
إن كنتم صادقين
۰
فلما عجزوا طلب إليهم أن يأتوا بسورة من مثله
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا
۱۹ الإسراء ۸۸
۰ هود ۱۳
۰
VE
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ١٣ وينعى على المشركين التقليد ويتهكم بهم في اتباعهم آباءهم فيتساءل أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون وكثيراً ما نجد الآيات تختم بـ أفلا تعقلون أفلا تتفكرون أفلا تبصرون وكل ذلك يدل على أن القرآن يدفع الناس إلى استعمال
العقل
والواقع أن القرآن لا يستشير الإنسان في أية قضية من القضايا التي جاء بها الوحى ولا يحتكم الوحى إلى الإنسان باعتباره حكماً في أي مبدأ من مبادئه ولا يطلب منه مشورة فى أية قاعدة من القواعد التي شرعها بل هذه الأوهام لا تدور بخلد المتدين قط
ذلك أن الوحى نزل على أنه رسالة السماء النهائية إلى العالم ونزل يبلغ أن هذه الرسالة صدق كلها حق جميعها ليس فيها مبدأ مشكوك فيه ولا قضية تحتمل الصدق والكذب وليس فيها جملة زائدة ولا كلمة ليست في موضعها ولاحرف كان يحسن ألا يوجد كلا إنها الحق الخالص من اتبعها فقد اهتدى ومن حاد عنها فقد انحرف ومن ابتغى الهدى فى غيرها أضله الله ومن تركها من جبار قصمه الله لأنها صراط الله المستقيم ونوره
اللألاء
وكل ما ذكره من التفكير والنظر والتدبر إنما أراد به الاعتبار وأراد أن يقول تفكروا لتروا أن ذلك هو الحق انظروا لتعلموا أن ذلك هو الخير أما
۱۳ في آية ۳۷
١٤ البقرة ۱۷۰
شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار
التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ٢١
أما
عن حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن القرآن تحدث عنها من
زوايا مختلفة
لقد تحدث عنها فى صراحة لا لبس فيها وتحدث عنها في إشارات ذات مغزى وتركنا فضلاً عن ذلك نستنتج من الأخبار الكثيرة التي قصها عنه جوانب لا تعد من السمو الأخلاقى الكريم
لقد تجرد صلوات الله وسلامه عليه من كل مطمح دنيوى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على
كل شيء شهید ولقد لبث فيهم من قبل أربعين عاماً فلم يحدثهم بنبوة ولا برسالة قل لو شاء الله ماتلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من
۳
قبله أفلا تعقلون ويطلب إليهم القرآن الكريم أن يتفكروا فى أمر صاحبهم هذا الذي نشأ بينهم وترعرع على مرأى ومسمع منهم قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا
ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد ويشرح الزمخشرى هذه الآية شرحاً لطيفاً فيقول ما ملخصه
۱ البقرة ٢٣ ٢٤
٢٢ سبأ ٤٧
٢٣ يونس ١٦
٢٤ سبأ ٤٦
٢٤
۰۳
إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا لوجه الله خالصاً اثنين اثنين وواحداً واحداً ثم تتفكروا في أمر محمد
أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين لا يميل بهما اتباع الهوى ولا ينبض لهما عرق عصبية حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسننه وكذلك الفرد يفكر فى نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابر ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجارى
أحوالهم
والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر
ويمنع من الروية ومع ذلك يقل الإنصاف ويكثر الاعتساف وقد علمتهم أن محمداً لله ما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلاً وأصلهم رأياً وأصدقهم قولاً وأنزههم نفساً فكان مظنة لأن تظنوا
به
الخير وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية ويصف القرآن الكريم جانباً من جوانب حياته ويصف دعوته أيضاً
فيقول
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا
المبطلون بل هو آيات
بينات
إلا الظالمون ٢٥
٢٥ العنكبوت ٤٨ ٤٩
٢٠٤
وإذا وقفنا قليلاً عند هاتين الآيتين فإننا نجد أن الآية الأولى تريد أن تقول إنه حتى لو فرضنا أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه كان يقرأ ويكتب وكان يتلو من قبله كتاباً أو كان يخطه بيمينه لاقتصر الارتياب على المبطلين فحسب ذلك أن معانى الكتاب ومفاهيم الدعوة التى أتى بها والقواعد والمبادئ التي يبشر بها كل ذلك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم لا ينفيها ولا يجحدها إلا الظالمون والظالمون فى كل آونة يجحدون الحق وينكرون
المنطق السليم
ويتوج
القرآن الكريم تحدثه عن الرسول صلوات الله عليه بهذه الكلمة العميقة هو وإنك لعلى خلق عظيم
إن الدعوة الإسلامية آيات بينات فى منطق الحق وفى منطق العقول المستنيرة وها هوذا أكثم بن صيفى أحد حكماء العرب ينهج بفطرته السليمة هذا النهج من الاستدلال على صدق الرسول بدعوته يذكر
الألوسي أنه لما ظهر النبي ل بمكة ودعا إلى الإسلام بعث أكثم بن صيفى
ابنه حبيشاً فأتاه بخبره فجمع بني تميم وقال لهم – فيما قال إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتانى بخيره وكتابه يأمر بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله تعالى وخلع الأوثان وترك الحلف بالنيران وقد حلف عرف ذوو الرأى منكم أن الفضل فيم يدعو إليه وأن الرأى ترك ما ينهى عنه ثم يقول هذه الكلمة الرائعة
٢٠٥
إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن ديناً لكان في أخلاق الناس
وقد كان الاستدلال بصدق الدعوة وكريم أخلاق الداعية على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه هو المنحى الذي سار فيه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه حينما سأله النجاشي عن أمر دينه وذلك أنه لما سافر المسلمون بدينهم إلى الحبشة مهاجرين إليها بسبب ما نالهم من تعذيب أليم أرسل القرشيون وفداً إلى النجاشى فيه عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص لرد المهاجرين إلى مكة ليعذبوهم من جديد ولما التقى الوفد بالنجاشي قال له عمرو بن العاص إنه قد لجأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى عيناً أى أبصر بهم وأعلم بما عابوا عليهم فلما سمع النجاشي كلامهم رأى أن من الحكمة ألا يسلم إليهم المهاجرين دون أن يسمع كلامهم وحجتهم فأرسل إلى أصحاب رسول الله الله فدعاهم فلما جاءوا قال لهم
بهم
أحد
ما هذا الدين الذى قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين
من
هذه الملل
فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له
أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسىء الجوار ويأكل القوى منا الضعيف
٢٠٦
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ماكنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان
أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف
عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة
وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة
والصيام وعدد عليه أمور الإسلام
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى وأن نستحل ماكنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ولما قرأ عليه صدراً من سورة مريم بكى النجاشي ثم قال إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ثم التفت إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص فقال لها انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما
لقد علم النجاشي فور سماعه المبادئ الإسلامية
أن هذه المبادئ حق وأنها آيات بينات لا يخفى صدقها على أصحاب الفطر السليمة وعلم أن ما أتى به محمد صلوات الله وسلامه عليه إنما يصدر من
۰۷
المنبع الذي كانت تصدر عنه رسالة عيسى عليه السلام وبعد فإن سيرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه والمبادئ الإسلامية من أهم الوسائل التى ينبغى أن يتجه إليها المبشرون بالدين الإسلامي لنشرها
وبيانها
وهما أيضاً من أهم الموضوعات التي يجب أن يتجه إليها علماء الكلام الإسلامي ليكون علم الكلام إسلاميا حقا
Λ
۱ - ذهبت السيدة خديجة رضى الله عنها مع الرسول صلوات الله عليه
وسلامه إلى ورقة بن نوفل وقالت له
يا بن عمى اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة
يا بن أخي ماذا ترى
فأخبره رسول الله الله خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي
أنزله الله على موسى وتمنى ورقة أن لو كان شاباً فتيًّا - لينصر الرسول صلوات الله
عليه نصراً مؤزراً
حينما
وسلامه
كان ورقة على علم بحياة الرسول ع في طهرها ونقائها ولكنه
سمع أول آية من القرآن
اقرأ باسم ربك الذي خلق لم يملك أن آمن بأن هذا
الذي
يتلى - إنما هو وحى من السماء إن اقرأ باسم ربك تنص على أن القراءة لا تكون باسم وزير
۰۸
السلبي - قد نزلت فيه - فيما بعد آيات صريحة الدلالة واضحة المعنى يقول الله
تعالى
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق
وأما ما ذبح على النصب فلم يرد به وجه الله تعالى فهو أيضاً فسق لأنه لم يذكر اسم الله عليه فكل مالم يذكر اسم الله عليه إذن يجب الامتناع
عنه
أما الإقدام عليه فإنه فسق يتفاوت في درجته من الرجس زيادة
ونقصاناً
وهكذا يضعنا الإسلام - منذ اقرأ باسم ربك أى منذ اللحظة الأولى من تاريخه - على قمة الإخلاص وعلى قمة الإحسان وفى خضم من التقوى وعلى السنام من الصدق
فما دامت الحياة كلها لله فليس هناك مجال للكذب والرياء والنفاق
والخديعة وإرادة غير الله بالأعمال
اقرأ والتربية
ويقول الله تعالى فى هذه الآية الأولى اقرأ باسم ربك ولم يقل اقرأ باسم الله ذلك لأنه أراد سبحانه منذ البدء أن يشير إلى أن هذا الدستور الإلهي النازل من السماء إنما هو تربية إنه ينزل باسم المربى ومادامت هذه التربية إلهية المصدر فهي إذن محكمة الإحكام كله كاملة في
جميع جوانبها وقد قال الله تعالى فيما بعد عن هذا الدستور
۱۰
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
وقال الله تعالى
٢٦
و لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
۷
حكيم
والتربية التامة تشتمل على جانب العقيدة وجانب الأخلاق وجانب ولقد نزل الدستور الإلهى على التوالى مبيناً لكل هذه الجوانب
التشريع
مفصلاً لها
ولكن الله سبحانه وتعالى بين فى هذه الآية التي بين أيدينا أن هذه التربية يجب أن تتقبل دون تشكك أو تردد لأنها من الذي خلق ذلك أن الذي خلق فكون كل خلية فى الجسم ونسقها مع غيرها لتؤدى ويؤدى المجمع وظائف معينة هذا الذي فصل ذلك محيط علماً بالإنسان المربى فهذه التربية ليست من كائن لا صلة له بالمخلوق وإنما هي تربية الخالق نفسه الذي أحاط بدقائق الخلق وعرف ما تحتاج إليه مخلوقاته وعرف الضار والنافع وعرف الخير والشر فتربيته إذن قيادة على علم وهداية على بصيرة وهى من أجل ذلك كله تربية خالدة لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة لأن الإنسان هو الإنسان أينما وجد وأينما كان
لم يتبدل خلقاً بخلق ولا تركيباً بتركيب
٢٦ هود ١
۷ فصلت ٤٢
۱۱
اقرأ والأخلاق
حينما سمع ورقة هذه الكلمة الأولى لم يملك أن آمن
وماذا يمكن أن تقول لشخص تجرد إلى الله ويدعوك أن تتجرد إليه سبحانه شخص لم يطلب مالاً ولا جاهاً ولا زعامة ولا ملكاً إنه يريد أن تقرأ الإنسانية كلها باسم ربها وأن تقوم فى كيانها كله على أساس من تربية
ربها ماذا يمكن أن تقول له إذا كان يبشر بذلك
أيمكن أن تقول له إنك كذاب فما الصدق إذن أيمكن أن تقول له إنك منافق فأين هو الإخلاص
اقرأ والعلم
- إن هذه الكلمة الأولى قادت ورقة فور سماعها إلى الإيمان ونعود إليها من جديد ونرى إشارتها إلى معان أجملناها فيما سبق نريد أن نفصل فيما بعد بعض التفصيل
كانت اقرأ دعوة آمرة موجهة إلى الثقافة إلى العلم إلى الفكر إلى البحث المستفيض فى السماء وفى الأرض وفى الجبال والبحار وفي كل ما خلق الله تعالى من كائنات صغرت أم كبرت
ولقد اتسم الإسلام منذ هذه الكلمة بالطابع العلمي كسمة تجاور السمات الأخرى التي سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله تعالى
وقل رب زدنی علما
۱
غير
إذا رأيتم غير ذلك فإنما العيب في بصركم أو فى بصيرتكم إذا رأيتم ذلك فإن الفساد في عقولكم وفى تفكيركم وإذا رأيتم غير ذلك فاعلموا أن
وأن
فطرتكم فسدت لانحرافكم وأن قلوبكم ران عليها الإثم فضلت عقولكم قد صدئت فأصبحت لا ترى الحق حقاً ولا الخير خيراً وأصبحت من الضلال بحيث ترى الخير شرا والشر خيراً وأصبح أصحابها كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كل ذلك لانحرافكم عن الصراط المستقيم إن الله - فى عظمته وجلاله سبحانه - لا يلقى برسالته ليبحثها الإنسان ويبدى فيها رأيه نفياً أو إثباتاً سلباً أو إيجاباً كلا بل كل من توهم ذلك فإنه لا يقدر الله حق قدره وتعالى الله عن ذلك علوا كبيراً وإنما ألقاها سبحانه لتتبع ولتتبع في خضوع وسجود ولتتبع دون حرج يحيك في الصدر أوشك يجول في النفس
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
10
حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما وكل من وجد فى نفسه حرجاً من قضايا الدين وكل من لم يسلم تسليما كاملاً مطلقا تاما كل من كان كذلك فإنه يحسن به أن يرجع إلى إيمانه ليصححه وليتوب إلى الله توبة نصوحا وباب الله مفتوح للتائبين آناء الليل وأطراف النهار وفى كل لحظة
كان سلفنا الصالح يتزعون هذه النزعة نزعة الخضوع المطلق لما جاء به الرسول لقد كانوا يسجدون للنص يسجدون له بجوارحهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم لقد كانوا يخضعون عقولهم للنص ويجعلونه القائد
١٥ النساء آية ٦٥
تلك إحدى شعارات المسلم ومن استوى يوماه فهو مغبون ومن لم يكن
إلى زيادة فهو حتما إلى نقصان وهل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإن مداد العلماء المتقين ليوزن في ميزان الخير والحسنات بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء إن الله سبحانه وتعالى قدامتن علينا في آيات كثيرة من القرآن بأنه سخر لنا الليل والنهار والشمس والقمر وسخر لنا الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء والامتنان الإلهى بهذا معناه دعوة صريحة للمسلمين إلى أن يستجيبوا للتوجيه الإلهى فيسخروا كل ذلك بالعلم والمعرفة ويمتلكوا الكون مستعملين الملاحظة والتجربة فى نفع الإنسانية ولكن العلم والمعرفة في الإسلام لا يقتصران على الجانب المادى لأن النظرة الحديثة الإسلامية إلى العلم أوسع بكثير وأعمق من النظرة الحديثة الأوربية التي تقصر العلم على
الجانب المادى
إن العلم المادى علم تسخير الكون يحث عليه الإسلام ولكنه لا يقف
عنده فغاية المسلم تتمثل في قوله تعالى
وأن إلى ربك المنتهى
۸
وإن اقرأ باسم ربك توجهنا مباشرة نحو هذا المنتهى وإذا كنا - كمسلمين - مدعوين إلى تسخير الكون مأمورين بتسخيره في سبيل الله وبتذليله رجاء مرضاة الله فنحن بهذا متجهون إلى الله غير ناظرين إلى
هذا التسخير للكون من حيث هو تسخير وإنما إلى المكون
٢٨ النجم ٤٢
۱۳
وبذلك يكون التسخير نفسه عبادة فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
تعالى
فالسيطرة على الطبيعة إذن فى الوضع الإسلامي الصحيح هجرة إلى الله
وإنها قراءة باسمه فهي داخلة في نطاق اقرأ باسم ربك وإذا قرأت باسم ربك فأنت عابد في أعمالك وفي أقوالك والعلم في الإسلام على الوضع الصحيح إذن عبادة حتى فى الجانب المادى منه ه - ولا يتأتى ولن يتأتى أن يقف الإسلام عقبة في سبيل العلم وأن يتعارض الإسلام مع العلم الحديث
إن مشكلة التعارض بين الدين والعلم إنما نشأت في أوربا بعيدة عن الجو الإسلامي إنها تصور نزاعاً في بيئة بعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية التي حثت الإنسانية على التعليم والتى ولد المنهج العلمي الذي يسمونه المنهج الحديث بين ربوعها والتى أنشأت - على أساس من هذا المنهج - حضارة ضخمة لا نزال نكشف كل يوم الكثير من أنحائها العميقة
وما من شك في أن الحضارة الإسلامية هى التي قدمت للحضارة الغربية الحديثة منهجها وقدمت لها الكثير من الحقائق العلمية في كثير من المجالات
المختلفة
إن المنهج العلمي الحديث في أوربا يرجع إلى روجر بيكون فهو الذي أذاعه ونشره في أرجاء أوربا ويتحدث الأستاذ بريفولت فى كتابه بناء الإنسانية فيقول عن
روجر بيكون إنه درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدارس أكسفورد على خلفاء العرب في الأندلس وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده – الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة والمناقشات التي دارت حول واضعى المنهج التجريبي هي طرف من التجريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية وقد كان منهج العرب التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشاراً واسعاً وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوربا ويقول بريفولت أيضاً لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة
العربية على العالم الحديث ولكن ثماره كانت بطيئة النضج إن العبقرية التى ولدتها ثقافة العرب فى أسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم وحده هو الذى أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية اهـ وإذا كان الإسلام هو الذى أنشأ هذا المنهج وهذا العلم فمن الطبيعي ألا يتعارض معه ٦ - على أن مسألة التعارض بين الدين والعلم إنما هي مسألة وهمية إذا نظرنا إلى حقيقة الأمر وذلك أن العلم دائرته المادة والمحس أما الدين فدائرته ماوراء الطبيعة والخير والفضيلة فهما لا يلتقيان فى الموضوع فكيف يتعارضان
٢١٥
إن ملاحدة العصر الحاضر يتوهمون مشاكل لا أساس لها ثم يضعونها
على بساط البحث ويتناقشون فيها ويتجادلون وعلى مر الزمن يضفى الإلف عليها وهى وهمية صورة من ظلال الحقائق فيظن بعض الناس أنها مشاكل جديرة بالبحث والنظر
من ذلك مسألة التعارض بين العلم والدين
مع
أنه لا اتحاد بين
موضوعيهما
- V
العلم في الإسلام أوسع دائرة
وإذا اقتصرت أوربا على العلم المادى فإن الإسلام لا يقف عند ذلك وإنما يوجه الإنسانية إلى مصدر آخر للعلم والمعرفة ألا وهو القلب
أو هو هو الروح والبصيرة
إن الإسلام يوجه الإنسانية إلى المعرفة الإشراقية
"
أو الكشفية
۹
أو الإلهامية ويجمع الإسلام الاتجاه العلمى الحديث إلى الاتجاه البصري في قوله إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً " فالسمع والبصر هما أساس العلم المادى علم التجربة والملاحظة أما القلب فإنه أساس العلم الإلهامي إن الله سبحانه وتعالى يوجه المسلم إلى الملاحظة والتجربة ويوجهه أيضا إلى الاستشراف للهداية والنور القلبى عن طريق الخلق الكريم والتقوى والإخلاص وحب الإنسانية والمعاونة
في الخير
٢١٦
۹ الإسراء ٣٦
- وإذا كان الإسلام أوسع نظرة فى الجانب العلمي عن الحضارة الحديثة وأدق وأشمل فإنه يختلف معها اختلافاً جذرياً حاسماً في مسألة الإرادات والنوايا وفى أمر الأسباب والبواعث وفى اتجاه الغايات
والأهداف
إن الحضارة الحديثة تقول العلم لا صلة له بالأخلاق أو تقول العلم
لا أخلاقي
والعلم
في نظرها لا شأن له بالخير والشر ولكن الإسلام يجعل أسس العلم متسمة بالخير ويجعل غايته منغمسة
في الخير ويجعل من العلم قربى إلى الله ويجعل منه عبادة لله ومن هنا كانت حضارة الإسلام حضارة رحمة وهداية لا حضارة تدمير وتخريب
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
تلك حقيقة في الدين الإسلامي سواء نظرنا إلى أساسه أو نظرنا إلى غايته أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه رحمة مهداة
وبعد فإننا نختم هذه الدراسة بذكر الحديث الذي أتى به الإمام البخاري عن الكيفية التي استدل بها هرقل على صدق الرسول وهي كيفية تدل على سعة أفقه وعلى رحابة صدره وهى كيفية يستدل بها وعلى غرارها كل من آتاه الله أفقاً رحباً وذكاء موفقاً وبصيرة رشيدة حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري
۱۷
قال أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله ل هادن فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال
أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم فقال أبوسفيان فقلت أنا أقربهم نسباً
أنه نبی
فقال ادنوه منى وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل فإنى كذبني فكذبوه فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم
قلت هو فينا ذو نسب
قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله
قلت لا
قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم
قال أيزيدون أم ينقصون
قلت بل يزيدون
قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه
قلت لا
قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل يقول ما قال
۱۸
فيها
قلت لا
قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل
قال ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة
قال فهل قاتلتموه قلت نعم
قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال
منا وننال منه
قال ماذا يأمركم
قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول
آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها
وسألتك
هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت لوكان أحد قال هذا القول قبله قلت رجل يأتسى بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا قلت فلو كان من
آبائه
من
ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم
فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه
وهم أتباع الرسل
۱۹
وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم
وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه
فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب
وسألتك
هل يغدر
فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر
وسألتك بم يأمركم
فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة
الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف
فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قومى هاتين
وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه
۰
خاتمة
الإسلام والحضارة الحديثة
وموضوع الدين والحضارة ۱ يستدعينى أن أقول في المبدأ إنني مها تحدثت عن الحضارة بإجلال أو بتحقير ومهما تكلمت عنها بنقد أو تحليل فإن الدين على وجه العموم لا يعارض قط التقدم العلمي لإسعاد الإنسانية لا يعارض التقدم الصناعي لإسعاد الإنسانية لا يعارض في الناحية العلمية على أية صورة كانت مادام الأمر أمر إسعاد الإنسانية وإذا كانت هذه قضية مفروغاً منها فإننى أتجه إذن لتصوير نشأة الحضارة
نشأة الحضارة
نشأت فى فترة معينة من التاريخ وفى زمن محدد نعلم ابتداءه
الحضارة
ونعلم العوامل التي أنشأتها والتى كانت الأساس في هذه النشأة وكلنا يعلم أنه فى فترة من الفترات كانت الكنيسة مسيطرة على العالم الأوربى سيطرة تامة ما كان هناك شيء يفعل أو شيء ينتهي فيه الأمر ولا شيء يقام أو يهدم وما كان إنسان يقدم على أمر وما كان إنسان يحجم
۱ هذه الخاتمة هي محاضرة ألقيت فى قاعة الشيخ محمد عبده شفهيا أبقينا أسلوبها الشفهي دون
تغيير فيها
۱
عن أمر إلا باستئذان الكنيسة وباستئذان رجال الدين ولكن الكنيسة ورجال الدين تعسفوا في استعمال سلطتهم حتى لقد أنشأوا محاكم التفتيش وقد كتب الأوربيون والمسيحيون عن محاكم التفتيش كثيراً وصوروها في أبشع مظاهرها وفى أسوأ صورها كتب الكاثوليك والبروتستانت وكتب الفرنسيون وكتب الإنجليز كتب كل هؤلاء - وهم رجال المسيحية – فيما يتعلق بهذا الأمر
ولقد وضحوا وبينوا أن الكبت الذى كان يغمر أوربا في ذلك العصر ولد
الانفجار واتخذ الانفجار اتجاهاً معيناً اتخذ الاتجاه الإنساني
وأخذ قادة الحضارة - مبتدئين من هذا الاتجاه الإنساني – يقررون أن الإنسان له كيانه له شخصيته له ذاتيته له حدوده له تقديراته له مكانته التي يجب أن يحتلها يجب أن يحتل الإنسان المكانة التي تليق به
ومن هنا كانت كلمة الإنسانية التى تطلق - كرمز مميز - على هذه الحضارة ومن هنا كان تمجيد الإنسانية
ولكن حينما بدءوا يتحدثون عن الإنسان فى ثورة عواطفهم القوية وفى
-- عند
غمرة نفورهم الشديد من رجال الدين كانت كلمة الإنسانية توحى قادتهم - بانفصال الإنسانية عن الإلهية أو انفصال الإنسانية عن الكنيسة
أو انفصال الإنسان عن الدين أو بالتعبير الحديث انفصال الدين عن الدولة
يجب أن يكون للإنسان مكانته يجب أن يكون له موقفه أمام الدين وتجاه
الألوهية تجاه النص المقدس تجاه الكنيسة ويجب أن يخضع كل ذلك
للإنسان
هو
الحكم المهيمن وكانوا يعرفون أن إدخال شخصيتهم في النص إنما انحراف يعظم أو يقل بحسب مدى التدخل البشرى في النص وكانوا يعرفون أن الوحى إنما جاء هاديا للعقل وقائداً له في الأمور التي لا يتأتى للعقل أن يلج ميادينها أو يقتحم حماها أو يدلى فيها برأى يتفق عليه الناس وهذه الميادين الدين والدين ليس رأياً بشرياً إنه تنزيل من حكيم حميد وكل موقف
هی
من الشخصية البشرية تجاه النص سوى موقف السجود له إنما هو موقف لتبديل الدين من أن يكون إلهيا إلى أن يكون بشريا ولو كان يستقيم الأمر على ذلك لما كان هناك من حاجة إلى الدين
يروى أبو داود والدارقطنى عن سيدنا على رضى الله عنه قال لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه لقد
رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفيه إن الدين ليس رأياً وليس بالرأى وانظر إلى الحديث التالى إنه معبر أقوى ما يكون التعبير دقيق في مغزاه دقة بالغة
عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال قال النبي الله إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم إنى أسلمت نفسى إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهرى إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت في ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ماتتكلم به فرددتها على النبي فلما بلغت آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت ورسولك قال لا ونبيك الذي أرسلت رواه الستة
٢٤
فالإنسان له عقله له منطقه ويجب أن يسير بهذا العقل وبهذا التفكير
وبهذا المنطق
وتصوروا جماعة من الجماعات كانت السيوف مصلتة عليها من جميع النواحي ثم انفجرت هذه الجماعة فقضت على السلاح الموجه إلى نحرها ماذا يكون تفكيرها بالنسبة لهذا السلاح وبالنسبة لحامليه بالنسبة لهذا المصدر الذي كان للكبت إن تفكيرها فى أهدأ حالاته يكون معارضاً منتقداً ومتحمساً في معارضته وفى انتقاده ولكن يشعر أحياناً بشعور السفاك النهم
لإسالة الدماء !
هكذا كان الأمر فى بدء الحضارة الحديثة لقد أراد زعماؤها أن يتخلصوا من الدين ومن رجال الدين لتحتل الإنسانية مكانتها دون معارضة لها أو كبت أو تنكيل وحينما أقول الإنسانية يختلط الأمر نوعاً ما إذ إن معنى هذه الكلمة اكتسب من الآلام التي نزلت بالإنسانية - في كثير من فترات التاريخ – نوعاً من التقديس وكثيراً من التمجيد والعطف ولذلك فإنى دون إخلال بالمعنى سأستعمل كلمة البشرية وإذا استعملت كلمة البشرية كان المعنى الذي أريده أدق فيما يتعلق بصلة الثورة الأوربية أو الحضارة الأوربية في بدء نشأتها وفى ثورتها ضد رجال الكنيسة
كان هناك إذن الدين من جانب وكانت هناك البشرية من جانب آخر وأرادت هذه البشرية أن تقف في وجه الدين وأن تستقل بنفسها في وضع وقواعدها ونظمها وأن تنتهى فى النهاية إلى أن تكون مستقلة كل الاستقلال عن جميع النواحي التي تتعلق بهذا الجانب الروحى
أصولها
۳
وإذا كانت البيئة أوربية فالضمير أوربى وإذا كانت البيئة شرقية فالضمير
شرق
ومن الواضح أن
6
ضمير
الأوربيين لا يؤنبهم قط على السفك الذي
يستبيحونه في كل قطر يسيطرون عليه إنه يبيح إذن – لو اتخذناه مقياساً -
السفك والتنكيل والاستعمار
ليس هناك إذن شيء ثابت مستقر معصوم اسمه الضمير
وليس هناك قضايا يتفق عليها العقل فيما وراء الطبيعة
وتخبط العقل وتخبط الضمير
فما المخرج إذن !
أسطورة التطور الإنساني
رأى رجال الحضارة أن يلجئوا إلى شيء يبعد عنهم وصمة العجز
فلجئوا إلى فكرة التطور الإنسان متطور الأفكار متطورة وإذن المسألة
ليست مسألة خطأ
صريح
6
وإنما مسألة تطور فيما يتعلق بالأفكار وفيما
هی
يتعلق بالمعانى ومادام هناك قانون للتطور إذن لاعيب عليهم إذا أخطئوا أو تخبطوا في كل مرحلة من مراحلهم وفى كل فترة من فتراتهم ونادى
الحضاريون البشريون بفصل الدين عن الدولة وحيتما فصل الدين عن الدولة رأت الدولة نفسها تتخبط حينما تستند إلى العقل فى نظمها الدينية والاجتماعية وحينما تستند إلى الضمير في نظمها الأخلاقية فاخترعت أسطورة التطور الإنساني فيما يتعلق بالفكر وكانت كلمة التطور هي الطلسم السحرى الذي يحاولون التعلل به
٢٢٥
لإخفاء عجز العقل والضمير الإنسانى لإخفاء هذا العجز المطلق الذي يجعل الإنسان متخبطاً بعقله فى أمور ما وراء الطبيعة ومتخبطاً بضميره في أمور الأخلاق لقد أخفوا كل ذلك بفكرة التطور
ليس في الأحكام القاطعة تطور
ولكن إذا نظرنا إلى فكرة التطور فى الدين والأخلاق فما معناها حقيقة ما معنى فكرة التطور إذا أدخلناها فى الفكر على وجه العموم إن فكرة التطور ما هي إلا عودة إلى السوفسطائية القديمة إنها عودة إلى آراء اليونان القدماء - السوفسطائية منها - لأن معنى التطور في الفكر أنه ليس هناك قضية ثابتة - وإنما جميع القضايا الفكرية متطورة وهذا التطور لا ينتهى إلى حد وإذن هناك النسبية باستمرار هناك النسبية المطلقة هناك إذن الخطأ المستمر وهذا الخطأ لا علاج له ما دمنا نقول بالتطور لأنه ما دمنا نقول بالنسبية وبالتطور فليس هناك الثبات وإذن لا يكون هناك ثبات في الدين ولا يكون هناك ثبات في الأخلاق
فإذا أدخلنا فكرتهم بالتطور في الدين فقد قضينا على الدين وإذا أدخلنا فكرة التطور فى الأخلاق فقد قضينا على الأخلاق
هذه الفكرة التي أتحدث عنها فكرة إدخال التطور في الدين فكرة سمعناها من الكثيرين لقد ألفنا كلمة التطور وألفنا لذلك كلمة إدخال التطور في الدين إلى درجة أنه يخيل إلى وأنا أتحدث فيها أن الأمر غريب على بعض الأذهان التي تتساءل لم لا يكون في الدين تطور
ولكن إذا فهمت فكرة التطور على حقيقها وإذا فهمت فكرة الدين على
٢٢٦
حقيقتها كان لا مناص من الإقرار بأن الدين لا يدخله قط – ولا شروى
نقير لا ولا قلامة ظفر - فكرة التطور
إن التطور الفكرى تغيير من حال إلى حال وهو تغيير مستمر دائم إنه تغيير لا ينتابه هدوء ولا سكون إنها إذن النسبية إنها إذن السوفسطائية القديمة إنها عود إلى هذه الفترة القديمة التي لم يكن فيها دين ثابت ولم يكن فيها خلق ثابت فالأمر فيهما حينئذ عند السوفسطائيين ليس أمر ثبات مطلق وليس أمر عصمة وليس أمر قضايا محققة وإنما الأمر أمر تغيير باستمرار
وأمر نسبية
وبذلك يقضى على الدين ويقضى على الأخلاق
وإنه لمن المؤسف حقيقة - أننا نجد فكرة التطور تتسرب إلى الناحية الدينية وإلى المحيط الدينى فى الأقاليم الإسلامية وهذه الفكرة لخطورتها ولأني أعلق على إزالتها كثيراً من الأهمية أريد أن أضرب بعض الأمثلة حتى نكون على بينة من الأمر
قرأت في بعض المجلات مقالاً يقول كاتبه إن فضيلة الشيخ رجل متطور واسع الأفق ومن مظاهر تطوره - فى رأى الكاتب – أنه يأبى إلا أن يقيم صلاة الغائب على روح فلان وفلان هذا الذى ذكره الكاتب لا يدين بدين الإسلام وما من شك فى أن ذلك لا يجوز إسلاميا وما من شك في أن فضيلة العالم الكبير لا يفعل ذلك ولا يبيحه ولكن ذلك إن دل على
شيء فإنما يدل على جهل الكاتب بمعنى الحقائق الدينية التي لا تتغير بتغير الأهواء والعواطف ويدل من جانب آخر على الخطورة التي يتعرض لها الدين
۷
حينما تدخله فكرة التطور وحينما تتناوله أقلام الذين لا يعقلون دين الله على
الوجه السليم ومثل آخر
إننا جميعاً نجل الشيخ محمد عبده ونحترمه وندين له بكثير من تخليص الدين من الخرافات والأساطير ولكن حينما نقرأ له تفسير قصة آدم فنراه لا يمنع احتمال أنها تمثيل ! نتساءل لم ذكر الشيخ محمد عبده هذا الاحتمال حينما نتساءل حقيقة عن السر العميق - فى الشعور أو في اللاشعور - نجد أن الشيخ محمد عبده رأى أن فكرة التطور منتشرة فى أرجاء أوربا جميع وهي – فيما يرى بظاهرها - تتعارض مع التعاليم التي تنبئ أن آدم هو أول البشر وهو الذى خلقه الله وسواه وخاطب الملائكة في شأنه وأمرهم أن
يسجدوا له
بل والعالم
رأى الشيخ محمد عبده أن كل ذلك لا يتلاءم كثيراً مع فكرة التطور المزعومة فماذا صنع ذكر هذا الاحتمال وبذلك يمكننا أن نؤولها كيفما شئنا وما كنا نود أن يجيز ذلك إذ أنه يفتح للناس باب التأويل في صورة من الاستفاضة الضارة
كما رأى الشيخ محمد عبده أن يفسر اختلاف رسالات الرسل وتعاقبها موسوية وعيسوية وإسلامية بتطور الإنسانية إن الإنسانية – حسبما يرى - حسية في زمن موسى فكانت رسالة سيدنا موسى حسية ثم تطورت الإنسانية من الحس إلى العاطفة فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفية ثم تطورت الإنسانية من الحس والعاطفة إلى العقل فكانت رسالة سيدنا محمد عقلية ورأيي أن الإنسانية لم تتطور هذا التطور وأن الإنسانية أينما سرنا وعند أى
۸
فرد رأينا وفى أى مجتمع شاهدنا فإنما يتمثل فيها جوانب ثلاثة الحس والعاطفة والعقل ولكن فكرة التطور وأن الإنسانية متطورة انتهت بأن أصبحت مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها وأدخلوها في المحيط الديني فأفسدت كثيراً من القضايا ونعود فنترحم على الشيخ محمد عبده وإذا كنا ننتقده ونحن نحاضر في قاعته فذلك أننا نعلم أنه رحمه الله كان من سعة الصدر ومن سعة الأفق بحيث لا يضيق بنقد ونعتقد أنه لا يضيق الآن بنقدنا
ونأتى إلى شخصية أخرى نمجدها أيضاً ونحترمها شخصية محمد إقبال
وإن جهاده بالنسبة للإسلام وجهاده بالنسبة للمسلمين لا ينكر ولكنه لم يستطع أن يتخلص من فكرة التطور في بعض المسائل كما رأى فليراجعها من شاء في آرائه وفلسفته
أيها السادة
كلكم تعلمون أن الدين عقيدة وأخلاق وشريعة وتصوير التطور في العقيدة أن نقول مثلاً اليوم ربنا واحد أما غداً فإنه سبحانه وتعالى عن ذلك - يكون اثنين !
وتصوير التطور في الأخلاق أن نقول مثلاً إن الصدق اليوم فضيلة وغداً يكون رذيلة أو الصدق فضيلة اليوم وهو غداً ليس بفضيلة ولا رذيلة ! فأنتم ترون أنه لا تطور في العقيدة ولا في الأخلاق
لكن الشبه تخلق فى بعض الأذهان حول التطور في التشريع والذي يوجد
الوهم بهذه الشبه هو باب الاجتهاد والمنطق يقول إنه مادام هناك اجتهاد في التشريع فسيكون هناك تطور فيه ولكن الذى يقول هذا الكلام لا يفهم
۹
معنى الاجتهاد أو هو يفهم معناه ويحاول أن يتجاهله معنى الاجتهاد وحقيقته إنما هو المحاولة الجادة المستمرة للوصول إلى ما كان عليه الرسول من أجل اتباعه ومن أجل إدخال المسائل الجديدة تحت القواعد
القديمة التي استنتجت من كلام الرسول علا الله ومن القرآن وليس للاجتهاد معنى آخر غير هذا وكل المجتهدين الإمام الشافعي الإمام أحمد بن حنبل الإمام أبو حنيفة الإمام مالك - كلهم يقولون إذا صح الحديث فاضرب برأيي عرض الحائط أى أنه إذا رأى رأياً من الآراء ملتمساً في هذا الرأي أن يكون موافقاً لكلام الرسول ثم تبين فيما بعد أنه أخطأ لأن الحديث يفيد غير ذلك فإن كلامه ورأيه لا قيمة لها ويجب أن يطرحا ويهملا وأن يأخذ بكلام
الرسول الله
وإذن ليس فى الاجتهاد تطور
إن العقل كمنبع لما وراء الطبيعة والضمير كمنبع للأخلاق كل هذه هي البشرية فى مقابلة الألوهية فى مقابلة النص واعتمدت
إذن الحضارة الحديثة على البشرية فى مبادئها وقواعدها فكانت النظم الاجتماعية المختلفة والنظم الأخلاقية المختلفة وكان الهدم في كل يوم
وانتهت في بعض الميادين الفكرية الاجتماعية إلى ماكان يمكن أن
تنتهى إليه
لقد انتهت بتفسير أو تصوير رائع لآية قرآنية كريمة هي
يتصور
أن
واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل
۳۰
الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
وأريد أن أشرح هذه الآية فى إيجاز إن آيات الله محيطة بالإنسان من أقطاره فالسموات من آيات الله والأرض من آيات الله والأشجار جميع من آيات الله والأنهار والجبال والمحيطات والنجوم والكواكب كل ذلك من آيات الله هذا الإبداع المحكم الذي يحيط بالإنسان من جميع أقطاره هذه الآيات التي تحيط بالناس أينما كانوا والتى تنادى بجلال الله وعظمته حاول بعض الناس الانسلاخ منها - فلم يقروا بالألوهية الإقرار السليم والتعبير بالانسلاخ من أحكم وأدق وأروع ما يكون ملتصقة لقد حاولوا الانسلاخ منها وهى التصاق جلد الإنسان بهم بالإنسان وانسلخوا منها بعد لأى وعلى خلاف الفطرة وعلى وضع لا يتلاءم مع النظام الطبيعي وانسلخوا بذلك من محيط الألوهية إنهم خرجوا عن سرادق الألوهية وخرجوا عن أن يكونوا من عباد الله فتهيئوا بصنيعهم ليكونوا من أتباع الشيطان وسهل على الشيطان غزوهم فغزاهم بخيله ورجله فكانوا من الغاوين ولو شاء الله لرفعهم بآياته ولكن العيب جاء منهم هم إذ أخلدوا إلى الأرض وما من ريب فى أن الإخلاد إلى الأرض في أبشع صورة هو الشيوعية واتبعوا أهواءهم
هذا
وما من شك فى اتباع الهوى فى أسمج صورة هو الفلسفة الوجودية وسواء كنا بصدد الشيوعى أو بصدد الوجودي فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
ولكن لم يلهث سواء أحملت عليه أم تركته
۳۱
إن الشيوعي ليس همه إلا المادة والإخلاد إلى الأرض ومهما بسط الله له
في الرزق فهو ضيق بذلك وإذا ضيق الله عليه الرزق فهو ضيق بذلك أيضا إنه لا يطمئن إلى شيء روحى يقنعه والمادة - مهما أوتى الإنسان منها - فإنها - مادام جشعاً - لا تنتهى إلى إرضائه وكذلك الأمر فيما يتعلق بالوجودى
فإنه وقد آثر اتباع الهوى - وليست الوجودية إلا إيثار اتباع الهوى – فإنه لا يعتمد على هاد يطمئنه ولا على اطمئنان يسكنه وهو ضيق بالحياة ذرعاً سواء كان سعيدا أو شقيًّا فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث
انتهت الحضارة إلى أمثال هذه النظم التي لا ترى إلا المادة أو لا ترى إلا البشرية الهاوية أو الغاوية وانتهى الأمر بالشيوعي والوجودي إلى ما كان لا مفر من أن ينتهى إليه وهو انفصال الشيوعى وانفصال الوجودي عن المحيط الإلهى عن السرادق الإلهي
ومما لا شك فيه أن هذه النظم التي لا تتصل بالعصمة إنما تتخبط وتكون باستمرار متأرجحة متقلبة ولا تستقر استقراراً نسبياً إلا بالحديد والنار وبالسلاح وبسفك الدماء وبالقتل وإن ما وراء الستار الحديدى يمكن أن يكون صورة لكل هذا الانفصال عن الألوهية الذي لا يستقر إلا بالحديد
والنار
تلك أسس الحضارة ومنابعها ومصادرها عقل فضمير فتطور
فانتهاء إلى أمثال هذه النظم التي خرجت بالإنسان عن الجادة
۳
T&
وزاد البخارى والترمذى فإن مت فى ليلتك مت على الفطرة وإن أصبحت أصبت خيراً
إن الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه قال رسولك بدل أن يقول نبيك وكلمة رسول تتضمن معنى النبوة
فهي إذن فيها المعنى وزيادة وبحسب منطقنا وبحسب عقلنا تكون صالحة ولكننا لا نرى بعقلنا ومنطقنا إلا الشكل والظاهر أما بواطن الأمور أما أسرار الكلمات أما حكمة الأوضاع المحددة أما اكتناه خفايا التقديرات
الإلهية إن كل ذلك - إذا لم يكشف الله عنه أو عن بعضه – فإننا لا نصل إليه بمنطق البشر ولقد أخطأ البراء بن عازب رضى الله عنه في استبدال كلمة رسول بكلمة نبي وأخطأنا معه حينما قدرنا بعقولنا أن هذا البدل يصح إنا كل شيء خلقناه بقدر ١٦
واكتناه سر هذا القدر اكتناها تاما لا يصل إليه الإنسان بل لا تصل إليه الملائكة ر و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم
۱۷
الحكيم تركية إن العلم الصحيح الصادق فى عالم الهداية الإلهية والتربية الربانية إنما هو من الله سبحانه وكل ابتعاد عنه أو خروج عليه أو تغيير فيه إنما هو
ضلال
وما من شك في أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر الأرض يحاول أن ينزع
١٦ القمر ٤٩
۱۷ البقر آية ۳۱ ۳
والدين إذن لا يعارض التقدم فى سبيل إسعاد البشرية هذه قضية نحن
مسلمون بها
الإسلام
نريد أن نتحدث عن الإسلام وتكفينى كلمة الإسلام تكفيني هذه الكلمة للدلالة على أن هذا الدين صحيح منزل من عند الله إن معنى الإسلام الاستسلام لله فى كل مظهر من المظاهر وفي كل حركة من الحركات وفى كل أمر من الأمور وتصور المعنى لهذا التعبير الرائع الآية
القرآنية الكريمة قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له
وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
إن هذا التصوير للإسلام في هذه الآية الكريمة رائع
استسلام الله لله أى دخول فى النطاق الإلهى ابتعاد عن الهوى والشيطان إنه إسلام الوجه لله فرق كبير بين هذا وبين الخروج عن النطاق الإلهى بالشيوعية أو بالوجودية
وفيما يتعلق بالإسلام هناك النظم المعصومة هناك الأخلاق المعصومة والتشريع المعصوم هناك إذن العصمة كاملة ولكن الاستسلام لله يقتضى شيئاً آخر هو الجهاد والكفاح المستمر من أجل الحق والخير وإعلاء كلمة الله فإذا لم يكن هناك جهاد من أجل الإسلام فلا إسلام ومن لم يجاهد من أجل إسلامه فليس بمسلم هناك إذن الجهاد وهناك الاتجاه إلى جعل الإنسان ربانياً
أو إلهيا
۳۳
لقد
ولكن ما هى السبيل التى رسمها الإسلام لجعل الإنسان ربانياً
1 - ضمن الله الرزق
٢ - وحدد الآجال
وفي السماء رزقكم وما توعدون ولضعفنا وانشغالنا بالرزق والحرص عليه أكد الله ضمانه بقوله تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون وحدد الآجال وضرب لذلك أوضح الأمثال فلو فرضنا أن إنساناً في برج مشيد وكتب عليه القتل لخرج من هذا البرج المشيد إلى القتل ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون فى أنفسهم مالا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم ويمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات
الصدور
فإذن الآجال محددة والأرزاق مضمونة فماذا بعد ذلك إلا الاتجاه إلى
الله كلية وبكل ما تملك وبكل ما تحس وبكل ما تشعر وليس الاتجاه إلى الله كسلاً فالأعمال عبادة ما دمت متجهاً بها إلى الله حركاتك وسكناتك وأنفاسك إذا اتجهت بها إلى الله فهي عبادة فالعامل في معمله إذا اتجه بعمله إلى الله فهو عابد والصانع في مصنعه عابد إذا كان متجهاً بعمله إلى الله ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله بعمله وصناعته وحركاته
٢٣٤
وسكناته فهجرته إلى الله ورسوله والله يثيبه على فعله إذا كان الله قد ضمن الرزق وحدد الآجال فليس هناك مطلقاً عذر من الأعذار للمسلم لأن يتخاذل وأن يتكاسل وأن يتواكل
والصورة المثلى فى ذلك إنما هي صورة محمد صلوات الله وسلامه عليه في كفاحه الذي لم يفتر وجهاده المستمر وهى صورة للمتأسين به يجب أن
تحتذى
ولكن لم الجهاد ولم الكفاح
هناك رسالة إسلامية ونحن مكلفون بها ونحن لا نقول الأزهر فحسب
هو المكلف بها وإنما نقول إن كل مسلم مكلف بهذه الرسالة وهذه الرسالة الإسلامية تصورها الآية الكريمة وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين
والرحمة بالإنسانية إنما هي إخراجها عن دائرة الشيطان إلى دائرة الله سبحانه وتعالى إخراجها عن التناحر وعن التنازع من أجل المادة إلى السمو في آفاق الأخوة وفى آفاق الرحمة الشاملة العامة هذه الرسالة الرحيمة الرحمانية
التي حددها الإسلام بنظمه ومبادئه والتى كلفنا بها وكنا خير أمة أخرجت للناس من أجلها إذا لم نقم بها في وجه الحضارة الحديثة لا نكون مسلمين أو على الأقل لا نكون في عملنا السلبي من الذين يتأسون بصاحب الرسالة الإسلامية ولن يكون لنا الفخر بأننا من حملة الرسالة الرحمانية رسالة
الرحمة المهداة
۳۵
اعتزاز المسلم بدينه والواقع أن المسلم يجب أن يفخر حقيقة بدينه وبنظمه وبرسوله وبأمته ودون أن نريد موازنة فى قليل ولا كثير نرى مثلاً أن هذا الشيخ الوقور سيدنا نوحاً عليه السلام الذى عاش في قومه دهراً يدعوهم إلى الله انتهى به الأمر بأن كانت كل الحصيلة مجموعة حملت في سفينة
وإذا جئنا إلى سيدنا موسى نجد أنه حين أراد القتال قال له قومه يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا
ههنا قاعدون لك
ومن الصور القرآنية الطريفة جدا أن سيدنا موسى بعد أن جاهد في قومه هذا الجهاد بالدعوة والإرشاد والنصيحة تركهم فترة وتقدمهم قليلاً فخاطبه
الله بقوله
وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثرى وعجلت إليك رب لترضى فذكر كليم الله أن قومه هم أولاء على أثره ولكن الشوق والحب حمله على ذلك وعجلت إليك رب لترضى وجميل هذا لكن انظروا إلى التربية الحكيمة فى الأسلوب المهذب هذا الأسلوب الذى كأنه يقول إنك لم تحكم أمر الدعوة من ورائك وإن إحكام أمر الدعوة إنما هو لقاء الله لو قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم
السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاك وإذا جئنا إلى سيدنا عيسى فإننا نجد أن سيدنا عيسى صلوات الله عليه
وسلامه حين رفعه الله إليه لم يكن هناك من يقر برسالته إلا بضعة أفراد
٢٣٦
يعدون على الأصابع أو يعدون بالعشرات وأكبر تقدير لأتباع سيدنا عيسى أنهم كانوا ثلثمائة أخذ سيدنا موسى قومه من مصر فارا بهم ولم يقاتل ولم يجاهد وحين أدركه فرعون لم يتوجه إلى القتال وإلى الجهاد وإنما توجه إلى الله فأمره الله بضرب البحر بعصاه فضرب البحر فانفلق فكان كل فرق
كالطود العظيم ومر موسى وقومه آمنين دون جهاد ودون كفاح وسيدنا عيسى لم يتوجه إلى القتال ولا الكفاح في سبيل إعلاء كلمة الله التي هي الحق والخير
ولكن إذا جئنا إلى سيدنا محمد فإننا نجد مباشرة العزم المصمم
والإرادة النافذة
يجب أن يدين العالم لله وأن يسلم وجهه الله لتلك الرسالة الإسلامية ويجب أن يقف محمد صلوات الله وسلامه عليه ولو بمفرده في وجه العالم كله
وفى وجه الكون بأكمله في وجه هذه الدنيا
يجب أن يدين العالم يجب أن تدين السماء والأرض وأن يدين البشر بأجمعهم لرسالة السماء ووقف سيدنا محمد يجاهد ويجالد ويكافح ويتخطى العقبات ويتغلب على الصعوبات إلى أن انتهى به الأمر إلى النصر الكامل بالكفاح في سبيل الحق الكفاح إذن جزء لا يتجزأ من الرسالة الإسلامية إنه الكفاح من أجل الله لا من أجل مادة الشيوعيين الكفاح من أجل الله لا من أجل أهواء الوجوديين إن الرسالة الإسلامية رسالة رحمة ورسالة كفاح من أجل الرحمة ورسولها خير معبر عنها بسلوكه ومواقفه فمن لم يتأس بالرسول ومن لم يكافح في سبيل الإسلام فليس له أن يفخر بأنه مسلم فضلا عن أن يزعم
أنه
مسلم مثالى
۳۷
تغلب محمد رسول الله الله على كل عقبة وزلزل كل صعوبة وحطم كل صنم وانتهى به الأمر إلى أن شاهد ارتفاع الأذان الإسلامي فوق الكعبة وفى مكة التي كانت تأبى كل الإباء أن تدين لله وأن تسلم وجهها إلى الله وحده ومهمتنا جميعاً إذن هي مهمة الرسول تحطيم الأصنام تحطيم صنم الشهوة والهوى المتغلغل فى النفس وتحطيم صنم المادة ونشر رسالة الحق
والرحمة حتى ننتهى من كل ذلك بأن يسلم العالم وجهه إلى الله فإذا انتهينا إلى ذلك أو إذا ما حققناه كنا فى رضوان الله وكنا من هؤلاء
الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وإني لأرجو في النهاية - أن يتكاتف المخلصون في العالم الإسلامي ويتساندوا ليقفوا أمام هذا الزحف المتتابع من المدنية الغربية التي تريد أن
تطمس الإسلام في أهدافه وفى نظمه وفى تعاليمه وفى أقدس مقدساته إذا أمكن أن يتكاتف المخلصون فإن الأمر سينتهي بالنصر أما إذا لم
يتكاتفوا فإن ذلك لا يعنى كل مسلم - منفرداً - من العمل الجاد في سبيل إعلاء كلمة الله والعمل على سيادة المبادئ الإسلامية ففيها سعادة العالم إن شاء الله
تعالى
وبالله التوفيق
۳۸
فهرس
الصفحات
۱۷
١٥ - ٣٠
٣١ - ٤١
٤٢ - ٥٦
٥٧ - ٧٥
٧٦ - ٨٥
12-A
114 - 10
1-110
١٦١ - ١٧٦
۰ - ۱۷۷
۳۸ - ۱
۳۹
مقدمة
القسم الأول في الفلسفة
الفصل الأول القرآن هاد للعقل الفصل الثاني
موقف المسلم من الدين السجود
الفصل الثالث الإمام الشافعي والفكر اليونانى الفصل الرابع إخفاق الفلسفة
الفصل الخامس الإمام الغزالي والفلسفة الفصل السادس تأملات في الإيمان والإلحاد
القسم الثاني في علم الكلام
الفصل الأول الفلسفة وعلم الكلام الفصل الثاني علم الكلام الراهن الفصل الثالث الإمام الغزالي والمتكلمون
علم الكلام فيما ينبغى أن يكون
الإسلام والحضارة الحديثة
الفصل الرابع
خاتمة
نزعة بشرية بحتة ويتصرف في الوحي الإلهى نقصاً وزيادة ويتراً وإضافة وتغييراً وتبديلاً ويحاول أن يقيم كل ذلك على قواعد يزعمها صحيحة
فيقول مثلاً إن الحكمة في تحريم شرب الخمر إنما هي المفاسد التي تنشأ
من
الشخص الشارب فإذا ما انتفت تلك المفاسد فلا مانع من شرب الخمر والتكاليف الدينية إنما جاءت لإصلاح الضمير فإذا كان الضمير صالحاً
فلا لزوم للتكاليف الدينية وأعمال العبادة إنما هدفها القرب من الله فإذا حصل القرب فلا حاجة
إليها
وهكذا يخرج الإنسان بأهوائه ولا نقول بعقله – لأن كل ذلك أهواء يصورها الشيطان منطقاً معقولاً - عن الدين كما خرج إبليس قديماً – بأهوائه التي تمثلت لذهنه منطقاً -
عن الدين
والإمام الغزالى رضى الله عنه يمثل لذلك بمثال معبر فيذكر قصة رجل
بني له أبوه قصراً على رأس جبل ووضع فيه شجرة من حشيش طيب الرائحة وأكد الوصية على ولده مرة بعد أخرى ألا يخلى هذا القصر عن هذا الحشيش
طوال عمره وقال إياك أن تسكن هذا القصر ساعة من ليل أو نهار إلا وهذا الحشيش فيه فزرع الولد حول القصر أنواعاً من الرياحين وطلب من البر والبحر أوتاداً من العود والعنبر والمسك وجمع فى قصره جميع ذلك من شجرات كثيرة من الرياحين الطيبة الرائحة
فانغمرت رائحة الحشيش لما فاحت هذه الروائح فقال لاشك أن والدى ما أوصانى بحفظ هذا الحشيش إلا لطيب رائحته
٢٦
والآن قد استغنينا بهذه الرياحين عن رائحته فلا فائدة فيه الآن إلا أن يضيق على
المكان فرماه من القصر
فلما خلا القصر من الحشيش ظهر من بعض ثقوب القصر حية هائلة وضربته ضربة أشرف بها على الهلاك فتنبه حيث لم ينفعه التنبه أن الحشيش كان من خاصيته دفع هذه الحية المهلكة وكان لأبيه بالوصية بالحشيش غرضان
أحدهما انتفاع الولد برائحته وذلك قد أدركه الولد بعقله والثاني اندفاع الحيات المهلكات برائحته وذلك مما قصر عن دركه بصيرة الولد فاغتر الولد بما عنده من العلم وظن أنه لاسر وراء معلومه ومعقوله كما قال وذلك مبلغهم من العلم وقال سبحانه فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من
العلمية
هـ
والمغرور من اغتر بعقله فظن أن ما هو منتف عن علمه فهو منتف في نفسه
وما من شك فى أن آراء الملل وكل ما فيها من الأوضاع ليس سبيلها أن يمتجن بالآراء والروية والعقول الإنسية ۱۸ لأنها أرفع رتبة منها إذ كانت مأخوذة من وحى الهى لأن فيها أسرارا إلهية تضعف عن إدراكها العقول الإنسية ولا تبلغها
وأيضاً فإن الإنسان إنما سبيله أن تفيده الملل بالوحي ماشأنه ألا يدركه بعقله ومايخور عقله عنه وإلا فلا معنى للوحى ولا فائدة إذا كان إنما يفيد الإنسان
۱۸ انظر كتاب إحصاء العلوم للفارابي
ما كان يعلمه وما يمكن إذا تأمله أن يدركه بعقله ولو كان كذلك لوكل الناس إلى عقولهم ولما كانت بهم حاجة إلى نبوة ولا إلى وحم وحى لكن لم يفعل ذلك فلذلك ينبغى أن يكون ما تفيده الملل من العلوم ماليس في طاقة بهم عقولنا إدراكه ثم ليس هذا فقط بل ما تستنكره عقول بعض منا فإن ما تستنكره بعض العقول وتستبشعه بعض الأوهام قد لا يكون في واقع الأمر منكراً ولا بشعاً
فإن الإنسان وإن بلغ نهاية الكمال فى الإنسانية ! فإن منزلته عند ذوى العقول الإلهية العقول التي استنارت بالوحى وسمت بالمبادئ الإلهية منزلة الصبي والحدث والغمر عند الإنسان الكامل وكما أن كثيراً من الصبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم أشياء كثيرة مما ليست في الحقيقة منكرة ولاغير ممكنة ويقع لهؤلاء أنها غير ممكنة فكذلك منزلة من هو في نهاية كمال العقل الإنسى عند العقول الإلهية التي أفاض الله عليها من نوره وغمرها بإلهاماته وكما أن الإنسان من قبل أن يتأدب ويتحنك يستنكر أشياء كثيرة ويستبشعها ويخيل إليه فيها أنها محالة فإذا تأدب بالعلوم واحتنك بالتجارب زالت عنه تلك الظنون فيها وانقلبت الأشياء التي كانت عنده محالة فصارت هي الواجبة وصار عنده ما كان يتعجب منه قديماً في حد ما يتعجب من ضده
كذلك الإنسان الكامل الإنسانية لا يمتنع من أن يكون يستنكر أشياء
غير
ممكنة من غير
أن تكون في الحقيقة كذلك ١٩
ويخيل إليه أنها ويشرح الشيخ الجليل أبو سليمان المنطقى كل ذلك في دقة دقيقة وفى
۱۹ انظر كتاب إحصاء العلوم للفارابي
أسلوب جميل فيقول إن الشريعة مأخوذة عن الله عز وجل بوساطة
السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحى وباب المناجاة وشهادة الآيات
وظهور المعجزات
6
وفي أثنائها ما لاسبيل إلى البحث عنه والغوص فيه
ولابد من التسليم المدعو إليه والمنبه عليه وهناك يسقط لم ويبطل كيف ويزول هلا وتذهب لو وليت في الريح !
6
6
ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحى فائدة ولاغناء على أن منازل الناس متفاوتة فى العقل وأنصباءهم مختلفة فيه فلو كنا نستغنى عن الوحى بالعقل كيف كنا نصنع وليس العقل بأسره لواحد منا فإنما هو لجميع الناس ولو استقل إنسان واحد بعقله في حالاته في
جميع
دينه ودنياه لاستقل أيضاً بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه ولكان
وحده يفى بجميع الصناعات والمعارف وكان لا يحتاج إلى أحد من نوعه وجنسه وهذا قول مردود ورأى مخذول
يقول الشيخ الجليل أبو سليمان المنطقى
۰
إن منازل الناس متفاوتة فى العقل وأنصباءهم مختلفة فيه ومعنى ذلك أن هذا الذي يروق لشخص عقليًّا ربما لا يروق لغيره عقليا ويجب من أجل ذلك ألا يتدخل العقل في الدين وإلا لاختلف الناس باختلاف عقولهم وادعى كل أن ما هو عليه إنما هو الحق وما عليه غيره هو الباطل ونتج عن ذلك اتباع كل أهواءه
۰ انظر كتاب اخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه كم ۱ فتتفرق الأمة وتخرج على ما أحبه
الله وأمر به
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ٢٢ كم وإذا تساءلت الآن ماهو إذن موقف العقل من الدين وموقف الدين
من العقل فإننا نجمل الموضوع في النقط الآتية
نزل الدين هادياً للعقل في جميع الأمور التي لو ترك العقل وشأنه فيها ضل السبيل وعجز عن الوصول إلى الحقيقة وهذه الأمور هي
1 العقائد
ب المبادئ الأخلاقية إجمالاً وتفصيلاً
جـ التشريع في قواعده العامة وفى بعض تفصيلاته وقواعده العامة
التي تتضمن الجزئيات على مر الزمن وعلى اختلاف البيئات أما الطبيعة والكون من سمائه وأرضه ومن جباله وبحاره ومن كواكبه وأقماره وشموسه أما المادة والطاقة أما أعماق البحار وآفاق السماء إن كل ذلك قد تركه للإنسان يدرسه فى مصنعه ومعمله بآلاته وأدواته وحثه على أن يجول في ذلك ما استطاع إليه سبيلا حتى يكتشف سنن الله الكونية ونواميسه الطبيعية ويرى صنع الله الذي أتقن كل شيء ولم يحجر الدين على الإنسان في هذا المجال اللهم إلا الواجب الذى ينبغى أن يكون شعاره دائماً وهو أن يكون هدفه من كل ذلك الخير
والإسلام دين العقل بكل هذه المعاني التي ذكرناها
۱ الجاثية ۳
آل عمران ۱۰۳
الفضل الثاني
موقف المسلم من الدين السجود
يروى الإمام مسلم رضى الله عنه في صحيحه عن أبي فراس ربيعة ابن كعب الأسلمي - خادم رسول الله ومن أهل الصفة – رضى الله
عنه - قال
سلني
كنت أبيت رسول الله ل فاتيه بوضوئه وحاجته فقال مع
فقلت أسألك مرافقتك في الجنة
فقال أو غير ذلك
قلت هو ذاك
قال أعنى على نفسك بكثرة السجود
والسجود إذن مما يعين على ترويض النفس لتتزكى وهو بذلك من
الوسائل التي توصل إلى الجنة
وفى هذا المعنى يروى الإمام مسلم أيضاً عن أبي عبد الرحمن ثوبان
مولى رسول الله
قال
سمعت رسول الله الا الله يقول عليك بكثرة السجود فإنك لن
تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة والسجود الذي يريده رسول الله - صلوات الله عليه – في هذه الأحاديث ليس هو مجرد الحركة المعروفة وإنما هو - مع هذه الحركة – المعنى العميق في النفس الذى يتمثل فيه جلال الله وعظمته ورحمته ووده ويتمثل فيه الخضوع لهذا الجلال وهذه العظمة والانقياد المطلق لرحمة الله التي تتمثل في الرسالة الإسلامية أوامرها ونواهيها
ذلك أن الرسالة الإسلامية في تكاليفها سلباً وإيجاباً إنما هي رحمة
للعالمين يقول الله - تعالى - لرسوله - صلوات الله عليه
1
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ۱
فإذا ما كان السجود تعبيرا عن التطامن والتذلل – وذلك معناه الصحيح – كان ذلك عبادة وخضوعاً لله - سبحانه وتعالى – وكان بذلك سبيلاً إلى الجنة وإلى أكثر من الجنة وهو القرب من الله يقول الله تعالى في كتابه العزيز واسجد واقترب
ويقول صلوات الله عليه في هذا المعنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
ولقيمة السجود الكبيرة عبر عن الصلاة أحياناً بالسجود فصلاة
الضحى يسمونها سجود الضحى
ومن أجل هذه القيمة أيضاً مدح الله من يعبرون عن خضوعهم لآياته
واستجابتهم لأمره بقوله تعالى
۱ الأنبياء ١٠٧
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم
وهم لا يستكبرون ٢
والذين هداهم الله واجتباهم
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ۳ ومن صفات عباد الرحمن التي يزكيهم بها أنهم
يبيتون لربهم سجدا وقياما كة
على أن حادثة من الحوادث قصها القرآن فى غير ما موضع منه تبين لنا كثيراً مما نتحدث به من المعانى الخاصة بالسجود تلك هي حادثة آدم
والملائكة
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين
بهذا النبأ حدث الله الملائكة عن عالم جديد من عوالمه سيبرؤه سبحانه
وأمر الملائكة أن يسجدوا له
فسجد الملائكة كلهم أجمعون
لم يشذ منهم أحد
وكان من بينهم – مختلطا
بهم
إبليس
وهو كائن يختلف عن الملائكة
وعن الإنسان إنه من فصيلة الجن
٢ السجدة ١٥
۳ مریم ٥٨
۳۳
كان يعبد مع
الملائكة
C
ويسبح معهم حتى لقد كان يلقب بطاووس
العباد لكثرة عبادته وتفانيه في العبادة ولكنه لما سمع الأمر الإلهى بالسجود لم يسجد لقد أبى والإباء ضد السجود واستكبر والاستكبار ينافي الخضوع ويتحدث القرآن عن ذلك في صراحة فيقول
إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين
ويقول سبحانه أيضاً
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين
التفاتاً هذه قصة معروفة نمر عليها فلا نكاد نعيرها بيد أنها جديرة بالتأمل والاعتبار والقضايا التي نريد أن نذكرها عظة واعتباراً وهي في
نفس الوقت ذات دلالة عميقة هي ما يلي ۱ - لقد صدر أمر إلهى بالسجود فاستجاب له طائفة فنعموا برضوان الله وشد فرد فطرد من رحمته سبحانه
٢ - إنه طرد لأنه لم يستجب للأمر الإلهى مع علمه بأنه أمر إلهي - كان عدم استجابته ناشئاً عن كبرياء في نفسه وعن تمرد في فطرته ٤ - لم تلغ عبادته كبرياءه فهى إذن لم تكن خضوعاً لأنها لو كانت خضوعاً لنفت الكبرياء وأزالته إنها إذن لم تكن عبادة بالمعنى الصحيح لأن العبادة والكبرياء لا يجتمعان
ه - هذا الكبرياء كما تمثل في مخالفة الأمر الإلهي تمثل في المحاولة التي أراد هذا المتمرد أن يبرر بها موقفه مستنجداً بمنطقه وعقله قائلاً أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
ولم يكن هذا إلا منطق الهوى ومنطق الكبرياء فسجوده لآدم ليس
عبادة له وإنما عبادة الله لأنه خضوع لأمر الله وحسب ٦ - والموقف السليم إذن هو ما يرشد إليه روح القصة بل تعبيرها من أنه عند الأمر الإلهى يجب أن تكون الاستجابة فورية وربما كان هذا هو
ما ترشدنا إليه في صراحة كلمة إذ في قوله تعالى و ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
القصة
وهذه الفورية طبعاً هى فى كل أمر بما يناسب وضعه الزماني والمكاني - والقضية التي نختتم بها هذه القضايا أو هذه المفاهيم المستنتجة من أن الله إذا كان قد أمر الملائكة والجن بالسجود للإنسان الأول
هی
فليس معنى ذلك إلا التصريح الصريح بأن طبيعة هذا الإنسان فيها الاستعداد الكافي للرقى فى مدارج السمو الروحى درجة فدرجة حتى تسمو على الملائكة وعلى الجن ولا معنى إذن بعد هذا الأمر الإلهى للملائكة والجن بالسجود للإنسان لأن يختلف علماء الإسلام في المفاضلة بين الإنسان والملك
ذلك أن الفيوضات الإلهية على الإنسان لا تنتهى إلى حد ما وسعنى أرضى ولا سمائى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن باب الفيوضات الإلهية إذن مفتوح على مصراعيه والقرب منه ميسور وإذا ما سجد الإنسان لله رفعه الله إليه وقربه منه وغمره برضوانه أما المبدأ الهام الذي نريد أن يجعله كل مؤمن نصب عينيه فهو أن الإيمان ليس معرفة وحسب ذلك أن إبليس كان يعرف أن الله موجود وقد عرف فيما بعد أنه أرسل نوحاً وإبراهيم ومحمداً عليه الصلاة والسلام إنه يعرف أن لا إله إلا الله ويعرف أن محمداً رسول الله ويعرف أن عيسى وموسى وبقية الأنبياء
رسل الله ومعرفته بهذه المسائل هى من القوة والثبات بحيث تزيد على معرفة كن
من المؤمنين
ولكنه
ذلك مطرود من رحمة الله ذلك أن الإيمان ليس معرفة
فحسب وإنما هو خشوع واستجابة إنه سجود فإذا لم يتأت السجود فلا
إيمان يشهد لذلك قوله تعالى
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً
لقد كان سعيد بن جبير رضى الله عنه يقول ما آسى على شيء من الدنيا
إلا على السجود
أما على بن عبد الله بن عباس
فقد كانوا يسمونه السجاد لكثرة
سجوده وقد كان يكثر من السجود - كما هو المتبادر إلى الذهن – ليكون على
النقيض من إبليس
وتختم هذه المعانى بقول الله تعالى يصف الذين مع رسول الله في حال حياته وعلى مبادئه الإلهية بعد وفاته
سيماهم في وجوههم من أثر السجود
إنه النور الذي يشرق على جباههم
ستكون في وجوههم يوم
C
معة
وهو الغرر التي لسجودهم لله
القيامة من أثر خشوعهم الله
ويتنافى السجود لله مع محاولة تحكيم العقل في أوامره سبحانه وتعالى أو نواهيه وكل محاولة من هذا القبيل إنما هى كبرياء وهي إبليسية
٣٦
وإذا كان لإبليس خلفاء من بنى آدم فهم هؤلاء الذين يحاولون أن يقوموا
بدور إبليس في المجتمع الإنساني إنهم هؤلاء الذين يرفضون الوحي الإلهي جملة أو يحاولون أن يزنوا الوحى بميزان العقل فيرفضون ويقبلون ويؤولون
ما شاء لهم الهوى ويوفقون ويوجدون بعقولهم المآزق التي يزعمونها مشكلات نظرية عقلية - ثم يحاولون الفرار منها
وخلفاء إبليس هم أولاً وبالذات الملاحدة
إنهم على نسق التعبير الجارى إبليسيون أكثر من إبليس نفسه ذلك أن إبليس لم ينكر وجود الله ولم ينكر بعثاً ولا رسالة ولكن هؤلاء أنكروا كل ذلك ففاقوا زعيمهم ولكنهم بتفوقهم على زعيمهم قد أرضوا غروره ذلك أنه خاطب الله قائلاً
لأقعدن لهم لبنى آدم صراطك المستقيم ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ولقد وصل إبليس إلى مراده تاماً في طائفة الملاحدة
والإلحاد درجات وأخس درجات الملحدين لا شك إنما هي درجة هؤلاء الذين اعتقدوا - على حد تعبير الغزالى - أن العالم لم يزل موجوداً
كذلك بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان
كذلك كان وكذلك يكون أبداً
وإذا ما سألت هؤلاء
أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون
كانت حيرتهم في الإجابة كافية في البرهنة على أنهم لا يتبعون إلا أهواءهم
وأنهم ليسوا إذن إلا عبيداً لإبليس
وهناك الإلحاد بإنكار البعث
والإلحاد بإنكار الرسالة
بید
أن هؤلاء وأولئك وتلكم يصدق عليهم
أقرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه
وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون والطريق الذي ينقذ به هؤلاء أنفسهم وقلوبهم إنما هو المبادرة بالسجود لله لا للهوى المردى فيتكشف الله لهم في كل شيء وتظهر لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق الله
وإن من
المذهب
أحدث اختراعات إبليس فى هذا الزمن الحاضر إنما هو ا المسمى بالوجودية وهو مذهب يدعو كل إنسان لأن يحقق وجوده حسبما يرى وتبعاً لما يريد غير متقيد بعرف ولا عادات ولا تقاليد ولا دين ولا أوضاع أيا كانت وهو إذن يهدم نفسه بنفسه لأنه لا يقوم على أسس ثابتة ولا ينتهى إلى مبادئ حقيقية وأحسن تشبيه للوجودى هو ما قاله أحد كبار الكتاب الغربيين
إن الوجودي مثله كمثل الكلب الذى يجرى دائراً حول نفسه ليمسك بذنبه فلا هو يدرك ذنبه ولا هو يقف عن الجرى وهى لعبة يلعبها الكلاب حينما يجدون الفراغ فيلهون بما لا نتيجة له
على أن هذا المذهب الوجودي قديم إذ أنه المذهب السوفسطائي اليوناني وهو مذهب يظهر دائماً فى عصور الانحلال وفى البيئات المنحلة وجود له في عصور الجد ولا فى البيئات الجادة ذلك أن المجتمعات الناهضة الجادة لا تبيح لأفرادها أن يتشبهوا بالكلاب – حينما تلهو الكلاب -
ولا
۳۸
في الجرى وراء أذنابها ليمسكوا بها
فالوجودية إذن اختراع إبليس لإخراج طائفة من البشر عن نطاق
السجود الله إلى نطاق السجود للأهواء
خلفاء إبليس ثانياً هم طائفة الفلاسفة العقليين الإلهيين ذلك أن الفلسفة العقلية - مهما حاول المتفلسفون تزييف أهدافها وتزيين
غاياتها - ليست إلا محاولة تحكيم العقل فيما أتى به الوحى وهى من غير ما ريب تريد أن تخترع عقلياً ما فرغ منه الوحى في قضاياه ومبادئه إنها تريد ابتداع دين عقلى بجوار الدين الإلهى وهذا الدين العقلى يختلف من فيلسوف إلى آخر وهو من أجل ذلك يختلف في هذه القضية أو مع الدين الإلهي
تلك
فإذا كانت البيئة متشبعة بالدين الإلهى يغمر قلبها الإيمان وتغمر وجدانها الهداية حاول المتفلسفون - فى طريقة إبليسية - أن يوفقوا بين الدين
والفلسفة
ومعنى هذا أنهم يجعلون موقف اختراعاتهم العقلية بالنسبة للدين موقف
الند للند فيحاولون التوفيق
فيخطئهم التوفيق فيما يأتون وما يدعون
ذلك أنهم - قلوبهم وأفئدتهم – هواء وإذا كان الاتفاق بينهم لم يتم فإن التوفيق بين أهوائهم وظنونهم وشكوكهم وأوهامهم وبين الوحى والعصمة واليقين والهداية إنما هو عمل
لا
يسير
في ركابه إلا أتباع إبليس
والفلاسفة إذن لم يسجدوا لله
أما الطائفة الثالثة التى لم تسجد لله إلا شكلاً فإنها طائفة المعتزلة من
۳۹
علماء الكلام إنهم لم يسجدوا الله سجود خضوع وإذعان ومذهبهم قائم على تحكيم العقل في الدين ووصل بهم الأمر إلى أنهم يوجبون على الله بعض
الأعمال
سبحانه وتعالى ويحرمون عليه إتيان بعضها سبحانه وتعالى فوضعوا
أنفسهم بعملهم هذا موضع المشرعين لله سبحانه يلزمونه سلباً ويلزمونه إيجاباً وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدق فيهم قول الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليهم بما يصنعون كم ثم إنهم خاضوا فيما نصح الدين بعدم الخوض فيه كالذات الإلهية والصفات وكالقدر وكان لابد – وقد اتبعوا أهواءهم – أن يختلفوا ويتفرقوا الأهواء كل مذهب فكانوا فرقاً وأحزاباً شتى لا تكاد تدخل
وتذهب بهم
تحت حصر
وكل من نهج النهج العقلى فى الدين في العصر الحاضر إنما هو تابع من
أتباع المعتزلة ولا مناص من الإقرار بأن مدرسة الشيخ محمد عبده إنما هي
مدرسة اعتزالية فى مبادئها وأصولها
وهى مدرسة اعتزالية في غاياتها وأهدافها
ذلك أنها تضع قضايا الدين في ميزان عقلها فتنفى وتثبت حسما
تقتضيه الأهواء والنزعات
والمدرسة العقلية في الدين أيا كانت وفي أي مكان وجدت وفى أى
زمان نشأت لم تسجد لله سجود خضوع وإذعان وإنما سجدت للعقل وعبدت العقل فتفرقت إلى ما لا يكاد يحصى من الفرق ومن يتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً وسبيل المؤمنين إنما هو السجود الله وحده وذلك أيضاً سبيل الراسخين
تشير
العلم إذ الراسخون في العلم هم دائماً مؤمنون ساجدون لأمر الله وإليهم
الآية الكريمة
أمن
هو
قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة
ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو
الألباب
الله
ومن البديهي أن المؤمن الحقيقى هو إبليس على طرفي نقيض ويرسم سبحانه وتعالى صورة المؤمن فيبين تعارضها مع كل الصور الإبليسية على تفرقها واختلافها ويبين جزاء المؤمنين عنده فيقول سبحانه
وإنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا
يعملون كة
٤١
بعقلها وتجاربها - في سبيل إسعاد الإنسانية هادفة من وراء ذلك إلى
الله والدخول في رضوانه
البشرى
وانحرف اليونان عن ذلك كله فاتجهوا - في الأغلب الأعم – إلى اللسان وكان أرسطو هو اللوحة المتقنة الرسم تعبيراً عن هذا الاتجاه لقد أراد أرسطو أن يخضع الطبيعة وأن يخضع ما وراء الطبيعة للسان البشرى فأبدع كل الإبداع تنسيقاً وانسجاماً وأخفق كل الإخفاق صدقاً واتجاهاً فكان مثله كمثل اللوحة الزائفة البراقة والسراب الخادع فقاد الإنسانية إلى انحراف هائل وإلى اضطراب فى الفكر وفى العقيدة لا حد
له !
ولقد كان سحره من القوة والنفوذ بحيث استمر تياره يضطرب في جوانب الإنسانية إلى الآن وما من شك في أن أرسطو كان قوة خارقة وعبقرية هائلة ذكاء وبحثاً ومعرفة ولو لم يكن كذلك لما كان له هذا التأثير العميق إلى الآن ونحن حينما نتحدث عنه لا ننكر ما فيه من امتياز فطرى صقله الكسب والتحصيل لكنه استعمل كل ماله من عبقرية في النزول بالإنسانية إلى الحيرة والنقص والشك
ومنذ أن وجد الإنسان وجد معه روح من أمر الله وهو الوحى یر شده ويهديه ويبين له المبادئ ويوضح القواعد في المسائل التي لا يصل تفكيره البشرى إلى حل فيها وهى مسائل ما وراء الطبيعة ومسائل السلوك الصحيح تشريعاً كان ذلك أو أخلاقاً ولا ريب أن الإنسان منذ أن وجد فكر فى الوحي يريد أن يعرف العلل والحكمة ويريد أن يصل إلى السر ويكتنه الغايات وكان يتمرد أحياناً كما
٤٣
فعل ابن آدم الذي قتل أخاه شهوة وحسداً
ولكن المجتمعات القديمة على وجه العموم كانت تخضع لأمر الله وتسلم نفسها إليه فيما لم تحط به علماً من عالم الغيب وفيما تتفاوت في إدراكه من عالم التشريع والأخلاق أما في عالم الطبيعة فقد كانت المجتمعات أعلم بشئون
دنیاها
ولما جاء العهد اليونانى لم يكن هناك روح من أمر الله فأخذ الإنسان يقيم من نفسه رسولاً وإن لم تكن له بالسماء صلة وأخذ يقيم من نفسه مشرعاً وإن لم تأذن له السماء بذلك وأخذ بمذهب الأخلاق وهو أعجز من أن يصل فيها إلى الفيصل الحق وكانت نتائج هذه النزعة تتبين شيئًا فشيئًا ذلك أن كل فيلسوف كان يختلف عن سابقه وكل مفكر يبتعد فيما وصل إليه عن الآخرين ولقد اختلف انكسیمندر عن طاليس واختلف هرقليط عنهما وهكذا إلى أن وصل الأمر إلى أرسطو الذى أراد أن عن الانحراف والضلال فاخترع المنطق وهو – على حد تعريفه – آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ فى الفكر بيد أنه بعد أن اخترع المنطق وبعد أن استعمله فى عصمته هو لاحظ عليه معاصروه والذين أتوا
بعده أخطاء لا
حصر
لها
يعصم
الذهن
وسواء أكان هؤلاء الذين أعلنوا عن أخطائه وأبانوا عن تهافته محقين أم
غير محقين فإن تلاميذ أرسطو وأبناء مدرسته ومناصريه رأوا أن الاعتراضات على أرسطو في مذهبه الخاص بما وراء الطبيعة هى من الكثرة والقوة بحيث
لا يمكنهم الحرد عليها
إنهم مع ما لهم من باع واسع فى عالم الفلسفة ومع أنهم يعدون من قادة الفكر كانوا أعجز من أن يمكنهم الدفاع عن المعلم الأول
وعجزت آلة عصمة الذهن عن عصمة ذهن مخترعها وعن عصمة ذهن
أتباعه
ولكن المعترضين على أرسطو لم يقر أحد من كبار الفلاسفة لهم بالصواب المطلق وإنما كانت آراؤهم هى الأخرى مثار جدل واعتراض وتجريح
ونقض
وسارت الأمور على هذا النسق بعد أرسطو كلما جاءت أمة لعنت أختها وكلما نشأت مدرسة حملت على سابقتها بل حملت على كل من سبقها وكشف الزمن فى تتابعه عن الصورة الحقيقية للإنسانية فيما يتعلق
بمقدرتها على الكشف عن عالم الغيب
لقد كشف الزمن عن أن عالم الغيب إنما هو حجر محجور بالنسبة للعقل بوضعه البشرى أن يطأ حماه ولا أن يلج بابه وتقدس عالم الغيب عن أن يمسك بمفتاحه أو يكشف عن مساتيره إلا من
البشري
6
فلن يتأتى
أذن له الله من نبي مكرم أو من رسول مأذون
ولكن الإنسان هو الإنسان يظن كل فرد من أفراده أنه سيأتي بما لم تستطعه الأوائل ويعتقد كل نابه من أبنائه أنه أنبه من الآخرين وإذا كان الآخرون - كل الآخرين - قد أخفقوا فإن ذلك لا يعنى أنه هو الآخر سيخفق
مثلهم وكبرياء الإنسان لا حد له وخياله لا تقف فى سبيله العقبات ولذلك استمر تيار الانحراف الذى قاد الإنسانية فيه أرسطو سائراً يتخطى
القرون قرناً بعد قرن حتى وصل إلى الجو الإسلامي في عهد العباسيين الأول
بل قبل ذلك
وأخذ المسلمون يختلفون بعد اتفاقهم ويتفرقون بعد تجمعهم ولاحظ الإمام الشافعى كل ذلك وأدرك بفكره السر فقال كلمته الحكيمة العميقة ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم
إلى لسان أرسطو ولكن كلمته تحتاج إلى بيان أكثر
ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان
أرسطو الشافعي ولسان أرسطو الذي يعنيه الشافعي رضوان الله عليه إنما هو
الفكر اليوناني في المنطق
R
وفى ما وراء الطبيعة وفى
الأخلاق
ولقد بدأ الإسلام بعيداً عن هذا اللسان البشرى لأنه وحى الهى واستمر
المسلمون عشرات السنين لا يعرفون إلا الوحى المنزل ولا يصدرون إلا عنه أما ابتداء دخول الفكر اليوناني في الجو الإسلامي
فإن الكتب الإسلامية القديمة تروى فى ذلك أخباراً هي أشبه بالأساطير في سذاجتها وتؤرخ لنشأة تسرب الفكر اليوناني إلى الجو الإسلامي وتعلل
لذلك
وهى على سذاجتها وعلى ما تلبسه من صورة قد تثير الابتسام فإنها
عميقة المغزى قوية الدلالة
٤٦
يروون مثلا أن سبب خروج كتب اليونان من أرض الروم إلى بلاد الإسلام إنما هو يحيى بن خالد بن برمك
وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية ويرجعوا إلى دين اليونانية وتتشتت كلمتهم وتتفرق جماعتهم فجمع الكتب في موضع وبنى عليها بناء مطمساً بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها
خيرا
فلما أفضت رياسة دولة بني العباس إلى يحيى بن خالد وكان زنديقا بلغه بر الكتب التى فى البناء ببلد الروم فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم إن هذا الرجل خادم العربي قد أكثر على من هداياه ولا يطلب منى حاجة وما أراه إلا يلتمس حاجة وأخاف أن تكون حاجته تشق على وقد شغل بالى
فلما جاءه رسول يحيى قال له
قل لصاحبك إن كانت له حاجة فليذكرها
فلما أخبر الرسول يحيى رده إليه وقال له
حاجتي الكتب التى تحت البناء يرسلها إلى أخرج منها بعض
ما أحتاج وأردها إليه فلما قرأ الرومى كتابه استطار فرحاً وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان
وقال لهم قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو من حاجة وقد أفصح بحاجته وهي أخف الحوائج على وقد رأيت رأياً فاسمعوه فإن
٤٧
رضيتموه أمضيته وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا
فقالوا
وما هي قال حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ما أحب ويردها قالوا فما رأيك قال
قد علمت أنه ما بنى عليها من كان قبلنا إلا لأنه خاف إن وقعت في أيدى النصارى وقرء وها كان سبباً لهلاك دينهم وتبديد جماعتهم وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألا يردها يبتلون بها ونسلم نحن من شرها فإني لا آمن أن يكون بعدى من يجترئ على إخراجها إلى الناس فيقعوا فيما خيف عليهم
فقالوا نعم الرأى رأيت أيها الملك فأمضه فبعث بالكتب إلى يحيى بن خالد فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف فما أخرج منها كتاب
حد المنطق
قال أبو محمد بن أبي زيد وقل من أنعم النظر في هذا الكتاب وسلم من
زندقة 1
وتروى هذه القصة – على اختلاف في الأسماء والزمن مع اتحاد الجوهر - على أنحاء شتى منها رواية الصلاح الصفدى في شرح لامية العجم حكى أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى – أظنه صاحب جزيرة قبرص - كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد فجمع الملك خواصه من ذوى الرأى واستشارهم في ذلك فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه إلا بطريقاً واحداً فإنه قال جهزها إليه فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها
۱ من كتاب صون المنطق والكلام للسيوطى
٤٨
أما جهل الناس بسبب ميلهم إلى لسان أرسطو وتركهم لسان العرب فإن معناه يحتاج إلى إيضاح وإنه لمن الغريب فيما يبدو أن تكون المعرفة للجوانب النظرية اليونانية جهلاً وأن تكون زيادة العلم بها مع ترك لسان العرب زيادة في الجهل والناس يرون الآن أن الثقافة اليونانية النظرية إنما هي ثقافة ممتازة لا غنى لمثقف عنها بيد أن الميدان الذى تحدث عنه الشافعي رضوان الله عليه إنما
هو ميدان الغيب إنه ماوراء المادة ما وراء الكون ما وراء المحس أي إنه الميدان الذى لا تتأتى المعرفة فيه بإنعام النظر وإعمال الفكر إذ إن إنعام النظر وإعمال الفكر لا يتأتى إلا فى المجالات التي تمدنا فيها الحواس بالأساس وبالأصل الذي نبني عليه ونستنتج منه ونبحث فيه وبدون هذا الأساس الحسى والأصل المادى لا يقوم بناء عقلى ولا رأى نظرى سليم والإلهيات أو عالم الغيب – على حد تعبير القرآن – ليس مادياً وهو إذن لا يقع تحت الحس وليس للحس فيه مجال وهو من أجل ذلك حجر محجور على العقل يقول ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ هـ
إن الله ليس كمثله شيء فكيف يدرك بقياس أو بإنعام نظر وإذا ما حاول الإنسان إذن أن يصل إلى عالم الغيب عالم المجردات بإنعام النظر فإنه يحاول السير فى طريق مغلق إنها محاولة الجاهل إنها محاولة بنيت على أساس خاطئ فكل ما تصل إليه من نتائج إنما هي تخبط وضلال وجهل وكلما أمعن الإنسان في الطريق العقلى محاولاً معرفة عالم الغيب فإنه لا يزداد بذلك إلا حيرة وجهلاً
ومن البديهي أن الانحراف في الوسيلة يؤدى إلى الانحراف في النتائج والأساس المنهار لا يبنى عليه قصر مشيد
وقد حاول اليونان أرسطو ومدرسته والمدرسة الأبيقورية والمدرسة الرواقية أن يقيموا مذهبهم فيما وراء الطبيعة على العقل وكانت النتيجة التي انتهت إليها هذه المدارس مجموعة من الآراء المتضاربة المتعارضة المتناقضة المتأرجحة بين النفى والإثبات وبين الشك واليقين
أيها أصبح أيها أقوم سبيلاً أيها أهدى طريقاً
إذا أردت الإجابة عن هذه الأسئلة عقلياً فليس هناك من مناص من
D
الحيرة والشك والتردد ثم الوقوف عن إبداء الرأي فإذا أخلصت لمنطق العقل فليس لذلك معنى إلا الجهل
وإذا مال الإنسان إذن إلى لسان أرسطو إذا انصرف إلى الفكر اليوناني فيما وراء الطبيعة أى إذا اتخذ العقل أساس المعرفة في عالم ما وراء
الطبيعة فإن معرفته إنما تكون جهلاً وعلمه يكون وهماً
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعى العالمين ضلال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول
والرسول الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى وجعله خاتماً للرسل وتكفل بحفظ الكتاب الذى أنزله عليه هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
أرسله الله بلسان قومه
وهم
العرب وأرسله بكتاب يتضمن كل ما يحتاج
الإنسان إلى معرفته من عالم الغيب وهو كتاب
أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
وكشفه عن عالم ما وراء الطبيعة إذن إنما هو كشف الحكيم العليم فإذا ما تمسكنا به فإنما نتمسك بالعصمة المطلقة بالحق الواضح بالصراط المستقيم والمعرفة به معرفة صحيحة والعلم به علم لا ريب فيه والعدول عنه
إنما هو عدول عن المعرفة إلى الجهل وعن العلم إلى الوهم أما المعرفة به على وجهها المستقيم فإنها تتأتى أضواً ما تكون وأسنى ما يمكن
إذا انصرف الناس إلى لسان العرب
يقول السيوطى فى تعليقه على كلام الشافعي رضي الله عنه ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح اليونان ولكل قوم لغة واصطلاح وقد قال تعالى
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم كم
فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره وخرج الوارد من نصوص
الشرع عليه جهل وضل ولم يصب القصد
هذا
هو
ما عناه الإمام الشافعى بجهل الناس أما ما عناه باختلافهم حينما يميلون إلى لسان أرسطو فإنه يحتاج إلى بيان
ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان
أرسطو الشافعي
ولسان أرسطو - وهو الفكر اليونانى النظرى في ما وراء الطبيعة
والأخلاق قائم على العقل مقدماته ونتائجه
بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين سيدنا محمد الداعى للحق والهادى إلى صراطك المستقيم وعلى آله وصحبه والتابعين
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً
وليس من المحتم أن يكون لسان أرسطو خاصا باليونان فقط فإن كل نزعة في البحث فيما وراء الطبيعة والأخلاق تتخذ من العقل أساساً فإنما هي نزعة أرسطية إنها لسان أرسطو ولسان أرسطو إذن عنوان على كل تأليف يقوم على العقل وحده وأولى المحاولات من هذا النوع حدثت في الإسلام في عهده الأول حينما أراد بعض الناس أن يتحدث فى القدر بعقله فنهى الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك نهياً جازماً حاسماً
وحدث في عهد سيدنا عمر أن حاول صبيغ على وزن أمير أن يثير بعض المسائل الدينية معتمداً على عقله الجدل والنقاش فضربه أمير المؤمنين بعراجين النخل حتى سال الدم من رأسه وزالت مع سيلان الدم هواجسه
وأهواؤه ثم كانت محاولات فردية ونزعات شخصية تقوم وتخمد وتنتهى عادة بانتهاء أصحابها ولكن الأمة الإسلامية فى مجموعها كانت تتجه باستمرار إلى كتاب الله وسنة رسوله ع تتخذ منهما قدوة وأسوة ومنارة للهداية والرشاد إنها كانت تقوم على الوحى وهذا الاتجاه هو الذي يقابل اتجاه أرسطو إنه في الاصطلاح الكلامي بالاتجاه السلفى يسمى
وهو الذي تشير إليه وتحث عليه كلمة إسلام
فالإسلام إنما هو إسلام الوجه الله إنه الاستجابة التامة لأمره سبحانه إنه تلمس رضاه فيما يأتى الإنسان وما يدع إنه العزم المصمم على اتخاذ الوحى
أساساً وعلى الصدور عنه فى كل عمل وفى كل نية
وهناك إذن أساسان مختلفان للعقيدة وللسلوك أحدهما بشرى وهو العقل
۵
وهو لسان أرسطو والآخر إلهى وهو الوحى
والوحى لا يوجد الآن فى صورته الصحيحة إلا في اللغة العربية ولا يتأتى
فهمه فهماً دقيقاً إلا بتذوق هذه اللغة والتعمق فيها
والأمثلة التي نوضح بها ذلك كثيرة منها مثلاً ما يرويه السيوطى من أن عمرو ابن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء يناظره فى وجوب عذاب الفاسق فقال
له يا أبا عمرو الله يخلف وعده
فقال لن يخلف وعده
فقال عمرو فقد قال وذكر آية وعيد
فقال العجمة أتيت الوعد غير الإيعاد
من
ثم أنشد
وإنى وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى بل إن تنوين اسم في جملة وعدم تنوينه فى نفس الجملة يجعل المعنى
يختلف
ومما يروونه في ذلك أنه إن قال قائل هذا قاتل أبي بغير تنوين في كلمة قاتل فإن معناها يختلف عن هذا قاتل أبي كلمة
بتنوين
قاتل
K
وترك لسان العرب إذن يوقع الناس فى الجهل كما يوقعهم في الاختلاف ولا بد لذلك من دراسة لسان العرب وتفهمه والتعمق فيه وتذوقه حتى يتأتى فهم دقائق الكتاب الكريم
وفهم
الكتاب الكريم والصدور عنه إذن هو مقصود الإمام الشافعي من
حث الناس على ترك لسان أرسطو والعودة إلى لسان العرب أي الوحى ولقد كانت الأمة الإسلامية سائرة على ذلك طيلة القرن الأول الهجرى
اللهم فيما عدا الحالات الفردية التي أشرنا إليها من قبل
وهو
بيد أن الإنسان بطبيعته نزاع إلى أن يسير في الحياة بتوجيهات بشرية لذلك يحاول ابتداع عقيدة يؤمن بها واختراع مذهب يعتقد فيه فإذا ما حال دون ذلك وجود عقيدة سماوية وقوية فإنه يحاول أن يلونها ببشريته وأن يصبغها بنزعته وأن يقحم بشريته في ثناياها تأويلاً لها وميلاً بها إلى منعطفات رغباته وسيراً بها إلى مرضاة هواه
وهو يفعل ذلك فى أغلب الأحايين دون شعور سافر منه بما في عمله من انحراف قليل أو كثير عن الطريق الذى يحبه الله من المؤمن والذي ركزه سبحانه في كلمة إسلام ولقد كانت أول محاولة مذهبية منظمة لإقحام البشرية في دائرة الوحى إنما
هی
المحاولة الاعتزالية محاولة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن لف لفهما أو نهج نهجها وهى محاولة أساسها من غير شك طغيان البشرية وغلبة الهوى وإن ظهر ذلك في صورة من التلبيس مموهة ترى أن عملها خدمة للدين أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
ولأن هذا الاتجاه - إقحام البشرية فى دائرة الوحى – يتلاءم مع الكبرياء البشرى ومع الغرور الإنسانى انتشر المذهب الاعتزالى واكتسب أتباعاً عديدين بل وصل به الأمر إلى أن تبناه الملوك والأمراء
والاتجاه الاعتزالى إذن إنما هو هو نمط من لسان أرسطو هو نمط خفيف إلى حد ما ولكنه من غير شك لسان من ألسنة أرسطو إنه لسان المتكلمين والمتكلمون إذن في الجو الإسلامي إنما يعبرون عن نزعة بشرية تقحم نفسها
٥٤
في الوحى بصورة تحاول أن تكون مقنعة ولكنها مهما حاولت أن تخفى على الناس بل على أصحابها فإنها لا ينقصها الوضوح عند ذوى الشعور الديني السليم وقد ثار على هذا الاتجاه أئمة المسلمين الأصفياء وقادتهم الأتقياء ثار عليه الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل والإمام سفيان بل أئمة المحدثين من السلف رضوان الله عليهم
ثار عليه جميع
وندع
الحديث عن تفصيل هذا إلى مناسبة أخرى ولكننا نريد أن نشير إلى النتيجة التي حدثت عن هذا الاتجاه الاعتزالى
إن بني البشر يختلفون ذكاء وثقافة وبيئة وطبيعة ونزعاتهم من أجل كل ذلك مختلفة فإذا ما أقحموا بشريتهم في الوحى اختلفت آراؤهم وتفرقت نزعاتهم وتشتت أهواؤهم فكانوا شيعاً وأحزاباً
ولذلك افترقت الأمة منذ دخول هذه النزعة بعد أن كانت موحدة وانقسمت إلى فرق وطوائف تتضارب وتتعارض وتتصارع وتتناقض وإنه لمن ضحك الأقدار أن المعتزلة أنفسهم قد انقسموا إلى طوائف بعدد
من نبغ فيهم من شخصيات ولقد وصل الأمر بكل من هذه الطوائف نفسها
أن
رمت ما عداها بالانحراف والضلال وإنه لمن ضحك الأقدار أيضاً أن يقام على أساس هذه النزعة تراث ضخم يسميه و البشريون علم الكلام الإسلامي أو علم التوحيد الإسلامي وما هو من التوحيد في شيء وإنه لمن المحزن أن يضيع صوت الأئمة الأجلاء الشافعى ومالك وابن
حنبل وسفيان في وسط الجرى وراء البشرية
٥٥
إن هذا الجرى وراء الفكر البشرى - لسان أرسطو - قاد المسلمين إلى الجهل لأن الانصراف عن الوحى إلى الفكر الإنساني إنما هو انصراف عن علم إلى جهل وقاد الأمة الإسلامية إلى الاختلاف والتفرق بعد الوحدة في العقيدة والتماسك لأن الانصراف عن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه وهو الوحى إلى ما يخطئ وينحرف ويضل وهو الفكر إنما هو انصراف عن مصدر وحدة إلى مبعث تشعب
من
وصدق الشافعي
ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان
أرسطو
٥٦
الفصل الرابع
إخفاق الفلسفة
C
إن البحث في هذا الموضوع يستلزم إيجازاً موجزاً خاصا ببيان بعض الأمور التي تتعلق به كتعريف الفلسفة مثلاً وبيان نشأتها ومقاييسها التي تلجأ إليها لفض الخلاف إذا ما ثار حول موضوع من الموضوعات ولعلنا لا نكون بعيدين عن الصواب إذا ما عرفنا الفلسفة البحتة في وضعها الراهن بأنها البحث العقلى فيما وراء الطبيعة وفى الأخلاق والبحث في قيمة المعرفة وسائل ونتائج وهذا التعريف من المرونة بحيث يضيق ويتسع تبعا لضيق موضوع الفلسفة أو اتساعه في عصورها المختلفة
متى نشأ هذا النوع من البحث ربما لا يكون الإنسان مخاطرا إذا زعم أنه نشأ مع نشأة الإنسان نشأ كخطرات تمر عابرة ثم تنتهى وتلح تارة ثم تزول وتكثر في فترات محدودة وتقل فى أخرى غير أنها في كل أحوالها وظروفها المختلفة عابرة لا تدوم ولكن البحث الفلسفى العقلى المنظم المرتب المحكم إنما نشأ في اليونان ونشأ في اليونان بالذات لأن الدين اليونانى لم يكن له من الثبات واليقين ومن القوة والسيطرة ومن التمكن فى النفوس والتغلغل فى الأرواح ما يجعل الناس
لأول عهدها بالتحضر الثقافى لقوة التدين فى الأمة الإسلامية الناشئة ودراسة تاريخ التفلسف ونشأته والعوامل المؤثرة فيه في الأمة اليونانية
والأمة الإسلامية يفيد كل الإفادة إذا أردنا ملاحظة ظاهرة الإيمان من حيث القوة والضعف وأردنا ملاحظة ظاهرة التفلسف من ناحية الازدهار أو الذبول فالأمة الإسلامية في نشأتها لم تعرف التفلسف وإنما استسلمت للدين استسلاما مطلقا
رسوله
ومضى القرن الأول بأكمله والمسلمون يلتمسون في كتاب الله تعالى وسنة جميع الحلول للأمور التي تعرض لهم والأسئلة التي تثور في
نفوسهم
وحين بدءوا في ترجمة التراث الأجنبي - فيما بعد – بدءوا يترجمون الكتب التي تتصل بالجانب العملي كالطب مثلاً أو الكمياء أو ماوراء الطبيعة وأما الأخلاق فإنهم كانوا يتحرجون كل التحرج من ترجمتها اكتفاء وإعزازا بما
عندهم في ذلك من وحى معصوم واستمروا على ذلك إلى أن كان عهد المأمون فبدءوا بأمر منه يترجمون في مجال ما وراء الطبيعة ومجال الأخلاق وبدأ التفلسف البحت نلتمس فتور الإيمان كأساس من أسس التفلسف وكنتيجة من نتائجه أيضا
وبدأنا
وبداية التفلسف عند المتفلسف هي بداية التمرد الديني وبداية التوفيق بين الدين والفلسفة هى بداية النفاق فى المحيط الفلسفى
وما من شك أن محاولة التوفيق بين النتاج الإنساني في مجال ما وراء الطبيعة وهو الفلسفة وبين الوحى الإلهى إنما هى مهزلة من المهازل الكبرى
۰۹
التي تلجأ إليها الإنسانية حينما تريد تغطية انحراف صارخ أرضت به كبرياءها وغرورها
إن تفلسف المسلم نوع من الكبرياء والغرور ونمط من الاعتداد بالنفس اعتدادا يجعلها لا تستسلم للغير حتى لو كان ذلك الغير هو الوحي الإلهى والمبادئ الربانية
والتوفيق معناه أن تضع الطرفين موضع التساوى من حيث القيمة الاعتبارية ثم تبدأ تجر أحدهما إلى الآخر تحت ستار من التأويل والتفسير والشرح وعدم اعتبار المعنى الظاهر والالتجاء إلى معان باطنية قد لا تقرها اللغة أو العرف أو النظرة السليمة أو تحاول - بطريق آخر - أن تجعل كلا منهما يتنازل للآخر عن بعض مجالاته أو بعض ألوانه أو بعض مفاهيمه حتى يلتقيا وقد اختصر كل منهما في
جانب من جوانبه
وموقف المؤمن الصحيح يتمثل فى المبادئ التي حددها الرسول صلوات الله
وسلامه عليه تحديداً تاما و اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم لقد أنزل الله في ماوراء الطبيعة وفى الأخلاق ما فية كفاية تامة للمؤمن والمؤمن غير محتاج وراء ذلك اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا
وأول مادة في الإسلام إنما هي المادة التى تؤخذ من تسميته نفسها هي إسلام الوجه الله وإلقاء القياد له والإذعان التام لما جاء به والخضوع الكامل لتعاليمه ومبادئه فى الأخلاق وفى ما وراء الطبيعة
يريد
فإذا ما تمرد المؤمن على هذه المبادئ وبدأ يلقى بقياده إلى عقله حتى لو كان يصل عن طريق ذلك إلى نفس النتيجة التي أتى بها الدين فإنه
أن
منحرف عن هذى العبودية لله إلى هدى العبودية للعقل وهو يفعل ذلك تقديسا لنفسه وذلك نوع من عبادة الذات أو نوع من غرور العقل ! ونأتى الآن إلى نتائج الفلسفة فتتساءل ناظرين إلى الواقع التاريخي لماذا الفلسفة إننا إذا نظرنا إلى النتائج فى صورة عامة شاملة وفى صراحة لا تلبيس بها فإننا نجد نتائج الفلسفة تصور تصويرا تاما جميع أنواع الضلال والانحراف والوهم والخداع والزيف والباطل كما تصور فى خلال ذلك الحق والصواب أحيانا ولكن الأوهام فى هذه النتائج أكثر من الحقائق ذلك أن الفلسفة نتاج شخصى يرتبط بالشخص من حيث البيئة والعصر والثقافة والذكاء ودرجة التدين
فهي إذن لهذه الاعتبارات نتاج نسبي يتسم بالنسبية منذ المبدأ ومادام الأمر كذلك فإنه لا مناص من الاختلاف والتعارض والتناقض
والتضارب !
ونحن إذا نظرنا فى تاريخ الفلسفة منذ نشأتها نجد أنه لا يوجد في أى موضوع من الموضوعات ما يمكن أن نسميه بالرأى الفلسفي وهذه ظاهرة لها مغزاها العميق وليس بشطط أن يؤكد الإنسان أنه لا توجد مسألة واحدة اتفقت آراء الفلاسفة على حل موحد لها إن الرأى الفلسفى معدوم فى المحيط الفلسفى والمسائل التي بدأ قدماء عن حل لا تزال معلقة للآن يحاول
فلاسفة اليونان يبحثون لها - عقليا -
الفلاسفة المحدثون بعد مضى أكثر من خمسة وعشرين قرناً إيجاد حل لها
1
مقدمة
إن كل من يدرس تاريخ الفكر البشرى يلاحظ أن المسائل العقلية البحتة التي طرحت للبحث العقلى فى العصور القديمة هى نفس المسائل التي طرحت للبحث في العصور الوسطى وهى نفس المسائل التي تطرح الآن للبحث إن مسائل ما وراء الطبيعة ومسائل الأخلاق مازالت كما كانت مجالا
للبحث
إنها لم تتقدم خطوة نحو الحل
ومازال الخلاف فيها مستمرا - بنفس الحدة - التي كانت في القرون السابقة
للميلاد
ولقد حاول القدماء كما حاول المحدثون اختراع مقياس فيصل للتفرقة بين الحق والباطل أشهر المقاييس القديمة ما اخترعه أرسطو تحت عنوان المنطق ومن
عن
ولكن هذا المنطق لم يعصم فكرة المخترع نفسه الضلال برع في المنطق كثير من المفكرين القدماء ومن مفكرى الإسلام
ولقد
لقد
فيه الكندى بوع
والفارابي وابن سينا
بل لقد برع فيه الإمام الغزالى براعة كبرى
وبرع فيه فلاسفة الإسلام المغربيون ابن باجه وابن طفيل وابن رشد وهؤلاء جميعاً - اختلفوا اختلافاً جذريا – في آرائهم وفى نزعاتهم
ومن سخرية الأقدار بالفلاسفة أن ما سماه أفلاطون بـ اللهو الجدى
وهى المسائل التي وضعها زينون الإيليائى يبرهن بها على أن الوجود ساكن لا يتحرك وملأ لاخلاء فيه هذه المسائل التي تتنافى مع بديهة الحس البديهية ومع شعور الفطرة السافر من سخرية الأقدار أن الفلاسفة لا يزالون يحاولون إلى الآن إيجاد حل عقلى لهذه المسائل يوفقون فيه بين العقل والحس أو بين المنطق والفطرة السليمة مجرد الفطرة الفطرة في أي مكان فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً
وجدت
من أين وإلى أين ولم لا تزال للآن وربما إلى الغد بل ربما إلى أن ينتهى العالم معلقة تطلب الحل عقلياً
ومادام فى الفلاسفة من ينكر إنكاراً تاماً ما وراء الطبيعة ولا يعترف بالخير العام والفضيلة المحددة ومن يثبت كل ذلك فلا أمل قط في أن يوجد الرأى
الفلسفي ولكن أما يوجد مقياس عقلى يقيس به الفلاسفة الآراء فيهتدون بواسطته إلى الصواب وبذلك يزول الخلاف ويوجد الرأى الفلسفي عن ذلك نريد أن
نتحدث
إن الإنسان يبحث - منذ أن وجد - عن الغيب ويجرى وراء المجهول إنه يريد أن يكشف القناع ويرفع الحجب التي تحجبه عن عالم الغيب إنه يريد أن يصل إلى الله ويتصل به اتصالاً مباشراً وينغمس بنفسه في عالم الإلهية ويحس بروحه أنوارها وكان الطريق أمامه مرسوما واضحاً رسمه سمه الأنبياء -
عن طريق الوحى - ووضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام لقد صورته الرسالات الإلهية إنه العبودية الكاملة لله إنه القاء الإنسان بنفسه في المحيط الإلهى إنه اتجاه العبد إلى الربانية حتى يصير ربانيا إنه التخلق بأخلاق الله والوقوف ببابه سبحانه حتى يتقبله الله ويدخله في جنات المعرفة وفى رياض الحقائق
وسار الأمر على ذلك في الحضارات القديمة
لقد كان هذا النمط هو الذى يسير عليه كهنة عين شمس مثلاً في
الحضارة المصرية وكان هذا النمط الذى يسير عليه البراهمة فى الديانة الهندية
وكان هذا النمط هو الذي يسير عليه طلاب المعرفة الحق في العصور القديمة على اختلاف الأزمنة والأمكنة وما كان يتأتى قط أن يدور بخلد أحد في هذه الحضارات أن يكون هناك طريق آخر لمعرفة ماوراء الطبيعة غير هذا الطريق إنهم كانوا يرون الغيب من الأسرار الإلهية الله يمنح معرفته لمن يشاء من عباده وهو لا يمنح هذه
أن عالم
المعرفة إلا لهؤلاء الذين اتبعوا الصراط المستقيم الذي رسمه الله سبحانه فلما كان العهد اليونانى بدأ بـ الأورفية التي سارت على نفس الطريق القديم وبنفس الأسلوب الشرقى في الوصول إلى المعرفة وتلقف ذلك الأسلوب وتلك الطريقة فيثاغورس فكون المدرسة الفيثاغورية التي رأت أن معرفة ما وراء الطبيعة لا تأتى عن طريق الذهن يعمل والعقل يفكر والخيال يحلق كلا إنما تتأتى عن طريق الطهر الكامل في الأخلاق والزهد المتبصر في الماديات حتى لا يصير الإنسان عبداً لها
إنها لا تتأتى إلا عن طريق العبودية التامة لمانح المعرفة وواهب الخير
6
٦٣
وقد سارت المدرسة الفيثاغورية على أسلوب الصفاء كوسيلة
وعمموا في ذلك حتى لقد شمل مذهبهم نوع الملابس ولونها وهو البياض وأنواع المأكولات ومقاديرها وأوقات الصيام وكيفيته ولقد أسلمت الفيثاغورية علمها إلى الأفلاطونية التى أسلمته إلى الأفلاطونية الحديثة ولكنه بجوار هذا الأسلوب في المعرفة الخاصة بعالم الغيب نشأ أسلوب آخر أسلوب مبتدع أسلوب لم يكن موجوداً من قبل وهو أسلوب يعد في ذلك الزمن انحرافاً عن الأسلوب التقليدي المعروف ذلك الأسلوب هو محاولة معرفة عالم الغيب عن طريق العقل يتروى ويفكر ويبحث ليصل عن طريق ذلك إلى الفكرة الصحيحة عن عالم الإلهية سلباً وإيجاباً بدأ بذلك طبيعيو اليونان فلما جاء أرسطو مثل هذا الاتجاه كأقوى ما يكون التمثيل
وبدأ منذ ذلك الحين ولأول لحظة الفرق واضحاً بين الأسلوبين فالأسلوب الأول يؤمن إيمانا تاما بعالم الإلهية وكل رجائه أن يصل إلى أنواره
وأن يحصل على قبس منه وأن ينغمس في محيط رحمته أما الأسلوب العقلى المبتدع فإنه لا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئاً ويفرض تساوى الأمور ولا ير يرجح سلباً ولا إيجاباً ويلقى بقياده إلى عقله ويستسلم إلى ذهنه
ولكنه منذ العهد الأول لهذا الاتجاه العقلى لاحظ أصحابه ولاحظ الباحثون على وجه العموم أمرين ربما كان أحدهما نتيجة للآخر أما أولها فإنه هذا الاختلاف التام بين الباحثين عقليا أو المتفلسفين فيما وصلوا إليه من نتائج أنهم اختلفوا حتى مع اتحاد البيئة واتحاد الزمن !
لقد جهل بعضهم بعضاً وخطأ كل منهم الآخر وجزم كل منهم بأنه هو وحده على الصواب وأن غيره على الخطأ واحتقر كل منهم الآخرين ولقد وصل الأمر بالفيلسوف هرقليطس أن كان الناس في رأيه - على
من
أسلافه
ما يذكر كتاب قصة الفلسفة اليونانية قطعاناً من الغنم حقت عليهم الضعة والمهانة بل جنح به الكبرياء إلى احتقار أعلام الفكر فـ أكزنوفنس و فيثاغورس نكرتان جديرتان بالإهمال و هومير فدم غبى يجب أن تلهب ظهره عذبات السياط و هزيود لا يرتفع كثيراً عن غمار السوقة فهو واحد منهم لا يفرق بين الليل والنهار فإذا كان ينزل قادة الفكر تلك المنزلة فأين يقع الشعب من نفسه !
هم
الأنعام تؤثر الكلأ على الذهب وهم كلاب تنبح كل من
لا تعرفه اهـ
أما الأمر الثانى الذى لاحظه الباحثون فهو أن العقل مختلف من شخص لآخر وإذا كانت قد وضعت في العصور الحديثة مقاييس للذكاء تشبه أن تكون محدودة فإن اختلاف العقول في بني البشر لا يحتاج إلى ملاحظة مرواة ويمكن إجمال الأمرين في عبارة مختصرة وهى أن اختلاف العقول أدى إلى اختلاف النتائج على أن اختلاف العقول فى الأفراد يتضاعف بالمؤثرات الخارجية فالبيئة والوسط والثقافة والأصدقاء والجو والمصالح كل ذلك وغيره يؤثر إلى ما شاء الله فى العقول وفى النتاج الذي تنتجه ومع توالى الزمن تكثر المذاهب وتتعدد الفرق ويمكن أن يقال بدون مبالغة إن المذاهب تتعدد بمقدار ما يكون في العالم من
فلاسفة عقليين
وبمجرد أن أسفر هذا الأسلوب العقلى فى معرفة ما وراء الطبيعة عن اختلاف العقول واختلاف النتائج أخذ أنصاره يبحثون عن مقياس عقلى يضبط العقل ويعصمه من الخطأ وتمخض عن هذا المقياس عقل أرسطو فوضع مقياساً تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ في الفكر هو المنطق بيد أنه سرعان ما لوحظ المنطق لم يعصم ذهن الذي ابتدعه وأن هذا الذي ابتدع طريق العصمة أخطأ وأخطأ وأخطأ !
ثم لوحظ أن جميع الذين فتنوا بالمنطق في العصر اليوناني واستخدموه في الخطأ كتاباتهم لم يعصمهم عن وأخذ الباحثون قديماً وحديثاً يفكرون فى الخلل الذي أدى إلى عدم قيام المنطق بما يراد منه وهو العصمة فوجدوا الخلل ولاحظوه وحاولوا له
علاجاً فلم يتأت لهم ذلك لقد كان الخلل في المنطق من ناحية الشكل ومن ناحية الجوهر ۱
1 سبق أن كتبنا في تعليقنا على كتاب المنقذ من الضلال ما يلي
قد تقول إن العقل - وهو أساس مذهب المعتزلة ومذهب العقليين عموماً - له مقاييسه وله موازينه التي لا يتطرق إليها الخلل إن المنطق القديم منه والحديث آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في
التفكير
ولقد جاهدت الإنسانية جهاداً طويلاً حتى جعلت من الاستقراء والقياس أداتين للفصل بين الهدى والضلال وللتفرقة بين العماية العمياء والصواب الأصوب فالاستقراء والقياس - إذن - هما وسيلة العقل وهما فيصل التفرقة بين الغى والرشاد فمن التجنى على المعتزلة وعلى العقليين - وقد اعتمدوا عليهما - أن نصم مذاهبهم بمجافاتها للطريق الأقوم إن وجهة النظر هذه تبدو وكأنه لا غبار عليها بيد أنها عند النظرة الفاحصة تتزلزل وتنهار أما أولاً فلأن المعتزلة أنفسهم والعقليين عامة - مع اعتمادهم على الاستقراء والقياس – قد اختلفوا فرقاً وأحزاباً لا تحصى وكل فرقة أو شيعة تتبع رئيساً وصل به و استقراؤه ووصل به قياسه إلى نتائج معينة تختلف - في قليل أو فى كثير - عن نتائج استقراء آخر وقياس مختلف
=
وأما ثانياً فلأن الفكرة المنطق يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير أو المنطق وسيلة التفكير
الصحيح فكرة خرافية أكثر منها حقيقة وذلك يحتاج إلى تبيان
إن المقاييس هى كما ذكرنا الاستقراء والقياس
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه
۱ - مبنى كله على الحس إنه استقراء محسات إنه تتبع جزئيات لا تخرج عن نطاق الواقع أما المسائير فهو برىء منها كل البراءة لأنها لا تدخل فى دائرة اختصاصه فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة
ثم إن الاستقراء تام وناقص والتام - كما يعترف المناطقة لاغناء فيه ولا فائدة أما الناقص - وهو المهم في نظرهم فإنه - فى رأيهم أيضاً - ظنى وهو – لذلك – عرضة للتغيير في كل آونة
كل معدن يتمدد بالحرارة تلك قضية من قضايا الاستقراء إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تكتشف - بعد - بأكملها ومن الجائز أن يكتشف فى الغد معدن لا يتمدد بالحرارة إنها – إذن قضية مؤقتة ظنية تتبرأ من اليقين الفلسفي
والعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة لها قيمتها حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها 1
وهكذا قضايا الاستقراء إنها
١ - خاصة بالطبيعة ولا شأن لها بما وراءها
ظنية لاتعرف اليقين
أما القياس
۱ - فإنه مبنى على الاستقراء إذ هو منطو دائماً على كلية كلية استقرائية ومادامت قضايا
الاستقراء ظنية - كما رأينا - وميدانها المحسات فنتائج القياس ظنية كذلك وميدانها المحسات ٢ - إن المناطقة لا يشترطون فى مقدمات القياس أن تكون مسلمة صادقة في نفسها وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية منكرة كاذبة في نفسها وفى هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون
=
۱ انظر مقدمة فجر الإسلام
٦٧
وأصبحت كل قيمته أنه مران عقلى على أشكال عدة وضروب منتجة أو غير منتجة ولا نتيجة له اللهم إلا إذا كانت السياحة الذهنية في الأشكال
والضروب
وقد وضح ذلك - بما لا يحتاج إلى مزيد - علماء النهضة الحديثة أمثال
= المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها !
إنك إذا قلت الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى وكل ما يؤدى إلى الاستقلال الفردى مضر بالمجتمع فالكثير من العلم مضر بالمجتمع كان هذا قياساً صحيحا في نظر المناطقة وإذا قلت الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعى وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع فالكثير من العلم مفيد للمجتمع كان هذا أيضاً قياساً صحيحا عند المناطقة ذلك ومع
فالنتيجتان متعارضتان
ومع كل هذا فالقياس استدلال دورى فاسد ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا محمد إنسان وكل إنسان ناطق فمحمد ناطق متوقف على العلم بالكبرى والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد ولو كنت في شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان وإذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة والنتيجة متوقفة على الكبرى وعلى ذلك يكون القياس استدلالاً دوريا فاسداً فلا يعول عليه وأخيراً فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة إنها استنتاج مجهول - هو
- {
النتيجة - من معلوم هو المقدمات ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات إنها ليست مجهولة والقياس إذن لا يؤدى إلى معرفة جديدة أو إلى استنتاج مجهول من معلوم إنه - إذا أردت الدقة - استنتاج معلوم من معلوم
- تلك هي موازين العقل - وهى موازين لاغناء فيها ولا جدوى منها العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات ومن هنا كانت الحكمة فى نزول الأديان
ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات
وإذا كانت قد تحدثت فى التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق
ه بيكون و جون استيوارت ميل وأصبح المنطق الصوري الآن لا يساوى شروى نقير في مقاييس الحقيقة أو فى عصمة الإنسان وضاع الأمل العذب الذي تعلقت به الإنسانية زمناً طويلاً متخيلة أن الإنسان سيصل بالمنطق إلى
العصمة المطلقة
وكما تعلقت أعين الإنسانية بمنطق أرسطو زمناً فقد تعلقت أعينها بمنهج دیکارت زمناً آخر ولقد طنطن ديكارت بمنهجه وأشاد بأنه تلقاه ذات ليلة فغمره فرح لا يوصف واعتقد أن مشكلة المعرفة الإنسانية قد حلت سواء أكان ذلك في الدين أم في الطبيعة واستخدم ديكارت منهجه وتحدى به ولكن سرعان ما تبين خطوه في
الطبيعة وخطوه في كثير من النتائج التى وصل إليها وضاع مرة أخرى أمل الإنسانية الذى مدَّت إليه أعينها فترة من الزمن ونتساءل الآن أحقاً لم تصل الإنسانية إلى مقياس عقلى صحيح للفصل الفاصل بين الصواب والخطأ فى عالم ما وراء الطبيعة وفى عالم الأخلاق هذا السؤال حاسم جازم وهو أن الإنسانية لم تصل إلى مقياس عقلی تفرق به بين الهدى والضلال في عالم ماوراء الطبيعة وأن هذا العالم لا يزال - بالنسبة للعقل - من المساتير المحجوبة التي لم يرفع الحجاب عنها إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن طريق الوحي الإلهى ومما لاشك فيه أن جميع مذاهب الفلسفة - فيما يتعلق بعالم الغيب – ظنية إن لم تكن
والجواب عن
وهمية
أما عالم الأخلاق أما دنيا السلوك إنه كما أخفق المنطق في مجالاتها فقد
أخفقت جميع المقاييس البشرية ومن بينها مقياس الضمير
9
خرافة الضمير
1
إذا بحثنا في معاجم اللغة العربية عن معنى كلمة الضمير فإننا لا نجد من
بين معانيها
L
المعنى الأخلاقي
الذي نفهمه من هذه الكلمة في العصر
الحاضر ونستعملها فيه ونطلقها عليه وهى لم ترد بهذا المعنى في القرآن أو الحديث أو فى الشعر العربى القديم إنه معنى محدث أخذناه عن الغرب في العصور الحديثة وقد استعمله الغرب كثيراً وأشاد به حينما أراد أن يضع للأخلاق أساساً ومقياساً منفصلين عن الدين وكان ذلك على الخصوص حينما أراد الغرب أن يتخلص من سيطرة الكنيسة وأن يخرج على سلطاتها ويثور على قواعدها وأوضاعها ويفرق أو يفصل بين الدين والدولة وكان الدين إذ ذاك أساساً ومقياساً للأخلاق ولا مناص - إذا أريد التخلص من الدين - من البحث عن أساس ومقياس للأخلاق فلابد - لاستقرار المجتمع وهدوئه وأمنه – من أن تستقر الأخلاق
وتقوم على دعامة قوية
أقطاره
وإلا
لانهار المجتمع وناله الفساد من جميع
وتلفت زعماء الثورة على الكنيسة يميناً وشمالاً لعلهم يجدون ما يقوم مقام
الدين - وقد تحللوا منه بالنسبة للأخلاق فوجدوا - كسراب يتألق -
الضمير فتشبثوا به وأثنوا عليه ورفعوا من شأنه واعتبروه أساساً ومقياساً
للأخلاق
وما من شك – كما يقول العالم الفرنسى الكبير الأستاذ أندريه كرسون أن الأكثرية من الناس بل ربما جميعهم يكون لهم ضمير متى أدركوا سن الرشد فحينما يشرعون في عمل فإنهم يشعرون بأن هذا العمل إما أن يكون واجب التنفيذ وإما أن يكون واجب الترك وإما أن يكون من قبيل المباح وحينما يقومون بالعمل - سواء أراعوا الضمير أم لم يراعوه – فإنهم يشعرون أثر القيام به بمشاعر مختلفة فإذا كانوا قد خضعوا لحكم الضمير فيما أوجبه فإنهم يشعرون بتقدير لأنفسهم تصحبه لذة ظاهرة الرضا الأخلاقي أما إذا كانوا لم يستجيبوا لصوت الضمير فإنهم يشعرون باحتقار لأنفسهم شديد الإيلام تبكيت الضمير ٢
ورأى القائمون على الثورة ضد الكنيسة إذن أن يستعيضوا عن الدين
بوحى الضمير وأن يتخذوا من وحى الضمير الأساس الذي لا يخطئ والمقياس الذي لا ريب فيه بالنسبة للأخلاق
ب
وحينما هدأت الأمور فى الغرب وعادت الحياة إلى مجراها الطبيعي بعد الصراع العنيف بين الكنيسة والثوار الذى دام فترة طويلة من الزمن أخذ العلماء يراجعون أنفسهم ويدرسون فى هدوء ودعة المبادئ التي قامت عليها الثورة المنتصرة والأهداف التي حددت والغايات التي رسمت
انظر المشكلة الأخلاقية والفلاسفة
۷۱
ما هو الحق فى آراء هؤلاء وما هو الباطل إن منطق أرسطو وقف عاجزاً عجزاً تاماً عن بيان الخطأ والصواب في
آراء هؤلاء المنطقيين
إلام يرجع هؤلاء للتثبت من آرائهم
إنهم يرجعون إلى أدلة عقلية يسهل جدا هدمها عقليا كما يسهل جدا هدم الهدم
لقد قام الإمام الغزالى بعمل عظيم ممثلاً فى كتابه تهافت الفلاسفة إنه في هذا الكتاب هدم آراء الفلاسفة رأياً رأياً فانهارت تحت قلمه وسقطت فى ضوء بيانه
ولقد استغرق هدم الآراء ما يقرب من خمسة وتسعين في المائة من
الكتاب
عليه
أما الخمسة في المائة فقد أبان فيها الإمام الغزالى الأساس الذى قام الكتاب وهو بيان أن العقل الإنسانى لا يتأتى في عالم الإلهيات والأخلاق إلا مظنيات تصل إلى اليقين
6
وذلك العقل غير مؤهل للبحث فيها وأصبحت بذلك مجالاً للبحث
المستمر
ومضى الزمن – في طريقه – بعد الغزالي حتى نشأ ابن رشد فأخذ يهدم آراء الإمام الغزالي في نقد الفلاسفة وكان أبرع رد على ابن رشد أن عمله هذا إنما كان تأييداً للإمام الغزالى أكثر مما كان هدماً له وإن كل من يتأمل قليلاً في الموضوع يرى أن رأى الإمام الغزالي هو أن
العقل الذي يبنى هو العقل الذي يهدم
والقواعد التي خططت ثم هذبوا فى كل ذلك وغيروا وبدلوا وكان مما راجعوا
أنفسهم فيه مسألة الضمير
ويقول أندريه كرسون
ولما استعرضوا التاريخ والوقائع والمشاهدات يستنيرون بها في أمر الضمير الأقطار يستشيرون ضمائرهم
وفى جميع
رأوا أن الناس في كل العصور ولكنها لا تسمعهم جميعاً لحناً واحداً إذ أن ما يظهر عدلاً وخيراً لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص لا يظهر عدلاً ولا خيراً لنفوس أخرى هي
۳
أيضاً مخلصة ولكنها عاشت في عصر آخر أو مكان آخر ٣ أما إذا أردنا أمثلة على ذلك فإننا سنجدها كثيرة عندما نوازن بين أحوال
الضمير خلال مختلف العصور
ويضرب لنا الأستاذ - أندريه كرسون - الأمثلة الكثيرة
ففي العصور القديمة اليونانية اللاتينية كان نظام الرق مشروعاً إن أشرف القلوب إذ ذاك كانت تجد من الطبيعي أن يباع الرجال والنساء والأطفال وأن يعاملوا معاملة السوائم
ويقول
6
وكانت القوانين الرومانية القديمة تجعل من المرأة والأطفال ملكاً للزوج كما لو كانوا أمتعة وأنعاماً لهذا كان للأب من بين الحقوق الأخرى الحق في أن يعرض ابنته المولودة حديثاً في السوق العام إذا كانت له بنت أخرى ولسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيداً فهاهم أولاء أسلافنا كانوا يرون شرعية تطبيق العقوبة على مجرد ظن
۳ المصدر السابق
۷
الواحدة وفى الجماعة الواحدة المتحضرة المتمدينة
وهل الرأسمالى الذى يدافع عن نظام الميراث أقل إخلاصاً من الشيوعي الذي يهاجمه أو هل الديموقراطى الذى يقرر ضرورة الانتخاب العام أقل إخلاصاً من الأرستوقراطى الذى يعلن عدم ملاءمة هذا النظام وهل فيلانت عندما يبيح أنواعاً من الكذب أقل اقتناعاً برأيه من السست عندما يحرمها
إن شارلوت کردی عندما قضت على حياة مارا كانت ترى ولاشك أنها إنما تقوم بعمل أخلاقى عظيم بلا مراء فهل المواطنون الذين ساقوها إلى المقصلة كانوا أقل إيماناً منها بالقيمة الأخلاقية لعملهم هذا هذه الأمثلة التي ذكرها الأستاذ أندريه كرسون إنما هي قطرة من بحر مما يمكن أن يبرهن به على اختلاف الضمير بحسب اختلاف الزمن أو اختلاف الثقافات في البيئة الواحدة وهناك أمثلة لا تحصى إذا ما قارنا ضمائر العرب في العصر الجاهلي بضمائرهم في العصر الإسلامى أو ضمائر الوثنيين في مكة بضمائر المسلمين فيها عند نشأة الإسلام أو إذا ما قارنا ضمائر المتفرنجين في مصر العصر الحاضر
بضمائر المحافظين فيها ! !
والنتيجة لكل هذه المقارنات هى أن اتخاذ الضمير كأساس للأخلاق
أو كمقياس لها إنما هو مجرد حماقة وعبث
ومن الشبه التي جعلت الناس يؤمنون بمنزلة كبرى للضمير ويرفعونه أنه قد شاع بين بعض الطوائف أن الضمير قوة فطرية معصومة بطبيعتها ولكن هذه الدراسة السابقة تؤدى بنا لا محالة إلى أن الضمير قوة
فطرية حقا ولكنها قوة غير معصومة لأنها تربى وتكتسب فيما يتعلق باللون الذي تتخذه وهي وإن كانت قوة فطرية إلا أنها تتلون بحسب ما تتغذى به من ثقافة
ومن ورائه وهى تختلف فى الفرد الواحد بحسب اختلاف سنه وبحسب تنقله من بيئة إلى بيئة وبحسب الكتب التي تمده بالثقافة العقلية أو التهذيب الروحى وبحسب اختلاف الأصدقاء الذين يلازمهم الإنسان في حياته الواحد تلو الآخر والضمير إذن متأرجح متقلب لا يستقر له قرار لأنه حتى لو مكث على حالة واحدة تجاه مسألة معينة فإنه في هذه الحالة النادرة يتأرجح أيضاً قوة وضعفاً واتزاناً وإسرافاً
والوضع الصحيح إذن – بالنسبة لأساس الأخلاق – أن نلجأ إلى الدين
نستمد منه الهداية والإرشاد فإنه هو وحده المعصوم
والدين الإسلامي قدأتي في الجانب الأخلاقي بكل ما تتطلبه النفوس والأفئدة المتعطشة للاستقامة لقد أقر بذلك كبار الفلاسفة
المرهفة
الإسلاميون كابن سينا وغيره
لقد رأى ابن سينا أن الدين الإسلامي أتى بأكمل نظام أخلاقي تشريعي بالنسبة للمجتمع وبالنسبة للأسرة وبالنسبة للفرد وتحدث
ابن سينا عن ذلك غير مرة في مختلف كتبه أما صلة الدين بالضمير فإنها صلة هيمنة وتوجيه وإرشاد وسيطرة إنها صلة هيمنة تستمر مدى الحياة وإذا ما زالت هذه الهيمنة في أي فترة من فترات الحياة فإن الضمير يختل اتزانه وتوازنه ويتأرجح ويتذبذب لأنه يحتاج باستمرار إلى القائد المربى وليس هذا القائد المربى إلا الدين
Vo
الفضل اخت امس
الإمام الغزالي والفلسفة
أقساماً رأيتهم أصنافاً ورأيت علومهم وهم – على كثرة أصنافهم – يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم فى البعد عن الحق والقرب منه اعلم أنهم - على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم – ينقسمون إلى ثلاثة
أقسام
الدهريون
والطبيعيون
والإلهيون
الصنف الأول الدهريون وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة
والصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة
وعن عجائب الحيوان والنبات
U
ه وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات
U
فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضرورى
بكمال تدبير البانى لبنية الحيوان لاسيما بنية الإنسان
إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة - ظهر عندهم – لاعتدال المزاج
تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام وهؤلاء أيضاً زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم
الآخر وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر وإن آمنوا بالله وصفاته والصنف الثالث الإلهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو
أستاذ أفلاطون و أفلاطون أستاذ أرسطاطاليس و أرسطاطاليس هو الذى رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وحرر
لهم ما لم يكن محرراً من قبل وأنضج لهم ما كان فجا من علومهم وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحم ما أغنوا به غيرهم وكفى الله المؤمنين القتال بتقاتلهم
ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون و سقراط ومن كان قبله من
D
الإلهيين رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم إلا أنه استبقى أيضا
من
۷۷
رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير
شيعتهم من
المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا و الفارابي وأمثالها على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل ومجموع من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر
ما
عندنا صح في ثلاثة أقسام
۱ - قسم يجب التكفير به
وقسم يجب التبديع به
٣ - وقسم لا يجب إنكاره أصلاً فلنفصله
ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في
ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت
C
فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك في قولهم
أما المسائل الثلاث ١ - إن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة
والمثوبات والعقوبات روحانية لاجسمانية ولقد صدقوا في إثبات الروحية فإنها كائنة أيضا ولكن كذبوا في إنكار
الجسمانية وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به
٢ - ومن ذلك قولهم إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات وهذا أيضا كفر صريح بل الحق أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا فى الارض
VA
ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى ومن
شيء من هذه المسائل
0
وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم إنه عليم بالذات لا بعلم زائد على الذات وما يجرى مجراه فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة
وقد يتساءل إنسان إذا كان الأمر كذلك فلم انتشرت العلوم الفلسفية في العالم الإسلامي
يقول في ذلك الحافظ عماد الدين ابن كثير فى تاريخه سنة ٦٨٧ بعد أخذ التتار بغداد عمل الخواجا نصير الطوسى الرصد وعمل دار حكمة فيها فلاسفة لكل واحد في اليوم ثلاثة دراهم ودار طب فيها فلاسفة لكل واحد في اليوم ثلاثة دراهم ودار طب فيها للحكيم در همان وصرف لأهل دار الحديث لكل محدث نصف درهم فى اليوم ومن ثم فشا الاشتغال بالعلوم الفلسفية وظهر
والفلسفة التي نعنيها هنا إنما هي المحاولات المستمرة التي بدأت منذ العهد اليونانى القديم ولاتزال - لبناء ما وراء الطبيعة على العقل إنها هي المحاولات العقلية لاختراع ما وراء الطبيعة وابتداعه بحيث يأخذ العقل حريته في الإثبات والنفى غير متأثر إلا بمقاييسه هو التي يفرضها وإذا كان العقل قد اشتغل بالطبيعة والرياضيات وإذا كانت الطبيعيات والرياضيات قد أدخلت في الفلسفة كأجزاء لها فإن الهدف الأول للإمام الغزالى إنما هو جانب
ما وراء الطبيعة
ومما لاشك فيه أن العقل قد أنتج ثماراً يانعة في الطبيعيات والرياضيات
لقد أقام القواعد المحكمة ونظم المبادئ المتقنة وانتهى به الأمر إلى أن شيد الطبيعيات والرياضيات على أسس متينة وكان الأمر كذلك في هذين الميدانين لأن العقل يعمل في دائرة اختصاصه ودائرة اختصاصه إنما هي الماديات والمحسوسات أو ما يتمثل فيهما حينما يوجد خارج الذهن كالرياضيات وغر هذا النجاح قوماً فاعتقدوا أن في استطاعة العقل أن يجول في كل ميدان في استطاعته أن يجول فى الطبيعة وفى ما وراء الطبيعة في العالم وفى ما وراء العالم في المادة وفى المجردات فى عالم الشهادة وفى عالم الغيب وكانت النتيجة أن أقحموا العقل فى عالم ما وراء الطبيعة فكانت الفلسفة الإلهية العقلية وكان الإخفاق التام للعقل في هذا الميدان وهذه الفلسفة العقلية التي تبحث فى الغيب إنما هي انحراف عن الطريق المستقيم وهذا الانحراف حديث العهد نسبيًّا فهو يبتدئ كما قلنا بالعهد
اليوناني وأشهر من تولى كبره فى ذلك العهد إنما هو أرسطو وأرسطو هذا الذي يعتبره بعض المؤرخين أكبر عقلية فلسفية ظهرت على وجه التاريخ هو أيضاً أشهر الذين انهار مذهبهم في عالم ما وراء الطبيعة وكان إخفاق عقله الكبير هنا فيما يختص بمعرفة الغيب من أوضح الأدلة على أن عالم الغيب أسمى من أن يتناوله العقل البشرى الخطاء ولقد كانت الاعتراضات على مذهبه قوية عامة شاملة حتى إن تلاميذه وهم فلاسفة دب اليأس في نفوسهم من إقامة عالم ما وراء الطبيعة على أساس العقل فلم يمكنهم أن يردوا علي الاعتراضات ورأوا أنه إذا كان أستاذهم قد أخفق هذا الإخفاق في مذهبه عن عالم الغيب فإنهم سيخفقون من باب أولى لو حاولوا إقامة مذهب في الإلهيات
جديد يقول الأستاذ سانتلانا بعد أن ذكر الاعتراضات على مذهب
أرسطو إن ذلك حمل التلامذة بعد موته على الإياس من الإلهيات والتفرغ إلى علم الطبيعة وعلم الأخلاق اختصوا بهما في القرن الثالث قبل الميلاد حتى لقبوا بالطبيعيين سماشيعة ثا وقرسطيس و استواثون اللذين خلفا أرسطو في رئاسة دار العلم التي كانت للمشائين بأثينا اهـ
انصرف إذا تلاميذ أرسطو - يائسين - عن عالم ما وراء الطبيعة إلى عالم الطبيعة والأخلاق وإذا كان مذهب زعيم العقليين قد انهار فمن باب أولى ينهار مذهب غيره ممن هم أقل منه ولكن هذا الانهيار المتتابع للمذاهب العقلية في الإلهيات لم يصرف الناس عن هذا النمط من المحاولات التي مالها دائما
الإخفاق
وتتابعت هذه المحاولات فى الشرق والغرب إلى عهد الإمام الغزالي ورأى الإمام الغزالى ببصيرته النفاذة وبحدسه الملهم أن هذا الطريق الذي انحرفت إليه الفلسفة وسارت فيه إنما هو طريق مسدود ولابد إذا من محاربة هذا العبث الذى يسمونه الفلسفة العقلية لابد من محاربته لأسباب عدة فهو إضاعة للوقت وهو تشكيك للبشرية وزعزعة للإيمان وليس له من نتيجة إلا التفرق والاختلاف وتوهين المقدسات على أنه إذا كان يلتمس لليونان العذر في معالجة هذا الموضوع لعدم وجود الوحي المعصوم الذي يهديهم الطريق وينير لهم الجادة فليس هناك من
عذر للمسلمين وبين يديهم رسالة السماء ممثلة في القرآن وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
۸۱
إن ابن رشد بعلمه هدم نفسه وأيد موقف الإمام الغزالي ويمضى الزمن فيجيء ديكارت
ويزعم ديكارت أنه اخترع مقياساً للفصل بين الخطأ والصواب ويؤكد ديكارت أن الإنسان لو اتبع فى تفكيره المقياس الذي اخترعه خطوة خطوة فإنه لا مناص سينتهى إلى الصواب وستكون ثمرة السير مع المنهج الديكارتي اليقين وكان أول دليل واضح على خطأ ديكارت هو ظهور الخطأ البين في آراء
ديكارت بالجانب المادى والتى هدمتها التجربة بصورة لاشك فيها أما آراؤه المعنوية فقد خالفه فى الكثير منها أساطين الفكر وعباقرة الفلسفة وكان منهج ديكارت أملاً عذباً ولكن البحث أظهر أنه سراب وليس
بماء
وانتهى الأمل في منهج ديكارت كما انتهى الأمل في منطق أرسطو وبقيت المسائل التي بحثت قبل الميلاد كما كانت
۱ - ظنية
مجالاً للبحث
مختلفاً
- {
فيها
الآراء فيها متعارضة من إنكار مطلق إلى إثبات مطلق
ه - عجز العقل عن الحمل وعن الوصول إلى اليقين
إن العقل له دوره الكبير الهائل فى الحضارة المادية بل إننا لا نعدو الصواب حينما نقول إن الحضارة المادية بأكملها من الإبرة إلى الصاروخ ومن وابور الغاز إلى البوتوجاز وإلى آلات الكهرباء من عمل العقل
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقد
تكفل الله بحفظه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ليس للمسلم إذاً - فيما يرى الإمام الغزالي – أن يحاول ابتداع عالم ما وراء الطبيعة أو اختراعه عقليا ولكن المسلمين أخذوا فيما أخذ فيه اليونان واعتمدوا على العقل وألقوا قيادهم إليه فتفرقوا مذاهب شتى وطرائق قدداً وأصبح للفلسفة برغم هذا بريق يخطف الأبصار ولمعان كالسراب يجذب
الكثيرين
لابد إذا من التشمير عن ساعد الجد وهدم هذا الزيف وإبطال هذا
السحر حتى يعود الناس إلى الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق وحمل الإمام الغزالى على الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة وهو العقل حملة عنيفة وهجم عليه هجوماً قوياً ولم يفتر قط عن مهاجمته منذ أن ألف كتابه القيم " تهافت الفلاسفة إلى أن انتهت به الحياة ولقد كان كتابه تهافت الفلاسفة محاولة موفقة كل التوفيق جريئة كل الجرأة طريفة كل الطرافة وما كان المقصد الأول والهدف الأساسي لهجومه هدم الآراء في نفسها فبعضها صحيح موافق للدين ومع ذلك فقد هدم الإمام الغزالي المنهج العقلى الذي استندت إليه هذه الآراء فخلود النفس مثلاً رأى يقول به الغزالى ويقول به الفلاسفة ولكن الإمام الغزالي حمل معوله على طريقة الفلاسفة في إثبات خلود النفس وهدم أدلتهم وضرب بمعوله فيها فانهارت وتهافتت ومع ذلك فقد كان هو مؤمناً بهذا الخلود إنه لم يلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتعبير فى وجه أدلتهم بما يبين تهافتهم ومقصوده تنبيه من حسن اعتقاده فى الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية
۸
عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم
ويقول أنا لا أدخل فى الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر
لا دخول مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة
فألزمهم تارة مذهب المعتزلة
وأخرى مذهب الكرامية
وطورا مذهب الوقفية
ولا أنهض ذاباً عن مذهب مخصوص
ويقول الأستاذ بلاسيوس بحق إن الغزالي حينما سمى كتابه تهافت الفلاسفة كان يريد أن يمثل لنا أن العقل الإنساني يبحث عن الحقيقة ويريد الوصول إليها كما يبحث البعوض عن ضوء النهار فإذا أبصر شعاعاً يشبه نور الحقيقة انخدع به فرمى بنفسه عليه وتهافت فيه ولكنه يخطئ مخدوعاً بأقيسة منطقية خاطئة فيهلك كما يهلك البعوض
فكأن الغزالى يريد أن يقول إن الفلاسفة خدعوا بأشياء أسرعوا
إليها بلا إعمال روية فتهافتوا وهلكوا الهلاك الأبدى اهـ
وفى كتاب التهافت هدم الإمام الغزالى عقلياً ما بناه الفلاسفة معتمدين على عقولهم وتهافتت الآراء تحت قلمه ومن الحق أن نقول إن أدلة الإمام الغزالى فيها من القوة ومن الرسوخ بحيث لا تقل من وجهة النظر العقلية أدلة الفلاسفة العقليين وما من شك في أن حملة الإمام الغزالى إنما كانت موجهة أولاً وبالذات إلى العقل والقضية المتنازع عليها هي قضية استطاعة العقل الوصول إلى المعرفة اليقينية فى عالم ماوراء الطبيعة الإمام الغزالى ينكر ويثبت إنكاره
عن
بالإخفاق المتتابع للفلاسفة ويثبته أيضاً بهدم العقل لكل ما بناه العقل نفسه في
هذا الميدان والتعارض إذا بين الإمام الغزالى والفلاسفة إنما هو تعارض كلى ولذلك فإن المحاولات الكثيرة المتعددة لتصحيح آراء الفلاسفة أو لتصحيح بعضها ونقد الإمام الغزالى فى حملته على هذا الرأى أو ذاك والانتصار لوجهة النظر الفلسفية في هذه أو تلك إن ذلك كله غير مجد في القضية التي أثارها الإمام الغزالى وهى محاولات جهل القائلون بها موضوع النزاع على حقيقته أو تجاهلوه ومن هنا كانت محاولة ابن رشد - وهو أكبر المدافعين عن الفلاسفة - تصويب آراء الفلاسفة فى كتابه تهافت التهافت عملا غير مفيد في النزاع إذ إن دائرة النزاع الحقيقية إنما هي الأساس الذي بنيت عليه الآراء وليست الآراء نفسها والواقع أن فكرة الإمام الغزالي لا تزال للآن بالسهولة والوضوح والقوة لقد أخفقتم أيها العقليون والدليل على إخفاقكم اختلافكم المستمر هذا الاختلاف الذى أصبح وكأنه القاعدة والمبدأ العام وإذا أردنا في النهاية تقدير مدى الآثار التى كانت ولا تزال ثمرة لفكرة الإمام الغزالى هذه فإن خير ما نفعل فيما يتعلق بذلك وخير ما نختم به هذه هو أن ننقل رأى الدكتور محمد إقبال وهو رأي يتسم بالرصانة
الكلمة
والعمق
C
الإسلام
حسم
تتسم
يقول محمد إقبال فى كتابه تجديد التفكير الديني في
0
على أنه لا سبيل إلى إنكار أن الدعوة التى نهض لها الغزالى تكاد تكون دعوة للتبشير بمبدأ جديد مثلها في ذلك مثل الدعوة التي قام بها كانت في
ΛΕ
ألمانيا في القرن الثالث عشر
ففي ألمانيا ظهر المذهب العقلى لأول عهده حليفا للدين ولكن سرعان ما تبين أن جانب العقيدة من الدين لا يمكن البرهنة عليه حسياً فكان الطريق
الوحيد إذن أن تمحى العقيدة الدينية من سجل المقدسات وقد جاء مع محو العقيدة مذهب المنفعة في فلسفة الأخلاق ولذا مكن المذهب العقلى من سيادة الإلحاد تلك كانت الحال في ألمانيا عندما ظهر كانت وكشف كتابه العقل الخالص عن قصور العقل الإنسانى فهدم بذلك ما بناه أصحاب المذهب العقلى من قبل وصدق عليه القول بأن كان أجل الله على وطنه وإن التشكك الفلسفى الذى اصطنعه الغزالى على تطرفه بعض الشيء قد انتهى إلى النتيجة نفسها في العالم الإسلامي إذ قضى ذلك على المذهب العقلي الذي كان موضع الزهو على الرغم من ضحالته وهو المذهب الذي سار في نفس الاتجاه إليه المذهب العقلى فى ألمانيا قبل ظهور كانت غير أن هناك فارقاً هاما بين الغزالى و كانت فإن كانت تمشى مع
نعم
مبادئه تمشياً لم يستطع أن يثبت أن معرفة الله ممكنة
أما الغزالى فعندما خاب رجاؤه فى الفكر التحليلى ولى وجهه شطر الرياضة
الصوفية
وألفي فيها
مكاناً
قائماً للدين بنفسه
وبهذه الطريقة وفق لأن جعل للدين حق الوجود مستقلا عن العلم وعن
الفلسفة الميتافيزيقية
٨٥
الفصل السادس
تأملات في الإيمان والإلحاد
يخلط كثير من الناس بين التوحيد وإثبات وجود الله وهما أمران بان في وضوح اختلافها واختلاف موقف الإسلام منهما إذ إن الإسلام استفاض استفاضة كثيرة في إثبات التوحيد وذلك لأنه حق لامرية فيه ويقين لا شك
فيه وقد عمى عنه الوسط الذى كان بجزيرة العرب فأشركوا بالله أما موقف الإسلام بالنسبة لإثبات وجود الله فإنه مختلف اختلافاً كبيراً عن
موقفه بالنسبة لإثبات التوحيد
إن القرآن لم يتحدث عن إثبات وجود الله إن الله في العرف الإسلامي وفى أعراف أصحاب الفطر السليمة موجود ووجوده لا يتمارى فيه اثنان ومع ذلك فإن الوضع الحالي في الأجواء الشرقية والغربية قد ألف نزعة ترى أن جميع إثبات وجود الله مسألة تحتاج إلى برهان وهذا الإلف وهذه النزعة الناشئة عن التعود في حاجة ماسة إلى بيان الوضع الصحيح فى هذا الموضوع الخطير ومن أجل ذلك نرى من الواجب علينا معالجة هذا الموضع في شيء من الاستفاضة يقول الله سبحانه وتعالى عن جوهر رسالة نوح عليه السلام في العقيدة ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إلى
أخاف عليكم عذاب أليم 1
۱ هود ٢٥ ٢٦
يوم
٨٦
ويقول سبحانه وتعالى عن جوهر رسالة صالح في العقيدة
وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
وعن جوهر رسالة شعيب في العقيدة
وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره وهكذا في رسالة جميع الأنبياء إذ يقول الله تعالى في تعميم مطلق وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون كم إلام تشير هذه الآيات
إنها لا تتحدث عن إثبات وجود الله وإنما تتحدث عن الشرك أى الاعتقاد في آلهة كثيرة ولقد كانت الثورة ضد الشرك وتحطيم الأصنام من المهام الكبرى في الرسالة الإسلامية حتى إن العالم الكبير أبا الريحان البيروني حينما أخذ يبين الطابع الأصيل لكل دين قال عن الإسلام
إن الطابع الأصيل للإسلام إنما هو التوحيد وإذا كان البيرونى حينما تحدث عن طابع كل دين إنما كان يتحدث عن طابع الأديان في وضعها الراهن فإنه مما لا شك فيه أن الأديان – على الرغم
مما ذكره البيروني عن سماتها المختلفة - تشترك جميعها فى مبدأ التوحيد وكل نبي بشر بالتوحيد ولكن الإنسانية كانت تنحرف بالعقيدة بعد موت
الرسول من التوحيد إلى الشرك والشرك إسراف خاطئ في الإيمان وما كانت الإنسانية تنحرف قط من التوحيد إلى الإلحاد وما كان للإلحاد
وجود قط فيما قبل الحضارة اليونانية القديمة
ونشأ الإلحاد - انحرافاً فطرياً ودينيا - مع الحضارة اليونانية القديمة نشأ
يجاور الشرك ويجاور التوحيد
لقد كانت هذه الحضارة تشتمل - في العقيدة - على ثلاثة تيارات ۱ - الشرك وهو دين الدولة الشائع وتقاليدها الراسخة يتمثل في فنها الذي يمثل الشرك في قوة والذى أثار الإعجاب للإتقان الذي كان يتمثل فيه والذي مازال يثير الإعجاب للآن ويتمثل في أدبها الذي يعكس صورة لعقيدتها وتاريخ اليونان الفكرى والأدبى ملىء بصور الشرك مفعم بالوثنية ولكن الشرك في اليونان - كغيره من ألوان الشرك – أعطى للآلهة صورة غير كريمة بل لقد وصل بها أحياناً إلى صورة تنحط عن صورة البشرية الآثمة أرأيت الآلهة ترتشى وتظلم وتزنى
لقد كانت هذه بعض صور الآلهة فى اليونان القديمة
وهى صور أساغها الإلف والتكرار والعادة وشب عليها الأطفال والشبان فلم تثر انتباههم أو توقظهم
وفي فترة من فترات هذه الحضارة - فترة القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد على الخصوص - نشأت مجموعة من العباقرة لا تكاد تحصى وكأن السماء في هذه الفترة كانت تمطر عباقرة على تفاوت فيما بينهم في الاتجاه وفى
المكانة
هؤلاء العباقرة أكثرهم استقر على رفض الشرك أي رفض الدين الرسمي الشائع للدولة ولو قدر الله لليونان إذ ذاك ديناً صادقاً لاستمسكوا به وما تردت الإنسانية فى الأخطاء الكثيرة التى نشأت عن الحضارة اليونانية في عالمها الفكري الذي انفصل عن الوحى لا عن اختيار ورغبة وإنما على أسف
۸۸
شديد لفقدان الوحى والرسالة الصادقة
يدلنا على هذا الأسف وعلى التقدير الذي كان عندهم للوحى قصة برويها التاريخ حدثت في عهد سقراط وهى قصة عميقة في مغزاها كل العمق جلس سقراط - أبو الفلسفة وأبو الفلاسفة - ومعه اثنان من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية المشهورة التي أسسها فيثاغورس الفيلسوف الصوفى الكبير جلس ثلاثتهم يبحثون فى جد واهتمام موضوع مصير الروح بعد الموت هل الموت هو الخطوة الأخيرة للإنسان ينتهى بعده روحاً وجسداً أو أنه انتقال من حال إلى حال والروح باقية هل الإنسان خالد بجوهره وهو الروح أو أنه فان جسماً وروحاً وأجهدهم البحث وانتهى بهم إلى عدة براهين تثبت خلود الروح وأنها لا تفنى بفناء الجسم وسكنوا يستريحون قليلاً ولكنهم فى فترة راحتهم أخذوا يتدبرون ما انتهوا إليه ثم قال أحدهم - نتيجة لتأمله - ولكن المسألة مازالت في حاجة إلى مزيد من اليقين
ولقد كان ذلك هو ما انتهى إليه الآخرون في تأملهم وقال أحدهم معقباً
على ذلك ولكن هذا نهاية شوط العقل وأسفوا جميعا على أنه لم ينزل وحى ولم يبعث لديهم رسول يفصل في
هذا الموضوع ثم أخذ أحدهم يتحدث عن تشبيه دقيق يتعلق بوسيلة العبور في محيط ما رواء الطبيعة والمحيط المادى إنما يتأتى فى أعراف الناس عن طريقين أحدهما السفينة يعبر بها الإنسان المحيط آمناً مطمئنا من شاطئ إلى شاطئ
أما الثانية فإنها لوح من خشب مصير راكبه الغرق في أغلب الظن ووسيلة عبور محيط ما وراء الطبيعة هى الوحى وهو السفينة الآمنة المتينة والعقل وهو لوح الخشب الذى لا يصل في أغلب الظن إلا إلى غرق
راكبه
ولقد كان فلاسفة اليونان فى لهفة على أن ينزل عليهم الوحي في جدته ونضرته وصدقه ولم يقدر لهم ذلك ورفضوا الشرك دينهم الرسمي فما هو البديل إنه لوح الخشب
وركبوه ركبه سقراط وركبه أفلاطون وركبه أرسطو وركبه من قبل السوفسطائيون وركبه من بعد أبيقور وركبه الرواقيون
إلام وصل بهم لقد وصل بهم إلى
٢ - التوحيد فيما رأى سقراط وأفلاطون وأرسطو وكثير غيرهم
وهذا
هو التيار الثاني الذي كان في اليونان في عصرها القديم بيد أن توحيد هؤلاء ليس
هو التوحيد كما نزل على لسان الصادقين المعصومين صلوات الله عليهم وسلامه
C
ولم يمثل توحيد المدرسة السقراطية فى جزئياته وفى تفاصيله التوحيد الصادق ولكنه على كل حال ليس شركاً
- وأدى بهم فى فريق آخر إلى الإلحاد الإلحاد المطلق الإنكار لما بعد الطبيعة وللبعث والرسالة وكان ذلك على لسان أبيقور ومن لف لفه في اليونان من قبله أو في زمنه أو من بعده
لقد فقدوا في منطقهم الميتافيزيقى الاعتماد على الوحى فقادهم ذلك إلى مسالك شتى ولو كان هناك وحى لقادهم وقاد عقولهم إلى الشاطئ في أمن
وسلام
ومنذ هذه اللحظة دخل الإلحاد في العالم مبتدئاً من اليونان وأصبحت مسألة التدين في الجو الفكرى المتابع لهذا التيار اليوناني مسألة عقلية لا شأن لها بالوحى وأخذت تسير في مجراها العقلى العادي المؤمنون يبرهنون عقليا على إيمانهم
والملحدون يزيفون المنطق برهنة على إلحادهم
لقد أخذت المسألة فى هذا الطريق مع أنها شعور وفطرة وبداهة وما من شك فى أنه كان للمؤلفين منطق جميل في الإثبات نذكر منه شيئاً من إثبات سقراط
قال سقراط لصاحبه الذي ينكر وجود
الله
أفى الناس من يعجبك براعته في الصنائع
فقال نعم وسمى من الشعراء والمصورين ممن كان يعده أبرع من غيره
فقال سقراط أيهما عندك أرفع شأناً أمن يصنع التماثيل العارية عن الحركة والعقل أو من يصور الأشباح الحية المتحركة
فقال من يصنع الصور الحية اللهم إلا إذا كانت تلك الصور من عمل المصادفة والإتقان لا من عمل العقل
قال سقراط إذا فرضنا أشياء لا يظهر المقصود منها وأشياء أخرى بينة القصد والمنفعة فما قولك فى تلك الأشياء وما هي التي عندك من فعل العقل وما هى التى عندك من فعل الإتقان
قال لاشك أن ما ظهر قصده ومنفعته من فعل العقل
قال سقراط أو لست ترى أن صانع الإنسان في أول نشأته جعل له آلات
۹۱
وعلى العقل قامت الحضارة المادية من أساسها
ولكنه – إذا استقرأنا تاريخ الفكر النظرى البحت – عجز عجزاً تاماً عن
دور مثمر
إن هذا الذي نقرؤه فى تاريخ الفكر البشرى عن عجز العقل في مجال العقائد وفى مجال الأخلاق يدل فى صورة سافرة على أن كل من يأمل أن يصل إلى يقين عقلى فى ذلك فإنه مغرور
ومن الغريب أنه برغم بداهة هذا العجز فإنه مازالت البشرية تسير في هذا
الطريق المغلق
عليه
أنه
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب
من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ۱
ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب
الحريق م
ولكن كيف نصل إلى الحق في هذه المجالات
إن الله سبحانه وتعالى - وهو الحكيم الخبير - قد تفضل على عباده فهداهم
الآخر
6
إلى الحق في هذه المجالات على ألسنة رسله الذين تتابعوا الواحد تلو هادين إلى الله مبشرين بالحق داعين إلى صراط الله حتى إذا انتهت حكمته سبحانه بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين وخاتماً للرسل تكفل سبحانه بحفظ الرسالة ممثلة في القرآن الكريم
١ الحج آية ٣ و ٤
الحج آية ٨ و ٩
۱۰
ويسمع
الحس لما في تلك الآلات من المنفعة الظاهرة فأعطاه البصر والأذنين ليبصر ما يكون لعيشه صادقاً وما فائدة الروائح لو لم تكن لنا الخياشيم وكيف ندرك المطاعم ونفرق بين الحلو والمر لو لم يكن لنا لسان نذوق به إن بصرنا معرض للآفات
أو لست ترى كيف اعتنت القدرة الإلهية بذلك فجعلت الأجفان كالأبواب لتمنع ما يصيب البصر وجعلت الأهداب كالمناخل لتقيها من الرياح
أضرار
وما قولك في آلة السمع وهى تقبل جميع الأصوات ولا تمتلئ أبداً أما رأيت الحيوانات كيف رتبت أسنانها المقدمة وأعدت لقطع الأشياء فتلقيها إلى الأضراس فتدقها دقا
فإذا تأملت في ترتيب ذلك أيمكنك أن تشك هل هي من فعل الإتقان
أم من فعل العقل قال أرسطو ديموس
نعم إذا تفكرنا في ذلك لا نشك في أنها من فعل صانع حكيم كثير العناية
بمصنوعاته
ومهما يكن في هذا الاستدلال من جمال ومهما يكن في استدلال المؤلهين العقليين أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت من قوة فإن المسألة مع ذلك انحراف
مهدت له ظروف اليونان التي فقد فيها الوحى وهذا الانحراف لم يجد من
فأخذ يصححه
صورة الوضع الطبيعى وهو انحراف منحرف
ما الوضع الطبيعي للمسألة
۹
عدة
قص على صاحب لى قصة هزت شعورى هذا قويا وأخذت أفكر فيها
أيام
وما كنت أتخيل أن يصل صدق الإيمان إلى هذه الدرجة قال صديقي - وهو سودانى - يحتل مكانة مرموقة فى العلم والإيمان إن في أطراف السودان قرية صغيرة تشبه أن تكون منعزلة لا يكاد يطرق أبوابها غريب
ويسكن بهذه القرية رجل صالح يسير في حياته على تقوى الله
وعلى بصيرة من دينه
قط
من
عاش هذا الرجل وعالمه - كل عالمه - هو هذه القرية التي لم يفارقها
لقد تعود فيها على أناس معينين
وعلى ألوان محددة و ملابس لا تكاد تختلف من فرد لآخر
إنه في تصوره الحسى محدود بهذه القرية
وفى يوم من الأيام اقتضت الظروف - فى صورة من الحتمية - أن يذهب
إلى مدينة بعيدة
وكان هذا في حياته حدثاً هائلاً
فإنه لا يعرف الطرق ولا المسالك ولا كيف يسير
ولابد من السفر
فاصطحب معه أحد أبناء القرية ممن لهم دراية بالأمور وسافرا وعلى مشارف المدينة رأى الرجل الصالح منظراً تعجب له
رأى ضابطا إنجليزيا ! !
ورؤية ضابط إنجليزى فى السودان - إذ ذاك كانت أمراً عادياً
ولكن - صاحبنا - لم ير هذه الصورة من قبل
وسار تفكيره على النسق التالي
ما لهذا الكائن قد حلق لحيته على هذه الصورة حتى لكأنه قد سنفرها إلى أن أصبحت وكأنها لم تكن
وما له قد كتف نفسه في ملابسه على هذه الصورة ثم ربط نفسه أيضاً
بحزام في الوسط
وماله
وماله
ثم سأل مرافقه ما هذا
فقال مرافقه هذا خواجة
ولم تكن هذه الكلمة قد دخلت قاموسه اللغوى
فعاد يسأل وما خواجة
فقال صاحبه یعنی کافر
وكان هذا مبلغ علم مرافقه
فإذا بالرجل يرتجف قليلاً ويضطرب
ويسأل في اهتمام وقلق أهو كافر بالله
فقال رفيقه نعم كافر بالله
فإذا بالرجل الصالح يمتلى جسمه وشعوره بالاشمئزاز من هذا الكافر
فإذا بهذا الاشمئزاز يزداد شيئاً فشيئاً
وفى سرعة سريعة وصل الاشمئزاز إلى غايته فتقاياً
وكما يحدث الاشمئزاز من القاذورات المادية فإنه يحدث من
القاذورات المعنوية مثل الكفر بالله
والكافر بالله - فيما رأى صاحبنا - إنما هو مجموعة من القاذورات
المعنوية
لا تستحق إلا الاشمئزاز إلى درجة التقايو
أما منطقه في هذا الاشمئزاز فهو أن المنكر للجميل تشمئز منه النفس
ويزداد هذا الاشمئزاز ويعظم كلما كان الجميل كبيراً
وكان المنكر متبجحاً
وإننا إذا نظرنا إلى مابنا من نعمة فإننا نجدها
وما بكم من نعمة فمن الله كم
الله
من
وإذا نظرنا إلى كمية هذه النعم نجد أنها لا تحصى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها كه فمن أنكر هذه النعم وهي محيطة به ووصل به إنكاره للجميل إلى درجة الكفر
فإنه يكون قد بلغ فى إنكار الجميل منتهاه
فيبلغ الاشمئزاز منه منتهاه التقايؤ
وما كان صاحبنا يفكر فى منطق لشعوره وإذا كنا نحن نلتمس المنطق لهذا
الشعور فإن هذه الظاهرة إنما تعبر أبلغ تعبير عن صدق الإيمان وصفاء
الفطرة
لقد فوجئت حقا بهذه الدرجة من صدق الإيمان
وأخذت أربطها بما سبق أن قرأت
من أفكار تتناسق معها
أفكار أثرت فى نفسى كثيراً حينما قرأتها
٩٥
إنها أفكار طائفة من أعلام الفكر لم يستعبدها الإلف الذهني ولا العادات الفكرية فيما يتعلق بمسألة الإلحاد والكفر إن خط الإلف والعادة فى هذا الموضوع هو أن يذكر المؤمنون الأدلة على وجود الله التي ترجع إلى دلالة الأثر على المؤثر وهى دلالة قوية فيحاول الملحدون متعسفين الرد عليها
كلا أيها المؤمنون إن المسألة أقدس من أن توضع هذا الوضع
وأوضح من أن تحتاج إلى برهان
يقول الإمام العالم الحجة ابن عطاء الله رضى الله عنه وإذا كان الكائن من الكائنات من هو غنى بوضوحه عن إقامة دليل فالمكون أولى بغناه عن الدليل منها
ويقول
إلهى كيف يستدل عليك بما هو فى وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك
متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك
ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك
كيف يتصور أن
كيف يتصور
يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء
يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء
كيف يتصور
يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود شيء
شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه
٩٦
المستدل به عرف الحق لأصله فأثبت الأمر من وجود أصله
والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه
وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه
ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه
ويقول الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه أعجب العجب تكون الكائنات موصلة إليه
ومن
فليت شعري هل لها وجود معه حتى توصل إليه أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له
ويقول
كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف
أم كيف يعرف بشيء من سبق وجوده وجود كل شيء ويقول أيضاً
إنا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان
فأغناها ذلك عن الدليل والبرهان
ويقول رضي الله عنه
وأرباب الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان
لأن أهل الشهود والعيان قدسوا الحق فى ظهوره أن يحتاج إلى دليل يدل
عليه وكيف يحتاج إلى الدليل من نصب الدليل
وكيف يكون معروفاً به وهو المعروف له
إن محاولة الاستدلال على وجود الله محاولة خاطئة
والسير على النحو الموجود الآن من الجدل في هذا الموضوع سير منحرف
عن الطريق الصواب
كيف نشأ هذا الخطأ
ومتى بدأ هذا الانحراف في الجو الإسلامي
بدأ رسول الله الله يبشر بالتوحيد ويدعو إلى إسلام الوجه الله سبحانه
كل ما أتى به رسوله
بل لقد حارب من أجل التوحيد
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم
منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله
ومضت السنون والأيام ورسول الله له ماضي في رسالته لا إله إلا
الله ولا يحيد عن ذلك و لا يتنازل
وكان خصومه يقولون في سذاجة وبلاهة
أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب
ولكنه لم يتحدث - مستدلاً أو مبرهنا - عن إثبات وجود الله ولم يسأله أحد من الصحابة سواء أكان من أصل عربي أم من أصل غير
عربي عن إثبات وجود الله
مضى على ذلك العهد المكي ومضى على ذلك العهد المدنى برغم ما كان يزخر به من رجال من مختلف البيئات
أما القرآن فإنه استفاض فى إثبات التوحيد استفاضة كثيرة وكان إثبات التوحيد هدفاً من الأهداف الكبرى للقرآن
۹۸
كان يوجه الإنسان إلى التوحيد فى العقيدة و التوحيد في العبادة
و التوحيد في الاستعانة
ولكنه لم يجعل إثبات الإلهية هدفاً من أهدافه
وإنني لأعلم أننا ألفنا أن نقول إن القرآن يثبت وجود الله عن طريق
دليل العناية أو عن طريق دليل الخلق أو عن طريق دليل الأثر
والمؤثر
ونذكر على ذلك الاستشهاد من القرآن الكريم وفي القرآن من الآيات التي تتحدث عن العناية والتي تتحدث عن
الشيء الكثير
الخلق
ولكن القرآن الكريم - وهذا ما يعزب عن بعض الأذهان – لم يأت بذلك مستدلاً ولا مبرهناً
وإنما أتى بها متحدثاً عن نعم الله الكثيرة التي يفيضها على الإنسان
ومتحدثاً
عن قدرة الله وعظمته وعن أنه منعم رحيم ودود وقاهر غلاب لا يقف أمام قدرته عقبة و لا يسد أبواب رحمته معترض إن الآيات القرآنية من هذا النوع إنما تتحدث عن صفات الله في جلالها وفى جمالها ولم تأت قط مبرهنة على الإثبات أو رادة على منكر وسار رسول الله الله متناسقاً مع الجو القرآني
وارتفع القرآن بالعقيدة الإلهية إلى جو القداسة النقى ولقد كان رسول الله حريصاً الحرص كله على أن يستقيم المسلمون على القرآن كما أنزل
وأن تكون المبادئ القرآنية وحدها هى التى يصدر عنها المسلمون في
۹۹
عقائدهم وسلوكهم وفى عهد أبي بكر رضى الله عنه سار المسلمون على ما كانوا عليه في عهد الرسول مرتفعين بعقيدة الإلهية إلى المكان الأقدس فلا يمارون في وجود الله ولا يضعون وجوده سبحانه فى مجال الإثبات والإنكار والأخذ والرد وكذلك سار الأمر في عهد عمر رضى الله عنه ومن بعده حتى وصل
الزمن إلى عهد المأمون وهو العهد الذهبي للأمة الإسلامية وقل فى المأمون مدحاً ما شئت
ولكن المأمون له من غير ماشك سيئتان من كبريات السيئات الأولى منها أنه دخل في الخلاف الذى كان بين علماء المسلمين - الخلاف الكلامي - دخول المنكل بطائفة المنتصر للأخرى
ودخل بقوة الجيش والشرطة والمال
لقد دخل دخول رغبة ورهبة
وما كان له أن يفعل ذلك وهو الحاكم والراعى ودخول الحاكم بين طوائف رعيته إنما يكون دخول الأب بين أبنائه
مهدئاً مصلحاً موفقاً
أو دخول الأخ الأكبر بين إخوته
لم يفعل المأمون ذلك وإنما نكل بطائفة لحساب أخرى ونكل فيمن نكل بالإمام أحمد بن حنبل الذى وقف موقفاً كريماً على نفسه وعلى الأمة وقف كالجبال الراسية لا يرضى بما يراه الحق بديلاً
لم يتملق ولم يداهن وإنما أعلن رأيه فى صراحة وفى وضوح ونكل به المأمون وتحمل الإمام في سبيل عقيدته ما يتحمل المخلصون
أما السيئة الثانية من سيئات المأمون فهى أمره بترجمه كتب العقائد
والأخلاق اليونانية
ولقد كان المسلمون يترجمون الكتب قبل المأمون
كانوا يترجمون كتب الطبيعة والفلك والأحياء وغيرها من العلوم في مجال
الكون المادى
ما هو
ولكنهم كانوا يرون أنه إذا كانت عقائد الأمم الأخرى صحيحة
أصح منها بالأسلوب الإلهى
فعندنا
وإذا كانت باطلة فنحن في غنى عن الباطل
إن العقيدة الإسلامية مصدرها القرآن
والقرآن كلام الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
فكيف يتأتى لقوم أن يتركوا هذا ليقرءوا العقيدة في كتب بشر تخطئ
وتصيب !
وكان موقف المسلمين إذ ذاك بالنسبة للأخلاق والتشريع هو موقفهم بالنسبة
للعقيدة
وضرب المأمون بذلك عرض الحائط ودخلت هذه الترجمات فى العقائد والأخلاق إلى الجو الإسلامي على
استحياء
ولكنها بالإلف والتكرار والعادة أخذت وضعها قراءة ودرساً ومناقشة
وجدلاً
وكان فيها مسألة إثبات وجود الله التي نشأت في الجو الوثني اليونانى
11