فضيلة الدكتور
عبد الحليم محمود
موقف الإسلام
الفن والعلم والفلسفة
مقدمة
كثيراً ما يلتبس على بعض الناس المفهوم الحقيقى لزاوية من زوايا الثقافة وكثيراً ما يلتبس عليهم أيضاً موقف الدين من
جانب من جوانبها
ونحب هنا ـ بتوفيق الله - أن نتحدث في صورة تخطيط عام
عن
أو في إجمال مُجْمَل ولعله ينبغى - من أجل الوضوح - أن نقول كلمة في تعريف كل
علاقة الدين ببقية موضوعات المعرفة
من هذه الموضوعات
ولسنا بصدد تعريفات نناقش فيها ونجادل وتورد ما سبق منها باحثين متفحصين أو ناقدين مختبرين
كلاً وإنما نُورد تعريفات موجزة تعطى الفكرة ولا تُجانب
الصواب إن شاء الله
ونقول
١ - إن ما بنى على الوحى هو دين وهو شريعة ٢ - وما كانَ مَرَدُّه إلى الذوق والعاطفة والوجدان فهو فن والقواعد والقوانين - التي قامت على الملاحظة والتجربة
والاستقراء - علم
٤ـ أما مجال ما وراء الطبيعة ومجال الأخلاق بمعناها الشامل هذا المعنى الذي يدخل في نطاقه التشريع ونظام المجتمع فإن ما بنى من ذلك كله على العقل والبحث فـهـو
فلسفة
وعلى أساس من هذه التعريفات الموجزة ـ التي لا نشك في أنها لا تبتعد عن الصواب - نسير في هذا البحث بإذن الله
A
دكتور
عبد الحليم محمود
عن الفن
ما موقف الدين من الفن
وجوانب الفن متعددة تشمل
- الشعر
- القصص والروايات
- التصوير
- النحت
•
- السينما
- المسرح إلخ
* ما موقف الدين من ذلك كله
الفصل الأول
١ - ونبدأ بالشعر
يقول الله تعالى عن رسوله له وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر ١ لقد نفى سبحانه أنه علّمه الشعر فهل لذلك من تعليل لقد قال الله تعالى وما ينبغى لَهُ ٢
هناك ـ إذن ـ مستويات من الإنسانية هي في سموها ترتفع عن
مستوى الشعر
ومن هذه المستويات
مستوى الرسل ولعل مستوى الصديقية ـ في قمته ـ لا يناسبه أيضاً مستوى الشعر ولم يكن أبو بكر رضوان الله عليه ـ وهو
قمة الصديقين - شاعراً
ولكن الله سبحانه وتعالى تحدَّث عن مستوى محمد أي
تحدث عن أعلى مستوى في المخلوقات
يقول رسول الله - فيما رواه الإمام مسلم
إِنَّ الله اصْطَفَى مِنْ وَلَد إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَني كنانة واصْطَفَى مِنْ بَنى كنَانَةَ قُرَيشاً وَاصْطَفَى
مِنْ قُرَيشَ بَنِي هَاشِم واصْطَفَانِى مِنْ بَنِي هَاشم
۱ سورة يس ٦٩
-۱۱۔
وكل من يحاول - في صدق - أن يرتقى صاعداً في المستوى الروحي ليكون الرسول الله له أسوة وقدوة فإنه يتنزه شيئاً
فشيئاً عن الشعر إن الله سبحانه لم يعلم رسوله الشعر ولم يُنشئ رسول الله الشعر بل وكان يتحرج عن رواية الشعر يقول الإمام الألوسي
لا يُرَدُّ أنه عليه السلام قال يوم حنين وهو على بغلتــه البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بزمامها ولم يبق معه ـ ـ عه ـ عليه
الصلاة والسلام - من الناس إلا قليل أنا النبيُّ لا كَذب أنا ابنُ عبد المطلب لأنَّا لا نسلّم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة والسلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيراً في الكلام المنثور ولا يسمى شعراً ولا قائله شاعراً
ولكن الآية الكريمة - على كل حال لا تأمر الرسول بعدم قوله يقول صاحب روح المعانى
وليس في الآية ما يدل على أن النبى لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والتمثل به وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزناً نادراً كما روى أنه ـ عـلـيـه الصـلاة
والسلام ـ أنشد بيت ابن رواحة يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَنْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
-۱-
وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر وروى أنه أصاب إصبعه الشريفة حَجَرٌ في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزی
ما أنت إلا إصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت وأحياناً كان يتمثل رسول الله بيت من الشعر ولكنه يتمثل به غـيــر مــوزون ذلك ما روى أنه ـ عليه الصلاة والسلام - أنشد
ومن
ستبدى لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنت جاهلاً ويأتيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّدُ بالأَخْبَار ۱
فقال أبو بكر ليس هكذا يا رسول الله
فقال ـ عليه الصلاة والسلام
إنَّى والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي
ويتحدث المفسرون والمحدثون عن أمثال هذا ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن عائشة قالت كان رسول الله لا إذا استراث الخبر تَمثَّل ببيت
طرفة ويأتيك مَنْ لم تزود بالأخبار
۱ ورد هذا البيت فى معلقة الشاعر الجاهلى طرفة بن العبد هكذا ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
استراث استبطأ والمراد أنه لابد أن يُعرف الخبر مهما تأخر
وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه كان
يتمثل بهذا البيت كفى بالإسلامِ والشَّيبِ للمرء ناهيا فقال أبو بكر أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك
وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي
قال للعباس بن مرداس أرأيت قولك
أَتَجْعَلُ نَهْبي ونَهْبَ العبيد د بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيِّينَة فقال له أبو بكر رضى الله تعالى عنه بأبي أنت وأمى يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راوية ولا ينبغي لك إنما قال بينَ
عبينة والأقرع وروى أنه قيل له عليه الصلاة والسلام من أشعر الناس
فقال الذي يقول
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً وَجَدْتُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبْ طَيْبًا
والشطر الثاني من البيت هو
وَجَدْتُ بِهَا طَيِّباً وإِنْ لَمْ تُطَيَّب
وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً تَفَاءَلْ بِمَا تَهْوَى يَكُنْ فَلَقَلَّمَا يُقَالُ لَشَيْءٍ كَانَ إِلَّا تَحَقَّق قالت عائشة ولَمْ يَقُلْ تحققا لئلا يعربه فيصير شعراً
_18
ولقد كان المكيون يحاولون أن يقللوا من شأن القرآن الكريم ويقللوا من شأن الرسول فكان من وسائلهم في ذلك قولهم عن القرآن أنه شعر وعن الرسول أنه شاعر وكان القرآن
يرد عليهم في ذلك
يقول الله تعالى
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ CD وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنِ
قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ١
ولقد كان كثير من العرب أنفسهم ـ حتى غير المسلمين منهم -
ينفون عن القرآن أنه شعر وعن الرسول أنه شاعر هذا فيما يتعلق بالرسول أما فيما يتعلق بالشعر نفسه فإن الله تعالى يقول
والشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ٢
ثم يعلل الله تعالى هذه القضية فيقول أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ ۳
وأنهم يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ٤
ومن الطرائف التى لها معناها العميق لمن يتدبرها ـ رغم أنها
طرائف - ما يرويه الحافظ ابن كثير قال
۱ سورة الحاقة ٣٨ - ٤٣ ۳ سورة الشعراء ٢٢٥
سورة الشعراء ٢٢٤
٤ سورة الشعراء ٢٢٦
اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا هل يقام عليه الحد بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون
ما لا يفعلون
سعد
على قولين وقد ذكر محمد بن إسحق ومحمد بن في الطبقات والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة أن أمـيـر المؤمنين عمر بن الخطاب استعمل النعمان بن عدي بن نضلة
على ميسان من أرض البصرة وكان يقول الشعر فقال
6
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجِ وَحَيْتَم إِذَا شِئْتُ غَتَنِي دَهَا قِينُ قَرْيَةٍ وَرَقَاصَةٌ تَحْفُو عَلَى كُلِّ مَبْسِمٍ فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالأَكَبَرِ اسْقِنِي وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْفَرِ المُتَلَدِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوؤُهُ تَنَادُمُنَا بِالجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال إى
والله ! إنه ليسوؤنى ذلك ومَنْ لقيه فليخبره أني قد عزلته وكتب إليه عمر
بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ العلِيمِ O غَافِرِ الذُّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ إِلَيْه الْمَصِيرُ ١
أما بعد فقد بلغنى قولك
۱ سورة غافر ٣١
١٦۔
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوؤُهُ تَنَادُمُنَا بِالجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
وأيم الله ! إنه ليسوؤنى ذلك وقد عزلتك
فلما
قدم على عمر بكته بهذا الشعر
قال والله - يا أمير المؤمنين - ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا
شيء طفح على لساني
فقال عمر
أظن ذلك ولكن ـ والله ـ لا تعمل لى عملاً أبداً
وقد قلت ما قلت !
فلم يُذكر أنه حَدَّه على الشراب ـ وقـد ضـمنـه شـعـره ـ لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكن ذَمَّه عمر ولامه على ذلك وعزله
وحكى الزمخشري عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك
سمع قوله
فَبِئْنَ بِجَانِبَي مُصَرَّعَاتٍ وَبِتُ أَفُضُ أَغْلَاقَ الخِـتَـامِ
فقال قد وجب عليك الحد
فقال يا أمير المؤمنين قد دَرا الله عنّى الحد بقوله وَأَنْهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ١
وما من شك في أن وجهة نظر الفاروق به أن من يتول ولاية لا يجوز له أن يكون عابثاً بالقول أو بالسلوك
۱ سورة الشعراء ٢٢٦
IV
وإنه لمن المؤسف أن يوجد في البلاد الإسلامية الولاة الذين ديدنهم العبث يجاهرون به أحياناً ويُسرون به أحياناً ولكن أمـرهـم حــيـن يُسـرون بـه يعلنه نـدمـاؤهم وأخــدانـهـم وهؤلاء لا يصلح بهم مجتمع ولا تستقيم لهم به أمور
وإذا كان الشعر لا ينبغى لبعض المستويات فهل نأخذ من ذلك أنه حرام
أم هل نأخذ من ذلك أنه مكروه
نحب قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نذكر أن رسول الله كان يشجع حسان بن ثابت على قول الشعر ويشجع غيره من شعراء الصحابة على قوله دفاعاً عن الرسول ورداً على المشركين
وقد أنصت الرسول لكعب بن زهير وهو ينشد قصيدته
المشهورة
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلبي اليَوْمَ مَنْبُولُ مُتَيَّمٌ الرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
و
99
وفيها يمدح كعب بن زهير الرسول وصحبه بقوله إنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ به مُهنَّدٌ مِنْ سُيُوفَ اللَّهُ مَسْلُولُ فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسُ ولا كُشُفٌ يَوْمَ اللقَاء وَلَا ميلٌ مَعَازِيلُ
وقد بلغ من إعجاب الرسول الله بهذه القصيدة وهذا المديح
الجميل أن خلع عليه بردته الشريفة التي احتفظ بها
واحتفظ بها ورثته من بعده زمناً طويلاً
وهناك في سيرة الرسول الله القصائد العصماء من أمثال البردة والهمزية إنها درر نفيسة ترضى الذوق والوجدان والشعور الراقي وإننا جميعاً نسعد حينما نقرأ لشوقي في معارضته لهمزية البوصيري قوله
فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بالجود المَدَى وَفَعَلْتَ مَا لَا تَفْعَلُ الْأَنْوَاءُ ۱ وَإِذَا عَفَوْتَ فَقَادِراً وَمُقَدِّراً لاَ يَسْتَهِينُ بِعَفْوِكَ الجُهَلاءُ وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أَمْ أَوْ أَبْ هَذَان في الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ وَإِذَا غَضَبْتَ فَإِنَّمَا هِيَ غَضَبَةٌ في الحَقِّ لَا ضَغْنُ وَلا بَغْضَاءُ وَإِذَا رَضِيْتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ وَرِضَا الكَرِيمِ تَحَلَّمْ وَرَيَاءُ وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِنَّةٌ تَعْرُهُ النَّدَى٢ وَالْقُلُوبِ بُكَاءُ وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتبَابَ كَأَنَّما جَاءَ الْحُصُومَ مِنَ السَّمَاء قَضَاءُ وَإِذَا حَمَيْتَ المَاءَ لَمْ يُوْرَدْ وَلَوْ أَنَّ القَبَاصِرَ وَالمُلُوكَ ظِماء وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللَّهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرِ عَدَاءُ
1 النَّوء المطر الشديد أو العطاء والمراد وصفه بالكرم والجود والسخاء
وكثرة الخير والعطاء
أي أن الخشوع يعم المكان كله بمن فيه
۱۹۔
وَإِذَا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ برِّهَا وَلَوَ انَّ مَا مَلَكَتْ يَدَاكَ السَّاءُ وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيْرُ زَوْجٍ عِشْرَةٌ وَإِذَا ابْتَنَيْتَ فَدُونَكَ الْآبَاءُ ۱ وإِذَا صَحبْت رَأَى الوَفَاءَ مُجَسَّماً في بُرْدكَ الأَصْحَابُ والخُلَطَاءُ وَإِذَا أَخَذْتَ العَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَقَاءُ وإِذَا مَشَيْت إلى العدا فَغَضَنَفَرٌ وَإِذَا جَرَيْت فَإِنَّكَ النَّكْبَاءُ ٢ وَتَمُدُّ حَلَمَكَ للسَّفيه مُدَارياً حَتَّى يَضِيقَ بِعَفْوكَ السُّفَهَاءُ فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطَاكَ ٣ مَهَابَةٌ وَلِكُلِّ نَفْسٍ فِي نَدَاكَ رَجَاءُ
ويمكن أن يسأل إنسان وماذا كان موقف الصحابة والتابعين
من الشعر
إن موقفهم هو موقف الرسول علم منه وعـن ذلـك نــذكـر
ما يلي عن عمر الركاء ـ بسنده ـ عن الجوهرى والمهلبي قال بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين
1 البناء بالأهل الدخول عليهن والابتناء أن
٢ النكباء
تهب بين ريحين ريح
يصبح
۳ سطا
ذا بنين
جمع
سطوة
۰
مصبوغين موردين أو ممصرين فيهما ء من صفرة وجلس فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا فأنشده أَ مِنْ آلِ نُعْمِ أَنْتَ عَادٍ فَمُبْصِرُ غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ حتى أتى على آخرها فأقبل عليه ابن الأزرق فقال الله يابن عباس ! إنَّا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصى البلاد نسألك
عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا ويأتيك غلام مشرف من مترفى قريش فينشدك
رأت رَجُلاً أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَخْرَى وَأَمَّا بالعَشِيِّ فَيَخْسِرُ فقال ليس هكذا قال
قال فكيف قال
قال
رَات رَجُلاً أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيَضحَى وَأَمَّا بالعَشَى فَيَحْصَرُ
فقال ما أراك إلا وقد حفظت البيت !
قال أجل وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها !
قال فإني أشاء
فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها
وفي رواية أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحاً أي مروراً قال وهذا غاية الذكاء !
-۱۔
فقال له بعضهم ما رأيت أذكى منك - قط !
فقال لكني ما رأيت ـ قط - أذكى من على بن أبي طالب فيه وكان ابن عباس يقول ما سمعت شيئاً قط إلا رويته وإني
لأسْمَعُ صوت النائحة فأسد أذنى كراهة أن أحفظ ما تقول ! قال ولامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة أمن آل
نعم فقال إنا نستجيدها
قال الزبير بن بكار في خبره عن عمه فكان ابن عباس بعد ذلك كثيراً ما يقول هل أحدث هذا المغيرى شيئاً بعدنا
قال وحدثني عبد الله بن نافع بن ثابت قال
كان عبد الله بن الزبير إذا سمع قول عمر بن أبي ربـيـعـة فيضحى وأما بالعشى فيخصر قال لا بل فيخزى وأما بالعشى فيخسر وفي هذا الخبر ثم أقبل - أى ابن عباس ـ على ابن أبي ربيعة
فقال أنشد فأنشده تشط غداً دار جيراننا وسكت فقال ابن
عباس وللدار بعد غد أبعد فقال له كذلك قلت
عمر
أصلحك الله - أفسمعته قال لا ولكن كذلك ينبغى
وعن هشام الكلبي أن عمر بن أبي ربيعة أتى عبد الله بن عباس وهو في المسجد الحرام فقال متعنى الله بك ! إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر ونازعتنى إليه وقد قلت منه شيئاً أحببت أن تسمعه وتستره على !
--
فقال أنشدني فأنشده أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
فقال له أنت شاعر يا ابن أخى فقل ما شئت قال وأنشد
6
عمر هذه القصيدة طلحة بن عبد الله بن عوف الزهرى وهو راكب فوقف وما زال شانقاً ناقته حتى كتبت له !
وعن عبد الجبار بن سعيد المساحقى عن أبيه قال دخلت مسجد رسول الله الله مع نوفل بن مساحق فإنه لمعتمد على يدى إذ مررنا بسعيد بن المسيب في مجلسه وحوله جلساؤه فسلَّمنا عليه فردَّ علينا ثم قال لنوفل يا أبا سعيد من أشعرُ صاحبنا أم صاحبكم يريد عبد الله بن قيس أم عمر بن أبي ربيعة
فقال نوفل حين يقولان ماذا يا أبا محمد
قال حين يقول صاحبنا
خَليلَى مَا بَالُ المَطَايَا كَأَنَّمَا نَرَاهَا عَلَى الأَدْبَارِ بِالقَوْم تَنكُصُ وقَدْ قُطعت أَعْنَاتُهُنَّ صَبَابَة فَانْفُسُنَا مِمَّا بِلا قِينَ شُخَص
م۱
وقَدْ أَنْعَبَ الحَادِى سُرَاهُنَّ وَانْتَحَى بِهِنَّ فَمَا يَألُو عَجُولٌ مُقَلّص يَزِدْنَ بمَا قُرْباً فَيَزْدَادُ شَوْقِنَا إِذَا زَادَ طُولُ العَهْدِ وَالبُعْدِ يَنْقُصُ
ويقول صاحبك ما شئت
فقال له نوفل صاحبكم أشعر في الغزل وصاحبنا أكثر
أفانين شعر
۱ المقلص المشمّر الجاد في سيره
۳۔
فقال سعيد صدقت
فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر جعل سعيد يستغفر الله ويعقد بيده حتى وفَّى مائة فقال البكري في حديثه عن عبد الجبار قال مسلم فلما انصرفنا قلت لنوفل أتراه استغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله
فقال كَلاً ! هو كثير الإنشاد والاستنشاد للشعر فيه ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه
بعد كل ذلك نتساءل هل موقف الدين من الشعر الإباحة إنشاء وإنشاداً وسماعاً دون قيد أو شرط
كلاً !
يقول الله تعالى
ومَا عَلَّمْنَاهُ الشعرَ وَمَا يَتبغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ®
1,
ليندر من كَانَ حَيًّا وَيَحقُّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ١
ويقول سبحانه
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَارُونَ EID أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ٢٢٥ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ CTD إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَنَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ۷
۱ سورة يس ٦٩ ٧٠
سورة الشعراء ٢٢٤ - ٢٢٧
٢٤۔
لقد تحدثنا
عن
أن هناك مستويات هي من الكمال بحيث
لا يتناسب معها الشعر وذلك مثل مستوى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وكلام الله سبحانه وتعالى يتنزه مستواه عن مستوى الشعر ولكن الآيتين الأوليين لا توحيان بتحريم الشعر أما الآيات التي وردت في سورة الشعراء فلو اقتصرت على الآيات الثلاث الأولى لأوحت بتحريمه ولكن ورد بعدها استثناء فانتفى التحريم المطلق وانتفى أيضاً أن يكون الشعر حلالاً مطلقاً
إن هذا الاستثناء قد وضع شروطاً وهذه الشروط توافرت في كثير من الشعراء إما في جميع مراحل حياتهم وإما في
ختامها
وقد روى الشيخان أن رسول الله قال لحسان بن
ثابت
أهْجُهُمْ - أى المشركين - أو قال هَاجِهِمْ وجبريل
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن كعب بن مالك أنه قال للنبي إن الله عز وجل قد أنزل في الـشـعـر مـا قـد
علمت وكيف ترى فيه
فقال النبي
-٢٥۔
إِنَّ المؤمنَ يُجَاهِدُ بِسَيفه ولسانه والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ
ما تَرْمُونَهُمْ به نَصْحُ النَّبل
ويبدأ الاستثناء وتبدأ الشروط بقوله تعالى
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ۱
والإيمان حينما يتمكن من القلب يعصمه من قول الفحشاء ومن التغنى بها ولكن الإيمان أحياناً يكون مجرد تصديق لا ينتهى إلى عصمة الإنسان عن قول السوء ومن أجل ذلك أتبعه
الله تعالى بقوله وعملوا الصالحات
وما من شك فى أن عمل الصالحات من أهم ما يعصم الإنسان عن التردي في مهاوى الضلال وأنه مما يمسك الإنسان عن الانحراف عن عمل الصالحات أن يكون الله تعالى مذكوراً دائماً في شعوره وفى إحساسه ومن أجل ذلك أضاف الله تعالى
قوله
وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ۳
والله سبحانه وتعالى يأمر في عدة مواضع من الكتاب الكريم بالذكر الكثير وهو سبحانه يأمر بذلك في إطلاق مطلق ولكنه سبحانه يذكر أحياناً إشارة موجهة أو لمحة منبهة أو ملحظاً
تعليلياً جليلاً يبين مكانة الذاكرين كما يقول تعالى مثلاً
۱ ۳ سورة الشعراء ۷
٢٦۔
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۱
فالله سبحانه وتعالى ا جعل الذكـر مـن سـمــات أولى الألباب ومن طابعهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ ِللصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وَذَرُوا البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَت الصَّلاةُ فَانتَشرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْل الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا
لعَلَكُمْ تُفْلِحُونَ ٢
فهو سبحانه في هذه الكلمات القرآنية الكريمة يقول
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ 3
ولم يقل فإذا قضى الذكر لأن الذكر ممتد وقته دائم لا ينقضى ولا يزول ثم بين الله تعالى في آخر الآيتين الكريمتين من أواخر سورة الجمعة أن الذكر الكثير سبب الفلاح والمفلحون هم الفائزون حقاً وهم الذين نالوا مرضاة الله تعالى
۱ سورة آل عمران ۱۹۰ ۱۹۱
سورة الجمعة ۹ ۱۰
۳ سورة الجمعة ١٠
۷-
ونبه الله - سبحانه وتعالى - الشعراء إلى أن مما يأخذ بهم إلى
طريق الهدى في شعرهم ا الذكر الكثير
وشرط آخر ينبغى أن يتوافر فى الشعراء حتى يكونوا ممن يسير على الجادة وذلك هو ما عبر الله تعالى عنه بقوله وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۱
وهذا الشرط يمكن الحديث فيه كثيراً
يمكن أن يقال إن بعض الشعراء أرباب أقلام وليسوا أرباب سيوف إن الجرأة تنقصهم والإقدام ليس حليفاً لهم فشاء الله تعالى أن ينبههم إلى أن المؤمن الصادق شجاع مقدام وكما يستعمل لسانه في قول الحكمة فإنه ينبغي أن يستعمله في الانتصار للحق وفي رد الظلم وفى الوقوف في وجه الباطل ولابد ليكون الشاعر شاعراً إسلامياً من أن يتوافر فيه
الإيمان
* العمل الصالح
* الذكر الكثير
* الوقوف في وجه الظلم
وتنتهى هذه الآيات من سورة الشعراء بقوله تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
وهي
كلمة أبلغ وأوضح من كل تفسير
۱ سورة الشعراء ۷
ونعود الآن إلى المـوضـوع مـن جـديـد لنرى ما روى فــيــه من آثار وما قاله أسلافنا من مفسرين ومن فقهاء في الموضوع يقول الإمام الشافعي به
الشعر نوع من الكلام حَسَنُهُ كَحَسَن الكلام وقَبيحه
كقبيح الكلام "
ويقول أبو عمرو - فيما رواه القرطبي - ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النُّهَى وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثل به أو سمعه فَرضيه ما
كان حكمة أو مباحاً ولم يكن فيه فُحش ولا حَنا ولا المسلم أذى فإذا كان كذلك فهو والمنشور من القول سواء لا يحل
سماعه ولا قوله
وروى أبو هريرة قال
سمعت رسول الله على المنبر يقول
أَصْدَقُ كلمة ـ أو أشْعَرُ كلمة - قالتها العرب قولُ لَبِيد الا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَدَ اللَّهَ بَاطِل
أخرجه مسلم وزاد وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم وروى عن ابن سيرين أنه أنشـد شـعـراً فقال له بعض جلسائه مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر
فقال ويلك - يا لكع ـ وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر
الكلام إلا في القوافي فحسنه حسن وقبيحه قبيح
"
ويروى الإمام مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردف رسول الله يوماً فقال
هَلْ مَعَكَ مِنْ شَعْرِ أُمية بن أبي الصلت
قلت نعم قال هيه فأنشدته بيتاً فقال هيه
أنشدته مائة بيت
ومما عقب به صاحب الجامع لأحكام القرآن على ذلك
قوله
وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعانى المستحسنة شرعاً وطبعاً وإنما استكثر النبي من شعر أميَّة لأنه كان حكيماً ألا ترى قوله ـ عليه الصلاة والسلام وَكَادَ أُمَيَّة بن أبي الصَّلت أنْ يُسْلِم فأما ما تضمن ذكر
الله وحده والثناء عليه فذلك مندوب إليه
وكانت هناك مواقف محددة لبعض الخلفاء من الشعراء الذين يقولون هجراً من ذلك موقف عمر بن عبد العزيز ا ـ كما ذكر الزبير بن بكار - إذ قال حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز - لما ولى الخلافة - لم يكن له هم إلا عمر بن أبي
ربيعة و الأحوص الشاعران فكتب إلى عامله على المدينة إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا عليهما واحملهما إلى فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر فقال هيه !
فاشدد
فَلَمْ أَرَ كَالتَّجْمير منظر ناظر ولا كَلَيالي الحج أَفْلَتَنَ ذَا هَوَى وَكَمْ مَالَى عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرِهِ إِذَا رَاحَ نَحْوَ الجَمْرَةِ البَيْضِ كَالدِّمَى أما ـ والله ـ لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك فإذا لم يفلت الناس منك فى هذه الأيام فمتى يفلتون ثم أمر بنفيه فقال يا أمير المؤمنين أو خير من ذلك
فقال ما هو قال أعاهد الله أنى لا أعود إلى مثل هذا الشعر ولا أذكر النساء في شعر أبداً وأجدد توبة
فقال أو تفعل
قال نعم
فـعـاهـد الله على توبته وخلاه ثم دعا بالأحوص فقال
اهيه الله بَيْنِي وَبَيْنَ قَيِّمِهَا يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ
بل الله بين قيمها وبينك !! ثم أمر بنفيه فكلمه فيه رجال من
الأنصار فأبى وقال
والله لا أرده ما كان لى سلطان فإنه فاسق مجاهر
۳۱-
فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه فلا يحل سماعه ولا
إنشاده في مسجد ولا غيره كمنثور الكلام القبيح ونحوه وروى إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عوف عن
محمد بن سيرين عن أبى هريرة قال قال رسول الله حَسَنُ الشَّعر كَحَسَنِ الكلامِ وقَبِيحُه كَقَبيحِ الكلام رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين " وغيره
الله
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص ـ قال قال رسول
الشَّعْرُ بمنزلة الكلام حَسَنَّهُ كَحَسَنِ الكلامِ وَقَبِيحُهُ
كقبيح الكلام "
وبعد
فإن الآيات القرآنية الكريمة - من سورة يس ومن سورة الشعراء - تحدد تحديداً دقيقاً موقف الإسلام من الشعر وما ذكرناه من حديث شريف أو قول لبعض أسلافنا أو موقف للإمام الورع الخليفة عمر بن عبد العزيز إنما هو إيضاح لما ورد في
القرآن موجزاً ومُعجزاً
-۳۔
رأينا موقف الإسلام من الأدب شعراً فهل يختلف
عن ذلك موقفه من الأدب نثراً
والواقع أن الإجابة عن هذا السؤال قد تضمنها حديثنا عن الشعر وتضمنتها كلمات من كلام سيد المرسلين
وتضمنتها كلمة الإمام الشافعي
حَسَنَّهُ حَسَنٌ وقَبيحه قبيح
وإذا كان هذا منطقاً بدهياً فإن رأياً من الآراء نشأ في عصور اليونان القديمة وأخذ يتخطى القرون قرناً فقرناً يخفت أحياناً ويستعلن أخرى حتى وصل إلى عصرنا الحاضر فأخذ يستعلن كرأى وأخذ يستعلن كتطبيق ذلك هو قولهم
الأدب للأدب
ويعنون بذلك أن الأديب يجب ألا تقيده حدود من تقاليد أو عرف أو دين أو خُلق أو فضيلة أو قومية وأنه يجب أن يسير في كتابته حراً طليقاً من كل تحديد
هذه البدعة نشأت في الجو اليوناني القديم وهو جو تخلى فيه الأدباء عن الدين ونشأت في بيئة سَادَها جو السوفسطائيين إنها نشأت في مجتمع كان فيه أبيقور وكانت مظاهر الوثنية تحت بصر الإنسان وأحاديثها تملأ سمعه
۳۳
مجتمع الهته الوثنية شهوانيون مرتشون لا يعرفون عدالة ولا إنصافاً وإنما يحابون من يقدم لهم القرابين
ويخذلون من لم يتخذ عندهم يداً من الهدايا والأضاحي وفي هذا المجتمع اليونانى القديم كانت كل بدعة تجد لهـا أنصاراً وكل ضلال يجد له من يتبعونه
وسادت بدعة الأدب للأدب
وكتب الأدباء الأدب المكشوف الأدب الجنسي أدب الإثارة أدب الشهوة الأدب الذى يستثير الغرائز ويحرض على الخيانة الزوجية ويدعو إلى التحلل
وهذا الأدب يروج عند المراهقين وعند الشبان في بواكـيـر عهدهم بالشباب وعند الفتيات المراهقات ومن هن في بواكير العهد بالشباب
ومن وراء رواج " هذا النوع المسف من الأدب شراء لمن يكتبون فلم يتورعوا عن الاندفاع فى الكتابة بما يرضي شياطين الإنس والجن من أجل المال
وفي عصرنا الحاضر وفي بيئتنا المصرية طائفة من الكتاب من هذا النوع يلعنهم الله ورسوله ويلعنهم كل من يتعشق الفضيلة وكل مؤمن صادق الإيمان
والأدب في أوضاعه المستقيمة إنما هو لإصلاح المجتمع والسير به في طريق الكمال خطوة بخطوة وإن كل من يضع لبنته في
صرح الفضيلة فإنما يضع لبنة فى صرح الكمال وإن كل من يضع لبنة في صرح الرذيلة فإنما يضع لبنةً في صرح النقص وإن الأدباء الذين يجرون وراء الاستثارة الجنسية والأدب المكشوف خائنون للوطن ويعيشون في مقت الله لأنهم
مفسدون
مفاسد
ومع تنبيهنا إلى فساد هذه البدعة فإن ذلك لا يحجب أخرى وذلك أنه أحياناً يتطوع الكاتبون بأقلامهم لتأييد فكرة يجارون فيها صاحب السلطان وهذا يحدث هنا وهناك إنه يحدث في الشرق والغرب كما يجرى الأمر مثلاً في روسيا وفي بلاد الكتلة الشرقية التى يُضرب على أهلها بستار حديدي ويقعون تحت حكم مسيطر لا يستطيعون الانفكاك عنه
إن أدباء هذا السجن الكبير الذي يضم أقطاراً بأكملها رجالاً ونساء وشباناً وشابات وأطفالاً وشيوخاً إن أدباء هذا السجن يكتبون مؤيدين نظام السجن مجندين له إنهم
منافقون
وفي فترة من الفترات الماضية ظن بعض المنافقين عندنا أنهم يُرضون الحاكم إذا كتبوا مؤيدين للشيوعية فأخذوا يطوعون الدين لهذه الفكرة بكل وسيلة من الوسائل من ذلك مثلاً
تمثيلية عن أبي ذر
۳۵
لقد كان أبو ذر صحابياً جليلاً يتفاني في حب الله ورسوله
صد الله
وكان زاهداً في حطام الدنيا ورأى رسول الله يقتنى الإبل ويتخذ لها الرعيان ورأى أبا بكر يتجر ويربح ويكون من الأثرياء ويرى ا الكثير الصحابة يأخذون المال بحله من وينفقون في سبيل الله ولكنه رأى بعض الناس ـ وهذا أمر عادى في كل عصر - يتجه إلى الدنيا ويوليها الكثير من وقته فأخذ يبشر بالزهد الزهد الديني زهد المتجردين
وكان في عهده ذو النورين المبشر بالجنة الخليفة الثالث عثمان ابن عفان من أغنى الأغنياء وكان غناه سبباً في أن جهز جيش العسرة وأن الرسول قال ـ حينما ألقى عثمان في
حجره مالاً كثيراً من الذهب والفضة -
J
اللهمَّ ارْضَ عن عثمان فإنّى عنه راض وأخذ يَجُول
بيده الشريفة في الذهب ويقول
ما عَلَى عثمانَ ما فعل بعد اليوم "
وبشر رسول الله عبد الرحمن بن عوف بالجنة وكانت ملايين عبد الرحمن بن عوف تُنقذ البائس وتُشبع الجائع ويصل بها رَحمهُ ويعين بها على نوائب الحق
6
ودعانا القائمون على التليفزيون لرؤية التمثيلية التي تتعلق بأبي ذر وذهبنا لمشاهدتها مع بعض العلماء وبعض المؤرخين
٣٦
فإذا بنا أمام تزييف للتاريخ وتَجَنُ على الفضلاء الشرفاء من الصحابة الأثرياء ونفاق للحاكم بدون ورع وبدون صدق وذلك من أجل النفاق للحاكم ومن أجل حكام الدنيا
لقد نزلوا بمكانة كثير من الصحابة زاعمين ـ بالإشارة أو بالتلميح - أنهم من الإقطاعيين وهكذا زيفوا التاريخ ولم يراعوا
الحق من أجل شهوة غلابة هي شهوة المنصب أو المال يجب ـ إذن ـ أن يتخلَّى الكاتبون عن الجرى وراء الباطل في سبيل المنفعة الشخصية ويجب على الحاكمين ألا يشجعوا مواكب النفاق التي تتوالى في كل الأزمنة محسنة للحاكم هواه مؤثرةً هواه على رضاء الله تعالى حتى ولو خالف أمر الله وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ۱
۱ سورة النساء ١١٥
ونحب الآن بتوفيق الله تعالى أن نتحدث عن زاوية من زوايا الفن طال فيها النقاش في العصر الحاضر وطال فيها النقاش في الماضى ألا وهى التصوير سواء أكان رقماً في ثوب أم نقشاً على الجدار وسواء أكان رسماً على ورق أم تماثيل مجسدة
إن كل ما يحدث من ذلك ـ مخلا بالآداب مثيراً للشهوة منافـيـاً لـلـفـضـيـلـة ـ فـهـو حـرام حرمة لا شك فـيـهـا وذلك مثل الأجسام العارية والصور الخليعة
وقد ابتلينا في هذه الأيام بالكثير من ذلك بل أصبحت الإعلانات عن الكباريهات عن طريق الصور العارية تنشر في الصحف اليومية وغيرها ولا تتورع صحيفة عن نشر هذه الإعلانات ولا تكاد توجد صحيفة إلا وهي تتهالك على نشر ذلك طلباً للمال
وما من شك في أن كل مال يُؤدَّى في ذلك فهو سخت تمتنع عنه النفس الأبيَّة والأخلاق الفاضلة وأكثر من ذلك فإنه توجد مجلات متخصصة في نشر الصور العارية المثيرة وتمر هذه المجلات على الرقابة فلا تعيرها اهتماماً وتصرح بها
وتصبح بين أيدى الشبان وطلبة الجامعات وطالباتها
۳۸
ويكثر الفساد في المجتمع نتيجة لهذا السوء الذي أصبح مألوفاً وكأن الله تعالى لم يُحرِّمه وكأن المجتمع لا دين له ونعود فنقول إن كل ذلك حرام وفاعلوه ومبيحو نشره في المجتمع ملعونون في عُرف الفضيلة ومن قبل الله سبحانه وتعالى
ونوع آخر حرام - لا شك في حرمته ـ وهو هذه الأصنام التي أخذت منذ فترة تنتشر شيئاً فشيئاً في العالم الإسلامي إنها الأصنام التي يقيمونها هنا وهناك تخليداً لذكرى شخص أو رمزاً لفكرة معينة أو تعبيراً عن القوة أو الجمال
يقول الله تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يوقع بينكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ وأطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ١
ويقول تعالى
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضلال مبين
1 سورة المائدة ۹۰ - ۹
سورة الأنعام ٧٤
ويقول سبحانه
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا واجنبنِي ويني أن تعبد الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۱
ويقول تعالى
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ السَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ CD قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ® قَالُوا أَجِفْنَا بِالْحَقِّ أَمْ أنتَ مِنَ اللأعبين O قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذى فَطَرَهُنَّ وأنا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهدين E وتاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُدَاذًا إِلَّا كبيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ٢
وحينما دخل رسول الله مكة أخذ يحطم الأصنام دون
استثناء وهو يقول
جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ ۳
والتحريم فيما يتعلق بهذه الأصنام يقين لا شك فيه
۱ سورة إبراهيم ٣٥ ٣٦
سورة الأنبياء ٥١ - ٥٨
۳ سورة الإسراء ۸۱
٤٠۔
ومما يذكر في هذا الصدد ما ذكره القرآن الكريم عن بني إسرائيل مبيناً أن فكرتهم عن الإله سبحانه لم تكن فكرة مستنيرة وإنما كانت فكرة ضالة وقد صورها القرآن في صورتين أبرع ما يكون التصوير الساخر الموجه المرشد المعلم
إحداهما هذه الصورة
لقد أنعم الله على بني إسرائيل بنعمة النجاة وما إن تمت النجاة حتى رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم وعن ذلك يقول
الله تعالى
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهَا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ۱۳۸ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٣٩ قَالَ أَغَيْرَ
۱
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهَا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ١
ويقول سبحانه
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبا إبْرَاهِيمَ C إذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَو يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ CD قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم ما كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ٥ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فإنهم عدو لِى إِلا رَبُّ الْعَالَمِينَ ٢
۱ سورة الأعراف ١٣٨- ١٤٠ سورة الشعراء ٦٩ - ٧٧
٤١۔
أما الصورة الثانية فهي
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلَيْهِمْ عِجَلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ
يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ١٤٨ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا
ويَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ١٤٩ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضَبَانَ
010
أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا
١٥٠
يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ١٥١ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيْنالُهُمْ غَضَبْ رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ
-02
الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمَفْتَرِينَ ۱
وقد يقول قائل
إن علة تحريم الأصنام في الإسلام أنـهـا كـانـت تـعـبـد من دون الله ولكن هذه العلة زالت في العصر الحاضر فلا يتأتى أن يصنع الإنسان صنماً ويعبده في عهد هذه الحضارة التي عمت
الشرق والغرب
ونحب ـ إجابة عن ذلك ـ أن نقول
۱ سورة الأعراف ١٤٨ - ١٥٢
٤٢
إن الإسلام حَرَّم ذلك تحريماً مطلقاً لا يقيده زمن ولا مكان
6
وإن حكمة الله فوق كل حكمة والمبادئ التي أوحاها سبحانه لا تنقضها أهواء البشر ثم إنه في هذه الحضارة التي عمت الشرق والغرب ما زالت البقر تُعبد أو تُقدَّس وما زالت تثير المعارك وتسيل دماء بني البشر دماء أهل وطن واحد
وفي هذه الحضارة الحديثة ما زالت الأصنام تُعبد أو تقدس
في معابد لا تُحصى من معابد الشرق الأقصى
وفي هذه الحضارة الحديثة ما زالت بعض الأديان في أكبر الدول تحتفظ بطابع اللامعقول طابع يتـمـيـز بأنه ضـد الـعـقـل والمنطق والتفكير السليم ويتغلغل هذا الطابع في كثير من زواياها ولكن الإلف والزمن والتكرار والـتـعــود كل ذلك جعل منها أدياناً تستمر في الماضى وما زالت مستمرة في الحاضر مع أنها خرافات وأساطير
وقد أعلن كبار مؤرخى الأديان عن الأساطير فيها والخرافة ومع ذلك ما زالت مستمرة
وأمر الإنسان ـ في الحاضر أو في الماضي - غريب
إن الإلف يغرس في شعوره أن المألوف صحيح وأن ما عليه الآباء والأجداد - من عقائد - حق إنه يفعل ذلك دون تأمل أو فحص بل إنه يفر ويهرب من التأمل والفحص إذا أداه ذلك إلى
٤٣
إنكار المألوف من العقائد ويُسكتُ في نفسه ـ بالقهر - صوت
الإنكار أو النقد
وبقيت أساطير واستمرت خرافات ودام ضلال دهوراً
إنا وجدنا آباءنا
ونخلص - من كل ذلك ـ إلى القول بأمرين هما من البداهة
بمكان
1- إن كل ما يتنافى مع الدين في التصوير محرم - إن الأصنام - على أى وضع كانت تمثيلاً لشخص أو تمثيلاً لفكرة - محرمة
بقى بعد ذلك أهم جانب من الوجهة العلمية البحتة ـ نحب أن نتحدث عنه وذلك هو موضوع التصوير العادي الذي يُستعمل الآن في شمول عام هذه الصور التي تستخدم في البطاقات الشخصية وفي جوازات السفر والصور الخاصة بالذكريات وصور الأبناء للآباء أو صور الآباء للأبناء
٤٤۔
موضوع التصوير العادى الذى يستعمل الآن في شمول عام هذه الصور التي تستخدم في البطاقات الشخصية وفى جوازات السفر والصور الخاصة بالذكريات
انتهينا فيما كتبناه سابقاً عن موقف الإسلام من الفن من الحديث عن الأدب شعراً ونثراً
وانتهينا من تحديد موقف الإسلام من الأصنام التي تُقام ومن
التماثيل التي تُنصب في الميادين العامة أو في غيرها
بقى بعد ذلك أهم جانب من الوجهة العلمية البحتة ـ نحب أن نتحدث عنه وذلك هو موضوع التصوير العادي الذي يستعمل الآن في شمول عام هذه الصور التي تستخدم في البطاقات الشخصية وفي جوازات السفر والصور الخاصة بالذكريات ور الأبناء للآباء أو صور الآباء للأبناء وصور
وإني أتحدث الآن عن هذا الموضوع وأنا أعلم أنه مـثــار نزاع حاد يبدأ شيئاً فشيئاً على توالى الأيام ولكن هدفه لا يرجع إلى اقتناع المانعين بل إلى طغيان الموجة وقصورهم عن
مقاومتها
ونحن لا ننظر - في إعلان رأينا - إلى وضع قائم أو إلى طغيان الموج أو العوج أو إلى حاجات في المجتمع تقتضى التحليل وإنما نرجع - في رأينا - إلى الوثائق وإلى آراء أسلافنا وقد
_20_
اختلفوا هم الآخرون اختلافاً كثيراً محللين أو محرمين ونحن نبدأ بحديث صحيح رواه الإمام البخاري في صحيحه قال حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن بكير عن بسر بن سعيد عن زيد
ابن خالد عن أبي طلحة صاحب رسول الله قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الملائكة لا تدخل بيتاً فــيــه صورة قال بُسر ثم اشتكى زيد فعُدْناه فإذا على بابه ستْر فيه صورة فقلت لعبيد الله الخولاني - ربيب ميمونة زوج النبي
ألم يخبرنا زيد عن الصور يومَ الأول فقال عبيد الله ألم تسمعه حين قال إلا رَقْماً في ثوب
وقال ابن وهب أخـبـرنـا عـمـر و ـ وهو ابن الحارث ـ حـدثه بكير حدثه بسر حدثه زيد حدثه أبو طلحة عن النبي هذا الحديث الشريف هو الأساس الذي يقوم عليه رأينا
ويقول الإمام النووى
وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل وأما
ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقاً
ثم يعقب الإمام النووى على ذلك بقوله
"
وهو مذهب باطل
ولكن الإمام ابن حجر - صاحب فتح البارى ـ يعقب على ذلك قائلاً عن مذهب بعض السلف هذا
٤٦۔
المذهب المذكور نقله ابن أبى شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه
عن ابن عون قال دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت فى بيته حَجَلة فيها تصاوير القُنْدُس والعَنْقَاء ففي إطلاق كونه مذهباً باطلاً نظر إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله إلا رقماً في ثوب فإنه أعم من أن يكون معلقاً أو مفروشاً وكأنه جعل إنكار النبي على عائشة تعليق الستر المذكور مركباً من كونه مصوراً ومن كونه ساتراً للجدار ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم فأخرج من طريق سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهني قال دخلت على عائشة فذكر نحو حديث الباب لكن قال فجذبه حتى هتكه وقال إنَّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قال فقطعنا منه وسادتين الحديث فهذا يدل على أنه كره سَتْرَ الجدار بالثوب المصور فلا يساويه الثوب الممتهن ولو كانت فيه صورة وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة وكان من أفضل أهل زمانه وهو الذي روى حديث النمرقة فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة ما استجاز استعمالها
ويقول الإمام ابن حجر
_{V_
وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن عكرمة قال كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها ومن طريق عاصم عن عكرمة قال كانوا يكرهون ما نُصب
من التماثيل نصباً ولا يرون بأساً بما وطئته الأقدام
ومن طريق ابن سیرین وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير قولهم أنهم قالوا لا بأس بالصورة إذا كانت تُوطأ
ومن طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها تماثيل الطير
والرجال
ويلخص الإمام أبو بكر بن العربي المذاهب في التصوير
فيقول
حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حَرُمَ
بالإجماع وإن كانت رقماً فأربعة أقوال
الأول يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب إلا
رقماً في ثوب
الثاني المنع مطلقاً حتى الرقم
الثالث إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم وإن
قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز
قال وهذا هو الأصح
الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يَجُز
EA
ولقد حمل أبو على الفارسي لفظ المصورين في الأحاديث التي تتحدث عن عذابهم على المشبهة
وقال إنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة - كما يقول
ويقول أبو محمد الجويني " إن نسج الصورة في الثوب لا يمتنع لأنه قد يلبس
وقال البعض إن التصوير على الأرض - ونحوها - جائز
وبعد
فإن الآراء في هذا النوع من الفن لم تُجمع على الحل ولا على
التحريم ونحن نميل إلى الحل مستندين إلى الحديث الشريف ومتناسقين مع كل الآراء التي ذهبت إلى الحل وإننا مطمئنون كل الاطمئنان إلى ما ذهبنا إليه على الرغم من أن كثيرين يخالفوننا في الرأي وكل مجتهد مخلص مأجور
ولقد كتبت مجلة المسلم - نقلاً عن كـتـاب الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد کرد علی ـ ما يلي
أقر الرسول الكريم - سيدنا محمد النقود التي كان
يستخدمها العرب في الجاهلية وكانت ترد من الممالك المجاورة
وهي مصورة
وضرب عمر الدراهم نقش الكسروية وشكلها وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلد سيفاً
واستعمل زيد بن خالد ستراً فيه صُورَ
وكانت المنسوجات اليمنية فيها تصاوير
و صنعت الصور في داري مروان بن الحكم وسعيد بن العاص - وهكذا لم يُحَرِّم الإسلام صناعة مفيدة في كثير من العلوم
والفنون
٥- رأى أفلاطون وهو رأى يشبه في
كثير من جوانبه الرأى الإسلامي
لعله أصبح واضحاً الآن موقف الإسلام من
- الفن من زاوية الشعر
- الفن من زاوية النثر
الفن من زاوية التصوير الفوتوغرافي والتصوير بالرسم الفن من زاوية الأصنام والتماثيل
ولعله من المستحسن أن نذكر رأى أفلاطون فـي مـوضـوع الفن ونذكر رأى أفلاطون بالذات لأنه كان فناناً وأقصد بذلك أنه كان أديباً ممتازاً في أسلوبه الرائع الجميل
وكان أديباً ممتازاً فى هذه القصص التي كان ينشرها هنا وهناك
ويعبر بها عن أدق مسائل الفلسفة في صورة سردية
لقد كان أفلاطون ـ في عُرف جميع الذين أرخوا له ـ أديباً من الطراز الأول
وكـان فـيـلـسـوفـاً وكـثـيـر مـن مـؤرخـيـه وضـعـوه على رأس الفلسفة ويسمونه أفلاطون الخالد ويسمونه أفلاطون الإلهى ويُفضله كثيرون على أرسطو
إنه فنان يبدى رأيه في الفن
وهو فيلسوف يزن رأيه في الفن بميزان دقيق
ولكنه حين يبدي رأيه فى الفن لا يبديه كأديب فقط ولا كفيلسوف فحسب وإنما يبديه كأديب وفيلسوف ويبديه أيضاً
كمصلح اجتماعي له رأيه في المجتمع المثالي وكيف يتحقق ومن أجل كل ذلك كان رأى أفلاطون له وزنه وخصوصاً لأنه لا يتحدث باعتباره ممثلاً للدين أو عالماً من علمائه يتحدث أفلاطون عن الجمهورية المثالية ويتحدث عن الطبقات التي
تتكون منها الجمهورية وعما ينبغى أن تكون عليه كل طبقة وعند حديثه عن الطبقة الفضية وهي طبقة الجند تعرض - " بصورة خاصة وبصورة عامة - إلى الواجب فيما يتعلق بموضوع الفن وبدأ بالشعر وبدأ في الحديث عن الشـعـر بما يجب أن يسمح به من الشعر ومما نحب أن يتنبه إليه القارئ فى تأمل رأيه في الشاعر اليوناني هوميروس وفى الشاعر اليونانى هزيور وفي قصة الإلياذة وفي قصة الأوديسا وذلك أن من أدبائنا من رفع شأن هؤلاء رفعة لا تكاد تضارعها رفعة أديب آخَر وأشاد بالشاعرين وبالقصتين إشادة بالغة في مقابلة ذلك نذكر رأى مواطنهما أفلاطون إذ يتحدث عن
ثقافة الجندى
وكان مما قال في ذلك
٥٢
يجب على الذين يتولون بناء المجتمع المنشود أن يميزوا من بين
الأحداث أصحاب الاستعداد الحربي فيفصلوهم طائفة مستقلة ويتعهدوهم بالتربية وعليهم أن يرتبوا لهم رياضة بدنية تنشئهم أصحاء أقوياء وعليهم أن يغدوا نفوسهم بالآداب والفنون فتكون التربية واحدة للجميع إلى حوالي الثامنة عشرة وتكون سهلة لذيذة لأن الإكراه لا يكون للرجال الأحرار
وتكون فاضلة تبدأ بالقصص الجدية البريئة الحالة على الخير وتُستبعد منها قصص هوميروس وهزيور ومَنْ نَحا نحوهم
من الشعراء فإنها مرذولة من حيث المادة ومن حيث الصورة أما من حيث المادة فقد سَمَّجَتْ عقول اليونان وأفسدت ضمائرهم بما تروى عن الآلهة والأبطال من أخبار الخصومات وقبيح الأفعال وبما لا تفتاً أن تردده من أن الرجل العادل يعمل لخير غيره وشقاء نفسه وبما تصف من هول الموت وتفاهة الحياة
الأخرى مما يُوهن العزيمة ويُقعد عن الجهاد في سبيل الوطن وأما من حيث الصورة فإن الفن يقوم بالمحاكاة ويخلق المحاكاة والشعر - بألفاظه وأوزانه - يحاكي كل شيء القوى الطبيعية والحيوانات والبشر والنزعات الرفيعة والشهوات
الدنيئة فيبعث في النفس مثل ما يصف من العواطف والأفعال والمحاكاة المتصلة تصير عادة فتلقين الحواس القصص القديمة
٥٣
يفسد طبيعتها فنحن مع إعجابنا بمحاسن هذا الشعر ننعته بأنه
مُعلَّمُ وَهُم وتعمد إلى صاحبه فنضع إكليلاً على رأسه ونشيعه إلى حدود المدينة فننفيه نفياً ونحن نترنّم بمديحه ولا نستبقى غير الشاعر عف اللسان سديد الرأى هادئ النسق الذي يحاكي الخير ليس إلا
وينتقل أفلاطون من الفن الهوميرى إلى الفن بالإجمال ويتحامل عليه ويتعسف في نقده فهو لا يرى الفن شيئاً أول له قيمة في ذاته ولكنه يضعه في المرتبة الثالثة بعد المثال أو الوجود الحق وبعد صورته المحسوسة المتحققة في الطبيعة فإن الفن يحاكي الوجود الطبيعي وهذا الوجود يحاكي الكمال فالفن صورة الصورة وشبح الشبح يصنع النجار السرير محاكياً مثال السرير ويصور المصور سرير النجار فهو ليس حاصلاً على العلم الحق الذي موضوعه المثال أو الشيء بالذات ولا على الظن الصادق وإنما هو جاهل مخادع يأخذ على نفسه محاكاة الأشياء الطبيعية فيبرزها مشوهة في غير نسبها الحقيقي من حيث المقدار والشكل
ولكنه لا يخدع إلا عن بعد ولا يخدع إلا الجهلاء وكذلك الشاعر فإنه لو كان يعلم حقاً ما يتظاهر بعلمه لكان يعمل بدل أن يقول ولكان يقود الجيوش أو يشرع القوانين وهوميروس لم يفعل شيئاً من ذلك ولكان يُؤثر أن يحـيـا حـيـاة مـجـيـدة
_02_
و هوميروس ارتضى لنفسه أن يكون قصاصاً للحياة المجيدة
وراوية
فالفن - بالإجمال - أداة إيهام وتخييل والشعر دجل
عنه سحر
اللفظ والتوقيع بدا شاحباً فقيراً
كالتصوير إذا نُزع يستطيب وصف العواطف وهي متقلبة متنوعة ولا يجد له موضوعاً في العقل الثابت الهادئ فيُهيج العواطف ويشل العقل مثله مثل طاغية يقلد السلطة للأشرار ويضطهد الأخيار فإنه يُوحى بالعطف على أفعال وانفعالات رديئة ويُضعف إشرافنا على الجزء الشهوى من النفس فيحرك فينا البكاء تارة والضحك طوراً ويدفعنا - ونحن نشهد التمثيل ـ إلى استحسان ما ننكره في الحياة الحقيقية وإلى التصفيق لما نغضب له في
الواقع والتراجيديون لا يرمون لغير إحراز إعجاب الجمهور والجمهور لا يميل إلى الأشخاص الحكماء الرزينين بل يطلب أشخاصاً شهويين متقلبين تملأ تقلباتهم وشهواتهم القصة فيلهو بها ويميل معها إلى كل جانب
وأما الكوميديا فهي رديئة بالذات تضحك من إخواننا في الإنسانية وتنمى حاجة المزاح والسخرية
إذن فعلى الشارع أن يراقب جميع مظاهر الفن وجميع الفنانين من شعراء ومغنّين وممثلين ومصورين وغيرهم
_00_
فيخلق بيئة كلها جمال سليم رزين ويُنشئ مواطنين كاملين يتوجهون إلى الفضائل عفواً ويصون نفوسهم من كل خدش
إذ ليست الغاية من الفن توفير اللذة بل التهذيب والتطهير هذا هو رأى أفلاطون وهو رأى يشبه في كثير من جوانبه الرأى الإسلامي بيد أن الرأى الإسلامى يمتاز بالدقة والاتزان والبعد عن جو الأساطير
٦- إيضاح حول الفن للفن
والفن للحق والفضيلة
السيد الأستاذ الفاضل/ رئيس التحرير
مجلة آخر ساعة۱
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد فقد نشرت مجلتكم في عددها الماضي مقالاً عن المسرح نسبت فيه إلى القول بتحريمه
وأرجو من سيادتكم حرصاً على توضيح الأمر وحتى لا يسىء قراؤكم الظن - نشر الكلمة التالية ولكم جزيل الشكر والواقع أن الموضوع ـ كما ظهر في مجلة آخـر سـاعـة ـ يثير
أسئلة كثيرة في نفس القارئ تحتاج إلى توضيح وبيان
والأمور حينما تؤخذ هكذا مُجْمَلة موجزة مبتورة وحينما تؤخذ نتائج هي عبارة عن كلمات فإنها تؤدى إلى سوء الفهم أكثر مما تبعث على حسن التفاهم
ونحن إذا نظرنا إلى نشأة المسرح في الأمة اليونانية وأذكر الأمة اليونانية بالذات لأن المسرح الحديث ليس إلا امتداداً لمسرح اليونان فإننا نجد أنه نشأ منفصلاً عن الدين
۱ رد إلى المجلة حول كلمات نسبت إلى الإمام عبد الحليم محمود به عن المسرح
بين الحل والتحريم
_OV_
وقد لا يكون في ذلك ضرر في نظر كثير من الناس ولكن المسرح حينما ينشأ بعيداً عن الدين فإن معنى ذلك أنه ينشأ نشأة فنية بحتة أي أنه ينشأ معتمداً على المبدأ السائد الآن وهو الفن للفن هذا المبدأ هو الذى نحاربه باعتبارنا دعاة أخلاق و باعتبارنا دعاة مثل أخلاقية ثابتة
مكان
نحن ـ إذن - نحارب مبدأ سائداً في المسرح ولا نحارب المسرح والمبدأ الذى ندعو إليه ويدعو إليه علماء الدين في كل ويدعو إليه فريق كبير من المفكرين والمصلحين على اختلاف في طبقاتهم ومهنهم وهو المبدأ الذي كان سائداً في الحضارة الصينية القديمة مثلاً والحضارة الهندية القديمة والحضارة المصرية القديمة إنما هو الفن للفضيلة أو الفن للأخلاق أو الفن الموجه
إننا نحارب الفن المنطلق الفن المتحرر الفن المكشوف الفن الإباحى الفن اللاديني
وأظن أن السيد الفاضل رئيس التحرير يوافقني على أن فننا المسرحي الحالي لا يتسم - في قليل ولا في كـثـيـر ـ بأن الأساس
الذي يقوم عليه إنما هو الفضيلة والدين والخير والحق ومن هنا تتبين وجهة نظرنا في الموضوع إنه محل اختلاف في الرأى بين فئتين كبيرتين من المفكرين - أوربيين وشرقيين ـ وبين روحين مختلفين النوعين من الحضارات الكبرى وبين نزعتين مختلفتين في تصور الحياة وسائل وغايات
٥٨
وموضوع الاختلاف هو السؤال القديم الحديث هل الفن للفن أم أن الفن للفضيلة ولسنا بصدد شيء أكثر من هذا ولست أنا الذى أشرع للحلال والحرام في فالحلال بين والحرام بين وكل منا يعرف في قرارة نفسه حَدَّ الحِل وحَدَّ الحرمة وبعضنا يحاول أن يغش نفسه وأن يزيف ضميره وبعضنا يعلن رأيه واضحاً سافراً مهما وجد من السخط أو من السخرية عند من يكذبون على أنفسهم ويخدعون ضميرهم بل إن السخط نفسه والسخرية إنما يبعثان الداعية على مضاعفة جهده لأنهما المقياس الذي يدل على مدى الفساد د قوة وضعفاً
ومما لا شك فيه أن فكرة الفن الموجـه لـهـا ـ الآن ـ في الجمهورية العربية المتحدة أنصار كثيرون فإذا دعا داع إلى أن الفن يجب أن يعبر عن الاشتراكية أو أن الفن يجب أن يبتعد عن التخنث أو أن الفن يجب ألا يتعرض للدين فإن ذلك معناه أن الفن ليس للفن وكل ذلك - إذن - إنما هو تأييد جزئى لما ندعو
إليه
بقى أن نتساءل لماذا يتجه الفن إلى التحرر وتسود فيه ـ رغم نداء المصلحين ـ فكرة التحرر إنه كذلك لأن هذا إنما يتماشى الشهوات والغرائز والرغبات الجنسية وتنتهى المشكلة مع مشكلة الفن - لا محالة ـ إلى السؤال التالي
هل من الواجب أن يخضع الفن للغرائز أم من الواجب أن نوجهه إلى الفضيلة
لقد ذهبت مرة إلى تسجيل في الإذاعة وكان ذلك في شهر رمضان ولظرف طارئ غيّرت الإذاعة مكان تسجيل الحديث وذهبت إلى مكان التسجيل الجديد فإذا به مكان تسجيل
التمثيليات وإذا بالممثلات كثيرات بعضهن ينتظرن التمثيل وبعضهن يسترحن خارجات من التمثيل فكان في شهر رمضان العرى الفاضح والجلسات التي لا تتسم بالأدب والتدخين والشراب والكلمات التي لا تتسم بالتهذيب والضحكات الخارجة وغير ذلك من نواح لا أخلاقية
إن هذا اللون من السلوك وهذا التصور للحياة وهذا الطابع للأخلاق هو الذى نحاربه فى الفن وفي الأدب وفي السينما وفي المسرح وفي التصوير وفي النحت وفي كل وضع يظهر فيه وهو الذي نريد أن نبعد طالب الأزهر عنه
و
فإذا ما وجد من يبيحه فإنه لا يكذب على الله ـ وحسب ـ وإنما
يكذب على نفسه
ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادِ﴾ ۱
وَمَن يَعتصم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
وبالله التوفيق
عميد كلية أصول الدين
1 سورة الرعد ۳۳
٦٠
عبد الحليم محمود
سورة آل عمران ۱۰۱
۷- سؤال وجواب
حول الخلط بين المذاهب الفنية والأدبية
وبين المذاهب الاقتصادية والاجتماعية
الوثيقة الصلة بتصور العقيدة
سؤال عمد بعض اللادينيين إلى الخلط بين المذاهب الفنية والأدبية وبين المذاهب الاقتصادية والاجتماعية الوثيقة الصلة بتصور العقيدة ما تعليق فضيلتكم على ذلك
الجواب
المذاهب الفنية والأدبية التي تتعلق بوسيلة التعبير وكيفية توصيل المعانى إلى الناس لا يقيدها الدين إلا من ناحية ما تعبر أى أن الدين يهتم بالمعنى المعبر عنه وبأن تكون وسيلة التعبير غير مفيدة معنى آخر وبأن يكون هذا المعنى في إطار
عنه
الخير
ومن المفيد أن نشير إلى قوله تعالى
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۱ أى أن الرسالة لا يمكن أن تصل إلى المرسل إليهم إلا إذا كانت بلغة يعرفونها وبلسان يفهمونه
وقد أوجب الإسلام تعلم لغات الناس لتوصيل الدعوة إلى غير العرب انطلاقاً من قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
1 سورة إبراهيم ٤
1
وانطلاقاً من هذه القاعدة تنوعت أساليب القرآن من محاورات عقلية إلى أمثال حسية إلى قصص أدبية ليتسع مجال فهمه لكل العقول ولشتّى البيئات وهو سر من أسرار الإعجاز فيه إن كل إنسان - مهما كانت درجة ثقافته - يفيد منه ولا يمكن أن يرتفع إنسان - مهما علت ثقافته ـ عن مستوى التعبير القرآني الكريم
هذه
وفي السنة الشريفة تنوعت أساليب الرسول ما بين استفهام لتنبيه الأذهان إلى ما يُلقَى من علوم وتوجيه مباشر وسؤال لاستخراج المعلومات من الناس ثم تصحيحه المعلومات إلى غير ذلك مما يجده الباحثون مذاهب التعبير - إذن - مذاهب إنسانية تختلف باختلاف أحوال الناس ونظمهم ودرجة ثقافتهم والإسلام لا يقيدها ـ كما قلنا - إلا من ناحية ما تعبر عنه ومن ناحية الألفاظ المستخدمة في
التعبير
أى أن الإسلام لا يبيح الخروج على آدابه ـ ولو في اللفظة المستعملة في التعبير - ويترك للمسلم بعد ذلك أن يعبر عن فكرته بالأسلوب الذي يريد دون أن يقيده بمذهب ما الإسلام بمذهب للتعبير لا يرضى غيره وهكذا
هذا عن المذاهب الفنية والأدبية
فلم يأت
أما " المذاهب الاقتصادية والاجتماعية فقد رسم الإسلام إطار التحرك في مجالها بما سنَّهُ من تكاليف وقرره من قواعد
-٦٢-
فأسلوب التصرف فى المال مقيَّد في الإسلام بمراعاة أن يكون مصدره من حلال وبأن يُدفع حـق الـلـه منـه وهـو الزكاة وبأن
وصلة
لا يُفَرِّط الإنسان في حق لازم عليه كالنفقة على أهل بيته رحمه ه وهكذا أما كيفية العمل فقد ترك الإسلام للناس طريق التطور في استخراج خيرات الأرض عن طريق الصناعة بطرقها المختلفة أو
الزراعة أو التخصص في مجال من المجالات و المذاهب الاجتماعية رسم الإسلام لها طرقاً لا ينبغي الخروج عليها كنظام النكاح والطلاق وسائر ما يتعلق بتكوين الأسرة وتركيب المجتمع ومسئوليـة المسـلـم عـن غـيـره من
المسلمين وفيما عدا ذلك ترك الإسلام للمسلم أن ينظر في نُظم المجتمعات المختلفة ويؤسس النظريات على أساس من هذا
6
النظر ليُظهر روعة الإسلام فيما قرره من أحوال المجتمعات وليتكون له من البصر بشئون الدنيـا مـا يمكنه من نشـر تـعـالـيـم الإسلام أو تطبيقها إن كان ممن يملك وسائل التطبيق المذاهب الفكرية والفنية إذن وسائل للتعبير لا يقيدها
الإسلام إلا من حيث ما تعبر عنه
و المذاهب الاقتصادية والاجتماعية - إن وافقت الإسلام - أخذنا بها على أنها إسلام أو وضع إلهى لا على أنها أفكار بشرية وإن خالفت الإسلام ضربنا بها عرض الحائط إذ المسلم
-٦٣
لا يرى خيراً فيما لا يوافق دينه وإلا كان متناقضاً مع نفسه أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا
وكرها وإليه يرجعون ١
تحريراً في ٢٠ / ٨ / ١٩٧٥م
۱ سورة آل عمران ۸۳
٦٤۔
عبد الحليم محمود
شيخ الأزهر
الفصل الثاني
الإسلام والعلم
دائرة العلم في الإسلام
العلم الذي يدعو إليه الإسلام أهداف الرسالة الإسلامية
* منزلة العلم في الإسلام
* مكانة العلم في الإسلام
* فضل العلم الديني
ثمرة الحث على العلم
* أسطورة التعارض بين الإسلام والعلم
المناهج العلمية بين الإسلام والحضارة الحديثة
-0
ونقول ابتداء
١- دائرة العلم في الإسلام
إننا لا نأخذ كلمة العلم بالمفهوم الحديث فحسب والمفهوم الحديث هو الذى تأخذ به أوربا وتأخذ به جامعاتنا
المصرية وغيرها من الجامعات حينما تستعمل الكلمة
وهذا المفهوم هو
العلم هو القواعد التي بنيت على الملاحظة والتجربة والاستقراء
وهو بهذا المفهوم يختص بالجانب المادى إن دائرته الكون السماء والأرض وما بين السماء والأرض أما ما وراء هذا الكون وأما ما قبل هذا الكون وأما ما بعد هذا الكون فإن العلم - بالمفهوم الحديث ـ لا يتعرض له وذلك لأنه لا يدخل تحت دائرة الملاحظة والتجربة والاستقراء
ولعل القارئ يدرك من هذه الكلمات السابقة أن العلم بهذا المفهوم الأوربي لا يتأتى له أن يحكم على ما ليس في دائرته ومن أجل ذلك فإن العالم - أيَّ عَالِم ـ لا يستطيع إنكار الألوهية ولا البعث ولا الغيبيات على وجه العموم
والعالم الذي ينكر - بصفته كعــالـم ـ وجود الله أو ينكر البعث فإنه يكون قد خرج عن صفته كعالم ولا يوصف في
TV
أجواء العلماء إلا بأنه مهرج وإنه ليكفي أن ينكر - بصفته كعالم - شيئاً من الغيبيات ليسحب العلماء ثقتهم فيه وينبذوه من
محيطهم
وذلك لأنه ما دامت قد حددت دائرة العلم بأنه ما بنى على الملاحظة والتجربة - أى ما كان مجاله المادة ـ فإنه إذا تعرض عالم لما ليس من اختصاصه على أنه علم فإنه يكون بذلك قد خرج على أوضاع العلماء في مفهوم العلم وخرج على مبادئهم المقررة في دائرة العلم وهي المادة
قلنا إننا لا نأخذ مفهوم العلم بالمعنى الأوربي بل سنأخذ مفهوم العلم بالمعنى الإسلامي ومفهوم العلم بالمعنى الإسلامي أوسع دائرة إنه المعرفة بكل نافع من الأمور إنه المعرفة بالكون وبما وراء الكون بالوجود المادى وبالوجود الروحي إنه المعرفة بالآفاق وبالأنفس وفى نطاق ذلك يدخل العلم بالمادة أو العلم بالمفهوم الحديث
وهذا المفهوم الحديث للعلم هو اصطلاح حديث فما كانت كلمة العلم فيما مضى في أوربا وغيرها ـ تعنى القوانين التي تسير عليها المادة فحسب وإنما كانت الكلمة مطلقة فلما كانت النهضة الأوربية الحديثة قسمت أنواع المعرفة بحسب ملكات الإنسان وشعوره وذلك لتسهل التفرقة بين مجالات المعرفة
وليسهل الحكم في كل مجال
٦٨
هناك المجال الذي يسرح فيه الحس ويجتلى معالمه وهو المادة وسمى العلماء المُحْدَثُونَ مجال الحس علماً وهناك مجال يلعب فيه الوجدان والذوق الدور الأول وسمّى العلماء المحدثون هذا المجال فناً
وهناك مجال هو من
شأن العقل البحت وهذا المجال ينقسم
إلى قسمين
أ قسم الرياضة وهو يقين كله
ب قسم الإلهيات حينما تقوم على العقل وحده وقسم الأخلاقيات بمعناها الواسع حينما تنبع عن العقل وحده وهذا القسم هو الفلسفة
أما ما كان مرده إلى البصيرة والوحى وصلة الإنسان ـ النبي أو الرسول ـ بالله تعالى فإنه الدين وليس الدين قواعد خاصة بالمادة وإن كان يتحدث عنها - عرضاً - أحياناً
وليس الدين من أجل أذواق تتصل بالفن وإن كان له في ذلك توجيهات أحياناً
وليس مصدر الدين كمنبع و مرجع العقل وإن كان ما أتى
به يقره العقل كله ومبادئه لا تتناقض مع العقل
وإذا كنا في مقالنا هذا نأخذ العلم بالمفهوم العام - كل نافع من المعرفة - فإننا ننبه إلى أن كل ما أُسس على القرآن والسُّنَّة فهو في نطاق المجال الديني وأن بحثنا هذا إنما كان لبيان موقف الإسلام
من العلم بالمفهوم العام ولا يمنع ذلك من أن التفرقة ما زالت
قائمة بين مختلف مفاهيم المعرفة
ونعود من جديد ونتساءل
ما موقف الإسلام من العلم
إن الله سبحانه قد و رسم مهمة الرسول في قوله تعالى ويُعلَمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ ١
إنها العلم والخلق العلم إلى غاية هي الحكمة والخلق إلى
غاية هي التزكية
وهذه المهمة الكريمة تبدو - في وضوح ـ في الكلمات الأولى
للوحي الإلهي إن الوحى بدأ بقوله تعالى
اقرأ باسم ربك الذى خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَى اقْرَأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ٢ وأول كلمة فى الوحى هى اقْرَأْ وتتكرر كلمة اقرأ في هذه الآيات الأولى من الوحى وتتكرر مادة العلم ويذكر فيها القلم أداة من أدوات التعليم
ثم كان أول قسم أقسم الله - سبحانه وتعالى ـ به في القرآن الكريم إنما هو القسم بالقلم وما يسطر بالقلم يقول تعالى ونَ وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ ۳
۱ سورة البقرة ۱۹
سورة العلق ١- ٥
۳ سورة القلم ۱
وتتوالى الآيات الكريمة حاثَةً على العلم أمرةً به مُبَيِّنَةٌ آدابه وشروط النبوغ فيه مشيدة بالعلماء مبينةً مكانتهم أما هذه المكانة التى وضع الله العلماء فيها فإنها أسمى مكانة
عند الله سبحانه وتعالى لعباده
إن الله سبحانه يقول مينا مكانة العلماء
شهد الله انه لا إله إلا هر وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا العلم قائما
بالقسط 1
وفي هذه الآية الكريمة قَرَنَ الله - سبحانه وتعالى - العلماء به وبملائكته في شهادة التوحيد أي وَضَعَهُمْ في أسمى مكانة إيمانية وذلك أن أسمى مكانة إيمانية إنما هى شهادة التوحيد
إنها
أشهدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله
أما الحث على العلم في القرآن الكريم فإن هذا الكتاب العزيز بين أن الإنسان ـ حتى في الحالة التي يمنحه الله فيها النبوة والرسالة
- لا يزال بحاجة إلى المزيد من العلم
إن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يأمر الرسول بأن يجعل من شعاراته الاستزادة في العلم فيقول له وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا
۱ سورة آل عمران ۱۸
۷۱-
٢ سورة طه ١١٤
وأعلن رسول الله مع العلم أن الطريق إلى العلم هو طريق إلى الجنة يقول صلوات الله وسلامه عليه في ذلك
مَنْ سَلَكَ طريقاً يَبتغى فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الجَنَّة وإنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رِضاً بما يَصنع وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الأرض حتَّى الحيتان فى الماءِ وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفَضْلِ القَمَرِ على سائرِ الكَواكِب وإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبياء
وإنَّ الأنبياء لَمْ يُوَرِّثوا ديناراً ولا دِرْهَماً وإِنَّما ورثوا العِلْمَ
فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ
4
۷-
٢ - العلم الذي يدعو إليه الإسلام
إن العلم - الذى يدعو إليه الإسلام - هو العلم بالطبيعة والأحياء والكيمياء والطب وغير ذلك من العلوم المادية وهو بالضرورة أيضاً علم الدين من تفسير وحديث وفقه
وإن الآية الكريمة
إنَّمَا يَخْشَى الله من عباده العلماء ١
إنما وردت في معرض الحديث عن الكونيات المادية
والله سبحانه وتعالى يقول
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ٢
وما من شك فى أنه بمقدار تعمق الإنسان في الجانب العلمي على أساس من الإيمان وفى صدق وإخلاص تكون خشيته
لله
ذلك أنه يرى من نواميس الكون ومن الإتقان في الخلق ومن الحكمة في التدبير ما يجعله يسجد لمبدع الكون ومنسقه وإن هؤلاء الذين يتصلون - مثلاً - بعلم التشريح من قرب أو يتخصصون فيه يرون من الإحكام المحكم ومن الدقة الدقيقة في مختلف الأجهزة الجسمية وفى مفردات هذه الأجهزة ما يضطرهم اضطراراً إلى السجود لرب هذا التنسيق والترتيب
والإبداع
۱ سورة فاطر ۸
سورة فصلت ٥٣
۷۳-
وليس علم التشريح - وحده ـ هو الذي يبهر العالم المتبحر فيه وإنما يبهر علم الفلك العالم الفلكي إنه يرى هذه النجوم - التي لا تكاد تُعد تسير في هذه السعة الكونية الهائلة في ترتيب
وتناسق وإحكام
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي
1
فَلَك يَسْبَحُونَ ١
وعالم الأحياء وهو يتأمل عوالمه ويُفاجأ ـ كل يوم - بجديد
وغريب وبديع فيها إن هؤلاء جميعاً وغيرهم يجدون أنفسهم ـ لا محالة ـ أمام صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً فيقولون مع القرآن الكريم " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الذى خلق سبع سموات طباقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ينقلب إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ٣
وصدق الله إذ يقول
إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ٤
1 سورة يس ٤٠ ۳ سورة الملك ٢-٤
سورة الملك ١
٤ سورة فاطر ٢٨
لقد أحدث الإسلام في الدنيا - بموقفه هذا من العلم - نهضة علمية كان من ثمارها الحضارة الإسلامية التي كانت تسمى
البحث في الطبيعة وفى الكون هذه التسمية الجميلة
العلم بسنن الله الكونية
فعلم الطبيعة - فى الصورة الإسلامية - هو العلم بسنن الله
الكونية
وقد يتساءل إنسان عما إذا كان الإسلام أطلق العلم إطلاقاً أم
قيده بقيود
إن اقرأ ۱ التي افتتح الله سبحانه بها وحيه الكريم قيدها منذ المبدأ مباشرة بأن تكون باسم ربك ٢
والعلم في الإسلام هذا العلم بالدين وبالمادة لا يقيده في الإسلام إلا أن يكون في اتجاه ربَّاني
>>
إن الإسلام يوجب أن تكون أسس العلم متسمة بالخير ويوجب أن تكون غاياته منغمسة في الخير ويجعل من العلم قُربى إلى الله ويجعل منه عبادة لله إنه سبحانه يجعله باسمه
الكريم ومن الملاحظات الدقيقة في هذه الكلمات التي كانت في افتتاح الوحى أن الله - سبحانه - لم يقل اقرأ باسم الله وإنما
۱ سورة العلق ١
_Vo
قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ۱ أي اقرأ باسم المربي أي اقراء ۳ في إطار التربية الإلهية
ومنذ اللحظات الأولى فى الإسلام اتسم العلم بالخير واستهدف الخير لم يستهدف العلم الإسلامي في يوم من الأيام التنكيل بالإنسانية أو الاستعلاء أو التسابق من أجل إيجاد وسائل التدمير والتخريب كلاً وإنما هو باسم المربى وكان العلم الإسلامي من أجل ذلك ضرورة وليس ترفاً
وقد يتساءل إنسان أيضاً عما إذا كانت هذه النهضة العلمية التي دوت في أرجاء العالم - منطلقة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة - لها أثر في النهضة الأوربية
وعن ذلك نترك العالم الإنجليزى الكبير الأستاذ بريفولت صاحب كتاب بناء الإنسانية يتحدث وهو عالم منصف أنصف الحضارة الإسلامية بعد أن ظلمها الغربيون قروناً متعددة إنه يقول
إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي - في مدرسة أكسفورد - على خلفاء معلميه العرب في الأندلس وليس لروجر بيكون - ولا لسميه الذي جاء بعده ـ الحق في أن أنسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين
۱ ۔ ۳ سورة العلق ١
٠٧٦
إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل - قَطُّ - من التصريح بأن تَعلُّم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة
والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية وقد كان منهج العرب التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشاراً واسعاً وانكب الناس - في لهف ـ على تحصيله في ربوع أوربا
ويقول لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث ولكن ثماره كانت بطيئة النضج إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض - في عنفوانها - إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم العربي وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية
ويقول فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوربى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة فإن هذه المؤثرات توجد - أوضح ما تكون - فى نشأة الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة وفى المصدر القوى لازدهاره -
VV
أي في العلوم الطبيعية وفى روح البحث العلمى ويقول " إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة بل يدين هذا العلم للثقافة العربية بأكثر من هذا إنه يدين لها بوجوده نفسه فالعالم القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ولم تتأقلم
في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية وقد نظم أهل اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبى كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليوناني ولم يقارب البحث العلمى نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهليني
أما ما ندعوه العلم فقد ظهر فى أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مستحدثة ولطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها أهل اليونان وهذه الروح وتلك المناهج العلمية
أدخلها العرب إلى العالم الأوربي "
۷۸
أهداف الرسالة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين ـ وبعد
فإن الإسلام حدد هدف الرسالة الإسلامية في عدة آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى
هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ويُعلَمُهُمُ الكتاب والحكمة وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين ۱ ويذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ تفضله على المؤمنين بإرساله رسولاً من أنفسهم ويحدد الله - سبحانه وتعالى ـ الهدف من الإرسال والحكمة منه فيقول
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مَنْ أَنفُسهمْ يتلو علَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ويُعلَمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين
وفي سورة الجمعة يبين الله - سبحانه ـ أن ما في السموات وما في الأرض ينزهه سبحانه إذ إنه يسبح له ويذكر سبحانه من صفاته الملك القدوس العزيز الحكيم ثم يقول
۱ سورة الجمعة ٢
سورة آل عمران ١٦٤
هُوَ الَّذي بعث في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويُعلَمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين ١ وهذه الآيات الكريمة وما يشبهها من القرآن الكريم لا تحتاج إلى تأمل بالغ أو تفكير مجهد من أجل فهم معانيها وذلك أن المعنى في هذه الآيات الكريمة واضح كل الوضوح فهى تبين أن الحكمة في إرساله لم تتمثل في أمرين
1 - العلم
٢ - التزكية
العلم - إذن فى الرسالة الإسلامية شطرها بل هو شطرها الأساسي أى الشطر الذى تقوم عليه التزكية إذ لا يتأتى أن
تقوم التزكية على الجهل نشأ الإسلام حليفاً للعلم
ولعل مما يبين الأهمية الكبرى التي منحها الإسلام للعلم أن نرجع بنظرة سريعة إلى اللحظات الأولى التي أشرق فيها فجر الرسالة الإسلامية
روى الإمام البخارى - نصر الله وجهه ـ بسنده عن أم المؤمنين
عائشة فيها وروت كتب السنة كذلك حديث بدء الوحى وهو حديث طويل وفيه أن رسول الله بينما كان في غار حراء يتعبد جاءه الملك فقال اقرأ
۱ سورة الجمعة ٢
A
قال ما أنا بقارئ
قال فـأخـذنـي فـعطني حتى بلغ منى الجـهـد ثم أرسلني
فقال اقرأ
قلت ما أنا بقارئ
فأخذني فغنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني
فقال اقرأ
فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطنى الثالثة ثم أرسلني
فقال
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وربككَ الأكْرَمُ الذى علم بالقلم O عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَم يعلم 1 وحينما فسر المرحوم الشيخ محمد عبده هذه الآيات عقب عليها قائلاً
لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحى بهذه الآيات الباهرات
لقد افتتح الله - سبحانه - الوحى في الدين الإسلامي بهذه الآيات المعجزة الخالدة التي تذكر القراءة والكتابة والقلم والتي ترددت فيها مادة العلم أكثر من مرة
وبعد أن نزلت هذه الآيات الكريمة نزل قوله تعالى
۱ سورة العلق ١- ٥
۸۱-
ون والقلم وما يسطرون ۱
وفي هذه المرة الثانية من الوحى بدأ الله سبحانه بحرف من حروف الهجاء وأقسم بالقلم والكتابة فكان أول قسم في القرآن هو القسم بالقلم وما يسطر بالقلم
أما اسم الكتاب الموحى به فإنه القرآن
يقول الراغب الأصفهاني
قال بعض العلماء تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كتب الله لا لكونه جامعاً لثمرة كتبه بل لجمعه ثمرة جميع العلوم كما أشار - تعالى - إليه بقوله وتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وقوله تبيانا لِكُلِّ شَيْء ۳
والقرآن بتسميته وبأول آية نزلت منه وبأول قسم فيه يوجه الإنسان بطريق مباشر وبطريق إيحائي إلى الاتجاه
نحو المعرفة قراءة وكتابةً وعلماً
۱ سورة القلم ١ ۳ سورة النحل ۸۹
۸-
سورة يوسف ۱۱۱
٤ - منزلة العلم في الإسلام
عن طريق القصص
لقد نشأ القرآن حليفاً للعلم وأشرق نوره مبشراً بالعلم وأخذ القرآن ـ فيما بعد - يوالى الحـث عـلـى الـعـلـم بشتى
الأساليب فيبين لنا مثلاً أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق آدم عليه
السلام علمه الأسماء كلها ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ١ ثم يبين الله - سبحانه وتعالى أن آدم بهذه المعرفة أصبح
أسمى من الملائكة ويقول في ذلك
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ٢
فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۳
ولم يكن للملائكة علم بها فأجابوا في تواضع قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ
الحكيم ٤
وبين لهم سبحانه مكانة آدم - بصورة غير مباشرة ـ حينما قال
يَا آدَمُ أَنبِئُهُم بِأَسْمَائِهِمْ ٥
۱ - ۳ سورة البقرة ٣١
5 سورة البقرة ٣٣
٤ سورة البقرة ٣٢
صدع آدم بالأمر وبين الله سبحانه وتعالى النتائج حينما أنبأهم آدم بأسمائهم فقال
ألم أقل لكُم إنّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ١
ومن الأمور التى لها مغزاها الواضح والتي نشير إليها ولا
نتعمق فيها أن الله سبحانه وتعالى قال بعد ذلك مباشرة وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى واستكبر وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
لقد ذكر الله - سبحانه وتعالى أمره للملائكة بالسجود لآدم بعد أن بين لهم أن آدم أعلم منهم واستجاب الملائكة للأمر
فسجدوا
فكأن السياق يوحى بسمو مكانة العلم سموا يصل إلى درجة سجود الملائكة له
وقصة أخرى ثرية بالمغزى والمعنى والحكمة إن رسل الله تعالى - صلوات الله وسلامه عليهم ـ في الذروة المكانة والفضل وفى الذروة من العلم والحكمة ومع ذلك فها هو ذا موسى ـ عليه السلام - يجد في السير هو وفتاه من أجل البحث عن علم أنبأه الله بوجوده وبعد جهد وصبر وجداه
من
يقول سبحانه
۱ سورة البقرة ۳۳
سورة البقرة ٣٤
AE_
فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنَا وَعَلَمْنَاهُ من لدنا علمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبَعُكَ عَلَى أَن تُعَلَمَن ممَّا عُلَمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرًا CD وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجدُنى إن شَاءَ اللهُ صَابرًا وَلَا أَعْصَى لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِن
9
اتَّبَعَتِنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحدِثَ لَكَ مِنْهُ ذكرًا ١ کی ويسيران ويتعلم موسى رسول الله - عليه السلام - من صاحبه ما لم يكن يعلم و مما أفادته هذه القصة - كما يقول البيضاوى - أن يداوم المرء على التعلم ويتذلل للمعلم ويراعى الأدب في
المقال
ويأخذ منها السيوطى
استحباب الرحلة في طلب العلم واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر وأنه لا ينافي التوكل ونسبـة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازاً وتأدباً عن نسبتهما إلى الله تعالى وتواضع المتعلم لمن تعلم منه ـ ولو كان دونه في المرتبة - واعتذار المعلّم إلى من يريد الأخذ عنه في تعليمه ما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمور واشتراط المتبوع على التابع وأنه يلزم الوفاء للشروط وأن النسيان غير مؤاخذ
به
وقصة ثالثة نذكرها لنتهى بها من الحديث في العلم عن طريق
۱ سورة الكهف ٦٥ - ٧٠
٨٥
القصص القرآني ولنتجه بعدها إلى الأسلوب القرآني المباشر
ثم إلى السنة النبوية الشريفة
ها هو ذا سليمان عليه السلام يجلس بين أصفيائه ويتحدث معهم عن ملكة سبأ وعن عبادتها للشمس من دون الله وعن رده للهدية التي أرسلتها إليه ملكة سبأ تريد بذلك أن يغض الطرف عنها وعن زيغها وضلالها قائلاً حين ردها
أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ
تفرحون ۱
ارجع إليهم فلتأتينهم بجنود لأ قبل لَهُم بِهَا وَلَتُخْرِ جَنَّهُم مِّنْهَا أَذلَّةٌ
وَهُمْ صَاغِرُونَ ٢
ثم يلتفت سليمان إلى من حوله قائلاً
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ ۳
فرد عليه عفريت من الجن قائلاً
2
أنا آتيك به قبل أن تَقُومَ من مُقَامَكَ وإنى عليه لقوى أمين ٤ وأجاب شخص آخر يصور القرآن إجابته على الوضع التالي قَالَ الذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
٨٦
٥
١ ٥ سورة النمل ٣٦ - ٤٠
ونفذ الذي عنده علم من الكتاب ما قال وجاء بالعرش في لمح
البصر
فلما رأى سليمان العرش مستقراً عنده قال
هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِي كَرِيمٌ ١
والقرآن يعرفنا بهذه القصة أن العلم يفعل الأعاجيب وأنه يفعل ما لا تفعله الجن وأن مقدرة العالم تصل إلى ما لم تصل إليه مقدرة عفريت الجن وأنه بالعلم تُطوى الأرض وتزول المسافات وتتحقق المعجزات
1 سورة النمل ٤٠
- الطريق المباشر لبيان
مكانة العلم في الإسلام
والآن نأتى إلى موقف القرآن من العلم عن طريق مباشر أي من خلال الآيات التي تتحدث عن العلم حاثة عليه مشيدة
يقول الله تعالى
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعَلَمَاء ١
إنه بمقدار تعمق الإنسان في الجانب العلمي - في صدق وإخلاص - تكون خشيته لله تعالى ذلك أنه يرى من نواميس الكون ومن الإتقان في الصنع ومن الحكمة في التدبير مـا يجعله ساجداً لمبدعه ومنسقه
وإن هؤلاء الذين يتصلون مثلاً بعلم التشريح من قرب أو يتخصصون فيه يرون من الإحكام المحكم ومن الدقة الدقيقة في مختلف الأجهزة الجسمية وفى مفردات هذه الأجهزة ما يضطرهم اضطراراً إلى السجود لرب هذا التنسيق والترتيب
والإبداع وليس علم التشريح وحده هو الذى يبهر العالم المتبحر فيه وإنما يبهر علم الفلك العالم الفلكي ويبهر علم الأحياء عالم
1 سورة فاطر ۸
۸۸
الأحياء وهكذا نجد انبهاراً في كل ميدان من ميادين المعرفة الكونية أرضها وسمائها وما بين الأرض والسماء تبارك الذى بيده الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَات طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ١
وصدق الله سبحانه إذ يقول
إِنَّمَا يَخْشَى الله من عباده العلماء ٢
وخشية الله التي هي ثمرة العلم أساس من أهم أسس إسلام الوجه لله ومن هنا كانت ضرورة العلم في الإسلام إنه ضرورة وليس ترفاً فهو من أسس الإسلام نفسه
ومن أجل ذلك كان من مقومات شخصية المسلم العلم العلم بالكون وبالإنسان وبالنفس وبكل ما له الكلمات ما تتسع
من معنى كريم
* إلام تؤدى الخشية
* إلام ينتهى العلماء الصادقون المؤمنون
يقول الله تعالى
۱ سورة الملك ١- ٤
سورة فاطر ۸
شهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْط لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۱
إنهم يصلون - عن طريق العلم الذي يثمر الخشية ـ إلى
التوحيد
التوحيد الذي هو سمة الدين الإسلامي - كما يرى البيروني -
والذي هو في حقيقة الأمر سمة التدين الصادق
ويشهد العلماء التوحيد مع الله سبحانه ومع الملائكة الأطهار إن الله سبحانه قرن العلماء به وبملائكته في شهادة التوحيد وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه تكريم العلماء من
مكانة
وشهادة التوحيد التي هي قمة الركن الأول للإسلام وهو أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله لا يشهدها إلا العلماء المؤمنون
وشهادة التوحيد التى هى منتهى ما يمكن أن يصل إليه السالك في معراجه إلى الله سبحانه لا تتحقق إلا فى العلماء المؤمنين إن شهادة التوحيد هذه قد وجه الله الأنظار إليها بأساليب شتّى ومن هذه الأساليب ما لا يقدره ـ في دقته وروعته الرائعة
إلا العلماء
۱ سورة آل عمران ۱۸
قل الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلى عباده الذينَ اصْطَفَى اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ 9 أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فأنبتنا به حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْم يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضِ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِي وَجَعَلَ بين البحرينِ حَاجِرًا أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ E أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ويكشفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِ وَالْبَحْرِ ومَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بشرا بين يدى رَحْمَتِهِ أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ E أَمَّن يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيده ومَن يرزقكم من والْأَرْضِ أَإِلَهُ مَعَ اللَّهُ قُلْ هَاتُوا بُرهانكُمْ إِن كُنتُم صادقين ١ ثم يعقب الله على الآيات بأنه مهما بلغ العلماء بعلمهم فإن المجهول كثير وأنه لا يعلم هذا المجهول المغيب إلا الله سبحانه والتعقيب الكريم معناه أن العلم لا ينتهى إلى غاية وأن كشف المجهول رسالة لا تنتهى ما دامت السموات والأرض فيقول
سبحانه
السَّمَاء
قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ
أَيَّان يبعثون
۱ سورة النمل ٥٩ - ٦٤
سورة النمل ٦٥
۹۱-
ومن أجل شهادة التوحيد أو من أجل وصول الإنسانية إلى أقصى ما ينتهى إليه ـ بالنسبة للإنسانية كل بحسب ا استطاعته ـ في معارج القدس حث الإسلام على العلم ووجه إليه وجعله من أسس الذين نفسه
لقد حث عليه في صور بلغت من الروعة حَداً لا يُجَارَى والآيات والأحاديث التي وجهت الأمة الإسلامية إلى العلم كثيرة مستفيضة وإذا كان العلماء يشهدون التوحيد مع الله ومع الملائكة فإن منزلتهم بالمكان السامي ودرجاتهم سامية في الرفعة والعلو
يرفع اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درجات ١ ولهذه الجوانب من فضل العلم والعلماء أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ـ وهو قدوة المسلمين وأسوتهم ـ أن يقول
رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا
رب زدنی علماً في كل يوم بل في كل لحظة ذلك ما يجب أن يكون شعار المسلم وإذا ما ازداد المسلم علماً ازداد خشية وإذا ما ازداد خشية تحقق فيه إسلام الوجه لله على صورة أكمل ومن الملاحظات التي يجب أن تكون دائماً في الذاكرة أن الكلمة الأولى التى نزل بها الوحى على المصطفى مبشرة بعهد من النور جديد هي كلمة اقرأ
۱ سورة المجادلة ۱۱
سورة طه ١١٤
۹-
مكانة العلم في السنة النبوية الشريفة
ونأتى الآن إلى موقف مَنْ أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نتخذه
أسوة
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخر وذكر الله كثيرا ۱
لنأت الآن لنتبين موقف رسول الله من العلم
عن أبي هريرة له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
مَنْ نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَّسَ اللَّهُ عنه كربة من كرب يوم القيامة ومَنْ ستر مسلما سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدنيا والآخرة ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسر يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ومَنْ سَلَكَ طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّلَ اللَّهُ له به طريقاً إلى الجنة وما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يَتْلُونَ كِتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا حَفَّتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عنده ومَنْ أبطأ بِهِ لم يُسرع به نَسَبُهُ
عَمَلُهُ
وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله عليه الصلاة
والسلام
۱ سورة الأحزاب ۱
رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في
صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما
إِنَّ مَثَلَ العُلَماءِ في الأرضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرَ فَإذا انطمست النُّجُومُ أَوشَكَ أَنْ تَضَلَّ الهداة ١
وعن كثير بن قيس قال كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول ما جئت حاجة قال فإني سمعت رسول الله يقول
مَنْ سَلَكَ طريقاً يطلب فيه علماً سَلَكَ اللَّه به طريقاً من طرق الجَنَّة وإنَّ الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها رِضاً لطالب العلم وإِنَّ العَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَه مَنْ فِى السَّمواتِ وَمَنْ في الأرضِ والحيتان في جَوْفِ الماء وإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العابد كفضل القَمَرِ ليلةَ البَدْر عَلَى سَائر الكواكب وإنَّ العُلَمَاء وَرَثَةُ الأنبياء وإنَّ الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولا درْهَماً وإنما ورثوا العلم فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرِ
وعن أبي أمامة الباهلي قال ذكر لرسول الله رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم
۱ رواه أحمد
رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي وسماه الترمذى
ابن كثير
98
ثم قال رسول الله
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائكتَهُ وأهل السموات والأرض حتَّى النَّملة في جحرها وحتَّى الحوت لَيُصَلُّونَ على مُعلِّمِ النَّاسِ الخير 1
وعن
عائشة أنها قالت سمعت رسول الله م يقول
طلب
إِنَّ اللَّهَ - عزَّ وجَلَّ - أَوْحَى إِلى أَنه مَنْ سَلَكَ مَسْلَكاً في العِلْمِ سَهَّلْتُ له طريقَ الجَنَّة وَمَنْ سَلَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ أَثَبْتُهُ
عليهما الجَنَّة وفَضْل فى عِلْمٍ خيرٌ مِنْ فَضْلِ فِي عِبَادَةِ وَمَلَاكُ
الدين الوَرَع ٢
وعن أنس قال قال رسول الله
مَنْ خَرَجَ فِى طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِع 3 وعن ابن مسعود قال قال رسول الله
لا حَسَدَ إلا فى اثنتين رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مالاً فسلطه على هلكته في الحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحكمة فهو يَقْضى بها ويُعلِّمها ٤
وعن عون قال قال عبد الله بن مسعود
مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَان صَاحِبُ العِلْم وصاحب الدنيا ولا يستويان أما صاحب العلم فيزداد رضاً للرحمن وأما
صاحب الدنيا فيتمادى فى الطغيان ثم قرأ عبد الله
1 رواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح رواه البيهقى فى شعب الإيمـ ۳ رواه الترمذي والدارمي ٤ متفق عليه
-90-
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أن رآه استغنى ١ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعَلَمَاءُ ۳ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا مَاتَ الإِنسانُ انقطعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثلاثة
إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدعو
له ٤
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله
إنَّ مِمَّا يلحق المؤمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وحَسَنَاتِهِ بعد موتهِ عِلْماً عَلَّمَهُ ونَشَرَهُ وولداً صالحاً تَرَكَهُ ومُصْحَفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أَخْرَجَهَا مِنْ ماله فى صحته وحياته يلحقه من بعد موته ه
وعن صفوان بن ع عسال المرادي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر فقلت له يا رسول الله إني جئت أطلب العلم فقال
مَرْحَباً بِطَالبِ العِلْمِ إِنَّ َطالبَ العِلْمِ تَحُنُّهُ الْمَلَائِكَةُ بأجنحتها ثُمَّ يركب بَعْضُهُمْ بَعْضاً حتَّى يَبْلُغوا السَّمَاءَ مِنْ
مَحَبَتِهِمْ لِمَا يطلبُ ٦
۱ سورة العلق ٧٦
۳ رواه الدارمی
سورة فاطر ۸
٤ رواه مسلم
۵ رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان ٦ رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له وابن حبان في صحيحه وقال صحيح الإسناد
والحاكم
وعن أبي هريرة أن النبي - عليه الصلاة والسلام ـ قال أَفْضَلُ الصَّدَقَة أَنْ يَتَعَلَّمَ المَرْءُ المُسلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمَهُ أَخَاهُ المسلم 1
وعن أبي هريرة له قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَثَلُ عِلْمٍ لا يُنْتَفَعُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزِ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ
الله ٢
العلم الذي يدعو إليه القرآن والحديث
وقد يظن بعض الناس أن العلم الذى يدعو إليه القرآن إنما هو العلم بالدين أي العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والعلم بالفروض الدينية من صلاة وصيام وزكاة وحج والعلم بالقانون الأخلاقي والتشريع الإلهي
والواقع أن العلم بالدين عقيدةً وأخلاقاً وتشريعاً مما يحث عليه الإسلام بل هو في المرتبة الأولى لأن الإيمان هو الأساس في كل دعوة دينية منذ أن كان الدين
ومعرفة الإنسان بالله وصلته بالله عن طريق رسله هي أسمى معرفة بالنسبة للإنسان باعتباره فرداً وبالنسبة لأمن المجتمع وطمأنينته على الدماء والأموال والأعراض
۱ رواه ابن ماجه بإسناد حسن من طريق الحسن - أيضا ـ عن أبي هريرة
رواه أحمد والدارمي
۹۷-
بيد أنه إذا كانت المعرفة بالله عن طريق رسله لها الصدارة في الأجواء الدينية فإن القرآن بيَّن لنا أن الكون كله هو كتاب للعلم بالله سبحانه وتعالى إنه مجموعة من النواميس الإلهية التي
يؤدى اكتشافها إلى زيادة المعرفة بالله وزيادة الخشية منه
وتأمل معي قوله تعالى
ألَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ منَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
D وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَاتِ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى
J
الله من عباده الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ ١
لقد أتى قوله تعالى
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
في معرض الحديث عن تنسيق العالم المادى وترتيبه والإبداع
لقد دفع القرآن المسلمين دفعاً إلى مختلف مجالات المعرفة في الكون لقد دفعهم إلى مجال المعرفة بالتاريخ الذي يسميه أيام الله أيام الله التى أنعم فيها على من اتبع هديه واستقام على أمره ه ودمر فيها من سار في طريق المعصية والشر أيام الله التي نصر فيها أولياءه وخذل فيها أعداءه
۱ سورة فاطر ۷ ۸
۹۸
سورة فاطر ۸
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ
الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
1
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ
أكثرهم مشركين ٢
أَو لَمْ يَسيرُوا فى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ
وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاق ﴾ ۳
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ تمكن لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مَدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَار تجرى من
تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ ٤ ودفعهم إلى المعرفة بالفلك حينما أقسم ببعض الكواكب مشيراً إلى منزلتها بهذا القسم وحينما أقسم بمواقع النجوم والقسم بمواقع النجوم فيه ما فيه من بعث للتأمل والتدبر والبحث يقول
سبحانه
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ٢٥ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ٥
ويقول سبحانه ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى
۱ سورة العنكبوت ٢٠
۳ سورة غافر ۱
٥ سورة الواقعة ٧٥ ٧٦
1
سورة الروم ٤٢ ٤ سورة الأنعام ٦
٦ سورة النجم ١
-۹۹
ويبين ـ سبحانه ـ أنه رب الشعرى
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشَعرَى ١
ويتحدث سبحانه عن النظام الدقيق الذي تسير عليه الأفلاك
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي
فَلَك يَسْبَحُونَ ٢
ويبين ـ سبحانه ـ الدقة في الصنع
تَبَارَكَ الذي بيده الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَات طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ۳
وهذه النجوم والأفلاك التى أقسم الله بها وأقسم بمواقعها أعلن ـ سبحانه وتعالى - أنه سَخَّرها لنا وامتن ـ سبحانه وتعالى -
علينا بتسخيرها
يقول سبحانه
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبِينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ٤
۱ سورة النجم ٤٩ ۳ سورة الملك ١ - ٤
سورة يس ٤٠
٤ سورة إبراهيم ٣٣
-۱۰۰-
ويقول تعالى في سورة النحل
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ۱
ويقول سبحانه
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خبير ٢
ومن
والمعنى الذي أحبه الله سبحانه وتعالى من وراء بيان ذلك
C
امتنانه هو تسخيرها إلى السيطرة عليها إلى امتلاكها وإنه لمن الجهل أن يتحدث إنسان عن غزو الفضاء وعن
أن يصل الإنسان الى اكتشاف قوانينها إلى
الوصول إلى القمر ليقول إن الإسلام يعارض ذلك إنه من الجهل بالإسلام أن يقول إنسان ذلك فقد أنزل القرآن الكواكب منزلتها بينما كان الآخرون يقدسونها بل ويعبدونها
يقول سبحانه لهؤلاء الذين سجدوا لها وعبدوها لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ۳
إنها مخلوقات الله ربها وكما أنه ـ سبحانه ـ رب الشعرى
۱ سورة النحل ۱
سورة لقمان ۹
۳ سورة فصلت ۳۷
۱۰۱-
فإنه رب كل كوكب ورب كل نجم وكـمـا أنه خلق الشمس والقمر فهو الخالق لكل السموات التي زين السماء الدنيا منها بزينة الكواكب
وكما دفع القرآن المسلمين إلى التعرف على أيام الله وكما دفعهم إلى النظر والتأمل والبحث في النجوم والكواكب فإنه دفعهم ـ على وجه العموم - إلى البحث والنظر والتأمل في الكون كله والآيات القرآنية في هذا المجال تتعاون وتتناسق لتوجه الإنسان إلى التنقيب في جميع مجالات الكون لاكتشاف نواميس الله في كتابه هذا المنظور يقول سبحانه
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ والسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ۱
ويقول سبحانه
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأولي الألباب ٢
ويذكر الله سبحانه وتعالى - فى أوائل سورة الرعد - ما يلى
۱ سورة البقرة ١٦٤ سورة آل عمران ۱۹۰
-۱۰۔
المَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجِينِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعْ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مَنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٍ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانِ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضَلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ن ۱
ويمتن الله سبحانه وتعالى على الإنسانية أجمع بآياته الباهرة ضارباً المثل للعقلاء المستبصرين ليتجهوا بالبحث والدراسة إلى ما وجههم سبحانه نحوه يقول سبحانه
فَسُبْحَانَ الله حين تمسون وحين سِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ٨ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الْحَيَّ وَيُحْيِي الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مَنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لَتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَل بينكُم مَّوَدَّةً
۱ سورة الرعد ١- ٤
۱۰۳-
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ CD وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتِ لِلْعَالَمِينَ ET وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ CD وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ٢٥ وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
٥٠٠
قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذى يبدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ١
ولقد سخر الله - سبحانه وتعالى - البحر يقول سبحانه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الأَنْهَار ٢
ويقول تعالى
وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حلية تلبسونها وترى الفُلْك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم
۱ سورة الروم ۱۷ - ۷
سورة إبراهيم ٣٢
-18
تَشْكُرُونَ CD وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا
لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١
ويقول سبحانه
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ ٢
وينتهى الأمر في القرآن بأن الله سبحانه وتعالى سَخَّر الكون
كله للإنسان
يقول سبحانه
۳
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ٣
ويقول سبحانه
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنِينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجِ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتَنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدِ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتِ لَهَا طَلْعَ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيِينَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ ٤
ويقول تعالى
۱ سورة النحل ١٤ ١٥
۳ سورة لقمان ۰
سورة لقمان ۳۱ ٤ سورة ق ٦ - ١١
-100
أفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كيف خُلقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وإلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ 3 وإلَى الْأَرْض كَيْفَ سُطحت ١
ومعنى هذا كله أن الله - سبحانه وتعالى - يوجه نظر الأمة الإسلامية إلى دراسة كتابه المرئى إنه سبحانه يوجه نظرها إلى البحث في الآفاق على مختلف أوضاعها إنه سبحانه يوجه نظرها إلى البحث في الأرض والسماء وما بين الأرض والسماء سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أَو لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
۱ سورة الغاشية ۱۷ - ۰
سورة فصلت ٥٣
-١٠٦
عن فضل العلم الديني
ومع ذلك فإنه إذا كنا قد تحدثنا للآن ـ في الأغلب الأعم ـ عن العلم في مجاله الكوني أي في مجاله المادي المحسوس وإذا كانت الأحاديث السابقة في فضل العلم على وجه العموم فإنه مما لا مرية فيه أن العلم الديني خاصة قد وردت فيه أحاديث كثيرة أيضاً
وأن ما نذكره هنا فيما سبق في العلم على وجه العموم أو في العلم الديني خاصة لا يحيط بكل ما ورد في فضل العلم وإنما نذكر غيضاً من فيض
عن ابن عباس أن رسول الله قال
أقرب الناس منْ دَرَجة النبوَّة أَهْلُ العلم وأَهْلُ الجهاد أَمَّا أهلُ العِلْمِ فَدَلُّوا الناسَ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَمَّا أَهلُ الجِهَادِ فَجَاهَدُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ۱ وعن أبي هريرة أن رسول الله قال
مَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِى بَيْتِ مِنْ بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كتاب الله ويَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَينهم إلا نزلتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وحَفَتْهُمُ المَلائِكَةُ وذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ٢
۱ رواه أبو نعيم والجو الإسلامي كله يؤيده
رواه مسلم وأبو داود وغيرهما
-۱۰۷
وعن معاوية قال قال رسول الله
مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفَقَهْهُ فِى الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعطى ۱
وعن ابن مسعود قال قال رسول الله
نَضْرَ اللَّهُ وَجْهَ عَبْد سَمِعَ مَقالتي فحفظها وأداها فَرُبَّ حامل فقه غيرُ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أَفْقَهُ منه ثلاث لا يُغَلُّ عليها قلب مسلم إخْلاَصُ العَمَلِ للَّه والنَّصِيحَةُ للمُسلمين ولزومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ٢
وعن ابن عباس قال قال رسول الله فَقِيةٌ واحدٌ أشدُّ عَلَى الشَّيْطانِ مِنْ أَلْفِ عَابِد ۳
وعن سفيان أن عمر بن الخطاب به قال لكعب
مَنْ أرباب العلم قال الذين يعملون بما يعلمون قال فما أخرج العلم من قلوب العلماء قال الطمع
وعن أبي هريرة الله قال
٤
۱ متفق عليه
رواه الشافعي والبيهقي في المدخل
۳ رواه الترمذي وابن ماجه
٤ رواه الدارمي
۱۰۸
فيما أعلم عن رسول الله قال
إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ َوجَلَّ - يَبْعَثُ لهذه الأُمَّةِ عَلَى رأس كل مائة
سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ۱ من آداب العلماء
ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء وأنذرهم وبيَّن لهم آداباً من آداب العلم والعلماء كثيرة منها ما يلى
عن عبد الله
بن مسعود انه قال
يَا أَيُّها النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شيئاً فليقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعلَمُ فَلِيقَلْ الله أعلم فإنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ تقولَ لِمَا لا تعلم اللَّهُ أَعلم قال الله تعالى لنبيه وقُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه من أجر وما أنا من المتكلفين ۳
وعن ابن عباس قال قال رسول الله إِنَّ أناساً مِنْ أُمَّتِى يَسْتَفْقَهُونَ فِى الدِّينِ ويَقْرَأَونَ القُرآنَ ويَقُولُونَ نَأْتَى الْأَمَراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا ولا يكون ذلكَ كَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ القَتَادِ إِلَّا الشَّوْلُ كَذَلكَ لا
يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ إِلَّا الخَطَايَا وقال عمر ض لأحد الصحابة
هل تعرف ما يَهْدِمُ الإِسْلامَ قال قلت لا قال يَهْدِمُهُ زَلَّةً العالم وجدالُ المُنَافِقِ بالكتاب وحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلَّين ٤
۱ رواه أبو داود
۳ متفق عليه
سورة ص ٨٦
٤ رواه الدارمي
۱۰۹۔
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله
مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أَلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ
من نار 1
الصحابة والحث على العلم
ولقد تابع المسلمون القرآن والحديث الشريف في الحث على العلم ونكتفى فى هذا بما قاله سيدنا معاذ بن جبل روى الإمام الغزالي في الإحياء قال
عن معاذ بن جبل اه - ورأيته مرفوعا ـ قال
تَعلَّموا العلم فَإِنَّ تَعلُّمهُ للَّه خشيةٌ وطَلبَهُ عبادةٌ ومذاكرتَهُ تَسبيح والبحث عنه جهَادٌ وتعليمَهُ لَمَنْ لا يعلمُهُ صَدَقَةٌ وبَذْلَهُ لأهله قُربةٌ لأنَّهُ مَعالمُ الحَلال والحرام ومَنار سُبُل أهل الجَنَّة وهو الأنيس في الوَحْشَةِ والصَّاحِبُ في الغربة والمُحَدِّثُ في الخَلْوَة والدَّليلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاء والسلاحُ عَلَى الأَعْدَاء والزَّينُ عندَ الأخلاء ويرفعُ اللَّهُ بِهِ أقواماً فَيَجْعَلُهُمْ فِى الخَيْرِ قادةً تُقْتَفَى آثَارُهُمْ وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ ويُنْتَهَى إلى رَأيِهِمْ تَرغَبُ الْمَلائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ وبأجنحتها تَمْسَحُهُمْ ويَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلٌّ رَطب ويابس وحيتانُ البَحْرِ َوهَوامُهُ وسِبَاعُ البَرِّ وَأَنْعَامُه لأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ
۱ رواه أحمد وأبو داود والترمذى
-۱۱۰۔
القلوب منَ الجَهْلِ ومَصابيحُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَم يبلغ العَبْدُ بالعلم منازلَ الأَخْيَارِ والدَّرَجَاتِ العُلا في الدُّنيا والآخرة والتفكير فيهِ يَعْدِلُ الصِّيام ومُدَارَسَتْهُ تَعْدِلُ القِيامَ به تُوصَلُ الْأَرْحَامُ وبه يُعْرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرَام وهو إمَامُ العَمَل والعَمَلُ تَابِعٌ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ ويُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ
-۱۱۱۔
الثمرة التي أدى إليها
الحث على العلم
وكانت نتيجة ذلك كله أن اندفع المسلمون إلى البحث في جميع ميادين الحياة روحية كانت أو عقلية أو مادية ونشأ ـ عن ذلك ـ الحضارة الإسلامية التي أنتجت أمثال جابر بن حيان في الكيمياء وابن الهيثم في الطبيعيات وأبي بكر الرازي في الطب وابن سينا في الطب كذلك والفلسفة والغزالي في الجانب الروحي وابن رشد في الفلسفة العقلية وابن خلدون في الاجتماع والتاريخ والخوارزمى فى الجبر وكثيرين غيرهم ونضرب الآن بعض الأمثلة على ما وصل إليه علماء الإسلام
من مكانة مرموقة
الكندي
يقول دى بور عن الكندى فى دائرة المعارف الإسلامية إن كوردان ـ وهو فيلسوف من فلاسفة النهضة - يَعُدُّ الكندى واحداً من اثنى عشر هم أنفذ الناس عقلاً وإنه كان في القرون
الوسطى يعتبر واحداً من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية والطريف في حياة الكندى أنه كان يجرى الكثير من التجارب حتى تقوم معرفته في الميدان التجريبي ـ على أساس
سليم
-۱۱۔
وأنه كان يعرف الموسيقى نظرياً وعملياً ويمزج الموسيقى
بالطب في أمر العلاج
ويحكى عنه في هذا الميدان حكاية طريفة وسواء أصحت أم لم تصح فإنها تدل على أساس من معرفة الكندى بالموسيقى
وبالطب ومن مزج بينهما
روی صاحب کتاب أخبار الحكماء
وقد ذكروا من عجيب ما يحكى عن يعقوب بن إسحاق الكندى هذا أنه كان في جواره رجل من كبار التجار موسع عليه في تجارته وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه وشرائه وضبط دخله وخرجه وكان ذلك التاجر كثير الإزراء على الكندي والطعن عليه مدمناً لتعكيره والإغراء به فعرض لابنه سكتة فجأة فورد عليه من ذلك ما أذهله وبقى لا يدرى ما الذي له في أيدى الناس وما لهم عليه مع ما دخله من الجزع على ابنه فلم يدع بمدينة السلام طبيباً إلا ركب إليه واستركبه لينظر ابنه ويشير عليه من أمره بعلاج فلم يجبه كثير من الأطباء ـ لكبر العلة وخطرها
إلى الحضور معه ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه وأعلم الناس بعلاج هذه العلة فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب
فدعته الضرورة إلى أن يحمل على الكندي بأحد إخوانه فثقل عليه في الحضور فأجاب وسار إلى منزل التاجر فلما رأى
ابنه وأخذ مجلسه أمر بأن يحضر إليه مع تلامذته في علم الموسيقى و من قد أتقن الحذق بضرب العود وعرف الطرائق المحزنة المزعجة والمقوية للقلوب والنفوس فحضر منهم أربعة نفر فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها وأراهم مواقع النغـم بـهـا مـن أصـابعـهـم علـى الدساتين ونقلها
فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة و الكندى آخذ مجس الغلام وهو في خلال ذلك يمتدُّ نَفَسُهُ ويَقْوَى نَبضُهُ و ويرجع إليه نَفَسه شيئاً بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم وأولئك
يضربون في تلك الطريقة دائماً لا يفترون
فقال الكندى لأبيه سل ابنك عن علم ما تحتاج إلى عمله مما لك وعليك وأثبته فجعل الرجل يسأله وهو يخبره ويكتب شيئاً بعد شيء
فلما أتى عـلـى جـمـيـع مـا يـحتـاج غــفـل الـضــاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا فعاد الصبي إلى الحـال الأولى وغشيه السكات فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به فقال
هيهات إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته ولا يمكن فيها ما جرى ولا سبيل لى ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته إذ قد استوفى العطية والقسم الذي قسم الله
١١٤۔
ابن الهيثم وقد كان ابن الهيثم يتخير الأماكن التي يجرى فيها تجاربه في الضوء ثم وضع كتابه عن تجربة ولقد كان كتابه مصدر الإلهام علماء الغرب في أبحاثهم عن الضوء والحرارة
لكثير من وعن ابن الهيثم يقول سارتون إنه من أكبر الباحثين في علم البصريات الضوء في جميع الأزمان
ابن النفيس
إن الغرب يشيد بـ هارفي باعتباره مكتشف الدورة الدموية وينسى الغرب أو يتناسى ما قام به ابن النفيس من تجارب ومن ملاحظات واختبارات وصل على أساس منها إلى اكتشاف الدورة الدموية قبل هارفي بعدة قرون لقد أثبت ابن النفيس أن الدم ليس مستقراً ثابتاً فى الأوردة والشرايين بل هو سائل سائر يدور في جميع أجزاء الجسم
ابن یونس
وابن يونس يخصص الكثير من وقته للنظر في الساعات
وتطويرها ويخترع بندول الساعة الذي نسميه الرقاص يقول الدكتور عبد الحليم منتصر فى كتابه محاضرات في العلوم عند العرب
ولقد رصد ابن یونس كسوف الشمس وخسوف القمر في
110
القاهرة وقد وصف في زيجه الحاكمي الطريقة التي اتبعها فلكيو العرب في عصر المأمون في قياس محيط الأرض
وهو الذي اخترع البندول وبذلك يكون قد سبق جاليليو بعدة قرون وكان يُستعمل لحساب الفترات الزمنية أثناء الرصد كما استعمل في الساعات الدقـاقـة وقد برع ابن يونس في حساب المثلثات وأجاد فيها وفاقت بحوثه بحوث كثير من الرياضيين وقد حل مسائل صعبة في المثلثات الكروية واستعان في حلها بالمسقط العمودي للكرة السماوية على كل من المستوى الأفقى ومستوى الزوال
وابتدع قوانين ومعادلات كان لها قيمة كبرى قبل اكتشاف
اللوغاريتمات
البيروني
يقول عنه المستشرق الألمانى الذى نشر بعض كتبه إنه أكبر عقلية ظهرت على مجرى التاريخ وكتبه عن عقائد الهند وعن المجتمع الهندي في عصره تعتبر من المصادر الأولى في الدراسة عن الهند في العصر الحاضر
ولقد روى عن أبى الريحان البيروني قصة واقعية تبين مدى حرصه على العلم
روی یاقوت في معجم الأدباء عن الفقيه على بن عيسى الوالجي قال
دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حشرج
نفسه وضاق به صدره فقال في تلك الحال كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة يعني ميراث الجدات لأم فقلت له - إشفاقاً عليه أفى هذه الحالة ! قال لي يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا
جاهل بها
فأعدت ذلك عليه وحفظه
وخرجت من عنده فسمعت الصراخ وأنا في الطريق ولقد كان البيرونى من كبار العلماء في التاريخ بل يقول المستشرق سخاو عنه إنه أكبر عقلية علمية في التاريخ ومن كبار العلماء في علم الفلك
ويقول المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام عنه
هو من أعلام العلماء في تاريخ الإنسانية كلها
ولسنا هنا بصدد التأريخ لعلماء المسلمين ونكتفي بكلمـة للدكتور عبد الحليم منتصر عن ابن الهيثم وعن البيروني إنه يقول في كتابه النفيس محاضرات في العلوم عند العرب يقول ابن الهيثم إنه ما مدت له الحياة سيبذل جهده ويستفرغ قوته في التأليف متوخياً أموراً ثلاثة
أولها أن يجد الناس فى كتبه بعد موته الفائدة والعلم اللذين يقدمهما لهم في حياته
-۱۱۷۔
وثانيها أن يجعل من التأليف وتدبيج الرسائل ارتياضاً لنفسه بهذه الأمور
وثالثها أن يدخر من تلك التأليف عدة للشيخوخة وأوان
الهرم
وعندما أراد أحد الأمراء أن يُجرى عليه أموالاً كثيرة قال ابن الهيثم
یکفينى قوت يوم وتكفينى جارية وخادم فما زاد على قوت يومى إن أمسكته كنتُ خازنك وإن أنفقته كنت قهرمانك وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن ذا الذي يشتغل بأمرى
وعلمى
فما قبل بعد ذلك إلا نفقة احتاج إليها ولباساً متوسطاً وقد رد ابن الهيثم لأحد الأمراء ما كان قد دفعه أجر تعليمه
قائلاً
خُذ أموالك بأسرها فلا حاجة بي إليها وأنت أحوج إليها منى عند عودتك إلى ملكك ومسقط رأسك واعلم أن لا أجرة ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير
ويقول سارتون عن ابن الهيثم
إنه أكبر عالم طبيعي مسلم ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر
الضوء في جميع الأزمان
۱۱۸۔
فقد كان أساس الأخلاق عند ابن الهيثم إيثار الحق وطلب
العلم ألسنا نجد في خلق ابن الهيثم ـ الـعـالـم الـعـربـي المصرى - خلق العالم الفاضل ألسنا نرى أنه مثل يُحتذى في حياته وأنه لمثل يُحتذى به في عصره ومن بعده بنحو ألف من الأعوام ۱ وكذلك تميز البيروني بعقلية علمية نادرة المثال نستطيع أن نضعها في مصاف أرقى العقليات العلمية في الوقت الحاضر ومن عجب أن يتميز البيروني في فنون مختلفة غاية الاختلاف فهو في الفلك فلكي ممتاز بشهادة علماء الفلك من الفرنجة والعرب وهو في الجـيـولـوجـيـا جيولوجي ممتاز بشـهـادة الجيولوجيين المعاصرين
وهو في التاريخ مؤرخ محقق مدقق واسع الاطلاع شامل المعرفة قادر على الاستقراء والاستنتاج وإنما استطاع أن يجمع بين هذه العلوم بما أوتى من قدرة فائقة على البحث والدرس وما وهب من ذهن خارق جَبَّار
يُروى أنه لما أتم البيروني تأليف كتابه القانون المسعودى حمله إلى السلطان الذى أراد أن يجزيه على هذا العمل العظيم ما يستحقه فوجه إليه ثلاثة جمال تنوء بأحمالها من نقود الفضة فردها البيروني قائلاً
۱ محاضرات في العلوم عند العرب للدكتور عبد الحليم منتصر ص
A1
۱۱۹۔
إِنَّهُ إِنَّما يُخْدَمُ العِلْمُ ِللعِلْمِ لا للمال ۱ ويعد الأستاذ أحمد عبد الرحيم السائح بعض أعلام العلماء
المسلمين فيقول
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج رجال الحضارة
وجهابذة العلم وأساتذة الدنيا وعمالقة العلماء أمثال
ابن الهيثم والكندي والفارابي وابن سينا والبيروني والفرغاني والطوسى والبغدادي والدينوري والرازي والقزويني والأنطاكي والزهراوى والخوارزمي والصدفي وجابر والجاحظ وابن البيطار وابن النفيس وابن حيان وابن حمزة والإدريسي والمسعودى وابن بطوطة وابن زهرة ٢ هؤلاء الأعلام وكثير غيرهم - في كل فن هم ثمرة هذه الدعوة الإسلامية التي بلغت - فى الإشادة بالعلم - الذروة
۱ المصدر السابق
مجلة الرسالة الإسلامية التي يصدرها ديوان الأوقاف بالعراق
۱۰۔
أسطورة التعارض
بين الإسلام والعلم
مسألة الصلة بين الدين والعلم - انسجاماً واتفاقاً أو تعارضاً ونزاعاً - مسألة تُثار دائماً
ولقد كتب الغربيون كثيراً فى هذا الصدد بل هم أول من كتب فيه ولكن هذه المسألة تجاوزت الغرب إلى الشرق وكتب مفكرو الشرق فيها واختلفوا فيما بينهم كما اختلف مفكرو
الغرب وإن ما كتبه العلامة الفرنسي إميل بوترو ـ في هذا الصدد يعطينا صورة عن هذه المسألة فى الغرب وفي الشرق الحديث إنه يقول
إن أمر العلاقات بين الدين والعلم حين يُراقب في ثنايا التاريخ يثير أشد العجب فإنه على الرغم من تصالح الدين والعلم مرة بعد مرة وعلى الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذا المشكل حلاً عـقـلـيـاً لم يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح ولم ينقطع بينهما صراع يريد به كل منهما أن يدمر صاحبه لا أن يغلبه فحسب
على أن هذين النظامين لا يزالان قائمين ولم يكن مجدياً أن تحاول العقائد الدينية تسخير العلم فقد تحرر العلم من هذا الرق وكأنما انعكست الآية منذ ذاك
۱۱۔
وأخذ العلم ينذر بفناء الأديان ولكن الأديان ظلت راسخة وشهد بما فيها من قوة الحياة عنف الصراع ۱
ويسترسل المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق فيقول ولسنا نريد أن نعرض لتاريخ العلاقات بين الدين والعلم على مر العصور وما تناولها من سلم وحرب فإن ذلك بحث طويل وليس هو مما قصدنا إليه فى هذا الكتاب على أنه قد يكون غير خلو من المناسبة لغرضنا أن نذكر ما كتبه إميل بوترو عن موقف العلم والدين في أيامنا هذه إذ يقول
عقائد
ليس التصادم الآن فيما يظهر بين الدين والعلم باعتبارهما مذهبين بل التصادم أدنى أن يكون بين الروح العلمي والروح الديني فليس يعنى العالم أن يكون ما جاء في الدين من - متفقاً مع نتائج العلم لأن الأساس الذي يعتمد عليه الدين فيما یجیء به يختلف عن الأساس الذى يعتمد عليه العلم فالدين يقدم مسائله على أنها عقائد يجب الإيمان بها أي يجب أن يتقيد بها العقل والوجدان ويعرضها فى صورة تدل على اتصال
الإنسان بنوع من ا الأشياء يعجز علمنا الطبيعي عن إدراكه وفي ذلك ما يجعل العالم - إن لم يرفض هذه المسائل نفسها ـ يرفض الأسلوب الذي يسلكه المتدين في الأخذ بها والمتدين من ناحيته إذا وجد جميع عقائده وعواطفه وأحكامه العملية مفسرة بل
1 الدين والوحى والإسلام للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق
-۱۔
مثبتة بالعلم يكون حينئذ أبعد شيء عن مسالمة العلم فإن هذه الشئون إذا شرحت على هذا الوجه فقدت كل خواصها الدينية
اهـ
والواقع أن كلام إميل بوترو الذي ترجمه الشيخ مصطفى عبد الرازق يتحدث عن الجو الأوربى المسيحي وعن البيئة الأوربية المسيحية ومن الخطأ أن ننقل ذلك النزاع إلى البيئة
الإسلامية
أما كونه يصوّر البيئة الأوربية المسيحية فإن ذلك واضح لكل من درس تاريخ أوربا المسيحي في موضوع العلاقة بين الدين والعلم إن الكنيسة - في فترة من فترات حياتها ـ تبنت آراء أرسطو لقد تبنتها في الطبيعة وتبنتها فيما بعد الطبيعة وما كانت آراء أرسطو في يوم من الأيام ديناً وكان للكنيسة - فضلاً عن ذلك ـ آراء آمنت بها تتعلق بالعالم الطبيعي لا أساس لها من الحق ولا تستند إلى علم يقيني ـ ولا تمت إلى العلم بصلة - وإنما هي شائعات اتخذت طريقها إلى العقائد وما كانت إلا أساطير
وحينما بدأت النهضة وحينما بدأ تطبيق المنهج الاستقرائي منهج التجربة والملاحظة تبين العلماء من خلال المراصد والمعامل ومن نتائج التجارب والملاحظات أن آراء أرسطو في الطبيعة لا تخلو من خطأ وأخذوا يعانون هذه الأخطاء المرة بعد
المرة
-۱۳۔
وكانت الكنيسة - حينئذ - مسيطرة على أوربا وكانت محاكم التفتيش قائمة على قدم وساق تنكل بكل منحرف عن تيار
الكنيسة
وبدأ ـ إذن ـ التنكيل بالعلماء يأخذ مجراه في صورة قاسية بشعة لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية
ولكن العلماء لم يثنهم ذلك عن البحث والدراسة وإعلان النتائج والإسفار عن الحقائق فلما رأت الكنيسة ذلك زاد غيظها وزادت حدتها وكان لها في كل يوم فريسة وكان للعلم في كل يوم شهيد وكثر شهداء العلم كثرة جعلت الناس يعتقدون أن بين الدين المسيحي والعلم تعارضاً وتضارباً واختلافاً
والواقع أنه كان بين المذهب ـ كما تراه الكنيسة ـ والعلم تعارض وتضارب واختلاف ولكنك لا يمكنك أن تسمى
المذهب الذي كانت تراه الكنيسة - إذ ذاك - ديناً
إذن فإنه ما كان يمكن أن تقوم فكرة التعارض بين الدين والعلم لو التزمت الكنيسة الدين المسيحي كما جاء به السيد المسيح عليه السلام
هذا من جانب أما من الجانب الآخر فإنه إذا كانت فكرة التعارض بين الدين والعلم نشأت في أوربا للأسباب التي ذكرناها فإنه ما كان يجب أن تُنقل إلى الشرق وتُناقش في
١٢٤۔
الأجواء الإسلامية فإن الإسلام نشأ كما رأينا - حليفاً للعلم حاناً عليه موجباً له مُشيداً به إلى درجة لا يدانيه فيها غيره ومع ذلك فإن الأمر العام الذى نريد أن ننبـه عـلـيـه هو أن مسألة التعارض بين الدين والعلم إنما هي مسألة وهمية إذا نظرنا إلى حقيقة الأمر
ذلك أن العلم وممثليه الحقيقيين يعترفون في صراحة لا لبس فيها وفي وضوح لا خفاء فيه بأن دائرة أبحاثهم إنما هي المادة وإنما هى المحس وأنهم يعتمدون في ذلك على التجربة وعلى الملاحظة إنهم يعتمدون على الاستقراء على وجه العموم وليس الاستقراء إلا تتبع جزئيات مُحَسَةٌ تتبعها بالملاحظة أو بإجراء التجارب عليها
المنهج العلمي - إذن - إنما هو منهج لمعرفة كيفيات المادة وإذا ما
خرج الأمر عن دائرة المادة فقد خرج عن دائرة العلم وعلى هذا الأساس فليس للعلم - مطلقاً ـ دخل في أمور الدين إثباتاً وإقراراً أو نفياً وإنكاراً
وإذا ما قال قائل إن العلم يُثبت كذا من الأمور الروحية فإنه يكفينا منه هذه الكلمة لنسحب ثقتنا به كعالم وإذا ما قال إن العلم ينكر كذا من الأمور الروحية فإن هذه الكلمة تكفى أيضاً لنسحب ثقتنا به كعالم إذ إن العلم ـ في المجال الروحي ـ لا يُثبت ولا ينفى وهذا واضح مما سبق أن ذكرناه
ذلك فقد يتيح العلم بأبحاثه فى ارتباط الكون وتنسيقه ومع وإبداعه والتناغم الذي يسوده والدقائق الباهرة التي يبينها
علم التشريح مثلاً في التركيب الحيواني
قد
يتيح العلم من كل ذلك لعلماء الدين وسائل يبنون عليها تذكيرهم وعظاتهم وبيانهم القائم على أن العالم لم يكن نتيجة الصدفة العمياء أو الاتفاق الأصم ويبينون من نتائج العلم أن الآيات في مجال المادة نفسها ـ تشهد أنها من صنع الله
الذي أتقن كل شيء
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أو لَمْ يَكف بربِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ١
إن دائرة الدين لا تتحد مع دائرة العلم فلا يتأتى أن يكون
بينهما تعارض إن العلم لا يبحث في العقائد من حيث هي وحى ولا في الخير والشر باعتبارهما حقائق أخلاقية ولا في
التشريع من حيث ما يجب على الأمة أن تَسُنَّ من قوانين وهذه كلها هي المجالات التي يعلن الدين وحي السماء فيها واجبات وفروضاً أو مُـبـاحـات وجائزات أو مُـحـرمـاتٍ
ممنوعات
۱ سورة فصلت ٥٣
١٢٦۔
وإنه لتقليد ببغاوات أن ننقل الفكرة التي نشأت في التعارض
بين الدين والعلم - من بيئتها الجزئية ومن ظروفها الخاصة ـ إلى مجال الدين عامة أو مجال الدين أينما كان وفي أي زمان وجد وإنه لمن التهريج الواضح وسوء النية المبيتة أن ننقل الفكرة من جو المسيحية إلى جو الإسلام الذى كانت أول كلمة في وحيه اقرأ والذى يصل بالعلماء إلى أن يُشْهدَهُمُ التوحيد مع الله ومع ملائكته
-۱۷-
٩ - المناهج العلمية بين الإسلام
والحضارة الحديثة
لا ريب في أن الحضارة الحديثة بدأت في قوة جارفة بمنهجين في العلم يختلفان ويتعارضان ويتنازعان
أحدهما المنهج الحسي التجريبي أو المنهج البيكوني والثاني المنهج العقلى البدهي أو المنهج الديكارتي أو المنهج الحدسي حينما نفسر الحدسي كما فسره المناطقة بأنه انتقال الذهن إلى المطلوب بسرعة
وكل من المنهجين نشأ معارضاً لمنهج القياس الأرسطي وكل منهما يرى أن القياس الأرسطى إنما يُعنى بالصورة والشكل ولا شأن له بالواقع والتطبيق ومن أجل ذلك سمى بالمنطق الصوري أي منطق الصورة لا الجوهر
والمنهج البيكوني هو منهج علمي أما المنهج الديكارتي فإنه منهج فلسفى
والمنهج التجريبي
هو
المنهج الذى قامت عليه الحضارة الحديثة ومن أجل ذلك
سنقصر حديثنا عليه
إنه منهج الاستقراء أي تتبع الجزئيات عن طريق التجربة فيما يمكن أن يخضع للتجربة وعن طريق الملاحظة فيما لا يتأتى أن
۱۸
يخضع للتجربة للوصول إلى الحكم عـلـيـهـا ـ في صورة من صورها - حكماً كلياً أو بعبارة أخرى للوصول إلى اكتشاف
القوانين العامة أو للوصول إلى معرفة نواميس الكون ومجال الاستقراء إنما هو الطبيعة لأنه ملاحظة جزئيات في
عالم الطبيعة وأداته الحس فهو ملاحظة محسوسات وعلى أساس من هذا المنهج قامت الحضارة الأوربية الحديثة بكل ما فيها من صناعة فى الطبيعة ومن اكتشافات في الكيمياء ومن قوانين فلكية ومن اختراعات في جميع المجالات المادية والحسية
وعلى أسس من هذا المنهج - أيضاً - ستتطور هذه الحضارة وترقى وتتسع - كَماً وكيفاً - إلى ما شاء الله
وهذا المنهج في المشهور المتعارف يدين - في وجوده ـ إلى فرانسيس بيكون ولكنه عند الدارسين لتاريخ الفكر الأوربي يدين لـ روجر بيكون أكثر مما يدين لـغــيــره والملاحظون الدارسون للعلوم يرون أن روجر بيكون كان أدق وأعمق في بيان المنهج وفي تطبيقه بيد أن روجر بيكون ـ على خلاف كثير من مواطنيه ـ يعترف في صراحة لا لبس فيها وفي وضوح لا شائبة فيه أنه مدين في منهجه للعرب وللحضارة العربية
هذه الحقيقة التي حاول الغربيون ـ جاهدين ـ أن ينكروها ويخفوها ـ فيما مضى - يعلنها الآن بعض المنصفين منهم فها هو
۱۹۔
ذا الأستاذ بريفولت يتحدث في كتابه بناء الإنسانية عن
أصول الحضارة الغربية فيقول
إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية - في مدرسة أكسفورد - على خلفاء معلّميه العرب في الأندلس وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن يُنسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يملّ قَطُّ من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة
والمناقشات التي دارت حول واضعى المنهج التجريبي هي طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية وقد كان منهج العرب التجريبي - في عصر بيكون - قد انتشر انتشاراً واسعاً وانكب الناس فى لهف على تحصيله في
ربوع أوربا ويقول بريفولت أيضاً
لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على
العالم الحديث ولكن ثماره كانت بطيئة النضج إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام
۱۳۰
ولم يكن العلم العربي - وحده - هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرةً من مؤثرات الحضارة
الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية ويقول بريفولت أيضاً
إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة بل يدين هذا العلم للثقافة العربية بأكثر من هذا إنه يدين لها بوجوده نفسه فالعالم القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود
4
و علم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ولم تتأقلم - في يوم من الأيام - فتمتزج امتزاجاً كلياً بالثقافة اليونانية
وقد نظم أهل اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث - في دأب وأناة - وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي كل ذلك كان غريباً - تماماً ـ عن المزاج اليونانى ولم يقارب البحث العلمي نشأته في العالم القديم إلا فى الإسكندرية في عهدها الهليني أما ما ندعوه العلم فقد ظهر فى أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مستحدثة ولطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ولتطور الرياضيات إلى
۱۳۱-
صورة لم يعرفها أهل اليونان وهذه الروح وتلك المناهج
العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي
ويقول الدكتور محمد إقبال ما نصه
ومن أين استقى روجر بيكون ما حصله في العلوم من الجامعات الإسلامية فى الأندلس والقسم الخامس من كتابه Lepus Majus الذي خصَّصه للبحث في البصريات هو - في حقيقة الأمر - نسخة من كتاب المناظر لابن الهيثم وكتاب روجر بيكون - فى جملته - شاهد ناطق على تأثره بابن حزم
هذه الحقائق التي قدمناها عن حضارة العرب ـ منهجاً وعلماً أصبحت من الذيوع والشهرة لدى المنصفين بحيث لا تحتاج إلى التوسع في الاستدلال عليها
أخذت أوربا المنهج العلمى المادى عن الإسلام باعتراف واضع هذا المنهج نفسه وباعتراف المنصفين من المؤرخين وليس بعد اعتراف واضع المنهج نفسه مقال لقائل
ومع ذلك فإن المنهج الإسلامي أكمل وأتم وأشمل وقد أخذته أوربا ناقصاً
إن المنهج التجريبي يقف عند الطبيعة وهو منهج إسلامي ولكنه ليس بالمنهج الإسلامي الكامل فالمسلم لا ينتهى إلى الطبيعة كغاية ولا يقتصر عليها كهدف وإنما غايته وهدفه
-۱۳-
هو ما عبر عنه الله سبحانه بقوله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۱ وإذا اقتصرت أوربا على العلم المادى فإن الإسلام لا يقف عند ذلك وإنما يوجه الإنسانية إلى مصدر آخر للعلم والمعرفة هو القلب أو هو الروح أو هو البصيرة
إن الإسلام يوجه الإنسانية إلى المعرفة الإشـراقـيـة أو الكشفية أو الإلهامية ويجمع الإسلام الاتجاه العلمي الحديث
إلى الاتجاه البصيري في قوله تعالى
٠
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً فالسمع والبصر هما أساس العلم المادى علم التجربة والملاحظة أما القلب فإنه أساس العلم الإلهامي إن الله - سبحانه وتعالى - يوجه المسلم إلى الملاحظة والتجربة ويوجهه أيضاً إلى الاستشراف للهداية والنور القلبي عن طريق الخلق الكريم والتقوى والإخلاص وحب الإنسانية والمعاونة في
الخير
وإذا كان الإسلام أوسع نظرةً في الجانب العلمي عن الحضارة الحديثة وأدق وأشمل فإنه يختلف معها اختلافاً جذرياً حاسماً في مسألة الإرادات والنوايا وفى أمر الأسباب والبواعث واتجاه الغايات والأهداف
إن الحضارة الحديثة تقول العلم لا صلة له بالأخلاق أو
۱ سورة النجم ٤٢ سورة الإسراء ٣٦
۱۳۳
تقول العلم لا أخلاقى والعلم فى نظرها ـ لا شأن له بالخير
والشر
ولكن الإسلام يجعل أسس العلم متسمة بالخير ويجعل غاياته منغمسة في الخير ويجعل من العلم قُربى إلى الله ويجعل منه عبادة لله إنه سبحانه يجعله باسمه الكريم إن العلم في الجو الإسلامي قراءة باسم الله
١٣٤
١٠ إجمال في موقف الإسلام من العلم
والآن نحب - بتوفيق الله تعالى - أن نذكر نتائج بحثنا في
كلمات موجزة
العلم فى الإسلام شطر الغاية التي من أجلها نزلت
الرسالة وذلك أن مهمة الرسول ـ كما حددها القرآن
التعليم والتزكية
ويُعلَمُهُمُ الكتاب والحكمة ويزكيهم ١
٢ - نشأ الإسلام حليفاً للعلم منذ أن ابتدأ الوحى بقوله
تعالى اقرأ
الإشادة بالعلم في القرآن والسنة لا يماثلها ـ في سموها
وجلالها ـ إشادة في الآداب العالمية
٤ـ العـلـم الـذي يدعو إليــه الـقـرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هو العلم بكل نافع في مجال الكون وفي مجال ما وراء الكون في مجال العقائد وفي مجال الأخلاق وفي مجال الطبيعة
ه المنهج العلمى الأوربي الحديث منهج أخذته أوربا عن الإسلام باعتراف الواضع الحقيقى للمنهج وهو روجر بيكون
۱ سورة البقرة ۱۹
سورة العلق ١
٦- لا تعارض بين الدين والعلم لأن دائرة الدين الإيمان ودائرة العلم المادة وإن الأمل لكبير في أن تسـتـجـيـب الأم الإسلامية لدعوة الله ورسوله فتجعل من العلم أساساً لنهضتها وشعاراً لها في قيامها برسالتها
والله الموفّق الميسر وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين
-١٣٦
١١- والواقع أن العلم في الدائرة الصوفية هو العلم بمعناه الإسلامي أي العلم
بالطبيعة والعلم بما وراء الطبيعة
إن كثيراً من الناس في عصرنا الراهن يحاولون ـ مــا استطاعوا أن يقللوا من اهتمام الصوفية بالنسبة للعلم وربما وجدوا سنداً في بعض الأوضاع التي لم تأخذ شكلها الصادق في عصرنا الراهن
وبعض الأجواء التي تنتسب إلى التصوف قد تعطى شيئاً من المنطق المزيف لأعداء التصوف ليحاولوا التقليل من شأن الاهتمام العلمى عند الصوفية
والواقع أن العلم في الدائرة الصوفية هو العلم بمعناه الإسلامي أي العلم بالطبيعة والعلم بما وراء الطبيعة إنه العلم بالأخلاق وبالفضيلة وهو العلم بالنواميس الإلهية السارية في الكون والتي يكتشفها علم التشريح أو علم الطبيعة أو علم الفلك أو غير ذلك
وإذا كانت الحقيقة تُسفر عن قناعها بالأمثلة فإنَّا نبدأ بمن قال عنه القشيري
سيد هذه الطائفة وإمامهم "
إنه الجنيد لقد كان فقيهاً يفتي في حلقة أستاذه وبحضرته وهو ابن عشرين سنة وتأمل ما قاله القدماء عن
درسه
۱۳۷
لقد كان الكتبة الأدباء يحضرون مجلسه لألفاظه
وكان الفقهاء يحضرون مجلسه لتقريره
والفلاسفة يحضرون مجلسه لدقة نظره ومعانيه
أما المتكلمون فكانوا يحضرون مجلسه لتحققه
وكان الصوفية - من قبل هؤلاء ومن بعدهم - يحضرون مجلسه لإشاراته وحقائقه
ولقد حضر أبو الحسن على بن إبراهيم الحداد يوماً مجلس القاضي أبي العباس بن شريح فسمعه يتكلم في الفروع والأصول أي في علم الفقه وفي علم التوحيد بكلام حسن
يقول أبو الحسن فعجبت منه فلما رأى إعجابي قال
أتدري من أين هذا
قلت يقول به القاضي
فقال هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد
أما علم الجنيد نفسه فقد جاهد في سبيل تحصيله السنين الطوال عن طريق الدرس والتحصيل وكان هذا الطريق الجانب الكسبى من علمه
أما الجانب الوهبي فإنه سئل من أين استفدت هذا العلم
فقال من جلوسى - بين يدى الله - ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة وأوماً إلى درجة في داره
۱۳۸
وقد حفظ الجنيد القرآن وفهمه ودرسه وتدبره وقيد
الحديث واستوعبه - قدر الاستطاعة ـ لفظاً ومعنى
ودراية
رواية
وذلك أنه يرى - كما يرى غيره من الصوفية ـ أن ذلك هو الأساس ولابد من إحكام الأساس
وإحكام هذا الأساس يجعل من أحكمه فقيها ويجعله محدثاً ويجعله مفسراً ويجعله من علماء التوحيد
ولقد أحكم الجنيد هذا الأساس قدر الاستطاعة
أحكمه تعبداً وأحكمه استنارة وأحكمه لأنه صوفي وقال فيما رواه القشيري
>>
مَنْ لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا هذا مُقَيَّد بالكتاب والسنَّة
ولقد كرر الجنيد هذا المعنى حتى يثبت في أذهان
الصوفية
يروى الروز بارى عن الجنيد أنه قال
مَذْهَبُنَا هذا مُقَيَّدٌ بأصول الكتاب والسُّنَّة ويروى القشيري أيضاً عن الجنيد أنه قال
علَّمُنَا هذا مُشَيَّدٌ بحديث رسول الله
۱۳۹
ويكفى أن يتصفح الإنسان رسائل الجنيد ليشعر أنه أمام
عالم من أئمة علماء المسلمين
والجنيد في مثال للصوفى على ما ينبغي أن يكون ولم يكن الجنيد بدعاً في عالم الصوفية فأستاذه الحارث بن أسد المحاسبي
لم يكن في زمانه نظير له في علمه
ومؤلفاته كثيرة متنوعة وكلها في مستوى سامٍ أضحت من المصادر الرئيسية التي أفادت الإمام الغزالي وأثرت
وكتاب الرعاية للمحاسبي كتاب أديب عالم حجة وكتابه فهم القرآن بحسب ما وصلنا منه من نصوص - كتاب الباحث الدقيق الذى يتخذ القرآن والسنة أساساً وينطلق منهما إلى إضاءة جو العقائد رداً على المبتدعة والمنحرفين
ولقد حاول ذو النون المصرى - من قبل الجنيد ـ أن يكتشف من مُعمَّيات الكون ما خفى على الكثيرين لقد كانت له جولات في عالم الكيمياء وأسرار الطبيعة ولقد حاول أن يكتشف أسرار علم قدماء المصريين وأن يقرأ كتاباتهم ويتفهم لغتهم لقد كان يحب اكتناه الغامض ويحاول أن يزيل القناع عن المحجوب فضلاً عن شعاره الدائم وهو القرآن الكريم وسنة
رسول رب العالمين وهل أتاك نبأ الإمام القشيرى وأنه فسر القرآن كما يفسره هذا وذاك من علماء اللغة وعلماء أسباب النزول وعلماء
-١٤٠
النحو والبلاغة وغيرهم ولم يكن أقل من أى منهم في علمهم
وفنهم
إنه لم يكتف بذلك وإنما ألف فى تفسير القرآن لطائف الإشارات فكان إلهاماً من الإلهامات وكان نوراً من الأنوار
ولم يذكر فيه كل الإشارات وإنما ذكر لطائفها
ولقد خاض الإمام الغزالي بحار العلم وانغمس فيها ويعبر عن ذلك بقوله
ولم أزل في عنفوان شبابى - منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السنُّ على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور أتوغل فى كل مُظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين مُحِقٌّ وَمُبْطِل ومُتسنَّنٍ ومبدع لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته ولا
ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته
ولا فلسفيّاً إلا وأقصد الوقوف على كُنه فلسفته ولا متكلّماً إلا وأجتهد فى الاطلاع على غاية كــلامـه
ومجادلته
ولا صوفيّاً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته
-١٤١-
ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقاً معطّلاً إلا وأتحسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته
وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي ودَيْدَني من أول أمرى وريعان عمرى غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختيارى وحيلتي حتى انحلت عنى رابطة التقليد
وانكسرت على العقائد الموروثة على قُرب عهد سنّ الصَّبا أما الذى طوّع مختلف العلوم وامتلك ناصية المعرفة على مختلف فروعها ووصل فيها إلى القمة لم يُجَارِهِ في ذلك فيلسوف من فلاسفة الشرق ولم يُجاره في ذلك فيلسوف من فلاسفة الغرب فإنه
الشيخ الأكبر سيدنا محيى الدين بن عربي لقد طوع المعرفة لفكره وطوعها لقلمه وبلغ فيها القمة وبحق سمى الشيخ الأكبر ولقد كان في فتوحاته مفسراً خيراً من كثير من المفسرين وفقيهاً خيراً من كثير من الفقهاء وشارحاً للحديث خيراً من كثير من شراحه وفتوحاته كنز من المعرفة لا ينفد ومعين من العلم لا ينضب إنه رشفة من بحار رسول الله تتسم دائماً بنضرة منبعها
والصوفية في الجانب العلمي لا يكتفون بالجانب الكسبي
أي جانب التعلم من الكتب وعلى أساتذة الكتب ولكنهم
قرأوا في كتاب الله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ۱
فتعلقت أمالهم بهذا العلم الآتى مباشرة من الله وتطلعت أمانيهم إلى هذا العلم الذى هو من عند الله واتخذوا الطريق
إليه
والطريق إليه رسمه الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز
جل الله
وعلى لسان رسوله الكريم إنه الجهاد في سبيل الله وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سبلنا
وهو العمل بما علموا
مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّتْهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وهو تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى ومن حقق العبودية
لله كان الله سمعه وبصره
كنتُ سَمْعَهُ الذى يَسْمَعُ به وبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ به وشعار الصوفية على وجه العموم فيما يتعلق بالعلم هو شعار أستاذهم وقدوتهم وحبيبهم رسول الله الذي كان
شعاره
۱ سورة الكهف ٦٥ ۳ سورة طه ١١٤
رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۳
سورة العنكبوت ٦٩
١٤٣
وإذا كان أهل الظاهر قد فرحوا بعلمهم الظاهر واكتفوا به فإن الصوفية قد حصلوا هذا العلم ولكنهم لم يكتفوا به لقد شاركوا علماء الظاهر في علمهم ولكن علماء الظاهر لم يشاركوهم إلهاماتهم وإشراقاتهم
هل نذكر في هذا المجال الإمام الغزالي في علمه الظاهر وفي علمه الباطن
هل نذكر القطب الكبير أبا الحسن الشاذلي أو القطب الكبير أحمد الرفاعى أو القطب الكبير عبد القادر الجيلاني في
علمهم الظاهر وفي علمهم الباطن
والشعراني الذي ساهم تقريباً في جميع فروع المعرفة الدينية
أننساه في هذا المجال
- إن التصوف و العلم يؤلفان وحدةً مُتَّحدةً منذ أن نشأ
التصوف
١٤٤۔
الفصل الثالث
موقف الإسلام
من الحضارة الحديثة
- الآراء المختلفة
- الشطر الأول من الحضارة
- الشطر الثاني من الحضارة - ما يتعلق بالتشريع
_180_
1- الآراء المختلفة
* ما موقف المسلم من الحضارة الحديثة
* ما موقف علماء الإسلام من الحضارة الحديثة تتعدد الآراء فى ذلك فهناك آراء هؤلاء الذين يرون أن نأخذ الحضارة الحديثة كاملة دون نقص تقريباً
ومنذ عهد - ليس ببعيد وقف أحد كبار المستشرقين في ندوة جمعت بين كبار رجال الفكر وكبار رجال الدين وأعلن لم نتنكر للحضارة الحديثة وقد ركبنا منها الطائرات واستعملنا فوائدها في كثير من الأجواء وفي كثير من الحالات فلم نتنكر لها في غير ذلك
يجب علينا - عرفاناً بالجميل - أن نأخذ الحضارة الحديثة ككل نأخذها بما لها وما عليها
وليس هذا رأى هذا المفكر وحده وإنما هو رأى طائفة كبيرة في الشرق تدعو إلى أخذ الحضارة الحديثة ككل دون استثناء شيء
منها
إن الحضارة الحديثة - في رأيهم - حضارة متكاملة مادةً ومعنى شكلاً وجوهراً فلنأخذها ككل
ويعارض - هؤلاء - كثيرون يرفضون الحضارة الحديثة جملة وهذا الرفض قد يكون كثيراً فى الأفراد بيد أن بعض الدول
-١٤٧
تبته أيضاً حاولت بعض الدول في الماضي أن ترفض الحضارة الحديثة كليةً وأن تغلق في وجهها الأبواب ولم تُوفَّق الدول ولم يُوفّق الأفراد أيضاً فيما يتعلق بهذه المحاولة
والرأى الثالث يرى أن علينا أن نأخذ الحضارة المادية أما الحضارة النظرية فإننا نأخذ منها الصالح ونترك منهـا غـيـر
الصالح
وهذا الرأى يبدو أنه رأى الأغلبية
هذه هي مجموعة الآراء فيما يتعلق بالموضوع بل هي
مجموعة الاحتمالات العقلية في ذلك
ومع هذا فإننى ـ أنا شخصياً ـ لم أرتض ـ بعد ـ رأياً أما فيما يتعلق بأخذ الحضارة كلاً لا يتجزأ فأظن أن المسألة في الجو الإيمانى وفى الجو الإسلامي السليم لا تحتاج إلى مناقشة
كثيرة هذه الحضارة الأوربية فيها الكثير مما يخالف المبادئ الإيمانية والمبادئ الإسلامية فلا يتأتى أن يسود رأى كهذا في الجو
الإسلامي أما فيما يتعلق برفضها ككل فإن هذا ـ واقعياً ـ لم يتحقق لا في الأفراد ولا في الجماعات ولا في الدول ولا في الأقطار أياً
كانت
-١٤٨
ليس هناك قطر لم يستفد من الحضارة الحديثة وليس هناك
إنسان لم يستفد من الحضارة الحديثة الإنسان والقطر والأقطار بل إن بني آدم كلهم قد استفادوا من هذه الحضارة الحديثة فلا يتأتى - قطُّ - أن يسود الرأي برفض الحضارة الحديثة
كلية وهذه الفكرة لم تتحقق في الواقع
ويأتى الرأى الوسط الرأى الوسط الذي ساد ويسود في كثير من الأوساط والذي يبدو لكثير من الناس أنه الرأى الصحيح نأخذ من الحضارة الحديثة الصالح ونترك من الحضارة الحديثة الضار والفاسد وبكلمات بسيطة يمكننا أن نرى أن هذا الرأي فاسد أيضاً إذ يعتمد على الفكر على العقل على الإنسان دون ملاحظة للدين إذا قلنا بأخذ الصالح فما هو الصالح وفي رأى من
إن الصالح يختلف من إنسان إلى آخر
إذا قلت مثلاً %٦ فائدة فى البنوك ثم تساءلت أهذا صالح أم غير صالح يقول لك كثير من الناس بحسب عقولهم وأفكارهم وآرائهم يقولون لك إنه لا بأس بستة في المائة فائدة في البنوك ويرفض ذلك آخرون
فهل ٦ فائدة في البنوك صالح أخذها أم ليس بصالح
١٤٩۔
يختلف الناس
ونأتى إلى مسائل أخرى متحدثين بأسلوب العقل لا بأسلوب الدين ونقول
شرب قليل من الخمر هل هو صالح أم ليس بصالح وستجد ـ لا محالة - من يقول إنه لا بأس بشرب قليل من
الخمر
والاستحمام على الشواطئ هل هو صالح أم ليس
بصالح
هل نأخذه من الحضارة الغربية أم لا نأخذه من الحضارة
الغربية
ستجد أيضاً أصحاب الأهواء الشيطانية وأصحاب الآراء الجنسية يقولون لك إن هذا صالح فالجسم صحته تتوافر في ضوء الشمس ويستفيد من الفيتامينات التي في إشعاع ضوئها !!
هذه القضايا ـ وكثير غيرها مما لا يقرها الدين - ستجد لها أتباعاً يقرونها من هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم وستجد من يقول إن
ذلك صالح إذا أخذنا الناحية الصالحة في الحضارة الحديثة ورفضنا الناحية غير الصالحة فإن الرأى لا يستقيم لأن الناس يختلفون فيه
-10 2
اختلافاً كبيراً ولا يتأتى - مطلقاً - التحديد تحديد الصالح وتحديد غير الصالح لا يتأتى الاتفاق على التحديد ما دمنا في مجال العقل فحسب ما دامت المسألة آخذة وضعها العقلى الفكرى
فقط
* ما المَخْرَج - إذن - من هذا
* ما هو ـ إذن - موقفنا من الحضارة الحديثة إذا كنا لا نقبلها ولا نرفضها ولا نقبل التوسط فيها
وأريد أن آخذ الآن في إبداء رأيي الشخصي فيما يتعلق بالموضوع ونحن فيما يتعلق بمجال الحضارة الحديثة نرى كما يرى غيرنا والآراء فى ذلك لا تختلف - تقريباً ـ في أن الحضارة الحديثة تنقسم إلى قسمين المادي والثقافي
- عن الشطر الأول
من الحضارة الشطر المادى
القسم المادى قسم المعامل والمصانع قسم الطب قسم الكيمياء قسم الطبيعة هذه الناحية المادية البحتة التي تتأتى
عن طريق الملاحظة والتي تحكمها التجربة
هذه الناحية المادية من الحضارة الحديثة لا يتأتى لنا ـ قطُّ - أن
نقول إن أوربا ابتدعتها ابتداعاً أو اخترعتها اختراعاً وهذه الناحية نفسها - الناحية المادية - لها جانبان جانب
المنهج وجانب الموضوع
أما فيما يتعلق بجانب المنهج فإنه منهج الاستقراء وهو منهج تتبع الجزئيات للوصول إلى نتيجة كلية
هذا المنهج الاستقرائى - أو المنهج العلمي أو منهج السمع والبصر أى منهج الملاحظة - هو المنهج الإسلامي لقد سار
حا الله
عليه النبي وسار عليه المسلمون قبل أن تنشأ الحضارة
الأوربية إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ١ السمع والبصر هما أساسًا الملاحظة والتجربة أو عنهما تنشأ
الملاحظة والتجربة
۱ سورة الإسراء ٣٦
-١٥٢-
عدم اتباع الظن والسير وراء الملاحظة ووراء التجربة هذا
منهج الإسلام اتخذه المسلمون منذ زمن بعيد وقد اعترف الغربيون أنفسهم بأن الإسلام هو الذي بدأ بوضع المنهج التجريبي واعترفوا بأن روجر بيكون الذي يعتبر في أوربا المؤسس الأول للمنهج التجريبي اعترفوا بأنه أخذه عن العرب وبأنه لم يكن إلا تلميذاً من تلاميذ العرب لم يكن إلا طالباً في مدرسة العرب اعترفوا بهذا صراحة
يقول أحد كتابهم فيما يتعلق بالمنهج الخاص بالتجربة بمنهج
الملاحظة الذى بُنيت عليه الحضارة المادية الحديثة وهو بريفولت في كتابه بناء الإنسانية
الأستاذ
ليس لروجر بيكون - ولا لفرانسيس بيكون الذي جاء من بعده - الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو نفسه لم يمل - قط ـ من التصريح بأن تعلم معاصريه ـ في أوربا - اللغــة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة ويقول في مكان آخر من كتابه
ولقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على
العالم الحديث
ويقول أيضاً
-١٥٣
ولم يكن العلم العربي وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات كثيرة من الحضارة الإسلامية بعثت
باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية
ويستفيض المؤلف فيما يتعلق بما للعرب ـ وبما للمنهج العربي -
من أثر فيما يتعلق بالحضارة الحديثة
لا أريد أن أطيل في قراءة نصوصه وهي كثيرة كلها تثبت أن هذا المنهج التجريبي إنما هو المنهج الذي قامت عليه الحضارة العربية وأن أوربا إنما أخذته من العرب ولم تبتدعه ابتداعاً ولم تكتشفه اكتشافاً
هذا فيما يتعلق بالمنهج أما فيما يتعلق بالموضوع فإن المؤلف الذي ألف هذا الكتاب والذى تحدثنا عن بعض آرائه يقول في صراحة لا لبس فيها
>>
موضوعاته إنه ليس مديناً فى المنهج فحسب وإنما في
الموضوعات أيضاً
ومما هو معروف أنه كان في الحضارة الإسلامية أفذاذ فيما يتعلق بالعلم الطبيعي كان هناك ابن الهيثم وكتابه في البصريات وفي الأضواء
ویری كثير من المؤرخين للحضارة الأوربية أن كتاب بيكون نفسه في الحرارة والضوء ما هو إلا نسخة من كتاب ابن الهيثم في البصريات
108
كان عندنا ابن الهيثم وكان عندنا الرازي وابن سينا في الطب وكان عندنا جابر بن حيان فيما يتعلق بالكيمياء وكان عندنا الكندى فيما يتعلق بالرياضيات
كان عندنا كل هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين تعترف لهم أوربا بالتفوق - حتى الآن فيما يتعلق بمنهجهم التجريبي القائم على الملاحظة وعلى التجربة
وفيما يتعلق بالموضوعات التي تطرقوا إليها واستنتجوا منها النتائج التي لا تزال لها قيمتها حتى الآن
هذا الموضوع - موضوع الطبيعة - إذا أردنا التعبير الإسلامي عنه إنه على حد الكلمة التي أطلقها الشيخ محمد عبده وهي الكلمة التي تعبر التعبير الصحيح الإسلامي سُئَنُ اللَّهِ الكونية فالطبيعة وقوانينها واكتشافاتها وموضوعاتها يكون البحث فيها إنما هو البحث في سنن الله الكونية واكتشاف قوانينها إنما هو اكتشاف السنن الله الكونية
هذا الجانب المادى من الحضارة إنه جانب إسلامي في
عه جانب إسلامي في منهجه
موضوعه
إنه ـ منهجاً وموضوعاً ـ ناحية إسلامية
على أن الإسلام قد حتَّنا على كشف سُنَّة الطبيعة
إن الله سبحانه وتعالى يمن علينا في القرآن بأنه سخر لنا البحار والأنهار وسَخَّر لنا الأرض وسَخَّر لنا السماء وسَخَّر لنا
- ١٥٥
الكواكب وسَخَّر لنا القمر وسَخَّر لنا الشمس وسخر لنا الكون
کله
لقد سخره للإنسان وهو بهذا الامتنان يطلب من الإنسان أن يجوب الفضاء وأن يغوص في الماء وأن يخترق كل المعميات في هذا الكون حتى يتسنى له الإيمان والإقرار - في خضوع وفي خشوع - بعظمة الله العظيمة ولهيمنته هذه التي لا يند عنها شيء في هذا العالم المسخّر تتبع آيات الله سبحانه في الأنفس وفي الآفاق كل هذا دعوة إسلامية وتتبع آيات الله والتسخير لا يتأتى إلا عن طريق الملاحظة وعن طريق التجربة المنهج التجريبي المنهج الحديث
هذا هو منهج الإسلام
ويدعونا الإسلام أيضاً إلى أن نكون في هذا الجانب المادي
أقوى ما نكون وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ۱
والاستطاعة لا تكاد تُحدُّ وكلما وصل الإنسان إلى حد من الاستطاعة تفتحت أمامه آفاق استطاعات جديدة يجب عليه أن يلجها فهو فى كل آونة مُتَرَقٌ في عالم الطبيعة وهو في كل آونة متتبع لهذه القوانين مُتَرَقِّ فيها حتى يظل دائماً في القمة حتى يكون مركزه - دائماً وباستمرار في القمة من القوة المادية
۱ سورة الأنفال ٦٠
- ١٥٦
وإذا كان المسلمون قد تأخروا فى هذا الجانب فليس ذلك ذنب القرآن ولا ذنب الإسلام وإنما هو ذنب تكاسلهم وخمولهم وهم بهذا التأخير أثمون إسلامياً إنهم أثمون في نظر الإسلام وفي نظر القرآن الكريم فهم أصحاب دعوة والقرآن أعدهم من قديم - لهذه الدعوة
هم أصحاب رسالة وأصحاب الرسالات إن لم تكن عندهم القوة القوية إن لم يكن عندهم السلطان المسيطر إن لم تكن عندهم السيطرة المتحكمة من أجل الخير ومن أجل العدل ومن أجل الحق إن لم يكن عندهم هذا فإن رسالتهم تستمر حبراً على ورق
ولم يُرد الإسلام أن تكون الرسالة الإسلامية أو أن تستمر
الرسالة الإسلامية حبراً على ورق
فالإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا أقوى دولة في العالم فإذا ما ضعفوا كانوا آثمين في نظر الإسلام كانوا أثمين وكانوا مقصرين فى حق رسالتهم التي كلفهم الله سبحانه وتعالى
بها
إنها آخر الرسالات إنها الرسالة الأبدية إنها الرسالة الدائمة ولابد من قوة دائمة فى هذا العالم تسندها وإذا لم
-10V_
تكن هذه القوة فلن يكون لهذه الرسالة - من التأثير ومن النفوذ - ما يريده الإسلام منها ومن أصحابها
الجانب المادى - إذن - جانب الإسلام وما علينا إلا متابعة الإسلام فى هذا الطريق بكل وسيلة ممكنة وبكل طريقة تتيسر ولا يقال ـ إذن ـ حينما نسير في الحضارة المادية مكتشفين ومخترعين ومتبنين الاكتشافات والاختراعات ـ إننا أخذنا عن الحضارة الأوربية وإنما يقال إننا تابعنا الخطوات التي تابعها وسار فيها أسلافنا وإذا كنا في هذا المجال نستعين بهذا أو ذاك فإن هذه الاستعانة ليس معناها أخذ من حضارة لأن هذا الجانب لا لون له أي أن الرقى المادى لا لون له
لا يقال هذه الكيمياء ألمانية أو فرنسية أو إنجليزية وإنما هي الكيمياء أينما كانت وأينما وجدت لا تتسم
بلون
فإذا استعنا - بهذا أو بذاك - في سبيل متابعة أسلافنا فيما يتعلق بهذا المجال فلسنا بتابعين وإنما نحن نواصل هذه المجهودات التى بدأها أسلافنا وانقطعنا عنها فترة ونريد أن نعود إليها من جديد
-١٥٨
٣- الشطر الثاني
من الحضارة الشطر الثقافي
ويأتي بعد ذلك القسم الآخر من أقسام الحضارة الأوربية وهو
القسم الثقافي
وهذا القسم الثقافى نبتدئ فيه بشيء من تاريخ الإسلام نفسه
أو ببعض الحوادث التي حدثت في ربوع الإسلام
فمن أول هذه الحوادث التى نلاحظها ما رواه الحافظ أبو يعلى من أن الرسول رأى مرةً ورقة في يد سيدنا عـمـر فقال له ما هذه الورقة
فقال سيدنا عمر إنها من التوراة وغضب الرسول
وقال
لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً ما وَسعَهُ إلا اتَّبَاعِى
تعبیر صادق ما حل له إلا اتباعه
ونسير مع التاريخ فنرى سيدنا عمر بن عبد العزيز يرى أن حاجة المسلمين إلى الطب حاجة ماسة لكنه أخذ يتحدث إلى
نفسه
- هل ذلك مباح
هل من المباح أن يُترجم كتاباً من كتب الطب - هل يجوز له أن يفعل ذلك
-١٥٩
ـ هل يجوز له أن يعمل عملاً لم يعمله رسول الله ويستخير الله في ذلك وينتهى به الأمر إلى أن يترجم كتاب الطب ولم ير بأساً في ذلك
وكتاب الطب كتاب من كتب الحضارة المادية أو كتاب من الكتب ذات الطابع المادى ولا بأس أن يتــرجـم كـتـاب مـن هذا النسق أو أن يتابع أو أن يقتبس منه أو أن يؤخذ في الجــو الإسلامي من مبادئه
وتسير الحياة بالمسلمين هادئة في جوانبها الحضارية إلى أن يأتي العصر العباسي وتبدأ الترجمة
والترجمة لم يعترض عليها معترض فيما يتعلق بجانب الطب وبجانب الطبيعة أو بجانب الكيمياء
ولكن المسلمين - فى أول العهد العباسی - کانوا نافرین کل النفور من أن تترجم كتب ما وراء الطبيعة اليونانية فإن ما وراء الطبيعة تعنى الأبحاث التي تتصل بالعقيدة
وقال المسلمون وأجمعوا على أنه إذا كانت عقيدة اليونان حقاً فعندنا ما هو أحقُّ منها وهو القرآن الكريم وهو بالأسلوب
الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
وإذا كانت باطلاً فإننا في غنى عنها وكذلك كان شأنهم وموقفهم فيما يتعلق بالأخلاق كانوا يعتزون بأخلاقهم
-١٦٠
ويعتزون بعصبيتهم لعقيدتهم وأخلاقهم المنزلة الموحاة إلى درجة أنهم لا يرون أن يكون هناك أي كتاب أو رأى يقوم
بجوار هذه المبادئ الإلهية الإسلامية سواء أكانت عـقـيـدة أم أخلاقاً ولم يترجموا كتب الأخلاق إلى أن جاء المأمون والمأمون - بتربيته الفارسية - كان عنده من التهاون القليل أو الكثير ولم يكن عنده مـن التـحـرج مـا كـان عـنـد غـيـره فـأمـر بترجمة الكتب التي تتصل بما وراء الطبيعة والكتب التي تتصل بالأخلاق وقام بترجمة هذا على الرغم من النفور العام من
المسلمين المؤمنين المتدينين و ترجمت كتب ما وراء الطبيعة وتُرجمت كتب الأخلاق على الرغم ـ أو على نفور - من هؤلاء الذين يرون أن الـعـقـيـدة الإسلامية يجب ألا يكون بجوارها شيء آخر وأن الأخلاق الإسلامية يجب أن تكون مستقلة لا يكون بجوارها شيء ولا تُدنَّس ولا تتلوث بما يُتوهم أنه حَقٌّ بجانب الحق
لكن الترجمة - ترجمة ما وراء الطبيعة ـ أخذت مجالها وترجمة الأخلاق أخذت مجالها بل أصـبـحـت مألوفة وأصبحت وكأنها شيء عادي وليست ترجمة الأخلاق ولیست ترجمة ما وراء الطبيعة أقل شأناً ـ فـيـمـا يتعلق بالجو
الإسلامي الصحيح - من الورقة التي كانت بيد سيدنا عمر
-١٦١
إن العقيدة الإسلامية والأخلاق الإسلامية هي التي تكون ذاتية المسلم أى أن ذاتية الأمة الإسلامية لا تتكون بكيمياء أمريكية لأن الكيمياء - كما قلنا - لا لون لها ولا تتكون بطبيعة ألمانية أو إنجليزية أو لأن الطبيعة لا لون لها
حقيقة أنه لابد من الكيمياء ولابد من الطبيعة - كما قلنا - للقوة وللغلبة وللسلطان ولتأدية الرسالة من أجل الحق
والخير
إن الذي يكون ذاتية الأمة إنما هو اللون الثقافي فيها وقد رأينا موقف الرسول وموقف المسلمين الأول منه
وعلى أى وضع إذا نظرنا إلى هذه الثقافة في نفسها ـ الثقافة النظرية ـ وهذا هو الجانب الذى أهتم به كثيراً وأريد أن أنبه الأذهان من جديد إلى أننى أتحدث عن ثقافة لا تتصل بالملاحظة ولا بالتجربة أي أنها ثقافة ليست بحسيَّة
أتحدث - إذن - عن الثقافة النظرية البحتة عن الفلسفة عن الأخلاق عن هذا الجانب في علم الاجتماع الذي لا يتصل بالملاحظة والتجربة عن هذا الجانب في علم النفس الذي لا يتصل بالملاحظة والتجربة عن هذه الجوانب في أي علم
وفى أى مـوضـوع الجوانب التي لا تتصل بـ الـتـجـربـة
و الملاحظة
-١٦٢-
إن التجربة تتحكم فتكون فيصلاً فيما يتعلق بالحق والخطأ لكن المجالات النظرية البحتة ليس لها هذا الفيصل الذي يفرق بين الحق والباطل
ما وراء الطبيعة مجال نظري بحت وهو يختلف من فرد إلى آخر ويتعدد بعدد اختلاف الأفراد إذا جئنا للجو اليوناني فإنَّا نجد أن أفلاطون فـيـمـا يتعلق بتصور الإله يختلف عن أرسطو وتصور أرسطو يختلف عن تصور الرواقيين وتصور الرواقيين يختلف عن تصور أبيقور أو الأبيقوريين
2
يصور أفلاطون الإله على أنه مثال للخير على رأس المثل أو مثال للجمال على رأس المثل
ومع أن أرسطو من مدرسته فإنه يصور الله سبحانه وتعالى بصورة أخرى ويرى أنه المحرك الأول وهذا المحرك الأول ليس هو الذي يحرك العالم وليس هو الذي خلق العالم وليس هو الذي صور العالم وكونه بل إنه لا يعلم عن الـعـالـم شيئاً مطلقاً لا يعلم عن العالم شيئاً يستوى في ذلك التافه من أمره
والعظيم منه إنه لا يعلم حتى مجرد وجود العالم
وتأتي الرواقية فترى الله - سبحانه وتعالى ـ يمتزج بالكون امتزاجاً كاملاً فهو سره وهو في كل ذرة من ذراته وفي كل
خلية من خلاياه
-١٦٣-
ويأتي أبيقور ويقول ليس هناك شيء اسمه الله وليس هناك إله
وتختلف هذه المدارس باختلاف أفرادها وباختلاف رؤسائها وقبل أن نستمر في شرح موضوع هذه الثقافة النظرية البحتة قبل أن نستمر فيها طويلاً أريد أن أتحدث عن قصة لها مغزاها العمیق کى تكون أمام أنظارنا حينما نضرب الأمثال فيما بعد هذه القصة يرويها مؤرخو الفلسفة اليونانية
اجتمع سقراط باثنين من الفيثاغوريين - من كبار فلاسفة الفيثاغورية أحدهما اسمه سيمياس وكان من كبار الفلاسفة اجتمعوا يتناقشون فيما يتعلق بخلود الروح هل هي باقية بعد الموت هل هي مستمرة أم أنها فانية هل الإنسان حينما يموت يموت مادةً وروحاً أم أنه يموت مادةً فقط وتبقى الروح وهل الروح خالدة
كانوا يتحدثون في هذا الموضوع ويحاولون ـ ما استطاعوا ـ أن يقيموا الأدلة على خلود الروح على أنها باقية بعد الموت ثم
الأدلة
تنتهى بهم وينقطع بهم البرهان
يقول سيمياس لسقراط
إن الموضوع ما زال في حاجة إلى بحث أكثر ولكن هذا جهد
العقل وهذا غاية ما يستطيعه العقل
- ١٦٤
ويوافق سقراط ثم يقول متأسفاً
إن العقل في مجال ما وراء الطبيعة مثله مثل لوح من خشب يريد الإنسان أن يقطع به البحر في يوم عاصف أما مَثَلُ الدين بالنسبة لما وراء الطبيعة فإنه المركب الأمين لقطع البحر ويأسفون جميعاً على أنه لم ينزل دين يحدد الموضوع تحديداً تاماً يحدد مسألة خلود الروح ويعترفون بأنه لو كان قد نزل دين يحدد هذا الأمر فإنهم كانوا يستجيبون إليه ويؤمنون به ويستسلمون وتهدأ نفوسهم فيما يتعلق بهذا الأمر لا جدال أنَّ نقاش العقل في محيط ما وراء الطبيعة لوح من خشب لقطع البحر ولكنه في حقيقة الأمر ـ لوح من خشب في
كل علم نظرى لا مجال للتجربة ولا للملاحظة فيه وخُذ أى مادة من المواد النظرية خُذ ما وراء الطبيعة خذ الأخلاق خُذ التشريع خُذ هذه النواحي الكثيرة المتعددة التي سُميت بأسماء علوم مختلفة وهي كلها نظرية فإنك ستجد العقل دائماً هو لوح الخشب الذى لا يتأتى أن يقطع به الإنسان
البحر مهما احتوى ومهما كان يحاول أن ينجو بهذا اللوح والفلسفة فيما يتعلق بالعالم الحديث كل فلاسفة العصر الحديث مختلفون على أنفسهم ليس بينهم فيلسوف واحد يتفق مع الآخر وإلا لما كان في حاجة إلى أن يُنشئ فلسفة جديدة لو اتفق مع زميله
_10_
ومعنى
الفلسفة أنها ابتداع دين بجوار الدين أو عقيدة بجوار العقيدة كذلك الأمر فيما يتعلق بالأخلاق إنها على هذا النسق وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتشريع إنه على هذا النسق وإذا تُرك التشريع للعقل فسيكون هناك الاختلاف وإذا تُرك ما وراء الطبيعة للعقل فسيكون هناك الاختلاف أيضاً
والمخرج أن نصدر - في كل هذه الأمور ـ عن الدين ولا مجال لرأى آخر إذا أخلصنا لابد من أن نعتمد على الدين
في هذه المجالات الثلاث
مجال ما وراء الطبيعة
مجال الأخلاق
مجال التشريع
هذه المجالات ثابتة في الدين مستقرة لا تقبل
التطور مجال العقيدة لا يقبل التطور العقيدة هي هي لا تختلف العقيدة الدينية الإسلامية من بيئة إلى أخرى ولا من قطر إلى آخر ولا من زمن إلى زمن ولا من مكان إلى مكان ولا تختلف الأخلاق الإسلامية ـ أيضاً ـ من بيئة إلى أخرى ولا من مكان إلى مكان ولا من زمن إلى زمن فهى
وإذا كان الموقف على هذا النمط في العقيدة والأخلاق أهو كذلك فيما يتعلق بالتشريع
-١٦٦
ما يتعلق بالتشريع
أما فيما يتعلق بالتشريع فإن كثيراً من الناس يعتقدون أن التشريع الإسلامي متطور ولكن التشريع مبادئ ووسائل وقد يترك الإسلام بعض الوسائل غير محددة يتركها للزمن ولكن النتائج أو الغايات هي هي مثلاً مبدأ الشورى لم يحدد وسيلته الإسلام أى أن الشورى نفسها مبدأ إسلامي ثابت ووسيلة الشورى لم يحددها الإسلام وتركها للبيئات وتركها للأزمان يحددونها عن طريق البرلمان أو بأي طريقة أخرى يحددونها كيفما شاءوا لكن الغايات النهايات المبادئ القواعد إنها ثابتة
ويتساءل كثير من الناس
وما شأن الاجتهاد إذن
والواقع أن هذا الجانب يضلُّ فيه كثير من الناس أو يزل فيه
كثير من الناس
الاجتهاد في الإسلام معناه أن يحاول المجتهد ما استطاع وأن يحاول ما أمكنه وأن يربط بين حادثة حدثت جديدة وبين قاعدة إسلامية موجودة أو أن يُدخل في نطاق قاعدة إسلامية
عامة حادثة من الحوادث التي حدثت جديدة
-١٦٧-
فليس الاجتهاد - إذن - ابتداعاً أو اختراعاً أو تطوراً ليس
فيه شيء من هذا القبيل وإنما هو محاولة جاهدة كادحة دائبة مستمرة للوصول إلى ما كان عليه الرسول وما كان يمكن أن يكون رأى الرسول لو كان الرسول موجوداً و إذا صح الحديث فهو مذهبي قاعدة تنقض كل شبهة من الشبهات التي ترمي إلى أن الاجتهاد إنما هو ابتداع أو اختراع أو هو شيء من هذا القبيل
فليس ـ إذن ـ فى الجانب الإسلامى تطور أقول هذا لأنه من أخطر الأمور على العقيدة الإسلامية وعلى الجو الإسلامي الفكرة التي تسود في كثير من الأوساط والتي هي سائدة في الثقافة الأوربية الآن أعنى فكرة التطور وفكرة التطور تتناسب مع الثقافة في أوربا معا
والثقافة في أوربا - الثقافة النظرية التي لا تتصل بالتجربة أو
بالملاحظة - الثقافة النظرية في أوربا متطورة وهذا حقيقى متطورة لأنها بشرية وكل ما هو بشرى من نتاج العقل
البشرى فإنما هو نسبى وهو ـ إذن - متطور إنه نسبى متطور وقد يكون هذا التطور تطوراً إلى القديم لا تطوراً إلى شيء
جديد
یعنی
مثلاً مذهب الوجودية الحالى الذي يقال إنه مذهب
-١٦٨
جديد كل الجدة إنما هو مذهب السوفسطائية القديم لا أكثر ولا
أقل
إنه المذهب الذى يرى أنه ليس هناك حـقـيـقـة مطلقة وإنما الإنسان يكيف نفسه ويوجه نفسه وهو ليس في هذا إلا فرداً من الأفراد له رأيه الخاص ولذلك لا يفرض رأيه على الآخرين لأنه ليس هناك حقائق مطلقة فهو عودة إلى المذهب القديم مذهب السوفسطائية القديم - المذهب الذي لَفَظَتْه كل البيئات
السليمة
ومذهب الوجودية - في الحقيقة والواقع - تلفظه كل بيئة سليمة وكل بيئة صحيحة إنه لا يسود إلا في البيئات المريضة التي لا ترى وزناً للقيم الأخلاقية ولا للدين ولا للحقائق
المطلقة
وترى أن الإنسان يكون نفسه من الألف إلى الياء مستقلاً عن التقاليد وعن الدين وعن الحقائق وعن كل شيء في
المجتمع فكرة التطور نشأت مع داروين وكانت لها شهرة قوية في أوساط أوربا وفى أوساط الشرق ولكن هذه الفكرة نفسها باعتراف كل العلماء - فيها الفجوات التي تجعلها ظنيَّة لا يقينية إنها فكرة ظنية لم تصبح يقيناً وكثير من ا العلماء هاجمها
وعارضها وأقام الأدلة على انهيارها ولكنها مع ذلك سادت في بعض الأوساط الشرقية وأصبحنا الآن ـ وهذا هو الخطر الذي نحذر منه - نرى كتباً بأقلام المسلمين وبأقلام المفكرين
الكبار تقول بفكرة التطور وكأنها حقيقة موجودة
وما من شك فى أن هناك التطور المادى لا ينكر ذلك أحد هناك التطور من الفحم إلى وابور الغاز إلى البوتاجاز وهناك التطور من السيارة إلى الطائرة إلخ هناك التطور المادى لا ينكر ذلك أحد إطلاقاً ولكن هذا التطور المادى لا دخل له مطلقاً ولا شأن له مطلقاً بتطور العقل من حيث هو عقل الإنسان إن الانسان من حيث هو إنسان لم يتطور عقله من حيث هو عقل لم يزد لم يكن ـ مثلاً ـ عشر درجات ثم أصبح خمسين درجة وما شاكل ذلك
الإنسان لم يتطور إلى كائن آخر إنه ما زال هو الإنسان الذي وجد منذ عهد آدم إلى الآن ولكن من المؤسف أن بعض المفكرين الإسلاميين يسيرون في الأمر وكأن التطور حقيقة واقعية وكأن التطور العقلى حقيقة واقعة وكأنه يقين مطلق وفي هذا خطورة كبيرة
أضرب مثلاً للخطورة حينما تدخل فكرة التطور في مسائل
الدين
-۱۷۰-
إن أحد كبار المفكرين الإسلاميين - وله شهرة ذائعة في الجو الإسلامي - حينما أراد أن يفسر القرآن !! وحين أراد أن يفسر قصة سيدنا آدم وخلق سيدنا آدم وأمر الله ـ سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود له وكان في ذهنه فكرة التطور وأن الإنسانية بدأت بكذا وكذا وأن آدم ليس هو أول الإنسانية مباشرة يعنى أن الإنسانية لم تبدأ بآدم مباشرة كان في ذهنه كل ذلك فلما جاء يفسر القرآن - مباشرةً ـ ويفسر قصة آدم فسرها على أنها تصوير مجرد تصویر مجرد تمثيل مجرد قصة لماذا مجرد تمثيل لماذا مجرد تصوير لماذا ليخرج من فكرة التطور وحتى لا يلتزم بقضية أن آدم إنما هو أول البشرية حقاً أول البشرية مخلوقاً خلقاً جديداً منشأ من
6
الله سبحانه وتعالى سواه بيديه ونفخ فيه من روحه وإذا كانت قصة آدم تمثيلاً وإذا كانت تصويراً فلا يبقى شيء في القرآن لا يمكن أن يُؤول
وإذا أولنا قصة آدم إذا أولنا قصة سجود الملائكة إذا أولنا كل ذلك ـ وقد ذكرت في القرآن عدة مرات ـ إذا أولناها فإنه لا يبقى في القرآن أو في الإسلام شيء لا يمكن أن يُؤول وفي تأويل كل شيء القضاء على الإسلام وعلى هذا ففكرة التطور يجب ألا تدخل في المحيط
-۱۷۱۔
الفكري الديني للمسلمين وكل من أدخلها في المحيط الفكري الديني الإسلامي إنما يضر الإسلام ويكون خطراً على الإسلام أكثر من العدو العاقل هذا الصديق الجاهل يكون خطراً على الإسلام أكثر من العدو العاقل وهذا مثل ـ مـجـرد مـثل ـ مـن الأمثلة الكثيرة
وعلى كل حال فإن الكتب الحديثة تجدها دائماً قائلة بفكرة التطور وأن الإنسانية تطورت وأنها إلى آخر كل هذه النواحي التي إذا أدخلناها في محيط العـقـيـدة أو أدخلناها في محيط الأخلاق أو أدخلناها في محيط الدين فإنها تجعل من الدين مجموعة من المبادئ النسبية ومعنى مجموعة من المبادئ النسبية أنها ليست حقائق مطلقة وأنها يمكن أن تتطور وتتطور إلى اللانهاية ويأتى يوم من الأيام وقد انفصلنا عن الدين وعن المبادئ الدينية الانفصال الكامل
فكرة التطور - فيما يتعلق بالحضارة الحديثة ـ قام بها داروين ويعترف اليهود أو يعترف الصهيونيون في كتابهم وفي مبادئهم بروتوكولات حكماء صهيون يعترفون بأنهم هم الذين وضعوا داروين في الأفق على المنصة وهم الذين أعلنوا عنه وهم الذين أذاعوا فكرته وهم الذين حـبـذوها وهم الذين نشروها في كل مكان وذلك لأنها تقوض الأديان من أساسها وهى مع ذلك ـ كما قلنا - فكرة ظنية وكلما تقادم الزمن بهـا
وكلما تقادم العهد بها ازداد الشك فيها
۱۷-
الثقافة الحديثة أو الحضارة الحديثة في جانبها الثقافي إذا رحبنا بها فإن ذلك يُعَدُّ من الحُجُب التي تحجب شيئاً فشيئاً الفكرة الإسلامية
وإنه لمن المعقول أننا ـ وعندنا القرآن وعندنا السنة وقد طبق القرآن وطبقت السنة فكان ازدهار الأمة الإسلامية من المعقول أن نصدر في ثقافتنا عن ذاتية إسلامية عن قرآن وسنة وكل هذا البريق فيما يتعلق بالحضارة الحديثة في جانبها الثقافي يجب ألا يخدعنا مثلاً ـ الحرية والمساواة
من الغريب أن الأوربيين أنفسهم من كبار المفكرين في أوربا نفسها يرون أن هذين المبدأين متعارضان يرون أنه إذا وجدت الحرية فـلا مـسـاواة وإذا وجدت المساواة فلا حرية
يرون التعارض فى المبدأين وأنهما لا يجتمعان لأنه إذا وجدت المساواة فكيف تتأتّى أن توجد الحرية وإذا فرضت المساواة فرضاً فكيف تتأتّى أن توجد الحرية وإذا فُرضت الحرية فرضاً فكيف تتأتى أن توجد المساواة المبدأ الإسلامي الأخوة مبدأ سليم لا غبار عليه ولا اعتراض عليه يجب ألا نضع بجوار الأخوة مبادئ متعارضة يراها الأوربيون أنفسهم متعارضة ويلاحظون هذا التعارض
۱۷۳-
ويرفضون أن تكون هذه المبادئ بجوار بعضها تكون وحدة
وتكون شعاراً ثم نأتي نحن فنأخذها
ثم إذا جئت إلى المساواة وقلت أين هي إنها لا تتأتّى أن توجد مطلقة فى قطر من الأقطار ولا في بلد من البلاد ولا في أسرة من الأسر
ويقولون ولكن نحن لا نقصد المساواة المطلقة وإنما نقصد المساواة في الحقوق والواجبات
إذا قلنا إن الشعار الإنسانى لا مساواة إلا فيما يتعلق بالحقوق والواجبات كنا إذن - صادقين ويكون هذا أصدق يكون هذا أصدق لأن مبدأ اللامساواة هو المبدأ السائد وهو المبدأ الإنساني السائد فيما عدا الحقوق والواجبات إن اللا مساواة هى الموجودة فيما عدا الحقوق والواجبات بل
الحقوق والواجبات في نفسها ليست فيها مساواة
ثم إذا جئت إلى الحرية أين هي
إن الإنسان ليس حُراً في اختيار الاسم الذي يتسمى به ولا في اختيار اللغة ولا في اختيار نمط الملابس ولا في اختيار طريقة الركوب وطريقة السير ثم إنه ليس حراً فيما يتعلق باختيار الطريق الذى اتبعه فيما يتعلق بالمدرسة وفيما يتعلق بالتربية إلخ
IVE
لست حراً فى طريقة الأكل ولا في طريقة الشرب ولا في شيء من هذا إذا قلت إن تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من الأشياء لست حراً فيها تكون صادقاً
إذا قلت أو فسرت الحرية بأنها الحرية فيما لا يضر الغير أيضاً لا تكون الفكرة صادقة
الحرية فيما لا يضر الغير أيضاً ليست موجودة لنفرض مثلاً أن شخصاً من الأشخاص - وليكن طالب علم مثلاً ـ ذهب إلى الكلية وهو ساتر للعورة فقط - يعنى من الركبة إلى السرة ـ وذهب إلى الكلية على هذا النمط إنه - دينياً - لا غبار عليه وهذا لا يضر شخصاً آخر ولكنه مع ذلك لا توجد فيه هو نفسه الجرأة لأن يفعل ذلك فهو ليس بحُرِّ في أمر يبيحه الدين ولا يضر
الآخرين أى أن الحرية والمساواة كلمات جوفاء في حقيقة الأمر لا
معنى لها معنى حقيقياً محدداً فيما يتعلق بالأفهام
إن كل كلمة منهما لا تصدق وليس لها حقيقة واقعية ومع ذلك نشيد بهما كأنهما من اختراعات الغرب الكبرى التي لها
المثل الأعلى فيما يتعلق بهذه الحضارة الغربية الحديثة
إن الحضارة الغربية الحديثة فيها من أمثال ذلك أشياء كثيرة يجب أن نتنبه لها
_100_
ومن هذه الأشياء في الجانب الثقافي أيضاً - ما يقال من أن العلم للعلم أو الأدب للأدب أو الفن للفن كل هذه لها خطورتها فيما يتعلق بالأجواء الإيمانية
في جو الإيمان لا يتأتى مطلقاً أن يكون الأدب للأدب وإنما الأدب للأخلاق للفضيلة لترقية الفطر لإثارة الشعور الديني الكريم لكل هذه المعاني أما فكرة الأدب للأدب فإنه لا يستسيغها مطلقاً عقل أو قلب مؤمن
كذلك فيما يتعلق بالفن للفن الفن للفن معناه أنك ترسم الصورة العارية كما شئت أو ترسم الصورة التي تثير الغرائز كما شئت الفن للفن أيضاً فكرة لايتأتى لمؤمن أن يقول بها أو أن يمتدحها أو أن يتبناها شعاراً له
هذه النواحي كلها وكثير غيرها - فيما يتعلق بالثقافة الغربية الحديثة - الثقافة النظرية - يجب أن نكون بعيدين عنها كل البعد وأن نتبع في هذا الجانب الإسلامي وحده نجعله الأساس نجعله المصدر الموجه إن هذه الآراء الثقافية النظرية الحديثة هي ـ كما يقول أحد كبار المفكرين في أوربا - مثلها كمثل الموضة وأزياء النساء تتبدل من عام إلى عام ومن فترة إلى فترة إن موضة هذا العام في علم النفس - مثلاً - هی
كذا
هی
نظرية فلان أو هي نظرية فلان و الموضة في العام المقبل -
-١٧٦
أو في العام الماضى - نظرية أخرى وهكذا الأمر فيما يتعلق
بالفلسفة أو فيما يتعلق بالتشريع إلخ
هذه النواحي كلها تجعلنا حذرين فيما يتعلق بالقسم الثقافي من الحضارة الحديثة بل يجب أن نكون بعيدين عنه كل البعد وأن نصدر عن ذاتية إسلامية وعن مبادئ إسلامية وعن قاعدة إسلامية وعن جو إسلامي
والنتيجة التي أريد أن أنتهى إليها من هذه المحاضرة وهي
الخاتمة إنما هي العودة إلى الإسلام
العودة إلى الإسلام - ملاحظة وتجربة منهجاً وقوة مادية ـ وأعدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مَن قُوَّة ١
200
العودة إلى الإسلام من تسخير الأرض وتسخير السماء وتسخير ما بين الأرض والسماء وتسخير الكواكب وتسخير الشمس والقمر وتسخير البحار والأنهار
* العودة إلى الإسلام أقوى ما تكون في الجانب المادي
* والعودة إلى الإسلام والاعتزاز بالإسلام أقوى ما يكونان في الجانب الثقافي سواء اتصل ذلك ب العقيدة أو اتصل ذلك بـ التشريع أو اتصل ذلك بـ الأخلاق
* * *
۱ سورة الأنفال ٦٠
-۱۷۷۔
الفصل الرابع
عن الفلسفة
- البشرية تسير في طريق الخطأ منذ سقراط - ليست كل دراسة فلسفة
- محاولات التوفيق - الجو الذى نشأت فيه الفلسفة
- سمات الفلسفة
- منهج الفكر الفلسفي خاتمة في الفلسفة
۱۷۹
١- البشرية تسير في طريق الخطأ
منذ سقراط
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حزب الله هم الْمُفْلِحُونَ ١
إن أمر العقيدة وأمر الأخلاق وأمر التشريع وأمر نظام
المجتمع كل ذلك مَرَدُّه إلى الله سبحانه وتعالى ومن أجل ذلك أرسل الله سبحانه رسله يبلغون عنه كلمة الحق في هذه المسائل والحق فى هذه الأمور كلها الحق الذي أتى به الوحى 1- لا يتناقض مع العقل فليس فيه - مثلاً - أن جزء الشيء أكثر من كله
٢ - يفهمه العقل لأنه سهل ميسر
يقبله العقل إنه معقول
٤ـ ولكنه ليس اختراعاً بشرياً وليس مرده إلى الاختراعات
البشرية
۱ سورة المجادلة
۱۸۱-
والعهد اليوناني إذن بوضعه أمور الدين عقيدة وأخلاقاً وتشريعاً ونظاماً للمجتمع على بساط البحث العقلي إنما انفصل بذلك عن النظرة الدينية الصادقة
ومن الحق أن نقول إن العهد اليوناني كان له عذره في
ذلك !
فقد كان النابغون فيه أمام دين خرافی فاضطروا اضطراراً إلى الالتجاء إلى العقل
ولكنهم بمجرد أن بلغتهم الرسالة الصادقة كان يجب عليهم
مباشرة الأخذ بها في صفائها وطهرها !! ولكنهم لم يفعلوا ! وصادف اتجاههم البشرى ونظرتهم البشرية إلى أمور الدين هوى في نفس بني البشر الذين رغب الكثيرون منهم أن يكونوا ها بطين مع الطبيعة البشرية غير مستجيبين إلى التوجيه الإلهي السامي فسارت البشرية - في كثير من أفرادها ـ في تيارهم إلى
منفصلة
C
اليوم وكان من آثار ذلك أن سارت الثقافة النظرية في العقيدة والأخلاق والتشريع ونظام المجتمع - عند كثيرين - في تيارات عن الدين وخضعت للفكر البشرى وللطبيعة البشرية في نزواتها ونزعاتها فكان الأدب المكشوف والصور العارية والتماثيل العارية وأفلام الجنس وكتب الجنس وكان الإلحاد وكانت المحاولات الدائبة لهدم الأخلاق وكان الانفصال عن
۱۸-
التشريع الإلهى وكان كل ما يتنافى مع النظام الإلهي للمجتمع والذي أنبت الشجرات الأولى لكل ذلك إنما هو العهد اليوناني
حينما غير مجرى الأوضاع السليمة في الفطر السليمة وكان في قمة هذه الانحرافات وضع مسألة و وجود الله سبحانه
موضع البحث ومحاولة إخضاعها للاستدلال ولا ريب في أن هذه العشرات من الأدلة العقلية على وجود الله بل المئات - منذ عهد سقراط إلى عهد ابن سينا إلى زمن دیکارت إلى الفترة الراهنة ـ هي من النَّفَاسَة بحيث لا يسع الإنسان إلا أن يسجل الثناء على هذا المجهود الضخم
المستفيض ! ولكن ذلك لا ينفى أن هذا الطريق الذى سارت فيه البشرية
منذ عهد سقراط - طريق خطأ في جميع زواياه ! وإذا كان هناك حديث في مسألة الاستدلال فإنه لا يكون بشأن الألوهية ـ إنها فطرية ـ إنما يكون بشأن النبوة
ومن أجل ذلك يقول ابن عطاء الله السكندرى هذه الكلمات النفيسة في وجه كل من تحدثه نفسه بمحاولة الاستدلال على وجود الله تعالى إلهي كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجودِهِ مُفْتَقِرٌ إِليكَ أيكون لغيرك - من الظهور - ما ليس لكَ حَتَّى يكون هو المظهر
لك !
۱۸۳-
مَتَى غِبْتَ حتَّى تحتاج إلى دليل يدلُّ عليك ! ومَتَى بَعُدْتَ حتَّى تكون الآثار التي تُوَصَلُ إِليكَ !
وابن عطاء الله السكندرى ينهج في ذلك نهج القرآن الكريم
ونهج من تبع القرآن الكريم من ذوى الآفاق والبصائر المستنيرة وذلك أن القرآن الكريم لم يجعل من وجود الله ـ ق ـ مسألة جدلية ولم يضع وجوده سبحانه محل شك يحتاج إلى استدلال ولم يجعل من مسألة الوجود هدفاً من الأهداف التي تحتاج إلى مناقشة وإثبات وقد التبس الأمر على بعض الناس فظنُّوا أن حديث القرآن
عن العناية بالإنسان وعن الحكمة فى التقدير وعن العظمة التي تتجلى في مجالات البصر إنما هو حديث في إثبات وجود الله ! كلاً إنه حديث عن صفات الله الموجود عن حكمته عن عظمته عن إبداعه عن تدبيره عن قدرته وليس حديثاً في إثبات وجوده وجدل سيدنا إبراهيم مع قومه لم يكن لإثبات وجود الله وإنما كان بياناً لبعض صفاته التي لا تنطبق على من يعبدون من دونه فيقول سبحانه وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِين CD وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
-١٨٤
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 3 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الصَّالِينَ CD فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 3 وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُونَى فِي اللَّه وقد هدان ۱
استفاض القرآن في ذلك ولكنه لم يتحدث عن إثبات الوجود بيد أن العهد اليوناني أخذ فى إثبات وجود الله عقلياً
H
وتابعته الإنسانية في الشرق والغرب وسار هذا النمط على مر العصور سُنَةٌ مسنونة وشريعة عند بني البشر تتبع وهو نمط
منحرف
قد يقول قائل وماذا في ذلك من بأس إنه استدلال عقلى مناصر
فهل على الدين من ضير إذا ناصره مناصر في تياره يسير ووجهة النظر هذه تروج عند الكثيرين ولكننا نعارضها ويعارضها معنا جميعا الناس في الأجواء الصادقة الإيمان المستنيرة البصيرة وذلك لأمور منها
1- أن وجود الله بديهى وما كان بدهياً لا يحتاج إلى دليل وهذه الدول التي أخذت - منذ خمسين عاماً أو أكثر ـ تعمل
1 سورة الأنعام ٧٤ - ٨٠
_110_
بمعاول من فساد على هدم الدين لم تستطع أن تنفذ إلى أعماق المؤمنين فتستجيب لمعاولها كلاً إنهم - رغم الهدم والدعاية بل والسجن والتنكيل - ما زالوا مؤمنين
- وأما الأمر الثاني - وهو الأمر المهم - فهو أنك إذا جعلت الاستدلال مشروعاً فقد جعلت في الوقت نفسه الإنكار مشروعاً وإذا أثبتت بعض العقول فإنك لا تعدم ندرة من الشواذ ينكرون ويستدلون عقلياً على ما أنكروا ويكون المستدل هو الذى فتح الباب لهذه الندرة من الشواذ ومن المنحرفين الذين غلبت عليهم أهواؤهم وتوهماتهم
والله سبحانه وتعالى أعلى من أن يحتاج إلى استدلال على مجرد وجوده وأقدس من أن نجعل مجرد الوجود في حاجة إلى استدلال وأجَلُّ من أن نضع وجوده على بساط
البحث
يقول سبحانه
وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْره ۱
وقد يقول قائل
وماذا نفعل مع
هذه الندرة من أصحاب الفطر الشاذة
وأمر هذه الندرة سهل إذا استجبنا للإسلام والاستجابة للإسلام في ذلك معناها التزام أمرين
1 سورة الأنعام ۹۱
-١٨٦
الأمر الأول اعتبار الدين من -ساتنا التي لا تُمس إن لكل
دولة مقدسات فالشيوعية مثلاً في بعض الدول هي من المبادئ التي لا تنتقد والذات الملكية في بعض البلاد لا يُجيز القانون أن تتناول بالنقد والرأسمالية - كنظام اجتماعي ـ لا يجوز في أمريكا عمل دعاية ضده ولا تُجيز أمريكا الدعوة إلى الشيوعية
وهكذا
وما دمنا ـ والحمد لله ـ مسلمين ودين الدولة هو الإسلام فإنه من النتائج التي تترتب على ذلك أن يُحرم القانون من المبادئ الدينية بنقد أو سخرية أو هدم
أما الأمر الثاني - ولابد منه ـ فهو أن تُطبق الشريعة الإسلامية بالنسبة للمرتدين
وبعد
عطاء
فإن الإمام الكبير إمام الشريعة والحقيقة تاج الدين بن الله السكندرى يقول معبراً عن رأى أصحاب البصائر الملهمة شَتَّانَ بينَ مَنْ يَسْتَدلُّ به أو يَسْتَدلُّ عليه المُسْتَدلُّ به عرف
الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله والاستدلال عليه
من عدم الوصول إليه وإلا فمَتَى غَابَ حَتَّى يُسْتَدَلَّ عليه
ومَتَى بَعْدَ حَتَّى تكونَ الآثار هي التي تُوَصِّلُ إِلَيهِ
-۱۸۷-
- وليس كل دراسة
تسمى فلسفة
ونحن حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعنى البحث العقلي البحث فيما وراء الطبيعة والبحث في الأخلاق
ونعنى بما وراء الطبيعة
الإلهيات أو ما يُسمى - في عُرف المتكلمين - العقائد ونعنى بالأخلاق
معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يُحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه
وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك فى هذا الذي نعنيه بالفلسفة ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدد وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث يقول الأستاذ أندريه كريسون فى كتابه المشكلة الأخلاقية
والفلاسفة ما يلي
إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت ـ ولا تزال تدور حول
طائفتين أساسيتين من المسائل
١ - المسائل النظرية
ما الكائن
- ما أصله
۱۸۸۔
- ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه أفي طوق العقل الإنسانى أن يضع حلولاً لهذه المسائل أم أن
ذلك في حكم المستحيل
كل هاتيك المسائل تُعتبر مسائل ميتافيزيقية ما وراء الطبيعة
٢ - المسائل العملية
- كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة
- كيف نربي الناشئين تربية حسنة
ماذا
يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم كل هاتيك المسائل تتوقف عليها الأخلاق أو تُستمد هي من
الأخلاق وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كريسون هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا
۱۸۹۔
۔ محاولات التوفيق
إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسـلام يـجـد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا ـ في تعمق ـ المـوضـوعــات الفلسفية هذه وأنتجوا فيها إنتاجاً يتفاوت ـ كماً وكيفاً ـ بحسب شخصياتهم
وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الكندي وقد نال الكندى تقديراً كبيراً ونال شهرة ذائعة في الشرق والغرب وفيه قيل
إنه واحد من اثنى عشر مفكراً هم أنفذ المفكرين عـقـلاً
وأرجحهم نقداً وتفكيراً
وعنه يقول القفطى
فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها
ونال كثير من فلاسفة الإسلام مثل ما نال الكندى من شهرة ومن تقدير بيد أن شهرتهم وتقديرهم لم يمنعا أن يكون لهم خصوم هم من المكانة بالمنزلة الرفيعة بل إن خصومهم أكثر من
أنصارهم وعلى رأس خصومهم المحدثون وعلى رأس المحدثين الإمام أحمد بن حنبل ومن خصومهم الإمام ابن تيمية على أن الخصم الذى كان لكتابته شهرة لا حد لها وتأثير
۱۹۰
عظيم هو حجة الإسلام الإمام الغزالي احب كتاب تهافت الفلاسفة وكلمة تهافت تعنى السقوط والانهيار وسنتحدث ـ فيما بعد ـ عن رأى الإمام الغزالي
ولكننا نتساءل الآن
* لماذا كان المحدثون - وكثير غيرهم - خصوماً للفلاسفة وما هي حكمتهم في ذلك
إن موقفهم من الوضوح بمكان وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين
إن الدين إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحى والوحي معصوم والفلسفة الهيات وأخلاق تستند إلى العقل والعقل يخطئ ويصيب وهو حينما يخطئ لا يعلم ـ يقيناً ـ أنه أخطأ وحينما يصيب لا يعلم ـ يقيناً ـ أنه أصاب ويقولون أو لسان حالهم يقول لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحى ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية وحينما أخذ المتفلسفون يترجمون كتب اليونان وغيرهم قال معارضو الفلسفة إذا كان ما عند اليونان فى العقائد حقاً فعندنا ما هو أحق منه عقائد الإسلام لأنها بالأسلوب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فنحن ـ إذن ـ في غنى عن عقائدهم وإذا كان ما عندهم بـ م باطلاً فنحن في غنى عن الباطل
وهو
۱۹۱-
وكذلك كان موقفهم من الأخلاق بمعناها العام إن كانت أخلاق اليونان فاضلة فعندنا ما هو أفضل منها ولم تتم مكارم
الأخلاق إلا في العهد الإسلامي
إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاق "
وإن كانت أخلاق اليونان فاسدة فنحن نعوذ بالله من كل
فساد
وعارضوا الترجمة في الجانب الإلهي وعارضوها في الجانب الأخلاقي ولكنهم لم يعارضوها وإنما شجعوا عليها في جانب العلوم المادية مثل الطبيعة والكيمياء والفلك وعارضوا التفلسف بكل ما أوتوا من قوة
ولكن التيار الفلسفي استمر في المجتمع الإسلامي وإذا كان قد تهافت في المشرق بتأثير حجة الإسلام الغزالي فإنه قد أزهر
في المغرب على لسان ابن باجه وابن طفيل وابن رشد أما تبرير الفلاسفة لموقفهم في مواجهة معارضة خصومهم فإنه يلخصه ما كتبه ابن طفيل في رسالته حي بن يقظان وما كتب ابن طفیل رسالته هذه أو قصته إلا ليبرر موقف الفلاسفة ويشد من أزرهم بالنسبة لما يعترض عليهـم بـه مـن مـخـالـفـة الفلسفـة
للدين و تحرى ابن طفيل - فيما كتب ـ أربعة أهداف
۱ - هل يصل الإنسان بعقله إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى رسم طريق للسلوك يرضى عنه الله سبحانه
-۱۹۔
تعالى -
- هل يصل الإنسان روحياً إلى القرب من الله وإلى المعرفة عن طريق مباشر أو - بتعبير آخر هل الطريق
الصوفي طريق موصل وإن كان ابن طفيل لم يستعمل كلمة
تَصوف ٣- هل يلتقى الطريق العقلى والطريق الروحي في انسجام لا اختلاف فيه
٤- هل يلتقى ذلك كله بمبادئ الوحى أو بالطريق الديني في تناغم ووحدة وائتلاف ومن أجل الإجابة عن هذه الأسئلة كتب ابن طفيل قصة خيالية عقلية لطيفة
إنها قصة طفل نشأ في جزيرة منذ طفولته الأولى وأخذ ابن طفيل يتدرج معه في تطوره الجسمى إلى أن اكتمل جسمياً وأخذ يتدرج معه في تطوره العقلى من فكرة إلى فكرة ومن مبدأ إلى مبدأ حتى وصل الفتى إلى إثبات وجود الله بطريق العقل
المحض والحق أن ابن طفيل كان بارعاً في تسلسله بالأفكار والمبادئ إلى أن انتهى إلى غايته وهى أن الإنسان يستطيع ـ بعقله ـ أن يثبت وجود الله وبدأ فتانا يفكر فرأى أن كل موجود يمكن الاتصال به على
وضع يليق به فأخذ يفكر في كيفية الاتصال ونحن نحب أن ندع ابن طفيل نفسه يتكلم
-۱۹۳۔
إنه يرى أن هناك رتبة من المعرفة ينتهى إليـهـا بطريق العلم النظرى والبحث الفكرى وهذه الرتبة تعتبر طوراً من أطوار حي بن يقظان فإنه بعد أن شب وترعرع وبلغ دور
التمييز وانتهى إلى مرحلة التعقل والاستدلال والبرهان
أدرك ـ بطريق النظر - حقيقة الجسم وأنه متناه وأدرك أبدية العالم وحصلت عنده فكرة نظرية عما وراء الطبيعة واستقام له
الحق بطريق البحث والنظر
فلما انتهى من هذه المرحلة بدأ فى المرحلة الثانية
* مرحلة الوصول إلى الحكمة بطريق الرياضة
وكان مما يقوم به من الارتياض أنه كان يلازم الفكرة في الموجود الواجب الوجود ثم يقطع علائق المحسوسات ويغمض عينيه ويسد أذنيه ويُضْرِبُ جَهْدَهُ عن تتبع الخيال ویروم ـ بمبلغ طاقته ـ ألا يفكر في شيء سواه ولا يشرك به أحداً ويستعين ـ على ذلك ـ بالاستدارة على نفسه وبالاستحثاث فيها فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات وضعف الخيال وسائر القوى التي تحتاج إلى الآلات الجسمانية وقوى فعل ذاته التي هي بريئة من الجسم
فكانت في بعض الأوقات - فكرته قد تخلصت عن الشوب
ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود
١٩٤
ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله وتردُّه إلى أسفل السافلين فيعود من ذي قبل فإن لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الأغذية بحسب شرائط معينة ثم انتقل إلى
شأنه
ثم رأى أن الحركة من أخص صفات الأجسام وكان يريد طرح أوصاف الجسمية عن ذاته فأخذ يقتصر على السكون في مغارته مطرقاً غاضاً بصره معرضاً عن جميع المحسوسات
=
والقوى الجسمانية فمجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركة
فمتى سَنَحَ الخياله سانح سواه طَرَدَهُ عن خياله جَهْدَهُ وَدَافَعَهُ وراض نفسه على ذلك وذهب فيه مدة طويلة بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك
وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود فكان يسوؤه ذلك ويسلّم أنه شوب فى المشاهدة المحضة وشركة في
الملاحظة
وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السموات
۱۹۵۔
والأرض وما بينهما وجـمـيـع الصـور الـروحــانيـة والـقـوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق وغابت ذاته فى جملة تلك الذوات وتلاشى الكلُّ واضمحل وصار هباءً منثوراً ولـم يـبـق إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود وهو يقول بقوله الذي
ليس معنى زائداً على ذاته
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الواحد القهار ١
ففهم كلامه وسمع نداءه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وكان كل ما وصل إليه ابن طفيل عن طريق الرياضة منسجماً
تماماً ـ فيما يزعم ـ وما وصل إليه عن طريق العقل
وابن طفيل - في هذا - - يسير على نمط سار فيه ابن سينا من قبله وهذا التوافق بينهما بالغ الأهمية إنهما من كبار المفكرين ويكاد فكرهما يكون متطابقاً تماماً فى أن العقل الإنساني يصل إلى الله بالدليل والبرهان وفى أن القلب الإنسانى يصل إلى الله بالرياضة الروحية العبادة صلاة وصياماً وذكراً
1 سورة غافر ١٦
١٩٦
لقد أثبت ابن سينا وجود الله بالعقل ودليله المرتكز على
الإمكان والوجوب معروف مشهور
أما جانب الرياضة الروحية فيقول عنها في كتابه الذي كان یعتز به كثيراً والذي ألفه في أواخر حياته وهو كتاب الإشارات
ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضةُ حَدًا مَا عَنَّتْ له خلساتٌ من اطلاعِ نورِ الحَقِّ لذيذة كأنها بروق تُومض ثم تخمد عنه ثم إنه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض فكلما لمح شيئاً عرج عنه إلى جناب القدس فيذكر من أمره أمراً فيغشاه غاش فيكاد يرى الحق في كل شيء
ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغاً ينقلب له وَقْتُهُ سَكِينةً فيصير المخطوفُ مألوفاً والوميض شهاباً بيناً وتحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة
إلى ما وصفه ـ على حد تعبير ابن طفيل - من تدرج المراتب وانتهائها إلى النَّيْل بأن يصير سره مرأة مجلوة يحاذى بها شطر
الحق
وحينئذ تدر عليه اللذاتُ العُلا ويفرح بنفسه لما يرى بها
من أثر الحَقِّ ويكون له فى هذه المرتبة نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه وهو ـ بعد ـ متردد
۱۹۷۔
ثم إنه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وإن لحظَ نَفْسَهُ فمن حيثُ هى لاحظة وهناك يحق الوصول ونعود إلى ابن طفيل
إنه بعد أن وصل إلى الله بطريق العقل وبطريق الرياضة الروحية تأمل فى ثمرة الطريقين فوجد أن نتيجتيهما واحدة وأنهما لا يختلفان إلا في درجة الوضوح وأبان عن ذلك وبذلك يكون قد وصل إلى الإجابة عن السؤال الثالث وأتاحت المصادفة للشيخ - حي بن يقظان ـ أن يلتقى برجل يدين بدين منزل صحيح وتفاهم معه في كل ما وصل إليه عقله وصل إليه قلبه فوجد التطابق التام ووصل ابن طفيل برسالته اللطيفة الحجم إلى كل ما كان يرجو أن يصل فيه إلى جواب صحيح يُرضى العقل ويُرضى الدين وكانت أمال وأمانى فلاسفة الإسلام الوصول ـ عن طريق
وما
المحاولات العقلية المستمرة - إلى التوفيق بين الدين والفلسفة الفلسفة في الإسلام - إذن - تحاول جاهدة أن تعلن - في نوع من الدعاية المزخرفة - أنها تتفق مع الدين فيما أتى به الدين وأنها لا تختلف عنه في مبادئها
۱۹۸۔
٤- الجو الذي نشأت فيه الفلسفة
وعند كل فيلسوف في الإسلام وعند كل مؤرخ للفلسفة الإسلامية فقرات وفصول بعنوان التوفيق بين الدين والفلسفة سواء أكان هذا العنوان ظاهراً أم مستوراً فهل نجحت الفلسفة في هذا أم أخفقت
ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال نحب أن نتحدث أولاً عن الجو الذي نشأت فيه الفلسفة إنها نشأت عند قدماء اليونان قبل الميلاد وكانت اليونان فيما قبل الميلاد بقرون تدين بدين وثني كانوا يؤمنون بمجموعة من الآلهة قابلة للزيادة عن طريق الزواج والتناسل وهي آلهة تحب وتبغض وتتنازع وتتشاحن ويحاول بعضها أن يعتدى على الأعراض وعلى السلطان وهي في نزاع مستمر ثم هي تحابي من البشر من يقدم لها القرابين والأضاحي وتخذل من لم يفعل ذلك وكانت ـ في مستواها الأخلاقي العام ـ بعيدة عن الكمال والفضيلة وكان الإلف والتكرار والتـعــود يجعل هذا الوضع للآلهة وضعاً عادياً لا يثير نقداً ولا استنكاراً بيد أنه نشأ في القرون الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كثيرة من المفكرين النابهين بل ومن العباقرة وفكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء وفي كثير من
الدين
۱۹۹
الأحيان يسرون ذلك ويخفونه فى نفوسهم ولكنهم ـ على أى وضع كانوا ـ ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها مذاهب بشرية لم
تُؤسس على وَحْى ولم يُنزلها الله على لسان أنبيائه ورسله ألفوا مذاهب تتصل بالله - سبحانه ـ وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان
إنها مذاهب مؤسسة على العقل
عنه تصدر ومنه تنبع
وعليه تقوم إن العقل يُنشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها ـ في تدرج ـ إلى غايتها إنها مذاهب عقلية إنها مذاهب بشرية إنها في المستوى البشرى وإذا كانت أسطورية الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما
قبل
كان الوضع - فيما قبل - التفرقة بين مجالين من مجالات المعرفة هما ۱- مجال المعرفة الحسية وهو مجال آلات المعرفـة فـيـه الحواس وموضوعه المادة والعقل يجول فيه مستنبطاً ومستنتجاً فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه ويستخرج قوانينه وقواعده فتكون الحضارة ويكون العلم بمفهـومـه الـغـربـي الحديث أو بمفهومه الكونى المادى طبيعة وكيمياء وفلكاً
۰۰
- مجال المعرفة الروحية والأخلاقية وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل مُنشئه أو مبتدعه وإنما مرده إلى الوحى يُنزله الله تعالى على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من
خلقه إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان وليس
من اختصاصه
وجاءت المسيحية فردت الأمر إلى حالته الطبيعية عالم الحس للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط وعالم الروح ليتفهمه الإنسان عن طريق الوحي ولكن التيار الفلسفى اليوناني وقد أصبح سنة مألوفة غزا الجو المسيحى وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم ونشأت في أجوائهم الفلسفة
وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسـيـحـيـة والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف توما
الأكويني
وإذا قرأت ديكارت تجده كأنه كان يمشى على الشوك وهو يتفلسف محاولاً ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ـ مداراة القساوسة
وعلماء الدين
۰۱۔
الجو العام الفلسفي - إذن ـ يعلن فى مجاملة بالغة أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلاً ملاحظاتهم التى يُوليها عنايته الفائقة كان هذا موقف
ديكارت وغيره
وجاء الإسلام يَهْدِى للتى هى أقوم وليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى ووضع الأمور في نصابها مبيناً بأسلوب لا لبس فيه أن العقيدة ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى وقـد شـاء برحمته سبحانه - أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة خاتم النبيين محمدا
الْحَمْدُ لله الذى أنزلَ عَلَى عَبده الكتاب ولم يجعل له عوجا O قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويُشرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الَّذِينَ
O I
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ١
ولكن
الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء ـ في عهد
المنصور وقوى جناحها في عهد المأمون وأصبح في الأمة
الإسلامية فلاسفة
1 سورة
۰-
والآن نتساءل
- سمات الفلسفة
- ما هي السمات العامة للفلسفة
وإنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة - موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة فما هي هذه السمات
السمة الأولى
وهى أهمها وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمـات الأخرى وهي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال بين الصواب والخطأ فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياساً يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الـ الخلاف
أما في العلم فإن المقياس هو التجربة فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة وهى تعلن ـ في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك
ما هو ـ فى عالم الفلسفة - الأمر الذي يجرى مجرى التجربة
في مجال العلم
لا شيء
ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة
لا شيء
۰۳
ما هو المرجع من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة
لا مرجع
ولقد شعر الفلاسفة بذلك فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس وهما أرسطو في الماضى و ديكارت في العصور الحديثة ولقد أخفق كل منهما إخفاقاً تاماً كاملاً
نبدأ الحديث عن أرسطو ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات مجال الفلسفة الرئيسي لقد فكّر أرسطو وقدر ثم فكر وقدر وخرج على العالم بما يُسمى المنطق الأرسطى أو المنطق الصورى وأخذ هذا المنطق فى عالم الفكر الفلسفي مجالاً من الشهرة والعناية لا حَدَّ له وأخذ فى الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندي في المشرق إلى ابن رشد في المغرب
ولكن كثيراً من المسلمين ذوى الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا ـ فى وضوح أن المنطق الأرسطى منهار وأنه متهافت وأن
الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يُصلح
وكان من هؤلاء ابن تيمية الذى كتب كثيراً في نقد المنطق ونقضه لقد كتب فى ذلك كتباً وكتب في ذلك فقرات منثورة
هنا وهناك فى خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة
و ممن كتب في نقد المنطق ونقضه ابن حزم
٢٠٤۔
والمحدثون جميعاً لا يجد المنطق عندهم ترحاباً ولا قبولاً وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافاً ولا يفصل
حقاً عن باطل
و مما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يلى
إن المقاييس هي
أ الاستقراء
ب القياس
فإنه
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية
١- مبنى كله على الحس إنه اسـتـقــراء مـحـسـات إنه تتبع
جزئيات لا تخرج عن نطاق الواقع
أما المسـاتيـر فـهـو برىء منها كل البراءة لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما
وراء الطبيعة
٢- ثم إن الاستقراء تام وناقص
والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة
أما الناقص وهو المهم في نظرهم فإنه ـ في رأيهم أيضاً ـ ظنى وهو لذلك عُرضة للتغيير في كل آونة وفي " كل معدن يتمدد بالحرارة قضية من قضايا الاستقراء إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تُستكشف ـ بعد ـ بأكملها
٢٠٥۔
ومن الجائز أن يُكتشف فى الغد معدن لا يتمدد بالحرارة إنها
إذن قضية مؤقتة ظنية تتبرأ من اليقين الفلسفي
والعلم - كما يقول أحد المفكرين - لا يعرف الكلمة الأخيرة في أي مسألة من مسائله وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة لها قيمتها حتى ينكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو
يغيّرها
وهكذا قضايا الاستقراء إنها
١ - خاصة بالطبيعة ولا شأن لها بما وراءها
٢ - ظنية لا تعرف اليقين
أما القياس ١ـ فإنه مبنى على الاستقراء إذ هو منطو دائماً على كلية كلية استقرائية وما دامت قضايا الاستقراء ظنية ـ كما رأينا و میدانها المحَسّات فنتائج القياس ظنيـة كذلك ومـيـدانـهـا
المحسات
٢ - إن المناطقة لا يشترطون فى مقدمات القياس أن تكون مسلمة صادقة في نفسها وإنما يشترطون أن يسلّمها المتجادلون فحسب وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية - منكرة كاذبة في نفسها وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحاً ونتيجته باطلة
٢٠٦۔
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس ما قيمته إذا كان لا يُعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع
ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها
إنك إذا قلت
الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردى مُضر بالمجتمع فالكثير من العلم مضر بالمجتمع كان هذا قياساً صحيحاً في نظر المناطقة
وإذا قلت
الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعي وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع فالكثير من العلم مفيد للمجتمع كان هذا أيضاً قياساً صحيحاً عند المناطقة ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان
ومع كل هذا فالقياس استدلال دورى فاسد ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا محمد إنسان وكل إنسان ناطق فمحمد ناطق متوقف على العلم بالكبرى والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنسانى إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد ولو كنت فى شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم
على جميع أفراد الإنسان
-۰۷-
إذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة وتكون النتيجة متوقفة على الكبرى وعلى ذلك يكون القياس استدلالاً دورياً فاسداً فلا يُعول عليه
٤- وأخيراً فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة إنها استنتاج مجهول هو النتيجة من معلوم هو المقدمات
ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات إنها ليست مجهولة القياس ـ إذن ـ لا يؤدى إلى معرفة جديدة أو إلى استنتاج مجهول من معلوم إنه إذا أردت الدقة - استنتاج معلوم من
معلوم تلك هي موازين العقل وهى موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات العقل - إذن ـ قاصر فيما يتعلق بالأخلاق وهو قاصر ـ على الخصوص - فيما يتعلق بالإلهيَّات
ومن هنا كانت الحكمة في نزول الأديان ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيَّات وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق
أخفق ـ إذن ـ منطق أرسطو واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين الكبار منهم والمغمورين بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو
نفسه وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية
۰۸
ومرت العصور وتوالت القرون وجاء ديكارت وبدأ ديكارت يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان والسكينة لقد كان جواً رهيباً يؤاخذ على الظنَّة ويتكل على الشُّبهة لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة
وأخذ ديكارت يتحسس طريقه في حيطة بالغة مدارياً مجاملاً مادحاً متواضعاً
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم
"
وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن " الحق في الكون
وفيما وراء الكون فى الطبيعة وفيما وراء الطبيعة وكان من سخرية القدر أن التجربة أظهرت خطأه في أثناء
حياته
وأن الخلاف استمر - حول آرائه في الإلهيات وآراء معاصريه وأراء من قبله كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه
وأخفق منهج ديكارت كما أخفق - من قبل - منهج أ أرسطو وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها وهي أن الفلسفة لا مقياس
لها
هذه هي السمة الأولى
* السمة الثانية ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهى - إذن ـ ظنية وإنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذى أخفق وهي ظنية وإن خُبزت بمنهج ديكارت الذى لم ينفع فى قليل ولا في كثير إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها - ولا مقياس ـ بين الحق والضلال وستستمر هكذا إلى الأبد
* السمة الثالثة
ما دام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن اختلاف الآراء فيها دائم
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون إن الاختلاف دائم مستمر منذ أن نشأ إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة وانظر - مثلاً - إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ وفي تبجيل يشبه التقديس فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات أو في الأخلاق فستجد الاختلاف والافتراق
الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته
وكل هذا واضح عبر العصور
۱۰
ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون ذلك علماً يقيناً ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعاً إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق إنه يُخطتهم جميعاً ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم واكتفى بما حبروه أو بما أنشأه أحدهم من قبل ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائماً إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهباً مآله السقوط وهكذا دواليك
السمة الرابعة
و ما دام الاختلاف مستمراً فإن المسائل ـ التي هي موضوع الفلسفة - تستمر هي هي
إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور
ما هى مسائل الفلسفة إنها مسائل تتعلق بـ الله سبحانه وصفاته وصلته بالعالم خلقاً وتصريفاً وصلته بالإنسان قرباً وتوجيهاً والبعث وكيفيته والخلق الكريم الذي يُمثل الفضيلة والكمال
والخلق السيئ الذي يُمثل الشر والفساد
والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي - إثباتاً وإنكاراً - ثم
هل المعرفة ممكنة
-۱۱۔
وفي كل هذه الموضوعات الكبرى - وغيرها مما يتصل بها -
اختلف الفلاسفة وما زالوا
واستمرت هذه المسائل - على مدى سبعة وعشرين قرناً تقريباً مثار بحث وجدل إلى الآن لم يصل الفلاسفة في واحدة منها
إلى اليقين ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق
* السمة الخامسة
إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافاً في الإيجاب فحسب ـ وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية وليس اختلافاً في السلب ـ فحسب ـ وذلك أنه قـد
يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سلبية
كلاً إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة وإنه
ليصل بك أحياناً إلى طريق مسدود
أتحب أن تعرف شيئاً من ذلك
إن الأستاذ ألبير ريفو يقول فى كتابه الفلسفة اليونانية أما عن العقل فإن سلسلة الآراء الرواقية المتتالية نفسها أثبتت
بسهولة أنه ليس له قدرة مطلقة حازمة
١ ـ فهل في إمكاننا أن نعرف عن حبات من القمح متى تكف
عن تكوين أكوام
۱-
٢ - وإلى أى حد نثق فى اعتراف الكذاب الذي يعترف بأنه
كذاب
وعندما نقرر أن دليلاً منطقياً هو من الصحة إلى الحد المقنع ألا يتعين علينا أن نقيم دليلاً آخر على صحة حكمنا بأنه صحيح ثم على الحكم الأخير وهكذا إلى ما لا نهاية وكيف يمكن التمييز بين الفكرة الجلية الواضحة وسواها ه ـ على أن الصور التي نراها في الأحلام تُفرض علينا بنفس القوة المقنعة التى لصور اليقظة فالوحش الذي يطاردنا في الأحلام ليس أقل ترويعاً لنا من وحش الغابة
٦ ـ ثم إذا نظرنا إلى المجانين ألا نجد لديهم - أيضاً - إدراكاً واعياً جلياً وعندما نجد أنفسنا - بالصدفة - أمام شيئين متشابهين تماماً كورقتى شجرة أو بيضتين أو توأمين فأى وسيلة مصطنعة تمكننا من تمييز أحدهما عن الآخر
ـ وحتى في العلوم الرياضية
- هل يمكن أن نجد بين قضاياها ما هو جـلـى بحيث يضطر
الشعور إلى التسليم بصحته
ومع ذلك فإنه إذا كان ذلك يُحتمل في الحياة العقلية البحتة فإنه لا يُحتمل في الحياة التي تتصل بالسلوك الملح الذي تحتاج الحياة العملية إلى الفصل فيه سريعاً فما موقفنا من هذا النوع وما موقف الفلسفة منه
۱۳
إنها تكتفي في الحياة العملية بالترجيح
يقول كاريناد
ومع ذلك فلابد لكي نحيا حياة عملية من وجود معادل
يساوى ما هو قاطع و جازم
ثم يقول
إننا نستطيع أن نجد ذلك المعادل فى الرجحانية إن إدراكنا على وجه الترجيح يمكن أن يسمح لنا بالحكم على الأشياء في الأمور العملية بطريقة وضعية
وتصل بك الفلسفة أحياناً إلى معقولات يكذبها الواقع أو إلى واقع يكذبه المنطق العقلى مع أنه واقع مشاهد أتحب أن تتسلى بشيء من ذلك
إن الأستاذ ألبير ريفو يقول
إن التغيّر يحدث في المكان أو الزمان وإذا تصورنا المكان قابلاً للتجزئة إلى ما لا نهاية فإن المتحرك لن يبلغ أبداً غاية سيره مادام يلزمه للوصول إليها أن يقطع أولاً نصف المسافة ثم نصف النصف وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية ولن يبلغ أبداً أشيل ذو القدمين السريعتين السلحفاة إذا كانت تسبقه - ولو بمسافة ضئيلة - ذلك أنه بينما يجتاز نصف هذه المسافة تسبقه هي أيضاً بحيث يجب عليه بدوره أن يقطع نصفها بينما تتقدم هي من جديد وهناك حجة أخرى تنكر إمكان تكوين الكل من أجزاء فإن
٢١٤۔
كومة من القمح تُحدث عندما تُرَسُ على الأرض صوتاً يُسمع
ذلك فنحن لا نسمع الصوت الذي تحدثه حبة
على بعد ومع القمح الواحدة وهي تسقط
وإذا كان الأستاذ ألبير ريفو موجزاً مركزاً لا يذكر المسائل
في سهولة ويسر فإن صاحب قصة الفلسفة بسطها في شيء من الوضوح فيقول متحدثاً عن زينون الأيلى
الدليل على بطلان الكثرة
إن كانت الكثرة حقيقة واقعة - ونعنى بالكثرة أن الكون ليس شيئاً واحداً بل وحدات كثيرة متراكمة ـ كان الكون لا متناهياً في الكبر ولا متناهياً في الصغر لأنه مؤلف من وحدات كـمـا فرضتُ أولاً ولابد أن تبلغ تلك الوحدات من الصغر حد اللانهاية بحيث لا يكون لها حجم لأنه إن كان للوحدة سقطت عنها صفة الوحدة وأصبحت قابلة للانقسام إلى وحدات أصغر منها فإذا سلَّمنا بأن كل وحدة على انفراد لا حجم لها لزم أن يكون الكون الذى يتكون منها لا حجم له كذلك لأنه حاصل
جمعها
حجم
وكذلك يكون الكون لا متناهياً فى الكبر لأن له جرماً لا شك فيه وكل جرم قابل للانقسام إلى جزئيات لا نهاية لعددها ومهما بلغت تلك الجزئيات من الصغر فهي إذا ضربت في عدد لا نهائي كان الناتج كوناً عظيماً يمتد إلى ما لا نهاية
٢١٥۔
إذن ففرض الكثرة يؤدى إلى نتيجتين متناقضتين لا يسلّم بهما معاً منطق سليم فلم يعد أمامك من سبيل إلا أن تنكر إنكاراً باتاً الكثرة وأن تسلم بأن الكون كله شيء واحد لا يـقـبـل
التجزئة وأن هذه الأجزاء - التى تراها متفرقة ـ باطلة ليس لها
وجود !!
الدليل على بطلان الحركة ١ ـ إذا أردت أن تقطع مسافة ما فستقطع نصفها الأول أمامك نصفها الثاني ثم ستقطع نصف هذا النصف ويبقى نصفه الآخر وهكذا ستظل تقطع نصفاً ويبقى نصف إلى
ويبقى
ما لا نهاية إذن فلن تصل إلى غايتك المقصودة إلى الأبد
- تسابق رجل وسلحفاة فهب أن السلحفاة تقدمت عشرة أمتار قبل أن يبدأ الرجل نظراً لبطء سيرها وكانت سرعة الرجل عشرة أمثال السلحفاة فلما بدأ الرجل وقطع عشرة الأمتار التي تفصله عن السلحفاة وجد أنها قد تقدمت متراً أي عشر المسافة التي قطعها هو فلما قطع هذا المتر تكون السلحفاة تقدمت عُشْرَ المتر فإذا قطع هذا العشر تكون قد تقدمت جزءاً من مائة جزء من المتر وهكذا يظلان إلى ما لا نهاية فلو ظل
المتسابقان إلى آخر الدهر فلن يلحق الرجل السلحفاة !! ـ إذا انطلق سهم في الهواء فلابد أن يكون في أي لحظة
٢١٦۔
زمنية ثابتاً في مكان معين لأنه لا يجوز أن يكون في اللحظة الواحدة في مكانين مختلفين ولكن إذا كان السهم في كل جزء ساكناً في مكان بعينه لزم أن يكون في مجموع الفترة الزمنية ساكناً
كذلك لأن استمرار السكون يُنتج سكوناً ولا يولد حركة من هذه الأمثلة الثلاثة يتضح أن الحركة مستحيلة وإن خيل لنا أنها حقيقة واقعة لأنك - كما ترى - إن فرضت حدوث الحركة تورطت في سلسلة من المتناقضات لا تستقيم مع العقل والمنطق وإن الفكر الفلسفى ليصل بك - أحياناً ـ إلى إنكار السماء والأرض وما بين السماء والأرض ويقول لك ليس في الوجود ـ يقيناً ـ غيرك أنت وحدك
آخر السمات
أما السمة الأخيرة فهي سمة تؤدى إليها ـ لا مناص - السمات
السابقة
وإذا كانت السمات السابقة يسلّم كل منها إلى الآخر فإنها
جميعاً تتكاتف لتؤدى إلى هذه السمة الأخيرة
هذه السّمة الأخيرة هى أن الفلسفة لا رأي لها وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس كيف يتأتّى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحاً ـ منذ أن نشأت ـ ولم تكف ـ منذ أن نشأت حتى الآن عن الصياح لا رأى لها ! والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة
-۱۷۔
أما أولاً فلأن الفلسفة لا رأى لها نتيجة واضحة لكل ما
قدمنا
وأما ثانياً فخذ أى مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تُنكر والآراء التي تُقيت إنك ترى الرفض
والقبول في كل أمر
6
والرفض فلسفة والقبول فلسفة
فلسفة
وقد يكون الرأى توقفاً عن الرفض والقبول وهو وقد يكون شكاً في الرفض وشكاً في القبول في آن واحد وهو
أيضاً فلسفة
والشك إما أن يكون شكاً في قيمة الآراء التي تعرض نفياً
أو إثباتاً
وإما أن يكون شكاً في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهى
الحواس والعقل وكل ذلك فلسفة في كل مسألة وإذا تساءلت ـ وأنت على علم بالجو الفلسفي جو المتاهات والوهم - ما الرأى الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلاً أمامك يثبت لك ـ بما لا مرية فيه - أنه لا رأى للفلسفة
۱۸
٦ـ وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمراً فى منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة
إن محاورة فيدون لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه
منها أنها
۱۔ محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس
٢ ـ وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهى أن النفس خالدة
- إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين لهم وزنهم واعتبارهم وأحدهم يسمونه أبا الفلسفة ويسمونه
أبا الفلاسفة
٤- المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما مدرسة سقراط ومدرسة فيثاغورس وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحى
ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة إثبات خلود الروح ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة
۱۹
ه بيد أن الأمر الأساسي المهم الذى من أجله نتحدث في هذا
الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن الوحى فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة المتينة وأن العقل في مجال الإلهيَّات إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا
وازنته بالوحى إن الوحى سفينة والعقل لوح من خشب لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما سيمياس و قابس وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية
وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم
يسكت سقراط ويسكت الجميع وبعد هنيهة يقول
سيمياس
إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جداً في هذه الحياة ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر
مدى العقل فيجب
إما الاستيثاق من الحق
* وإما ـ إن امتنع ذلك ـ استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة
كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح خشب ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وأمن أعنى إلى وحى الهى ۱
1 تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم
۰
وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى يقتنع قابس ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضاً إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة ـ على وجاهتها
فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ ويزيد قائلاً
بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث
إن هناك مجرد الإلهيَّات وهناك البحر المائى وكما أن للبحر المائى آلة عبور هى السفينة فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي الوحى فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحاً من خشب في عبور البحر المائي
ولكن المضطر - حيث لا وحى - يستمسك بلوح الخشب كما
يقول سيمياس
ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وأمن أعنى إلى وحى
۱-
إلهى
خاتمة في الفلسفة
إن هذه الخاتمة تجربة شخصية
ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في
بواكير حياتى الفلسفية
لقد كان ذلك لأول عهدى بجامعة باريس حينما ذهبت إلى
فرنسا للدراسة
أحب أن أصف الجو الذي عشته وكيف تصرفت – بتوفيق الله ـ في أثنائه
دخلت الجامعة وبدأت الدراسة في علم الاجتماع وعلم النفس ومادة الأخلاق وتاريخ الأديان
وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود أو الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود
وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد هو أنها علوم
مجتمع "
أى أنها لا تتقيد بوحى | السماء ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي فهي تدرس موضوعاتها على أنها ظواهر اجتماعية وظواهر إنسانية وبدأنا في الدراسة نسمع مختلف الآراء في نشأة الدين ومختلف الآراء في تفسير النبوة وينتهى الأمر برأى الأستاذ في
الموضوع
-
وليس في هذه الآراء - على اختلافها وتعددها ـ ما يتجه إلى أن
الدين وحى من السماء أو أن النبى موصول الأسباب بالسماء وإذا انتظرنا من الأستاذ أن يصحح الوضع فيدلي في النهاية برأيه مثبتاً الإلوهية والنبوة هادماً للآراء الأخرى واصفاً لها بأنها ضلال !
إذا انتظرنا ذلك منه فإننا نكون واهمين فإنه واحد من هؤلاء العشرات من الأساتذة في هذه المواد وما شابهها المنغمسين في
تيار المادية
لقد فسرت الجامعات الأوربية العلم على أنه القواعد التي تقوم على التجربة والملاحظة والتزمت أن تفسر وأن تشرح علم الاجتماع وعلم النفس وجميع الظواهر في الآفاق وفي الأنفس على هذا الأساس والتزمت ذلك أيضاً في تاريخ
الأديان هذه المعلومات بالذات وفروعها تتكاتف لتقود الإنسان متعاونة متساندة إلى الإلحاد إن للدين - فيما يزعمون - نشأة إنسانية اجتماعية وإن للخلق فيما يروون ـ نشأة إنسانية اجتماعية وقد تواضع الناس على سلوك معين سموه فضيلة وعلى سلوك آخر سموه رذيلة دراسة الدين والأخلاق - إذن ـ تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور وظواهر التطور وليس للسماء في الدراسة من نصيب اللهم إلا الوصف لظاهرة نشأت في المجتمع
۳
وكل الظواهر والمظاهر فى هذه الدراسات اعتبارية نسبية متغيرة متبدلة لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم تتبدل حالاً بحال
وهذه الأفكار تتكرر في هذه المواد تسمعها في علم الاجتماع وتسمعها في علم النفس وتسمعها في دراسة مادة الأخلاق وتسمعها في دراسة تاريخ الأديان وتسمعها في دراسة العلوم المتفرعة من كل ذلك
والشاب الذي انتقل من الأقسام الثانوية إلى الجامعة يتأثر بأستاذه فإذا كان الأساتذة متكاتفين على هدم القيم الثابتة والمثل العليا التي يقررها الدين وتقررها الأخلاق إذا كان الأمر كذلك فإن الطالب الذى يعيش فى أجواء تتعاون كلها على هدم عقائده ومثله وقـيـمـه ينتهى به الأمر ـ في الأغلب الأعم من الحالات ـ بأن تنهار هذه القيم في شعوره
ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها فى طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من ا العقائد وبكثير من القيم وينتهى الطالب بالإلحاد أو على أقل تقدير بالإيمان الكامن الذي لا فاعلية له ولا تأثير له في سلوك الإنسان وكنت ـ من غير شك - أضيق بكل ما يجري في هذه
الدراسات
ولكن الله - سبحانه وتعالى - ألهمنى التفكير في قيمة آراء
الأساتذة أنفسهم في هذه المواد
٢٢٤۔
وبدأت أفصل بين عالمين من المعرفة عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء وهذه أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض مع الدين ولا اختلاف فيها وعالم التفكير المجرد في الدين والأخلاق والمجتمع
وأخذت أدرس - في أناة - هذا الجانب الأخير من الزاوية التاريخية فوجدت أنه منذ أن بدأ التفكير بدأ في اللحظة الأولى الاختلاف فيه وبدأ كل زعيم من زعمائه ينتقد الآخرين في عصره وكل مفكرى عصر ينتقدون المفكرين في العصر السابق عليه وهكذا الأمر
وما من شك أن هؤلاء الأساتذة الذين يدرسون لنا ينتقد بعضُهم بعضاً في آرائهم ويُخطَّى بعضُهم بعضاً كما ينتقدون السابقين عليهم ويخطئونهم وسيصنع من بعدهم صنيعهم فيوجهون إليهم النقد ويخطئونهم وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
لقد أخذ دوركايم اليهودى يعمل بمعاول هدامة في كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية وأخذ تلميذه الأكبر اليهودي ليفي بروهل ينهج منهجه ويسير على طريقه في علم الاجتماع وفي علم الأخلاق وكتاب ليفي بروهل الأخلاق وعلم العادات مثل واضح لهذا النوع من هدم القيم ومحاولة القضاء على كل
المثل
٢٢٥۔
فكرت ـ إذن ـ في اختلاف الآراء أو في هدم بعضها البعض
في مواجهة كل ما يقوله الأساتذة وكنت أقول في نفسي ـ في مواجهة كل أستاذ - سيهدمك المعاصرون لك وسيهدمك الذين يأتون من بعدك
ولكني في مواجهة كل هذه الآراء الإلحادية كنت أتشبث بيقين لا شك فيه كنت أقول في نفسي إذا كانت الأخلاق نسبية فهل سيأتى الزمن الذي نعتقد فيه أن الصدق رذيلة أو أن الشهامة شر أو أن الشجاعة سوء أو أن العفة جريمة أو أن كذا أو كذا
ثم أعود إلى نفسى فأقول كلاً
وأتساءل من جديد فى مجال العقائد هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله أو لا نقول فيه بإرادته وعلمه وأعود إلى نفسى وأقول كلاً
كنت أحاول - دائماً - أن أردد أن هؤلاء القوم يسيرون في
طرق لا تنتهى إلى غاية
- ما هدفهم من ذلك
وما كنت أجد الإجابة عن هذا السؤال آنئذ لكني عرفت فيما بعد أن هذا هو المنهج اليهودى الذى رسموه بعد تفکیر طویل والتزموا القيام به بكل الوسائل أو بكل الطرق وهو منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق
٢٢٦۔
يستخدمون - هذا المنهج - فى المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقياً ودينياً ويضيفون إليه العمل على إثارة العمال على أصحاب رؤوس الأموال وعلى إيجاد الضغائن والفتن بين مختلف فئات الشعوب والثمرة التي يعملون دائبين على الوصول إليها أن يكون المجتمع شاكاً مليئاً بالفتن وذلك سبيلهم إلى السيطرة
عقائد
إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من أو قوة من خلق ومن أجل ذلك تكاتفوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى فى الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس وفى مادة الأخلاق وفي تاريخ الأديان ولم يكن من السهل على في أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها ولولا عون من الله سبحانه وتوفيق منه ولولا لطف الله لصرت كواحد من هؤلاء الألوف الذين يدرسون في الجامعات الأوربية ثم يخرجون منها وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة وانتهيت من هذه الدراسة ثم كانت المرحلة التالية هى مر
الدكتوراه
مرحلة
وبعد تجارب هنا وهناك فى مجالات مختلفة من الموضوعات
۷-
وبعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك هداني الله ـ وله الحمد والمنة إلى موضوع التصوف الإسلامي ولم يكن ذلك مصادفة وإنما هي هداية وتوفيق من الله سبحانه وتعالى وهي عناية أعجز عن شكر الله سبحانه وتعالى عليها وانغمست في العنصر الأساسي في موضوع الرسالة وهو دراسة الحارث بن أسد المحاسبي
انغمست في جو مجموعة من المخطوطات لهذا العالم الكبير المستنير ورأيت أنه قد مرت به ـ هو الآخــر ـ فترة من الضيق لاختلاف الآراء وتفرقها والخيرة في أيها الحق وأيها الصواب ثم هداه الله سبحانه إلى الطريق الأقوم ووجدت في جو الحارث بن أسد المحاسبي الهدوء النفسي أو الطمأنينة الروحية ولكنه هدوء اليقين وطمأنينة الثقة بما
يعلم فقد ألقى بنفسه في معترك المشاكل التي يثيرها المبتدعون والمنحرفون وأخذ يصارع مناقشاً ومجادلاً وهادياً ومرشداً متخذاً الأساس الأصيل والمصدر الأول القرآن والسنة متخذاً ذلك مقياساً وحاكماً متحكماً في كل ما يُقال أو
يفعل
وانتهيت من دراسة الدكتوراه وأنا أشعر شعوراً واضحاً
بمنهج المسلم في الحياة وهو منهج الاتباع
۸
إن ابن مسعود له يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج كأنها
إعجاز من الإعجاز إنه يقول اتَّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم
6
وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني الطويلة العريضة يبرهن آخرها على أولها والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضاً آخرها أي اتَّبعوا فقد كُفيتم والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى المبادئ والأصول والقواعد وطبق رسول الله كل ذلك وبينه فكان تطبيقه مقياساً وبياناً ومرجعاً يرجع
إليه المختلفون ولا تبتدعوا فقد كُفيتم إن الذي يبتدع هو من لا كفاية له ولكن الله سبحانه وتعالى بعد أن أكمل الدين وأتم النعمة فليس هناك من مجال ولا من حاجة إلى الابتداع لقد كفانا الله ورسوله كل ما أهمنا من أمر الدين وبعد أن وَقَرَ هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو إليه كاتباً ومحاضراً ومدرساً ثم أخرجت فيه كتاباً خاصاً
هو كتاب التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل وما فرحت بظهور كتاب من كتبى مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب لأنه هو خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية
وكل ما كتبته عن التصوف وعن الشخصيات الصوفية فإنما
يسير في فلك هذا المنهج منهج الاتِّباع
۹۔
وهذا المنهج يفترض
١ - مقاومة الغزو الفكري في العقائد
والغزو الفكرى له مجالات مختلفة هناك الغزو الفكري في العقائد يتمثل في كل هذا التراث الضخم الذي نُقل إلى اللغة العربية فيما يتعلق بما وراء الطبيعة وهو تراث مختلف
متعارض بل ومتناقض وهو نتاج بشرى بكل ما يتسم به النتاج
البشرى من خطأ
وضلال
٢- والغزو الفكري في نظام المجتمع
وهو الذي حاول أن يفرض علينا نظام المجتمعات الأوربية
وإذا نحن سرنا فى تياره فإننا نصبح ولا شخصية لنا ولا ذاتية ونصبح وقد فقدنا رسالتنا التي كُلفنا بتبليغها للناس ونشرها وهي رسالة الإسلام التي من أجلها كانت الأمة الإسلامية وبدونها تصبح الأمة الإسلامية ولا مبرر لوجودها
والغزو الفكري في مجال التشريع
وهذا الغزو الفكري في مجال التشريع توجد أسسه وأصوله بصورة مشروعة في مختلف الأقطار العربية ممثلة في كليات
الحقوق التي تنفق عليها الدولة وتعتمد شهاداتها
وكليات الحقوق هذه دراستها غزو فکری واستعمار فکری ودراستها أثر من آثار الاستعمار التي لم تزل بعد أن زال
الاستعمار
۳۰-
وإذا كانت الأمم الواعية تحاول جاهدة أن تتخلص من وصمة الاستعمار بما فيها من شرور ورجس وآثام فإن الكثير من الدول العربية لم تحاول أن تتخلص من وصمة الاستعمار الصارخة الواضحة الممثلة في هذه الكليات
إن هذه الكليّات تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوربية أي للفكر الأوربى فى التشريع وتفرض على الطالب
أن يذاكره ويستوعبه ويحفظه ويتمثله وينجح فيه في الامتحان أى أنها تفرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع وأن يلغى ذاتيته الإسلامية في هذا المجال وأن يكون تابعاً للأوربيين في هذا المجال مقلداً لهم تجره عجلتهم مستسلماً لغزوهم
وبينما تخصص هذه الكليات عشرين ساعة - أسبوعياً - للفكر الأوربي في التشريع إذا بها تخصص ساعتين فقط للتشريع
الإسلامي
ولو أن هذه الكليات في فرنسا أو في انجلترا لما فعلت أكثر من
ذلك
منهج الاتباع - إذن - يقتضينا أن ننظر في جد في أمر هذه الكليات من أجل أن تُمثل الوطنية والإسلامية والعروبة
-۳۱۔
وبعد
فإن منهج الاتِّباع هو الخلاصة الجوهرية لتجاربي الخاصة بالطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته وإذا سار فيه المسلم فرداً أو سار فيه المجتمع مجتمعاً فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة لأنه يكون في جو
ربانى ملىء برعاية الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعنايته وَمَن يَعتصم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۱
۳-
۱ سورة آل عمران ۱۰۱
الأساس الذي
الفصل الخامس
تنبثق منه
الأخلاق
في الإسلام
۳۳
بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم
الدين
ربنا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نُسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمَلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ ۱ أيها الإخوة المؤمنون
كل عام وأنتم بخير ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذه الذكرى المباركة وقد اتحدت كلمة زعماء المسلمين والعرب وقد انتصر الإسلام وقد استخلصنا بيت المقدس وقد طهرنا أرضنا الإسلامية من رجس الصهيونية
أيها الإخوة المؤمنون
إنني أشكر الجمعية مسجد سيدى جابر هذا النشاط الذي تقوم به و ما من شك فى أن خير النشاط الذي تقوم به تحفيظ القرآن و و دروس التقوية وغير ذلك من الأنشطة التي تقوم بها
هذه محاضرة للإمام عبد الحليم محمود ألقيت في مسجد سيدى جابر بالإسكندرية في يوم ۱۹۷۷/۳/۱۷م وقد نقلناها بأسلوبها ولفظها ۱ سورة البقرة ٢٨٦
-٢٣٥
فجزاها الله خير ما يجزى العاملين للإسلام ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيها وأن يبارك في المشرفين عليها فيما يتعلق بأخلاقيات الإسلام إنه موضوع جليل من أهم الموضوعات ومن الممكن أن يتحدث الإنسان عن زوايا كثيرة من
أخلاقيات الإسلام الإسلام أخلاقيات لا تكاد تنتهى الصبر الحلم الإنصاف العدل الإحسان إلى غير ذلك من هذه النواحي الكثيرة التي يتحدث فيها المتحدثون والتي استفاضت فيها السنة واستفاض فيها القرآن وآيات الأخلاق في القرآن
أكثر من آيات التشريع وأكثر من آيات العقيدة نفسها و من آيات الأخلاق في القرآن ما يتضمنها أيضاً القصص الذي يتحدث عن الأنبياء
وأحب في هذه الليلة أن أتحدث عن الأساس الذي تنبثق منه
الأخلاق في الإسلام
- ما الأساس الأول الأصيل الذى تنبثق منه الأخلاق
الإسلامية
هذا الأساس يستمد كيانه من كلمة الإسلام نفسها أى أن هذه المحاضرة فى هذه الليلة تكاد تكون مقصورة على شرح كلمة الإسلام فإننا إذا ما شرحنا كلمة الإسلام عرفنا
-٢٣٦
الأساس الذى تقوم عليه الأخلاق الإسلامية فضلاً عن الأساس
الذي تقوم عليه العقيدة ويقوم عليه التشريع
فيما يتعلق بكلمة الإسلام هذه الكلمة الإلهية الربانية
ما مفهومها ما معناها
إن علماء اللغة حينما يتحدثون عن كلمة الإسلام يقولون إن المسلم هو من خلصت عبادته وخلص سلوكه لله سبحانه
وتعالى
حينما
وإذا جئنا إلى المعنى الذي فسرها به رسول الله سئل عن الإسلام فقال - صلوات الله وسلامه عليه ـ الإسلامُ أَنْ يُسْلِمَ للَّهِ قَلْبُكَ وأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ
>>
ويدك "
- هذا هو الإسلام في تعريف رسول الله
هذا المعنى أن يُسلِمَ للَّه قلبك تستفيض الأحاديث النبوية في شرحه وتستفيض الآيات القرآنية في شرحه إنهم يقولون مثلاً أن يسلم الله قلبك في العبادة والاستعانة إياك نعبد وَإِيَّاكَ نَستَعين ۱ لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك ومن شرحها ما قاله النبي ل لابن عباس وقد كان ـ آنذاك ـ غلاماً
۱ سورة الفاتحة ٥
-۳۷۔
يَاغُلامُ احْفَظُ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَطِ اللَّهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ وإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ مَا نَفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ جفت الأقلام وطويت الصُّحُفُ
و من معانى أن يسلم الله قلبك الآية القرآنية الكريمة قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ ١ كل الملك اليسير من أمر الملك والعظيم من أمر الملك فالعين من ملك الله والبصر في العين من ملك الله والأذن من ملك الله والسمع في الأذن من ملك الله القوة من ملك الله والذكاء من ملك الله والمال من ملك الله والجاه والقوة كل هذا من ملك الله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قدیر
كل هذا من ملك الله - سبحانه وتعالى ـ وكل هذا من معاني
أن يسلم الله قلبك
وإذا أردت ردت أن تختصر معنى أن يسلم الله قلبك تقول ما قاله
۱ سورة آل عمران ٢٦
۳۸
الإمام البيروني أعظم عقلية ظهرت على وجه التاريخ بشهادة
علماء أوربا
سئل البيروني هل تستطيع أن تعبر عن الإسلام بكلمة واحدة قال نعم التوحيد
كل هذه المعانى تتبلور أيضاً في كلمة أخرى واحدة هي شعار المسلمين هي كلمة التوحيد هي أشهد ألا إله إلا الله فمعناها الحقيقي هو أن يسلم الله قلبك وأشهد ألا إله إلا الله من معانيها
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۱ ومن معانيها التوحيد ومن
معانيها السجود وهو أن يسجد القلب الله - سبحانه وتعالى - وَالْقَلبِ سُجُودٌ كَمَا لِلْجَبْهَةِ سُجُودٌ
ومعنى سجود القلب الخشوع الكامل الله سبحانه وتعالى أن يسلم الله قلبك هذا هو الأساس - كما قلنا - للأخلاق الإسلامية وإذا أردنا شيئاً من التفصيل في معنى أن يسلم الله قلبك فإنَّا نقول ما قاله الله سبحانه وتعالى أمراً به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ CD لا
شريك له وبذلك أمرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسلمين ٢
الصلاة هنا هى الصلاة العادية التي نعرفها من قيام وركوع
1 سورة الفاتحة ٥
سورة الأنعام ١٦٢ ١٦٣
۳۹
وسجود ولكن من وراء هذا المعنى أيضاً أن الصلاة هي الصلة
بالله سبحانه وتعالى
ومعنى
هذا أن تكون على صلة بالله سبحانه وتعالى بقلبك فالصلاة رمز لأعمال القلوب كما أنها - في حقيقتها - الصلاة
المفروضة
قُلْ إِنْ صَلَاتِي وَنُسُكى ۱ والنسك معناه الحقيقي العادي البذل والتضحية والفداء وأعمال الجوارح وأعمال القلوب - إذا خلصت الله سبحانه وتعالى
ولكن ليس ذلك فحسب وإنما يعمم الله سبحانه وتعالى الأمر تعميماً فيقول ومحیای حياته بأكملها حياته نوماً ويقظة حركةً وسكوناً حياته قولاً وصمتاً حياته خطوات
حياته أنفاساً حياته بأكملها خلصت الله سبحانه وتعالى وليست حياته فقط وإنما مماته أيضاً ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان الله ففى سبيل الله هذه الحياة التي تمخضت الله
سبحانه وتعالى هي قمة الفضيلة هي قمة الأخلاق ومن المناسب هنا أن نتحدث - فى كلمات وجيزة ـ عـن قــول
رسول الله
إِنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ
۱ سورة الأنعام ١٦٢
٢٤٠۔
هذا الحديث الشريف لا يقول إنما بُعثتُ لأنشر الأخلاق اللفظ النبوى إنما اللفظ النبوى إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ
ليس هذا هو
مَكَارِمَ الْأَخْلَاق
ولا يقول إنما بعثت لأتمم الأخلاق كلا وإنما يقول لأتمم مكارم الأخلاق
ومعنى هذا أن مكارم الأخلاق لم تكن قد تمت قبله - صلوات الله وسلامه عليه ـ لم تكن قد تمت في شخص من الأشخاص ولا في رسول ولا فى نبى لم تكن مكارم الأخلاق قد تمت وكان العالم ناقصاً مادةً وروحاً كان ينقصه مكارم الأخلاق فلما وجد رسول الله الله كَمل العالم لأنه تمم مكارم
الأخلاق
لو لم يُبعث رسول الله الله الظلت مكارم الأخلاق ناقصة ولظل العالم ناقصاً فلما بعث تَمَّم مكارم الأخلاق تَمَّمَهَا بذاته أي بسلوكه وتَمَّمَهَا بقوله أي بأحاديثه كان العالم ناقصاً كان ينقصه أن يتعطر جوه بأزكى الأرواح لم تكن أزكى الأرواح قد وجدت بعد وكان ينقصه أن تتعطر مادته بأزكى الأجساد فلما وجد رسول الله تم أسمى شيء في العالم تمت مكارم الأخلاق فتم العالم مادةً وتم العالم روحاً إذ وجدت فيه أزكى الأرواح ووجد فيه أزكى الأجساد
٢٤١۔
صلوات الله وسلامه عليك يا سيدى يا رسول الله إنما بعثت لتتمم مكارم الأخلاق
ومكارم الأخلاق التي بعثت لتتميمها إنما هي أن يتمحض الإنسان تمحضاً كاملاً الله سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان ربانياً خالصاً لله سبحانه وتعالى
قلنا إن الإسلام هو أن يسلم الله قلبك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نستعين ١ وهو التوحيد وهو السجود الله سبحانه وتعالى وهو أشهد ألا إله إلا الله كل هذه معاني الإسلام
والتوحيد يتحدث عنه القرآن كثيراً وفي سورة قصيرة ولكنها كاملة تامة شاملة عامة هى ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ٢
في ليلة من الليالي قال رسول الله لعلم للصحابة بعد صلاة
العشاء
استعد فإن
احشدُوا - بمعنى اسْتَعدُّوا - سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القُرْآنِ واستعد الصحابة بعضهم راح يعد لنفسه غطاء وفرشاً وبعضهم أحضر ماء ليشرب إذا عطش كل منهم ا الرسول سيقرأ عليهم ثلث القرآن إلى الفجر تقريباً فقرأ عليهم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۳ ثم ذهب إلى بيته
1 سورة الفاتحة ٥ ۳ سورة الإخلاص
٢٤٢
فقال الصحابة ثمة أمر حدث
بعد فترة من الزمن عاد إليهم وقال لهم ماذا تنتظرون قالوا إنك قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن
قال والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّر بيدهِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۱ تَعْدِلُ ثُلُثَ
القُرآن
وفي يوم من الأيام جيء لرسول الله برجل يقرأ قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ في كل صلاة لا يكاد يتعداها إلى قراءة غيرها وسأله رسول الله لمَ تَفْعَلُ ذَلكَ يَا رَجُل
فقال إني أحبها لأنها وصف الله سبحانه وتعالى
فقال " حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةِ
من يحب ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ ۳ يحب التوحيد والمسلم يجب أن يكون موحداً خالصاً الله سبحانه وتعالى
ولنتأمل قليلاً في بعض معاني قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ٤ في هذه
السورة التي تصف الله سبحانه وتعالى
لم يقل الله قل هو الله واحد ولكن قال ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أحد ه هل هناك فرق بين واحد وأحد ما معنى أحد
٥١ سورة الإخل
٢٤٣۔
إن معناها يتضح إذا شرحنا معنى واحد محمد أو حسن يوصف بأنه واحد ولكن مع ذلك له رأس والرأس جزء وله عينان وكل عين جزء وله ذراعان وله رجلان وله كل هذه الأجزاء ولكنه واحد أي أن كلمة واحد لا تمنع أن يكون له أجزاء أما أحد فإنها تمنع ذلك كلية لا أجزاء له ولا تركيب فيه - نفت أولاً
الشريك ونفت التركيب
اللهُ الصَّمَدُ ١ الذي يُلْجأ إليه في كل الأمور
إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ لأنه الصمد الذي تتجه إليه الآمال وتتجه إليه المطالب وتتجه
إليه الحاجات وهو وحده الذى تتجه إليه أمال الإنسان يسيرةً كانت أو عظيمة
لَمْ يَلِدْ وحاشاه ﴿وَلَمْ يُولَد ۳ وحاشاه ليس له ابن ولم يكن له أب فهو لم يولد وتقرير هذه الحقيقة وتنزيه الله عن الولد يتكرر في القرآن بصور أقوى ما تكون وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا من لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِنَّا تَكَادُ
AA
49
السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُ الْأَرْضُ وَتَخِرُ الْجِبَالُ هَذَا أَن دَعَوْا
لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ٤
۱ - ۳ من سورة الإخلاص
٤ سورة مريم ۸۸ - ۹
٢٤٤۔
هذه الآيات تستبعد وتستنكر أن يكون الله ولد إنه أزلي وأبدى
ودائم ولم يكن مخلوقاً
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۱ ليس له مثيل وليس له ند
وليس له شبيه إنه وحده الذي يخلق ويرزق ويعطى ويمنع وهو الذي تتجه إليه الآمال وأنتم تعلمون من عادات الريف بل من الفطرة الاحتياج إلى الولد للمساعدة والعون والمساعدة تعنى الحاجة وذلك نقص فينا ولو كنا كاملين لما احتجنا إلى الولد والله - سبحانه الكمال
وتعالى - كامل لا ينقصه شيء فهو سبحانه وحده هوا
الكامل غير ناقص غير محتاج إلى الابن
نرجع إلى بيان أن سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ٢ تعدل ثلث القرآن
لأنها تقرر العقيدة
بعد ذلك نسأل أنفسنا
ما أهم صفة يتحلى بها المسلم الذي أسلم قلبه الله تعالى
هل هي السلبية
لا إنها الجهاد والجهاد ليس سلبياً فبمجرد أن تسلم قلبك
لله تنخرط في سلك المجاهدين
۱ من سورة الإخلاص
٢٤٥۔
إن العلامة التى توضح إن كنت قد أسلمت قلبك لله أم لا
الجهاد مع المجاهدين
ونحن أبعد ما نكون في جهودنا وفي عموم أحوالنا عن صفة
الجهاد
أضرب مثلاً يمثل الجهاد اليسير ومع ذلك نحن لا نقوم به
نحن قد تضيق صدورنا بأمور التليفزيون أو الإذاعة أو
الجرائد وفي العمل اليومي - في الشارع أو في المكتب أو في الديوان - قد تضيق صدورنا بأمور نراها أو نسمعها أو نشاهدها ومع ذلك لا يتحرك أحد منا لكتابة كلمة إلى المسئولين أو برقية جاء رجل يبايع رسول الله قال له أبايعك على الإسلام فقال رسول الله والنُّصح فمن شروط الإسلام النصح لكل مسلم عندما ترى شيئًا تضیق به صدراً عَبر في كلمة أو في حديث مع المسئولين لكنك لا تفعل
إن أحد كبار المسئولين في الإذاعة قال لي إن هناك بلاداً إذا حدث مجرد همسة وردت فيها مئات البرقيات للاحتجاج ولكن - هنا - إذا هدم ركن من أركان الإسلام لا تأتينا برقية
ولا خطاب ولا احتجاج المسلمون متكاسلون متواكلون
٢٤٦۔
مثال آخر
قرأت مقالة ليست مستقيمة رأيت رسماً كاريكاتورياً في التليفزيون أو فى وسائل الإعلام يتهكم على الإسلام إنك لا تهتم لا أحد يكتب احتجاجاً مع أنه لا خوف الآن من القبض ولا من الاعتقال على من يكتب ! أين من يجاهد بلسانه ! مع أن أخص صفة لمن أسلم قلبه الله تعالى الجهاد والجهاد أنواع كثيرة جهاد النفس لكى تتزكَّى والله سبحانه وتعالى يقول قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ١
أی زگی نفسه
وجهاد الأسرة لكي تستقيم وهذه مسئولية الأب ومسئولية الأم ومسئولية الابن الراشد وكل أفراد الأسرة - جميعها متضامنون في المسئولية لتستقيم الأسرة وكلكم راع وكلكم
مسئول عن رعيته
والله سبحانه وتعالى يقول
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا ٢
نقى أنفسنا بالجهاد ونرشد أهلينا إلى الفضائل ونبعدهم عن
الرذائل فذلك وقاية لهم من النار
۱ سورة الشمس ۹
سورة التحريم ٦
-٢٤٧۔
جهاد النفس لكى تتزكَّى من علامات الإسلام وجهاد الأسرة لكي تستقيم أمورها من علامات الإسلام والجهاد في المجتمع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وله درجاته
ويقول رسول الله
مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أُمَّتِهِ إِلَّا وَكَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ
وَأَصْحَابٌ
الطبقة الأولى الحواريون وطبقة الأصحاب الطبقة
المؤمنة ]
يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَقْتَدُونَ بِسُنَّتِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ - ما الموقف بالنسبة لهؤلاء
من جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو
مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن لابد من الجهاد باليد وذلك شأن الحاكم - والأمر ليس فوضى في الإسلام ـ واحد يجاهر
بالمنكر يواجهه الحاكم باليد بالسلطة وبالحبس وبالسجن ومن جاهدهـم بلسانه فـهـو مـؤمـن والجهاد باللسان هو النصيحة والإرشاد والهداية
وَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
٢٤٨
وهذا الجهاد باللسان هل هو من مهمة علماء الأزهر والوعاظ والأئمة فحسب ! ليس الأمر كذلك لماذا لأن المسئولية تترتب على المعرفة هذه قاعدة عامة أو مطلقة فمعرفتى أنا مثلاً بحرمة الخمر كمعرفة أى شخص من
الشعب ومعرفتى هى مسئوليتى فيما يتعلق بالجهاد والمسئولية على كل من يعرف أن الخمر حرام وكلنا مسئول أمام الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بهذا الأمر نساء ورجالاً وشباباً وشابات لأن المسئولية تترتب على المعرفة
الخمر لعنها الله والرسول الله ومنها الـبـيـرة ولسنا في حاجة لأن نؤكد ذلك ولسنا نحن فقط الذين نقول عنها ذلك المؤتمرات التي تُعقد فى أمريكا والتي يحضرها علماء النفس والاجتماع ويحضرها الكيميائيون والأطباء والصيادلة تقرر هذه المؤتمرات أن البيرة نوع من الخمر والخمر يلعنهـا الله في نفسها كَمَادَّة ويلعنها في شاربها ويلعنها في عاصرها وفي حاملها يلعنها في كل الظروف وفى كل الملابسات الخمر حرام من رجس الشيطان إنها أم الخبائث ـ كما يقول التعبير
الشعبي
حدث أمر في غاية الغرابة شركة مصر للطيران حدث فيها أن بعض الضباط الطيارين امتنعوا عن حمل الخمر في الطائرات لأنه
٢٤٩۔
حرام كنت أتصور أن ترسل إليهـم الشــركــة جواب شكر لاهتمامهم بدينهم وامتناعهم عن حمل الخمر لأن حملها يضر
وقد يسبب كارثة ماذا فعلت شركة الطيران نگلت بهم واحد منهم مستقر في القاهرة مع أسرته نقلته إلى أسوان والثاني نقلته إلى الأقصر وتهديدات لا حصر لها بالغرامة والفصل وبما يضر الموظف
ويأتي هؤلاء إلى الأزهر ويكتب شيخ الأزهر خطاباً إلى مدير شركة الطيران ويبين له حكم الله في هذا الأمر وأن هؤلاء الناس فضلاء لكن لم تستجب الشركة وأنتم تعلمون أن الأزهر ليس سلطة تنفيذية وهذا الخطاب نشر في الصحف كنت أتوقع بعد نشره ومـعـرفـة الصـغـيـر والكبير له أن يتصل أحد المسئولين بالشركة ويقول لهم اختشوا
على أنفسكم
- لماذا تتشبث الشركة بالخمر
تقول من أجل السائحين
وهذا كذب فالشركة السعودية لا تحمل الخمر ولا تبيع الخمر ولا تشترى الخمر والإقبال على الشركة السعودية أكثر من الشركة المصرية
٢٥٠۔
هذا مثال ننقله - فى صورة عابرة - يبين أننا - فيما يتعلق بالجهاد
لا نقيمه كما ينبغي
الجهاد باللسان واجب يترتب على المعرفة وما دام كلنا يعرف فالمسئولية علينا جميعاً وليست المسئولية فحسب على الوعاظ من علماء الأزهر
والمسئولية تترتب على المعرفة وليست على المهنة لأنها إيمان
وإسلام أما الجهاد بالقلب فهو بالنسبة لنا جميعاً أضعف الإيمان لكنه ليس سلبياً فأنت حينما ترى المنكر تسير في طريقك وتستعيذ بالله وتقول الحمد لله الذي عافاني من هذا بهذا تكون آثماً وليس قولك هذا جهاداً بالقلب
المسئولية هى النصيحة فإن لم تستطع تأتى مرحلة الجهاد بالقلب فإذا كان المخالف للدين تاجراً فـلا تـشـتـر مـ منه وإذا اشتريت منه فأنت أثم وإذا كنت أنت التاجر وهو الشاري فلا تبع له والله يعوض وإذا كان مرشحاً في الإدارة أو في البرلمان
فلا تنتخبه ولا تصاحبه ولا ترافقه
كل هذا منبثق من أنك تسلم الله قلبك إذا أسلمت فالجهاد هو الصفة الأساسية التي تنبثق من القلب عندما تتحدث بهذه
الصورة
-٢٥١۔
بعض الناس يتشاءمون الجهاد في الإسلام جهاد متفائل والشخص المتفائل هو الذي يفعل ويسعى ويجتهد والشخص المتشائم خامل تشاؤمه يجعله في كسل وفتور ولذا فالجهاد الإسلامي متفائل
وهناك صورة نختم بها الحديث عن الجهاد المتفائل في غزوة
الأحزاب
اليهود ألبوا الجزيرة العربية على المسلمين في المدينة والمسلمون في المدينة عددهم محدود وذلك في السنة الخامسة من الهجرة واليهود بمالهم وبمكرهم وبخبثهم كانوا بالجزيرة العربية يؤلبون على الإسلام وجيشت القبائل جيوشها الجرارة بما عندها من العدد والعُدَّة وتأتى هذه الجيوش نحو المدينة لتقضى عليها دنيا وديناً وتسويها بالأرض
لم يكن في هذا العمل شهامة أو مروءة تأتى كل هذه
الجيوش لتقضى على قرية صغيرة ماذا فعل المسلمون شاور الرسول عالم الصحابة وانتهى أمر المشورة بالاتفاق على أن يحفروا خندقاً فليحفر الخندق
وكان الرسول لا يحمل التراب معهم على كتفه ويفعل كما يفعل الآخرون أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وكبار الصحابة وكلهم يحفرون الخندق أقطع الحديث دقائق لأقص قصة أحد الصحابة رأى رجل
٢٥٢۔
رسول الله يلوح عليه شيء من الإجهاد فذهب إلى زوجته وقال لها أليس عندك طعام أدعو إليه رسول الله فقالت إن عندها ماعزاً وعندها مقداراً من الدقيق وهذا يكفى رسول الله وعدداً قليلاً
معه
وذهب الرجل إلى رسول الله ودعاه وقال له وليكن معك اثنان أو ثلاثة وإذا برسول الله يقول للجميع وكانوا حوالى سبعين أو ثمانين شخصاً هيا إلى طعام فلان أحرج الرجل ماذا يقول الرجل
سبق الصحابى وراح لامرأته مضطرباً خجلاً وقال لها حدث
كذا وكذا فسألته هل قلت لرسول الله المقدار كذا وكذا
قال نعم فقالت له هو أعلم بشأنه
وجاء رسول الله الله وأخذ هو الطعام ـ الدقيق مـعـمــول خبزاً والماعز مشوى - أخذ الطعام وقال لأحد الصحابة أدخل عشراً وأخذ يعطيهم فأكلوا ثم أدخل عشرة ثانية وعشرة
ثالثة إلى أن أكل الجميع وبقى لأهل البيت طعام كثير هذا الذي أقصه ليس حديثاً ضعيفاً وليس من الأحاديث التي
تُترك روته كتب السنة مثل البخاري ومسلم وهو صحيح
٢٥٣۔
عة
كانوا يحفرون الخندق وقد قسموا الخندق لكل قسم مجموع من الصحابة يختصون بحفره والرسول يعمل كما يعمل الآخرون فاعترضت طائفة منهم صخرة لا تعمل فيها المعاول ولو تركت يمكن أن تكون معبراً للجيوش المعادية فأقبلوا على رسول الله وحدثوه عن الصخرة فأخذ المعول ـ وهو قوى روحياً - وقال بسم الله الرحمن الرحيم وضرب الصخرة فانهار جزء منها فقال
الحمدُ لله فُتِحَتْ فَارِس وإنّى لَأَرَى الْمَدَائِنَ وَأَرَى قَصْرَها
الأبيضَ مِنْ مَكَانَى هَذَا ثم قال الله
بسم
الرحمن الرحيم وهوى بالمعول فانهار
جزء ثان وقال الرسول م
هذا
فتحت الشام والله إنّي لأرَى قُصُورَها الحُمْرَ مِنْ مَكَاني
ثم هوى بالمعول مرة ثالثة فانهارت الصخرة قال الحمدُ لله فُتِحَتِ اليَمن وإنِّي لَأَرَى أبوابَ صَنْعَاء
وكان سلمان الفارسي بجواره فقال له رسول الله هذه فتوح يفتحها اللَّهُ عَلَى المُسلمين فكان سلمان فيما بعد في عهد سيدنا عمر ـ حاكماً على
المدائن متربعاً فى قصرها الأبيض يقص هذه القصة ويقول في
نهايتها صدق رسول الله
٢٥٤۔
هی
هذا
كله
هو
الجهاد المتفائل هذه هي النتائج لمن أسلم قلبه الله هذه
النتائج نتائج وثمرات للفرد والأسرة
للفرد باعتباره فرداً والأسرة باعتبارها أسرة وللمجتمع
فإذا أسلم الفرد قلبه الله وإذا أسلمت الأسرة قلبها الله وإذا أسلم المجتمع قلبه لله هكذا ينالون النصر وسعة الرزق وحماية الله سبحانه وتعالى وتوفيقه ورعايته
كل ذلك يحيط بالفرد إذا أسلم قلبه الله وبالأسرة إذا أسلمت وجهها وقلبها الله وبالمجتمع إذا أسلم قلبه الله
هناك قضيتان قضية النصر وقضية استمرار النصر
في القرآن قوانين النصر وقوانين استمرار النصر
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ ۱ هذا قانون النصر
واستمرار النصر يتوقف على هؤلاء
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ ٢ وبعدوا عن
اللهو والملاهي
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمور ۳
۱ سورة النور ٥٥
٢٥٥۔
۳ سورة الحج ٤١
أيها الإخوة المؤمنون
إننا إذا أسلمنا قلوبنا الله سبحانه وتعالى وانتهى بنا الأمر إلى أن نجاهد في سبيله فإن الله سبحانه وتعالى يتكفل لنا بكل خير إن قوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۱ لا يحده حدود بَشِّرهم بالنصر بشرهم بالفوز وبشرهم بسعة الرزق بشرهم بمغفرة الله وبحب الله وبرحمة الله وبشرهم برضوان الله وبشرهم بكل خير
وفي نهاية حديثنا هذا نتقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - بالخطوة الأولى في تاريخ القرب منه وهي التوبة الصادقة
الخالصة النصوح في هذه الليلة المباركة من شهر ربيع الأول شهر رسول الله
نرجو الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بقبول التوبة
نقول جميعاً
تبنا إلى الله ورجعنا إلى الله وندمنا على ما فعلنا وعزمنا على ألا نعود للذنب أبداً ونحن بريئون من كل دين
يخالف دين الإسلام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيدنا محمداً لله رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد نبياً ورسولاً
۱ سورة التوبة ۱۱
-٢٥٦
*اللهم صل على سيدنا محمد لحبيب الشفيع الرؤوف الرحيم الذى أخبر عن ربه الكريم أن الله تعالى في كل نفس مائة ألف فرج قريب اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً وكُن بنا وبالمؤمنين رؤوفاً رحيماً الصلاة الأولى هي صلاة الفرج
والصلاة الثانية ذكرها أحد الصالحين ولى من أولياء الله كان يرى رسول الله الله في الرؤيا فقال في المرة المقبلة حينما أراه أسأله عن الصلاة التى أصليها عليه فكانت هي التي علمها إياه رسول الله
والصلاة الثالثة للشيخ المدبولى من أولياء الله وهذه الصلاة من أجمل الصلوات
اللهمَّ إِنَّا نسألكَ بكَ أَنْ تُصَلَّى وتُسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاء والمُرْسَلِينَ وعَلَى آلِهِمْ وَصَحْبِهِمْ أَجْمَعِينَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا مَا مَضَى وأَنْ تَحْفَظَنَا فِيمَا بَقِيَ
برَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحمين
والحمد لله
مراجع الكتاب
القرآن الكريم
۱ - تفسير القرآن العظيم لابن كثير ۔ روح المعاني ـ للآلوسي
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٤- أنوار التنزيل وأسرار التأويل - للبيضاوي ه الكشاف ـ للزمخشرى
٦- مفردات القرآن - للراغب الأصفهاني
- تفسير القرآن الكريم - للشيخ محمد عبده
فتح البارى بشرح صحيح البخارى ـ لابن حجر العسقلاني
۹ صحيح الإمام مسلم
١٠ - المستدرك على الصحيحين - للحاكم النيسابوري ۱۱ - المسند ـ للإمام أحمد بن حنبل
۱ - صحيح ابن حبان
١٣۔ الجامع الصحيح - للإمام الترمذى
١٤ - سنن أبي داود
١٥- سنن ابن ماجه
١٦ - سنن النسائي
۱۷ - سنن الدارمی
۱۸ - السنن الكبرى للبيهقي
٢٥٨۔
۱۹ - شعب الإيمان - للبيهقى ۰ ـ المعجم الكبير - للطبراني ۱ - المصنف - لابن أبي شيبة
٢٢- الأم - للإمام الشافعي ٢٣ - الرسالة - للإمام الشافعي
٢٤ - السيرة النبوية - لابن هشام
٢٥ - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني
٢٦ - الطبقات الكبرى لابن سعد ۷ ـ معجم الأدباء - لياقوت الحموي
۸ ـ إخبار العلماء بأخبار الحكماء - للقفطى
۹ ـ الفكاهة - للزبير بن بكار
٣٠ ـ الشوقيات ـ لأحمد شوقي
٣١ - إحياء علوم الدين - للإمام أبي حامد الغزالي ٣٢- المنقذ من الضلال ـ للإمام أبي حامد الغزالي ٣٣ ـ تهافت الفلاسفة ـ للإمام أبي حامد الغزالي ٣٤ ـ حي بن يقظان ـ لابن طفيل
٣٥ ـ الإشارات والتنبيهات - لابن سينا
٣٦ - فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال - لابن رشد
- الرعاية - للمحاسبي
۳۸ - فهم القرآن - للمحاسبي
٢٥٩۔
٣٩ - لطائف الإشارات - للقشيري ٤٠ ـ الجمهورية - لأفلاطون ٤١ ـ الفلسفة اليونانية - لألبير ريفو ٤٢ - تاريخ الفلسفة الغربية - لبرتراند رسل
٤٣ ـ تاريخ الفلسفة اليونانية - ليوسف كرم ٤٤ ـ المشكلة الأخلاقية والفلاسفة - لأندريه كريسون
٤٥ ـ الأخلاق وعلم العادات ـ لليفي بروهل
٤٦ ـ الرد على المنطقيين - للإمام ابن تيمية
٤٧ ـ الفتاوى - للإمام ابن تيمية ٤٨ ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل - للإمام ابن حزم ٤٩ ـ الدين والوحى والإسلام - للشيخ مصطفى عبدالرازق ٥٠ ـ قصة النزاع بين الدين والفلسفة - للدكتور توفيق الطويل ٥١ ـ بناء الإنسانية - لبريفولت
٥٢ - تجديد التفكير الدينى فى الإسلام - للدكتور محمد إقبال ٥٣ ـ محاضرات فى العلوم عند العرب - للدكتور عبد الحليم
منتصر
٤ ٥ ـ دائرة المعارف الإسلامية
٥٥ـ مجلة الرسالة الإسلامية - وزارة الأوقاف بالعراق
-٢٦٠
الصفحة
11
۳۳
۳۸
٥١
OV
1
٦٧
۱۰۷
۱۱
محتويات الكتاب
الموضوع
مقدمة
الفصل الأول
موقف الإسلام من الفن ١- ونبدأ بالشعر
٢- الأدب نشراً
٣- التصوير
- التصوير الفوتوغرافي
ه رأى أفلاطون
٦- إيضاح حول الفن للفن
۷ ـ الخلط بين المذاهب الفنية والأدبية وبين المذاهب
الاقتصادية والاجتماعية المتصلة بتصور العقيدة
الفصل الثاني
موقف الإسلام من العلم
۱ - دائرة العلم في الإسلام
٢ - العلم الذي يدعو إليه الإسلام - أهداف الرسالة الإسلامية
٤ - منزلة العلم في الإسلام عن طريق القصص ه - الطريق المباشر لبيان مكانة العلم في الإسلام
٦ - فضل العلم الديني ثمرة الحث على العلم
٢٦١۔
۱۱
۱۸
۱۳۵
۱۳۷
١٤٥
١٤٧
١٥٢
١٥٩
١٦٧
۱۷۹
۱۸۱
۱۸۸
۱۹۰
۱۹۹
۰۳
۱۹
٢٥٨٠
٢٦١
أسطورة التعارض بين الإسلام والعلم
- المناهج العلمية بين الإسلام والحضارة الحديثة
١٠ - إجمال في موقف الإسلام من العلم
١١- العلم في الدائرة الصوفية الفصل الثالث
موقف الإسلام من الحضارة الحديثة ١- الآراء المختلفة
٢- الشطر الأول من الحضارة القسم المادى ٣- الشطر الثاني من الحضارة القسم الثقافي
٤ ـ ما يتعلق بالتشريع الفصل الرابع
موقف الإسلام من الفلسفة
١ - البشرية تسير في طريق الخطأ منذ سقراط
- ليس كل دراسة فلسفة محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة ٤- الجو الذي نشأت فيه الفلسفة سمات الفلسفة
- منهج الفكر الفلسفي
خاتمة في الفلسفة
الفصل الخامس
الأساس الذى تنبثق منه الأخلاق في الإسلام
* مراجع الكتاب
٢٦٢-
فهرس محتويات الكتاب
كثيراً ما يلتبس على بعض الناس المفهوم الحقيقى لزاوية من زوايا الثقافة وكثيراً ما يلتبس عليهم أيضاً موقف الدين من جانب من جوانبها
ومن أجل إحياء المفاهيم الإسلامية كان هذا الكتاب الذي يتناول بالتحليل العميق علاقة الدين ببقية موضوعات المعرفة موضحاً بالتفصيل موقف الإسلام من الفن بأنواعه المختلفة وأيضاً موقف الإسلام من العلم وأهداف الرسالة الإسلامية ومنزلة العلم في الإسلام وفضل العلم الديني وثمرة الحث على العلم وأسطورة التعارض بين الإسلام والعلم والمناهج العلمية بين الإسلام والحضارة الحديثة والعلم فى الدائرة الصوفية وأيضاً موقف الإسلام من الحضارة الحديثة بقسميها المادى والثقافي وما يتعلق بالتشريع وأيضاً موقف الإسلام من الفلسفة وبيان أن البشرية تسير فى طريق الخطأ من سقراط والسمات الحقيقية للفلسفة والجو الذى نشأت فيه الفلسفة ومنهج الفكر الفلسفي ومحاولات التوفيق بين الدين والفلسفة ويختم الكتاب فصل عن الأخلاق الإسلامية والأساس الذي تنبثق منه
الأخلاق في الدين الإسلامي
ودار الرشاد إذ تقدّم إلى القراء في مصر والعالم العربي والإسلامى هذا الكتاب المهم موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة لفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود تدعو الله العام القدير أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به المسلمين في سائر أرجاء أمتنا الإسلامية الناهضة
من الفن والعلم والفلسفة
الناشر
دار المصارف
عصام رشاد