300
الإمام
الدكتور عبد الحليم محمود
قضية التصوف
المنقذ من الضلال
دار المعارف
الدكتور
عبد الحليم محمود
قضية التصوف المنقذ من الضلال
الطبع
ة الخامسة
-2008
دار المعارف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل مخلوق وخير مبعوث وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين
قال تعالى
واصبر
نفسك
ربهم
بالغداة والعشى يريدون وجهه الذين يدعون مع
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
أغفلنا قلبه عن
صدق الله العظيم
التصوف والحياة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين وبعد
فإن من الحقائق التي لا مرية فيها أن الإنسان لا يتأتى له أن يلج باب الله أو يسير في الطريق إليه إلا بالعبودية الخالصة لله وحده لا شريك له
فإذا ما تمخضت العبودية لله سبحانه وأصبح الإنسان من عباد الله
المخلصين وحقق بذلك إياك نعبد وإياك نستعين - فإن ا لا يجعل للشيطان عليه من سبيل
الله
سبحانه
إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ۱ ويعترف إبليس بأنه عاجز عن أن يضل من حقق العبودية الصادقة الله
سبحانه فيقول
فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين رکھے
١ الإسراء ٦٥
ص آية ۸ ۸۳
ويقول
رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك
منهم المخلصين ۳
وإذا ما حقق الإنسان العبودية لله فإن الله يتولاه بالإمداد بالمعرفة إنه
سبحانه يقول عن موسى وفتاه
علماً و
فوجدا عبداً
٤
من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا
إنه حقق العبودية فكان ثمرة ذلك أن يغمره الله بالرحمة وأن يفيض
عليه العلم
وليست المعرفة وحدها هي ثمرة التحقق بالعبودية بل إن للتحقق بالعبودية
ثماراً كثيرة سامية
فأيوب عليه السلام يقول الله عنه
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث
وجدناه صابراً
نعم
العبد إنه أواب 0
ولقد حقق سيدنا رسول الله الي العبودية كاملة تامة
لقد حققها في ذروتها فكانت صلاته وكانت نسكه وكانت حياته بأكملها وكان موته لله رب العالمين لا شريك له
۳ الحجر ٣٩ ٤٠
٤ الكهف ٦٥
٥ ص آية ٤١ - ٤٤
A
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له
وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين كي ٦
لقد حققها موفورة تامة فآتاه الله عز الدنيا والآخرة
وبمتابعة الرسول الله والاقتداء به سار الصوفية على الدرب يقول صاحب عوارف المعارف
عن
الصوفي هو الذى يكون دائم التصفية لا يزال يصفى الأوقات شوب الأقدار بتصفية القلب عن شوائب النفس ويعينه على هذه التصفية
دوام افتقاره إلى مولاه فبدوام الافتقار ينقى من الكدر وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه فبدوام تصفية جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى
كونوا قوامين الله شهداء بالقسط
V
۸
وهذه القوامية لله على النفس هى التحقيق بالتصوف ۸
ويقول في موضع آخر والصوفى يضع الأشياء مواضعها ويدبر الأوقات والأحوال كلها
بالعلم يقيم الخلق مقامهم ويقيم أمر الحق مقامه ويستر ما ينبغي أن يستر ويظهر ما ينبغي أن يظهر ويأتى بالأمور في مواضعها بحضور عقل
وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص
1 الأنعام ١٦٢ ١٦٣
۷ المائدة ٨
۸ عوارف المعارف حـ ١ ص ۰۸ بتحقيقنا
۹ عوارف المعارف حـ ١ ص ۳ بتحقيقنا
b
لقد أخذ الصوفية أنفسهم بالتأسى بالرسول عل فيما دق من الأمور وما وضح منها وفى اليسير من أعمالهم والعظيم منها ومن أمثلة ذلك
في الجهاد
ولا يتأتى أن نذكر تاريخاً مفصلا لجهاد الصوفية الحربى ولكننا نكتفى هنا ببعض الأمثلة
مصرعه
كان شقيق البلخى وهو من قمم الصوفية الشامخة يسارع إلى خوض المعارك لا يبالى على أى كان في الله جنب انظر إليه خائضاً المعارك محارباً العدو مسلحاً بإيمانه وثقته في الله وعدته الحربية شاهراً سيفه فارساً بكل ما تتطلبه كلمة الفروسية من معنى هادئاً مطمئنا كامل الثقة في الله
ولقد وصلت ثقته بالله إلى حد أنه وهو لا يرى إلا سيوفاً مصلتة ورقاباً تقطع ورءوساً تتساقط - يقول لمن بجواره في هذا الجو كيف ترى نفسك أترى نفسك في سعادة تشبه سعادتك في الليلة التي زفت فيها امرأتك
إليك فأجابه الذي بجواره لا والله فقال شقيق لكنى والله أرى نفسى في هذا اليوم مثلها في الليلة التي زفت فيها امرأتى إلى لقد كان سعيداً بجهاده ومات شهيدًا فى معركة الشرف والبطولة في ساحة الحرب والجهاد
وشخص آخر – هو من قمم الصوفية أيضاً - إنه حاتم الأصم كان
يدخل المعارك ويخوضها فى غير خوف ولا فزع وما كانت نفسه تطير شعاعاً من الأبطال وما كان يقول لها لن تراعى لقد كان كيانه كله في ثقة مطلقة بالله - وهذه الثقة تتمثل أجمل ما يكون المثل حينما أخذوه أسيراً وطرحوه أرضاً وجثم العدو على صدره ليذبحه
إنه يصف شعوره وهو فى هذه الحالة فيقول
لم يشتغل به قلبى بل كنت أنظر ماذا يحكم الله تعالى في فبينما هو يطلب السكين التي يذبح بها أصابه سهم فقتله وقمت سليماً معافى قام سليماً معافى ليعاود المعركة من جديد
وإذا قفزنا في ساحة الزمن قفزة واسعة فوصلنا إلى معركة المنصورة
فإننا نجد كبار المؤمنين وصفوة الصوفية فى قلب المعركة
لقد تركوا بيوتهم وأسرهم وهبوا مندفعين إلى المنصورة ليساهموا في النصر والاستشهاد في سبيل الله ولتكون الجنة تحت ظلال سيوفهم ولقد كان - وهذا له أهميته الخاصة - أبو الحسن الشاذلى وهو من صفوة الصفوة الصوفية قد تجاوز الستين وكان قد كف بصره ومع ذلك فإنه ترك بيته وذهب إلى المنصورة مساهماً في المعركة بقدر استطاعته
لقد كانت المعركة شغله بالنهار وشغله بالليل لقد كانت تشغله مستيقظاً فيمر بسمته الوقور وبهيبته المستمدة من تقواه وبالنور يشرق من وجهه بين الجنود مشجعاً حانا مبشرًا بالنصر وبالجنة فإذا ما جنه أخذ يبتهل إلى الله سبحانه وتعالى متضرعاً خاشعاً راجياً التوفيق والنصر للأمة الإسلامية
الليل
وفى ليلة من الليالي رأى رسول الله - في رؤيا طويلة وأصبح رضى
الله عنه يبشر بالنصر
ولم تكن هذه هي الموقعة الأولى
رضي الله عنه -- ولم تكن الأخيرة
التي أسهم فيها أبو الحسن الشاذلى
وإذا ما قفزنا مرة أخرى - في ساحة الزمن – قفزة واسعة فإننا نلتقى
بالصوفى الشهير عبد القادر الجزائري
كان من كبار الصوفية ومن كبار القادة فى الحرب ولقد حارب الاستعمار في الجزائر وفعل بإيمانه القوى وصوفيته العميقة الأعاجيب في الشجاعة
والإقدام
ولقد بدأ الحرب بأفراد قلائل سرى إيمانه وإقدامه فيهم فتمثلت فيهم الشجاعة في أسمى مظاهرها وأخذ عددهم يزداد شيئاً فشيئاً على مر
الأيام
فكانت
أما أسلحتهم فقد كانت ما يحصلون عليه من أسلحة العدو ولقد وجه الأمير عبد القادر النداء تلو النداء للأمة الإسلامية من أجل العون المالى والإنسانى ومن أجل العون فى العتاد المساعدات التي قدمت إليه مخجلة يندى لها الجبين ولم تشعر الأمة الإسلامية بأنها أمة واحدة وكأنها لم تسمع ولم تقرأ قول
الله سبحانه وتعالى
1
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون اي ١٠
وقوله تعالى
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون كي
۱۰ الأنبياء ٩٢
۱۱ المؤمنون ٥٢
11
۱
إن الأمة الإسلامية لم تتجاوب معه تجاوب الإخوة وكأنها لا تشعر بقوله
تعالى إنما المؤمنون إخوة
۱
ولا تحس بالإحساس الإسلامى
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ۱۳ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ١٤
ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى
ولم يثن كل ذلك الأمير عبد القادر عن متابعة الحرب والكفاح ضد
المستعمر وحينما أسر كرمه الأعداء أنفسهم لشجاعته وشهامته ومروءته
ولما حالت الظروف القاهرة بينه وبين الجهاد والتضحية الحربية – وذلك بعد مكث في دمشق يدرس التصوف متخذاً الفتوحات المكية
الأس
سر
--
كتابه المفضل في الشرح والتفسير ولقد طبع هذه الفتوحات وفى أثناء إقامته بدمشق ألف كتاب المواقف وهو كتاب فى التصوف عريق بين فيه وجهة النظر الصوفية في مختلف الموضوعات
في التزام الشريعة
أما فيما يتعلق بالتزام الشريعة فإننا نبتدئ بذكر كلمة للإمام الكامل الفقيه الأصولى المفسر الإسفراييني صاحب كتاب التبصير في
۱ الحجرات ١٥
۱۳ مسلم
١٤ البخاري
الدين وهو من أئمة أهل السنة المعنيين أشد عناية بالرد على كل
يخالف مذهب أهل السنة
إنه يذكر ما يمتاز به أهل السنة عن غيرهم من الخوارج والروافض
والقدرية فيذكر أن سادس ما امتاز به أهل السنة هو
علم التصوف والإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة
وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمى من مشايخهم ما يقرب من ألف وجمع إشاراتهم وأحاديثهم ولم يوجد في جملتهم قط من ينسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض والخوارج وكيف يتصور فيهم من هؤلاء وكلامهم يدور على التسليم والتفويض والتبرى من النفس والتوحيد بالخلق والمشيئة وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة والخلق والتقدير إلى أنفسهم
وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد بعد هذا نبدأ في النظر إلى طريق التصوف وصلته بالشريعة
يقول الإمام الغزالي
4
إن الطريق إلى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة أو محو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك
كان الله هو المتولى لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب
6
١٤
الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد
إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة
6
الإرادة الصادقة مع
والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة هذا الطريق يقول ابن خلدون
وعن
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم
من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية وفى فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى رضى عنهم كثير منها وتبعهم فى ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم
هذا فيما يتعلق بالطريق
أما فيما يتعلق بالموضوع والشعور والأحوال فإن الصوفية – على وجه العموم - نبهوا في صور حاسمة إلى وجوب التزام الشريعة يقول الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه
به
من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله فهو يدعى
ويقول
إذا لم يواظب الفقير على حضور الصلوات الخمس في الجماعة فلا تعباً
ومن أجمل كلماته في هذا قوله
ما ثم كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة فمن أعطيهما وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب أو ذو خطا في العلم والعمل بالصواب كمن أكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إلى سياسة
۱۵
الدواب وخلع الرضا
وكل الصوفية ينهجون هذا النهج ومن هؤلاء مثلا أبو يزيد البسطامي
الذى يقول فى قوة حاسمة وفى نطق صادق
لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتقى في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء
الشريعة
ولقد تحدث الإمام الجنيد أكثر من مرة فيما يتعلق بالصلة بين التصوف
والشريعة ومما قاله في ذلك
الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول الله
6
واتبع سنته ولزم طريقته
وقال أيضا
من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به فى هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة
ولقد كان الإمام الغزالي في سلوكه وفى قوله وفى حياته الخاصة
والعامة يلتزم الشريعة ويقول إن المحققين قالوا لو رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشى على الماء وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع فاعلم أنه شيطان والواقع أن المثل الأعلى للصوفية على بكرة أبيهم إنما هو رسول الله وهم يحاولون - باستمرار - أن ينهجوا نهجه وأن يسيروا على منواله فهو إمامهم الأسمى فى كل ما يأتون وما يدعون وهم يتابعونه مهتدين في ذلك
ال
يقول الله سبحانه وتعالى
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم
وذكر الله كثيراً كم
وبعد فقد تبينا مما سبق أن الطريق إلى الله هو التحقيق بالعبودية وقد
سار الصوفية في هذا الطريق فأثمر لهم ثماراً سامية كثيرة
منها الجهاد
ومنها التزام الشريعة
وماذا بعد ذلك
أما عن الصوفية والعلم فإن الصوفية يمثلون العلم الإسلامي في قمته في جميع فروعه في الفقه وفى التفسير وفى الحديث وفي الأخلاق وإذا أردنا أن نتحدث عن القمة العلمية الشامخة التي لا تضارع فيما اجتمع لديها من علوم مدروسة مرواة محكمة فيها الإتقان والاستنتاج المتبصر والتبصر المتابع والاتباع الواعي أعنى شخصية الشيخ الأكبر محيى الدين فإن الحديث عنها يستغرق مجلدات
وإن مقارنات مؤرخى الفكر بين الشيخ الأكبر وغيره من الغربيين والشرقيين تصعد به إلى القمة
والشيخ الأكبر يذكر دائماً بحجة الإسلام الغزالي الذي جمع في إحيائه أربعين كتاباً كل منها له استقلاله وله ذاتيته وألف منها – في
إحكام محكم - كتابه إحياء علوم الدين ولقد انهار تحت قلمه في سهولة ويسر عباقرة الفكر الفلسفي فتهافتوا
وانهاروا وأتى عليهم كتابه النفيس تهافت الفلاسفة
وأخمد حجة الإسلام بدعة الفلسفة وعبث الفلسفة في الشرق
الإسلامي
وللإمام الغزالى أكثر من ثمانين كتاباً ورسالة في الأصول والفقه
والتوحيد والفلسفة والتصوف
ولاتزال كتبه تقرأ أو تتداول عليها دائماً طابع النضرة طابع الخلود والصورة الجميلة في الصوفية – في الأغلب الأعم - هي صورة
الجنيد
لقد كان الكتاب اللغويون والأدباء يحضرون مجلسه لألفاظه
والفقهاء لتقريره
والفلاسفة لدقة نظره ومعانيه
والمتكلمون لتحقيقه
والصوفية لإشاراته وحقائقه
يقول صاحب الرسالة القشيرية عنه
وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتى فى حلقته بحضرته وهو ابن
عشرين سنة
ويروى صاحب الرسالة القشيرية عن أبى الحسين على بن إبراهيم الحداد يقول حضرت مجلس القاضى أبي العباس بن شريح فتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه فلما رأى إعجابي
قال أتدري من أين هذا
قلت يقول به القاضى
فقال هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد
وإذا ذكر الجنيد ذكر أستاذه الحارث المحاسبي وقد كان الحارث مثقفاً فى الدين والعربية كأحسن ما يكون المثقف لقد كان فقيهاً وكان محدثاً وكان متكلماً وكان عالماً في الأخلاق وكان صوفيا ولقد دخل - في قوة كل المشاكل التي وجدت في عصره باحثاً مرشداً مجادلا هادياً إلى الحق والحق في نظره هو ما كان عليه الرسول ال وأصحابه
وألف المحاسبي الكثير من الكتب في شتى مجالات العلوم وليأخذ الإنسان أى صوفى من هؤلاء الذين ذكرهم السلمي في طبقاته أو الذين ذكرهم القشيري فى رسالته أو الذين تحدث عنهم صاحب الحلية فسيجد أنهم قوم اتخذوا من العلم عبادة وعكفوا على
D
الذي
دراسته تقرباً إلى الله سبحانه وما كان علم الكتب هو غايتهم الأخيرة وإنما مع علم الكتب كان طموحهم إلى العلم الوهبي العلم الذى يمنحه الله لبعض عباده العلم سافر موسى عليه السلام سفرة شاقة مجهدة ليلتقى في نهايتها مع عبد من عباد الله تعالى علمه الله من لدنه علماً يقول سبحانه عن موسى وفتاه فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا
علماً
وهو علم يمنحه الله لمن حقق له العبودية
ولأن هذا العلم - وهو مطمحهم الأخير لا يتأتى إلا بإخلاص العبودية لله لأن إخلاص العبودية لله لا يتأتى إلا بأن يكون الاستغراق في العمل صلاة وذكراً وصياماً من الأسس الجوهرية في حياة الإنسان فإنهم
۱۹
اتجهوا في صورة موفقة إلى العمل لقد أخذوا الكتاب بقوة وكانوا أتقياء فأفاض الله عليهم من إلهاماته واتسم ما دونوه بطابع الروحانية واتسم بالنضرة وكان طابعه أن يزكو على مر الزمن
0
والصورة الحية المثالية للثمار إلهاماتهم هى كتاب إحياء علوم الدين لحجة الإسلام وكتاب الحكم لابن عطاء الله ولقد كان لكتبهم الأثر الكبير الواضح في الهداية على مر العصور
وقد يتساءل قوم وماذا عن العمل والضرب في الأرض واكتساب
الرزق
وأبتدئ في هذا الموضوع بذكر بعض ألقاب الصوفية
القصار الوراق الخرّاز الخواص البزاز الحلاج الزجاجي
الحصرى الصيرفى المقرئ الفراء
وهذه ألقاب مأخوذة من مهن كانت لهم
ولقد كان الصوفية كغيرهم منهم الفقير ومنهم الغنى ومنهم العازف عن الثراء العريض ومنهم أصحاب الثروات الضخمة التي يؤدون فيها حق الله وينفقون منها فى سبيله إنهم يؤتون حق
المال حصاده يوم
ول وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وهذا مثلا أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه وهو من صفوة الصفوة الصوفية كانت له مزارع
ونقول مزارع بالجمع لنتابع فى هذا التعبير حديث المؤرخين عنه
وكان له حصاد ودراس وكانت له ثيران وكان يتاجر
ومن دعائه المشهور
اللهم وسع على رزقى فى دنياي ولا تحجبني بها عن أخراى ومن دعائه بشأن الدنيا
اللهم اجعلها في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا والفرق بين الصوفية وغيرهم فى هذا هو أن الدنيا لا تستعبدهم وإنما
تستعبد غيرهم إنهم لا يلقون بقيادهم إلا لله سبحانه وتعالى فلا يلقون بقيادهم إلى مال أو جاه أو منصب أو رياسة أو غير ذلك مما يذل له أهل الدنيا وأهل الأهواء الذين يتخذون دنياهم وأهواءهم آلهة يعبدونها من دون الله إنهم أغنياء أو فقراء تحققوا بقوله تعالى
لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم
و ابن عطاء الله السكندرى يقص فى كتابه الجميل لطائف المنن قصة ترى صوفى تحقق بالآية القرآنية الكريمة فلم يمنعه ثراؤه الضخم
العريض أن يكون صوفيا
يقول ابن عطاء الله
قال بعض المشايخ كان رجل بالمغرب من الزاهدين في الدنيا ومن أهل الجد والاجتهاد وكان عيشه مما يصيده من البحر وكان الذي يصيده يتصدق ببعضه ويتقوت ببعضه فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الشيخ إذا دخلت إلى بلد كذا فاذهب إلى أخى فلان فأقرئه مني السلام
وتطلب الدعاء منه لى فإنه ولى من أولياء الله تعالى
قال فسافرت حتى قدمت تلك البلدة فسألت عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلح إلا للملوك فتعجبت من ذلك وطلبته فقيل لى هو عند السلطان فازداد تعجبى وبعد ساعة وإذا هو آت في أفخر ملبس ومركب وكأنما هو ملك في موكبه
قال فازداد تعجبى أكثر من الأول
قال فهممت بالرجوع وعدم الاجتماع به ثم قلت لا يمكننى مخالفة
الشيخ
فاستأذنت فأذن لى فلما دخلت رأيت ما هالني من العبيد والخدم
والشارة الحسنة فقلت له
أخوك فلان يسلم عليك
قال جئت من عنده
قلت نعم
قال إذا رجعت إليه قل له
إلى كم اشتغالك بالدنيا وإلى كم إقبالك عليها وإلى متى لا تنقطع
رغبتك فيها
فقلت هذا والله أعجب من الأول فلما رجعت إلى الشيخ قال
اجتمعت بأخي فلان
قلت نعم
قال فما الذي قال لك
قلت لا شيء
قال لابد أن تقول لى
فأعدت عليه ما قال فبكى طويلا وقال
صدق أخي فلان هو غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده وعلى
ظاهره وأنا أخذها من يدى وعندى إليها بقايا التطلع ا هـ وفى نهاية هذه الكلمة نورد صورة لشخصية صوفية متكاملة وإن كانت
مشهورة نوردها عن الطبقات الكبرى للشعراني في اختصار يقول الإمام الشعراني - عن هذه الشخصية الصوفية – رضي الله عنه ومنهم شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الإمام الصالح الورع الزاهد شمس الدين الديروطى ثم الدمياطى الواعظ كان في الجامع الأزهر أيام السلطان قانصوه الغورى وكان رضى الله عنه مهاباً عند الملوك والأمراء ومن دونهم زاهداً ورعاً مجاهداً صائماً قائماً آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر وقد حضرت مجلس وعظه في الجامع الأزهر مرات فرأيته مجلساً تفيض فيه العيون وكان إذا تكلم أنصتوا بأجمعهم وكان يحضرها أكابر الدولة وأمراء الألوف فكان كل واحد يقوم من مجلسه متخشعاً صغيراً ذليلا رضى الله عنه وكان إذا مرَّ في شوارع مصر يتزاحم الناس على رؤيته وكان من لم يحصل ثوبه رمى بردائه من بعيد على ثيابه ثم يأخذ رداءه فيمسح به على وجهه رضى الله
عنه
6
حط مرة على السلطان الغورى فى ترك الجهاد فأرسل السلطان خلفه فلما وصل إلى مجلسه قال للسلطان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - فلم يرد عليه – فقال إن لم ترد السلام فسقت وعزلت فقلت وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ثم قال
علام تحط علينا بين الناس فى ترك الجهاد وليس لنا مراكب نجاهد فيها
فقال عندك المال الذي تعمر به فطال بينهما الكلام فقال الشيخ
للسلطان
ه قد نسيت
نعم
الله عليك وقابلتها بالعصيان - أما تذكر حين كنت
نصرانيا ثم أسروك وباعوك من يد إلى يد ثم من الله عليك بالحرية والإسلام ورقاك إلى أن صرت سل
الذي لا ينجح
يدس
سلطانا على الخلق وعن قريب يأتيك المرض
فيه طب ثم تموت وتكفن ويحفرون لك قبراً مظلماً ثم أنفك هذا فى التراب ثم تبعث عريان عطشان جوعان ثم توقف بين
يدى الحكم العدل الذى لا يظلم مثقال ذرة ثم ينادى المنادى من كان له حق أو مظلمة على الغورى فليحضر فيحضر خلائق لا يعلم عدتها إلا الله تعالى فتغير وجه السلطان من كلامه فقال كاتب السر وجماعة السلطان الفاتحة يا سيدى الشيخ خوفاً على السلطان أن يختل عقله فلما ولى الشيخ وأفاق السلطان قال ائتونى بالشيخ فعرض عليه عشرة آلاف دينار يستعين بها على بناء البرج فى دمياط فردها عليه وقال أنا رجل ذو مال لا أحتاج إلى مساعدة أحد ولكن إن كنت أنت محتاجاً أقرضتك وصبرت عليك فما رؤى أعز من الشيخ فى ذلك المجلس ولا أذل من السلطان فيه هكذا كان العلماء العاملون وقد صرف على عمارة البرج بدمياط نحو
أربعين ألف دينار ولم يساعده فيها أحد إنما كان يعقد الأشربة ويتاجر في الخيار شنبر ونحوه رضى الله عنه ولم يأخذ قط معلوم وظيفة من وظائف الفقهاء وكان ينفر طلبته من أكل أوقاف الناس وقبول صدقاتهم ويخبرهم أنها تسود وجه قلوبهم رضى الله عنه وله مصنفات
٢٤
منها شرح منهاج النووى فى الفقه وشرح الستين مسألة وكتاب القاموس في الفقه وشرح قطعة من الإرشاد لابن المقرى رضى الله عنه وكان متواضعاً مع من قرأ عليهم القرآن وهو صغير ولم يصده ما وصل إليه من العلوم والمعارف والشهرة عن ذلك ولقد رأيته مرة راكباً فنزل وقبل يد أعمى تقوده ابنته فقلت له من هذا فقال هذا أقرأنى وأنا صغير حزبين من القرآن رضى الله عنه فما أقدر قط أن أمر عليه وأنا
راكب
توفى رضى الله عنه في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وله من
العمر نيف وخمسون سنة رضى الله عنه ودفن بزاويته بدمياط ودفن عنده
عنه
الأخ العزيز العارف بالله تعالى سيدى أبو العباس الحريثي رضى الله وبعد فلعلنا بذلك قد أزلنا بعض الشبه التى تحوم حول الصوفية بسبب
الجهل
بهم والله الهادى إلى الصواب ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط
مستقيم
- لفظاً
الفصل الأول التصوف
- وتعريفاً
- وطريقاً
- ومصادر
- ونشأة
- ولمحة عامة عنه
حول كلمة تصوف
١ - يروى عن أحد الصالحين أنه كان يمتنع عن التحدث فيما يتعلق بشخصه ولو أمكنه أن يلغى سيرته الشخصية من أذهان الناس ولو أمكنه أن يلغى اسمه لفعل راضياً مغتبطاً ذلك أن التسمية والجانب الشخصي الفردي في الإنسان لا قيمة لهما إذا نظرنا إلى الآفاق العليا من الروحانية
الله
عن
ومما يتلاءم مع هذا الاتجاه قول بعض الصوفية ما معناه إن طائفة الصوفية لو تنزهت عن الفردية والشخصية لنزههم التسمية تنزيهاً مطلقاً ولكن لما شابت الفردية أعمال بعضهم وضع لهم اسم واندرجوا تحت عنوان الصوفية
وسئل الشبلى رضی الله عنه لم سمیت الصوفية بهذا الاسم
فقال
هذا الاسم الذى أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه ولم
ينته الرأى فيه إلى نتيجة حاسمة بعد
ومن أقدم الآراء التي قيلت وأطرفها ما ذكره البيرونى من أن هذا اللفظ إنما هو تحريف لكلمة سوف اليونانية التي تعنى الحكمة يقول البيرونى
إن من اليونانيين من كان يرى الوجود الحقيقى للعلة الأولى فقط لاستغنائها بذاتها فيه وحاجة غيرها إليها وأن ما هو مفتقر فى الوجود إلى غيره فوجوده
كالخيال غير حق والحق هو الواحد الأول فقط وهذا رأى السوفية وهم الحكماء فإن سوف باليونانية الحكمة وبها سمى الفيلسوف بيلا سويا أي محب الحكمة
ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سموا باسمهم ویری البيرونى أن التصحيف دخل هذا الاسم بعد ذلك فقال
مفسراً ومعللا ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم – للتوكل إلى الصفة وأنهم أصحابها في عصر النبي عل الله
بعد
ثم صحف بعد ذلك فصير من صوف التيوس
6
ورأى البيرونى هذا على طرافته لا يستقيم لسبب بسيط وهو أن التسمية بالصوفى كانت موجودة قبل ترجمة الحكمة اليونانية إلى اللغة العربية فالبيرونى يقول في صراحة
ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سموا باسمهم ورأى البيرونى إذن لا يستقيم إلا على أن هذا اللفظ نشأ في الإسلام أن عرفت الكلمة اليونانية وعرف معناها وتداولتها الألسنة ولاكتها الأفواه وألفت معناها العقول أى حوالى منتصف القرن الثالث الهجري على أقل تقدير مع أن الكلمة عرفت قبل ذلك بكثير بل لقد عرفت في العهد الجاهلى على ما يرى صاحب اللمع ولكن إذا كان رأى البيرونى لا يستقيم فإلام نتجه في اشتقاق هذه
الكلمة
8
إن الآراء أصبحت معروفة بل لقد كانت معروفة من قديم الزمان
وصاحب الرسالة القشيرية يستعرضها رأياً رأياً وينقضها جميعاً
۱ - فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما
يقال تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه
ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف
٢ - ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفى
٣ - ومن قال إنه من الصفاء
فاشتقاق الصوفى من الصفاء بعيد فى مقتضى اللغة
- وقول من قال إنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى المعنى صحيح
ولكن اللغة لا تقتضى هذه النسبة إلى الصف
وإذا كان صاحب الرسالة القشيرية ينتقد كل هذه الآراء فإنه إذن لا يرى الاشتقاق ويقول هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال رجل صوفى وللجماعة صوفية ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف وللجماعة المتصوفة
وليس يشهد للاسم - من حيث العربية - قياس ولا اشتقاق والأظهر فيه
أنه كاللقب لقد استعرضنا الآراء التي قيلت في هذا الموضوع قديماً فهل يا ترى هناك
من جديد
٢ - ما رأى الباحثين الحديثين فى أصل كلمة تصوف
يقول الشيخ عبد الواحد يحيى
أما أصل هذه الكلمة صوفى فقد اختلف فيه اختلافاً كبيراً ووضعت فروض متعددة وليس بعضها أولى من بعض وكلها غير مقبولة إنها في الحقيقة تسمية رمزية وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية الحروفها وإنه لمن الرائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف صوفى تماثل القيمة العددية الحروف الحكيم الإلهى فيكون الصوفى الحقيقى إذن هو الرجل الذى وصل إلى الحكمة الإلهية إنه العارف بالله إذ أن الله لا يعرف إلا به وتلك هي الدرجة العظمى الكلية فيما يتعلق بمعرفة الحقيقة
D
D
وهو
رأى
وقد انفرد الشيخ عبد الواحد يحيى فيما نعلم بهذا الرأى لا يمكن أن ينقض بالأدلة المنطقية ولكنه لا يمكن أيضاً أن يؤيد بالأدلة المنطقية يستسيغه قوم دون برهان وينفر منه آخرون من غير ما حجة وإذا تركنا الشيخ عبد الواحد لننظر إلى الباحثين في هذه اللفظة فإننا
نجدهم ينقسمون إلى فريقين لا ثالث لهما
يجارى فريق منهم أبا الريحان البيرونى فى أنها مأخوذة عن أصل يوناني هو كلمة سوفيا اليونانية
وقد قال بهذا الرأى فون هامر من المستشرقين
واعتنقه كثير من
الأساتذة الباحثين
وأيده في حرارة محمد لطفى جمعه
أما السبب الذي جعلهم ينصرفون عن نسبة الكلمة إلى الصوف فهو إنهم يعتقدون أن نسبتها إلى الصوف يبعد الصوفية عن الحكمة الإلهية وينسبها إلى الظاهر والشكل وعلى حد تعبير محمد لطفى جمعه يجرد
هذه الفرقة المنتمية إلى الإسلام من صفة الحكمة والفضيلة وقد بينا رأينا في هذا الموضوع فيما مضى ونقول الآن إن أصحاب هذا الرأى يعطون قوة وتأييداً لمن يزعم
D
أن التصوف
الإسلامي وليد الفلسفة الأفلاطونية وهو رأى باطل ولقد هاجم الدكتور زكي مبارك هذا الرأى في قوة وفى منطق سليم لقد كان العرب - حسما يرى - مولعين بحفظ ما يدخل لغتهم من الألفاظ ولو كان التصوف من سوفيا لنصوا عليه في كثير من
الأجنبية
المؤلفات
ثم إن كلمة سوفيا اليونانية معناها الحكمة وكانت الفلسفة عند اليونان القدماء تهتم بالعلوم الطبيعية وكان كثير من فلاسفتهم أطباء وقد ترجمتها العرب فسموا الطب الحكمة وكلمة حكيم لاتزال تؤدى طبيب والفلسفة نفسها سماها العرب و الحكمة وقالوا تاريخ
معنی
كلمة
الحكماء
D
فهم عرفوا من سوفيا الفلسفة والطب أما الحكمة الروحانية فمن البعيد أن يكونوا لمحوها لأنهم كانوا يرون اليونان من عبدة الأوثان ثم يقول الدكتور زكي مبارك فى ظرف ظريف وفى صورة من الجد هي تعبر أبلغ التعبير عن التهكم والسخرية على أنه ما الذي يمنع أن تكون سوفيا بمعنى الحكمة الروحانية جاءت من كلمة صوف وهي قديمة فى العربية
قضية التصوف المنقذ من الضلال
۳۳
إن التصوف قديم جدا عند العرب وهو أساس المسيحية ولبس الصوف كان علامة التقشف فليس من المستبعد أن ترحل كلمة صوف إلى معابد اليونان
D
ولم يبق بعد ذلك إلا أن يكون هذا الرأى على حد تعبير الدكتور زكي مبارك ليس إلا ضرباً من الإغراب
أما الفريق الثانى من الباحثين الحديثين - وهم أكثرية – فإنه يرى أن كلمة تصوف مأخوذة من الصوف
- إنني أرى - كما ترى الغالبية العظمى من الباحثين الحديثين - أن لفظة التصوف تنتسب إلى الصوف وكما أنه يقال تقمص إذا لبس القميص - كذلك يقال تصوف إذا لبس الصوف ومن أبرز القائلين بهذا الرأى المرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق والمرحوم
D
الدكتور زكي مبارك والمستشرق مرجليوث وإذا كانت الكلمة تنتسب إلى الملبس - وهو مظهر وشكل ورسم -
فليس
معنى ذلك أن التصوف مظاهر وأشكال وليس من المحتم دائماً أن يكون المعنى الأصلى للاسم هو المراد مما وضع الاسم له إذ المعنى الأصلى قد يتطور ويتغير ويختلف وقد يقصد عكسه ومن أجل ذلك فإنه لا مجال لتخوف هؤلاء الذين لا يريدون أن ينسبوا التصوف إلى الصوف بحجة أن انتسابه إلى المظاهر يحط من شأنه
حقيقة أن الباحثين كثيراً ما يجدون صلة وثيقة بين المعنى الأصلى للاسم وما وضع الاسم له أو بين الاسم والمسمى ولكن ذلك ليس مطرداً
والواقع
أن التصوف معنى معروف لا شأن له بالمظاهر والأشكال وإذا كان بعض الأشخاص لا يزالون يمارون في قيمته أو فائدته فإنهم لا يتخذون التسمية تكأة لهذه الماراة ولو فرضنا أنهم اتخذوها تكأة لخرجوا عن سمت الباحثين ولأصبحوا سخرية للساخرين
على أنني أرى - كما يرى كثير غيرى وكما يثبت التاريخ - أن هذه الكلمة تصوف لم توضع فى الأصل للتصوف بمعناه العادي الذي نفهمه الآن وإنما وضعت في المبدأ لتدل على نمط من العزوف عن الدنيا إنها كانت علامة
تمشياً
الزاهدين والمتنسكين فسمى بها هؤلاء الذين انصرفوا عن الدنيا إن العزوف عن الدنيا عادة قديمة جدا يتمسك بها بعض الناس فكرة دينية وإرضاء لشعور تنسكي وقد حدثنا القرآن عن هؤلاء الذين يترهبون ابتغاء رضوان الله ويتمذهب بها بعض الناس إرضاء لفكرة منطقية واتباعاً لمذهب عقلى أن السعادة في الهدوء والهدوء لا يتأتى إلا بتحديد الرغبات والبعد عن
یری
الشهوات وذلك هو الزهد
وسواء أكان العزوف عن الدنيا دينا أم كان منطقاً فإنه موجود منذ أقدم
العصور
فالدين صاحب الدنيا منذ نشأة الإنسان فيها
والمنطق صاحب الإنسان منذ وجوده
ولقد رأى هؤلاء الزهاد - من ناحية الملبس - فى الصوف ما يحقق أهدافهم التي تتصل بالتقشف والشظف والخشونة فهو متين رخيص خشن لا يحتاج الإنسان معه فى الشتاء إلى غيره ولا يحتاج إلى تغييره كثيراً ذلك أنه
لا يبلى بسرعة فتصوفوا أى لبسوا الصوف
وكان لابد من اسم يطلق على هؤلاء وكان من السهولة بمكان أن يطلق عليهم صوفية وأطلق الاسم مصادفة أو تعمداً فذاع وشاع ! وأصبح الزهاد
يعرفون - في البيئات العربية - باسم ! الصوفية
هؤلاء الزهاد ! كانوا موجودين فى العصر الجاهلي تديناً أو منطقيا وكانوا صدر الإسلام تديناً أو منطقياً ! حتى إذا كانت رابعة وكان
موجودین
في
الجنيد وكان ذو النون حتى إذا ذاع التصوف وانتشر ممثلوه عازفين عن الدنيا لابسين الصوف أطلقت الكلمة عليهم
ولم يميز الناس بين حالتين مختلفتين كل الاختلاف هما حالة الزهد البحت وحالة التصوف ولم يثر الصوفية على التسمية في حد ذاتها ومن لم
يرض منهم نسبتها إلى الصوف ذهب في نسبتها مذاهب أخرى وإذا كانت الكلمة تنتسب إلى الصوف فهي كلمة موفقة كل التوفيق ولعل عناية المقادير هى التى هيأت لها الجو للظهور والشيوع إذ أنها تمت بصلة حرفية نغمة جرسية إلى كثير من الكلمات التي تدل على معان وثيقة الصلة بالمتصوف كالصفاء وصلته بالتصوف ظاهرة
والصف الصف الأول فى الجهاد جهاد العدو وجهاد النفس
والصفة صفة مسجد رسول الله ع التي كان يعيش فيها قوم وهبوا
أنفسهم للجهاد
والصفة الصفة الجميلة
وسوفيا اليونانية التي تدل على معرفة الغيب على وجه الخصوص
٣٦
وكان من التوفيق أيضاً هذا الغموض نفسه في أصل الكلمة فما من
شك في أن اختلاف المذاهب والآراء فى أصلها يبين الكثير من معانى
التصوف ومن مظاهره
وبالله التوفيق
تعريف التصوف
۱ - يتجه الكثير من الناس - في تعريف التصوف - إلى الجانب الأخلاق وهذا الاتجاه شائع عند الصوفية أنفسهم وعند غيرهم من الباحثين في التصوف والمؤرخين له ونذكر الآن عدة أمثلة نتبين منها هذا الاتجاه
يقول أبو بكر الكتاني المتوفى سنة ٢٣٣ هـ
ه التصوف خلق فمن زاد عليك فى الخلق فقد زاد عليك في
الصفاء
وتروى الرسالة القشيرية أن أبا محمد الجريري المتوفى سنة ٣١١هـ
سئل عن التصوف فقال
و الدخول في كل خلق سَنى والخروج من كل خلق دنى وأحد تعريفات و أبي الحسين النورى للتصوف – كما تذكره تذكرة الأولياء ينفى عن التصوف أن يكون رسماً أو علماً ويحدده بأنه خلق إنه يقول
ليس التصوف رسماً ولا علماً ولكنه خلق ثم يعلل ذلك بقوله لأنه لو كان رسماً لحصل بالمجاهدة ولو كان علماً لحصل بالتعليم ولكنه تخلق بأخلاق الله ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم ويحدد أبو الحسين الثورى - في تعريف آخر - الأخلاق التي يتكون منها
التصوف فيقول
۳۸
التصوف الحرية والكرم وترك التكلف والسخاء هذا الاتجاه الأخلاقى فى تعريف التصوف شائع في الشرق وفى الغرب وهو - أيضاً - شائع فى الزمن القديم وفى الزمن الحديث ومع ذلك فإنه يعبر عن التصوف تعبيراً دقيقاً
لا
على أن هؤلاء الذين ذكروا هذه التعاريف الأخلاقية للتصوف ذكروا
تعاريف أخرى وذلك - أنفسهم
--
على الأقل – يدل دلالة لا لبس
والواقع
فيها على أنهم لم يروا كفاية الجانب الأخلاق في تحديد التصوف وتعريفه أننا لو نظرنا إلى كثير من الأشخاص الذين اشتهروا بالسمو في الجانب الأخلاقى الكريم واتصفوا بأروع الصفات الأخلاقية واتخذوا الفضيلة مذهباً وشعاراً فإننا نجدهم أشخاصاً مثاليين في المحيط الأخلاقي وفى
المجتمع
ولكن ليس معنى ذلك أنهم لا محالة من الصوفية
ولو نظرنا في البيئة اليونانية لوجدنا داعية إلى الفضيلة ومتمذهباً بها ومحاولا نشرها بشتى الوسائل وبمختلف الطرق سواء أكان ذلك بالدعوة الإقناعية أو بالمنطق الجدلى أو بالأسوة الكريمة ذلك هو سقراط ومع ذلك فإن سقراط هذا لم يكن صوفيا بالمعنى الدقيق لكلمة صوفى وإذا انتقلنا إلى البيئة الإسلامية فإننا نجد الحسن البصري رضي الله عنه من أروع وأجمل الشخصيات الأخلاقية العالمية لقد كان مثلا صادقاً للشعور الأخلاقي في طهره وصفائه وكان ينشر الفضيلة بوعظه المؤثر
ومنطقة القوى وسلوكه المثالى ومع ذلك فلم يكن الحسن البصرى صوفيا بالمعنى الدقيق لكلمة صوفى
۳۹
على أنه من الطبيعي أن تكون الأخلاق الكريمة أساساً من أسس التصوف وأن تكون الأخلاق فى أسمى صورة من صورها ثمرة للتصوف ومن الطبيعى أيضاً أن تكون الأخلاق الكريمة شعار الصوفى فيما بين الأساس والثمرة فهى إذن ملازمة للتصوف وللصوفى ملازمة تامة لا تتخلى
عنه ولا يتخلى عنها ولكن ليس معنى ذلك أنها هی التصوف ٢ - وهناك اتجاه أكثر شيوعاً من الاتجاه السابق هو تعريف التصوف بـ الزهد
وحينما يسمع كثير من الناس كلمة التصوف يفهم منها معنى
الزهد ولا يفهم من كلمة صوفى إلا الزاهد في الدنيا وما من شك في أن الصوفى لا يتعلق قلبه بالدنيا ولو كان عنده الآلاف والملايين بيد أن الزهد في الدنيا شيء والتصوف شيء آخر ولا يلزم عن كون الصوفى زاهداً أن يكون التصوف هو الزهد
C
٣ - ويخلط كثير من الناس بين الصوفى والعابد فإذا ما رأوا أو سمعوا عن شخص كثير العبادة قالوا عنه إنه صوفى ولا ريب أن الصوفى كثير العبادة ولكنك قد تجد أشخاصاً كثيرين
"
يقيمون الصلوات المفروضة ويكثرون من النوافل ويداومون على العبادة ولا يكون معنى ذلك أنهم من الصوفية ولخلط الناس بين الزاهد والعابد والصوفى حاول ابن سينا أن يفرق
بينهم
وبين أهداف كل منهم يقول في كتابه الإشارات
- المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد ٢ - المواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص
باسم العابد
- المنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحق في
سره يخص باسم العارف
و العارف عند ابن سينا هو الصوفى
ويتحدث ابن سينا - كما يذكر غيره - أن الزاهد قد يكون عابداً والعابد قد يكون زاهداً فيمتزج الزهد والعبادة في شخص واحد ولا يكون بعبادته وزهده معاً صوفيا
ولكن الصوفى لا محالة زاهد عابد
على أن هناك تفرقة حاسمة بين زهد الصوفى وعبادته وبين زهد غير
الصوفى وعبادته
وهذه التفرقة إنما هى فى الهدف أكثر منها في الأسلوب والمنهج ولقد تحدثت السيدة رابعة العدوية رضى الله عنها عن هذا بأسلوب مؤثر وتحدث غيرها والكل يتفق على أن زهد غير الصوفى إنما هدفه الاستمتاع في الآخرة فهو نوع من المعاملة كأنه يشترى بمتاع الدنيا متاع
الآخرة أما الصوفى فإنه يزهد فى الدنيا لأنه يتنزه عن أن يشغله شيء
عن
الله
وعبادة غير الصوفى هدفها دخوله الجنة كأنه يعمل في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هى الأجر والثواب فمثله كمثل الأجير يعمل طيلة النهار ليأخذ أجره في المساء أما عبادة الصوفى فإنها استدامة لصلته بالله تعالى إنه يعبد الله لأنه
مستحق العبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة
٤١
وتقول السيدة رابعة رضوان الله عليها ما معناه اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فألقنى فيها وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك
فاحرمنيها وإن كنت أعبدك لوجهك الكريم فلا تحرمنى من رؤيته
هذه المعانى الخاصة بأهداف الزهد والعبادة - من حيث كونهما لوجه الله -
إنها معان عادية عند الصوفية وكأنها بدهية في محيطهم وفي جوهم واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه والتصوف إذن ليس خلقاً فحسب ولا زهداً فقط ولا عبادة لا غير وهو وإن كان متضمناً للخلق الكريم والزهد الرفيع والعبادة المتجردة فإنه مع كل ذلك شيء آخر وكلمة أخيرة قبل أن نفرغ إلى تعريف التصوف إن الذين يربطون بين التصوف من جانب والكرامات وخوارق العادات من جانب آخر كثيرون ولكن التصوف ليس كرامات ولا خوارق العادات إنه شيء يتجاوز الكرامات ويتجاوز خوارق العادات إن هذه الكرامات مسألة لا يأبه بها الصوفية كثيراً بل يعدونها من الأشياء اليسيرة التى تبعث السرور فى قلب من يجريها الله على يديه ولكنه إذا فرح بها واكتفى تدل على أنه لم يبلغ بعد فى التصوف قدماً ثابتة ولا درجات ممتازة ٤ - ما هو إذن التعريف الصحيح للتصوف
نذكر الآن بعض التعريفات التى تتجه الوجهة الصحيحة فيما يتعلق بالمعنى
الحقيقى لهذا الموضوع
۱ - أبو سعيد الخراز المتوفى سنة ٢٦٨ هـ
سئل عن الصوفى فقال
٤٢
الله
من صفى ربه قلبه فامتلأ قلبه نوراً ومن دخل في عين اللذة بذكر
- الجنيد البغدادي المتوفى سنة ٢٩٧ هـ
التصوف هو
أن يميتك الحق عنك ويجيبك به
۳ - أبو بكر الكتاني المتوفى سنة ٣٢٢هـ
التصوف صفاء ومشاهدة
- جعفر الخلدى المتوفى سنة ٣٤٨هـ
التصوف طرح النفس فى العبودية والخروج من البشرية والنظر إلى
الحق بالكلية
وسئل الشبلى عن التصوف فقال
بدوه معرفة الله ونهايته توحيده
وإذا نظرنا إلى تعريف الكتاني فإننا نجد أن عبارته المختصرة قد جمعت
بين جانبين هما اللذان - فيما نرى - يكونان - في وحدة متكاملة – تعريف
التصوف
أحدهما وسيلة
والثاني غاية
أما الوسيلة فهي الصفاء
وأما الغاية فهى و المشاهدة
والتصوف من هذا التعريف طريق وغاية
وطريقه يتضمن نواحي كثيرة تشير إليها تسميته نفسها ولعل ذلك من الأسرار التي كانت السبب فى هذه التسمية واتخاذها عنوانًا على هذه الطائفة
٤٣
لقد قال جماعة إنما سميت صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها
وقال بشر بن الحارث الصوفي من صفا قلبه الله وقال بعضهم الصوفى من صفت الله معاملته وصفت له من الله عز وجل كرامته وهؤلاء يهدفون إلى أن كلمة الصوفية إنما تشير إلى الصفاء وهذه
الإشارة لا تخضع لمقاييس اللغة وما دامت إشارة فإنه من التعسف أن يجادل إنسان في أمر انسجامها اللغة
مع
6
وعدم انسجامها
ويقول قوم إنهم إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدى الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم
بين يديه
وهؤلاء إنما يعبرون عن إشارة الصوفية إلى الصف أى إلى الصف الأول
في العمل على الوصول إلى الله والجهاد في سبيله أما إشارة الكلمة إلى أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله إنما تشير إلى أوصافهم من العبادة والتهجد وعدم الطمع في
الدنيا واستعدادهم الدائم للجهاد في سبيل الله وتشير الكلمة للصفة أى الصفة الكريمة التي لا يتعلق فيها القلب بالمادة وإنما يتعلق بالله تعالى
وكل ذلك إنما هو حديث عن الوسائل
على أن هذه الوسائل التي تشير إليها الكلمة لها وسائل أخر هذه الوسائل الأخر منها ما يعبرون عنه بقولهم لا يملكُ ولا يُملك
ويعنون بذلك أنه لا يسترقه الطمع
وهذه الكلمة لها مدلول واسع هو أن يتحرر الإنسان من الدنيا حتى ولو ملكها عريضة طويلة يتحرر من الجاه من الانغماس في الملذات من الجرى وراء المال من حب السلطان من حب الترف من الصفات التي تتنافى مع الفضيلة
وخاتمة المطاف في هذه الوسائل أنها تؤدى إلى الصفاء فإذا ما حل الصفاء كان عند الإنسان استعداد كامل للمشاهدة فيجود الله عليه بها إن
شاء
هذه المشاهدة هی أسمى درجات المعرفة وهى الغاية النهائية التي يسعى وراءها ذوو الشعور المرهف والفطر الملائكية والشخصيات الربانية
فالتصوف إذن معرفة - أسمى درجات المعرفة بعد النبوة – إنه مشاهدة وهو
طريقة إلى المشاهدة
وإذا أردنا أن نلجأ إلى الإمام الغزالى فى تلخيص الطريق والغاية فإننا
نجده يقول في كتابه الخالد إحياء علوم الدين
الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله المتولى لقلب
عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم
وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية
فإذا ما حصل ذلك كانت المشاهدة
ومن القصص اللطيفة التي تصور الوسيلة إلى المشاهدة في سهولة ويسر
القصة التالية
قال و ذو النون
رأيت امرأة ببعض سواحل الشام
فقلت لها
من أين أقبلت رحمك الله
قالت
من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً
قلت
وأين تريدين !
قالت
إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
قلت
صفيهم لى فأنشأت تقول
قوم همومهم بالله قد
علقت فها لهم همم تسمو إلى أحد
فطلب القوم مولاهم وسيدهم یا حسن مطلبهم للواحد الصمد ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف من المطاعم والملذات والولد ولا للبس ثياب فائق أنق ولا لروح سرور حل في بلد إلا مسارعة في إثر منزلة قد قارب الخطو فيها باعد الأبد فهم رهائن غدران وأودية العدد وفى الشوامخ تلقاهم مع
والمشاهدة التى هى الغاية للصوفية هى أيضاً تحقيق واقعى للتعبير الذي
٤٦
ننطق به في كل آونة حيثما نقول
أشهد أن لا إله إلا الله
فالشهادة هي غاية الصوفى وهو إنما يسعى جاهداً إليها بشتى الوسائل
ليحقق بالفعل مضمون ما يلفظ به قولا أو ما يقوله حروفا وما من شك في أن تعاريف التصوف الكثيرة التي نجدها منثورة هنا وهناك والتي تكاد تبلغ الألف إنما تعبر في أغلب الأحايين عن زاوية من زوايا التصوف تتصل بالوسيلة أو تتصل بالغاية فلا يمكن أن يقال عنها إذا ما كانت كذلك إنها خطأ تام ولكن الخطأ إنما هو في أخذها على أنها تعبر عن الحقيقة الكاملة أما ما يعبر عن الحقيقة الكاملة فإنما هو تعريف
الكتانى التصوف صفاء ومشاهدة
٤٧
الطريق الصوفي
المقامات والأحوال
إن الصوفية لهم طريق روحي يسيرون فيه !
وهذا الطريق يعتمد أساساً ومنهجاً وغاية على القرآن الكريم والسنة النبوية
الشريفة
وقد ذكرنا في غير هذا الفصل بعض كلمات لكبار الصوفية تؤكد وتوضح اعتمادهم على القرآن الكريم فى سيرهم إلى الله تعالى وهذا الطريق قد جربه الصوفية فثبتت ثماره عن طريق التجربة أيضاً
وجوهر الطريق الصوفى هو ما سماه الصوفية المقامات والأحوال والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فيها فترة من الزمن مجاهدا في إطارها حتى يهيئ الله سبحانه وتعالى له سلوك الطريق إلى المنزل الثاني لكى يتدرج فى السمو الروحى من شريف إلى أشرف ومن سام إلى أسمى وذلك مثلا كمنزل التوبة الذى يهيئ إلى منزل الورع
و منزل الورع يهيئ إلى منزل الزهد وهذا حتى يصل الإنسان إلى منزل المحبة وإلى منزل الرضى
وهذه المنازل لابد لها من جهاد وتزكية ولذلك يقولون عنها إنها
مكتسبة
إنها اجتهاد في الطاعة ومواصلة فى التسامى في تحقيق العبودية لله
سبحانه !
٤٨
أما الأحوال فإنها النسمات الروحية التى تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة ثم تمر تاركة عطراً تتشوق الروح للعودة إلى تنسم أريجه وذلك مثل الأنس بالله
وسواء أكنا بصدد المقامات أم بصدد الأحوال فإن الصوفية قد اختلفوا فيها بين مجمل لها ومفصل
ولكن الملاحظ أنهم - فى وصف المقامات والأحوال – لا يتعارضون واختلافهم إذن ليس اختلاف تناقض وتعارض وإنما هو اختلاف بسط وإيجاز
ويقول الإمام أبو نصر السراج الطوسى عن المقامات
D
والمقامات مثل التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والرضى
والتوكل وغير ذلك ۱
ويقول عن الأحوال
وأما معنى الأحوال فهو ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء
الأذكار !
وقد حكى عن الجنيد رحمه الله أنه قال الحال نازلة تنزل بالقلوب
فلا تدوم
ويقول الطوسي أيضاً
وليس الحال عن طريق المجاهدات والعبادات والرياضات - كالمقامات التي ذكرناها وهى - أى الحال - مثل المراقبة والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والطمأنينة والمشاهدة
١ اللمع ٦٦
٢ اللمع ٦٦
واليقين وغير ذلك ۳
ويقول الإمام القشيرى عن المقامات
والمقام ما يتحقق به العبد بمنازلته - أى بنزوله فيه وبما اكتسب له - من الآداب مما يتوصل إليه بنوع تصرف ويتحقق به بضرب تطلب ومقاساة
تكلف
فقام كل أحد موضع إقامته عند ذلك وما هو مشتغل بالرياضة له وشرطه ألا يرتقى من مقام إلى مقام آخر مالم يستوف أحكام ذلك المقام فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل ومن لا توكل له لا يصح له وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة ومن لا ورع له لا يصح له
التسليم
الزهد ٤
ويقول عن الأحوال
والحال عند القوم معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب واكتساب لهم من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو
شوق أو انزعاج أو هيبة أو احتياج
فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب !
والأحوال تأتى من عين الجود والمقامات تحصل يبذل المجهود وصاحب المقام ممكن فى مقامه وصاحب الحال مترق عن حاله ٥
۳ نفس المصدر السابق
٤ الرسالة القشيرية ٢٣٤
٥ الرسالة القشيرية ٢٣٦
حب
الله ورسوله
وهذا الطريق - الصوفى الذى نتحدث عنه - يستند إلى مقياس يزن به نفسه وهو الاقتداء برسول الله ولا يتأتى الاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه ما لم يملأ حب رسول الله الله جميع أقطار النفس ونبدأ إذن بالحديث عن حب رسول الله الله
يقول الله تعالى
وقل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين ٦
عبد
وفى معنى الآية الكريمة يروى الإمام البخارى رضى الله عنه عن
الله بن هشام قال كنا مع رسول الله له وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال والله يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي !
فقال رسول الله
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه
فقال عمر
فأنت الآن أحب إلى من نفسى !
فقال رسول الله الآن يا عمر
وقول الرسول لا الآن يا عمر أي الآن وقد صار الرسول ع
٦ التوبة ٢٤
أحب إليك من نفسك فقد استقامت أمور الإيمان عندك وصرت إلى ما أحب الله ورسوله
ومحبة رسول الله لا تتضمن كشرط أساسى جوهری اتخاذه قدوة في السلوك والعمل والدرجة الجوهرية في القدوة به علا إنما هي متابعته في إسلام وجهه الله سبحانه وتعالى
لقد باع رسول الله الله نفسه وماله لله سبحانه وكان أول البائعين وكان أمثل البائعين وحقق بذلك وحقق أصحابه ومن اتبع هديه متأسين به قول الله تعالى
و إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز
ومن
أوفى
العظيم "
V
لقد اشترى الله في عقد الإيمان النفس والمال بثمن هو الجنة فإذا بخل
المؤمن بنفسه في سبيل الله فقد أخل بعقد الإيمان
وإذا بخل بماله في سبيل الله فقد أخل بعقد الإيمان وحب رسول الله - إذن - إنما هو إيثار ما يحب واتباع هديه والعمل بسنته في الإيجاب وإيثار كل ذلك على الآباء والأبناء وغيرهم مما يحبه الإنسان من أشخاص أو من أشياء وفى هذا يقول رسول الله الله فيما رواه الإمام البخاري رضى الله عنه ه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده
۷ التوبة ۱۱۱
۵
وولده والناس أجمعين
فحب رسول الله الا الله مرجعه إلى صفات كريمة سامية عليا تمثلت فيه
ا طيلة حياته والآية الكريمة والأحاديث الشريفة التي رويناها تدل كلها دلالة صريحة على أنه إذا تعارضت أمور الدين مع المصلحة الشخصية أو مع أمور الدنيا فإنه يجب على المؤمن أن يؤثر أمور الدين على غيرها يقول الإمام الرازي ه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع
مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا
أما
بعد
فيقول صاحب الكشاف عن الآية الكريمة التى صدرنا بها هذا الحديث
ما معناه
وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم
الله
من نفسه هل يجد عنده من التصلب فى ذات الله والثبات على دين ما يجعله يؤثر دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله أم أن الشيطان يغويه من أجل حظ من حظوظ الدنيا فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ثم أما بعد فإن الحب الصادق له الله يتمثل حقيقة في المحاولة الصادقة لالتزام
صفاته علل الله في النفس والعمل على سيادتها في المجتمع
٥٣
الأسوة الحسنة وحب رسول الله الا الله يستلزم لا محالة التأسى به يقول الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً م ۸ إن الأسوة برسول الله لا خير ما يحقق النجاة في الدنيا والآخرة فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو المثل الكامل الواقعي التطبيقي للدين الإسلامي !
إنه الصورة الحية للقرآن الكريم وفى ميسور كل إنسان الاقتداء توافرت فيه ثلاث شروط بينتها الآية الكريمة
یبینه
الله سبحانه بقوله
به إذا
أولها أن الله ورجاء الله يرجو فمن كان لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه يرجو
۹
أحداً 1 فتحقق الرجاء في الله أن يخلص الإنسان وجهه الله في العبادة وأن يكون من ذوى الأعمال الصالحة وإلا كان رجاؤه فى الله شكلا لا حقيقة له وظاهراً لا جوهر له
أما الذين لا يرجون لقاء الله فيصفهم الله تعالى بقوله
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ١٠
٥٤
۸ الأحزاب ۱
٩ الكهف ١١٠
۱۰ یونس ۷ - ۸
وهؤلاء لا نصيب لهم في الاقتداء برسول الله له حيث لم يتوافر فيهم
شرط رجاء الله سبحانه
والشرط الثاني أن يرجو الإنسان اليوم الآخر
ورجاء اليوم الآخر هو رجاء النجاة فيه
ورجاؤه إذن إنما هو بالعمل للنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى
الله بقلب سليم
لا ومن
نصيب
يرجو اليوم الآخر فليس له فى الاقتداء برسول الله له من
أما الشرط الثالث الذى يجب أن يتوافر فى الإنسان حتى يتأتى له الاقتداء برسول الله فهو أن يذكر الإنسان الله كثيراً
وقد حدد الله الذكر بالكثرة ونص عليها سبحانه والذكر الكثير من المتدينين حقاً
سمات
والتدين والذكر الكثير من سمات أصحاب العقول الراجحة الذين يذكر الله سبحانه أن من صفاتهم التفكر للعظة والاعتبار في خلق السموات والأرض ومن صفاتهم الذكر فى جميع حالاتهم التى هم عليها وذلك كله على أساس من الإيمان الخالص
يقول الله تعالى في أسلوب رائع وفى معان تتسلسل نورا وتتلألأ ضياء إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا
٥٥
سمعنا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر
عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم
11
القيامة إنك لا تخلف الميعاد "
ويعقب الله على ذلك بقوله
فاستجاب لهم ربهم !
وبعد
فإنه إذا توفرت في الإنسان هذه الشروط فقد أصبح جديراً بالتأسى برسول الله الله وأصبح بذلك من الذين يحبونه والمرء مع من أحب !
التوبة
وإذا أراد الإنسان أن يتأسى برسول الله فيحاول أن يقترب ما
استطاع من
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له كه إذا أراد الإنسان أن يدخل في معنى الإسلام كيف يبدأ
ما
هي الخطوة الأولى
ما الطريق ثم إلى أين
ما
هی الثمرة المرجوة وما هو النفع الذي يعود عليه من ذلك
إنه يبدأ الدخول في النظام القرآني !
والدخول في النظام القرآنى معناه العزم المصمم على التخلي عما ليس
بقرآنی
۱۱ آل عمران ١٩٠ - ١٩٤
٥٦
وهذا ما يسمى فى العرف الإسلامي أو في النظام القرآنى
التوبة !
ولقد أمر الله في القرآن بالتوبة وحث عليها وحبب فيها وأوجبها في بعض الأحيان
والواقع أنها اللبنة الأولى إلى الله وهي اللبنة الأولى في طريق إسلام الوجه لله يقول أبو يعقوب يوسف بن حمدان السوسي رحمه الله أول مقام من مقامات المنقطعين إلى الله تعالى التوبة وسئل السوسي عن التوبة فقال
التوبة الرجوع من كل شيء ذمه العلم إلى ما مدحه العلم ولقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه تفضلا منه ورحمة يقول حديث قدسي وفى أسلوب كله رأفة
سبحانه
يا عبادي إنك تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً
فاستغفروني أغفر لكم
ويقول رسول الله
كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
وما من شك فى أن توبة العوام - كما يقول ذو النون رضى الله عنه - هي من الذنوب وأما توبة الخواص فإنها من الغفلة وتصل التوبة في سموها فتكون مما سوى الله تعالى ورسول الله لا يخبر أن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبة عبده المؤمن ويعرفنا رسول الله له أن ربنا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا عند ثلث الليل الأخير فينادي ألا هل من مستغفر فأغفر له ألا هل من تائب فأتوب عليه
ويقول الله سبحانه وتعالى فى صورة من تجلى الرحمة وسعة من شمول الرأفة
بالعباد
قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن
الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ويلى هذه الآية الكريمة ما يبين الطريق إلى المغفرة والرحمة يقول سبحانه
وتعالى
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا
تنصرون
أى ارجعوا إلى الله بالتوبة وإسلام الوجه له ثم بين لهم الطريق الصحيح الذى يلى التوبة إذا صدقت بقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون والله سبحانه وتعالى في هذا يوجه الذين صدقوا في توبتهم إلى أن يتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم وإذا صدقت التوبة فإن هذا الصدق يستتبع – كلازم من لوازمه – أن يستقيم الإنسان على الطريق والله سبحانه يسد على الذين يبين لهم الطريق باب المعاذير فيما بعد مهدداً تهديداً يقصد به حث الإنسان على أن يسارع بالتوبة الصادقة فهو تهديد من
رحمن رحيم !
۵۸
يقول سبحانه
أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن
الساخرين أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين أو تقول – حين ترى العذاب - لو أن لى كرة فأكون من المحسنين فإذا ما قال الإنسان ذلك أو تعلل بأمثاله فإن الرد يأتيه من رب العزة بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من
الكافرين ثم يبين الله سبحانه وتعالى حال الكافر والمؤمن يوم القيامة فيقول القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم
و يوم
مئوى للمتكبرين وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا
يحزنون
والآن قد وضح الطريق ! فهو
أولا التوبة
وثانياً اتباع أحسن ما أنزل الله
السوء ولا هم
يمسهم
ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم - متابعة للأوضاع الإسلامية - يبدعون أعمالهم الهامة بالتوبة الخالصة النصوح لقد كانوا يبدءون شهر رمضان بالتوبة ويبدءون الحج بالتوبة والرحلة المباركة رحلة الإسراء والمعراج بدأت بشق الصدر الصدر بالنسبة لنا إنما هو التوبة الخالصة النصوح لأن التوبة تطهر وطهر وإذا تاب الإنسان فإن ذلك يكون بمثابة إتيان ملكين يشقان عن صدر
وشق
الإنسان ويغسلانه بالثلج والبرد أو بماء زمزم أي يطهرانه إن التوبة تطهر الإنسان من المعصية إنها تجب ما قبلها أي تزيله
و تمحوه
۵۹
والتوبة التى من هذا المط لها شروط لابد من توافرها حتى تهيئ
الإنسان لشق الطريق إلى الله تهيئة موفقة !
يقول الإمام النووى في رياض الصالحين
قال العلماء التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد
وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمى فلها ثلاثة شروط
أحدها
يقلع عن المعصية
والثاني أن يندم على فعلها
والثالث أن ألا يعود إليها أبداً
يعزم
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمى فشروطها أربعة
هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه وإن كانت
غيبة استحله منها
عند
ويجب أن يتوب من جميع الذنوب فإن تاب من بعضها صحت توبته أهل الحق من ذلك الذنب وبقى عليه الباقى وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة هذا فيما يتعلق بالتوبة
وبقى الحديث فيما يتعلق باتباع أحسن ما أنزل الله ! وأتباع أحسن ما أنزل الله يبدأ بما كان يبدأ به رسول الله مع الداخلين في الإسلام أعنى مواد البيعة ومن المبايعات التي بايع عليها رسول الله على أصحابه ما كان قبل فتح
٦٠
مكة بل قبل الهجرة إلى المدينة كما فى بيعة العقبة فيها قال الرسول الله لمن حضر من الأنصار - فيما ذكره ابن إسحاق -
بايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصرونى فتمنعونى إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة
قال
ومن
هذه المبايعات ما كان بعد هذه البيعة
روی البخاری بسنده عن عبادة بن الصامت أن رسول الله الله وحوله عصابة من أصحابه -
--
بايعونى على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا بهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن
شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك
وقد تحدث القرآن الكريم عن بيعة النساء يقول تعالى
يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور
رحیم ہے۔
وكانت هذه البيعة عقب فتح مكة بعد بيعة الرجال ويتحدث ابن
جرير عن هذه البيعة فيقول
٦١
ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة الرسول على الله على الإسلام فجلس لهم على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه فأخذ على الناس السمع والطاعة
لله ولرسوله فيما استطاعوا فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء قائلا بايعني على ألا تشركن بالله شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصيني في
معروف
ثم قال العمر
ه بايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم
"
وروى عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال بايعت رسول الله الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل
مسلم
الورع
وإذا صدقت التوبة استلزمت لا محالة الورع
والورع هو أن يترك الإنسان كل ما فيه شبهة
ولا نتحدث عن ترك الحرام وذلك أن التوبة الصادقة إنما هي – أولا وبالذات - توبة عن الحرام كل الحرام
وتوجيه رسول الله مع - متناسقاً في ذلك مع القرآن – كثير مستفيض فيما يتعلق بالورع من ذلك ما أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول
ه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير
من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع
ملك
في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل وإن في الجسد مضغة إذا حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى
القلب ۱
ومن ذلك ما رواه الحسن بن على رضى الله عنهما قال حفظت من رسول الله دع ما يريبك إلى مالا يريبك رواه الترمذى وقال حديث حسن صحيح ويقول الإمام النووى معناه اترك ما تشك فيه وخذ مالا تشك فيه وعن عطية بن عروة السعدى الصحابي رضى الله عنه قال قال رسول الله
ه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به
بأس ۱۳
والورع يكون في الحديث والقلب والعمل
أما في الحديث فإنه التورع عن اللغو بجميع ضروبه إنه ترك كلمات الفضول وترك كل حديث ليس من شأنه إلا قطع الوقت دون فائدة أو ثمرة
والورع في الحديث ليس سهلا ويقول فيه الإمام القشيري
الورع في المنطق أشد
منه في الذهب والفضة
ولا تدخل الغيبة والنميمة فيا نحن فيه وذلك أننا في مستوى لا ينزل إلى
۱ متفق عليه
۱۳ ورواه الترمذي وقال حديث حسن
٦٣
مستوى الآثام والذنوب
والورع في القلب هو عدم انشغاله بالتوافه من الخطرات ويتسامى الورع في القلب حتى يصل إلى ما يقوله الإمام الشبلي وهو من كبار أئمة
التصوف
الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله أما الورع في الأفعال فإنه يتضمن التحرى فيما يتعلق بالمأكل
والمشرب والملبس حتى يكون كل ذلك من حلال طيب ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يتحرون في ذلك ما استطاعوا وذلك أن النور في القلب والصفاء في العبادة والتيسير فيما يأتى الإنسان وفيما يدع كل ذلك له علاقة قوية بطيب المطعم والمشرب والملبس والجو الإسلامي كله يحث على ذلك ومن الأحاديث النبوية الشريفة التي تجمع بين توجيه القرآن الكريم وتوجيه الرسول متناسقاً القرآن مع الكريم ما يلي عن ابن عباس قال تليت هذه الآية عند النبي يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيباً فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى
مستجاب الدعوة فقال يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام فى جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به
أبي وعن هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله
ه أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين فقال
لله يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إنى بما تعملون
علیم کیا ہے۔ وقال
يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك لأئمتنا في هذا الجانب قصص منها ما يلى
وتروى
يقول أبو على الدقاق
كان و الحارث المحاسبى إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة ضرب على رأس
غير
حلال
أنه إصبعه عرق فيعلم وقال إن بشراً الحافى دعى إلى دعوة فوضع بين يديه طعام فجهد أن يمد يده إليه فلم تمتد ففعل ذلك ثلاث مرات فقال رجل يعرف ذلك
منه
إن يده لا تمتد إلى طعام فيه شبهة ما كان أغنى صاحب هذه الدعوة أن
يدعو هذا الشيخ ! كلمات لأئمتنا في الورع
يقول القشيري
أما الورع فإنه ترك الشبهات ويقول إبراهيم بن أدهم
قضية التصوف المنقذ من الضلال
ه الورع ترك كل شبهة وترك مالا يعنيك وقال أبو سليمان الداراني
الورع أول الزهد كما أن القناعة طرف من الرضا
ويقول يحيى بن معاذ
D
الورع على وجهين ورع فى الظاهر وهو ألا يتحرك إلا الله تعالى
وورع
في الباطن وهو ألا يدخل قلبك سوى الله تعالى ودخل و الحسن البصري مكة فرأى غلاماً من أولاد على بن أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس فوثب عليه الحسن وقال له
ما ملاك الدين فقال الورع فقال له فما آفة الدين فقال
الطمع
فتعجب و الحسن منه
الزهد
يقول الإمام أبو نصر سراج الطوسي
والورع يقتضى الزهد
ويقول والزهد مقام شريف وهو أساس الأحوال الرضية والمراتب السنية وهو أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل والمنقطعين إلى الله والراضين عن الله والمتوكلين على الله تعالى فمن لم يحكم أساسه في الزهد لم يصح له شيء مما بعده لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة والزهد في الدنيا
וי
رأس كل خير وطاعة ١٤
ومسألة الزهد من المسائل التي كثر الجدل في تحقيق مفهومها وكثر الجدل
فيها قبولا ورفضاً
وجوهر
المناقشات يتركز حول امتلاك المال والثراء العريض أهو مقبول
أهو مكروه ما هو موقف الدين من ذلك
وإذا كان الثراء العريض لا يتفق مع الأجواء الدينية فكيف ملك بعض كبار الصالحين الثروات الكبيرة
كيف ملك الأنبياء عليهم السلام الأموال والضياع مثل داود وسليمان و إبراهيم و أيوب ونظائرهم و يوسف عليه السلام على خزائن الأرض ومحمد صل الله والصالحين من بعده
حول هذه الأسئلة يدور جوهر الحديث في الزهد وقد سبق أن كتبنا عدة مرات في هذا الموضوع في عدة من كتبنا ولا نريد هنا أن نكرر ما سبق أن كتبناه وإنما نحب - بتوفيق الله - أن نورد نصا – وإن كان مطولا - من النصوص النفيسة فى هذا الموضوع وهو نص قد وفق الله سبحانه أبا سعيد الخراز لكتابته فى صورة دقيقة محكمة وتراه فيصلا في هذا
الموضوع
رضی
يقول أبو سعيد في كتاب الصدق
اعلم
الله
أن الأنبياء عليهم السلام والعلماء والصالحين من بعدهم عنهم أمناء الله تعالى في أرضه على سره وعلى أمره ونهيه
١٤ اللمع ۷۱ - ۷
٦٧
وعلمه وموضع وديعته والنصحاء له فى خلقه وبريته وهم ا الذي عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم وإلام ندبهم فوافقوه في محبته ونزلوا في الأمور عند مشيئته ثم وقفوا عند ذلك مواقف العبيد الألباء القابلين عن الله والحافظين لوصيته وأصغوا إليه بآذان
فهومهم الواعية وقلوبهم الطاهرة ولم يتخلفوا عن ندبته فسمعوا الله – عز وجل – يقول
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه كم
ثم قال
10
هو ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لتنظر كيف
تعملون ١٦
وقال تعالى
۱۷
والله ما في السموات وما في الأرض ١٧
وقال تعالى
لهم ألا له الخلق والأمريكية لا
۱۸
فأيقن القوم أنهم وأنفسهم الله تعالى وكذلك ما خولهم وملكهم إنما هو له غير أنهم فى دار اختبار وبلوى وخلقوا للاختبار والبلوى في هذه
الدار
وهكذا يروى عن ابن الخطاب رضى الله عنه حين سمع
١٥ الحديد ۷
١٦ يونس ١٤
۱۷ البقرة ٢٨٤
١٨ الاعراف ٥٤
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ١٩
قال ياليتها تمت ! - يعنى عمر قبل قراءة
و إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه
D
ومعنى قول و عمر رضى الله عنه ياليتها تمت يعنى لم يخلق حين سمع الله تعالى يقول لم يكن شيئاً مذكوراً
وذلك من معرفة عمر - رضى الله عنه - بواجب حق الله وقدر أمره ونهيه وعجز العباد عن القيام به وقيام الحجة الله تعالى عليهم عند تقصيرهم وماتواعدهم به إذا ضيعوا
ويروى عن الحسن رضي الله عنه أنه قال
إن الله تعالى إنما أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا عقوبة وجعلها سجناً له حين أخرجه من جواره وصيره إلى دار التعب والاختبار فمن ملك - من أهل العمل عن الله تعالى وأهل الصدق – شيئاً من الدنيا فهو معتقد أن الشيء لله جل وعز لا إله إلا هو من طريق حق ما خوله الله تعالى وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه لأن النعمة بلاء حتى
يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله تعالى وكذلك البلوى والضراء هو اختبار وبلاء حتى يصبر عليه ويقوم بحق
الله تعالى فيه !
وكذلك قال بعض الحكماء العلم كله بلاء حتى يعمل به قال الله عز
وجل
۱۹ أول الدهر
9
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ك
وقال
۰
ولنبلونكم حتى تعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو
۱
أخباركم ع 1
فالأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون من بعدهم الذين شعرهم الله بأن أبلاهم في الدنيا بالسعة وخولهم كانوا إلى الله – جل وعز – ساكنين لا إلى شيء وكانوا خزانا لله – جل ذكره – في الشيء الذي ملكهم ينفذونه في حقوق الله تعالى غير مقصرين ولا مفرطين ولا متوانين ولا متأولين على الله التأويل وكانوا غير متلذدين بما ملكوا ولا مشغولى القلوب ملكوا ولا مستأثرين به دون عباد الله تعالى
ذلك ما روى عن سليمان بن داود ومن
وما أباحه الله تعالى
عليهما السلام – في ملكه
من الكرامة حين يقول تعالى
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ٢٢
قال أهل التفسير لا حساب عليك فى الآخرة وإنما كان عطاء هيناً
إكراماً
من
الله -
عز وجل – له
فذكر العلماء أن سليمان عليه السلام وكان يطعم الأضياف
الحوارى
وهو لباب البر وخالص الدقيق – النقى ويطعم عياله
الخشكار - وهو الدقيق الخشن ويأكل هو الشعير
۰ الملك ٢
۱ القتال ۳۱
ص ۳۹
٧٠
عليه
وكذلك روى العلماء أن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه
كان لا يأكل إلا مع الضيف فربما لا يأتيه الضيف فيطويها وربما كان
يمشى الفرسخ أو أقل أو أكثر تلقياً للضيف قال وكان أيوب و النبي – ع – لا يسمع أحداً يحلف بالله تعالى إلا رجع إلى منزله فكفر عنه ! "
وروى العلماء أن يوسف عليه السلام كان على خزائن الأرض
فكان لا يشبع فقيل له في ذلك فقال
أخاف أن أشبع فأنسى الجياع
ولقد روى أن سليمان - عليه السلام بينما هو ذات يوم والريح تحمله والطير تظله والجن والإنس معه وعليه قميص جديد فلصق ببدنه فوجد اللذة فسكنت الريح ووضعته على الأرض فقال لها مالك قالت إنما أمرنا أن نطيعك ما أطعت الله ففكر في نفسه من أين أتى فذكر فراجع فحملته الريح ولقد روى أن الريح كانت تضعه في اليوم مرات من هذا وأشباهه ! فالقوم كانوا خارجين عن ملكهم في ملكهم ناعمين بذكر الله وعبادته غير ساكنين إلى ما ملكوا لا يستوحشون من فقده إن فقدوه ولا يفرحون بالشيء ولا يحتاجون إلى العلاج والمجاهدة فى إخراجه
قال الله - تعالى - للنبي
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ۳
۳ الأنعام ۹۰
VI
وهذا النبي - بينما جبريل - عليه السلام عنده إذ تغير جبريل
إذا ملك قد نزل من السماء لم ينزل قط فقال جبريل عليه السلام خشيت أنه نزل في أمر فجاء إلى النبي ع الله بالسلام من عند الله عز وجل وقال له هذه مفاتيح خزائن الأرض تسير معك ذهباً وفضة مع البقاء فيها إلى يوم القيامة ولا ننقصك مما لك عند الله شيئاً !
فلم يختر النبي عل ذلك وقال
أجوع مرة وأشبع مرة !
وعد ذلك الله
من عز وجل - بلوى - واختبارا ولم يره من الله تعالى
اختياراً ولو كان من الله تعالى - اختياراً لقبله ولكنه علم أن محبة الله تعالى في الترك للدنيا والإعراض عن زينتها وبهجتها
ولذلك أدبه الله تعالى - حين قال تعالى
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا
٢٤
لنفتتهم فيها ويروى عنه الا الله أنه لبس حلة فيها علم فطرحها وقال كادت تلهيني أعلامها - أو قال ألهمتني أعلامها خذوها والتونى بأنبجانية وكذلك روى أنه صنع خاتم ذهب ليختم به الكتب إلى من أمره الله تعالى بإنذاره فليسه ثم طرحه من يده وقال لأصحابه إليه نظرة وإليكم نظرة ! وكذلك روى أنه لا غير شراك نعله فجعل مكانه جديداً
فقال ردوا الشراك الأول !
٢٤ طه ۱۳۱
۷
وكذلك كل قلب طاهر صاف قد أشرف على الآخرة وعرف قيام الله تعالى عليه يفزع من خفايا الكون إلى الدنيا والتحلى بشيء منها ومثل هذا في الأخبار كثير والعاقل الفطن تكفيه الإشارة إليه بالشيء وهؤلاء أصحاب محمد -
حين حثهم على الصدقة جاء
أبو بكر بماله كله لأنه كان أقوى القوم فقال له النبي ع ما خلفت
لعيالك
قال
الله ورسوله ولى عند الله مزيد !
أفلا ترى أبا بكر
D
رضی
الله عنه - إنما كان سكونه إلى الله تعالى لا
إلى الشيء ولم يكن لشيء عنده قدر وكان ما عند الله عنده أسر ! فحين رأى موضع الحق لم يخلف منه شيئاً وقال خلفت الله ورسوله !
ثم جاء عمر - رضي الله عنه -
ما خلفت لعيالك
بنصف ماله فقال النبي - ع -
قال نصف مالي والله عندى مزيد !
فقد أعطى نصف ماله ويقول والله عندى مزيد !
ثم عثمان - رضي الله عنه -
--
يجهز جيش العسرة كله بجميع ما يحتاج
إليه ويحفر بئر رومة !
أفلا
تری أن القوم كانوا معدين الشيء لله تعالى !
ومما يدل على صدق قولنا أن القوم كانوا خارجين مما ملكوا وهو في
أيديهم يعدونه لله عز وجل !
وقد روى عن النبي علا - أنه قال
إنا معشر الأنبياء لا نورث وما خلفناه صدقة
أفلا ترى
الله عز وجل !
أنهم في حياتهم لم يضنوا بالشيء عن وكذلك لم يورثوه وخلفوه الله - عز وجل - كما كان في أيديهم الله تعالى
لم يحدثوا فيه ولم يخولوه من بعدهم أحدا !
وإن هذا لبلاغ لمن عقل عن الله وأنصف نفسه من
وهؤلاء أئمة الهدى بعد رسول الله - ع - أبو بكر رضي الله عنه - حين ملك الأمر وجاءته الدنيا راغمة من حلها لم يرفع بها رأساً ولم وكان عليه كساء يخلله - أى يخيط ما به من خلل وشق – وكان يدعى
يتصنع
ذا الخلالين !
وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه - حين جاءته الدنيا راغمة من حلها وكان طعامه الخبز والزيت وفى ثوبه بضع عشرة رقعة بعضها من أدم - وقد قتحت عليه كنوز کسری و قیصر ! وهذا عثمان - رضى الله عنه - كأنه واحد من عبيده في اللباس
والزي !
ولقد روى عنه أنه رؤى خارجاً من بستان له وعلى عنقه حزمة من
حطب فقيل له في ذلك فقال
أردت أن أنظر نفسي هل تأبى !
أفلا
تری
أنه كان غير غافل عن نفسه وتعاهدها ورياضتها
وهذا على بن أبي طالب
رضی
الله عنه - في الخلافة قد اشترى
إزاراً بأربعة دراهم واشترى قميصاً بخمسة دراهم فكان في كمه طول
فتقدم إلى خراز - أى خياط - فأخذ الشفرة فقطع الكم مع أطراف أصابعه
وهو يفرق الدنيا يمنة ويسرة !
وهذا الزبير - رضي الله عنه - يخلف - حين مات - من الدين مائتي ألف أو أكثر كل ذلك من الجود والسخاء والبذل !
سأله
وهذا طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه – يعطى حلى أهله لمن
فهذا يدل على أن القوم كانوا كما قال الله – عز وجل – حين أمرهم
فقال
أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ٢٥
ولا يستحى عبد من عبيد الله من أهل زماننا هذا عندما ملك من الشبهات التي علم الله تعالى كيف هي ومن أين هي وكيف قدرها في قلبه وإيثاره لها وسكونه إليها دون الله عز وجل ومالا يحصى من عيبه في تقلبه في
ذلك واشتغاله بذلك ٢٦
حتى إن أحدهم ليزعم أنه يملك كما ملك من مضى ويحتج بهم في اتباع هواه مع إقامته على خلاف سنة القوم
بل الاعتراف لله تعالى بالتقصير من العبد الغافل أقرب إلى النجاة وسؤاله الله – عز وجل - أن يبلغه ما بلغ القوم وبالله التوفيق
التوكل
الإسلام أن يسلم الله قلبك إنه التوحيد
وهو إياك نعبد وإياك نستعين
٢٥ الحديد ۷
٢٦ كتاب الصدق ٣٥ - ٤٥
Vo
وهو إسلام الوجه لله
وذلك يقتضى التوكل على الله كجزء لا يتجزأ عن الإسلام ويتلون التوكل بحسب درجاته ويأخذ اسماً تبعاً لدرجته فيكون
ه توكلا ويكون تسليماً ويكون تفويضاً
والتوكل بداية هذا المقام الروحى والتسليم واسطة والتفويض نهاية إن
كان للثقة فى الله نهاية
ومع
ذلك فإن كلمة التوكل تطلق على كل درجاته وتستعمل في كل أنواعه وعلى هذا الوضع يأمر سبحانه وتعالى به جاعلا منه صفة لا تنفك عن الإيمان قائلا
ليه وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ويأمر سبخانه به أمراً مطلقاً كل مؤمن فيقول
وعلى الله فليتوكل المؤمنون كم
وإذا توكل الإنسان على الله سبحانه فإن ثمرة ذلك أمران الأمر الأول هو حب الله له يقول سبحانه
و إن الله يحب المتوكلين له
والأمر الثاني هو كفاية الله له يقول سبحانه
ومن يتوكل على الله فهو حسبه الله
وهناك ثمار هي تفصيل لهذين الأمرين أو هي نتائج لها نتحدث عنها
إن شاء الله تعالى
أن أمر التوكل في الجو القرآني ومع
6
وفى جو السنة واضح كل
الوضوح فإن الناس جعلت من التوكل مشكلة يتجادلون فيها ويختلفون
مع
وتتجدد المشكلة كلما جاء ذكر للتوكل ومن أجل ذلك نحب بتوفيق الله - أن الأمر بين واضح - أن نلقى ببعض الأضواء في هذا المجال لقد سئل يحيى بن معاذ - وهو من أئمة الصوفية - متى يكون الرجل
متوكلا
فقال إذا رضى بالله تعالى وكيلا
ويتحدث القرآن الكريم عن بعض الظروف التي ظهر فيها أن المؤمنين الصادقين هم الذين يتخذون الله وكيلا يقول سبحانه وتعالى عن المؤمنين في غزوة أحد
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم
إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
ماذا كانت النتيجة
إنها ما عبر الله سبحانه عنها بقوله
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله
6
والله ذو فضل عظيم
من هم هؤلاء إنهم
الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما
أصابهم القرح
ما هي قصتهم
إن مشركي مكة لما أصابوا من المسلمين يوم أحد أخذوا في العودة إلى مكة فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لم يتمموا على أهل المدينة ويجعلوها الفيصلة وكان من كلامهم لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم بشسما صنعتم ارجعوا وأرادوا
VV
العودة إلى المدينة
8
ولكن أبا سفيان لم ينس يوم بدر ولم ينس أن الفئة القليلة يوم بدر
غلبت ثلاثة أمثالها
C
وفرة العدة في الكثرة فأحب أولا أن مع
يعجم
عود
المسلمين وكان من المصادفات أن مرَّ به ركب من عبد القيس فقال
أين تريدون قالوا نريد المدينة
قال ولم قالوا نريد الميرة
قال فهل أنتم مبلغون عنى محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم مقابل ذلك زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا قالوا نعم ! قال إذا وافيتم محمداً فأخبروه أنا قد جمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم
ومر الركب برسول الله الا الله وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فكان رد الفعل عند رسول الله وأصحابه ما
صوره
الله تعالى بقوله
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم
يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم قالوا ذلك واستعدوا مباشرة للقتال من جديد من كان مجروحاً ضمد جرحه ومن كان قد كل سيفه أحدَّه ومن كان أمره متفرقاً في نفسه أو ماله أصبح أمره جميعاً واستعدوا لخوض المعركة بكل ما يملكون من وسائل وكان أبو سفيان ينتظر نتيجة الرسالة وما تحدثه من صدى
ورجع واحد من وفد عبد القيس يقول لأبي سفيان
VA
لقد رأيتهم كالأسد الموتورة عازمة على الأخذ بالثأر ولما سمع أبو سفيان ذلك أخذ في العودة إلى مكة طلباً للسلامة والتوكل – إذن - والمتوكلون يتخذون الأسباب ويستعدون كأكمل
ما يكون الاستعداد وأدق ما يكون الاستعداد
وصورة أخرى للتوكل
يقول الله تعالى على لسان سيدنا و هود
إلى توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم أخذ سيدنا و هود عليه السلام يعمل على نشر الحق الموحى إليه الحق الذي دعا إليه كل نبي ورسول والذى يتلخص فيما قال عليه السلام يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره
وابدعوا في ذلك بالاستغفار والتوبة فإذا استغفرتم وتبتم إلى الله فإن
عنايته سبحانه تحيط بكم ورعايته تكلوكم
و یا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم
مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولكن قومه أعرضوا عنه ولم تفدهم الأمثلة بالذين أعرضوا عن الله
فنكل
وقالوا بهم
و يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك وما تحن لك
بمؤمنين
وأخذ الصراع بين هود وقومه يشتد ويعنف حتى إذا استصفى هود أشخاص
عناصر الخير منهم واستخلص منتهى ما يمكن استخلاصه من
آمنوا به ولم يبق إلا من لا خير فيه جاءهم عذاب الله دون أن يصيب
هودًا والذين آمنوا
معه يقول تعالى
ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من
عذاب غلیظ
أما الذين لم يؤمنوا به واستكبروا وغرهم الباطل فإن الله سبحانه وتعالى أهلكهم جميعاً بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية
أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ونحب – بتوفيق الله - أن ننبه أولا إلى أن الله سبحانه بين في هذه القصة - يروى و القلشانى - وجوب التوكل على الله وكونه حصناً حصيناً وأن ربوبيته شاملة لكل أحد ومن برب - يدبر - أمر المربوب ويحفظه فلا حاجة
كما
له إلى كلاءة غيره وحفظه
وتنبه ثانياً إلى أن التوكل ليس ترك الأسباب فقد أخذ هود يناضل ويكافح ويدعو إلى الله سبحانه بكل وسيلة شريفة يستطيعها يقول الإمام الغزالي
وقد يظن أن معنى التوكل ترك الاكتساب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام فى الشرع إن المعنى الحقيقى للتوكل هو أن يعتقد الإنسان اعتقاداً جازما أن الأسباب الظاهرة لا تلغى إرادة الله وأن إرادة الله مشرفة على تلك الأسباب في أسسها وبواعثها وهى مشرفة على الأسباب فى غاياتها ونهاياتها وعلى
الإنسان أن يعمل كما أمر الشرع وعليه أن يكل أمر النتيجة إلى الله سبحانه
وتعالى
بالخلافة بويع
وقد كان رسول الله الا الله إمام المتوكلين وكان إمام المجاهدين المكافحين الآخذين بالأسباب وسيدنا أبو بكر رضى الله عنه حينما أصبح ذاهبًا إلى السوق يتجر كعادته فتكاثر عليه المسلمون قائلين ! كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة فقال لهم
لا تشغلونى عن عيالي فإنى إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين
لقد كان كبار الصحابة رضى الله عنهم يعملون ويكتسبون وكانوا مع
ذلك من كبار المتوكلين
وبعد فإن الإمام القشيرى - من أئمة الصوفية – يقول واعلم أن التوكل محله القلب والحركة بالظاهر لا تنافى التوكل بالقلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى فإن تعسر شيء فبتقديره وإن
انفق شيء فبتيسيره
التقدير من قبل الله تعالى
إذا آمن الإنسان بذلك - ولابد أن يؤمن به فهو متوكل
والمتوكل يتخذ الأسباب اقتداء برسول الله والآن نسير مع السيرة النبوية الشريفة بعد غزوة أحد لنصل إلى غزوة
الأحزاب ولنصل إلى صورة التوكل الذي يتلون بلون التسليم إن من التوكل الذي يتلون بلون التسليم ما يحدثنا به القرآن الكريم في قوله
تعالى
۸۱
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً كم
لقد زادتهم رؤية الأحزاب - الجيوش الجرارة التي أتت لتهدم المدينة وتقتل من فيها - إيماناً وتسليماً
ماذا فعلوا
لقد سهروا ليلا وأقاموا نهاراً من وراء الخندق يرقبون حركات العدو ويستعدون لكل شأن من شئونه
لقد لبسوا دروعهم وتسلحوا بسيوفهم وأقواسهم وسهامهم لقد أحكموا كل أمر من أمور الحرب بحسب طاقتهم ولكن الأمر فيما لله كله هو إليه يرجع الأمر كله كم
يسلمون به
وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً إيمانا قلبيا وتسليماً قلبيًّا وإن من الملاحظات التي لا تخفى على قارئى القرآن أن آية الأحزاب هذه
سبقها مباشرة قوله تعالى
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو
الآخر وذكر الله كثيراً
الله واليوم
ولقد تابع المؤمنون الرسول الا الله في توكله واتبعوه مسلمين في استعداده وتأهبه لقد اتخذوه قدوة
ويقول الإمام سهل بن عبد الله - من أئمة التصوف - هذه الكلمات الجميلة حقا الصادقة حقاً
سنته
التوكل حال النبي والكسب سنته فمن بقى على حاله فلا يتركن
AY
ويقول
من طعن في الحركة فقد طعن فى السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في
الإيمان
أما كيف عرف سهل نفسه التوكل فإنه قال
التوكل الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد
وهي كلمة نفيسة الاسترسال مع الله على ما يريد في كل ما أراد
سبحانه
في الجهاد في الضرب في الأرض طلباً للرزق في التزود من العلم
في حسن الخلق
إنه الاسترسال الله على ما يريد وهذا يقتضى أن يسكن الإنسان إلى مع النتائج بعد أن يكون قد اتخذ الأسباب بقدر طاقته ويقتضى أمراً آخر هو الابتعاد عن كل مالا يريد سبحانه
وبعد فإن هذا التعريف لسهل رضى الله عنه يتناسق مع تعريف الإمام حمدون القصار - من كبار الصوفية - حيث سئل عن التوكل فقال التوكل هو الاعتصام بالله تعالى إنه الاعتصام بالله تعالى في اتباع أوامره وهو الاعتصام بالله تعالى في اجتناب نواهيه وهو الاعتصام بالله تعالى فى الحركة وهو الاعتصام بالله في النتائج أي السكون إليه فى كل ذلك السكون المصاحب للنضال المتواصل السكينة فيما يتعلق بالنتائج وقصة ثالثة يقصها القرآن الكريم تبين صورة للتوكل الذي يتلون بلون
مع
التفويض
قصة رجل مؤمن صادق الإيمان وقف ناصحاً في وجه الطغيان والجبروت يدعو إلى الله ويبشر بالتعاليم الصادقة وينذر ويهدد بعقاب في أسلوب قوى لا يخشى فيه لومة لائم تلك قصة مؤمن آل فرعون الذى بعد أن نصح وبشر وأنذر قال فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد
وكانت النتيجة ما قصه الله تعالى بقوله
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب ويحسن أن نذكر القصة بتمامها من كتاب الله سبحانه كما وردت في سورة غافر يقول الله تعالى
وقال الذي آمن يا قوم أتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هى دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
يرزقون فيها بغير حساب
ويا قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار
تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز
الغفار
لا
جرم
أنما تدعونني إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا في الآخرة وأن
مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب
إن
الله بصير بالعباد
ومن كل ما تقدم ننتهى كما بدأنا بأن التوكل جزء لا يتجزأ من الإيمان
ΛΕ
6
والصورة المثلى فيه هي صورة رسول الله الله الذي كان إمام المتوكلين وكان إمام المناضلين ومن بعده صورة أبي بكر رضي الله عنه والصحابة الأجلاء الذين كانوا متوكلين وكانوا مناضلين فى الحرب وفى التجارة وفى
الزراعة
وبعد فيقول الله تعالى
إن الله يحب المتوكلين
المحبة
يقول الله تعالى في حديث قدسي
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي
لأعيذنه
0
وفى هذا الحديث الشريف يبدأ الله سبحانه بالتوجيه في قوة إلى صفاء
القلب وطهارة النية بالنسبة لأوليائه
وأولياؤه هم
الذين آمنوا وكانوا يتقون
ومن عاداهم فإنما يعادى المؤمن التقى
ونتيجة هذه العداوة ما يقوله تعالى
آذنته بالحرب
٨٥
ثم يرسم الله سبحانه الطريق إلى حبه
وأول خطوة في هذا الطريق
أداء ما افترضته عليه
ولن يتأتى حب الله سبحانه دون الشرط الأول - شرط القرب منه
سبحانه -
وهو أداء الفرائض
والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب
بل إن أداء الفرائض شرط لحسن الظن بالله لقد ترك قوم العمل وقالوا
نحن نحسن الظن بالله وكذبوا - كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل لا بد من أداء الفرائض وإلا لما كان لمهملها إلى القرب من
سبيل
ومع
الله تعالى من
أداء الفرائض - في جو القرب – الإكثار من النوافل فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى
ويترتب على حب الله تعالى للعبد هذا الخير الكثير الذي ذكره الله سبحانه
وتعالى فى الحديث القدسي
ويربط أسلافنا رضوان الله عليهم ربطاً محكماً بين محبة الله تعالى واتباع رسول الله لا متناسقين في ذلك توجيه الله سبحانه وتعالى مع
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ده
وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله تعالى والعمل
ومقدمات محبة الله تعالى هى العمل ونتيجة محبة الله تعالى هى العمل
يقول الإمام أبو سعيد الخراز
٨٦
وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنه أن ناساً قالوا على عهد رسول الله يا رسول الله إنا نحب ربنا حباً شديداً فجعل الله تعالى لمحبته
علماً وأنزل عز وجل قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ٢٧
فمن صدق المحبة اتباع الرسول ع ع في هديه وزهده وأخلاقه والتأسى به فى الأمور والإعراض عن الدنيا وزهرتها وبهجتها فإن الله عز
وجل جعل محمداً علماً ودليلا وحجة على أمته
ومن صدق المحبة الله تعالى إيثار محبة الله عز وجل في جميع الأمور على نفسك وهواك وأن تبدأ فى الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك اهـ
ويقول
فعلامة المحب الموافقة للمحبوب والتجاري ۸ مع طرقاته في كل الأمور والتقرب إليه بكل حيلة والهرب من كل مالا يعينه على
مذهبه ۹
أما
عن
8
صلته بالإيمان فإن الإمام الغزالى يقول
وقد جعل رسول الله الله - الحب الله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة إذ قال أبو رزين العقيلي يا رسول الله ! ما الإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما
وفي حديث آخر
۷ آل عمران ۳۱
۸ التجاري المسايرة أي المتابعة
۹ مذهبه قصده وطريقه
لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي حديث آخر
لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين
وفي رواية ومن نفسه
كيف وقد قال الله تعالى
وقل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين ۳۰
وإنما جرى ذلك في معرض التهديد والإنكار ٣١
ومن أجمل تعبيرات المحبين عن شعورهم ما يقوله يحيى بن معاذ إلهى إلى مقيم بفنائك مشغول بثنائك صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتنى من لطفك ونقلتنى فى الأحوال وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبة وزهداً وشوقاً ورضا وحباً تسقيني من حياضك وتهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك ولما طر شاربي ولاح طائرى فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً فلى ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأنى محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف !
وبعد فإن ثمرة محبة الله تعالى هى ما قاله سبحانه عن أوليائه
٣٠ التوبة ٢٤
۳۱ المنقذ ٩٣ - ٩٤
لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك
هو الفوز العظيم
الرضا
وإذا كانت المحبة تبعها الرضا وذلك أن المحب راض دائماً عن أعمال محبوبه وللرضا في الإيمان ركائز قوية وذلك أن المؤمن من يعتقد أن الله سبحانه وتعالى حكيم وتصرفاته – سبحانه - تجرى على مقتضى الحكمة ويعتقد المؤمن أنه سبحانه رحمن وتصرفاته - سبحانه - تجرى على مقتضى رحمته الحكيمة وحكمته الرحيمة فإذا ما وصل المؤمن مع ذلك إلى محبة الله تعالى فقد أصبح راضياً الرضا
كله ودخل في نطاق
رضی الله عنهم ورضوا عنه الله
ولكن أمر الرضا يلتبس على بعض الناس فيما يتعلق بالسلبية والإيجابية هل الرضا يتنافى مع العمل
هل الرضا يقتضى ألا يحاول الإنسان الخروج من الضيق إلى السعة ومن
الذل إلى العز ومن الهزيمة إلى النصر ومن العسر إلى اليسر ومن الحسن إلى الأحسن ومن الشريف إلى الأشرف
هل الرضا أن تسكن مستسلماً
کلا ! ! !
وإذا اتجه أحد إلى ذلك فإنه يكون تلبيسا إبليسيا – على حد تعبيرات
ابن الجوزي
إن القرآن الكريم يذكر الرضا في مناسبات منها
لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً لقد رضي الله عنهم وهم يبايعون على الجهاد وعلى الموت في سبيل
الله !
إن البيعة كانت على القتال لتحقيق العزة لله ولرسوله !
إنها كانت بيعة على الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى
يقول الإمام الألوسي
10
وأصل هذه البيعة - وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها
لقد رضي إلخ - أن النبي - لما نزل الحديبية بعث خراشاً - بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة – ابن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمراً لا يريد قتالا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول - فدعا عمر رضى الله تعالى عنه ليبعثه فقال يا رسول الله إن القوم قد عرفوا عداوتى لهم وغلظى عليهم وإنى لا آمن وليس بمكة أحد من بنى عدى يغضب لى إن أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه إنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله لا و عثمان فأرسله إلى قريش وقال أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عماراً وادعهم إلى الإسلام وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتى رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى يظهر دينه بمكة فذهب
عثمان رضی الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشاً فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقال رضى
الله تعالى عنه
ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله فاحتبسوه فبلغ رسول الله و المسلمين أن عثمان قد قتل فقال عليه الصلاة والسلام لا تبرح حتى نناجز القوم ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام ألا إن روح القدس قد نزل على رسول ع - فأمره بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله - وبايعوه قال و جابر ه - كما في صحيح مسلم وغيره - بايعناه - على ألا نفر ولم نبايعه على الموت !
8
وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال بايعت رسول الله - تحت الشجرة قيل على أى شىء تبايعونه يومئذ قال على
--
الموت ۳ !
وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذاً بأغصان الشجرة عن
وجه رسول الله وهو يبايع الناس
ويقول تعالى
۳۳
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو
۳ لا تعارض بين الحديثين - كما يوهمه ظاهر لفظيهما - فإن المبايعة على الجهاد تتضمن المبايعة على
الموت
۳۳ روح المعانى ٢٦ / ١٠٦
۹۱
كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين
فيها رضى
الله
عنهم ورضوا عنه
أولئك حزب
الله ألا إن حزب
الله
هم
المفلحون
٣٤
إن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه لا يوادون من حاد الله ورسوله وإنما
يعادونهم ويحاربونهم !
ورضا الله تعالى إنما هو في أن يقف الإنسان موقفاً صلباً في وجه كل من يحاد
الله ورسوله يقول تعالى للمؤمنين
وليجدوا فيكم غلظة
ويتحدث الله سبحانه عن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً فيقول
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم الله ٣٥ فالحرب دائرة على مر الزمن بين أنصار الله وأعدائه بين من ينتصرون ومن يحاولون إشاعة الرذيلة ! بين عباد الرحمن وأتباع الشيطان ! و حزب الله الذى يدخل في إطار هؤلاء الذين
للفضيلة
رضی
الله
عنهم ورضوا عنه
إنما هذه الطائفة التي يقول رسول الله فيها
٣٤ المجادلة ٢٢
٣٥ المائدة ٣٣
۹
ه ما تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة
وهم ظاهرون على الحق بكل ما في استطاعتهم من إمكانات ظاهرين على الحق بالسيف ظاهرين على الحق بالمنطق ! ورسول الله له وهو إمام المحبين
وسيد الراضين كانت حياته كلها كفاحا في سبيل الله تعالى جهاداً بالسيف وجهاداً بالقول لقد كانت جهاداً قولا وعملا
وكان الأسوة للراضين
ما معنى الرضا إذن
إن معنى الرضا أن يبذل الإنسان جهده ليصل إلى ما يحبه الله ورسوله ولكنه من قبل الوصول إليه وفى أثناء محاولاته للوصول إليه مطمئن إلى النتيجة على أى وضع أحبها الله راض بها إن إليه المصير
وإن لو ولله عاقبة الأمور
وإن وإليه يرجع الأمر كله
يجب أن يكون كل ذلك واقراً في ذهنه مفعماً به شعوره
مع
إيمانه بأنه
سبحانه حكيم رحمن رحيم إنه الرضا ! يقول صاحب اللمع والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا وهو أن يكون قلب العبد ساكناً
تحت حكم الله عز وجل ويقول والرضا آخر المقامات ثم يقتضى من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب ومطالعة الغيوب وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار وحقائق الأحوال ٣٦
٣٦ اللمع ۸۰ - ۸۱
D
حول مصادر التصوف الإسلامي
يحاول المستشرقون وغيرهم من الذين يكتبون في التصوف الإسلامي رد الحياة الروحية الصوفية فى الإسلام إلى مصدر أجنبي بحت هندى أو يوناني إلخ أو إلى عدة مصادر منها القرآن أو حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه
وبرغم
دراسة
ويحاول بعضهم أن يظهر بمظهر الاعتدال فيرى أن العامل الأول في نشأة التصوف إنما كان القرآن وحياة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه – ومنهما استمد التصوف بذوره الأولى ثم كانت الثقافة الأجنبية – هندية أو يونانية أو فارسية أو مسيحية - هي التي أثرت فيه وجعلته يتطور وهي التي أمدته من الآراء بما زعموا أنه بعيد عن روح الإسلام وطبيعته أن الأستاذ لويس ماسينيون يقول فى صراحة و أما مصادر التصوف فإن الشقة بيننا وبين استكمالها مازالت بعيدة المستشرقين ومن نهج نهجهم يحاولون جاهدين أو يعزوا التصوف إلى مصدر معين أو إلى مصادر مختلفة يشترك فيها المصدر الإسلامي أو لا يشترك والتصوف إذن على رأى بعضهم مذهب دخيل في الإسلام مأخوذ إما من رهبانية الشام وهو رأى ميركس وإما من أفلاطونية اليونان الجديدة وإما من زرادشتية الفرس وإما من فيدا الهنود وهو رأى
جونس
فإن
ويأخذ المستشرقون بعضهم في مناقشة البعض وهدم بعضهم بعضاً بل
6
إن الشخص الواحد منهم يغير رأيه فيختلف باختلاف فترات حياته فالمستشرق ثولك مثلا يذهب فى أول حياته إلى أن التصوف الإسلامي إنما
هو
مأخوذ عن أصل مجوسى ثم بعدل عن ذلك إلى الطريق المقابل ويرى أن التصوف وكل ما فيه من الأقوال المتطرفة يمكن الرجوع به إلى تعاليم الرسول الله وسيرته ويقول الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي – بحق – ولما بدأت حركة طبع
الكتب في مصر والهند وغيرهما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأ يتدفق سيلها من مطبعة بولاق الأميرية خاصة تغير مجرى البحث العلمى
لا في التصوف وحده بل في جميع فروع الدراسات الإسلامية وتغير إذن رأى ثولك وتغيرت بذلك أدلته وأسانيده وكما اعتبر في فترة حياته الأولى أن أدلته وأسانيده فيما يتعلق بالمصدر المجوسى للتصوف الإسلامي حاسمة فقد اعتبر فى فترة حياته الثانية أن أدلته وأسانيده في المصدر الإسلامي للتصوف حاسمة أيضاً
وإذا كان الأمر فيما يتعلق بثولك يمكن الاعتذار عنه بأنه وجد في فترة لم تكن الكتب الصوفية ميسورة كل اليسر فإن ما حدث لثولك هو نفسه ما حدث للمستشرق نيكولسون إنه يتحدث عن التصوف فيرجع نشأته إلى عوامل خارجة عن الإسلام عملت عملها ابتداء من القرن الثالث الهجرى
وأهم هذه العوامل وأبرزها في نظره هو الأفلاطونية الحديثة المتأخرة والتي كانت شائعة في مصر والشام إلى عهد ذي النون المصرى
٩٥
D
ول معروف الكرخي وإذا أردنا تصوير رأى نيكلسون بقلمه في هذه الفترة فإننا نراه يقول ولكنى على يقين من أننا إذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة التصوف بمعناه الدقيق استحال علينا أن نرد أصله إلى عامل هندي أو فارسى ولزم أن نعتبره وليداً لاتحاد الفكر اليوناني والديانات الشرقية أو بعبارة أدق وليداً لاتحاد الفلسفة الأفلاطونية
الحديثة والديانات المسيحية والمذهب الغنوصي
ثم يتحول نيكلسون عن هذا الرأي حينما يكتب مادة التصوف في دائرة معارف الدين والأخلاق فيقول وقد عولجت مسألة نشأة التصوف الإسلامي حتى الآن معالجة خاطئة فذهب كثير من أوائل الباحثين إلى القول بأن هذه الحركة العظيمة التي استمدت حياتها وقوتها من جميع الطبقات والشعوب التي تألفت منها الإمبراطورية الإسلامية يمكن تفسير نشأتها تفسيراً علميا دقيقاً بإرجاعها إلى أصل واحد كالفيدانتا الهندية أو الفلسفة الأفلاطونية أو بوضع فروض تفسر جانباً من الحقيقة لا الحقيقة
كلها
ويشرح الأستاذ لويس ماسينيون فكرة نيكلسون الأخيرة فيقول وقد بين نيكلسون أن إطلاق الحكم بأن التصوف دخيل في الإسلام غير مقبول فالحق أننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التي اختص بها متصوفة المسلمين نشأت فى قلب الجماعة الإسلامية نفسها في أثناء عكوف المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئها وتأثرت بما أصاب
هذه الجماعة من أحداث وما حل بالأفراد من نوازل
٩٦
ويتابع
الأستاذ ماسينيون شرح فكرة نيكلسون فيقول على أنه إذا كانت مادة التصوف إسلامية عربية خالصة فيما لا يخلو من فائدة أن نتعرف على المحسنات الأجنبية التي أدخلت عليه ونمت في كنفه وفكرة و نيكلسون هذه هى تقريباً نفس فكرة الأستاذ و ماسينيون ف ماسينيون يرى أن التصوف لا يرجع إلى مصدر واحد وإنما يرجع أولا
إلى القرآن وهو أهم المصادر التي استمد منها التصوف نشأته وحياته
والمصدر الثاني
الإسلامية
هو الحديث والفقه وغيرهما من العلوم العربية
أما المصدر الأخير فهو الثقافة العلمية الأجنبية العامة التي وجدت في البيئة الإسلامية فى عهودها الأولى
هذه الاختلافات الكثيرة التي استفاض فيها الكاتبون وكونوا فيها الفصول الطوال واستنفدوا فيها الجهد والتى لاتزال مع كل ذلك مستمرة ولا تريد أن تنتهى - إن دلت على شيء فإنما تدل على أن وضع المشكلة بهذا الوضع إنما هو خطأ من أساسه وهذا الخطأ في وضع المشكلة مفهوم
لا تنتهى
--
السبب والعلة
لقد وقف الكاتبون من التصوف موقفهم من الثقافة الكسبية والثقافة الكسبية يتأتى فيها التاثر والتطور والتقليد فالكاتب أو الشاعر أو المفكر على وجه العموم الذى يستمد ثقافته من البيئة الخارجية يتلون ويتشكل بما يقرأ وبما يدور حوله وبما يتشربه من بيئته ونتاجه إذن هو قضية التصوف المنقذ من الضلال
أثر للبيئة الخارجية اللهم إلا إذا كانت له أصالته التي تسمو به عن أن يكون
صدى للوسط الذى يعيش فيه
ولكن التصوف والصوفية ليسا من هذا الوادى
وإذا أردنا أن نتحدث في تحديد ودقة فإنا نرى أن المشكلة التي نحن بصددها تتفرع إلى أمرين
1 - الاتجاه إلى الحياة الصوفية أو النزعة إلى سلوك الطريق الصوفى - الشعور الصوفى
أما فيما يتعلق بالاتجاه نحو السلوك الصوفى فله مؤثراته الداخلية البحتة وهى مؤثرات تتصل بالفرد من الناحية الداخلية أكثر من أن تتصل بعامل خارجي لابد إذن من أن يكون الاستعداد الشخصي الفردي الفطرى موجوداً مهيئاً ويكفى لأن يسلك عمليا هذا الطريق كلمة أو فكرة أو إشارة أو حادثة من الحوادث فيأخذ فعلا في سيره نحو الله – تعالى – إنى ذاهب إلى ربى
هذا العزم المصمم الذى يتمثل في هذه الكلمة الكريمة لابد له من الاستعداد الفطرى الذى لا يغنى عنه فلسفة أفلاطونية ولا فيدانتا هندية ولا زرادشتية فارسية وقد يكون المتجه إلى التصوف قارئاً للأفلاطونية الحديثة أو لا يكون وقد يكون على علم بعقائد الهند أو لا يكون فالمتخصص في الأفلاطونية الحديثة لا يفيده تخصصه -هذا لا ولا قلامة ظفر - في أن يكون صوفيا وكذلك الأمر فى المتخصص في عقائد الهند وقد قرأ الإمام الغزالى كتب الصوفية أنفسهم ويحدثنا بذلك فيقول
۹۸
-"
قدس الله
فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي - رحمه الله - وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد و الشبلى و أبي يزيد البسطامي أرواحهم – وغير ذلك من كلام مشايخهم حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل عن طريقهم بالتعليم والسماع ولكن ذلك لم يجعل منه صوفيا ولم يكن الإمام الغزالى بهذه الكتب ولا بمطالعته لفلسفة اليونان ودراسته لها دراسة عميقة صوفيا ولكنه تبين
أن أخص خواصهم - عن حد تعبيره - ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم بل
بالذوق والحال وتبدل الصفات
وليس التصوف - إذن ثقافة - كسبية تتأثر بهذا الاتجاه أو ذاك وإنما هو ذوق ومشاهدة يصل الإنسان إليهما عن طريق الخلوة والرياضة والمجاهدة والاشتياق بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى
وهذا هو جوهر الشعور الصوفى
أخص خصائص التصوف شعور لا يمكن التعبير عنه فإن الإنسان يصل
لا يمكنه الاحتراز عنه
فيه إلى درجات يضيق عنها نطاق الكتابة فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ والذي لا بسته تلك الحالة - على حد تعبير الإمام الغزالي - لا ينبغي أن
يزيد على أن يقول
صريح
وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر المشاهد الصوفية إذن ليست ثقافة كسبية وإذن لا يتأتى التحدث عن
۹۹
مصادرها الخارجية - أيا كانت هذه المصادر
ووضع المسألة - مسألة مصادر التصوف - إذن موضع البحث والنظر والدراسة إنما هو وضع خطأ لا يفعله ولا يقوم به إلا من لا يفهم
التصوف ولم يسهم في تذوقه بقليل ولا بكثير
والنتيجة التي نريد أن ننتهى إليها - إذن - هي أن الاتجاه نحو التصوف والنزوع إليه إنما هو فطرة واستعداد
أما الذوق الصوفى والشعور الصوفى والمعرفة الصوفية فإنها استمداد
من مصدر النور والهداية
1
نشأة التصوف
إن التصوف باعتباره فكرة وباعتباره حالة نشأ أمع نشأة الإنسان والاستدلال على هذا لا يتأتى أن يستند إلى نصوص لأن نشأة الإنسان
كانت قبل الكتابة والتسجيل
ولكنه من البدهى أن الإنسان منذ نشأته يتطلع إلى معرفة الغيب وإلى استشراف عالم ما وراء الطبيعة بل إلى الاتصال بذلك العالم عن طريق الوسيلة الصحيحة لهذا الاتصال
وهذه الفكرة على هذا الوضع تقرها الأديان على وجه العموم ذلك أن الأديان تعترف بنبوة آدم وبأن الله قد اجتباه إنها تعترف بصلته بالله وبأن الله قد علمه الأسماء كلها والنبوة أعلى درجة من التصوف إنها
تتضمنه وتزيد عليه إن النبوة تتضمن الولاية ولكنها أعلى درجة ومنزلة
منها
لأنها اصطفاء من الله
إن الله اصطفى آدم ونوحاً
والأديان - على وجه العموم - لا تنتهج نهج التطوريين أو النشوئيين
الذين يرون أن العقل الإنساني درجات مختلفة وأن تطلعه إلى المعرفة الإشراقية إنما نشأ متأخرا أي عندما نضج وتهذب والحق أنه ليس هناك دليل واحد على أن العقل درجات تتابعت رقيا وإنما كل الأدلة تثبت أن العقل - باعتباره عقلا و لا باعتباره معرفة
مكتسبة هو هو فى بنى البشر باديهم ومتحضرهم
۱۰۱
ولو أخذنا طفلا من البدائيين من مجاهل أفريقيا ووضعناه منذ نشأته في
أرقى الأوساط الأوربية تحضراً لنشأ نشأة أوربية بحتة
وكذلك الأمر لو أخذنا طفلا من أرقى الأوساط الأوربية تحضراً ووضعناه
مع البدائيين منذ الميلاد لنشأ نشأة بدائية العقل الإنساني هو هو منذ أن وجدت الإنسانية إلى الآن اختلف إنما هو المعارف المكتسبة وهذه المعارف المكتسبة هي وحدها التي
والذي
تميز المتحضر عن البدائى والتى تميز رجل القرن العشرين بعد الميلاد عن الإنسان فيما قبل الميلاد ومما هو جدير بالذكر أن التصوف - فى وجوده وتحققه - غير محتاج إلى معارف مكتسبة طبيعية أو كيماوية أو فلكية أو غير ذلك إنه محتاج إلى أساس من العقيدة الصحيحة
روحه
والعقيدة الصحيحة وجدت مع الإنسان منذ أن سواه الله ونفخ فيه من
هذه النفخة الإلهية أو هذا السر الإلهى فى الإنسان أو هذه الروح التي بين جنبيه أو هذا القلب الذى منحه الله إياه إذا ارتكز على أساس صحيح من الدين ثم جاهد في طريق التزكية والتصفية واتخذ الوسائل التي تؤدى إلى الاتصال بالملإ الأعلى فإنه ينتهى - بتوفيق الله - إلى ما يريد من هذا
الاتصال وإلى ما يطمح إليه من ثمار الاتصال أعنى المعرفة معرفة ما وراء الطبيعة إنها الأمل العذب الذي يراود الكثير من النفوس التي تريد أن تتنزه عن المادة وأن تسمو على الحسن وأن تصبح ربانية من الناس موجود فى كل زمان ومكان ولكنه من الطبيعى أنه
وهذا النمط
۱۰
من الندرة بمكان وجل جناب الحق على أن يكون شرعة لكل وارد أو أن
يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد على حد تعبير و ابن سينا
ومن المعقول أن هذا النمط وجد مع وجود الإنسانية مادام الطموح
وحب الاستطلاع والتشوف إلى عالم الغيب مادام كل ذلك فطرة في بعض
الطبائع
وجد التصوف إذن منذ أن وجد الإنسان
وفيما قبل الحضارة اليونانية كانت المسائل - فيما يتعلق بالمعرفة – تسير سيراً طبيعياً فقد كان هناك ميدان للحس يجول فيه كيفما شاء وهناك ميدان للعقل يبحث فيه كيفما يريد ولكن كان من المعروف في الحكمة الهندية مثلا والحكمة المصرية القديمة أن عالم ما رواء الطبيعة إنما هو من اختصاص البصيرة وما كان يسمح قط فى تلك الحضارات أن تختلط الأمور وأن تتعدى كل أداة من أدوات المعرفة اختصاصها
وكانت ميادين المعرفة محددة تحديداً كاملا لا لبس فيه ولا غموض كانت محدودة فيما يتعلق بالوسائل وكانت محددة فيما يتعلق بالموضوعات وكان لمعرفة الغيب رجال هيأت لهم فطرهم وظروفهم أن ينتهجوا سبيله بل حدث في بعض الأحيان أن حدد هؤلاء الرجال من بين طبقة معينة
الطبقة التي يظن أنها ورثت نوعاً من الشفافية عن أسلافها وطبقة البراهمة عن الهنود طبقة محددة وما كان كل شخص يمكن أن
يكون كاهناً عند قدماء المصريين ولاتزال هذه الفكرة للآن - فكرة تحديد ميادين المعرفة وتحديد وسائلها
موجودة في الهنود المحافظين على تراثهم القديم
أما حينما نشأت الحضارة اليونانية ولم تكن هذه الحضارة مرتكزة على دين صحيح ولم تكن مستقرة على دعائم من النصوص المقدسة الثابتة فإن الأمور بدأت تختلط وبدأت الحدود تزول - نوعاً ما - بين ميادين المعرفة وبدأت
بالتالي تضطرب الأمور فيما يتعلق بأدوات المعرفة
ومع
ذلك فإن هذه الحضارة اليونانية القديمة نفسها - في بعض صورها -
كانت تسير على نهج الحضارات الصحيحة هندية كانت أو مصرية فهذا مثلا فيثاغورث ومدرسته كانوا يسيرون في المعرفة على أسس صحيحة ولكن وجد بجوار فيثاغورث من انتهجوا النهج العقلى في معرفة ما وراء الطبيعة وبدأ الأمر يختلط حتى كان أرسطو فذهب بهذا الخلط أقصى مداه واضطرب الأمر بسببه اضطراباً لا يزال العالم يعانى الكثير من آثار انحرافه إلى الآن
إن إدخال العقل فى مسائل ما وراء الطبيعة انحراف يؤرخ بالعصر اليونانى ولكن هذا الانحراف لم يكن خفيًّا أمره – في العصر اليوناني وفيما تلاه من العصور - على كثير من ذوى البصائر النافذة الذين اتخذوا من الآثار المقدسة ملجأ وعصمة والذين اتخذوها دثاراً وشعارًا والذين عملوا بها وتشربتها أرواحهم حتى أصبحت وكأنها فطرة فيهم فقادتهم إلى أن يكونوا ربانيين لقد قادتهم إلى الأمل المنشود شهود ما وراء الطبيعة أو شهود التوحيد فانضووا تحت لواء الآية الكريمة
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم
إنهم أولياء الله إنهم الصوفية
104
لمحة عامة عن التصوف
هذه اللمحة كتبها الحكيم الصوفى الفرنسي النشأة رينيه جينو Rene Guenon الذي أسلم وسمى نفسه عبد الواحد يحيى وقد كتبنا عنه
فما مضى ما يلى أما الذي كان إسلامه ثورة كبرى هزت ضمائر الكثير من ذوى البصائر الطاهرة فاقتدوا به واعتنقوا الإسلام وكونوا جماعات مؤمنة مخلصة تعبد معاقل الكاثوليكية فى فرنسا وفى سويسرا فهو العالم
الله على يقين
الفيلسوف الحكيم الصوفى رينيه الذي يدوى اسمه في أوربا قاطبة وفى أمريكا والذي يعرفه كل هؤلاء الذين يتصلون اتصالا وثيقاً بالدراسات الفلسفية الدينية في أوربا أو فى أمريكا
وكان سبب إسلامه بسيطا منطقيا في آن واحد لقد أراد أن يعتصم بنص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلم يجد - بعد دراسة عميقة - سوى القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي لم ينله التحريف ولا التبديل لأن الله تكفل بحفظه وحفظه حقيقة
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لم يجد سوى القرآن نصا مقدساً صحيحاً فاعتصم به وسار تحت لوائه فغمره الأمن النفساني في رحاب الفرقان
ومؤلفاته مشهورة من بينها كتاب أزمة العالم الحديث بين فيه الانحراف الهائل الذي تسير فيه أوربا الآن والضلال المبين الذي أعمى الغرب عن سواء السبيل أما كتابه الشرق والغرب فهو من الكتب الخالدة التي تجعل كل
١٠٥
شرقى يفخر بشرقيته وقد رد فيه إلى الشرق اعتباره مبيناً أصالته في الحضارة وسموه فى التفكير وإنسانيته التي لا تقاس بها مادية الغرب
وفساده وامتصاصه للدماء وعدوانه الذى لا يقف عند حد وظلمه المؤسس على المادية والاستغلال ومظهراً في 5 في كل صفحة صفحاته نبل الشرقيين
من
وعمقهم وفهمهم للأمور فهماً يتفق مع الفضيلة ومع أسمى المبادئ
الإنسانية
يلي
وقد كتبنا عنه تقريراً لإحدى جامعاتنا المصرية للتعرف به ننشره فيما
رينيه جينو من الشخصيات التي أخذت مكانها في التاريخ يضعه المسلمون بجوار الإمام الغزالي وأمثاله ويضعه غير المسلمين بجوار أفلوطين صاحب الأفلاطونية الحديثة وأمثاله
وإذا كان الشخص في بيئتنا الحالية لا يقدر التقدير الذي يستحقه إلا بعد وفاته فقد كان حسن حظ رينيه جينو أنه قدر أثناء حياته وقدر بعد أما في أثناء حياته فكان أول تقدير له أن حرمت الكنيسة قراءة
وفاته
كتبه والكنيسة لا تفعل هذا إلا مع كبار المفكرين الذين تخشى خطرهم وقد وضعته بذلك بجوار عباقرة الفكر الذين اتخذت تجاههم نفس المسلك ولكنها رأت في رينيه جينو خطراً يكبر كل خطر سابق فحرمت حتى الحديث عنه
وإذا كان هذا تقديراً سلبياً له قيمته فهناك التقدير الإيجابي الذي لا يقل في أهميته عن التقدير السلبي فهناك هؤلاء الذين استجابوا لدعوة رينيه جينو فألفوا جمعيات في جميع العواصم الكبرى في العالم وعلى الخصوص فى سويسرا وفى فرنسا والمكونون لهذه الجمعيات احتذوا حذو رينيه جينو فاتخذوا الإسلام ديناً والطهارة والإخلاص وطاعة الله
6
شعاراً وديدنا ويكونون وسط هذه المادية السابغة وهذه الشهوات المتغلبة واحات جميلة يلجأ إليها كل من أراد الطهر والطمأنينة ومن التقدير الإيجابي أيضاً أن كتبه برغم تحريم الكنيسة لقراءتها قد أرجاء العالم وطبعت المرة بعد الأخرى وترجم الكثير منها
انتشرت في جميع إلى اللغات الحية الناهضة ماعدا العربية
للأسف الشديد
ومن الطريف أن بعض الكتب ترجم إلى لغة الهند الصينية ووضعت كشرح للوصية الأخيرة من وصايا الدالاي لاما ولم يكن يوجد في الغرب شخص متخصص في تاريخ الأديان إلا وهو على علم بآراء رينيه جينو كل هذا التقدير كان في حياته
أما بعد مماته فقد زاد هذا التقدير لقد كتبت عنه جميع صحف العالم ومنها بعض الصحف المصرية العربية كالمصور مثلا الذي كتب عنه في استفاضة والصحف الإفرنجية أيضاً كمجلة إيجيبت نوفل التي أخذت تكتب عنه عدة أسابيع ثم أخذت تكتب عنه كل عام في ذكرى وفاته
وقد خصصت له مجلة فرنسا آسيا وهى مجلة محترمة عدداً ضخماً كتب فيه كبار الكتاب الشرقيين والغربيين وافتتحه بتقدير شاعر فرنسا الأكبر أندريه جيد لـ رينيه جينو وقوله فى صراحة لالبس فيها إن آراء رينيه جينو لا تنقض
وخصصت مجلة ايتود ترا ديسيونيل وهى المجلة التي تعتبر في الغرب كله لسان التصوف الصحيح عدداً ضخماً من أعدادها كتب فيه أيضاً كبار الكتاب الشرقيين والغربيين
ثم خصص له الكاتب الصحفى الشهير بول سيران كتاباً ضخماً تحدث فيه عن حياته وعن آرائه ووضعه كما وضعه الآخرون الذين كتبوا عنه في المكان اللائق به بجوار الإمام الغزالي أو الحكيم أفلوطين
۱۰۷
نشأ رينيه جينو فى فرنسا من أسرة كاثوليكية ثرية محافظة نشأ مرهف
الحس مرهف الشعور مرهف الوجدان متجهاً بطبيعته إلى التفكير العميق والأبحاث الدقيقة وهاله حينما نضج تفكيره ماعليه قومه من ضلال فأخذ يبحث في جد عن الحقيقة ولكن أين هي أفى الشرق أم في الغرب وهل في السماء أم في الأرض
هی
ابن
أين الحقيقة سؤال وجهه رينيه جينو إلى نفسه كما وجهه من قبل إلى نفسه الإمام المحاسبى والإمام الغزالي والإمام محيى الدين عربي وكما وجهه من قبلهم عشرات من المفكرين والذين أبوا أن يستنيموا للتقليد الأعمى وتأتى فترة الشك والحيرة والألم الممض ثم يتأتى عون الله وكان عون الله بالنسبة لـ رينيه جينو أن بهرته أشعة الإسلام الخالدة وغمره ضياؤه الباهر فاعتنقه وتسمى باسم الشيخ عبد الواحد يحيى وأصبح جنديا من جنوده يدافع عنه ويدعو إليه ومن أمثلة ذلك ما كتبه فى كتابه رمزية الصليب تفنيدا للفرية التي تقول إن الإسلام انتشر بالسيف ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كتبه في العدد الخاص الذي أصدرته مجلة كاييه دى سود في عددها الخاص بالإسلام والغرب دفاعاً عن الروحانية الإسلامية لقد أنكر الغربيون روحانية الإسلام أو قللوا شأنها وأشادوا بروحانية المسيحية وأكبروا شأنها من ووضعوا التصوف المسيحي في أسمى مكانة وقللوا من شأن التصوف الإسلامي كتب الشيخ عبد الواحد يحيى مبيناً سمو التصوف الإسلامي وروعته وقارن بينه وبين ما يسمونه بالتصوف المسيحى أى الميستيسيم وانتهى بأن هذا الميستسيسيم لا يمكنه أن يبلغ ولا من بعد ما بلغه التصوف الإسلامي من سمو ومن جلال
من
على أن الشيخ عبد الواحد يحيى لم يشد بالإسلام فـ وإنما أشاد
۱۰۸
جميع كتبه وفى مواضع لا يأتى عليها الحصر بالشرق ثم خصص كتاباً ضخماً بعنوان الشرق والغرب تزيل قراءته من نفس كل شرقى مركب النقص الذي غرسه الاستعمار فى نفوس الشرقيين في هذه السنوات الأخيرة لقد دأب الاستعمار على أن يغرس في نفوس الشرقيين أنهم أقل حضارة بل أقل إنسانية من الغربيين وأتى الشيخ عبد الواحد فقلب الأوضاع رأسا على عقب وبين للشرقيين قيمتهم وأنهم منبع النور والهداية ومشرق الوحى والإلهام إن كل شرقى يفخر بشرقيته بمجرد قراءته لهذا الكتاب وهو ليس كتاباً يشيد بالشرق على الأسلوب الصحفى أو على الطريقة الإنشائية وإنما هو كتاب علمي بأدق المعانى لكلمة علم وهذا وحده يكفى لأن يقيم الشرقيون مظاهر التكريم للشيخ عبد الواحد اعترافاً منهم بالجميل والله الموفق
وفيما يلى ما كتبه الشيخ عبد الواحد وقد ترجمناه عن الفرنسية
بين الظاهر والباطن
ربما كانت العقيدة الإسلامية من بين العقائد الموروثة هي العقيدة التي يظهر فيها بوضوح التفرقة بين جزأين متكاملين هما الظاهر و الباطن أعنى الشريعة وهى الباب الذى يدخل منه الجميع و الحقيقة ولايصل إليها إلا المصطفون الأخيار وهذه التفرقة ليست تحكمية وإنما تفرضها طبيعة الأشياء ذلك أن استعداد الناس متفاوت وبعضهم معد لمعرفة الحقيقة وكثيراً ما نجدهم يشبهون الشريعة والحقيقة بالقشر واللب أو بالدائرة فضلا عن الناحية الاعتقادية - الناحية
ومركزها والشريعة تتضمن التشريعية والناحية الاجتماعية وهما جزء ان لا يتجزءان عن الدين الإسلامي
۱۰۹
إنها أولا وقبل كل شيء قاعدة للسلوك أما الحقيقة ۳۷ فإنها معرفة محضة ولكن يجب أن تعلم أن هذه المعرفة هى التي تعطى للشريعة معناها السامي العميق بل هي التي تبرر وجود الشريعة إنها في الحقيقة – وإن لم يشعر بذلك المؤمنون - المركز الأساسى مثلها في ذلك مثل مركز الدائرة بالنسبة لمحيطها بيد أن الباطن لا يعنى فقط الحقيقة وإنما يعنى كذلك السبيل الموصلة
إليها أعنى الطرق التي تقود الإنسان من الشريعة إلى الحقيقة وإذا رجعنا إلى الصورة الرمزية الدائرة ومركزها قلنا إن الطريقة هي الخط الذاهب من محيط الدائرة إلى المركز وكل نقطة على محيط الدائرة هي مبدأ الخط وهذه الخطوط التي لا تحصى تنتهى - كلها - إلى المركز
إنها الطرق وهى طرق تختلف تبعاً لاختلاف الطبائع البشرية ولهذا يقال الطرق إلى الله كنفوس بني آدم ومهما اختلفت فالهدف واحد لأنه لا يوجد إلا مركز واحد وإلا حقيقة واحدة على أن هذه الاختلافات الموجودة في المبدأ تزول شيئاً فشيئاً مع زوال الإنية وذلك حينما يصل السالك إلى درجات عليا تزول فيها صفات العبد التي ليست إلا سجناً الفناء فلا تبقى إلا الصفات الربانية وقد تحققت الذات بها البقاء
۳۷ الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول فالشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق فالشريعة أن نعبده والحقيقة أن تشهده والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر سمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه الله يقول قوله إياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة واعلم أن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره والحقيقة أيضاً شريعة من حيث إن المعارف به سبحانه أيضاً وجبت بأمره
عن الرسالة القشيرية
والطريقة والحقيقة مجتمعتان يطلق عليهما التصوف وهو ليس مذهباً خاصا لأنه الحقيقة المطلقة وليست الطرق مدارس مختلفة لأنها طرق
أي سبل موصلة جميعها إلى الحقيقة المطلقة 1 التوحيد واحد ويجب أن يلاحظ أنه لا يمكن لأحد أن يطلق على نفسه أنه صوفى اللهم إلا إذا كان ذلك منه جهلا محضا لأنه بذلك يبرهن على أنه حقيقة ليس بصوفى وذلك أن هذه الصفة سر بين الصوفى الحقيقى وبين ربه ويمكن أن يقول الإنسان عن نفسه انه متصوف وهو عنوان يطلق على السالك في أي مرحلة كان ولكن الصوفى بمعناه الحقيقى لا يطلق إلا على من بلغ الدرجة
العليا
أما أصل هذه الكلمة صوفى ٣٨ فقد اختلف فيه اختلافاً كبيراً ووضعت فروض متعددة وليس بعضها بأولى من بعض وكلها غير مقبولة إنها في الحقيقة تسمية رمزية وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية الحروفها وإن لمن الروائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف صوفى تماثل القيمة العددية لحروف الحكيم الإلهى فيكون الصوفى الحقيقى هو الرجل الذي وصل إلى الحكمة الإلهية إنه العارف بالله إذ أن الله
۳۸ هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال رجل صوفى وللجماعة صوفية ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف وللجماعة المتصوفة وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق والأظهر فيه أنه كاللقب فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله لا فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفى ومن قال إنه من الصفاء فاشتقاق الصوفى من الصفاء بعيد فى مقتضى اللغة وقول من قال إنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضى هذه النسبة إلى الصف ثم إن هذه الطائفة أشهر من يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واستحقاق
اشتقاق
عن الرسالة القشيرية
۱۱۱
لا يعرف إلا به وتلك هى الدرجة العظمى الكلية فيما يتعلق بمعرفة
الحقيقة
من كل ماسبق يمكننا أن نستنتج أن الصوفية ليست شيئاً أضيف إلى الدين الإسلامي إنها ليست شيئاً أتى من الخارج فألصق بالاسلام وإنما هي بالعكس تكون جزءاً جوهريا من الدين ۳۹ إذ أن الدين بدونها يكون ناقصاً بل يكون ناقصاً من جهته السامية أعنى جهة المركز الأساسي لذلك كانت فروضاً رخيصة تلك التي تذهب بالصوفية إلى أصل أجنبي يوناني أو هندى أو فارسى وهى معارضة بالمصطلحات الصوفية نفسها تلك المصطلحات التي ترتبط باللغة العربية ارتباطاً وثيقاً وإذا كان هناك من تشابه بين الصوفية وبين ما يماثلها فى البيئات الأخرى فتفسير هذا طبيعي لا يحتاج إلى فرض الاستعارة وذلك أنه مادامت الحقيقة واحدة فإن كل العقائد السنية تتحد في جوهرها وإن اختلفت فيما تلبسه من صور
ويجب
ألا نعطى عناية كبيرة - حينما نتحدث عن أصل التصوف – لتلك المناقشات التي لا تنتهى بين مؤرخى التصوف خاصة بتحديد الفترة الزمنية
۳۹ قال الأستاذ و ماسينيون في دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية مادة تصوف أما دراسة مصادر التصوف فإن الشقة بيننا وبين استكمالها مازالت بعيدة وقد حار علماء الإسلاميات الأول في تعليل ذلك الخلاف الكبير فى العقيدة بين مذهب الوحدة الحالى ومذهب أهل السنة الصحيح فذهبوا إلى أن التصوف دخيل في الإسلام مأخوذ إما من رهبانية الشام وهو رأى ماركس وإما من أفلاطونية اليونان الجديدة وإما من زرادشتية الفرس وإما من فيدا الهنود وهو رأى جونس وقد بين نيكو لسون أن إطلاق الحكم بأن التصوف دخيل في الإسلام غير مقبول فالحق أننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التي اختص بها متصوفة المسلمين نشات في قلب الجماعة الإسلامية نفسها في أثناء عكوف المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئها وتأثرت بما أصاب هذه الجماعة من أحداث وماحل بالأفراد من نوازل على أنه إذا كانت مادة التصوف إسلامية عربية خالصة فمما لا يخلو من فائدة أن نتعرف على المحسنات الأجنبية التى أدخلت عليه ونمت في كنفه
۱۱
التي وجدت فيها لفظة صوفى
فإن الشيء قد يوجد قبل اسمه الخاص سواء وجد تحت اسم آخر أو وجد ولم تكن هناك الحاجة لتسميته ٤٠ وعلى كل حال ففيصل الحق في مسألة أصل التصوف هو ما يأتي
إن السنة ترشد في صراحة لالبس فيها - إلى أن الشريعة والحقيقة كليهما ينبعان مباشرة من تعليمات الرسول صلوات الله وسلامه عليه والواقع أن كل طريقة صحيحة تعتمد على سلسلة تصل دائماً إلى الرسول وإذا كانت
جماعة
٤٠ اشتهر هذا الاسم قبل المائتين من الهجرة فهو اسم محدث بعد عهد الصحابة والتابعين ابن
خلدون ويقول بعض العلماء إن هذا الاسم معروف فى الملة الإسلامية من قبل ذلك بل يذهب بعضهم إلى أنه لفظ جاهلى عرفته العرب قبل ظهور الإسلام قال أبو نصر عبد الله بن على السراج الطوسي المتوفى سنة ۳۷۸ هـ ۹۸۸ م في كتاب اللمع فى التصوف وأما قول القائل إنه اسم محدث أحدثه البغداديون فمحال لأنه في وقت الحسن البصرى كان يعرف هذا الاسم وكان الحسن قد أدرك من أصحاب رسول الله الله وروى عنهم وقد روى عنه أنه قال رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه وقال معى أربعة دوانيق فيكفيني ما معي وروى عن سفيان الثورى رحمه الله أنه قال لولا و أبو هاشم الصوفى ما عرفت دقيق الرياء وقد ذكر في الكتاب الذى جمع أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار وعن غيره يذكر فيه حديثاً أن قبل الإسلام قد خلت مكة في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفى فيطوف بالبيت وينصرف فإن صح ذلك فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يعرف هذا الاسم وكان ينسب إلى أهل الفضل والصلاح والله أعلم
ويعقب المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق على ذلك فيقول فاستعمال لفظ صوفى ومتصوف لم ينشر فى الإسلام إلا فى القرن الثاني وما بعده سواء أكان هذا التعبير عن هذا بالصوفى حدث في أثناء المائة الثانية كما هو رأى ابن خلدون المتوفى عام ٨٠٦ هـ ١٤٠٦م فى مقدمته أم كان لفظاً جاهلياً على ما ذكره صاحب و اللمع الذي يحاول أن يبرئ الصوفية من انتحال اسم مبتدع لم يعرفه الصحابة ولا التابعون
عن دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية
بعض الطرق فيما بعد استعارت أو بتعبير أصح تبنت بعض التفاصيل في الطريق وإن كان التشابه به هنا أيضاً يمكن أن يعزى إلى التماثل في المعارف وعلى الخصوص فيما يتعلق بعلم المقاطع والأوزان في مختلف فروعه فإن أهمية ذلك لا تعدو أن تكون أهمية ثانوية لا تمس الجوهر من قرب أو من بعد والحق أن التصوف عربى إسلامى كما أن القرآن - الذي يستمد التصوف أصوله منه مباشرة عربى إسلامى وإذا كان التصوف يستمد أصوله من القرآن فمن ألا يوجد قبل أن يفهم القرآن ويفسر ويتدبر تدبراً تنفجر عنه ينابيع الحقائق التي هي فى الواقع معناه العميق ولقد فسر القرآن أولا لغوياً ومنطقيا وكلاميًا ولكن تفسيره صوفيا اقتضى مرور زمن لتأمله في عمق وشمول وإذا كان القرآن مصدر الشريعة والحقيقة معاً فلا يوجد بينهما تناقض أو اختلاف ما وكيف يوجد الاختلاف ومصدرهما واحد وكيف يوجد الاختلاف والحقيقة لا تقوم إلا على الشريعة أساسها وفي سندها
الطبيعي
التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي المزعوم على أنه يجب ملاحظة أن التصوف الإسلامى – خلافاً للفكرة الشائعة حاليا عند الغربيين - لا يمت بأية صلة إلى ما يزعمون أنه تصوف مسيحى أعنى ذلك
النوع الذي يطلق عليه الميستيسيسم أما أسباب ذلك فإنها سهلة الفهم
وقد تضمنها ما سبق من حديثنا وهى
۱ - يبدو واضحاً أن الميستيسينم شيء خاص بالمسيحية وإنه لتشبيه قائم على ضلال ذلك الذى يستندون إليه فى ادعاء وجود ما يماثل الميستيسيسم في الأوساط التي لا تعتنق المسيحية ولاشك في أن هذا الفهم الخاطئ يرتكز على شيء من التشابه الخارجي الذي يتمثل في استعمال بعض التعبيرات ولكن هذا لا يسوغ قط دعوى
١١٤
التشابه وذلك لأن الفروق الجوهرية تفجأ النظر ولاتدع مجالا الميستيسيسم
خاص بالمسيحية إذن
عن
٢ - ثم إنه جزء من الشريعة إنه من قسم الظاهر وهدفه بعيد كل البعد أن يكون المعرفة المحضة بينما التصوف على خلاف ذلك
- ثم إن المسيحى الذي اتخذ الميستيسيسم سبيلا في الحياة ينهج في سلوكه منهجاً سلبيا إنه يقتصر على تلقى ما يأتيه دون أن يكون له أثر شخصى إنه لا طريقة له إذن يسلكها هادفاً من وراء سلوكها إلى بلوغ غاية معينة أجل هذا لم يكن فى المسيحية طرق صوفية ولذلك لا يتخذ المسيحي شيخاً وليس عنده فكرة عن السلسلة أو الإسناد الذي بواسطته يصل إليه التأثير الروحي الذي لابد منه في التصوف - والاختلاف فى الهدف أيضاً واضح فهدف التصوف المعرفة وهدف
ومن
أن التصوف
الميستيسيسم الحب والنتيجة الحتمية من كل ما سبق هي والميستيسيسم مختلفان كل الاختلاف بل إن اللغة العربية لا تشتمل على أية كلمة تترجم – ولو تقريبيا – كلمة ميستيسيسم ذلك أن الفكرة التي تعبر عنها هذه الكلمة غريبة كل الغرابة عن
السنة الإسلامية
علوم التصوف
إن التصوف في جوهره معرفة فى محيط ما وراء الطبيعة على أن التصوف وإن كان معرفة عليا فإن بعض العلوم يتصل به اتصالا وثيقاً بل إنها ليست إلا تطبيقاً لبعض جوانبه وهذا مما عن الميستيسيسم من هذه العلوم علم الفلك القديم وهو ليس تنجيماً كما يعتقد الباحثون
يميزه
أيضاً
الحديثون وإنما يتعلق بمعرفة أسمى وأعمق وكذلك الأمر في الكيمياء
القديمة إنها ليست استخراج الذهب الحقيقى وإنما كانت رمزاً لمعرفة لاصلة لها بالمادة وليس لها بالكيمياء الحديثة أى ارتباط أو تشابه إن الباحثين الحديثين لا يعرفون عن المعنى الحقيقى لهذين العلمين شيئاً على أن هناك علوماً أخرى لا يعرف عنها متفلسفة العصر الحديث إلا اسمها مع أنها كانت من الدقة بحيث تبلغ درجة العلوم الرياضية
من شروط التصوف
ولابد في التصوف من شرط جوهرى هو التأثير الروحي أو بتعبير أدق البركة وهى لا تتأتى إلا بواسطة شیخ خ ٤١ ومن هنا كانت السلسلة وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخاً فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين ونختم هذه الكلمة بملاحظة جوهرية تتعلق بطبيعة التصوف وهى أن
٤١ يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبداً هذا و أبو يزيد يقول من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان وسمعت الأستاذه أبا على الدقاق يقول الشجرة إذا نبتت ينفسها من غير غارس فإنها تورق لكن لا تثمر كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا فنفسا فهو عابد هواه لا يجد نفاذاً
ه الرسالة القشيرية ص ١٩٩
ويشترط الإمام الرازي في الشيخ أن يكون مخلصاً صادقا قد انتهج الصراط المستقيم وأن يكون سالكا أما السالك فلأن الوصول تارة بالجذبة على ما قال عليه السلام جذبة من جذبات الحق توازی عمل الثقلين وأخرى بالسلوك والأول لا يصح أن يقتدى به لأنه مثل من وجد كنزاً فصار غنياً فإنه وإن كان ذا مال لكنه غير عالم بكيفية اكتساب المال فلا ينتفع به التلميذ الطالب لتعلم كيفية الاكتساب وأما الثانى فهو الذي يصلح لتربية المريد لأن من سلك الطريق وعرف مراحلها ومنازلها واطلع على متالفها ومعاطبها أمكنه إرشاد الغير إلى سواء السبيل والإخبار عن كيفية تلك الأحوال على التفصيل
شرح الإشارات ۱۱
١١٦
التصوف ليس عملا علميا ولا بحثاً نظريا إنه لا يتعلم بواسطة الكتب ٤٢ على الطريقة المدرسية بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقو للتأمل والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفاً على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلا لفهمه ولأجل أن يسير الإنسان في طريق التصوف لابد له من
٤٢ من كلام الإمام الغزالى فى المنقذ من الضلال ه ثم إلى فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتى على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم
وعمل
وكان حاصل عملهم قطعهم عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله العلم
وكان
أيسر على من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل 1 قوت القلوب لأبي طالب المكي - رحمه الله - وكتب و الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي و أبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام مشايخهم حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعليم
والسماع
فظهر لي أن أخص خواصهم مالا يمكن الوصول إليه بالتعليم بل بالذوق والحال وتبدل
الصفات
وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابها وشروطها وبين أن يكون صحيحا وشبعان وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على الفكر وبين أن يكون سكران
بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران ومامعه من علمه شيء
والصاحي يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء
والطبيب فى حالة المرض يعرف حدا للصحة وأسبابها وأدويتها وهو فاقد الصحة كذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال وأن ما يمكن تحصيله بطرق العلم فقد حصلته ولم يبق إلا مالا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك المنقذ من الضلال
۱ - استعداد فطری خاص ٤٣ لايغنى عنه اجتهاد أو كسب ٢ - الانتسب إلى سلسلة صحيحة إذ أن البركة التي تحصل من
الانتساب إلى السلسلة الصحيحة هي الشرط الأساسي الذي لا يصل الإنسان بدونه إلى أى درجة من درجات التصوف حتى البدائية منها
- ثم يأخذ المتصوف الطيب الفطرة الذي باركه شيخه في الجهاد الأكبر التأمل الروحى وفى الذكر أي استحضار الله في كل ما يأتي وما يدع وفى تركيز الذهن في الملأ الأعلى فيصل موفقا من درجة إلى درجة حتى يصل إلى أعلى الدرجات وهى حالة تسمو على حدود الوجود المؤقت فيصبح ربانيا ذلك هو الصوفى الحقيقى
مقامات الوصول
وحينما يقطع الإنسان الطريق يصل إلى الولاية والولى إما أن يمكث وليا فقط فتكون معرفته خاصة أو يختاره الله لتأدية رسالة إلى الأخرين فيكون نبيا أو يكون رسولا والرسول نبي ولكن رسالته تأخذ صبغة عالمية أما رسالة النبي فإنها محددة الأهداف محدودة المكان إن الرسول مظهر الصفة الإلهية الرحمن فى أنحاء العالمين إنه رحمة للعالمين فلا تقتصر رسالته على دائرة خاصة ولا شك أن النبوة أسمى من الولاية ومع ذلك فقد رأى بعضهم أن مقام الولى القرب من الله بينما النبي متجه بطبيعة رسالته إلى الخلق ولكن
6
جميع
٤٣ يرى الإمام الرازي أنه لابد - لتكون الرياضة نافعة - أن تكون نفس المريد مستعدة لهذا الحديث ملائمة له إذ لو لم يكن كذلك ما نجحت فيه الرياضة أصلا لأن تأثير الرياضة ليس إلا في إزالة العوائق ورفع الحجب والأستار وزوال العائق لا يكفى فى حصول المطلوب بل لابد معه من القابل المستعد فإذا لم تكن النفس مستعدة لم تفد الرياضة سعادة أصلا لكنها تفيد السلامة شرح الإشارات ۱۱
۱۱۸
ذلك خطأ محض فإن النبوة تتضمن الولاية فهى متضمنة لمقام القرب ثم إنها أكثر من الولاية وعلى ذلك فإن حالة الولى ناقصة بالنسبة لحالة النبي إنها ليست قاصرة بالنسبة لطبيعتها الخاصة ولكنها قاصرة بالنسبة لدرجتها في العموم وهذا العموم يصل إلى درجات ازدهاره في الرسالة إذ هي عالمية
والرسول لا غيره - هو حقيقة الإنسان العالمى
وللرسول - كما للنبي - اتجاهان
اتجاه داخلي إنه الاتجاه نحو الحق
- اتجاه خارجي إنه الاتجاه نحو الخلق
ودرجة الرسول العالمية أسمى من درجة النبي المحددة ودرجة النبي المحدودة أسمى من درجة الولى الخاصة ومقام الجميع القرب
۱۱۹
الفصل الثاني التصوف والشريعة
- التصوف والدين
- التصوف والتحلل من الشريعة
- وحدة الوجود
- السجود للأوامر الإلهية كمظهر للتدين السليم والتصوف الصحيح
التصوف والدين الإسلامي
اللتصوف صلة بالدين
الاتصال
الواقع أنه لا يوجد صوفى لا يؤمن بالله واليوم الآخر ذلك لأن التصوف لا يخلو من الغاية وغايته دائماً روحية رضاء الملأ الأعلى حب الله به الفناء فيه ليصبح عارفا به سبحانه تلك هی الأغراض التي يسعى إليها أو إلى بعضها الصوفى لذلك لا يتأتى لشخص ليس بمؤمن أن يسعى إليها ذلك أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكماله والسعى وراء هذا الكمال وهي إذن مجاهدة ضد النفس والأهواء والشهوات حتى يصل الإنسان إلى الغايات التي وضحناها سابقاً وهذه الغايات تقوده نحو الكمال أو نحو المثل العليا ولكن التخلق بأخلاق الله لا يتأتى إلا عن طريق الوحى
المعصوم فلابد إذن من اتباع تعاليم الرسول اتباعاً سليماً وبالتالي فإنه لا يتأتى أن يوجد تصوف قط مالم يكن اتباع كامل لشريعة صادقة وإن التصوف الإسلامي لم يوجد إلا باقتداء الصوفية اقتداء تاماً برسول الله لقد أحبوه واتبعوه وحققوا بذلك قول الله تعالى
واليوم الآخر
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله وذكر الله كثيراً كم ويمكننا أن نقول فى صراحة أكثر إنه لا يوجد الآن تصوف إلا في المحيط
الآن نص مقدس لم يدخله التحريف إلا في
الإسلامي وذلك أنه لا يوجد النصوص الإسلامية إن القرآن كلام الله وهو الآن كما كان أيام رسول الله
۱۳
وقد عرف ذلك بعض الغربيين الذين استنارت بصائرهم فاعتنقوا الإسلام مستمسكين بوحيه سائرين على نسق رسوله مستجيبين إلى أوامره
الله
مجتنبين نواهيه وساروا فى الطريق فوصلو إلى روضات القرب من سبحانه وكل من لم ينطلق من الشريعة الصادقة والاتباع الدقيق فإنه لا يصل إلى شيء من درجات الصوفية إن الصوفية لا تتأتى إلا بالاقتداء والقدوة المعروف الآن سيرتها في صدق ويقين هو رسول الإسلام محمد ع إنه الأسوة الوحيدة الآن لكل من يحب القرب من الله في صدق لقد تناقش الناس كثيراً في كون محمد الله هو القدوة لصوفية الإسلام بل سخر بعضهم حينما كانوا يسمعون أن محمداً أول صورة حملت الصوفية على اقتفاء آثارها
والواقع أن التصوف لا يعدو أن يكون جهاداً عنيفاً ضد الرغبات ليصل
الإنسان إلى السمو أو إلى الكمال الروحي ليكون عارفاً بالله وليس من عناصر فكرة الاتحاد أو الوحدة أو الحلول بل إن فكرة الاتحاد والوحدة والحلول يتبرأ منها الصوفية وهم بعيدون عنها كل البعد على الرغم
مما يقذف به أعداؤهم وما اتهامات أعدائهم إلا اتهامات أعداء
هذا
هو المحاسبي الذى لا يشك فى أنه من زعماء الصوفية ليست عنده فكرة الاتحاد أو الحلول أو ماشاكل ذلك من حالات السكر التي يشعر بها بعض الصوفية حينما تسيطر عليهم فكرة الله فتأخذ بنفوسهم وحواسهم وتأخذ بكل مافيهم من تفكير فيرون في النهاية أنه
أينما تولوا فثم وجه الله كم
و إن الله معنا
وإذا كان - الاتحاد والحلول ووحدة الوجود – ليس من عناصر التصوف وأن عنصره الأساسى - كما يتضح ذلك من تاريخ الصوفية
المحاسبي أو الغزالى أو رابعة العدوية أو كثير غيرهم – ليس إلا الجهاد الرضاء الله وتزكية النفس حتى تعرف الله به إذا كان الأمر كذلك فإننا نعتقد – ولسنا في ذلك الرأى من المجددين - أن محمداً ع كان أول قدوة لصوفية الإسلام
أن
بقى الحديث عن القرآن وقد كثر الكلام فيه أيضاً ومحط النزاع هو القرآن كتاب دنيا وآخرة يدعو إلى هذه وتلك ويقول في صراحة
وإيجاز ولا تنس نصيبك من الدنيا
أما التصوف فهو توكل وزهد وليس له من هذه الحياة الدنيا قليل
ولا كثير
والحقيقة أن كلا من هذين الرأيين يحتاج إلى تحديد فالقرآن ليس كتاب دين ودنيا على الإطلاق إنه لا يسوى بين الدنيا والآخرة والصوفي ليس
رجل آخرة فقط لأنه يصارع في الحياة صاعداً بها نحو الكمال
أجل
إن القرآن يدعو إلى ألا ننسى نصيبنا من الدنيا وإلى أن نكون أقوياء وإلى أن السن بالسن والعين بالعين والأنف بالأنف والجروح قصاص وإلى أن الجهاد واجب على كل مسلم وأسس القرآن تشريعاً لكثير
من المشاكل الدنيوية كل هذا صحيح
ولكننا لو نظرنا بتأمل لوجدنا أن الحياة الآخرة - في نظر القرآن – خير
۱۵
وأبقى وأن أكرمكم عند الله أتقاكم
وأن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وأنها لا تساوى عند الله جناح بعوضة ثم هو بعد ذلك يذكر أن عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً إلى آخر ما في القرآن من آيات ترشد إلى أن الحياة في هذا العالم الحياة الدنيا وأن الآخرة خير وأبقى هی والجهاد يدعو إليه الإسلام من أجل الآخرة وهو جهاد في سبيل الله وقد
هي
حقا
رفع الصوفية رايته خفاقة في كل العصور أما أن الصوفى رجل آخرة فقط فهذا أيضاً فيه كثير من الوهم أو على الأقل عدم التحديد فهذا الصوفى يتزوج ويدعو هو الآخر إلى أن اليد العليا خير من السفلى وأن المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وأن العيش من كسب حلال طيب خير من أن يتكفف الإنسان
الناس أعطوه أو منعوه ولكنه وللآخرة خير لك من الأولى
مع
ذلك يتمذهب بمذهب القرآن
تعالى
فمعنى إيثاره للآخرة إذن إنما هو أن يريد بكل عمل من أعماله وجه الله
وما من شك في أن القرآن الكريم والرسول مع هلال يطويان جميع المسائل ويضعانها تحت لواء الله سبحانه إنهما يصبغان كل عمل من أعمال الإنسان بصبغة الله يريدان أن يكون كل عمل إنما يراد به وجه الله سبحانه فتكون الأعمال بهذا عبادة وتكون الدنيا ديناً ويكون الإنسان إلهياً يتخلق بأخلاق الله
١٢٦
التصوف والتحلل من الشريعة الإسلامية
في كل ميدان من الميادين نجد الأدعياء نجدهم في الميدان الديني وفى الميدان السياسي وفى الميدان العلمى ونجدهم كذلك في ميدان التصوف وهدف هؤلاء الأدعياء معروف إنه الاستفادة المادية من أقصر الطرق وكما لا يضر الدين ولا يضر العلم أن ينتسب إليه الأدعياء المزيفون فكذلك الأمر فيما يتعلق بالتصوف
وكما أن للدين وللعلم حقائق معروفة وسمات معينة وحدوداً من شأنها أن تظهر زيف المزيفين وباطل المبطلين فكذلك الأمر فى الجانب الصوفى نقول هذا بمناسبة ما سمعناه حديثا عن بدعة ضالة أخذت تتسرب إلى بعض النفوس التي لم تتعمق فى الجانب الدينى عموماً ولا في الجانب الصوفى خصوصاً
هذه البدعة ترى أن الشخص الذى وصل إلى مرتبة معينة من المعرفة تسقط عنه التكاليف الشرعية فليس عليه صلاة ولا زكاة ولا حج ولا غير ذلك مما يلتزمه المسلمون ومن المؤسف أن تكون هذه الفكرة قد نشأت أول ما نشأت في العصر الحاضر - بين رجال درسوا القانون والتشريع يزعمون أنهم وصلوا إلى درجة من المعرفة الصوفية العليا وإلى خد لا تجب عليهم فيه التكاليف الشرعية وإذا بحثت عن مصدر هذه المعرفة التى وصلتهم فسترى عجباً عجاباً
۱۷
ستعلم أن مصدر هذه المعرفة إنما هو الأرواح التي يستحـ يزعمون - الوسيط وتتقمصه وتكشف لهم عن الغيب من أزله إلى أبده
جسم
ومن بدايته إلى نهايته ومن مشرقه إلى مغربه ! ! وقد انتشرت بدعة تحضير الأرواح فى وسطهم يتحدثون عنها مصبحين وممسين حتى لقد أصبحت دينهم الذى لا يدينون بغيره ولا يتلقون الوحى عن سواه وأصبحت كلمة الأرواح عندهم تحل محل القرآن الكريم والسنة
المطهرة
فزعم
ومن الغريب أنهم يدعون انتسابهم إلى التصوف ويزعمون أنهم من كبار
الصوفية ومن أساطين العارفين ومن عباقرة الملهمين وقد بلغ الأمر بأحدهم أن زعم في فترة من الفترات أنه من كبار الأولياء ثم لم يكفه ذلك فزعم أنه رسول ملهم ثم تجاوز ذلك إلى أنه عيسى عليه السلام ثم كان فيما بعد محمداً ل ثم تخلص من البشرية جملة لأخصائه أن الألوهية حلت فيه والأرواح التي يستحضرها تؤيده في كل ما يزعم ولاترى هذه الأرواح كما لا يرى هو في ذلك شذوذاً ولا تناقضاً وصدق الله تعالى إذ يقول فيه وفى أمثاله ممن يتصلون بالجن وينحرفون عن سواء السبيل وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ولعلك تتساءل هل بين تحضير الأرواح والتصوف من صلة
وجواب رجال التصوف في ذلك حاسم قاطع
ليس هناك من صلة بين تحضير الأرواح والتصوف اللهم إلا إذا كانت
هناك صلة بين المتناقضات
۱۸
إن رجال التصوف يعتبرون تحضير الأرواح عملة زائقة لأنها تعامل مع الجن والشياطين ! ! ويتذكرون فى هذه المناسبات قول الله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون
السمع وأكثرهم كاذبون
وقوله تعالى
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون كله وليس من غرضنا هنا أن نتحدث عن تحضير الأرواح كظاهرة خداعة وليس من غرضنا أن نتحدث عن التهريج والزيف والضلال والانحراف الذي يسود الأوساط التي تعمل على ترويجه وليس من همنا أن نبين نشأتها التاريخية في العرب بين الأوساط اليهودية التي روجت لها وأنفقت في سبيل نشرها الأموال الطائلة لأغراض وأهداف يعرفها المحيطون بسر انتشار هذه الدعوة تحضير الأرواح
إن غرضنا الآن إنما هو بيان موقف الصوفية من مسألة إسقاط التكاليف الشرعية وهى مسألة لم يبتدعها من يزعمون التصوف في العصر الحديث وليس لهم حتى فضل السبق فى الباطل إن كان السبق في الباطل له
فضل إنها ضلالة قديمة نشأت في أوساط متحللة انتسبت إلى التصوف انتساباً باطلا وحاربها ممثلو التصوف فى كل عصر وفي كل بيئة ومما لاشك فيه أن القول الفصل في كل مشكلة من المشكلات إنما يرجع فيه
إلى الذين يمثلون الموضوع الذى تنتسب إليه المشكلة وإذا رجعنا إلى زعماء قضية التصوف المنقذ من الضلال
۱۹
التصوف الذين لا يختلف فى زعامتهم اثنان نجدهم -- سواء في ذلك القدماء منهم والمحدثون - نجدهم ينكرون الفكرة إنكاراً تاماً ويرونها زيفا وضلالا
وانسلاخاً
عن الدين بالكلية
وسنتحدث عن آراء بعض القدماء في هذا الموضوع ثم نفصل نوعاً ما رأى الشيخ عبد الواحد يحيى وهو زعيم علم من زعماء الصوفية في العصر
الحديث
قال أبو يزيد البسطامي لأحد جلسائه
قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذى قد شهر نفسه بالولاية – وكان رجلا مشهوراً بالزهد - فمضينا إليه فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة فانصرف أبويزيد ولم يسلم عليه وقال هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله ع فكيف يكون مأموناً على ما يدعيه ! ومن كلام أبي يزيد
لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرقى في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى وحفظ الحدود وأداء
الشريعة ويقول سهل التسترى معبراً عن أصول التصوف أصول طريقنا سبعة التمسك بالكتاب والاقتداء بالسنة وأكل الحلال وكف الأذى وتجنب المعاصى ولزوم التوبة وأداء الحقوق
ويقول الجنيد - سيد هذه الطائفة وإمامهم على حد تعبير القشيرى ه من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة
١٣٠
وقال
ه علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله
وقال
الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه
الصلاة والسلام واتبع سنته ولزم طريقته
وذكر رجل المعرفة أمام الجنيد وقال
وجل
أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز
فقال الجنيد
إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندى عظيمه والذى يسرق ويزنى أحسن حالا من الذي يقول هذا فإذا ما وصلنا إلى الإمام الغزالى فإننا نجده يقول في شيء من التفصيل فيه دقة وفيه استدلال غاية في القوة
D
واعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل والمدعى فيه كثير ونحن نعرفك
علامة له
وذلك أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع موقوفة على توقيفاته إيراداً وإصداراً وإقداماً وإحجاماً إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل فكيف يصل إليه من أهل الفرائض !
فان قلت فهل تنتهى رتبة السالك إلى الحد الذي ينحط عنه فيه بعض وظائف العبادات ولا يضره بعض المحظورات كما نقل عن بعض المشايخ من
۱۳۱
التساهل في هذه الأمور
وأقول لك
اعلم
أن هذا عين الغرور وأن المحققين قالوا
ه ولو رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشى على الماء وهو يتعاطى أمراً يخالف الشرع فاعلم أنه شيطان وهو الحق
فإذا ما انتهينا أخيراً إلى أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه فإننا نجده
يقول
ه إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك إن الله تعالى ضمن لى العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضها على الكتاب والسنة
والصوفية يتبعون في كل هذا النصوص القرآنية والسنة القولية والعملية للرسول وهم يعلمون - لاشك - البديهات التاريخية من أن الرسول كان المثل الأعلى في أداء الشعائر إلى آخر لحظة من حياته الطاهرة هذا رأى القدماء وخير ما نختمه به إنما هو الحديث النبوى الكريم وسئل النبي الا الله عن قوم تركوا العمل بالدين وأحسنوا الظن في الله
فقال كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل
۱۳
التصوف والتحلل من الشريعة الإسلامية
رأى المرحوم الشيخ عبد الواحد يحيى ١
8
يبدو أن كثيراً من الناس يشكون فى ضرورة التزام الشريعة لمن يريد أن يسلك السلوك الصوفى وهذا فى الواقع استعداد نفسى لا يوجد إلا في الغرب
الحديث ولاشك في أن أسباب ذلك متعددة ولا يعنينا هنا البحث في مدى المسئولية التي تقع على عاتق رجال الدين أنفسهم الذين يميلون إلى إنكار كل مايتجاوز
حدود الشريعة في مظهرها الحرفى فليس ذلك جوهر بحثنا هنا بيد أنه من المدهش أن بعض من يزعمون الانتساب إلى التصوف يقعون فيما وقع فيه رجال الشريعة وإن كان بطريقة عكسية ذلك أنهم ينكرون ضرورة الشريعة أو يهملون العمل بها
وقد يكون من المحتمل أن نرى أحد ممثلى الشريعة يجهل التصوف وإن كان جهله لا يبرر إنكاره ولكن ليس من المحتمل وليس من الطبيعي أن يجهل رجل التصوف ميدان الشريعة ولو من جانبها العملى ذلك أن الأكثر وهو التصوف يتضمن بالضرورة الأقل وهو الشريعة على أن نظرة من يريد أن يسلك السلوك الصوفى إلى الشريعة من حيث
۱ وهو في هذه الكلمات يكتب عن تجربة وخبرة وممارسة لاعن وجهة نظرية فحسب
۱۳۳
هذه
عدم أهميتها وعلى الخصوص أهمية الجانب العملي منها بالنسبة له النظرة تتضمن ولو نظرياً تقليل أهمية الجانب العملي في التصوف نفسه وفي هذا الخطورة كل الخطورة فإنه من المشكوك فيه كثيراً أن يتوفر للشخص الذي عنده هذه الفكرة الاستعداد الصوفى ومن الخير له أن يلتزم الشريعة التزاماً كليا قبل يبدأ السلوك فإذا لم يمكنه التزامها فلا خير فيه بالنسبة للجانب الصوفى
إن تقليل شأن الشريعة إنما هو مظهر من مظاهر الروح التي لا تبالى بما أنزل الله وعادة تكون الروح الخاضعة لما أنزل الله هو أول خطوة في طريق
السالكين وتجاهل الناحية العملية إنما هو سمة من سمات الغرب الحديث على الخصوص ومن الطبيعى أن يقوم الجو الدنيوي الذي يعيش فيه الغربيون عقبة في سبيل فهمهم للجانب العملي من الشريعة وممارستهم له بيد أن مقاومتهم لهذا الجو الدنيوى هو بالضبط العلاج لانحرافهم هذا وهو السبيل إلى عودتهم إلى النهج المستقيم أعنى التزام الشريعة
سمة
سمات من
قلنا إن الاتجاه النفسى الذى نتحدث عنه هنا إنما هو الغرب الحديث وفى الواقع لا يمكن أن يوجدها هذا الاتجاه في الشرق ذلك أن الروح الدينية الصحيحة لاتزال مسيطرة في بيئاته
6
ثم إن الشريعة والحقيقة متصلتان اتصالا يجعل منهما مظهرين لشيء واحد أحدهما خارجي والآخر داخلى أو أحدهما ظاهر والآخر باطن لذلك كان ما يوجد فى الغرب الآن من جماعات تدعى أنها على النهج وهى مع ذلك لا ترتكز على أية شريعة إلهية مجرد خداع ومن
الصوفي
١٣٤
البديهي أن هذه الجماعات - ومن ة النظر الصوفية الصحيحة – ليست على
شيء
ولشرح الأشياء بأبسط الطرق نقول
إن الإنسان لا يشيد القصر فى الهواء إنه لا يشيده على أساس وكل فكرة لا ترتكز على أساس من السنة الصحيحة إنما هي بناء في الهواء إنها بناء على
غير
أساس
والبناء الذي يمكن أن يبقى على الدهر لابد له من أساس مدعم وعلى الأساس يرتكز البناء كله حتى الأجزاء العليا منه والارتكاز على الأساس
يستمر حتى بعد انتهاء البناء
هی
وعلى هذا النمط تكون النسبة بين الشريعة والتصوف فالشريعة الصحيحة الأساس الذى لابد منه لكل سالك وكالأساس تماماً لا يمكن طرح
الشريعة بعد سلوك الطريق
بل نقول أكثر من ذلك إنه كلما سار التصوف في طريقه واستغرق فيه بدت له ضرورة الشريعة واستنارت معرفته بها وأصبح فهمه لها أكثر عمقاً وأكثر دراية بحقيقتها من هؤلاء الذين درسوها وآمنوا بها دون أن يضربوا بسهم في الميدان الصوفى ذلك أنهم لا يرون من الشريعة إلا مظهرها الخارجي ولكن
الصوفى يعيش في جوها الروحى ويحياها إذا أمكن هذا التعبير على أن هذا الذي لا يعتنق شريعة صحيحة ولا يلتزمها لا يمكن أن يحيا إلا حياة دنيوية بحتة فلا يمكن أن يطلق عليه رجل دين فضلا عن أن يطلق
عليه وصف الصوفى على أن الغربيين الذين يجعلون الدين بمعزل عن نشاطهم اليومي كما هو
۱۳۵
شأن الأكثرية الساحقة منهم لا يمكن أن يوصفوا بأنهم متدينون وإن آمنوا بعيسى وأدوا الشعائر الكنسية
وإذا كان لا يقبل من رجل الدين أن يعلن تدينه دون أن يجعل للشريعة السيطرة على قياده فإنه لا يقبل من باب أولى من رجل التصوف أن يزعم
انتسابه إلى الصوفية دون أن تسيطر شعائر الدين والتزاماته على حياته وهناك لاشك نوعان من الحياة حياة دينية وحياة دنيوية ومع ذلك فالفرق بينهما إنما هو من جهة ما تصطبغ به فكرة الإنسان عن الأعمال التي
يؤديها
أريد أن أقول إن الأعمال فى نفسها لا توصف بأنها دينية أو دنيوية وإنما يتأتى لها أحد الوصفين بسبب سيطرة الفكرة الدينية عند القائم بهذه الأعمال أو عدم سيطرتها وقد يكون العمل واحداً في نوعه ويؤديه شخصان فيوصف عند أحدهما بأنه ديني وعند الآخر بأنه دنيوى فإن كان القصد الله فالعمل ديني وإن كل القصد شيئاً آخر فالعمل دنيوى والحديث الشريف يوضح هذه الفكرة كل التوضيح
ه إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن البديهي أن الحديث في أوله عام بالنسبة لكل الأعمال وأن مسألة
الهجرة فيه تطبيق جزئى لقضية عامة
وفى العصور القديمة لم يكن هناك تفرقة بين دين ودنيا بل لم يكن هناك
رواه البخاري في صحيحه
١٣٦
مجرد الفهم أو مجرد التخيل لفكرة الانفصال هذه وإنما نشأت هذه الفكرة حينما تدهورت الإنسانية وانحطت شيئاً فشيئاً وهانحن أولاء قد وصلنا في هذا التأخر إلى أن الغرب حاليا يصعب عليه كل الصعوبة أن يفهم فكرة ضرورة سيادة الروح الدينية في مجتمعاته إنه على نهج انفصالي لا يوجد في الحياة
السليمة
وإننا نرى ضرورة التزام الشريعة لكل إنسان ولكننا نؤكد -- ونحن على يقين من الأمر - لهؤلاء الذين يريدون أن يسلكوا الطريق الصوفى بأنهم لن يصلوا حتى إلى أولى مراحل الطريق إذا لم يلتزموا الشريعة التزاماً تاماً وبالله
التوفيق
۱۳۷
التصوف والتحلل من الشريعة الإسلامية
فتوى للإمام الغزالى ۳
كتب له بعض الزائغين
ما قوله متع الله المسلمين ببقائه ومتع الطالبين بمشاهدته ولقائه ومنحه أفضل ما منح أفضل خاصته من أصفيائه وأوليائه في قلب خصه الحق بأنواع من الطرف والهدايا ومنحه أصنافاً من الأنوار والعطايا يستمر له ذلك في الأوقات والأحوال متزايدة مع عدم العوائق والآفات جميع مع كون ظاهره معموراً بأحكام الشرع وأدائه منزهاً عن مآئمه ومخالفاته ويجد في الباطن مكاشفات وأنواراً عجيبة ثم إنه انكشف له نوع يعرفه أن المقصود من التكاليف الشرعية والرياضات الدينية هو الفطام عما سوى الحق كما قيل لـ موسى ه اخل قلبك أريد أن أنزل فيه فإذا تم الفطام وحصل المقصود بالوصول إلى القربة ودوام الترقى من غير فترة حتى إنه لو اشتغل بوظائف الشرع وظواهره انقطع عن حفظ
۳ هذه الفتوى ذكرها تاج الدين السبكى المتوفى سنة ۷۷۱ هـ في كتابه و طبقات الشافعية وهي موجودة في كتاب و سيرة الغزالى للأستاذ عبد الكريم العثمانى وفى المقدمة التي كتبها الأستاذ الدكتور مسلمان
دنيا لكتاب فيصل التفرقة !
۱۳۸
الباطن وتشوش عليه بالالتفات عن أنواع الواردات الباطنية إلى مراعاة أمر
الظاهر
وهذا الرجل لا ينزل يده من التكليف الظاهر ولا يقصر في أحكام الشريعة ولكن الاعتقاد الذى كان له فى الظواهر والتكاليف تناقص وتقاصر عما كان في الابتداء من التعظيم لوقعها عنده ولكنه يباشرها ويواظب عليها عادة لا لأجل الخلق وحفظ نظرهم ومراقبة الله بل صارت إلفا له
وإن نقص اعتقاده فيها فهو يعظمها
ما حكمها
ثم إن عرضت له شبهة
ه أن المقصود من الداعى والدعوة حصول المعرفة والقربة وإذا حصل هذا استغنى عن الداعي والواسطة
كيف معالجتها
فإن قلنا المعرفة لا تنتهى أبداً بل تقبل الزيادة أبداً فلا يستغنى عن الداعي أبداً لا محالة
فربما قال الداعي قد بين ما احتيج إلى بيانه وشرح معالم الطريق وذهب فلو احتاج السالك إلى مراجعته في زوائد وإيرادات لم تمكن المراجعة
في هذه الحالة
فيقول
ماهو طبيب علتى فى هذه الحالة لأنه غاب عن إمكان المراجعة فما
علاجه
نعم فالجواب مسوق حسبما عود من شافى بيانه
۱۳۹
الجواب وبالله التوفيق ينبغى أن يتحقق هنا أن من ظن أن المقصود من
التكاليف والتعبد بالفرائض الفطام عما سوى الله والتجرد له فهو مصيب في ظنه أن ذلك مقصود ومخطئ فى ظنه أنه كل المقصود ولا مقصود سواه بل الله تعالى في الفرائض التى استعبد بها الخلق أسرار سوى الفطام تقتصر بضاعة العقل عن دركها
ومثل هذا الرجل المنخدع بهذا الظن مثل رجل بني له أبوه قصراً على رأس جبل ووضع فيه شجرة من حشيش طيب الرائحة وأكد الوصية على ولده مرة بعد أخرى ألا يخلى هذا القصر عن هذا الحشيش طول عمره وقال إياك أن تسكن هذا القصر ساعة من ليل أو نهار إلا وهذا الحشيش
فزرع الولد حول القصر أنواعاً من الرياحين وطلب في البر والبحر أوتاداً من العود والعنبر والمسك وجمع فى قصره جميع ذلك من شجرات كثيرة من الرياحين الطيبة الرائحة
فانغمرت رائحة الحشيش لما فاحت هذه الروائح
فقال لاشك أن والدى ما أوصانى بحفظ هذا الحشيش إلا لطيب
رائحته والآن قد استغنينا بهذه الرياحين عن رائحته فلا فائدة فيه الآن إلا أن يضيق على المكان فرماه من القصر
فلما خلا القصر من الحشيش ظهر من بعض نقب القصر حية هائلة وضربته ضربة هائلة أشرف بها على الهلاك فتنبه حيث لم ينفعه التنبه إلى أن الحشيش كان من خاصيته دفع هذه الحية المهلكة وكان لأبيه بالوصية
بالحشيش غرضان
١٤٠
أحدهما
انتفاع الولد برائحته وذلك قد أدركه الولد بعقله والثاني اندفاع الحيات المهلكات برائحته وذلك مما قصر عن دركه بصيرة الولد فاغتر الولد بما عنده من العلم وظن أنه لاسر وراء معلومه ومعقوله كما قال
تعالى
نفسه
و ذلك مبلغهم من العلم الله
وقال
الله فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم داره والمغرور من اغتر بعقله فظن أن ما هو منتف عن علمه فهو منتف
ولقد عرف أهل الكمال أن قلب الآدمى كذلك القصر وأنه معشش حيات وعقارب مهلكات وإنما رقيتها وقيدها بطريق خاصة المكتوبات
والمشروعات
بقوله سبحانه
و إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً له
وقوله تعالى
كتب عليكم الصيام
فكما أن الكلمات الملفوظة والمكتوبة فى الرقية تؤثر بالخاصة في استخراج
الحيات بل في استسخار الجن والشياطين
وبعض الأدعية المنظومة المأثورة تؤثر في استمالة الملائكة إلى السعى في إجابة الداعي ويقصر العقل عن إدراك كيفيته وخاصيته وإنما يدرك ذلك بقوة النبوة إذا كوشف السر بها من اللوح المحفوظ
181
فكذلك صورة الصلاة المشتملة على ركوع واحد وسجودين وعدد مخصوص وألفاظ معينة من القرآن متلوة مختلفة المقادير عند طلوع
الشمس وعند الزوال
6
والغروب تؤثر بالخاصة فى تسكين التنين المستكن في
قلب الآدمى الذي يتشعب منه حيات كبيرة الرءوس بعدد أخلاق الآدمى يلدغه وينهشه في القبر متمكنا من جوهر الروح وذاته أشد إيلاما من لدغ مكن
من القالب أولا ثم يسرى أثره إلى الروح
وإليه الإشارة بقوله
يسلط الله على الكافر فى قبره تنينا له تسعة وتسعون رأساً صفته كذا
وكذا و الحديث
ويكثر مثل هذا التنين فى خلق الآدمى ولا يقمعه إلا الفرائض المكتوبة المنجية من المهلكات وهى أنواع كثيرة بعدد الأخلاق المذمومة
وما يعلم جنود ربك إلا هو كيك
فإذن في التكليف غرضان
أدرك هذا المغرور أحدهما
"
وغفل عن الآخر
وقد وقع لـ أبى حنيفة مثل هذا الظن في الفقهيات فقال أوجب الله في أربعين شاة شاة وقصد به إزالة الفقر والشاة آلة في الإزالة فإذا حصل بمال آخر فقد حصل تمام المقصود
فقال الشافعي رضى الله عنه
صدقت في قولك إن هذا مقصود وركب متن الخطر في حكمك بأنه لا مقصود سواه فيم تأمره إذ يقال له يوم القيامة كان لنا سر في إشراك
١٤٢
الغير الفقير مع نفسه في جنس ماله كما كان من يرمى سبعة أحجار في الحج
يؤدي بدلها خمس لآل
"
أو خمس أكبر إذ لم يقبله
وإذا جاز أن يتمحض التقييد في الحج وأن يتمحض المعنى المعقول معاملات الخلق فلم يستحل أن يجمع المعقول والتقييد جميعاً في الزكاة فتكون إزالة الفقر معقولة والسر الآخر غير معقول
وزاد أبو حنيفة على هذا فقال
المقصود من كلمة التكبير الثناء على الله بالكبرياء فلا فرق بينه وبين
ترجمته بكل لسان وبين قوله الله أعظم
فقال الشافعي
"
ومم علمت أنه لا فرق في صفات الله بين العظمة و الكبرياء مع أنه
تعالى يقول
العظمة إزارى و الكبرياء ردالى و الرداء أشرف من الإزار وهلا استنبط مقصود الخضوع من الركوع وأقمت مقامه السجود منه في الاستكانة لأنه أبلغ
فإن قلت لعل لله سرا في الركوع خاصة سوى ما فهمناه فلم يستحيل أن يكون له سر في كلمة السلام فلا يقوم مقامه الحديث وكل خطاب للآدمى وأن يكون له سر في القرآن المعجز ولا يقوم مقامه غيره وقد أقام الترجمة مقامه وأن يكون له سر في الفاتحة وقد أقام مقامها سائر القرآن فإن كان يقول المقصود معانى القرآن وتأثر القلب لاحروفه وأصواته فإنها آلات فهلا قال المقصود من حركة اللسان تأثر القلب فليكف عن
١٤٣
القراءة للجلوس مع الله تعالى على هيئة الإجلال والذكر والسؤال بصورة
الصلاة
وجميع ما ذكر أبو حنيفة بطلان مظنون غير مقطوع أما إقامة القراءة بالقلب مع ترك حركة اللسان وملازمة الذكر مع
ترك الركوع والسجود وصورة الصلاة فمقطوع ببطلانها بالإجماع وهذا
ما انجر به ذلك الخيال الضعيف إلى خرق الإجماع ومخالفة الشرع القاطع
فإذا كان المبتدئ فى المعرفة يجرد عن الصور ويطرح الصور فيطفئ نور معرفته نور ورعه فيثور عليه التنين فى قبره فيتعجب منه ويبدو له من الله مالم يكن يحتسب فإذا أصابته ضربة التنين قال ما هذا فيقال إنما كان ترياق هذا التنين صور الفرائض المكتوبة وإليه الإشارة بما يروى
ه إن الميت يوضع في قبره فتأتيه ملائكة العذاب من جهة رأسه
فيدفعها القرآن فتأتيه من جهة رجليه فيدفعها الحج الحديث فإن أصر هذا المغرور على جهالته وقال من بلغ رتبة الكمال كما بلغت أمن هذا التنين وطهر باطنه عنه فيقال له إنك مغرور في أمنك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون كم
فيم تأمن أن يكون التنين مستكنا في صميم الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد أو استكنان النار فى الرماد وإن مات فيعود حيا فإن منبته ومنبعه هذا القلب الذى هو مظنة الشهوات والصفات البشرية وقلع الحشيش لا يؤمن عوده مرة أخرى بأن يتجدد نباته مهما كانت الأرض معرضة لانصباب الماء إليها
من منابعها
•
١٤٤
فكذلك القلب مادام مصبا لواردات المحسات والشهوات لم يؤمن فيه
عود النبات بعد الانقطاع والانبتات
وننبه على هذه المعرفة بالتأمل في ثلاثة أمور
الأول
ثم سقط
بداية حال و إبليس وأنه كيف وصف بأنه كان معلم الملائكة عن درجة الكمال بمخالفة أمر واحد اغتراراً بما عنده من العلم
6
وغفلة عن أسرار الله في الاستبعاد ولم يسقط عن درجته إلا بكياسته وفطنته وتمسكه بمعقوله في كونه خيراً من آدم عليه السلام فننبه الخلق بهذا الرمز على أن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء
وكياسة ناقصة
الثاني حال آدم عليه السلام وأنه لم يخرج من الجنة إلا بركونه نهياً
واحداً ليعلم أن في ركوب النهي إبطال اعتقاد الكمال لخالقه الأمر الثالث حال رسول الله الله فإن هذا المغرور لعله يقول إنه لم تسلم له رتبة الكمال
ثم إنه لم يزل يلازم الحدود ويواظب على المكتوبات إلى آخر أنفاسه بل يزيد في فرائضه وأوجب عليه التهجد ولم يوجب على غيره
وقيل له
هو يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا م وإنما أوجبت عليه هذه الزيادة لأن الخزانة كلما ازداد جوهرها نفاسة وشرفاً ينبغي أن يزداد حصنها إحكاماً وعلوا فلذلك قيل في تعليل إيجاب
التهجد
١٤٥
إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هى ا أشد وطأ وأقوم قيلا الله فتبين له أن هذه الصلوات هى حصن الكمال فلا يبقى إلا به ولعل المغرور المعتوه يقول إنه كان يواظب عليها إشفاقاً على الخلق لأجل
الاقتداء لا لحاجته إليها في حفظ الكمال
فيقال له
فلم زاد عليه في التهجد وجوباً
هلا قال إن مبلغ درجة النبوة يستغنى عما يحتاج إليه غيره ولو قال لقبل منه كما قبل منه أنه أحل له تسعة من النساء بل ماشاء فإنه بقوة النبوة يقوى على العدل مع كثرة النساء كما قبل من المدرس أن يأمر تلامذته بالتكرار والتسهد ليلا وهو ينام
ويقول إنى بلغت درجة استغنيت بها عن ذلك
وليس يترك أحد تكراره بهذه الشبهة
ولعل هذا إذا اختاره ضحك الشيطان وسخر منه وقال له أنت أكمل
من النبي والصديق وكل من واظب على الفرائض وعند هذا يقطع الطمع من صلاحه فهو ممن قيل فيهم
وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبداً
مسألة
أما ما ذكره من أنه لو اشتغل بالتكاليف لشغله ذلك عن القربة التي نالها والكمال الذي بلغه فهو كذب صريح ومحال فاحش قبيح لأن التكاليف
قسمان
١٤٦
أمر ونهى
فأما المنهيات مثل الزنا
والكذب والقذف
6
والسرقة والقتل والضرب والميمة
فترك ذلك كيف يشغل عن الكمال وكيف يحجب عن القربة والكمال كيف يكون موقوفاً على ركوب هذه القاذورات
وأما المأمورات فالزكاة والصوم والصلاة
فكيف تحجبه الزكاة ولو أنفق جميع ماله فقد دفع السوء عن نفسه ولو صام جميع دهره فهل يفوته بذلك إلا سلطنة الشهوة فما الذى يفوت من الكمال بترك الأكل ضحوة النهار فى شهر واحد هو رمضان
وأما الصلاة فتقسم إلى
أفعال وأذكار
وأفعالها قيام وركوع وسجود
ولاشك فى أنه لا يخرج من القربة بالأفعال المعتادة فإن لم يصل فيكون إما قائماً أو مضطجعاً
وغير المعتاد هو السجود والركوع وكيف يحجب عن القربة ماهو سبب القربة قال الله لنبيه عل الله
واسجد واقترب
ومن عشق ملكا ذا جمال فإذا وضع وجهه على التراب بين يديه
استكانة له وجد في قلبه مزيج روح وراحة وقرب
ولذلك قال الله
١٤٧
وجعلت قرة عينى الصلاة
فاستدامة حال القربة واستزادتها فى السجود أيسر منه في الاضطجاع
والقعود
ومها ألقى في قلبه أن السجود سبب حرمانه عن القرب كان ذلك أنموذجاً من حال إبليس حيث ألقى في نفسه أن السجود بحكم الأمر
قربته وكماله
زوال
فكل ولى سقط من درجة القربة إلى درجة اللعنة فسببه ترك السجود
و مقتداه وإمامه إبليس
وكل ولى أسعد بالترقى إلى درجات القرب قيل له
واسجد واقترب
ومقتداه وإمامه الرسول
ولا ينبغي أن يتوهم الولى الخالص أنه بعيد عن خداع إبليس مادام في
هذه الحياة بل لا ينجو عنه الأنبياء
غير أنهم محفوظون كما قال تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولانبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم وأما أركان الصلاة فتكبير وفاتحة وركوع وسجود وتشهد لا فريضة
إلا هذا فما وجه الضرر في قوله
الله أكبر وفى الحمد لله والالتجاء إليه واستعانته وطلب الهداية
إلى الصراط المستقيم وهذا مضمون الفاتحة
١٤٨
وكل ذلك مناجاة مع
الله تعالى
ما يقوله مثلا وفى كل
وإن صح آلاف يوم نفس فليصرف هذه الأنفاس المعدودة إلى الذكر والسجود ولينقص هذه اللحظات من درجات كماله ليأمن بهذه المكتوبات عن ضرر التنين الذى لا يعتد بشر سواه ويتخلص من خطر الخطأ في هذا الاعتقاد
ولاشك في أن الخطأ ممكن فيه إن لم يكن مقطوعاً به وإن قال إن عزوف القلب إلى حفظ ترتيب الأفعال والأذكار هو الذي يشغلني عن درجة القرب فهو دعوى محال لأن الهدى لا يحتاج إلى تكلف الحفظ بل المشتهر غيره إذا حفظ شيئاً مرة يناسب حاله لم يعتبر اليقين به مع حفظ طريقه وإلحاحه بل يجد من نفسه في ذلك هزة ونشاطاً فكيف لا تكون قرة عين العبد فى مناجاة محبوبه وخدمته التي رسمها
وارتضاها له
مسألة
معنى ارتفاع التكليف عن الولى
بل معنى ارتفاع عن الولى أن العبادة تصير قرة عينه وغذاء روحه
لا يصبر عنه فلا يكون عليه كلفة فيه 1
بالعلم
وهو كالصبي يكلف حضور المكتب ويحمل على ذلك قهراً فإذا اكتمل صار ذلك ألذ الأشياء عنده ولم يصبر عنه فلم يكن فيه كلفة وتكليف الجائع ليتناول الطعام اللذيذ محال لأنه يأكله بشهوة ويلتذ به فأي معنى لتكليفه
٤ وفى ذلك يقول لا يؤمن أحدكم حق يكون هواه تبعاً لما جئت به ويقول نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه
١٤٩
فإذن تكليف الولى محال والتكليف مرتفع عن الولى بهذا المعنى لا بمعنى أنه
لا يصوم ولا يصلى ويشرب ويزنى وكما يستحيل تكليف العاشق النظر إلى معشوقه وتقبيل قدميه والتواضع له لأن ذلك منتهى شهوته ولذته فكذلك غذاء روح الولى فى ملازمة ذكره وامتثال أمره والتواضع له بقلبه لا يمكنه إشراك القالب مع القلب في الخضوع إلا بصورة السجود فيكون ذلك كمالا للذة الخضوع والتعظيم حتى يشترك في الالتذاذ قلبه وقالبه كما قيل
ألا
فاسقني
خمراً
وقل لى
أي ليدرك سمعى لذة اسمه كما أدرك ذوقى طعمه
هی
الخمر
بل تنتهى لذة الولى من القيام لربه قانتا مناجياً إلى أن لا يدرك الورم في
القدم
فيقال له ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول أفلا أكون عبداً شكوراً
مسألة
أما قولك إنه إذا تكلف المواظبة على العبادات المشروعة وقد تغير اعتقاده فيها وسقط وقعها من قلبه فهل ينفعه ذلك فاعلم أنه لو لم يعتقد أنه لا فرق بين وجودها وعدمها في حفظ درجة الكمال والقرب أو دفع مهلكات الباطل وجوز أن يكون الله تعالى سر فيها ليس يطلع عليه هو
فعبادته صحيحة وإن اعتقد أنه لا فرق بين وجودها وعدمها وأنه لا يتصور أن يكون تحت
١٥٠
خاصيته سر هو لا يطلع عليه فعبادته باطلة
بل إيمان بالإلهية والنبوة تخيل باطل فإنه إذا لم يجوز في كمال قدرة الله تعالى سرا بعينه من الأسرار وخاصية من الخواص في الأعمال والأذكار فليس مؤمناً بكمال القدرة ويرى القدرة مقصورة على قدرة عقله وهو كفر صريح وإن جوز ذلك وإن لم يكن اعتقد أنه لم يكلف به فهو كافر بالنبوة
جاهل بما علم بالضرورة من الشريعة فإنه ا بلغ قوله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا
وفهم الصحابة وأهل الإجماع وجوب الصلاة على العموم من غير
استثناء
فإن شك فى إيجاب الرسول فليتأمل القرآن والأخبار وإن شك في قدرة الله تعالى على نفسه في الأعمال والأذكار تكون الفريضة لأجله كالحصن له وجه الكمال وكالحراسة عليه من المهلكات الباطنة فليرجع إلى نفسه وليطالبها أنها عرفت استحالة ذلك بضرورة العقل أو نظره وأنه كيف يعتقد ذلك ويرى في عجائب صنع الله تعالى ما هو فرع
منه
حتى إن هذا الشكل المشتمل كل ضلع منه
عدداً
على خمسة عشر من حساب الجمل إذا
أثبت رقومه على خزف ولم يصبه ألم بشرط
مخصوص
ولو أعطى المرأة التي تعذرت عليها الولادة عند
الطلق سهلت عليها الولادة
وعرف ذلك بالتجربة وأنه يؤثر بخاصية
11
د
a
2
١٥١
تقصر عقول الأولين والآخرين عن إدراك وجه مناسبته
ويكثر مثل هذا في عجائب الخواص
فمن أين يستحيل أن يكون لنظم الكلمات الإلهية في الفاتحة – مع الجمع بين أعمال الملائكة جميع من القيام والركوع والسجود والقعود فإن كل واحد عمل صنف من الملائكة - خاصية فى النجاة الأخروية أو في حفظ درجة الكمال والقرب أو دفع المهلكات الباطنة التي تلدغ في القلب لدعاً أشد من لدغ الحيات والعقارب أو مؤثر في سعادة الآدمي بوجه آخر من الوجوه يقصر العقل عن إدراكه
فمن لم يؤمن بإمكان هذا فهو عديم العقل والإيمان جميعاً
مسألة
أما قوله المقصود المعرفة والاستواء على طريق السير إلى الله تعالى فقد استوى هذا السالك على الطريق وعرف الله وكان التكليف وسيلة الوصول إلى هذا المقصود وقد وصل واستغنى عن الوسيلة والمرشد وإن احتاج فقد توفى المرشد وتعذرت مراجعته
فهذا أيضاً يفهم جوابه مما سبق
لأن
جميع
ذلك صادر عن
ظنه أن
ما ليس حاصلا في علمه فليس حاصلا في نفسه وهو كعجوز ظنت أن ما تخلو عنه حجرتها تخلو عنه خزانة الملك ومملكته وأنه ليس في العالم سماء إلا سقف بيتها ولا أرض إلا عرصة بيتها
وهذا جهل عظيم فإن جميع ما وصل إليه الأولياء بالإضافة إلى مقدورات الله تعالى أقل من قطرة في بحر وإن سلم له وصوله درجة الكمال
١٥٢
فيجوز أن تكون صورة الصلوات الخمس بطريق الخاصية سبباً للترقى إلى درجات الكمال التي نالها أو يكون سبباً لبقاء الكمال أو دوامه أو يكون لرسوخه حتى لا يتزلزل في سكرات الموت فإن لم يواظب عليها فعساه أن يودعه الكمال عند الموت ويقال له إنما كان يثبت هذا إذا عصفت رياح الموت بالمسامير الخمس التي هي المكتوبات وكان يستحكم بها فلما خلا من المسامير تزعزع وانقطع فقد خبت وخسرت إذا فرحت بما عندك من العلم وسيقال لكم يوم القيامة
معاشر أهل الإباحة
و ما سلككم في سقر ماه
فتقولون
ولم نك من المصلين
فعلاج هذا المغرور الضعيف العقل المريض القلب أن يتأمل هذه
الأمور ويجوز الخطأ على نفسه والسلام
١٥٣
وحدة الوجود
۱ - نريد أن نبدأ مباشرة بملاحظة تزيل - بصورة متوقعة - حدة المناقشة في هذا الموضوع وذلك أننا بصدد وحدة الوجود ولسنا بصدد وحدة
الموجود
والموجود متعدد سماء وأرض جبال وبحار أشجار وأناسي إلخ وهو مختلف صلابة وهشاشة لوناً ورائحة وطعماً متفاوت ثقلا وخفة إلخ ولم يقل أحد من الصوفيين الحقيقيين - ومنهم ابن عربى والحلاج - بوحدة
الموجود وما كان لمؤمن ولا يتأتى لمؤمن أن يقول بوحدة الموجود وما كان للصوفية - وهم الذروة من المؤمنين - أن يقولوا -- وحاشاهم - بوحدة
الموجود
وقد تتساءل من أين إذن أتت الفكرة الخاطئة التي يعتقدها كثير من
الناس أن الصوفية يقولون بوحدة الموجود ! " من
وتفسير ذلك لا عسر فيه إن فريقاً من الفلاسفة في الأزمنة القديمة وفى الأزمنة الحديثة يقولون بوحدة الموجود بمعنى أن الله – سبحانه وتعالى عن إفكهم - هو والمخلوقات شيء واحد
قال بذلك هيراقليطس فى العهد اليونانى والله عنده نهار وليل صيف
وشتاء وفرة وقلة جامد وسائل إنه - على حد تعبيره - كالنار المعطرة
تسمى باسم العطر الذى يفوح منها تقدس سبحانه وتنزه عما يقول
6
١٥٤
والله
الأصيل
سبحانه وتعالى فى رأى شلى فى العصور الحديثة هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل جميل باسم وهو هذه النسائم العليلة التي تنعشنا ساعة وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادى في ظلمات الليل وهو هذه الورود اليانعة تنفتح وكأنها ابتسامات شفاه جميلة إنه الجمال أينما وجد أيضاً – سبحانه وتعالى – القبح أينما كان وكما يكون طفلا فيه نضرة وفيه وسامة يكون جثة ميت ويكون دودة تتغذى من جسد ميت ويكون قبراً يضم بين جدرانه هذه الجثة وهذا الدود أستغفرك ربى وأتوب إليك
ولوحدة الوجود - بمعنى وحدة الموجود - أنصار في كل زمان ولما قال الصوفية و بالوجود الواحد شرح خصومهم الوجود الواحد بالفكرة الفلسفية عن وحدة الوجود بمعنى وحدة الموجود وفرق كبير بينهما ولكن الخصومة كثيراً ما ترضى عن التزييف وعن الكذب في سبيل الوصول إلى هدم والغاية تبرر الوسيلة كما يقولون
الخصم وشيء آخر في غاية الأهمية كان له أثر كبير في الخطأ في فهم فكرة الصوفية عن الوجود الواحد وهو أن الإمام الأشعري رضي الله عنه رأى في فلسفته الكلامية أن الوجود هو عين الموجود ولم يوافقه الصوفية على هذه الفكرة الفلسفية ولم يوافقه الكثير من مفكرى الإسلام وفلاسفته على رأيه وهو رأى فلسفى يخطئ فيه أبو الحسن الأشعرى أو يصيب وما مثله في آرائه الفلسفية إلا مثل غيره فى هذا الميدان يخطئ تارة ويصيب أخرى ورأى مخالفوه أن الوجود غير الموجود وأنه ما به يكون وجود الموجود
ولما قال الصوفية بالوجود الواحد شرح خصومهم فكرتهم في ضوء رأى الأشعرى دون أن يراعوا مذهبهم ولا رأيهم ففسروا قولهم بالوجود الواحد
١٥٥
على أنه قول بالموجود الواحد
وهذا التفسير بهذه الطريقة يسحب الثقة فى آراء هؤلاء الخصوم وأمر ثالث يجب ألا نعيره أدنى التفات لأنه أتفه – في منطق البحث - أن من نعيره التفافاً وهو هذه الكلمات التى تناثرت هنا وهناك مخترعة ملفقة مزيفة ضالة في معناها تافهة فى قيمتها الفلسفية غريبة على الجو الإسلامي تنادى بصورتها ومعناها أنها اخترعت تضليلا وافتياتاً إنها هذه الكلمات التي يعزونها إلى الخلاج رضوان الله عليه أو إلى غيره لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه لقد اخترعوها اختراعاً ثم وضعوها أساساً تدور عليه أحكامهم بالكفر والضلال ويكفى أن يتشبث بها إنسان فيكون فى منطق البحث غير أهل للثقة
الله
٢ - الوجود الواحد وهل فى الوجود الواحد من شك إنه وجود المستغنى بذاته عن غيره وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن وليس لكائن غيره سبحانه الوجود من نفسه إنه سبحانه الخالق وهو البارئ وهو المصور هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء ومن بعض معانى هذا التصوير قوله تعالى
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين وصلة الله بالإنسان إذن هي أنه سبحانه يمنحه الوجود الذي يريده له
في كل لحظة اللحظات المتتابعة فتشكل حياته في كل لحظة بصورة أمده
من
الله سبحانه وتعالى بها
وصلة الله بكل كائن إنما هي على هذا النمط إنه سبحانه مثلا يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكها من أحد من بعده إنه يمسكها وجوداً ويمسكها تدبيراً ويمسكها تماسكا وتناسقاً إنه يمسك فيهما الكيف والكم وإذا ما سحب إمداده عنهما تلاشتا كما وكيفاً إن الله سبحانه وتعالى محيط بالكون مهيمن عليه قيوم السموات والأرض قائم على كل نفس بما كسبت وقائم على كل ذرة من كل خلية وقائم على كل ما هو أصغر من ذلك وما هو أكبر بحيث لا يعزب عن هيمنته وعن قيوميته مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء
هذه القيومية أخذ القرآن والسنة يتحدثان عنها في استفاضة مستفيضة ليهز الإنسان هزة عنيفة تجعله لا يخلد إلى الأرض ولا يتبع هواه وإنما يرتفع ببصره ويستشرف بكيانه إلى الملأ الأعلى مستخلصاً نفسه من عبودية المادة ليوحد الله سبحانه وتعالى فى عبودية خالصة له وفى إخلاص لا يشوبه شرك من هوى أو شرك من سيطرة المادة أو الغرائز
ونريد الآن أن نصور بعض مواقف القرآن في هذا الصدد إن الله سبحانه وتعالى يوجه نظرنا فى سورة الواقعة إلى مسائل نحن عنها في
العادة غافلون أفرأيتم ما تمنون ! أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ! أفرأيتم ما تحرثون ! أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون الله ! أفرأيتم الماء الذى تشربون ! أنتم أنز ليموه من المزن أم نحن المنزلون ! أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون
١٥٧
وعلى العكس من ذلك لو شاء الله لما خلق هذا الفرد ولجعل الزرع حطاماً ولما أنزل الماء من المزن ولما أنشأ شجرة النار إنه سبحانه بيده الأمر سلباً وإيجاباً وبيده أمر الخلق إيجاداً وإعداماً أرأيت إلى هذه الرمية التي ترميها إنك ما رميت إذ رميت ولكن الله
رمی
أرأيت إلى الانتصار فى الجهاد إن هذا الانتصار من عند الله فأما القتلى
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
ورزق الإنسان هذا وطعامه
فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضبا وزيتوناً ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتاً إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما لا تدرك ولا تعقل إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت وهمهم كل همهم مصبحين ممسين إنما هو مل البطن أوكنز الذهب والفضة أو النزاع على جاه أو العمل لتثبيت سلطان إنهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها وتحيط بهم آثاره فلا ينظرون إليها وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه فلا يوجههم ذلك إلى الحمد ولا إلى الشكر إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل فى قلوبهم ولا فى تفكيرهم ولا في بيئتهم ولا في حياتهم قليلا ولا كثيراً
والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذين انغمسوا حقا في محيط الإلهية سبحوا في بحارها واستنشقوا نسائمها الندية وغمرهم لألاؤها
١٥٨
وضياؤها لقد بدءوا بحمد الله وشكره على نعمائه وآلائه التي تحيط بهم من
أقطارهم فزادهم الله نعما وآلاء جميع
ولئن شكرتم لأزيدنكم
لقد اتقوا الله حق تقاته فعلمهم الله
K
لقد اكتفوا بالله هادياً ونصيراً فهداهم الله إلى صراطه المستقيم ونصرهم على أنفسهم وعلى أعدائهم وأخذوا شيئاً فشيئاً يحاولون تحقيق التوحيد قولا وعقيدة وتذوقاً وتحقيقاً أخذوا يرون في و أشهد ألا إله إلا الله معاني لا يتطلع إليها غيرهم وبدأ معنى الشرك يتضح لهم فى صورة لا تخطر على بال اللاهين الذين شغلتهم أموالهم وأهلوهم وبدءوا يحطمون الشرك يحطمون أصنامه وأوثانه من النفس والهوى والشيطان ومن الغرائز الحيوانية والغرائز الإنسانية وأنهار الشرك حتى من همسات الفؤاد لقد انهار الشرك الواضح وانهار الشرك الخفى وثبت فى أذواقهم واستقر في أحوالهم ومقاماتهم أن لا إله إلا الله وأنه أينما تولوا فثم وجه الله وأينما كانوا فالله معهم وهو أقرب إليهم من حبل الوريد وهو أقرب إليهم من جلسائهم ومعاشريهم إنه يغمر كيانهم فلا يرون غيره سبحانه لا يرون غيره قيوم السموات والأرض ولا يرون غيره مصرفا لليسير من الأمور وللعظيم منها ولا يرون غيره مالكا للملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من
يشاء
لقد أصبحوا ربانيين وأصبح الله في بصرهم وسمعهم وجوارحهم وفى قلبهم من قبل ذلك ومن بعده يشغله كله فلا يدع فيه مكاناً للأغيار
١٥٩
- وأخذ هؤلاء الصوفية يوجهون أفراد هذا القطيع من البشر إلى الله تعالى أخذوا في محاولة جاهدة مستمرة - لانتزاع الإنسان من الإخلاد إلى المادة ليتطلع إلى السماء
لقد حاولوا أن يوجهوا نظر الناس إلى الله عن طريق آلائه التي تغمرهم
وعن طريق صنعه وقد أحسن كل شيء خلقه سبحانه أخذوا يوجهون نظر الناس إلى الله تعالى فى الزهرة تتفتح وفى الزرع ينبت متجها إلى السماء وفى الشمس تشرق وفى القمر يتألق وفى مواقع النجوم ومداراتها
وفى كل هذا الإبداع الساري في الكون ! أخذوا يشرحون معنى تلك الآيات الكريمة
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور
الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت
فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسيرا كه وكانت تعبيراتهم تعبيرات متذوقين وليست التعبيرات الجافة لعلماء الكلام أو الفلاسفة وهم - في تعبيراتهم يشرحون أن الله سبحانه وتعالى الممد الوجود لكل موجود إنه يمد القائم بالقيام ويمد الماشي بالمشي والمتحرك بالحركة
--
إنه – على حد تعبير أهل السنة والأشاعرة الذي يقطع وليست السكين
هي التي تقطع وهو الذى يحرق وليست النار هي التي تحرق وهو
1
الذي حينما يريد يقول للنار كونى برداً وسلاماً فتكون برداً وسلاما ومهما عبر الصوفية في هذا الميدان عن الوجود الواحد فقالوا في ذلك وزعم الناس أنهم أسرفوا واشتطوا فإنهم سوف لا يبلغون المدى الذي بلغته تلك الآية الكريمة التي تمثل فى روعة رائعة الهيمنة المهيمنة والاستغراق القاهر والجلال الشامل والتي لا تعنى وحدة متحدة ولا اتحاداً مطابقاً بين الخالق والمخلوق أو العابد والمعبود والآية هي
هو الأول والآخر والظاهر والباطن
وهذه الآيات القرآنية التي ذكرناها إنما هدفها أن تدفعنا دفعاً إلى الشعور بقيومية الله سبحانه وتعالى مهيمنة وهيمنته مسيطرة وإلى الشعور بتوجيهه سبحانه وتعالى للإنسان أن يفر إلى الله في كل أمر من أموره وأن يسمو بنفسه
حتى يتحقق بأن لا إله إلا الله
وما فعل الصوفية أكثر من ذلك إنهم مهتدون بهدى القرآن والسنة يريدون للإنسان أن يكون ربانيا فإذا ما استمر الكثير من الناس يخلدون إلى وينظرون دائماً إلى أسفل فليس ذلك ذنب الصوفية فقد أدوا
الأرض
واجبهم نحو التوجيه إلى الله خير أداء
أما إذا لم يكتف بعض الأفراد بالإخلاد إلى الأرض وبالنظر إلى أسفل وإنما أخذوا يهاجمون من يدعوهم للتطلع إلى السماء ويوجههم إلى الله تعالى فهؤلاء إنما يحاربون الله ورسوله وجزاؤهم معروف
ه - وقد تتساءل فيم إذن حوكم الحلاج وقضى عليه بالقتل !
قضية التصوف المنقذ من
الضلال
6
١٦١
من
إن أمر هذه القضية قضية الحلاج معروف سرها وما كان سرا في يوم
الأيام
لقد كان الحلاج قوة جارفة كان مركزاً للجاذبية لا يضارع يلتف حوله الناس أينما حل ويسيرون حوله أينما ارتحل
6
وكان ككل صوفى - يحب آل البيت لأنه كان يحب الرسول الله وكان آل البيت إذ ذاك يطمحون فى أن تكون الدولة لهم وما كان بنو العباس
يطمئنون إلى شخصية كشخصية الحلاج المحبة لآل البيت نسل رسول الله صلوات الله عليه وسلامه
ومادام الحلاج دعاية قوية تسير فى كل مكان وتتجه إلى كل بلد فيجب - حفاظاً على أمن الدولة وتحصيناً لاستقرارها – أن ينكل بالحلاج وما كان مقتل الحلاج دينيا قط كلا وإنما كان سياسي بحتاً ومن السهل على الملوك المستبدين أن يزيفوا القضايا أن يأتوا بشهود الزور وأن يعدوا القضاة بالمال والترقية وأن ينفذوا أهواءهم
فكان ما كان من قضية ومن قتل والدين من كل ذلك براء والألفاظ
التي ينسبونها للحلاج ليست فى كتاب من كتبه وكتبه – وبعضها موجود – لا تسند خصومه ولا تؤيدهم
هذا ما كان من أمر الحلاج وبقيت كلمة
إن المنطق الصحيح ألا يفتى المهندس في أبحاث الأطباء وألا يحكم الأديب باعتباره أديباً في أعمال المهندسين
ومن العدالة -
على هذا الوضع - ألا يحكم على هذه القمم الشامخة
ابن عربي الحلاج ابن الفارض من لم يبلغ مداهم أو يقاربه
١٦٢
لقد قيل مرة لأحد شيوخنا الصالحين الأجلاء إن فلانا ينتقد ابن عربي في المجلات فقال رضوان الله عليه وهل من حق الخنافس أن تحكم على أعمال الأسد إن الخنافس لا تحكم على أعمال السباع وليس من حقها أن
تتحدث فيما تفعله السباع ومنطقها دائماً منطق الخنافس أما الإمام الشافعي - رضوان الله عليه - فإنه يقول عن خصوم سيدنا محيى الدين إن حكمهم حكم ناموسة نفخت على جبل تريد إزالته من مكانه وتذهب الريح بأمم من الناموس وتبقى الجبال شوامخ راسيات بها تثبت الأرض وبها يحفظ ميزان الدنيا اهـ
والرأي الذي لا يتأتى غيره من المنصف الرأى الحق هو ما قاله الإمام الشعراني عن الصوفية عامة وعن سيدنا محيى الدين خاصة ولعمرى إن
عباد الأوثان لم يجرءوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله بل قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فكيف يظن بأولياء الله أن يدعوا الاتحاد بالحق سبحانه هذا محال في حقهم رضوان الله عليهم ا هـ
فلا بد أن يبلغ الإنسان المستوى أو يقارب المستوى وحينئذ سيقول كما قال أسلافنا الذين بلغوا المستوى أو قاربوه رضى الله عن سيدنا محيى الدين الله عن الحلاج وعن ابن الفارض ونفعنا بهم وبكتبهم هذا
ورضى
وبالله التوفيق
١٦٣
السجود ٥
يروى الإمام مسلم - رضى الله عنه - في صحيحه عن أبي فراس ربيعة ابن كعب الأسلمى - خادم رسول الله ع ومن أهل الصفة – رضى
الله عنه - قال
كنت أبيت مع رسول الله لا فأتيه بوضوئه وحاجته فقال سلنى
فقلت أسألك مرافقتك فى الجنة
فقال أو غير ذلك
قلت هو
ذاك
قال أعنى على نفسك بكثرة السجود
والسجود إذن مما يعين على ترويض النفس لتتزكى وهو بذلك من الوسائل التي توصل إلى الجنة
وفى هذا المعنى يروى مسلم أيضاً عن أبي عبد الرحمن ثوبان مولى رسول الله قال سمعت رسول الله الا الله يقول عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد
D
لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة والسجود الذي يريده رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه
٥ إن موقف الصوفى من التعاليم الدينية هو موقف الساجد لها - وبدون ذلك لا يكون صوفيا ومن أجل ذلك وضعنا هذه الكلمة في هذا الفصل
١٦٤
الأحاديث ليس هو مجرد الحركة المعروفة وإنما هو – مع هذه الحركة – المعنى العميق في النفس الذي يتمثل فيه جلال الله وعظمته ورحمته ووده ويتمثل فيه الخضوع لهذا الجلال وهذه العظمة والانقياد المطلق لرحمة الله التى تتمثل فى الرسالة الإسلامية أوامرها ونواهيها ذلك أن الرسالة الإسلامية فى تكاليفها سلباً وإيجاباً إنما هي رحمة
للعالمين يقول الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين كم
فإذا ما كان السجود تعبيراً عن التطامن والتذلل - وذلك معناه الصحيح - كان ذلك عبادة وخضوعاً لله سبحانه وتعالى وكان بذلك سبيلا إلى الجنة وإلى أكثر من الجنة وهو القرب من الله يقول الله تعالى في كتابه العزيز واسجد واقترب
ويقول صلوات الله وسلامه عليه في هذا المعنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولقيمة السجود الكبيرة عبر عن الصلاة أحياناً
بالسجود فصلاة الضحى يسمونها سجود الضحى
ومن أجل هذه القيمة أيضاً مدح الله من يعبرون عن خضوعهم لآياته
واستجابتهم لأمره يقول الله تعالى
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم
وهم لا يستكبرون
والذين هداهم الله واجتباهم
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا كم
6
١٦٥
ومن صفات عباد الرحمن التي يزكيهم الله بها أنهم يبيتون لربهم
سجداً وقياماً
على أن حادثة من الحوادث قصها القرآن فى غير ما موضع منه تبين لنا كثيراً مما نتحدث به من المعانى الخاصة بالسجود تلك هي حادثة آدم
والملائكة
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون
فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين بهذا النبأ حدث الله الملائكة عن عالم جديد من عوالمه سيبرؤه سبحانه
وأمر الملائكة أن يسجدوا له
و فسجد الملائكة كلهم أجمعون
لم يشذ أحد منهم
وكان من بينهم
مختلطاً
بهم – إبليس - وهو كائن يختلف عن الملائكة
6
وعن الإنسان إنه من فصيلة الجن
وكان يعبد مع
الملائكة
6
ويسبح معهم حتى كان يلقب بطاووس
العباد لكثرة عبادته وتفانيه فى العبادة ولكنه لما سمع الأمر الإلهى بالسجود لم يسجد لقد أبى والإباء ضد السجود واستكبر والاستكبار ينافي
الخضوع
ويتحدث القرآن عن ذلك في صراحة فيقول إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين
١٦٦
ويقول سبحانه أيضاً
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين
هذه قصة معروفة نمر عليها فلا نكاد نعيرها التفاتا بيد أنها جديرة
بالتأمل والاعتبار
والقضايا التي نريد أن نذكرها عظة واعتباراً وهي في نفس الوقت ذات
دلالة عميقة هی ما يلي ۱ - لقد صدر أمر إلهى بالسجود فاستجاب له طائفة فنعموا برضوان
الله وشد فرد فطرد من رحمته سبحانه ٢ -- إنه طرد لأنه لم يستجب للأمر الإلهى مع علمه بأنه أمر إلهى - وكان عدم استجابته ناشئاً عن كبرياء فى نفسه وعن تمرد في فطرته ٤ - لم تلغ عبادته كبرياءه فهى إذن لم تكن خضوعاً لأنها لو كانت خضوعاً لنفت الكبرياء وأزالته هى إذن لم تكن عبادة بالمعنى الصحيح لأن العبادة والكبرياء لا يجتمعان
ه - هذا الكبرياء كما تمثل في مخالفة الأمر الإلهي تمثل في المحاولة التي أراد هذا المتمرد أن يبرر بها موقفه مستنجداً بمنطقه وعقله قائلا أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين
ولم يكن هذا إلا منطق الهوى ومنطق الكبرياء فسجوده لآدم ليس
عبادة له وإنما هو عبادة لله لأنه خضوع لأمر الله وحسب والموقف السليم إذن هو ما يرشد إليه روح القصة بل تعبيرها من أنه عند الأمر الإلهى يجب أن تكون الاستجابة فورية هذا هو ما ترشد إليه
-
في صراحة كلمة إذ في قوله تعالى
١٦٧
و ما منعك تسجد إذ أمرتك
ومن الطبيعي أن تكون هذه الفورية فى كل أمر بما يناسب وضعه الزماني
والمكاني
- والقضية الأخيرة التي نختم بها هذه القضايا أو هذه المفاهيم المستنتجة من القصة هي أن الله إذا كان قد أمر الملائكة والجن بالسجود للإنسان الأول فليس معنى ذلك إلا التصريح الصريح بأن طبيعة هذا الإنسان فيها الاستعداد الكافي للرقى فى مدارج السمو الروحى درجة فدرجة حتى تسمو على الملائكة وعلى الجن
ولا معنى إذن بعد هذا الأمر الإلهى للملائكة والجن بالسجود للإنسان أن
يختلف علماء الإسلام في المفاضلة بين الإنسان والملك ذلك أن الفيوضات الإلهية على الإنسان لا تنتهى إلى حد ه ما وسعنى أرضى ولا سمالى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن
فباب الفيوضات الإلهية إذن مفتوح على مصراعيه والقرب من
میسور
الله
وإذا ما سجد الإنسان الله رفعه الله إليه وقربه منه وغمره برضوانه
أما المبدأ الهام الذى نريد أن يجعله كل مؤمن نصب عينيه فهو أن الإيمان ليس معرفة وحسب ذلك أن إبليس كان يعلم علماً يقينيا أن الله موجود وقد علم فيما بعد أنه أرسل نوحاً وإبراهيم ومحمداً عليهم الصلاة والسلام إنه يصدق بأن لا إله إلا الله ويصدق بأن عيسى وموسى وبقية الأنبياء رسل الله ومعرفته بهذه المسائل هى من القوة والثبات بحيث تزيد على معرفة
١٦٨
كثير من المؤمنين
ولكنه
ذلك مطرود من رحمة الله ذلك أن الإيمان ليس معرفة مع فحسب وإنما هو خشوع واستجابة إنه سجود فإذا لم يتأت السجود فلا إيمان ٦
لقد كان سعيد بن جبير - رضى الله عنه - يقول ما آسى على شيء من الدنيا إلا على السجود
أما على بن عبد ا الله بن عباس فقد كانوا يسمونه السجاد لكثرة سجوده وقد كان يكثر من السجود - كما هو المتبادر إلى الذهن – ليكون على النقيض من إبليس ونختم هذه الكلمة بقول الله تعالى يصف الذين مع رسول الله - معه في حال حياته وعلى مبادئه الإلهية بعد وفاته - وسماهم في وجوههم من أثر السجود إنه النور الذى يشرق على جباههم لسجودهم لله وحده وهو الغرر التي ستكون في وجوههم يوم القيامة من أثر خشوعهم
الله
ويتنافى السجود لله محاولة تحكيم العقل في أوامره – سبحانه وتعالى – مع أو نواهيه وكل محاولة من هذا القبيل إنما هى كبرياء وهى إبليسية وإذا كان لإبليس خلفاء من بنى آدم فهم هؤلاء الذين يحاولون أن يقوموا
٦ يقول الله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيا شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ويقول ولا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به
١٦٩
بدور إبليس في المجتمع الإنسانى إنهم هؤلاء الذين يرفضون الوحي الإلهي جملة أو يحاولون أن يزنوا الوحى بميزان العقل فيرفضوا ويقبلوا ويؤولوا
ما شاء لهم الهوى ويوفقوا ويلفقوا ويوجدوا بعقولهم المآزق التي يزعمونها مشكلات نظرية عقلية - ثم يحاولون الفرار منها
وخلفاء إبليس هم أولا وبالذات الملاحدة
إنهم على نسق التعبير الجارى إبليسيون أكثر من إبليس ذلك أن إبليس لم ينكر وجود الله ولم ينكر بعثا ولا رسالة ولكن هؤلاء أنكروا كل ذلك ففاقوا زعيمهم ولكنهم بتفوقهم على زعيمهم قد أرضوا غروره ذلك أنه خاطب الله قائلا للأقعدن لهم لبنى آدم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم
ولا تجد أكثرهم شاكرين
ولقد نجح إبليس نجاحاً تاماً في طائفة الملاحدة
والإلحاد درجات وأخس درجات الملحدين لا شك إنما هي درجة هؤلاء الذين اعتقدوا - على حد تعبير الغزالى - أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا
وإذا ما سألت هؤلاء أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون كانت حيرتهم في الإجابة كافية فى البرهنة على أنهم لا يتبعون إلا أهواءهم وأنهم
ليسوا إذن إلا عبيدا لإبليس
وهناك الإلحاد بإنكار البعث
۱۷۰
والإلحاد بإنكار الرسالة
بيد أن هؤلاء وأولئك وتلكم يصدق عليهم
أفرأيت من اتخذ إله هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون والطريق الذى ينقذ به هؤلاء نفوسهم وقلوبهم إنما هو المبادرة بالسجود الله لا للهوى المردى فيتكشف الله لهم في كل شيء وتظهر لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وإن من أحدث اختراعات إبليس في هذا الزمن الحاضر إنما هو المذهب المسمى الوجودية وهو مذهب يدعو كل إنسان أن يحقق وجوده حسبما يرى وتبعاً لما يريد غير متقيد بعرف ولا عادات ولا تقاليد ولا دين ولا أوضاع أيا كانت وهو إذن يهدم نفسه بنفسه لأنه لا يقوم على أسس ثابتة ولا ينتهى إلى مبادئ حقيقية وأحسن تشبيه للوجودى هو ما قاله أحد كبار الكتاب الغربيين
إن الوجودي مثله كمثل الكلب الذى يجرى دائراً حول نفسه يمسك بذنبه فلا يدرك ذنبه وهى لعبة تلعبها الكلاب حينما يجدون الفراغ فيلهون بما لا نتيجة له
وهو
عصور
6
على أن المذهب الوجودي قديم إذ أنه المذهب السوفسطائى اليونانى مذهب يظهر دائماً في عصور الانحلال وفى البيئات المنحلة ولا وجود له الجد ولا في البيئات الجادة ذلك أن المجتمعات الناهضة الجادة لا تبيح لأفرادها أن يتشبهوا بالكلاب - حينما تلهو الكلاب – في الجرى وراء أذنابهم ليمسكوا بها فالوجودية إذن اختراع إبليسى لإخراج طائفة من البشر عن نطاق
۱۷۱
السجود الله إلى نطاق السجود للأهواء
وخلفاء إبليس ثانياً
هم
طائفة الفلاسفة العقليين الإلهيين
ذلك أن الفلسفة العقلية - مهما حاول المتفلسفون تزييف أهدافهم وتزيين غاياتها - ليست إلا محاولة لتحكيم العقل فيما أتى به الوحى أو بتعبير أدق محاولة لإحلال العقل محل الوحى
هی
وهى من غير ما ريب تريد أن تخترع عقليا ما فرغ منه الوحى في قضاياه ومبادئه إنها تريد ابتداع دين عقلى بجوار الدين الإلهى وهذا الدين العقلى يختلف من فيلسوف إلى آخر وهو من أجل ذلك يختلف في هذه القضية أو تلك مع الدين الإلهي فإذا كانت البيئة متشبعة بالدين الإلهى يغمر قلبها الإيمان ويغمر وجدانها الهداية حاول المتفلسفون - فى طريقة إبليسية – أن يوفقوا بين الدين والفلسفة
ومعنى هذا أنهم يجعلون موقف اختراعاتهم العقلية بالنسبة للدين موقف الند للند فيحاولون التوفيق فيخطئهم التوفيق فيما يأتون وما يدعون ذلك أنهم قلوبهم وأفئدتهم – هواء وإذا كان الاتفاق بينهم هم لم يتم فإن التوفيق بين أهوائهم وظنونهم وشكوكهم وأوهامهم وبين الوحى والعصمة واليقين والهداية إنما هو عمل
لا
يسير في ركابه إلا أتباع إبليس
والفلاسفة إذن لم يسجدوا الله
أما الطائفة الثالثة التي لم تسجد لله إلا شكلا فإنها طائفة المعتزلة من علماء الكلام إنهم لم يسجدوا الله سجود خضوع وإذعان ومذهبهم قائم على
۱۷
تحكيم العقل في الدين ووصل بهم الأمر إلى أنهم يوجبون على الله بعض الأعمال سبحانه وتعالى ويحرمون عليه إتيان بعضها سبحانه وتعالى فوضعوا أنفسهم بعملهم هذا موضع المشرعين لله سبحانه يلزمونه سلباً ويلزمونه إيجاباً وزين لهم الشيطان أعمالهم وصدق فيهم قول الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون ثم إنهم خاضوا فيما نصح الدين بعدم الخوض فيه كالذات الإلهية والصفات وكالقدر
وكان لابد وقد اتبعوا - أهواءهم - أن يختلفوا ويتفرقوا وتذهب بهم الأهواء كل مذهب فكانوا فرقاً وأحزاباً شتى لا تكاد تدخل تحت حصر وكل من نهج النهج العقلى - أى تحكم العقل – في الدين في العصر الحاضر إنما هو تابع للمعتزلة وكل مدرسة من هذا القبيل في العصر الحاضر إنما هي مدرسة اعتزالية فى مبادئها وأصولها وهى مدرسة اعتزالية في غاياتها وأهدافها ذلك أنها تضع قضايا الدين في ميزان عقلها فتنفى وتثبت حسما تقتضيه الظروف والملابسات أى حسبما تقتضيه الأهواء والنزعات والمدرسة العقلية في الدين أيا كانت وفى أى مكان وجدت وفى أى زمان نشأت
لم تسجد لله سجود خضوع وإذعان وإنما سجدت للعقل وعبدت العقل فتفرقت إلى ما لا يكاد يحصى من الفرق ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله
ما تولى
وسبيل المؤمنين إنما هو السجود الله وذلك أيضاً سبيل الراسخين في
۱۷۳
العلم إذ الراسخون في العلم هم دائماً مؤمنون ساجدون لأمر الله تشير الآية الكريمة
وإليهم
أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة
ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو
الألباب
الله
ومن البديهي أن المؤمن الحقيقى هو وإبليس على طرفي نقيض ويرسم سبحانه وتعالى صورة المؤمن فيبين تعارضها مع كل الصور الإبليسية على تفاوتها واختلافها ويبين جزاءها عنده فيقول سبحانه
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا
يعملون
هذا وبالله التوفيق
١٧٤
الفصل الثالث التصوف والمعرفة
البحث العقلى فيما وراء الطبيعة عبث
في وسيلة المعرفة
التصوف والشك
الشك ومدارج السالكين
- الإمام الغزالى يرسم طريق المعرفة
مشكلة المعرفة الصوفية
لا
البحث العقلى فيما وراء الطبيعة عبث
لا يمكننا أن نحدد بالضبط تاريخ نشأة الأبحاث في المغيبات ولكننا قد نعدو الصواب إذا قلنا إنها نشأت منذ نشأة الإنسان على ظهر
البسيطة
وقد لا نعدو الصواب أيضاً إذا قلنا إنها على مر الزمن قد اختلفت
فيما يتعلق بمنهاج البحث واختلفت فيما يتعلق بالنتيجة وقد انتهى الاختلاف إلى النتيجة الحتمية وهي أن يكون شاملا لكل المساتير فمن إنكار مطلق للألوهية وللروح إلى إيمان مطلق عام يفرق في
الوهم ويبعد في الضلال حتى يصل إلى التخريف بأوسع معانيه وبين هذا وذاك مذاهب لا يحصيها العد فمن تشبيه مطلق إلى تنزيه مطلق إلى تشبيه يشوبه التنزيه أو تنزيه مشرب بالتشبيه ومن حلول إلى اتحاد ومن وحدة الوجود إلى التفرقة بين العابد والمعبود إلى مذاهب يبعث اختلافها الدوار فى الرأس وتبعث براهينها الشك في جميعها إلا من عصم ربی فوفقه إلى طريق الرشاد
أجل إلا من عصم ربى ذلك أن اتباع الطريق السوى توفيق من الله وليس هو اكتساب العبد ۱ فالحلول - مثلا - عقيدة راسخة آمنت
۱ قال الله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء
۱۷۷
بها البيئات المسيحية - وفيها من أساطين المفكرين ما لا
والتشبيه آمن به كثيرون
يحصى
--
منذ ألفى سنة
ووحدة الوجود بالمعنى الفلسفى لها أنصارها المتحمسون لها الذين يرون
أن ما عداها لغو أو ضلال
ولو درسنا تاريخ العقائد لوجدنا أن كل فرقة تستند إلى منطق وكل عقيدة قد سادت في فترة من الزمن أو فى بيئة من البيئات وكل بيئة تعتقد أن
ما لديها خير ما أخرج للناس وكل حزب بما لديهم فرحون أما الصراع بين أدلة الفرق المختلفة فهو صراع دائم تتهافت فيه الأدلة مثخنة بالجراح ولكنها تأبى - فى غطرسة - أن تعترف بالهزيمة فتأخذ في تضميد جراحها لتعاود النزال من جديد ولتنهار - أيضاً - من جديد ولو سرنا حقيقة في المنطق إلى غايته لوصلنا إلى الحيرة والشك في كل ما أنتجته العقول الإنسانية من آراء ذلك فاليقين موجود ومهما حاولت أن تنكر إشراق الشمس - إذا ومع كانت مشرقة - فسوف لا يستجيب لك شخص ما وسوف لا تستجيب أنت لنفسك وهكذا الأمر في المحسات جميع
بيد أن ذلك ميدان والغيبيات ميدان آخر
ربما يقال إنه من الطبيعى أن يكون الحس طريق المعرفة المادية وأن يكون العقل طريق المعرفة العقلية ومادامت المغيبات من المعقولات فالطريق إلى معرفتها إذن إنما هو العقل ومادمنا قد وثقنا بالحس في معرفة الماديات فلنلتزم بالعقل في معرفة المغيبات هذا النمط من التفكير يبدو موفقاً ولكنه محض سفسطة فالتصور – وهو
۱۷۸
أساس المعقولات - لا يقوم إلا على الحس وإذا جردته من المدركات الحسية فقد أزلته إزالة لا تترك له من أثر ومهما أغرق الشعراء في الخيال ومهما أبعدوا في الوهم فابتداعاتهم وصورهم المبتكرة منتزعة من الواقع والاختراع تنسيق للمحس على نمط جديد بين ذهن العبقرى الفذ وذهن الجاهل الغبي في أن كلا منهما يعتمد على الواقع
المحس فى تصوره وفى تخيله
ولا فرق مطلقاً
والصورة المبتكرة - من حيث عناصرها – أسطورة من الأساطير أو وهم من الأوهام التي لا وجود لها ومادام الأمر كذلك فالتفكير المجرد عن و مادامت المساتير لا شأن لها بالحس فكل تفكير فيها لا يؤدى
المحسات معدوم إلى نتيجة
منذ سنوات كتبت بحثا عن التخيل أقتطف منه مايلى توضيحا لفكرة ارتباط التصور والتخيل
بالمحسات
1 الخيال والواقع إذا نظرنا إلى العناصر التي تكون مادة التخيل فإننا لا نجد فيها شيئا جديداً وكل ما للمتخيل لا يعدو أن يكون تنسيقاً فصورة أبي الهول هي وحدها الجديدة أماما تكون منه – نعنى جسم الأسد ورأس الإنسان - فليس ذلك بجديد
وكل مالم يخضع لحواس الإنسان فإنه لا يمكن الإنسان أن يتخيله إلا إذا شبهه بما وقع تحت حواسه
وما تصور الناس الغول والعنقاء والجن والشياطين إلا على مثال ماسبق أن رأوا وحينما أراد المسيحيون أن يصوروا جبريل صوروه على صورة رجل له جناحان وتورع جمهور المسلمين فيما يتعلق بالله فقالوا كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك إذ أن كل
ما خطر بالبال لا يمكن إلا أن يكون ماديا محسا وكمال الله يقتضى تنزيهه عن المادة وعلائقها أما هؤلاء الذين قصر تفكيرهم فإنهم تخيلوا الله - جل وعز - على صورة رجل ضخم ولعل الكثير قد قرأ حكاية ذلك الرجل الساذج الذى حضر مجلساً من مجالس المعتزلة فسمعهم
يتحدثون عن الله ويقولون إنه سبحانه ليس بفوق ولا بتحت ولا بيمين ولا بشمال ولا يخلف ولا بأمام وليس بمادة ولا بعرض فخرج ثائراً يعلن أن هؤلاء قوم يريدون أن يقولوا إنه ليس في =
۱۷۹
لقد أطال العلماء في بحث الآراء الموضوعية والآراء الذاتية ورأوا أن الأولى لا تقبل جدلا ذلك لأنها تعتمد - الاعتماد كله – على الحس أما الآراء الذاتية - وهي قائمة على أسس أخرى - فإنها مجال للأخذ والرد ولا يمكن الوصول فيها إلى نتيجة حاسمة مهما طال النقاش وإذا كانت مادة الأخلاق هي الميدان الخصب للآراء الذاتية فإن الإلهيات – وهي حجب ومساتير - ميدان أخصب لذلك لا يعدو البحث فيها أن يكون علماً كلاميا أو علماً جدليا
ومهما أشاد المعتزلة بالعقل ومهما رفعوا من شأنه فمن البديهي أن
السماء إله هذا الرجل الساذج لم يمكنه أن يتخيل موجوداً خالياً من المحسات ولم يمكنه أن يعقل ما لم يتخيله فاعتقد أن المعتزلة ينكرون الله هذا وحاول أن تتخيل أنت مافى الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت فإنه سوف لا يخطر لك على
قلب ذلك أن ما يخطر على القلب ليس شيئاً آخر غير ما رأته العين أو سمعته الأذن ثم إذا كنت قد قرأت ما قيل عن مدينة المستقبل وماكتب عن المدينة الفاضلة فقد رأيت أنه برغم
إرادة الإغراب أو التجديد - لم تخرج تلك المدينة عما رأيته سوى أنه مكون تكويناً جديداً
لا يخرج الخيال إذن في عناصره عن الواقع ولا يمكن الإنسان أن يتخيل إلا المحس ب التخيل والبيئة إذا قرأت تشبيها للعاب المرأة بماء غير آس وللشيئين المتشابهين بأنها كخفى بعير فلا أظن أنه من العسير عليك أن تعلم الموطن الذى نبع منه هذان التشبيهان وربما تكون قد قرأت ما أجاب به ابن الرومى حينما عاب عليه بعضهم بأنه لا يتخيل كتخيل ابن المعتز ضاربين له مثلا تشبيه الهلال و بزورق من فضة أثقلته حمولة من عنبر فأجاب هذا يصف آنية بيته
وأظنك تقر معى أيضاً أن البيئة العلمية فى العصور الوسطى لم تكن تسمح باختراع الراديو فلم يخترع هذا وكثير غيره يرشدنا إلى ماللبيئة من أثر على التخيل وأن كل إنسان يتأثر بما في بيئته من صور طبيعية ومن ثروة ثقافية والأمر لا يقتصر على ذلك بل يتغير تخيل الشخص بتغير بيئته وكلما كثرت المثل في بيئته وكلما سمت موازينها الأخلاقية كلما كثر الرشد فيها وابتعد الخيال عن دائرة
الآثام
۱۸۰
الميدان الذي يتخبط فيه العقل تخبطالا نهاية له إنما هو ميدان ما وراء الطبيعة ومن الواضح أن مذهب المعتزلة على ما فيه من روعة ودقة وجمال وعلى ما أداه من خدمات جليلة في ميدان المنطق الديني لا يقوم على أساس
معقول قد تقول إن العقل - وهو أساس مذهب المعتزلة ومذهب العقليين عموماً - له مقاييسه وله موازينه التى لا يتطرق إليها الخلل إن المنطق القديم منه والحديث آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في التفكير ولقد جاهدت الإنسانية جهادًا طويلا حتى جعلت من الاستقراء والقياس أداتين للفصل بين الهدى والضلال والتفرقة بين العماية والعمياء والصواب والأصوب فالاستقراء والقياس - إذن - هما وسيلة العقل وهما فيصل التفرقة بين الغى والرشاد فمن التجنى على المعتزلة وعلى العقليين – وقد اعتمدوا عليهما - أن نصم مذاهبهم بمجافاتها للطريق الأقوم إن وجهة النظر هذه تبدو وكأنه لا غبار عليها بيد أنها عند النظرة
الفاحصة تتزلزل وتنهار
أما أولا فلأن المعتزلة أنفسهم والعقليين عامة – مع اعتمادهم على الاستقراء والقياس - قد اختلفوا فرقاً وأحزاباً لا تحصى وكل فرقة أو شيعة تتبع رئيساً وصل به و استقراؤه ووصل به قياسه إلى نتائج معينة تختلف – في قليل أو في كثير - عن نتائج استقراء آخر وقياس مختلف
وأما ثانياً فلأن الفكرة - المنطق يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير أو المنطق وسيلة التفكير الصحيح - فكرة خرافية أكثر منها حقيقية وذلك
يحتاج إلى تبيان
۱۸۱
إن المقاييس هى كما ذكرنا الاستقراء والقياس
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية – فإنه ۱ - مبنى كله على الحس إنه استقراء محسات إنه تتبع جزئيات لا تخرج عن نطاق المادة أما المساتير فهو بعيد عنها كل البعد إنها لا تدخل في دائرة اختصاصه فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة ٢ - ثم إن الاستقراء تام ۳ وناقص والتام - كما يعترف المناطقة لا ثمرة له ولا فائدة فيه
أما الناقص - وهو المهم في نظرهم - فإنه في رأيهم أيضاً – ظنى وهو - لذلك عرضة للتغيير فى كل آونة
كل معدن يتمدد بالحرارة تلك قضية من قضايا الاستقراء إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تكتشف بعد بأكملها ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة إنها إذن قضية مؤقتة ظنية يتبرأ
منها اليقين الفلسفي
والعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله – وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة لها قيمتها حتى يتكثف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها ٤
۳ و الاستقراء وهو حكم على كلى لوجوده فى جزئيات ذلك الكلى إما كلها وهو الاستقراء التام الذى هو القياس المقسم وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور ومخالفته للقياس ظاهرة لأنه في القياس يحكم على جزئيات كلى لوجود ذلك الحكم في الكلى فالكلى يكون وسطاً بين جزايه وبين ذلك الحكم الذى هو الأكبر وفى الاستقراء يقلب هذا فيحكم على الكلى بواسطة وجود ذلك الحكم في
جزئياته عن البصائر النصيرية
٤ مقدمة فجر الإسلام
۱۸
وهكذا قضايا الاستقراء إنها
١ - خاصة بالطبيعة ولا شأن لها بما وراءها
ظنية لا تعرف اليقين
أما القياس
۱ - فإنه مبنى على الاستقراء إذ هو منطو دائماً على كلية استقرائية
ومادامت قضايا الاستقراء ظنية - كما رأينا - وميدانها المحسات فنتائج القياس ظنية كذلك وميدانها المحسات
ثم إن المناطقة لا يشترطون فى مقدمات القياس أن تكون مسلمة صادقة في نفسها وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية - منكرة كاذبة في نفسها وفى هذه الحالة يكون القياس صحيحاً ونتيجته باطلة
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس
ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط
الإنتاج
C
بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع
ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها إنك إذا قلت الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى وكل ما يؤدى إلى الاستقلال الفردى مضر بالمجتمع فالكثير من العلم مضر بالمجتمع كان هذا قياساً صحيحاً في نظر المناطقة
وإذا قلت الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعي وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعى مفيد للمجتمع فالكثير من العلم مفيد
۱۸۳
للمجتمع - كان هذا أيضا قياساً صحيحاً عند المناطقة
متعارضتان ! !
ذلك فالنتيجتان
ومع
- ومع كل هذا فالقياس استدلال فاسد ذلك أن دوری العلم بالنتيجة في نحو قولنا محمد إنسان وكل إنسان ناطق فمحمد ناطق متوقف على العلم
جميع
بالكبرى والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على أفراد النوع الإنسانى إلا إذا تأكدت ثبوت الناطقية من لمحمد ولو كنت في شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم بالناطقية على إذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة والنتيجة أفراد الإنسان متوقفة على الكبرى وعلى ذلك يكون القياس استدلالا دوريا فاسداً فلا
جميع
يعول عليه
٤ - وأخيراً فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة إنها استنتاج
مجهول هو النتيجة من معلوم هو المقدمات ولكن النتيجة متضمنة فى المقدمات إنها ليست مجهولة والقياس لا يؤدى إذن إلى معرفة جديدة أو إلى استنتاج مجهول من معلوم إنه – إذا
أردت الدقة - استنتاج معلوم من
معلوم
تلك هي موازين العقل وستزيد الأمر - أمر قصور العقل – إيضاحاً في
فصل تال - وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق
بالإلهيات
ومن هنا كانت الحكمة فى نزول الأديان
ومن هنا كان السبب فى اقتصارها على الأخلاق والإلهيات
١٨٤
وإذا كانت قد تحدثت فى التشريع فإن التشريع داخل في نطاق
الأخلاق
بيد أن الأديان إذا كانت قد اتخذت موقفاً حاسماً فيما يتعلق بتحديد الخير والشر فإنها فى المغيبات لم ترهق الإنسان من أمره عسراً فتوضح له
ما ليس في مقدوره إدراكه أو تبين له ما يسمو عن التبيان
أما هذا الذي يسمو عن التبيان فإنه ذلك النوع من المعرفة الذي لا يدخل في نطاق المحسات وبالتالي لا يدخل في نطاق العقليات أعنى المساتير وإنه ليعجبني في هذا المقام قول ابن عبد البر المتوفى في سنة ٤٦٣ هـ
إن الله ليس كمثله شيء فكيف يدرك بقياس أو بإنعام نظر لذلك رسمت الأديان في هذا المحيط إطاراً عاماً فقط وهذا الإطار العام نفسه مبنى بعضه على الحس وهو داخل في نطاق الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
والعامى يقول عن المشاهدة المركب التي فيها رئيسان تغرق
أما بعضه الآخر فهو ا
المتشابه فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
قولون آمنا
به كل من عند ربنا
وحكمة قدماء المصريين دقيقة كل الدقة إذ تقول
محال على من يفنى أن يزيل النقاب الذى تنقب به من لا يفنى رسمت الأديان إطاراً عاماً ولكن هذا الإطار لا يرضى النفوس الطلعة التي أبت خطأ - أن تعترف بحدود للعقل أو بقصور فيه فبحثت داخل هذا
الإطار وخارجه فكان ماكان من تشعب وفرقة واختلاف
۱۸۵
2
إننا لا نشك في أن رؤساء الفرق الإسلامية - معتزلة كانوا أو أشاعرة
وشيعة كانوا أم سلفيين - قد تشبعوا بإيمان راسخ وحرارة دينية فائقة وعقيدة لا تزعزعها الأعاصير
وقد اعتمدوا جميعاً على نصوص واحدة كتاب الله وحديث رسوله
فلم كان الاختلاف ولم هذا التشعب الذى لا ينتهي
هو
لسنا - في تعليل ذلك - أمام مشكلة لا تحل إذ الشأن في ذلك إنما هـ الشأن في كل الآراء الذاتية التي لا تخضع إلا إلى الاستعداد الشخصى وحده
ولو استقامت امور المسلمين الدينية لما حادوا عن موقف الإمام مالك التسليم المطلق الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة
آراء ذاتية داخل الإطار العام آراء هى من صنع البشر آراء تتحد في نسبتها - من حيث القرب والبعد - إلى النصوص المقدسة إنها آراء بيد أن النزعة التي صدرت عنها هذه الآراء - وهي الاستعداد الشخصي
نزعة مفرقة
ثم إنها آراء غير مفهومة وكل من عالج - في إخلاص – تصور صفات خارجة عن الذات أو تصور صفات الذات فإنه يقر معنا أن ذلك هی
إنما علمه عند ربى
إن الطريق الأقوم - إذن - هو التسليم المطلق
وهذا هو الإيمان بمعناه الصحيح
يقول الإمام الغزالي
١٨٦
والتحقيق بالبرهان علم
والقبول مع التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان
ولكن ذلك ليس معرفة مباشرة
لا شيء إذن مما سبق من وسائل المعرفة يصل بنا إلى المعرفة المباشرة في
محيط ما وراء الطبيعة
وتلك هي النتيجة التي نريد من كل ما سبق الوصول إليها وإذا أردنا تلخيص ما نريد أن ننتهى إليه قلنا
۱ - الحس عاجز عن الوصول بنا إلى المغيبات فإننا لا نحسها العقل وهو مبنى على الحس - قاصر كذلك
وإذن فعلم الكلام الذى لا يسير على نهج سلفى – وهو آراء من صنع البشر - ليس بدعة فحسب وإنما هو ضلالة وهو عبث وهو انحراف عن
سواء السبيل
قال الإمام مالك الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأى جهم والقدر وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل
وقال الإمام أحمد لا يفلح صاحب كلام أبداً ولا نكاد نرى أحداً نظر في الكلام إلا وفى قلبه دغل وقال الإمام مالك أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أبدع دينه كل يوم لدين جديد
هل معنى ذلك أن المعرفة - فيما يتعلق بالإلهيات - غير ممكنة هل معنى ذلك أن الغطاء لا يمكن أن يكشف عن الحجب وأنه
۱۸۷
لا سبيل إلى المعرفة الحقيقية ذلك ما لا نقول به
ما السبيل إذن إلى المعرفة
۱۸۸
في وسيلة المعرفة
سيدنا رسول الله صلوات الله عليه وسلامه معجزة التاريخ وهو
المنارة التي يهتدى بها الإنسان كلما انبهمت الأمور أو ضلت الآراء وحياته قبل البعثة كحياته بعدها - عظة وعبرة وهداية ومثل أعلى لمن أراد الطريق الأقوم
إن من يتدبر حياته صلوات الله وسلامه عليه قبل البعثة ولا يكون عنده فكرة صحيحة عن النبوة من حيث إنها لا تكتسب اكتساباً وإنما توهب من الله تعالى يكاد يعتقد أنه اقتنص اقتناصاً واضطره إلى النزول اضطراراً وأنه أبى إلا أن يظفر بما يريد فكان له ما أراد بيد أن الصواب هو أن الله اصطفاه وفضله على العالمين عندما حان الموعد الذى حددته العناية الإلهية لتتجلى عن طريق اختياره رسولا يقول الإمام المراغى رحمه الله
النبوة هبة لا تنال بالكسب لكن حكمة الله وعلمه قاضيان بأن تمنح للمستعد لها القادر على حملها الله أعلم حيث يجعل رسالته ومحمد الله أعد لأن يحمل الرسالة للعالم أجمعه أحمره وأسوده
انسه وجنه
وأعد لأن يحمل رسالة أكمل دين ولأن يختم به الأنبياء والرسل وليكون شمس الهداية وحده إلى أن تنفطر
۱۸۹
اهـ
السماء وتنكدر النجوم وتبدل الأرض غير الأرض والسموات ٥ أما هذا الإعداد فقد حاطه الله بعنايته التامة إنه أعده من ناحية أسرته أعنى من ناحية الوراثة وأعده من ناحية فطرته أعنى طبيعته
الشخصية
أما من ناحية أسرته فهذا جده عبد المطلب كان و سمح الطبع رضى النفس سخي اليد حلو العشرة عذب الحديث وكان عبد المطلب أيضاً قوى الإيمان تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة ولكنها غامضة يحسها ويخضع لها ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فها ولا تفسيراً ٦ كان فتى من فتيان قريش ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش فيه ذكاؤهم وفطنتهم وفيه إباؤهم وعزتهم ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم وفيه شدة من الدين قلما كانوا يرضونها أو يتسمون بها على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد العمييز فلم يكن يصدر في حياته – كما
كانوا يصدرون - عن الروية والتفكير وطول التدبر وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب فى الحياة قوة خفية يحسها ويأتى عليها ويغلو في الإباء ولكنه يضطر إلى أن يذعن لها ويصدر بأمرها ۷
وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها فى أشكال مختلفة تدفعه إلى العمل حيناً وكأنها إرادته الخاصة قد ملكت عليه حسه وشعوره فهو لا يستطيع
٥ من مقدمة و حياة محمد للدكتور هيكل
٦ انظر كتاب على هامش السيرة
۷ انظر كتاب و على هامش السيرة
۱۹۰
عنها انصرافاً ولا يملك لها خلافاً
وتتمثل له حيناً آخر شخصاً واضح المخايل بين الصوت يلم به إذا اشتمله النوم فيأمره أن يأتي كذا وكذا من
الأمور
وكان في هذا الصوت غموض وكان في هذا الصوت إبهام وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام وكان الفتى
ينكره ويرتاع له وكان الصوت يغمره ويلح عليه وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه وكان هذا الصوت يتجنب الفتى يؤيسه من نفسه ويلم به فيكثر الإلمام ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان إنما كان يصطنع ألفاظاً خاصة غريبة الجرس غريبة
الناس
المعنى ۸ اهـ
أما والده - عبد الله فقد كان صورة طبق الأصل من جده وكان شعاره أما الحرام فالمات دونه
وتقول له فاطمة الخثعمية إنى لأعرف فيك نسك أبيك قبيلته قريش وأسرته بنو هاشم وجده عبد المطلب سيد قريش إذ ذاك ووالده عبدا الله فكان محمداً هو
ولقد اختاره الله للرسالة ولكنه تعالى اصطنعه لنفسه قبل أن يختاره أجل ! وهذه الفترة من حياته التي سبقت البعثة كانت فترة جهاد وصراع روحي هادئ بكل معنى الهدوء عنيف أشد العنف مستمر لا ينقطع فيه الخوف وفيه الرجاء وفيه الكثير من الأمل الوثاب الذي يشحذ العزيمة ويسد على اليأس القانط كل منفذ إن هذه الفترة من حياته كانت – على حد
۸ انظر كتاب على هامش السيرة
۱۹۱
تعبير الجنيد فى تعريف التصوف - عنوة لا صلح فيها
كان صلوات الله وسلامه عليه يتوج كل عام جهاده الروحى المتصل بشهر يقضيه في غار حراء حيث الخلوة التامة وحيث التجرد المطلق أو شبه المطلق عن كل ما سوى الله وهناك في سجوة الليل أو في رائعة النهار يحاول محمد أن يحطم الحجب وأن يخترق المساتير وأن ينفذ ببصيرته إلى عالم الغيب فيصل إلى سدرة المنتهى وإلى قاب قوسين أو أدنى حتى يشاهد الجمال في سنائه والجلال فى عظمته وكبريائه وجلاله
ها هو ذا الرسول الله يبذل مجهوداً جباراً لا يكاد الإنسان يتصوره فضلا عن أن يأتي بمثله
وها هو ذا يرى الهدف بعيدا لا يكاد الإنسان يفهمه فضلا
يصل إليه
أن
عن
ها هو ذا يرى الطريق وعثاء صعبة المرتقى بيد أن ذلك كله لم يكن إلا ليزيده عزماً على عزم وإرادة على إرادة ونشاطاً مضاعفاً إنه الجهاد الأكبر على حد تعبير الأثر المشهور عن جهاد النفس
لتتزكي
وتمضى السنون بطيئة سريعة في آن واحد وجهاد الرسول ع لا يفتر حتى أصبح أو كاد روحاً خالصة أو قبساً من نور الله وانتهى به الأمر إلى قرب يقول عنه الإمام الغزالي إنه
أول حال رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أقبل على جبل حراء
حيث تبتل حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب إن محمداً
عشق ربه !
۱۹
ثم كانت الرسالة وكانت المعجزة التي غيرت مجرى التاريخ واقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم الله
ويقول الدكتور هيكل
ه وجد محمد فيه في التحنث خير ما يمكنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يلتمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما فى الكون من أسبابها
وكان بأعلى جبل حراء - على فرسخين من شمال مكة – غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث فكان يذهب إليه طوال شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفياً بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة بعيداً عن ضجة الناس وضوضاء الحياة ملتمساً الحق والحق وحده ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ینسی كل ما في الحياة لأن هذا الذى يرى في حياة الناس مما حوله ليس
حقا
طعامه وينسى
وشارف محمد الأربعين وذهب إلى غار حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيماناً بما رأى فى رؤاه الصادقة وقد خلصت نفسه وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدى قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال وهو في توجهه هذا يقوم الليل ويرهف ذهنه وقلبه ويطيل الصوم وتثور به تأملاته فينحدر من الغار إلى طريق الصحراء ثم يعود إلى خلوته ليعود
قضية التصوف المنقذ من الضلال
۱۹۳
فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له فى رؤاه
ولقد طالت به الحال ستة أشهر حتى خشى على نفسه عاقبة أمره فأسر بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على مايرى وأنه يخاف عبث الجن به فطمأنته الزوجة المخلصة الوفية وجعلت تحدثه بأنه الأمين وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه وإن لم يدر بخاطرها ولا بخاطره أن الله يهيئ مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم وإلى النبأ العظيم يوم الوحى الأول ويهيئه بها إلى البعث والرسالة
وفيما هو نائم بالغار يوماً جاءه ملك وفي يده صحيفة فقال له اقرأ ۹
هذه الحياة التى هداه الله لها - لا علم الكلام ولا الفلسفة العقلية – هي التي رسمت لنا الطريق إلى الله طريق الكشف طريق الإلهام طريق البصيرة بل طريق المشاهدة على ما يرى الصوفية
وهذه الحياة التي علمناها عن الرسول الا الله إجمالا قد فصلها الصوفية أدق تفصيل وبينوها بياناً سيكولوجيا غاية في الاحكام يتدرج مع
D
K
الإنسان خطوة خطوة حتى يصل به إلى درجة – لا نقول إنها النهاية إذ ليس لمعرفة الله نهاية - يكون ما بعدها بعيداً كل البعد عن إدراك الطبائع
البشرية العادية فلا يمكن التمييز عنه بلسان المقال
وهذا الطريق سماه الصوفية معارج القدس وسموه منازل السالكين ومدارج السالكين ومنازل الأرواح وهو عبارة عن المقامات والأحوال التي يسلم كل مقام منها إلى ما بعده وكل حال منها إلى الذي يليه حتى يصل
۹ من حياة محمد للدكتور هيكل
١٩٤
الإنسان إلى القرب والمشاهدة ويستغرق فى ملكوت يسمو على الوصف يقول الإمام الغزالى ومن أول الطريق تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال
إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق
١٩٥
التصوف والشك
يعرف كثير من الناس التصوف بأنه المذهب القائل بالإلهام والبصيرة أو إذا شئت فبالعلم اللدنى أى بهذا النوع من المعرفة اليقينية الذي لا يتصور فيه الشك ولا تعبث به السفسطة
وإذا كان هذا التعريف غير جامع مانع فإنه - لا ريب – يرينا ما للمعرفة اليقينية من أهمية فتصفية الروح ليس غرضاً من أغراض الصوفية إلا أنها تمهد للاتصال بالله ولتلقى المعرفة عنه ولا ريب أن معرفة تأتى عن طريق الإلهام هي معرفة لا يتطرق إليها الهدم ولا تنهار أمام حجج المنطق وأنت تحاول عبثاً إذا أردت أن تبعث الشك فى نفس الصوفى أو أن تحوله عن رأيه إذ كيف يحيد عن فكرة يعتقد تلقاها عن الملأ الأعلى في فترة صفت فيها روحه
من
ذلك تماما
وتطهرت وكيف يكون على باطل وهو يعمل وفق إرادة وتعاليم عليا سامية على العكس نری الشاك فهو شخص لا يعترف بحقيقة أولا يعترف بأن هناك طريقاً يوصلنا إلى معرفتها على فرض وجودها وعبثاً تحاول أن تقنعه بعقيدة ما إذ هو لا يقتنع إلا بالشك ولا يرضى عن رأيه بديلا وإن يدهش لشيء فإنما يدهش لعدم اقتناعك بفكرته في الشك يعطيك على صحتها البرهان تلو البرهان والحجة تلو الحجة حتى تعترف في النهاية بأن رأيه له منطقه
١٩٦
يقين مطلق من جانب وشك عميق من جانب آخر اختلاف شاسع
بل تعارض وتضاد
ومع
ذلك فإن الصوفى والشاك قد يتفقان في المبدأ الذي بني عليه كل منهما اتجاهه أريد أن أقول إن الحالات التى تؤدى بالصوفى إلى التصوف هي – في بعض الأحيان - نفس الحالات التي تؤدى بالشاك إلى رأيه هذا من
جهة
ومن جهة أخرى فإن الشك نفسه ربما أدى إلى التصوف
كلنا
يعلم
أن هناك طريقين للمعرفة هما الحواس والعقل فمعرفتي
بالشيء تنتج عن أنى أراه وأحسه أو أنى أستنتجه بدليل عقلى كثير من الناس بل الأغلبية الساحقة منهم يأخذون المعرفة الناشئة عن
6
هذين الطريقين قضية مسلمة لا تقبل جدلا ولا يحيط بها شك ولكن في العالم أيضاً ذلك الشخص الذي يرى أنه ما دامت الحواس تخطىء فهي ليست أهلا للثقة إلى أرى السراب فأحسبه ماء وتسيطر على فكرى صورة من الصور وتقوى هذه السيطرة فأرى الصورة ممثلة أمامي والمريض يرى خيالات لا حقيقة لها والخائف يرى أشباحاً أصواتاً لا وجود لها إن الأمثلة لا تحصى وكل يوم بل وكل فترة تعطينا دليلا على خطأ الحواس فهل بعد هذا نثق بمعرفة تأتى عن طريقها كلا بقى العقل ولكن ما قيمته كل ينتسب إليه ومع ذلك فلا تجد اثنين على اتفاق تام
ويسمع
إن هذه المذاهب الفلسفية التي لا تكاد تعد كلها مبنية على العقل وكلها
۱۹۷
مؤسسة عليه وقائمة به وكلها جذابة أخاذة تغرى بقوة أدلتها وتستولى
عليك بصرامة منطقها ومع ذلك فلا تكاد تتفق في شيء ما ثم ماذا ألم يبرهن أحدهم ببرهان عقلى منطقى على أن الأرنب لا يلحق بالسلحفاة – مهما أسرع في العدو – إذا بدأت السلحفاة قبله وسبقته بمتر أو
مترین
ألم يبرهن أحدهم على أن السهم في سيره لا يتحرك وأنت نفسك أليست آراؤك فى حالة التشاؤم غيرها في حالة أخرى
وفى حالة السرور غيرها في حالة الحزن
ثم البراهين التي ترى قوتها وتعتقد فيها حالة الحلم ليست أقل من أن يقال عنها إنها براهين عقلية هكذا إذا أخذت في تعداد الأمثلة على أخطاء العقل فإنك لا تكاد تقف
عند حد
أخطأت الحواس فلا ثقة فيها وأخطأ العقل فلا ثقة به فهل معنى ذلك أن لا سبيل إلى المعرفة الحقيقية
يجيبنا الشاك نعم وسنمكث إلى الأبد محكوما علينا بالجهل أو إذا شئت بعدم المعرفة الصحيحة
ولكن الصوفى - بعد أن سار هذه الخطوات ووصل إلى الشك في قيمة الحواس والعقل وفى قيمة المعرفة الناشئة عنهما - يعود فيثبت المعرفة عن طريق
آخر هو الإلمام أو البصيرة أو العلم اللدنى كما يقولون إذن قطع الصوفى والشاك المرحلة الأولى معا فوصلا إلى الشك
۱۹۸
فرضى به أحدهما واقتنع بأن لا مطمح وراءه وخطا الآخر خطوة أخرى خطاها لا ليضع لنفسه منطقاً أو منهجاً يسير عليه ليعتصم من الزلل الذي توقعه فيه حواسه ويوقعه فيه عقله - كما يفعل الفلاسفة - وإنما ليصل إلى معرفة من طريق آخر لا يتسرب إلى نتائجه شك لنلق الآن نظرة على النفس الإنسانية فنرى أنها لا تحب الإقامة على الشك ولا ترغب في اتخاذ الإنكار مذهباً وقاعدة وأنها – على كثرة حبها للمعرفة وشغفها بالاستطلاع - تريد دائماً أن تجعل اليقين قاعدة آرائها وأعمالها
ونرى - أيضاً - أن من أشق أوقات الإنسان تلك الفترات التي تضطرب
فيها نفسه وتتذبذب آراؤه ويختلط عليه الأمر
هذه الحالة تبعث في النفس الضيق والكآبة فإذا اشتدت واستمرت سببت أحياناً الانتحار وأحياناً الجنون ولكنها - أيضاً في بعض الأحيان تؤدى إلى التصوف
نعم ! تؤدى إلى التصوف حيث يجد الشخص ملجأ تستقر فيه نفسه
وتهدأ وتسكن وحيث يجد اليقين والإيمان والعلم الثابت لقد كان الحارث بن أسد المحاسبي متعطشاً إلى المعرفة والبحث والاطلاع وإلى الوصول لرأى لا يعتوره الشك إلى رأى يقيني ثابت لا يتزلزل
ثم
ولكنه بعد أن بحث زاد حيرة - بدل أن يزيد إيماناً - واضطربت نفسه وخشى أن يأتيه الموت فجأة قبل أن يعتصم بحبل الله المستقيم فكد وجد يئس من أن يصل إلى النتيجة
۱۹۹
ولكن الله وفقه فى النهاية إلى الاتصال بقوم صالحين فسكن إليهم وأخلد سكن إليهم وأخلد لا لأن منطقهم أوجد عنده اليقين ولا لأن براهينهم بعثت في نفسه الاطمئنان وإنما لأن سيماهم على وجوههم تبعث الثقة
وتهدى إلى الرشاد
لندع المحاسبي نفسه يصور حالته - والنص الذي نثبته الآن من مخطوط له
1
وقد تعمدت إثبات هذا
بدار الكتب المصرية اسمه 1 النصائح النص كاملا لما بينه وبين كلام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال من
شبه يهم كل باحث في التصوف معرفته
قال المحاسبي بعد مقدمة موجزة
أما بعد فقد انتهى إلينا أن هذه الأمة تفترق على بضع وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والله أعلم بسائرها فلم أزل - برهة من عمرى – أنظر في اختلاف الأمة والتمس المنهاج الواضح والسبيل القاصد وأطلب من العلم والعمل وأستدل على طريق الآخرة بإرشاد العلماء وعقلت كثيراً من كلام الله عز وجل بتأويل الفقهاء
من
ذلك
وتدبرت أحوال الأمة ونظرت في مذاهبها وأقاويلها فعقلت ما قدر ورأيت اختلافهم بحراً عميقاً غرق فيه ناس كثير وسلم منه عصابة قليلة ورأيت كل صنف منهم يزعم أن النجاة في اتباعهم وأن الهالك من
خالفهم
عزيز
ثم رأيت الناس أصنافاً فمنهم العالم بأمر الآخرة لقاؤه عسير ووجوده
۱۰ طبع الكتاب أخيراً بعنوان الوصايا في القاهرة مكتبة صبيح
۰۰
ومنهم الجاهل فالبعد عنه غنيمة
ومنهم المتشبه بالعلماء مشغوف بدنياه مؤثر لها
ومنهم حامل منسوب إلى الدين ملتمس بعلمه التعظيم والعلو ينال بالدين
من عرض الدنيا
ومنهم حامل علم لا يعلم تأويل ما حمل
ومنهم متشبه بالنساك متجر بالخير لا غناء عنده ولا بقاء لعلمه ولا معتمد على رأيه
ومنهم منسوب إلى العقل والدهاء مفقود الورع والتقى ومنهم متوادون على الهوى يتفقون وللدنيا يتبادلون ورياستها يطلبون ومنهم شياطين الإنس عن الآخرة يصدون وعلى الدنيا يتكالبون وإلى جمعها يهرعون وإلى الاستكثار منها يرغبون فهم في الدنيا أحياء وعن العرف موتى بل العرف عندهم منكر والسوء معروف فتفقدت في الأصناف نفسي وضقت بذلك ذرعاً فقصدت إلى هدى المهتدين بطلب السداد والهدى واسترشدت العلم وأعملت الفكر وأطلت النظر فتبين لي في كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإجماع الأمة أن اتباع الهوى يعمى عن الرشد ويضل عن الحق ويطيل المكث في العمى فبدأت بإسقاط الهوى عن قلبي ووقفت عند اختلاف الأمة مرتاداً لطلب الفرقة الناجية حذراً من الأهواء المردية والفرقة الهالكة متحذراً من الاقتحام قبل البيان والمست سبيل
النجاة لمهجة نفسي
۰۱
ثم وجدت باجتماع الأمة فى كتاب الله المنزل أن سبيل النجاة في التمسك بتقوى الله وأداء فرائضه والورع فى حلاله وحرامه وجميع حدوده والإخلاص لله تعالى بطاعته والتأسي برسول الله فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء فى الآثار فرأيت اجتماعاً واختلافاً ووجدت جميعهم مجمعين على أن الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأن الفقهاء عن الله العاملين برضوانه الورعين عن محارمه المتأسين برسوله المؤثرين الآخرة على الدنيا أولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين
فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجمع عليهم والموصوفين أقفو آثارهم وأقتبس من علمهم فرأيتهم أقل من القليل ورأيت علمهم مندرساً كما قال رسول الله بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء وهم المنفردون بعلمهم
فعظمت مصيبتي بفقد الأدلاء الأتقياء وخشيت بغتة الموت أن يفجأني
على اضطراب من عمرى لاختلاف الأمة فانكمشت في طلبي عالما لم أجد لى من معرفته بدا لم أقصر في الاحتياط ولم
أن ١١ في النصح فقيض لى الرءوف بعباده قوماً وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى مجتمعين على نصح الأمة لا يرجون أحداً في معصيته ولا يقنطون أحداً من رحمته ويوصون كل واحد بالصبر على البأساء والضراء
۱۱ أفتر ولم أتلبث
۰
والرضا بالقضاء والشكر على النعماء يحببون الله تعالى إلى العباد بذكرهم أياديه وإحسانه ويحثون العباد على الإنابة إلى الله تعالى علماء بعظمة الله
تعالى وعظيم قدرته وعلماء بكتابه وسنته فقهاء في دينه علماء بما يحب ويكره ورعين فى البدع والأهواء تاركين التعمق والإغلاء مبغضين للجدال والمراء متورعين عن الاغتياب والظلم والأذى مخالفين لأهوائهم محاسبين لأنفسهم مالكين الجوارحهم ورعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع - مجانبين للشبهات تاركين للشهوات مجتزئين بالبلغة من الأقوات
المعاد
أحوالهم متقللين من المباح زاهدين فى الحلال مشفقين من الحساب وجلين من مشغولين ببثهم مؤثرين على أنفسهم من دون غيرهم لكل امرئ منهم شأن
يغنيه
علماء بأمر الآخرة وأهاويل القيامة وجزيل الثواب وأليم العقاب ذلك أورثهم الحزن الدائم والهم المضنى فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها ولقد وصفوا للآداب صفات وحددوا للورع حدوداً ضاق لها صدرى وعلمت أن آداب الدين وصدق الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه شبهى ولا يقوم بحدوده مثلى فتبين لى فضلهم واتضح لى نصحهم وأيقنت أنهم العالمون بطريق الآخرة والمتأسون بالمرسلين والمصابيح لمن استضاء والهادون لمن بهم
استر شدهم
فأصبحت راغباً في مذهبهم مقتبسا من فوائدهم قابلا لآدابهم محباً
لطاعتهم
بهم
أحداً
لا أعدل شيئاً ولا أوثر عليهم ففتح الله لى الله لى علماً انفتح لى برهانه وأنار لى فضله ورجوت النجاة لمن أقر
۰۳
به أو انتحله وأيقنت بالغوث لمن عمل به ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه ورأيت الرين متراكماً على قلب من جهله وجحده ورأيت الحجة البالغة لمن فهمه ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجباً على واعتقدته في سريرتي وانطويت عليه بضميري وجعلته أساس دينى وبنيت عليه أعمالى وتقلبت فيه بأحوالى
K
وسألت الله عز وجل أن يوزعنى شكر ما أنعم به على وأن يقوينى على القيام بحدود ما عرفنی به معرفتى بتقصيرى فى ذلك وإنى لا أدرك شكره أبدًا انتهى كلام المحاسبي وليس المحاسبي بدعاً في ذلك وإنما يتفق معه الإمام الغزالي بل الإمام الغزالى أوضح وأدق حاول أن تتصور معى حالة الإمام الغزالى النفسية فستجده متلهفا على المعرفة محبا للاطلاع والدرس والبحث غارقا في محيط الفلسفة والعلم ولكنه كثرة اطلاعه وتنقيبه لم يجد فى المذاهب الفلسفية ما يرضيه ولم يجد في الأدلة
العقلية المؤسسة عليها هذه المذاهب ما يقنعه
مع
ورأى أن من العبث أن يبدأ فى تأليف مذهب فلسفى جديد إذ مصير
ذلك - حتماً - مصير ما سبق من المذاهب التى وإن أخذت بألباب كثير من الناس فإنها لا تثبت أمام النقد الصارم والتي تبعث التفرقة إذ ليس فيها من القوة البرهانية ما يقنع الجميع
ليس هناك إلا الشك إذن
وفى الواقع لقد شك الإمام الغزالى شك في الحواس وشك في العقل
وشك فيما ينتح عنها
٢٠٤
ولكن نفسه اضطربت ونحل جسمه وضاق بالحياة ذرعاً ولم يجد ملجأ
ولا عاصماً من هذه الحيرة وهذا الاضطراب إلا التصوف فولج بابه واطمأن
إليه
وكتابه و المنقذ من الضلال الذى يقص فيه تطوره الفكرى يصور
هذا خير تصوير
وكما يبدأ المحاسبي بحديث ستفترق أمتى ثلاثاً وسبعين فرقة الناجية منها
D
واحدة و كذلك يبدأ الغزالى بهذا الحديث وتكاد بعض جمله تكون مأخوذة من كلام المحاسبي نصا مما دعا بعض المستشرقين إلى أن يذكر أن الغزالي - في كتابته لكتابه هذا - تأثر بالمحاسبي في كتابته المقدمة كتاب النصائح وسواء كان صحيحاً أم غير صحيح فيما لا شك فيه أن الإمام الغزالي قرأ هذا الكتاب إذ أنه استشهد ببعضه في الإحياء
بعدم
والذي يعنينا الآن هو أن الإمام الغزالى - كما يصور في كتابه – بدأ يشعر الاطمئنان حينما فكر فى هذا الحديث الشريف وحينما رأى أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ثم اختلاف الأئمة فى المذاهب – على كثرة الفرق وتباين الطرق – بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون
وكل فريق يزعم
أنه
الناجي وكل حزب بما لديهم فرحون
لهذا أخذ الإمام الغزالى فى البحث جهد طاقته ليصل إلى اليقين و الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ثم يقول وعلمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من
٢٠٥
اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه وكل علم لا أمان
يقيني
معه
فليس بعلم
ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه
الصفة إلا فى الحسيات والضروريات ولكن
انتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في الحسيات أيضا
ثم أخذ الإمام الغزالى يذكر أسباب شكه فى المحسات وفى الضروريات وفى العقليات وقد ذكرنا طرفاً منه آنفاً
واستمر الإمام على تلك الحالة حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين
ولم يكن ذلك بنظم دليل أو ترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة
ولما سئل رسول الله له عن الشرح ومعناه في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام قال
هو نور يقذفه الله تعالى في القلب "
فقيل وما علامته فقال
التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وهو الذي قال عليه
عليه الصلاة والسلام فيه
إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره
٢٠٦
فمن ذلك النور ينبغى أن يطلب الكشف وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين ويجب الترصد له كما قال عليه السلام
شك
إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها هذا الشك الذي حدا بالغزالى إلى التصوف كما حدا بالمحاسبي قبله هو أتى من البحث وراء الحقيقة
ولكننا لا نريد أن نقول إن هذا النمط من الشك هو وحده أساس التصوف وإنما نريد أن نقول إن أساس التصوف - في بعض الحالات هو شك على نحو ما سواء كان هذا الشك يتصل بالناحية الفكرية أو بالناحية الاجتماعية أو بالناحية الوجدانية
فهذا الشخص الذى صدم فى عاطفة من عواطفه وكثيراً ما تكون عاطفة الحب تلك العاطفة القوية الجامحة التى تهز النفس هذا والتي تؤدى كثيراً إلى الانتحار
هذا الشخص الذي صدم فى تلك الناحية قد تصل به الصدمة إلى الشك في كل شخص أو إلى الشك فى أن يجد مثاله الأعلى في هذه الحياة فيتجه إلى حياة العزلة والانفراد أو يعتكف في مسجد أو في بيته عابداً مصلياً طالباً الله أن يكون عماده وأن يكون ملجأه وأن يصرف عنه السوء من وهذا الشخص الرقيق المزاج الذي يرى فى كل آونة ظلم الناس وفساد الحياة والذى لا يجد في نفسه القوة على الجلاد والصراع والذى يصل به الأمر في النهاية إلى الشك في المجتمع وفى أهله فيضيق بالحياة ذرعاً لا يجد
۰۷
مفرا من أن يعتكف متأملا مفكراً في مثل عليا أو في حياة أخرى أو في ملأ
أعلى صفت فيه النفوس وتطهرت وسمت عن كل دنس وهكذا إذا بحثنا فى حياة الذين أطلق عليهم اسم الصوفية فإننا نجد عند
البعض نقطة الارتكاز الشك
۰۸
الشك ومدارج السالكين
من
ولكن تلك الحياة التى يتوجهون إليها تلك الحياة الجديدة التي أخذت النفوس كل مأخذ والتي اتجهوا إليها في تحمس وحرارة لا تزيل من أنفسهم الشك بجميع ألوانه حقيقة إنها تزيل من أنفس هؤلاء الذين شكوا من الناحية الدينية الشك في تلك الناحية وتنسى الآخرين الشك الذي دفعهم إلى حياة التصوف
دفعاً
ولكن النفس التي تتجه إلى الحياة الدينية فى حرارة وتحمس إنما تتجه نحو الكمال من الناحية الدينية وهذا الكمال أول ما يبدأ يبدأ بالتوبة ومن المعقول ومن المنطق أن ذلك الشخص الذي اتجه في تحمس إلى الناحية الدينية يرى في ماضيه كثيراً من الأخطاء فلا تهدأ نفسه ولا تستقر إلا إذا خضع الله ساجداً مستغفراً لنفسه طالباً الله ولكنه لا يكاد يتخطى تلك الفترة إلا ويعرض له الشك في كثير مما يتصل بحياته العادية اليومية ويكاد يتساءل في كل لحظة أهذا حلال أم حرام طيب أم خبيث حسن أم قبيح يرضى الله أم لا يرضيه ويتحرج في المأكل والمشرب والملبس وهذا هو الورع
من الصفح والرضا
ولكنه مهما تحرج فى مأكله ومشربه وملبسه ومهما تحفظ واحتاط فإنه دائماً سيجد أن ذلك لا يكفي ويشك في كل لحظة وآونة ويندم على ما فات وتقوى في نفسه الحرارة الدينية فيرى أن كل ما يتصل بالحياة الدنيا إن هو
إلا لهو ولعب وضلال وباطل وأن خير طريق - إن أراد الهداية أو الرشد -
ما
هو الزهد في تلك الحياة التي لا تساوى عند الله جناح بعوضة توبة ثم ورع ثم زهد تلك هي – بالتتابع – بعض يسميه الصوفية مقاماتهم ولكن الكمال - كما قلنا ليس له من غاية أو من حد نعم وصل صاحبنا إلى الزهد في تلك الحياة ولكن أهذا هو المطلوب إنه إنسان وطبيعته الحيوانية - مهما قويت إرادته - تجذبه إلى الحياة الدنيا وترغبه فيها وتبعث فيه السخط على حياته ويحصل ذلك الصراع العنيف بين المادة والروح الذي صور المحاسبى فى كتابه بدء من أناب إلى الله وفى کتاب الرعاية تصويراً دقيقاً إلى أقصى حد من الدقة
هذا الصراع يبعث فى نفس الصوفى اضطراباً لا مزيد عليه بل يبدأ الصوفى يشك في نفسه وفى قيمته الذاتية ويكاد يصل به الأمر إلى أن يعتقد في تخلى المعونة أو التوفيق الإلهى عنه لأنه ليس أهلا لهما ونجده في تلك الآونة يبكى ويتألم ويتضرع إلى الله أن يمنحه معونته وأن يصفح عنه إذا كان أخطأ بدون علم منه ويعترف بأن لا قيمة له في الواقع أمام تلك القدرة العظيمة وكل ما يرجوه أو يأمله إنما هو أن يكون عبداً وأن يمنحه السيد شيئاً من عنايته أو توفيقه أو رضاه
قد
يستمر صاحبنا كذلك فترة طويلة أو قصيرة وتثور روحه آونة بعد أخرى على الناحية المادية تكبح من جماحها وتهدئ من ثورتها حتى تصل إلى
الرضا
ولكن أذلك الكمال هو
۱۰
لم يقل الصوفى ولا يمكن أن يقول إن معنى الرضا هنا انقطاع كل الرغبات والشهوات أو زوال الآمال والطموح كلا ! إنما معناه أن تلك الثورة التي كانت تودى بصاحبنا وتجعله يعود إلى حياته الأولى هدأت وانتصرت عليها الناحية الروحية
وليس السبب في هذا - حسب رأيه - قوة إرادة أو ذاتية وإنما ذلك توفيق من الله تلك معونة منه أراد به خيراً أراد به الهداية والرشد فماذا يستحق ذلك الخالق الذى أعانه من غير أن يكون سبحانه في حاجة إليه والذى هداه من غير أن يكون فى تلك الهداية نفع للخالق جل
وعلا
إنه إذا لم ينصرف إلى الله انصرافاً كليا وجزئيا كان مقصراً
وليس كل التقصير في مرتبة واحدة فذلك تقصير في حق الإله الذي منح الحياة والذى أفاض النعم والذى غمره اطمئنان النفس وانتشله من الضلال ورفعه إلى مكانة منحه فيها معونته وتوفيقه
ويبدأ الشك في خلجات نفسه وفيما يبدو من دقائق الرياء ثم ينتهى
إلى الانصراف المطلق - فى حدود الإمكان - إلى الذات العليا الكاملة ولكن هذه الذات مها فكر فيها وتأمل يجد دائماً في نفسه الرهبة منها فيزيده ذلك انصرافا إليها وتجد فى نفسه الانصراف إلى الله راحة حتى إذا استمر في ذلك منحه الله من فيضه وتحولت الرهبة شيئاً فشيئاً إلى حب عميق ثم إلى رؤية الله في كل ناحية وفي كل جانب أو في كل مكان ثم إلى الفناء في تلك القوة التي أخذت عليه سمعه وبصره فأعلن أو أسر الاكل شيء ما خلا الله باطل
۱۱
أما بعد فإنى أعتقد أنى ابتعدت كثيراً في كل ما سبق في موضوع التصوف والشك عن النص الآتى بل أعتقد أن كثيراً مما سبق لم يكن إلا شرحاً له
والنص للسهروردي ذكره فى كتابه عوارف المعارف في نهاية الفصل المعنون ماهية التصوف
قال السهروردي
وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف ويطول نقلها زنذكر ضابطاً يجمع جل معانيها فإن الألفاظ – وإن اختلفت متقاربة
المعانى فنقول
الصوفى هو الذى يكون دائم التصفية لا يزال يصفى الأوقات عن
شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس
ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه فبدوام الافتقار ينقى من الكدر وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته الناقدة وفر منها إلى ربه فبدوام تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره
فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى كونوا قوامين الله شهداء بالقسط وهذه القوامية لله على النفس هي
التحقق بالتصوف
قال بعضهم التصوف كل اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوف والسرفيه أن الروح مجذوبة إلى الحضرة الإلهية يعنى أن روح الصوفى منطقة منجذبة إلى مواطن القرب وللنفس بوضعها رسوب إلى عالمها وانقلاب
على عقبها
۱
ولابد للصوفى من دوام الحركة بدوام الافتقار ودوام الفرار وحسن
التفقد لمواقع إصابات النفس ومن وقف على هذا المعنى يجد في معنى الصوفى جمع المتفرق في
ه الإشارات ا هـ
۱۳
الإمام الغزالى يرسم طريق المعرفة
١ - إن البحث العقلى فى الإلهيات أمر طبيعى بالنسبة للمفكرين الذين نشئوا في أقاليم لا يوجد فيها كتاب مقدس إنه من الطبيعي أن يوجد في هذه الأقاليم رجال يحاولون ابتداع مذهب فيما وراء الطبيعة ذلك أن الإنسان بفطرته طلعة وهو يحاول دائماً معرفة العلل والأسباب ويتشوف إلى رؤية المجهول إلى الكف عن عالم الغيب
أما في البيئات التي فيها نص مقدس يحتفظ بنضرته ولا يشك إنسان في صحته فإنه من غير الطبيعى أن ينشأ بجوار هذا النص المعصوم اختراعات ذهنية تتصل بعالم الغيب ذلك أن ثمرة التفكير الإنساني عرضة للخطأ والخطأ في الذات الإلهية أو فى الصفات الإلهية الخطأ في عالم الغيب على وجه العموم فيه خطورة كبيرة الطريق المستقيم إذن هو ألا ينشأ بجوار النص المقدس اختراع عقلى يتصل
أخطاء
بعالم الغيب تلافياً لما عساه أن يكون في نتائج البحث العقلى من التسليم للنص المقدس إذن هو المبدأ السليم عند ذوى العقول الحكيمة وقد حدث مرة أن أخذ سقراط ورفقاؤه يتحدثون عن خلود النفس ويحاولون إقامة الأدلة على ذلك فلا يكاد يستقيم لهم الأمر في يقين جازم ثم يسكت سقراط ويسكت الجميع وبعد هنيهة يقول سيمياس إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل فيجب إما الاستيثاق من الحق
وإما - إن امتنع ذلك استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن أعنى إلى وحى إلهى ١٢
المركب الأمتن والآمن فى رأى سيمياس هو الوحي الإلهى ومعنى ذلك - في وضوح لا لبس فيه - أنه لو كان لدى سيمياس أو لو كان في العهد اليوناني نص مقدس صحيح لاستسلم إليه الجميع دون نقاش أو جدل أما استعمال العقل فى عالم الغيب فإنه فى أغلب الأحايين مخاطرة لقطع البحر على لوح من خشب وهيهات أن ينجو من يفعل ذلك !
واستسلم المسلمون الأوائل للنص المقدس متبعين في ذلك الطريق القويم ومضى الصدر الأول للإسلام دون جدال في العقيدة ودون محاولة عقلية للاختراع فيما وراء الطبيعة أو بتعبير آخر دون محاولة عقلية لتحديد مالا يحد
وتقييد ما لا يقيد
٢ - وكان أول انحراف منظم قوى عن هذا المبدأ السليم هو الطريق الذي
عطاء
6
سلكه واصل بن وعمرو بن عبيد ومدرستهما إنهم لم يتعمدوا انحرافاً ولا خروجاً عن الطريق السوى وإنما خيل إليهم أن عملهم إنما هو خدمة للإسلام وخدمة للمسلمين ولكنهم بعملهم هذا حكموا العقل القابل للخطأ في الدين المعصوم بل لقد أخذوا فى وضع قانون تشريعي يفرض على الله سبحانه وتعالى الفروض لقد أخذوا يوجبون عليه ويمنعون عليه فهو سبحانه - على رأيهم يجب عليه أن يفعل كذا ويجب عليه ألا يفعل كذا وحكموا هكذا عقولهم فى الدين وفى الله وما دام عقل كل إنسان يختلف عن
۱ یوسف کرم تاريخ الفلسفة اليونانية
٢١٥
عقل الآخر فقد انقسمت المدرسة الاعتزالية إلى مدارس ومذاهب لا تكاد
تحصر
وكانت النتيجة لتحكيم العقل فى الدين أن بدأ الافتراق والاختلاف العقدى
في البيئة الإسلامية
لم يستسلم المعتزلة استسلام المؤمن المعترف بعجزه وقصوره تجاه الذات الإلهية كما فعل الصدر الأول إنما وثقوا بعقولهم الثقة المطلقة فكان من نتيجة ذلك الشقاق والتفرق
وحينما بدأ المسلمون في أوائل العصر العباسي يترجمون الثقافات الأجنبية فإنهم لم يستسيغوا ترجمة الإلهيات والأخلاق ذلك أن يقينهم المطلق في نصهم المقدس جعلهم يستهينون بكل ما عداه مما يتصل بما وراء الطبيعة أو بالأخلاق وكان موقفهم ذلك سليماً كل السلامة ذلك أن كل فكرة أو كل رأى متصل بما وراء الطبيعة يخالف ما أتى به الوحى إما أن يكون خرافة أو يكون ضلالا عقليا والحياة الجادة لا تستسيغ إنفاق الزمن في دراسة خرافات أو أضاليل
عقلية
ولكن المأمون ومن ورائه المعتزلة فعلوا ما امتنع جمهرة المسلمين عن فعله فترجموا إلهيات اليونان وأخلاق اليونان فأصبح بذلك الاختراع العقلى أو البحث العقلى أو الابتداع العقلى فى الدين أرستقراطية عقلية يجرى وراءه
الكثيرون
t
- ونشأ الفلاسفة وأخضع الفلاسفة كل شيء لعقولهم وأخذوا يرسمون القواعد ويقيمون الأدلة ويبتعدون كثيراً أو قليلا عما فهمه المسلمون عن رسولهم وعما استشعروه من الروح العامة للإسلام على وجه العموم
٢١٦
والواقع أن إقامة ما وراء المادة على العقل إنما هو شهوة أو هوى ذلك أنه منذ ابتداء العهد اليونانى وهذا النهج من البحث في إخفاق متتابع وفى فشل مستمر وفي تناقض ملازم ورجاله يناقض بعضهم بعضا ويهدم كل ما بناه الآخرون وعلى توالى الزمن تنهار الآراء وتنشأ آراء أخر لا تلبث أن تنهار وهكذا دواليك
ومع رؤية كل باحث عقلى لهذه النتائج المنهارة باستمزار فإن ذلك لم يقم عظة واعتباراً في نظرهم واستمروا على الطريقة العقلية رغم رؤيتهم في وضوح مآل بحوث سابقيهم المتهافتة - ونشأ الإمام الغزالى وكان من توفيق الله أن الإمام الغزالى منح طبيعة طلعة وذهناً ثاقباً وتفكيراً حكما وأتيحت له تربية دينية سليمة منذ نشأته الأولى وأخذ تفكيره يجول في جميع المناحي الدينية فلاحظ أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ثم اختلاف الأئمة فى المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون فاقتحم لجة هذا البحر العميق وخاض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور وتوغل في كل مظلمة وتهجم على كل مشكلة وتقحم كل ورطة وتفحص عن عقيدة كل فرقة وكان نتيجة ذلك كله أن فقد ثقته في العلم ووجد نفسه عن علم يقينى فأراد أن يبدأ من البسائط وأن يجعل أساسه قويا متينا
عاطلا
حتى ينتهى إلى اليقين المطلق فيما يعلم ولكنه اختبر الثقة فى المحسات فلم تسمح نفسه بالتسليم باليقين فيها وامتحن
الثقة بالعقليات فانهارت العقليات
۱۳
۱۳ المنقذ
من
الضلال
۱۷
ومر إذن الإمام الغزالى بتجربة قاسية هي تجربة الشك في الحسيات والعقليات فاستمر على ذلك شهرين هو فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال ١٤
ثم شفاه الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ١٥
خرج الإمام الغزالى من هذه التجربة على نور من ربه وعلى بصيرة من أمره فحاول ما استطاع أن يرسم الطريق الصحيح للشغوفين بالمعرفة والمتطلعين إلى الهداية والمستشرفين إلى العلم بالملأ الأعلى
لقد أراد أن يسلك الطريق الذى يرضى اتباعه الله ورسوله أراد أن يرسمه للحيارى والمتطلعين إلى الهدى والشاكين الآملين في اليقين وللمسترشدين الذين يريدون أن يعتصموا بحبل الله المتين
أراد أن هذا الطريق بعد تجربة مر بها فرسمه في ثقة المجرب وفى
برسم
إحكام الخبير إن الأساس الخادع الذى لا يعدو أن يكون هوة عميقة يتردى فيها الكثيرون إنما هو إرادة تشييد ما وراء الطبيعة على العقل فما العقل بالنسبة إلى ما وراء الطبيعة إلا السراب الخادع الذى غرر بكثير من الظامئين إلى معرفة الغيب ثم إن هذا الاتجاه خطر على الدين نفسه
إنه من جانب انصراف عن النص الإلهى إلى العقل
۱۸
١٤ المنقذ من الضلال
١٥ المنقذ من الضلال
ومن جانب آخر إقامة مصدر لمعرفة الغيب غير النبوة
وفي ذلك لاشك صرف للناس عن التأمل فى النص المقدس كمصدر المعرفة
الإلهيات وفيه كذلك تقليل من
شأن النبوة
وهجم الإمام الغزالى بكل ما يستطيع على هذا النهج ولم يفتر قط عن مهاجمته منذ أن ألف كتابه القيم تهافت الفلاسفة إلى أن انتهت به الحياة ولقد كان كتابه هذا محاولة جريئة كل الجرأة موفقة كل التوفيق وما كان المقصد الأول والهدف الأساسى لهجومه هو هدم الآراء في نفسها إذ أن بعضها صحيح موافق للدين وإنما كان هدف الإمام هدم المنهج العقلى الذي استندت إليه هذه الآراء فخلود النفس مثلا رأى يقول به الإمام الغزالى ويقول به الفلاسفة ولكن الإمام حمل معوله وأخذ يهدم بيد قوية المسلك العقلى الذى أثبت به الفلاسفة خلود النفس فانهارت أدلتهم
وتهافتت
لقد فعل ذلك مع إيمانه بالخلود
1
IV
وهو لم يلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغبير في وجوه أدلتهم مما يبين تهافتهم ومقصوده تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم ويقول أنا لا أدخل فى الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة فألزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية وطوراً مذهب
١٦ تهافت الفلاسفة
۱۷ المصدر نفسه
۱۹
۱۸
الواقفية ولا أنتهض ذاباً
عن
مذهب مخصوص
ويقول الأستاذ بلاسيس بحق إن الغزالي حينما سمى كتابه تهاف الفلاسفة و كان يريد أن يمثل لنا أن العقل الإنساني يبحث عن الحقيقة ويريد الوصول إليها كما يبحث البعوض عن ضوء النهار فإذا أبصر شعاعاً يشبه نور الحقيقة انخدع به فرمی نفسه عليه و تهافت فيه ولكنه يخطىء مخدوعاً بأقيسة منطقية خاطئة فيهلك كما يهلك البعوض
فكأن الغزالى يريد أن يقول إن الفلاسفة خدعوا بأشياء أسرعوا إليها
بلا إعمال روية فتهافتوا وهلكوا الهلاك الأبدى ۱۹
- والمعرفة عند الفلاسفة العقليين مصدرها إذن العقل والعقل وحده
101
بيد أن الإمام الغزالى يرى عن تجربة أن وراء العقل طوراً آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما يكون فى المستقبل وأموراً أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة العمييز ٢٠ عن إدراك المعقولات وكعزل قوة الحس عن إدراكات
الغيب
التمييز وهناك إذن البصيرة وموضوعها الذي ينكشف لها إنما هو وإذا تساءلنا مع الإمام الغزالى عن مراتب المعرفة بالغيب التي هي الإيمان فإننا نجده يحدد ثلاث مراتب - المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض - المرتبة الثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال و درجته
حسبما يرى الإمام - قريبة من درجة إيمان العوام
۱۸ المصدر نفسه
۱۹ تاريخ الفلسفة الإسلامية ترجمة الدكتور أبو ريدة
۰ المنقذ من الضلال
۰
٣ - المرتبة الثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين ولا شأن لنا في حديثنا هذا بالمرتبة الأولى أما المرتبة الثانية وهي مرتبة المتكلمين وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر أو أرباب البحث والاستدلال فإنهم يشاركون الفلاسفة بهذا الاعتبار في منهج البحث والإمام الغزالي يرى أن درجتهم قريبة من درجة العوام وهو من جانب آخر لا يرى فى منهج المتكلمين ما يؤدى إلى كشف الحقائق إنه يقول حرفيا عن علم الكلام وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه المسدود ٢١ ويرى في موضع آخر أن المتكلم لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام ولأجله سميت صناعته كلاماً
أما المرتبة العليا فإنها الهدف الأسمى وهى مقصد الطالبين ومطمح نظر
الصديقين إنها مشاهدة روحية إنها يقين مطلق إنها المشاهدة بنور اليقين ٦ - ولكن مشاهدة ماذا ويقين فى ماذا ما هو موضوع هذه المرتبة
إنه - إذا أردنا الإجمال - الغيب
۱ الإحياء ص ۱۹۸
الإحياء ص ۸۷
۱
أما إذا أردنا شيئاً من التفصيل فإنه أمور كثيرة كان يسمع العارف من قبل فيتوهم لها معانى مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك وتحصل
أسماءها
المعرفة بالله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه الآخرة على الدنيا
والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحى ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحى إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا كم ومعنى قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون كم
ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى
الكوكب الدرى فى السماء إلى غير ذلك مما يطول تفسيره
۳
ذلك بعض موضوع الغيب الذى يتطلع إلى معرفته دون جدوى
المتكلمون والفلاسفة
ولأنهم لم يتخذوا إليه السبيل الصحيح فقد اختلفوا فيه
۳ الإحياء ص ٣٤ ٣٥
لقد اختلفوا في معانى هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضهم يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذى أعده الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء
وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من
ألفاظها
وكذلك يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن
المعرفة
وهو
وبعضهم يدعى أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد
أنه
جميع
العوام
موجود عالم قادر سميع بصير متكلم اختلف الناس هذا الاختلاف لأنهم لم يتبعوا النهج الصحيح في معرفة
الغيب وهذا النهج الصحيح إنما هو جلاء البصيرة
ولو اتبعوا الكشف عن البصيرة لارتفع الغطاء حتى تتضح للإنسان جلية الحق في هذه الأمور اتضاحاً يجرى مجرى العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان ٢٤
أهذا
ممكن
جوهر الإنسان
إنها دعوى من الإمام الغزالى تحتاج إلى إثبات وهي دعوى ينكرها
الكثيرون
ولكن الإمام الغزالي يرى أن الدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على
٢٤ الإحياء ص ٣٤ ٣٥
۳
جحده أمران أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسات فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه
والثاني إخبار رسول الله الله عن الغيب وأمور في المستقبل وإذا جاز للنبي جاز لغيره إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون فى الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشغل بإصلاح الخلق وهذا لا يسمى نبيا بل يسمى وليا فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بالبصيرة أو بتعبير آخر أن يقر بباب للقلب ينفتح على عالم الملكوت هو باب الإلهام والنفث في الروع
والوحى
٢٥
والإمام الغزالي يتشبث بالرؤيا كبرهان ودليل على أن هناك آلة للمعرفة غير الحس والعقل ويردد ذلك فى كثير من كتبه إنه يتحدث في المنقذ عن النبوة فيقول وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن أعطاه نموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عن التعبير وهذا ولو لم يجربه الإنسان من نفسه وقيل له إن من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره وأقام البرهان على استحالته وقال القوى من أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها
الحساسة
٢٥ الإحياء ص ٣٨٩
٢٢٤
فبألا يدركها مع ركودها أولى وأحق وهذا نوع قياس يكذبه الوجود
والمشاهدة ٢٦
ولكن الغزالي لا يكتفى بهذين الوجهين من الاستدلال بل يأتى بشواهد الشرع ويذكر التجارب والحكايات أما الشواهد – فيما يرى – فهى قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ۷ وقوله سبحانه ﴿ يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً كم ۸ قيل نوراً يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات وقوله عل من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم وسئل عن قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ۹ ما هذا الشرح فقال هو التوسعة إن النور إذا قذف به إلى القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال عليه الصلاة والسلام إن من أمتى محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم والمحدث هو الملهم والملهم هو الذى انكشف له الحق في باطن قلبه من
جهة الداخل لا من جهة المحسات الخارجية والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف ومن يؤمن بالله يهد قلبه ی ٣٠ أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ۳۱ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو
۳۰
٢٦ المنقذ ص ١٣٤ ۷ سورة العنكبوت آية ٦٩
۸ سورة الأنفال آية ۹
۹ سورة الزمر آية ۳۰ سورة التغابن آية ۱۱
۳۱ سورة الأنعام آية ۱
قضية التصوف المنقذ من الضلال
٢٢٥
على نور من ربه ولم يكن علم الخضر عليه السلام علماً حسيا أو عقليا وإنما هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى ﴿ وعلمناه من لدنا علما ۳ كيف تنجلى البصيرة كيف يتأتى الكشف والإلهام والنفث في الروع كيف تتأتى معرفة الغيب معرفة مباشرة
إن الطريق إلى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة
وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه المهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولى لقلب عبده والمتكفل له بتنويره
بأنوار العلم وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
6
مع
الإرادة
فليس على العبد الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة وهو بفعله يصير متعرضاً لنفحات رحمة الله وليس له اختيار في استجلاب هذه النفحات وليس له إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريقة
وإذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته تلمع لوامع الحق
۳ الإحياء ص ٤٣٤٤١
٢٢٦
في قلبه ويرتفع الحجاب بلطف خفى من الله تعالى فينكشف له الغيب ويحصل له
اليقين
۳۳
- هذا النهج الذي رسمه الإمام الغزالى لمعرفة الغيب له آثار عميقة بالنسبة للفرد في خاصة نفسه وبالنسبة للمجتمع وبالنسبة للدين ولتوضيح ذلك بعض الإيضاح ولذكر بعض الآثار التي كانت لهذا النهج تذكر ما كتبه الدكتور محمد إقبال في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام عن الإمام الغزالي
العقيدة
يقول الدكتور إقبال على أنه لا سبيل إلى إنكار أن الدعوة التي نهض لها الغزالى تكاد تكون دعوة للتبشير بمبدأ جديد مثلها في ذلك مثل الدعوة التي قام بها كانت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ففي ألمانيا ظهر المذهب العقلى لأول عهده حليفا للدين ولكن سرعان ما تبين أن جانب العقيدة من الدين لا يمكن البرهنة عليه حسيًّا فكان الطريق الوحيد إذن أن تنمحى الدينية من سجل المقدسات وقد جاء مع محو العقيدة مذهب المنفعة في فلسفة الأخلاق وبذلك مكن المذهب العقلى من سيادة الإلحاد تلك كانت الحال في ألمانيا عندما ظهر كانت وكشف كتابه المذهب العقلى من قبل وصدق عليه القول بأنه كان أجل نعم الله على وطنه وإن التشكك الفلسفى الذى اصطنعه الغزالى - على تطرفه بعض الشيء - قد انتهى إلى النتيجة نفسها في العالم الإسلامي إذ قضى ذلك المذهب العقلى الذي كان موضع الزهو على الرغم من ضحالته وهو المذهب الذي سار في نفس الاتجاه الذي اتجه إليه المذهب العقلى فى ألمانيا قبل كانت
۳۳ الإحياء ص ۱۳۷۷ ۱۳۷۸
۷
غير
نمشى مع
أن هناك فارقا هاما بين الغزالى و كانت فإن كانت مبادئه تمشيا لم يستطع أن يثبت أن معرفة الله ممكنة أما الغزالي فعندما خاب
رجاؤه في الفكر التحليلى ولى وجهه شطر الرياضة الصوفية وألفي فيها مكاناً للدين قائماً بنفسه وبهذه الطريقة وفق لأن جعل للدين حق الوجود مستقلا
العلم وعن الفلسفة الميتافيزقية ٣٤
عن
٣٤ تجديد التفكير الديني في الإسلام ۱۰ ۱۱
۸
٣٥
مشكلة المعرفة والصوفية
يتسم التاريخ - سياسياً كان أو فكرياً - بفترات تبدو فيها الحيوية الجارفة وهذه الحيوية تتركز في شخص أو أشخاص نابغين يلقون بأنفسهم في مجرى الحياة الهادئ الوديع فتضطرب الحياة وتموج ويعلو موجها وينخفض وتصطرع القوتان - قوة الشعب الذي يتبع التقاليد - وقوة المصلحين النابغين - فترة تطول أو تقصر ثم تنحصر الأمواج وتهدأ الأمور فإذا بالحياة تأخذ لوناً جديداً وإذا بالقيم قد تغيرت في قليل أو كثير ومهما يكن من شيء فإن عظماء الرجال – على أى وضع قضوا نحبهم -
لا يتركون هذا العالم إلا وقد تركوا أثراً لا ينمحى أبد الدهر وقد ينشأ النابغة فيجد نفسه في ميدان المعركة مختاراً أو مضطرا وتشرع نحوه الأسنة وتتجه إليه السيوف المهندة فيدافع ويهاجم ويغلب أو يغلب ويترك على كل حال أثراً مؤثراً
6
ونشأ المحاسبي وفى العالم الإسلامى قوتان هائلتان تصطرعان ١ - أهل السنة ويمثلهم الإمام أحمد بن حنبل
٣٥ هذه الكلمة كتبتها بمناسبة طبع كتاب الرعاية للمحاسبى وهى وإن كانت قد كتبت في مناسبة خاصة فإنها من حيث الفكرة عامة فيما يتعلق بالمعرفة الصوفية
۹
- المعتزلة ولهم ممثلوهم فى البصرة والكوفة وبغداد وهذا الصراع بين المعتزلة وأهل السنة صراع طبيعي لا يخلو من مثله دين من الأديان
إنه الصراع الخالد بين النصيين والعقليين إنه النزاع الأبدى بين الذين يقولون
إن الدين نص تفسره أسباب النزول واللغة والرواية والذين
يقولون
إن الدين نص يفسره العقل ويوضحه
ويظن بعض الناس - للوهلة الأولى - أنه لا يمكن أن يكون هناك طرف
ثالث فى هذه الخصومة
فالإنسان إما نصى وإما عقلى ولا يحتمل الأمر حلا ثالثاً
ونشأ المحاسبي ليعلن هذا الحل الثالث أو بتعبير أدق ليذكر بهذا الحل
الثالث
لقد هاجم المعتزلة هجوماً عنيفاً وألف كتاباً خاصا في الرد عليهم سيماه فهم القرآن
لقد رأى في نزعتهم العقلية طغياناً لا يتناسب ومقام العبودية ورأى أن نزعتهم تحكم العقل فى القرآن وتجعله يسيطر على النص ولو كان الأمر كذلك لكان القائد في الحقيقة وواقع الأمر هو العقل لا الكتب المقدسة وإذا كان المعتزلة قد خدموا الدين خدمات جليلة تتمثل في دفاعهم المجيد
۳۰
عنه ورد هجمات أعدائه وتأييده منطقياً وعقليًّا فإنه مما لا شك فيه أن العقل لو ترك وشأنه لا يمكنه أن يتسلل إلى عالم ما وراء الطبيعة فيفسر لنا
غامضه
لنا ويوضح من أمره ما ا ما انبهم لابد إذن أن يخضع العقل للنص
ومذهب المعتزلة إذن لا يسير فى عالم ما وراء الطبيعة على النهج
الصواب
هناك إذن إفراط وتفريط
والعبودية الحقة - فيما يرى المحاسبى - هي النهج الصحيح للوصول إلى
المعرفة الحقة
ودخل المحاسبي المعركة وسلاحه فيها عبودية حقة وإخلاص لا حد
له وتقوى تغمر كل الجوارح ومن قبل ذلك ومن بعده دراسة مستفيضة للدين وسائله وغاياته جزئياته وكلياته
التقوى والعلم إذن كانا سلاحه في المعركة
6
واحتدم النزاع وكان لابد من أن يحتدم وثار الفقهاء على المحاسبي وكان لابد أن يثوروا فقد كان المحاسبى ينهج في درسه نهجاً آخر غير
الطريق العادى التقليدى
كان يتحدث في الإخلاص وفى الورع وفى الزهد وفى الخشوع
الخالص لله
وكان يتحدث في محبة الله والأنس به والقرب منه
۳۱
وكان يتحدث في هيبته وجلاله وعظمته
وكان حديثه عذبا طلقا ساميا فكانت تخشع له الأفئدة وتلين له القلوب وتسيل له الدموع ويتذكر الناس ما لله من فضل فترق قلوبهم و يعاهدون على الاستقامة
وملأت سمعة المحاسبى أرجاء بغداد ثم عبرتها إلى جميع أرجاء المملكة الإسلامية المترامية الأطراف وكلما أخذت شهرته في الازدياد كلما كثر خصومه
وشانئوه ! !
عنه !
ولكنه كان يسير في طريقه ثابت الخطى لا يعنيه سوى أن يكون الله راضياً
وتكشفت له الحجب وزالت عنه المسائير ووصل إلى المعرفة الحقة فأعلن
طريقها
وروح
وطريقها ليس حسا يخطئ وليس عقلا يضل وإنما هو بصيرة وضاءة
صاف
۳
واستمرت الخصومة بين
النصيين ويمثلهم الإمام أحمد والبصيريين ويمثلهم الإمام المحاسبي
والعقليين ويمثلهم المعتزلة
ومن غريب الأمر أن أية قوة من هذه القوى لم تخر صريعة بل بقيت
قوية واستمرت فى كفاح ونضال حتى يومنا هذا
تسلسلت فكرة المحاسبى وتمثلت خير تمثل في الإمام الغزالي ثم في بقية الصوفية من بعده حتى كان العصر الحاضر فكان يمثلها في أسلوب جديد وتعبير صادق المرحوم الشيخ عبد الواحد يحيى الذي توفى منذ سنوات وتسلسلت فكرة الإمام أحمد فتمثلت في الإمام ابن تيمية الذي وضع لها المنطق وأرسى لها القواعد والأصول وانحرف بها إلى الشكل أكثر من الجوهر واستمرت قوية إلى عهدنا الحاضر وكان يمثلها المرحوم الشيخ رشيد رضا تمثيلا قويا
وتسلسلت فكرة المعتزلة راكدة حيناً وقوية حينا آخر حتى كان
جمال الدين الأفغاني فدفعها قويا إلى عالم الظهور
وكان الشيخ محمد عبده من أهم العوامل في نشرها ملطفة خفيفة تكاد تخفى أو تكاد تلبس ثوب السلفية الأولى الأصيلة التي كانت قبل ابن تيمية والتي لا يمثلها ابن تيمية
وحمل اللواء من بعده المرحوم الشيخ المراغى والمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق
وفكرة الإمام محمد عبده تتمثل فيها حقيقة لا في الشيخ رشيد رضا كما يظن كثير من الناس
۳۳
لا تزال تلك القوى الثلاث تتصارع حتى عهدنا هذا ونعتقد أنها ستستمر ذلك أنها تمثل نزعات فطرية في بنى الإنسان
فبعضهم
أبعد منه
واقعى يتجه إلى النص ولا يريد أو لا يمكنه أن يسير إلى
وبعضهم يحتفظ بشخصيته قوية جارفة لا تلين فهو عقلى أو اعتزالي وبعضهم رقيق الشعور مرهف الحس ملائكي النزعة فهو بصيري
أو صوفى نزعات ثلاث تقوم على فطر مختلفة وهذه الفطر ستستمر في بني البشر ما دام على وجه الأرض أفراد من النوع الإنساني ومن هنا كان خطأ هؤلاء الذين يحاربون التصوف أو الاعتزال أو النصيين على أمل أن يقضوا على
هذه الاتجاهات قضاء تاماً
وبالله التوفيق
٢٣٤
- إنكار التصوف
الفصل الرابع قضية التصوف
- تحديد موطن النزاع - المشاكل التي يراد حلها الحس ومشاكل ما وراء الطبيعة
- العقل ومشاكل ما وراء الطبيعة - البصيرة ومشاكل ما وراء الطبيعة - الطريق إلى المعرفة
- طريق البصيرة طريق الصواب - التصوف أرستقراطية
- تفاوت الناس فى فهم الدين
- التصوف قوة
- التصوف ليس دخيلا على الإسلام
- التصوف فى العصر الحديث
إنكار التصوف
إن الذين ينكرون التصوف ليسوا من رجال العصر الحديث فحسب ذلك أن النزاع بين الفقهاء و الصوفية قديم قدم التصوف نفسه ورجال الظاهر على وجه العموم ينفرون من الصوفية ويحاربونهم أينما كانوا حرباً لا هوادة فيها
ویرون
والحرب قائمة أيضاً بين الصوفية ومن يتخذون العقل مقياساً للآراء
أنه
وحده الهادى إلى الرشاد
ولم يهدأ الصراع بين الصوفية وغيرهم – فقهاء كانوا أو عقليين على مر
الزمن
ما هي مآخذهم على التصوف أولا يرى الفقهاء - ويشاركهم في هذا الرأى كثير من الباحثين أن التصوف دخيل على الإسلام إذ ليس فى الإسلام إلا التقوى والورع ونوع من الزهد يشبه أن يكون عفة أو قناعة ثانياً الأدلة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وإرادته موجودة في القرآن الكريم في وضوح لا لبس فيه فإذا ما تركناه وذهبنا نلتمسها في متاهات التصوف فإننا لا نأمن أن نضل فى مجاهل الطريق ثالثاً و التصوف ليس فى متناول الجميع فهو إذن أرستقراطية مع روح الإسلام و الديمقراطية ولأن التصوف ليس فى متناول الناس جميعاً فهو إذن تكليف بما
تتنافى
۳۷
لا يطاق والله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها
رابعاً
التصوف ضعف والإسلام قوة والله سبحانه وتعالى يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل والجهاد باب من
أبواب الإسلام لا يتلاءم مع صوم النهار وقيام الليل أما العقليون فإنهم يرون أن الله - سبحانه وتعالى – منحنا العقل لنهتدى به إليه فإذا ما احتقرناه - كما يفعل الصوفية - فقد احتقرنا أجل نعمة
وهبها الله لنا
ويرى العقليون أن العقل هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اليقين في محيط ما وراء الطبيعة وهم يبرهنون على وجود الله – عقليا – ويرون في براهينهم غناء ودقة ويقيناً ووضوحاً لا لبس فيه وقد حث الله في القرآن على استعمال العقل والآيات التي تخاطب العقل وتدعو إلى استعماله كثيرة متعددة
هذه هي أهم ما يأخذه منكرو التصوف على التصوف و الصوفية وأما ما عداها مما يتهكمون به على الأشكال والطقوس والعادات التي يلصقونها بـ التصوف وليست منه فإنا نضرب عنها صفحاً ذلك أننا نتحدث عن
التصوف و الصوفية الحقيقيين
تحديد موطن النزاع
ونريد الآن أن نبين - فى إيجاز - بعض ما يراه الصوفية في هذه
الاعتراضات لتبين الحق فى هذا الغموض والاضطراب
يسود قضية التصوف
والخلط الذي
۳۸
إن الاستدلال على وجود الله لا يحتاج - في نظر الصوفية – إلى كد الذهن
وإعمال الفكر
كيف يتأتى أن يخفى الله وأن يكون من الخفاء بحيث نحاول جهدنا أن نتطلب ما يثبت وجوده من أدلة
إن إثبات وجود الله ليس مشكلة فى نظر الصوفى وإذن فإنه لا يؤخذ على الصوفى أنه يذهب إلى طرق خفية لينتهى من ورائها إلى الاستدلال على وجود الله إن الصوفية يرون أن مجرد محاولة إثبات وجود الله إنما هي انتقاص من جلاله سبحانه فمتى خفى سبحانه حتى يحتاج إلى دليل يدل على وجوده إنه سبحانه أظهر من كل موجود
ولكن البشرية - شرقية كانت أو غربية ومسلمة كانت أو مسيحية وقديمة كانت أو حديثة - لا تخلو من طائفة كبيرة تتطلب في إلحاح وفى قلق وفى تحمس جارف ما وراء إثبات وجود الله النفس الإنسانية هكذا خلقت فكلما منح الله الإنسان عقلا كبيرا وذكاء جادا ونفسا طلعة كان ذلك مدعاة له إلى التوغل فى البحث فيما وراء الطبيعة
هيئة
إن وجود الله ووحدانيته وكونه عالماً مريداً قادراً كل هذه مسائل
لو وقفت عندها النفوس لما كانت هناك فلسفة
ولما كان علم الكلام
ولما كانت الأبحاث النظرية فيما وراء الطبيعة
ولما كان التصوف
۳۹
ولكن النفوس لم تقتصر على ذلك ولا يمكنها الاقتصار على ذلك ولن يتأتى لها - عن رغبة أو رهبة - أن تقتصر على ذلك ! !
المشاكل التي يراد حلها
كيف خلق الله العالم ! أخلقه من العدم المطلق فكيف إذن ينتج شيء من
لا شيء
إن شيئاً من لا شيء لا يتصوره العقل بل إنه يحكم باستحالته أم خلقه من مادة كانت موجودة فالمادة إذن قديمة قدم الله نفسه وهناك إذن قديمان الله والمادة والله لا نهائى الذات ومقتضى هذا ألا يخرج عن ذاته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إنه الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء وفى كل شيء وبهذه النظرة يخاطب شلى الله - سبحانه وتعالى -
فيقول
إن أصغر ورقة من أوراق الأشجار التي يلاعبها النسيم ليست إلا بضعة منك جزءا من أجزائك كلا ولا أحقر دودة تسكن القبور وتسمن من
لحوم الموتى أقل مشاركة لك في حياتك السرمدية
ه ويقول إن هذه الروح التى توجد فى كل مكان بها يحيا كل موجود وهي هو ۱
أحق هذا أم أن ذات الله لا تتضمن أرضا ولا سماء ولا برا ولا بحراً فهي إذن محدودة لأنها ما عدا هذا الكون
۱ عن مبادئ الفلسفة ترجمة و الدكتور أحمد أمين
٢٤٠
عالم
ثم إن الله – زيادة على ذلك - لا يمكن أن يوجد في كل مكان والله
أهو عالم بما كان على أنه كان وبما سيكون على أنه سيكون وبما هو كائن على أنه كائن أم أنه عالم بما كان وبما هو كائن على أنه سيكون أم أنه عالم بما هو كائن وبما سيكون على أنه كان أيسيطر الزمن على علم الله
أم أن الله فوق الزمن وأنه في حاضر لا يزول ولكن كيف يتأتى لنا حقا أن نفهم أن الله فى حاضر لا يزول مع بداهة
شعورنا بالماضى والحاضر والمستقبل
والله عالم – كما قلنا - أهو عالم بذاته فحسب لأن علمه في شرفه وسموه وكماله إنما يتعلق بما يناسبه من شرف وكمال وسمو وليس ذلك إلا ذاته سبحانه وتعالى
أم أن علم الله يتعلق بذاته وبالكليات ولا شأن له بالجزئيات لأنها تافهة لا قيمة لها والله منزه عن أن يتعلق علمه بالتافه
أم علم الله يتعلق بذاته وبالكليات الجزئيات
C
على الرغم مما في
الجزئيات من نقض وتفاهة ومن مناظر تشمئز منها النفس ويعافها النظر والله قادر أهو قادر على كل شيء أقادر هو على الجمع بين الضدين مثلا أقادر على أن يجعل الثلاثة أكثر من العشرة والجزء أكبر من الكل أم أن هناك المستحيل بالنسبة إلى قدرة الله وإذا كان هناك المستحيل بالنسبة إلى قدرته أفيتصف إذن بالكمال أم أن
٢٤١
قدرته تتعلق بالمستحيل - كما يقول علماء الكلام - معتقدين أنهم بذلك قد
حلوا الإشكال
والله مريد
أيريد الخير والشر فلم الحساب والعقاب أو المثوبة إذن وكيف يريد الشر مع أن طبيعته خير محض كيف يريد الشرمع أن إرادة الشر في بني البشر تعتبر نقصاً
وإذا لم يكن يريد الشر فهل يحدث الشر في هذا العالم بالرغم عنه أم أنه يحدث وهو عنه راض وإن لم يكن له مريداً أيرضى الله عن الشر أم يكرهه
إن رضاءه بالشر يتنافى مع كماله
وإذا كان يكره الشر فكيف يوجد مع كراهيته له
أيجب الله أن يعصى أم أنه يعصى بالرغم عنه
وصفات الله عامة مطلقة شاملة لا نهائية إنه رحمن رحمة مطلقة
لا نهائية ورحمته وسعت كل شيء وهو جبار ذو جبروت لا نهائى ولطيف
لاحد للطفه
فكيف تنسجم الرحمة المطلقة مع الجبروت المطلق مع أن البداهة تقضى بأن تنفى كل صفة منها وجود الأخرى وإنه لمن الرائع حقا أن ما يريد أن يراه الشاعر إسماعيل صبرى حينما خاطب الله قائلا ومر الوجود يشف عنك لكي أرى غضب اللطيف ورحمة الجبار أيمكننا أن نرى حقا غضب اللطيف الذى لا نهاية للطفه ورحمة الجبار
الذى لا نهاية الجبروته
٢٤٢
والله عفو وعفوه مطلق شامل إذ أن صفاته كلها مطلقة شاملة فهل
إسماعيل صبرى محق إذن حينما يقول
يارب أين ترى تقام جهنم
للظالمين
غدا
وللأشرار
لم يبق عفوك في السماوات العلا والأرض شبراً خاليا للنار وكيف يلقى الله بالمعرفة إلى رسله بأي لغة يخاطبهم وكيف ينزل و الملك فيراه ويسمعه في حين أن من كانوا معه لا يرونه
على رسول الله
ولا يسمعونه !
المدد
6
ومن أين يأتى الملك أمن السماء ولم مع أن الله في كل مكان ! إن مشكلة الوحى هى الأخرى من المشاكل التي استنفدت الكثير من
وماذا بعد هذه الحياة أحياة أخرى جسمانية نأكل فيها ونلهو ونلعب ونسرح ونمرح ونأخذ بذلك ثمن ما أديناه في حياتنا الدنيا العابرة من
عبادة وطاعة أم أنها حياة روحانية لا صلة لها بالمادة البتة أم أنها مزيج من الحياة المادية والحياة الروحية تأتلف فيها المادة بالروح ائتلافاً منسجماً متناغماً إن الذاهبين الأولين لم يعد منهم أحد ليصف لنا الحالة في دقة دقيقة وفى
تحديد محدد
والقرآن يتحدث عن نعيم الآخرة وعذابها فيفسر قوم وصفه على أنه
و روحانی
6
ويفسر آخرون وصفه على أنه روحاني بحت
حسی
وما هدف الله فى إيجاد هذا العالم ! أخلقه ليعبده وما خلقت الجن
٢٤٣
والإنس إلا ليعبدون أم خلقه ليعرف كما قيل كنت كتراً مخفيا فخلقت
الخلق
6
في عرفوني
إن كمال الله غنى عن أن يكون فى حاجة إلى طاعة البشر وأسمى من أن يكون في حاجة إلى أن يعرف ﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد أخلق الله العالم اعتباطاً أم خلقه لحكمة
إن الله يتنزه عن أن يعمل العمل اعتباطا لو أفحسبتم أنما خلقناكم
عبثاً له تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً !
والحكمة إنما هى تعبير عن الغرض أو الهدف أو الغاية وذلك ينبئ عن
الحاجة والله تعالى منزه عن الحاجة
نعود فنتساءل لم أوجد الله العالم
والشيخ محمد عبده يذكر بعض المشاكل التي أثارت العقل وجعلته ينشط إلى البحث والنظر ويعدها من المشابه قال رحمه الله في رسالة التوحيد ه جاء القرآن يصف الله بصفات وإن كانت أقرب إلى التنزيه مما وصف به في مخاطبات الأجيال السابقة فمن صفات البشر ما يشاركها في الاسم أو فى الجنس كالقدرة والاختيار والسمع والبصر وعز ا إليه أمورا يوجد ما يشبهها في الإنسان كالاستواء على العرش
6
وكالوجه واليدين ثم أفاض في القضاء السابق وفى الاختيار الممنوح للإنسان وجادل الغالين من أهل المذهبين ثم جاء بالوعد والوعيد على الحسنات والسيئات ووكل الأمر في
٢٤٤
الثواب والعقاب إلى مشيئة الله وأمثال ذلك
ويقول وما حكاه الله من قصة آدم وعصيانه بالأكل من الشجرة فما خفى
فيه
سر
النهي عن الأكل والمؤاخذة عليه
الحس ومشاكل ما وراء الطبيعة
هذه المشاكل لم أخترعها اختراعاً ولم أبتدعها ابتداعاً وإنما هي موجودة تصادفك في الفلسفة وتصادفك في علم الكلام وهي موجودة قديماً حديثاً وهى بعض من كل
وموجودة
كيف نصل حقيقة إلى الإجابة عنها ما هو السبيل الصحيح للاطمئنان التام فيما يتعلق بشأنها هل مرد الأمر فيها إلى الحدس والملاحظة والتجربة
والعلم الحديث وما فيه من طبيعة وكمياء أو من فلك وطب اللهم
العقل ومشاكل ما وراء الطبيعة
لا
هل مرد ذلك إلى العقل إذن أيكشف العقل حقا عن ذلك أيصل
العقل إلى كشف مساتير ما وراء الطبيعة واختراق حجب ما وراء المادة والصعود إلى الملأ الأعلى وعقل من أعقلى أنا أنحتكم إلى عقلى وهو – فيما أرى – ناضج وسيحلها دون أن يكون مسيراً بهوى أو بعصبية أيرضى بعقلى حكماً أم نحتكم إلى عقلك أنت أيها القارئ العزيز وهو فيما ترى ناضج
وسيحلها دون أن يكون مسيراً بهوى أو بعصبية ولكن إمام الشيعة - بحسب نظرهم - معصوم وهم يلجئون إليه فيما
٢٤٥
ادلهم من الأمور وسوف لا يرضون بغير حكمه بديلا
وهم
ملايين عدة
أنستلهمهم الرشد في هذه المسائل إن الكاثوليك يرون أن البابا معصوم إنه على الأقل – فيما يرون – معصوم في الأمور الدينية ورأيه هو الفيصل في كل ما يتعلق بمسائل الدين أترضى آراؤه البوذيين أو المسلمين أو اليهود
هل حل هذه المسائل من اختصاص أصحاب القبعات أم من اختصاص أصحاب العمائم أحلها محصور فى السوربون أم هو من اختصاص الأزهر إن هذه المسائل شغلت الرءوس على اختلاف أنواعها من ذوات القلانس من قدماء المصريين إلى حملة العمائم إلى لابسي القبعات السود إلى أرباب الضفائر إلى ألوف تصببت عرقاً من البحث إلى أى هؤلاء نلجأ في حلها لقد
تحيرت البدو ماذا تكون وضلت بوادي الظنون الحضر قد تقول إنها من اختصاص الفلاسفة ويجب أن نلجأ إذن إلى أهل
الاختصاص
أنلجأ إلى عقل و أفلاطون أم إلى عقل أرسطو
وهل نلجأ إلى عقل بيكون أو إلى عقل ديكارت
هل نلجأ إلى عقل فيلسوف حسى أو إلى عقل فيلسوف مثالى أنلجأ إلى علماء الكلام وأيهم اللنظام وقد كان حاد الذكاء متوقد الذهن صاحب منطق وجدل إن ابن تيمية لا يرضى لنا ذلك
من مبادئ الفلسفة ترجمة و الدكتور أحمد أمين
٢٤٦
وابن تيمية رجل واسع الاطلاع حاد الذكاء متوقد الذهن فهل نتبعه أم نتبع شخصية من شخصيات العصر الحديث فهل نتبع و الشيخ محمد عبده أو الشيخ عليش إن كلا منهما رجل فاضل واسع الاطلاع ولكنهما لا يكادان يلتقيان في شيء من آرائها سواء في ذلك الوسائل والأهداف فإلى عقل أيهما نحتكم
وبعد كل ذلك أليس رأى كانت هو الحكمة كل الحكمة حينما يقول إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا لم يستطع أن يكشف عن معمياتها
الإمام
الرازي فإنه يقول في عجز العقل
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعى العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوی
ومن
كلامه الحكيم
أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ولقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما
رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا
ويقول في وصيته التي أملاها على تلميذه و إبراهيم بن أبي بكر الأصفهاني ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت
فيها فائدة تساوى الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم
الأوائل
والإمام الرازي هذا هو الذي يقول فيه صاحب وفيات الأعيان فاق أهل زمانه في علم الكلام و المعقولات وليس كانت وليس الرازي إلا مثلين من أمثلة عديدة تتلاقى في النهاية
وعلم
مع الشاعر الرقيق إسماعيل صبرى فترجو من الله ما يرجو حينما يلجأ إليه قائلا يارب أهلنى لفضلك واكفنى شطط العقول وفتنة الأفكار
٢٤٧
ومع ذلك فهذه المشاكل تقض مضاجع كثيرين من ذوى الإحساس الديني المرهف وتؤرق أعينهم وتشغلهم - مصبحين ممسين - ومثلهم في ذلك مثل
إبراهيم - عليه السلام - إذ قال
هرب أرنى كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي
فها
هی
قلوبهم
الوسيلة التي يروون عن طريقها غلتهم وتشفى صدورهم وتطمئن
إن الدين لم يتعرض لهذه المشاكل والحس لا يصل إلى حلها والعقل بموازينه ومقاييسه وقواعده عاجز كل العجز كما رأينا سابقاً عن الوصول إلى حلها وليس أدل على عجزه من التجربة الواضحة لكل ذي عينين إن الفلسفة منذ عهد سقراط تتخبط وتتعثر وتتضارب وتتناقض وتحل وتعقد ولا تصل البتة إلى نتيجة حاسمة فى أية مسألة من مسائل ما وراء الطبيعة
الشائكة
وعلم الكلام مختلف مضطرب يحارب بعضه بعضاً بل ويكفر رجاله
بعضهم البعض إلام نتجه إذن
إننا إذا نفضنا أيدينا من الحس فذلك لأننا لم نجد فيه غناء فيما وراء الطبيعة وإذا أعرضنا عن العقل فليس ذلك احتقارا له لأننا نستعمله معترفين بفضله فى ميدانه الخاص به وإنما كان إعراضنا عنه فما وراء الطبيعة لأننا لا نريد أن نقحمه فى غير دائرة اختصاصه
٢٤٨
نعود فنقول إلام نتجه إن الأمر ليس بهين ! ! وتكشف الطريق
الصواب ليس من السهولة بمكان
البصيرة ومشاكل ما وراء الطبيعة
ولكننا إذا ما لجأنا إلى الله نستلهمه الخير ونستهديه طريق الرشاد
وإذا ما توجهنا إلى القرآن نسترشده فيم ادلهم وخفى فماذا نجد نجد أن القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يرشد في
مواطن عدة إلى نوع من المعرفة ليس طريقه الحس وليس طريقه العقل ولا يستمد صراحة من الكتب المقدسة ذلك النوع في أبسط صورة وأعمها وأشملها هو الرؤيا فالقرآن يحدثنا فى سورة يوسف عن عدة رؤى إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين
ويعتقد والده فى رؤياه ويؤمن بها ويسدى إليه النصيحة يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً وحينما سجن العزيز يوسف ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إنى أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنى أراني أحمل فوق رأسى خبزاً تأكل الطير منه وذهبا إلى يوسف واستنباه الأمر وطلبا إليه مستعطفين
نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ونبأهما يوسف بتأويل الرؤى
ولا تقتصر السورة على ذكر ذلك
وقال الملك إلى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع
عجاف وسبع
٢٤٩
سنبلات خضر وأخر يابسات يأيها الملأ أفتوني في رؤياى إن كنتم للرؤيا
تعبرون
ويفسر يوسف تلك الرؤى فيرى أن نفس الملك تكشف لها المستقبل ورأيت الغيب المحجوب وعبرت عنه في صورة رمزية ويعبر ه يوسف الرمز فيقول وتزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون
ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا
مما تحصنون ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ولما اجتمع شمل يوسف بأبيه وإخوته وخر له إخوته سجداً ذكر يوسف أباه برؤيته السابقة وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا
والحديث الشريف يذكر أن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ليست الرؤيا معرفة حسية وليست معرفة عقلية وليست معرفة مصدرها
الكتب المقدسة
ولكن
قد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية
النبوة وهو النوم إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل
--
له إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب - لأنكر وأقام البرهان على استحالته وقال القوى الحساسة سبب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء وجودها وحضورها
٢٥٠
فبألا يدركها ركودها أولى وأحق مع وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة ۳
والنبوة هي ليست تجربة وليست منطقاً وليست استقراء ناقصاً أو تاما وليست قياساً
الأخرى ليست معرفة حسية وليست معرفة عقلية إنها
من الشكل الأول أو الرابع ولكنها وحى من الله
والقرآن غاص بهذا النمط من المعرفة الإلهية إنه غاص بذكر الأنبياء والرسل الذين كلمهم الله وحياً أو من وراء حجاب أو بإرسال الرسل إليهم أعنى الملائكة
والقرآن يحدثنا أيضا فى أسلوب قصصي طريف شائق عن العبد الصالح الذي أخذ سيدنا و موسى فى البحث عنه جهده حتى وجده وأبدى رغبته في اصطحابه ومرافقته فقال له العبد الصالح
إنك لن تستطيع معى صبراً كم
وألح موسى
وقبل العبد الصالح - في النهاية – على شروط اشترطها
ولم يكن فيها رفيقاً بموسى أو عطوفا عليه
وسارا فأخذ العبد الصالح يأتى بأعمال لا لا تنسجم مع العاطفة ولا مع
المنطق ولا مع العقل ولا مع القانون
ولم يكن موسى ليحتمل الصبر على ما يرى دون تفسير له وتعليل أول شروط العبد الصالح عليه ألا يسأله عن شيء ولم يجد
وكان من موسى إلى الصبر سبيلا ولم يجد العبد الصالح -- وقد أخل موسى بالشرط –
۳ الغزالى فى المنقذ من الضلال
٢٥١
مناصاً من أن يعلنها صريحة واضحة و هذا فراق بيني وبينك والقصة كلها
حرية بأن تذكر بأسلوب القرآن الطريف الشائق
وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا
قال لفتاه
آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا
قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه
إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ماكنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من
عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معى صبرا وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا قال ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا
قال فإن اتبعتنى فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها
قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا
قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من
فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله
أمرى عسرا
قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا
قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا
٢٥٢
قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبنى قد بلغت من لدنى
عذرا
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعها أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها ينقض فأقامه جدارا يريد أن
قال لو شئت لتخذت عليه أجرا
قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقها طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلها ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك
وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا ٤
هناك إذن طريق للمعرفة غير الحس وغير العقل
ما السبيل إليه
الطريق إلى المعرفة
إن تجارب الصالحين منذ عصور متطاولة دلت على أن تزكية النفس وتطهيرها والالتجاء إلى الله والتقرب إليه كل ذلك يسمو بالإنسان إلى عالم من الروحانية تستشرف فيه النفس إلى الملأ الأعلى فتفيض عليها منه نفحات
٤ سورة الكهف آيات ٦٠ - ٨٢
٢٥٣
وإلهامات ومعرفة لا تتأتى لذوى النفوس المادية الذين شغلوا بالدنيا عن
الدين وبالمادة عن الله
طريق البصيرة طريق صواب
ولكن الكثيرين يشكون فى هذا الطريق - طريق البصيرة الذي سبيله التزكى والتطهر - الموصل إلى المعرفة ويرون أنه أسطورة من الأساطير أو خرافة من الخرافات ويطلبون في إلحاح الاستدلال على أن هذا الطريق صحيح ويرون أن النبوة والرسالة والعبد الصالح كل هذه أمور خارقة للعادة أرادها الله فكان ما أراد ولكن ليس هناك من دليل على أن غيرهم من البشر يستطيعون أن يصلوا إلى معرفة الهامية فما الدليل إذن على أن التصوف وسيلة من وسائل المعرفة
8
إلى هؤلاء نقول ما قاله الشيخ عبد الواحد يحيى لأمثالهم من المعترضين قاله في ساحة السربون لأساتذة الجامعة وعلماء باريس حينما دعوه ليحاضرهم في ما وراء الطبيعة
سيتساءل قوم أمن الممكن أن نتخطى الطبيعة فنصل إلى ما وراءها إننا لا نتردد فى أن نجيبهم في وضوح واضح ليس ذلك ممكنا فحسب
ولكن ذلك واقع موجود
سيقولون تلك قضية تفتقر إلى برهان
ولكن أى برهان يمكن أن يقدمه الإنسان على وقوع هذا الأمر ووجوده إنه لمن الغريب حقا أن يطلب البرهان على إمكان نوع من المعرفة بدلا من أن
٢٥٤
يحاول الإنسان أن يصل إليها بتجربته الشخصية سالكا إليها ما تتطلبه من
سبل
إن الشخص الذي وصل إلى هذه المعرفة لا يعنيه – في قليل أو كثير - ما يثور حولها من جدل ونقاش وإنه لمن البين المواضح أن إحلال نظرية المعرفة محل المعرفة نفسها إعلان صريح على عجز الفلسفة الحديثة اهـ
وهذا الرأى نفسه هو ما يراه كثير من كبار المفكرين في كل عصر إنه رأى الفارابي ورأى ابن سينا ورأى الشيخ محمد عبده يقول الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد ه أما أرباب النفوس العالية والعقول السامية من العرفاء ممن لم تدن مراتبهم من مراتب الأنبياء ولكنهم رضوا أن يكونوا لهم أولياء وعلى شرعهم ودعوتهم أمناء فكثير منهم نال حظه من الأنس بما يقارب تلك الحال حال الاتصال في النوع أو الجنس لهم مشارفة في بعض أحوالهم على شيء من عالم الغيب ولهم مشاهد صحيحة في عالم المثال لا تنكر عليهم لتحقق حقائقها في الواقع فهم لذلك لا يستبعدون شيئا مما يحدث به عن الأنبياء - صلوات الله و سلامه عليهم - ومن ذاق عرف ومن حرم انحرف ودليل صحة ما يتحدثون به وعنه ظهور الأثر الصالح منهم وسلامة أعمالهم مما يخالف شرائع أنبيائهم وطهارة فطرهم مما ينكره العقل الصحيح أو يمجه الذوق السليم وانتفاعهم بباعث من الحق الناطق في سرائرهم المتلأليء في بصائرهم إلى دعوة من يحف بهم إلى ما فيه خيرا العامة وترويح
قلوب الخاصة
٢٥٥
ولا يخلو العالم من متشبهين بهم ولكن ما أسرع ما ينكشف حالهم ويسوء مالهم ومآل من غرروا به ولا يكون لهم إلا سوء الأثر في تضليل العقول وفساد الأخلاق وانحطاط شأن القوم الذين رزئوا بهم إلا أن يتداركهم الله بلطفه فتكون كلمتهم الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار ه
میدانه
التصوف أرستقراطية
۱ - مما سبق نتبين أن الصوفية يرون أن الحس وسيلة إلى المعرفة له
وأن العقل وسيلة إلى المعرفة له ميدانه هو أيضا
والبصيرة - التى سبيلها تزكية النفس - وسيلة إلى المعرفة لها ميدانها ولا صلة لتزكية النفس بالعاطفة و الصوفية أقل الناس تأثراً بالعواطف هلى خلاف ما هو مشهور عادة وإذا استعملوا أحياناً كلمة
القلب فلا يعنون بها ما يتصل من قرب أو من بعد بالعاطفة وتزكية النفس طريق صعب المرتقى وتركيز الانتباه في الله - وهو المقصود بـ الذكر - وعر المسلك ولذلك كان طريق التصوف طريقاً خاصا لا يمكن سلوكه إلا لطائفة قليلة من الناس وإذا نظرنا إلى الشروط التي يجب توافرها في السالك علمنا أن النفوس الجديرة بسلوك هذا الطريق من الندرة
بمكان
ومن هنا يعترض خصوم التصوف قائلين
٥ رسالة الشيخ محمد عبده في التوحيد ط صبيح ص ١
٢٥٦
ه التصوف إذن أرستقراطية
وهذا اعتراض لا قيمة له فـ ه التصوف حقاً أرستقراطية وطبيعة الأمور تأبى إلا أن يكون أرستقراطية إنه نظام الصفوة
المختارة إنه نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حسا مرهفاً وذكاء حادا وفطرة روحانية وصفاء يكاد يقرب من صفاء الملائكة وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من النور
٢ - وإذا كانت والديمقراطية معناها التساوى في كل شيء فهى أسطورة من الأساطير فالتساوى لا يوجد فى عالم الطبيعة بحال من الأحوال إنه لا يوجد بين الحيوانات فى الغاب ولا يوجد بين بني آدم في المدن أو في
القرى
إن الله لم يسو بين الناس في ألوانهم ولا في قوتهم الجسمانية ولا في ذكائهم ولا في دهائهم ومكرهم ولا فى أرزاقهم وحظوظهم ونظام الطبقات الذي يسود في الهند والذي ننتقده ونشنع عليه إنما هو النظام الواقع فعلا في أقطار الأرض جميع
و الروس الذين بلغت الديمقراطية عندهم حد الفوضى فيهم الرئيس
والمرءوس والسائد بذكائه وقوته والمسود بغبائه وضعفه و الإنجليز فيهم الملك و الأمراء و النبلاء وفيهم
الشعب
عامة
و أفلاطون وهو فيلسوف نابه قسم جمهوريته المثالية إلى طبقات وذلك بحسب استعداد كل طائفة من الطوائف ففى جمهوريته طائفة الإنتاج وهى الطائفة ذات و المعدة الشرهة
قضية التصوف المنقذ من الضلال
٢٥٧
والشهوات الغلابة
وطائفة الجند ذات العاطفة القوية
وطائفة القادة معدن العقل والحكمة والبصيرة والإشراق - التصوف أرستقراطية وهو فى ذلك منسجم مع طبيعة الأمور وعلى هذا لا يمكن أن يوجه إلى التصوف الاعتراض الرخيص الذي يقول لو شمل التصوف كل الناس لفسد العالم ذلك أن الناس جميعا لا يمكن أن يصبحوا متصوفين فطبيعتهم تأبى ذلك وأئمة التصوف يعلمون حق العلم أنه لا يمكن أن يطلب من طائفة الإنتاج طائفة المعدة والشهوة أن ينهجوا نهج السادة المختارين معدن الصفاء والحكمة الناس معادن على حد تعبير الرسول - ومعادنهم ثابتة لا تتغير
فـ خيارهم في الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا إن فيهم المعدن
الذهبي وفيهم المعدن الفضي
وفيهم
غير ذلك
ويصور الشيخ محمد عبده ذلك خير تصوير فيقول في رسالة التوحيد مما شهدت به البديهة أن درجات العقول متفاوتة يعلو بعضها بعضا وأن الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلا على وجه من الإجمال وأن ذلك
ليس لتفاوت المراتب فى التعليم فقط بل لابد معه من التفاوت في الفطر التي لا مدخل فيها لاختيار الإنسان وكسبه ولا شبهة فى أن من النظريات عند بعض العقلاء ما هو بديهي عند من هو أرقى منه ولا تزال المراتب ترتقى في ذلك إلى مالا يحصره العد وأن من أرباب الهمم وكبار النفوس من يرى البعيد عن صغارها قريبا فيسعى إليه ثم يدركه والناس دونه ينكرون بدايته ويعجبون لنهايته ثم يألفون ما صار إليه كأنه من المعروف الذي لا ينازع
٢٥٨
والظاهر الذي لا يجاحد فإذا أنكره منكر ثاروا عليه ثورتهم بادئ الأمر على من دعاهم إليه ولا يزال هذا الصنف من الناس على قلته ظاهرا في كل أمة إلى اليوم 1
والله سبحانه يذكر تمايز الناس فيما ينعم عليهم به ويبير ويبين أن منه
ومنهم الصديقون ومنهم الشهداء إلخ قال تعالى
منهم
الأنبياء
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليها الله ۷
لا يدعو الصوفية إلى أن يكون الناس جميعا متصوفين و ه جل جناب أن يكون شرعة لكل وارد أو أن يطلع عليه إلا الواحد بعد
الحق عن الواحد
إن أهل الحق نادرون وهذه فكرة بديهية لا تحتاج إلى الاستفاضة بيد أن الصوفية إذا كانوا لا يدعونه الناس جميعا إلى التصوف فإنهم يعملون جهدهم للوصول إلى مجتمع أسمى إنهم يريدون أن يسود بين جنبات المجتمع جو من الروحانية والرحمة والمحبة يجعل الناس إخوانا متعاونين
متكاتفين
٦ رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ط صبيح ص ٦٧
۷ سورة النساء ٦٩ ٧٠
٢٥٩
دین
تفاوت الناس في فهم الدين
أما الاعتراض بأنه إذا كان الإسلام الحق هو التصوف فالإسلام إذن طائفة محدودة لا يتيسر لكل إنسان فهو اعتراض لا ينسجم مع النزعة
العامة عند الصوفية
ناجية
إن الصوفية لا يكفرون من عداهم إنهم يرون أن طائفة الإنتاج
جميع
ونحن جميعا نعلم أن التحقيق الإسلامى ليس بدرجة واحدة عند الناس إن إيمان أبي بكر - رضوان الله عليه – ليس كإيمان غيره
والرسول - ع - يمثل تفاوت الطبائع في الاسترشاد فيقول إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان
منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسك الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا
وزرعوا
وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاً الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم
فذلك مثل من فقه في دین
وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
٢٦٠
التصوف قوة
والتصوف قوة ذلك أن نفوس الصوفية هيئة عندهم في سبيل الله يبذلونها عن رضاً لإعلاء كلمة الله فهم الذين جشموا أنفسهم المشاق لنشر الإسلام بين ربوع أفريقيا وأقطارها التي لم تفتحها الجيوش الإسلامية وقد كان لهم الفضل الأكبر فى نشر الإسلام في أندونيسيا وغيرها من
الأقطار النائية وكانوا ينشرونه بالقدوة الطيبة والخلق الكريم أكثر مما ينشرونه بالدعاية التي قد لا تجدى
وكان الكثير منهم من المرابطين ومعروف أن المرابط هو ذلك الشخص الذي يعيش على الحدود الإسلامية مكرسا حياته لصد غارة الأعداء والعبادة والروحانية والزهد والورع كل ذلك ليس من مظاهر الضعف
وإنما هو قوة
يقول ابن سينا عن الصوفى العارف الشجاع وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت
"
التصوف روحانية والروحانية قوة ولا يتمارى فى ذلك اثنان
التصوف ليس دخيلا على الإسلام
أما أن التصوف دخيل على الإسلام فيكفينا في الرد على ذلك أن
نذكر ثلاثة آراء
٢٦١
أولها للشيخ عبد الواحد يحيى وهو فيلسوف مسلم صوفى والثاني للمستشرق الشهير الأستاذ مسينيون الذي يعتبر أعظم باحث
في التصوف بين المستشرقين في العصر الحاضر
والثالث لصاحب كتاب التبصير فى الدين وهو معنى أشد عناية بالرد على كل من يخالف مذهب أهل السنة
D
ومؤلفه هو الإمام الكامل الفقيه الأصولى المفسره الإسفراييني ويرى الشيخ عبد الواحد أن التصوف يكون جزءاً جوهريا من الدين الإسلامي إذ أن الدين يكون ناقصا بدونه بل يكون ناقصا من جهته السامية أعنى جهة المركز الأساسى لذلك كانت فروضاً رخيصة تلك التي تذهب بـ الصوفية إلى أصل أجنبى يوناني أو هندی أو فارسی وهى معارضة بالمصطلحات و الصوفية نفسها تلك المصطلحات التي ترتبط باللغة العربية ارتباطا وثيقا وإذا كان هناك من تشابه بين الصوفية وما يماثلها في البيئات الأخرى فتفسير هذا طبيعي لا لا يحتاج إلى فرض الاستعارة ذلك أنه مادامت الحقيقة واحدة فإن كل العقائد السنية تتحد في جوهرها وإن اختلفت فيما
تلبسه من صور
A
ويقول الأستاذ مسينيون وقد بين نيكولسون أن إطلاق الحكم
بأن التصوف دخيل في الإسلام غير مقبول
والحق أننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التي اختص بها متصوفة المسلمين نشأت فى قلب الجماعة الإسلامية نفسها في أثناء عكوف
۸ انظر كتاب الفيلسوف المسلم مكتبة الأنجلو المصرية
٢٦٢
المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئهما وتأثرت بما أصاب هذه الجماعة
من
أحداث وما حل بالأفراد من نوازل
ويذكر صاحب كتاب التبصير فى الدين ما يمتاز به أهل السنة عن غيرهم من الخوارج و الروافض و القدرية فيذكر أن سادس ما امتاز به أهل السنة هو
علم التصوف و الإشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة
وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريباً من ألف وجمع إشاراتهم وأحاديثهم ولم يوجد في جملتهم قط من ينسب إلى شيء من بدع القدرية و ه الروافض و الخوارج
وكيف يتصور فيهم من هؤلاء وكلامهم يدور على التسليم والتفويض
والتبرى من النفس والتوحيد بالخلق والمشيئة
وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة والخلق والتقدير إلى أنفسهم وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد ۹
تعليل الإقبال على دراسة التصوف في العصر الحاضر
٩ التبصير في الدين لأبي المظفر الإسفراييني المتوفى سنة ٤١٧ هـ ط السيد عزت العطار
٢٦٣
۱۱۸
التصوف في العصر الحديث
لقد كان أتباع فولتير فى القرن الثامن عشر وأنصار رينان في القرن
D
التاسع عشر يسخرون ممن يتجه إلى دراسة التصوف وكان تأثيرهما من القوة بحيث كان الناس - شرقيون وغربيون - منصرفين عن هذا الميدان مقبلين على العلم الحديث معتقدين أنه سيحل كل مشكلة في الطبيعة وفيما وراءها ولكن الناس الآن معنيون بالدراسة الصوفية فما الذى غير اتجاههم إننا ندع الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد يفسر لنا ذلك بأسلوبه الرصين
"
ما الذي غير اتجاه العقل الإنسانى في القرن التاسع عشر
الذي غيره هو العلم نفسه لأنه عرف حدوده وكفكف من غروره فهو اليوم يدعى ويتواضع كثيرا في دعواه يدعى أنه يصف ما يحس ولا يزيد لا نريد أن نقول إن العلم أخفق في تعزية الإنسان وتعمير قلبه وضميره كلا بل نريد أكثر من ذلك نريد أنه أخفق في دعواه الوحيدة التي كان خليقا أن ينجح فيها لأن أصحابه كانوا يسمونه بالعلم المادى وهو اليوم لا يعلم من المادة إلا أنها حركة مجهولة في فضاء مجهول
شعاعاً وكل
نعم كل مادة تتركب من ذرات وكل ذرة تنفلق فتصبح شعاع هو حركة فى الأثير وما الأثير شيء كلا شيء وليست له حدود ولا أوصاف ولا مقادير يعرفها العلماء
فالعلم المادى لا يعرف المادة إلا فى هذه الحدود ومن الأدب إذن أن يتواضع كثيرا فلا يحتكر المعرفة ولا ينكر على غيره أن يحاولوها حيث
٢٦٤
استطاعوا وهذا هو الجديد على العلم الحديث إنه لا يعلم كل شيء لأنه مقيد بالحواس وإذا كانت الحواس لا تعلم جميع الأشياء فهل يعلمها الفكر كلا - أيضا - لأن الفكر محدود ككل شيء في الإنسان
فلابد للمعرفة من وسيلة أخرى مع وسائل الحس ووسائل التفكير
لابد لها من البصيرة أو من البديهة أو من الإلهام
وذلك هو مجال التصوف أو مجال الدين فهذه هي المعرفة التي يتعاون عليها الحس والفكر والإلهام ۱۰
أما
1,
بعد فأرجو أن يكون الحق قد استبان فيما بين الصوفية وغيرهم من نزاع وإني لعلى يقين من أن نظرة الإنصاف ستزيل ما في نفوس خصومهم من حدة فيتلاقى الجميع - في رحاب المودة التي يدعو إليها الصوفية – إخواناً في
الله متحابين
۱۰ حديث للأستاذ العقاد في الإذاعة المصرية
٢٦٥
حياته
نبذة عنه أحد بقلم
- كتبه
الفصل الخامس الإمام الغزالي
نصوص تبين منهجه
معاصريه
حياته
هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالى ولد بطوس من
إقليم خراسان عام ٤٥٠ هـ الموافق عام ١٠٥٨م
وكان والده - كما يقول السبكي في طبقاته - يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس فلما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف وأعطاه ما ادخره من مال يسير قائلا
ه إن لى لتأسفاً عظيماً على عدم تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني
"
فى ولدى هذين وأشرف عليهما الوصى الصالح وعلمها الخط إلى أن فني ذلك الترر اليسير الذي كان قد خلفه لها أبوهما وتعذر على الصوفى القيام بقوتها
فقال لها
اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما وأنا رجل من أهل التجريد بحيث لا مال لى فأواسيكما به وأصلح ما أرى لكما أن تلجأ إلى مدرسة فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما ففعلا ذلك وكان هو السبب فى سعادتهما وعلو درجتها
وكان الغزالي يحكى هذا ويقول طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا الله ۱
۱ من كتاب و إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين للعلامة و محمد بن
محمد الحسيني الزبيدي
٢٦٩
وفى عهد الصبا في طوس أخذ طرفاً
الفقه من
على أحمد
الراذ كاني ثم سافر إلى جرجان ليأخذ عن الإمام أبي نصر
الإسماعيلي فسمع سنين يتأمل ويتدبر ويحفظ ما حصله و بجرجان
منه وكتب عنه ثم عاد إلى طوس فمكث بها ثلاث
"
وبعد ذلك قدم نيسابور ولازم إمام الحرمين حتى برع في
المذهب
والخلاف والجدل والأصلين ۳ والمنطق
"
وقرأ الحكمة والفلسفة
وأحكم كل ذلك وفهم كلام أرباب هذه العلوم وتصدى للرد على مبطليهم
وإبطال دعاواهم
E
وكان إمام الحرمين يصفه بأنه بحر مغرق
ولما انتهت الحياة بإمام الحرمين عام ٤٧٨ هـ - ١٠٠٥م خرج الغزالى إلى العسكر قاصداً الوزير نظام الملك إذ كان مجلسه فناظر الأئمة العلماء في مجلسه وقهر
مجلس أهل العلم ومحط رحالهم
الخصوم
وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله فتلقاه الصاحب بالتعظيم
وصار اسمه في الآفاق واشتهر في الأقطار
6
وذلك
ولما أصبح بهذه المثابة اختاره نظام الملك للتوجه إلى بغداد للتدريس بالمدرسة النظامية بها فقدمها فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة وقد بلغ الرابعة والثلاثين من عمره المبارك واستقبل فى بغداد استقبالا حافلا فقد
سبقته شهرته إليها
مذهب الشافعي رضي الله عنه ۳ يعنى أصول الدين وأصول الفقه
٤ شرح إحياء علوم الدين للزبيدي
۷۰
وفى بغداد نال من الاحترام ما يشبه التقديس لقد غلبت حشمته الأمراء والملوك والوزراء على حد تعبير السبكي وصار – على حد تعبير أحد
معاصريه وهو عبد الغافر الفارسى - بعد إمامة خراسان إمام العراق
ثم ماذا
ها هو ذا قد بلغ قمة المجد وأتته الدنيا خاضعة ذليلة أنته من جانبها المالي
وأنته من جانبها الذي يتصل بالشهرة وذيوع الاسم وأتته من جانبها الذى يتصل بالجاء والنفوذ حتى إنه ليذكر أن من قرب من الولاة
وعن
ه كان يشاهد إلحاحهم فى التعلق بي والانكباب على وإعراضي عنهم
0
الالتفات إلى قولهم ه واستمتع الإمام بكل ذلك فترة لعلها لم تكن طويلة الأمد
ثم ماذا ثم كانت انتفاضته العارمة التي انتزعته قسراً وفى عنف من وسط النعيم
ينعم
في الترف
والأبهة والمجد إلى حيث الانزواء والعزلة لقد كان الدنيوى وها هو ذا الآن ذاهب إلى الله لقد كان يرفل في رياض من النعيم المادى وها هو ذا الآن فار إلى ربه ومهاجر إليه
ماذا حدث
هل حدث هذا الانقلاب الكلى فجأة ودون مقدمات
0 المنقذ من الضلال
۷۱
لا شك أن ذلك لم يكن انتفاضة فجائية كانتفاضة سيدنا عمر ابن الخطاب التي اقتلعت - في دقائق - جذور الشرك من أعماقه وغرست -
في دقائق - أصول التوحيد فى سويداء فؤاده فآمن في لحظة وأناب
لقد كان الإمام الغزالي طيلة حياته طلعة يجرى وراء المجهول وكان كما يقول عن نفسه
ه ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى
6
الآن وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر العميق ٦ وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور وأتوغل في كل مظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم على كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته
ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته
ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته
ولا زنديقاً معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله
وزندقته
٦ يقصد بحر المعرفة
۷
1
ويقول أيضاً
قد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني - من أول أمرى وريعان عمرى - غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختيارى وحيلتي حتى انحلت عنى رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد من الصبا
ومن أجل ذلك يقول عنه و دى بور
يغله
وقد وهب هذا الفتى عقلا متوثباً قوى الخيال لا يرضى بأي قيد
ولكن هذا النهم فى البحث وهذا الاستقصاء في الدراسة وهذه العقلية الجريئة النافذة كل ذلك انتهى به إلى الشك في ما يرى ويسمع ويقرأ وفي ما يقول ويعتقد وكان هذا الشك عنيفاً حادا شاملا عاماً طيلة شهرين هو فيهما
على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال ولكن هذا الشك المطلق الشامل العام تبخر وزال لا بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى فى الصدر
0
0
"
زال ذلك الشك ليحل محله شك آخر هين سهل وهذا الشك الثاني إنما شك في طريق النجاة إنه الآن يؤمن بالله وبالرسالة وبالبعث ولكن
هو
يسير عليه
ما هي الكيفية التي يتكيف بها الإيمان فيما يتعلق بهذه الجوانب الثلاثة هذه الكيفية إذا وضحت تحدد النهج الذى يجب أن ودراسته المستفيضة بينت له أن كل فريق من الباحثين – على كثرتهم
۷۳
واختلافهم - 1 يزعم أنه الناجي وكل حزب بما لديهم فرحون أى هذه الأحزاب محق وأيها مبطل
ذلك هو ما أخذ الإمام الغزالي نفسه باستكشافه
ورأى أن أوضح طريق وأسهله أن
ويدرسهم
صنفاً صنفاً أو فرقة فرقة
وانحصرت الفرق عنده في أربع
يحصر أصناف الطالبين للحق
۱ - المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر - الباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون
بالاقتباس من الإمام المعصوم
- الفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان ٤ - الصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة
والمكاشفة ا هـ
هؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق والحق إذن لا يعدو هذه الأصناف الأربعة
وشمر الإمام الغزالى عن ساعد الجد لدراستها وابتدأ بعلم الكلام
فوجده لا يشفي غلته ذلك أن أكثر حوض المتكلمين إنما هو في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم وهذا
قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلا وثنى بدراسة الفلسفة وأطلعه الله على منتهى علوم الفلاسفة في أقل من سنتين ثم أخذ يفكر فيما انتهى إليه قريباً من سنه يعاوده ويردده ويتفقد غوائله وأغواره حتى اطلع على ما فيه من خداع وتلبيس وتخيل
٢٧٤
فرأى أن مجموع ما صح ينحصر في ثلاثة أقسام
۱ - قسم يجب التكفير به
- وقسم يجب التبديع به وقسم لا يجب إنكاره أصلا
أما هذا الذي لا يجب إنكاره فمثل
١ - العلوم الرياضية
المنطقيات
العلوم السياسية
٤ - العلوم الخلقية
13
أما الطبيعيات فلا إنكار فيها إلا فى مسائل معينة ذكرتها في
كتاب تهافت الفلاسفة وأكثر أغاليطهم إنما هي في
منها
-
الإلهيات
ومجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة
وتبديعهم في سبعة عشر
وانصرف الإمام الغزالى عن الفلسفة لأن العقل و ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً للغطاء عن جميع
المعضلات
فأخذ يدرس مذهب التعليمية وهو مذهب يقوم على القول بـ الحاجة إلى التعليم والمعلم وأنه لا يصلح كل معلم بل لابد من معلم معصوم وقد نقد الإمام الغزالي مذاهبهم في قوة وفى عنف وألف كثيراً من الكتب في الرد عليهم
٢٧٥
ولما انتهى من كل ذلك أقبل جهده على طريق الصوفية
وطريق الصوفية علم وعمل وابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتب المتهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله وكتب و الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي ه وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام مشايخهم
اهـ
ولكن طريق الصوفية لا يتم بالعلم فحسب بل إن العلم فيه أقل جانب من جوانبه أما الجانب الذى يصل بالإنسان إلى النور والإشراق واليقين إنما هو الجانب العملي وهذا النوع يحتاج إلى الإقبال بكنه الهمة على الله تعالى وذلك يقتضى الإعراض عن المال والجاه والشهرة وذيوع الصيت ويقتضى الخلوة فترة تطول أو تقصر يتفرغ فيها الإنسان تفرغاً كاملا إلى الله فاراً مهاجراً إليه
وكان الإمام الغزالى إذ ذاك منغمساً فى المال والجاه والشهرة وبدأ الصراع في نفسه بين الشهوات والدنيا من جانب وبين التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود من جانب آخر
ولم يزل يتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعى الآخرة قريباً من ستة أشهر سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وانتهى الأمر في هذا التجاذب بأن اعتقل لسانه عن التدريس وغمر قلبه حزن أثر على صحته فضعفت قواه ثم يحدثنا هو عما فعل حينئذ
ه ثم أحسست بعجزى وسقط بالكلية اختياري فالتجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له فأجابني الذى يجيب المضطر إذا دعاه
٢٧٦
وسهل على قلبى الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب
اهـ
تلطف الإمام الغزالى بلطائف الحيل في الخروج من بغداد مظهراً عزم الخروج إلى مكة وهو يدبر في نفسه السفر إلى الشام وسار يحدوه الأمل العذب في المعرفة ويغمر قلبه الرجاء القوى فى الفتح يتفضل الله به عليه كما تفضل على من سلف من الأولياء والعارفين
حتى إذا ما وصل إلى الشام أقام به قريباً من سنتين لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى وكان يعتكف في منارة مسجد
دمشق طول النهار ويغلق بابها على نفسه
ثم رحل من الشام إلى بيت المقدس فكان يدخل كل يوم الصخرة ويغلق بابها على نفسه ثم سار إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة الرسول
صلوات الله وسلامه عليه
ثم عاد إلى وطنه ملازماً بيته مشتغلا بالتفكير
ولقد كان فى حله وترحاله مؤثراً العزلة حريصاً على الخلوة وتصفية
القلب للذكر ودام ذلك كل ما يقرب من عشر سنوات انكشف له في خلواته في أثنائها أمور لا يمكن إحصاؤها وأفاض الله عليه من النور الإلهى وغمرته ألطاف الله وترقى به الحال إلى درجات يضيق عنها نطاق
النطق وكان كتاب الإحياء من ثمار هذه الفترة
۷۷
نبذة عن الإمام الغزالي بقلم أحد معاصريه ۷
محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالى حجة الإسلام والمسلمين إمام أئمة الدين لم تر العيون مثله لساناً وبياناً ومنطقاً وخاطراً وذكاء وطبعاً
D
أخذ طرفاً في صباه بطوس من الفقه على الإمام أحمد الراذكاني ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين فى طائفة من الشبان من طوس وجد واجتهد حتى تخرج فى مدة قريبة وبز الأقران وحمل القرآن وصار أنظر أهل زمانه وأوحد أقرانه فى أيام إمام الحرمين وكأن الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم ويجتهد فى نفسه وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف وكان الإمام - مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في النطق والكلام - لا يصفى نظره إلى الغزالى سرًا لإبائه عليه في سرعة العبارة وقوة الطبع ولا يطيب له تصديه للتصانيف وإن كان متخرجاً منتسباً إليه وهذا لا يخفى من طبع البشر ولكنه يظهر التبجح به والاعتداد بمكانه مظهراً خلاف ما يضمره ثم بقى كذلك إلى انقضاء أيام الإمام فخرج من نيسا بور وصار إلى العسكر واحتل من نظام الملك محل القبول وأقبل عليه الصاحب لعلو درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته
به
۷ هو عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي الذي توفى سنة ٥٢٩ هـ وكان متصلاً بالإمام الغزالي
ومصاحباً له
۷۸
وجرىء عبارته وكانت تلك الحضرة محطّ رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء فوقعت للغزالى اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللد ومناظرة الفحول ومناقدة الكبار وظهر اسمه في الآفاق وارتفق بذلك أكمل الارتفاق حتى أدت به الحال إلى أن رسم للمصير إلى بغداد
للقيام بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية بها فصار إليها وأعجب الكل تدريسه ومناظرته وما لقى مثل نفسه وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق ثم نظر في علم الأصول - وكان قد أحكمه – فصنف فيه تصانيف وجدد المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف وسبك الخلاف فجدد فيه أيضاً تصانيف وعلت حشمته ودرجته فى بغداد حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة فانقلب الأمر من وجه آخر ظهر عليه بعد مطالعة العلوم الدقيقة وممارسة الكتب المصنفة فيها وسلك طريق الزهد والتأله وترك من الدرجة للاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة فخرج عما كان فيه وقصد بيت الله وحج ثم دخل الشام وأقام في تلك الديار قريباً من عشر سنين يطوف ويزور المشاهد المعظمة وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها مثل إحياء علوم الدين والكتب المختصرة منه مثل الأربعين وغيرها من الرسائل التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم وأخذ في مجاهدة النفس وتدبير الأخلاق وتحسين الشمائل وتهذيب
الحشمة
وطرح ما نال
المعاش فانقلب شيطان الرعونة وطلب الرياسة والجاه والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق والفراغ عن الرسوم والترتيبات
وتزيا بزي الصالحين وقصر الأمل ووقف الأوقاف على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا والاشتغال بها على
۷۹
السالكين والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية والانقياد بكل من يتوسم فيه أو يشم منه رائحة المعونة أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة حتى مرن على
ذلك ولان
ثم عاد إلى وطنه ملازماً بيته مشتغلا بالتفكير ملازماً للوقت مقصوداً تقيا وذخرا للقلوب لكل من يقصده ويدخل عليه إلى أن أتى على ذلك مدة وظهرت التصانيف وفشت الكتب ولم تبد فى أيامه مناقضة لما كان فيه ولا اعتراض لأحد على أمره حتى انتهت نوبة الوزارة إلى الأجل فخر الملك جمال الشهداء تغمده الله برحمته وتزينت خراسان بحشمته ودولته وقد سمع وتحقق بمكان الغزالى إلى ودرجته وكمال فضله وحالته وصفاء عقيدته نفائسه
ومعاشرته فتبرك به وحضره وسمع كلامه فاستدعى منه ألا يبقى وفوائده عقيمة لا استفادة منها ولا اقتباس من أنوارها وألح عليه كل الإلحاح وشدد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج وحمل إلى نيسا بور وكان الليث غائباً عن عرينه والأمر خافياً في مستور قضاء الله ومكنونه فأشير عليه بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية عمرها الله فلم يجد بدا من الإذعان لمولاه ونوى بإظهار ما اشتغل به هداية الشداة وإفادة القاصدين دون الرجوع إلى ما انخلع عنه وتحرر عن رقه من طلب الجاه ومماراة الأقران ومكابرة المعاندين وكم قرع عصاه بالخلاف والوقوع فيه والطعن فيما يذريه ويأتيه والسعاية به والتشنيع عليه ! فما تأثر به ولا اشتغل بجواب الطاعنين ولا أظهر استيحاشا بغميزة المخلصين ولقد زرته مراراً وماكنت أحدث نفسى ما عهدته في سالف الزمان عليه من الزعارة وإيجاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء والاستخفاف بهم كبرًا وخيلاء واغترارا بما رزق من البسطة
في النطق والخاطر والعبادة وطلب الجاه والعلو فى المنزلة إنه صار على الضد وتصفى عن تلك الكدورات وكنت أظن أنه متلفع بجلباب التكلف متيمن بما صار إليه فتحققت بعد التروى والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون وأن الرجل أفاق بعد الجنون وحكى لنا في ليال كيفية أحواله من ابتداء ما ظهر له من سلوك طريق التأله وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم واستطالته على الكل بكلامه والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم وتمكنه من البحث والنظر حتى تبرم من الاشتغال بالعلوم الغريبة عن المعاملة وتفكر فى العاقبة وما يجدى وما ينفع له في الآخرة فابتدأ بصحبة الفارمدى وأخذ منه استفتاح الطريقة وأمثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل واستدامة الأذكار والجد والاجتهاد وطلبًا للنجاة إلى أن جاز تلك العقبات وتكلف تلك المشاق وما تحصل على ما كان يطلبه من مقصوده ثم حكى أنه راجع العلوم وخاض فى الفنون وعاود الجد والاجتهاد في كتب العلوم الدقيقة واقتفى تأويلها حتى انفتح له أبوابها وبقى مدة في الوقائع وتكافؤ الأدلة وأطراف المسائل ثم حكى أنه فتح عليه باب من الخوف
الله
بحيث شغله عن كل شيء وحمله على الإعراض عما سواه حتى سهل ذلك وهكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة وظهرت له الحقائق وصار ماكنا نظن به تمرساً وتخلقاً طبعاً وتحققاً وإن ذلك أثر السعادة المقدرة له من ثم سألنا عن كيفية رغبته فى الخروج من بيته والرجوع إلى ما دعى إليه من أمر نيسا بور فقال معتذراً عنه ما كنت أجوز في دينى إلى أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة
۸۱
وقد حق على أن أبوح بالحق وأنطق به وأدعو إليه وكان صادقاً في ذلك ثم ترك قبل أن يترك وعاد إلى بيته واتخذ فى جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاه للصوفية وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم
من
القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس بحيث لا تخلو لحظة لحظاته ولحظات من معه عن فائدة إلى أن أصابته عين الزمان وضنت به
الأيام على أهل عصره فنقله إلى كريم جواره بعد مقاساة أنواع من التقصد والمناوأة من الخصوم والسعى به إلى الملوك وكفاه الله وحفظه وصانه من أن تنوشه أيدى المنكيات أو ينتهك ستردينه بشيء من الزلات وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين البخاري ومسلم اللذين هما حجة الإسلام ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن اليسير من الأيام يستفرغه في تحصيله ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية واشتغل بآخر عمره بسماعها ولم تتفق له الرواية
ولا ضرر فيما خلفه من الكتب المصنفة في الأصول والفروع وسائر الأنواع التي تخلد ذكره وتقرر عند المطالعين المستفيدين منها أنه لم يخلف مثله بعده مضى إلى رحمة الله يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة ودفن بظاهر قصبة طابران والله تعالى يخصه بأنواع الكرامة في آخرته كما خصه الله بفنون العلم في دنياه بمنه ولم يعقب إلا البنات وكان له من الأسباب إرثاً وكسباً ما يقوم بكفايته نفقة أهلة وأولادة فما كان يباسط أحداً فى الأمور الدنيوية وقد عرضت عليه أموال فما قبلها وأعرض عنها واكتفى القدر الذي يصون به دينه
ولا يحتاج معه إلى التعرض لسؤال ومثال من غيره
۸
ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من وجهة النحو يقع في أثناء كلامه
ورجع
فأنصف فيه
يحتاج إليه في كلامه
من
مع
نفسه واعترف بأنه مارس ذلك الفن واكتفى بما أنه كان يؤلف الخطب ويشرح الكتب بالعبارات
التي تعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها وأذن للذين يطالعون كتبه فيعثرون على خلل فيها من جهة اللفظ أن يصلحوه ويعذروه فما كان قصده إلا المعاني
وتحقيقها
دون الألفاظ وتلفيقها ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب كيمياء السعادة والعلوم وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا يوافق مراسم الشرع وظاهر ما عليه قواعد الإسلام وكان الأولى به والحق أحق ما يقال ترك ذلك التصنيف والإعراض عن الشرح به فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج فإذا سمعوا شيئاً من ذلك تخيلوا منه ما هو المضر بعقائدهم وينسبون ذلك إلى مذهب الأوائل على أن المصنف اللبيب إذا رجع إلى نفسه علم أن أكثر ما ذكره مما رمز إليه إشارة الشرع وإن لم يبح به أمثاله في كلام مشايخ الطريقة مرموزة ومصرح بها متفرقة وليس لفظ منها إلا وكما يشعر أحد وجوهه بكلام موهم فإنه يشعر سائر وجوهه بما يوافق عقائد أهل الملة فلا يجب إذن حمله إلا على موافق ولا ينبغي أن يتعلق به في الرد متعلق إذا أمكنه أن يبين له وجهاً فى الصحة يوافق الأصول على أن هذا القدر يحتاج إلى من يظهره ويقوم به وكان الأولى أن يترك الإفصاح بذلك كما تقدم ذكره وليس كل ما يتفرد ويتمشى لأحد تقديره ينبغي أن يظهره بل أكثر الأشياء فيما يدرى يطوى ولا يحكى فعلى ذلك الأولون
ويوجد
درج
من
السلف
الصالح إبقاء على مراسم الشرع وصيانة الدين عن طعن الطاعنين وغيرة
۸۳
المارقين الجاحدين والله الموفق للصواب
وقد ثبت أنه سمع سنن أبي داود السجستاني عن الحاكم أبي الفتح الحاكمي الطوسي وما عثرت على سماعه وسمع من الأحاديث المتفرقة آلافاً من الفقهاء فما عثرت عليه ما سمعه من كتاب مولد النبي الله من تأليف
الله
أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني رواية الشيخ أبي بكر أحمد ابن الحارث الأصبهاني الإمام عن أبي محمد عبد ا ابن المصنف وقد سمعه الإمام الغزالي من الشيخ أبي
بن محمد بن جعفر بن حيان أحمد
عبد الله محمد بن
الخواری خوار طابران مع ابنيه الشيخين عبد الجبار وعبد الحميد
وجماعة من الفقهاء
أخبرنا
ومن ذلك ما قال أخبرنا الشيخ أبو عبد ا الله محمد أحمد الخوارى بن أخبرنا أبو بكر بن الحارث الأصبهاني أخبرنا أبو محمد بن حيان أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم بن إبراهيم بن المنذر الخوارزمي حدثنا
عبد العزيز بن أبي ثابت حدثني الزبير بن موسى عن ابن الحويرث قال سمعت عبد الملك بن مروان سأل قتات بن أشيم الكناني أنت أكبر أم رسول الله فقال رسول الله الله أكبر منى وأنا أسن منه ولد رسول الله
عام الفيل وتمام الكتاب فى جزء مسموع له نقله الأستاذ عبد الكريم عثمان عن الطبقات الكبرى للسبكى وفى كتابه النفيس و سيرة الغزالي
٢٨٤
ولقد ألف الإمام الغزالى عشرات الكتب عد منها صاحب طبقات الشافعية ما يقرب من ستين كتاباً
وعد منها شارح الإحياء الإمام الزبيدى ما يقرب من ثمانين كتاباً ورسالة
منها فى الفقه الوجيز والوسيط والبسيط
ومنها في علم الكلام الاقتصاد في الاعتقاد
ومنها في الفلسفة مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة ومنها في التصوف بداية الهداية ومنهاج العابدين وكتاب الإحياء بيد أننا إذا تصفحنا مؤلفات الإمام الغزالي – سواء منها ما ألف قبل فترة تصوفه وما ألف في أثنائها فإننا نجد أن أهمها في نظر الباحث الذي يريد أن يحدد شخصيته ومنهجه واتجاهه ثلاثة
وهي - فضلا ذلك
--
عن تعتبر في نظرنا أهم كتبه على الإطلاق
ولو لم يؤلف الإمام الغزالى غيرها لبقى هو الغزالي العملاق الصوفى الفيلسوف بطابعه وسماته وشخصيته لا ينقص شيئاً ولكنه لو لم يؤلفها لما كان هو الإمام الغزالى صاحب الأثر الخالد على الدهر
1 - أما أحدها فإنه كتاب المنقذ من الضلال
وهو كتاب لا غنى للباحث في تطور حياة الغزالي الفكرية عنه ففيه يقص الإمام حياته الفكرية فى تطورها من الدراسة المستفيضة إلى الشك ثم إلى
اليقين
٢٨٥
ويحدد موقفه من علم الكلام ومن مذهب التعليمية ومن والفلاسفة ثم من التصوف
الفلسفة
وفيه يبين موقفه من مسألة النبوة ومن الشكوك التي ترد عليها ويبين الطريق الصواب لإحياء الشعور الدينى حيثما يفتر عند بعض الناس وهو من الكتب التي يندر ما يماثلها في ثقافتنا الشرقية إذ أن كبار المفكرين عندنا لم يتجهوا إلى تسجيل تدرجهم الفكرى وانتفاضاتهم الذهنية ولم يسبق الغزالى - فيما نعلم - فى هذا النهج سوى الحارث بن أسد المحاسبي في مقدمة كتاب الوصايا فإنه قص فيه طرفاً من حيرته وشكه الهين السهل ثم يقينه الذى انتهى إليه وقد قرأ الإمام الغزالي كتب الحارث وانتفع بها وربما كانت مقدمة كتاب الوصايا من العوامل التي دفعت الإمام الغزالي إلى كتابة المنقذ وقد كتبه الإمام الغزالى بعد أن أناف سنه على الخمسين كما يذكر هو
B
D
٢ - وأما ثانيها فإنه تهافت الفلاسفة
حينما
وهو كتاب تدل تسميته على ما يقصد به فإن الإمام الغزالي سمی کتابه تهافت الفلاسفة - كما يقول بلاسيوس - - كان يريد أن يمثل لنا أن العقل الإنساني يبحث عن الحقيقة ويريد الوصول إليها كما يبحث البعوض عن ضوء النهار فإذا أبصر شعاعاً يشبه نور الحقيقة انخدع به فرمى بنفسه عليه وتهافت فيه ولكنه يخطئ مخدوعاً بأقيسة منطقية
خاطئة فيهلك كما يهلك البعض
فكأن الغزالى يريد أن يقول
إن الفلاسفة خدعوا بأشياء أسرعوا إليها بلا إعمال روية فتهافتوا
٢٨٦
وهلكوا الهلاك الأبدى
وقد حاول بلاسيوس أن يجد في عبارات كتاب التهافت وفى
استعمال ابن رشد لهذه الكلمة ما يؤيد افتراضه ۸ ومما لا شك فيه أن كتابه هذا محاولة جريئة كل الجرأة موفقة كل
التوفيق
وما كان المقصد الأول والهدف الأساسى لهجومه هو هدم الآراء في
نفسها إذ أن بعضها صحيح موافق للدين وإنما كان هدف الإمام الغزالى هدم المنهج العقلى الذي استندت إليه هذه الآراء
فخلود النفس مثلا رأى يقول به الإمام الغزالي ويقول به الفلاسفة ولكن الإمام حمل معوله وأخذ يهدم بيد قوية المسلك العقلى الذي أثبت به الفلاسفة خلود النفس فانهارت أدلتهم وتهافتت
لقد فعل ذلك مع إيمانه بخلود النفس
وهو لم يلتزم في الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغيير في وجوه أدلتهم بما
4
يبين تهافتهم " ومقصوده تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية
عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم
ويقول
أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر لا دخول
۸ من كتاب تاريخ الفلسفة فى الإسلام ترجمة الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة ۹ من كتاب التهافت
۸۷
مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة فألزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية وطوراً مذهب الواقفية ولا أنتهض ذاباً عن مذهب مخصوص ولقد وفق الإمام الغزالى توفيقاً تاماً فيما انتدب نفسه إليه في هذا الكتاب وهو إثبات أن العقل - إذا لم يتخذ الوحى هادياً ومرشداً - عاجز كل العجز عن الوصول إلى المعرفة الصحيحة فيما وراء الطبيعة - أما ثالث الكتب فإنه الإحياء
وهو أهمها وأهم كتب الإمام الغزالى عامة ولقد قال فيه الإمام النووى كاد الإحياء يكون قرآناً
سنة
وقد ألفه الإمام الغزالي في أوائل الفترة التي اصطحب فيها مع العزلة ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه ه القواصم والعواصم من أنه التقى بالإمام بمدرسة السلام في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربعمائة وكان قد راض نفسه بالطريقة الصوفية من ست وثمانين إلى ذلك الوقت نحواً من خمسة أعوام فقرأت عليه جملة من كتبه وسمعت كتابه الذى سماه الإحياء لعلوم الدين أما فيما يتعلق بالبواعث التى من أجلها ألف الإمام كتاب الإحياء وأما فيما يتعلق بالهدف الذى من أجله ألف كتاب الإحياء وأما فيما يتعلق بجوهر موضوعه فإن ذلك كله يتلخص في كلمة واحدة هي الإخلاص
ولقد روى ابن الجوزى أن بعض أصحاب أبي حامد سأله قبيل الموت قائلا أوصنى فقال له عليك بالإخلاص ولم يزل يكررها حتى الموت
۸۸
فوجد
أنه
عليك بالإخلاص ! ! لقد تلفت أبو حامد يوماً إلى نفسه متجرد من الإخلاص وأن كل همه إنما هو الشهرة والصيت والجاه
والمنزلة عند الناس وعند الحكام وانتفض أبو حامد انتفاضته التي نفسه في محيط الإخلاص
وضع
وتلفت أبو حامد - بعد ذلك - فيما حوله فوجد أن الناس صم
بكم عمى عن قوله تعالى
ألا الله الدين الخالص لله
وعن قوله تعالى الله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
وقوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين
وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدعو إلى الإخلاص في الدين وإلى إخلاص الدين لله وحده وهى في دعوتها إلى الإخلاص إنما تدعو إلى
التوحيد
ووجد أن الشيطان قد استحوذ على أكثر الناس واستغواهم الطغيان وأصبح الدين – في نظر علمائه فضلا عن غيرهم – فتوى حكومية أو جدلا للمباهاة والغلبة والإفحام أو سجعاً مزخرفاً يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام
لما رأى أبو حامد ذلك ألف كتابه النفيس
وألفه ليستعيد الإخلاص إلى القلوب ليستعيد ما درج عليه السلف الصالح من اتخاذ الإخلاص أساساً وشعاراً وما من شك في أن إخلاص الدين الله وحده هو التوحيد وما من شك فى أن التوحيد هو جوهر الدين الإسلامي وهو طابعه وهو هدفه وغايته
قضية التصوف المنقذ من الضلال
۸۹
وألف الإمام كتابه إذن ليبين فيه الإخلاص أسساً ونتائج وأسباباً
وغايات
ورتب الكتاب أقساماً والأقسام كتباً والكتب أبواباً والأبواب
فقرات كل ذلك ليسهل تناوله
فأما أقسام الكتاب فهى أربعة
۱ - قسم العبادات يذكر فيه من خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار
معانيها كل ما يحتاج العالم العامل إلى معرفته من وجوه الإخلاص فيها وإقامتها على الأسس التي يحبها الله
سبحانه ورسوله
- قسم العبادات يذكر فيه أسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها وذلك مما لا يستغنى عنه
متدين
- قسم المهلكات وهي الأخلاق المذمومة التي ورد القرآن بتطهير القلب منها يعرف بها ويذكر أسبابها وما ينشأ عنها من مضار ثم يذكر طرق العلاج منها - قسم المنجيات يذكر فيه كل خلق محمود ويشرح الوسائل التي بها
يكتسب والعمار التي تجنى من التخلق به
وهو في كل هذه الأقسام يبتدئ كل موضوع يعالجه بذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والتابعين وأخبار
الصالحين
۹۰
شواهد الآيات
تحليل كتاب الإحياء
ويفتتح كتابه بكتاب العلم فيسير فيه على حسب طريقته المحددة والأخبار والآثار وشواهد الشرع والعقل لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفاً وفضلا وجلالا ونبلا
ويقول صلوات الله وسلامه عليه العلماء ورثة الأنبياء ومعلوم أنه
لا رتبة فوق النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة
وقال الأحنف رحمه الله وكاد العلماء يكونون أربابا
D
والعلم الذي يريده الإمام الغزالى أوسع دائرة وأعم موضوعاً مما نسميه العلم الآن إذ أن العلم الذي يريده الإمام الغزالي إنما هو علم الدين والدنيا ولا يحرم الإمام الغزالى منه إلا ما يضر المجتمع كعلم السحر مثلا فإذا أدى العلم إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كان مذموماً والهدف من العلم على كل حال زيادة الهداية وغرس الإخلاص
فإن من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ولابد للإخلاص من معرفة العقائد الصحيحة ولذلك يثنى الإمام الغزالي بكتاب قواعد العقائد وقواعد العقائد تدور حول ثلاث
مسائل
۱ - الله وصفاته والأساس فيه أنه ليس كمثله شيء وأنه متصف بكل
۹۱
صفات الكمال كالحياة والقدرة والعلم الشامل والإرادة الكاملة وغير
ذلك
من صفات الجلال والجمال ٢ - وأنه سبحانه بعث محمداً ل برسالته إلى كافة العرب
والعجم فنسخ بشريعته الشرائع إلا ما قرره منها ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد - وهى قولك لا إله إلا الله ما لم تقترن بشهادة الرسول وهي قولك محمد رسول الله وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر به
من أمور الدنيا والآخرة
والمسألة الثالثة
هی الإيمان بالآخرة البعث والحساب والنعيم
أو العذاب
وسواء كنا بصدد معرفة وجوده تعالى أو معرفة صفاته أو معرفة أحوال الآخرة أو معرفة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإن أول ما يستضاء به منا الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن في ذلك فليس بعد بيان الله سبحانه بيان وفى القرآن إرشاد واستدلال واضح على كل ذلك
أطال
الله
ويتهيأ الإنسان للإخلاص بالطهارة والطهارة ظاهرية وباطنية وقد الإمام الغزالي في الطهارة الباطنية وستتحدث عنها فيما بعد إن شاء
أما الطهارة الظاهرية فمنها الوضوء فإن من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
والوضوء على الوضوء نور على نور بيد أن الوضوء إنما شرع من أجل
۹
الصلاة والصلاة إنما هى الباب الذى يدخل منه الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى يناجيه وينغمس فى رحابه ويستنير بنوره وهى من أجل ذلك عماد الدين وعصام اليقين ورأس القربات وغرة الطاعات كانت على
المؤمنين كتاباً موقوتا وإنها لتنهى عن الفحشاء والمنكر وهي كذلك بشرط الخضوع وحضور القلب وهذا هو معنى الإقامة في قوله تعالى أقم
الصلاة أما من لم يكن كذلك في صلاته فإنه يدخل تحت قوله صلوات الله وسلامه عليه كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب وما أراد صلوات الله وسلامه عليه بذلك إلا الغافل أما إذا خشع في صلاته فإنه يدخل في دائرة قوله تعالى
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ويقرن الله سبحانه الزكاة بالصلاة في غير ما موضع أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقد جعلها الله تزكية وبفضلها تزكى من عباد الله من تزكى وقد شدد الله الوعيد على المقصرين فيها فقال والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج حق الزكاة والزكاة نوع من تجريد الإنسان عن جزء من المادة بعد امتلاكه وذلك من أجل الله
والصوم باب العبادة وباب الإخلاص فإذا ما صام الإنسان إيماناً واحتساباً باهى الله به ملائكته وكانت كل حركاته عبادة حتى نومه
والصوم ثلاث درجات صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة وصوم الخصوص وهو كف الجوارح عن الآثام وصوم
۹۳
خصوص الخصوص وهو القلب عن الهمم الدنية والأفكار
صوم
الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل
6
بالكلية ويكفي في فضل الحج
ما رواه الشيخان البخارى ومسلم من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج
من ذنوبه كيوم ولدته أمه
والقرآن كتاب الإسلام المنزل الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
تمسك به هدى خلفه من
وسلامه عليه
ومن عمل به فقد فاز ولقد قال صلوات الله
أهل القرآن أهل الله وخاصته والقرآن رسائل أنتنا من قبل ربنا بعهوده نتدبرها فى الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنين المتبعات وهو شفاء ورحمة للمؤمنين وتلاوته إذن مطلوبة جلاء للقلوب وشفاء لما فى الصدور وغرساً للإخلاص وتثبيتاً
للتوحيد
والقرآن نوع من الذكر والدعاء وقد حث الله على الذكر في قوله تعالى فاذكروني أذكركم وفى قوله تعالى اللي اذكروا الله ذكراً كثيراً والمخلص يذكر الله على الدوام مع حضور القلب فأما الذكر باللسان والقلب لاء فهو قليل الجدوى
ولقد فضل رسول الله الا الله قول لا إله إلا الله على سائر الأذكار لأنها عنوان الإخلاص ودليل التوحيد
ومن الذكر الصلاة على سيد المرسلين إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما كم
ومن الذكر الدعاء والدعاء مخ العبادة يقول الله تعالى
٢٩٤
C
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ولكن لابد للإجابة من التوبة ورد المظالم والإقبال بكنه الهمة على الله عز وجل فذلك هو السبب القريب في الإجابة
وبعد أن ينتهى الإمام الغزالي بذلك ممن ربع العبادات يبدأ في ربع العادات فيبين فيه آداب الأكل وآداب النكاح ثم يبين آداب الكسب والمعاش ويتحدث عن فضيلة العمل وعن الآثار الكثيرة قرآنية ونبوية في فضل العمل وفى استقامة العمال والتجار فمن الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة والتاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء
ويخلص من ذلك إلى كتاب جليل نفيس هو كتاب الحلال والحرام والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض والحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض
ويفصل الإمام كل ذلك لينتهى إلى كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة وأساسه حسن الخلق والتأسى فيه بالرسول الذي يقول الله له وإنك لعلى خلق عظيم وقد بعث صلوات الله عليه وسلامه ليتمم
مکارم
الأخلاق
فإذا ما كان حسن الخلق كانت الأخوة وفائدة الأخوة كما يريدها الدين
عظيمة
ولقد قال صلوات الله عليه وسلامه فى الثناء على الأخوة في الدين من أراد الله به خيراً رزقه خليلا صالحاً إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه ومن أروع ما قاله صلوات الله عليه وسلامه في ذلك مثل الأخوين
٢٩٥
إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً
ثم يتحدث عن العزلة والاختلاط مبيناً الآراء في كل منهما لينتهي إلى أن
كلام الشافعي رحمه الله فى هذا الموضوع - وهو فصل الخطاب - قال يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط إليهم
إذ
مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض والمنبسط فلذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة ويختلف ذلك بالأحوال وبملاحظة الفوائد والآفات يتبين الأفضل هذا هو الحق الصراح وكل ما ذكر سوى هذا فهو قاصر وإنما هو إخبار كل واحد عن حالة خاصة هو فيها ولا يجوز أن يحكم على غير المخالف له
في الحال
والسفر للعظة والاعتبار من أعظم ما يفيد الإنسان في جانبه الروحي ولكن السفر قد يكون بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السموات وهو أشرف من السفر بظاهر البدن ويجمع السفرين ويحث عليهما قوله تعالى وفى الأرض آيات للموقنين وفى أنفسكم أفلا تبصرون كم وينتهي الإمام في كتاب السماع والوجد بالحكم الرزين المنطقى وهو أن سماع الغناء قد يكون حراماً وقد يكون مباحاً وقد يكون مكروهاً وقد يكون مستحباً
أما الحرام فهو لأكثر الناس من الشبان ومن غلبت عليهم شهوة الدنيا
فلا يحرك السماع منهم إلا ماهو الغالب على قربهم من الصفات المذمومة وأما المكروه فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين ولكنه يتخذه عادة له
في أكثر الأوقات على سبيل اللهو
٢٩٦
وأما المباح فهو لمن لاحظ له من التلذذ بالصوت الحسن وأما المستحب فهو لمن غلب عليه حب الله تعالى ولم يحرم السماع منه إلا
الصفات المحمودة
ولابد -- لاستمرار الدين حيا في النفوس - من القيام بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك
هم
المفلحون
وبعد أن بين الإمام مواقف العلماء الرائعة وجهادهم في سبيل الله
الفصل بقوله
ختم
فهذه كانت سيرة العلماء وعاداتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة فلما أخلصوا الله النية أثر كلامهم فى القلوب القاسية فلينها وأزال قسوتها وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فكتموا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال
والجاه
ويختم الإمام الغزالى ربع العادات بكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة فيبين ما كان عليه الرسول الله من خلق هو كما في القرآن
و يشرح فى استفاضة ما يوضح قول الله تعالى لرسوله
وإنك لعلى خلق عظيم ويبتدئ ربع المهلكات بكتاب من انفس الكتب لا غنى عنه قط لمن
۹۷
يريد أن يعالج التصوف عمليا أو أن يقتنع بحقيقته نظريا ذلك هو كتاب شرح عجائب القلب وأهميته ترجع إلى أن القلب هو العالم بالله وهو المتقرب إلى الله وهو العامل لله وهو الساعى إلى الله وهو المكاشف بما عند الله ولديه فإذا تساءلت ما معنى القلب الذى له هذه المنزلة يأتيك الجواب أنه ه هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف وهو المخاطب والمعاتب والمطالب وفى النصوص التي ذكرناها فما بعد ما يغنى عن تلخيص هذا الكتاب
ومن
ويتلو ذلك كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق هذا العنوان وحده تفهم أن الغزالى مزج بين رياضة النفس وتهذيب الأخلاق أو بتعبير آخر جعل رياضة النفس تهذيباً للأخلاق والخلق الحسن إنما هو صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين وهو
على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين ولقد كان صلوات الله وسلامه عليه يقول إن أحبكم إلى وأقربكم
منى مجلساً
يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً
وأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن
فلابد من كسر هذه الشهوة ومما يساعد على كسرها ألا يأكل الإنسان إلا حلالا وألا يجعل الأكل هدفاً وغاية والأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع بل
ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلا فإن مقصود الأكل بقاء الحياة والقوة على
۹۸
العبادة وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشل القلب ويمنع
منها
ثم يبحث الإمام عن آفات اللسان
وما من شك فى أن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة ولكن الناس تساهلوا فى الاحتراز عن آفاته وغوائله وهي كثيرة وما من
شك في أن من أسباب النجاة ما نصح به الرسول لا في قوله أمسك عليك لسانك والكذب والغيبة والعميمة والاستهزاء والسخرية كل ذلك من آفات اللسان والمثل العربي يقول مقتل الرجل بين فكيه
والطريقة المثلى ألا يتحدث الرجل بما يغضب الله
D
ومن الآفات التي تفسد على الناس أمورهم الغضب وقد روى أبو هريرة أن رجلا قال يا رسول الله مرنى بعمل وأقلل فقال له صلوات الله وسلامه عليه لا تغضب فأعاد الرجل السؤال فقال له لا تغضب مما يزيل الغضب الجلوس إذا كان الإنسان قائماً والاضطجاع إذا كان جالساً
ومما يزيل الغضب الوضوء والاغتسال
ومما يزيله السجود
و ألا الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض وهذه إشارة إلى السجود وحب الدنيا رأس كل خطيئة ولا يزال ابن آدم يجرى وراءها في جشع
۹۹
وفى تكالب فتستعبده إلى أن يهلك والمؤمن يستعبد الدنيا فتذل له
فيتخذها مطية للآخرة
ومحب الدنيا بخيل
C
لأنه متكالب عليها وقد روى بسند صحيح عن
رسول الله
ه إن الله عز وجل يقول إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون له ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله
على من تاب
أما المقياس الصحيح فهو قوله تعالى
ومن يوق شح نفسه فأولئك
هم
المفلحون
وحب الجاه والرياء والكبر والعجب والغرور كلها من الآفات التي يجب أن يتخلى عنها المؤمن إذا أراد أن يخلص لله نيته وقصده أما إذا وصلنا إلى ربع المنجيات فقد وصلنا إلى درة التاج وإلى النور
الهادى
وإلى صفاء الصفاء ! ! ويبتدئ هذا القسم أول ما يبتدئ بـ التوبة فإن التوبة عن الذنوب
ورأس
بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاستصفاء والاجتباء للمقربين ووجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات وهو واضح بنور البصيرة عند
من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره
و يأيها الذين آمنو توبوا إلى الله توبة نصوحاً له
٣٠٠
أما
وجوب التوبة على الفور فلا يستراب
ومهما يكن من شيء فـ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويقول صلوات الله وسلامه عليه
لله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة ومعه
راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته
10
والإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر لقد وردت بذلك الآثار وشهدت به الأخبار وقد وصف الله الصابرين وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال تعالى
عليه
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقال صلوات الله وسلامه
الصبر نصف الإيمان وقال
الصبر كنز من كنوز الجنة
ونعم
الله على المرء لا تحصى وواجب الإنسان نحو المنعم بهذه النعم هـ
هو
الشكر والشكر نفسه سبب فى زيادة النعم يقول تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم
والرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود
ومطيتان بهما يقطع من طريق الآخرة كل عقبة كثود
۳۰۱
ويقرن الإمام الغزالي الفقر بالزهد والزهد في الدنيا مقام شريف
من مقامات السالكين وهو تحقيق لقوله تعالى
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك
والقرآن
هو الفوز العظيم الله والزهد إذن قوة لأنه بيع النفس والمال لله وتجرد في سبيله والتوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات المؤمنين بل هو من معالى درجات المقربين وهو ثمرة من ثمار التوحيد فمن وحد الله حق توحيده
توكل عليه
أليس الله بكاف عبده
أما محبة الله فإنها الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من
الدرجات
ومن ثمارها الشوق والأنس والرضا وليس قبل المحبة
مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة
وغيرها فهي واسطة العقد
ودرة القلادة ه والذين آمنوا أشد حبا الله
C
والصبر والزهد
لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة
فالناس كلهم هلكي إلا العالمون والعالمون كلهم هلكي إلا العامليون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
۳۰
فالعمل بغير نية عناء والنية بغير إخلاص رياء وهو للنفاق كفاء
ومع العصيان سواء والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً
ويقول صلوات الله وسلامه عليه
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى
الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
ومن راقب الله فاز ومن حاسب نفسه نجا
وقد وردت السنة بأن تفكر ساعة خير من عبادة سنة وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف
والفهوم
وقد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر فى كتابه العزيز في مواضع لا تحصى وأثنى على المتفكرين فقال تعالى
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النارية وقد روى أن رسول الله بكى حيثما نزلت هذه الآية وقال
ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ومما يعين – على وجه العموم - التفكر فى الموت وما بعده والكيس من
٣٠٣
دان نفسه وعمل لما بعد الموت يقول صلوات الله وسلامه عليه
كفى بالموت واعظاً
ويختم الإمام الغزالي كتابه بقوله
وروى أنه وقف صبى فى بعض المغازى ينادى عليه – لبيعه – فيمن يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة فى خباء القوم فأقبلت تشتد وأقبل أصحابها خلفها حتى أخذت الصبى وألصقته إلى صدرها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وجعلته على بطنها تقيه الحر وقالت ابنى ابنى فبكى الناس وتركوها على ما هم فيه فأقبل رسول الله حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فسر برحمتهم ثم بشرها فقال
أعجبتم من رحمة هذه لابنها قالوا نعم قال الله
إن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعاً من هذه بابنها
فتفرق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة
فهذه الأحاديث وما أوردناه فى كتاب الرجاء يبشرنا بسعة رحمة الله
تعالى فنرجو من الله تعالى ألا يعاملنا بما نستحقه وأن يتفضل علينا بما هو
أهله
بمنه وسعة جوده ورحمته
أثر الإحياء
الكثير
أما أثر هذا الكتاب فى العالم الإسلامي فقد كان ضخما لقد شرح واختصر عدة مرات وانتقده الكثيرون ودافع عنه الكثيرون و ترجم منه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغير ذلك من اللغات الحية شرقية وغربية
٣٠٤
ومخطوطاته التي بمكتبات العالم لاتكاد تحصر وقد طبع في القاهرة
وحدها ما يقرب من عشرين طبعة وطبع فى الهند وفى تركيا وفى فارس ولا يزال الكتاب للآن فى العالم الإسلامى مصدر إلهام ونور ودراسة
تختلف نتائجها لاختلاف نزعات الدارسين
ولا يزال في القطر المصرى جماعات تعقد حلقات أسبوعية تخصصها لقراءة الإحياء والتعبد بشرح ما فيه من حكم ومواعظ
D
تقدير العلماء لكتاب الإحياء
أما تقدير العلماء لهذا الكتاب فتصوره الآراء التالية يكاد الناقدون يجمعون على كلمة أبي المظفر سبط أبي الفرج ابن الجوزى في قوله
ووضعه على مذاهب الصوفية وترك فيه قانون الفقه فأنكروا عليه
ما فيه من الأحاديث التي لم تصح
وفكرة الأحاديث التي لم تصح أذاع بها كثيرون من أعداء الإمام الغزالي وتحدثوا عنها مقبلين ومدبرين قائمين وقاعدين ولكن ها هو ذا المولى أبو الخير يقول
ه أما الأحاديث التي لم تصح فلا ينكر عليه إيرادها لجوازه في الترغيب
والترهيب والواقع
أن الإمام الغزالي لم يأت بهذه الأحاديث التي لم تصح
لإثبات حكم أو للاستدلال على مبدأ ذلك أنه يذكر الآيات القرآنية التي يثبت بها ما تؤدى إليه من أحكام وقواعد وهى على هذا الوضع كافية
٣٠٥
للإثبات والاستدلال ثم يأتى بعد ذلك بالأحاديث وبأقوال الصحابة
والتابعين
وإذا كان الأمر كذلك فإننا حينما نستبعد الأحاديث الضعيفة من الإحياء فإن كل المبادئ والقواعد والعظات والعبر التى أتى بها الإمام الغزالي في هذا الكتاب تحتفظ بقيمتها من ناحية الإثبات والاستدلال ويتبين من هذا أنه لا قيمة لهذا الاعتراض لا شكلا ولا موضوعاً على أنه قد قام العالم الثبت الحجة الحافظ ١٠ العراقي الذي قال فيه شیخه إن ذهنه لا يقبل الخطأ بتخريج أحاديث هذا الكتاب فأصبحت السنة واضحة وأصبح الطريق أبلج
وشيء آخر عن هذا الاعتراض له أهمية وهو أن كثيراً من الأحاديث التي قال عنها الإمام العراقى لا أصل لها بين الإمام الزبيدي شارح الإحياء أصلها وكثيرا من الأحاديث التي قال عنها الإمام العراقي إنها ضعيفة بين
۱۰ الحافظ العراقي هو زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراق ولد بمصر في جمادى الأولى سنة ٧٢٥ هـ
أما نسبته إلى العراق فترجع إلى أن أصل أبيه من العراق وتوفى والده وهو في الثالثة من عمره ولكن عناية الله أحاطت به إذوهبه الله فطرة ممتازة ذكاء خارقاً وذهناً صافياً وهمة عالية في طلب العلم ويسرت له عناية الله الجو الثقافى فأخذ من كل العلوم الإسلامية بحظ وافر ولكنه تخصص فى علم الحديث وظهرت فيه مواهبه وكان من توفيق الله أن منحه ذاكرة قوية حافظة فلقبه شيوخه بحافظ الوقت ومن أجل الحديث قام الحافظ العراقي بعدة رحلات سائراً في ذلك على طريق الأئمة السابقين الذين كانوا يقطعون مئات الأميال في طلب الحديث الشريف
لقد سافر العراقي إلى الشام متنقلا بين حواضرها وسافر إلى مكة والمدينة وانتهت حياته في شعبان
سنة ٨٠٦ هـ وقد بلغ من العمر إحدى وثمانين سنة خدم فيها الحديث خدمة جليلة
٣٠٦
الإمام الزبيدي أنها ضعيفة من الوجه الذي رواها به الإمام العراقي ولكنها هي نفسها حسنة أو قوية من وجه آخر وبين الإمام الزبيدي هذا الوجه الآخر
قال الحافظ العراقى عن كتاب الإحياء إنه من أجل كتب الإسلام في معرفة الحلال والحرام جمع فيه بين ظواهر الأحكام ونزع إلى سرائر دقت عن الأفهام لم يقتصر فيه على مجرد الفروع والمسائل ولم يتبحر في اللجة بحيث يتعذر الرجوع إلى الساحل بل مزج فيه علمى الظاهر والباطن ومزج معانيهما في أحسن المواطن وسبك فيه نفائس اللفظ وضبطه وسلك فيه من المط أوسطه مقتديا بقول على وجهه خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم
كرم الله
إليهم الغالي
وقال الزبيدي شارح و الإحياء
التالي
ويرجع
ه وأنا لا أعرف له نظيرا فى الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر
وقال ابن السبكي
وهو من الكتب التي ينبغى للمسلمين الاعتناء بها وإشاعتها ليهتدى بها
كثير من الخلق وقل من ينظر فيه إلا ويتغط به في الحال وقال الشيخ عبد القادر العيدروس فى كتاب تعريف الأحياء بفضائل
الإحياء
اعلم أن فضائل الإحياء لا تحصى بل كل فضيلة له باعتبار حيثياتها
لا تستقصى
٣٠٧
وكان
عنه أنه
عبد الله العيدروس رضى الله عنه يكاد يحفظه وروى قال مكثت أطالع كتاب الإحياء كل فصل وحرف منه وأعاوده وأتدبره فيظهر لى منه في كل يوم علوم وأسرار عظيمة ومفهومات غزيرة غير التي قبلها ولم يسبقه أحد ولم يلحقه أحد ومن - كلامه عليكم يا إخوانى بمتابعة الكتاب والسنة أعنى الشريعة المشروحة في الكتب الغزالية خصوصاً كتاب ذكر الموت وكتاب الفقر والزهد وكتاب التوبة وكتاب رياضة النفس
وقد ألزم الشيخ عبد الله العيدروس أخاه قراءة الإحياء فقرأه عليه مدة حياته خمساً وعشرين مرة ونختم هذه التقديرات برأى أعتقد أنه فيصل الحق في موضوع كتاب الإحياء وهو رأى فضيلة العالم الجليل الاستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق وهو عالم لا يتهم بعصبية والآراء مجمعة على من العلماء الذين حاولوا جاهدين أن يكون كل ما يصدر عنهم إنما يراد به وجه الله يقول
أنه
وإذا وجد العلماء في كتاب الإحياء مآخذ معدودة فإنه من صنع بشر غير معصوم من الزلل وكفى بكتاب الإحياء فضلا وسمو منزلة أن تكون درر فوائده فوق ما يتناوله العد وأن يظفر منه طلاب العلم وعشاق الفضيلة بما لا يظفرون به من کتاب غیره
ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً
٣٠٨
۱۱ التي تبين منهج الغزالى
النصوص
النص
الأول الطريق ٢
۱
الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها
هو
المتولى
والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور فى القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد فى الدنيا والتبرى من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها
والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى فمن كان لله كان الله له وزعموا أن الطريق فى ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منها وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم والولاية والجاه بل يصير قلبه إلى حالة يستوى فيها وجود كل شيء وعدمه ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب ويجلس فارغ
۱۱ أخذنا هذه النصوص من طبعة السراوى وهى مرقمة بحسب صفحاتها في هذه الطبعة
۱ الإحياء ص ۱۳۷۷
۳۰۹
القلب مجموع الهمم ولا يفرق فكره بقراءة قرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا يكتب حديثا ولا غيره بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه الله الله على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهى إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى - كأن الكلمة جارية على لسانه
ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان ويصادف قلبه مواظباً على
الذكر
ثم يواظب عليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة ويبقى معنى الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهى إلى هذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس وليس له اختيار فى استجلاب رحمة الله تعالى بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله فلا يبقى إلا الانتظار لما لله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق
وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في
قلبه
ويكون فى ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعو يعود وقد يتأخر وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفاً وإن ثبت فقد يطول ثباته وقد لا يطول وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم
وأخلاقهم وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية
وجلاء ثم استعداد وانتظار فقط
وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضاءه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطنوا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر
النص الثاني بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف في
اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد١٣
اعلم
أن
من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام
والوقوع في القلب من حيث لا يدرى فقد صار عارفاً بصحة الطريق ومن لم يدرك بنفسه قط فينبغي أن يؤمن به فإن درجة المعرفة فيه عزيزة
جدا ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات أما الشواهد فقوله تعالى ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهى بطريق الكشف والإلهام
وقال له من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار وقال الله تعالى ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا له من الإشكالات
۱۳ الإحياء ص ١٣٨٥
۳۱۱
والشبه ويرزقه من لا يحتسب قيل يعلمه عليها من غير تعلم
ويفطنه من غير تجربة
وقال الله تعالى ﴿ يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً قيل
نورا يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات ولذلك كان ع يكثر في دعائه من سؤال النور فقال عليه الصلاة
والسلام اللهم أعطنى نورا وزدنى نورا واجعل لي في قلبي نوراً وفى قبرى نوراً وفى نوراً وفى بصرى نوراً حتى قال في شعرى وفى بشرى
سمعی
وفى لحمى ودمى وعظامى وسئل الله عن قول الله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو
على نور من ربه ما هذا الشرح فقال
هو التوسعة إن النور إذا قذف به فى القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال على رضى الله عنه ما عندنا شيء أسره النبي الله إلينا إلا أن
6
يؤتى الله تعالى وقيل في تفسير قوله تعالى يؤتى الحكمة من يشاء الله إنه الفهم في كتاب
عبدا فهما في كتابه وليس هذا بالتعلم
الله تعالى وقال تعالى ففهمناها سلیمان به خص ما انكشف باسم الفهم وكان أبو الدرداء يقول المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم
وقال بعض السلف ظن المؤمن كهانة
۳۱
وقال الله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وإليه يشير قوله تعالى ﴿ إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقوله تعالى قد بينا الآيات لقوم يوقنون
وروى الحسن عن رسول الله الله أنه قال
العلم علمان فعلم باطن فى القلب فذلك هو العلم النافع إلخ وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو فقال هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا وقد قال إن من أمتى محدثين ومعلمين ومكلمين وإن
عمر منهم " وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث يعنى الصديقين
والمحدث هو الملهم والملهم هو الذى انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسات الخارجة والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف وذلك علم من غير تعلم
وقال الله تعالى إن فى اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات
والأرض لآيات لقوم يتقون مخصصها
بهم
وقال تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وكان أبو يزيد وغيره يقول ليس العالم الذى يحفظ من كتاب فإذا
حفظ ولا درس
نسی ما حفظه صار جاهلا وإنما العالم يأخذ عمله من ربه أي وقت شاء بلا وهذا هو العلم الربانى وإليه الإشارة بقوله تعالى وعلمناه من لدنا علماً مع أن كل علم من لدنه ولكن بعضه بوسائط
6
۳۱۳
تعليم
الخلق فلا
يسمى ذلك علماً لدنيا بل اللدنى الذي ينفتح في سر
القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضا خارج عن الحصر وظهر
ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها عند موته إنما هما أخواك وأختاك وكانت زوجته حاملا فولدت بنتاً فكان قد عرف قبل الولادة أنها بنت وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته يا سارية الجبل إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال دخلت على عثمان رضی الله عنه - وكنت قد لقيت امرأة فى طريقى فنظرت إليها شزرا وتأملت محاسنها - فقال عثمان رضى الله عنه لما دخلت يدخل على أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه ! ! أما علمت أن زنى العينين النظر لتتوين أو لأعزرنك فقلت أوحى بعد النبي فقال لا ولكن بصيرة وبرهان
وفراسة صادقة
وعن أبى اس سعيد الخراز قال دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراً عليه خرقتان فقلت في نفسي
وقال
هذا وأشباهه كل على الناس فنادانى وقال
والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه كم فاستغفرت الله في سرى فنادانی
٣١٤
وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ثم غاب عنى ولم أره وقال زكريا بن داود دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل وهو عليل وكان ذا عيال ولم يعرف له سبب يعيش به قال
الهاشمی
فلما قلت في نفسي من أين يأكل هذا الرجل قال فصاح بي
يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإن الله تعالى ألطافاً خفية
النص الثالث دليل الكشف ١٤
والدليل القاطع على الكشف الذى لا يقدر على جحده أمران أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضا في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في
- ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسات فكم من مستيقظ غائص ولا يبصر لاشتغاله بنفسه
لا يسمع
الثاني إخبار رسول الله الله عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل
عليه القرآن
وإذا جاز ذلك للنبي جاز لغيره إذ النبي عبارة عن
6
شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق وهذا
لا يسمى
نبيا بل يسمى وليا
فمن آمن بالأنبياء ! وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن
القلب له بابان باب إلى الخارج وهو الحواس وباب الى الملكوت من
داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحى
١٤ الإحياء ص ۱۳۸۹
٣١٥
فإذا أقر بهما جميعا لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيلا إليه
فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت
وأما السبب في انكشاف الأمر فى المنام بالمثال المحوج إلى التعبير وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة فذلك أيضا من أسرار عجائب القلب ولا يليق ذلك إلا بعلم المكاشفة فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها فقد قال بعض المكاشفين ظهر لى الملك فسألنى أن أملى عليه شيئاً من ذكرى الخفى عن مشاهدتى من التوحيد وقال ما نكتب لك عملا ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله عز وجل فقلت ألستما تكتبان الفرائض قالا بلى قلت فيكفيكما ذلك وهذه إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة
10
النص الرابع الفرق بين العلم النظرى والعلم الكشفى ٥ فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس فيكون ذلك كتفجر من عمق الأرض ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسات كان مطالعة اللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار
إليه العلم
الماء
ذلك حجاباً له
عن
2
10 الإحياء ص ۱۳۸۱
٣١٦
ذلك منع الشمس لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس
التفجر فى الأرض وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة من
فإذن للقلب بابان باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة وعالم الشهادة والملك أيضا يحاكى عالم الملكوت نوعا من المحاكاة فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقينيا بالتأمل فى عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان فى الماضى من غير اقتباس من جهة الحواس وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى
قال سبق المفردون
قيل ومن هم المفردون يا رسول الله
قال المتنزهون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً
ثم قال في وصفهم إخبارا عن الله تعالى ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه ثم قال تعالى أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهم فيخبرون عنى كما
أخبر عنهم "
ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن فإذن الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتى من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت
۳۱۷
وعلم الحكمة يأتى من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك
النص الخامس الجود الإلهى
علوم
1
الله - سبحانه - لا نهاية لها وأقصى الرتب رتبة النبي الذي تنكشف له الحقائق من غير اكتساب ولا تكلف بل بكشف إلهي في أسرع
وقت
وبهذه السعادة يقرب العبد من الله تعالى قرباً بالمعنى والحقيقة والصفة لا بالمكان والمسافة
"
و مراقى هذه الدرجات هي منازل السائرين إلى الله تعالى ولا حصر لتلك المنازل وإنما يعرف كل سالك منزله الذى بلغه وسلوكه فيعرفه ويعرف ما خلفه من المنازل فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علماً لكن قد يصدق به إيماناً بالغيب كما أنا نؤمن بالنبوة والنبي ونصدق بوجوده ولكن لا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي
وكما لا يعرف الجنين حال الطفل ولا الطفل حال المميز وما يفتح له من
العلوم الضرورية ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية فكذلك لا يعرف العاقل ما افتتح الله على أوليائه من مزايا لطفه ورحمته
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها كه
وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود والكرم من الله سبحانه وتعالى غير
مضنون بها على أحد ولكن إنما تظهر فى القلوب المتعرضة لنفحات رحمة
الله تعالى كما قال
۳۱۸
١٦ الإحياء ١٣٥٩
إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها والتعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من
الأخلاق المذمومة كما سيأتي بيانه
وإلى هذا الجود الإشارة بقوله
ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له وبقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل لقد طال شوق الأبرار إلى لقالى وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً وبقوله تعالى في الحديث القدسي من تقرب إلى شبراً تقربت إليه
ذراعاً
كل ذلك إشارة إلى أن أنوار العلوم لم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع
من جهة المنعم تعالى عن البخل والمنع علوا كبيرا ولكن حجبت لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب فإن القلوب كالأوانى فما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله تعالى وإليه الإشارة بقوله لولا أن
الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ومن هذه الجملة يتبين أن خاصية الإنسان العلم والحكمة وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فيه كمال الإنسان
وفى كماله سعادته وصلاحه الجوار حضرة الجلال والكمال
۱۷
النص السادس شواهد الشرع في حب العبد الله تعالى
۳۱۹
YOA
۱۷ الإحياء ص
اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله ي فرض وكيف يفرض ما لا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب
وثمرته فلابد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب ويدل على إثباته الله تعالى قوله عز وجل يحبهم ويحبونه له وقوله تعالى والذين آمنوا أشد حبا الله
وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه
6
وقد جعل رسول الله الله الحب الله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة إذ قال أبو رزين العقيلي يا رسول الله ما الإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما
وفي حديث آخر
لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي حديث آخر لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين
وفى رواية ومن نفسه كيف وقد قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين 1
۱۸
وإنما جرى ذلك في معرض التهديد والإنكار وقد أمر رسول الله الله
بالمحبة فقال
١٨ التوبة ٢٤
6
۳۰
أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبونى لحب الله إياى أن ویروی رجلا قال يا رسول الله إنى أحبك فقال الله للفقر فقال إنى أحب الله تعالى فقال استعد للبلاء
C
استعد
إلى مصعب بن عمير
وعن عمر رضي الله عنه قال نظر النبي الله مقبلا وعليه إهاب كبش قد تمنطق به فقال النبي ع انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذونه بأطيب الطعام والشراب
فدعاه حب
الله ورسوله إلى ما ترون
وفي الخبر المشهور أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه
لقبض روحه هل رأيت خليلا يميت خليله فأوحى الله تعالى إليه هل رأيت محبا
يكره لقاء حبيبه فقال يا ملك الموت الآن فاقبض وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن الموت
انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه وقد قال نبينا في دعائه
سبب اللقاء
ه اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلى من الماء البارد
وجاء أعرابي إلى النبي علل الله فقال يا رسول الله متى الساعة قال ما أعددت لها فقال ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أنى أحب الله
ورسوله فقال له رسول الله الله المرء مع من أحب قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى
قضية التصوف المنقذ
الضلال من
۳۱
شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر
وقال الحسن من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها والمؤمن
لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن
أشد نحولا
وقال أبو سليمان الداراني إن من خلق الله خلقاً ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا ویروی أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر وقد نحلت أبدانهم فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم وتغيرا فقال ما الذى بلغ بكم ما أرى قال الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا كأن على وجوههم المرالى من النور فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا نحب الله عز وجل فقال أنتم المقربون أنتم المقربون أنتم
المقربون
وقال عبد الواحد بن زيد مررت برجل قائم في الثلج فقلت أما تجد البرد فقال شغله من حب الله لم يجد البرد وعن سرى السقطى قال تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها عليهم السلام فيقال يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين الله تعالى فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً وقال هرم بن حيان المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة
ولم
ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهى تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة
۳
وقال يحيى بن معاذ عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه ! ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه وحبه يدهش العقول فكيف وده ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه
وفى بعض الكتب عبدى أنا - وحقك – لك محب فبحقي عليك كن لى محبا وقال يحيى بن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إلى من عبادة سبعين
سنة بلا حب
C
وقال يحيى بن معاذ أيضا إلهى إنى مقيم بفنائك مشغول بثنائك صغيرا أخذتني إليك وسر بلتني معرفتك وأمكنتنى من لطفك ونقلتني في الأحوال وقلبتنى فى الأعمال سترا وتوبة وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقينى من حياضك وتهملنى فى رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك ولما طر شاربى ولاح طائرى فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً فلى ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأنى محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر وإنما الغموض في تحقيق معناه
به
فلنشتغل
۳۳
الفصل السادس الضلال
المنقذ
من
توطئة
مدخل السفسطة
أصناف الطالبين علم الكلام الفلسفة أصناف الفلاسفة أقسام
مذهب التعليم طرق الصوفية
علومهم حقيقة النبوة
سبب نشر العلم
توطئة
الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة والصلاة على محمد المصطفى صاحب النبوة والرسالة وعلى آله وأصحابه الهادين من
الضلالة
أما بعد فقد سألتني أيها الأخ فى الدين أن أبث إليك غاية العلوم وغائلة المذاهب أغوارها
وأحكى لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد
إلى يفاع 1 الاستبصار
وما استفدته أولا من علم الكلام
وما اجتويته ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على
تقليد الإمام
وما از دريته ثالثاً من طرق التفلسف
وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف
وما انجلى لى فى تضاعيف تفتيشى عن أقاويل الخلق من لباب الحق كثرة الطلبة
وما صرفني عن نشر العلم ببغداد مع وما ردنى إلى معاودتى بنيسابور بعد طول المدة
۱ اليفاع ما ارتفع من الأرض
تقول اجتوبت البلد إذا كرهت المقام به وإن كنت في نعمة
۳۷
فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك بعد الوقوف على صدق رغبتك وقلت مستعيناً بالله ومتوكلا عليه ومستوقفاً منه وملتجئاً إليه
اعلموا - أحسن الله تعالى إرشادكم وألان للحق قيادكم – أن اختلاف الخلق في الأديان والملل ثم اختلاف الأمة في المذاهب مع كثرة الفرق
وهو الذي وعدنا
وتباين الطرق بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون وكل فريق يزعم أنه الناجي و كل حزب بما لديهم فرحون به سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وهو الصادق المصدوق حيث ستفترق أمتى ثلاثاً وسبعين فرقة الناجية منها واحدة ۳ فقد كان
قال
ما وعد أن يكون ولم أزل في عنفوان شبابي - منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر العميق
-
وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الجذور أتوغل في كل
۳ روى هذا الحديث على اختلاف في متنه فى عدة كتب بعدة أسانيد ولكنه لم يرو في صحيح البخاری ولافي صحیح مسلم
وقد قال ابن حزم عنه إنه لا يصح أصلا من جهة الإسناد وقال ابن الوزير فى العواصم والقواصم إياك أن تغتر بزيادة كلها في النار إلا واحدة فإنها زيادة فاسدة ولا يبعد أن تكون من دسيس الملاحدة
على أنه قد روى هذا الحديث بالخاتمة الآتية اثنتان وسبعون في الجنة وواحدة في النار وقال المقدسي
في أحسن التقاسيم إن الحديث على هذا الوضع أصح إسناداً ذلك فقد أخذ مؤرخو الأديان أمثال الشهر ستانى يعدون الفرق التي في النار ويتكلفون ومع الوصول بها إلى اثنتين وسبعين فرقة مع أن تشعب الفرق واختلاف المذاهب والآراء لا ينتهى حتى تقوم الساعة
انظر مقدمة كتاب التبصير فى الدين التي كتبها الشيخ زاهد الكوثرى رحمه الله تعالى
۳۸
مظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل
ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته
ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته
ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته
ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته
ولا زنديقاً معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله
وزندقته
وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدنى من أول أمرى وريعان عمرى غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختيارى وحيلتى حتى انحلت عنى رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا إذ رأيت
صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام وسمعت الحديث المروى عن رسول الله الله حيث قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين والتمييز بين هذه التقليدات وأوائلها تلقينات وفى تميز
۳۹
الحق منها عن الباطل اختلافات
فقلت في نفسي أولا إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور فلابد من
طلب حقيقة العلم ما هي
فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى
معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك أن يكون مقارناً لليقين مقارنة أو تحدى بإظهار
بل
الأمان
من
الخطأ
ينبغي
بطلانه – مثلا - من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً لم يورث ذلك شكا وإنكاراً فإنى إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة فلو قال لي قائل لا بل الثلاثة أكثر بدليل أنى أقلب هذه العصا ثعباناً وقلبها وشاهدت ذلك لم أشك – بسببه – في معرفتي ولم يحصل لى منه إلا التعجب من كيفية
منه
قدرته عليه
فأما الشك فما علمته فلا
ثم علمت أن كل مالا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من
اليقين فهو علم لا ثقة به ولا أمان
يقيني
معه
وكل علم لا أمان م
معه
فليس بعلم
۳۳۰
مدخل السفسطة
ثم فتشت عن علومی فوجدت نفسى عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات
فقلت الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات وهي الحسيات والضروريات فلابد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتى بالمحسات وأمانى من الغلط فى الضروريات من جنس أمانى الذى كان من قبل في التقليدات ومن جنس أمانى أكثر الخلق في النظريات أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غائلة له
فأقبلت بجد بليغ أتأمل فى المحسات والضروريات وأنظر هل يمكننى أن أشكك نفسى فيها فانتهى بى طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسى بتسليم الأمان في المحسات أيضاً وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول من أين الثقة بالحواس وأقواها حاسة البصر وهى تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك وتحكم بنفى الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة – بعد ساعة – تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة بل على التدريج ذرة ذرة حتى لم
تكن له حالة وقوف وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً فى مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار
هذا
وأمثاله من المحسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه
ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته
۳۳۱
فقلت قد بطلت الثقة بالمحسات أيضاً فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة والنفى والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوما واجباً محالا
فقالت الحواس بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسات وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبنى ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقى فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه وعدم تجلى ذلك الإدراك لا يدل على استحالته !
فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت إشكالها بالمنام وقالت أما تراك تعتقد في النوم أموراً وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ولا تشك في تلك الحالة فيها ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل فيم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التى أنت فيها لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها ! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن ما توهمت بعقلك خيالات لا جميع حاصل لها
ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التى لهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم
أحوالا لا توافق هذه المعقولات
۳۳
ولعل تلك الحالة هى الموت إذ قال رسول الله
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ويقال له عند ذلك
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد
6
حاولت لذلك
فلما خطرت لى هذه الخواطر وانقدحت في النفس علاجاً فلم يتيسر إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على السفسطة بحكم
الحال لا بحكم النطق والمقال
حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمر ويقين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة ولما سئل رسول الله عليه
الصلاة والسلام عن الشرح ومعناه في قوله تعالى
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام قال
هو نور يقذفه الله تعالى في القلب
فقيل وما علامته
قال التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وهو الذى
قال عليه السلام فيه
إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليه من نوره
فمن ذلك النور ينبغى أن يطلب الكشف
وذلك النور ينبجس من الجود الإلهى في بعض الأحايين ويجب الترصد له كما قال عليه السلام إن لربكم فى أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا
لها
والمقصود من
هذه الحكايات أن يعمل فى كمال الجد في الطلب حتى ينتهى إلى طلب مالا يطلب فإن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب نفر واختفى ومن طلب مالا يطلب لا يتهم بالتقصير في طلب
ما يطلب
٣٣٤
أصناف الطالبين
ولما شفانى الله تعالى من هذا المرض بفضله وسعة جوده أصناف الطالبين عندى في أربع فرق
انحصرت
۱ - المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر ٢ - الباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم
٣ - الفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان - والصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة
والمكاشفة
فقلت في نفسي الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع إذ لا مطمع فى الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته إذ من شرط المقلد ألا أنه مقلد فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده وهو يرأب ٥ وشعث ٦ لا يلم بالتلفيق والتأليف إلا أن يذاب بالنار وتستأنف له صنعة أخرى مستجدة
يعلم
٤ لا شعب
فابتدرت لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هذه الفرق
٤ الشعب من الأضداد وهو هنا بمعنى الشق
٥ يرأب يصلح
٦ شعث متفرق
۳۳۵
مبتدئاً بعلم الكلام ومثنياً بطريق الفلسفة
ومثلثا بتعليم الباطنية
ومربعاً بطريق الصوفية
علم الكلام مقصوده وحاصله
منهم
ثم إلى ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين
وصنفت فيه ما أردت أن أصنف
فصادفته علماً وفيا بمقصوده غير واف بمقصودى
وإنما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة ٧
۷ نرى أن الإمام الغزالى - مع هدمه في النهاية لعلم الكلام - كان مجاملا للمتكلمين ويسرنا أن تذكر هنا رأي السلف في شيء من الاستفاضة قال ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ فى كتاب جامع بيان العلم وفضله نهى السلف - رحمهم الله - عن الجدال في الله جل ثناؤه فى صفاته وأسمائه وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك وليس الاعتقادات كذلك لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة - أهل السنة - إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو أجمعت الأمة عليه وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو إنعام نظر وقد نهينا عن التفكير في الله وأمرنا بالتفكير في خلقه الدال عليه وعن مصعب بن عبد الله الزبيرى قال كان مالك بن أنس يقول الكلام فى الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأى جهم والقدر وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل وقال أيضاً في الكتاب نفسه وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب كلام أبداً ولا نكاد نرى أحداً =
٣٣٦
نظر في الكلام إلا وفى قلبه دغل وقال مالك أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أبدع دينه كل يوم لدين جديد قال أبو بكر تناظر القوم وتجادلوا فى الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد لأنه يؤدى إلى الانسلاخ من الدين ألا ترى إلى مناظرة بشر فى قوله عز وجل ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم حين قال هو بذاته فى كل مكان فقال له خصمه فهو في قلنسوتك وفى حشك وفى جوف حمار تعالى الله عما يقول حكى ذلك وكيع رحمه الله وأنا والله أكره أن أحكى كلامهم فمن هذا وشبه نهى العلماء
من كتاب التمهيد للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق
وقد جاء فيه أيضا عن شيخ الإسلام الهروى المتوفى سنة ٤٨١ هـ
وأخرج عن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون فى القدر فخرج مغضباً حتى وقف عليهم فقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضاً ما عرفتم منه فاعملوا به وماتشابه فآمنوا به وأخرج عن أبي هريرة قال و خرج علينا رسول الله عل ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه ثم قال أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا وأخرج عن أبي الدرداء وأبي أمامة وأنس بن مالك ووائلة بن الأسقع قالوا خرج إلينا رسول الله لا ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم انتهرنا قال يا أمة محمد ! لا تهيجوا على أنفسكم ثم قال أبهذا أمرتكم أو ليس عن هذا نهيتكم إنما هلك من كان قبلكم بهذا ثم قال ذروا المراء لقلة خيره ذروا المراء فإن نفعه قليل وبهيج
العداوة بين الإخوان ذروا المراء فإن المراء لا تؤمن فتنته ذروا المراء فإن المراء يورث الشك ويحبط العمل ذروا المراء فإن المؤمن لا يمارى ذروا المراء فكفي بك إثماً الاتزال ممارياً ذروا المراء فإن المارى لا أشفع له يوم القيامة ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في وسطها وربضها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ذروا المراء فإنه أول ما نهانى الله عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ذروا المراء فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد ولكن رضى بالتحريش وهو المراء في الدين ذروا المراء فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة
۳۳۷
فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها
فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة فمنه نشأ علم الكلام وأهله ۸
الله
وإن أمتى ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم قالوا يا رسول ومن السواد الأعظم قال من كان على ما أنا عليه وأصحابى ثم قال إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ولا يمارون في دین ۸ تحدث الإمام الغزالى عن علم الكلام غير مرة فى كثير من كتبه وتحدث في و الإحياء عن الآراء في كونه حلالا أم حراماً ثم قال
الله اهـ
وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصاً الفرد وكان من متكلمى المعتزلة يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه
بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه وقال أيضاً قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظنته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ماعدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام وحكى الكرابيسى أن الشافعي رضى الله عنه سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه أخزاهم الله ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد فقال له من أنا فقال حفص الفرد لا حفظك الله ولارعاك حتى تتوب مما أنت فيه
وقال أيضاً لو علم الناس ما فى الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد وقال أيضاً إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام
ولا دين له
٣٣٨
فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله تعالى إليه فأحسنوا الذب عن السنة والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة والتغبير في وجه ما أحدث من
البدعة
ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم
قال الزعفرانى قال الشافعي حكمى فى أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ الكلام وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبداً ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفى قلبه دغل وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبى مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة وقال له ألست تحكى بدعتهم أولا ثم ترد عليهم ! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر فى تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأى والبحث
وقال أحمد رحمه الله علماء الكلام زنادقة وقال مالك رحمه الله أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أبدع دينه كل يوم لدين جديد يعنى أن أقوال المتجادلين لن تتفاوت
وقال مالك رحمه الله أيضاً لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء فقال بعض أصحابه في تأويله إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أى مذهب كانوا وقال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق
وقال الحسن لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا
ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه
وقالوا و ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر لذلك قال النبي ه هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون أى المتعمقون فى البحث والاستقصاء جدلا واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله ويعلم طريقه ويثنى عليه وعلى أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا عن القدرة وعلى هذا استمر الصحابة رضى الله فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة
عنهم
۳۳۹
واضطرهم إلى تسليمها أما التقليد أو إجماع الأمة أو مجرد القبول من القرآن والأخبار
وكان أكثر خوضهم فى استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذاتهم بلوازم مسلماتهم وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلا فلم يكن الكلام فى حقى كافياً ولا لدالي الذي كنت أشكوه شافياً ۹ نعم لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها لكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة فى اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيرى بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولا مشوباً بالتقليد فى بعض الأمور التي ليست من
الأوليات
والغرض الآن حكاية حالى لا الإنكار على من استشفى به فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء وكم من دواء ينتفع به مريض و يستضر به آخر
٩ وتحدث الإمام الغزالي في الإحياء أيضاً عن منفعة علم الكلام وفائدته معبراً بهذا النص عن رأيه الخاص فقال
وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهى عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود
٣٤٠
الفلسفة
أحاصيلها ما يذم منها وما لا يذم وما يكفر قائله ولا يكفر وما يبدع فيه وما لا يبدع وبيان ما سرقوه من كلام أهل الحق ومزجوه بكلامهم لترويج باطلهم في درج ذلك وكيفية حصول نفرة النفوس من ذلك الحق وكيفية استخلاص صراف الحق الخالص من الزيف والبهرج من
جملة كلامهم ثم إلى ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام - بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوى أعلمهم في أهل ذلك العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً ولم أر أحداً
من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم - حيث اشتغلوا بالرد عليهم – إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بعاقل علمى فضلا عمن يدعى دقائق العلوم فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه في عماية رمی
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ وأقبلت على ذلك في أوقات فراغى من التصنيف والتدريس فى العلوم الشرعية وأنا ممنو ١٠ بالتدريس والإفادة
۱۰ مبتلى
٣٤١
الثلثمائة من الطلبة ببغداد
فأطلعنى الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة فى هذه الأوقات المختلسة على منتهى علومهم فى أقل من سنتين ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس وتحقيق وتخيل اطلاعاً لم
أشك فيه
فاسمع الآن حكايته وحكاية حاصل علومهم فإني رأيتهم أصنافاً ورأيت علومهم أقساماً وهم - على كثرة أصنافهم – يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين وبين الأواخر منهم والأوائل
تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه
أصناف الفلاسفة وشمول وصمة الكفر كافتهم
اعلم أنهم - على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم – ينقسمون إلى ثلاثة
أقسام
الدهريون
والطبيعيون
والإلهيون
الصنف الأول الدهريون ۱۱ وهم طائفة من الأقدمين جحدوا
۱۱ بعد أن ذكر سنتلانا كلام اليعقوبي والغزالى عن الدهرية قال و فإنا لو حاولنا استنباط الأصول التي اعتمدها اليعقوبي والغزالى فيها ذكراه فى حق الدهرية وجدنا أرسطو يقول في كتاب السماء والعالم حاكياً عن أنباذو قليس
٣٤٢
۱
الصانع المدير العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك
إن هذا العالم لم يحدثه أحد من الآلهة ولا من البشر بل كان أبداً اهـ ثم قال أرسطو في المقدمة الثالثة من كتاب السماء ما نصه
أما من ذهب إلى قول أنبا ذو قليس وديموقريطس فإنه قال إن الأركان لم تحدث باستحالة بعضها في
بعض بل لا حدوث إلا فى الظاهر فإنها موجودة على حدتها فتفرق بعد الاجتماع اهـ ثم قال في كتاب الفساد والتكوين فى المقالة الأولى وعندهم أن الأركان إذا اجتمعت فقد تحدث الأجسام وإذا افترقت فسدت الأجسام وعندهم أيضاً أن الوجود لا يصير أبداً إلى العدم اهـ وقال ديوجانس في تاريخ الحكماء ورأيهم أن العدم لا يحدث منه شيء وأن الوجود لا يصير إلى العدم اهـ فإذا ما قابلنا هذه النصوص بما في تاريخ اليعقوبي وجدناها مطابقة فصلا فصلا لما ذكره
من مذهب الدهريين فتقرر حينئذ أن الدهرية عند العرب هم شيعة ديموقريطس و أنباذو قليس وأن الطبيعيين هم بقية الأقدمين من الفلاسفة
ومذهب ديموقريطس هو الغاية القصوى في فلسفة اليونان أواخر العصر الأول
اقتبس منه الأشاعرة قولهم بالجزء الذي لا يتجزأ
ومنه أخذ النظام من متكلمى المعتزلة قوله بالكون
ومنه أخذ
جم غفير من الملاحدة والطبيعيين قولهم فى إنكار البارى ووحدة الوجود فمن طابق قول ديموقريطس بما عليه الطبيعيون من الفلاسفة في عصرنا هذا لما وجد بين القولين تفاوتاً اللهم إلا مانشاً عن تقدم العلوم في زماننا
والحق أن من اقتصر على الطبيعيات ولم يقل بغير المحسات لا يسعه إلا الاقتفاء والتحلى بشعائرهم مع أن من تبصر في عواقب الأمور تحقق أن مثل هذا الرأى لا يفضي في كل زمان إلا
لإنكار الحقائق وهدم دعائم العقل ا هـ سنتلانا المذاهب الفلسفية مخطوط مكتبة الجامعة ۱ إن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن الأغلبية العظمى من الفلاسفة ومن العلماء في جانب
الإيمان
والإلحاد في جو الفلاسفة وجو العلماء شذوذ
ومما لاشك فيه أن عباقرة الفلسفة القدماء منهم والمحدثين مؤلهون فسقراط وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وديكارت من المؤلمين
٣٤٣
وإذا كان الإلحاد الفلسفي شذوذاً فإن ذلك لا ينفى أنه حقيقة موجودة وأن له ممثلين باستمرار وهم - على حد تعبير الإمام الغزالي - جحدو الصانع المدير العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطقة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون أبداً وديموقريطس فى العهد اليونانى هو الذى حاول بكل جهده أن يقيم من الإلحاد مذهباً ! وكانت فكرته
هی
أن المادة قديمة وهى مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهذه الأجزاء أو الذرات دائمة التحرك في الفضاء اللانهائى ومن اجتماعها تتكون الأجسام وبافتراقها تفنى وهكذا استمر الأمر من الأزل وسيبقى إلى الأبد بدون غاية ولا هدف إنها الآلية البحتة
وهذه الفكرة وإن كانت قديمة فإنها فكرة كل من يتخذ الإلحاد مذهباً في العصور الحديثة وإن اختلفت كيفيات التعبير عنها إنها فكرة الماديين المحدثين كما كانت فكرة القدماء ولم يغير من جوهرها تحطيم الذرة أو تفتيتها اللهم إلا في كيفية التعبير عنها وقد رد القدماء في سهولة وفى قوة على هذا المذهب وكذلك فعل المحدثون وكانت حجتهم من الدقة ومن الإحكام بحيث تجعل المتأمل فيها لا يتأتى له أن يقول بغيرها وقد لخص حجج القدماء الأستاذ سانتلانا فى المخطوط المعنون بعنوان و المذاهب الإسلامية ونحن نورد تلخيصه الرائع فيم يلى ۱ وأما القول بالطبيعة وأن لا شيء غيرها فهو لا يرضى العاقل المتبصر ! كأنه يقول أنا لا أنازع فى كون الطبيعة والحركة من أصول الموجودات وإنما توقفت في كيفية صدور الفعل
منها
نعم
فلو لم يكن هناك مادة تتحرك من الأبد إلى الأبد فمن أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب
والترتيب الغريب الذى حارت فيه العقول وقصرت عن إدراكه الفحول كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والصدفة ومجرد البخت ليت شعرى كيف اجتمعت تلك الأجزاء وكيف تألفت على اختلاف أشكالها وتباين موادها وقواها !! وكيف بقيت على تألفها ! وكيف تجددت على نمط واحد المرة بعد المرة ! !
وقد شهدت المعاينة بأن حركات أجزاء لانهاية لها ولا محرك لا تفضى إلا إلى غاية الالتباس وعدم
القيام !
٣٤٤
هذا العمرى كمثل من وضع حروف المعجم فى ظروف أو صندوق ثم جعل يحركها يوماً بعد يوم طمعاً منه أنها تتألف من تلقاء نفسها فيتركب منها قصيدة بليغة أو رسالة عميقة في المنطق أو كتاب في
الهندسة دقيق ! !
أليس ذلك من السفه البين فإنه لو دام على تحريكها السنين والدهور لما حصل من كده إلا على
حروف ! !
فكيف يتصور حدوث هذا الوجود العالم بما هو عليه من الإتقان والإحكام وتضافر الأجزاء وعجيب مناسباتها بعضها لبعض من حركات اتفاقية فى خلاء لانهاية له !! قال أرسطو في كتاب سمع الكيان
إن كل نظام يدل على وجود العقل ب وفضلا عن هذا فإن ما يحصل اتفاقاً لا يحصل إلا مرة واحدة ولا يتكرر ولا يسوغ بناء حكم عقلى عليه ولا يقبل القياس بخلاف ما شهدت به التجربة في عالمنا من الثبوت ولولا هذا لما أمكن إنشاء علم من العلوم الرياضية والطبيعية
حـ هذا وإذا فرضنا وجود مجرد الطبيعة ولا شيء سواها فمن أين هذه القوة العقلية التي يجدها كل واحد من نفسه ! ! وهى - مع ما فيها من العجز والقصور وكثرة الخطأ - من أظهر هذه الشواهد على وجود ما يخالف
مجرد المادة في هذا العالم ولا سبيل من المادة إلى الأفعال العقلية لما بينها من المغايرة الأصلية فوجود هذه القوة يستدعى وجود جوهر يجانسها ويماثلها ليكون أصلا لها ومركزاً هل يحتمل مانشاهده من تصور المعقولات والكشف عن الكليات وتفريق القضايا وتركيب القياسات ليس هو فى نفس الأمر إلا اصطكاك جزء من المادة بجزء آخر ! !
هل يحتمل أن ما تضمنته عقولنا من الأبحاث الدقيقة والمآخذ العميقة كالمنطق والرياضيات والإلهيات وما فتنت به القلوب من الشعر الرائق والمطرب من الألحان وسحر البيان أصله من تلك الأجزاء ! وكانبعاث النار من اصطكاك الحجر وذلك في خصوص النار إذ ليس بين مادة النار ومادة الحجر فرق
د إن المادة غير قادرة على أن تكون علة نفسها فمن باب أحرى وأولى أنها لا تكون علة لما هو أعلى منها مكاناً وأهم شأناً في درجة الوجود وإلا كان الأخس أصلا لما هو أرفع وهذا ما تبعده وتأنفه
٣٤٥
بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان
كذلك كان وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة ١٣
والصنف الثانى الطبيعيون وهم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة
وعن عجائب الحيوان والنبات
وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات
حكمته
فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى وبدائع ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ولا يطالع التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضرورى
الفطرة السليمة ۱۳ يقول ستلانا أيضا
ه من تبصر في عواقب الأمور تحقق أن مثل هذا الرأى لا يفضى فى كل زمان إلا إلى إنكار الحقائق وهدم دعائم العقل كيف لا ومن قال إنه ليس فى الوجود إلا لمحس ولاشيء سواه كيف يمكن له أن يحكم بالوجود
وقد أصاب المحقق ناصر الدين الطوسى في شرح المحصل حيث قال نقلا عن أرسطو وغيره الحس إدراك فقط
والحكم تأليف بين مدركات بالحس أو بغير الحس وليس من شأن الحس التأليف الحكمى لأنه إدراك فقط فلا شيء من ا الأحكام محسة أصلا فإذن كل ماهو محس لا يمكن أن يوصف من حيث كونه محسنا بكونه يقينياً أو غير يقيني أو حقا أو باطلاً أو صواباً أو غلطاً فإن جميع هذه الأوصاف من لو احق الأحكام اهـ وهو واضح لمن تحقق ماهية الحس
وأنه مقصور بالضرورة على خصوص المدرك لا يتعداه
على أن المدرك والمدرك لا زالا يتغيران فكيف يحكم به على غيره وكيف نبنى عليه حكماً عقليا وكيف نبني على حقيقته إذ كل ذلك موقوف على ما هو غير الحس فإنى إذا تصورت مثلا أني قد سمعت الصوت فقد تجاوزت حد الإدراك الحسي وأدخلت فيه حكماً عقليا ليس له بالحس تعلق
فكل فلسفة مقصورة على مجرد الحس لا يكون منها حينئذ إلا الشك في الحقائق كما وقع في اليونان في
أثناء القرن الرابع قبل الميلاد
٣٤٦
بكمال تدبير البانى لبنية الحيوان لا سما بنية الإنسان
ظهر عندهم
لاعتدال
إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة - المزاج -- تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والحشر والنشر والقيامة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام وهؤلاء أيضاً زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم
الآخر وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر وإن آمنوا بالله وصفاته الصنف الثالث الإلهيون وهم المتأخرون منهم مثل سقراط ١٤ وهو
١٤ سقراط من أشهر فلاسفة الإغريق ومؤسس فلسفة الأخلاق وإلى مدارسه الأخلاقية التي شادها تلاميذه من بعده ترجع أكثر الفكر الأخلاقية التي عرفتها فلسفات العصور حتى عصرنا هذا عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد وجاهد في سبيل الحق حتى لقى مصرعه على أيدى حاسديه من أنصار الباطل فكان مصرعه مأساة دامية لا تزال حتى اليوم تثير أشجان أنصار الحق في كل زمان ومكان وتوحى إلى أنفسهم بأسمى مثل البطولة والشجاعة والثبات على الحق ومنهجه في البحث مشهور والحديث التالى يعطينا صورة منه وقد جرى بينه وبين أرسطو ديموس الذي
كان ينكر الإله ومنه نستبين أيضاً بعض أفكاره
قال سقراط أفى الناس من يعجبك براعته في الصنائع فقال
نعم وسمى من الشعراء والمصورين ممن كان يعده أبرع من غيره فقال سقراط أيهما عندك أرفع شأناً أمن يصنع التماثيل العارية عن الحركة والعقل أم من يصور الأشباح الحية المتحركة
فقال من يصنع الصور الحية اللهم إلا إذا كانت تلك الصور من عمل المصادفة والاتفاق لامن عمل العقل قال سقراط إذا فرضنا أشياء لا يظهر المقصود منها وأشياء أخرى بينة القصد والمنفعة فما
٣٤٧
أستاذ أفلاطون و أفلاطون أستاذ أرسطاطاليس
و أرسطاطاليس هو الذى رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل وأنضح لهم ما كان من علومهم وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم وكفى الله المؤمنين القتال
بتقاتلهم ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون ١٥ وسقراط ومن كان قبله من الإلهيين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم إلا أنه استبقى أيضاً من
قولك في تلك الأشياء ماهي التي عندك من فعل العقل وماهي التي عندك من فعل الاتفاق قال لاشك أن ماظهر قصده ومنفعته من فعل العقل
قال سقراط أولست ترى أن صانع الإنسان فى أول نشأته جعل له آلات الحس لما في تلك الآلات من المنفعة الظاهرة فأعطاه البصر والأذنين ليبصر ويسمع ما يكون لعيشه صادقاً وما فائدة الروائح لو لم
تكن لنا الخياشيم وكيف ندرك المطاعم ونفرق بين المر والحلو والمز لو لم يكن لسان نذوق به إن بصرنا معرض للآفات أو لست ترى كيف اعتنت القدرة الإلهية بذلك فجعلت الأجفان كالأبواب لمنع ما يصيب البصر وجعلت الأهداب كالمناخل لتقيها من اضرار الرياح وما قولك في آلة السمع وهى الأصوات ولا تمتلى أبداً أما رأيت الحيوانات كيف رتبت أسنانها المقدمة وأعدت لقطع
تقبل جميع الأشياء فتلقيها إلى الاضراس فندقها دقا فإذا تأملت في ترتيب ذلك أيمكنك أن تشك هل هي من فعل الاتفاق أو من فعل العقل قال أرسطو ديموس نعم إذا تفكرنا في ذلك لانشك في أنها من فعل صانع حكيم كثير العناية بمصنوعاته من مخطوط سنتلانا ١٥ فيلسوف يونانى ولد سنة ٤٢٩ وتوفى سنة ٣٤٧ ق م ويطلق عليه أفلاطون الإلهى ذلك أن الروحانية تحتل من فلسفته المركز الرئيسي ونظريته في المثل وعلى رأسها مثال الخير مشهورة وقد ترجم من كتبه إلى العربية حديثاً بعض المحاورات وكتاب الجمهورية
٣٤٨
رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا و الفارابي وأمثالهما على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس ١٦ أحد من متفلسفة الإسلاميين
كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل ومجموع ما عندنا فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في صح
من
ثلاثة أقسام
۱ - قسم يجب التكفير به
- وقسم يجب التبديع به
٣ - وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله
أقسام علومهم اعلم أن علومهم - بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستة أقسام
رياضية ومنطقية
6
وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية
1 - أما الرياضية فتتعلق بغلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً بل هي أمور برهانية لا
١٦ أرسطو ٣٨٤ - ٢٢٢ ق م هو أعلم فلاسفة اليونان الأقدمين ويعده بعض الناس أعظم شخصية فلسفية وجدت حتى الآن وهو مقدونى الأصل رحل إلى أثينا وتتلمذ على أفلاطون ولازمه ويسمى أتباعه بالمشائين ويلقب هو بـ المعلم الأول لأنه أول من رتب المنطق ونظمه وكونه علماً له حدوده وأهدافه وقد طلب إليه الملك فيليبس المقدوني تعليم ابنه الإسكندر فأخذ يعلمه ثلاث سنوات وقد ترجم إلى العربية حديثاً من كتبه كتاب و الأخلاق و الكون والفساد و السياسة ترجمها الأستاذ أحمد لطفى السيد وترجم له الأستاذ الاهواني كتاب النفس
٣٤٩
سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها
وقد تولدت منها آفتان
الآفة الأولى أن من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفى وثاقة البرهان كذا العلم ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تداولته الألسنة فيكفر بالتقليد المحض ويقول لو كان الدين حقا لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم ! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم فيستدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا القدر ولا مستند له
سواه !
وإذا قيل له الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلا بالنحو بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها فكلام الأوائل في الرياضيات برهانى وفى الإلهيات تخميني لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه فهذا إذا قرر على هذا الذى انخدع بالتقليد لم يقع منه موقع القبول بل تحمله غلبة الهوى وشقوة البطالة وحب التكايس على أن على تحسين الظن بهم في العلوم كلها فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض فى تلك العلوم
يصر
6
۱۷
۱۷ إن الرياضيات الآن لم تعد تابعة للفلسفة أو علماً من علومها وإنما هي مادة مستقلة لاغنى عنها للمجتمع الإنسانى وهى حينما ندرس لا يفكر الدارس لها في أمور الدين ولافي مبادئه ولعل وضعها
٣٥٠
فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين ولكن لما كانت من مبادئ علومهم يسرى إليه شرهم وشؤمهم فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى الآفة الثانية نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم فى الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع لم يشك في برهانه لكن اعتقد أن الإسلام مبنى على الجهل وإنكار البرهان القاطع فازداد للفلسفة حباً وللإسلام بغضا
6
ولقد عظمت على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه
العلوم
وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفى والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية وقوله عليه السلام
إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينخسفان لموت أحد
ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة هذا إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعها أو مقابلتهما على وجه الخصوص
ليس
أما قوله عليه السلام لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له فليس توجد
هذه الزيادة في الصحاح أصلا
فهذا حكم الرياضيات وآفتها
في أيام الإمام الغزالي كان غير وضعها الآن وما من شك فى أن الإمام الغزالى - وهو واسع | لو عاش بيننا الآن لما قال ذلك
الأفق مستنير -
٣٥١
٢ - وأما المنطقيات فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه
وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد وإما تصديق وسبيل معرفته
البرهان
وليس في هذا ما ينبغى أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشعيبات ومثال كلامهم فيها قولهم إذا ثبت أن كل ا ب لزم أن بعض ب ا أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية وأي تعلق لهذا بمهمات الدين حتى يجحد وينكر فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره – عند أهل المنطلق – إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على هذا الإنكار
نعم لهم نوع من الظلم فى هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما
أمكنهم الوفاء بتلك الشروط بل تساهلوا غاية التساهل
وربما ينظر في المنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً فيظن أن ما
ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين فاستعجل بالكفر قبل
الانتهاء إلى العلوم الإلهية
فهذه الآفة أيضاً متطرقة إليه
٣٥٢
- وأما علم الطبيعيات فهو بحث عن عالم السموات وكواكبها وما
تحتها من الأجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار ومن الأجسام المركبة كالحيوان والنبات والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها وذلك يضاهى بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة وأسباب استحالة مزاجه وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها فى كتاب تهافت الفلاسفة وما عداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها
وأصل جملتها أن تعلم أن الطبيعة مسخرة الله تعالى لا تعمل بنفسها بل هي مستعملة من جهة فاطرها والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته - وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم فما قدروا على الوفاء بالبراهين على
ما شرطوه فى المنطق ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين على ما نقله
الفارابي
۱۸
۱۸ الفارابي ٢٦٠ - ۳۹ ولد فى فاراب وهو إقليم فارسى فى تخوم بلاد الترك رحل إلى بغداد ثم استقر به المقام في كنف سيف الدولة يعيش عيشة الزهد موجها كل همه إلى الدراسة والتأمل يقول ابن خلكان وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون - غالباً - إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض ويؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه وكان الفارابي يحسن الموسيقى تلحيناً وتوقيعاً حق ليحكى ابن خلكان أن الآلة الموسيقية القانون إنما هي من وضعه وقد أطلق عليه المسلمون المعلم الثانى كما أطلق على أرسطو المعلم الأول وتقدير المؤرخين متفاوت فمنهم من يقدمه على ابن سينا ومنهم من يقدم ابن سينا عليه قضية التصوف المنقذ الضلال من
٣٥٣
وابن سينا ١٩
ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشرة
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت أما المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافة المسلمين وذلك في قولهم
1 - إن الأجساد لا تحشر
۰
6
وإنما المثاب
6
والمعاقب هي الأرواح
المجردة والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية
١٩ ابن سينا ٣٧٠ - ٤٢٨ هـ كان فيلسوفاً عظيماً من فلاسفة الإسلام كما كان له في الطب قدم راسخة وفهم دقيق وقد ألف فيه كتاب القانون الذى كان يدرس في معاهد أوربا عدة قرون أما كتبه الفلسفية فكثيرة ومتداولة ومن أشهرها كتاب الإشارات وكتاب الشفاء وكتاب النجاة ۰ لعل من الإنصاف الذى يدعو إليه دائما الإمام الغزالي أن نذكر رأى ابن رشد في المسائل الثلاث التي كفر بها الإمام الغزالى الفلاسفة تذكر رأى ابن رشد مختصراً عن كتابي فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة يقول
ابن رشد
والمعاد مما اتفقت على وجوده الشرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء وإنما اختلفت الشرائع في صفة وجوده ولم تختلف فى الحقيقة فى وجوده وإنما اختلفت فى الشاهدات التي مثلت بها للجمهور
والنفوس
عند
تلك الحال الغائبة وذلك أن من الشرائع من جعله روحانيا أعنى للنفوس ومنها من جعله للأجسام والاتفاق في هذه المسألة مبنى على اتفاق الوحى فى ذلك واتفاق قيام البراهين الضرورية عند الجميع فى ذلك أعنى أنه قد اتفق الكل على أن للإنسان سعادتين أخروية ودنيوية وانبني ذلك الجميع على أصول يعترف بها عند الكل ثم أخذ ابن رشد في بيان هذه الأصول من العقل والنقل ثم قال فالشرائع كلها كما قلنا متفقة على أن للنفس من بعد الموت أحوالا من السعادة أو الشقاء ولكنها مختلفة في تمثيل هذه الأحوال وتفهيم وجودها للناس ويشبه أن يكون التمثيل الذى في شريعتنا هذه أتم إفهاما لأكثر الناس وأكثر تحريكاً النفوسهم إلى ما هنالك والأكثرون هم المقصود الأول بالشرائع
٣٥٤
ولقد صدقوا في إثبات الروحانية فإنها كائنة أيضاً
ولكن كذبوا في إنكار
الجسمانية وكفروا بالشريعة فما نطقوا به
وأما التمثيل الروحانى فيشبه أن يكون أقل تحريكا لنفوس الجمهور إلى ما هنالك والجمهور أقل رغبة فيه وخوفاً له منهم في التمثيل الجسماني ولذلك يشبه أن يكون التمثيل الجسماني أشد تحريكاً إلى ما ما هنالك من الروحاني والروحانى أشد قبولا عند المتكلمين المجادلين من الناس وهم الأقل ولهذا المعنى نجد أهل الإسلام - فى فهم التمثيل الذى جاء في ملتنا في أحوال المعاد - ثلاث فرق فرقة رأت أن ذلك الوجود هو بعينه هذا الوجود الذى ههنا من النعيم واللذة أعنى أنهم رأوا أنه واحد بالجنس وأنه إنما يختلف الوجودان بالدوام والانقطاع أعنى أن ذلك دائم وهذا منقطع وطائفة رأت أن الوجود متباين وهذه انقسمت قسمين طائفة رأت أن الموجود الممثل بهذه المحسات هو روحاني وأنه إنما مثل به إرادة البيان ولهؤلاء حجج كثيرة من الشريعة مشهورة فلا معنى لتعديدها وطائفة رأت أنه جسماني لكن اعتقدت أن تلك الجسمانية - الموجودة هنالك - مخالفة لهذه الجسمانية لكون هذه بالية وتلك باقية ولهذه أيضاً حجج من الشرع
ويشبه أن ابن عباس يكون ممن يرى هذا الرأى لأنه روى عنه أنه قال
ليس في الدنيا من الآخرة إلا أسماء ويشبه أن يكون هذا الرأي هو أليق بالخواص وذلك أن إمكان هذا الرأى ينبنى على أمور ليس فيها منازعة عند الجميع أحدها أن النفس باقية والثاني أنه يلحق عن عودة النفس إلى أجسام أخر المحال الذى يلحق عن عودة تلك الأجسام
بعينها
وذلك أنه يظهر أن مواد الأجسام التي ههنا توجد متعاقبة ومنتقلة من جسم إلى جسم أعنى أن المادة الواحدة بعينها توجد لأشخاص كثيرة وفى أوقات مختلفة وأمثال هذه الأجسام ليس يمكن أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة مثال ذلك أن إنساناً مات واستحال جسمه إلى التراب واستحال ذلك التراب إلى نبات فاغتذى إنسان آخر من ذلك النبات فكان منه منى حين تولد منه إنسان آخر وأما إذا فرضت أجسام أخر فليس تلحق هذه الحال والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها بعد أن يكون نظراً لا يفضى إلى إبطال الأصل جملة وهو إنكار الوجود جملة فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه
لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلوماً للناس بالشرائع والعقول
٣٥٥
٢ - ومن ذلك قولهم إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ۱
وهذا أيضاً كفر صر صريح
السموات
بل الحق أنه لا يعرب عن علمه مثقال ذرة في
ولا في الأرض
٣ - ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد إلى شيء من هذه المسائل
من المسلمين
۱ يذكر ابن رشد عن الإمام الغزالي قوله إن الفلاسفة يرون أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات ثم يقول ليس الأمركما توهم عليهم بل يرون الفلاسفة أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من
شرطه الحدوث بحدوثها إذ كان علم الله علة لها لا معلولا عنها كالحال فى العلم المحدث وهذا هو غاية التنزيه الذى يجب أن يعترف به فإنه قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء لأن صدورها عنه إنما هو من جهة أنه عالم لا من جهة أنه موجود فقط أو موجود بصفة كذا بل من جهة أنه عالم كما قال تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها يعلم هو على صفة العلم المحدث فواجب أن يكون هنالك للموجودات علم آخر لايكيف وهو علم القديم سبحانه وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات أنه وهم يرون سبب الإنذارات فى المنامات والوحى وغير ذلك من أنواع الإلهامات يقول ابن رشد وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه فإن الاختلاف فيها عندى – بين المتكلمين من الأشعرية ا وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعاً للاختلاف في التسمية وبخاصة عند بعض القدماء وذلك أنهم اتفقوا على أن مهنا ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة بين الطرفين فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا فى الواسطة
فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره وعن شيء أعنى عن سبب فاعل ومن مادة والزمان متقدم عليه - أعنى على وجوده - وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكوينها بالحس مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة
وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء ولا تقدمه زمان وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً وهذا الموجود مدرك بالبرهان وهو الله تبارك وتعالى الذي هو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره
وأما الصنف من الموجود الذى بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه
٣٥٦
زمان ولكنه موجود عن شيء - أعنى عن فاعل - وهذا هو العالم بأسره والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه أو يلزمهم ذلك إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل
غير متناه وكذلك الوجود المستقبل وإنما يختلفون فى الزمان الماضي والوجود الماضي فالمتكلمون يرون أنه متناه وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبهاً من الوجود الكائن المحدث ومن الوجود القديم فمن غلب عليه مافيه من شبه القديم على مافيه من شبه المحدث سماه قديماً و ومن غلب عليه مافيه من شبه المحدث سيماه محدثاً وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً فإن المحدث الحقيقى فاسد ضرورة والقديم الحقيقى ليس له علة
ومنهم من سماه محدثاً أزليا وهو أفلاطون وشيعته لكون الزمان متناهياً عندهم من الماضي فالمذاهب فى العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها أو لا يكفر فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون فى الغاية من التباعد أعنى أن تكون متقابلة كما ظن المتكلمون في هذه المسألة أعنى أن اسم القدم والحدوث في العالم بأسره هو من المتقابلة وقد تبين من قولنا إن الأمر ليس كذلك
وهذا كله
أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من مع الآيات الواردة ففى الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين - أعنى غير منقطع وذلك أن قوله تعالى وهو الذى خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء يقتضى بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود - وهو العرش – والماء - وزماناً قبل هذا الزمان أعنى المقترن بصورة هذا الوجود الذى هو عدد حركات الفلك وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات يقتضى بظاهره أن وجوداً ثانيا بعد هذا الوجود وقوله تعالى
ر ثم استوى إلى السماء وهى دخان يقتضى بظاهره أن السموات والأرض خلقت من شيء والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضاً فى العالم على ظاهر الشرع بل متأولون فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض ولا يوجد هذا فى نص أبدا فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذى قلناه عن الشرع فى وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء ويشبه أن يكون المختلفون فى هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم فى النفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعنى أنه ليس لنا أن نصدق أو لا نصدق كما لنا أن نقوم أولا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار
٣٥٧
٤ - وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم إنه عليم بالذات لا بعلم زائد على الذات وما يجرى مجراه فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك
وقد ذكرنا في كتاب فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ما يتبين فيه
فساد رأى من يسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه ه - وأما السياسات فمجموع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية والإيالة السلطانية وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء
٦ - وأما الخلقية فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها وإنما أخذوها من كلام الصوفية وهم المتأهلون المثابرون على ذكر الله تعالى وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا وقد انكشف لهم فى مجاهدتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا بها فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم توسلا بالتجمل بها إلى ترويج باطلهم ولقد كان في عصرهم بل في كل عصر جماعة من المتألهين لا يخلى
فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه الصلاة
والسلام
ه إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجره
وأى حاكم
أعظم من الذى يحكم على الوجود بأنه كذا أو ليس بكذا وهؤلاء الحكماء
هم
العلماء
الله بالتأويل
خصهم
٣٥٨
الله سبحانه العالم عنهم فإنهم أوتاد الأرض ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل
الأرض كما ورد في الخبر حيث قال عليه السلام بهم تمطرون
ترزقون ومنهم كان أصحاب الكهف
وكانوا في سالف الأزمنة
على ما نطق به القرآن
فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان
- آفة في حق القابل
٢ - آفة في حق الراد
وبهم
- أما الآفة التى فى حق الراد فعظيمة إذ ظنت طائفة الضعفاء أن
من
أن
ذلك الكلام إذا كان مدوناً في كتبهم وممزوجاً بباطلهم ينبغى يهجر ولا يذكر بل ينكر على كل من يذكره إذ لم يسمعوه أولا إلا منهم فسبق إلى لأن قائله مبطل كالذي يسمع من النصراني
باطل
عقولهم الضعيفة أنه قول لا إله إلا الله عيسى رسول الله فينكره ويقول هذا كلام النصراني ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصرانى كافر باعتبار هذا القول أو اعتبار إنكاره نبوة محمد - عليه السلام - فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره ينبغي أن يُخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه وإن كان أيضاً حقا عنده وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق
فلا
والعاقل يقتدى بقول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال و لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله والعاقل يعرف الحق ثم ينظر فى نفس القول فإن كان حقا قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل
٣٥٩
الضلال عالماً بأن معدن الذهب الرغام ۳ ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج مهما كان واثقاً ببصيرته وإنما يزجر عن معاملة القلاب القروى دون الصيرفى البصير ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق ويصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع
ولعمرى لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة وكمال
في زجر
الكافة
الباب
العقل في تمييز الحق عن الباطل والهدى عن الضلالة وجب حسم عن مطالعة كتب أهل الضلالة ما أمكن إذ لا يسلمون من الآفة الثانية التي سنذكرها وإن سلموا عن الآفة التي ذكرناها ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين طائفة من الذين لم تستحكم فى العلوم سرائرهم ولم تتفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل ٢٤ مع أن بعضها من
مولدات الخواطر ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر
وبعضها يوجد فى الكتب الشرعية
وأكثرها موجود معناه فى كتب الصوفية
وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم فإذا كان ذلك الكلام معقولا في نفسه مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة فلم ينبغي أن يهجر أو
ينكر
۳ الرغام التراب
٢٤ يقصد بـه الأوائل الفلاسفة القدماء
فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى أن نهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل
لزمنا أن نهجر كثيراً من الحق ولزمنا أن نهجر جملة آيات من القرآن وأخبار الرسول وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية لأن صاحب كتاب إخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه في كتبهم
وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامى الغمر ٢٥ فلا يعاف العسل وإن وجده في محجمة الحجام ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل فإن نفرة الطبع منه مبنية على جهل عامى منشؤه أن المحجمة إنما صنعت للدم المستقذر فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة ولا يدرى أنه مستقذر لصفة فى ذاته فإذا عدمت هذه الصفة فى العسل فكونه في ظرفه لا
يكسبه تلك الصفة فلا ينبغي أن يوجب له الاستقدار
باطل
وهذا وهم وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلا وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقا حقاً
وهو غالب على أكثر الخلق فمهما نسبت الكلام
فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق وهو غاية
الضلال ! !
هذه آفة الرد
٢ - آفة القبول فإن من نظر في كتبهم كإخوان الصفا وغيره فرأى
ما مزجوه بكلامهم
6
من الحكم النبوية والكلمات الصوفية
6
٢٥ رجل غمر لم يجرب الأمور
ربما
٣٦١
استحسنها وقبلها وحسن اعتقاده فيها فيسارع إلى قبول باطلبهم الممزوج
به لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه
وذلك نوع استدراج إلى الباطل ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر
والخطر
وكما يجب صون من لا يحسن السباحة عن مزالق الشطوط يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيات يجب صون الأسماع عن مختلط
تلك الكلمات
وكما يجب على المعزم ألا يمس الحية بين يدى ولده الطفل إذا علم أنه سيقتدى به ويظن أنه مثله بل يجب عليه أن يحذره بأن يحذر هو نفسه ولا يمسها بين يديه فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله وكما أن المعزم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم فاستخرج منه الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه وكذلك الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القلاب وأخرج منه الإبريز الخالص واطرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضى على من يحتاج إليه كذلك العالم
وكما أن المحتاج إلى الترياق إذا اشمأزت نفسه منه حيث علم أنه
مستخرج من الحية التى هى مركز السم وجب تعريفه والفقير المضطر إلى المال إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض هو سبب حرمانه من
الفائدة
٣٦٢
التي هي مطلبه وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً كما لا يجعل الحق باطلا كما لا يجعل الباطل حقاً فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وعائلتها
مذهب التعليم وغائلته
ثم إنى لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض وأن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً للغطاء عن جميع
المعضلات
وكانت قد نبغت نابغة التعليمية وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق عن لى أن أبحث عن مقالاتهم لأطلع على ما في كتبهم
ثم اتفق أن ورد على أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم فلم يسعنى مدافعته وصار ذلك مستحئًا من خارج ضميمة للباعث الأصلى من الباطن
فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم وكان قد بلغنى بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر لا على المنهاج المعهود من سلفهم فجمعت تلك الكلمات ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق واستوفيت الجواب عنها حتى أنكر بعض أهل الحق مبالغتي في تقرير حجتهم وقال ا سعى لهم إنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم لمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها وترتيبك إياها وهذا الإنكار من وجهة حق فلقد
هذا
٣٦٣
أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي ٢٦ رحمها الله تصنيفه في الرد
على المعتزلة فقال الحارث
الرد على البدعة فرض
فقال أحمد
نعم ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر إلى الجواب ولا يفهم كنهه
وما ذكره أحمد حق ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت
فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية نعم ينبغى ألا يتكلف لهم شبهة ولم أتكلف أنا ذلك بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إلى بعد أن كان قد التحق وانتحل مذهبهم وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم فإنهم لم يفهموا بعد حجتهم وذكر تلك الحجة وحكاها عنهم فلم أرض لنفسى أن يظن بي الغفلة عن أصل حجتهم فذلك أوردتها ولا أن يظن بي أنى وإن سمعتها فلم أفهمها فلذلك قررتها
بهم
C
٢٦ يقول عنه القشيري عديم النظير في زمانه علماً وورعاً ومعاملة وحالا بصرى الأصل مات به بغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين قال أبو عبد الله بن خفيف اقتدوا بخمسة من شيوخنا والباقون سلموا لهم حالهم الحارث بن أسد المحاسبي والجنيد بن محمد أبو محمد رويم وأبو العباس بن عطاء وعمر بن عثمان المكي لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق ومما يروى عنه قوله من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة وقد ألف كتباً كثيرة يوجد بعضها مخطوطاً في دار الكتب المصرية وفى مكتبة الجامعة وأنفس ما نعرف من كتبه كتاب الرعاية الحقوق الله وقد طبعته الآنسة مرجريت سميث وطبعناه في القاهرة طبعة متقنة وقد طبع له كتاب التوهم بالقاهرة
٣٦٤
والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية
البرهان
والحاصل أنه لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم
ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل لما انتهت البدعة
هذه الدرجة
مع ضعفها - إلى
ولكن شدة التعصب دعت الذابين عن الحق إلى تطويل النزاع معهم في مقدمات كلامهم وإلى مجاحدتهم فى كل ما نطقوا به فجاحدوهم في دعواهم الحاجة إلى التعليم والمعلم ودعواهم أنه لا يصلح كل معلم بل لابد
من معلم معصوم وظهرت حجتهم في إظهار الحاجة إلى التعليم والمعلم وضعف قول المنكرين في مقابلته فاغتر بذلك جماعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب المخالفين لهم ولم يفهموا أن ذلك لضعف ناصر الحق وجهله بطريقه بل الصواب الاعتراف بالحاجة إلى المعلم وأنه لابد أن يكون المعلم معصوماً ولكن معلمنا المعصوم هو محمد
فإذا قالوا هو ميت
فنقول فمعلمكم غائب
فإذا قالوا معلمنا علم الدعاة وبثهم في البلاد وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل
فنقول ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم في البلاد وأكمل التعليم إذ قال الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي له وبعد كمال التعليم لا يضر موت المعلم كما لا تضر غيبته فبقى قولهم كيف تحكمون فيما لم تسمعوه أبالنص ولم تسمعوه أم
٣٦٥
بالاجتهاد والرأي مظنة الخلاف وهو
فنقول نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى اليمن ٢٧ أى نحكم بالنص عند وجود النص وبالاجتهاد عند عدمه بل كما يفعله دعاتهم إذا بعدوا عن الإمام إلى أقاصى البلاد إذ لا يمكنهم أن يحكموا بالنص فإن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع غير المتناهية ولا يمكنه الرجوع في كل واقعة إلى بلدة الإمام وإلى أن يقطع المسافة ويرجع فيكون المستفتى قد مات وفات الانتفاع بالرجوع فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إلا أن يصلى بالاجتهاد إذ لو سافر إلى بلدة الإمام لمعرفة القبلة لفات وقت الصلاة إذن جازت الصلاة إلى غير القبلة بناء على الظن ويقال إن المخطئ في الاجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران فكذلك في المجتهدات
جميع
وكذلك أمر صرف الزكاة إلى الفقير وربما يظنه فقيراً باجتهاده وهو غنى باطناً بإخفاء ماله ولا يكون مؤاخذاً به وإن أخطأ لأنه لم يؤاخذ إلا بموجب
ظنه
٣٦٦
۷ حينما أراد رسول الله الله أن يبعث معاذاً قاضياً باليمن قال له
بم تقضى يا معاذ
فقال بما في كتاب الله
قال فإن لم تجد
قال بما فى سنة رسول الله
قال فإن لم تجد
قال أجتهد رأيي
فقال رسول الله الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله
فإن قال ظن مخالفه كظنه
فنقول هو مأمور باتباع ظن نفسه كالمجتهد في القبلة يتبع ظن نفسه وإن خالفه غيره
وإن قال فالمقلد يتبع أبا حنيفة والشافعي – رحمها الله – أم غيرهما فأقول فالمقلد في القبلة عند الاشتباه إذ اختلف عليه المجتهدون كيف
يصنع
فسيقول له مع نفسه اجتهاد في معرفة الأفضل الأعلم بدلائل القبلة
فيتبع ذلك الاجتهاد فكذلك في المذاهب فرد الخلق إلى الاجتهاد – ضرورة – الأنبياء والأئمة مع العلم أنهم قد يخطئون بل قال رسول الله عليه الصلاة والسلام أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود وربما أخطئوا فيه ولا سبيل إلى الأمن من الخطأ للأنبياء في مثل هذه المجتهدات
فكيف نطمع في ذلك ولهم ها هنا سؤالان
أحدهما قولهم هذا وإن صح في المجتهدات فلا يصح في قواعد
العقائد إذ المخطئ غير معذور فكيف السبيل إليه فأقول قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة وما وراء ذلك من والمتنازع فيه يُعرفُ الحق فيه بالوزن بالقسطاس المستقيم وهى
التفصيل
الموازين التي ذكرها الله تعالى فى كتابه وهى خمسة ذكرتها في كتاب
القسطاس المستقيم "
فإن قال خصومك يخالفون في ذلك الميزان
٣٦٧
فأقول لا يتصور أن يفهم ذلك الميزان ثم يخالف فيه أهل التعليم لأنى
استخرجته من القرآن وتعلمته منه
له
ولا يخالف فيه أهل المنطق لأنه موافق لما شرطوه في المنطق غير
مخالف
ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات وبه
يعرف الحق فى الكلاميات
فإن قال فإن كان فى يدك مثل هذا الميزان فلم لا نرفع الخلاف بين الخلق فأقول لو أصغوا إلى لرفعت الخلاف بينهم
لتعلم
وذكرت طريق رفع الخلاف في كتاب القسطاس المستقيم فتأمله أنه حق وأنه يرفع الخلاف قطعاً لو أصغوا ولا يصغون بأجمعهم بل قد أصغى إلى طائفة فرفعت الخلاف بينهم وإمامك يريد رفع
الخلاف بينهم مع عدم إصغائهم فلم لم يرفع إلى الآن ولم لم يرفع على رضى الله عنه وهو رأس الأئمة أو يدعى أنه يقدر على
حمل كافتهم على الإصغاء قهراً فلم لم يحملهم إلى الآن ولأى يوم أجله وهل حصل بين الخلق بسبب دعوته إلا زيادة خلاف وزيادة مخالف نعم ! كان يخشى من الخلاف نوع من الضرر ولا ينتهى إلى سفك الدماء وتخريب البلاد وإيتام الأولاد وقطع الطرق والإغارة على وقد حدث فى العالم من بركات رفعكم الخلاف ما لم يكن بمثله
الأموال
عهد
فإن قال ادعيت أنك ترفع الخلاف بين الخلق ولكن المتحير بين المذاهب المتعارضة والاختلافات المتقابلة ولم يلزمه الإصغاء إليك دون
٣٦٨
خصمك وأكثر الخصوم يخالفونك ولا فرق بينك وبينهم
في
وهذا هو سؤالهم الثانى فأقول هذا أولا ينقلب عليك فإنك إذا دعوت هذا المتحير إلى نفسك فيقول المتحير ہم صرت أولى من مخالفيك وأكثر أهل العلم يخالفونك فليت شعرى ! بماذا تجيب أتجيب بأن تقول إمامى منصوص عليه فمن يصدقك دعوى النص وهو لم يسمع النص من الرسول وإنما يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اختراعك وتكذيبك ثم هب أنه سلم لك النص فإن كان متحيراً في أصل النبوة فقال هب أن إمامك يدلى بمعجزة عيسى فيقول الدليل على صدقى أنى أحيى أباك فأحياه فناطقنى بأنه محق فبماذا أعلم صدقه ولم يعرف كافة الخلق صدق عیسى بهذه المعجزة بل عليه من الأسئلة المشكلة ما لا بدقيق النظر العقلى والنظر العقلى لا يوثق به عندك ولا يعرف دلالة المعجزة على الصدق ما لم يعرف أن الله لا يضل عباده - وسؤال الإضلال وعسر تحرير الجواب عنه مشهور - فبماذا تدفع جميع ذلك ولم يكون إمامك أولى بالمتابعة من مخالفه فيرجع إلى الأدلة النظرية التي ينكرها وخصمه يدلى بمثل تلك الأدلة وأوضح منها وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقلاباً عظيما ولو اجتمع أولهم وآخرهم على أن يجيبوا جواباً لم يقدروا عليه
يدفع
6
وإنما نشأ الفساد من جماعة من الضعفة ناظروهم فلم يشتغلوا بالقلب بل بالجواب وذلك مما يطول فيه الكلام ولا يسبق سريعاً إلى الإفهام فلا
يصلح للإفحام
فإن قال قائل فهذا هو القلب فهل عنه جواب
٣٦٩
فأقول نعم ! جوابه أن المتحير لو قال أنا متحير ولم يعين المسألة التي هو متحير فيها يقال له أنت كمريض يقول أنا مريض ولا يذكر عين مرضه ويطلب علاجه فيقال له ليس فى الوجود علاج للمرض المطلق بل لمرض معين من صداع أو إسهال أو غيرهما فكذلك المتحير ينبغى يعين ما هو متحير فيه فإن عين المسألة عرفته الحق فيها بالوزن بالموازين الخمسة التي لا يفهمها أحد إلا ويعترف بأنه الميزان الحق الذي يوثق بكل ما يوزن به
أن
فيفهم الميزان ويفهم أيضاً صحة الوزن كما يفهم متعلم الحساب نفس الحساب وكون المحاسب المعلم عالما بالحساب وصادقاً فيه وقد أوضحت ذلك في كتاب القسطاس المستقيم في مقدار عشرين
&
ورقة فليتأمل وليس المقصود الآن بيان فساد مذهبهم فقد ذكرت ذلك في كتاب المستظهرى أولا وفي كتاب حجة البيان ثانياً وهو جواب كلام لهم عرض على ببغداد وفى كتاب مفصل الخلاف الذى هو اثنا عشر فصلا ثالثاً جواب کلام عرض على بهمدان وفى كتاب الدرج المرقوم بالجداول رابعاً وهو من ركيك كلامهم الذي عرض على بطوس
D
وهو
وفى كتاب القسطاس المستقيم خامساً وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار الاستغناء عن الإمام المعصوم لمن
أحاط
به
بل المقصود أن هؤلاء ليس معهم شيء من الشفاء المنجى من ظلمات
۳۷۰
الآراء بل هم من عجزهم عن إقامة البرهان على تعين الإمام طالما جاريناهم فصدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم وأنه الذي عينوه ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها فضلا عن القيام بحلها ! فلما عجزوا أحالوا عن الإمام الغائب وقالوا إنه لابد من السفر إليه
والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب العلم وفى التبجح بالظفر به ولم يتعلموا منه شيئاً أصلا كالمتضمخ بالنجاسة يتعب في طلب الماء حتى إذا وجده لم يستعمله ووجد متضمخاً بالخبائث
ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم فكان حاصل ماذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس وهو رجل من قدماء الأوائل ومذهبه أرك مذاهب الفلاسفة وقد رد عليه أرسطاطاليس بل استرك كلامه واسترذله وهو
المحكي في كتاب إخوان الصفا وهو على التحقيق حشو الفلسفة فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يقنع بمثل ذلك العلم الركيك المستغث ويظن بأنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم ! فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا ظاهرهم وباطنهم فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوى مفحم حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال هات علمه وأفدنا من تعليمه وقف وقال الآن إذا سلمت لى هذا فاطلبه فإنما غرضى هذا القدر فقط إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى الإشكالات بل عجز عن فهمه فضلا عن جوابه
۳۷۱
فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تقلهم ۸ فلما خبرناهم نفضنا اليد عنهم
طرق الصوفية
ثم إنى لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتى على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل
وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته
بذكر الله
مطالعة
وكان العلم أيسر على من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة الجنيد ۹ عن
۸ تبغضهم
۹
ببيع
۹ سيد هذه الطائفة وإمامهم أصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق وأبوه كان الزجاج فلذلك يقال له القواريرى وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة مات سنة سبع وتسعين ومائتين ۹۷
قال الروذبارى سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة وقال أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله عز وجل فقال الجنيد إن هذا قول قوم تكلموا باسقاط الأعمال وهو عندى عظيمة والذى يسرق ويزنى أحسن حالا من الذى يقول هذا فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال الله تعالى وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البرذرة إلا أن يحال بي عن
دونها
وقال الجنيد الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام وقال من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به فى هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب
والسنة
۳۷
۳۱
والشبلي ۳۰ وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام مشايخهم حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخص خواصهم
يعلم
مالا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات وكم من الفرق بين أن حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطها وبين أن يكون صحيحاً وشبعان وبين أن يعرف حد السكر وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر وبين أن يكون سكران بل السكران لا يعرف حد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه من شيء والصاحى يعرف حد السكر وأركانه ومامعه من
السكر شيء
وقال مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة وعلمنا هذا مشيد بحديث رسول الله عن الرسالة القشيرية
۳۰ بغدادى المولد والمنشأ وأصله من أسر وشنه صحب الجنيد ومن في عصره وكان شيخ وقته حالا وظرفاً وعلماً مالكى المذهب عاش سبعاً وثمانين سنة ومات سنة أربع وثلاثين وثلثمائة وقبره
بـ بغداد
يعظمه
وكان الشبلي إذا دخل رمضان جد فوق جد من عاصره ويقول هذا شهر عظمه ربى فأنا أول من
۳۱ كان من كبار الزاهدين العابدين قيل إنه مات سنة إحدى وستين ومائتين وقيل أربع
وثلاثين ومائتين
وذهب مرة لزيارة رجل كان مقصوداً مشهوراً بالزهد فلما خرج الرجل من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه
ومن كلامه لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتقى فى الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة انظر الرسالة القشيرية
۳۷۳
والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها وهو
فاقد الصحة
كذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها وبين أن
يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا
فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ولم يبق إلا مالا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك
وكان قد حصل معى - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفى العلوم الشرعية والعقلية - إيمان يقينى بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر ! فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي لا بدليل
معين محرر بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها وكان قد ظهر عندى أنه لا مطمع فى سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف
النفس عن الهوى وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال والهرب من الشواغل
والعلائق
ثم لاحظت أحوالى فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي من
الجوانب
ولاحظت أعمالى - وأحسنها التدريس والتعليم – فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة فى طريق الآخرة ثم تفكرت في نيتي في التدريس يس فإذا
٣٧٤
هي غير خالصة لوجه الله تعالى بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت فتيقنت أنى على شفا جرف هار وأنى أشفيت على النار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال
فلم أزل أفكر فيه مدة وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً وأحل العزم يوماً وأقدم فيه أخرى لا تصدق لى رغبة فى طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل
رجلا وأؤخر عنه
عليها جند الشهوة حملة فتفترها عشية فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام ومنادى الإيمان ينادى الرحيل الرحيل فلم يبق من العمر إلا قليل وبين يديك السفر الطويل وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع فعند ذلك تنبعث الداعية وينجزم العزم على
الهرب والفرار ! !
ثم يعود الشيطان ويقول هذه حال عارضة إياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص والأمن المسلم الصافي من منازعة الخصوم ربما
التفتت إليه نفسك ولا يتيسر لك المعاودة فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعى الآخرة قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ۳ وفى هذا الشهر جاوز الأمرحد الاختيار إلى الاضطرار إذ أقفل الله على لسانى حتى اعتقل عن التدريس فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطيباً للقلوب المختلفة إلى فكان
۳ في نسخة أخرى ست وثمانين وأربعمائة
۳۷۵
لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب فكان لا ينساغ لى ثريد ولأتنهضم لى لقمة وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا
هذا أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم !
ثم لما أحسست بعجزى وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له فأجابني الذى يجيب المضطر إذا دعاه وسهل
على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر فى نفسى سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبداً واستهدفت للأئمة أهل العراق كافة إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض عما كنت فيه سبباً دينيا إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك
مبلغهم من العلم
ثم ارتبك الناس فى الاستنباطات وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة وأما من قرب من الولاة وكان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب على وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قولهم فيقولون هذا أمر سماوى وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة العلم ففارقت بغداد وفرقت ما كان معى من المال ولم أدخر إلا قدر الكفاف
٣٧٦
وقوت الأطفال ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفاً على
منه
المسلمين فلم أر فى العالم مالا يأخذه العالم لعياله أصلح ثم دخلت الشام وأقمت به قريباً من سنتين لاشغل لى إلا العزلة
والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق
وتصفية القلب لذكر الله تعالى كما كنت حصلته من علم الصوفية فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها
على نفسى
ثم رحلت منها إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها
على نفسى
ثم تحركت في داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله الله بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز
ثم جذبتنى الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه فآثرت العزلة به أيضاً حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعاش تغير في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة وكان لا يصفو لى الحال إلا في أوقات متفرقة ذلك لا أقطع طمعى منها فتدفعنى عنها العوائق وأعود إليها ودمت على ذلك مقدار عشر سنين
لكني
وانكشف لى فى أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها والقدر الذي أذكره لينتفع به أنى علمت يقيناً أن الصوفية
قضية التصوف
هم
السالكون
المنقذ من الضلال
۳۷۷
لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به
وبالجملة فماذا يقول القائلون فى طريقة طهارتها - وهى أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى
ومفتاحها - الجارى منها مجرى التحريم من الصلاة - استغراق القلب بالكلية بذكر الله
وآخرها الفناء بالكلية في الله
وهذا آخرها بالإضافة إلى مايكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها وهى على التحقيق أول الطريقة ومقابل ذلك كالدهليز
للسالك إليه
ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم
فوائد
ثم يترقى الحال
من
مشاهد الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق
النطق فلا يحاول معبر
لا يمكنه الاحتراز عنه
أن
يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ
صريح
وعلى الجملة ينتهى الأمر إلى قرب يكاد أن يتخيل منه طائفة الحلول
۳۷۸
وطائفة الاتحاد
وطائفة الوصول
وكل ذلك خطأ
وقد بينا وجه الخطأ فيه فى كتاب المقصد الأسنى بل الذي لابسته
الحالة لا ينبغى أن يزيد على أن يقول
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
وبالجملة فمن لم يرزق منه شيء بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم وكرامات الأولياء - على التحقيق - هي بدايات الأنبياء وكان ذلك أو حال رسول الله - عليه الصلاة والسلام – حيث تبتل حين أقبل إلى
جبل حراء حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب إن
محمداً عشق ربه وهذه حالة يتحققها من سلك سبيلها
معهم
الصحبة حتى
فمن لم يرزق الذوق فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً ومن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان فهم القوم لايشقى جليسهم ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان على ما ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين
والتحقيق بالبرهان علم وملابسة عين تلك الحالة ذوق والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان فهذه ثلاث
درجات !
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات را
۳۷۹
هذا
ووراء هؤلاء قوم جهال هم المنكرون لأصل ذلك المتعجبون من الكلام يستمعون ويسخرون ويقولون العجب إنهم كيف يهذون ! وفيهم
قال الله تعالى
ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواء هم كم ۳۳ لي فأصمهم وأعمى أبصارهم ٣٤
ومما بان لى بالضرورة من ممارسة طريقتهم حقيقة النبوة وخاصيتها ولابد من التنبيه على أصلها لشدة الحاجة إليها مسیس
۳۸۰
۳۳ محمد آية ١٦ ٣٤ محمد آية ٢٣
حقيقة النبوة
واضطرار كافة الخلق إليها
اعلم أن جوهر الإنسان - فى أصل الفطرة خلق خالياً ساذجاً لا خبر معه من عوالم الله تعالى والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال وما يعلم جنود ربك إلا هو
وإنما خبره في العالم بواسطة الإدراك وكل إدراك من الإدراكات خلق ليضطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ونعنى بالعوالم أجناس الموجودات فأول ما يخلق فى الإنسان حاسة اللمس فيدرك بها أجناساً من الموجودات كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها واللمس قاصر على الألوان والأصوات قطعاً بل هي كالمعدوم في
حق اللمس
ثم تخلق له حاسة البصر فيدرك بها الألوان والأشكال وهو أوسع عوالم المحسات
ثم ينفخ فيه السمع فيسمع الأصوات والنغمات
ثم يخلق له الذوق
وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسات فيخلق فيه التمييز وهو قريب من سبع سنين وهو طور آخر من أطوار وجوده فيدرك فيه أموراً زائدة على المحسات لا يوجد منها شيء فى عالم الحس
ثم يترقى إلى طور آخر فيخلق له العقل فيدرك الواجبات والجائزات
۳۸۱
والمستحيلات وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله
ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأموراً أخر العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك
المعقولات وكعزل قوة الحس عن مدركات العمييز
وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها وذلك عين الجهل إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه فيظن أنه غير
موجود في نفسه والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكى له ذلك ابتداء لم يفهمها ولم يقربها
وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما
- وقيل
في كسوة مثال يكشف عنه التعبير وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - له من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب - لأنكره وأقام البرهان على استحالته وقال القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها فبأن لا يدركها مع ركودها أولى وأحق وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمى يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات والحواس معزولة عنها فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب
وأمور لا يدركها العقل
والشك في النبوة إما أن يقع
۳۸
في إمكانها أوفى وجودها ووقوها أو في حصولها لشخص معين ودليل إمكانها وجودها
ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلم الطب والنجوم ٣٥ فإن من بحث عنها علم – بالضرورة – أنها لا تدرك إلا بالهام إلهى وتوفيق من جهة الله تعالى ولاسبيل إليه بالتجربة فمن الأحكام النجومية مالا يقع إلا في كل ألف سنة مرة فكيف ينال ذلك بالتجربة وكذلك خواص الأدوية
فتبين بهذا البرهان أن فى الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل وهو المراد بالنبوة لا أن النبوة عبارة عنها فقط بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ولها خواص كثيرة سواها وما ذكرنا فقطرة من بحرها إنما ذكرناها لأن معك أنموذجاً منها وهو مدركاتك فى النوم ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم
وهى معجزات الأنبياء ولاسبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلا وأما ما عدا هذا من خواص النبوة إنما يدرك بالذوق من سلوك طريق
التصوف لأن هذا فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ولولاه لما صدقت به فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج ولا تفهمها أصلا فكيف تصدق بها وإنما التصديق بعد الفهم وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصدق بما لم يحصل بالقياس إليه
٣٥ لعل الإمام رحمه الله بريد أن يقول الإنسان في ابتداء وجوده وخلقه ألهمه الله الأسس التي يبنى عليها تجاربه في عالم الطب وملاحظته في علم الفلك
۳۸۳
فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة
فإن وقع لك الشك فى شخص معين أنه نبي أم لا فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو التواتر والتسامع فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع
أقوالهم وإن لم تشاهدهم
ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي رحمه الله – فقيهاً وكون جالينوس طبيباً معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير بل بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبها وتصانيفها فيحصل لك علم ضرورى بحالهما فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه ل على أعلى درجات النبوة وأعضد ذلك بتجربة ماقاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق في قوله من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم
٣٦
وكيف صدق فى قوله من أعان ظالما سلطه الله عليه وكيف صدق في قوله من أصبح وهمومه هم واحد هو التقوى كفاه الله تعالى هموم الدنيا والآخرة ۳۷ فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف حصل لك علم ضرورى لا تتمارى فيه
الله
فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا ثعباناً وشق
٣٦ ما بين القوسين زيادة عن الجامع الصغير وضعناها لبيان المعنى ۳۷ وفى سنن ابن ماجه عن رسول الله الله ومن جعل الهموم هما واحداً هم المعاد كفاه هم دنياه ومن تشعبت به الهموم فى أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك
٣٨٤
القمر فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده لم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ربما ظننت أنه سحر وتخييل وأنه من الله إضلال فإنه يضل من يشاء ويهدى من يشاء وترد عليك أمثلة المعجزات فإن كان مستنداً إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكال والشبهة
عليها
حتى
فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في مجلة نظرك يحصل لك علم ضرورى لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخير متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين
بل من حيث لا يدرى ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد فهذا هو الإيمان القوى العلمى وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ولا يوجد إلا في طريق الصوفية فهذا القدر من حقيقة النبوة كاف فى الغرض الذى أقصده الآن وسأذكر وجه
الحاجة إليه
٣٨٥
سبب نشر العلم
بعد الإعراض عنه
ثم إنى واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها مرة بالذوق ومرة بالعلم
البرهانى ومرة بالقبول الإيمانى أن الإنسان خلق من بدن وقلب
وأعنى
بالقلب حقيقة روحه التى هى محل معرفة الله دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سلیم ده وله مرض فيه هلاكه الأبدى الأخروى كما قال تعالى و في قلوبهم مرض كم وأن الجهل بالله سم مهلك وأن معصية الله بمتابعة الهوى داؤه الممرض وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيى وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي وأنه لاسبيل إلى معالجته بإزالة مرضه وكسب صحته إلا بأدوية كما لاسبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء فكذلك بان لى - على الضرورة - أن أدوية العبادات - بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء - لايدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور
النبوة لا ببضاعة العقل
٣٨٦
وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف البعض فى الوزن والمقدار فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص فكذلك العبادات التى هى أدوية داء القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار حتى إن السجود ضعف الركوع وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ولا يخلو عن سر من الأسرار هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة
ولقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط - بطريق العقل – لها حكمة أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق لا عن سر إلهى فيها يقتضيها بطريق الخاصية وكما أن في الأدوية أصولا هى أركانها وزوائد هي متمماتها لكل واحد منها خصوص تأثير فى أعمال أصولها كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات وعلى الجملة الأنبياء أطباء أمراض القلوب وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرفنا ذلك ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين وإلى هنا هنا مجرى العقل ومخطاه وهو
معزول عما بعد ذلك إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة في مدة الخلوة
والعزلة ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة
ثم في حقيقة النبوة ثم في العمل بما شرحته النبوة
وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق فنظرت إلى أسباب فتور الخلق وضعف إيمانهم فإذا هي أربعة
۳۸۷
ا سبب من الخائضين في الفلسفة علم
- وسبب من الخائضين في طريق التصوف
٣ - وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم
٤ - وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس فإنني تتبعت مدة آحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له مالك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة ! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة وإن كنت لا تؤمن فأنت كافر فدير نفسك فى طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الذي هو مذهبك باطناً وهو سبب جرأتك ظاهراً وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع ! فقائل يقول هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلى وفلان يشرب الخمر وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جرا
الخفى
إلى أمثاله
وقائل ثان يدعى علم التصوف ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقى عن الحاجة
إلى العبادة
"
وقال ثالث يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة !
وهؤلاء
هم
الذين ضلوا عن التصوف
وقائل رابع لقى أهل التعليم فيقول الحق مشكل والطريق إليه متعسر
۳۸۸
والاختلاف فيه كثير وليس بعض المذاهب أولى من بعض وأدلة العقول متعارضة فلا ثقة برأى أهل الرأى والداعى إلى التعليم متحكم لا حجة له فكيف أدع اليقين بالشك وقائل خامس يقول لست أفعل هذا تقليداً ولكني قرأت الفلسفة علم وأدركت حقيقة النبوة وأن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة وأن
المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغن فيها عن
التقليد
هذا منتهى إيمان من قرأ مذهب فلسفة الإلهيين منهم وتعلم ذلك من كتب
ابن سينا وأبى نصر الفارابي
وهؤلاء المتجملون بالإسلام
وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات ويعظم الشريعة بلسانه ولكنه ذلك لا يترك شرب الخمر وأنواعاً من الفسق
والفجور !
وإذا قيل له
م إن كانت النبوة غير صحيحة فلم تصلى فربما يقول الرياضة الجسد ولعادة أهل البلد وحفظ المال والولد ! وربما قال الشريعة صحيحة والنبوة حق فإذا قيل له
فلم تشرب الخمر فيقول
إنما نهى عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء وأنا بحكمتي محترز عن
٣٨٩
ذلك وإنى أقصد به تشحيد خاطري
حتى إن ابن سينا في وصية له كتب فيها أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا وأن يعظم الأوضاع الشرعية ولا يقصر في العبادات الدينية ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان والتزام العبادات أن استثنى شرب الخمر لغرض التشافي
فهذا إيمان من يدعى الإيمان منهم وقد انخدع جماعة
ضعف وزادهم بهم
اعتراض المعترضين عليهم إذ اعترضوا بمجاحدة علم الهندسة والمنطق وغير ذلك مما هو ضروري لهم على ما بينا علته من قبل فلما رأيت أصناف الخلق من ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه ورأيت نفسي ملية ۳۸ بكشف هذه الشبهة حتى كان فضح
الأسباب
6
6
هؤلاء أيسر عندى من شربة ماء لكثرة خوضى فى علومهم وطرقهم أعنى طرق الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت محتوم فما تغنيك الخلوة والعزلة وقد عم ا الداء ومرض الأطباء وأشرف الخلق
على الهلاك
ثم قلت في نفسي متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة والزمان زمان الفترة والدور دور الباطل ولو اشتغلت بدعوة الخلق عن طرقهم إلى الحق لعاداك أهل الزمان بأجمعهم وأنى تقاومهم فكيف
تعايشهم ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد وسلطان متدين قاهر فتر خصت بينى وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللا بالعجز ۳۸ ألب بالمكان أقام به ولزمه
۳۹۰
عن إظهار الحق بالحجة فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه لا بتحريك من خارج فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور لتدارك هذه الفترة وبلغ الإلزام حدا كاد ينتهي - لو أصررت على الخلاف – إلى حد
الوحشة
فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق
ولم ترخص نفسك بعسر معاناة الخلق والله تعالى يقول
وهم
بسم الله الرحمن الرحيم ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا
لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
الكاذبين ۳۹
ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه
ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين
ويقول عز وجل
٤٠
بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على
صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم
لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون
۳۹ سورة العنكبوت آيات ۱ - ۳
٤٠ سورة الأنعام آية ٣٤
۳۹۱
إننا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون
إنما تنذر من اتبع
الذكر
٤١
فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة والخروج من الزاوية
وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدرها الله سبحانه على رأس هذه
المائة ٤٢
وقد وعد الله سبحانه بإحياء دينه على رأس كل مائة فاستحكم الرجاء وغلب حسن الظن بسبب هذه الشهادات ويسر الله تعالى الحركة إلى نيسابور للقيام بهذا المهم فى ذى القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة وكان الخروج من بغداد فى ذى القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وبلغت مدة العزلة إحدى عشرة سنة
وهذه حركة قدرها الله تعالى وهى من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة كما لم يكن الخروج من بغداد والنزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكانه أصلا بالبال والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن
٤١ سورة يس آیات ۱ - ۱۱ ٤٢ روى أبو داود والحاكم والبيهقي إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة
من يجدد لها دينها
۳۹
وأنا أعلم أنى وإن رجعت إلى نشر العلم فما رجعت ! فإن الرجوع عود إلى ما كان وكنت فى الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه وأدعو إليه بقولى وعملى وكان ذلك قصدى ونيتى وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يترك الجاه ويعرف به سقوط رتبة الجاه
هذا
الآن هو نيتى وقصدى وأمنيتي يعلم الله ذلك منى وأنا أبغى أن أصلح نفسي وغيرى ولست أدرى أأصل إلى مرادى أم أخترم دون غرضى ولكن أؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم وأنى لم أتحرك لكنه حركني وأنى لم أعمل لكنه استعملني فأسأله أن يصلحنى أولا ثم يصلح بي ويهديني ثم يهدى بي وأن يريني الحق حقاً ويرزقني اتباعه ويريني الباطل باطلا ويرزقني
اجتنابه
ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان فيمن ذكر بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم فعلاجه ما ذكرناه في
8
كتاب القسطاس المستقيم ولا نطول بذكره في هذه الرسالة وأما ما توهمه أهل الإباحة فقد حصرنا شبيههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب كيمياء السعادة فسد إيمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة فقد ذكرنا
وأما من
حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة بدليل وجود علم خواص الأدوية والنجوم وغيرهما وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك
۳۹۳
وإنما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم لأنه من نفس علمهم
ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلا من نفس علمه برهان النبوة
وأما من أثبت النبوة بلسانه سوى أوضاع الشرع على الحكمة فهو على التحقيق كافر بالنبوة وإنما هو مؤمن بحكيم له طالع مخصوص يقتضى طالعه أن يكون متبوعاً
وليس هذا من النبوة في شيء
بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل تتفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة والعقل معزول عنها كعزل السمع عن إدراك الألوان
دائق ٤٣
من
والبصر عن إدراك الأصوات وجميع الحواس عن إدراك المعقولات فإن لم يجوز هذا فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده وإن جوز هذا فقد أثبت أن ها هنا أموراً تسمى خواص لا يدور تصرف العقل حواليها أصلا بل يكاد العقل يكذبها ويقضى باستحالتها فإن وزن الأفيون سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته والذي يدعى علم الطبيعة يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصرى الماء والتراب فها العنصران الباردان ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم في الباطن إلى هذا الحد فلو أخبر طبيعي بهذا ولم يجربه لقال هذا محال والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة فنقدر الكل ماء وتراباً فلا يوجد هذا الإفراط بالتبريد فن انضم إليه حاران فبألا يوجب أولى ويقدر هذا برهاناً !
٤٣ الدائق يفتح النون وكسرها سدس الدرهم
٣٩٤
وأكثر براهين الفلاسفة فى الطبيعيات والإلهيات مبنى على هذا الجنس فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه وما لم يألفوه قدروا
استحالته
ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة وادعى مدع أنه عند ركود
الحواس يعلم الغيب لأنكره المنصفون بمثل هذه العقول ولو قيل لواحد هل يجوز أن يكون فى الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يبقى شيئاً من البلدة وما فيها ولا يبقى هو فى نفسه لقال هذا محال وهو من جملة الخرافات
وهذه حالة النار ينكرها من لم ير النار إذا سمعها
وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل
فنقول للطبيعي قد اضطررت إلى أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول بالطبيعة فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب هذا فيما أوردوه في كتبهم وهى من الخواص العجيبة المجربة في معالجة
من
الحامل التي عسر عليها الطلق بهذا الشكل
٣٩٥
L
<
ب
ط
د
NJ
ه
こ
ز
و
يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء وتنظر إليهما الحامل بعينيها وتضعها
تحت قدميها فيسرع الولد فى الحال إلى الخروج وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب عجائب الخواص وهو شكل فيه تسعة بيوت يرقم
فيها رقوم مخصوصة يكون مجموع ما فى جدول واحد خمسة عشر قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب
فليت شعرى ! من يصدق بذلك ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين والظهر بأربع والمغرب بثلاث هي الخواص غير معلومة بنظر الحكمة وسببها اختلاف هذه الأوقات وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة
والعجب أنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لعقلوا اختلاف هذه الأوقات فنقول أليس يختلف الحكم فى الطالع بأن تكون الشمس في وسط السماء أو فى الطالع أو فى الغارب حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج وتفاوت الأعمار والآجال ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ولا بين المغرب وبين كون الشمس فى الغارب فهل لتصديقه سبيل إلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم جرب كذبه مائة
مرة ولا يزال يعاود تصديقه حتى لو قال المنجم له إذا كانت الشمس في وسط السماء ونظر إليها الكوكب الفلاني والطالع هو البرج الفلاني فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت فى ذلك الثوب ! فإنه لا يلبس الثوب
في ذلك الوقت وربما يقاسى فيه البرد الشديد وربما سمعه من منجم وقد عرف كذبه مرات فليت شعرى ! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف
۳۹
بأنها خواص معرفتها معجزة لبعض الأنبياء - كيف ينكر مثل ذلك فيما يسمعه
من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب فإن أنكر فلسفى إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ورمي الجمار وعدد أركان الحج وسائر تعبدات الشرع لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلا فإن قال قد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب فوجدت بعضه صادقاً فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبى استبعاده ونفرته وهذا لم أجربه فيم أعلم وجوده وتحقيقه
وإن أقررت بإمكانه فأقول إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع
واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهد بعض ذلك على أنى أقول وإن لم تجربه فيقضى عقلك بوجوب التصديق والاتباع قطعاً فإنا لو فرضنا رجلا بلغ وعقل ولم يجرب المرض فمرض وله والد دعواه في معرفة الطب منذ عقل فعجن له والده
يسمع
مشفق حاذق بالطب دواء فقال هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك فماذا يقتضيه عقله وإن كان الدواء مراكريه المذاق أيتناوله أو يكذب ويقول أنا لا أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ولم أجربه فلا شك أنك تستحقه إن فعل ذلك ! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك !
فإن قلت فيم أعرف شفقة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفته بهذا
الطب فأقول
وبم عرفت شفقة أبيك وليس ذلك أمراً محسا بل عرفتها بقرائن
۳۹۷
أجواله وشواهد أعماله فى مصادره وموارده علماً ضروريا لا تتمارى فيه ومن نظر في أقوال رسول الله عليه الصلاة والسلام وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه فى جر الناس بأنواع الرفق واللطف إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين وبالجملة إلى ما يصلح إلا به دينهم ودنياهم حصل له على علم ضرورى بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على
ولده
وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه في القرآن على لسانه وفى الأخبار وإلى ما ذكره في آخر الزمان فظهر ذلك كما ذكره علم - علماً ضرورياً - أنه بلغ الطور الذي وراء العقل وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذى لا يدركه إلا الخواص والأمور التي لا يدركها العقل
فهذا هو منها تحصيل العلم الضرورى بتصديق النبي عليه الصلاة والسلام فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار تعرف ذلك بالعيان
وهذا القدر يكتفى فى تنبيه المتفلسفة ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا
الزمان
وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سوء سيرة العلماء - فيداوى هذا المرض بثلاثة أمور أحدها أن تقول إن العالم الذى تزعم أنه يأكل الحرام معرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر ولحم الخنزير والربا بل بتحريم الغيبة والكذب والنميمة وأنت تعرف ذلك وتفعله لا لعدم إيمانك بأنه معصية بل
لشهوتك الغالبة عليك فشهوته كشهوتك وقد غلبته كما غلبتك فعلمه بمسائل
۳۹۸
وراء هذا يتميز به عنك لا زيادة زجر عن هذا المحظور المعين وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد وإن زجره الطبيب عنه ! ولا يدل ذلك على أنه غير ضار أو على أن الإيمان بالطب غير صحيح فهذا محمل هفوات العلماء
الثاني أن يقال للعامى ينبغى أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة ويظن أن علمه ينجيه ويكون له شفيعاً حتى يتساهل معه في أعماله لفضيلة علمه وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له وهو ممكن فهو وإن ترك العمل يدلى بالعلم أما أنت أيها العامي إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل فتهلك بسوء عملك ولا شفيع لك الثالث وهو الحقيقة أن العالم الحقيقى لا يقارف معصية إلا على سبيل الهفوة ولا يكون مصرا على المعاصي أصلا إذ العلم الحقيقى ما يعرف أن المعصية سم مهلك وأن الآخرة خير من الدنيا ومن عرف ذلك لا يبيع الخير بما
أدنى هو وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس فلذلك
لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى
وأما العلم الحقيقى فيزيد صاحبه خشية وخوفاً ورجاء وذلك يحول بينه
وبين المعاصى إلا الهفوات التى لا ينفك عنها البشر فى العثرات وذلك لا يدل فالمؤمن مفتن تواب وهو بعيد عن الإصرار
على ضعف الإيمان
والإكباب
۳۹۹
هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما وآفات من أنكر
عليهما لا بطريقه
ونسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه وأرشده إلى الحق وهداه وألهمه ذكره حتى لا ينساه وعصمه عن شر نفسه حتى لا يؤثر عليه سواه واستخلصه لنفسه حتى لا يعبد إلا إياه
٤٠٠
خاطرة ٤٤ حول المنقذ من
الضلال
أخي الدكتور عبد الحليم محمود يعرف - فيما بين إخوة العشيرة – بكنية أبو العارفين وهى تعبير عن الصورة التي يعرفه عليها هذا المحيط الروحي في مجال المقبلين على الله من طلاب الحقائق والباحثين عن مشارق الأنوار وأسرار الغيوب
والدكتور عبد الحليم يُعرف أيضاً فيما بيننا - نحن المحمديين – بأنه غزالى
مصر في هذا العصر
والواقع أن الدكتور عبد الحليم فى ذاته ظاهرة صوفية غير مكررة بما يفيض به من القيم وما يفاض عليه من المواهب وما يفسح له الله تعالى من الوقت والمدد فيترقرق إنتاجه سلسلا عذباً مندمعاً في رقة رابياً متلاحقاً في قوة بين منطوق ومكتوب يتلاحق فيذكرنا بأعلام السلف
الصالح ويطمئننا على مستقبل الربانية المقدسة ويعطى الناس مثلا حيا في كرامات الأولياء !
قارئ الدكتور عبد الحليم أو سامعه لا يحس الصنعة فيما يقرأ له أو يسمع منه ولكنه يحس القلب والعاطفة والعقل والإيمان ويبصر الأدب والتواضع والثقة بلا حدود كل ذلك ينقدح في ومضات
والفضل
C
٤٤ حيثما صدرت الطبعة الخامسة من هذا الكتاب تفضل بكتابة هذه الخاطرة الكاتب الكبير صاحب السلوك الصوفى المستنير وصاحب القلم الصوفى الملهم فضيلة الشيخ محمد زكي إبراهيم الرائد الموفق للعشيرة المحمدية جزاه الله خير الجزاء وشكر الله له جميل صنيعه
21
ولمحات ولفتات وملاحظ وقواعد وأصول تهتز بالحياة وتنفعل بالعلم والأصالة والمعرفة والصلة بالله والغيرة على محارمه ويحس المرء منها ابتغاء رضوان الله
أما أنا فأقرأ له وأسمعه كأنما أقرأ ما كتبته أو أسمع ما أتحدث
به
إن إخالى بالدكتور عبد الحليم من نوع فريد فقد نلتقى بعد غياب جسدی طويل فلا يحدث أحدنا الآخر بأكثر مما يحدث به زميله الذي لا يفارق ظله ظله وفى إيجاز قد يصل إلى الاقتضاب ثم يقنعنا هذا ويكفينا ونحصل منه على معان شتى وأغراض أكثر يضيق عنها النطق وتعيا بها العبارة وتظل قلوبنا تتناجى فى حرارة وتتواصى في لهفة كما كانت قبل هذا اللقاء الجسماني ثم بما تحصله هذه القلوب نكتفى ونشتفى إلى أن تجمعنا الصدفة
أو القصد مرة أخرى وعندها أعود فأحس كأننا لم نفترق ! !
من
أقول ذلك بمناسبة صدور الطبعة الخامسة الجديدة من كتاب المنقذ الضلال و للغزالى بتقديم وتعليق وتحليل ودراسة الأخ الدكتور عبد الحليم محمود فقد صدرت هذه الطبعة فى رجب هذا العام واستغرقت ٣٥٠ صحيفة من القطع الكبير وأضاف إليها الأستاذ كعادته في كل طبعة سابقة لهذا الكتاب أبواباً جديدة وألواناً مستحدثة دقيقة بعيدة العمق عريضة الهدف في أهم وأخطر المباحث الموصولة بالتصوف الإسلامي على المستوى الفكرى الشرقى معاً حتى أصبح هذا الكتاب الذى كان يباع في طبعته الأولى بخمسة قروش يباع في هذه الطبعة الأخيرة بخمسين قرشاً تمنحك زبداً نقياً ودسماً من العلم والمعرفة والتاريخ والتحقيق والاستدلال
والغربي
6
والإيمان
٤٠٢
والإشراق وتعطيك التصوف الإسلامى فى مثل ضوء الشمس بهاء ونقاء
وسموا وخلوداً
رضى الله عن الأخ الدكتور عبد الحليم محمود وزاده مما يحب ويرضى
ونفعنى بحبه وإخائه فيه تعالى
٤٠٣
الصفحة
٢٦ -
۱۰ - ۷
١٧٤ - ۱۱
١٧٥ - ٢٣٤
٤٠٥
مقدمة التصوف والحياة
الفصل الأول التصوف
لفظا وتعريفاً وطريقاً ومصادر ونشأة ولمحة
عامة
الفصل الثاني التصوف والشريعة
التصوف والدين التصوف والتحلل من الشريعة وحدة الوجود السجود للأوامر الإلهية كمظهر للتدين السليم
والتصوف الصحيح
الفصل الثالث التصوف والمعرفة
البحث العقلى فيما وراء الطبيعة عبث في وسيلة المعرفة التصوف والشك الشك ومدارج السالكين الإمام الغزالي يرسم طريق المعرفة مشكلة المعرفة الصوفية
الفصل الرابع قضية التصوف
إنكار التصوف تحديد موطن النزاع المشاكل التي يراد حلها الحس ومشاكل ما وراء الطبيعة العقل ومشاكل ما وراء الطبيعة البصيرة ومشاكل ما وراء الطبيعة الطريق إلى المعرفة طريق البصيرة طريق الصواب التصوف أريسطو قراطية تفاوت الناس فى فهم الدين التصوف قوة التصوف ليس دخيلاً على الإسلام التصوف في العصر الحديث
الفصل الخامس الإمام الغزالي
حياته نبذة عنه بقلم أحد معاصريه كتبه تحلیل
كتاب الإحياء نصوص تبين منهجه
الفصل السادس المنقذ من الضلال
توطئة مدخل السفسطة أصناف الطالبين حقيقة
الصفحة
٢٣٥ - ٢٦٦
٢٦٧ - ٣٢٤
٣٢٥ - ٤٠٠
٤٠١ - ٤٠٣
النبوة سبب نشر العلم
خاطرة
٤٠٦
يُعد الإمام الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم
محمود صاحب ورائد مدرسة الفكر الإسلامي والتصوف في العصر الحديث ولقب بأبي التصوف في العصر الراهن فقد أثرى المكتبة العربية بأمهات الكتب بين تحقيق وتأليف وترجمة فمنها دراساته القيمة عن الإمام الغزالي وكتابه و دلائل
3
المنقذ الضلال من
النبوة و القرآن في شهر القرآن إلى جانب ما كتبه عن رواد التصوف على مر العصور الإسلامية المختلفة
والإمام الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود له عمق وغزارة الآراء الفقهية ودقة الاجتهادات مما جعله يكسب صفوف المعارضين قبل المؤيدين إلى جانب اللباقة والدراية الكاملة في عرض أي موضوع أو مسألة تتعلق بأمور في الدين وأيضا يمتاز بقوة ورصانة الأسلوب
والعبارات مما يدل على المهارة الفائقة والملكة اللغوية فلهذا اكتسب هذا العالم الجليل احترام و كل الفرق والمذاهب الإسلامية في شتى بقاع العالم وسيبقى هذا العالم وتراثه في قلوبنا على
مر
العصور
أبو طالب
1102/1
کار عارف