Go Back





الدكتور
عبد الحليم محمود
أوربا والإسلام
الطبعة الرابعة
T
دار المعارف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه إلى يوم الدين

بعيد
مقلمة
بدأت فكرة هذا الكتاب تتسرب إلى نفسى - بطريقة لا شعورية منذ عهد
ففى أكتوبر عام ۱۹۳ وصلت إلى باريس وذهبت لصلاة الجمعة في المسجد وما إن انتهت الصلاة حتى رأيت شخصاً تلوح على وجهه سمات
الطيبة يتجه نحوى ثم يسألني
- هل أنت مصرى
- نعم
- هل تعرف محمود بك سالم
لم يسعدنى الحظ بذلك
- هيا إذن لأعرفك به
وذهبت معه وقابلت السيد محمود سالم وأحسست عند لقائه بالارتياح إليه والضيق به في آن واحد كانت نظراته كأنها انعكست انعكاساً تاماً في داخل نفسه واستقرت على أفكاره فهى ترى الأفكار وحدها دون نظر إلى المخاطبين لم يكن حفياً في تحيته لكنه قال بدون مقدمات وهو يمد يده بطريقة آلية موعدنا الليلة فى المحطة الساعة الخامسة لنستقبل الأستاذ خالد
شلدريك

فأخذت أسائل نفسى من هو خالد شلدريك ولم نستقبله وهل من الضروري أن أذهب لاستقباله
تلك أسئلة دارت بخلدى ولم أجد لها جواباً وكادت تعوقني عن الذهاب ولكن حب الاستطلاع والشعور بالغربة الذي يدفع إلى حب التعرف بالآخرين دفعانى إلى الذهاب في الموعد المحدد
وجاء خالد شلدريك وكانت السيارات معدة فركبنا وكنا جمعاً
غفيراً ولكنى لم أكن أدرى إلى أين نحن ذاهبون
ووصلنا إلى قصر فخم ونزل الركب واستقبلتنا سيدة أنيقة في صالون غاية في الفخامة والأبهة
واسع
الآن
لقد كانت – كما عرفت فيما بعد - أميرة سرواك إحدى مقاطعات الهند أميرة إنجليزية أسلمت وكتبت كتاباً عن سبب إسلامها نشرته على نطاق وفى هذا المجتمع الذى اختلفت الجنسيات فيه أدهشني حقاً أن أرى كثيرين فيه أسلموا بعد أن ولدوا على ديانات أخرى وهم مجتمعون لتحية خالد شلدريك الذى أسلم وكرس حياته لنشر الإسلام وبعد أن تناولنا الشاى خرجنا من جديد إلى قاعة محاضرات فسيحة الأرجاء ألقت فيها الأميرة محاضرة عن الإسلام وكان عدد المستمعين كثيراً يتحدثون ويتناقشون وأدهشنى من جديد أن أرى كثرة الذين أسلموا حينما درسوا الإسلام أخذت منذ ذلك العهد أفكر فى العوامل التى جعلت هؤلاء يتخلون عن المسيحية والعوامل التي تدفعهم إلى اعتناق الإسلام على الخصوص وهل

هناك من وسيلة ناجعة لنشر الإسلام بين ربوع الغرب وصرفتنى الدراسة عن التفكير المستغرق فى هذا الموضوع ومضت السنون وكلما فكرت فى الأمر صرفتنى شواغل وأعمال أخرى إلى أن كانت سنة ١٩٤٨ وكنت مع أحد العلماء الأمريكان نطوف بأرجاء الأزهر معهدنا العتيق وبينما نحن على وشك الخروج علمت أن بعض الأعضاء من لجنة الفتوى موجودون في مكان اجتماعها فحدثته بأمر لجنة الفتوى فرغب فى أن يلقى هؤلاء الأعضاء فدخلنا إلى القاعة فكان فيها المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم والمرحوم الشيخ العناني وبعد التعارف
والتحية خاطب العالم الأمريكى فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم قائلاً إن الغرب الآن فى حالة روحية مضطربة متأرجحة ومن الممكن أن يتجه إلى الإسلام ولكن من المحتمل أيضاً أن يتجه إلى صوفية الهند فهل أعد
الأزهر أو الهيئات الإسلامية برنامجاً لتوجيه الغرب نحو الإسلام وكان سؤالاً مربكاً ولكن فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم أجاب وفى
أسلوب دبلوماسي لبق إننا بصدد الدراسة والبحث وجعلني سؤال العالم أعود من جديد إلى التفكير في موضوع الغرب
والإسلام وصرفتنى الشواغل من جديد إلى أن وقع فى يدى كتاب إيقاظ الغرب للإسلام تأليف اللورد هيدلى وقرأت فيه ه من عدة سنين خلت كان أحد أفكارى الرئيسية هو كيف يمكن للإسلام أن يتغرب لي
غربياً حتى يمارس في الأمم الأوربية يصبح

وبعبارة أخرى كيف يمكننا نحن معشر الغربيين أن نعد أنفسنا لنكتب ونفقه
معنى الإسلام الحقيقى ثم تلا ذلك فكر آخر وهو كيف أننا لم نشك من جنسية المسيح الذى نعرف أنه كان آسيوياً محضاً كانت أمه العذراء مريم آسيوية وكان موسى وكل الأنبياء الموحى إليهم شرقيين وكان النبي محمد شرقياً مثل الآخرين وأنزلت عليه الشريعة من الله
فالقرآن من كلام الله عز وجل كما كان الإنجيل وباقى الكتب المنزلة الأخرى والقرآن يثبت ويحقق الكتب المقدسة الأخرى والوحى السابق كيف يمكن للإسلام أن يتغرب على حد تعبير اللورد ذلك هو ما أردته وما أردت أن أثير التفكير فيه
لقد كتب الكاتبون كثيراً فى علاقة الشرق بالغرب سياسياً وكتبوا في علاقة الشرق بالغرب اقتصاديًّا ولكن التفكير فى صلة الشرق بالغرب دينياً واحتمال نشر الدعوة الإسلامية بين ربوع الغرب لم يسترع عناية الباحثين إلى الحد اردي يتناسب مع جلال الموضوع وخطره
وهذه الصفحات التالية تهدف إلى أغراض منها
أن يشعر المسلم بعزة وفخار لأنه مسلم وأن يعرف في شيء من الوضوح أن الإسلام في العهد الحاضر هو الدين الوحيد الذي يعد حقاً ديناً عالمياً وتهدف من قبل ذلك ومن بعد ذلك إلى تبيين واجب المسلم نحو هذا الدين سواء كان من ناحية تحقيقه نقياً صفياً في نفسه أو كان الدعوة إليه ونشره والله الموفق
ربنا آتنا لدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
من
من ناحية
Λ

الفصل الأول
الإسلام والمسيحية

جلست السيدة حنة وعلى وجهها سمات الاهتمام والحزن ونظراتها معلقة بطائر يحنو على فرخه ويطعمه وأخذ خيالها يسرح يسرح عبره هذه السنين التي من عمرها الذى لم تتخلله البهجة بالأولاد يسرحون ويمرحون ويملئون البيت حباً وضجيجاً حبيباً ومودة وفرحة
تقضت
إنها حياة جدباء تلك التي لم تملأ جنباتها البهجة بالأولاد على هذا النسق كان يدور خيالها وعيناها ممتدتان إلى الطائر يطعم فرخه في حنان ومداعبة استمر خيالها يسير مع هواها واستمر شعورها بالرغبة في الولد يقوى ويتركز وإذا بها فجأة تسيل دموعها وتتجه إلى الله ضارعة في حرارة داعية في شوق ولهفة أن لها ولداً وقالت هب ه اللهم لك على إن رزقتنى ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس
يقول ابن إسحاق
كان السبب فى نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت واستجاب الله دعاءها فلما شعرت بالحمل اتجهت إلى الله في شكر وفى
عرفان تؤكد من جديد نذرها ويعبر القرآن عن ذلك بقوله إذ قالت امرأةُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ ما في بطنى محرراً فَتَقبل مني إِنَّكَ أنت السميع العليم
وعمران الذي ذكرته الآية الكريمة ليس بعمران أبي موسى وبين موسى وعيسى بون شاسع من الزمن

وأما قولها في الآية الكريمة محرراً فمعناه معتقاً وهي تقصد بذلك أن يكون عبداً للدنيا ليعبدك وحدك
أنه معتق من
يقول الزجاج
كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم فى نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبدهم 1
لقد سعدت السيدة حنة بهذا الحمل فهى تفكر فى هذا الجنين في سعادة إنها تفكر في صورته وتفكر فى تنشئته وتفكر فى تربيته وثقافته كما تفكر في بسماته وفى مداعباته وما كان خيالها يسرح مطلقاً في جو هذا الجنين على أنه أنثى وإنما كان يسرح باستمرار - فى جوه - على أنه ذكر ها هو ذا قد أصبح شاباً ذكياً فتيا يأخذ مكانته بين فقهاء المعبد وسدنته بين المسيرين لدفة الأمور الدينية والموجهين لها ثم ها هو ذا حبر من كبار الأحبار له الكلمة
المسموعة
و و
وجاء أوان الوضع وفوجئت السيدة حنة مفاجأة لم تكن متوقعة لقد كان المولود أنثى
ارتبكت السيدة حنة لحظة من الزمن وفكرت في نذرها وفكرت في المقادير وفي سرعة اتجهت إلى الله تعالى وكأنها تعتذر أو تستغفر قائلة
1 يقول القاضي أبو يعلى والنذر فى مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر
۱

رَبِّ إِنِّى وَضَعَتها أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثى وإلى سميتها مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيدُها بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ 1 أما مريم هذه التي يحرص المفسرون على بيان أنها ليست مريم أخت موسى
فإن الله سبحانه أضفى عليها عنايته وشملها برعايته ويعبر سبحانه عن ذلك فيقول
فَتَقَبَّلَها رَبُّهَا بِقَبُول حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَنًا
أما
من ناحية كفالتها فقد تولى ذلك زكريا وكان لذلك قصة
قال السدى
انطلقت بها أمها فى خرقها وكانوا يقترعون على الذين يؤتون
زكريا وهو نبيهم يومئذ
بهم
6
فقال
أنا أحقكم بها عندى أختها فأبوا وخرجوا إلى نهر الأردن فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها فجرت الأقلام وثبت قلم زكريا فكفلها قال ابن عباس كانوا سبعة وعشرين رجلاً فقالوا نطرح أقلامنا فمن صعد قلمه مغالباً للجرية فهو أحق بها فصعد قلم زكريا فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا
بمصاعدة قلمه
وعلى قول السدى بوقوفه في جريان الماء
وقال مقاتل
۱ آل عمران آية ٣٦
آل عمران آية ۳۷

كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى فإذا طهرت ردها إلى
بيت المقدس
والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة
وأخذت الطفلة تشب وتترعرع في كفالة زكريا
فلما بلغت السن التي تستطيع فيها الخدمة أخذت بتوجيه زكريا عليه السلام تعمل في المعبد توفية لنذر أمها وتتعبد فيه إنها عاملة عابدة
واتخذت
مریم
عليها السلام محرابا قال الأصمعي والمحراب ها هنا
الغرفة والمحراب فى اللغة الموقع العالى الشريف كما يقول الزجاج
اتخذت مريم عليها السلام محراباً تعتكف فيه متعبدة متهجدة وكان زكريا عليه السلام يدخل عليها من آن لآخر محرابها رعاية لها وعناية بها وتفقداً لأحوالها فكان - على دهشة منه – يجد عندها رزقاً ويعبر
القرآن
عن ذلك فيقول
كلما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا المحراب وجد عندها رزقاً
قال يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا
قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب 1
1 يقول صاحب محاسن التأويل فى الآية دليل على وقوع الكرامة لأولياء الله تعالى كما وجد عند خبيب بن عدى الأنصارى رضى الله عنه استشهد بمكة قطف عنب كما في البخارى وفى
الكتاب والسنة لهذا نظائر كثيرة
12

ومن اللطائف هنا ما نقله الإمام الشعرانى فى اليواقيت عن العارف بالله أبي الحسن الشاذلي قدس سره أنه قال إن مريم عليها السلام كان يتعرف إليها في بدايتها بخرق العوائد بغير سبب تقوية لإيمانها وتكميلاً ليقينها فكانت كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً فلما قوى إيمانها ويقينها ردت إلى
أما
السبب لعدم وقوفها معه فقيل لها وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً بجنيا عن قصة خبيب وقطف العنب فقد رواها الإمام البخارى فى حديث صحيح جليل عن أبي هريرة رضى الله عنه قال بعث رسول الله عشرة رهط سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان الهم قريباً من مائتى رجل كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمراً تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمريثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم و وأصحابه الجئوا إلى فدفد وأحاط القوم فقالوا لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحداً هم فقال عاصم بن ثابت أمير السرية أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصماً في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم حبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحيكم إن في هؤلاء لأسوة يريد القتلى فجردوه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد موقعة بدر فابتاع خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل ابن عبد مناف وكان خبيب هو الذى قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث حبيب عندهم ا أسيراً فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابناً لى وأنا غافلة حين أتاه قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهی فقال تخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق فى الحديد وما بمكة من ثمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيباً فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين ثم قال لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها ولست أبالى حين أقتل مسلماً على أي شق كان الله مصرعى وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك أوصال شلو ممنوع
على
اللهم أحصهم
عدداً

وتركت مريم عليها السلام بالعبادة وصفت نفسها ورق شعورها
فأصبحت
من
الصفاء بحيث ترى الملائكة
ورؤية الملائكة ومخاطبتهم أمر أقره القرآن الكريم إن الله سبحانه
وتعالى يقول
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور
رحيم 1 ولقد كان رسول الله الله يرى الملائكة ويتحدث
معهم
ولا يراهم
من بجواره
والإمام الغزالى - عن تجربة - يقول
إن السالكين في ابتداء الطريق حينما تصفو نفوسهم وتتزكى يرون
الملائكة ٢
=
تركت مريم وبدأت ترى الملائكة وبدأت الملائكة تتحدث إليها
فقتله ابن الحارث فكان خبيب هو الذى سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً فاستجاب الله لعاصم ابن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي عل الله أصحابه خبرهم وما أصيبوا وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف وكان قد قتل رجلاً من عظمائهم يوم بدر فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطع من لحمه شيئاً فتح البارى بشرح
صحيح الإمام البخارى جـ ٦ ص ١٢٤ ١٢٥
۱ فصلت ۳۰ - ۳
انظر طبعتنا للمنقذ من الضلال

وتسدى إليها النصيحة وتوجهها إلى طريق الحق وطريق الطاعة يقول
سبحانه
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهرك واصطفاك على نساء
العالمين
1
قال ابن عباس والحسن وابن جريج
اصطفاها على عالمى زمانها قال ابن الأنباري
وهذا قول الأكثرين
وبعد أن أثنت عليها الملائكة هذا الثناء الجميل قالت يا مريم اقنتی
لربك واسجدى واركعى مع الراكعين
ثم يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه وحبيبه وصفيه ومصطفاه ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
وما كنت لديهم إذ يختصمون 3
وتعود الملائكة إلى مريم تتحدث إليها ولم تكن في هذه المرة موجهة
أو آمرة وإنما تزف إليها بشرى مذهلة
يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ٤
يقول صاحب زاد المسير
۱ آل عمران آية ٤٢
آل عمران آية ٤٣٠
۳ آل عمران آية ٤٤ ٤ آل عمران من آية ٤٥

وفى المراد بالكلمة ها هنا ثلاثة أقوال أحدها
أنه قول الله له كن فكان قاله ابن عباس وقتادة والثاني أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى حكاه أبو سليمان
والثالث أن الكلمة اسم لعيسى وسمى كلمة لأنه كان عن الكلمة
وقال القاضي أبو يعلى
لأنه
يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى

ثم تحدثت الملائكة إلى مريم عن صفة هذا الذي بشرتها به فقالت عنه وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين ۱
فوجئت مريم بذلك فقالت في تعجب واستفهام
رب
أنى يكون لي ولد ولم يمسسنى بشر
وكانت إجابة جبريل عليه السلام لها حاسمة واضحة
قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن
فيكون
واستمرت الملائكة فى ذكر بركات الله عليه فقالت
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
۱ آل عمران من الآية ٤٥ ٤٦

مؤمنين ومصدقا لما بين يدى من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ۱ وإذا تأملنا قليلاً في النص الإلهي وجدنا أن عيسى عليه السلام يقول إنه يفعل ما يفعل بإذن الله ومعنى ذلك أنه ليس له من نفسه القدرة على
الخلق أو الإبراء وإنما ذلك كله بإذن الله
ويقول
إنه رسول إلى بني إسرائيل
وإنه مصدق لما بين يديه من التوراة
ويختم بقوله
إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم
ونعود إلى مريم عليها السلام من جديد
لقد كنا مع مريم وعيسى عليهما السلام من خلال سورة آل عمران والآن نصاحبها من خلال سورة مريم التي ذكرت بعض تفاصيل لم تكن فيما
مضى
يقول الله سبحانه وتعالى
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من
دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب ۱ آل عمران الآيات ٤٨ - ٥١
۱۹

لك غلاماً زكياً قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسنى بشر ولم أك بغياً قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نَسيا منسياً فناداها من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سرياً وهزّى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيًّا فكلى واشربى وقرى عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولى إلى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إنى عبد الله آتاني الكتاب وجعلنى نبياً وجعلنى مباركاً أين ماكنت وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقياً والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ۱ أرأيت إلى هذا التكريم الذى أحاط الإسلام به مريم عليها السلام وعيسى عليه السلام إنهما في التكريم السامى الذى أنزل الله فيه المصطفين من عباده المقربين و بينما يفترى اليهود على مريم افتراء نزهها الله عنه وبينما يرميها قتلة الأنبياء بالفاحشة ويتهمونها بالزنى إذا بالقرآن وبالجو الإسلامي كله قديمه
۱ سورة مريم الآيات ١٦ - ٣٦
۰

وحديثه يعتبرها قديسة صديقة
وبينما ينكر اليهود على عيسى عليه السلام نبوته ويرمونه بالكذب إذا بالإسلام يعترف بنبوته وبأنه عبد الله ورسوله وبأنه مبارك وبأنه وجيه في الدنيا والآخرة وبينما ينكر بعض مؤرخى الأديان مجرد وجود المسيح عليه السلام إذ لم تثبت لديهم الأدلة التاريخية على وجوده وعللوا المسيح والمسيحية بأنهما من اختراع القديس بولس وأن المسيح ليس إلا أسطورة لم يقع لها وجود إلا في خيال القديس بولس إذ بالإسلام يوجب على أتباعه وجوباً حتمياً الإيمان بعيسى عليه السلام نبياً ورسولاً ومباركاً ووجيهاً في الدنيا والآخرة
عیسی
إنه جزء من إيماننا نحن المسلمين نبي معصوم مبرأ من المعصية وأمه
صديقة اصطفاها الله وطهرها واصطفاها على نساء بني إسرائيل من هذا الأساس ننطلق ونسير في هذا الكتاب نسير بحسب واقع بالفعل أي أننا نصور واقعاً لا نخترعه ونكتب عن حقائق لم نبتدعها
ونخط صفحات ناشئة عما حدث بالفعل والله نرجو أن يهدى لها وأن يهدى بها وأن يفتح لها قلوباً ويرشد بها عقولاً ويجعلها في ميزان حسناتنا إنه
سميع قريب مجيب

الفصل الثاني
أوربا والمسيحية

سجل التاريخ في صورة واضحة مآسى محاكم التفتيش وما كانت تقوم به من إحراق بالنار ورمى في الزيت المغلى وإخراج للأظافر وتقطيع
لأجزاء الجسم قطعة قطعة زيادة في العذاب ومضاعفة للآلام وسجل الأثر الأخلاقى الذى غمر الإنسانية في أوربا من جراء هذه
المحاكم
فقد
عم
الرياء والنفاق خوفاً على الأموال والأرواح وانتشر الكذب والمداهنة بصورة لا مثيل لها ووقر في أذهان الناس العدالة خرافة من الخرافات وأسطورة من الأساطير ذلك أن شعار محاكم التفتيش كان
سماع الاتهام وعدم الإصغاء إلى الدفاع وكان المقرب إلى هذه المحاكم هو الذى يتهم الآخرين بل هو الذي يكثر من اتهام الآخرين كانت فترة هول يشيب لها الأطفال وكانت باسم الدين وعن رجال
الدين
وحدثنا التاريخ أن نفوذ محاكم التفتيش تخطى أوربا وعبر البحار وتغلغل الفاتحين الأسبان في ربوع أمريكا لأول عهدها بالغزو والفتح وكانت الفظائع التي ارتكبت هناك سواء من الفاتحين أو من رجال الدين ضد الهنود الحمر لا تعد ولا تحصى وإذا كان ضمير الكنيسة قدر له أن يهمس أحياناً نادرة بأن الأوربيين

مواطنون ومسيحيون فإنه لم يكن يهمس بالنسبة للهنود الحمر لذلك كان
التنكيل بهم سجل التاريخ كل هذا فى كتب لا يحصيها العد ولم يقتصر التصوير على الكتب وإنما تعداها إلى القصص الذى وجد ميداناً خصيباً في المآسي العنيفة التي ارتكبت باسم الدين
أشد والعذاب الذي يصب عليهم أنكى وأفظع
ومن القصص التي صورت ذلك خير تصوير القصة الخالدة التي ترجمت إلى اللغة العربية باسم فارس قصطلة وكان الأولى أن تترجم باسم فارس
قشتالة
ومهما يكن من شيء فإن هذه القصة صورت المأساة تصويراً بارعاً سواء في جانبها الأوربي أو فى جانبها الأمريكي وقد ظهرت هذه القصة في السينما فوجهت الأذهان توجيهاً قوياً نحو الربط بين المسيحية والتنكيل
بالإنسانية
وسجل التاريخ أيضاً ذلك الصراع العنيف بين المسيحية ورجال العلم ورجال الفكر الحر وليست مأساة جاليليو بالحادث الوحيد فالكثير من رجال العلم والفكر أحرق أو شنق أو زج به في أعماق السجون وكل ذلك باسم الدين ! !
وعن محاكم التفتيش يقول الشيخ محمد عبده أنشئت محكمة التفتيش لمقاومة العلم والفلسفة عندما خيف ظهورهما بسعى تلامذة ابن رشد وتلامذة تلامذته خصوصاً في جنوب فرنسا وإيطاليا أنشئت هذه المحكمة الغريبة بطلب الراهب توركماندا

قامت المحكمة بأعمالها حق القيام ففى مدة ١٨ سنة – من سنة ١٤٨١ إلى
شخصاً
بعقوبات
سنة ١٤٩٩ - حكمت على عشرة آلاف ومائتين وعشرين شخصاً بأن يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير فشهروا وشنقوا وعلى سبعة وتسعين ألفاً وثلاثة وعشرين مختلفة فنفذت ثم أحرقت كل توراة بالعبرية ماذا كانت وسائل التحقيق عند هذه المحكمة المقدسة وسيلة واحدة هي يحبس المتهم وتجرى عليه أنواع العذاب المختلفة بآلات التعذيب المتنوعة إلى
أن
أن يعترف بما نسب إليه وعند ذلك يصدر الحكم ويعقبه التنفيذ قرر مجمع لاتران سنة ١٥٠٢ أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه شيئاً من الصناعة والعبادة لكن ذلك لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيء من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره اشتدت محكمة التفتيش في طلب أولئك المجرمين طلاب العلم والسعاة إلى كسبه ونيط بها كشف البدعة والحكم فيها مهما اشتد خفاؤها في المدن في البيوت في السراديب فى الأنفاق في المخازن في المطابخ في المغارات في الغابات في الحقول فوفت بما كلفت مع البهجة والسرور اللائقين بأصحاب الغيرة على الدين عملا بالقول الجليل ما جئت لألقى سلاماً بل سيفاً كانوا يأخذون الرهبان في صوامعهم والقسس في كنائسهم والأشراف
في قصورهم والتجار بين بضائعهم والصناع في مصانعهم والعامة في بيوتهم ومزارعهم وحيثما وجدوا وأينما ثقفوا ويوقفون أمام المحكمة

وتصدر الأحكام عليهم يوم اتهامهم
قرر مجمع لاتران أن يكون من وسائل الاطلاع على أفكار الناس الاعتراف الواجب أداؤه على المذهب الكاثوليكي أمام القسيس في الكنيسة رأى الاعتراف بالذنوب طلباً لغفرانها
تذهب البنت أو الزوجة أو الأخت لأجل الاعتراف بين يدى القسيس يوم الأحد فيكون مما تسأل عنه عقيدة أبيها أو زوجها أو أخيها وما يبدو من لسانه في بيته وما يظهره فى أعماله بين أهله فإذا وجد القسيس متلقى الاعتراف شيئاً
6
من الشبهة في طلب العلم غير المقدس على من سأل عنه رفع أمره إلى المحكمة فينقض شهاب التهمة عليه فإذا سئل عن الشاهد الذي عول عليه في اتهامه لا يجاب وإنما يقام التعذيب مقام شخص الشاهد و وهو من ! من أهله حتى يعترف أوقعت هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه شيء من نور الفكر إذا نظر حوله أو التفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه وأن السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه ومن ورود الفكرة العلمية إليه وقال باغلباديس ماكان يقوله جميع الناس لذلك العهد يقرب من المحال أن يكون الشخص مسيحياً ويموت على فراشه حکمت هذه المحكمة من يوم نشأتها سنة ١٤٨١ إلى سنة ١٨٠٨ على ثلثمائة
وأربعين ألف نسمة منهم نحو مائتي ألف أحرقوا بالنار أحياء وتنفّس الناس الصعداء فى عصر النهضة التى كانت ثمرة الجهاد أحمر
أريقت فيه الدماء وتيتمت فيه الأطفال وأزهقت فيه النفوس وكانت النهضة تحرراً من السيطرة الطاغية كانت تحرراً من سيطرة الملوك

والأمراء وكانت تحرراً من سيطرة التقاليد والعادات وكانت - أيضاً -
تخلصاً
من سيطرة رجال الكنيسة والكهنوت
لقد فقدت الكنيسة سيطرتها الطاغية منذ بدء النهضة ولكنها كانت تعمل
دائبة لاعادتها
وأصولها
ومن
وفي القرن السابع عشر تحررت الأقلام الأوربية تحرراً كبيراً بالنسبة للنصرانية ذلك مثلاً ما كتبه اسبينوزا إنه يقول ولقد توهم أن كل ما يحويه الكتاب المقدس هو جميعه منزه عن الخطأ ولكن لاشئ أدخل من ذلك فى باب البطلان عند سبينوزا فلا التوراة المعزوة إلى موسى ولا السفر المعزو إلى يوشع ولا سفر القضاة ولا سفر روت ولا صمويل ولا سفر الملوك كتبت بأيدى المؤلفين الذين نسبت إليهم ولا في التاريخ الذى تعينه النقول الدينية لهذه الكتب إن سفر التوراة كان حسبما ورد فيه هو نفسه مسطراً بيد موسى ولكن بينما يتكلم عنه سفر التثنية بضمير المتكلم فإن سائر الأسفار عنه بضمير الغائب وفى هذا تباين ظاهر
تتكلم
وأيضاً يشاهد أن سفر التثنية يحوى قصة موسى ورثاءه وهذا التأكيد
الموحى لم يأت نبي مثله من بعده
وفوق ذلك نرى التوراة قد عينت أماكن بأسماء لم توضع لها إلا بعد أزمان
متطاولة
وإن القصص لتمتد فى هذا السفر بدون انقطاع حتى إلى ما بعد وفاة من
ادعی
أنه مخرجه

وإن هناك لأسباباً مشابهة تثير
كذلك شكاً حول صحة أغلب كتب العهد القديم إنها جميعاً تشبه أن تكون قد أخرجت متأخراً جدا عن الوقائع التي ترويها وبأسلوب مؤلف واحد وإن سبينوزا ليوحى إلينا باسمه إنه على ما يعتقد هيراس
ولقد ادعى أن جميع نصوص العهد القديم كانت بينة لا لبس فيها وأنها فيما بينها على انسجام وتلك دعوى باطلة
إن كثيراً منها لعلى تناقض فيما بينها وكثير منها تافه المعانى ومع كل ذلك فاللسان العبرى لسان فيه كثير من اللبس وحروفه يختلف بعضها عن بعض وحروف العطف والظروف لها معان متعددة أما الأفعال المضارعة فليس لها الأزمان المستعملة في اللغات الأخرى كما أنها خالية من الحركات خالية من الترقيم أما المعنى فغامض دائماً ودائماً عسير
التحديد
ثم كيف - ونحن نجهل كل شيء عن كتبة التوراة - يمكن أن نعرف بأى روح كانوا يكتبون إننا عندما نقرأ أرسطو أو أوفيد فإننا نجد أنفسنا في التو واللحظة واقفين على مقاصدهما نحن نعرف أن أحدهما كان يلهو بقصص من تصوراته والآخر بأساطير طريفة لها أحياناً مرام سياسية لكن أية فكرة نأخذ عن الأقاصيص التي نجدها في العهد القديم عن قصة شمشون الذي كان وحيداً وبدون جيش يقتل ألوفاً من الرجال وعن قصة إيليا الذي رفع إلى السماء على عربة من نار أيجب أن نرى في ذلك قصصاً ذات دعاوى تارخية أيجب أن نرى فيها شيئاً آخر أساطير كذباً

للعظة ذلك مرده إلى معرفة الروح التي كانت مسيطرة على الكتاب الذين ألقوا
تلك الصحائف وتلك الروح من ذا الذي يعرفها ۱
ويقول
أما
عن
الطقوس العبرية فيجب ألا نعزو إليها قيمة خاصة إن الشعب
العبراني ليس البتة شعب الله المختار إنه ليس له مزية في ذكاء ولا في أخلاق وإنه يمكن أن يمارس المرء شعائرهم دون أن يصير بذلك أشرف أو أفضل وإنه يمكن أن يكون المرء شريفاً طيباً دون أن يمارسها إن تلك القواعد لتلك الطقوس لم يكن لها من غاية إلا أن تأخذ العبرانيين بالنظام الذي كانوا بحاجة إليه
أما عر عن خطيئة آدم وتحمل أبناء آدم وزرها وأن كل ما يصيب الإنسان من
آلام وفواجع إنما كان بسببها فقد كتبوا يقولون
إن الإنسان قد برئ طيباً وفى اتزان تام في عالم خال من الشرور ولكن الإنسان قارف الخطيئة ولأنه قارف الخطيئة صار معاقباً ولأنه صار معاقباً ملى العالم بالشرور
لكن هل يمكن للعقل أن يقتنع بمثل تلك التأكيدات ما الرأي أولاً فى ألم الحيوان أنا مثلاً أضرب كلباً إنه يعوى من الألم وإن كان يتألم فهل يجب أن يقال إنه انحدر من صلب أبيه الأول الذي أكل هو أيضاً من طعام محرم أم هل يجب أن يعد معاقباً من أجل غلطة آدم
۱ انظر كتاب المشكلة الأخلاقية والفلاسفة

مع أنه لم يكن للكلاب فى هذا شأن يذكر وهذا ظلم بالغ حد القسوة أيمكن أن يسلم بأنه لا يتألم وأنه على منهج ديكارت وخلافاً للمعقول إنما يصدر عن مجرد عمل میکانیکی
ومن ناحية أخرى ماذا يقال عن آلام الإنسانية
يقول بسكال لا شيء يزحم العقل الإنسانى بالألم كعقيدة الخطيئة الأصلية وإنه ليبدو أبعد ما يكون عن العقل أن يعاقب إنسان من أجل خطيئة اقترفها أحد أسلافه منذ أربعة آلاف سنة وكم يبدو غريباً أن يحكم على طفل بالألم من أجل خطيئة لم يكن هو نفسه قد ارتكبها ولم يكن قد غمس فيها أصبعاً بأية وسيلة بل لم يعرف عنها شيئاً إلا من التاريخ وبعد زمن من
حياته
وإنه لحق أن تعليل الشر بالخطيئة الأصلية لمن يتمسك بمنطقه إنما هو من الفروض المتعذرة
وإنها لنهاية لا يمكن تحاشيها كلما فكرنا أكثر في طبيعة هذه الخطيئة
نفسها
لكي يكون المرء مسئولاً ومعاقباً بالعدل يجب أن يكون المرء حراً في مقاصده وبدون ذلك فليس ثم مكان للأهلية بالفضيلة ولا للسقوط
بالإثم
وأتى القرن الثامن عشر والكنيسة تحلم بإعادة سابق سيطرتها على العالم
الأوربي وتسعى جاهدة لاسترداد ما فقدته من سلطان على الضمائر والنفوس
۱ المشكلة الأخلاقية والفلاسفة

والقلوب وشعر كبار الكتاب بالخطر يتهدد الإنسانية في صورة محاكم التفتيش فحمل فولتير و روسو وغيرهما حملة شعواء على رجال الدين المسيحى وتخطت حملتهم رجال الدين إلى المسيحية نفسها فأخذوا يقوّضون قيمها ويهدمون بمعاول من فولاذ بيد أن أبحاثهم – وإن كانت تستهوى الأديب - لبلاغة الأسلوب وجمال التعبير وقوة المنطق فإنها لم تكن تتسم بالصورة العلمية الحقيقية وكانت تبدو عند المتمعن كأنها ثأر ثائر لا يبالى في سبيل الغاية بالوسائل التى يسلكها ومن أجل ذلك كانت أبحاثهم متفاوتة القيمة فيها الضعف وفيها القوة وفيها الحقيقة وفيها الوهم ولكنها - على كل حال - نالت من قدسية المسيحية وعبدت الطريق
للنقد العلمي

بدأ إذن النقد العلمي في القرن التاسع عشر وبدأ متسلسلاً ثم أخذ يتغلغل شيئاً فشيئاً حتى إذا كان أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين شمل النقد المسيحية من جهة عقيدتها ومن جهة كتبها
المقدسة
كتب رينان عن المسيح عليه السلام كتاباً يثبت فيه أن السيد المسيح لم يكن إلهاً ولا ابن إله وإنما هو إنسان يمتاز بالخلق السامي وبالروح
الكريمة وإذا قوضت فكرة المسيح الإله أو المسيح ابن الإله فقد انهارت المسيحية الحالية من أساسها ١
۱ آراء يقصد المستشرقون منها المسيحية في أوربا حيث البيئة التي نشئوا فيها
۳۳

ولكن رينان لم يكن متطرفاً في حكمه فقد أثبت على كل حال وجود المسيح وجوداً تاريخياً حقيقياً
وما كان من المعقول قط أن يؤمن رينان ذو العقلية الصارمة بألوهية المسيح أو بالتثليث أو بالخلاص بالطرق التي توجيها الكنيسة والحمد الله أن آمن بوجود المسيح كحقيقة تاريخية
6
ولكن آخرين أخذوا ينقبون فى بطون الكتب ويتتبعون الروايات ويغربلون الوثائق فانتهوا إلى عدم الاطمئنان لوجود المسيح وجوداً تاريخياً ورأوا أن المسيح أسطورة ولقد اشترك الأستاذ باييه أستاذ علم الاجتماع في جامعة السربون مع
زميلين له في تأليف كتاب ينحو هذا النحو الأخير
وأثبت الأستاذ باييه أن السبب الرئيسى بل السبب الوحيد الذي جعل
الإمبراطور قسطنطين يتخذ المسيحية ديناً رسمياً إنما هو ما رآه فيها من التعصب الذي لا يوجد فى غيرها من الأديان التى كانت منتشرة إذ ذاك في روما ورأى أن هذا التعصب نفسه هو الذي سيربط الإمبراطورية برباط من حديد فيكون ذلك مقاوماً لعوامل التفكك التي تسرى في شرايين الإمبراطورية
لقد ابتأس الإمبراطور حينما رأى التفكك والانحلال يسرى في إمبراطوريته المترامية الأطراف وأخذ يفكر فما يمكن أن يربط هذه الأشلاء التي توشك أن
تتداعى
ونظر في الأديان الموجودة فوجدها ثلاثة أديان متعادلة كل منها يصارع

الآخر ليصرعه ولم يكن نظره فى هذه الأديان للهداية والرشد أو النجاة في العالم الأخروى وإنما كان ينظر في الأديان ليرى أيها أشد تعصباً وأشد تهيؤاً واستعداداً للتنكيل بالمخالف فرأى أن المسيحية يتوافر في رجالها ذلك فاختارها ديناً رسمياً للدولة من أجل هذا السبب فحسب
أما أحد زملاء باييه فقد كتب فى الكتاب نفسه قائلاً إن المسيح عليه السلام أسطورة لا حقيقة لها
وكتب الزميل الثالث موضوعاً لا يقل خطورة عن ذلك وقد وجد من علماء تاريخ الأديان فى النصف الأول من القرن العشرين علمان من أعلام الباحثين أحدهما الأستاذ لويس وقد تخصص في كتب العهد القديم
وأثبت بالطريق العلمى الصحيح أن هذه الكتب نالها التحريف أما الآخر وهو الأستاذ جنى بيره فقد كان أستاذاً لتاريخ الأديان بجامعة السربون إلى عهد قريب ولأبحاثه شهرة عالمية وقد كتب كتاباً ضخماً عن العصر الذى نشأ فيه المسيح عليه السلام وكتب كتاباً آخر فيما يقرب من خمسمائة صفحة عن المسيح نفسه وكتب كتاباً عن تطور العقائد ورابعاً فى جزئين عن المسيحية القديمة ومسيحية
ثالثاً
العصور الوسطى والمسيحية الحديثة وقد أثبت في كل هذه الكتب بما لا يدع مجالاً للشك أن المسيحية الحالية ليست هي مسيحية المسيح بل لا تمت إلى مسيحية المسيح بصلة اللهم إلا الصلة الاسمية وقد تتبع المسيحية الحالية كيف نشأت منفصلة عن المسيح ثم كيف

تطورت إلى أن أصبحت فى الوضع الحالى وبين في وضوح لا لبس فيه أثر القديس بولس على المسيحية والقديس بولس هذا أمره غريب وحالته النفسية لم تتضح كل الوضوح إلى الآن
لقد كان يهودياً متعصباً لليهودية يصارع خصومها في عنف ويستعمل كل نشاطه وحيويته في تثبيت دعائمها ثم كان وثنياً شديد التعصب للوثنية وذات ليلة - حين كان مسافراً - زعم أنه رأى المسيح والنور والإشراق وأنه اهتدى إلى المسيحية وركز حيويته الجارفة أيضاً في تدعيمها ولكن كيف أن المسيح لم يدع أنه آت بدين جديد مستقل عن دين موسى وإنما أتى – حسب ما يقول - لإصلاح ما أفسده اليهود في دين موسى وتلك فكرة لا تجعل لديانة المسيح أصالتها وبالتالى لا تروق للقديس بولس فأخذ يخترع وينظم وينسق إلى أن أقام مسيحية تدين له أكثر مما تدين للمسيح 1
لقد أثبت الأستاذ جنى بير أن المسيحية الحالية إنما هي في أغلبها الأعم مدينة للقديس بولس وأثبت أن المسيح كان – على الخصوص – متجهاً إلى إذاعة ونشر بعض القواعد الأخلاقية التى كانت تحتاجها البيئة إذ ذاك لقد كانت بيئة متحجرة لا تنبض القلوب فيها بقطرات من الرحمة أو الإشفاق لقد كانت البيئة اليهودية على أسوأ ما يمكن أن تكون عليه اليهودية وأتى المسيح مبشراً بالرحمة والإشفاق والتعاون والمحبة
۱ هذا رأى المستشرق
٣٦

أما التثليث وأما فكرة الألوهية التي تمشى على الأرض متمثلة فيه أو البنوة للإله أما هذه العقائد المعقدة التي لا يستسيغها عقل ولا يطمئن إليها فؤاد فقد كانت حسما يرى الأستاذ جنى بير بعيدة كل البعد عن رسالة
المسيح وبالطبع حرمت الكنيسة كتبه وطردته من ملكوت السموات وكانت كتبه عن المسيحية تدرس بقسم تاريخ الأديان بالجامعة وقد حضرناها عليه شخصياً وامتحننا هو فيها
كل هذه العوامل بعثت الشك فى نفوس هؤلاء الذين كانوا من سعة الأفق بحيث لم يقتصروا في قراءتهم على الكتب التي لا تحرمها الكنيسة وإذا زلزل الشك عقيدة معينة فإن الشاك يتطلع إلى غيرها وقد اتجه بعض من عصف الشك إلى الإسلام فأسلموا واعتصموا بدين الله خاتم بهم
الأديان

الفصل الثالث
الغرب والإسلام

إذا كان الأمر كذلك فما الذى يمنع الغربيين من الدخول في الإسلام زرافات ووحداناً
إن الإسلام واضح جلى وإن تعاليمه سهلة ميسورة تنسجم مع العقل والمنطق فما السر في عدم أخذ الأوربيين بهذا الدين وعدم اعتناقهم له في
سرعة سريعة وفى كثرة هائلة
الواقع أن العوامل التى تمنع الأوربيين من اعتناق الإسلام كثيرة قوية ومن المؤسف أن بعض هذه العوامل يرجع إلى المسلمين أنفسهم ولنتحدث أولاً عن
العوامل الخارجية عن الإسلام والمسلمين
١ - وأول هذه العوامل هي الكنيسة لقد أتقنت الكنيسة فن النظام فلا ارتجال فيها كل شيء فيها معد مرتب
منسق قد بحث عن روية وأعد إعداداً تاماً
وكان مما أعدته مشروعان كبيران أحدهما للتبشير والثاني لصد الهجوم عن
الديانة المسيحية أما
فيما يتعلق بالتبشير فإنه من الأوليات عندها أن يعرف المبعوث لغة المرسل إليهم ويدرس عاداتهم وتقاليدهم وديانتهم ومواطن الضعف
فيهم والوسائل التي تجذبهم وأن
يعلم
فضلاً
عن
ذلك بعض مبادئ
الطب ويعلم قبل ذلك وبعده كيفية الهجوم على الديانة المتوطنة وكيفية
٤١

الدعوة لديانته أما المشروع الآخر وهو الذى يعنينا هنا فهو على الخصوص يتركز في دراسة مستمرة متجددة فى أحدث الوسائل لتشويه ديانات الآخرين في
ذلك
وما نشر من أضاليل عن الإسلام لا يحصر ولا يعد إنها أضاليل تنشر متتابعة متكررة تتردد فى صور مختلفة وينتهى بها التكرار والترديد إلى إيمان من تنشر عليهم بها وتبلغ بهم الصفاقة إلى أن يعكسوا الحقائق عكساً تاماً فالدين الإسلامي مثلاً وهو دين التوحيد الخالص ودين التنزيه التام يشيعون عنه أنه دين عبادة الأوثان
ويكررون ذلك في مختلف الأمكنة والأزمنة وينتهي المسيحيون بالاعتقاد
بأن هذا الدين إنما هو عبادة الأوثان
وهكذا تسير الدعاية تضليلاً وتشويهاً وعكساً للحقائق

ومن أهم الوسائل أيضاً لتحصين المسيحية ما يسمونه نظام الحرمان من الدين المسيحى وهو نظام بمقتضاه يسهل على الكنيسة أن تحرم قراءة أى كتاب ترى فيه خطراً على المسيحية سواء كان هذا الكتاب هجوماً عنيفاً على المسيحية أو دعاية بارعة للإسلام أو حتى نمطاً ممتازاً من الدعاية القوية لسعة الأفق
وتحرير الفكر وقد استعملت الكنيسة هذا الحق فى شأن كثير من الكتب الممتازة واستعملت هذا الحق أيضاً فى شأن كثير من الكاتبين وكان موقفها من كل كاتب لا يمكنها أن تستولى عليه بوسيلة الرغبة أو بوسيلة الرهبة أن تحرم قراءة
٤٢

كتبه وأن تحرمه هو من رحمة السماء
عند الكنيسة إذن الرغبة والرهبة عندها المال وعندها الحرمان
على أن الأسباب التي ترجع إلى المسلمين لا تقل خطراً عن الكنيسة إن أية دعوة مهما كانت من السمو لا يمكن أن تجتذب إليها الأنصار إلا إذا كان لها دعاية وقد أخذت الدعاية في العصر الحديث مكاناً يجعلها في الدرجة
الأولى
الأهمية من ويعرف ذلك المسلمون يعرفه تجارهم ورجال الأحزاب منهم ويعرفه
ذلك مطلقاً
كل مثقف ولكنهم لا يعملون به فيما يتعلق بنشر الإسلام أين دعاتنا في الشرق أو فى الغرب أين مبعوثونا أين الدعاة منا لا شيء من ومن المعروف أن مبعوثى الحكومة ومبعوثى الأزهر إلى الأقطار الخارجية إنما بعثوا لتعليم الحساب والخط والإملاء واللغة العربية في مدارس إسلامية ابتدائية أو إعدادية أو ثانوية ليس لنا في الخارج قط مبعوثون وإذا كان الدين الإسلامي ينتشر فإنما ينتشر بقوته الذاتية برغم الهجوم عليه وبرغم العقبات التي تعترض طريقه ولنقارن ذلك كله بالإرساليات التبشيرية ومن أمامها ومن خلفها المستشفيات والملاجئ والمدارس والمعاهد والمال يغدق والوظائف ولنتصور كفتى ميزان إحداهما لا شيء فيها وتلك هي كفة المسلمين بالنسبة والأخرى فيها كل شيء وتلك هي كفة المسيحيين بالنسبة
للإسلام للمسيحية
٤٣

وسبب ثان تحدث عنه جمال الدين الأفغاني وكان يرى أنه أقوى الأسباب ذلك هو حالة المسلمين
وكثيراً ما قال جمال الدين إن الغربيين يستمدون فكرتهم عن الإسلام من مجرد رؤيتهم للمسلمين فإنهم يرون المسلمين متخاذلين ضعفاء أذلاء مستكينين فرقت بينهم الأهواء والشهوات وقعدت الصغائر وانصرفوا بهم عن عظائم الأمور وأصبحوا مستعبدين مستذلين ولو كان الإسلام ديناً قوياً لما كان المسلمون هكذا
ينظر الغربيون إلى المسلمين فى العصر الحاضر وينسون شيئين ينسون أن المسلمين في العصر الحاضر غير مستمسكين بالإسلام وتكاد الصلة التي بينهم وبينه تكون مجرد صلة اسمية وينسون عظمة المسلمين وقوتهم
أيام كانوا مستمسكين بالإسلام وأيام أن كانت الدنيا لهم ولعل المسلمين يعودون إلى دينهم صافياً نقياً ويستمسكون به فيكونون مرآة حقيقية يتمثل فيها الإسلام قوياً سامياً
و آداب الإسلام حقيقة كفيلة بأن تجعل من المسلم رجلاً قوياً مهذباً كريم النفس ولكن المسلمين ابتعدوا كل البعد عن الإسلام ولنتخذ مثلاً بسيطاً مسألة النظافة لقد دعا الإسلام إلى النظافة دعوة لم يدعها دين من الأديان ولم يدعها مذهب من المذاهب قديماً أو حديثاً ولكن إذا نظرنا إلى الأقاليم الإسلامية أو إلى الأحياء الإسلامية وقارناها بالأقاليم أو الأحياء الأخرى نجد الفرق واضحاً سواء كنا في مصر أو في
تونس أو في مراكش أو فى غير ذلك من البلدان

ونأخذ مسألة أهم من ذلك مسألة اتحاد الأمم الإسلامية
حصر
لها وبأساليب لا حد لتنوعها
فقد دعا إليها الإسلام في صور لا مهدداً متوعداً تارة مرغباً محبباً تارة أخرى متحدثاً عن الثمرات المادية
والدنيوية للاتحاد
ومع ذلك فقد كان كل ذلك صرخة في واد وكأن
صم
بكم
عمى فهم لا يعقلون
الاتحاد المسلمين عن وخذ آداب الإسلام واحداً فواحداً وانظر إلى حال المسلمين
هل تجد توافقاً وانسجاماً بين المسلمين والإسلام
يقول جمال الدين إذا أردنا أن ندعو للإسلام فليكن أول ما نبدأ به أن نبرهن للغربيين أننا
لسنا مسلمين
وسبب
ثالث لعدم انتشار الإسلام آت من المسلمين أنفسهم أيضاً
وذلك هو عرض الإسلام وكتب المسلمين أنفسهم منذ سنوات جاء أحد الأمريكان يمكث فى مصر فترة من الزمن يتعلم فيها الإسلام واتصل بالهيئات التى تمثل الإسلام فبلغت الحيرة منتهاها حينما أرادت هذه الهيئات اختيار كتاب يتعلم من خلاله الإسلام ومن الطبيعي أن يتجه الذهن إلى كتب علم الكلام فهي كتب الدفاع عن العقيدة ولكن إذا نظرنا في كتب علم الكلام نجد أنها جدال لا ينتهى بين الذين يبحثون فيه بالزيغ وابتغاء الفتنة والجدال فيها يبدأ ويعاد ولا ينتهى ثم هي تصور - على الخصوص - المستوى الثقافى للعصور الوسطى ولا تمت بصلة إلى الأبحاث الحديثة ومن الطبيعى أن تكون كذلك لأنها ألفت

في العصور الماضية وما ألف منها حديثاً ألف على غطها اتباعاً للآباء والأجداد وبغضاً للخروج عن المألوف
وإذا لم نأخذ الدين من كتب علم الكلام فهل نأخذه من كتب التفسير ! لقد انتهى تفسير القرآن إلى أن أصبح مسرحاً يتبارى فيه النحويون واللغويون وبلاغيو العصور المتأخرة وغشت هذه النواحى على الهداية لما أنزل الكتاب من أجله أي الهداية للأقوم
وإذا كانت كتب الكلام قد استفاضت في الحديث عن القدر مع نہی رسول الله ال نهياً صريحاً عن الحديث فيه وإذا كانت قد استفاضت في الحديث عن صلة الذات الإلهية بالصفات إذ أنه محاولة لاكتناه الذات الإلهية التي نهينا عن التفكير فيها وأمرنا بالتفكير فى آثارها وإذا كانت كتب الكلام قد تعرضت لذلك دون جدوى ولا ثمرة فإن كتب التفسير أيضاً قد تعرضت لهذه المشاكل نفسها دون جدوى ولا ثمرة ومما لا شك فيه أن اكتناه سر الألوهية من حيث الذات أو من حيث
القدر من المتشابه الذى نهينا عن الخوض فيه
ولكن اكتناه الألوهية من الأمور التي تتطلع إليها نفوس طائفة من ނ الناس أرادوا بعقلهم المحدد تعيين ما لا يحد وطمعوا في أن يحدوا بعلمهم الجزئى ما لا يحيطون به علماً
ونشاهد الاتجاه في عهد الرسول نفسه وكان موقف الرسول منه حاسماً والأحاديث كثيرة مستفيضة في النهي عن الخوض في الذات أو في القدر ومما يروى في ذلك الأمر المتكرر المتنوع بالتفكير فى الخلق دون ذات الخالق
٤٦

حتى لا تهلك
أبي عن
هريرة رضى الله تعالى عنه قال
خرج رسول الله الا الله ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى اجمر وجهه ثم قال أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم ! إنما هلك من كان من قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
خرج رسول الله ذات يوم وهم يتراجعون في القدر فخرج مغضباً حتى وقف عليهم فقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم عن أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضاً ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به وبعض الأحاديث تذكر فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم
انتهرنا أو فغضب حتى لكأنما فقى في وجهه حب الرمان وكان من الممكن لو استقامت عقول الناس ونزعت من قلوبهم الأهواء والشهوات أن يكتفى بنهى القرآن وبنهى الرسول ولكن الذين في قلوبهم زيغ موجودون فى العالم فى كل آونة وحين وفى كل بيئة ومكان فقد أطلت الفتنة فى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ممثلة في صبيغ الذي كان يتكلم في القدر فأخذ عمر يضربه بعراجين النخل على رأسه حتى تاب فتركه بعد أن أدمى رأسه وقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسى يريد بذلك أنه قد تاب وأن نزغاته قد بددتها
عراجين النخل وذهبت مع الدم الذي سال من رأسه
٤٧

وسأله سائل عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة
يقول الإمام ابن قتيبة فى شرح مختلف الحديث
وقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون ويفتنون الناس بما يأتون ويبصرون الناس بالقذى في عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آراءهم بالتأويل ومعانى الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والأينية ولو ردوا المشكل منها إلى أهل العلم لوضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج ولكن يمنع من ذلك طلب الرئاسة
إن عرضنا الدين الإسلامى على هذا النمط من العرض جعل كتبنا لا يتيسر فهمها للأجانب عنا ولو لم يكن فى الإسلام تلك القوة الذاتية التي تستولى على القلوب وتغمر الأفئدة لضاق بهذه الكتب المسلمون أنفسهم الإسلام إذن بحاجة إلى عرضه عرضاً سهلاً ميسراً قوياً وبأساليب متنوعة وصور مختلفة حتى
نتلافى هذا التقصير ومع كل هذا

هل منعت هذه العوامل من انتشار الإسلام وذيوعه
ΕΛ

الفصل الرابع
مفكرون ومنصفون من الغرب

مما لا ريب فيه أن هناك مفكرين منصفين – لا غربيين فحسب بل عالميين أيضاً وهؤلاء درسوا الإسلام دراسة عميقة فأحبه البعض وناصره
وآمن به البعض الآخر وأعلن إسلامه وصدق فيه
ولقد كانت الحرب الصليبية سبباً من الأسباب الأولى التي جعلت الكثير من الأوربيين يغيرون وجهة نظرهم فيما يتعلق بالشرق على العموم وبالإسلام على
الخصوص
لقد رأى الغربيون صفات الشهامة والنبل والفروسية يتحلى بها أعداؤهم الشرقيون ورأوا أن ديانتهم ليست على ما يصوره الاستعمار من الانحطاط
والتخريف وبدأ الغربيون يدرسون فى شيء من التدبر والروية هذا الشرق الذي كان لا يثير في نفوسهم إلا ما رسمه رجال مغرضون من صور تبعث في النفس النفور بل الاشمئزاز
ثم
الوثيقة
كانت الرحلات الكثيرة والاتصال المستمر والصلات المباشرة
من العوامل الفعالة فى إزالة كثير من الأوهام التي علقت بأذهان الغربيين عن الشرق وعن الإسلام
ومما لا شك فيه أننا لم نعد نرى كاتباً يحترم نفسه في الغرب يذكر أن محمداً هو إله المسلمين ومعبودهم كما كان يقول ذلك كتاب سابقون ولم يقف الأمر عند حد إزالة الأوهام ولكن تيار تفهم الإسلام جرى

حتى لقد أخذنا نسمع مدح الإسلام من كبار كتاب أوربا وفلاسفتها
وهؤلاء الكتاب المفكرون ينقسمون إلى فريقين
فريق أعلن إسلامه فى غير لبس ولا مراءاة وجابه الرأى العام في بيئته
بعقيدته ثم أخذ يدعو إليها مكرساً وقته وجهده لنشرها وفريق أحب الإسلام ومدحه ولا ندري ماذا أسر في نفسه !
بید
أن اللورد هدلى - وسنتحدث عنه فيما بعد - يقول
إنني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً مسلمون قلباً ولكن خوف الانتقاد والرغبة فى الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغيير تآمرا على منعهم من إظهار معتقداتهم
والحق أن انتقام الكنيسة وعداءها لمن خرجوا على تقاليدها من الرهبة بحيث
يجعل كل إنسان يطيل التفكير قبل إعلان رأيه
وسواء أكان هؤلاء الكتاب اعتنقوا الإسلام قلباً أم أحبوه وأعجبوا بما فيه من تعاليم فسنذكر آراءهم أولاً ونقتصر في ذلك على أعلامهم بل سنضطر مجبرين على ذكر بعض هؤلاء الأعلام ثم نتحدث فيما بعد عن
بعض الذين أسلموا وكانت لهم شهرة عالمية

عنه
٥٢
الكونت هنری دی کاستری
a
لقد درس الكونت هنری دی كاسترى الإسلام دراسة عميقة وكتب كتاباً قيماً ترجمه المرحوم فتحى زغلول ونشر بعنوان
الإسلام سوانح وخواطر

وقصة تفكيره في دراسته للإسلام قصة طريفة
كان من كبار الموظفين بالجزائر برغم سنه المبكرة وكان يسير ممتطياً صهوة خلفه ثلاثون من فرسان العرب الأقوياء فخوراً بمركزه وكان جواده ويسير
يملؤه الغرور للمدح الذى يزجيه إليه هؤلاء الذين تحت إمرته وفجأة وجدهم يقولون له فى شيء من الخشونة وفي كثير من الاعتداد بالنفس
لقد حان موعد صلاة العصر
ودون أن يستأذنوه فى الوقوف ترجلوا واصطفوا للصلاة متجهين إلى
القبلة ودوت في أرجاء الصحراء كلمة الإسلام الخالدة
الله أكبر
شعر الكونت فى هذه اللحظة بشيء من المهانة في نفسه وبكثير من الإكبار والإعجاب بهؤلاء الذين لا يبالون به ذلك لأنهم اتجهوا إلى الله
وحده بكل كيانهم وبدأ يتساءل
ما الإسلام أهو ذلك الدين الذي تصوره الكنيسة في صورة بشعة تنفر منها النفس ولا يطمئن إليها الوجدان
وبدأ
يدرس الإسلام
وتغيرت فكرته عنه ورأى من واجبه أن يعلن
ما اهتدى إليه فكان كتاب الإسلام خواطر وسوانح ۱
وفى هذا الكتاب الطريف تحدث عن كثير من جوانب الإسلام سواء
أكان ذلك فيما يتعلق بالرسول أم فيما يتعلق بالتعاليم الإسلامية وقد تحدث –
۱ ونحن نعتمد على هذا الكتاب على الخصوص في هذا المقال

فضلاً
D
عن
ذلك - عن
السخرية والتهكم
آراء مواطنيه خصوصاً القدماء منهم في صورة من
وذهبوا إلى أن محمداً وضع دينه بادعائه الألوهية
ومن المستغربات قولهم إن محمداً الذى هو عدو الأصنام ومبيد
الأوثان كان يدعو الناس لعبادته فى صورة وثن من ذهب كما كان يعتقد
والكرلوفنجيون
من
ذلك
بل لقد أغرق خيالهم في الضلال فذهبوا إلى أبعد وذهبوا إلى أن صورة ماهوم ١ كانت تصنع من أنفس الأحجار
وبعد
والمعادن بأحكم صنع وأدق إتقان أن ذكر الكثير من آرائهم قال ولقد أطلنا القول في تلك الأضاليل لأن تاريخ إسكندر ٢ المذكور لم يزلها ولأنها تركت أثراً في الأذهان وصل إلى أهل هذه الأيام وتشبعت به
أفكارهم في النبي وكتابه
ولكن ما سر
هذه الحملة الشعواء الضالة التى تهزأ بالحق والضمير والتي
لا يقرها دين أياً كان
ولو سأل سائل هل كان أولئك المفسرون يعتقدون صحة ما يقولون
لأجبناه جواب أهل نورمندة لا - ونعم إذ من المحقق أن الاختلاط بين
۱ المقصود محمد

٢ ألف القسيس إسكندر دويون كتاباً ١٢٥٨ م عن محمد وكان الناس يعدونه تاريخاً صحيحاً
للرسول مع أنه ليس كذلك
٥٤

المسيحيين والمسلمين سهل للمنشدين معرفة الدين المحمدى على حقيقته ولكنهم
ما كانوا يقصدون الحقائق التاريخية في أناشيدهم بل حفظ
نفوس قومهم
روح
البغضاء في
هل هذه الروح التي كانت سائدة عند المسيحيين تجاه الإسلام اقتصرت
على العصور الوسطى كلا
فلم يزل هذا الروح سائداً عند المسيحيين حتى أن المستشرق بريدو الإنكليزي ألف سنة ۱۷۳۳ كتاباً في سيرة النبي علي عنوانه حياة ذى البدع
محمد
وترجمه بعضهم إلى لغتنا وجعل له مقدمة بين فيها مقصد المؤلف فقال إن غرض واضع هذا الكتاب

هو خدمة المقصد المسيحى
الحكيم ثم يعقب الكونت على ذلك بهذه الكلمة الحكيمة
يشبعوا خصمهم
أولئك كتاب ما قصدوا التاريخ ولكنهم أرادوا خدمة المقصد المسيحى الحكيم كما يقولون وكان سلاحهم الوحيد في تأييد سواقط حججهم أن سباً وشتماً وأن يحرفوا فى النقل مهما استطاعوا ثم يأخذ الكونت فى الرد على الافتراءات ومن أولى هذه الافتراءات أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يقرأ ويكتب فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل وأخذ تعاليمه منهما
وقد رد القرآن على هذه الفرية فقال
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب
المبطلون
٥٥

ويقول الكونت فى هذا المعنى
ما كان يقرأ ولا يكتب بل كان كما وصف نفسه مراراً - نبياً أمياً - وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار ولم يكن بمكة قارئ أو كاتب سوى رجل واحد ذكره جارسين دی
من
مع
تارس فى كتابه الذي طبعه سنة ١٨٧٤ كذلك الخطأ معرفة أخلاق الشرقيين أن يستدل على معرفة النبى للقراءة والكتابة باختيار السيدة خديجة رضي الله عنها إياه لمتاجرها فى الشام ولم تكن لتعهد إليه أعمالها إن كان جاهلاً غير متعلم فإنا نشاهد بين تجار كل قوم غير العرب وكلاء لا يقرأون ولا يكتبون وهم في الغالب أكثر أمانة وصدقاً
أما فكرة التوحيد فيستحيل أن يكون هذا الاعتقاد وصل إلى النبي - مطالعته التوراة والإنجيل إذ لو قرأ تلك الكتب لردها لاحتوائها

- من
على مذهب التثليث وهو مناقض لفطرته مخالف لوجدانه منذ خلقته فظهور هذا الاعتقاد بواسطته دفعة واحدة هو أعظم مظهر في حياته وهو بذاته أكبر دليل على صدقه في رسالته وأمانته فى نبوته
أما صدق الرسول وسمو رسالته فقد أخذ كثير من رجال الكنيسة ومن رجال الاستعمار يشككون فيهما وبرغم الوضوح الواضح في صدق الرسول وفى الرسالة الإسلامية فإن رجال الدين المسيحيين ورجال الاستعمار لا يزالون يبدأون ويعيدون في ترداد التشكيك إلى هؤلاء وأولئك يقول الكونت
سمو

والعقل يحار كيف يتأتى تصدر تلك الآيات عن رجل أمى وقد اعترف الشرق قاطبة بأنها آيات يعجز فكر بنى الإنسان عن الإتيان بمثلها لفظاً ومعنى آيات لما سمعها عتبة بن ربيعة حار فى جمالها وكفى رفيع عبارتها لإقناع عمر بن الخطاب فآمن برب قائلها وفاضت عين نجاشى الحبشة بالدموع لما تلا عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم وما جاء في ولاية يحيى وصاح القسيس إن هذا الكلام وارد من موارد كلام عيسى !
قال ناقل هذه الرواية كوزان دى بير سوفال
فلما كان اليوم الثانى طلب النجاشى جعفر وأشار إليه بتلاوة ما في القرآن عن المسيح ففعل واستغرب الملك لما سمع أن المسيح عبد الله و ورسوله وروح منه نزل في أمه مريم وأعجب أشد الإعجاب بهذه المعاني وحمى المسلمين ولم يسلمهم إلى رسل قريش ولم ينفهم من بلاده
أما هؤلاء الذين بلغ بهم فيها الرسول عن هذا العالم ليكون بكليته مستغرقاً في الملأ الأعلى إنما هي فترات مرضية أو هى الصرع وبرغم تكذيب الطب لمزاعمهم مستنداً إلى الاختلاف الكلى بين أعراض الصرع وأعراض الوحى فقد أعاهم التعصب عن رؤية الحقيقة وإليهم يقول الكونت
التعسف مداه فظنوا أن هذه الفترات التي يغيب
ذلك الحين – أى البعثة - أخذت شفتاه تنطلق بألفاظ بعضها أشد ه ومن قوة وأبعد مرمى من بعض والأفكار تتدفق من فمه على الدوام إلى أن يقف لسانه ولا يطيعه الصوت ولا يجد من الألفاظ ما يعبر به عن فكر قد ارتفع عن
۵۷

مدارك الإنسان وسما عن أن يترجمه قلم أو لسان وكانت تلك الانفعالات تظهر على وجهه بادية فظن بعضهم أن به جنة وهو رأى باطل لأنه بدأ رسالته بعد الأربعين ولم يشاهد عليه قبل
ذلك أي اعتلال في الجسم أو اضطراب في القوة المادية وليس من الناس من عرف الناس جميعاً أحواله فى حياته كلها مثل النبي فلقد وصل المحدثون عنه إلى أنهم كانوا يعدون الشعر الأبيض فى لحيته ولو أنه كان مريضاً لما أخفى مرضه لأن المرض في مثل تلك الأحوال يعتبر أمراً سماوياً عند الشرقيين وليست حالة محمد مع الله وانفعالاته وتأثراته بحالة ذى جنة بل كانت مثل
التي قال نبي بني إسرائيل في وصفها
ه لقد شعرت بأن قلبى انكسر بين أضلعى وارتعشت منى العظام فصرت كالنشوان لما قام بى من الشعور عند سماع صوت الله وأقواله المقدسة
ونختم الحديث عن آراء الكونت بهذا الوصف الرائع لتلك الساعة الأليمة

التي فارق فيها الرسول عالمنا الدنيوى ليلحق بالرفيق الأعلى ولينعم برضوان
الله إذ يقول ولما أحس بقرب الأجل ذكر الفقراء فإنه لم يرغب طول حياته في المال
بل كان كلما جمع إليه شيء منه أنفقه فى الصدقات وكان قد أعطى عائشة مالاً يسيراً لتحفظه فلما حضره المرض أمر بإنفاقه على المعوزين لساعته وغاب في سنة ولما أفاق سألها إن كانت أنفذت أمره فأجابته كلا فأمر بالنقود وأشار إلى الأسر المعوزات فوزع عليهم وقال
۵۸

الآن استراح قلبي فإننى كنت أخشى أن ألاقى ربى وأنا أملك هذا
المال

وكان في مرضه يخرج كل يوم ليصلى الظهر بالناس وآخر يوم خرج فيه هو الثامن من شهر يونيه سنة ٦٣٢ م وكانت مشيته مضطربة فتوكأ على الفضل بن العباس وعلى بن أبي طالب وقصد منبر الخطابة الذي كان يعظ الناس عليه قبل الصلاة وحمد الله وأثنى عليه ثم خطب في المسلمين بصوت رفيع سمعه من كان خارج المسجد فقال أيها الذين تسمعون قولى إن كنت ضربت أحدكم على ظهره فدونه ظهري فليضربه وإن كنت أسأت سمعة أحد فلينتقم من سمعنى وإن كنت سلبت أحداً ماله فإليه مالى يقتص منه وهو فى حل من غضبي فإن الغل بعيد عن قلبي
ثم نزل من على المنبر وصلى بالجماعة ولما أراد الانصراف أمسك به رجل من إزاره وطلب منه ثلاثة دراهم ديناً له فأداها على الفور قائلاً لخزي الدنيا أهون من خزى الآخرة
ثم دعا لمن حارب معه في أحد وسأل الله لهم الرحمة والغفران وكان مشهد النبي بين المؤمنين فى ذلك اليوم مشهد جلال ووقار والناس يلمحون على وجهه تأثير السم الذى شربه من يد يهودية خيبر وقلوبهم منفطرة من الوجد عليه ذلك أنه لماكان في واقعة خيبر قدمت إليه يهودية اسمها زينب شاة مشوية أضافت إليها سماً فأخذ منه النبي قطعة واحدة بين شفتيه وأحس بأنها مسمومة فألقاها ثم لما حضرته الوفاة بعد حين كان يقول

ما زالت تعاودني أكلة
خيبر
وكان أبو بكر نفسه يبكى ويقول للرسول
هلا افتدينا روحك بأرواحنا
ثم أوصله الصحابة إلى بيت عائشة واضطجع تعباً مهزولاً وصار المرض
يشتد عليه فتخلف عن الصلاة بالمسلمين
C
وقيل له قد جاء وقت الظهر

فأشار إلى أبي بكر ليصلي بالناس فكان من وراء هذه الإشارة خلافة أبي بكر
بعد النبي
وأخبرت عائشة رضى الله عنها عن حالة الاحتضار فقالت كان رأس رسول الله مع مسنداً على صدرى وبقربه قدر ماء وكان يقوم ليضع فيها يده ويمسح جبينه ويقول
رب أعنى على تحمل سكرات الموت ادن منی یا جبريل رب اغفر لى
واجمع بين أصحابى فى السماء ثم ثقلت رأسه ومال ثانية إلى صدرى
- کارلایل
وكارلايل أحد كبار كتاب الإنجليز شاعرى النزعة والفطرة متحرر من
الرياء والخبث يتتبع البطولة فيكتب عنها ويمتدحها ويحبب الناس في السمو بأنفسهم إلى منازل الأبطال أو على الأقل إلى التشبه وقد أثار كتابه الأبطال إعجاباً فى ميدان الفكر العالمى وترجم إلى كل اللغات
بهم
الحية وحينما ترجمه المرحوم محمد السباعى إلى اللغة العربية أثار الكثير من

الإعجاب وقد كان لأسلوب الأستاذ السباعى البارع أثر في انتشار الكتاب ومن لم يقرأه المعانيه قرأه لأسلوبه وفى هذا الكتاب فصل مستفيض عن حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه نقطتف منه ما يلى من العار أن يصغى أى إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم
القائلين إن دين الإسلام كذب وأن محمداً لم يكن على حق لقد آن لنا أن نحارب هذه الادعاءات السخيفة المخجلة فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي ظلت سراجاً منيراً أربعة عشر قرناً من الزمان لملايين كثيرة من الناس فهل من المعقول أن تكون هذه الرسالة التي عاشت عليها هذه الملايين وماتت أكذوبة كاذبة أو خديعة مخادع ولو أن الكذب والتضليل يروجان عند الخلق هذا الرواج الكبير لأصبحت الحياة سخفاً وعبثاً وكان الأجدر بها ألا توجد هل رأيتم رجلاً كاذباً يستطيع أن يخلق ديناً ويتعهده بالنشر بهذه
الصورة

إن الرجل الكاذب لا يستطيع أن يبنى بيتاً من الطوب لجهله بخصائص مواد البناء وإذا بناه فما ذلك الذى يبنيه الاكومة من أخلاط هذه المواد فما بالك بالذي يبنى بيتاً دعائمه هذه القرون العديدة وتسكنه هذه الملايين الكثيرة
من الناس
وعلى ذلك فمن الخطأ أن نعد محمداً رجلاً كاذباً متصنعاً متذرعاً بالحيل والوسائل لغاية أو مطمع وما الرسالة التي أداها إلا الصدق والحق وما كلمته إلا صوت حق صادق صادر من العالم المجهول
وما هو

إلا شهاب أضاء العالم أجمع ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء
أحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع ولقد كان ابن الصحراء مستقل الرأى لا يعتمد إلا على نفسه ولا يدعى ما ليس فيه ولم يكن متكبراً ولا ذليلاً فهو قائم فى ثوبه المرقع كما أوجده الله يخاطب بقوله الحر المبين أكاسرة العجم وقياصرة الروم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة والحياة الآخرة
وما كان محمد بعاشق قط ولا شاب قوله شائبة لعب ولهو فكانت المسائل عنده مسألة فناء وبقاء أما التلاعب بالأقوال والعبث بالحقائق فما
كان
من
عادته قط
ويزعم المتعصبون أن محمداً لم يكن يريد بدعوته غير الشهرة الشخصية
والحياة والسلطان كلا واسم الله
لقد انطلقت من فؤاد ذلك الرجل الكبير النفس المملوء رحمة وبراً وحناناً وخيراً ونوراً وحكمة أفكار غير الطمع الدنيوى وأهداف سامية غير
طلب الجاه والسلطان
ويزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وآثاره حمق وسخافة وهوس إن رأينا رأيهم أية فائدة لرجل على هذه الصورة في جميع بلاد العرب وفى تاج قيصر وصولجان كسرى جميع ما بالأرض من
تیجان
لم يكن كغيره يرضى بالأوضاع الكاذبة ويسير تبعاً للاعتبارات

الباطلة ولم يقبل أن يتشح بالأكاذيب والأباطيل لقد كان منفرداً بنفسه العظيمة وبخالق الكون والكائنات لقد كان
الوجود يسطع أمام عينه بأهواله ومحاسنه ومخاوفه
لهذا جاء صوت هذا الرجل منبعثاً من قلب الطبيعة ذاتها ولهذا وجدنا الآذان إليه مصغية والقلوب لما يقول واعية
لقد كان زاهداً متقشفاً فى مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله فكان طعامه عادة الخبز والماء وكثيراً ما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار
فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة فحبذا محمد من رجل متقشف خشن الملبس والمأكل مجتهد في الله دائب في نشر دين الله غير طامع إلى ما يطمع إليه غيره من رتبة أو دولة أو سلطان
ولو كان غير ذلك لما استطاع أن يلاقى من العرب الغلاظ احتراماً وإجلالاً وإكباراً ولما استطاع أن يقودهم ويعاشرهم معظم وقته ثلاثاً
حجة
وهم
وعشرين ملتفون حوله يقاتلون بين يديه ويجاهدون معه لقد كان في
قلوب العرب جفاء وغلظة وكان من الصعب قيادتهم وتوجيههم لهذا كان من يقدر على ترويضهم وتذليلهم بطلاً
وايم
الله
ولولا ما وجدوا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته
ولما انقادوا لمشيئته

وفى ظني أنه لو وضع قيصر بتاجه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا
٦٣

النبي لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه
المرقع
هكذا تكون العظمة
وهكذا تكون البطولة
وهكذا تكون العبقرية
۳ - تولوستوی
ولعلنا لسنا بحاجة إلى الحديث عن تولستوى أديب وكاتب روسيا
الأعظم لقد كان من هؤلاء الذين سمت نفوسهم إلى درجة لا نكاد نجد لها مثيلاً في التاريخ إلا نادراً كانت سعادة الإنسانية همه الملازم في كل آونة كان باستمرار يفكر في تخفيف ويلات الإنسانية وفى معالجة المرضى في تسلية بائسهم في إطعام جائعهم فى التخفيف عن منكوبهم وككل العباقرة الذين تسمو بهم عبقريتهم عن المستوى العادى صادف في حياته العقبات والآلام وبغض الحاقدين وكراهية الذين لا يحبون الحق ومن مآثره الكريمة أنه حينما رأى الحملة الظالمة على الإسلام وعلى رسول الإسلام كتب رأيه فى هذا الدين الذى أعجب به وتحدث عن رسوله الذي نال إكباره وكان جزاؤه على ذلك أى على كلمة الحق التي يدين بها أن حرمه البابا من رحمة الله فكان ذلك كما يقول الشيخ محمد عبده مخاطباً الأديب الكبير

فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس
أنك لست من القوم الضالين
ونحن ننشر هنا كلمة صغيرة جداً من رأيه ثم ننشر خطاب الشيخ محمد
عبده الذي وجهه إليه
يقول تولستوى
الا
أن هذا النبي من كبار الرجال المصلحين الذين خدموا الهيئة ریب الاجتماعية خدمة جليلة ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق
وجعلها تجنح للسلام وتكف عن سفك الدماء وتقديم الضحايا ويكفيه فخراً أنه فتح طريق الرقى والتقدم وهذا عمل عظيم لا يفوز به إلا شخص أوتى قوة وحكمة وعلماً ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال أما خطاب الشيخ محمد عبده فهو التالي ١
أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوى
لم نحظ بمعرفة شخصك ولكننا لم نحرم التعارف مع روحك سطح علينا نور من أفكارك وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس
العقلاء ونفسك هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها سر ووفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها فأدركت أن الإنسان جاء هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويربى جنسه وشعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة
۱ وقد نشره الشيخ رشيد رضا فى كتابه عن الشيخ محمد عبده

وحينما استعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما راحتهم وزعزع طمأنينتهم
ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى بها الضالون كان مثالك في العمل إماماً يقتدى به المسترشدون وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للضعفاء والفقراء وإن أرفع مجد بلغته وأكبر جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين فاحمد الله على أن فارقوك في أقوالهم كما كنت فارقتهم في
عقائدهم هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام
عمرك
وإنا نسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم قولك ويسوق النفوس إلى التأسى بك في عملك والسلام

-{
- اللورد هيدلى
كان لإسلام اللورد هيدلى ضجة كبيرة - لمركزه ولما يعلمه فيه عارفوه من نضج في التفكير وترو في الأمور وحينما أراد الحج مر بالإسكندرية فأقام له أهالى الثغر حفلة كبرى وضعت تحت رعاية الأمير السابق – عمر
طوسون - الذي ألقى كلمة حيا فيها الضيف الكريم ابتدأها بقوله مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً لقد خفت مصر إلى استقبالكم وابتهجت بمقدمكم الكريم وكان سرورها بذلك عظيماً حتى لقد تمنت كل مدينة أن تسعى بأهلها إليكم أو يكون لكم متسع من الوقت لزيارتها فتقوم بما يجب لكم من الإجلال والإعظام والترحيب والإكرام
وكانت الحفلة
الإسكندرية
برئاسة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الغني محمود شيخ علماء
كيف أسلم اللورد هيدلى
ما هي العوامل التي دعته إلى اعتناق الإسلام
إننا في الصفحات التالية سنذكر جملة من النصوص ترشد القارئ إلى سبب
رفضه المسيحية وإلى سبب إسلامه وإلى تصوره لكثير من وجهات النظر
الإسلامية
يقول اللورد
عندما كنت أقضى - أنا نفسى - الزمن الطويل من حياتي الأولى في جو المسيحية كنت أشعر دائماً أن الدين الإسلامى به الحسن والسهولة وأنه
٦٧

خلو من عقائد الرومان والبروتستانت ! !
وثبتنى في هذا الاعتقاد زيارتي للشرق التي أعقبت ذلك ودراستي
للقرآن المجيد

له الله لكم تألم وقاسي في سبيل وصوله إلى الحق
استمع إليه يقول
فكرت وصليت أربعين سنة كي أصل إلى حل صحيح ويجب على أن أعترف أيضاً أن زيارتي للشرق ملأتني احتراماً عظيماً للدين
المحمدى السلس الذى يجعل الإنسان يعبد الله حقيقة طول مدة الحياة لا في أيام الآحاد فقط
أن الإسلام هو الدين العالمي حقا ویری
أيمكن إذن أن يوجد دين يمكن العالم الإنساني من أن يجمع أمره على عبادة الله الواحد الحقيقى الذى هو فوق الجميع وأمام الجميع بطريقة سهلة خالية من الحشو والتلبيك
فكر لحظة - وذلك تفكير لازم لكمال البشر في الحقيقة – إنه إذا أصبح كل فرد في الإمبراطورية الإنجليزية محمدياً حقيقياً بقلبه وروحه أصبحت إدارة الأحكام أسهل من ذلك لأن الناس سيقادون بدين حقيقى
وها هو ذا يعبر عن الشكر حينما هداه الله
روح
الشكر خلاصة الدين الإسلامي والابتهال أصل في طلب هی
القيادة والإرشاد من الله
إنه وإن كان شكرى الله على كرمه وعنايته كان متأصلاً في من صغرى

وأيام حداثتي فإني لا أستطيع أن أشاهد ذلك من خلال السنين القليلة الماضية التي قرع فيها الدين الإسلامي لبى حقاً وتملك رشدى صدقاً وأقنعنى نقاؤه وأصبح حقيقة راسخة فى عقلى وفؤادى إذ التقيت بسعادة وطمأنينة ما رأيتها قط من قبل كما أستنشق هواء البحر الخالص النقى وبتحقق من سلاسة وضياء وعظمة الإسلام ومجده أصبحت كرجل فر من سرداب مظلم إلى فسيح من الأرض تضيئه شمس النهار ومما يذكر من تعاليم الإسلام مشيداً ليس هناك في الإسلام إلا إله واحد نعبده ونتبعه إنه أمام الجميع وفوق الجميع وليس هناك قدوس آخر نشركه معه إنه لمن المدهش حقاً أن تكون المخلوقات البشرية ذوات العقول والألباب على هذا القدر من الغباوة فيسمحون للمعتقدات والحيل الكهنوتية أن تحجب عن نظرهم رؤية السماء رؤية ربهم القهار المتصل دواماً بكل مخلوقاته سواء كانوا عاديين أو أولياء
مقدسين
مفتاح
السماء
به
موجود دائماً في مكانه ويمكن إدارته بأذل وأقل المخلوقات دون أية مساعدة من نبي أو كاهن أو ملك إنه كالهواء الذي نستنشقه مجاناً
لكل خلق الله
أما هؤلاء الذين يجعلون الناس يفهمون غير ذلك ما دعاهم إلى هذا العمل إلا حب الفائدة ليس غرضى الرئيسى أن أهاجم أى فرع معين من فروع الديانة لأبين جلال وسلاسة الديانة الإسلامية التى هى خالية فى نظر الكاتب المنصف من
٦٩

العوائق الظاهرة جلياً في كثير من الديانات الأخرى ولقد افترى كثيرون على الإسلام وها هو ذا يرد على افتراءاتهم اليس في وسع الإنسان فى الحقيقة إلا أن يعتقد أن مديجي وناسجى هذه الافتراءات لم يتعلموا حتى ولا أول مبادئ دينهم وإلا لما استطاعوا أن ينشروا في أنحاء العالم تقارير معروف لديهم أنها محض كذب واختلاق جميع إن تعاليم القرآن الكريم قد نفذت ومورست في حياة محمد الذي – سواء في أيام تحمله الألم والاضطهاد أم فى زمن انتصاره ونجاحه – أظهر أشرف الصفات الخلقية التي لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها
فكل صفات الصبر والثبات فى عصره كانت ترى في أثناء الثلاث عشرة سنة التي تألمها في مجاهداته الأولى بمكة ولم يشعر في كل زمن هذا الجهاد بأى
تزعزع في الثقة بالله وأتم كل واجباته بشمم وحمية كان ل مثابراً ولا يخشى أعداءه لأنه كان يعلم بأنه مكلف بهذه
حقاً
المأمورية من قبل الله ومن كلفه بهذا العمل لن يتخلى عنه لقد أثارت تلك الشجاعة التى لا تعرف الجفول – تلك الشجاعة التي كانت إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة - إعجاب واحترام الكافرين وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله ومع ذلك فقد انتبهت مشاعرنا وازداد إعجابنا به بعد ذلك في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل بل عفا عن كل
أعدائه
العفو والإحسان والشجاعة ومثل هاتيك الصفات كانت ترى منه في
٧٠

كل تلك المدة حتى إن عدداً عظيماً من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند
رؤية ذلك
عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه آوى إليه
عن
كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا ألد أعدائه عندما كانت حياتهم فى قبضة يده وتحت رحمته ! !

تلك الأخلاق الربانية التى أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب بأن حائزها يجب ألا يكون إلا من عند الله وأن يكون رجلاً على الصراط المستقيم حقاً
6
وكراهيتهم المتأصلة في نفوسهم حولتها تلك الأخلاق الشريفة إلى محبة
وصداقة متينة محمد المثل الكامل
نحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم ذو أخلاق متينة وشخصية حقيقية وزنت واختبرت فى كل خطوة من خطي حياته ولم ير فيها أقل نقص
أبداً
وبما أننا في احتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في خطوات الحياة فحياة النبي المقدس تسد تلك الحاجة حياة محمد كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل الراقى والسخاء والكرم والشجاعة والإقدام والصبر والحلم والوداعة والعفو وباقى الأخلاق الجوهرية التي تكون الإنسانية ونرى ذلك فيها بألوان وضاءة خذ أي وجه من وجوه الآداب وأنت تتأكد أنك تجده موضحاً في إحدى حوادث حياته ومحمد وصل إلى أعظم قوة وأتى إليه مقاوموه ووجدوا منه شفقة
۷۱

لا تجارى وكان ذلك سبباً فى هدايتهم ونقائهم في الحياة ! !
الله اللورد هيدلى وجزاه عن الإسلام خير الجزاء
13
الشيخ عبد الواحد يحيى
هو العالم الفيلسوف الحكيم الصوفى رينيه جينو الذي يدوى اسمه في أوربا قاطبة وفى أمريكا والذى يعرفه كل هؤلاء الذين يتصلون بالدراسات
الفلسفية والدينية
وقد كان إسلامه ثورة كبرى هزت ضمائر الكثيرين من ذوى البصائر الطاهرة فاقتدوا به واعتنقوا الإسلام وكونوا جماعات مؤمنة مخلصة تعبد الله على يقين في معاقل الكاثوليكية في الغرب
وكان سبب إسلامه بسيطاً منطقياً في آن واحد
لقد أراد أن يعتصم بنص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه
6
فهو الكتاب الوحيد
فلم يجد - بعد دراسة عميقة – سوى القرآن الذي لم ينله التحريف ولا التبديل لأن الله تكفل بحفظه وحفظه حقيقة
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
لم يجد سوى القرآن نصاً مقدساً صحيحاً فاعتصم به وسار تحت لوائه فغمره الأمن النفساني في رحاب الفرقان
ومؤلفاته كثيرة مشهورة من بينها كتاب أزمة العالم الحديث بين فيه
۷

الانحراف الذي تسير فيه أوربا الآن والضلال المبين الذي أعمى الغرب عن
سواء السبيل أما كتابه الشرق والغرب فهو من الكتب الخالدة التي تجعل كل شرقى يفخر بشرقيته وقد رد فيه إلى الشرق اعتباره مبيناً أصالته في الحضارة وسموه فى التفكير وإنسانيته التي لا تقاس بها مادية الغرب وفساده وامتصاصه للدماء وعدوانه الذى لا يقف عند حد وظلمه المؤسس على المادية والاستغلال ومظهراً فى كل صفحة من صفحاته نبل الشرقيين وعمقهم وفهمهم للأمور فهماً يتفق مع الفضيلة ومع أسمى المبادئ
الإنسانية

وقد كتبنا عن الشيخ تقريراً لإحدى جامعاتنا المصرية للتعريف به ننشره
فيما يلى
رينيه جينو من الشخصيات التي أخذت مكانها في التاريخ يضعه المسلمون بجوار الإمام الغزالى وأمثاله ويضعه غير المسلمين بجوار أفلوطين صاحب الأفلاطونية الحديثة وأمثاله
6
وإذا كان الشخص فى بيئتنا الحالية لا يقدر التقدير الذي يستحقه إلا بعد وفاته فقد كان من حسن حظ رينيه جينو أنه قدر في أثناء حياته وقدر بعد وفاته أما في أثناء حياته فكان أول تقدير له أن حرمت الكنيسة قراءة كتبه والكنيسة لا تفعل هذا إلا مع كبار المفكرين الذين تخشى خطرهم وقد وضعته بذلك بجوار عباقرة الفكر الذين اتخذت تجاههم نفس

المسلك ولكنها رأت فى رينيه جينو خطراً يكبر كل خطر سابق فحرمت
حتى الحديث عنه
وإذا كان هذا تقديراً سلبياً له قيمته فهناك التقدير الإيجابي الذي لا يقل في أهميته عن التقدير السلبي فهناك هؤلاء الذين استجابوا لدعوة رينيه جينو فألفوا جمعيات في جميع العواصم الكبرى في العالم وعلى الخصوص فى سويسرا وفى فرنسا والمكونون لهذه الجمعيات احتذوا حذو رينيه جينو فاتخذوا الإسلام ديناً والطهارة والإخلاص وطاعة الله شعاراً وديدناً ويكونون وسط هذه المادة السابغة وهذه الشهوات المتغلبة
واحات جميلة يلجأ إليها كل من أراد الظهر والطمأنينة
إلى جميع
ومن التقدير الإيجابي أيضاً أن كتبه برغم تحريم الكنيسة لقراءتها قد انتشرت في جميع أرجاء العالم وطبعت المرة بعد الأخرى وترجم الكثير منها اللغات الحية الناهضة ما عدا العربية للأسف الشديد ومن الطريف أن بعض الكتب ترجم إلى لغة الهند الصينية ووضعت كشرح للوصية الأخيرة من وصايا الدالاي لاما ولم يكن يوجد في الغرب شخص متخصص في تاريخ الأديان إلا وهو على علم بآراء رينيه جينو كل هذا التقدير كان فى حياته أما بعد مماته فقد زاد هذا التقدير لقد كتبت عنه
العالم ومنها بعض الصحف المصرية العربية
صحف جميع
وقد خصصت له مجلة فرنسا - آسيا وهي مجلة محترمة عدداً ضخماً كتب فيه كبار الكتاب الشرقيين والغربيين وافتتحته بتقدير كاتب

فرنسا الأكبر أندريه جيد وقوله فى صراحة لا لبس فيها إن آراء رينيه جينو لا تنقض
وخصصت مجلة ايتود ترا ديسيونيل وهى المجلة التي تعتبر في الغرب كله لسان التصوف الصحيح عدداً ضخماً من أعدادها كتب فيه أيضاً كبار
الشرقيين والغربيين
ثم خصص له الكاتب الصحفى الشهير بول سيران كتاباً ضخماً تحدث فيه عن حياته وعن آرائه ووضعه كما وضعه الآخرون الذين كتبوا
عنه
في المكان اللائق به بجوار الإمام الغزالي أو الحكيم أفلاطون نشأ رينيه جينو فى فرنسا من أسرة كاثوليكية ثرية محافظة نشأ مرهف الحس مرهف الشعور مرهف الوجدان متجهاً بطبيعته إلى التفكير
العميق والأبحاث الدقيقة وهاله حينما نضج تفكيره ما عليه قومه من ضلال فأخذ يبحث فى جد عن الحقيقة ولكن أين هي أفي الشرق أم في الغرب وهل هي في السماء أو في الأرض
أين الحقيقة
سؤال وجهه رينيه جينو إلى نفسه كما وجهه من قبل إلى نفسه الإمام المحاسبي والإمام الغزالي والإمام محيى الدين بن عربي وكما وجهه من قبلهم
عشرات من المفكرين الذين أبوا أن يستنيموا للتقليد الأعمى وتأتى فترة

الشك والحيرة والألم الممض ثم يأتى عون الله وكان عون الله بالنسبة إلى رينيه جينو أن بهرته أشعة الإسلام الخالدة وغمره ضياؤه الباهر
Vo

فاعتنقه وتسمى باسم الشيخ عبد الواحد يحيى وأصبح جندياً من جنوده
يدافع عنه ويدعو إليه
ومن
أمثلة ذلك ماكتبه فى كتابه رمزية الصليب تفنيداً للفرية التي
تقول إن الإسلام انتشر بالسيف ومن أمثلة ذلك أيضاً ماكتبه في مجلة کابيه دى سور في عددها الخاص بالإسلام والغرب دفاعاً عن الروحانية الإسلامية لقد أنكر الغربيون روحانية الإسلام أو قللوا من شأنها وأشادوا بروحانية المسيحية وأكبروا من شأنها ووضعوا التصوف المسيحي في أسمى مكانة وقللوا من شأن التصوف الإسلامى فكتب الشيخ عبد الواحد يحيى مبيناً سمو التصوف الإسلامى وروعته وقارن بينه وبين ما يسمونه بالتصوف المسيحى أو المستيسزم وانتهى بأن هذا المستيسزم لا يمكنه أن يبلغ
جميع
ولا عن بعد ما بلغه التصوف الإسلامى من سمو ومن جلال على أن الشيخ عبد الواحد يحيى لم يشد بالإسلام فحسب وإنما أشاد في كتبه وفى مواضع لا يأتى عليها الحصر بالشرق لقد دأب الاستعمار على أن يغرس في نفوس الشرقيين أنهم أقل حضارة بل أقل إنسانية من الغربيين وأتى الشيخ عبد الواحد فقلب الأوضاع رأساً على عقب وبين للشرقيين قيمتهم وأنهم منبع النور والهداية ومشرق الوحى
والإلهام
ولقد كتب الشيخ عبد الواحد مقالاً مستفيضاً بعنوان أثر الثقافة الإسلامية في الغرب بيَّن فيه فضل الثقافة الإسلامية على أوربا يقول

إن كثيراً من الغربيين لم يدركوا قيمة ما اقتبسوه من الثقافة الإسلامية أو يفقهوا حقيقة ما أخذوه عن الحضارة العربية فى القرون الماضية بل ربما لم يدركوا منهما شيئاً مطلقاً وذلك لأن الحقائق التي تلقى إليهم حقائق مشوهة حظها من الصحة قليل فإنها تبالغ كل المبالغة في الحط من شأن الثقافة الإسلامية والتقليل من قدر المدنية العربية كلما أتاحت الظروف لأصحابها
ذلك
ويلاحظ أن دراسة التاريخ فى المعاهد الغربية لا توضح هذا التأثير بل إن الحقائق تناولتها يد التحوير والتحريف قصداً في كثير من الحوادث عظيمة الشأن جليلة الخطر
مثال ذلك ما هو شائع معروف من أن إسبانيا ظلت تحت الحكم الإسلامي عدة قرون على حين لا يذكر التاريخ الغربي قط أن صقلية والجزء الجنوبي الحالي لفرنسا كانا تحت الحكم الإسلامى أيضاً وربما عزا البعض هذا الإهمال من المؤرخين إلى تعصبهم الديني ولكن ما هي حجة المؤرخين المعاصرين - وغالبهم لا ديني - فى موافقتهم أسلافهم في قلب الحقائق لهذا ينبغي أن ندرك مقدار زهو الغربيين وكبريائهم مما منعهم عن إدراك الحقائق الصحيحة ومقدار ما هم مدينون به للشرق والأغرب من ذلك كله أنه بينما يعتبر الأوربيون أنفسهم الورثة المباشرين للمدنية اليونانية القديمة فإن الحق يدحض زعمهم هذا إذ أن الواقع المعروف من التاريخ نفسه يثبت لنا أن علوم اليونان وفلسفتهم لم تنتقل إلى الأوربيين إلا بواسطة المسلمين وبعبارة
VV

أخرى لم تصل المخلفات العقلية لليونانيين إلى الغرب إلا بعد أن درسها
الشرق
ولولا علماء الإسلام وفلاسفتهم لظل الغربيون جاهلين بتلك العلوم زمناً طويلاً بل ربما لم يدركوها كلية وينبغى أن نلاحظ أننا نبحث هنا عن مقدار تأثير الحضارة الإسلامية لا العربية فحسب كما يختلط على البعض أحياناً وذلك لأن معظم من حاولوا نقل هذه الثقافة الإسلامية لم يكونوا من العرب الخلص وإذا كانت لغتهم عربية فإن ذلك ناتج عن تأثرهم بدينهم الإسلامي وما دمنا قد ذكرنا اللغة العربية فإننا نلاحظ دليلاً واضحاً يثبت لنا انتقال المؤثرات الإسلامية فى الغرب وهو تلك الكلمات العربية الأصل والمنبت التي استعملت تقريباً فى كل اللغات الأوربية بل مازالت تستعمل حتى وقتنا هذا على أن معظم الغربيين الذين يستعملونها يجهلون حقيقة مصدرها كل الجهل
وبما أن الكلمات هي التي تستعمل لنقل الأفكار وإظهار ما تكنه النفوس فإن من السهل علينا جداً أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها وفى الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول لدرجة بعيدة وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك وقد كانت بلاد الأسبان مركز الوسط الهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة وليس غرضنا الآن أن تفحص كل هذه الأنواع بالتفصيل ونرى مقدار ما خلفته الثقافة الإسلامية فيها ولكنا نركز بحثنا في بعض نقط نعتقد أنها من الأهمية بمكان وإن قل من يدركها في وقتنا هذا
VA

أما عن العلوم فمن السهل أن نفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية - فأما عن الأولى فإنا نعلم علم اليقين أنها انتقلت بكلياتها وجزئياتها إلى أوربا عن طريق الحضارة الإسلامية مصبوغة بالصبغة الإسلامية تماماً فالكيمياء احتفظت دائماً باسمها العربى الذى يرجع أصله إلى مصر القديمة والذي كان له معنى من أعمق المعاني التي لم يعرفها الكيمائيون الحديثون حقيقة
ولنضرب مثلاً آخر ذلك علم الفلك فإن أكثر اصطلاحاته الخاصة ما تزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربى كما أن كثيراً من النجوم ما يزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماءها العربية وهذا يرجع إلى أن مؤلفات الفلكيين اليونانيين القدماء مثل بطليموس الإسكندرية كانت معروفة في التراجم العربية ومجتمعة مع
الإسلامية
المؤلفات
ومن السهل جداً أن نوضح أن كثيراً من المعارف الجغرافية الخاصة بالمناطق السحيقة في آسيا وأفريقيا عرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيراً من
معلومات جمة
الأقطار وحملوا معهم أما من ناحية الاختراعات - وهى تابعة للعلوم الطبيعية - فقد انتقلت أيضاً ينفس الطريق أي بواسطة المسلمين وما تزال قصة الساعة المائية التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان عالقة بالأذهان ثابتة الوقائع
أما الرياضيات فيجب أن نعيرها التفاتاً خاصاً وذلك لأهميتها في هذا البحث فإن ميدانها الواسع لا نرى فيه علوم اليونان فحسب بل نرى فيه

أكبر الأثر للثقافة الإسلامية مضافاً إليها علوم الهند أيضاً أما اليونانيون فقد بلغوا درجة الكمال في الهندسة وعلم الأرقام ويلاحظ أن الأخير يرتبط دائماً مع من أشكال عليها أسماؤها العربية وهذا التفوق الذي كان للهندسة يظهر لنا جلياً في الجملة التي حفرها
الأول
أفلاطون على مدخل مدرسته لا يدخله إلا عالم بالهندسة
ولكن يوجد علم آخر من الرياضيات يتبع علم الأرقام ولكنه لم يكن معروفاً - كالعلوم الأخرى - فى اللغات الأوربية بالاسم اليوناني لأنه لم يكن معروفاً بين اليونانيين القدماء هذا هو علم الجبر الذي كان مصدره الأول الهند والذى يسهل علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب حقيقة أخرى حان حين ذكرها ولو أنها قليلة الأهمية ولكنها تدل أيضاً على ما قدمنا وهى أنه من الشائع فى كل مكان أن الأرقام التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب ولو أن مصدرها الأول هو الهند لأن علامات العد التي كان العرب يستعملونها قديماً ما هي إلا حروف الهجاء نفسها
وإذا انتقلنا من بحث العلوم إلى بحث الفنون فإننا نلاحظ أن كثيراً من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين في الأدب والشعر قد أخذت واستعملت في الأدب الغربي بل أكثر من هذا فإن بعض كتاب
الغرب وشعرائه قد قلدوا تمام التقليد بعض كتاب المسلمين وشعرائهم وكذلك نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن البناء وذلك في العصور الوسطى فمن ذلك شكل القوس المعقود
A

الذي صار متميزاً بنفسه حتى صار يدل على طريقة خاصة للبناء كان يستعمل فيها وقد كان مصدره فن البناء الإسلامى ولو أن كثيراً من النظريات الخيالية اخترعت لمخالفة هذه الحقيقة ومما هدم هذه النظريات وجود رواية يتناقلها دائماً البناءون أنفسهم وهى تثبت انتقال هذه الطريقة من الشرق وقد كان لهذه الحقيقة صفة سرية جعلت للغتهم معنى رمزياً فكانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الأرقام وقد نسب هذا العلم في مصدره الأول لهؤلاء الذين بنوا هيكل
سيدنا سلمان
ومهما يكن من أمر هذا المصدر البعيد فلا يمكن بحال ما أن يكون انتقاله إلى أوربا إلا بواسطة العالم الإسلامي ومما يحسن ذكره أن هؤلاء المعماريين – وقد كانوا هيئات متحدة لها شعائر خاصة - كانوا يعتبرون أنفسهم كأنهم أجانب في الغرب حتى فى مساقط رءوسهم وقد ظلت هذه التسمية حتى الآن على أن هذه الأمور صارت غير معروفة إلا للقليلين جداً
في هذه النظرة العجلى ينبغى أن نذكر بصفة خاصة نوعاً آخر هو الفلسفة فقد بلغ التأثير الإسلامى فى القرون الوسطى مبلغاً عظيماً لم يستطع أشد خصوم الشرق تعصباً أن ينكر قوته وهذا صحيح فإن أوربا لم يكن فيها من وسيلة أخرى لمعرفة الفلسفة اليونانية فى ذلك الزمن وذلك لأن التراجم اللاتينية لأفلاطون وأرسطو - وهى التي استعملت حينئذ – لم تنقل أو تترجم من الأصل اليونانى مباشرة بل أخذت من الترجمة العربية السالفة وأضافوا إليها ما كتبه المعاصرون المسلمون في الفلسفة الإسلامية ومن أولئك المعاصرين ابن رشد وابن سينا وغيرهما
۸۱

والفلسفة التي كانت معروفة فى ذلك الوقت باسم الفلسفة المدرسية كانت
تتميز بها الفلسفة الإسلامية واليهودية والمسيحية
ولكن من الإسلامية استمد النوعان الآخران مصدرهما بل إن الفلسفة
اليهودية وهى التي ازدهرت في إسبانيا كانت لغتها عربية
وذلك ثابت ويرى فى المؤلفات الهامة لموسى بن ميمون وعنه نقل فيلسوف یهودی آخر - بعد قرون عديدة - كثيراً من فلسفته الخاصة ذلك هو سبينوزا وليس من الضرورى أن نصر على بحث أشياء معلومة لكل من درس
شيئاً
مختلف
من تاريخ الفكر بل يحسن أن نبحث أخيراً في أشياء أخرى من نوع لا يعرفه معظم الحديثين خصوصاً فى الغرب بل لا يكاد يكون لأحد ما أية فكرة ذات أهمية عنه
ولكن من وجهة نظرنا نرى له أهمية كبرى أكثر من كل المعارف الخارجية التي تحتويها العلوم والفلسفة وما نقصده بهذا هو التصوف وما يتصل به أو يعتمد عليه من أنواع المعرفة الأخرى الثانوية التي تختلف عن تلك العلوم التي يدرسها الحديثون كل الاختلاف
أكثر
وليس للغرب في وقتنا هذا شيء من أمثال تلك العلوم على حقيقتها بل من هذا أن الغرب لا يعرف أيضاً من المعارف الحقة كالتصوف أو ما يماثله شيئاً مطلقاً على أن هذه الحال لم تكن هي الحال في القرون الوسطى وهذه المعارف لها أيضاً أثرها الإسلامي البين الواضح بأجلى وضوح في تلك العصور ومن السهل جداً ملاحظة أثر ذلك في بعض المؤلفات التي
۸

تختلف معانيها الحقيقية عن الثمرات الأدبية كل الاختلاف وقد بدأ هذا النوع يتضح لبعض الأوربيين أنفسهم وذلك خلال دراساتهم لأشعار دانتي الإيطالى ولكنهم لم يدركوا ماهية طبيعتها الحقة ومنذ سنين عدة كتب المستشرق الإسباني دون ميجيل آسين بلاثيوس كتاباً عن المؤثرات الإسلامية فى مؤلفات دانتي جاء فيه أن جزءاً كبيراً من الرموز والإشارات التي استعملها دانتي كان يستعملها قبله بعض المحققين والكتاب المسلمين وبخاصة سيدى محيى الدين بن عربي ولكن لسوء الحظ نرى أن ملاحظاته لم تتعد التخيلات الشعرية على أن هناك كاتباً آخر إيطالى الجنس هو لويحي قائلي الذي توفى حديثاً تعمق بعض التعمق في البحث فذكر أن دانتي لم يكن وحده الذي استعمل الإشارات الماثلة لما كان مستعملاً في الشعر الصوفى الفارسي والعربى بل إن كثيراً من الشعراء المعاصرين لدانتي في مملكته كانوا أعضاء في اتحاد أو هيئة سرية تسمى أمناء الحب وكان دانتي نفسه أحد رؤساء تلك الهيئة ولما حاول الويجى قاللى أن يحل الغاز لغتهم السرية لم يتمكن من إدراك ما كانت تتميز به تلك الهيئة أو ما يماثلها من الهيئات التي وجدت في أوربا أيام القرون الوسطى على أن الحق هو أن بعض الشخصيات السرية كانت تستتر خلف تلك الهيئات لتكون مصدر إرشاد لها وقد كانت تلك الشخصيات السرية تعرف بأسماء مختلفة من أهمها تلك التسمية وإخوان الوردة والصليب وليس لهؤلاء قواعد مكتوبة يسيرون عليها كذلك لم يكن لهم اجتماعات معينة وكل ما كانوا يعرفون به هو أنهم

وصلوا إلى حالات روحية خاصة ويمكننا أن نصفهم بأنهم صوفيون غربيون أو على الأقل متصوفة في درجات عالية
وقد قيل إن هؤلاء الإخوان الذين كانوا يتسترون بألبسة البنائين ورموزهم كانوا يعلمون الكيمياء وعلوماً أخرى تماثل ما كان مزدهراً من العلوم في العالم الإسلامي
وفى الحق أنهم كانوا حلقة اتصال بين الشرق والغرب وكانوا على اتصال مباشر بالصوفيين المسلمين وقد كان ذلك الاتصال يستتر وراء رحلات مؤسسهم الخيالي وليس هذا معروفاً فى التاريخ الذي لا يتعمق كثيراً في البحث بل يكتفى فقط بمظهر الحوادث الخارجي مع أن هناك المفتاح الحقيقى الذى يفتح لنا مغاليق كثير من الأشياء ولولاه لاستمرت دائماً غير
واضحة بالمرة
هذا جزء من كل من أثر الثقافة الإسلامية في الغرب ولكن الغربيين لا يريدون أن يعترفوا به فى وضوح لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بفضل الشرق ولكن الزمن كفيل بتبيان الحقائق التي يريدون إخفاءها
عليهم
وأثر الحضارة الإسلامية على أوربا موضوع كتب فيه كثيرون من زوايا مختلفة ونحب الآن أن نضيف إلى ماكتبه الشيخ عبد الواحد رأى الأستاذ بريفولت وقد أورده الدكتور محمد إقبال فى كتابه بناء الإنسانية وقدم له مقدمة تبين أن الإسلام دعا إلى التجربة والملاحظة والاستقراء أى أنه دعا إلى المنهج العلمي الحديث فانتشر فى ربوع الحضارة الإسلامية ثم انتقل من
ΛΕ

حضارة الإسلام غازياً أوربا فكان السبب في نهضتها ثم يقول فالزعم بأن أوربا هي التي استحدثت المنهج التجريبي زعم خاطئ يقول دوهرنج إن آراء روجر بيكون فى العلوم أصدق وأوضح من آراء سميه المشهور ومن أين استقى روجر بيكون ما حصله فى العلوم من الجامعات الإسلامية في الأندلس والقسم الخامس من كتابه الذي خصصه للبحث في البصريات هو في حقيقة الأمر نسخة من كتاب المناظر لابن الهيثم وكتاب بيكون في جملته شاهد ناطق على تأثره بابن حزم
لقد كانت أوربا بطيئة نوعاً ما فى إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي وأخيراً جاء الاعتراف بهذه الحقيقة وسأتلو عليكم فقرة أو فقرتين من كتاب بناء الإنسانية الذي ألفه بريفولت
يقول بريفولت
إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب في الأندلس وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل قط التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة
والمناقشات التي دارت حول واضعى المنهج التجريبي هي طرف من
التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوربية
٨٥

وقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث
ولكن ثماره كانت بطيئة النضج
إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد
مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم وحده هو الذى أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوربى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون في نشأة الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة وفى المصدر القوى لازدهاره – أي في العلوم الطبيعية وفى روح البحث العلمى
إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا إنه
يدين

بوجوده
نفسه
فالعالم القديم كما رأينا لم يكن للعلم فيه وجود
وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوماً أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجاً
كلياً بالثقافة اليونانية وقد نظم اليونان المذاهب وعَمَّموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج
٨٦

التفصيلية للعلم والملاحقة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي كل ذلك
كان غريباً تماماً عن المزاج اليونانى ولم يقارب البحث العلمى نشأته في العالم القديم إلا في الإسكندرية في عهدها الهليني
أما ما ندعوه العلم فقد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مستحدثة لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان
وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربى
- الدكتور جرينييه
قال الرحالة السيد محمود سالم في مقال له نشر في مجلة المنار مجلد
١٤ ص ٥١٨
قصدت في سياحاتى مدينة بونتارليه لمقابلة الدكتور جرينييه المسلم الفرنساوى الشهير الذي كان في السابق عضواً في مجلس النواب قابلته لأجل أن أسأله عن سبب إسلامه
فقال
إلى تتبعت كل الآيات القرآنية التى لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية والتي درستها من صغرى وأعلمها جيداً فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت لأنى تيقنت أن محمداً أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة من قبل أن يكون معلم أو مدرس من البشر ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم

قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيداً كما قارنت أنا لأسلم
بلا شك إن كان عاقلاً خالياً من الأغراض
٧- إتيين دينيه
ولد الفونس إتيين دينيه ۱ فى باريس سنة ١٨٦١ وعاش – رحمه
الله - فناناً بطبعه كان مرهف الحس رقيق الشعور جياش العاطفة
1 ألفت المودة بين الأستاذ الأديب راشد رستم والمغفور له ناصر الدين وقد كان الأستاذ

راشد أول من عرف المصريين به فقد ترجم رسالته و أشعة خاصة بنور الإسلام إلى اللغة العربية ونشرها في صورة حسنة وحينما توفى ناصر الدين سنة ۱۹۹ كتب الأستاذ راشد عنه مقالاً في جريدة الأهرام وقد استأذناه فى الانتفاع بالترجمة العربية لرسالة و أشعة خاصة بنور الإسلام عند المناسبات التي تعرض خلال عملنا هذا وكذلك في نشر مقاله الذى كتبه بجريدة الأهرام فأذن بذلك راضياً مغتبطاً ولا يسعنا إلا أن نسجل له الشكر الجزيل راجين من الله أن يجزيه أحسن الجزاء وفيما يلى المقال
المذكور
ومات هذا المستشرق النابه وقد احتشد حوله لتوديعه الوداع الأخير العدد العديد من كبار قومه الرسميين ومن أصدقائه وعارفى فضله من أهله ومن غير أهله من ممثلى الشعوب الشرقية التي أحبها وخدمها وقد وجب علينا - وإن كنا لم نقف هناك في باريس مع الواقفين خاشعين – أن نبعث إلى روحه تحيات السلام والاعتراف بالجميل أحب المسيو دينيه حياة العرب وهو ذلك الفنان الكبير فاتخذ له بينهم مقاماً محموداً في بلاد الجزائر فى تلك الواحة الهادئة الجميلة بوسعادة ينتقل إليه ويسكنه نصف العام كاملاً يرتاح للعرب وجيرتهم ويروح عن نفسه بينهم وينعم بما فى حياتهم من جلال تلك المناقب المأثورة عنهم وتلك المكارم المعروفة بهم والتي لا يميل إليها إلا عشاق الخيال السامى ولا ينشدها إلا أهل الفضائل
العالية
وقد وضع فى حياة العرب كتاباً جميلاً جليلاً ملأه باللوحات البديعة من ريشته القادرة ذات
البلاغة في تصويرها والبيان في صحتها

والمسبو دينيه يبلغ من العمر سبعين عاماً وهو من كبار أهل الفن ورجال التصوير وصاحب اللوحات الكبيرة النفيسة القيمة تزدان بها جدران المعارض الفنية وتحتفظ بها المتاحف الفرنسية الكبيرة وغيرها من متاحف العالم وله فى متحف لوكسمبرج - وهو متحف كبار المصورين العصريين بباريس عدة صور منها الصورة الشهيرة المعروفة باسم غداة رمضان وكذلك له صورة في متحف بو وكذلك في متحف سدنى بأستراليا وغير ذلك كثير
وجميع صوره تدل على القدرة الفنية الكبيرة فى رسم الصحراء كما تدل على دقة التعبير عن الحالات النفسية المختلفة وهو ذو مركز خاص مشهود به بين إخوانه المصورين وامتاز عنهم بتخصصه في تصوير الحياة الإسلامية وبالأخص ما كان منها في بلاد الجزائر
وقد درس الروح العربية وفهمها الفهم الصحيح حتى قيل عنه إنه المصور الفريد بين إخوانه الذي يستطيع تمثيلها بالريشة والألوان والأصباغ أحسن تمثيل وهم يقولون عنه إنه المصور العربي وقد جاءت ترجمة المسيو دينيه وأعماله في معجم لاروس الكبير وفى معلمة هاشيت للفنون الجميلة وله عدة مؤلفات منها حياة العرب الذى ذكرناه وكتاب السراب وكتاب حياة الصحراء وكتاب ربيع القلوب وكتاب الشرق كما يراه الغرب وكلها تشير إلى ما في طبيعته من الخلق الطيب وما يحمله فى قلبه من الحب والتقدير للشرق والشرقيين ومن أهم كتبه ما جعله تاريخاً لحياة الرسول سيدنا محمد وهو السيرة النبوية في مجلد كبير جليل وضعه باللغة الفرنسية وزينه بالصور الملونة البديعة الكثيرة المتعددة من ريشته الخاصة يمثل فيها المناظر الإسلامية ومشاهد الدين ومعالمه وطبعه طبعاً غاية فى الإتقان والعناية حتى إنه ليعد تحفة من تحف الطباعة
كل ذلك كان تقديراً منه لموضوعه ثم إنه قدمه لأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت في الحرب الكبرى وهي تحارب في صفوف الفرنسيين ونشره كذلك باللغة الإنجليزية بنفس الحجم الكبير والإتقان التام والكتاب في طبعته قد تحلى بمختلف أنواع اللوحات الزخرفية الملونة ذات الأشكال العربية غاية في الدقة والإبداع وهى اللوحات التي قام بعملها خاصة لهذا الكتاب السيد محمد راسم الجزائري أشهر رجال الزخرفة العربية والذى أشار إليه المسيو لازار الأستاذ بجامعة الجزائر ومدير متحفها وذلك في المحاضرة التي ألقاها فى النادى الفرنسي بالقاهرة فى شهر مارس سنة ١٩٢٩ ويبلغ ثمن النسخة الواحدة من هذا الكتاب خمسة جنيهات مصرية

وما نظن أن العالم العربي قد قرأ للمسيوه دينيه شيئاً بالعربية قبل تلك الرسالة التي عربناها له أشعة
خاصة بنور الإسلام والتي نشرت بمصر فى هذا العام وهى التى جعلها بحثاً عصرياً في مبادئ الدين الإسلامي وأراد إظهار هذه المبادئ واضحة جلية وإنها تفضل مبادئ المدنيات الحاضرة ولعل هذه الرسالة هي آخر ما كتب اللهم إلا إذا كان قد فرغ من رحلة الحج التي كان قد ذكر لنا أنه يشتغل بتدوينها بهمة ونشاط وذلك عقب عودته من بلاد الحجاز هذا العام بعد أن أدى فريضة الحج وإذا سمحت لنا الحقيقة أن نقرر شيئاً فإنه ذكر لنا في كتابه إلينا أنه لاقى من التعب والمشاق الشيء الكثير برغم ما لاقاه من التكريم والعناية الخاصة وبرغم نسيانه المشقة فى سبيل الله وهو يدعو إلى إصلاح وسائل النقل والصحة وتنظيم الحياة لأولئك الألوف من الحجاج الذين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق
والمسيو ه دينيه كاتب رقيق العبارة واسع الاطلاع لذلك فهو صحيح الحجة ناهض البرهان ثم هو شديد الهجوم شديد الدفاع ذلك لأنه غيور على مبدئه الذى لم يتخذه إلا بعد بحث وتفكير وقد أعلن إسلامه رسميا بالجامع الجديد بمدينة الجزائر في اجتماع حافل عام ١٩٢٧ وطلب أن يدفن في قبره مسلماً حنيفاً وهو القبر الذى شيده لنفسه في بلدة بوسعادة بالجزائر وقد ذكرت الأهرام في تلغرافاتها الخصوصية أمس أنه سينقل إليها من فرنسا وفق وصيته ويقول إنه لم يسلم لطمع أو مغنم والرجل غنى موسر الحال وإنما أسلم إرضاء ليقينه وضميره وإنه ناقش الناصرين والطاعنين فخرج من دينيه إلى ناصر الدين
وله في بيان فضائل الشرقيين عامة والدفاع عنهم جولات قلمية ولوحات تصويرية تشهد له بإخلاصه فى حب الشرق وتقوم دليلاً على حبه للعدل والإنصاف وقد استفتاه بعضهم عن أمر الشرق والغرب فكتب يقول إن الغرب يخطئ النظر إلى الشرق مع أن للشرق على الغرب أفضالاً متأصلة في مدنيته متغلغلة فى حياته ذلك من أثر الدينيات التي هو مدين فيها للشرق ومن أثر المعاملات والاقتصاديات التي منشؤها اليهودية الشرقية ومن أثر الحياة الشريفة والهمة القعساء التي منشؤها أنظمة الفروسية العربية ومن أثر علم البحار وعلم السماء وعلم الأبدان وعلم الكيمياء التي ابتدعت أصولها
العقول الشرقية
ويقول إن الشرق لم يضمر للغرب الإساءة وإن الغرب يخطئ إذ يظن أن الشرق لا يستحق مع أن الشرق قد عرف كل دخائل الغرب وأنه مع ذلك لا يحمل له إلا السلامة
العناية
4

وكان صاحب طبيعة متدينة أيضاً كان كثير التفكير جم التأمل يسرح بخياله في ملكوت السموات والأرض يريد أن يخترق حجبه ويكشف عن مساتيره ويصل إلى الله كان فناناً يتملكه شعور دينى وكان متديناً يغمره ويسيطر عليه شعور فني وامتزج فيه الفن بالدين فكان مثالاً واضحاً للإنسان الملهم أبوين مسيحيين وتلقن - بطبيعة الحال
نشأ
إن
من

العقائد المسيحية
نظريا ومارسها عملياً وذهب به أبوه ككل مسيحى – إلى التعميد وإلى الكنيسة فشب وترعرع على عقيدة التثليث والصلب والفداء والغفران وعلى مر الزمن أخذت تستبين فيه طبيعته الفنية وأخذ يستولى عليه شعور بالقلق والحيرة من الناحية الدينية الفنان يتصور الخلود في دقة لا تتأتى لغير ذوى الشعور الفنى ويتمنى ويريده ويعمل جاهداً لتكتب لوحاته في سجل الخلود فتسمو على الزمن وترتفع عن حدود ما يتناهى وأصحاب الطبائع الدينية يفكرون في الخلود ويتمنونه ويريدونه ويعملون جاهدين لكشف المعمى فيما يتعلق بمصيرهم وكان دينيه يفكر في لوحاته ويفكر فى مصيره ويعمل جاهداً ليبلغ
الخلود
الأبدى
وهكذا يقوم السيد ناصر الدين دينيه رسولاً للسلام بين الشرق والغرب وهو المثل الطيب لكل فرنسي يحب بلاده الأصيلة ويحب الشرق الجميل النبيل ومع أنه قد اعتنق الإسلام وعاش مسلماً ومات مسلماً فإن ذلك لم يمنعه من أن يكون مقيماً على العهد والإخلاص لبلاده المحبوبة وأن يجتمع حول نعشه رجال فرنسا الرسميون من الوزراء يذكرون حسناته ويؤبنونه أحسن التأبين - ذلك لنبالة قصده ومتانة إنسانيته راشد رستم الأهرام فى ۱۹۳۹/۱/۱۹م
۹۱

الذروة في الفن ويعمل جاهداً لإزالة الظلمة المتكاثفة فى دائرة اللانهاية
وكانت هناك وسائل لصقل - للصقل لا للإيجاد - الطبيعة الفنية

والاتجاه بها نحو الكمال وفى ذلك ما يطمئن نوعاً ما وفى ذلك علاج -
بعض العلاج - للقلق فيما يتعلق بالفن وقد جد دينيه في استكمال وسائل الصقل النظرية منها والعملية واتخذ لذلك الأسباب وأحس من هذه الجهة ببعض الطمأنينة
ولكن ما العلاج لطبيعته الدينية القلقة ليس لذلك من علاج سوى البحث والتأمل وإطالة التفكير فى الكون فى النصوص المقدسة وفي العقائد التي يدين بها الوسط المباشر والبيئة المحيطة وفكر دينيه في المسيحية وفى الكنيسة وفى البابا المعصوم وفى عقيدة التثليث والصلب والفداء
والغفران
المسيح ابن الله ! وقد صلب ليطهر بني البشر من
بسبب خطيئة آدم
إله
إنه صلب ليفتدى البشر ثم هو ابن الله وهو
اللعنة التي حلت
بهم
الله وهو بشر وهو
ويدور رأس دينيه فلا يكاد يرى بارقة من أمل في أن يهتدى إلى الحق في
كل ذلك
ومع

وهل فى ذلك من حق وهل في الظلمة من نور
ذلك فلم ييأس بل أعاد قراءة الأناجيل من جديد محاولاً جهده
أن يراها تتسم بسمة الحق فيؤمن بابن الله وبالكاثوليكية ولكنه رأى فيها
۹

ما يتنافى مع الصورة المثلى للإنسان الكامل فضلاً عن الصورة التي تريد المسيحية
أن
توحى بها
فمن أقوال المسيح التي فيها حطة واحتقار لأمه العذراء ما صدر منه في عرس قانا وفى اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودعا أيضاً يسوع تلاميذه إلى العرس ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع
له ليس لهم خمر قال يسوع مالي ومالك يا امرأة ۱ ومن أقواله التي تحمل في طياتها اللعنة على شجرة تين لم تحمل ثمرها لأنه لم يكن موسم تين فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئاً فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً لأنه لم يكن وقت التين فتعجب يسوع
وقال لها
لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد وكان تلاميذه يسمعون ٢ كذلك من أقواله الدالة على كره الغريب
وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا بن داود ابنتي مجنونة جدا فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب وقال
1 إنجيل يوحنا الإصحاح الثانى عشر هذا ما يقوله الإنجيل فيما يتعلق بصلة المسيح بأمه أما القرآن فإنه يقول فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إنى عبد الله آنانى الكتاب وجعلنى نبياً وجعلنى مباركاً أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقياً والسلام على يوم ولدت ويوم أموت أبعث حياً ويوم
إنجيل مرقص الإصحاح الحادى عشر

لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة 1
ومن أقواله التي توجب كراهية الأقرباء
إن كان أحد يأتى إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً ومن أقواله التي فيها اعتراف بالجهل
وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب
هذه النصوص تبعث في النفس الشك في صحة الأناجيل التي بين
أيدينا ٤

وأداه ذلك إلى البحث في صحة الأناجيل وفي قيمتها من الناحية
التاريخية
وكانت نتيجة بحثه أنه لا شك أن الله قد أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه ولاشك أيضاً أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر ولم يبق له أثر أو أنه باد أو أنه قد أبيد
ولهذا قد جعلوا مكانه توليفات أربعاً مشكوكاً في صحتها وفي نسبتها
التاريخية
۱ إنجيل متى الإصحاح الخامس عشر
إنجيل لوقا الإصحاح الرابع عشر ۳ إنجيل مرقص الإصحاح الثالث عشر ٤ عن أشعة خاصة بنور الإسلام ٥ عن أشعة خاصة بنور الإسلام

مع
عیسی
كما أنها مكتوبة باللغة اليونانية وهى لغة لا تتفق طبيعتها لغة الأصلية التي هي لغة سامية لذلك كانت صلة السماء بهذه الأناجيل اليونانية أضعف بكثير من صلتها بتوراة اليهود ۱ ورأى – في النهاية – في وضوح إن الديانة الكاثوليكية لا تتحمل البحث والمناقشة وقد أظهرت الأدلة العديدة - سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية أم علمية أم لغوية أم سيكلوجية أم دينية - أن الكاثوليكية ملأى بالأغلاط الواضحة ولم يمكنه أن يقول ما قال القديس أوغسطين مما يعتبر شعار كل
مسیحی
إننى أومن بذلك لأن ذلك غير معقول وثار شعوره الديني على أوضاع مهمة وألفاظ غامضة ومشاكل لا تحل وانتهى به المطاف بعد بحث وجدل ومناظرات وتأملات إلى رفض المسيحية وبلغت حيرته حينئذ أشدها ولكن اليأس لم يتطرق إلى نفسه
۱ عن أشعة خاصة بنور الإسلام
لاشك أن دينيه اطلع على مؤلفات ريتان الذي كتب عن المسيح عليه السلام " كتاباً يثبت فيه أن السيد المسيح لم يكن لها ولا ابن إله وإنما هو إنسان يمتاز بالخلق السامي والروح الكريمة و ريتان لم يكن متطرفاً في حكمه فقد أثبت على كل حال وجود المسيح وجوداً تاريخياً حقيقياً ولكن آخرين أخذوا ينقيون في بطون الكتب ويتبعون الروايات فانتهوا إلى عدم الاطمئنان الوجود المسيح تاريخياً من هؤلاء بابية أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون الذي اشترك مع زميلين له في تأليف كتاب يهدف إلى ثبات أن المسيح أسطورة وأن انتشار المسيحية لم يكن إلا لأسباب سياسية بحتة أما الأستاذ جنيبير أستاذ تاريخ الأديان بالسوربون إلى عهد قريب فقد أثبت في عدة مؤلفات ذات شهرة عالمية - أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المسيحية الحالية ليست هي مسيحية المسيح بل الاعت إلى مسيحية المسيح بصلة اللهم إلا الصلة الاسمية
۹۵

قط وإذا لم يجد الهداية فى المسيحية فليس معنى ذلك أنه لن يجدها مطلقاً
إن الحقيقة عزيزة المنال ولكنها موجودة والسبيل إليها البحث
ورأى دينيه
أن
يتجه إلى العقل يستمد منه الهداية إلى الطريق

المستقيم ولكنه انتهى إلى أن العقل عاجز في ميدان ما وراء الطبيعة وفى الواقع يسعى كثير من ذوى العقول المستنيرة - بعد أن أفاقوا من غفلتهم وبعد أن رأوا إخفاق مذهب استقلال العقل بالمعرفة - لتعرف طريق الهداية وإلى أن مذهب الحدس الذى يتهافتون عليه خلف حامل لوائه المسيو برجسون الشهير هو عبارة عن رد فعل واضح لمذهب استقلال العقل
بالمعرفة أو - هو - وهو الأصح - رد فعل لعجز هذا المذهب فقد جدد هذا المفكر - فى قلوب الناس النهمين إلى الإيمان - آمالاً كان يظهر أنها ضاعت ضياعاً نهائياً فهو يأذن لهم بأن يأملوا في خلود الروح
ويقول لهم إن الدنيا ليست مشتبكاً عظيماً لقوى عمياء وإن العقل ليس هو الطريقة الوحيدة للمعرفة ١ أخفقت المسيحية فى إرضاء ضميره الديني وأخفق العقل في قيادته إلى النور إلام يتجه إذن
وتلفت حوله ونظر ماذا فعل أمثاله ممن شكوا في المسيحية وشكوا في
العقل
فرأى أن نفراً من النصارى فى مختلف الأقطار الأوربية دانوا بالإسلام في
۱ ناصر الدين محمد
9

الأعوام الأخيرة ويكثر عددهم على مر الأيام وفى لندن وليفربول جماعات
1
إسلامية ذات شأن حقيقى منهم فريق من أعيان الإنجليز ۱
ورأى أن الذين يعتنقون الإسلام فى وقتنا هذا من المسيحيين وغيرهم إنما هم من الخاصة سواء كانوا فى الهيئات الاجتماعية الأوربية أو الأمريكية كما أن إخلاصهم في ذلك لاشك فيه لأنهم أبعد ما يكونون عن الأغراض
المادية ٢
كان
وتبين له أنه
يوجد في جميع أنحاء أوربا وأمريكا من اعتنقوا الإسلام وإذا كان هذا الأمر لا يزال قليل الأهمية إذا نظرنا إلى قلة عدد المعتنقين - وإن عددهم لا بأس به - فإنه ذو أهمية كبرى نظراً لمركز هؤلاء المعتنقين الذين ينتمون إلى الطبقات الراقية المتعلمة ونذكر منهم على سبيل المثال اللورد هيدلى الإنجليزي وصديقنا المأسوف عليه المرحوم كرستيان شرفيس أحد تلاميذ أغست كومت وأديباً من أدباء فرنسا المعدودين وفيلسوفاً من فلاسفتها المشهورين ۳
ومما لا ريب فيه أن هناك مفكرين منصفين – لا غربيين فحسب – بل عالميين أيضاً درسوا الإسلام دراسة عميقة فأحبه البعض وناصره وآمن به البعض الآخر وأعلن إسلامه وصدق فيه
۱ ناصر الدين الشرق في نظر الغرب
٢ أشعة خاصة بنور الإسلام
۳ الحج إلى بيت الله الحرام لناصر الدين ترجمة م توفيق أحمد

ويقول أحدهم
1
إني أعتقد أن هناك آلافاً من الرجال والنساء أيضاً مسلمون قلباً
ولكن خوف الانتقاد والرغبة فى الابتعاد عن التعب الناشئ عن التغير تامروا
على منعهم من إظهار معتقداتهم
كيف ولماذ أسلم دينيه
وما الميزات والخصائص التي جعلته يمنح الإسلام من الثقة ما لم يمنحه
للمسيحية
لقد كانت الشكوك الكثيرة تدور فى نفسه عندما وقعت في يده نسخة من مجلة إنجليزية فإذا به يجد جواباً عن أسئلته إذ قرأ فيها
لماذا صار بعض الإنجليز وغيرهم من الأوربيين مسلمين ذلك لأنهم كانوا يتلمسون عقيدة سهلة معقولة عملية في جوهرها – لأننا معاشر الإنجليز نتبجح بأننا أكثر أهل الأرض تشبئاً بالعمل – عقيدة تكون ملائمة لأحوال جميع الشعوب وعاداتهم وأعمالهم عقيدة دينية صحيحة يقف
بها المخلوق أمام الخالق بدون أن يكون بينهما وسيط
أحق هذا إن دينيه لا يأخذ الأشياء قضية مسلمة وإذا كان العقل يعجز عن اختراق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة فإنه مع ذلك الاداة التي ترشدنا إلى وجه الحق فيما يعرض لنا من أمور فأخذ يزن الأمور وأخذ يبحث أحق أن الإسلام هو العقيدة الدينية الصحيحة
۹۸
۱ اللورد هيدلي

صلاحية العقيدة الإسلامية لكل زمان ومكان
وكان من التوفيق أن سافر دينيه إذ ذاك إلى الجزائر وتنقل في بلاد المغرب فخالط المسلمين وعاشرهم وسمع منهم وسألهم وناقشهم وفكر
وتأمل فرأى كما يذكر في رسالته أشعة خاصة بنور الإسلام
إن العقيدة المحمدية لا تقف عقبة فى سبيل التفكير فقد يكون المرء صحيح الإسلام وفى الوقت نفسه حر التفكير
وأن
تعاليم
وكما أن الإسلام قد صلح - منذ نشأته - لجميع الشعوب والأجناس فهو صالح كذلك لكل أنواع العقليات وجميع درجات المدنيات المعتزلة ذات القرابة المستترة والصلة الخفية بتعاليم الصوفية تجد مكاناً رحباً وقبولاً حسناً ورضاء سهلاً سواء عند العالم الأوربى أو عند الزنجي
الأفريقي
وهو الذي يصعب على المرء تخليصه من معتقداته الخرافية ومن
معبوداته وأصنامه
وبينما تجد الإسلام يهيج من نفس الرجل العملي في أسواق لندن حيث مبدأ القوم الوقت من ذهب إذ هو يأخذ بلب ذلك الفيلسوف الروماني وكما يتقبله – عن رضا - ذلك الشرقى ذو التأملات ورب الخيال إذ يهواه ذلك الغربي الذي أفناه الفن وتملكه الشعر 1 لقد وقرت هذه الفكرة فى نفس دينيه حتى إنه ليرددها في الكثير من كتبه
1 عن أشعة خاصة بنور الإسلام
۹۹

فيما بعد يقول في آخر كتابه الحج إلى بيت الله الحرام لو كان الإسلام الحقيقى معروفاً في أوربا لكان من المحتمل أن ينال - أكثر من أي دين آخر - العطف والتأييد من جراء روح التدين التي نجمت عن الحرب الكبرى فإنه - والحق يقال - يلائم جميع ميول معتنقيه على اختلاف مشاربهم فهو ببساطته المتناهية - كما يذهب إليه المعتزلة - وباشتماله على روح التصوف - كما يذهب إليه الصوفية - يهدى علماء أوربا وآسيا إلى الطريق المستقيم ويجدون فيه تعزية وسلوى من غير أن يحول بينهم وبين حريتهم التامة فى آرائهم وأفكارهم
كما أنه تعزية وهدى لزنوج السودان الذين ينتزعهم من أحضان أوهامهم
الوثنية
ويرقى
بروح ذلك التاجر الإنجليزى رجل العمل الذي يعتبر الوقت من ذهب كما يرقى بروح الفيلسوف المتدين ويسمو بنفس الغربى الشغوف بالفن والشعر بل هو يسحر لب الطبيب العصرى بما قرره من الوضوء المتكرر كل يوم وبما في الصلاة من حركات منتظمة تفيد الجسم والروح معاً وفى وسع حر الفكر - - وهو ليس ملحداً حتماً - أن يعتبر الوحي الإسلامي عملاً من أعمال تلك القوة الخفية التي نسميها الإلهام وأن يعتقد به من غير أية صعوبة بما أنه لا يحتوى على أسرار خفية لا يسيغها العقل ۱
ويردد الفكرة نفسها فى كتابه عن حياة سيدنا محمد لقد رسخت هذه
1 من كتاب الحج إلى بيت الله الحرام
1

الفكرة في نفسه من أول وهلة واستمرت معه إلى نهاية حياته لقد وقر في ذهنه أن الإسلام دين عام خالد
ولكنه لأجل أن يتبين - فى وضوح - الفروق الجوهرية بين الإسلام والمسيحية ولأجل أن يصل إلى الحد الأسمى فيما يتعلق بالإخلاص لضميره
الديني أخذ يوازن موازنة قيمة بين الإسلام والمسيحية فرأى
۱ فيما يتعلق بالإله
الدين الإسلامى لم يتخذ فيه الإله شكلاً بشرياً أو ما إلى ذلك من
الأشكال
إن يا هو الذى يمثلون به طهارة التوحيد اليهودي فهم يجعلونه في مظاهر متهالكة وكذلك تراه في متحف الفاتيكان وفى نسخ الأناجيل المصورة القديمة
أو
أما الله فى دين الإسلام الذى حدث عنه القرآن فلم يجرؤ مصور نحات أن تجرى به ريشته أو ينحته إزميله ذلك لأن الله لم يخلق الخلق على صورته سبحانه وتعالى فلم تكن له صورة ولا حدود محصورة وهو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يكن له كفواً أحد ۱
1 أشعة خاصة بنور الإسلام
۱۰۱

ب فما يتعلق بالصلاة والنظافة
إن الحركات والإشارات فى الصلاة الإسلامية هي ذات بساطة ولطافة
ونبالة لم يسبق لها مثيل من نوعها في صلاة غيرها كما أنها لا تدعو الوجوه بالتظاهر والتكلف ولا العيون بالشخوص إلى السماء واستنزال الدموع التي تذكرنا بالدموع الجليسرينية التي يصطنعها ممثلو السينما في عصرنا الحاضر حقا إن الصورة الإسلامية خالية من تلك الأمور الشائنة والأقوال والحركات التي في الصلاة الإسلامية هي ذات دلالة على الرزانة

والهدوء والاطمئنان وهى خالية من مبالغات الورع وتكلفات الخضوع والتظاهر بذلك مما هو غريب فى العبادات لأن الله سبحانه وتعالى عليم بما في الصدور وهو الغنى الحميد ثم إن من الأمور الغريبة تخصيص وجود الإله في السماء عند دعوته وهذه الحال تحمل في طياتها إلحاداً إذ تجعل السماء منفى الإله وتنفى بذلك عنه صفة الوجود فى كل مكان وحركات الصلاة الإسلامية فوق تعبيرها التام عما تحمل نفوس المؤمنين من العاطفة النبيلة نحو المولى الكريم تقوم للجسم بأعظم مزايا الحركات الرياضية فهى مفروضة الأداء خمس مرات في اليوم الواحد وكم من شيخ كبير وبدين سمين يستطيع كلاهما السجود والركوع والوقوف دون كبير عناء ولا مشقة مما لا يستطيعه المسيحي في مثل هذه السن أو فى مثل هذا الحال ما لم يكن قد روض على ذلك من قبل أضف
۱۰

إلى ذلك حكمة الوضوء الذى يسبق كل صلاة ففيها للبدن انتعاش وصحة
ونظافة والنظافة من الإيمان ۱
جـ في التسامح
حسن
يقول القس ميشون فى كتابه سياحة دينية في الشرق إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم
د في العلم رفع النبي محمد قدر العلم إلى أعظم الدرجات وأعلى المراتب وجعله أول واجبات المسلم وفي ذلك يقول
من
1 أشعة خاصة بنور الإسلام
٢ يقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين نهض الإسلام بالعقول من وهدة الخمول وأذن لها أن تبحث في كل علم وتذهب في البحث كل مذهب فوجدت الأمم من العرب وغير العرب في هذه السماحة ما أثار نشاطهم للبحث في كل ناحية من نواحى العلم فلم يلبثوا أن جمعوا القرآن الكريم في مصحف ودونوا الحديث النبوى بعد أن كان محفوظاً فى الصدور وكتبوا في تفسير القرآن وشرح السنة النبوية وحققوا النظر في تقرير أصول الدين وأصول الفقه وحرروا وجوه استنباط الأحكام العملية ووضعوا إزاءها العلوم العربية من النحو والصرف والبيان وفقه اللغة ودرسوا العلوم النظرية المعربة عن الكتب اليونانية وغيرها فأصبحت بلاد الإسلام - ولا سيما عواصم المالك كبغداد وقرطبة ومصر ودمشق وتونس - موارد العلوم الإسلامية والأدبية والكونية من هذه الموارد استحدثت الأمم الأوربية معارفها وفنونها وقد اعترف بهذا كثير من علماء أوربا المنصفين قال الأستاذ بريفولت الإنجليزي فى كتابه تكوين الإنسانية في القرن التاسع تعلم كثير من المسيحيين عند علماء الإسلام =

اطلبوا العلم ولو بالصين
و یوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء و شرار العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الذين يأتون
العلماء
و فضل العلم خير من فضل العبادة ١
وقد نظر المسيو كازانوفا أحد كبار أساتذة الكوليج دى فرانس بباريس في هذه الكلمات الغاليات وكيف يقولها أحد أصحاب الديانات فعلق على
ذلك بقوله
= وقال إن رئيس دير كلوتى يأسف على أنه رأى فى أثناء إقامته بالأندلس الطلبة من فرنسا وألمانيا وإنجلترا يأتون أفواجاً أفواجاً إلى المراكز العلمية العربية وقال فالعلم هبة عظيمة الشأن جادت بها الحضارة العربية على العالم الحاضر
ولم يكن فضل الإسلام على أوربا من ناحية العلم فقط بل كان له الفضل في نهضتها المدنية قال الأستاذ بريفوت في الكتاب المذكور " لم تكن إيطاليا مهداً لحياة أوربا الجديدة بل إسبانيا الأندلس لأن أوربا كانت بلغت أشد أعماق الجهل والفساد ظلمة فى حين العالم العربى بغداد والقاهرة وقرطبة وطليطلة كان مركز الحضارة والنشاط العقلى ومن ثم ظهرت الحياة الجديدة التي نمت في شكل ارتقاء إنساني جديده
وخلاصة الفصل أن دعوة خاتم النبيين قد أتت العالم بضروب خطيرة من الإصلاح لم تأته بها دعوة سبقتها أو تأخرت عنها فما يوجد فى العالم من هداية صادقة أو علوم نافعة أو مدنية فاضلة فإنما يوجد الفضل فيه لدعوة هذا الدين القويم
ه فليرفع الفتى المسلم رأسه معتراً بدين رفع الإنسانية من حضيض الجهل إلى أوج العلم وهداها سبل السعادة الباقية والمدنية المهذبة ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنى من
المسلمين
۱ الجزء الأول من كتاب الإحياء للغزالي
١٠٤

يعتقد الكثيرون منا أن المسلمين لا يستطيعون تمثيل آرائنا وهضم
أفكارنا
يعتقدون ذلك وينسون أن نبي الإسلام هو القائل بأن فضل العلم خير من
فضل العبادة !
فأى رئيس دينى كبير أو أى قس من القساوسة العظام كانت له الجرأة أن يقول مثل هذا القول القوى الفاصل المتين
هذا القول الذى هو نفسه عنوان حياتنا الفكرية الحاضرة نعم إن هذا هو مبدؤنا اليوم ولكن أليس العهد بقريب يوم كانت الكافة
عندنا من أهل العقول تنظر إلى مثل هذا الشعار كأنه رمز العار ومجلبة الشنار كما أنه سوف يقال إن أوضح مبادئ الحرية الفكرية قد كشفت أمثال الوثير و كالفين وعاد الفضل فيها إلى رجل عربى من رجال القرن السابع ذلك هو صاحب شريعة الإسلام۱

هـ في الفروسية
وينظر المسيحيون إلى سان لويس وكأنه النموذج الأعلى للثمرة المسيحية الناضجة غير الوثائق التاريخية تثبت في وضوح وسهولة – أن خصمه
صلاح الدين الأيوبى كان أرفع منه قدراً فى الحضارة وفى الشجاعة
وفى
معاملة الخصوم والفروسية ونبالة قصدها لم يكن يعرفها الأقدمون من اليونان
1 من أشعة خاصة بنور الإسلام
۱۰۵

والرومان ولكنها كانت معروفة عند العرب أيام جاهليتهم ثم هذبها الإسلام وطهرها تطهيراً
وعلى أثره دخلت أوربا ووصلت إلينا نحن الغربيين ولم يبق أحد اليوم ينكر نسبتها إلى العرب
عن
وقد ذكر العالم المسيحى المتدين بارتلمی سان هيلار في سياق حديثه
القرآن
إن العرب هم الذين يرجع إليهم الفضل على سادات أوربا وفرسانها في القرون الوسطى فى تعديل عاداتهم الخشنة وتلطيفها ثم تعليمهم رقة العاطفة وتهذيب نفوسهم والرفعة بها إلى حيث الإنسانية والنبالة وكل
ذلك دون أن يصيبهم ضعف يفقد من فروسيتهم وشجاعتهم شيئاً ويخطئ من يظن أن هذا راجع إلى المسيحية وحدها برغم ما فيها من المزايا
والفضائل
و في العبقريات العلمية
ثم إنهم يفخرون بالعالم باستور الفرنسى ويجعلونه درة في تاج الحضارات الحديثة ولكن فاتهم أن جابر و الرازى لا يقلان عنه في مرتبة العلماء والمفكرين فها المؤسسان الحقيقيان لعلم الكيمياء بفضل ما كشفاه من طرق التقطير ومن الكحول ومن حمض النتريك
و حمض الكبريتيك ۱
۱ من أشعة خاصة بنور الإسلام
١٠٦

إسلامه
واستمر صاحبنا في الموازنة والمقارنة والتأمل والتفكير وأطال النقاش
ثم أراد الله له أن
يسلم
وأسلم إتيين دينيه واختار اسم ناصر الدين وإن هذا الاختيار لهو
الذي يحدد اتجاهه بعد ذلك خير تحديد
ناصر الدين إنه حقاً
خصص
حياته لنصرة الدين الإسلامى ورأى أن نصرته إنما تكون عن طريقين
۱ نصرته سياسياً
ب نصرته علميا
وهما
فإن عنصرين من عناصر الشر يتألبان على الإسلام ويهاجمانه في عرينه
رجال السياسة الاستعماريون ورجال الدين المتعصبون
ولابد - لتكون نصرة الإسلام كاملة أن
من
يتجه الدفاع نحو الهدفين
وتطلع ناصر الدين نحو الغاية التي أن يريد يسعى إليها فهاله الأمر وكتب
معبراً
معبرا عن الواقع يقول إن أهل السوء من أهل الكتاب لا ينفكون يهاجموننا نحن المسلمين بالأباطيل ويحاربوننا بالمفتريات وإذا نحن شئنا أن نحصي أكاذيبهم علينا كانت فيها صفحة هي أسود الصفحات في سجل التعصب يشترك في تسويدها أعداء الإسلام قديمهم وحديثهم سواء منهم العلماء والرواد

والقساوسة ورجال الحكومات والكتاب أمثال بيرون وبلجراف
وجلادستون وبرجليوس وقسيس كانتربرى والأب لامنس والكاتب
1
لوی برتران سرفييه وغيرهم
الانتصار للإسلام سياسيا
أما والأمر كذلك فلابد من التشمير عن ساعد الجد والنهوض حقيقة
في وجه عوامل هدم الإسلام هذه ولكن كيف السبيل
أما من جهة السياسة فإن ناصر الدين ليس من الساسة المحترفين ولذلك كانت مهمته في هذه الناحية التحدث إلى كل من يجد فيه روح الإنصاف من الغربيين ذوى النفوذ والعمل على إذاعة كل ما يمكنه إذاعته من آراء
المنصفين منهم وتبنى قضية الشرق المظلوم
ومن
أمثلة ما كان يذيعه مثلاً ما يلى ونشر أخيراً المسيو أوجين يونج وكيل حكومة التونكين الفرنسية سابقاً كتاباً عنوانه استعباد الإسلام - الحرب الصليبية الجديدة وهذا الكاتب معروف بأنه من الكاثوليك المتمسكين بدينهم ولكنه معروف كذلك بأنه فرنسي من خيرة الفرنسيين وقد أنكر فى كتابه هذا في كبير شجاعة وصراحة تلك الحروب الصليبية الجديدة التى يقوم بها اليوم الفاتيكان ذلك المركز الرئيسي المقدس حيث البابا الحبر الأعظم للمسيحية وقد أظهر أنهم يقومون
۱ عن أشعة خاصة بنور الإسلام
۱۰۸

بذلك دون أن يفت في عضدهم ملل أو كلل أو أن ينال منهم أى تهاون أو کسل وإنما يقومون به من وراء ستار المداهنة وفى ثوب من الرياء يشف عما
تحته
ومما جاء في كتاب المسيو يونج قوله
إننا نهيئ من اليوم مقدمات حرب دينية شديدة الفزع والهول ثم أظهر أن مصالح فرنسا الحيوية إنما هى فى التفاهم والاتفاق الودى مع الإسلام وإنا لنرجو أن يكون لكلام هذا الفرنسي الكبير صدى بعيد وأثر
محمود في مصلحة فرنسا والإسلام على السواء 1 ومن ناحية أخرى أخذ الإسلامية ويبين أنها شعوب بعيدة كل البعد عن الهمجية والتوحش وأنها
ينشر ما يصحح فكرة الأوربيين عن الشعوب
أن
تمتاز بالوفاء وعرفان الجميل والكرم والشجاعة والفضائل المحمودة ويبين ماضيها المجيد خير نبراس يرسل أشعته على الفكرة الخاطئة الموجودة عند الغربيين فيزيل ما غشى عليها من ظلمة ويلفت نظر الفرنسيين في قوة إلى ما أداه لهم المسلمون من أياد جليلة في ميدان الحروب ضد أعداء فرنسا
ومن ألذع توجيهاته للفرنسيين في هذا الميدان أنه حينما ألف كتابه في السيرة النبوية أهداه الأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت في الحرب الكبرى
وهي تحارب فى صفوف الفرنسيين
1 أشعة خاصة بنور الإسلام
19

الانتصار للإسلام علميا ذلك فإن ميدانه الفسيح إنما كان الدفاع عن الإسلام باعتباره ديناً ومع سماوياً لقد استمات في الدفاع عن عقيدته التي يؤمن بها في يقين حار مطمئن ومما زاد من قيمة دفاعه هذه الموازنات الكثيرة الدقيقة بين الإسلام
والمسيحية في كثير من الأصول وفى كثير من الفروع
لقد درس
الإسلام في عمق ودرس المسيحية في عمق ورأى أن هجوم رجال الكنيسة لا يفتر وتزييفهم بالباطل لكل ميزة للإسلام لا ينقطع فدافع واشتد في دفاعه وهاجم - وكان لابد من الهجوم – واشتد في هجومه وتوالت ضرباته للمسيحية ممثلة في رجال الكنيسة ولكنه كان يعلن دائماً كما الشأن في كل مسلم - احترامه للمسيح لأنه رسول الله واحترامه للمسيحية الصحيحة التي يتحدث عنها القرآن لا تلك التي ابتدعها رجال من
هو
بني البشر
كان يعلن

دائماً أن دین الله واحد وأن الإسلام أتى مصدقاً لما سبقه مصححاً لما ناله من تحريف مهيمناً عليه وقد وعد الله يحفظ كتابه المقدس
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ۱
فالقرآن في العصر الحاضر هو الكتاب السماوى الوحيد الذي لم ينله – ولن
يناله - تحريف أو تبديل
يقول الأستاذ راشد رستم - بحق
عن
ناصر
الدين
۱ سورة الحجر اية ٩

وإنك لتجد الكاتب واسع الاطلاع لذلك هو صحيح الحجة
ناهض البرهان هو شديد الهجوم شديد الدفاع ذلك لأنه غيور على دينه الذي لم يتخذه إلا بعد أن بحث وفكر
وهكذا كان في عقيدته مكيناً وفي إسلامه كاملا
كان
الأخطاء
1
يصحح ويرد الهجوم ويهاجم ويوازن بين الإسلام
والمسيحية وكان قبل ذلك وبعد ذلك يبين الإسلام ويوضحه ويشيد به وكانت وسيلته إلى ذلك المقالات والمحاضرات والرسائل والكتب فضلا عن
الأحاديث الشفهية
التعريف ببعض كتبه
ومن كتبه في ذلك
۱ - الرسالة القيمة أشعة خاصة بنور الإسلام وقد ترجمها ترجمة أدبية ممتازة الأستاذ راشد رستم وهى رد على الفكرة التي يذيعها القساوسة القائلة إن الإسلام لم يأت بجديد وقد انتفعنا بها انتفاعا عظيماً وكانت لنا خير عون في عملنا الحالي
٢ - وآخر ما ألفه هو كتاب الحج إلى بيت الله الحرام وقد ترجمت
م توفيق
خاتمته ونشرت في مجلة جمعية الشبان المسلمين الأستاذ بقلم أحمد وقد نقلنا بعضاً من نصوصها في ثنايا الكتاب الحاضر
٣ - الشرق كما يراه الغرب وقد ترجمه الأستاذ عمر فاخوري ونشر
۱ عن أشعة خاصة بنور الإسلام
111

بدمشق مع رسائل أخرى تحت عنوان آراء غربية في مسائل شرقية وقد استفدنا منه كثيراً في البحث الراهن
- ومن أهم كتبه ما جعله تاريخاً لحياة الرسول عليه السلام – وهو السيرة النبوية - في مجلد كبير جليل وضعه باللغة الفرنسية مع صديقه الجزائري الحميم السيد الفاضل سليمان بن إبراهيم وزينه بالصور الملونة البديعة الكثيرة المتعددة من ريشته الخاصة يمثل فيها المناظر الإسلامية في بلاد الجزائر ومعالم الدين فيها
وطبعه طبعاً غاية فى الإتقان والعناية وقدمه لأرواح الجنود الإسلامية التي استشهدت فى الحرب الكبرى وهي تحارب فى صفوف الفرنسيين ١ ونشره
كذلك باللغة الإنجليزية بنفس الحجم الكبير والإتقان التام والكتاب في طبعتيه قد تحلى بمختلف أنواع اللوحات الزخرفية الملونة ذات الأشكال العربية غاية فى الدقة والإبداع وهى اللوحات التي قام بعملها خاصة السيد محمد راسم الجزائرى أشهر رجال الزخرفة العربية ببلاد الجزائر ويبلغ ثمن النسخة الواحدة من هذا الكتاب خمسة جنيهات مصرية وإنها لخدمة جليلة للإسلام والمسلمين ونبي الإسلام مشكورة مذكورة ۳
۱ ولكن مما يؤسف له أن فرنسا جازت المسلمين على ذلك جزاء سنمار وقد أشار إلى ذلك المسيو الازار بجامعة الجزائر ومدير متحف الجزائر وذلك في المحاضرة التي ألقاها في النادى الفرنسى بالقاهرة يوم ۱۱ مارس سنة ۱۹۹ وهى المحاضرة الخاصة بالنهضة الفنية
الجزائرية
3 أشعة خاصة بنور الإسلام
۱۱

وفاته
استمر ناصر الدين طيلة حياته يناضل عن الإسلام كدين ويناضل عن المسلمين كشعوب ويضع روحه وشعوره ووجدانه في هذا الدفاع المجيد
حتى ليكاد الإخلاص يتجسد خلال ما يسطر من عبارات وفى سنة ۱۹٢٨ م قام السيد ناصر الدين بأداء فريضة الحج ووضع كتابه الحج إلى بيت الله الحرام
وفى ديسمبر سنة ۱۹٢٩ توفى بباريس وصلى عليه بمسجدها الكبير بحضور كبار الشخصيات الإسلامية وغيرها وزير المعارف بالنيابة عن الحكومة
الفرنسية ثم نقل جثمانه إلى بلاد الجزائر حيث دفن في المقبرة التي بناها لنفسه ببلدة و بوسعادة تنفيذاً لوصيته ۱

رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً
۱ دوزى مسلمو الأندلس ج ۱ ص ۱۸

الفضل الخامس
نصوص من كتب ناصر الدين دينيه

ناصر الدين والمستشرقون
حينما ألف السيد ناصر الدين كتابه عن حياة سيدنا محمد ثارت ثورة النقاد متجهة على الخصوص إلى الشكل لا إلى الجوهر لقد زعموا أن الأبحاث العلمية الحديثة قد وضحت جوانب من سيرة الرسول وأن المستشرقين في مختلف الأقطار قد كتبوا عن سيرة سيدنا محمد كتابة تعتمد على الأبحاث العلمية الدقيقة ورأوا أن الأستاذ ناصر الدين لم يعبأ بشيء من ذلك وأخذوا عليه أنه لم يقم وزناً لإنتاج المستشرقين فى السيرة النبوية وأن اعتماده إنما كان على السيرة القديمة كسيرة ابن هشام وابن سعد
المستشرقون لا يفهمون السيرة النبوية
معتمداً
على
والواقع أنه فعل ذلك وفعله متعمداً فقد كتب السيرة المنقول من الأخبار الإسلامية الصحيحة ولكنه فعل ذلك بعد أن قرأ ما كتبه المستشرقون عن سيرة الرسول فوجد أنه لا يساوى شروى نقير لقد رأى أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن يتجرد المستشرقون
من عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة وأنه لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يغشى على صورتهم الحقيقية من شدة التحريف فيها

وبرغم ما يزعمون من اتباعهم لأساليب النقد الحديثة ولقوانين البحث العلمي
الجاد يقول دينيه فإنا نلمس من خلال كتاباتهم محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان الكاتب ألمانيا ومحمداً يتحدث بلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطاليا وهكذا تتغير صورة محمد بتغير جنسية الكاتب وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة فإنا لا نكاد نجد لها من أثر !
إن المستشرقين يقدمون إلينا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن
الحقيقة !
إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال ولتر سكوت و إسكندر ديماس وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصاً من
أبناء قومهم فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة فصور وهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصرى وإن الدكتور سنوك هير غرنجة ليقول بحق فى نهاية نقده لكتاب المستشرق جريم
إننا نرى أن الأستاذ جريم لو اقتصر على درس السير النبوية القديمة وبحثها في عمق لكان أفضل وإن الثمار التي كان يمكن أن يجنيها من مثل هذا الدرس لهى أجدر ببلوغ الغاية التى توخاها ولكنه ظن أن هذا عمل ليس له أهمية كبيرة وأراد أن يطرف الناس بنبأ جديد ففشل في وضع السيرة النبوية التي حاول فيها أن يطبع محمداً بطابع الروح الاشتراكي وفى جعل محمد
۱۱۸

اشتراكيا و أن تقود الاشتراكية نفسها محمد الأن يضع الدين العربي الذي أتى به إن الاشتراكية الإسلامية - لا الاشتراكية الحديثة كما يتصورها جريم ثمرة من ثمار الرسالة الإسلامية وليست الرسالة الإسلامية ثمرة الاشتراكية
تخبط المستشرقين يقول دينيه
ولنضرب الآن بعض الأمثلة للنتائج التي توصل إليها المستشرقون في أبحاثهم التي يزعمونها علمية صحيحة وسنضرب بعضها ببعض لتنهار ولو كانت علمية حقاً لما اختلفت ولما تعارضت ولما كان مصيرها التلاشي ١ - كيف كان خلق محمد وما هو السر في تأثيره العظيم على أبناء وطنه هذا السؤال يجيب دوزی لعل رسول الله - كما كان يلقب نفسه -
عن
لم يكن أسمى من مواطنيه ولكنه من المؤكد أنه لم يكن يشبههم كان صاحب خيال فى حين أن العرب مجردون عن الخيال وكان ذا طبيعة دينية ولم يكن العرب كذلك ١
ولا يرضى القسيس لامانس بهذا فيصرخ متأثراً بحقده الجارف ضد الإسلام ويقول كان محمد - برغم معايبه - معاذ الله يفتن البدوي الذي كان يرى ذاته في شخص النبي العربي كما يدعوه القرآن وفى هذا التفاعل أو في هذه
۱ دوزى مسلمو الأندلس ج ۱ ص ۱۸
۱۱۹

المطابقة العامة بين محمد وبيئته نجد أولا وقبل كل شيء السر في هذا السلطان
الضخم الذي كان لمحمد على مواطنيه ١
- سؤال آخر ماذا كانت ميول محمد قبل البعثة
یری و دوزی أن محمداً كان سوداوى المزاج يلتزم الصمت ويميل إلى التنزهات الطويلة فريداً وإلى التأملات المستغرقة في شعاب مكة المتوحشة
ويرد القسيس لامانس - ضارباً بكل حقيقة عرض الحائط

كلا ليس هناك ما يثبت اعتكاف محمد وعزلته فذلك لا يتفق مع نفرة محمد من الوحدة وكراهيته المشهورة للنسك ٣ - وسؤال ثالث ماهى العوامل فى بعثة محمد ورسالته
إنها نوبات الصرع كما يفترى نلدكه
وكيف تكون نوبات الصرع عاملا في البعثة
سلوا عن ذلك نلدكه
ولكن المستشرق دوغويه يعتقد أن هذا بعيد الاحتمال ويعلل ذلك بأن الحافظة في المصروعين تكون معطلة على حين أن حافظة محمد كانت غاية في
الجودة كلما هبط عليه الوحى
۳
۱ لامانس مهد الإسلام ص ٥٤
لامانس هل كان محمد صادقاً ص ۱ ۳ دوغوية مباحث شرقية ص ١ ويقول الدكتور هيكل فى كتابه وحياة محمد ص ٤٠
ه ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصرى المسلم فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلتهم على أن النبي كان يصاب بالصرع وأن أعراضه كانت تبدو عليه إذ كان يغيب عن صوابه ويسيل منه العرق وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرغوة حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به مايقول -
۱۰

= إنه وحى الله إليه في حين أنه لم يكن هذا الوحى إلا أثراً من نوبات الصرع وتصور ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحى على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أى ذكر لما مر به في أثنائها بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسياناً تاماً ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ولم يكن ذلك يصيب النبي العربي في أثناء الوحى بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبهاً لا عهد للناس به وكان يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه هذا ثم إن نزول الوحى لم يكن يقترن حتماً بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحى غاية التنبه بل كان كثيراً ما يحدث والنبي في تمام يقظته العادية وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا فى هذا الكتاب من نزول سورة الفتح عند تقول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد
الحديبية
ه ينفي العلم إذن أن الصرع كان يعترى محمداً ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتروا على القرآن أنه حرف وهم لم يقولوا به حرصاً على حقيقة يتلمسونها وإنما قالوا به ظناً منهم أنهم يحطون من قدر النبي في نظر طائفة من المسلمين أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلاً من الريبة على الوحى الذي نزل عليه لأنه نزل عليه - فيما يزعمون - فى أثناء هذه النوبات إن يكن ذلك فهو الخطأ البين كما قدمنا وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار ولو أن نزاهة القصد كانت رائدة هؤلاء المستشرقين لما حملوا العلم ما ينكره وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهديهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطأ مقصوداً أو غير مقصود ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقلى للإنسان يختفى تمام الاختفاء في أثناء نوبات الصرع ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرك مثل حركته قبل نوبته أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى وهو في أثناء ذلك غائب عن صوابه لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به شأنه شأن النائم الذي لا يشعر بحركاته فى أثناء نومه فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئاً وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحي قوى قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقينى ليبلغ من بعد ما أوحى إليه
=
۱۱

ولا نكاد ننتهى من هدم نوبات الصرع حتى يؤكد اسبرفر أنها نوبات هيستريا اشتهرت باسم شوتلاین 1
ولكن سنوك هر غرنجه يرى أن هذه الأسس التي يراد أن تقام عليها البعثة أسس واهية ويقول يجب أن نقر بأن قيمة محمد إنما هى ما يميزه عن سائر الهستيريين ويدلي المستشرق جريم بدلوه هو الآخر فيرى أن الآراء الاشتراكية لا الآراء الدينية هي التي قادت محمداً إلى الرسالة
أما مستنده في ذلك فهو تشديد محمد فى الزكاة التي يسميها جريم ضريبة ولما كان القول بذلك في مكة أسهل من التنفيذ فقد حاول النبي – فيما يرى جريم - أن يؤثر على المكيين بتخويفهم من يوم الحساب متخذاً الإكراه
الروحانى وسيلة للبذل والسخاء ٢

أن رأى جريم
ولكن سنوك هر غرنجه يرد على جريم ويرى واستشهاده كل ذلك غريب سواء نظرنا إلى المنقول في السيرة أو نظرنا إلى ظروف البيئة العربية إذ ذاك وينهار - تحت قلم سنوك – الرأى القائل بأن الإسلام في الأصل أقرب إلى أن يكون اشتراكية نشأت
الزمن وفقر بنيه من أن يكون ديناً
عن بؤس ذلك
أما
= فالصرع يعطل الإدراك الإنسانى وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد في أثنائها الشعور والحس الوحى فسمو روحى اختص الله به أنبياءه ليلقى إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها
للناس
1 أسبرنغر حياة محمد وعمله ج ۱ ص ۰۷
جریم محمد ص ١٥

بيد أن سنوك يزعم - ولابد له من الزعم لأنه لابد له من التعليل -
D

أن الباعث على رسالة محمد إنما هو فزعه العظيم من يوم | القيامة والحساب وتفكيره المتواصل فى مصيره وفى الجنة وفى النار
D
وإرادة الإغراب في المستشرقين قوية جامحة وقد بلغ القمة في الإغراب المستشرق مرجليوث لقد خطأ كل الآراء التي ذكرناها وأراد أن يأتي ببدع من القول يتناسب مع القرن العشرين فرأى أن الباعث على بعثة الرسول إنما أعمال الشعوذة 1 لقد عرف محمد خدع الحواة وحيل الروحانيين ومارسها في دقة ولباقة وقد كان يعقد في دار الأرقم جلسات روحانية وكان المحيطون به يؤلفون جمعية سرية تشبه الماسونية ولهم شعارات تعارف مثل السلام عليكم
هی
وعلامات يتميزون بها كإرسال طرف العامة بين الكتفين أرأيتم المدى الذى يصل إليه المستشرقون في تخبطهم واضطرابهم وتعصبهم وإرادتهم الإغراب
إن فيما مر ما يكفى لتصوير حالة المستشرقين ومع ذلك فسنتحدث عن آرائهم في مسألة رابعة محددة أبعد ما تكون عن الفروض والتخمينات - ما هي الأسباب في مرض الرسول وموته
1 كتب المستشرق مرجليوث كتاباً عن سيدنا محمد أتى فيه بكل غريب وبكل باطل وظهرت كراهيته للإسلام من خلال هذا الكتاب ظهوراً بشعاً ومن مزاعمه المضحكة مثلاً أن محمداً علي سافر إلى مصر لأن كلامه عن مصر يدل على معرفة تامة بها ويرد عليه المستشرق نولدكه فيقول إن محمداً لم يكن يعلم أن المطر قليل في مصر قلة مطلقة ولو كان سافر إليها لعلم تلك الحقيقة التي لا تخفى على أحد
۱۳

يعتصر القسيس لامانس خياله حتى يخرج برأى يشفى شيئاً من غليله ضد الإسلام ضارياً بالمعقول وبالتاريخ وبالحقيقة عرض الحائط فيقول كان لمحمد شهوة قوية جيدة وقد كثفت جسمه بالملذات وخدرت أعضاءه فأصبح مهدداً بداء السكتة
وعلى الضد من تلك تماماً يرى المستشرق بينيه سنغلة أن رؤى محمد كانت في بعض الأحيان أثراً لضعفه الشديد من الجوع ولقد كان يسمع في صومه ما يشبه مواء القطط أو أصوات الأرانب ولقد مات بحمى
أثناء
هاذية استمرت يومين
ويعارض هذا وذاك المستشرق كليمان هيار فيرى أنه قد ظهرت على محمد

أعراض التهاب رئوى فخارت قواه بسرعة عظيمة وتوفى في الثالث عشر من الأول سنة ١١ هجرية 1
شهر ربيع
أما القسيس و باردو فإنه يرى أن محمداً مات مسموماً بيد امرأة
يهودية 1

هل نستطيع – بعد أن رأينا ما سبق – أن نعتمد على آراء المستشرقين مع أن ما ذكرناه من اختلافهم إنما هو قليل من كثير ويهدم بعضه بعضاً ومن اليسير أن تحقق فيه المثل العربى لا تكسر الجوزة إلا على جوزة فنبطل تراث المستشرقين كله فى السيرة النبوية ضاربين بعضه ببعض فإذا هو زاهق
۱ كليمان هيار تاريخ العرب ج ۱ ص ۱۸۱
باردو علامات محمد ما هى وما قيمتها ص ۱۷۱

المنهج الذي يجب أن يتبع في دراسة السيرة
إن الصرح الذي شيده المستشرقون في سيرة الرسول إنما هو صرح من الورق قد أقيم على شفا جرف هار والسبب في ذلك واضح ذلك أن المستشرقين لم يتبعوا الخطة المثلى فيما ينبغى أن يعتمدوا عليه في السيرة النبوية إن كاتب السيرة النبوية يجب عليه أولا أن يتجرد عن الشهوة والهوى والعصبية ويبدأ في دراسة الموضوعات نافضاً عن رأسه كل ما أوحته إليه من أباطيل عن الإسلام وكل ما غرسته في نفسه من ترهات خاصة بمؤسس الدين الإسلامي وإذا لم يفعل ذلك فإن ما يكتبه سيكون لا محالة وهماً وباطلا ويجب عليه ثانياً أن يعتمد على الأخبار الصحيحة التي رواها المسلمون أول عهدهم بالتدوين يجب عليه أن يعتمد على سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وعلى البخارى ومسلم وعلى تاريخ الطبرى وقبل ذلك وبعده على القرآن
ويجب عليه ثالثاً أن يدرس البيئة العربية في مهدها الأصلي مكة

والمدينة والطائف وغيرها حتى يتجلى له الغامض ويتضح له المبهم وتستقيم
له الفكرة إن البيئة العربية الحالية تكاد ترينا رأى العين أشخاص الأخبار التي رويت في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد بل إننا نكاد نتعرف فيها على هذه الشخصيات في أصغر إشاراتها وأبسط أفكارها
أما إذا قرأنا عن هذه الشخصيات في كتب المستشرقين فإننا لا نكاد
١٢٥

نعرفها لشدة التحريف فى تصويرها وكثيراً ما نلقى - لولا الأسماء العربية - صعوبة في فهم أن هؤلاء المسلمين الذيين يتحدث عنهم المستشرقون رجال من العرب وذلك لبعد العقلية التي نسبت إليهم عن العقلية التي كانوا عليها وبعد فإن رينان فى كتابه حياة المسيح يقول
حقا أن لسير محمد العربية مثل سيرة ابن هشام ميزة تاريخية أكبر من
الأناجيل 1
وهذا يكفينا ردا على المستشرقين الذين يبتعدون عن الصورة الواقعية التي
رسمتها كتب السيرة القديمة
۱ رينان حياة المسيح ط ۱ ص ۰۹
١٢٦

القسيس لامانس
والآن نريد الإسلام وذلك هو القسيس لامانس ذلك أن تصنيفه من أضخم التصانيف وقد كتب عن بدء الإسلام أكثر من عشرة مؤلفات وتعمق في دراسة صدر الإسلام لغرض فى نفسه لا يخفى على أحد مهما كان ساذجاً ذلك الغرض هو هدم الإسلام ولكن الله غالب على أمره وهو يقول
أن نتخذ من أحد المستشرقين مثالاً واضحاً لموقفهم من
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
إن لامانس قسيس يقطن لبنان ومن هناك - وهو هادئ مطمئن غير عابئ بشعور المسلمين ولا بحقوق الجوار ولا بالأخوة الوطنية – يرسل
نقده ويقوم بهجومه في غير هوادة ولا ترفق
لقد ضاق ذرعاً برؤية الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً ويبسط ظله يوماً فيوماً على أفريقيا وآسيا ويضيق صدر القسيس لامانس فإذا به يسخط على
القدر نفسه ويقول
لماذا جاء القرآن فجأة ليقضى على التأثير اللطيف الذي كان الإنجيل
قد أخذ يحدثه في ابن البادية والحق أن مثل لامانس في الاستشراق كمثل بطرس الناسك في الحروب
D
الصليبية وأنه ليقوم فى الناحية العلمية بما كان يقوم به الناسك في ناحية
۱۷

الدعاية الحربية وكالناسك يتخذ من الوسائل ما يؤديه إلى الهدف غير عالي بعدالة الوسيلة وأن نزعة كهذه لا يمكن أن تؤدى بمؤرخ إلى الإنصاف
العلمي
أن إسناداته الكثيرة التي يثبتها في آخر
والحق أننا قد اخترنا هذا المستشرق بالذات لأن شهرته العلمية قد خدعت الكثيرين فأحسنوا الثقة به امع كل صحيفة إنما هى من قبيل التمويه على القارئ والحقيقة أنها لا قيمة لها واخترناه أيضاً لأن هواه المتحكم واضح كل الوضوح بيد أن غيره من
العلماء
ممن
كان هواهم إنما هو التدليل على أن محمداً إنما كان مصروعاً أو هستيريا أو اشتراكياً قادته الاشتراكية إلى الدين هؤلاء العلماء - أيضاً - لا تدع لهم أهواؤهم سبيلا إلى الإنصاف ولا إلى حرية لا تخضع إلا
للوثائق التاريخية
هم
إن القسيس و لامانس ذو هوى جامع عنيف ثائر وغيره من المستشرقين ذو هوى أيضاً يحاول اخفاءه مكراً ودهاء فلا يكاد يستقيم لهم أمر ومنهم لامانس ساذج كل السذاجة إنه منهج العكس أتدرى ما منهج العكس
إنه ذلك المنهج الذى يأتى إلى أوثق الأخبار وأصدق الأنباء فيقليها - متعمداً - إلى عكسها وكلما كان الخبر أوثق بدت – قوية جامحة – الرغبة في
البراعة من ذلك الذى
يتبع
هذا المنهج ولما كان ينبغي أن يستند إلى دعامة ما
فقد تبنى الفكرة التي تقول
إن البشر يعملون غالباً على كتمان عيوبهم والظهور بنقيضها
۱۸

وهذه فكرة لا يمكن أن تتخذ كمبدإ عام وإلا كنا مضطرين إلى كتابة التاريخ بأجمعه من جديد وعكس صورة الطبيعة كلها عكساً تاماً إن جميع القديسين إذن أشرار وجميع الأنبياء طالحون وجميع وجميع الأديان تهريج وقد شاع هذا المنهج عند بعض
الشجعان جبناء المتحذلقين حتى أصبح موضة
ولقد أراد بعض الظرفاء أن يسخر من أتباعه فألف رسالة دلل فيها في ا براعة بارعة على أن نابليون لم يوجد قط وأن تاريخه أسطورة ملفقة ابتدعتها فرنسا تريد بها التغطية على ما يشاع من ضعفها الحربى
وقد ذكرت مختلف السير الإسلامية أنباء موثوقاً بصحتها إذا وزنا هذه الأنباء بميزان العقل الصحيح والمنطق المستقيم وإذا ما نظرنا إليها على ضوء دراستنا للبيئة العربية الإسلامية لم يخالجنا شك فى صحتها ولكن لامانس
لا يبالى - متتبعاً منهج العكس - فلا يقيم لهذه الأنباء وزناً ولا يقدر لها قيمة
نتائج لهذا المنهج صارخة بالخطأ ١ - وإننا لو نظرنا في الأناجيل من هذه الوجهة واتبعنا هذه السنة لوجب أن نتناول كل حسنة فيها ونعكسها وإذن لما بقى جديراً بمودة القسيس واحترامه إلا هيرود و يهوذا اللذان يجب مصاف القديسين الأخيار
أن
- إن مما لا شك فيه أن الرسول كان شجاعاً
يرفعا إلى
لقد كان يقود الجيوش فى الغزوات ولم تطر نفسه شعاعاً في أية واحدة
۱۹

منها ولا يوم أحد - وقد ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً - ولم تهله كثرة الجيوش المعادية في غزوة الخندق يوم أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب
الحناجر
1 6
ولم ترعه النبال كالمطر يوم حنين ومع
ه لامانس يصفه بعدم الشجاعة ثم يحاول أن قاطبة يقول
يعمم
ذلك فإن الحكم على العرب
ه زعموا أن العربي يتسم بالشجاعة بل لقد عللوا النجاح في الفتوح الإسلامية الأولى بما يمتاز به العربي من صفات ومزايا ولكني أتردد كل التردد في قبول هذا الرأى المبالغ فيه كل المبالغة إن شجاعة العرب إنما هي من نوع غير سام والرد على القسيس اللبنانى بسيط ويكفى أن نسدى إليه هذه النصيحة وهي أن يقرأ آلاف الشهادات التي نالها من قيادة جيوش الحلفاء الجنود المسلمون الشجعان الذين حاربوا دفاعاً عما اعتقدوه حقاً فكانوا من عوامل النصر في الحرب الكبرى لقد أثارت فرق الهجوم منهم إعجاب العالم أجمع وإن هذه
۱ قال على كرم الله وجهه وإنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ويعلق فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر السابق على هذا فيقول وكذلك الداعي إلى الحق ولا سيما المعهود إليه بإبلاغه وتنفيذه لابد من أن يكون شجاعاً رابط الجأش على قدر شدة المدعوين وصعوبة مراسهم وعلى قدر عظم الحق ومخالفته للهم وعاداتهم وأحوالهم فإذا أودع الله تعالى قلب سيدنا محمد شجاعة وسكينة في مواضع الخطوب فلا جرم أن يكون نصيبه من هذه المزية أعظم نصيب إذ لا أشد من مراس الأمة التي ابتدأ بإنذارها وهي الأمة العربية وفي دعوة الإسلام قضاء على مالهم وذم المعبوداتهم وإبطال كثير من عاداتهم وصرف لهم عن أهوائهم
۱۳۰

الشهادة في أسلوبها العسكرى الموجز صرح شامخ مجيد يسجل روح
التضحية والبطولة لدى العرب المغاوير
من
هذا
وإن سهام النقد مهما بلغت من العنف لا يمكن أن تنال الكتاب الذهبي النفيس ذلك أنه مكتوب بخط قواد منصفين لا يمتون إلى
الأمة العربية بصلة الجنس أو الدين
- ومن المعروف أن الرسول كان يتحنث في غار حراء ينفرد بنفسه ذهنه وشعوره منصرفاً كل الانصراف عن هذا العالم المادى يستجمع مستغرقاً في التفكير فى الله ولكن لامانس يؤكد أنه كان يكره
الوحدة !
- ومن المعروف أن رسول الله خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وكان يأتى على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوتهم نار وكثيرًا ما كان قوته التمر والماء وكان رسول الله عليه السلام يعصب على بطنه الحجر من الجوع ومع ذلك فإن لامانس يصفه بأنه أكول وقد كثف جسمه بالملذات ولا يذكر شيئاً عن صوم الرسول لشهر رمضان وأنه كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس وكان يصوم حتى يظن أنه لا يفطر وقد كان الرسول من أكثر المسلمين صوماً ولكن القسيس لامانس يثبت على
عناده !
ه - ويقول الله تعالى
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من
۱۳۱

الذين معك ١
وقد نقلت الأخبار أن النبي كان يقوم الليل حتى تتورم
لطول وقوفه فى الصلاة ومع ذلك فيقول لامانس
قدماه

كان محمد نؤوماً وهو لا شك يجهل أو يتجاهل أن روح
العرب تبلغ حد الإفراط وأن هؤلاء لو رأوا ما يكذب
خبر
النقد عند
أن
القرآن من
۱ سورة المزمل آية ۰
تحدثنا الروايات الصحيحة أنه كان مسلماً وجهه إلى الله تعالى مملوء القلب بخشيته وموصول الهمة بعبادته فكان عليه الصلاة والسلام يقوم بالدعوة ويضيف إلى هذا العمل العظيم التقرب إلى الله تعالى بالذكر والصلاة والصيام وتلاوة القرآن وكان يتهجد بالليل على وفق قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ا أن يبعثك ربك مقاماً
محمودا
روى الإمام البخارى فى جامعه الصحيح عن المغيرة بن شعبة أنه قال كان النبي الله يقوم ليصلى حتى ترم أى تنتفخ قدماه فيقال له فيقول أفلا أكون عبداً شكوراً وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره من الشهور فيكثر فيه من تلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف وما كان يخرج عنه شهر حتى يصوم منه وربما صام أياماً متتابعة حتى يقال
لا يفطر
وكان يواصل الصوم في رمضان أى يصل الليل بالنهار في الصوم يومين أو أياماً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة وكان ينهى أصحابه عن الوصال فيقال له إنك تواصل فيقول لست كهيئتكم إلى أبيت عند ربي فيطعمنى ويسقينى والمراد من إطعام الله وسقيه ما يغذيه به من المعارف وما يفيضه على قلبه من لذة المناجاة وورد فى السيرة أنه كان لا يجلس ولا يقوم إلا عن ذكر الله وكان روح عبادته الإخلاص يصلى في حجرته نافلة كما يصلى في المسجد ويذكر الله خالياً كما يذكره فى جماعة ويعمل له فى السركما يفعل له فى العلانية من رسالة عن سيدنا محمد الفضيلة
الشيخ محمد الخضر حسين
۱۳

الرسول كان يقضى جزءاً كبيراً من الليل فى العبادة لما استمروا على متابعته
وتصديقه ولما احتفظ هو بثقتهم - وأنه لمن المعروف أن العالم لم ينجب من أمثال سيدنا عمر ! إلا أفراداً يعدون على الأصابع إن عمر من أعظم الفاتحين المصلحين الذين عرفهم التاريخ وإن عدالته الرحيمة الصارمة وسياسته الحكيمة النافذة وإدارته الدقيقة الساهرة كل ذلك يجعله من هؤلاء الذين لا يظفر التاريخ بأمثالهم إلا في دهور دهيرة وإننا حقاً لا نكاد نجد من يشابه في التاريخ اللهم إلا إذا كان الإسكندر الأكبر
ومع
ذلك فقد كان عمر في نظر القسيس جنديا مسكيناً أدنى مرتبة من الوسط ولكنه في كراهيته البالغة للإسلام ينسى أو يتناسى هذا الوصف حينما - معاذ الله - من شأن الرسول الله فيذكر أن عمر سيطر
أن يريد
ينقص -
عليه هو وأبو بكر
وليس عمر وحده هو الذى نال من قلم القسيس فقد أخذ القسيس يحطم - كعاصفة هوجاء - كل أخيار المسلمين الرسول أبا بكر عمر

عن
عن
عثمان عليا فاطمة عائشة حفصة وغيرهم وغيرهم - أما إذا تحدث أعداء الإسلام كأبي جهل وأبي لهب ألد أعداء النبي أما إذا ما تحدث المنافقين خونة الإسلام أما إذا ما تحدث عن يزيد قاتل الحسين أو عن بني أمية - على وجه العموم - فإنه يشيد ما شاء له هواه ويمدح ما أمكنه المدح ويطرى كلما أتيح له الإطراء ويلبسهم من الفضيلة ثوباً لامعاً خلاباً
۱۳۳

ولقد بلغت به الحماسة فى كتابه عن بني أمية حدا أثار نفور المسيو
كازانوفا الأستاذ في كليج دي فرانس فقال
كانت نفسية الأمويين فى مجموعها مركبة من الطمع في الغنى إلى حد
يحق
الجشع ومن حب الفتح من أجل النهب ومن الحرص على السلطان من أجل التمتع بملذات الدنيا لذلك لنا أن نعجب أشد العجب من كاهن كاثوليكي مثل الأب لامانس يتطوع للدفاع عن أولئك الشاكين الطغاة ساخرًا من سذاجة على الذى مكروا به وخدعوه
وإنها لغريبة حقاً هذه المباحث التي يبدى فيها هذا المؤلف – المطلع على تاريخ ذلك العصر اطلاعاً حرياً بالإعجاب – تشيعه للأمويين ضد بني هاشم والتي تتوالى فيها المرافعات الدفاعية والاتهامات الادعائية آخذاً بعضها
برقاب بعض ۱
- أما المنافقون فهم أبطال الوطنية عند القسيس وإذا تساءلت من هو هذا الدخيل الذى لم تنبته الجزيرة العربية والذي يقف أمامه أبطال الوطنية القومية فإنك لا تجد من القسيس إلا صمتاً ! أكان محمد فارسيا غازياً للجزيرة العربية
أم كان رومياً يهاجمها أم هو عربى يحب وطنه ويعمل على جمع شتاته في وحدة تكون قدوة ومثلا أعلى لكل من يشرئب بصره نحو الكمال وإذا أردنا أن نعد أخطاء لامانس فإننا لا نقف عند حد إنه مثلا
۱ كازانوفا محمد وانتهاء العالم ص ٥٨
١٣٤

يتعمد أن يعطى الألفاظ معنى آخر غير المعنى الذي تعطيه لغوياً اصطلاحيًّا
وكأنه
ذلك موكل بقلب الحقائق
إن الردة فى نظره معناها الانفصال و المرتدون هم الانفصاليون والمنافقون هم المشككون وهم أبطال الوطنية
القومية وإذا قرأت في القرآن الآية القرآنية الكريمة
إن الله مع الصابرين فسترى أن لامانس يشرحها شرحاً أبعد ما يكون عن السمو وعن المكانة
العليا التي هي لله في الإسلام إنه يفسرها
أنه
إن الله
مع الساكتين على سياسة محمد المتناقضة
ويتحدث عن أبي بكر وعمر فقط فيقول الثالوث إنه يقول
حكومة الثالوث أبو بكر وعمر
بل يطلق كلمة الثالوث على سيدتين فيقول
حزب الثالوث المؤلف من عائشة وحفصة الدساستين المخوفتين ولا عجب بعد ذلك أن نرى هذا القسيس يأخذ على التوحيد الإسلامي
ضيق ه لأنه لا يقول
بأن الله ثالث ثلاثة وبأن الثلاثة واحد ولا يقول بأن الأب غير
ذلك الابن هو الأب
الابن ومع إن توحيد الإسلام ضيق - فى نظره - لأنه لا ينطوى على ما تنطوي عليه
المسيحية من تلك المتناقضات ويقول كتابه الكريم
۱۳۵

قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً
أحد
وهذا القسيس يفسد - متعمداً - الصور التاريخية إنه يحدثنا عن مكة والمدينة في عهد الرسول فيعطينا صورة أوربية حديثة وكأنه يحدثنا عن باريس ولندن حينما يتحدث فى جزيرة العرب عن الحملة الصحافية عن الماليين فى بنك مكة مليار النقابة القرشية الضريبة على الدخل طبقة العمال إبلاغ الرسالة إلى محل الإقامة ديوان ذى الجلال وزارة الله إلى آخر هذه التعبيرات الحديثة التي تفسد الصورة ولا تصور الحقيقة
ومع

ذلك فلا مانس جرىء إنه جرىء جرأة نادرة وتتمثل هذه الجرأة
في أنه إذا لم يعثر خلال أبحاثه الطويلة على خبر واحد يؤيد به زعمه
وهواه استغنى عن الخبر وثبت على مزاعمه الباطلة التي يسوقها إلى القراء برشاقة بالغة وأحياناً يقول
إن هذا أمر عنى رجال الحديث والأخبار بكتمانه ۱
وبينما يحترم المسلمون السيد المسيح ويجلونه نجد لامانس يصف مؤسس الإسلام بأبشع ما يمكن أن يظهره الحقد والكراهية حتى لكأننا نسمع أسلوب رهبان القرون الوسطى الذين لم يكن في جعبتهم إلا السباب والشتائم
الافتتان بالمستشرقين لا أساس له إنه لمن الغريب حقاً - والأمر كذلك - أن يفتتن بعض الشباب المسلمين
۱ لامانس هل كان محمد صادقاً
١٣٦

بالمستشرقين رغم ما يرون من كراهيتهم للإسلام وتعصبهم ضده وجهلهم
أو باهلهم من أجل حاجات في أنفسهم
إنهم يشككون ويخطئون جاهلين أو متجاهلين
لقد وصل بهم الأمر إلى تجريد الرسول علا الله من اسمه زاعمين أنه لم يدع محمداً قط وأن حقيقة اسمه ستظل من الألغاز التي لا حل لها وحجتهم إن كلمة محمد نعت ذو معنى خاص لذلك يؤكدون أنه لقب ليس
إلا 1
0
كذلك
يزعم بعض المستشرقين أن الرحمن اسم علم الله ! ويترجمون البسملة ترجمة تدل على هذا الرأى السقيم باسم الإله الرحمن الرحيم ولما كانت ثلاثة أرباع أسماء الأعلام العربية نعوتاً فأنت ترى ما في دراسة
الأعلام من منابع غزيرة تصدر عنها مخيلة المستشرقين ٢ أما أبو بكر - رضي الله عنه - فقد سمى أبا بكر لأنه أبو البنت البكر !
والصعيد معناها السعيد كما فى دائرة المعارف البريطانية
ولعل فيما ذكرناه ما يخفف من غلواء الإعجاب الذي يبديه بعض متفرنجي
الشبيبة الإسلامية نحو المستشرقين
۱ هوار تاريخ العرب ج ۱ ص ۹۰ ٢ الشرق فى نظر الغرب تعریب عمر فاخوري
۱۳۷

نصائح للمستشرقين
ويختم ناصر الدين كتابه القيم الشرق كما يراه الغرب بهذه الآراء النفيسة
التي نورد بعضاً منها فيما يلى لقد أصاب الدكتور سنوك هر غرنجه فى قوله إن سير محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقضى عليها بالعقم إذا سخرت لأية نظرية أو رأى مُسبق هذه حقيقة يجمل بمستشرقى العصر جميعاً أن يضعوها نصب أعينهم فإنها تشفيهم من داء الأحكام السابقة التى تكلفهم من الجهود ما يجاوز حد الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شك خاطئة
فقد يحتاجون فى تأييد رأى من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهين ثم إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا وهذا أمر لا ريب
مستحيل
ه يحتاج العالم في القرن العشرين إلى معرفة كثير من العوامل الجوهرية كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامح والميول والأحقاد إلخ لا سيما إدراك تلك القوى الباطنة التى لا تـ لا تقع
تحت
مقاييس المعقول والتى يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات لنضرب مثلاً عكسياً ما رأى الأوربيين فى عالم من أقصى الصين يتناول
۱۳۸

المتناقضات التي تكثر عند مؤرخى الفرنسيين ويمحصها بمنطقه الشرقى البعيد قصة الكردينال ريشيليو كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقلية

ثم يهدم
كاهن من كهنة بكين وسماته وطباعه
إن مستشرقى العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق
برسمهم الحديث الصورة الرسول ويخيل إلينا أنا محمداً نسمع يتحدث في مؤلفاتهم إما باللهجة الألمانية وإما باللهجة البريطانية وإما باللهجة الفرنسية ولا نتمثله قط بهذه العقلية والطباع التي ألصقت به يحدث عرباً باللغة العربية
إن صورة نبينا الجليلة التي خلفها المنقول الإسلامي تبدو أجل وأسمى إذا قیست بهذه الصور المصطنعة الضئيلة التى صبغت في ظلال المكاتب بجهد جهيد ونرجو أن يعرف العلماء ضلالهم فيعدلوا عن النيل من هذه الصروح المعجزة التي رفعها التاريخ إقراراً بفضل أنبياء العرب وبنى إسرائيل والهنود على الإنسانية فإن أساس هذه الصروح أصلب من أن تخدشه تلك المعاول وإذا شاء المستشرقون أن تكون جهودهم مثمرة فلينصرفوا عن إضاعتها في محاربة المنقول الذي هو أسمى أن من يوازيه شيء إلى شرح هذا المنقول وإحيائه بدرس نفسية العرب درساً عملياً غير سطحى كان أحرى بالاستشراق الذى يبنى بحوثه على الجثث - كما هو شأن طلاب الطب - في تلك القاعات التي تدعى مكاتب أن يقتصر على مباحث التحقيق والعلم النقى الصافى وهو في هذه الدائرة دائرة الإخراج العلمى قد أنجز عملا مجيدا نحن
۱۳۹

على رأس المقرين بحسنه ونفعه ولكن لم يبق له فيما يتعلق بشأن الإسلام إلا أن يخلى المجال ولعله أدرك هذه الحقيقة فأخذ يتوسل بمختلف الوسائل إلى تجديد شبابه آخذاً بأشد أساليب التاريخ الحديثة عقماً جادا في طلب أغرب الآراء وأبعدها عن المعقول وغاية ما في الأمر أنه زاد وجهه تجعدات لم تكن من قبل فيه ما ما أشبه نظرياته برغم جدتها الظاهرة بكتابات للطلاب في مباراة الشهادات التي لا تكاد تولد حتى يمسها الكبر لأنها غير قائمة على درس الحياة وإذن غير
جديرة بها
وثبة الإسلام
وفى نهاية الكتاب الذي ألفه ناصر الدين عن سيدنا محمد كتب عن آماله وأمانيه وتوقعاته وتنبؤاته بالنسبة للإسلام ومما كتب في ذلك عندما رفع الله إليه مؤسس الإسلام العبقرى كان هذا الدين القويم قد تم تنظيمه نهائيا وبكل دقة حتى في أقل تفاصيله شأناً وكانت جنود الله قد أخضعت بلاد العرب كلها وبدأت في مهاجمة إمبراطورية القياصرة الضخمة بالشام وقد أثار القلق الطبيعى المؤقت عقب موت القائد الملهم بعض الفتن العارضة إلا أن الإسلام كان قد بلغ من تماسك بنائه ومن حرارة إيمان أهله ما جعله يبهر العالم بوثبته الهائلة التى لا نظن أن لها في سجلات التاريخ
مثيلاً
١٤٠

ففي أقل من مائة عام وبرغم قلة عددهم استطاع العرب الأمجاد وقد اندفعوا - لأول مرة فى تاريخهم - خارج حدود جزيرتهم المحرومة من مواهب النعم أن يستولوا على أغلب بقاع العالم المتحضر القديم من الهند إلى الأندلس وقد شغلت – في قوة - هذه القصة المجيدة تفكير أعظم عباقرة عصرنا هذا - أعنى نابليون - الذي كان ينظر دائماً إلى الإسلام باهتمام ومودة فيقول عن نفسه في إحدى خطبه المشهورة بمصر إنه مسلم موحد ۱
ويذكر الإسلام فى أواخر أيامه فيرى أننا إذا طرحنا جانباً الظروف العرضية التي تأتى بالعجائب فلابد أن يكون في نشأة الإسلام سر لا نعلمه وأن هناك علة أولى مجهولة جعلت الإسلام ينتصر بشكل عجيب على المسيحية وربما كانت هذه العلة الأولى المجهولة أن هؤلاء القوم الذين وثبوا فجأة من أعماق الصحارى قد صهرتهم - قبل ذلك – حروب داخلية عنيفة طويلة تكونت خلالها أخلاق قوية ومواهب عبقرية وحماس لا يقهر أو ربما كانت هذه العلة شيئاً آخر من هذا القبيل

ولذلك كان نابليون يعلن أن وراء خمول العالم الإسلامي في فترة
الانحطاط خزائن لا مثيل لها من القوة الفعالة الكامنة فحاول
مناسبات متعددة

في
أن يستميل المسلمين إلى جانبه ببعض المعاهدات وكان
۱ عن ش شرفيس بونابرت والإسلام
عن لاس كازاس مذکرات سانت هيلين ج ۳ ص ۱۸۳
١٤١

يؤمن بأنه إذا وفق في ذلك يستطيع أن يوقظ الإسلام من سباته وأن يغير
بمعونته وجه الأرض قاطبة

ولم يكن نابليون مخطئاً في ظنه فقد كانت الحروب الداخلية حقاً سبباً في إظهار سجايا البطولة عند العرب ولكنها - إلى جانب ذلك - كانت عثرة في سبيل كل تقدم وكل نظام ولولا نبوءة محمد لظل هؤلاء الجنود البواسل إلى آخر الزمن في صحاريهم لا يشغلهم شاغل سوى الفتن
حجر
المتوارثة
وشاعرية
وجاء الإسلام فوضع حدا للتفاخر بالألقاب والنسب أو الجنس وجعل من المؤمنين إخوة حقا ونفخ فيهم روحاً جديدة كلها مساواة 1 وتقوى فما أروع أعمال البطولة التي استطاع هؤلاء القوم ذوو النفوس الحماسية والقلوب المنيعة أن يقوموا بها بعد ذلك ! ولم تكن هذه الكنوز من القوة والحيوية المدخرة خلال عصور تقضت في الحروب الأهلية الطويلة هي الذخيرة الوحيدة التى بفضلها دوخ العرب كل هذه الشعوب التي تختلف عنهم كل الاختلاف وتفوقهم - في هذه الفترة – حضارة فقد تراكمت في مخيلاتهم - طوال قرون التأمل بين أحضان الصحارى الشاسعة القاحلة – كنوز أخرى من الأحلام والآمال أحلام أمة شابة فتية - وإن
كانت غير متمدينة – وآمالها
1 فى الآثار الإسلامية إن أكرمكم عند الله أتقاكم و لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره يا فاطمة بنت محمد
لا أغنى عنك من الله شيئاً إلخ
١٤٢

وسوف نرى هذه الأحلام والآمال تفرض فرضاً على سائر تلك الشعوب التي كانت ثقافتها شائخة منهوكة
وإننا لننصح لمن قد يستريبون في عبقرية العرب بتصفح مجموعة من

الرسوم التي تمثل المباني التي خلفوها منثورة في جميع أنحاء البلاد الخاضعة لهم لا شيء يستلفت النظر مثلما تستلفته وحدة الأسلوب المعماري التي تميز هذه الآثار
عن غيرها من آثار العالم ومع ذلك فهذه المبانى المتشابهة تجدها قائمة في الهند والتركستان وفارس وتركيا ومصر وشمال أفريقيا وإسبانيا إلخ أي في بلاد يختلف بعضها عن بعض تمام الاختلاف ولها حضارتها ذات الطابع الخاص المتميز الذي لم تستطع حضارة أثينا أو روما أن تؤثر فيه بشكل جدى ولقد أخذ العرب كثيراً عن كل تلك الدول المنهزمة ولجئوا في أحوال كثيرة إلى استخدام فنييها بل عمالها لإنشاء قصورهم ومساجدهم ولكنهم كانوا
وكان
دائماً لا يحققون بما أخذوا عنها إلا أحلاماً وأفكاراً عربية صحيحة والأسلوب المعمارى العربي نجد طابعه العبقرى المبتكر في أنه دائماً يسترشد بفن جديد نشأ مع الإسلام فن لم يكن له مثيل في الفنون السابقة تحقيقاً ماديا لمثل العرب العليا إذا صح هذا التعبير ذلك هو فن الزخرفة الخطية الذى استخدم لتمجيد كلام الله - أى آيات القرآن
وإن هذا الفن الخطى العربى حتى فى حالة اقتصاره على وسائله الخاصة وحدها لهو من أروع الفنون الزخرفية التي تمخضت عنها مخيلة الإنسان ولعله الفن الأوحد الذي نستطيع أن نقول عنه دون مغالاة إن له روحاً فهو كصوت الإنسان يعبر عما في النفس من أفكار وهو لا يستوحى العالم

١٤٣

الخارجي - مهما بلغ ذلك العالم من التنظيم والتنميق – في شيء وهو بذلك ينتسب إلى الموسيقى ويبدو وكأنه رمز لمعان تجيش في أعماق القلوب انظر إلى هذه الحروف التى تثبت من اليمين والشمال في خطوط أفقية سريعة ثم تدور حول نفسها فى تموجات هادئة أو عنيفة وكأنها في ذلك تسير داخلية خفية ثم ترتفع ثم تتوقف فجأة وتثبت فخورة
وفق هوى روح
6
في أشكال مستقيمة متقاطعة ثم إذا بها تعود إلى الاندفاع في جموح وتحل
ما انعقد أشكالها من
C
ويداعب بعضها البعض فى مرح لذيذ فيندفع معها
الخيال في أحلام لا نهاية لها
وليس من الضروري أن يكون الإنسان مستشرقا ممتازاً أو خطاطاً بارعاً ليدرك عمق الدوافع التي أدت بالقلم إلى رسم هذه الخطوط وليتمتع بالنظر إلى أشكالها المجردة أو بالتأمل فى العاطفة القوية التى تظهر فى انحناءاتها فنانة لابد أن تتصل الأسباب - دون جهد - بينها وبين أسرار هذا
فكل روح
الفن
ولقد سعى فن الزخرفة الخطية العربية - بعد أن أصبح تعبيراً صادقاً لمثل الأمة العربية - إلى أن يخضع لاتجاهاته التى يغلب عليها الطابع الديني كل ما من شأنه أن يعين على استكماله ووضعه في الإطار المناسب مرغماً فن العمارة والنظم الزخرفية الأخرى على ترسم أساليبه وأشكاله

ولقد خضعت لسيطرته وسلطانه قبة بيزنطة الكروية الثقيلة فاتخذت هيئة أشبه ما تكون بهيئة الخوذة العربية وتحولت انحناءات رواقها الذي لم يكن فيه شيء من العبقرية إلى أشكال عربية بالغة الروعة بينما اتخذت الطوابي
١٤٤

الوضيعة صور المآذن الأنيقة التي ترتفع إلى قسم التجلى
وأخيراً فإن النظام الزخر فى الوحيد الذى يشابه الزخرفة الخطية العربية
في كونه لا يستوحى الطبيعة - وهو الزخرفة الهندسية ذلك الفن الذي لم يستطع الإغريق واللاتينيون استخدامه إلا فى أشكال ضئيلة لا روح فيها – قد دبت فيه بين أيدى العرب حياة جديدة حقا وقد أطلق على هذا الفن الزخرفى منذ ذلك الحين اسم له دلالته أرابسك
يهر
وراح يتأسى بفن الزخرفة الخطية العربية في البحث عن أعجب ما الفكر من أشكال عبقرية يحار العقل فى تشابكها الذى لا نهاية له وفى تحولاتها
المفاجئة

يالها من آيات غاليات خلفها لنا الفن الإسلامي ! إن الهواة الغربيين يتنازعون اليوم آثار هذا الفن غير مبالين بما ينفقونه في سبيلها وهم يأملون من وراء ذلك أن تدخل معها - في بيوتهم المظلمة - بعض انعكاسات الأحلام التي استوحاها الفنانون العرب وأنه لمجد الإسلام يتغنى به في هذه الديار ما نشهده من تحف تبلغ الغاية من الدقة والجمال والإشراق وإنا لنرى الذوق الغربي يتجه الآن إلى اقتناء آيات فن الخط العربي الذي – بنقله لكلام الله - ينفخ روحا قوية فى زخارف المصاحف أو صدف الآنية والغربيون – في ذلك - يترسمون خطى الأمراء العرب أيام عصر الإسلام الذهبي حيث كانوا في سبيل الحصول على صحيفة مخطوطة بقلم أحد الخطاطين المشهورين يبذلون مجهودات جنونية نستطيع مقارنتها بتلك التي تبذل فى أيامنا هذه لاقتناء تحف فن التصوير
١٤٥

ولكن ! أيتها الآيات المقدمة التي تبهرين أصحابك الجدد وتثيرين إعجابهم العميق بأشكالك الرقيقة ألا تكشفين لهم يوماً القناع عن سمو جمال
روحك الإسلامية
أثر الحضارة الإسلامية في أوربا
لقد أدهشت كل تلك العجائب عقول أهل أوربا حتى في أعنف أيام عدائهم للإسلام وقد نقلوا كثيراً من العرب في ميدان الزخرفة والمعمار ولا شك أن دراسة أكثر عمقاً لهذا الموضوع من شأنها أن تبرهن على أن أوربا قد تأثرت بالفنون العربية أكثر مما تأثرت بالفنون الإغريقية واللاتينية ولكن مثل هذه الدراسة قد تبعدنا عن الغرض الأساسى من هذا الكتاب ونكتفى هنا - على سبيل التلميح - بالإشارة إلى المؤرخ دولور الذي يقول
إن مهندسي العرب قد عملوا فى بناء كنيسة نوتردام بباريس أما في ميدان العلوم فإن أثر المسلمين لم يكن بأقل خصباً ولا نرى من وسيلة لتوضيح هذا أفضل من نقل رأى الدكتور جوستاف لوبون في ذلك
ونجده في كتابه القيم حضارة العرب
ويعزى إلى بيكون - على العموم - أنه أول من أقام التجربة والملاحظة اللتين هما أساس المناهج العلمية الحديثة مقام الأستاذ ولكنه يجب أن نعترف قبل كل شيء بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم
ويقول العلامة الشهير همبولد - بعد أن يذكر أن ما قام على التجربة
١٤٦

والملاحظة هو أرفع درجة فى العلوم - إن العرب ارتقوا في علومهم إلى هذه
الدرجة ۱ التي كان يجهلها القدماء تقريباً
1 يقول الدكتور هيكل فى كتابه عن سيدنا محمد
ولست مع ذلك أحسب أبي أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد بل لعلى أكون أوفى إلى الحق إذا ذكرت أنى بدأت هذا البحث بالعربية على الطريقة الحديثة وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكرت ما بين دعوة محمد والطريقة الحديثة العلمية من شبه قوى فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأى وكل عقيدة سابقة فى هذا البحث وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كله كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمى تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه
الإنسانية في سبيل تحرير الفكر وها هى ذى مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته
ويعقب فضيلة الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ المراغى على هذا الرأى فيقول و أما أن هذه الطريقة طريقة القرآن فذلك حق لا ريب فيه فقد جعل العقل حكماً والبرهان أساس العلم وعاب التقليد وذم المقلدين وأنب من يتبع الظن وقال إن الظن لا يعنى من الحق شيئاً وعاب تقديس ما عليه الآباء وفرض الدعوة بالحكمة لمن يفقهها ولم تكن معجزة محمد ع القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية وما أبدع قول البوصيري
لم يمتحنا بما تعيا العقول به حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم
وأما أن هذه الطريقة حديثة فهذا لا يعتذر عنه وقد ساير الدكتور غيره من العلماء في هذا ذلك لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين انظر إلى كتب الكلام تراهم يقررون أن أول واجب على المكلف معرفة الله فيقول آخرون لا - إن أول واجب هو الشك ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا البرهان وهو وإن كان نوعاً من أنواع القياس إلا أنه يجب أن تكون مقدماته قطعية حسية أو منتهية إلى الحس أو مدركة بالبداهة أو معتمدة على التجربة الكاملة أو الاستقراء التام على ما هو معروف في المنطق وكل خطأ يتسرب إلى إحدى المقدمات أو إلى شكل التأليف مفسد للبرهان وقد جرى الإمام الغزالي على الطريقة نفسها وقد قرر في أحد كتبه أنه جرد نفسه من جميع الآراء
١٤٧

وكانت دراسة العلوم الرياضية من الدراسات الذائعة لديهم وقد تقدم علم الجبر بفضلهم حتى إنه قيل إنهم مخترعوه ولقد كان لهم أيضاً قصب السبق في تطبيق الجبر والهندسة وهم الذين أدخلوا التماس في حساب
المثلثات
وكان علم الفلك يدرس بحماس في مدارس بغداد ودمشق وسمرقند والقاهرة وفاس وطليطلة وقرطبة وغيرها تلك المدارس التي وصلت إلى اكتشافات عديدة يمكن إيجازها في القائمة التالية
إدخال خط التماس فى الحسابات الفلكية ووضع جداول لحركة الكواكب وتحديد سمت الشمس تحديداً دقيقاً وتدرجه وتقدير تقدم
الاعتدالين تقديراً صحيحاً وأول تحديد صحيح لمدة السنة ثم إننا مدينون لهم أيضاً بإثبات ما في أكبر خط عرض للقمر من ضروب
من
ثم فكر وقدر ورتب ووازن وقرب وباعد وعرض الأدلة وهذبها وحللها ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق وإلى ما اهتدى إليه من الآراء وقد فعل هذا ليتجافى التقليد وليكون إيمانه إيمان المستيقن المعتمد على الدليل والبرهان ذلك الإيمان الذى لا يختلف المسلمون في صحته ونجاة صاحبه وأنت واجد فى كتب الكلام في مواضع كثيرة حكاية تجريد النفس عما ألفته العقائد ثم البحث والنظر فطريق التجريد طريق قديم وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة فليس هناك جديد عندنا ولكن هذه الطريقة القيمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعملي في الشرق وبعد أن تفشى التقليد وأهدر العقل وبعد أن أبرزها الغربيون في ثوب ناصع وأفادوا منها في العلم والعمل رجعنا نأخذ عنهم ونراها طريقة في العلم جديدة هذا القانون العلمى فى البحث معروف قديماً وحديثاً والمعرفة سهلة ولكن العمل عسير ولا يتفاوت كثيراً في معرفة القانون ولكنهم يتفاوتون جد التفاوت في تطبيق القانون من مقدمة فضيلة الأستاذ المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغى لكتاب حياة محمد للدكتور هيكل
الناس
١٤٨

عدم الانتظام واستكشاف عدم التساوى القمرى الثالث المعبر عنه اليوم
بالتغيير
وكان النصيب الذى أسهم به هؤلاء الرواد الذين يمتازون بالجرأة والإقدام نصيباً ضخماً فمن الناحية العلمية كانت لهم هذه التحديدات الفلكية الصادقة التي هي أول أساس للخرائط كما عملوا على تصحيح
الأخطاء الفاحشة التي وقع فيها الإغريق
أما
من ناحية كشف بقاع العالم المجهولة فقد نشروا رسائل في الرحلات تعرف الناس بأقطار العالم المختلفة التي كانت شبه مجهولة من قبل والتي لم يسبق
للأوربيين ارتيادها وإننا نجد في خريطة من خرائط الإدريسي ترجع إلى عام ١١٦٠ منابع النيل بين البحيرات الاستوائية الكبرى مرسومة رسماً دقيقاً وهي تلك المنابع التي لم يكشفها الأوربيون إلا في النصف الثانى من القرن التاسع عشر وسجل مكتشفاتهم فى ميدان العلوم الطبيعية أعظم من ذلك والبيان التالي يوضح أهمية هذه المكتشفات
معلومات عالية فى نظريات علم الطبيعة وخاصة فيما يتعلق بالمسائل الضوئية اختراع أجهزة آلية من أبدع ما يكون اكتشاف علائق الأجسام بأصل علم الكيمياء مثل الكحول والحامض الكبريتي وأهم العمليات الأساسية في هذا العلم كالتقطير - تطبيق الكيمياء فى ميداني الصيدلة والصناعات وخاصة فيما يتعلق باستخراج المعادن وصناعة الفولاذ والصباغة وغير صناعة الورق من الخرق والاستعاضة به عن رق الغزال وورق
ذلك
١٤٩

البردى والحرير الصينى ومن المحتمل أنهم أول من استخدم البوصلة في الملاحة ومن المحقق أنهم أدخلوا هذا الاختراع الأساسي في أوربا وأخيراً فهم قد اكتشفوا الأسلحة النارية ففي عام ١٢٠٥ استخدم الأمير يعقوب المدفعية في حصار مدينة المهدية وفى عام ۱۷۳ استخدمها السلطان أبو سيف في حصار مدينة سجلماسة وقد حضر كونت دربي وكونت سالسبری

الإنجليزيان في حصار مدينة الجزيرة التى دافع عنها العرب بالمدافع فشاهدوا نتائج استخدام البارود فنقلا ذلك الاختراع إلى بلادهم فاستخدمه الإنجليز في معركة كريس بعد ذلك بأربع سنوات أما فيما يتعلق بالطب فقد استوحى العرب أولا كتب الإغريق ثم ساروا بهذا الفن خطوات هامة إلى الأمام
وتكاد تكون سائر المعارف الطبية في أوربا خلال ر النهضة
عصر
مأخوذة
عن العرب وأهم ماحققه العرب فى ميدان الطب يتعلق بالجراحة ووصف الأمراض وبالأدوية والصيدلة وقد ابتكروا وسائل علاجية متعددة ظهر بعضها في العالم الطبي حديثا بعد أن قضت عليها قرون من النسيان مثال ذلك استخدام الماء البارد للطب للحمى التيفودية
والطب مدين لهم بكثير من المواد الطبية مثل خيار الشنبر والسنى المكي والرواند والتمر هندى والكافور والكحول والقلى وغير ذلك وإننا مدينون لهم بكثير من المستحضرات المستعملة اليوم مثل الأشربة وصنوف اللعوق واللزق والمراهم والأدهان والماء المقطر وغير ذلك

كذلك الجراحة كان للعرب الفضل فى تقدمها الأول فكانت
١٥٠

مؤلفاتهم هي المراجع الأساسية التي تدرس بالمعاهد الطبية إلى عهد جدا لقد كانوا فى القرن الحادى عشر الميلادي يعرفون علاج الماء الذي ينصب في العين الكاتاركتا بالتحويل أو استخراج البلورية ويعرفون كيفية
تفتيت الحصاة وعلاج النزيف بصب الماء البارد كما كانت لهم خبرة باستخدام الكاويات والأحزمة والكى بالنار لتطهير الجراح وإن التخدير الذى يظن الناس أنه اكتشاف حديث يبدو أن العرب لم يجهلوه فقد كانوا يوصون باستعمال نبات الزوان - قبل العمليات المؤلمة - لتنويم المريض حتى يفقد الوعى والحساسية
وكانت لهم أيضا ثقة عظمى فى الوسائل الصحية لعلاج الأمراض وكانوا يعتمدون كثيراً على القوى الطبيعية والطب النظرى الذي يبدو وكأنه الكلمة الأخيرة للعلم الحديث يوافق هذه الفكرة في استدلالاته
أثر المسلمين في ميدان الفكر
ولعل أثر المسلمين فى ميدان الفكر كان أخطر شأناً فقد دعا عيسى إلى المساواة والأخوة أما محمد فوفق إلى تحقيق المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء
حياته
وإنه يكون من الحمق أن نزعم أن الإسلام أثر مباشرة في خطط الثورة الفرنسية التي كان رجالها يجهلون معظم ماقام به محمد في سبيل المساواة بين الناس – ولكننا نستطيع أن نبرهن على أن المحاولات الأولى في السعى إلى تحرير الفكر كانت أثراً منطقياً للمبادئ التي جاء بها محمد فإلى الفيلسوف المسلم ابن

رشد الذى عاش فى أسبانيا من سنة ١١٢٠ إلى سنة ١١٩٨ يرجع الفضل في إدخال حرية الرأى - التي يجب أن لا نخلط بينها وبين الإلحاد - إلى أوربا وقد عارض ابن رشد وحدة الوجود القديمة والتجسيم المسيحي بعقيدة الإيمان بالله وحده في الإسلام وتحمس أحرار الفكر في العصر الوسيط الأوربي لشروحه لأرسطو وإن كانت هذه الشروح مصبوغة بصبغة إسلامية قوية ويمكن أن نعتبر - يحق - أن التيار الفكرى الذى نشأ عن هذا التحمس لابن رشد كان أصل التفكير المنطق الحديث فضلا عن كونه من أصول الإصلاح الديني
أثر الأخلاق الإسلامية
ولم يكن أثر الأخلاق الإسلامية بأقل من ذلك شأنا في أوربا فقد كان العرب يمتازون إلى جانب روح التسامح الديني - التي سوف نتحدث عنها فيما بعد - بأخلاق الفروسية القوية وفى ذلك يقول الكاتب الإسباني الكبير بلاسكو إيبانيز في قصته في ظل الكنيسة لقد نشأت
روح الفروسية بين عرب إسبانيا وأخذها عنهم فيما بعد أهل الشمال زاعمين أنها طبيعة من طبائع الأمم المسيحية ولنذكر في هذا الصدد مرة أخرى ملاحظات الدكتور جوستاف لوبون
إذ يقول
و لقد كانت للفروسية العربية أصولها كما للفروسية المسيحية التي جاءت بعدها فلم يكن المرء فارساً إلا إذا تحلى بالخصال العشر التالية الصلاح
١٥٢

والكرامة ورقة الشمائل والقريحة الشعرية والفصاحة والقوة والمهارة
في ركوب الخيل والقدرة على استعمال السيف والرمح والنشاب وقد حاصر والى قرطبة فى سنة ۱۱۳۹ مدينة طليطلة التي كانت بيد النصارى فأرسلت إليه الملكة بيرانجير التى كانت فيها رسولا يبلغه أنه ليس من مروءة فارس كريم رقيق الشمائل أن يحارب امرأة فارتد القائد العربي من فوره ولم يطلب مقابل ذلك سوى أن يشرف بتحية الملكة ١ وسجلات تاريخ العرب بإسبانيا حافلة بمثل هذه النوادر التي تبين كيف كانت أخلاق الفروسية هذه ذائعة بينهم ويعترف عالم قوى الإيمان هو بارتليمي سانت هيلير فى صدق وصراحة بما تدين به الأخلاق الأوربية للعرب إذ يقول في كتابه عن القرآن عندما اتصل الأوربيون بالعرب واقتدوا بهم لانت العوائد الخشنة لدى
K
1 يقول المؤلف فى رسالته و أشعة خاصة بنور الإسلام مايلي ه وقد حفظ لنا التاريخ فى سجلاته عن فروسية العرب وروحها العالية جميع أدلة العظمة الموشاة بالرقة والتهذيب وقد ذكر منها الكثير واصف باشا بطرس غالى فى كتابه فروسية العرب المتوارثة وهو وإن كان قبطياً مسيحياً فإن لأقواله قيمة عظيمة وهى الرد الصحيح على ما جاء به بيرون من الادعاءات
والتعصب
يقول واصف باشا كان محمد يحب النساء ويفهمهن وقد عمل جهد طاقته لتحريرهن وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها فوق ما هو بالقواعد والتعاليم التي وضعها وهو يعد بحق من أكبر أنصار المرأة العمليين وإن يكن عظيم الاحترام والتكريم لهن لم يكن ذلك خاصا منه بزوجاته بل كان مع جميع النساء على السواء
ذلك شأنه
فهل نستطيع أن نقول شيئاً من هذا عن الكثير من رجال الكنيسة وقد كان أحدهم وسان بونافنتور يقول لتلاميذه إذا رأيتم المرأة فإن الذى تزون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صغير الثعبان
١٥٣

أشراف القرون الوسطى القساة وتطلع أهل الفرسية – دون أن يفقدوا لذلك طبائع الشجاعة والنخوة - إلى عواطف أرق من عواطفهم وأشرف وأليق بالإنسانية ومن المشكوك فيه أن تكون المسيحية - مهما بلغت تعاليمها من
السمو - هي وحدها التي أوحت إليهم بكل ذلك
السبب في إنكار علماء الغرب آثار الإسلام في الحضارة الغربية ولعل القارئ يتساءل - والظروف كما ذكرنا - عن السبب في إنكار كل أثر للإسلام لدى علماء يبدو أن روحهم العلمية تخرج بهم عن كل تعصب ديني وتفسير ذلك أن الواقع يشهد بأن حرية الرأى مسألة ظاهرية أكثر منها حقيقية وأن الإنسان ليس حر التفكير على الإطلاق كما يشاء في مسائل معينة – ثم إن التعصب الموروث لدى المسيحيين ضد الإسلام وأتباعه قد عاش فيهم دهوراً طويلة حتى أصبح جزءاً من كيانهم
فإذا أضفنا إلى هذا التعصب الديني تعصباً آخر هو أيضاً موروث تزيده الأجيال المتتالية تمكناً من النفوس بفضل مناهج الدراسات القديمة التي تسير عليها مدارسنا وهو أن كل العلوم والآداب الماضية يرجع الفضل فيها إلى الإغريق واللاتين وحدهم أدركنا - فى يسر - كيف ينكر الناس عامة ذلك الأثر العظيم الذي كان للعرب في تاريخ الحضارة الأوربية
وسوف يبدو دائماً لبعض العقول أنه من المهانة أن
للمسلمين بإخراجها من ظلمات البربرية والتوحش
تدین أوربا المسيحية
١٥٤

سبب تدهور المسلمين
ولعلنا بعد هذا نتساءل لماذا - إذن - وقع المسلمون في مثل هذا التدهور السريع بعد أن ظل الإسلام طوال قرون ثمانية يجعل من إسبانيا الخاضعة له أرفع الأمم الغربية حضارة ويرسل نوره الذي لا يخفت في أرجاء العالم من دلهى وبخارى إلى القسطنطينية وفاس
السبب الأول نجده فى الخروج عن مبادئ المساواة التامة الشاملة التي بذل الرسول كل جهده خلال سنى حياته فى فرضها والتى كانت سبب انتصاراته وانتصارات الخلفاء الأول ولنضرب لذلك مثلا يوضح كيف كانت هذه

المبادئ تطبق في شدة بالغة في الصدر الأول للإسلام
لطم جبلة - أحد الأمراء الأقوياء المعتدين بأنفسهم – عقب إسلامه رجلا من البدو زاحمه فى الكعبة لطمة عنيفة فأمر الخليفة عمر أ أن يضرب البدوى الفقير الأمير جبلة مثلما ضربه ولم يأبه عمر في حكمه بمكانة المذنب ولا بخطورة إغضاب رجل له من الشأن مالجبلة بل رأى أن كرامة الإسلام ومستقبله يقتضيان تطبيق مبادئ المساواة أمام القانون قبل أي اعتبار آخر وبفضل هذه المبادئ القوية التي لا تلين لم يكن لأحد أن يفخر إلا بما عمل وأدى التنافس بين المسلمين في سبيل إعلاء كلمة الإسلام إلى ضروب من المعجزات ولم يرق إلى مناصب القيادة سوى الجديرين بها – وكان الناس يطيعون قادتهم في كل صغيرة وكبيرة لأنهم كانوا يحترمونهم ويجلونهم مخلصين ولكن - للأسف - لم يحافظ المسلمون محافظة كاملة على هذه المبادئ
١٥٥

الأساسية لدين محمد إلا لفترة قصيرة ولقد رأينا التفاخر بالأنساب والقبائل يظهر من جديد بآثاره الهدامة في عهد عثمان ثالث الخلفاء وأضاع الناس حكمة محمد التي تجلت في وصيته لابنته المحببة فاطمة الزهراء يا فاطمة بنت محمد انقذى نفسك من النار فإني لا أغنى عنك من الله شيئاً – فقد ذهب أناس - هم دون ذلك شأناً - إلى الفخر بآبائهم وإلى احتقار إخوانهم في الإسلام الذين ينتسبون إلى الطبقات المغمورة وظنوا أنهم معفون لعراقة أصلهم من الجهاد في سبيل الإسلام وفى سبيل الرزق ذلك الجهاد الذي بدونه لا يمكن تحقيق أي تقدم وبالإضافة إلى ذلك ثارت المنافسات بين الذين يعتمدون في حياتهم على مكانة أجدادهم أكثر مما يعتمدون على أعمالهم الشخصية وكانت نتيجة ذلك قيام الفتن الأهلية التي تكاد تكون - في عنفها واتصالها – مشابهة لما كان منها في وترتب على ذلك أن تفكك النظام وظهرت من جديد تلك الفوضى العامة الشاملة التي كانت تشل أيدى العرب عن كل عمل مجد في عصور ماقبل الإسلام وفقد المسلمون حب الاستطلاع وفرقت بينهم وأنهكت قواهم الحروب الداخلية
الجاهلية
ولم يكن الإسلام سواء فى ماضيه أو فى حاضره ليصاب بتلك النكبات لو أن المسلمين عملوا دائماً بتلك الوصية الأخيرة التي أوصاهم بها الرسول في
خطبته
ه أيها الناس إنما المؤمنون إخوة
أما السبب الثاني في تدهور العالم الإسلامي فهو ناتج عن التخلى عن

إحدى المميزات الأساسية للإسلام وهى التوافق التام بيز العقيدة – التي تكاد تكون خالية من كل ما هو غير طبيعي - وبين ضرورات المنطق وكان لتلك الميزة في العهد الأول أثر بعيد فى تقدم العلوم التي لم تعقها أية معتقدات خرافية وهذا يكفى لتفسير التطور السريع الذى تطورته الحضارة الإسلامية لكن الروح الإسلامية العلمية خمد حماسها شيئاً فشيئاً مكتفية بالنتائج الباهرة التي حصل عليها المسلمون فى حمية النشاط الذى كان في القرون الأولى للهجرة ومنذ ذلك العهد والإسلام وقع تحت رحمة النزعات الخرافية في
الأقطار الحديثة
مستقبل الإسلام
إن الجراح التي أصابت الإسلام خلال نصف القرن الأخير ۱ قد أيقظته من سباته وأقنعته هزيمته نفسها بضرورة تبنى الوسائل العلمية التي يستخدمها أنصاره وتذكر المسلمون أحاديث الرسول
اطلبوا العلم ولو بالصين
العلم
خير من العبادة
يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على
دم الشهداء
برسم
السبيل
ولقد قام مصلحون عباقرة - من أمثال الشيخ محمد عبده - الذي يجب على المسلمين أن يسيروا فيه مبرهنين على أنه يمكن التوفيق بين الإسلام
۱ بقصد القرن التاسع عشر
١٥٧

وبين مقتضيات الحضارة الحديثة ولم يمض وقت طويل حتى الكثير من الشباب في سائر البلاد الإسلامية إلى التعلم على الطريقة الأوربية في سهولة تكيف عجيبة دون أن يفقدوا شيئاً من عناصر قوميتهم الأصيلة وسوف نرى
عما قريب العدد العديد من المسلمين يحتلون مكانهم في العالم الحديث ولا يهابون أن ينافسوا رجال الغرب فى ميدان الحضارة العصرية ١ لقد اعترض على إمكانية هذه النهضة بأنه يقف في سبيلها عقبات قوية هي عقيدة القضاء والقدر والتعصب وتعدد الزوجات
عقيدة القضاء والقدر
فلنعرض سريعا لهذه المسائل هل عقيدة القضاء والقدر الإسلامية يمكن أن تتفق مع الجهاد الصحيح في سبيل التقدم
إذا كنا نجد بعض الوجاهة فى شىء من النقد الموجه إلى المسلمين في هذا المجال فلأن بعض المسلمين من أمثال أتباع المرابطين يسيئون فهم التوكل وعلى أى حال فلم يكن لهذا التوكل الأثر المبالغ فيه الذي يراد الصاقه والإسلام ليس فيه من التوكل أكثر مما فى مذهب إنكار فعل العزيمة الشخصية والقول بالأسباب الخارجية بل القضاء والقدر فيه يكون أقل خطورة منه في المسيحية لو اتبع
به
المسيحيون حرفية تعاليم الإنجيل الذي يقول
۱ حذفنا من هنا بضعة سطور تاريخية لم تعد لها قيمة تذكر بعد مرور كل هذه السنين على تأليف
الكتاب

ولذا أقولها لكم لا يقلقنكم أن تبحثوا عن الجهة التي تجدون فيها ما تأكلون وماتشربون لاستبقاء حياتكم ولا الجهة التي تجدون فيها الثياب لكساء أجسادكم إنجيل متى ٥ ١٨ ٦ ٢٥ كيف نقول إن عقيدة القضاء والقدر تشل كل عمل عند المسلمين والرسول كان أنشط الناس وأكثرهم مثابرة وجهاداً والإسلام هو الدين الوحيد الذي جاء - عقب نشأته مباشرة – بالفتوح الواسعة العجيبة والحضارة السامية العظيمة
إن كلمة إسلام تعنى الرضاء بأوامر الله - أى بما لا يمكن لأى قوة إنسانية أن تحول دونه ولكن ليس من معانيها الخضوع للأمور التي يبدو أنها يمكن أن يغير مجراها العمل والإقدام قل ياقوم اعملوا على مكانتكم فهذه العقيدة – إذن - بعيدة كل البعد عن أن تكون مصدر ضعف إنها على العكس من ذلك مصدر قوة نفسية لاتضارع بالنسبة إلى المسلم تعينه على احتمال المحن والشدائد 1
۱ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم
تفلحون

يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال الآيات
يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين الآية
فإما تتقفهم في الحرب الآية
وفي الحديث واليد العليا خير من اليد السفلى لأن يأخذ أحدكم حبلاً
١٥٩

التعصب
ونعرض - بعد ذلك - لموضوع التعصب فنتساءل ألا يعوق تقدم المسلمين وعلاقاتهم بالمتحضرين من أبناء الأديان الأخرى تعصب هؤلاء
المتحضرين العنيف الذى لا هوادة فيه الذى هم يرمون به المسلمين والمسألة هنا - هي قبل كل شيء - أن نعرف ما إذا لم يكن هذا التعصب عند المسلمين أسطورة من تلك الأساطير التي لا تحصى والتي أذاعها أعداء الإسلام في القرون الوسطى
وفيما يلى بعض الوقائع اخترناها من بين عدد كبير من أمثالها ليتمكن القارئ من الحكم في هذا حكماً صحيحاً
6
نسردها هنا
يروى ابن جرير نقلا عن ابن عباس أن رجلا من بني سالم بن عوف يقال له الحصين وله ولدان مسيحيان وهو مسلم سأل الرسول عله فيما إذا كان يجب عليه إكراه ولديه على اعتناق الإسلام وهما يرفضان كل دين غير
المسيحية فأنزل الله تعالى الآية الكريمة لا إكراه فى الدين وعندما جاء رسل نجران المسيحيون المدينة ليفا وضوا النبي منحهم نصف مسجده ليؤدوا صلاتهم فيه
وقام محمد
هي نسمة
يوماً لجنازة فقيل له إنها جنازة يهودى فقال أليست
وهو القائل
من آذى ظلماً يهوديًا أو نصرانيا كنت خصمه يوم القيامة قد يدوم
١٦٠

الملك على الكفر ولكنه لا يدوم على الظلم "
والمسلمون - على عكس ما يعتقده الكثيرون – لم يستخدموا القوة أبداً خارج حدود الحجاز أى الأرض الحرام والمنطقة المحيطة بها – لإكراه غيرهم على الإسلام وأن وجود المسيحيين في إسبانيا لدليل واضح على ذلك فقد ظلوا آمنين على دينهم طوال القرون الثمانية التي ملك فيها المسلمون بلادهم وكان لبعضهم مناصب رفيعة فى بلاط خلفاء قرطبة ثم إذا بهؤلاء المسيحيين أنفسهم يصبحون أصحاب السلطان في هذه البلاد فكان أول هم لهم أن يقضوا قضاء تاماً على المسلمين وقد ألحقوا بهم أيضاً اليهود الذين عاشوا فترة آمنة هادئة تحت حكم المسلمين وفى كتابه رحلة دينية فى الشرق يشيد الأب ميشون بالحقيقة في صيحته الصادقة إنه لمن المحزن بالنسبة إلى الدول المسيحية أن يكون المسلمون الذين علموها مبادئ التسامح الدينى الذى هو الناموس الأكبر للرحمة والإحسان بين الأم ۱ وقد يعارض قوم فيذكرون مذابح الأرمن ويتساءلون ما القول فيها والرد على ذلك أن المسلمين الحقيقيين يستنكرون كل شيء من القبيل مالم تدع إليه الفتن والمؤمرات تماماً كما يستنكر المسيحيون الحقيقيون
مذبحة
K
هذا
جميع المسلمين في إسبانيا والواقع أن مذابح الأرمن لم تكن قط لأسباب دينية ذلك لأن أتباع دين محمد لم يدر بخلدهم قط أن يقتدوا بأنصار توركويمادا فيخيرون الأرمن بين ۱ نقلا عن الكونت دى كاسترى فى كتابه عن الإسلام
11


ترك المسيحية إلى الإسلام وبين أن يحرقوا أحياء وعلى أي حال فالمسلمون لا يأنسون في أنفسهم أى ميل لرد الناس عن دينهم وليس لهم مبشرون حقيقيون وإذا كان الإسلام هو الدين الذى يجذب إليه أكثر الناس في أفريقيا وفي آسيا في عصرنا هذا فذلك - كما لاحظه ملاحظة صحيحة المسيو بوردو - يرجع إلى نوع من الامتصاص المعنوى ۱ |
وإن القدوة الحسنة التي لا تقترن بمحاولة التبشير المتعصبة لهى أقوى أثراً في النفوس التقية من مضايقات القسس المبشرين ولقد اضطر العالم دوزی - برغم تعصبه ضد الإسلام - إلى الاعتراف بأن الكثير من المسيحيين الذين كانوا فى إسبانيا اعتنقوا الإسلام عن عقيدة والقاعدة التي يجرى عليها المسلم في علاقاته بأصحاب الديانات تلك التي حددها القرآن في الآية التالية
الأخرى هی
الكم دينكم ولى دين
متسامحاً وكيف لا يكون المسلم
وهو يجل الأنبياء الذين يجلهم اليهود
والنصارى فموسى بالنسبة إليه كليم الله وعيسى روح الله يجب تبجيلها
كما يبجل محمد حبيب الله ولا نفرق بين أحد من رسله ولن يجرؤ مسلم قط على التفوه بأقل بادرة في حق عيسى وكذلك لن يقبل أن يدع أ أحداً يتفوه بمثل هذا في حضرته حتى وإن كان من يحدثه من هؤلاء المسيحيين الأصليين الذين يريدون أن يجعلوا من عيسى المسئول عن وسب المسيح لاشك يعتبر سباً للإسلام الذي يأمر باحترامه ولقد ۱ عن يوردو العرب فى أفريقية الوسطى
الكهنوتية
الأخطاء
١٦٢

أتيح لنا أن نشهد حادثاً عجيباً هو أن قاضياً مسيحياً حكم على رجل مسلم لضربة يهوديا بدرت منه أمامه أقوال بالغة الإسفاف فى شأن ولادة عيسى ولنقارن الآن بين موقف الإجلال هذا الذى يقفه المسلمون من عيسى وبين ما صنعه الأوربيون من سيرة محمد ففي العصور الوسطى كان الرهبان يصورونه تارة في صورة صنم بشع وتارة في صورة سكير مدمن إلخ
ولو أننا أردنا أن نثبت هنا كل ما تمخضت عنه قديماً مخيلات أعداء محمد الخصبة لما انتهينا إلى حد
لم يكن المستشرقون الأول بأقل عنفاً في مهاجمته من هؤلاء والعالم جانييه - فى القرن الثامن عشر - يعيب على القس المراكشي والدكتور بريدو إسفافها المتحيز ضد محمد ولكنه – فيما بعد – يسف أكثر من إسفافها ويصف محمداً بأبعد الأوصاف عن سيرته ومع هذا فالعالم جانبيه
يزعم
أنه معتدل كل الاعتدال في حكمه

ومن زمن بعيد وأعداء الإسلام يلحنون الأذى بأصحاب محمد أيضاً وقد
ألف بعضهم تلك الأسطورة الذائعة التي تقول بأن الخليفة ع ر أحرق مكتبة
عمر
الإسكندرية ولم يكن غرضهم من ذلك إلا أن يجعلوا الناس تنسى العمل الوحشي الذي قام به الكاردينال كسيمينيس من إحراق دور الكتب البديعة التي كانت للمسلمين بإسبانيا وهم في زعمهم هذا يبدون استخفافاً لاحد له بوقائع التاريخ ذلك أن مكتبات الإسكندرية قد خربت قبل مجيء الإسلام بقرون متعددة وأولى هذه المكتبات هى مكتبة البرخيوم التي كانت تحتوى على أربعمائة
١٦٣

ألف مجلد وقد أحرقت في أثناء الحرب التي نشبت بين قيصر والإسكندريين وثانى المكتبات هى مكتبة السرابيوم التي ضمت في يوم من الأيام مائتي ألف مجلد أوصى بها لها أنطونيوس وقد نهبت هذه المكتبة وخربت تماماً في عهد ثيودوزيوس وقد أخذت هذه الخرافات السخيفة تتلاشى في أيامنا هذه على أننا
أن
تفضل مافيها من تعصب صريح على تلك الدسائس الخبيثة التي يريد بعض الكتاب الذين لم يتخلصوا بعد من طبائع القرون الوسطى المسيحية يذيعوها – تحت ستار من العلم الاستشراقى الظاهري – في حق رجل من الرجال الذين يشرف أكثر من غيرهم - تاريخ الإنسانية نفسه بهم - وقد يسأل سائل ألا ينتهى الأمر بالمسلمين بعد أن تبنوا حضارة المسيحيين

إلى أن يتدينوا كذلك بالمسيحية ويكفينا للإجابة على هذا السؤال أن نورد

رأي كاتب صريح فى اعترافه بالواقع برغم تمسكه الشديد بدينه – ذلك الكاتب هو الكونت دى كاستر الذى يقول في مؤلف له ممتاز عن
الإسلام الإسلام هو الدين الوحيد الذى لاتجد فيه مرتدين ومن العسير بل من المحال أن نتصور صورة دقيقة للحال النفسية التي يكون عليها المسلم إذا ماحاول أحد المسيحيين أن يقنعه باعتناق المسيحية لعلنا نجد صورة مقاربة شيئاً ما لهذا إذا ما تخيلنا إحساسات وشعور رجل مسيحى مستنير يحاول أحد الوثنيين أن يجتذبه إلى اعتناق خرافاته المرذولة ١
۱ عن الكونت هنرى دى كاستر الإسلام
١٦٤

فما عسى
المبالاة
أن تكون علة ذلك البغض الذى يلاحق به المسيحيون الإسلام حتى فى عصرنا هذا عصرا التسامح ولانريد أن نقول عصر عدم ا بالدين – فى حين أن الإسلام يقدم لهم كثيراً من الأدلة التي تؤكد احترام عيسى
وتبجيله
هل يكون ذلك لأن الإسلام كانت نشأته في آسيا
ولكن ألم تكن المسيحية في جوهرها ديانة آسيوية قبل أن يخلصها بولس القديس من اليهودية وقد قال عيسى نفسه لم أرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة إنجيل متى ١٥ - ٢٤
ولعل العلة في العقيدة نفسها ولكن عقيدة الإسلام تكاد تكون مماثلة لعقائد بعض الفرق البروتستانتية التى تأثرت بالإسلام فاحتذت حذوه
ذلك يرجع إلى الآثار التي خلفتها الحروب الصليبية في أو هل سبب
النفوس
ذلك أمر لاشك فيه فرغم مضى زمن طويل على هذه الحروب نجدها لاتزال تفعل فعلها المشئوم في نفوس الكثير من الجهلاء
ولكن هذا الأمر وحده ليس بكاف لتفسير ماحكم به على الإسلام في أوربا من نفى وتحريم
فعلينا إذن أن نبحث عن تعليل آخر وسوف نتبين جلية الأمر إذا ما تأملنا المثل الذي تقدمه لنا ديانة أخرى تقابل حقاً في أوربا بمثل مايقابل به الإسلام
من النفور والاضطهاد
١٦٥

فأحالت
تلك هي ديانة فرقة المورمون وهى من الفرق البرتستانتية وقد أظهر أصحابها العجب العجاب من قوة العزيمة والذكاء والمثابرة الصحراء ذات الأرض الملحة الكتيبة التى قطنت بها إلى بلد خصب زاهر وكان على أهل أوربا وأمريكا جميعاً أن يشيدوا بهدا العمل النافع الحضارة الإنسانية ومبدأ استحسانهم له ولكن سائر شيع المسيحية على العكس من هذا تناست أحقادها وخلافاتها الخاصة لتتألب على المورمون يجمعها في هذا شعور متماثل من الكره لهم
فماذا كان الجرم الذى اقترفه هؤلاء المورمون
لم يكن لهم من جرم إلا أنهم - كالمسلمين – يستحلون تعدد الزوجات ومفتاح هذا السر إذن هو تعدد الزوجات
وإن في ذلك لإنذاراً للأمم الإسلامية بأنها لن تحصل قط على حق الدخول في زمرة الأمم المتحضرة ما لم تتنكر لمبدأ تعدد الزوجات !
تعدد الزوجات
ولن نخاطر هنا محاولين الدفاع ۱ عن عادة يحمل عليها الناس بمثل هذه الشدة لكننا نقتصر على عرض بعض الملاحظات
۱ لقد دافع المؤلف دفاعاً مجيداً عن مبدأ تعدد الزوجات في رسالته القيمة اشعة خاصة بنور الإسلام ونحن ننقل دفاعه الرائع فيما يلى
١٦٦
مسايرة الطبيعة

لا يتمرد الإسلام على الطبيعة التي لا تغلب وإنما هو يساير قوانينها ويزامل أزماتها بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها فى كثير من شئون الحياة مثل ذلك الفرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون أعزاباً وعلى أن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن يتمرد عليها وإنما هو يدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقاً في إصلاح ونظام ورضا ميسور مشكور حتى لقد سمى القرآن لذلك
بالهدى لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة ولأنه الدال على أحسن مقاصد الخير والأمثلة العديدة لا تعوزنا ولكننا للقصر نأخذ بأشهرها وهو التساهل في سبيل تعدد الزوجات وهو الموضوع الذي صادف النقد الواسع والذى جلب للإسلام فى نظر الغرب مقالب جمة ومطاعن
كثيرة
ومما لاشك فيه أن التوحيد فى الزوجة هو المثل الأعلى ولكن ما العمل وهذا الأمر يعارض الطبيعة ويصادم الحقائق بل هو الحال الذي يستحيل تنفيذه لم يكن للإسلام أمام الأمر الواقع - وهو دين اليسر- إلا أنه يستبين أقرب أنواع العلاج فلا يحكم فيه حكماً قاطعاً ولا يأمر به أمراً بانا والذى فعله الإسلام أول كل شيء أنه أنقص عدد الزوجات الشرعيات وقد كان عند العرب
الأقدمين مباحاً دون قيد ثم أشار بعد ذلك بالتوحيد في الزوجة في قوله تعالى
فإن خفتم
ألا تعدلوا فواحدة
وأى رجل في الوجود لا يستطيع أن يعدل بين زوجاته المتعددات ولذا كان التعدد بهذا الشرط مستحيل التنفيذ ولكن انظر كيف وضعه الإسلام وضعاً هو غاية في الرقة والدقة واللطف مع الحكمة ثم انظر هل حقيقى أن الديانة المسيحية بتقريرها الجبرى لفردية الزوجة والتوحيد فيها وتشديدها في تطبيق ذلك قد منعت تعدد الزوجات وهل يستطيع شخص أن يقول ذلك دون أن يأخذ منه الضحك مأخذه وإلا فهؤلاء ملوك فرنسا دع عنك الأفراد - الذين كانت لهم الزوجات المتعددات والنساء الكثيرات وفى الوقت نفسه لهم من الكنيسة كل تعظيم وإكرام

إن تعدد الزوجات قانون طبيعي وسيبقى ما بقى العالم ولذلك فإن ما فعلته المسيحية لم يأت بالغرض الذى أرادته فانعكست الآية معها وصرنا نشهد الإغراء بجميع أنواعه وكان مثلها في ذلك مثل الشجرة الملعونة التى حرمت ثمارها فكان التحريم إغراء
١٦٧

على أن نظرية التوحيد فى الزوجة وهى النظرية الآخذة بها المسيحية ظاهراً تنطوى تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء تلك هي الدعارة والعوانس من النساء والأبناء غير الشرعيين
كل
وإن هذه الأمراض الاجتماعية ذات السيئات الأخلاقية لم تكن تعرف في البلاد التي طبقت فيها الشريعة الإسلامية تمام التطبيق وإنما دخلتها وانتشرت فيها بعد الاحتكاك بالمدنية الغربية ومن الأمثلة القائمة على ذلك ماكان من أمر وادي ميزاب حيث تسكن القبيلة التي بهذا الاسم في بلاد الجزائر إذ لم تدخلها الدعارة إلا بعد ضمها إلى فرنسا عام ۱۸۸۳ وقد وصل بها الحال اليوم أن أربع بلدان من مجموع سبع بلدان قد ابتليت بهذا الداء الوبيل ومما نرويه من هذا القبيل ما جاء فى كتاب الإسلام تأليف شتمزد و مولان أنه عندما غادر الدكتور مأفروكورداتو الآستانة ۱۸۰۷ إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة كما لم يعرف فيها داء الزهرى وهو السفيلس المعروف فى الشرق بالمرض الأفرنكي فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين أى سنة ۱۸۳۱ تبدل الحال غير الحال وفى ذلك يقول الصدر الأعظم الكبير رشيد باشا في حسرة موجعة إننا نرسل أبناءنا إلى أوربا ليتعلموا المدنية الأفرنكية فيعودون إلينا مرضى بالداء الأفرنكي
على أنه من جهة أخرى نرى أن العلاقة قد تخفف بعض الشيء من أضرار هذا التعنت في القصر على زوجة واحدة ولكن من جهة ثانية نرى أن العلاقة سيئة من السيئات إذن ماذا إذن أى الأدوية قد خلا تماماً من بعض السيئات أن الكنيسة قد أساءت - كذلك - في مسألة العلاقة بمثل ما أساءت في أمر التوحيد في الزوجة وذلك بمخالفتها أيضاً لقوانين الطبيعة
على
انظر هل أشد من الحكم على زوجين شابين لم يستطيعا لبعضها صبراً وقد خاب ظنهما في الزواج ولم يدركا السعادة التي طلباها من وراء ذلك هل أشد من الحكم عليهما بأن يخلدا بقضيان بقية أيامها في عذاب ونكد وشقاء كذلك إذا كان أحدهما عاقراً أو كان غير كفء لزميله هل يحرم الآخر من أن يبنى لنفسه بآخر وأن وإننا نحن في صدد الطلاق لا تفوتنا حكمة التشريع الإسلامي وهو يرى السوء في فوضى الطلاق فيسمع النبي الكريم يقول أبغض الحلال عند الله الطلاق
يقيم
له عائلة من جديد
١٦٨

فالواقع يشهد بأن تعدد الزوجات شيء ذائع في سائر أرجاء العالم وسوف يظل موجوداً ماوجد العالم مها تشددت القوانين في تحريمه ولكن المسألة الوحيدة هى معرفة ما إذا كان من الأفضل أن يشرع هذا المبدأ ويحدد أم أن يظل نوعاً من النفاق المتستر لاشيء يقف أمامه ويحد من
جماحه
وقد لاحظ
جميع الرحالة الغربيين - ونخص منهم بالذكر جيرار دى نير فال و الليدي مورجان - - أن تعدد الزوجات عند المسلمين وهم يعترفون بهذا المبدأ أقل انتشاراً
منه عند المسيحيين الذين يزعمون أنهم يحرمون الزواج بأكثر من واحدة وليس ذلك بالأمر الغريب على الفطرة البشرية فالمسيحيون
يجدون لذة الثمرة المحرمة عند خروجهم على مبدثهم في هذا
ولكن هل تعدد الزوجات – حقيقة – أمر يصح أن نعلق عليه كبير اهتمام في عصرنا هذا إن مقتضيات الحياة الحديثة – ولندع جانباً كل الظروف الأخرى – تجعل من العسير جدا وجود تعدد الزوجات في المدن الكبيرة وسوف يزول هذا الأمر بين المسلمين الذين يأخذون بأسباب الحضارة الحديثة خلال فترة قصيرة وإذا كان مبدأ التعدد سوف يبقى فلن نجده مطلقاً إلا في
ومع
قلب البادية حيث تضطر الناس إليه ظروف الحياة التي لا مفر منها ذلك ! فإننا نتساءل هل في زوال تعدد الزوجات فائدة أخلاقية إن هذا أمر مشكوك فيه فالدعارة التي تندر في أكثر الأقطار الإسلامية سوف تتفشى فيها وتنشر آثارها المخربة وكذلك سوف يظهر في بلاد الإسلام داء لم تعرفه من قبل ذلك هو عزوبة النساء التي تنتشر بآثارها
١٦٩

المفسدة في البلاد المقصور فيها الزواج على واحدة وقد ظهرت فيها بنسبة
مفزعة وخاصة عقب فترات الحروب
كتب شارل دوماس عن المسلمين فى إحدى دراساته حول مستقبل المستعمرات الفرنسية
إن جنساً لا يمكن أن يتحرر قط إذا قضى على نصفه – يعنى النساء – بالرق
الأبدى
الحجاب
فهل المسلمات حقيقة قد قدر لهن حال من الذلة يرثى لها إلى هذه
الدرجة
لاشك أن الحجاب وشبه الحبس في البيت المفروضين على المرأة المسلمة يبدو لعين المرأة الأوربية المغالية في التحرر أنه من مظاهر الرق البالغ القسوة فتظهر عطفها على المسلمات وترثى لحالهن ولكنها لو علمت بما تسره هاتيك المسلمات من مشاعر وأفكار لعجبت أن رأت نفسها هي الأخرى محل عطف من جانبهن ورثاء - لا موضوع حسد كما كانت تظن ومن ناحية أخرى فإن التحجب ولزوم البيت ليسا على أي حال من

الفروض الدينية بالنسبة للمسلمات فنصوص القرآن سورة الأحزاب ٥٣ - ٥٥ التي تتخذ حجة فى ذلك تنطبق فقط على نساء النبي ولا تتعلق بسائر نساء المسلمين كما قد توحى بذلك ترجمة كازيميرسكي الخاطئة للآية ٥٥
من سورة الأحزاب
۱۷۰

لذلك فإن مثل هذه التقاليد التي دخلت على الإسلام بعد موت محمد بسنين عديدة كانت محل نقد شديد من جانب المدافعين عن حقوق المرأة ولنذكر من بين هؤلاء قاسم بك أمين بكتابه تحرير المرأة والزهاوى شاعر بغداد برسالته المشهورة عن الحجاب التي يشيد فيها بفضل المرأة ويعتمد على الآية ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف في مطالبته بالتحرير
الكامل للنساء
وأخيراً السيدة ملك حفني ناصف التي نشرت - بعد استئذان أبيها أحد علماء الأزهر القدماء - قصيدة تحتج فيها بأن رفع الحجاب إذا كانت المرأة فاضلة – ليس بشيء ذي ضرر أما إذا كانت نيتها سيئة فلن يجدي معها أي
حجاب
ومن المحتمل أن نشهد عاجلا أو آجلا زوال عادة التحجب في الشرق في الوقت نفسه الذي تحاول فيه بعض الأوربيات المتأنقات إدخال و مودة و النقاب التركي في المجتمع الغربى وبهذا تخلع زهرة الجمال الإسلامي ذلك الثوب اللطيف الذي كان يحفظها من الأعين - ولكن ! ألن تأسف النساء الشرقيات على السحر الحفى الذى كان يسبغه عليهن النقاب
وهل يجدن فيما يجنينه من الازدهار تحت أضواء المدنية القاسية ما يعوضهن عن ذلك إننا نخشى أن تخرج الشرقية إلى الحياة العصرية وعيناها مبهورتان بأحلام الحريم فينتابها الرعب لما تشهده لدى أخواتها الغربيات اللائي يسعين للعيش وينافسن فى ذلك الرجل من أمثلة الشقاء والبؤس الكثيرة
۱۷۱

ولكننا لا نريد أن نصدر حكماً في مثل هذه المسألة الشائكة ١ وعلى أي حال فإن أهمية مثل هذه الإصلاحات وإمكانها يختلفان اختلافاً كاملا البلاد التي تهمنا ولذلك فإنه من المحال أن تؤدى بنا مناقشة المسألة إلى وضع
قاعدة شاملة
حسب
ولكننا مع ترددنا فى إصدار حكم فى الإصلاحات التي عرضناها نعترف صراحة ودون قيد بأن تعليم المرأة ضرورة بالغة الأهمية بالنسبة إلى مستقبل
الإسلام والتعليم ليس له علاقة بالتقاليد والعادات التي تعرضنا لها آنفاً وهو يساير
كل المسايرة جميع تعاليم الدين وقد كان في عصر ازدهار الإسلام يفاض فيضاً
على المسلمات وكانت ثقافتهن حينذاك أرفع من ثقافة الأوربيات دون جدال

والواقع أن التعليم فى الشرق لم يندثر كلية مثلما اندثر في بعض أقطار المغرب ومنذ بضع سنين والكثير من المسلمات يشغلن أوقات فراغهن في خدورهن بالتعليم وقد بدأ مستواهن الثقافى يرتفع عامة
وعلى التعليم وحده يجب أن يعتمد التطور الاجتماعي في الميادين التي يكون فيها ضروريًا على أن يقدر ويوجه بحيث لاتكون له آثار غير محمودة في نظام الأسرة ٢
1 لم يصدر المؤلف حقاً حكماً في هذه المسألة وكل ما أراده إنما كان إظهار مرونة الإسلام ومسايرته لمختلف الأزمان ولقد قال مرة أحد كبار المؤلفين إن معنى الحجاب في الإسلام هو أن تحتجب المرأة عن
مواطن الريب
٢ وكثيراً ما يخلط الكتاب بين الحديث عن تعليم المرأة والحديث عن مسألة الحجاب وقد بين المؤلف أنه لاصلة بين الحديث في هذه وتلك
۱۷

الإسلام والعصر الحديث
فإذا ما فصل في مسألتى تعدد الزوجات وتحرير المرأة وهما المسألتان الوحيدتان اللتان نجد لنقد الناقدين فيهما ظاهراً من الحق بدا الإسلام على حقيقته ديناً يتمشى في تماماً أحدث الاحتياجات والأفكار
روحه
مع
العصرية حتى إن رجلا من الإنجليز هو أوزوالد ويرث كتب يقول إنني تبينت أنني أدين بدين الإسلام دون شعور منى بذلك كما تبين المسيو جوردان أنه يتحدث النثر دون علم منه بذلك أما جوت فإنه بعد أن أصول الإسلام أعلن إذا كان الإسلام هو هذا أفلا نكون جميعاً
درس
مسلمين !
وبعد مدة يسيرة من الزمن سيكون من حق الإسلام المطالبة بحقه في الحضارة الحديثة لأن الأساطير الصبيانية المفتراة عليه من عهد الحروب الصليبية إلى الآن لم يبق أحد يجرؤ على التسليم بها
تطلع أوربا إلى الروحانية
وكثير من ذوى العقول المستنيرة بعد أن أفاقوا من غفلتهم وبعد أن عرفوا إخفاق المذهب القائل بأن العقل يستقل بالمعرفة يسعى جاهداً لتعرف الهداية وأن مذهب الحدس الذى يتهافتون عليه خلف حامل لوائه المسيو برجسون الشهير هو عبارة عن رد فعل واضح لمذهب استقلال العقل بالمعرفة أو أدق هو رد فعل لعجز مذهب استقلال العقل بالمعرفة
بتعبير
۱۷۳

يبدو
وقد أوجد هذا الفكر فى قلوب الناس النهمين إلى الإيمان آمالا كان أنها انتهت إلى غير مارجعة فهو يؤملهم في خلود الروح وبذلك تكون الحياة الدنيا ليست مشتبكاً عظيماً لقوى عمياء وأن العقل وسيلة فقط تأكيده بكل هذا لم يزد على أن بعث أفكاراً طال عليها العهد ومع
المعرفة
من وسائل
وأبرزها بطريقة يسهل فهمها واختار الوقت المناسب الذي يساعدها على أن تهيئ عناصر دين جديد يشعر كثير من الناس بشدة حاجتهم إليه انظر كتاب حقائق الحياة لجوستاف لوبون إن حركة هذا الفيلسوف لا تقاوم وخصوصاً بعد دماء كثيرة سفكت بعد فتن عظيمة وسنشهد إذن مجهود الديانات القديمة والحديثة وهى تعمل جاهدة لاحتكار هذه الحركة لفائدتها ولكن المذهب القائل باستقلال العقل بالمعرفة حتى في حال انهزامه لن تكون ثمرته أقل وسوف يقيم عقبة كأداء بين العقل والعقائد التي تتصادم تصادماً عنيفاً ومن جهة أخرى ألا ينبغي لنا أن نحسب حساب النزعات الصوفية العاطفية الشاعرية أليست تلك النزعات جوهرية في وجود كل دين وإذا أردنا تلخيص الأمر في جملة واحدة أفلا نستطيع أن نقول إن ألزم لزوميات الدين العصرى هى تلك التي يتميز بها الإصلاح الديني المتطرف من توحيد يكسوه ثوب رائع من الشاعرية
معه
وحينئذ يكون الإسلام قد توافر فيه شروط الدين الحنيف الذي يتوقون إليه إذا تجرد من الزبد الذي طغى عليه خلال جريانه وقد نشأت جماعات صغيرة من الأوربيين الداخلين في الإسلام فى إنجلترا وأمريكا إحداها وهي التي يديرها
" المستر كويلم تقيم فى ليفربول منذ عدة سنوات واشتهرت بأن معظم من
١٧٤

دخلوا الإسلام فيها من النساء ولقد كان لإسلام عضو بارز في إنجلترا هو اللورد هدلى الذي تبعه في الإسلام بعض وجهاء لوندرة وأعيانها وقع في النفوس وتنشر الجماعة الإسلامية مجلة شهرية تدعى المجلة الإسلامية التي أسسها هذا الرجل العالى القدر نقتبس منها ردها على السؤال الذي كثيراً مايرد وهو لماذا أسلم بعض الإنكليز وغيرهم من الأوربيين
ذلك لأنهم كانوا يلتمسون عقيدة سهلة معقولة عملية في جوهرها لأننا نتبجح معاشر الإنجليز بأننا أكثر أهل الأرض تشبئاً بالعمل- عقيدة تكون ملائمة لأحوال الشعوب جميعاً وأعمالهم وعاداتهم عقيدة دينية صحيحة يقف المخلوق بها أمام الخالق بدون أن يكون بينها وسيط شلدريك
وهذا هو
الذي
من مميزات الإسلام وهناك شيء مهم وهو انتفاء الواسطة بين العبد وربه وجدته العقول العملية فى الإسلام لخلوه من الأسرار وعبادة القديسين ولا حاجة به إلى الهياكل والمعابد لأن الأرض كلها مسجد الله وفوق ذلك قد يجد بعض أهل مذهب الاعتقاد بالله دون غيره من العصريين المتحيرين في التعبير عما يخالج نفوسهم من التطلع قد يجدون فى الإسلام المذهب النقى للاعتقاد بالله فيجدون فيه أبدع وأسمى أعمال العبادة وما يمكن أن يتخيله من معنى ألفاظ الدعاء ثم نزيدك شاهداً آخر وهو قول شرفيس الإسلام يحقق أبلغ معنى
لفضيلة الإيثار على النفس بأقل بحث فيها من الوجهة النظرية وقد حصل في فرنسا وفى بلاد أخرى من أوربا وأفريقيا وآسيا دخول

أشخاص في الإسلام فرادى ومن مميزات الإسلام الأصيلة ملاءمته لجميع الأجناس البشرية فلم يكن العرب وحدهم هم الذين اتبعوا الإسلام بل كان من ضمنهم من هو من فارس كسلمان الفارسي وبعضهم من النصارى كورقة ١ وبعضهم من اليهود كمخيريق وعبد الله بن سلام وبعضهم من الأحباش كبلال وغيرهم وجاء في القرآن الكريم وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً فدين الرسول محمد عليه السلام قد أكد من الساعة الأولى لظهوره وفى حياة الني أنه دين عام صالح لكل زمان ومكان وإذا كان صالحاً بالضرورة لكل جنس بالضرورة لكل عقل إذ هو دين الفطرة والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر وهو لكل هذا صالح لكل درجة من درجات
الحضارة
كان صالحاً
وهو على ما فيه من تسامح وبساطة سواء بالنظر لمذهب المعتزلة أو بالنظر لمذهب الصوفية يؤدى للعالم هداية وتوفيقاً سواء في ذلك الأوربى المتحضر والزنجى الأسود من غير أن يعوق حرية الفكر عن أحدهما ثم يزيد
على ذلك بالنسبة للزنجى انتشاله من عبادة الأوثان ثم هو لا يعوق الرجل العلمى الذى يرى حياته في العمل ويعتبر الوقت من ذهب كالرجل الإنجليزي وكذلك لا يعوق الرجل الصوفى والشرقى المتأمل في بدائع الصنع ويأخذ بيد الغربي المأخوذ بسحر الفن والخيال وليس هذا فحسب بل هو يستولى على لب الطبيب العصرى أيضاً بما فيه من الطهارة المتكررة فى اليوم والليلة وتناسق حركات المصلى فى الركوع والسجود وما فيها
۱ ورقة كان على أتم استعداد للإسلام لو أمر الرسول بالدعوة حال وجوده
١٧٦

نماء من
للجسم وإفادة للصحة الجسمية والنفسية
وعلى هذا فليس من الجرأة إذن أن نظن أنه إذا هدأت الزوبعة المروعة أنه القائمة ضد الإسلام وضمن هو الاحترام لكل الشعوب والديانات مستقبلا حافلا بأعظم الآمال وأعلاها شأناً
سیری
فإذا مادخل في الحضارة الأوربية بفضل اشتراكه العظيم في الحوادث فسيتضح سناه الحقيقى وستعرف الأمم المختلفة حقيقته التي حجبت عنهم وسيمد الكل يده لمخالفته متنافسين في ذلك لأن قيمته قد خبروها وعرفوا ما يستكن فيه من وسائل القوة التي لاحد لها ولا نفاذ ولو نهض أتباع محمد عليه السلام وأفاقوا من سباتهم العميق لرجع لهم عزهم السالف وتاريخهم المجيد وصاروا أمة لا تعرف الجور فى معاملتها لكل رعاياها لافرق بين مسلم ومسيحى ويهودى وتبوء وا مكانهم الذى يليق بمجدهم إن شاء الله
۱۷۷

الفصل السادس
حول التفاهم الإسلامي المسيحي

من مجلة الأزهر عدد يونية ١٩٧٨
رسالتان متبادلتان
في أبريل سنة ١٩٧٨
السيد المحترم صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد
فيسر جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية في مدريد أن تتوجه إلى فضيلتكم لتشرف بإخباركم بما استقر عليه الرأى من انعقاد مؤتمر قرطبة العالمى الإسلامي المسيحي الثالث خلال عام ۱۹۷۹ إن شاء الله وقد رأت إدارة الجمعية اختيار موضوع محمد وعيسى ملهان للقيم الاجتماعية المعاصرة ليكون محور اللقاء الإسلامي المسيحى المقبل والمقصود أن يشرح المسلمون كيف يعبر النبي عل عن
0
أم
هذه القيم المعاصرة بالنسبة لمسلمى اليوم سواء برسالته وعقيدته ودعوته بشخصيته وسلوكه ونفسيته المثالية على حين يشرح المسيحيون كيف يعبر عيسى عليه السلام عن القيم الاجتماعية نفسها عند مسيحيي اليوم ورغبتنا أن يدرس
هذا الموضوع مجموعة ممن يعيشون في مجتمع متكافل يفيض بالمودة والوفاق وإن اختلفت عقائد مواطنيه وتنوعت أديانهم
۱۸۱

وسوف يتولى عملية تنظيم وإعداد المؤتمر من الجانب المسيحي الكليات المتخصصة في علوم اللاهوت تذكر منها بصفة خاصة كلية اللاهوت بمدريد والجامعة البابوية فى روما ويعد الموضوع - بمشيئة الله - من الجانب الإسلامي الجامعات المتخصصة فى بعض البلدان الإسلامية ومؤسسات إسلامية وشخصيات مسلمة يستوى فى ذلك من يعيشون داخل إسبانيا ومن يقيمون خارجها
ونعتقد أنه من الممكن دراسة رءوس الموضوعات التالية في نطاق الموضوع
هی
العام للملتقى وهى الحرية والعدالة والمساواة فى مختلف مظاهرها وجوانبها المتعددة فى هذا الدين أو ذاك ولا يعنى هذا بطبيعة الحال ان هذه الكلمة النهائية على العكس نحن نتوجه إليكم منذ الآن وفي لحظة نشأة الفكر

آملين أن تبروا الموضوع بما تقترحونه وأن تتفضلوا بإضافة ماترونه مفيداً ونافعاً ولسنا نشك في أنكم ستزودوننا بسديد الرأى وصائيه – بإذن الله فأنتم أدرى بهذا الحقل منا ولكم فى هذا الميدان خيرة قد لا تتوافر للكثيرين بحكم احتكاككم بالمجتمعات وجهودكم فى القارات المختلفة وقد سبق أن شرفتمونا حين تفضلتم بإيفاد وفد مثل بلادكم فى مؤتمر قرطبة الإسلامي المسيحي الأول الذي عقد في عام ١٩٧٤م
ومانبغيه في هذه المرحلة – مرحلة الإعداد والدراسة - هو النصيحة وتبادل الرأي والاستفادة بالمشورة دون إلزام أو التزام بحضور المؤتمر وسوف نتصل بكم في مرحلة أخرى إن شاء الله من أجل توجيه الدعوة لحضور جلسات الملتقى
نفسه إذا رغبتم في ذلك
۱۸

وفى انتظار كريم ردكم نرجو أن تتقبلوا خالص تحياتنا وأطيب أمنياتنا
بالصحة والسعادة

وسلام الله عليكم وتحياته ورحمته وبركاته
سكرتير عام جمعية الصداقة
الإسلامية المسيحية
۱۸۳

السيد المحترم
تحية طيبة
وبعد
بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فإني أشكر لكم هذه الرغبة في التفاهم بين المسلمين والمسيحيين وإثراء الفكر
المعاصر بالحلول التي أوحاها الله تعالى إلى محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم
وذلك فيما يتعلق بالمشاكل المعاصرة
وقد وصلتنى أخبار المؤتمرين السابقين

وأحب أن أنبه فى مودة ومن أجل تفاهم عميق إلى بعض الأمور - منذ أن بدأ - خالف الجو العالمي اليهودي
١ - إن الإسلام - والوثني في أمر عيسى عليه السلام لقد أعلن الإسلام مباشرة تقديره واحترامه لعيسى وأمه أما عليه السلام فهو وجيه في الدنيا والآخرة وأما
عیسی
أمه فهى صديقة ووجود عيسى عليه السلام جزء من إيمان المسلم وبراءة أمه وطهرها جزء من إيمان المسلم ولم يقف الإسلام من عيسى عليه السلام ومن أمه موقف اليهود الذين مازالوا على موقفهم إلى الآن من عيسى وأمه لقد افتروا - ومازالوا – على عيسى وعلى أمه ورموهما ببهتان شنيع أما الإسلام فإنه مجدهما ومازال مستمراً في تمجيده لها
فماذا لقى المسلمون من المسيحين في مقابل ذلك
١٨٤

٢ - أنه لابد من الاعتراف بالدين الإسلامى وبرسوله حتى ينال المسلمون في أوربا مايناله اليهود من الاعتراف بأعيادهم وبشعائرهم وأنه لا يتأتى التفاهم بين أتباع رسول يحترمه المسلمون هو عيسى عليه السلام وأتباع رسول لا يعترف به المسيحيون وهو محمد الله
٣ - إن المسلمين والمسيحيين يعملون على مقاومة الانحراف والانحلال والمادية والإلحاد وكان يجب أن يسيرا فى خط متعاون متساند ضد التيارات المنحرفة ولكن - للأسف - يسير المسيحيون فى طريق تنصير المسلمين بقوة فهم يعملون ليل نهار على أن ينصروا المسلمين في كل مكان في العالم وكل الدول الغربية وأمريكا ترسل إرساليات لتنصير المسلمين بأسلوب مكشوف واضح أو بأسلوب خفى مستور ويضيق المسلمون بذلك ضيقا شديداً ذلك فإن ملايين
وبرغم
الجنيهات تنفق في سعة للتنصير بكل الطرق ومما هو ملاحظ أن الدول الإسلامية ليس لها إرساليات تبشيرية وقد
أرسل المسيح عليه السلام لهداية خراف بني إسرائيل الضالة

ومع
ذلك فإن
المسيحيين تركوا خراف بني إسرائيل الضالة وأخذوا يعملون على تنصير
المسلمين
تساعدهم الثروة وتساعدهم وسائل الحضارة الحديثة ولو حصروا نشاطهم على تنصير الوثنيين لما أثار ذلك ضيق المسلمين الشديد وكراهيتهم للأسلوب ولموضوع التنصير نفسه ٤ - والمسلمون أقليات فى بعض الأقطار المسيحية مثل الفلبين وهذه الأقليات المسلمة ينكل بها باسم المسيحية تؤخذ أرضها وييتم أطفالها وتترمل نساؤها ولا تجد إلا ارتياحاً في نفوس الأغلبية المسيحية ونحب أن ينتهى
۱۸۵

التشكيل بالمسلمين في الأقطار التى بها الأغلبية المسيحية نحن نحب أن ينتهى
ذلك إنسانية ونحب أن ينتهى ذلك ديناً
ه - وفى المؤتمرات التي تعقد في إسبانيا وغيرها هناك أسلوبان للحديث ۱ الترام العقل وهنا يتحلل المسلمون من مبادئ دينهم فيتناولون المسيح عليه السلام وأمه بالأسلوب العقلى فيكون موقفهم منهما موقف اليهود يقولون على مريم وعلى ابنها مايضيق به المسيحيون ضيقاً شديداً ويقولون على المسيحية نفسها ما يضيق به المسيحيون ضيقاً شديداً
ولكن المسلمين في هذه المؤتمرات يتبعون مبادئ دينهم فيحترمون المسيح عليه السلام وأمه أما المسيحيون فإن البعض منهم لا يبالى فيتحدث عن رسول الإسلام بما يضيق به المسلمون فلا تكون هذه المؤتمرات وسائل تفاهم وإنما تكون وسائل تنافر وذلك كما حدث في المؤتمرين السابقين من بعض
المسيحيين
ب الترام ما تمليه روح التفاهم فلا يساء إلى المسلمين في مقدساتهم ٦- ونحن من جانبنا قد قدَّمنا أسس التفاهم واضحة سافرة احترام
المسيح عليه السلام احترام أمه عليها السلام
فماذا قدم المسيحيون لاشيء !
يل على العكس من ذلك لقد هاجموا ومازلوا يهاجمون رسول الإسلام ومبادئ الإسلام فهل يمكن مع ذلك التفاهم

- وأحب أن أقول إن الإسلام هو العامل الأكبر في تثبيت المسيحية حين عترف بوجود المسيح عليه السلام وحين برأ أمه ومع ذلك فقد قوبل بجحود
١٨٦

لامثيل له ومازال يقابل بهذا الجحود من المسيحيين على أكبر خدمة أديت للمسيح عليه السلام وبعد فإني أحب صادقاً أن نتعاون في صد كل انحراف وأحب أن أقول إنه لولا تقديرى لكم لما كتبت لكم هذا وإننى يسرني أن أقرأ لكم وسأتحدث إليكم عن رأيي في موضوع المؤتمر في المستقيل إن شاء الله ولكم تحيتى وتقديرى
د عبد الحليم محمود شيخ الأزهر
JAY

كلمة الإمام الأكبر في وفد الفاتيكان الزائر للأزهر
في أبريل سنة ١٩٧٨
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اتبع
هديه إلى يوم الدين وبعد
فمرحباً بالوفد المسيحى مرحباً بوفد الفاتيكان ونرجو لكم إقامة طيبة
بمصر ونرجو أن يهدينا الله إلى الصراط المستقيم وليس هناك من تحية لكم أفضل من أن نذكر لكم بعض آيات من القرآن الكريم تتحدث مكانة المسيح عليه السلام وعن مكانة أمه المطهرة يتحدث القرآن الكريم عن أُمّ العذراء حين وضعتها فقالت متجهة إلى الله
عن
سبحانه بقولها وبدعائها

رب إلى وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من
عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
۱۸۸

ويقول القرآن الكريم
وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على
نساء العالمين أما عن سيدنا عيسى عليه السلام فيقول القرآن الكريم إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى امراً فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من
6
ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون
وماتدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين عن موقف الإسلام من الرسل السابقين فإن الله تعالى يقول
أما
لرسوله
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وأما عن موقف الإسلام من أهل الأديان الأخرى فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين
۱۸۹

وفى هذه الآية الكريمة ينبه الله سبحانه إلى أمرين

البر
بهم
6
أى إسداء المعروف إليهم
٢ - العدل بالنسبة لهم
وذلك يتمشى في انسجام تام مع الهدف الذي من أجله جاء الإسلام
يقول الله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
وكل ما يتنافى إذن مع الرحمة الحقيقية فإنه يتنافى مع الإسلام والرحمة في الجو الإسلامي ليست رحمة خاصة وإنما هي رحمة عامة يدخل في نطاقها البشر على مختلف ألوانهم وعلى مختلف بيئاتهم ويدخل في نطاقها الحيوانات ولقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلاهي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض وشكر الله لرجل وجد كلباً يلهث من العطش فبذل جهده حتى سقاه فأدخله الله الجنة بسبب رحمته والله سبحانه هو الرحيم الودود ورسوله هو نبي الرحمة
أما عن موقف الإسلام بالنسبة للتفرقة العنصرية فإنه يحسن بنا أن نقول كلمات موجزة حول موقف الإسلام بالنسبة لكثير من الأمور
ما الإسلام
لقد سئل رسول الله لا عن الإسلام ماهو
فقال الإسلام هو أن يسلم لله قلبك وإسلام القلب الله تعالى إذن
هو الإسلام

الإسلام هو القيام على ما يحب الله تعالى والعمل به وهو يتحقق في قوله
19

تعالى إياك نعبد وإياك نستعين ويتحقق الإسلام كاملا في الهجرة الكبرى إلى الله تعالى والتي تتمثل فى قوله تعالى لرسوله قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له
وهذا المعنى الخالد للإسلام لا يعرف تفرقة عنصرية ومن هنا فإنه لم يوجد في الإسلام قط مبدأ التفرقة العنصرية التي ظهرت في بعض البلاد بصورة تتنافى مع الإسلام ومع الإنسانية

ومن أجل مفهوم الإسلام الذى ذكرناه كان إكرام الناس عند الله تعالى لا يرجع إلى بيئة ولا إلى وطن ولا إلى جنس ولا إلى لون ولا يرجع إلى المنصب ولا إلى الثراء وإنما يرجع إلى التقوى يقول تعالى
إن أكرمكم عند الله اتقاكم والتقوى هى أن يسير الإنسان في أضواء الإيمان متقرباً إلى الله تعالى وأن يبتعد الإنسان عن الظلمات والمعاصي والآثام
هي مقياس الإكرام الإلهى وهى مقياس الشرف الإنساني ومن هذا الذي ذكرنا يتحدد - إسلاميًّا – الجو الذي يسود تفاهمنا
وذلك
أولا أن يشيع فيما بيننا احترام الأنبياء والرسل جميعاً إن احترام سيدنا عيسى عليه السلام والاعتراف به ورسالته جزء من إيماننا وإنه جزء من إسلامنا إننا نؤمن بعيسى وموسى وإبراهيم وبقية الأنبياء والرسلوأول أمر نحب أن نتفق عليه هوا أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام له تقديره في أحاديث إخواننا المسيحيين وفى كتاباتهم إن الأسلوب الذي يتناول به الغربيون سيدنا

۱۹۱

محمداً ع يحا في المودة والإنصاف أحياناً ويسيء إلى شعور المسلمين ويحدث سوء تفاهم نتمنى ألا يحدث وإذا كان تقدير رسول الإسلام هو ما نأمله فإننا نأمل مثله بالنسبة لمبادئ الإسلام في المعاملات وفى الأحوال الشخصية وأما ثانياً فإننا كمؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونرى أن
المجتمع لا يصلح إلا بذلك ونرى أن الله سيحاسبنا على الإساءة للمجتمع
وسيجزينا خيراً إذا عملنا على إصلاحه فإنه يجب علينا أن نتكاتف تكاتفاً تاماً في
6
القيام وجه كل انحراف يريد أن يسير بالإنسانية إلى الإلحاد وفى العالم الآن عوامل كثيرة تصرف الإنسان عن ربه ودينه ونرجو الله
سبحانه أن يمكننا من إرضائه في مقاومة ذلك وأما ثالثاً فإنه يجب علينا أن نتكاتف فى نشر عاطفة الرحمة في الشرق وفى الغرب وأينما كنا وحيثما حللنا إن أقطاراً تدمر وإن قرى تحرق وإن أطفالا تيتم تحت سمع الإنسانية وبصرها وعلينا أن نعمل بقدر مانستطيع لإيقاظ الضمير العالمي وما من شك فى أن ذلك ليس سهلا ولكن علينا أن نعمل في حقل يحبه الله وتحبه رسل الله وأنبياؤه
وأما رابعاً فإنه علينا أن نتكاتف فى الوقوف في وجه التفرقة العنصرية لقد شاهدت بنفسي صوراً مزرية من صور التفرقة العنصرية في بلاد تزعم لنفسها حضارة ومجداً وهى تتردى هابطة إلى مستويات من القسوة يمقتها الله
ويمقتها الصالحون من عباده
وبعد فإننا نعود فنرحب بالوفد الفاضل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
۱۹

خاتمة
أيها المسلمون إن عناصر كثيرة قد تجمعت الآن في موقف عدائى للإسلام تريد أن تقضى
مع
عليه وكل عنصر من العناصر وضع خطة مدروسة مستقلة أو متعاونة الآخرين لهدم الإسلام في جانبه الأخلاقى ولهدمه في جانبه العقدى ولهدمه
في جانبه التشريعي واصطنعت هذه العناصر معاول من الداخل - في مختلف الدول الإسلامية - تتخذ صورة المقالات أو الكتب أو الإذاعات للعمل على التحلل الأخلاقي والتشكيك العقدى والنيل من التشريع الإسلامي لقد كتب كاتب معروف يقول
إن من علامات التحضر أن يعرف الرجل وأن تعرف المرأة الرقص
الغربي وأن يمارساه بالفعل
وكتب كاتب معروف يقول
العفة والبكارة وأمثال هذه المفاهيم إنما هي من علامات التأخر حينما
يتمسك بها مجتمع من المجتمعات
وكتب كاتبون في الجنس بلغة مثيرة متحللة وكتب كاتبون في الإيمان بلغة مشككة أو منكرة فى صور تافهة عابرة أو في صور خبيثة محرمة
وإن الغرب وإن الصهيونية العالمية من وراء ذلك كله فإن من
۱۹۳

مآربهم التي يعملون عليها أن تنهار الدول الإسلامية من الداخل أخلاقياً
وعقديا وتشريعيا فإذا ماحدث ذلك – ولن يحدث إن شاء الله – انتهى الإسلام كقوة فعالة في العالم واستمرت الدول الإسلامية في تفكك وانحلال وتغلبت على المسلمين كل دولة صغيرة بل كل دويلة مستعمرة ولكن التخطيط الغربى الأمريكي الشيوعي الصهيوني لم يكتف بمحاولة إضعاف المسلمين من الداخل أو بتعبير آخر إضعاف المسلمين عن طريق الكيف - وإنما أراد أيضاً إضعافهم عن طريق الكم – أي عن طريق ويكفي في ذلك أن نذكر عدة

وذلك عن طريق التبشير بالمسيحية عددهم
حوادث تبين المدى الهائل من العناية بهذا الجانب
1 - أن الثورة المصرية حينما أسمت قناة السويس وأخذت في دراسة
دفاترها وجدت أنه خصص في ميزانيتها ثلاثة ملايين من الجنيهات سنوياً للتبشير بالمسيحية في بلاد الشرق الأوسط قناة حفرت بأيد مصرية في أرض مصرية يخصص من دخلها ثلاثة ملايين كل عام لإضعاف شأن والشرق ديناً وخلقاً وتشريعاً
مصر
٢ - في إحدى البلاد الأفريقية الاستعمار خمسة وثلاثين ألف
C
جمع
طفل بوسائل شيطانية ونشأهم على المسيحية المتعصبة وعلمهم حتى خرج
منهم المهندس والطبيب والاقتصادى و و وحينما ترك الاستعمار هذا البلد كان يمسك بزمامه وفي مناصبه القيادية هؤلاء الذين رباهم على المسيحية المتعصبة والذين رسم لهم المنهج الذى يخرجون به أجيالا تلو أجيال
تربى على المسيحية المتعصبة لتتولى – بالتتابع - زمام الحكم
١٩٤

- يحاول الاستعمار أن يصل إلى أهدافه فى الشرق عن طريق الزواج
بالأوربيات ومن هذا القبيل ماشاهدته بنفسي زعيم من كبار زعماء المسلمين مليونير تزوج بأوربية جميلة فتنته وسيطرت عليه ووضعت في مدخل القصر الفخم الذي تسكنه والذى بناه لها زوجها وضعت صورة كبيرة للصليب وأنجبت من هذا الزعيم الإسلامي المليونير ولداً وبنتاً أما البنت فقد تزوجت بأوربي مسيحى وأما الولد فقد تزوج بأوربية مسيحية بعد جيل أو جيلين ستكون أسرة الزعيم المليونير مسيحية بحتة وستكون الملايين في خدمة الاستعمار
٤ - إن التبشير بالمسيحية قائم على قدم وساق في نشاط لا يفتر ومع ذلك فإننا نقرأ من آن لآخر في الجرائد العربية أن التبشير في أفريقيا
أخفق وأنا بنفسي قرأت ذلك عدة مرات وتأمل فيما يلى
لقد تصادف أن جلس أحد الأشخاص مع زعيم من زعماء التبشير وجرهما الحديث عن التبشير فقال الشخص - وكان مسلماً دون أن يظهر ذلك – ولم تتمسكون بالتبشير في أفريقيا إننا نسمع من آن لآخر أن التبشير في أفريقيا قد أخفق ألا تتطلعون إلى أقاليم أخرى للتبشير ! وضحك الزعيم
المبشر وقال
إننا نحن الذين ننشر هذه الأخبار وننشرها في مقابل دفع أجرة لها وذلك أن التبشير في أفريقيا ناجح كل النجاح وبلغ من نجاحه أن أصبح شوكة في ظهر السودان شوكة قوية تقلقه وتقض مضجعه
190

أما إذا أردت معرفة السر أو بتعبير أدق الحكمة في نشر هذه الأخبار
فها كها
إننا حينما ننشر هذه الأخبار فذلك لفائدتين محققتين إحداهما أن المسلمين حينما يقرأونها يستمرون في نومهم قائلين وكفى
الله المؤمنين القتال فلا ينالنا من جانبهم معارضة أو أذى أما الفائدة الثانية فهى أن تنهال علينا التبرعات من أغنياء المسيحيين
لأن المسيحيين - أينما كانوا - إنما يسرهم أن ينجح التبشير
-0
بعض البلاد الإسلامية التي يبلغ المسلمون فيها ٩٥% تركها الاستعمار وعلى رأسها مسيحى متعصب نصبه الاستعمار رئيس جمهورية
لها
٦ - إذا كان في بلد مسيحى جالية إسلامية فإنها لا تستمتع بالحق الطبيعى للمواطن إنها لا تدخل الجيش ولا تتولى القيادة ولا يكون لها نصيب في التعليم العالى وتعيش ذليلة لقد كان أحد السائحين فى قطر من هذه الأقطار وكان شهر رمضان
وقدم خادم الفندق الطعام له عند الغروب وقال له
إن أبي مثلك

فقال السائح ماذا تعنى
فقال الخادم أعنى أنه يصوم رمضان السائح وأنت لم لا تصوم
19

الخادم أنا كريستيان مسيحى لأنى لو لم أكن كريستيان لما نلت
هذه الوظيفة
لقد بلغ التعصب إلى درجة أن وظيفة خادم في فندق لا ينالها إلا إذا كان
مسيحيا فما بالك بغيرها
- وهذه المذابح التي تحدث للمسلمين في كل الأقطار التي يكون فيها
المسلمون أقلية
ماذا فعل المسلمون ماذا فعل الستمائة مليون أو السبعمائة مليون مسلم في
العالم من أجل الإسلام
لاشيء
إن كل دولة بل كل دويلة فى الغرب ترسل إرساليات في كل أقطار العالم الإسلامية أو الوثنية
وفى مقابل ذلك لم ترسل دولة إسلامية من يبشرون بالإسلام وهذه البعثات التي تخرج من البلاد الإسلامية إلى غيرها إنما هي بعثات تعليمية إنها تعليمية بحتة حتى لقد خلت من فكرة أن تكون بعثات تربوية إنها تعليمية تعلم الحساب والجبر والهندسة أو تعلم الحروف الهجائية وليس في أذهان المبعوثين مسألة الدين أو الخلق أو التربية الإسلامية وماذا فعل المسلمون حينما قتل أحمدو بللو إنه قتل لأنه كان صادق الإسلام وهذا يعرفه كل شخص ماذا فعل المسلمون من أجل هذا الشهيد المسلم لاشيء
۱۹۷

أيها المسلمون ! إن الله سبحانه سيحاسبكم على السلبية التي تسيرون على نهجها أيها الأثرياء ! يا أصحاب الملايين ! ماذا أنفقتم من أجل الدعوة أيتها الدول الغنية بالبترول والتى هيا الله لها رزقاً أين ما أنفقتموه من أجل الدعوة
إن زكاة البترول الخمس هل أخرجتموها في سبيل الله
وبعد
فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وإن الأمل لكبير في أن يوفق الله الأمة الإسلامية لاتخاذ طريقه قولا وعملا فإذا حققوا ذلك فإنهم يومئذ يفرحون بنصر الله
ولينصرت الله من ينصره إن الله لقوى عزيز
وإن من تباشير التوفيق أن نبدأ - فى مصر - دولة العلم والإيمان وهى دولة لنتاكبير الأمل في أن تتخذ خطواتها على أساس من العلم في كل مجال من مجالات العمل المثمر وعلى أساس من الإيمان في مختلف نظم المجتمع سواء في عقائده أو في أخلاقه أو في تشريعه

وإنى إذا كنت قد وضعت بعض الحقائق الواقعية تحت نظر القراء الأعزاء
فإنما أردت أن أضع مادة لإثارة التفكير في مستقبل الإسلام الذي لاشك في دين المستقبل لأنه دين التوحيد والعدل والأخوة
أنه
۱۹۸

۳۹

۱۷۹
۱۹۳
مقدمة
الفصل الأول
الإسلام والمسيحية
الفصل الثاني
أوربا والمسيحية
الفصل الثالث
الغرب والإسلام
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
مفكرون ومنصفون من الغرب
نصوص من كتب ناصر الدين دينيه
حول التفاهم الإسلامي المسيحي
الخاتمة

رقم الإيداع
الترقيم الدولى
٣٦٠٥ / ١٩٩٣
IBN
9-02-4042-
١/٩٣/٣٥
طبع بمطابع دار المعارف ج م ع

هذا الكتاب
لقد كتب الكثيرون في علاقة الشرق بالغرب سياسيا وكتبوا في علاقة الشرق بالغرب اقتصاديا ولكن التفكير في صلة الشرق بالغرب دينيا واحتمال نشر الدعوة الإسلامية في الغرب لم يسترع عناية الباحثين إلى الحد الذي يتناسب مع جلال الموضوع
وخطره
وهذه صفحات كتبها رائد من رواد الفكر الإسلامي يسد بها هذا النقص في الدراسات حول إمكان نشر دعوة الإسلام في ذلك العالم
المادى ويرد بها على المزاعم الباطلة لكثير من
المستشرقين
دار المعارف
Аль