الإمام
الدكتور عبد الحليم محمود
الرعاية الحقوق الله
لأبي عبد الله الحارث المحاسبي
۱۰
وأداء فرائضه والورع في حلاله وحرامه وجميع حدوده والإخلاص لله تعالى بطاعته والتأسى برسوله فطلبت معرفة الفرائض والسنن عند العلماء في الآثار فرأيت اجتماعا
واختلافا ووجدت جميعهم مجتمعين على أن علم الفرائض والسنن عند العلماء بالله وأمره وأن الفقهاء عند الله العاملين برضوانه الورعين عن محارمه المتأسين برسوله
المؤثرين الآخرة على الدنيا أولئك المتمسكون بأمر الله وسنن المرسلين فالتمست من بين الأمة هذا الصنف المجتمع عليهم والموصوفين أقفو آثارهم وأقتبس من علمهم فرأيتهم أقل من القليل ورأيت علمهم مندرسا كما قال رسول الله ما ه بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
L
وهم المنفردون بدينهم فعظمت مصيبتي بفقد الأدلاء الأتقياء وخشيت بغتة الموت أن يفاجئني على اضطراب من عمرى لاختلاف الأمة فانكمشت في طلب عالم لم أجد لى من معرفته بدا لم أقصر في الاحتياط ولم أن فى النصح
فقيض لى الرءوف بعباده قوماً وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة
على الدنيا
ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى ووجدتهم مجتمعين على نصح
الأمة لا يرجون أحدا في معصيته ولا يقنطون أحدا من رحمته يرضون أبدا بالصبر على البأساء والضراء والرضا بالقضاء والشكر على النعماء يحببون الله تعالى إلى العباد بذكرهم أياديه وإحسانه ويحثون العباد على الإنابة إلى الله
تعالى
علماء بعظمة الله تعالى وعظيم قدرته وعلماء بكتابه وسنته فقهاء في دينه علماء بما يحب ويكره ورعين عن البدع والأهواء تاركين التعمق والإغلاء مبغضين للجدال والمراء متورعين عن الاغتياب والظلم والأذى مخالفين لأهوائهم محاسبين لأنفسهم مالكين الجوارحهم ورعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم مجانبين للشبهات تاركين للشهوات مجتزئين بالبلغة من الأقوات متقللين من المباح زاهدين في الحلال مشفقين من الحساب وجلين من المعاد مشغولين بشأنهم مؤثرين على أنفسهم من دون غيرهم لكل
شأن امرئ منهم
يغنيه
۱۰
وقال النبي إن الله لا يمل حتى تملوا وقال القصد والدوام وقال سلمان شر السير الجفجفة لا تبغض إلى نفسك عبادة الله عز وجل وقد يكون فى البر ويعرض له فضول من المباح كالرجل يكون ذاكرا الله عز وجل بلسانه بقراءة قرآن أو تسبيح فتدعوه نفسه إلى كلام الفضول استراحة منها إلى محادثة الناس والخوض فيما لا يعنيه فيترك الذكر ويخوض فى الفضول وكالرجل الجالس في المسجد أو في ذكر الله عز وجل مع غيره فيعرض له النظر إلى ما يشتهى من المباح أو السمع فيقطع ماكان فيه وينظر ويسمع أو يقوم إلى ما يريد أن ينظر إليه أو يسمعه وقد آثر هواه في هذا الموضع على طاعة غلطا الله عز وجل منه وقد يكون فى الصلاة فيذكر صاحباً يستريح إلى حديثه ولا يأمل عنده منفعة إلا أنه لا يخوض معه فى الحرام فيقطع الصلاة ويذهب إليه خدعة من النفس وهربا من العمل وقد يكون العبد في عمل من أعمال البر أو يكون قد نوى الدخول فيه فتدعوه نفسه إلى قطع ذلك لشهوة معصية عرضت كالرجل يكون ذاكرًا بلسانه أو يكون صامتاً على عزم يريد به السلامة فيعرض ذكر الغيبة فيمن هو مغتاظ عليه أو فيما يعجب منه أو يعجب منه غيره فيخرج من الطاعة إلى المعصية وكذلك يعرض له الاستهزاء بغيره والحديث بالكذب لمزاح أوجد وكذلك قد يكون في ذكر أو صلاة فيستمع إلى ما لا يحل له أو ينظر إلى ما لا يحل
فيقطع ما هو فيه ويصير إلى المعصية أو يمكث فيما هو فيه ويخلط الطاعة في المعصية وكذلك قد يكون متفكرًا في الآخرة فيعرض له نيَّة في معصية أو تمن لها أو فكرة فيها فيفكر أو يتمنّى أو يشغل قلبه بالنية فيها ويدع ماكان فيه من ذكر الآخرة وكذلك يكون في الفرض فيخرج منه إلى معصية أو مباح فيعصى معصيتين بقطعه للفرض وإتيانه المعصية وهذا شر أحوال العبد فالعبد المريد المعنى بنفسه المؤتم بكتاب ربه عز وجل وسنة نبيه همته محاسبة نفسه ليميز بين خطراته أيها الله عزّ وجلّ رضى أو أيها الله عز وجل
سخط
قلت أجمل لي في علل ذلك كله الجملة مختصرة لأفهمه قال إذا عرض له أمر مما أمر الله عزّ وجلّ به أو ندب إليه نظر في ذلك حتى يؤديه كما أحب الله عز وجل وأوجب فإذا عرض لك أمران واجبان فابدأ بأوجبهما وإن عرض له واجبان الأحدهما وقت يفوت والآخر لا يفوت وقته بدأ بما يفوت وقته فيقدم ما قدَّم الله ويؤخر ما أخر
الله عزّ وجلَّ وإن كان فى فرض فعرض له فرض دونه لم يخرج إليه فيكون عاصيا بتركه ما أوجب الله عزّ وجلَّ عليه بعدما دخل فيه وإن عرض له فرض أوجب مما هو فيه قطعه ولا يمكث فيما هو دخل فيه فيكون عاصيا الله ثم كما كتبت لك بابا بابا وكذلك لا يدع الفرض للنافلة وكذلك يعمل فى النافلة الأفضل فالأفضل على ماكتبت لك قلت فإن عرض أمران واجبان أو فضلان فلم يتبين أيهما أوجب أو أفضل قال ينظر أيهما أخف على قلبه فإن كان أخفَّ من قبل الهوى أتى الذى ثقل لأنه لا يؤمن عليه أن يعمل الذي خف عليه لهوى نفسه لا لربه عزَّ وجلَّ وإن كان أخف عليه لأنه أسلم أو القلب فيه أزيد عملا - وما أقل ذلك إلا من قلوب الصادقين الأقوياء - أتى الذى هو أخف لأنه لأن يعبد الله عزّ وجلَّ بنشاط الطاعة أفضل من أن يعبده بكراهة ومكابدة ولا يؤمن عليه أيضًا الملال والشغل عن الله عزَّ وجلَّ فيه وأيضًا إذا هو أقل سلامة وأقل زيادة في القلب لم يؤمن عليه ألا يسلم فيه وإن سلم لم يزدد فى قلبه كما يزداد في الذى قد نشط له القلب وفرغ له وإن لم يتبين له لم خف عليه أو لم ثقل فأحبُّ إلى أن يأتي الذي هو أثقل لأنه لم يتبين له أن الخفة إنما كانت من قوة قلبه وطلبه السلامة والزيادة في العمل فهو إلى الهوى أقرب منه للخشية لما جرب العُمَّال من أنفسهم ولما طبعوا عليه من خفّة ما وافق شهواتهم من الدنيا وثقل ما نافر هواهم
من عمل الآخرة ولقوله عز وجل
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرًا ۱ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لكُمْ الآية فرجانا الخير فى المكروه وخوفنا الشر فى المحبوب ولو شاء جلَّ ثناؤه لقال عسى أن تحبوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو شر لكم ولكن نبهنا لما هو أغلب علينا ولما بنانا عليه وطبعنا وهوا و أعلم بنا فمن أجل ذلك اخترنا للعامل أن يجانب ما خف عليه تحرزا وخوفًا لما خوفنا ربنا جل وعلا فإن استويا فى الخفّة فلم يقدر أن يعرف أخفها أو استويا في الثقل فلم يقدر أن يعلم أيهما أثقل فإنه لا يؤمن أن يكون له في أحدهما هوى غامض بهيج عند مباشرته أو يعرفه بعد تقضيه وفراغه منه فليعرض نفسه حينئذ على الموت أيهما يحب أن يأتيه الموت وهو عليه
٠٢١٦
14 1
١٠٤
فإن النفس المؤمنة وإن كانت غافلة عاصية لا تتمنّى لقاء الله عزّ وجل ولا تحبه إلا على الخير الصافي الذي ترجو أن ينجيها من عذاب الله عز وجل ويدخلها جنّته لأنه لا هوى لها عند الموت في الدنيا إنما هواها في الدنيا مادامت حية فإن وجد نفسه تجزع أن يأتيها الموت وهى عاملة بأحدهما ولا تجزع أن يأتيها عند الآخر فلينظر لم جزعت فإنه لا يكاد يخفى عليه حينئذ إذا ردَّ عليها فقال لِمَ خف عليك الموتُ عندها وجزعت من نزوله وأنت بهذا عاملة فإنها إن شاء
الله سترجع إليه فتقول لكذا وكذا فليأت حينئذ الذي لا يكره الموت من تسمع قوله عز وجلّ وقَالَتِ اليَهُودُ والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله
فقال الله عز وجل فتمنوا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ١
أجله
أى من كان منكم على أمر يثق به لم يبال أن يأتيه الموت وهو عليه فقال عز وجل إن كنتم
أوليالي
فهم
فَتَمَنُوا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
ثم قال جل ثناؤه وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
أي لما عرفوا مما عندهم مما لا يرضى الله عز وجل به وما أسلفوه من الذنوب غير تائبين منه
عليه بعد
وقال ابن عباس لو تمنوا الموت لماتوا وقال ابن جريح في قوله تعالى بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لما عرفوا أن محمدا مال حق فكتموه وكذبوا بالحق قال قتادة لأنه تلا عليهم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ٢
وقال إن الله عز وجل أذل ابن آدم بالموت رفعه إلى النبي الله فالمؤمن أولى أن يجزع مما يكرهه الله عز وجل أن يأتيه الموت عليه
وقال بعض العلماء انظر كل أمر تكره أن يأتيك الموت عليه فاتركه فإن لم يدر لم جزعت نفسه فليأت ما لم تجزع النفس لأنها لم تجزع إلا لبلية وإن سترها الهوى عنه وما يكاد يكون ذلك وإن لم تبال على أيهما أتاه الموت فليبدأ بأيهما شاء فإنه قد وزن العمل قبل أن يوزن وعرضه قبل أن يعرض وفتش من نفسه قبل أن يفتش والموت معيار العابدين فيما يُشكل عليهم
۸ ۱
1 1
100
من همومهم في أعمالهم ويبين الاستعداد له كلما خفى عليهم من قصد ضمائرهم وأهوائهم في أعمال جوارحهم لأنهم لا يستعدون لمن يعلم السر ولا يخفى عليه غوامض الصدور إلا بما لا خدعة فيه ولا التباس
قلت أجمل لى جمله الأولى فالأولى مما هو أوجب وأفضل بعد تفسيرك هذا لأحفظه
مختصرا
مع
ما عرفتني مفسرا
قال إذا عرض للعبد أمران واجبان في وقت واحد بدأ بأوجيهها قبل الآخر الذي هو دونه في
الوجوب
أو عرض له واجبان لأحدهما وقت يفوت والآخر لا يفوت وقته بدأ بما يفوت وقته قبل
الآخر
فإن كان فى فرض فعرض له فرض دونه لم يخرج منه إلى ما هو دونه حتى يتمه فإن كان في فرض فعرض له فرض أوجب منه قطع ما هو فيه ودخل في أوجبها وإن عرضت له نافلة وهو في واجب لم يقطعه من أجلها
وكذلك الفضل والتطوع يبدأ بالأفضل فالأفضل كما كتبت له وعلى قدر الأوقات
١٠٦
!
باب منازل أهل الرعاية لحقوق الله تعالى
قلت فأهل الرعاية الحقوق الله عزّ وجل والقائمون بها في منزلة واحدة أو في منازل شتى قال في منازل شتى وهى سبع منازل
فأول منازل الرعاية في حقوق الله عز وجل عند الخطرات على العلل والأسباب والأوقات والإرادات والوجوب على ما ذكرت لك ثم أهل المنزلة الثانية الذين أغفلوا الرعاية عند الخطرات في أعمال القلوب مما ليس للبدن فيه عمل حتى جالت قلوبهم بالفكر فيماكرة الله عز وجل ثم تيقظوا قبل أن يعتقدوها بقلوبهم ففزعوا وصرفوا قلوبهم عن ذلك وأهل المنزلة الثالثة الذين أغفلوا الرعاية والمراقبة عند الخطرات وعند الفكر في أعمال قلوبهم حتى اعتقدوا ماكره الله عز وجل من أعمال قلوبهم مما لا عمل للبدن فيه مثل العجب والكبر والحسد والشماتة وسوء الظن وما أشبه ذلك والبدعة ثم تيقظوا وفزعوا وذكروا الله عز وجل فندموا وخلوا ما عقدوا عليه من ذلك بالتوبة إلى الله عز وجل وأهل المنزلة الرابعة الذين أغفلوا المراقبة الله عز وجل والرعاية لحقه حتى هموا وعزموا أن يأتوا ماكره الله عز وجل بجوارحهم ثم تيقظوا ورهبوا فندموا على ما أضمروا وخلوا ما عليه عقدوا بضمائر قلوبهم وأهل المنزلة الخامسة الذين أغفلوا مراقبة الله عزّ وجل وتقواه حتى ابتدءوا بالعمل بجوارحهم بماكره الله عزّ وجل من لحظة بعين أو إصغاء بأذن أو مد بيد أو خطوة برجل ثم تيقظوا وفزعوا وخافوا الله عز وجل قبل أن يتمُّوا ماكره الله عز وجل من العمل كالعين يلحظ بها ثم يذكر اطلاع الله عز وجل عليه وأن الله يسائله عنها أو يخاف أن يغضب عليه فيصرف بصره قبل أن يستتم من النظر ما أراد وأحب وكذلك يصغى بسمعه ليستمع إلى ما يكره الله عز وجل ثم يذكر الله عز وجل فيصرف سمعه عن ذلك ويترك ما أحبت نفسه خوفا من الله عز وجل من قبل أن يستتمه وكذلك يبتدئ بالقول باللسان ثم يذكر الله عز وجل فيقطع كلامه ولا يتم ما أراد منه وكذلك يمد اليد ثم يذكر الله عز وجل فيكفها عما كره الله
١٠٧
عز وجل قبل أن يستم ما أراد وكذلك يخطو بالقدم ثم يذكر الله عزّ وجل فيقف ويترك المشى إلى ماكره الله عز وجل قبل أن ينال تمام ما أراد من ذلك لعلمه بعلم الله عز وجل
ونظره إليه فإن ذلك عليه محصى لأنه قد سمعه يقول ره وانية وفاة والتفي بال وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنِ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ۱ مسيحذرهم اطلاعه ويبعثهم سم على الحياء منه والهيبة والإجلال له والرهبة منه ثم قال إذ
تفيضُون فيه روى عن الحسن أنه قال في تفسير ذلك حين تبدأ فى العمل يراك الله عز وجل فأخبرنا أنه يعلم ما نعمل ويرانا حين نبتدئ فيه وقبل ذلك ولكن أراد أن يُستحى منه لعلمه بذلك فلا تفيض فيماكره فإن أفاض فيه ثم ذكر اطلاعه ترك ما هو فيه قبل أن تستتم خوفاً منه وحياء وإجلالا له عز وجل ليس كمثله شيء ولا نظير له ولا شبيه وأهل المنزلة السادسة الذين أغفلوا مراقبة الله عز وجلّ وتقواه حتى استتموا ماكره الله عزّ وجلَّ من العمل وفرغوا منه ثم فزعوا وندموا فتابوا إلى الله عزَّ وجلَّ وأقلعوا ولم يصروا على شيء مماكره الله بعد ما تيقظوا فعلموا أنهم أسخطوا الله عزّ وجلَّ بما قد فعلوا وتعرضوا وأهل المنزلة السابعة الذين أغفلوا رعاية حقوق الله عزَّ وجلَّ حتى فرغوا من الأعمال التي يكرهها الله عز وجل ثم فزعوا عند بعضها فأقلعوا عن بعضها وأقاموا على بعضها ولم تسخ أنفسهم بالتوبة وقد يفزعون من العمل الواحد فيدعون بعضه خوفًا من الله عزّ وجلَّ ولا تطيب أنفسهم بالتوبة من بعضه كالرجل يأتى العمل من أعمال السلطان من الجباية والكتابة وغير ذلك فيظلم فيه ثم يفزع وينوى ألا يظلم أحدا ولا تطيب نفسه بترك ديوانه ولا ولايته أو كالرجل يشرب المسكر مع الفجور أو ضرب العيدان والغناء أو يشرب بضرب العود والغناء ولا فجور فيه ثم يفزع من ذلك فيندم على الضرب بالعود والغناء ولا يندم على شرب المسكر ولا يصبر عنه ولا يقوى على تركه ولعله يتأول فى استحلاله وكذلك يشربه فيترك الصلاة فيندم على ترك الصلاة وينوى ألا يشربه إلا فى وقت لا ندركه فيه الصلاة أو يشرب فيسكر م منه فينوى أن يشربه ولا يكثر منه وشربه عنده حرام ولكن لا يقوى على أن يعزم على تركه كله وكذلك يغضب فيغتاب من يغضب عليه ويكذب عليه ثم يندم فينوى ألا يكذب عليه ويستعظم
١ ١٠ ٦١
۱۰۸
الكذب ولا تطيب نفسه بأن يقلع عما يعلم منه من الذنوب لأنها وإن كانت غيبةً فقد قال حقا
ولم يقل كذبًا فلا تطيب نفسه من التوبة من الغيبة له ويعزم ألا يكذب عليه ولا على أحد وكذلك يغتابه ويقذفه ثم يندم على القذف أو ذكر والديه ولا يندم على الغيبة وكذلك يصارمه
ويقع فيه فيتوب عن أن يذكره بسوء ولا يقوى على أن يترك مصارمته حقدًا وأنف أن يبدأه بالصلح والكلام والسلام وكذلك يعمل من التجارة بما لا يحل له كالربا والكذب في المرابحة أو في مدح سلعته أو ذم سلعة غيره فيتوب من الربا والكذب ولا يتوب من المدح والذم فقد
6
راقب الله عز وجل ورعى حقوقه فى التوبة فى بعض ما يكره الله عز وجل وضيع الرعاية في بعض ماكره الله عز وجل حتى أقام عليه ولم يقلع
عنه
۱۰۹
باب بيان منازل المصرين المقيمين على الذنوب وذكر ما يبعثهم على التوبة وقطع التسويف
قلت فما منزلة من لم تطب نفسه أن يقلع عنه ولا يتوب وغلبته نفسه قال أولئك في ثلاث منازل فأهل المنزلة الأولى مقيمون على الذنوب طالبون للتوبة على غير حقائقها ولا استمام طلبها يبكون ويتضرعون ويتفكرون فى الوعيد والعذاب رجاء أن تسخو نفوسهم بالتوبة ويأتون مواضع الذكر فيتفكرون فيما يسمعون أو لا يأتون مواضع الذكر ولكن يتفكرون فيبكون ويتضرعون فيملون ولا يدمنون على التخويف لأنفسهم إلى وقت هيجان الخوف المنقص لهم لذات ذنوبهم فلا يدمنون على ذكر إدمانا يبلغون به من الخوف ما يبعثهم على التوبة وتسخو أنفسهم بترك المعصية لأن النفس والعدو إذا أدمن العبد في طلب الخوف دعواه إلى الملال والسامة والإعراض عن الفكرة فتستثقل النفس ذلك لما غمها من الخوف ولما تخاف من تنغيص لذتها عليها فإن كان عبدا عاقلا عازما لم يمل وأدمن الفكر حتى يقوى منه الخوف ويترك ماكره الله عز وجل ويقطع التسويف للتوبة وأهل المنزلة الثانية ليسوا بأصحاب فكرة لطلب الخوف ولا تسخو نفوسهم بذلك إلا أنهم يكرهون ما هم فيه ويختمون لذلك ويسألون الله عز وجل النقلة ولا ينوون المقام على الذنوب حتى يموتوا ولكن يسوفون التوبة ويضربون لها الآجال كرجل يقول حتى أ أتخذ معاشاً يقيمني ويكفيني من غلة أو مالا للتجارة أو كرجل يقول حتى يموت عيالى لعلهم إن يموتوا فأترك ما أنا فيه لأنى لا أقوى على التوبة مع العيال أو حتى يموت والدى أو حتى أخرج من هذه البلدة لأنى لا أسلم فيها ولا أقوى على ترك مخالطة الناس ولا ترك الاكتساب فيما لا يحل فهذه الفرقة تقيم على المعاصى وتسوّف التوبة ولا توجه لطلب الخوف ولا تقوى
عليه
وأهل المنزلة الثالثة أهل العمى والجهل والشرود على الله عز وجل مقيمون على الذنوب
مغتبطون بما هم فيه من لذاتهم لا يحدثون أنفسهم بالتوبة ولا يسوفونها فمنهم شبيه باليائس أ
أن
يتوب لما هو فيه من غلبة المعاصى ومن سوء الغداء ولعل كل ما هو فيه خبيث حرام أو لما جنى من الجنايات التي لا يقوى على الخروج منها كغضب الأموال وما أشبه ذلك ومنهم من يخيل إليه أن ذنبه ليس بعظيم وأنه أمر هين لأنه خير فيما يرى ممن هو أعظم ذنبا منه فلا يحدثون أنفسهم بالتوبة ولا يضربون لها أجلا بالتسويف فهؤلاء شرار المسلمين وفساق
الموحدين
قلت فأهل المنزلتين الأوليين قبل هؤلاء الذين يقيمون على بعض ويقلعون عن بعض والذين يقيمون على الكل وكلاهما يجب التوبة ويسوّفها فهما أقرب إلى التوبة ومطالبتها أيسر من هذه الفرقة الثالثة فيم يقطعان جميع التسويف
عليهم
قال الذى يقطعان بإذن الله التسويف به خلتان
إحداهما خوف المعالجة بالموت أن يكون أجل الله عز وجل فى روحه قبل الأجل الذي أجل هو لتوبته فيموت بحسرته لم يبلغ أمله ولم يتب من ذنبه فلا إلى الله عز وجل تاب ولا بلغ من لذته ما أراد فمات بغصة الدنيا والآخرة
والخلة الثانية خوف أن يضرب الله عز وجل قلبه بعقوبة مانعة له من التوبة من القسوة والرين أو الطبع أو المرض أو الإقفال ويكون أجله مع ذلك مؤخرًا فيطول عمره بالسكرة والحيرة فيكون إنما يُملى له ليزداد إثمًا فإذا خاف ذلك بادر بالتوبة خوفًا أن يبادر بالموت فيموت مصرا على ماكره الله عز وجل ويبادر بالتوبة خوفًا أن تحل عقوبة الله عز وجل بقلبه فيبقى فى الدنيا حيران يزداد إثماً فإذا لم يأمن من معالجة بغتة الموت أو معالجة العقوبة بالقسوة خشى أن يؤخرها ساعة فتقع بإحدى هاتين الخلتين فالخوف لهما قاطع للتسويف لأنه إذا قوى الخوف من المعالجة ضعف التسويف وإنما يقوى التسويف إذا ضعف الخوف وضعف التسويف إذا قوى الخوف والتسويف قاطع عن العمل تسمع قول شداد بن أوس رضي الله عنه أنذركم سوف وقيل لرجل من عبد القيس عند الموت أوصنا ا فقال أنذركم سوف
ألم
وروى ابن المبارك حدثنا أن عامة دعاء أهل النار يا أف للتسويف ذلك فإن المسوف للتوبة لن يعرى من ثلاث خلال أن يقطعه الموت عن الأجل الذى ومع أجله للتوبة أو يبلغ إلى الأجل الذى أجله للتوبة فيبقى مقيماً على معصية ربه جل وعز فقد غدرًا وخلفاً وكذبًا لربه فما وعده وأعطاه وفى معصيته التي كان عليها مقيماً فوعد ربه جمع
۱۱۱
إن بلغه ذلك الأجل ليتوبن إليه فبلغه فلم يقلع عن ذنبه فازداد غدراً وخلفًا لما وعد ربه جل وعلا لأنه وعد ربه إن بلغ الوقت الذى أجل توبته إليه لينزعنَّ عن ذنبه إليه ولا يعود إلى ماكره الله وأخلف الوعد وأصر على الذنب والخلة الثالثة أن يبلغ إلى الوقت الذى سوف إليه التوبة فيمن عليه بالتوبة فيتوب إلى مولاه عزّ وجل فهذا خير أحواله فلن ينفك وإن تاب إلى ربه من ضرر التسويف إذ لا نجاة له من الله عزَّ وجل أن يَقِفَه ويسأله عن ذنبه وإصراره عليه أيام تسويفه وإن لقيه تائبا مغفورا له فلابد أن يسأله عن تلك الأيام التي كان فيها مذنبا مصراً إلى أن بلغ وقت التوبة الذي سوف التوبة إليه فكأنه عبد قيل له تب إلى الله عز وجل واترك المعاصي فقال أنا تائب لا محالة وتارك لذاتي إلا أنى مقيم على الذنب إلى وقت كذا وكذا ليكون أيام تأخيرى للتوبة إلى ذلك الوقت على فيه المسألة والتوقيف من الله عز وجل فهذا مثله أن لو قال هذا ما كان إلا كمعناه في تأخير التوبة لأنه إن كانت نفسه قد سخت صادقة بترك لذاتها إذا جاء الأجل الذى أجله للتوبة فكيف لا يدع لذته من الآن فلا يكون عليه السؤال في أيام تأجيل التوبة إذ هو تارك للذة عاجلا أو آجلا منغص على نفسه لذتها فتركها بزوال السؤال عنه أولى من تركها باكتساب كثرة السؤال فإذا كان تاركا لذته لا محالة فليربح زوال السؤال عنه من الله عز وجل أيام الإصرار فليوبخ نفسه على ذلك إن كان الأمر على ما ذكرت وكيف له بهذه الحال أخاف أن يكون أحد الحالين الآخرين أغلب عليه فأحد الأحوال الثلاثة لا يُقيم معها عاقل على التسويف إذا وبخ نفسه عليها بما ذكرت لك من سؤال الله عز وجل إياه عن أيام الإصرار فكيف إذا خاف الحالين الآخرين فهذه الأحوال ما يقيم معها عاقل على الإصرار إذا خافها فإذا عقل ذلك استعد بالتوبة إلى ربه مخافة أن يبغته الموت على ذنبه لأن ليس عنده أمان من الموت أن يأتيه بغتة وهو مقيم على ما يسخط الله عز وجل عليه فيلقاه وهو غضبان عليه فليس يقيم على ذلك عاقل إذا خاف معاجلة الموت إذ لا أمان عنده منه وإذ يخاف في
مجيئه بغتة لقاء الله عز وجل وهو عليه غضبان فلا يرضى بهذه الحال عاقل مشفق على بدنه من عذاب الله عز وجل
ألم تسمع قول عبد الرحمن بن يزيد حين قال لرجل وعظه فقال له يا فلان هل أنت
على حال ترضى فيها الموت قال لا
علماء بأمر الآخرة وأهاويل القيامة وجزيل الثواب وأليم العقاب ذلك أورثهم الحزن الدائم والهم المضنى فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها ولقد وصفوا للآداب صفات وحددوا للورع حدودًا ضاق لها صدري وعلمت أن آداب الدين وصدق الورع بحر لا ينجو من الغرق فيه شبهى ولا يقوم بحدوده مثلى فتبين لى فضلهم واتضح لى نصحهم وأيقنت أنهم العاملون بطريق الآخرة والمتأسون بالمرسلين والمصابيح لمن استضاء بهم والهادون لمن استرشدهم فأصبحت راغبا في مذهبهم مقتبساً من فوائدهم قابلا لآدابهم محباً لا أعدل لطاعتهم شيئًا ولا أوثر عليهم بهم
4
أحدا
ففتح الله لى علما انفتح لى برهانه وأنار لى فضله ورجوت النجاة لمن أقر به أو انتحله وأيقنت بالغوث لمن عمل به ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه ورأيت الرين متراكما على قلب من جهله وجحده ورأيت الحجة البالغة لمن فهمه ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجبا
على
فاعتقدته فى سريرتى وانطويت عليه بضميرى وجعلته أساس ديني وبنيت عليه أعمالى وتقلبت فيه بأحوالى
وسألت الله عز وجل أن يوزعنى شكر ما أنعم به على وأن يقوينى على القيام بحدود ما عرفني
به مع معرفتى بتقصيرى فى ذلك وأنى لا أدرك شكره أبدا اهـ ووجد المحاسبي نفسه حينئذ في معسكر أهل السنة على وجه العموم وفى تيار الصوفية منهم
على وجه الخصوص
ولم يكن المحاسبي ذا طبيعة سلبية فكان لابد من أن يدخل المعركة ودخل المعركة في قوة
قوية مسلحا بالعلم والتقوى
كتبه
ومن أجل ذلك كان ذا أثر مزدوج
لقد أثر باعتباره قدوة وأسوة وأثر باعتباره عالماً باحثا
وأثره كعالم كان يظهر في دروسه ومناقشاته ويظهر في كتبه
أما كتبه فإنها من الكثرة بحيث قدرها بعضهم بمائتى مصنف حسبما روى السبكي في طبقات الشافعية والمناوى فى الكواكب الدرية
۱۱
قال فهل أجمعت للنقلة إلى حال ترضى فيها الموت
فقال لا ما سخت نفسى بذلك بعد
قال فهل بعد الموت دار فيها مستعتب
قال لا
قال فهل تأمن بغتة الموت
قال لا
قال ما رأيت مثل هذه الحال رضى بها عاقل وصدق رحمه الله وكيف يكون عاقلاً عن الله عز وجل من يقيم على ما يغضب الله عز وجل عليه ولا يأمن الموت أن يفجأه على غفلة ثم لا مرجع له إلى الدنيا فيعتب ربه جل وعز ويترضى مولاه ! ! وقد أخبرنا الله عز وجل نصحاً لنا وتحذيراً بندم النادمين عند الموت لئلا نكون نحن النادمين على ما فرطنا المسائلين عند الموت المرجع للإنابة والتوبة والرجوع عماكره الله عز وجل فلا نُجاب إلى ذلك فتترك بحسراتنا ولا يقبل منا الندم فلا يجاب منَّا النداء
قال الله عز وجل حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ قال الله عز وجل كَلاً إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١ وفي التفسير عن مجاهد البرزخ حاجز بين الدنيا والآخرة محتبس فيه الميت إلى يوم البعث
والنشور فأخبرنا الله عزّ وجل أنه لا ينفعه سؤال الرجعة وأنه محتبس في البرزخ حتى يبعث منه إلى الهلكة يحذرنا تبارك وتعالى أن نغتر بالدنيا ولا نستعد للقائه فيأتينا الموت بغتة فننادي بالحسرة فلا تُقَالُ العثرةُ ولا تُمكن الرجعة وينيهنا على أن نتوب ما دامت التوبة مقبولة والعثرة مقالة والدعاء مجابًا لنكون للقائه جلّ وعلا مستعدين ولنزول الموت مراقبين
۱۰۰ ۹۹ ۳ ۱
باب الاستعداد للموت وقصر الأمل
قلت أخبرني عن الاستعداد ما هو قال الاستعداد على وجهين
أحدهما واجب وهو الذى تأسف عليه النادمون عند الموت وهو أن يتوب العبد توبة طاهرة عن الذنوب والخطايا بأن لو قيل له إنك تموت الساعة ما وَجَدَ عنده ذنبا يحتاج إلى التوبة منه فيسأل النظرة من أجله فإن كان يجد عنده ذنباً يحتاج إلى التوبة منه فلم يستعد للقاء ربه عزّ وجل لأنه لا يؤامر في إخراج روحه والموت يأتيه بغتة فإن جاءه الموت وذلك الذنب عنده لم يأمن أن يغضب الله عزّ وجلَّ عليه وكيف يكون مستعدا للقاء الله عزَّ وجلَّ من هو مقيم على ما يغضب الله عزّ وجلَّ ولا يأمن أن يأتيه الموت أغفل ماكان والموت آتيه لا محالة فللخوف من لقاء الله عز وجل على ما يكره بادر الخائفون بالتوبة قبل أن يسبقهم الموت إلى أرواحهم فيحال بينهم وبين التوبة والإنابة إلى ربهم ويندموا ندما لا يُقبلُ ولا تُقَالُ عثراتهم فلذلك بادروا بالتوبة حذرًا وإشفاقا من بغتة الموت على غرَّة فهذا هو الاستعداد الذي أوجبه الله عزّ وجل على خلقه
والوجه الثاني من الاستعداد هو نافلة كبذل المجهود من القلب والبدن وبذل ما تملك من الدنيا إلا ما كان أولى به حبسه حتى لو قيل له إنك تموت غدًا ما كان عنده مستزاد في عمله كما روى عن منصور بن زاذان أنه كان يجتهد اجتهادا لو قيل له إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد فى عمله فهذا الاستعداد يستحق الله عزَّ وجلَّ من خلقه أكثر منه لأن حقه لا يؤدى ونعمته لا تكافاً وعظمته لا عدل لها ولن يبعثك على الاستعداد للموت وقطع التسويف مثل قصر
الأمل قلت بم بنال قصر الأمل
قال بخوف المعاجلة ببغتة الموت على غفلة لأن روح العبد عارية لا يدرى متى يُرسل المعير له فيأخذ عاريته فإذا خاف المعاجلة انقطع فى الدنيا أمله وانتظر وبادر فيها أجله وكان مرتقباً لنزول الموت
قلت يم ينال خوف المعاجلة
١١٤
قال بعظيم المعرفة بإبهام الأجل وأن المؤجل لا يناظره ولا يؤامره ولا يؤذنه إذا أراد إخراج روحه من بدنه بالاعتبار بالأموات قبله
قلت قيم تنال هذه المعرفة وهذه العبرة
قال بإدمان الذكر والفكر في إبهام الأجل ونزول الموت حين حلوله وانقطاع العمر وذكر الأموات الذين أتاهم الموت بغتة
قلت كيف إيهام الأجل حتى أتفكر فيه بمعرفة لتعظيم معرفتى بذلك قال أما تعلم أن الموت ليس له وقت عند العبد معلوم فيُخَافُ في ذلك الوقت ويؤمن في سائر الأوقات ليس ينزل بالعباد فى الشتاء دون الصيف فيخاف من الشتاء ويؤمن في الصيف أو يحل بالعباد فى الصيف فيؤمن فى الشتاء أو فى شهر فى السنة معلوم فيؤمن في سائرها أو بالليل فيؤمن بالنهار أو بالنهار فيؤمن بالليل أو بالغداة فيؤمن بالعشى أو بالعشى فيؤمن بالغداة أو فى ساعة دون ساعة وليس له وقت من العمر معلوم فيأخذ أبناء عشرين فيأمنه أبناء دون ذلك أو يأخذ أبناء ثلاثين فيأمنه أبناء عشرين وليس له علة معلومة دون علة كالحمى أو البطن أو الهدم أو الغرق أو بعض الأسباب التي يكون فيها التلف فحق على العاقل العالم بأمر الله عزّ وجلَّ إن كان الموت ليس له وقت معلوم من العمر ألا يأمنه في وقت من الأوقات وإذا كان ليس لتزوله وقت معلوم من العمر ألا يأمنه ألا يأتيه في صغر أو كبر أو شباب أو هرم وإذا لم تكن لـه عـلـة مـعـلـومة ألا يأمنه في صحة ولا سقم ولا في حضر ولا في سفر ولا في مصر ولا فى بدو ولا فى بر ولا فى بحر فمن ذكر الموت بفراغ قلبه من كل شيء إلا من ذكره إذ لا وقت له ولا علة ولا عمر معلوم مع ذكره عظيم مايأتى به الموت من البشرى بعذاب الله أو برحمة الله عزَّ وجلَّ مع الاعتبار بالذين مضوا قبله ممن هم فوقه ودونه وأشكاله وأمثاله عظمت معرفته بالموت وفجأة الموت وأنه نازل به كما نزل بمن مضى قبله لا محالة فإذا عظمت معرفته بذلك قصر أمله فإذا قصر أمله حذر قلبه من الموت فإذا حذر قلبه من الموت ارتقب الموت فإذا كان للموت مرتقباً سارع إلى الاستعداد له والاستباق إلى الخيرات قبل أن يسبقه إلى روجه مالكها وكذلك يروى عن على بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال من ارتقب الموت سارع إلى الخيرات وروى عن على أيضًا أنه قال إنما يهلك اثنتان الهوى وطول الأمل فأما الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة
١١٦
باب ما يهيج على معرفة كراهية الموت وكربه
وأما ما يهيج على معرفة كراهيته وكربه وما يتغشاه من هوله فإن ابن آدم إنما يألم من كل موضع من جسده إن أصابته شوكة فما فوقها وجد الألم بروحه ولولا ذلك ما وجد ألما ألا تراه إذا خرج الروح منه لو حرق بالنار ما وجد لذلك ألما فإذا كان البدن إنما يألم بالروح فما ظنك بالروح إذا كان هو المجذوب من كل عرق ومفصل وأصل كل شعرة وبشرة من أ
وأسفله
بدنه وجميع
أعلاه
فلا تسأل عن اليه وكربه ووجعه وقد يروى أن الموت أشدُّ من ضرب السيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأن ضرب السيوف ونشر المناشير إنما يؤلم البدن بالروح فإذا كان الروح هو المباشر بالأخذ والجذب فذلك أشدُّ ألما ووجعاً وإنما صار المضروب بالسيف وغيره يستغيث ويصيح لأن القوى بعد فيه باقية واللسان مطلق وإنما انقطع صوت الميت لأن الكرب قد تبالغ فيه وتصاعد وغلب على كل موضع فهد كل قوة وكسر كل جارحة وتغشى العقل وقلص اللسان وأبكمه فإن فضلت فيه فضلة قوة سمعت له خوارًا لجذب روحه وأنينا وغرغرة بروحه في حلقه قد تغير لذلك لونه حتى ظهر منه أصل طبعه الذى منه خلق وعليه طبع فرأيت كالتراب على وجهه قد تغير لذلك لونه وجذب كل عرق منه على حياله حتى ترتفع الحدقتان إلى أعالى الجفون ويقلص اللسان إلى أصله وجفت الشفتان وقلصتا وارتفعت الأنثيان إلى الحالبين ومن المرأة الثديان حتى لا يبقى إلا أقلها وجفت الأعصاب ويبست
فلا تسأل عن بدن مجدل تجذب عروقه وأعضاؤه وبشرته ثم يموت عضوا عضوا على حياله فتخضر أنامله ثم تبرد قدماه ثم تبرد ساقاه ثم فخذاه بسكرات وكرب يتغشاه وكرب من بعد كرب وسكرة من بعد سكرة مع كل جذبة حتى بلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك تنقطع المعرفة عن الدنيا وأهلها ويزول عنه قبول التوبة حين تحضره الحسرة والندامة وكذلك يروى عن النبي لا أنه قال تقبل توبته ما لم يغرغر
وقال مجاهد في قوله عز وجل
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ للذِينَ يَعْمَلُونَ السَّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ۱
قال إذا عاين الرسل فعند ذلك تبدو له صفحة وجه مَلَكِ الموت فلا تسأل عن طعم مرارة الموت وكربه حين تبالغ فيه الكرب واجتمعت السكرات ويبين ذلك ما روى جابر بن عبد الله عن النبي لا في بعض الحديث و أن نفرا من بني إسرائيل مروا بمقبرة فقال بعضهم لبعض لو دعوتم الله عزّ وجل أن يخرج لكم من هذه المقبرة ميتا فدعوا الله عز وجل فإذا هم برجل خلاسي بين عينيه أثر السجود قد خرج من قبر من تلك القبور فقال يا قوم ماذا أردتم منى !! لقد ذقت الموت منذ خمسين عاما ما سكنت
تسألونه
مرارة الموت من قلبي !! وروى مكحول عن النبي عل الله أنه قال و لو أن ألم شعرة من شعر الميت وضع على أهل السموات والأرض لماتوا لأن فى كل شعرة الموت ولا يقع الموت بشيء إلا مات
ويروى لو أن قطرة من ألم الموت وضعت على جبال الدنيا كلها لذابت
وقد يروى یا خلیلی مت قال يا خليلي كيف وجدت الموت قال يا خليلي كسفود جعل في صوف رطب ثم جذب قال أما إنا قد هوناه عليك
أن الله عز وجل قال لإبراهيم لمامات يا خليلي مت یا خلیلی مت
وروى عن موسى أنه لما صار روحه إلى الله تبارك وتعالى قال له ربه يا موسى كيف وجدت الموت قال وجدت نفسى كالعصفور حيث يقلى على المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير
ويروى عنه
أيضًا أنه قال وجدت نفسى كشاة حية تسلخ بيد القصاب
ويروى عن النبي و أنه كان عنده قدح من ماء عند الموت فجعل يدخل يده في الماء ثم يمسح بها وجهه ويقول اللهم هون على سكرات الموت وفاطمة رضي الله عنها تقول واكرباه لكربك يا أبتاه وهو يقول لا كرب على أبيك بعد اليوم
وقال عيسى و يا معشر الحواريين ادعوا الله عز وجل أن يهون على هذه السكرة
يعني الموت فلقد خفتُ الموت مخافة أوقفنى خوفى من الموت على الموت
6
وقال عمر بن رزق الله لولا أنى أخاف أن يكون قسماً لا أبره لحلفت ألا أفرح بشيء من الدنيا حتى أعلم ما لي في وجه رسل ربي
١٨٤ 1
۱۱۸
فهؤلاء أولياء الله وأحباؤه لم تزل عنهم سكرات الموت وغمومه مع تهوينه على بعض فما ظنك بغموم الموت وكربه وشدته على المخلطين مع ما قد اجتمع عليهم من الحسرة والندامة والتأسف على ما قد فات حتى يبلغ منهم الكرب مداه وينتهى منهم منتهاه فعند ذلك يبدو لهم ملك الموت بصفحة وجهه وكذلك يروى في بعض حديث المعراج أنه قال للنبي الله وسأل ملك الموت عن ذلك فقال أمر أعوانى من الملائكة أن يعالجوا روحه حتى إذا بلغت الحلقوم بدأت لها فتناولتها منه با فما ظنك بالنظر إلى وجه ملك الموت إن كان من أهل الشقاوة والعداوة فلا تسأل وكراهة وجهه فعند ذلك تحس النفس بالبلاء والعطب والهلاك وقد روى عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما أن إبراهيم كان رجلا غيورا وكان له بيت يتعبد فيه فإذا خرج أغلقه فأغلقه ذات يوم فخرج ثم رجع فإذا هو برجل
في جوف البيت فقال
من
أدخلك داري
قال أدخلنيها ربها
قال أنا ربها
قال أدخلنيها من هو أملك بها منى ومنك
قال فمن أنت من
الملائكة
قال أنا ملك الموت
عن قبحه
قال يا ملك الموت هل تستطيع أن ترينى الصورة التي تقبض فيها نفس المؤمن قال نعم فأعرض عنى فأعرض عنه ثم التفت فإذا هو بشاب فذكر من حسن وجهه وحسن ثيابه وطيب ريحه فقال يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن عند الموت إلا صورتك كان حسبه ذلك ثم قال يا ملك الموت هل تستطيع أن ترينى الصورة التي تقبض فيها نفس الفاجر
قال لا تطيق ذلك
قال بلى
قال فأعرض عنِّى فأعرض عنه قال ثم التفت فإذا برجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه ومناخره لهب النار والدخان فغشى على إبراهيم ثم
۱۱۹
أفاق وقد عاد ملك الموت عليه السلام لصورته الأخرى فقال إبراهيم علي يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلا صورة وجهك كان حسبه
الدنيا حتى
وقال عمر بن رزق الله لولا أنى أخاف أن يكون قسما لا أبره لحلفت ألا أفرح بشيء من أعلم ما لى فى وجوه رسل ربى وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي عل الله أن داود عليه السلام كان رجلا غيورا وكان إذا خرج أغلق الأبواب فأغلق الأبواب ذات يوم وخرج فأشرفت امرأته فإذا هي برجل فى الدار فقالت من أدخل هذا الرجل لأن جاء داود ليلقين منه عنا فجاء داود فرآه فقال داود من أنت فقال أنا الذى لا أهاب الملوك ولا تمتنع منى الحجاب قال فأنت والله إذا ملك الموت قال وزُمِّل داود مكانه
وروى عن عيسى أنه مر يجمجمة فضربها برجله فقال تكلمى بإذن الله قالت يا روح الله أنا ملك زمان كذا وكذا فبينا أنا جالس في ملكي على تاج وحولى جنودى وحشمى على سرير ملكي إذ بدا لى ملك الموت عليه السلام فزال عنى كل عضو عن حياله ثم خرجت نفسى إليه وياليت ماكان من تلك الجموع كان فرقة وباليت ماكان من ذلك الأنس كان وحشة فما ظنك بصفحة وجه ملك الموت إذا بدت وعاينها المجدل للموت فطرف خاو وقلب وجل محزون من بدن قد برد فتستخذى النفس وتستسلم للخروج ثم لا تخرج حتى تسمع نغمة ملك الموت بإحدى البُسْرَيَيْنِ أبشر يا عدو الله بالنار أو أبشر يا ولى الله بالجنة وإياها يخاف العقلاء من الله عز وجل العلماء به وروى عن النبي أنه قال لم تخرج روح أحدكم حتى يعلم أين مصيره وحتى
یدری مقعده
وروی
من الجنة أو النار
قال و من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله
لقاءه قالوا كلنا نكره الموت قال ليس ذلك بذلك إن المؤمن إذا فُرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله عز وجل وأحب الله عز وجل لقاءه
وإن الكافر إذا كشف له عما هو قادم عليه كره لقاء الله والله للقائه كره
وروی
أن حذيفة بن يمان قال لابن مسعود الأنصارى وهو لما به من آخر الليل قم
فانظر أي ساعة هذه فقام ابن مسعود ثم جاءه فقال قد طلعت الحمراء يعنى الزهرة فقال حذيفة أعوذ بالله من صباح إلى النار ودخل مروان على أبي هريرة وهو في الموت
۱۰
فقال مروان اللهم خفف عنه فقال أبو هريرة اللهم اشدد ثم بكى أبو هريرة فقال والله ما أبكى حزنًا على الدنيا ولا جزعاً من فراقكم ولكنى أنتظر إحدى البشريين من ربي عز وجل بجنته أو بناره قال معاذ لما حضر من الليل أصبحنا فقيل له لا ثم قال أصبحنا فقيل له لا حتى قيل له نعم فقال أعوذ بالله من صباح إلى النار
وقيل العامر بن عبد قيس عند الموت وبكى ما يبكيك فقال ما أبكى فرارا من الموت ولا حرصا على دنياكم ولكنى أصبحت في صعود مهبطة ثم لا أدرى إلى أين يهبط بي إلى جنة أم إلى نار ! ! ! وقيل لجابر بن زيد عند الموت ما تشتهى قال نظرة إلى الحسن فلما دخل عليه الحسن قيل له هذا الحسن فرفع طرفه إليه ثم قال الساعة والله أفارقكم إلى النار أو إلى
الجنة
وقال محمد ۱ بن واسع عند الموت يا إخوتاه عليكم السلام إلى النار أو يغفر الله عز وجل ولقد تمنى بعضهم أن ينزع نفسه أبدًا ولا يبعث لثواب ولا عقاب ومن ذلك أنه قيل لعطاء السلمى عند الموت وأغمى عليه وأفاق وهم يدعون الله عز وجل فقال فيم أنتم قالوا كنا ندعو الله أن يخفف عنك هذه السكرة فقال لا تفعلوا فوددت أنها تردد من لهاتى إلى حنجرتي ولا أبعث أبدا للقيامة
فما ظنك بإحدى البشريين لو وقعت في سمع المكروب المجدل الحزين المرتقب لبشرى الجنة أو بشرى بالنار فإن قيل له أبشر بالنار يا عدو الله فيالله من قلب أيقن بالإياس من رحمة الله وعلم أن ضعفه لن ينجو من عذاب الله فعندها تنقطع نفسه حسرات فيسأل الرجوع فيقول ربِّ ارْجِعُونِ لَعَلى أَعْمَلُ صَالِحًا فما تَرَكْتُ ! ! !
هيهات خسرت يداه وانقطع من الله رجاؤه وبدا له غير ماكان يحتسب من ربه عز وجل ردت عليه ندامته وتوبته وحيل بينه وبين الرجوع إلى الدنيا ليعتب من أسخطه ثم لا تسأل ما بعد هذه الأحوال من الحال
وإن سمع البشرى من الله عز وجل بأنه قد رضى عنه وأن له الجنة إليها منقلبه لا تسأل عن فرح قلبه وسروره وتحقيق رجائه وحسن ظنه بربه وأمنه على بدنه من العذاب بعد طول مخافته وإشفاقه وكذلك قال الله عز وجل في كتابه
۱ في رواية أخرى مجاهد
۱۰۰ ۹۹ ۳
۱۱۰
تَنزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ١ فقيل في التفسير إن ذلك عند الموت تقول الملائكة لا تخف ما أمامك من الأهوال ولا تحزن على ما خلفت وأبشر بالجنة التي كنت توعد
فياله من قلب ما أفرحه حين يسمع البشرى من ملائكة ربه عز وجل !!! هذا يوم راحته
ولها كان يعمل وقد قيل لبعض العباد عَلامَ تعمل قال على راحة الموت وقد روى عن الحسن أنه قال ليس للمؤمن راحة إلا فى لقاء الله عز وجل ومن كان براحته في لقاء الله عز وجل فقد فاز فيوم الموت يوم سروره وفرحه وأمنه وعزه وشرفه وقد روى في الحديث عن النبي عل الله أن الله عز وجل إذا رضى عن عبد قال يا ملك الموت اذهب إلى فلان فأتنى بروحه لأريحه من نصب الدنيا حسبى من عمله قد بلوته فوجدته حيث أُحب فينزل ملك الموت معه خمسمائة من الملائكة قضبان الريحان وأصول معهم
الزعفران كل واحد منهم يبشر ببشارة سوى بشارة صاحبه وتقوم الملائكة صفين لخروج روحه معهم الريحان فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثم صرخ قال فتقول له جنوده مالك ياسيدنا فيقول أما ترون ما أعطى هذا العبد من الكرامة أين كنتم عن هذا قالوا
قد جهدنا فكان معصوما وذكر قصة في حديث أسنده الراوى - أنس بن مالك وتميم الداري – عن رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول لملك الموت انطلق إلى عبدى فأتنى به فلأريحنه فإني قد بلوته في الضراء والسراء فوجدته حيث أحب
وروى ابن مسعود عن النبي الله أنه كان يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول جاء الموت بما فيه جاء بالويل وبالحسرة لأهل عداوة الله عز وجل جاء الموت بالغبطة والسرور لأهل ولاية الله عز وجل
وأما الاعتبار بمن مات من الأشكال والأمثال ممن مضى فإن ذلك يعظم ذكر الموت في القلب ويهيج على قصر الأمل وقد أخبرنا الله عزّ وجلّ عن القرون الماضية فقال عزّ وجل هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا ٢
1 1
۹۸ ۱۹
۱
وهذه الكتب - في أغلبها الأعم - إنما هى فى هداية النفوس وترقيق القلوب والسير بالأرواح إلى عالم الفلاح إنها في أغلبها في علم التصوف والسلوك
يقول التميمي - كما جاء فى الكواكب الدرية – عن المحاسبي
هو إمام المسلمين فى الفقه والتصوف والحديث والكلام ولقد كتب المحاسبي في هذه العلوم جميعها بيد أن مسحته الظاهرة ونزعته الواضحة والكثرة الكثيرة من كتبه إنما كانت في التصوف والكلام أما كتبه في الكلام فإنها قد فقدت ولقد رأينا قطعة لا بأس بها من كتبه في الكلام الذي فقد والذي كان عنوانه فهم القرآن ومنهجه في الكتاب يفهم من عنوانه إنه كان إلى القرآن في الرد ويتخذ منه مرشدا
وها ديا
يرجع
ولعل السبب في إهمال كتبه الكلامية وفقدها هو حملة الإمام أحمد بن حنبل عليها يقول الخطيب البغدادي فى كتابه تاريخ بغداد جزء ٨ ص ١١٤ أحمد بن حنبل يكره للحارث نظره فى الكلام وتصانيفه الكتب فيه ويصد
وكان
الناس عنه
ويذكر هذه المسألة الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال ويفصل الرأى فيها ويحسم المسألة بحل موفق فيقول
لقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي - رحمها الله - تصنيفه في الرد على المعتزلة
فقال الحارث الرد على البدعة فرض فقال أحمد
نعم ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها فهم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب أو ينظر إلى الجواب ولا يفهم كنهه وما ذكره أحمد حق ولكن فى شبهة لم تنتشر ولم تشتهر فأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية ولقد أصاب الإمام التوفيق في رأيه وما من شك فى أن المعتزلة إذ ذاك كانوا يعملون جاهدين على نشر بدعتهم وأن بدعتهم كانت
معروفة مشهورة
قال ابن عباس رضى الله عنهما تسمع لهم صوتا يخبرك أن الموت قد أهمدهم فلا حس
ولا صوت
وقال عز وجل يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لأُولى النَّهَى 1 أفلا يسمعون وروى عن أبي بكر رضى الله عنه أنه قال فى خطبته أين الوضاءة والحسنة وجوههم أصبحوا والله تحت التراب ! ! ! وروى عنه أنه قال أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط قد تضعضع بهم الدهر فأصبحوا تحت الصخور والآكام وروى عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال أين الذين بنوا المدائن وروى ذلك عن
غيرهم
منه
وإنما أردت بهذه الأحاديث أن يعرف العبد المريد كيف يتفكر في الموت ليجتلب به قصر الأمل أن يبدأ فيذكر فجأة الموت من غير مؤامرة وألا سبب له ولا وقت معلوم فيؤمن دونه كالعمر والوقت والعلَّة ثم يتفكر فى كرب الموت وسكراته ونزعه وما أصاب أنبياء الله صلوات الله عليهم وأحباءه والنظر إلى ملك الموت ومن معه من رسل ربه عز وجل واستماع إحدى البشريين عند موته والاعتبار بمن مضى قبله بذكر موتهم ومصرعهم ووجدت العبرة أسرع إلى القلب بالأشكال والأمثال والأصحاب ممن سواهم بأن يذكر العبد مصارعهم تحت التراب ويتوهّم صورهم فى حياتهم ومقاماتهم وكيف محى التراب حسن صورهم وكيف بلوا في قبورهم وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وخلت منهم مجالسهم ومساجدهم وانقطعت منهم آثارهم فيذكرهم رجلا رجلا فيتوهم صورته ويذكر نشاطه وتردده واكتسابه وإنفاقه وأمله للعيش والبقاء ونسيانه للموت أو ذكره له ومؤانسته إياه معه وفرحه وضحكه وكيف وقعت تلك الأسنان وتقطعت تلك المفاصل وذهبت تلك القوة فيعترضهم رجلا رجلا فإذا اجتمع فى القلب معرفةُ فجأة الموت وكربه والنظر إلى صورة الملائكة لقبض روحه وعظم خطر إحدى البشريين وارتقاب قلبه لإحدى البشريين وذكر الإخوان وأحوالهم وكيف فنوا وبلوا وخلفوه ومضوا وأنه لاحق لا محالة فما هو عند نفسه إلا كأحدهم وأن الموت نازل به كما نزل بهم كما قال أبو الدرداء إذا ذكر الموتى فعد نفسك
بهم
۱۸ ۰ ۱
۱۳
كأحدهم وقال النبي الله لعبد الله بن عمر كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك فى الموتى فعند ذلك بعون الله عزّ وجلَّ يقصر أمله ويرتقب أجله ويستعد بالتوبة للقاء ربه عز وجل ويعظم الحمد والشكر فى قلبه لربه عزّ وجلّ ألا يكون قدمه ولم يمهله بعد إخوانه فيحال بينه وبين الاتعاظ بهم والعبرة والاستعداد لمثل ما نزل بهم فتعظم النعمة عنده ألا يكون هو المتخطف ويحمد الله عز وجل إذ أخره للعبرة والاتعاظ ثم يرجو أن يكون ذلك من سعادة سبقت له من ربه عز وجل وكذلك يروى عن ابن مسعود رضى الله عنهما أنه قال السعيد من وعظ بغيره
وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في خطبته ألا ترون أنكم تتقلبون في أسلاب الهالكين ويرثها منكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين وأنتم تجهزون كل يوم غادياً أو رائحاً إلى الله عز وجل تضعونه في صدع من الأرض ثم فى بطن صدع قد توسد التراب وخلف الأحباب وقطع الأسباب موجه للحساب غنى عما خلف فقير إلى ما قدم بحضهم
على الفكر والذكر بذلك
فإذا تفكر العبد على نحو مما وصفنا قصر أمله واستعد للقاء ربه بالتوبة فأعطى العزم ألا يعود
فيما كره ربه عز وجل
قلت قد وصفت لى ذكر الخوف للموت ومطالبة قصر الأمل بإبهام الأجل والعبر بالموتى وقد كنت أذكر من قبل بعض ذلك فلا أجده يُنجع فى قلبى وإن نجع لم يلبث إلا قليلا حتى
يزول عن قلبي
قال إنك تذكره بجملة المعرفة والقلب مشغول بغير ذلك فلو ذكرته ذكراً يباشر قلبك أنجع ذلك فيك وهاج منه خوف المعاجلة ولزمه قصر الأمل
قلت فكيف أذكره ذكرا يباشر قلبي ذكره
قال أن تفرغ قلبك حين تذكره من ذكر كل شيء إلا من ذكره فإذا ذكرته كذلك باشر ذلك قلبك إذ لا شيء فيه غيره ولم يلبث أن يتبين ذلك على بدنك وكما وصف الله عزّ وجلَّ
قلب أم موسى عليه السلام حين فرغ من كل شيء إلا من ذكر موسى صلى الله عليه وسلم قال وَأَصْبَحَ قَوَّادُ أُمَّ مُوسَى فَارِغاً أي من -
ذكر موسى عليه السلام
إِنْ كَادَتْ لتُبدِى به ۱ قال تقول ابْنَاهُ
فأخبر تعالى أن فؤادها لما فرغ من ذكر كل شيء إلا من ذكر ابنها كادت أن تبديه فيكون في ذلك ما تحاذر وما يُهلك فكيف لا يظهر ويتبين على من فرّغ قلبه لذكر الموت وما يبدو منه فيه نجاته فمن فرّغ قلبه من ذكر كل شيء إلا من ذكر الموت غلب على قلبه من الحزن والهم ما يكاد يجد طعم الموت منه كما روى عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال يا معشر الحواريين ادعوا الله عزّ وجلّ أن يهوّن على هذه السكرة فلقد خفتُ الموت حتى أوقفنى خوفى من الموت على الموت
أن
فمن باشر ذكر الموت قلبه انكسر عن الدنيا فؤاده وقل سروره وفرحه وحسده فيها كما قال الدرداء من باشر ذكر الموت قلبه قل فرحه وحسده
۱۰ ۸ ۱
كتاب الرياء
باب في صفة الرياء وذكره
قلت قد وصفت لى مراقبة الله عزَّ وجلَّ وذكره والرعاية الحقوق الله عزَّ وجلَّ ووجوه طلبها والأول من الواجب والفضل فما تخاف على إن قمت لذلك قال أخاف عليك أن تفسده بما يبطل ثوابه فى آخرته ويذهب بحلاوته من قلبك قلت ذلك أعظم للحسرة أن أتعنَّى ثم يُحبط ويبطل عملى وما ذاك المعنى
قال فإن المتقى الراعى لحقوق الله عزّ وجلَّ القائم بها يبدل أحواله حتى يظهر للخلق فيظهر منه الصمت بعد طول الخوض فيما لا يعنيه ولا يحل له وتظهر منه المجانبة لمن كان يعصى الله عزّ وجلَّ معه ويظهر من الإنس لمن يسلم معه ومن يستفيد منه الخير ويظهر منه الكلام فيما يجب الله عز وجل عليه ويتقرب به إليه وتسكت جوارحه ويخشع طرفه وتعلوه السكينة والوقار فتظهر منه الطاعات فعند ذلك تعلم النفس أن ما ظهر منها لعباد الله عزّ وجلَّ لن يمتنعوا أن يحمدوا فعله ويعظموه بذلك ويروا له الفضل والقدر وتعلم النفس أن ما يظن منه وأسره لو ظهر لحمد ذلك منه وفصل به فتطلب النفس الراحة إلى التزين بالدين بما ظهر وبما أسر أن يكون محموداً معظماً ليكون فى الدنيا محموداً معظماً لأنه لما منعها من كثير من لذاتها من الدنيا فإذا وجدت موضع خلاص فى الدين إلى طلب اللذة والراحة نازعته إليه لتصيب من راحة الدنيا بعد منعه لها أكثر لذتها وراحتها وهى شهوتها الخفية ولذنها الكامنة
لأنها ليست من ظاهر شهواتها فعلم العبد - إذا نازعته إليها - أنها قد نازعته إلى شهوتها ولذتها وليس من شهوتها الظاهرة ولا من شهوات مطعمها ومشربها وملبسها ومنكحها التي تنالها بجوارحها ولكن شهوة من باطنها فى خير ظاهرها فهى خفيَّة فى النفوس لأنها ليست بظاهره من فضول حلال منفرد به ولا شر ينفرد من الشر الذى لا يشوبه الخير ولكنها شهوة خفية إذ أنه لله عز وجل
صارت ممازجة للخير داخلةٌ فيه فعاملها ظاهر الخير فهو مطيع فى الظاهر يرى أ يعمل والنفس قد أبطنت الشهوة لتتزين بذلك وتتصنع عند العباد بظاهر الطاعة وأنها قربة لا يتهم العبد نفسه فيتفقدها لأن الشهوة تخفى على العبد قصده من أجلها فلا يتبين ذلك
۱۷
۱۸
إلا بالعلم الدال على قصده ما هو فكمنت وخفيت على العامل إذا لم يستضئ بالعلم كما يروى عن وهب أنه قال كمون الشهوة في القلب ككمون النار في العود إن قدح أرى وإن ترك خفى وقال الرياء أبينه كذب وأخفاه مكيدة يعنى أنه يخفى على من غفل ويتبين لمن يتفقده بالعلم ونظر إليه بالمعرفة
ومن علم شدة حاجته إلى صافى الحسنات غدًا فى القيامة غلب على قلبه حذر الرياء و تصحيح الإخلاص بعمله حتى يوافى يوم القيامة بالخالص المقبول إذ علم أنه لا يخلص إلى الله جل ثناؤه إلا ما خلص منه ولا يقبل يوم القيامة إلا ما كان صافيًا لوجهه لا تشوبه إرادة بشيء غیره
ألم تر إلى العباد يتجاوزون بينهم النقد في الورق والذهب فيأخذ بعضهم من بعض الدرهم المردود والردىء من النقد في الحضر والأمصار فإذا أراد أحدهم طريق مكة أو غيرها لم يأخذ من النقد إلا الجيد الصافى لمعرفته أن طريقه يقل فيه العطف من العباد بعضهم على بعض والمواساة لشدة سفرهم وبعد شقتهم فيخاف أن يأخذ دراهم رديئة أو دنانير مردودة فيبدلها في أداوة من ماء أو قربة من ماء أو فى زاد أو فى كرى يتحمل به فتردّ عليه فيقطع به في موضع الحاجة حيث تقل المواساة ويعزّ التعاطف من الناس بعضهم على بعض وهو في الحضر يتجاوز الرد والمردود رجاء إن ردَّ عليه رده وأبدله وإن يرده وجد عوضًا منه من ملك له أو قرض من غيره فكذلك من عقل تخاذل العباد فى القيامة وتبرى بعضهم من بعض حتى تودَّ الوالدة أنه جعل لها على ولدها حقٌّ تأخذ به لشدة حاجتها إلى شيء يثقل به ميزانها وتزيد في حسناتها ولتعظيم ما عاينت
فمن عقل شدَّة ذلك اليوم وشدة فقره إلى صافى الحسنات خشى أن يأتى يوم القيامة بغدو أو رواح إلى علم أو صلاة أو صيام أو خشوع أو حج أو غزو أوكر على عدو في سبيل الله لم يخلصه فيحبط فتصير حسناته أنقص من سيئاته ولو كان أخلصه فى الدنيا لرجحت حسناته على سيئاته فدخل الجنَّة بذلك فلما حبط عمله بقيت سيئاته أرجح وحسناته أخف وأنقص فلا تسأل عن تقطع نفسه حسرات فيخاف العاقل ذلك فيغلب على عقله حذر الرياء
والتصنع للعباد وإرادة الله جل ثناؤه وحده لا غيره حتى يتخلص له علمه وعمله
۱۹
باب حض العاصى على الإخلاص في عمله
قلت إن الإخلاص منزلة الأقوياء والخاصة من العابدين
قال إن أهل القوة لأقومُ العباد به وإن المخلط العاصي لأشد حاجة إلى الإخلاص بتطوعه من المتقى الورع لأن المتقى الورع إن حبط جميعُ تنقله نجا بقيامه بالفرض وانتهائه عن المعاصي والمخلط إنما تطوعه يقوم مقام فرضه وورعه
ألم تسمع قول مجاهد إنه ليس نافلة إلا للنبي الا الله لأنه قد غفر له ثم قرأ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةٌ لَكَ ۱
وقال أبو أمامة إنما كانت النافلة للنبي الخاصة
وروى أبو هريرة وتميم الدارى وأنس بن مالك أن النبي الله قال و يحاسب العبد يوم القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكمل به فرضه و قال تميم في حديثه وإن لم يكن له تطوع أخذ بطرفيه وألقى في الناره فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فإن حبط تطوعه كله أو بعضه عطب لأنه يعمل في إكمال الفرض وتكفير السيئات والمتقى يعمل في علو الدرجات فإن حبط تطوعه بقى من حسناته ما يرجح على السيئات فيدخل الجنة والعدو يريد ألا تبقى له حسنة والمخلط يوازن بها والقوى الورع لما صلحت أحواله وعلم أن الخلق يحمدون من ظهرت منه تلك الأحوال ووجد العدو موضعاً للدعاء لما عطل عليه مكائده وغلبه إلى أن يدع لذاته لربه عزّ وجل أراد أن يدعوه إلى اعتقاد الرياء ليحبط ماكان يدعوه إلى تركه فلم يطعه فيدعوه إلى التصنُّع بالدين ويعظم قدر المنزلة عنده حتى يكون عنده أغلب على طبعه من قدر الذهب والفضة لأن العبد قد يترك الذهب والفضة ويردهما إذا وصل بهما ليقال قد ترك وزهد لأن النفس من قبل هواها والعدو يدعوان العبد إلى المعاضى أما النفس فلإصابة لذتها وأما العدو فللحسد والعداوة إرادة هلكة العبد فإذا أبى عليهما
6
الرعاية لحقوق الله
۷۹ ۱۷ ۱
۱۳۰
دعواه إلى ترك التنفل وقالا يكفيك الورع فإن عصاهما وتنفل دعياه إلى الرياء به وكذلك يدعوانه وإن لم يتنفل إلى الرياء بورعه أما النفس فتطلب القدر عند الخلق والتعظيم منهم له والعدو للحسد والعداوة له فإن أبي أرياه أن ذلك رياء منه وأنه لا ينجو من الرياء إذا خطر على قلبه ألا يترك العمل فإن أبى إلا المضى على العمل بالإخلاص والكراهية للرياء وإنما ادعيا عليه باطلا إذا كان له أبيًّا وله كارها دعواه إلى المحاورة والمجادلة يقولان له إنك مراء وهو يردد عليهما التكذيب لهما وهما يدعيان ذلك عليه ليشغلاه بذلك عما هو فيه ليفعله بشغل قلبه عن الآخرة أما النفس فلتصيب تعبها بعض راحتها عن الفكرة في الآخرة وأما العدو مع فإرادته أن ينقص العبد من طاعة ربه عزّ وجل لئلا تكون له كاملة بحضور العقل فيها عداوة منه وحسدا كما حسد أبويه وعاداهما من قبله
وقد حذرنا الله عز وجل ذلك فقال
يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان كما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجِنَّةِ 1 وقال عز وجل إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌ مُبِينٌ
يعنى أنه بين العداوة وقال عز وجل بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ ۳ وقال عز وجل إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ ٤
فأخبرنا الله عزَّ وجل أن النفس تأمر بالسوء وأن العدو يضل العبد ويصد عن طاعة الله عز
۱۸ ۱ ۳
TV V 1
٥٣ ۱ ٤
۱۵ ۸
وجل
۱۳۱
باب في شرح الرياء ما هو والدليل عليه
قلت فلا غنى بي عن معرفة الرياء ما هو
قال أجل لا غنى بك عن معرفته وإلا لم تحسن أن تتقى ما لا تعلم ولا تحذر ما لا تبصر وذلك شأن المريدين من قبلك أن يعلموا ما نهوا عنه ليدَعُوه على علم ومعرفة ومما يدلك على
ذلك
ما روى عن النبي أن رجلا سأله فقال يا رسول الله فيم النجاة فقال ألا تعمل
بما أمرك الله به تريد به الناس فسأله عن نجاته فى أعماله فأخبره بترك الرياء وقال رجل يا رسول الله الرجل يقاتل فى سبيل الله حمية والرجل يقاتل ليرى مكانه فسأله عن الرياء إذ أشفق على عمله أن يحبط فأراد أن يعرفه الرياء من الإخلاص لينفيه على علمه به إذا عرض له وقال أبو الدرداء رحمه الله إن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أى متى تأتيه ومن أين تأتيه وصدق رحمه الله إذا فقه العبد عن الله عز وجل أنه لا يقبل إلا ما خلص وصفا من الأعمال لوجهه دون خلقه وأن نفسه وعدوه يدعوانه إلى ما يحبط عمله حذر واستدل بالعلم فعلم حين تأتيه النزعة من قبل الرياء وغيره
وعن يونس عن الحسن لايزال العبد بخير ما علم ما الذى يُفسد عليه عمله فلا غنى بالعبد عن معرفة ما أمرنا باتقائه من الرياء وغيره ولا سيما الرياء إذ وصف بالخفاء في الحديث أنه أخفى من دبيب النمل فما خفى لم يعرف إلا بشدّة التفقد ونفاذ البصيرة بمعرفة له حين يعرض وإلا لم التفقد لما لا يعرف فبالخوف والحذر يتفقد العبد الرياء وبمعرفته يبصره حين يعرض
ينفع
فلا غنى بك عن معرفة الرياء
قلت فما هو وما دل عليه من العلم لتقوم بذلك الحجة وينشرح لقبوله الصدر قال الرياء إرادة العبد العباد بطاعة ربه
قلت فما الدليل على ذلك
قال قول الله عز وجل مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا
۱۳
إلى قوله عز وجل وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقد روى عن معاوية بن أبي سفيان وروى عن مجاهد في تفسير هذه الآية قالا هم
المراءون
وقوله عز وجل وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ الآية قال مجاهد هم أهل الرياء ووصف الله عز وجل قلوب المخلصين وأن الرياء إرادة لغير الله عز وجل فرفضوه الله عز وجل فقال
إِنَّا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورا ۳
فأخبر الله جل ثناؤه أنه من أراد بعمله الحياة الدنيا وزينتها حبط عمله والحديث ه إن الله عز وجل يقول للملائكة إذا رَفَعَتْ عمل العبد إن عبدى هذا لم بردنی به فاجعلوه فى سجين فأخبرك أنها إرادة الدنيا والزينة عند أهلها والآى في ذلك كثير
جدا
وأما في السنة فقول النبي الا الله حين سأله الرجل فقال يا رسول الله فيم النجاة فقال و لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي عل الله أنه قال من راءي بعمله راءى الله
عز وجل به ومن سمَّع سمع الله عز وجل به وروى عنه أبو هريرة في حديث الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله عز وجل أن الله تبارك وتعالى يقول لكل واحد منهم كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ويقول للآخر بل أردت أن يقال فلان شجاع وقال للثالث بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل قال النبي عله فأولئك أول ثلاثة يدخلون النار فأخبر النبي الله عن الله عز وجل أن رياءهم الذي أحبط أعمالهم إرادة الناس بطاعة الله عز وجل وأخبر عن قلوب الصادقين المخلصين له عن أعمالهم أنهم قالوا إنما نُطْعِمُكُمْ لَوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا
۱ ۱۱ ١٥ ١٦ وتكملة الناقص نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة
إلا النار
۳۵ ۱۰ وتكملة الآية ومكر أولئك هو يور
٩٧٦ ۳
۱۳۳
عنهم
قال مجاهد في تفسير ذلك ما قالوه بألسنتهم ولكن قالوه بقلوبهم فحكى الله عز وجل ليرغب راغب فرضى عنهم إذ نفوا عن قلوبهم إرادةَ حَمْدِ المخلوقين وإرادة مكافآتهم والحديث في ذلك كثير فدلنا بالعلم أن الرياء إرادة غير الله عز وجل بالطاعة فالرياء إرادة المخلوقين بطاعة الله عز وجل
١٣٤
باب معرفة أن الرياء على وجهين
أحدهما أعظم
6
والآخر أهون وكلاهما رياء
قلت الرياء هذا الوجه وحده أم في غيره من الوجوه قال الرياء هو الإرادة وحدها إلا أنه على وجهين
أحدهما أعظم وأشدّ والآخر أهون وأيسر وكلاهما رياء وإنما الوجه الذي هو أشد الرياء وأعظمه إرادَةُ العبد العباد بطاعة الله عزَّ وجل لا يريد الله عز وجل بذلك كما قال النبي ألا تعمل بطاعة الله تريد الناس وكما وصف الثلاثة أنهم أرادوا الناس ولم يذكر أنهم أرادوا الله عز وجل مع إرادتهم لخلقه وذلك عنده عظيم
وكذلك يروى عن
النبي
أن المرائى ينادى يومَ القيامة على رءوس الخلائق يا فاجر
یا غادر يا مرالى ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال في حديث الثلاثة أن النبي الخط على فخذ أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك أول خلق الله عز وجل تسعر بهم نار جهنم يوم القيامة فذلك أعظم الرياء عند الله عز
وجل
وروى شداد بن أوس رضى الله عنه أن النبي الله قال أخوف ما أخاف على
أمنى الرياء وروى عنه أيضا أنه قال رأيت النبي يبكى فقلت ما يبكيك فقال أمر تخوفته على أمتى الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قرا ولا حجرًا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم فكان أخوف ما أخاف عليهم الرياة وأما الوجه الذى هو أدنى وأيسر فإرادة العباد بطاعة الله عز وجل وإرادة ثواب الله عز وجل يجتمعان فى القلب الإرادتان إرادة المخلوقين وإرادة ثواب الله وهو أدنى الرياء وهو الشرك بالإرادة فى العمل لأن الأول أراد الناس ولم يرد الله عز وجل وهذا أراد الله عز
وجل والناس فأشرك فى عمله بطلب حمد الله عز وجل وطلب حمد المخلوقين وكذلك يروى أبو هريرة عن النبي الله إن الله تبارك يقول أنا أغنى الشركاء عن
١٣٥
الشريك من عمل لى عملا أشترك فيه غيرى فأنا منه برى وهو للذي أشرته فأبان بذلك أن من الرياء إرادة الله عز وجل وإرادة خلقه وقال طاووس هجاء الرجل إلى النبي فقال يا رسول الله الرجل يتصدق ويحب أن
يُحمد ويؤجر فلم بدر النبي ما يقول حتى نزلت عليه هذه الآية
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ۱ فأنزلها الله عز وجل جوابًا لقول السائل إذ سأل من أراد الله عز وجل وأراد حمد
المخلوقين
وروى محمود بن لبيد عن النبي لعل الله أنه قال وأخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر قال الرباء قال يقول الله عز وجل لهم يوم يجازي العباد
بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء وروى القسم بن مخيمرة أن النبي قال ويقول الله تبارك وتعالى إنه لا يقبل عملا فيه مثقال خردلة من الرياء وحديث أبي هريرة عن النبي عل الله أنه قال يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة اللذين كانوا يراعون بأعمالهم اذهبوا فانظروا هل تجدون عند من كنتم تعملون له
ثوابا
وقال عمر رضى الله عنه لمعاذ بن جبل ورآه ينكي ما يبكيك قال حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعنى النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول إن أدنى الرياء شرك والحديث الذى يروى يسير الرياء شرك
وسأل ابن أبي معيث سعيد بن المسيب فقال أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر فقال له ابن المسيب تحب أن تمقت قال لا قال فإذا عملت لله عز وجل عملا
فأخلصه
وقال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفى فى سبيل الله أريد وجه الله عز وجل ومحمدة المؤمنين فقال لاشيء لك فسأله ثلاث مرار كل ذلك يردّ عليه لا شيء لك ثم قال في الثالثة إن الله عز وجل يقول أنا أغنى الشركاء عن الشريك من عمل لى عملا وأشرك معى شريكا ودعت نصيبى لشريكي
۱۱۰ ۱۸ ۱
١٣٦
وذكر الله عز وجل فى قول من رضى عنه من المؤمنين فقال إنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا
الله خلقه يريدوا
مع
فنفوا عن قلوبهم أن وقال الضحاك لايقل أحدكم هذا لله ولك ولا يقل أحدكم هذا لله وللرحم فإنه
لا شريك له
وضرب عمر رجلا بالدرّة ثم قال اقتص منى قال بل أدعه الله ولك فقال له عمر ما صنعت شيئًا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك أو تدعها الله وحده قال ودعتها لله وحده قال فنعم إذاً فدلت هذه الآثار أن أعظم الرياء إرادة العباد بطاعة الله عز وجل وأن يكون أدناه إرادة المخلوقين وإرادة ثواب الله عز وجل
۱۳۷
باب هيجان الرياء والدواعي إليه
قلت فهم يكون الرياء الذي يتشغب منه في القلب والذى يهيجه لأنه لو لم يكن له من قلب العبد أصل يتشغب منه ويهيجه لم يقبل خطرات العدو في ذلك إذ يدعو إلى ماليس في قلب العبد له محبة ولا رغبة
قال أجل قلت ماهو
قال ثلاثة عقود فى ضمير النفس حب المحمدة وخوف المذمة والضعة في الدنيا والطمع لما في أيدى الناس
قلت ما الدليل على ذلك قال ما يجده العبد من نفسه أنه يحب أن يعلم العباد بطاعته لربه عز وجل فيوصل ويعطى ويكرم ويحب أن يحمد يثنى عليه ويعظم ويكره أن يذم فيفعل الطاعة لثلا يذم بقلة الرغبة فيها
قلت قد أجد ذلك ولكن أردت الدليل عليه من العلم
قال الدليل على ذلك الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعرى أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله الرجل يقاتل حمية ومعنى ذلك أنه يحمى فيأنف أن يُقهر أو يُذم بأنه غلب أو غُلِبَ قومه فيقاتل لذلك
قال الرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا طلب الحمد بالقلب ومعرفة القدر ورجل يقاتل للذكر وهذا طلب الحمد بالألسن وقال ابن مسعود رضى الله عنهما إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فيكتبون الناس على نياتهم فلان يقاتل للذكر ومعنى هذا حمد المخلوقين والرجل يقاتل للملك وهذا الطمع فى الدنيا وقال عمر رحمة الله عليه وأخرى تقولونها في معازيكم فلان قتل شهيداً ولعله أن يكون قد ملأ دفتى راحلته ورقا وقال النبي الله من غزا لا ينوى إلا عقالا فله ما نوى يرويه عنه عبادة وقال النبي من هاجر لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه يرويه عنه عمر رضى
۱۳۸
الله عنه وقال من هاجر يبتغى شيئًا من الدنيا فله ما نوى وهاجر رجل لتزوج امراة يقال لها أم قيس فسمّى مهاجر أم قيس إذ لم يهاجر إلا لتزوجه نفسها يرويه عنه ابن مسعود فالذي يبعث على الرياء وقبول خطرات العدو هذه الثلاث خلال حب المحمدة وخوف المذمة والضعة والطمع للدنيا ولما فى أيدى الناس جميعاً ويجمع ذلك كله حب المحمدة وخوف المذمة لأن العبد قد يعلم أنه لا ينال ما عند الناس بطاعة ربه إلا أن يحمدوه عليها فتبذل له أموالهم وأنه إنما جزع من الذم لحبه للمحمدة كراهية أن يزول حمدهم فتوول هذه الخلال الثلاث إلى حب المحمدة إلا أنها تشعبت وتفرقت على أقدار الناس وقدر مراتبهم
عنه
۱۳۹
باب وصف خوف المذمة والطمع لما في أيدى الناس
قلت فكيف يخاف المذمة
قال كالرجل يحضر العدو فيحضر القتال فيتقدَّمه قوم هم أشجع منه فيصيروا في تحور العدو ولا يقوى هو على ذلك فلا يمكنه طلب الحمد ممن حضر إذا وقف مع العامة في الصف وساواهم وتقدم الخاصة في نحور عدوهم فييأس أن يقول من معه في الصف ما أشجعه وهو مثله وهم يرون من تقدمهم وتقدمه فإذا يئس من الحمد وكان ممن لا يريد يقف في الصف جبنا أو غير ذلك أراد أن ينحاز عن الصف خاف أن يقولوا ما أجبنه لئلا يولى فيذمُّوه على الجبن وقلة الرغبة في ثواب الله عزَّ وجلَّ
أن
فيحبس نفسه
معهم
وكذلك من تخلف عن الصف الأول فى القتال فلم يمكنه طلب الحمد على الشجاعة وأراد الانصراف لقلة رغبته في الأجر أو جبن يمنعه من الانصراف أن يُدَم بالجبن ويسمى به فصار حبسه نفسه فى ذلك الموقف خوفًا أن يذم ولولا ذلك لا نصرف لأنه إذا خاف الهزيمة أو رأى كثرة القتل أحب أن يتنحى عن الصف أو يفرّ من العسكر والسرية فإذا خاف أن يقال جبن حبس نفسه على المقام
وكالرجل يكون مع القوم فيتصدق كل واحد منهم بالدينار وبالدرهم أو الشيء الكثير ولا تسخو نفسه أن يتصدق بمثل ما تصدقوا ويكره ألا يتصدق بشيء فيبخل فيتصدق بالشيء اليسير لئلا يبخل وقد ييأس أن يحمد إذ فاته القومُ بما أعطوا
معه
أو كرجل يكون ويكره أن يكسله من معه فلا يطمع أن يُحْمَدَ إذ فاقوه فى الصلاة فصلى الركعتين أو الركعات كراهية أن يكسل فيجزع من أن ينظر إليه بعين الكسل ولا يجد للمحمدة موضعاً وكالرجل يترك بعض ما يجهله من دينه أن يسأل عنه كراهية أن يقال هو جاهل بهذا إلى
الرجل يطيل الصلاة بالليل أو بالنهار ولا يقوى على صلاة من معه
6
اليوم أو يجهل مثل هذا وقد يحمله خوفُ المذمَّة على الكذب حتى يدعى أنه قد كتب من
العلم ما لم يكتب وقد يحمله خوفُ المذمّة على الكذب على أن يفتى بغير علم وقد علم أ
أنه
١٤٠
لا يحسن ما يُسْأَلُ
عنه وأن الواجب عليه أن لا يفتى فى ذلك وأولى به أن يقول لا أدرى
فتجزع نفسه أن يذم يجهل ذلك
وأشياء كثيرة من هذا الباب وكذلك يدع اكتساب الحلال كراهية الذم وكذلك يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كراهية ذم من يأمره وينهاه
قلت فالطمع لما في أيدى الناس كيف هو قال يحب أن يراه من يرجو منه البر فيعطيه على عمله فيصله ويبره أو يطلع عليه فيفرح باطلاعه ليبره ويصله فإن اطلع على ذنبه اغتم له ما لا يغتم باطلاع غيره ممن لا يطمع فيما عنده وإن اطلع على طاعته ارتاح قلبه لاطلاعه ما لا يرتاح لاطلاع غيره ممن لا يطمع فيما عنده وأشياء كثيرة من ذلك وكذلك من يبايعه فيرمجه أو يبايعه فينسئه ويؤجره عليه ويحب حمده أن رآه على خير وارتاح قلبه فيحب أن يتصحح عنده بالورع وحفظ المنطق والوفاء بالموعد ليثق به ولا يجوزه إلى
غيره
وكذلك الصانع عند من يسلم إليه العمل والأجير عند من يستأجره أو يوكله بضيعته أو تجارته أو عمله يجب الصحة عنده ويراثيه بالورع
قلت قد فهمت هذين فأما حب المحمدةِ فهو أبين في النفس وأجلى من أن أحتاج إلى تفسيره لى فقد تبين لي أن هذه الثلاث خلال هى التى تهيج الرياء وتبعث على قبول خطرات العدو فما الذى كانت هذه الثلاث خلال منه فإنه لا ينبغى إلا أن يكون لها أصل عنه تشعبت
وتفرقت
قال أما أصل هذه الثلاث خلال الذى منه تشعبت معرفة النفس بلذة ما ينال من الحمد والبر وما يدخل عليها من ضرر الذم وغمه فلما عظمت المعرفة بذلك بعثت العبد على اعتقاد هذه الخلال الثلاث لأنه لما عرف أنه إن حمده الناس عظموا قدره فيبدأ إذا لقى بالسلام والبشر والإعظام والهيبة والتوسعة له فى المجلس والتكرمة له بتشريفه وقبول الشهادة وتصديق الحديث وحسن الظن به حتى قد يُوجّه الذنب منه إلى الخير فكيف بالخير إذا كان منه وقبول أمره والانتهاء عما نهى عنه والرئاسة واستماع الثناء الحسن الذي يلتذ به السمع وتستريح إليه النفس فهذه معرفة ما ينال من حَمدِ العباد وأما الطمع فمعرفته بأن من بره الناس بما يُظهر من طاعة ربه أنه يوصل بالأموال ويُهدَى
١٤١
إليه الهدايا وتقضى به الحوائج ويسارع إلى إقراضه المال ويوسع عليه في طلب الدين وما أشبه
ذلك
قلت فخوف المذمة
قال أما خوف المذمة فمعرفته أن من ذمه الناس يُكَذِّب صدقه ويُساءُ به الظن في الخير فكيف في الشر تُرَدُّ عليه شهادته ويردّ عليه قوله ويُقْصَى مجلسه ويعرض عنه ويُحْفَى في السلام ويردّ بغير قضاء خاجة ويُستحى من صحبته والتحذير منه إن أشير في أمره في خطبة أو شهادة ولا يُؤمن على مال ولا حرمة وربّما وُضِعَ عليه ذنب غيره ويحمل عليه لغيره وربما كان مظلوما فلما عرف عظيم قدر هذه الخلال فى الخير في الطمع والحمد وفى الضرر في الذم اعتقد حب حمدهم وخوف مذمتهم والطمع لما فى أيديهم فورثته المعرفة بذلك الرغبة وغلبت على قلبه فهاج دواعى هذه الثلاث الخلال إلى الرياء واعترض العدو بالدعاء بالرياء بالعمل والعلم لما عرف من عظيم رغبته فيهن
١٤٢
باب ما یکسر به دواعي الرياء والحمد والطمع
قلت قد وصفت المعرفة بذلك وصفًا لم تهوّنها فى قلبى حتى خشيت أن تغلب على بل كنت أجد ذلك قبل أ أن تصفه لى ولكن لم أعرف شرحه حتى شرحته لى فما الذي يوهن المعرفة بما يُنالُ به دفع هذه الخلال الثلاث ويصغرها ويحقرها ويدل على عورات سوء عاقبتها حتى يزهد العبد فيها ولا يعتقدها ولا يكون لها في قلبه قوةً فتضعف الخلال الثلاث التي تهيج على الرياء ويُعرض عنها ومن أجلها قال المعرفة بخلتين
إحداهما ما يحرم وينقص من خوف الله وتوفيقه وإصلاح قلبه في الدنيا ومعرفته بما ينقص من ثواب الله عزّ وجلَّ بذلك فى الآخرة وخوف مقته أن يطلع على قلبه وهو معتقد لواحدة منهن
والخلة الثانية تحصيل ما ينال من العباد عند تحصيله لذلك مع ما ينزل به من الله عزّ وجل فأما الذى يُحرم به من الله عز وجل فى الدنيا وما ينزل به منه إذا اعتقدهن فإنه يتحبب إلى العباد بالتبعض إلى الله عزَّ وجلَّ ويتزيَّن لهم بالشين عند الله عز وجل ويتقرب إليهم بالتباعد من الله عزّ وجلَّ ويتحمَّد إليهم بالتذمّم لله عزَّ وجل ويطلب رضاهم بالتعرض لسخط الله عزّ وجلَّ ويطلب ولايتهم بالتعرض للعداوة من الله عزَّ وجلَّ ويُحرم في الآخرة الثواب ويحبط عمله فى الدنيا ويبطل أجره في يوم فقره وحاجته وفاقته ولعله يحبط من عمله ما لو كان أخلصه فى الدنيا فجعل مع حسناته فرجحت على السيئات دخل الجنة فتكون سيئاته أرجح من حسناته ولو أخلص عمله لوضع مع حسناته فدخل الجنة فيدخل النار إذ لا حسنات له خالصة تجعل مع حسناته فلا تسأل عن تقطع نفسه بالحسرات والندامة إلا أن يكون أخلصه قبل القيامة إذا رأى موضع منفعة الإخلاص وموقف ضرر الرياء وإن كانت حسناته راجحة على حال لما عنده من العمل الخالص سوى ذلك فقد خسر بعض حسناته التي تقرب بها من ربه جل وعزَّ ويعلو بها في جنته مع سؤال الله عز وجل له وتوفيقه إياه على الرياء والحياء منه أنه قدم فى الدنيا فى عمله عليه غيره فى الهيبة والمحمدة والتقرب والتحبب
١٤
- رسالة المسترشدين
وطبع له في حلب رسالة المسترشدين حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه عبد الفتاح
أبو غده وهذه الرسالة اللطيفة الحجم يوجه فيها المحاسبي الإرشاد للمسترشدين الذين يريدون أن يكونوا من ذوى الألباب العالمين بالله وبأمره ومنهاج ذوى الألباب - كما تحدده الرسالة - إنما هو رعاية صدور الشريعة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وما اجتمع المهتدون من الأئمة وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إليه عباده وقال جل وعز وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون وقال رسول الله وعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى عضوا عليها بالنواجذه والرسالة إنما هى إرشادات توضح بعض زوايا هذا المنهج فهي تتحدث عن التوبة والتقوى والخطرات والخوف من الله والصبر والرضا وغير ذلك من أحوال اللائذين إلى الله
السالكين إليه
٣ - كتاب الوصايا
وطبع له في القاهرة أخيرا كتاب الوصايا تحقيق وتقديم عبد القادر أحمد عطا والعنوان مكتوب هكذا الوصايا أو النصائح الدينية والنفحات القدسية لنفع جميع البرية وموضوعه هو موضوع الكتاب السابق وإن كان على صورة أوسع وبأسلوب متين الحدة وهو أقل تعمقاً وجزالة من أسلوب الكتاب السابق
٤ - كتاب الرعاية لحقوق الله عز وجل
وكتاب الرعاية هو أكبر الكتب التي بين أيدينا من كتب المحاسبي مخطوطة كانت تلك الكتب أم مطبوعة وربما لا يوجد فيا فقد من كتبه ما هو أكبر منه ويقع في حوالي أربعمائة وستين صحيفة من القطع الكبير وهو على كل حال أهم كتبه في نظر القدماء والمحدثين حتى لقد عرف به وإذا لم يذكر أحد المؤرخين القدماء من كتب المحاسبى إلا كتابًا واحدًا فإنه يكون الرعاية وهو بالنسبة للمحاسبى كإحياء علوم الدين بالنسبة للغزالى وقد حاول المحاسبي أن
يشرح فيه الطريق الذى يحقق الرعاية الحقوق الله تعالى
١٤٣
للتعرض للتباعد منه والتقت إليه وما يناله فى الدنيا بإظلام قلبه وخبث نفسه وزوال الرجاء عن قلبه إذ علم بريائه وتشتت همومه فى طلب حمدهم لا يحصى / لأنه كثير عددهم لا يحصى من يعامل منهم ورضاءهم لا يدرك لأن بعضهم يرضى بما يسخط بعضهم فإن فعل ما يرضى سخط آخرون وإن فعل ما يسخط بعضهم رضى آخرون ولأن بعضهم يسيء الظن ويحمده بعضهم على ما يذمه آخرون فرضى من يطلب منهم بسخط من يترك منهم فقلبه مشتت وهمومه كثيرة لأنه لا يدرك منهم جميعًا ما يطلب
بعضهم
وأما ما ينال منهم مع تعرضه لهذا البلاء العظيم وما يترك به من الله عزّ وجلَّ في الدنيا والآخرة فإنهم لم يزيدوه بحمدهم فى أجل ولا رزق ولا اجترار عافية ولا صرف بلاء ولا دفع مكروه مما قدر الله عز وجل
وأما الطمع لما في أيديهم فإنه لم ينل ما لم يقدَّر له وإن كان نال شيئاً فإنما نال ما قدر له ما لو كان أخلص عبادة ربه لنال ما نال لا محالة فأحبط عمله وتعرض لمقت ربه وحرمان ثوابه من غير ازدياد فى رزق ولا أجل ولا اجترار منفعة فى دين أو دنيا على ما قدر له فكيف لا يزهد عاقل فيما يضره فى الدنيا والآخرة بغير اجترار منفعة في دنياه وأما المذمة فإنه لا ينزل به من البلاء ما لم يقدَّر له ولن يناله من الذم مالم يقدر ولا يناله من الذم إلا ما لو أخلص لكان ذلك الذم حمدًا ولعله قُدَّر أن يلقى كذبه في قلوبهم فيذموه إذ فر من ذمهم ولا يصرف مخافة ذمهم شيئًا من العاقبة والرزق ولا يقطع من الأجل ما قدره الرحمن جل وعزَّ فحبط عمله من غير دفع مكروه من البلاء ولا زوال محذور من المقدور وما لم يقدر
فليس بمصيبه أبدا فكيف لا يزهد عاقل فى هذه الخلال الثلاث إذا عرف ضرهنَّ ولا ينال منفعة في دنياه وأن هذه الخلال الثلاث خدعة وغرور تضر الضرر
منه
بشيء منهنَّ وأن أمر الله مفروغ الأكبر ولا تنفع في شيء من الأشياء فإذا عقل العبد هذا كما وصفت له أنه يحبط عمله وينطل أجره وتشتت همومه ويتعرض لمقت ربه عزَّ وجلَّ ويحجب قلبه عن الخير من عند الله
عزّ وجل من غير زيادة منفعة ولا دفع مضرة زهد فى هذه الخلال الثلاث ولم يعتقدهنَّ وكيف يعتقد هنَّ عاقل وهنَّ يضرون به الضرر الأكبر العظيم لغير منفعة ولا دفع مضرة ما يكون هذا بعد هذا البيان إلا من الحمقى المجانين وربَّما اتقى بعض الحمقى مثل هذا في دنياهم مِنَ الذى
يتلف ماله أو يقطع بعض جوارحه أو يقتل ولده بغير اجترار منفعة ولا دفع مضرة
١٤٤
ومع
في
وقد روى عن النبي لا ما يبين لك ذلك مع ما أنزل الله عز وجل في كتابه أن رجلا وهو شاعر بني تميم قال إن حمدى زين وإن ذمّى شين قال كذبت ذلك الله عز وجل فإذا كان لا يزين حمد غير الله عز وجل ولا يشين ذم غيره واستقر ذلك عند العبد العاقل استوى حامده وذامه فى طاعة الله عز وجل إلا طبع ينازعه قد قمعه بعقله وغلبه بعلمه ذلك لو كان ينفعه حمدهم ويضره ذمهم لكان قد جهل طلب الحمد والفرار من الذم لأنه لا يعلم الناس أنه يريد حمدهم على طاعة ربه عز وجل لأن إرادته مغيبة عنهم قلبه أحب حمدهم أو لم يحبه فالأمر فى الظاهر واحد وليس عند الله عز وجل بواحد هو في الظاهر متطهر وفى الباطن نجس فاجر القلب قد أضمر في القلب من إرادتهم ما لا يظهر لهم فيحمدوه أو يذموه ولو أبطن الإخلاص بإرادة الله عز وجل وحده لكان الأمر واحدا عندهم بل لو اطلعوا على ما في قلبه فعلموا أنه يريد حمدهم على طاعة ربه أو الطمع لما في أيديهم أو خوف ملامتهم لمقتوه على ذلك ما يتعرض لمقت الله عز وجل أيضًا ما هو مع إلا شيء يعتقده فى قلبه ولا معنى له إلا البلاء والضرر فى الدين والدنيا والآخرة غدًا عند الله وجل فلو كان ينال بحمدهم منفعة وزينا وبذمهم ضررًا وشيئا كان قد أخطأ طريق طلب الحمد والفرار من الشين فكيف وليس أحد ينفع حمده إلا الله فلا يضر ذمه إلا الله عز وجل إذ لا شريك له في ملكه ولا مدير لغير ما أراد في سلطانه فهذا الذي يصغر ما تأمل النفس من هذه الخلال ويعظم المعرفة بضررها وأن لا منفعة فيها فإذا ثبتت هذه المعرفة ورّثت القلب الزهد فيها والرفض لها فضعفت دواعي الرياء في قلبه حين يعرض من نفسه وعدوه فينكسر الطبع ويخشى العدو ويتمكن الإخلاص ويصفو العمل ويطهر القلب ويستأهل العبد الإقبال من الله عز وجل عليه والمعونة له ويجتمع همه فيصير واحداً في معاملته لخالقه ومولاه ويستريح من تشتت الهموم في معاملة الخلق ويعتق من الرياء وتضرعه للعباد واهتمامه برضاء واحد وبسخط آخر لأنه علم أن معاملة الخلق لا معنى لها وأن معاملة الله عز وجل فيها خير الدنيا والآخرة
عز
ذلة
١٤٥
باب شرح ما يراءى به من العمل واللباس وغير ذلك
قلت قد وهنت هذه الخلال عندى وتبين حماقة من اعتقدهنَّ وقلة عقله وفهمه عن رَبِّهِ جل وعز فأخبرني عن المراءى به الذى يُتَزَيَّنُ به من قبل هذه الخلال الثلاث ما هو من وجه واحد هو أم من وجوه شتى
قال المراءى به والمتزين به خمسة أشياء يرالى العبد ببدنه وبزيه وبقوله وبعمله وبغيره من الصحابة والقرابة فيرائى بالطاعة بهذه الأشياء الخمسة وكذلك أهل الدنيا يراءون بالدنيا بهذه الخصال الخمس إلا أن ذلك أيسر من الرياء بالطاعة
فأما البدن فيرالى به العبد من جهة الدين يرالى بالنحول وبالصفار ليتوهموا عليه الاجتهاد والأحزان أو الخوف ويرالى بضعف الصوت وغور العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على
الصيام
كما يروى عن أبي هريرة ويروى عن عيسى لا أنه قال إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينه يخاف عليهم أن يراء وا بما يظهر من بشرة وجوههم الذي
يدل على صيامهم وقال ابن مسعود رضى الله عنهما أصبحوا صياماً مدهنين وكذلك النحول يدل على التقلل من الغذاء ويدلّ على الهموم والأحزان وكذلك الصفار يدل على الصيام وقيام الليل والأحزان والغموم وفى ذلك التقت إلى الرحمن عز وجل وأما أهل الدنيا فيراء ون بالسمن وصفاء اللون وانتصاب الصلب وذلك أيسر من الرياء
بالدين وأما الزى فيرالى العبد بتشعث الرأس ومراهة العينين وحلق الشارب واستئصال الشعر أو فرقه يظهر بذلك تتبع زى النبي الله وأثر السجود وخشن اللباس وغليظها وتشميرها وقصر الأكمام وخصف النعال وحذوها على زى أهل الدين وترك تهذيب الثوب التقشف وجميع على قدره في العبادة وقدر أصحابه لأن القراء فى ذلك أصناف فمنهم من يريد أن له يجتمع الحمد على الدين والدنيا فيلبس الثياب الجيدة ويشمرها ويلبس النعال الجيدة ويحذوها على
١٤٦
أصحابه
جميع
أهل الفرق
غير حذو العوام على زى أهل الدين مع جودتها والرداء الجيد ولا يقتله أو يقتله إن كان أصحابه لا ينفق ۱ عندهم إلا ذلك والأكسية الجيدة التي تجوز عند أهل الدين والدنيا يريد أن يحمده والقراء والملوك والأغنياء من التجار وغيرهم يلبس زى القراء في جودة ثياب الأغنياء فقد جمع زى أهل الدين والدنيا ليحظى عند أهل الدين والدنيا ومنهم من يحب أن يبجله الملوك والسلطان والقراء على الدين وينفق عند فيبالغ في الثياب والحمار الفاره والدابة الفارهة يريد حمدَهم أجمعين فيدنو من السلطان على جهة الدين ويقضى الحوائج لأهل الدين ويجالسهم نصنعا وتزينا ومنهم من يتقرب بالطاعة عند أهل الهدى والضلال ليقيم وجهه عند أهل الحق وأهل الباطل يلقى هؤلاء بما يحبون وهؤلاء بما يحبون وهذا شرّ الفرق من أهل الرياء والتصنع ليتقرب إلى أهل كل طبقة بما ينفق عندهم
ومنهم من لو جعل له مفروح ما قوى أن ينتقل مما قد ألفه وعرف به من الزي في دينه فمن
يلبس منهم الصوف والثياب الخشنة الدونَ لو قيل تلبس المروية أو اللينة الجيدة أو الرقاق لكان عنده قريبا من الذبح كراهية أن يقول الناسُ فَتَر عن طريقه وركن إلى الدنيا بعد
تقشفه
"
ولو قيل لأهل الطبقة الوسطى ممن يلبس الأوسط من المروى أن يلبس الثياب الرقاق الجيدة والأكسية الرقاق المرتفعة أو الكتان الرقيق لكان عنده قريباً من الذبح كراهية أن يقال ركن إلى الدنيا ورغب فيها وكذلك لو قيل لأهل هذه الطبقة أن تلبس الصوف والثياب المحرقة الوسخة شق ذلك عليه كراهية أن يحقره أهل الدنيا وينظروا إليه بالازدراء يريد ألا يُحقر ويريد أن يحمد على زى الصالحين ولا يقوى أن يغير ذلك الزى إلى ما هو أرفع منه كراهة أن يُظن به رغبةٌ في الدنيا وكذلك أهل الرياء بالثياب الجياد المرتفعة فلو قيل لهم أن ينتقلوا إلى الصوف والخشين من اللباس لما فعلوا لئلا يكسدوا عند الملوك وعند السلطان والقضاة وأهل الغناء وكذلك لا ينتقلون إلى زى الملوك من لبس المصبغة والقلانس وتقطيع الثياب لئلا يكسدوا عند القراء
1 ينفق بمعنى يروج ويستحسن
١٤٧
ويذموهم ويقولوا رجعوا عن طريقهم وانسلخوا من طريق القراء كل ذلك إقامة المنزلة بالدين
عند كل الفرق
وأما الرياء بالدنيا فتضنع أهل الدنيا عند أمثالهم بالثياب الجياد على غير زي الدين من تطويل التقطيع بالطيالسة المصبغة والجياد وغير ذلك وأما الرياء بالقول فبالنطق بالحكمة وإقامة الحجة عند المجادلة وحفظ الحديث وبيان الحجة والفهم بالعلم وإظهار الذكر الله عز وجل باللسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضعيف الصوت عند المحاورة وحسن الصوت بالقراءة وتحزينه ليدل بذلك على المخافة وبرائى أهل الدنيا بالفصاحة وشدة الحجة فى المحاورة فى الحقوق وغيرها وحسن الصوت وحفظ الأشعار وحسن الصوت بالشعر والغناء وقوة الصوت والنحو والغريب
ويرالى المتدين بعمله يرالى بطول الصلاة واعتدال الانتصاب فيها والتمكن والتطويل للركوع والسجود وشدة الخشوع فيها وتخزين القراءة وأخذ اليسرى على اليمنى واصطفاف القدمين والتجافي في الركوع والسجود ورفع الأيدى للركوع وبعده وبالصوم وبالغزو وبالحج وبطول الصمت وبذل المال فى الواجب والتنفل وإطعام الطعام والإخبات في المشي وعند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس وبالتثبت عند المساءلة بالوقار ومنهم فرقة في ذلك تريد أن تجمع الدين والدنيا تمشى مسرعة لحاجتها وتتكلم كذلك حتى يطلع عليها بعض أهل الدنيا فتتقارب فى الخطى وتبطئ المشى وتنكس الرأس فإذا جاوزها عادت لحالها الأولى وذلك كالرجل يمشى مسرعاً لحاجته أو يكون متلفتا جالسًا وماشياً فإذا رمقه بعض أهل الدنيا وأهل الدين ممن يحب أن ينظر إليه بعين الخشوع والسكينة والوقار ولا ينظر إليه خفيفًا في مشيته ولا لاهيا فى تلفته فإذا رمقه سكن في مشيته ونكس رأسه وقارب خطاه وكذلك يدع التلفت ويحدث خشوعا لم يكن عليه من قبل فلم يخشع لذكر عظمة الله عز وجل ولا لذكر الآخرة ولكن خشوع أحدثه لمن يطلع عليه من الخلق ويرالى أيضا بعض أهل الدين لغيرهم من أهل الدين بالعلماء والصحابة ممن هو فوقهم في الطاعات والعلم فيسير مع العالم أو العابد ليقال فلان يأتى فلانا ويمشى معه أو ليقال فلان صاحب فلان ويكثر غشيانه وذكره فى كثير من حديثه ليوسم بمحبته فقد بينت لك أصول الخلال التى براءى بها إلا أنهم جميعاً مختلفون في ذلك بعضهم دون
بعض
١٤٨
فمنهم من يريد بذلك أن يعرف الناس له قدره ومنهم من يريد مع معرفة القدر أن ينشر لهم حسن الثناء والحمد ومنهم من يريد بذلك الرياسة والشهرة فى البلدان والثناء والحمد والرحلة إليه ومنهم من يريد بذلك الشهوة عند الملوك والسلطان والتصنع للشهادات ومنهم من يريد بذلك أن يُطْمَأَنَّ إليه فيحتاز الأموال ويظلم الحقوق وهؤلاء شر الفرق
10
حلاوة الشهوة تملأ قلبه فينسى ذكر ربه جل وعز كما روى عن جابر بن عبد الله رضى ا قال ه بايعنا رسول الله لها تحت الشجرة على ألا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حتى نودى بأصحاب الشجرة فرجعنا
وإنما الغيظ مثل ضربته لك قياساً على امتلاء القلب بحلاوة الشهوة وحمد المخلوقين فينسي العبد عزمه والكراهة المتقدمة للرياء فى جملة عقد قلبه فيركن ولا ينفى ذلك وعامة الأعمال الحرام كذلك فكذلك الذى عرض له وليس معه ذكر الرياء فلما فقد المعرفة لما عرض زال عن الكراهة الأولى ولم يستعملها لأنه إنما قدمها في جملة عقد ضميره يستعملها عند
العارض ليبعثه على ألا يقبله فتركها حين احتاج إليها وفى الموضع الذي أعدها له لأن تلك الكراهة من عزم العبد على الإخلاص وترك الرياء قبل العمل على أن يخلص ولا يرانى إذا عمل عملا من طاعة ربه عز وجل فقدم الكراهة للرياء قبل العمل ليستعملها عند العمل فيضيعها بنسيانه للقيام بحق ربه عز وجل في باطنه فلما فقد المعرفة نسى الكراهة الأولى وقد يذكر فيعرف أن الذي عرض عارض وداع إلى ما يحبط عمله وأنه الرياء الذي نهى عنه فيغلبه هواه وشهوتُه فلا يردُّ ذلك ولا يكرهه لغلبة الهوى وقلة هيجان الخوف فإما أن يتشاغل عنه بعد المعرفة وإما أن يسوّف التوبة من ذلك ويقبل الرياء ويعمل عليه كالرجل يتكلم بالكلام وماله فيه معنى غير المخلوقين ويفطن لذلك فيمضى في كلامه ولا ينفيه عن قلبه ولا يسكت عن كلامه وكذلك يذهب إلى الموضع ما له فيه معنى غير المخلوقين يريد حمدهم أو منفعتهم بطاعة ربه كالذهاب إلى العلم أو مجلس من مجالس الذكر فيعرف ذلك ولا ينهى نفسه وكذلك فى الصلاة يخطر له الرياء فيعرفه فيعمل عليه وكذلك إذا عرض له الذهاب والكلام والعمل قبل أن يدخل فيه فخطر الرياء فعرفه بقلبه ودخل في العمل على ذلك ولم ينه نفسه عن ذلك فالذي لم يعرف حين عَرَض له فَسَخَ كراهته الأولى حين ركن إلى القبول والاعتقادِ للرياء والذى عَرَف ثم لم يكره كانت معرفته عليه حجَّةً إذ ذكره الله عز وجل نبهه وَوَعظه وعرَّفه ما عَرضَ له من الرياء الذي يُحبط عمله فركن إلى داعى الرياء وقبله بعد علم ومعرفة لغلبة هواه والشهوة فلم تنفعه المعرفة والكراهة حين افترقا عند عارض الداعي إلى
الرياء
وكذلك يروى عن الحسن قال لايزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله فمنهم من يزين له ما هو فيه فيرى أنه مصيب ومنهم من تغلبه شهوته بعد علم ومعرفة
وذلك أنه لما عرض الداعى بما تحب نفسه ولا معرفة ولا ذكر معه قبل الداعي إلى الرياء فاعتقد الرياة ولما عرض له فعرفه ثم غلبته شهوته فَقَبلَه ولم ينفه بالكراهة له فإذا عرض الداعي إلى الرياء فعرف أنه الرياء ثم كرهه نجا منه
وفى ذلك آثار فيها دليل وحجة أن الكراهة والإباء لقبول ما يعرض من الرياء ينتفى بهما الرياء ولا يقدر المريدُ على أكثر من ذلك ولم يكلفه الله سواه
ومن ذلك ما يروى عن النبي عل الله حين شكا إليه أصحابه رضي الله عنهم فقالوا یا رسول الله يعرض بقلوبنا شيء لأن نخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوى بنا الرياح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم به به فقال أوقد وجدتموه ! ذلك صريح الإيمان لا يعنى الوسواس لكن يعنى إباءهم وكراهيتهم لقبوله حتى اختاروا أن يخروا وينقطعوا ولا يتكلموا به لكراهتهم له فإذا كان الإباء والكراهية ينجيان من الوسواس في الله عز وجل فهما من الوسواس في الرياء أنجا وأنجا لأن ما كان دافعا للكثير العظيم فهو للقليل الصغير أدفع وأنجا وإن كان الرياء عظيماً فإنه عند الوسواس فى الله عز وجل صغير وقال أبو حازم ماكان في نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك هو من عدوك
وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه وقال زيد بن أسلم مثل ذلك وصدقا لأن ماكرهته وأبيته فقد رددته وبقى الشيطان يوسوس وإن كان الطبع ينازع فلا يضرك
منه
ولذلك يروى عن النبي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لأصحابه الحمد لله الذى ردَّه إلى الوسوسة فإذا عرض الرياء فعرفه ثم كرهه وأبى أن يقبله نجا ولابد أن يجتمع مع الكراهة إباء لقبوله لأن الراكن إلى الرياء قد يكره ما هو مقيم عليه يحب النقلة منه والراد للقبول هو الكاره الإباء له لأن الرياء إنما يقبل بخصلتين بإرادة النفس له والشهوة ولابد من صد هاتين فتكون الكراهة ضد الشهوة ويكون الإباء ضد الإرادة فحينئذ ينجو العبد من داعى الرياء قلت كيف أكره ما أنا له مرید
قال إن الله عز وجل جعل فيك غرائز فجعل فيك غريزة تحب ما وافقك وألذك وكراهة ما خالفك وآذاك وجعل فيك غريزة عقل لحبه فقرن مع غريزة الحب للموافق والبغض للمخالف الشيطان يزين له الدنيا ويثبطه عن الآخرة وقرن مع العقل العلم والكتاب
١٥٢
والسنة
ليزين الآخرة ويكره إليه الدنيا والعلم للعقل كالسراج للعين أو النور من الشمس وغيرها للعين فإذا عرضت الخطرة ذكرت النفس معرفتها بما يوافقها من الحمد والثناء وما يخالفها من الذم والملامة هاج من النفس حب ما يوافقها من الحمد والثناء وبغض ما يخالفها من الذم والملامة هاجت تلك المعرفة بذلك عند تذكير العدو لها فإذا كان عبدًا عاقلا ذكر ما يرضى به الله عز وجل من الإخلاص وما يسخطه من الرياء وأنه محبط لعمله في يوم فقره وفاقته فهاجت بذلك المعرفة لما ذكر نفسه بالعلم الذى جعله الله عز وجل في قلبه إذا اتصل بعقله عرف ما تستره ظلمة الجهل من ذكر الآخرة وذكر اطلاع الرب عز وجل وذلك كالعين تستمد للسراج فتعرف ما وارته ظلمة البيت فبقى على علم وعمل على علم فإذا كان عبدا حازما جاهد بعقله وبما أعطاه الله عز وجل من العلم ما عرض به العدو وما هاج من شهوة النفس فكره وأبي
ويبدأ المحاسبي كتاب الرعاية بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى ثم يتحدث عن
حسن الاستماع
فقدم حسن الاستماع منك لما أجبتك به لعل الله عز وجل أن ينفعك بفهم ما أجبتك عنه من الرعاية الحقوق الله عز وجل والقيام بها فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه أنه من استمع كما يحب الله ويرضى كان له فيما يستمع إليه ذكرى يعني اتعاظا ثم يذكر المحاسبي الآيات الدالة على هذا والأحاديث
وبرى القارئ فى هذا النص الذى نقلناه من الصحيفة الأولى للكتاب أمرين الأمر الأول أن المحاسبي يفترض مخاطباً يخاطبه أو سائلا يسأله والمحاسبي يجيبه والواقع أن الكتاب كله يسير على هذا النسق أسئلة من مخاطب وإجابات من المؤلف وما من شك في أن بعض الأسئلة التي أوردها المحاسبي قد سئلها بالفعل وقد سبق أن أشرنا أن بعض كتب المحاسبي ألف استجابة لأسئلة بيد أن كتاب الرعاية يظهر فيه - فى وضوح - من التناسق والترتيب والتخطيط ما يبعد الظن بأنه ألف استجابة - مجرد استجابة - الأسئلة وقتية
إلى
أما الأمر الثاني الذي يتبينه الإنسان من النص فهو أن المحاسبي يرجع إلى الكتاب الكريم يستند إليه في آرائه إنه يقول
السنة
فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه
وهذا التعبير أو ما في معناه سار فى جميع أجزاء الكتاب ويضاف إليه الاستناد إلى
وبعد
وقد كان المحاسبي من المحدثين تلقى الحديث على أعلام السنة وتلقى عنه أعلام السنة أن قدم المحاسبي ضرورة حسن الاستماع بدأ في شرح معنى الرعاية لحقوق الله وهى أمر عظيم أصبح عامة الناس - كما يقول المحاسبي – له مضيعين وما من شك في أن كل ما أمر الله عز وجل بالقيام به قد أمر برعايته وكل حق أوجبه الله جل وعز على عباده في خاصة أنفسهم أو فيما أوجب لبعضهم على بعض فقد أمرهم بحفظه والقيام به وذلك رعاية حقه الذي افترضه عليهم وسواء أقلت الرعاية الحقوق الله أم قلت التقوى فإن المعنى لا يكاد يختلف ذلك أن التقوى إنما هى اتقاء الشرك فما دونه من ذنب من كل ما نهى الله عنه واتقاء تضييع واجب
١٥٣
باب معرفة ماينال به الحذر من الرياء
قلت قد تبين لي أن المعرفة والكراهة مع الإباء إذا اجتمعا انتفى الرياء وأنه إنما ينال ذلك بنهيه نفسه بعقله بما استودعه الله عز وجل من العلم بضرر عارض الرياء ومنفعة رد الرياء عن قلبه في يوم فقره وقد قلت إنها إذا افترقا لم ينتف الرياء فكيف لي باجتماعها ! ومن أين عزبت المعرفة وبم ينال حتى لا تذهب المعرفة عن العبد عند عارض الرياء ومن أين عزبت الكراهة بعد المعرفة فلم يستعملها وبم ينال استعمالها قال أما المعرفة فإنما عزبت من النسيان وزوال الذكر والذكر إنما عزب لعزوب الحذر والاهتمام فإذا اهتم وحذر تيقظ وذكر وإذا ذكر عرف ما عرض من الرياء قلت فيم ينال الاهتمام والحذر
قال بالعناية قلت فيم ينال العناية
قال بالمعرفة بقدر منفعة الإخلاص فى الدنيا والآخرة من ثواب الله عز وجل في القلب في عاجل الدنيا وثوابه فى الآخرة بالرضا والجنة وضرر الرياء على القلب مما يورثه القسوة والرين والحبط لعمله غدًا فى يوم فقره وفاقته والتعرض للمقت من ربه جل وعز فإذا عُظم قدر ذلك في قلبه غنى به وإذا عنى به اهتم بالقيام بأمر الله عز وجل من الإخلاص وحذر تضييع أمره فيه بالركون إلى الرياء فإذا ألزم الاهتمام والحذر قلبه يقظاه فإذا تيقظ ذكر فإذا ذكر عرف ومثل ذلك مثل اللص يأتى منزل الرجل ليلا وهو نائم فإن استيقظ فعلم به ومعه عدة لقتاله زجره فإن أبى شدّ عليه فهرب منه ولم يأخذ من بيته شيئًا وإن لم يستيقظ حربه وهو لا يشعر فكذلك العاقل إذا لم يتيقظ
قلت فيمَ عزبت الكراهية بعد المعرفة وبم تنال قال عزبت لأن خاطر الرياء إذا عرض فى القلب هاجت سورة شهوة النفس للحمد والثناء والنيل فغلبت حلاوة ذلك على القلب فزالت الكراهة ولم تستقر مع حلاوة الشهوة فالذى يطفى ذلك ويهيج الكراهة والإباء إذا سارت الفرحة من قبل الطبع إذا عقل العبد اللبيب فكرةً
من عقله في يوم المعاد وَذَكَرَ حَبْطَ عمله وحاجته يوم فقره وفاقته إلى صافى الحسنات وأنه لا يُقبل إلا ما خلص وصفا من العمل وخوف نفسه مقت الله عز وجل في ساعته تلك أن يطلع على ضميره وقد قبل ما يكره ربه عز وجل به فيمقته وخوف ما يورث قلبه قبول خطرة الرياء من الرين والقسوة فإذا هاج الفكر بالخوف فى عقوبة الله عز وجل في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إن قبل تلك الخطرة هاجت مرارة العقوبة بالذكر على ما سار في القلب من هيجان الشهوة فكان بعقله أبيًّا كارها وعلى هواه وعدوه رادا فعند ذلك تخلص عمله قلت أكل العباد يردّ بهذه المجاهدة والمكابدة والتكلف قال هكذا في أول بدء المريد لأن للإخلاص أولا وآخرا فأوله مع المجاهدة والكابدة لقوة الشهوة وضعف العزم وقلة العادة للإخلاص وطول العادة للرياء لأن العبد الضعيف منذ عقل في الصبا قبل البلوغ لم يزل فى تصنع للعباد فإذا أراد فطم نفسه عن العادة وكسر قوة شهوته بضعف عزمه وقلة عادته للإخلاص أبت النفس واستصعبت فجاهد وكابد حتى إذا أدمن الرد على نفسه واعتاد الإخلاص ونفى الرياء رجع ثواب الإخلاص على قلبه من الله عز وجل بالنور والبصيرة وانكسرت النفس حين طال منه منعها ما تحب ويئس العدو فخنس وانتظر الشهوة والغفلة وأقبل الله عزّ وجل عليه بالنصر والمعونة لما رآه قد صبر له على إدمان المجاهدة لهواه فعند ذلك تسكن دواعى الهوى وما عرض منها عرض بضعف وقلة وتقوى دواعى
القلب ويعظم العزم فإذا عرض عارض الرياء نفاه سريعاً بغير مكابدة ولا كلفة قلت فقد تأتى حال فيها محنة شديدة وأسباب مفتنة فتكثر فيه الخطرات حتى لا يكاد العبد يتخلص منها وذلك كالشهوة العظيمة والأمر الكبير من البر الذي لا يصل إليه عامة الخلق فتكون الوساوس كأنها مشتبكة على القلب فبم يدفع ذلك قال إذا اختبر العبد بذلك فليذكر الله عز وجل وعظيم قدره وصغر قدر المخلوقين في عظيم قدر الله عز وجل وأن المنافع كلها بيده وأن القدرة من الخلق على منافعهم عنهم زائلة ويصغر أقدارهم ويذكر اطلاع الله عز وجل بعد ذكر عظيم قدره فإنه إذا فعل ذلك تجلت الخطرات كما تمزق الرياح السحاب عن السماء وكما تكشف الرياح الغبار عن الصفا
1 وفى ذلك يقول الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
باب معرفة قوة الإخلاص على منازعة النفس عند العارض والنفى له
قلت إذا كرهت العارض ولم أقبله فما الدليل على أن الإخلاص في قلبي أغلب وفيه أكثر من
منازعة النفس وإرادتها
قال ألم تعلم أن المريد الله عزّ وجلّ وللعباد قد استوت الإرادتان في قلبه فإذا كره ذلك كانت الإرادة لله عزّ وجل ومعها الكراهة فكانا معنيين ومنازعة النفس معنى واحدا لذلك كانا ] أكثر وأغلب قلت فالنافون للرياء فى مقام واحد من السرعة والإبطاء ومن الفضل والنقص قال لا هم أربعة نفر فمنهم من ينفى سريعًا لقوة عزمه ومنهم من يلبث في المجاهدة ومنهم من ينفى الخطرة فإذا رآه العدو كذلك لم يطمع فيما يحبط عمله وأراد أن ينال منه ما ينقص من صلاته وغيرها في الفضل والكمال فأراه أنه إن خاصمه بالرد عليه والمجادلة له كان أصفى للإخلاص وأنجع فيخاصمه ويجادله في النفي فينقصه إذ شغله بمخاصمته عن صلاته لأنه لم يؤمر بمجادلته إنما أمر بعصيانه فقد عصاه إذ لم يقبل ما دعاه إليه وكان جداله إياه له أكثر من الشغل عن الصلاة أو عن بر إن كان فيه وإشغال قلبه بما لم يندب إليه وأما الثاني فهو الذى يردّ عليه بالتكذيب من غير محاجة ولا مجادلة والثالث يمضى على ماكان عليه من هيجان الكراهة والإباء عالمًا أن ذلك مجزيه من التكذيب له والمجادلة والمخاصمة له فيمضى على ماكان عليه لا يقبل ولا يحدث معنى يشتغل
لا معنى
به عما كان فيه
والرابع الذي قد علم من قبل أن يعرض له فى الدعاء إلى الرياء أنه إنما يريد أن يزيله عن نعمة ربه حسدا له فلما قدَّم هذا العلم فى قلبه ثم عرض له بالدعاء فإن كان قلبه بالله عز وجل مشغولا ازداد شغلا وإن كان ساهيا فى عمله فزع إلى الذكر والفكر والشغل بالله عزّ وجلَّ غيظاً له وازدياد منفعته لعارض الداعى جعله عبرة لذكر ربه وكذلك يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلانا ذكرك قال والله لأغيظن من
10
أمره قيل له من أمره قال الشيطان اللهم اغفر له إنى لأغيظه بأن أطيع الله عزَّ وجلَّ فيه فإذا رآه العدو كذلك أوشك أن يُقل خطراته كراهة أن يزداد به خيرا إذا عرض له بالدعاء إلى الرياء إذ لم يره يقبل وردَّ ولم يرض بالرد حتى اتخذ الداعى عبرة يزداد به خيرا وذكرًا لربه وكذلك يروى عن إبراهيم التيمى أنه قال إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطيعه ويُحدث عند ذلك خيرًا ثم يدعوه إلى الباب من الإثم فلا يطيعه ويحدث عند ذلك خيرا فإذا رآه كذلك تركه وهكذا يروى عنه أنه قال إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك وإذا رآك مداوما ملك وقلاك وإنما مثل النافين في الوجوه الأربعة مثل رجال أربعة أرادوا مجلس محدث أو ذكر يخافون أن يفوتهم منه بقدر إبطائهم عنه فى طريقهم أو صلاة فى جماعة أو جمعة فمر أحدهم برجل من أهل الضلالة فعرض له بالتثبط والنهى عن الذهاب يريد أن يصده فلما رآه يأبى أن يرجع أن يجادله فقام عليه يجادله ويخاصمه والضال يحب طول المجادلة بينهما ليفوته بقدر ما يحبسه بخصومته ومر الثانى عليه فنهاه عن الذهاب إلى الموضع الذي يريده فوقف منتهرًا له رادا عليه فاغتنمها الضال بقدر ما يفوته يحبسه بالوقفة عليه ومر الثالث وهو يمشى ماشياً أو راكبا فعرض له بالنهى والتثبط وقد علم ما لقى أصحابه من الحبس فمضى ولم يقف ولم يحدث معنى ومر الرابع وقد علم ما لقى أصحابه من الحبس فلما أحس بصوته إن كان ماشياً سعى وإن كان راكبًا حرك راحلته بالسرعة ليغيظه وليدرك ما يطلبه تاماً ولا يكون كأصحابه الذين قبله فيوشك إن عادوا عليه أن يعرض لهم ويدع هذا الرابع لأنه اتخذ دعاءه عبرة وزيادة في الخير بالسرعة إليه والإعراض عما دعا إليه العدو وكذلك القوى الكيس من
قبل
المخلصين
قلت فكيف يكونون قبل الاعتراض بالدعاء أمنتظرين له بالحذر قبل أن يعرض حتى إذا عرض عرفوه أو يشتغلون عنه بالتوكل على الله عز وجل وبالطاعة حتى يكون هو الذي يزجر عدوهم عنهم
قال قد قال الناس فى ذلك أقوالا كثيرة مختلفة عامتها غلط إلا قولا واحدا فأحد ما قالوه أن فرقة من البصريين قالت إنما يحتاج إلى الحذر من ذلك الضعفاء فأما الأقوياء فقد انقطعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا لحبه فليس للشيطان عليهم سبيل إذ قطعوا حب الدنيا من قلوبهم وأبدلوا قلوبهم إلزام حب الله عز وجل لها والاشتغال بالسيد وبمناجاته فقد خنس
١٥٧
الشيطان عنهم وذل واعتزل كما اعتزل فى خاطر الخمر والزنا والقتل من قلوب غيرهم من العابدين وقالت فرقة من أهل الشام إنما يحتاج إلى الحذر من قل يقينه وضعف توكله فأما من أيقن بأن الله عز وجل لا شريك له في تدبيره ولا تحدث في ملكه ما لا يريد وأنه لا يضر ولا ينفع شيء إلا به وأن الشيطان عبد مخلوق ذليل مهين لا تنفذ له خطرة ولا مكيدة إلا بإذن الله عز وجل فيها فالعارف بالله عز وجل يرجع إلى الله عز وجل بالتوكل والاستحياء منه أن يراه يحذر مخلوقاً دونه فالحذر لغير الله عز وجل نقص من اليقين والتوكل فأولى به الثقة بالله عز وجل واليقين لأنه لا ضار ولا نافع غيره فلا يحذر عدوا ولا غيره
وقالت فرقة من أهل العلم كلا الفريقين غالط أما ما قالت الأولى فإن من الاشتغال بالله عز وجل والحب له حذر ما حذر منه واتباع أمره فيمن أمر بالحذر منه لأنه عز وجل يقول فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا ۱ وقال عز وجل للناس كلهم لا يحاشي ضعيفًا ولا قويًّا
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنْةِ وقال عز وجل إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فحض على التحرز منه ومن قبيله والحذر لهم ثم قال عز من قائل وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيُّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلقَى الشَّيْطَانِ فِي أَمْنِيَّتِه ۳ وقال النبي الله " إنه ليغان على قلبي هذا وقد أسلم شيطانه فلا يأمره إلا بخير ثم قال له ربه عز وجل واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عن بَعْض مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ٤
فلا أحد أشد اشتغالا بربه عز وجل ولا حبا له من محمد عا فأمره مع اشتغاله به وحبه له أن يحذر الخلق أن يفتنوه عن دينه وقال عز وجل لآدم وحواء وهما في الجنة في دار النعيم والملك التام لا يجد العدو لها خدعة من خوف فقر ولا نازلة شديدة ولا منع شهوة ولا طلبة لها يتكلف
وقد سمع الله عز وجل يقول
إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى
٢٢ ٥٢ ۳
140 £
٣٥ ٦ ۱
۷۷
وقال عز وجل يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُحْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى ١ فلو كان الله عز وجل يحب الأمن منه لأحد ويزيل الحذر عنه لأحبه لهما وأزاله عنهما في جنته وليس لها فتنة ولا شيء نهيا عنه إلا شجرة واحدة فكيف بنا فى فتن لا تحصى في القلب والجوارح وما لا يحصى من ملاذ الدنيا وشهواتها فما زال بهما حتى أخرجها من جوار ربها ! ! فمن يأمن عدو الله بعدهما إذ أزالها فى الدار التي لم يمتحنا فيها إلا بواحدة فكيف في دار المحن والبلوى والفتن والبلاء وقال موسى عله هَذَا مِنْ عَمَلِ الشيطان فحذرنا الله عز وجل في غير موضع في كتابه من الاشتغال به ومن حبه اتباع أمره وأن يحذر ما حذر منه فالأمن منه غرور وترك لأمر الله عز وجل فمستوجب من أمنه وضيَّع ما أمره الله عز وجل به من حذره أن يسلطه عليه ثم لا يعصمه منه عقوبة لتضييعه أمره وكيف يُؤْمَنُ من لم ينج منه الأقوياء فأمان الضعفاء له غرة وخدعة مع تضييع الأمر من المولى جل وعز بالتحذير منه واتخاذه عدوا وهو يقول عَدُوٌّ مُضِلَّ مُبِين بين الضلالة وأمر بحذره ومجاهدته كما أمر بحذر الكافرين ومجاهدتهم فقال عز وجل خُذُوا حِدْرَكُمْ
وأمر نبيه بصلاة الخوف تقوم بها طائفة منهم بعد طائفة لا نعد ذلك من النبي ع شغلا عن ربه عز وجل ولكن اتباعاً لأمره ففعل ذلك طاعة لربه لا اشتغالا بعدو الله والكفار عدو تراهم الأعين وتسمع أصواتهم الآذان فإن غفل العبد فأصابته منهم نزغة من ضربة أو طعنة أو رمية لم ينفك من أجر إن عاش أو شهادةٍ إن مات والشيطان عدو يراك ولا تراه كما أخبرك عنه ربك عز وجل إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فهو أجدر أن يظفر بك فلا تظفر
به
قال ابن محيريز فى ذلك صياد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك يعني إبليس يراك
ولا تراه
وإن غفلت عنه فأصابتك نزعته فعملت فيك لم تعر من إثم أو حبط عمل أو نقص من فضل وإن مت عليها في قتال في سبيل الله عز وجل أو غير ذلك وقد قبلت منه خطرة من
۱۱۷ ۰ ۱
في رواية بين العداوة
١٥٩
الرياء أو غيره مما نهيت عنه كانت النار أو يعفو الله عنك فأى العدوين أولى أن تحترز منه وأى النزغتين أولى أن تحذر عدو تراه إن غفلت عنه ه فأصابتك نزغته لم تخل من أجر أو شهادة أو عدو يراك فلا تراه وإن أصابتك نزغته لم تخل من إثم أو خسران عمل أو موت أو دخول إلى النار أو يعفو الله عز وجل العلى الكريم
فقد تبين غلط الفرقة التى قالت إن من الاشتغال بالله عز وجل الإعراض عما حذر الله منه
طاعة لله عز وجل واتباعاً لأمره فذلك بين عند من عقل أمر الله عز وجل وأما الفرقة الثانية التى قالت إنه من اليقين والتوكل على الله عز وجل ألا يحذر عدو الله فهذا غلط منها أيضاً لأن أولياء الله عز وجل لم يحذروا العدو باعتقاد منهم أنه يضر أو ينفع دون الله
اعتقاد أنه لا تضر خطراته إن -
الله
عز وجل ولكن طاعة لله عز وجل مع عصم عز وجل ولا ينفع حذره إن خذل الله عز وجل فلا تأل جهدًا فى الحذر إن حذرك الله عز وجل فترك الحذر من الخذلان ودوام الحذر هو عصمة من الله عز وجل لأن الحذر مهما دام حجز العبد عن القبول منه فكيف يكون من يحذره قد نقص توكله وحذره عصمة من الله عز وجل على العبد فيها أعظم النعم فكيف يكون من خاف ما خوف الله عز وجل تاركا لأمر الله وكيف والحذر هو الذي جعله في النجاة من كل ماكره الله عز وجل وإنما يركن العبد إلى ماكره الله عز وجل إذا ترك الحذر مما حذر الله فالحذر لما حذر الله منه العبد أن يحذر العبد أن يترك الحذر مما حذر منه فيكون مضيعا لأمره وضدّ الحذر الأمن والغفلة والأمن والغفلة ترك القيام بما أمر الله ولكن اتبعوا أمر الله عز وجل بذلك فكان حذرهم اتباعًا لأمره من توفيق الله لهم لا حذرًا لإبليس أنه يضر أو ينفع ولكن يطيعون ربهم كما أمرهم وذلك كما أمر النبي بصلاة الخوف وأمره أن يأخذ حذره من عدوه هو والمؤمنون فقال عز من قائل
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ۱
وظاهر النبي ما بين درعين وحمل المؤمنون الترسة ولبسوا ما يحصنهم وأقام النبي الله من يحرسهم فى صلاته وحفر الخندق فتحصن به شهرًا لا ينقصه ذلك ولا المؤمنين من يقينهم ولا توكلهم لعلمهم أنه لا يكون إلا ما قدر ولا يشغلهم عنه ذلك ولكن اتباعاً لأمره واشتغالا بما أحب وأراد فكذلك من حذر العدو الذى لا يراه وهو يكيده بأعظم ما يكيده الكفار
1A 1
1
فحذره طاعة من المؤمنين الله عز وجل واتباع لأمره وتوكل فى ذلك على ربه يؤدى ما أمر به مع خلع الشيطان من ملك شيء دون ربه عز وجل ويثق بربه ويحسن الظن به إذا اتبع أمره بالحذر مما حذر مع اليقين بأنه لا يضر ولا ينفع غيره وأنه يحسن معونته ويقويه على عدوه ويعصمه من فتبته فليس من اتبع أمر الله عز وجل مع اليقين بناقص التوكل واليقين ولكن ناقص اليقين من
ضيع أمره إرادة كمال اليقين وهذا قول الفرقة المتبعة لكتاب الله عز وجل والسنة
١٦١
باب وصف الحذر من العدو إبليس
قلت كيف الحذر منه أهو انتظار وتوقع متى يعرض أم نحذر بغير انتظار له قال وقد اختلفت هذه الفرقة التى دانت بحذره اتباعاً لأمر الله عزَّ وجل فاختلفت هذه الفرقة إلى ثلاث فرق كلها غالطة إلا فرقة فقالت فرقة منهم إذا أمرنا الله عزّ وجل بمجاهدة من لا نراه وخوفنا منه وأعلمنا أن في ظفره بنا الهلكة ولا يكون فى قلوبنا شيء أغلب عليها ولا ألزم لها من حذره فننتظر متى يعرض بفتته لأن الاشتغال عنه يورث النسيان والنسيان يورث قبول خطراته بغير معرفة وذلك يؤدى إلى الهلكة فرأت أن تكون قلوبها منتظرة للشيطان متوقعة متى تخطر بخطرة فينظروا فيها كراهة أن يخطر على غفلة فيقبلوها فيهلكوا وهم لا يشعرون
وقالت فرقة ذلك غلط لاشتغالها بانتظار الشيطان ولم نؤمر بذلك وذلك إرادة الشيطان منا أن نخلى قلوبنا من ذكر الله عزّ وجلّ وذكر الآخرة ونعمرها بذكره وارتقاب خطراته ولكن نلزم قلوبنا ذكر الآخرة وذكر ما يعرض فلا نكون قد تعطلنا من ذكر الآخرة ولا نكون ناسين لمن أمرنا بحذره كراهة أن يأتى على غفلة فيفسد ما نحن فيه من الذكر فكان ذكر الله عزّ وجلَّ وذكر وساوس الشيطان في قلوبهم متعارضين كلما ذكروا شيئًا من ذكر الآخرة ذكروا العدو شفقا أن يخطر بفتنته فيزيل قلوبهم عن ذكر الله عزّ وجلَّ أو يركنوا إلى ما يحبط عملهم في يوم عرضهم على ربهم جل وعز
وقالت فرقة وهم أهل العلم وأولى بالحق كلتا الفرقتين غالطة أما الأولى ففرغت قلوبهم من ذكر الآخرة وجعلت عبادتها إلزام قلوبها ذكر الشيطان فقد أدخلت ذكر الشيطان من القلب غلطاً أكثر مما أدخلت ذكر الله عزّ وجلَّ فى قلوبهم وإنما أمرت بالحذر من أن تغفل عن الذكر والعمل فإذا ودعت الذكر فقد أصاب العدو ما أراد وإن جاءت خطرة إلى قلب فارغ من الذكر يوشك أن يقبلها إذ ليس فيه نور من ذكر الآخرة ولا قوة اشتغال بالله عزّ وجل فأنتم أضعف في الرد وأفرغ قلوبًا من الآخرة من غيركم ولم تؤمروا بانتظاره ولا بإدمان
ذكره
الرعاية الحقوق الله
١٦٢
وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى فى بعض معناها إذ جعلت ذكر الله عزّ وجل وذكر الشيطان في القلب مستويين فكأنما أمرت بذلك ذكر الله عزّ وجل وذكر الشيطان والاشتغال بالله عزّ وجلَّ وبالشيطان ولم يبلغنا عن أحد من الأقوياء ولا الضعفاء أنه فعل ذلك ولا دان به لأن الله عزّ وجل أمر عباده بطاعته وندبهم إلى الاشتغال به عن خلقه إبليس وغيره وأمرهم بالحذر منه حين يعرض بفتنته فاشتغل أولياء الله عزّ وجلَّ وأهل الخالصة من عباده بذكر ربهم وذكر ما ندب إليه وأحبَّه وألزموا قلوبهم حذر ما حذرهم منه على غير انتظار له ولا اشتغال بذكره والحذر يلزم القلب من العناية بالنجاة من العدو والخوف من فتنته ثم لا يمنع الاشتغال بالله عزّ وجلَّ مع ترك ذكر العدو والاشتغال به أن مهیج الذكر والتيقظ حين يعرض العدو بخطرته وإن ذلك لموجود فيا هو أشد من الاشتغال بالله عز وجل ذهاب العقل بالنوم حتى لا يعقل شيئًا من الدنيا فإن نام والحذر فى قلبه من ذهاب النوم تيقظ في غير وقته الذى كان يستيقظ له من الحذر اللازم لقلبه فكذلك المشتغل بذكر ربه الذي لم يذهب عقله أولى أن يوقظه ويذكره الحذر من عدوه وإن اشتغل بذكر ربه وترك ذكر عدوه والاشتغال به لأن المستيقظ من النوم من غير ذكر دائم في قلبه وكيف يذكر وهو نائم لا يعقل ولكنه أيقظه الحذر فكذلك العامل لله عزّ وجل المشتغل بذكره اللاهي عن ذكر الشيطان بالاشتغال بربه عزّ وجلَّ إذا عرض عارض منه ذكره الحذرُ في قلبه وقواه الذكر على أن يفطن للعارض وتحرك للعارض وفزع إذ كان فيه عطبه والنائم ليس في قلبه ذكر ولا عارض له يوقظه فإن عرضت خطرة ذكرها وكان أقوى على ردّها لأنها تعرض بقلب مشغول بالله عز وجل قد غلب عليه نور الاشتغال فأمات منه الهوى وقوى منه العقل وزجر الجهل وجانبه بنور العلم فيرده بأهون الردّ
ومثل الذي يفرغ قلبه أو بعضه لانتظار خطرة من الشيطان مثل من يريد أن ينزف الماء القذر من بئر والماء من المجرى إليها واصل فهو ينزف والماء إليها يجرى فيقطع أيامه بالنزف ولم تجف البئر من الماء ومثل الذى يُلزم الاشتغال بالله عزّ وجل قلبه مثل من جعل لمجراها سكرًا وسدا فإذا جاء الماء ردَّه بدلك السكر والسد من غير كلفة ولا عناء فطهر البئر من السائل من الأقذار وقل تعبه وكلفته فى النزف وكذلك من اشتغل بالله عزّ وجلّ ردَّ الخاطر باشتغال قلبه بربه عز وجل ونوره وقوة عزمه بأهون الردّ فهذه الفرقة الفرقة للقرآن والسنة والصالحين أتبع وعلى ردّ الخطرات أقوى وأبعد من الخدع
مما افترضه الله والرعاية والتقوى هما الاستجابة إلى الأمر والانتهاء عما نهى الله عنه ومن أجل ذلك تحدث المحاسبى عن التقوى بعد شرحه لمعنى الرعاية توضيحا للرعاية وبيانا لها وبين جزاء المتقين وأنهم فى مقام أمين ويقال لهم عن الجنة ادخولها بسلام
يريد
أن
آمنين والناس دائما يريدون الأمور محدودة مرسومة فيسألون عن الخطوة الأولى التي يخطوها من يسلك الطريق إلى الله وعن كيفية البدء فى الإعداد للمقام بين يديه سبحانه ه فليكن أول ما تبدأ به من العدة لذلك المقام تقوى الله عز وجل في السر والعلانية ليأ من قلبك في ذلك المقام مع قلوب المتقين حين ينجز لهم ما وعدهم من الأمن والغبطة
والسرور
فالتقوى أول منزلة العابدين وبها يدركون أعلاها وبها تزكو أعمالهم لأن الله عز وجل لا يقبل عملا إلا ما أريد به وجهه
ولكن الإنسان قد يكون مغترا مخدوعا بعبادته
فكم من متقشف في لباسه متذلل فى نفسه آخذ من حطام الدنيا اليسير ومن مصل وصائم وغاز وحاج وباك وداع ومظهر للزهادة فى الدنيا والرفض لها على غير صدق ولا إخلاص ولا صلاح حقيقى وإذا ما أراد إنسان من هؤلاء أن يزن أعماله بموازين الدين إذا استيقظ فؤاده فأراد أن يعرف أين هو من المخلصين فعليه أن يرجع إلى نفسه ويعرض أيامه التي خلت من عمره في عبادته وينظر هل أتى عليه يوم منها حفظ فيه جوارحه وقلبه عماكره الله ! وهل سلم من العجب والكبر والحسد والشماتة وسوء الظن ولعله بعد هذا العرض يتواضع ويبدأ في إصلاح أمره
على أن التقوى وإن كانت أول منازل السالكين فإنها معنى عام يبدأ أول ما يبدأ حينما يعلم الإنسان أنه عبد مربوب لأن أول ما يلزمك فى صلاح نفسك الذي لاصلاح لها في غيره وهو أول الرعاية أن تعلم أنها مربوبة متعبدة فإذا علمت ذلك علمت أنه لا نجاة للمربوب المتعبد
إلا بطاعة ربه ومولاه
والطاعة سبيل النجاة
والعلم هو الدليل على السبيل
١٦٣
عز
والنقص فألزموا الحذر قلوبهم بغير اشتغال بالعدو ولا خافوا المقدرة عنده دون ربهم وجل ولكن طاعة الله وتوكلا عليه واتباعا لأمره ولم يعدوا الاشتغال بربهم جل وعزّ والإعراض عن الاشتغال بالشيطان وذكره فهم فى الاشتغال بربّهم دائبون وبالحذر إذا عرض الخاطر متيقظون وبقوة الاشتغال بالله يسهل عليهم ردُّ الخاطر إذا عرض بفتنة فسلموا
وغنموا واتبعوا واستقاموا
١٦٤
باب الغلط فى الحذر من العدو إبليس
قلت فإذا خطرت خطرة تحذيرًا للرياء هل يكون في التحذير غلط قال إن أنفع التحذير ما لم يورث أمنا
قلت فكيف يورث التحذير أمنًا
قال يدعوك إلى الحذر من الرياء بترك العمل ولما لم تطعه فى ترك العمل دعاك إلى الرياء ليحبط عملك فلما لم تطعه ولم تجبه إلى ذلك حذرك الرياء بترك العمل فقال إنك مراء فدع العمل فردك إلى ما أرادك عليه من ترك العمل أولا فلما لم تجبه إلى تحذيره ورتك أمنه فأمنته إذ لم تفطن أنه إنما أراد أن يحرمك ثواب العمل إذ عرض لك بتحذير الضرر وأنك تريد بذلك الإخلاص فلم تخلص لله عزّ وجلَّ شيئًا حين تركت العمل لأن الإخلاص أن تعمل وتحذر الرياء وتنفيه عن عملك فيخلص لك عند ربّك عزّ وجلّ وليس الإخلاص أن تترك العمل فلا يخلص لله عز وجل عملك
فعلى المريد الإخلاص في عمله فإن ترك العمل إرادة الإخلاص فلم يخلص الله عز وجل
عمله ولكن تركه أرأيت لو أن عبدا دفع إليه مولاه حنطة فقال طيبها واجعلها خالصة من الزوان والشعير أو فضة فقال له ألقها فى الخلاص حتى تكون فضة خالصة من الخبث والغش فألقى الحنطة والفضة فقال أخاف ألا تخلص هل كان أخلص لمولاه شيئًا فقد خدع من قبل الإخلاص بترك استعمال الإخلاص حيث أمر أو ندب إليه لأن التخليص غير الإخلاص التخليص التمييز بين الجيد والردىء والحق والباطل والإخلاص أن يكون الحق والجيد خالصاً صافياً من كل ما يشبهه فكذلك التخليص فى العمل لله عزّ وجلَّ هو نفى الخطرات وترك القبول للرياء واعتقاد الإخلاص فيكون عملا خالصًا بعد ما ميز من الرياء وعزله منه ونفى الرياء أن يخالطه وكذلك الفضة إنما تكون خالصة إذا خلصت فميز الخبيث منها وكذلك الحنطة إذا ميز الزوان منها
وقد يمكن أن يعترض من الشيطان أيضًا لو ترك العمل خوف الرياء في الترك فلا ينجيه منه
١١٥
وصدق رحمة الله عليه ولو أن غائبين عنك ترى أن أحدهما قادم سريعا في يومك أو ليلتك
أو من غدك والآخر ترى أنه يقدم إلى شهر أو إلى حول لاستعددت للذى ترى أنه عليك قادم سريعاً إن كان أوصاك بوصية بادرت إلى إنفاذها قبل أن يفجأك بقدومه فتلحقك ملامته أو عقوبته وتهيئ له مع ذلك البر واللطف وإن كانت إليه منك ذنوب أو إساءة أجَلْتَ الفكر ورؤيت كيف تعتذر إليه لتخرج من سخطه أو من ملامته أو لئلا تنتقص منزلتك
عنده
ومما يدلك على ذلك ما روى عن كعب بن مالك رضى الله عنه حين خلف غزوة تبوك أنه قال لما قيل إن النبي الله قد أظل قافلا جعلت أتفكر وأستعين على ذلك كل ذى رأى من أهلى كيف أعتذر إليه لأخرج من سخطه وكذلك من غلب على قلبه أن الموت قادم عليه سريعا ثم علم أن الخبر يأتيه يقينا عند الموت بهلاكه أو نجاته بادر إلى أن يترضى الله عز وجل ويعتبه بالاعتذار إليه بما يقبله والطهارة لقلبه وبدنه من المعاصي ليلقاه طاهرا وقد يفعل ذلك أهل الغائب بغائبهم تكنس له الدار والبيوت ويتزين له ليعلم أنهم قد أعظموا قدره وتأهبوا لقدومه وكذلك المقصر أمله متطهر مستعد متزين ليعلم الله عز وجل أنه قد أعظم قا
قدر لقاء ربه
وتزين وتطهر للقائه لئلا يسخط عليه وأن يقبله ويرضى عنه بهيج العبد على ذكر تخويف مسارعة الموت ما أخبرتك من زوال الأوقات التي لا يجوز
ومما
فيها الأمن له
وكذلك يروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه و يا بني أمر لا تدري متى يلقاك فاستعد له قبل أن يفجأك
وكذلك قال بعض الحكماء كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك
وقال لقمان لابنه يا بنى لا تؤخر التوبة فإن مالك الموت يأتي بغتة وقد روى عن بعضهم أنه بات فلم يزل متلفنا يمينا وشمالا حتى أصبح فقيل له في ذلك فقال كنت أنتظر من أى شق يجيثنى ملك الموت
وقيل للربيع ابن خيثم كيف أصبحت قال أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا
عدة
وقال رجل لسعيد بن أبي السائب كيف أصبحت قال أصبحت أتوقع الموت على غير
ومهما يكن من شيء فقد كان الإمامان أحمد والمحاسبي متعاصرين وحدث بينهما
اختلاف فى الرأى يتعلق بالكتابة فى المسائل الكلامية وحمل الإمام أحمد على كتب الإمام المحاسبي في علم الكلام فقل تداول الناس لها - فيما يبدو - واختفت شيئًا فشيئًا ولعل بعضها لا يزال موجودا بيد أننا لا نعلم عنها شيئًا على أن رأى المحاسبي في المسائل الكلامية معروف تحدث عنه الشهرستاني وغيره ممن كتبوا في الملل والنحل وهو الرأى السلفى ولم تكن حملة الإمام أحمد عليه لرأيه وعقيدته فذلك أمر يتفق فيه الإمامان وإنما كان إنكار الإمام أحمد عليه للأسلوب والطريقة التي ينصر بها الدين وما من ريب في أن ما قام به الإمام المحاسبي في الرد على المعتزلة وغيرهم من أهل الانحراف إنما هو فى الوقت نفسه انتصار للإمام أحمد بن حنبل وتقوية له وعون على بلوغه غايته رضى
الله عنهما
أما كتبه في أدب النفس وتزكيتها وفى الإنابة إلى الله والرجوع إليه وفى الرعاية لحقوق الله وفى التصوف على وجه العموم فقد بقى منها كثير عرفنا عنه جملة صالحة لاتزال مخطوطة وطبع البعض في أوربا والقاهرة وسوريا ونتحدث هنا في إيجاز عن بعض هذه المؤلفات ثم نفصل القول في كتاب الرعاية
١ - كتاب الوهم
أول ما طبع للمحاسبى كتاب الوهم طبع فى القاهرة سنة ١٩٣٧م وقد عنى الدكتور اح أربرى وكتب مقدمته الدكتور أحمد أمين وفى المقدمة يقول عن الكتاب ه نحا فيه منحى طريفاً يدل عليه اسمه فلم يقتصر على ما ورد من الأخبار في الخوف والرجاء كما فعل غيره بل استعمل توهمه - وبعبارة أخرى خياله - في وصف شعور أهل الجنة وأهل النار وما يلقون من سعادة وشقاء ونعيم وعذاب وأسلس الخياله القيادة فتخيل ما تخيل وصور ما صور فهي لوحة جميلة لفنان أجاد ألوانها أو رواية رائعة لكاتب جمل منظرها وفصل مواقفها وصقل لغتها حتى يؤثر بالحقيقة التي تتضمنها في نفوس القارئين والسامعين أكبر الأثر وأبلغه
129
باب ما ينفى به الرياء
قلت فيم ينفى الرياء حتى يسلم منه العبد
قال إنَّ نفى الرياء بمعنيين أحدهما نفى ما قد قبل من الرياء وركن إليه والآخر نفى العارض بالدعاء ولم يقبله قلت عنهما جميعا أسألك وابدأ بنفى العارض
قال العارض لا يخلو أن يكون من العدو أو من النفس من قبل هواها لأن العدو له ثلاث خطرات بذلك أولها الرياء بذكر اطلاع الخلق أو علمهم أو رجاء اطلاعهم أو علمهم والثانية الترغيب في حمدهم أو التحذير من ذمّهم وقد تجمع الخطرة الواحدة ذكر علمهم والترغيب فى حمدهم والثالثة الدعاء إلى القبول والعقد لذلك والركون إليه فأقوى الناس في النفى الراد عند الخاطر الأول بتذكير علم الخلق والقنوع بعلم الخالق والذي يليه في القوة الراد عند الترغيب فى الحمد والترهيب من الذم بالرغبة في الثواب والرهبة من ذم الديَّان والثالث الذي يردُّ حين يدعو إلى القبول بعد هيجان الرغبة والرهبة في الحمد والذم
قلت فكيف الردُّ للعارض عند هذه الخطرات الثلاث
قال ينفى ذلك كله بالمعرفة والكراهة إن اجتمعا وإن افترقا لم ينتف الرياء
قلت فكيف ذلك قال إن كان كارها للرياء فى جملة عقد قلبه ثم اعترض الدعاء وهو عاقل فلم يعرف أن ذلك هو عارض الرياء الذى يحبط العمل قبوله فركن إليه واستحلاه ولم يذكر فيستعمل الكراهة المتقدمة في جملة عقد قلبه وضميره لأن الخطرة تأتى بالدعاء إلى الرياء بالترغيب في الحمد والنيل من الدنيا والترهيب والتحذير من الذم والملامة فيملأ حلاوة حب الحمد ورهبة الدم قلبه ولا يكون في القلب موضع فراغ يذكر به أن ذلك هو الذي يُحبط عمله كالعبد ينوى أن يحلم إن غضب ولا يكافئ بما يكره الله عز وجل فإذا اغتاظ ملأ الغيظ قلبه ونسي عزمه ما قدَّم من العزم على الحلم فكما يملأ الغيظ قلبه فكذلك
ولم يبق من قلبه موضع فراغ يذكر بـ
به
10
ذلك يخطر
شيء وإن دخل تحت الأرض مع ما حرم بترك العمل وذلك أنه لو تكلم بخير فعرض له أن اسكت لئلا تكون مرائياً فسكت لقال الآن يقولون إنما سكت لطلب الإخلاص فقر فإن فرّ عرض له أيضًا بأن يقولوا إنما فركراهة الرياء والشهوة فلو دخل سرياً في الأرض ألزم قلبه حلاوة الفرار والخلوة فيه لعلمه بما يلزم قلوبهم من التعظيم لمن أراد الإخلاص وفر طلباً له فلا ينجيه من ذلك إلا المعرفة والكراهة والإباء له وبين الدعوى للباطل والدعوى على حقيقة فرق إذا دعاك داع من قلبك أنك مراء فنظرت فإذا أنت من قبل عقلك وعلمك كاره أبي راد وإن كان العدو مع وطبع النفس ينازع عرفت أنها دعوى باطل من عدوك ليصدّك عما أنت فيه أو عما عرض لك من البر والطاعة قبل الدخول فيه فإن خطر خاطر آخر بذلك فرجعت إلى نفسك فوجدت قلباً مجمعاً على ذلك متمنياً لحمد المخلوقين ولا رادَّ من عقلك لهوى نفسك علمت أن ذلك تنبيه من الله عزّ وجلَّ لك لما اعتقدت من الرياء فندمت واستغفرت فإن قويت على الله عزّ وجل عقوبة النفس بلزوم ذلك العمل الله عز وجل بنية قوية عن غير غلوطة تبين لك ذلك بإجماع القلب أن لو لم يعلموا بذلك لفعلته حياء من الله عزّ وجلّ إذ سخت نفسك للمخلوقين بالطاعة الحمدهم وأعرضت عن إرادة الله عزَّ وجل فإن وجدت من نفسك هذه القوة بعد الندم والاستغفار والنية منك ألا تعود إلى مثل ذلك فامض في العمل فإن لم تجد ذلك من قلبك فدع العمل إن كان العقد أولا للمخلوقين فدع العمل مع الله عزّ وجل أن تسخو نفسك بالعمل لحمد المخلوقين ولا تسخو للعمل لحمد الخالق عزَّ وجلَّ وإن كان العقد الأول الله عزّ وجلَّ ثم ركنت بعد ذلك فانف ذلك واندم عليه وارجع إلى عقدك الأول فاعمل عليه مع الحياء من الله عزّ وجلَّ إذ رآك
الإخلاص
الحياء من
مستبدلا بحمده طلب حمد غيره حتى كان الخلق يطلعون على ضميرك معه بل لو اطلعوا
لخشيت مفتهم لما أردت من ا من حمدهم فاستح من الله عز وجل المطلع عليك وعلى إعراض قلبك عنه إلى من لا يملك منفعة ولا دفع مضرة ولو اطلعوا على ضميرك لكانوا أهيب عندك منه جل وعلا فليعظم حياؤك منه وإن قدرت أن تزيد فى العمل حياء من ربك عز وجل وعقوبة لنفسك فافعل وإن عرض لك عارض وأنت فى العمل وقد أردت الله عز وجل به لا يدعى عليك أنك مراء ولكن يحذرك الرياء ويقول اتركه لأن تسلم فذلك من العدو ومن هوى النفس فإن خطر خاطر يحذرك الرياء ويأمرك بأن تتم العمل
بالحذر ليكون سليما خالصًا فذلك واعظ من ربك عز وجل
۱۸
باب سرور العبد عندما يظهر عليه من عمله قبل فراغه منه وبعد فراغه
قلت فأخبرنى إذا اطلع عليه بعد فراغه من العمل فيسر باطلاعهم
إذا
قال سروره باطلاعهم قد يتصرّف على وجوه ليس كلها مذموماً قد يسر باطلاعهم ! أطلعهم الله عزّ وجلّ وقد كان هو يستره عنهم فأبى الله عزّ وجل إلا أن يطلعهم عليه فيسر بما يرى من نعمة الله عز وجل بستره القبيح وإظهاره الجميل
قلت فيعدها نعمة ويسر بحمدهم فهو إذا يحب حمدهم على طاعة الله عز وجل قال لا ولكن يسر بستر الله عز وجلّ القبيح عليه وإظهاره الجميل منه لأن النفس تحب أن تحمد وتكره أن تذمّ ويهتك عنها الستر فيسر بستر الله عز وجل إذ فعل به ما يوافق طبعه وترك ما يخالفه سرورًا باللطف منه لا لقيام المنزلة عندهم فيسر بفعال المنعم في ستره القبيح وإظهاره
الجميل
قلت وبماذا يكون سروره
قال يسر بما يرى من الخلق وحمدهم الطاعة إذا ظهرت من المطيع وحبهم له فيسر بذلك منهم إذ كانت قلوبهم كذلك وغيرهم ممن يدعى الإيمان قد يرمى من اطلع عليه على مثل هذا العمل بالرياء ويتكلم بالوقيعة فيه والحسد فيسر بطاعتهم فيه ومجانبتهم أهل الحسد وأهل سوء الظن ويسر أيضًا إذا ستر الله عز وجل عليه القبيح وأظهر الجميل رجاء أن يكون هذا دليلا على ستر الآخرة لقول النبي الله ما ستر الله عز وجل على عبد في الدنيا إلا وستر عليه في الآخرة ويسر أيضًا باطلاعهم وتعظيمهم الطاعة ورجاء أن يقتدوا به فيعملوا مثل ذلك العمل ويسرأيضًا باطلاعهم لنفسه ليحمدوه لطاعته الله عزوجل ويبجلوه ويعظموه ويفضلوه ويبروه ويصلوه وهذه الخلة المكروهة
قلت فهل يفسد ذلك عمله الماضى الذى قد فرغ منه وإنما يسر به بعد العمل قال لا وقد ذهب العمل خالصًا ولم يراء به ولم يظهره على عمد ولم يحدث به ولم يتمن أن يظهروا عليه وهذه المحبة منه الحمدهم نقص منه ومحبة للمنزلة عندهم بطاعة الله عزّ
۱۹۸
من العمل وسخت نفسه بألا يحمد عليه وندم ألا يكون لم يجهل وأراد الله عز وجل به قبل الدخول فى عمله فذلك يجزيه من الإعادة لما مضى إذ ختم عمله بالإخلاص وإنما الأعمال
بخواتيمها
عندهم
والفرق كلها الصلاة لا يشبهها شيء من الأعمال إلا أن الإحرام بالحج أوكد في عقد الدخول ليس له أن يدعه ولكنه يتمه لما أوجب الله عزّ وجلّ عليه ألا يحله إلا الطواف بالبيت ولسنة النبي الله فليتمه وعليه الندم على الرياء وليس له أن يخرج منه قلت إذا كان الله عز وجل قد ستر على وألقى لى المحبة عند الإخوان والجيران والمعارف وأظهروا الحمد والثناء وقلبي يعطى العزم أنه لا يريد ثناءهم ولا يريد حمدهم فهل يخاف على أن يكون ذلك أغلوطة وخدعة قال ذلك على معنيين أحدهما أن تكون صادقاً في ذلك غير مطمئن إلى حمدهم تشكر الله عزّ وجل على ستره عالم بأن حمدهم لم يزدك فى معنى من المعانى وقد تكون ركنت إلى حمدهم و استراحت نفسك إلى ذلك وأنت تعطى من قلبك الكراهة على خدعة وغرة وذلك أن النفس قد ظفرت بما أحبت من حمد العباد فلا تبالى أن تعطى الكراهة لغير نقص من محبتها وقد ظفرت بما أحبت وذلك مثل الرجل يكون عنده ما يكفيه ويكون له من ينفق عليه فيقول توكلت على الله وما أهتم للرزق ويخيل إليه أن ذلك يقين منه وتوكل وإنما طمأنينته وثقته بالكفاية والإجراء عليه ونفسه تريه وتخيل إليه أن ذلك يقين منه وتوكل
قلت فيم أميز بين هذين المعنيين
قال إذا تغيروا أو تغير بعضهم عن الحمد فإن رأيت نفسك لا تغتم إلا خطرات لا تملك وأنت لها راد فاعلم أنها صادقة فى نفى حمدهم ولولا أنها كانت زاهدة في حمدهم لما قل غمها بزواله وإن اغتمت بتغيرهم عن الثناء عليك وما خطر منه على قلبك لا تكاد أن تخرجه واشتغل به قلبك فهذا دليل الخوف أن تكون النفس كانت راكنة راغبة في حمدهم ولولا ذلك ما اغتمت إلا عارض غم مردود بعقل عن الله عزّ وجلّ ولولا أنه نزع منها ما تحب ما اغتمت بل قد تغتم بالظن دون اليقين كراهة أن يكونوا قد ظنوا بك غير ما كانوا يعرفونك به حتى يشتغل بذلك قلبك ولعلك أن تخرج إلى أن تقع فيمن ذكرك لئلا يصدق عليك وتعتذر بالكذب وتحلف بالإيمان وتسهر بالليل للفكر فإن علمت أنهم قد أيقنوا بذنبك شغلك الهم بعلمهم عن علم الله عز وجل ولعلك أن تعتذر من ذلك الذنب بأعظم من الذنب وتظهر من الهم والانكسار
۱۳
باب ما يجوز للعبد من محبته لمحبة الناس له
قلت هل يجوز أن أحب أن يحبنى الناس قال أما على طاعة بعينها ليحمدوك عليها فلا تحبب بالطاعة إلا إلى الله عز وجل ولا ترد حمد غيره وأما أن تحب أن يحبوك لغير طاعة محمودة عندهم ولكن لتخف على قلوبهم ويحبوك للستر على غير طاعة يحمدونك عليها فلا بأس لأنهم لا يحبونك على الطاعة إلا حتى يعرفوا فضلك ويحمدوك بقلوبهم ثم يحبونك ويعظمونك ويرونك فلا يجوز لك طلب ذلك منهم بطاعة الله عز وجل
قلت فقول النبي لا حين قال له رجل دلني على ما يحبنى الله عليه ويحبنى الناس قال ازهد فى الدنيا يحبك الله ودع أو انبذ إليهم هذا الحطام يحبوك وقد قال النبي ه إذا زهدت في الدنيا أحبك الله عزّ وجل وأحبَّك الناس قال صدق الله لأنه إذا ترك ما أبغض الله عز وجل وهى الدنيا وآثر الله عز وجل بها وهى أحبه فمن ترك شهوته لربه عز وجل أحبه الله عز وجل ! فلا يمتنع الخلق أن يحبوا من آثرهم على نفسه فكيف بأكرم الأكرمين
شهوته
ومن زهد فى الدنيا لم يكن على أحد منهم أ أذى ولا مؤنة والناس يحبون من كان كذلك وقد يقذف الله عزّ وجل بالمحبة في قلوبهم لمن تحبب إليه ولم يقل له دلني على أمر أريد به حمد المخلوق وحمد الله عزّ وجل ولم يقل النبي عل الله ازهد فى الدنيا وأرد بزهدك الله وخلقه ولكن أمره بالزهد الله عز وجل وحده وأخبره أن الله عز وجل يحبه ويحببه إليهم لصدقه لأنه أراده وحده جل ذكره ودله على ما يعزل على الناس أذاه ومؤنته فلا يمتنعون من حبه
قلت أليس قد أظهر السائل والنبي مال الترغيب في محبة الناس
قال لا بأس بالرغبة في محبتهم من عند الله عز وجل بعد الصدق منه الله عزّ وجل وحده ألا ترى إلى قوله و ازهد فى الدنيا وحبُّ محمدتهم من أكبر الرغبة في الدنيا والزهد في حب محمدتهم من أكبر الزهد في الدنيا
۳۰
لصلى فيصلى معهم ولا يدع الصلاة من أجل تلك المنازعة إلى حمدهم أو وجد من قلبه أنه غالب عليه إرادة الله وحده عز وجل وأنه لو خلا لقام مثل ذلك القيام وقد ينشط العبد بغيره الجمعة تزول عن العبد لأسباب المشغلة ويرى من حوله يصلى فينشط لذلك يوم وهو في سائر الأيام لا يكاد أن يصلى فإذا حضره مثل تلك النية فليصل فإنه الله عز وجل وكذلك بالليل مع غيره إلا أن مع غيره أقرب من خدعة النفس فليعرض على قلبه ما وصفت
كالصلاة
لك
قلت فإن حضر مع قوم يبكون ولم يأته البكاء فوجد نفسه تجزع أن يكون قاسيا من بينهم أيتكلف البكاء بالفكر والذكر قال ليعرض على قلبه أن لو خلا وسمع بكاء هم ورآهم من حيث لا يرونه هل كان جزعاً إن كان قاسيا يراه الله عزّ وجل على ذلك وغيره يبكى من خشية الله عز وجل وأن يكونوا أخوف الله عزّ وجل منه وهو يعرف من نفسه من الذنوب أكثر مما يعرف منهم فليتكلف ذلك وإن لم يجد من قلبه ذلك فلا يتكلف ذلك حتى يأتيه ما لا يملك لأنه إذا لم يجد من قلبه ذلك لا آمن أن يكون قد جزعت نفسه أن يقولوا ا أقساه وأقل رقته وأقل خوفه وحزنه ! لأن النفس تنازع إلى أن يظهر منها الخوف ليكرم به ه ألا ترى إلى قول لقمان رحمة الله عليه يا بني لا تُرِ الناس أنك تخشى الله ليكرموك وقلبك فاجر قلت فالصيحة تكون من العبد أو النفس العالى عند الذكر يسمعه العبد أو عن فكرة منه تكون ذلك
قال ذلك على ثلاثة أوجه
أحدها تكلف - لا عن خوف هائج - ابتغاء حمد من يسمعه أو يبلغه غيره عنه أو جزعًا - عند الذكر يسمعه - أن يقال ما أقساه وأقل رقة قلبه عند الذكر أو يفجأه على ذنب وتقصير فى دين كالمزاح أو الضحك أو يظن أنه قد بلغهم عنه ذنب أو نقص في دينه فيتنفس أو يصيح تحزنا ليندرس ما كان منه ولئلا ينقصه ذلك عندهم إما ليشككهم فيا كان منه إن كان يحتمل التشكيك أو لئلا يضع أمره على قلة الخوف الله عزّ وجل وقلة وقلة الحزن وأنه منه لأجل خوف في قلبه والحزن فإليه يرجع
الورع
والوجه الثاني أن يتفكر أو يتذكر أو يسمع الذكر من غيره فيحزن قلبه حزناً لا يغلب على قلبه فيتكلف الصياح والتنفس بالزفرة والأنين استعظاماً لما يتفكر فيه ولما يسمع إذا
٢٤٨
نافلة وذلك هو الخسران المبين
فكم من صاحب قد عصيت الله عز وجل معه وتصنعت له قد مات وخذلك
بتوحده في القبر عنك وبقى ما عصيت الله عز وجل
الأصحاب يطول وليس هذا بموضعه
معه
مكتوباً عليك والكلام في
وسأصف لك إن شاء الله عز وجل صحبتهم في غير هذا وإنما أردت بهذا لأنيك لترك الأسباب التي ينقص بها عزمك ويقل بها صبرك على الوفاء الله عز وجل بالتوبة إذا كنت ضعيفاً وعرضت لك الأسباب المزيلة لك المفتنة لم تلبث معها أن تزول فإن قطعتها قويت على نفسك لأن القوى إذا تعرض للأسباب المفتنة كان أضعف من الضعيف إذ يتحرز من الأسباب المفتنة والضعيف أقوى منه فى الترك لماكره الله عز وجل إذا زالت منه الأسباب المزيلة به
٢٦
حكمه
وأما الرأى الصواب فما استنبط قياسًا على الكتاب والسنة والإجماع مشبها بها حكمه مثل
وأما الرأى الخطأ فما كان من غير استنباط من كتاب ولا سنة ولا إجماع الأمة وإنما هو تأويل بغير الحق وانتحال له على سبيل الجهل من قبل هوى النفس مع اعتراض من الظن أنه
حق
من
فأما الإعجاب بالعمل والعلم والرأى الصواب فمعنى واحد لأنه كله منه الله
وجل ونعمة منه
عز
فجملة العجب بالدين حمد النفس على ما عملت أو علمت ونسيان النعم من الله عز وجل عليك بذلك فحمد النفس ونسيان المنعم هو العجب بالدين أما إذا رأى الإنسان أن ما به من نعمة - مالاً أو قوة أو علمًا أو سدادا في الرأى أو طاعة
وعبادة - فمن الله فإنه بذلك ينفى العجب عن نفسه يقول تعالى
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ويستفيض بالحديث عن العجب بالدنيا وبأعمال الطاعة وبالعلم وبالنفس وبالحسب مع أن الله تعالى يقول
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
ومع قول رسول الله لا اللي لابنته ولعمته يا فاطمة بنت محمد ويا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله الله اعملا لأنفسكما فإني لا أغنى عنكما من الله شيئاً
6
ويتحدث المحاسبى عن العجب بكثرة العدد ويذكر ردًّا على ذلك قول الكافرين نحن أكثر
أموالا وأولادا
ثم يأخذ المحاسبي في كتاب الكبر والكبر من علامات الذين لا يؤمنون بالآخرة يقول
تعالى
بسبب الكبر إن الله يصرفهم عن
فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وما ألحد كثير من ا الملحدين أو انحرف كثير من المنحرفين إلا رؤية آياته والاعتبار بها بسبب كبرهم سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن الله سبحانه وتعالى يطبع على كل قلب متكبر جبار
٢٨٤
لغير الحق فلا يعجل ويتثبت ولا يجترى ويتجنب ولا يقبل ولا يعتقد ما يستحسنه قلبه وَزُيَّنَ في عقله إلا من كتاب أو سنة أو ما اجتمعت عليه الأمة أو تأويل فيما اختلف فيه مشبه للكتاب والسنة والإجماع أو قياس مساو لذلك إذا كان ممن يجوز له القياس والنظر وإن لم يكن ممن له أن يقيس ولا ينظر سأل العلماء ونظر فى أقوالهم وإلى ما ذهبوا إليه وإن كان ممن لا يحسن أن ينظر ويميز من الذين لا يعرفون حلالا من حرام ولا يحسنون التمييز لضعف عقولهم فليس على أولئك إلا التقليد للعلماء إذا سألوهم عند الحاجة وذلك كالأعجمي وبعض النساء ممن لا يحسنون التمييز وإن كان من المتشابه الذى وجب على المؤمنين الإيمان به ووكل علمه إلى الله عز وجل وقف وعلم أنه ليس له تأويله وبذلك وصف الله عز وجل الراسخين في العلم والإيمان به وترك تأويله وذلك فيما لا يجب على العباد فيه حكم يعملون به فهذا ماينفى عنك العجب بالرأى الخطأ حتى لا تعجب إن شاء الله بخطأ في دين الله عز وجل من غلط تأويل
ولا قياس
قلت فالعمل الذى لم يُمن به على كيف العجب فيه قال الاتكال على قوتك وصبرك لما جربت من نفسك ونسيانك انتظار منة الله عز وجل
بذلك وقد روى الأحنف بن قيس عن النبي لعل الله أن داود عليه السلام قال يارب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب قال ابن عباس في هذا الحديث إن داود صلى الله عليه وسلم حدث نفسه أنه إذا ابتلى يستعصم وقال محمد بن كعب والمقبرى في هذا الحديث إن الله عز وجل قال إنى ابتليتهم فصبروا قال يارب وأنت إن ابتليتني صبرت قال أما إنى ابتليتهم ولم أخبرهم بأي شيء ابتليتهم ولا فى أى شهر ولا فى أى يوم وأنا مخبرك في سنتك في شهرك هذا ولكن داود لم يصبر على الابتلاء فاحرز نفسك
۳۰
معرفة القدر فإذا جهل العبد قدره تكبر
قلت قولك تكبر ما معناه
قال إذا جهل قدر نفسه عظم قدرها عنده فتعظم على الخلق وأنف فالكبر التعظم وعنه يكون أخلاق الكبر وأخلاق الكبر كلها تسمى كبراً وقد يكون عن الحقد والحسد والرياء والعجب إلا أن أوله فى القلب استعظام القدر فإذا استعظم العبد قدره تعظم فإذا تعظم أنف وحمى وتعزز وافتخر واستطال ومرح واختال
فالكبر التعظم
قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس في قوله عز وجل
إن في صدورِهِمْ الاكبر مَا هُمْ بِبالغيه ١
قال عظمة لم يبلغوها وقال ابن جريج علوا في الأرض
تعظماً فأخبر ابن عباس أن الكبر هو التعظم وعنه تكون أخلاق الكبر وأخلاق الكبر كلها تسمى كبراً ألا تسمع إلى قوله عز وجل إنى عُدْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِساب
وقال عز وجل كَذَلِكَ يطبع الله على كُلِّ قَلب متكبر جبار ۳ قلت قد أراك ذكرت أخلاقه بوجوه شتى ويتشعب من وجوه شتى ففسره لى فسر لى كل وجه من أخلاقه على جهته ومعناه
قال إن الكبر على وجهين
أحدهما بين العباد وبين ربهم عز وجل وهو أعظم الكبر
والآخر بين العبد وبين العباد فأما ما كان بين العبد وبين ربه عز وجل فقوله عز
وجل
إِنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ 4
وقال عز وجل
لَنْ يَستنكف الْمَسِيحُ أنْ يكونَ عَبْدًا للهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويستكبر فَسَيَحْشُرُهُمْ إِليهِ جَمِيعًا
٤٠ ٣٥ 3
٤ ٤٠ ٦٠
١ ٤٠ ٥٦ -TV- Y
۳۱۸
المذمومة إلى الأحوال الرفيعة فكلا النعمتين سابغة من الله عزّ وجل بالأولى عرف نفسه وبالثانية عرف ربه عز وجل فبالأولى يصغر قدر نفسه عنده وبالثانية يعظم قدر ربه عنده فيخضع ويذل لمولاه شكرًا إذ رفع خسيسته بعد الضعة وصغر القدر والمهانة فمن كان بدوه هذا البدو وأحواله هذه الأحوال فإنه عن الكبر بمعزل كما قال لقمان لابنه يا بني ما للترابي وللكبر ! وصدق رحمه الله من كان أصله مما يداس بالأقدام - ومع ذلك إنه خمر طينته حتى صارت حمأ مسنونا - كيف يتكبر وأصله دنى وضيع عند الخلق لأنه إذا أراد أن يصغر بقدر غيره قال لأنت أهون على من التراب الذى أطوه بقدمى ولأنت أنتن من الحمأة وأصل ابن آدم من التراب الذى يوطأ بالأقدام وحمأ مسنون قد أسن فأنتن ثم صار بعد الأصل من نطفة قذرة ومنها فصله وإذا عير الرجل الرجل وأراد أن يصغر بقدره قال لا أصل لك ولا فصل والأصل العرب الجد والفصل الأب فكان أصله التراب وفصله النطفة لأن جده هو التراب وأبوه هو النطفة وهو بعد أبيه من نطفة فالأصل يوطأ بالأقدام والنطفة تغسل منها الأجساد والثياب فخلق من دناءة وضعف وأقذار ألم تسمع إلى قول الله عزّ
وجل
عند
قُتِلَ الإِنْسَانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَى شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلْقَهُ فَقَدَّرَهُ ۱ وقال عز وجل من ماء مهين وقال النبي يقول الله عز وجل أيعجزني ابن آدم وإنما خلقتك من مثل هذه وبزق النبي في كفه فخلق الإنسان من أقذار وسكن في أقذار وخرج من أقذار لأنه خرج من صلب ثم من ذكر من مجرى البول إلى الرحم ثم خرج منه من مجرى القذر كما قال أنس بن مالك كان أبو بكر رحمة الله عليه يخطبنا فيقول في خطبته خرج أحدكم من مجرى البول مرتين حتى يقذر إلى أحدنا نفسه فأول ابن آدم من تراب ثم من نطفة موات ثم من علقة موات ثم من مضغة موات ثم من جسم موات لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يعقل ولا يتحرك لما به من الذلة والمهانة ثم نفخ فيه الروح ثم أخرج إلى الدنيا بعدما نقله من هذه الأحوال فأخرجه حيا ضعيفًا صبيا صغيرا ذليلا ثم وكل به الأقذار الرجيع فى بطنه والبول في مثانته والمخاط في أنفه
۱۹ ۱۸ ۱۷ ۸۰ ۱
۰ ۷۷
٣٣٤
وَلَا تَكْسِبُ كلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْها فأنت لا تدرى لعل الله عزّ وجلّ يكون قد غضب عليك فأنت عندك شغل عن الخوف على غيرك ولا تدرى بم يختم لك وكم قد رأيت راحماً لغيره من المسرفين على أنفسهم قد رجع إلى المعاصي وتاب المرحوم عنده ورجع هو حتى مات على شرّ أحواله ومات الآخر على الطاعة والتشمير لأن الله قد غيب علم عواقب الأمور وأعمال العباد عنهم فلا يدرى أحد منهم إلا الرسل الذين بين لهم فلا يدرى العبد على ما يموت وبأى حال يختم له بها فالخوف على نفسك أولى بك من الخوف على غيرك
فإذا لم تترك الخوف على نفسك لما سلف من ذنوبك وبما يختم لك به وأنت مع ذلك عارف بنعمة ربك الذى عصمك من سوء فعل غيرك وغضبت الله عزّ وجل وجانبت وأنت غير ناس للحذر ولا تارك للخوف على نفسك فلست بمستكبر عليه وإنما تكون مستكبرا عليه إذا نظرت إليه بعين الازدراء والحقرية وقد غلب على قلبك أنك الناجي وأنك خير منه على كل حال فلا تذكر ماسلف منك ولا بم يختم لك فحينئذ تجمع عصيانا الله عز وجل وكبرا إذا نظرت إليه بالازدراء وأنك خير منه غير خائف على نفسك أو أنفت أن تقبل منه حقا أو تؤدى إليه حقا أوجبه الله عز وجل له عليك وقد قطع قلبك عليه بالهلاك وغلب عليك النجاة
لك فحينئذ قد تكبرت عليه وأعجبت بنفسك كما صنع عابد بني إسرائيل بخليعهم فلا تدع ذكر النعمة التي بها فضلت ولا مجانبة الفاسقين ولا تنس سالف ذنوبك وعظيم الحجة عليك في علمك وعملك الله عز وجل ومعرفتك وبم يختم لك خائفا أن يختم لك بشر الأعمال وأن تكون عند الله عز وجل في علمه شقيا فقد عظم خطرك وفى ذلك شغل لك عن الكبر على غيرك ولا تأنف أن تقبل الحق منه ولا أن تؤدى الحق إليه إن كان قرابة أو
قلت فأنا أيضًا لا أدرى بم يختم له
قال أجل وإنما وكلت بالخوف على نفسك والإشفاق من سوء الخاتمة لعملك ولو ختم لك وله بأعمال أهل النار فدخلتها جميعا النار ما كان لك فى الخوف عليه راحة ولا فرح فالغم لنفسك والحذر عليها أولى بك في الدنيا والآخرة لأنه لو كانت بك قرحة تضرب عليك وبغيرك أكلة كنت لما بك من القرحة أشد غما وهما منك لغيرك فمن كان عندك مستورًا أو مهتوكا
٣٥٢
يعود فيه ألف مرة ثم تاب توبة نصوحاً يعلم الله عزَّ وجلَّ صدقها من قلبه غفر له مامضى من ذنوبه ولم يعذبه بما سلف من جرمه فيذكر الجود والكرم وسعة العفو والرحمة إن عارضه قنوط عند إصابة الذنب ليقطعه عن العمل بالطاعة عارضه بالرجاء للمغفرة والقبول لسعة رحمة الله عز وجل ولما رجى التائبين من عباده ولما حرَّم من الإياس عن التائبين المذنبين والمصرين من الموحدين أن ينقطعوا بالقنوط عن العمل ويكتسبوا بالقنوط ذنباً مع تضييعهم لطاعة ربهم عز وجل كما قال ربنا عز وجل وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
قال البراء بن عازب هو الرجل يذنب الذنب العظيم فيقول لا يغفر لى فيمسك عن النفقة في سبيل الله عز وجل فنهوا عن ذلك فإذا ذكر نفسه العقاب عند الذنوب تخويفاً لها ليتوب من الذنوب وذكرها الرجاء عند التوبة ليردع نفسه عن القنوط وتسخو بالتوبة لرجاء المغفرة عند اعتراض القنوط القاطع عن العمل أنه لا يتقبل منه فرجا القبول وغفران الذنوب فسخا بالتوبة نفساً وبالعمل الرجاء والرحمة والعفو والصفح والتجاوز فقد وضع الخوف والرجاء بالموضع الذي وضعها الله عز وجل به وأدَّب نفسه بأدب الله عز وجل في كتابه ولم
يغتر ولم يقنط من رحمة ربه عز وجل
ومن قلب هذين المعنيين من الخوف والرجاء وذكر الرجاء عند الذنوب ونسى الخوف والحذر فطيب نفسه بذكر الرجاء فقل خوفه وزال حذره فأقام على المعاصى متمنياً فذلك المغتر بالله عز وجل المتأدب بغير أدبه والواضع الرجاء في غير موضعه والتارك لاستعمال الخوف في موضعه عند الحاجة إليه فهذه صفة المغترين من العاصين الموحدين وإنما مثله فى ذلك مثل عبد له مولى إذا عاقب مملوكه عاقبه بأشد العقوبة وأعظمها وهو يعفو كثيراً ويعاقب فيبالغ في العقوبة فعقوبته على قدر عفوه فقال لعبده مع عظيم هذا الخطر إن أنت أتيتنى غدا يوم السبت رضيت عنك وأعطيتك المال كذا وكذا وأعتقتك وزوجتك وأخدمتك وإن تأخرت إلى بعد غد يوم الأحد فأتيتني
مع
ذلك رحيم
عظيم الرحمة
من
يوم الأحد لم أعطك من ذلك شيئاً وغضبت عليك وعذبتك عذابا شديداً وسجنتك سجناً طويلا فعرضت للعبد لذة إن أصابها اشتغل عن مولاه أن يأتيه يوم السبت وتأخر الذهاب إلى الأحد فاشتغل بلذته ورجى نفسه عفو مولاه ورحمته ناسياً مع ذلك شدة عقوبته وإن ذكرها ذكرها بغير تعظيم ذكراً لا يمنعه عن الشغل يوم السبت وتأخير الذهاب إلى يوم ! الأحد لما
يوم
٣٦٩
باب الغرة بالجدل وحسن البصر بالاحتجاج
والرد على أهل الأديان
وفرقة جدلة خصمة مغترة بالجدال والردّ على المختلفين من أهل الأهواء وأهل الأديان يتأول فى ذلك أنه لا يصح لعبد عمل حتى يصح إيمانه والقول بسنة نبي الله ل فليس عند أحدهم أحد يعرف ربه ولا يقول عليه الحق غيره أو من كان مثله ثم هم فرقتان فرقة ضالة مضلة لا تفطن لضلالتها لاتساعها في الحجاج ومعرفتها بدقاق مذاهب الكلام وحسن العبارة بالرد على من خالفها فهم عند أنفسهم من القائلين على الله عز وجل بالحق والرادين لكل ضلالة لا أحد أعلم منهم بالله ولا أولى به منهم وكل الأمم ضالة سواهم وأن الله عز وجل لا يعذب مثلهم بل لا ينجو أحد في زمانهم غيرهم وغيرهم من المغترين يدعى ذلك وينتحله ويشهد عليهم بالإكفار فهم فرق كثيرة يُكفر بعضها بعضا وكل فرقة منها مغترة لا ترى أن أحدًا يقول عليه بالحق غيرها
والفرقة الثانية من المغترة بالجدل والبصر بالحجاج تقول بالحق ولا تدين بغيره وقد اغترت بالجدل ترى أنه لا يصح لها قول دون الفحص والنظر وقيام الحجة على من خالفها وقد اغترت بذلك حتى قطعت أعمارها بالاشتغال عن الله عزّ وجل وعمى عليها أكثر ذنوبها وخطأها وهى تظن أن ذلك أولى بها وأقرب لها إلى ربها وهى أيضا لا تسلم في مجادلتها من أن تخطى في تأويلها وقولها إلا أن اعتقادها السنة مع اغترارها
قلت فيم ينفيان الغرة بذلك
قال أما الفرقة الضالة فإنها تنفى ذلك بأن ترجع إلى أنفسها فتعلم أن من القرآن محكماً ومتشابها وكذلك من السنة فلا يقضى بمتشابه على محكم وليقضى بالمحكم على المتشابه وأن الخطأ في التأويل لا يحصى فتهم نفسها وتعلم أن الله عز وجل سائلها عما تدين به وأن الجماعة قد مضت على الهدى وسنة نبيها الا الله ولا تخرج من إجماعها وإن حَسُنَ ذلك في عقولها فإن تثبتت كما وصفتُ لك أبصرت ضلالتها ولم تغتر بشدة حجاجها إذ علمت أن غيرها ممن خالفها شديد الحجاج بصير بالجدل وهو عندها ضال مضل فكذلك لا تأمن أن تكون عند الله عزّ
۳۸۷
باب فى ذكر الحسد ووصفه وتفسير محرمه من مباحه
قلت ما الحسد وما الدليل عليه من العلم
قال إن الحسد فى الكتاب والسنة على وجهين وهما موجودان فى اللغة فأحدهما غير محرم فبعضه فرض وبعضه فضل وبعضه مباح وبعضه يخرج إلى النقص
والحرام
وأما الوجه الآخر فمحرم كله ولا يخرج إلا إلى مالا يحل
قلت فما الحسد الذي ليس بمحرم
قال المنافسة
قلت ما الدليل على أن المنافسة حسد
قال قول الله عزّ وجل وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ١
وقال تعالى سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وقال وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۳
ولا تكون المسابقة من العبد إلا أن يسابق غيره
وقال على عليه السلام وذكر العامل الله عزّ وجلّ فقال ويباهي العباد بعبادة ربه يعنى ينافسهم ويسابقهم كما يرى العبدين من عبيد أهل الدنيا يتباهيان عند مولاهما ألا يخطئ أحدهما قبل الآخر جزعًا أن يسبقه إلى محبة مولاه ويقصر هو عنها فتكون منزلته عند مولاه أحسن من منزلة الآخر نفاسة أن يسبقه إلى الحظوة عند مولاه ولا ينال هو الحظوة معه عند مولاه كما نالها هو عند مولاه
وقال النبي لا حسد إلا في اثنتين فنهى عن الحسد وأخبر أنه لا يجوز عند الله عزّ
۱۳ ۳ ۳
٢٦ ۸۳ ۱
۱ ۵۷
13
٤١
باب معرفة ما يبدأ به العبد من للمقام بين الله تعالى
العدة
فليكن أول ما تبدأ به من العدة لذلك المقام تقوى الله عز وجل في السر والعلانية ليؤمن قلبك في ذلك المقام مع قلوب المتقين حين ينجز لهم ما وعدهم من الأمن والغبطة والسرور وما تركهم اللطيف في الدنيا مع ما يعطيهم في الآخرة حتى أنار لهم قلوبهم وأعز لهم أنفسهم وأغناهم به عن خلقه ونعمهم بطاعته فألزم قلوبهم مع الخوف منه حسن الظن به والأنس إلى رجائه ثم علا ذلك بالشوق إليه جل وعز وإلى جنته فنقلهم من المكابدة إلى النعيم بطاعته والسرور بها وقنعهم من الدنيا باليسير منها فطيب فيها عيشهم وأحسن فيها نصرهم ومعونتهم وذلك الذى وعدهم فقال عز وجل
إِنَّ اللهَ مَعَ الذين ألقوا والذِينَ هُمْ مُحْسِنُون
فهم
فهل على من كان الله عز وجل معه بالنصر والمعونة ضيم أو خذلان أنفُسا وأنورهم قلوباً وأغناهم به غنى وأطيبهم عيشاً حزنهم فيما يُسر
أعز الخلائق
به
الناس
و سرورهم فيما يحزن له الناس وطلبهم لما يهرب منه الناس وهربهم مما يرغب فيه غيرهم من أهل الغفلة والغرة يستأنسون إذا استوحش الناس إذ كان أنسهم بالله جل وعز وحده استكمالا لمناجاته فعنده يضعون بثوثهم وإليه يضرعون فى حوائجهم قد اتخذوه حرزاً وجُنَّةً وكهفا وثقوا به دون خلقه وانقطعوا إليه عز وجل عن كل قاطع يقطعهم عنه فاستوحشوا حين استأنس الناس استيحاشاً من الخلائق واستئناسا بربهم فهذه مواريث التقوى لأنها أساس العمل وأصل الطاعة وهى أول منزلة العابدين وأعلاها لأن النوافل بعدها ولا تقبل نافلة إلا بها ومعها وهى التي أصبح عامة القراء لها مضيعين وقد أمر الله جل ثناؤه فى كتابه في آيات كثيرة بها وعظم قدرها وقدر القائمين بها وبينها النبي الله بسته وعظم قدرها والعلماء من بعده إلى عصرنا هذا فأما تفسير ما أمر الله جل وعز به فى كتابه فإنه حدثنا سنيد بن داود عن حجاج عن جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله تعالى
٤٢٢
طويل سهرهم شديد قلقهم منغصة حياتهم فلما نظر إليهم هاجت الرحمة لهم من قلبه وتوجع لهم رحمة لهم لمعرفته لما كان يلقى فلما استقرت الرحمة لهم من قلبه ذكر أن دواء هم الذي يشفى الله عز وجل به سقمهم هو عارف به قادر عليه بغير ثمن ولا غرامة فعزم على ذلك وبذله لهم
فكذلك هذا العبد المريد لما نظر إلى عباد الله عز وجل معرضين عن الله عز وجل قد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم وهو عارف بما يحييهم وينعشهم من صرعتهم ويشفيهم من سقم قلوبهم بإذن الله عز وجل عزم على ذلك فدعاهم إلى الله عز وجل وبصرهم عيوبهم وداءهم ودواءهم
فلما رأى العدو ذلك وجد موضع دعاء إلى الفتنة بالرياسة والتصنع والرياء وتروحت النفس وعلمت أن العباد لن يمتنعوا من تعظيمه وتبجيله وبره فانتشر عليه طبعها وحنَّت من الإصابة من الدنيا والكرامة لأكثر مما رفضت من الدنيا لأنها كرامة ومنزلة فوق منزلة الأمراء فنصحهم عند ذلك وقد قويت نفسه وفرحت وارتاحت ووجد عدوه موضعاً لدعاء النفس إلى حب تعظيمهم وبرهم وذلك أنهم إذا كانت توبتهم وشفاه أمراض قلوبهم على يديه صار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فآثروه بأبدانهم وأموالهم فصاروا له خولا كالخدام يتقربون بذلك إلى الله عز وجل وخصوه بأشرف المنازل وعظموه فى السلام وأكرموه وبروه وكل ذلك بخدعة نفسه وعدوه إنك تجترهم وتشوقهم إلى الله عز وجل وقد ركنت النفس إلى أكثر مما تركت من الدنيا فلن تعرى من المحن والبلوى والاختبار فإن رُدَّ عليه شيء من قوله أو خطىء فى عمله جاشت النفس فخيلت إليه وخيَّل إليه عدوه أنه غضب الله عز وجل لا ينقطع المريدون عنه ويَدَعُوا طريق الحق فأخرجه الغضب إلى الوقيعة فيمن عابه لئلا يصدق في عيبه فخرج إلى المعصية في العباد بالغيبة بعد تركه لأكثر الحلال الواسع فإن فتر فترة عن قيام ليل أو صيام نهار أو كانت منه فلتة من ضحك أو غيره جزعت النفس أ أن يطلعوا على فترته وسهوه حتى يتكلف لهم بعض العمل ويخيل إليه العدو أنه إنما يريد بذلك أن لا يفتروا وينقطعوا عن العمل فتخيل له نفسه أنه يجزع من أن يتركوا الطريق بتركه هو الطريق فيترك طريق الآخرة
لأن
وإنما ذلك خدعة من النفس لتتم رياستها ولا ينصرفوا عن تعظيمها ولا يمتنعوا عن
أي بيوم
الحساب وقوله تعالى أيْنا لَمَدِينُونَ ١
أي المحاسبون وكذلك تقول العرب كما تدين تدان أى يحسب ذلك لك وكذلك جاء الخبر عن النبي البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا ينام فكن كما شئت كما تدين تدان أي يحسب لك ذلك وقال عمر رضى الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى أبي موسى حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة
وقال عمر لكعب كيف تجدنا فى كتاب الله عز وجل فقال ويل لديان الأرض من ديان السماء فضربه بالدرة وقال الأمن حاسب نفسه قال فقال له كعب والله يا أمير المؤمنين إنها إلى جنبها فى التوراة وما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه حدثنا بذلك يعقوب بن قال حدثني أبي عن الزهري عن سالم بن عبد الله أن عمر قال لكعب والحديث
إبراهيم
في ذلك كثير
فهذه المحاسبة في مستقبل الأعمال وهى النظر بالتثبت قبل الزلل ليبصر ما يضره مما ينفعه فيترك ما يضره على علم ويعمل بما ينفعه على علم فمن اتقى العجلة وتثبت قبل فعله واستدل بالعلم أبصر ما يضره فما ينفعه قبل العمل بهما والمحاسبة الثانية في مستدبر الأعمال - وهو فعل ماض - نطق بها الكتاب والسنة وقالت بها
علماء الأمة
فأما الكتاب فقوله تعالى يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَلْتنظر نفس ما قدَّمت لغد ٢ قال قتادة وابن جريج ما قدمت لغد ليوم القيامة ولم يقل في هذا الموضع ما تقدم وكذا فسره العلماء إنما هو النظر لما مضى ليتوبوا من ذنوبهم التي مضت فيما مضى من
أعمالهم ٣ وقال جل وعلا وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٤ فأمرهم جل وعلا أن يستدبروا أعمالهم التي مضت بالندم على ذنوبهم والتوبة إلى ربهم وقال النبي إلى لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة
۵۳ ۳۷ ۱
۳ في رواية أخرى أعمارهم
٤ ٢٤ ٣١
۱۸ ۰۹
٦٦
باب ما ينال به اجتماع الهم
قلت فاجتماع الهم بم ينال قال بخلتين
إحداهما قطع شغل الجوارح عن كل شيء سوى ما يريد أن يتفكر فيه لأن النظر بالعين يلهى القلب ويشغله واستماع الأذن كذلك ومس اليد كذلك إلا نظرا أو استماعا يستعين به على ما يريد أن يتفكر فيه كالرجل يعظك فتستمع له لتفهم ما يقول أو تنظر إليه أو القراءة في المصحف أو الصحف فيها العلم
وقد وصف الله عزّ وجلّ بذلك من فهم عنه فقال
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۱
قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما حدّث القومَ ما حدقوك بأبصارهم وكذلك أن تنظر إلى الأشياء لتعتبر بها فأما ما سوى ذلك فلا تشغل جوارحك بشيء من أمر الدنيا فإذا أردت أن تفكر خاليا كنت أو مستمعا أو معتبرًا فاقطع شغل جوارحك بالدنيا فإن ذلك يغلق عنك
الفكر ومن ذلك قوله عزّ وجل إذ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ٢ ووصف الله مؤمنى الجن فقال فَلمّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ۳ فمدحهم بذلك إذ تناهوا عما يشغلهم عن فهم كتابه من رسول الله الله وقال عز وجل وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصتُوا ٤
كتابه
فأمر تبارك وتعالى بترك الكلام لينال به فهم وروى عن حمزة بن عبد الله بن مسعود أنه قال طوبى لمن لم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم
ينس ذكر ربه بما تسمع أذناه فإذا قطع العبد شغل جوارحه بألا يشغلها بغير ما يتفكر فيه
حضر عقله فلم يشغله بشيء مما ظهر
٤٦ ٢٩ ۳
۱۸ ۳۹ ۱
٤ ٢٠٤
٤٧ ۱۷
۸
باب معرفة حقوق الله بأسبابها وعللها وإرادتها
وترتيبها في القيام بها والرعاية لها
ولابد للخلق أجمعين من معرفة حقوق الله عزّ وجلّ بأسبابها وأوقاتها وعللها وإرادتها ووجوبها وفيم هى وأيها بدأ الله عزّ وجلّ به خلقة ١ وأيها أوجب أن يبدأ به الأول فالأول لا يقدم ما أخر الله عزّ وجلّ منها ولا يؤخر ما قدَّم الله عزّ وجل منها كما قال أبو بكر لعمر رضى الله عنهما في وصيته واعلم أن لله عز وجل حقا بالنهار لا يقبله بالليل وحقا بالليل لا يقبله بالنهار
فأما أوقاتها فكالحج في وقته وكالصلوات في أوقاتها وأما أسبابها فكوجود السبيل للحج لأن الله أوجب على عباده أداء حقه فالأمر قبل الأداء والأمر قبل الوقت إعلام للعبد كيف يؤدى حق الله عز وجل إذا جاء الوقت فمنها ما وقته واحد ومنها ما له وقتان وكثير منها أداؤه على وجهين أحدهما وقت موسع مخير فيه إن شاء يعجله وإن شاء يؤخره كالظهر إلى آخر وقتها وكالعصر وغير ذلك والوقت الآخر هو الذي ألزم فيه الفرض وإن فات فقد خرج وضُيّع
وأما إرادتها فإخلاص النية لله عزّ وجلّ بالقيام بها وأما ما أوجبها أولا فأولاً فإنما يستدل على ذلك بالكتاب والسنة معا التثبت قبل الفعل على قدر الوجوب في أداء أى الحقوق أعظم في وجوبها وأيها قد حضر وقته وأيها لم يحضر وقته وأيها يترك لما هو أوجب منه
وأما فيما هي ففى أعمال القلوب والجوارح
فأما بأيها بدأ الله عز وجل فأول ما بدأ الله عزَّ وجلَّ به خلقه من إيجاب الرعاية فيه لحقه فبدأهم بأن تعبدهم برعاية حقوقه في قلوبهم في جمل عقودها وهمومها من تدينها ومحابها ومكارهها وعند منازعة خطراتها التي هي بدء دواعى كل خير وشر ثم جوارحهم من الأسماع
1 وأيها بدأ الله خلقه لفعله
١٦٦
باب منازل الرياء وأوقاته
قلت فأخبرني بأوقات خطرات الرياء وتفاوت منازلها بأوقات الرياء وتفاوت منازله قال خطرة تخطر ولما يهم بعمل يعتقد فيه الرياء ولكن يتمنى أن يقدر على الأعمال ليعظم بها ويحمد عليها كالغزو والعلم والتفقه فيبر ويعظم أو يستقضي أو يوصل أو يعطى
وخطرة تخطر له قبل الدخول فى العمل يعتقد بها الرياء لا يعتقد غيره يريد حمد المخلوقين لا يذكر عند ذلك ثواباً ولا إخلاصا
وخطرة قبل الدخول في العمل يعتقد بها الرياء ولا يريد بذلك الأجر مع ذكر الإخلاص ومعرفة الرياء متغافل لا ينوى على الإخلاص ولا يفزع من الرياء بعد معرفة منه له وذكر الإخلاص من غير توجع ولا إكراه له
وخطرة تعترض فتقبلها قبل الدخول فى العمل فتعتقد الرياء وأنت ذاكر للرياء متوجع منه كركونك إلى الذنب لا تكرهه كراهة إباء وترك لقبوله ولكن كراهة من أجل حب العصمة من ذلك كالرجل المصر على الذنب يكرهه ويغتم لما يرى من نفسه لمعرفته بأن فيه المهلكة وهو مقيم عليه فكذلك هذا يريد الرياء ويعتقده وهو يجب أن يـ منه قد غلبه هواه وعزب عنه خوفه وحذره وثقل عليه مجاهدة نفسه فهذا أقرب إلى الإقلاع ممن وصفت لك قبله ممن يعرف ولا يتوجع لذلك ولا يغتم له
يعصم
وخطرة تدعو إلى الرباء قبل العمل مع خطرة تنبيه من الله عز وجل وطلب الثواب فيفقد إرادة الله عز وجل وإرادة الخلق معا يحب أن يُحمد ويؤجر يريد الله عز وجل به
ويريد الخلق على النسيان وزوال المعرفة للرياء
وكذلك خطرة ثانية يذكر أنها داعية إلى الرياء ويعرفها فيعتقدها بغير توجع ويعتقد إرادة
الأجر
وخطرة أيضًا يذكر الرياء ويعتقدها ويعتقد إرادة الله عز وجل مع توجع وحب
النقلة
والعصمة
١٦٧
وخطرة ثالثة بعد العقد الله عز وجل قبل الدخول فى العمل يعتقد الرياء بعد ذلك الإخلاص ثم يدخل العمل على غير ذلك وخطرة رابعة بعد الدخول فى العمل بإرادة الله عز وجل وحده فيقبل خطرة الرياء ويعتقده بعد دخوله فى العمل بالإخلاص فيرائى بالتزيد فى العمل كإحداث شدة الخشوع الذي لم ينوه ولم يكن يفعله قبل الخطرة أو كرفع الصوت فى الصلاة أو بتحزينه أو تحسينه أو بطول القراءة زيادة على الآيات التى كان نوى أن يقرأها أو بطول الركوع والسجود والاعتدال فيهما وكذلك القيام بعد الركوع وبين السجدتين من التمكث في القيام ورفع اليدين وأخذ إحداهما بالأخرى وخطرة تعترض بعد الدخول فى العمل بالإخلاص فيعتقد حب حمدهم على ذلك العمل ولا يجيبه إلى الزيادة بالتحسين له ولا غيره وخطرة تعترض بعد الفراغ من العمل ليحدث به إرادة حمدهم فيحدث بالذي كان منه ليحمد على ذلك
وقد روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقول قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظك منها وروى عن النبي الله عن الرجل الذى قال صمت الدهر فقال ما صمت ولا أفطرت فقال بعضهم من أجل أنه حدث به وقال بعضهم من أجل كراهة صوم
الدهر
وخطرة تدعو مَنْ أبى أن يحدث به إلى حب الحمد فيما ظهر من نحول الجسم أو صفار اللون أو انقطاع الصوت أو يبس الشفة أو جفوف الريق وخروجه يابسا أو آثار الدموع أو الغيار العينين أو غلبة النعاس بين الخلق فيحب ذلك ويسر به رجاء أن يستدلوا به على عمله في حمدوه بالتوهم والظن بما ظهر منه وقد يعرض بالحديث دون التصريح ليفطنوا له لأن نفسه تجزع أن يظنُّوا أنه مرالى إذا حدث به ويجب أن يعلموا بما كان منه فيحمدوه أن يحمدوه ولا يذموه فيعرض به بترك التصريح كراهة أن يظنُّوا به الرياء ويريد أن يفطنوا بالتعريض للمعنى فيحمدوه على ماكان يستر عنهم من طاعته لربه عز وجل وقد يترك التصريح بالكلام وتغلبه نفسه على التعريض إرادة الحمد فتلك خطرة تعترض بذلك فيقبلها ويعمل عليها
فيحب
١٦٨
عظمه
وقد يأبي الحديث والتعريض والمحبة والسرور بما ظهر من دلائل طاعته من اللون والنحول وغيره فيدعوه عند لقائهم إلى محبة التعظيم له لما ظهر لهم من بره وإن كان قد مضى خالصا لربه عز وجل فيحب أن يبدءوه بالسلام والبشاشة فأعظم إخوانه عنده قدرا من على طاعة ربه عز وجل وأهونهم عليه من ترك تعظيمه له على ما يعرف منه ويجد ويغضب على من لم يعظمه ويبره ويقرب مَنْ عَظمه ويجله على ما يعلم منه فنيته ثابتة لإرادة قيام المنزلة عندهم و تخطر الخطرة عند سؤال الحاجة وعند الرد عليه بالتعظيم إذا سلم والرخص في المبايعة عند الشرى والصفح له عن الثمن فيركن إلى ذلك ويحب أن يفعل ذلك به ويتفقد ذلك منهم ويستثقل من لم يفعل به ذلك ويستخف من فعل ذلك به ويتعمده في المبايعة وسؤال الحاجة لما يعرف من إكرامه له يفرح بذلك ويرى أنهم حمقى إن لم يقضوا له حوائجه لما يعرفون منه من عمله أو بره أو صلاحه فما آمن أن يُحبط ذلك أجره وقد يروى عن على رضى الله عنه أنه قال إن الله تبارك وتعالى يقول للقراء يوم القيامة ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبدءون بالسلام ألم تكن تقضى لكم الحوائج وفي حديث آخر لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم
وروى ابن المبارك عن وهب أن رجلا من السياح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن يكون قد دخل علينا الطغيان في أمرنا أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقى أحب أن يعظم لمكان دينه وإن سأل حاجة أحب أن تقضى المكان دينه وإن اشترى شيئًا أحب أن يرخص له لمكان دينه فنخاف أن يكون قد دخل علينا الطغيان في أمرنا هذا أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم فبلغ ذلك ملكهم فركب إليه في الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظلك فقال الغلام له اثنى بطعام فأتاه بلبن وحمص وقال في الحديث الآخر وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلا عنيفا فقال الملك أين صاحبكم قالوا هذا قال كيف أنت يا فلان فقال فى أحد الحديثين كالناس وقال في الآخر بخير فقال الملك ما عند هذا من خير فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عنى وأنت لى ذام فلم يزل العاملون الله جل وعزّ يخادعون العباد عن أعمالهم الصالحة كما يخادع العاملون لغيره عن سيئاتهم إرادة أن تكون أعمالهم الصالحة سرًّا بينهم وبين ربهم جل وعز ليجزيهم بها علانية على رءوس أهل القيامة
19
باب وصف أعظم الرياء وأدناه
قلت فأخبرني بالمرائين ومنازلهم فى عظم ريائهم وشدته وأقدارهم فيه ومن أعظم الناس رياء عند الله عز وجل
قال أعظم المراثين عند الله عزّ وجلَّ رياء من راءى بالإيمان واعتقد التكذيب والشك أو الريب وكذلك المنافق الذي ذكره الله عز وجل في غير موضع من كتابه فقال عز من قائل
وَإِذًا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۱ وقال عزّ وجلّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَوةِ الدَنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ الدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا الآية وقال تعالى قَالُوا نَشْهَدُ إِنكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۳ ثم كذبهم أنه ما ذلك بحق فى قلوبهم والله عزّ وجلّ يعلم أن ما قالوا حق أنك
رسوله وهم كاذبون ما يعتقدون ذلك في قلوبهم
وقال تعالى وَلَا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُم كُسَالَى ٤ وقال وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالى يُرامونَ النَّاسِ ٥ الآية قيل في التفسير إنه لغير الله عزّ وجل
وقال تعالى فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ إلى قوله 1 يُرامون على غير اعتقاد ولكن ليظنوا أنه مؤمن بالفرائض قائم بها
۱۱۹ ۳ ۱
٢ ٢ ٢٠٤ ٢٠٥ وتكملة الآية ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد
١٦٣ ۳
2
٥ ٤ ١٤٢
٦ ١٠٧ ٤ وتكملة ما لم يذكره المؤلف الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم
۱۷۰
قلت فمن الذي يليهم قال الذي يليهم وهو أهون من الأول وإن كان عند الله عزَّ وجلَّ عظيما الرجل يرالى بالفرض وإن كان معتقدا أن الله عزّ وجلَّ ربُّه وأن ذلك عليه مفترض كالزكاة يكون ماله بيد غيره فيقول زكه كراهة أن يذمه الناس على تركه الزكاة والله يعلم أنه لو خلاً له ذلك ما أدى زكاته أو يخرج زكاة ماله إن فطن له أنه لا يزكى ماله مخافة أن يأخذوا ذلك عليه والله عز وجل يعلم منه أنه لو أمن ذم العباد أو سقوط عدالته ما زكى واتقى على ماله وكذلك الحج والصيام يحضر معه في شهر رمضان من يفطن له إن أفطر وهو لو أمكنه الإفطار لأفطر فيمسك عن الطعام والقلب يتقلب على خلوة يأكل فيها أو يأتي فيها أهله أو ما لا يحل له
"
المذمة
4
ومع
ثم الذي يليه لا يزكي ولا يصوم ولا يحج ويكذب بالقول إنى قد زكيت وحججت وصمت لئلا يُذم بترك الفرائض فأمَّا الصلاة فإنه لا يكبر فيها إلا الله عز وجل ولا يصليها إلا له وقد يكسل عنها فلا يحمله على صلاته إلا الخوف من ذلك لا يسجد إلا الله عزّ وجلَّ وقد يكون من الخبيث المتهتك بتركها والله يعلم أن لولاهم ما صلاها ولتركها فيصليها من أجلهم كراهة أن يذموه بتركها حتى إنه ليصلى على غير وضوء لئلا يذموه ولو قيل له اسجد لإله دون الله عزّ وجل ولك الدنيا ما فعل فيصلى خشية الذم لغير تدين لعبادة أحد دون الله عزَّ وجل من جهة الربوبية والإلهية وقد يرانى بسائر أعماله الفرض التي لو خفيت له ما أداها فذلك الرياء بالفرض وكذلك يصل رحمه ويبر والديه ولولا من يعلم به أو شكاية ذوى رحمه ما فعل ذلك ومثل إتيان الجمعة لولا من حضره ولزمه الذهاب معه أو رآه مختلفاً ما ذهب إليها لحاجة يؤثرها أوكسل عنها عن غير جحد ولا شك فذلك الرياء بالفرض لا على عقد المنافقين على التكذيب والشك في القلب ولكن مع اليقين بأنه محرم وأن الله عزّ وجلَّ لا شك فيه وأنها عليه مفترضة ولكن الكسل والتهاون فيظهر أداء الفرائض كراهة الذم وحبُّ الحمد قلت من الذي يليه
قال المرائى بالسنن الواجبة كإتيان الجماعات ولولا من يحضره أو من يتفقده لتركها أو ترك بعض الصلوات في بعض الأوقات وإن كان قد يأتيها في غير ذلك الوقت لله عز وجل فيأتيها ولولا من يحضره أو يتفقده لتركها إيثاراً لحاجته أو كسلا عنها وكذلك إقراء
۱۷۱
الضيف ينزل به وعيادة المريض الضائع الذى يلزمه تعاهده وإن كان غريبا لقول النبي
幾
وللمسلم على المسلم سنن وكذلك اتباع الجنازة وغسل الميت إذا لم يقدر على من يغسله كراهية الذمّ له ولولا ذلك ما غسله ولا شهد جنازته
وفرقة ممن يظهر النسك ترائى بإظهار الورع فيطيل الصمت ويمسك عن الغيبة وينهى عنها ويمسك عن الخيانة ويؤدى الأمانة ويستغفر إذا ظهرت من أحدهم الزلة ويظهر الندم والحزن ويستحل ممن ظلم والله عزّ وجلَّ يعلم منه أنه لو خلا بذلك لما فعله وقد يخلو بذلك أو ببعضه فيدع الورع فيه وإنما يفعل ذلك لقبول الشهادة منه أو لطلب دنيا أو طلب حسن الثناء أو خوفاً من مدمة
قلت من الذي يليه قال المرالى بإكمال الفرائض التي إذا تركها كان حرجاً أو منقوصاً في فرضه كالذي يريد تخفيف الركوع والسجود وخفّة الصلاة التي تجب عليه الإعادة أو النقصان بها كخفة الركوع والسجود وخفة الانتصاب بين السجدتين وبعد رفعه رأسه من الركوع فإن خلا له الموضع خفف صلاته وإن رآه الناس أتمها كراهية مذمَّتهم وقد روى عن عبد الله وقد أسند عن النبى الله أنه قال من صلى صلاة حيث يراه الناس فأتمها وأكملها فإذا خلا خففها فتلك استهانة يستهين بها ربَّه عزَّ وجلَّ وقال في حدیث سآخر يستهين بها نفسه وعن حذيفة أيضًا مثل ذلك وكذلك يؤدى الزكاة الدراهم الرديئة والتمر الزدىء والحب الردىء فيدع ذلك مخافة
ملامة الناس كما قال الله عزّ وجل وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ١
فروى عن عبيدة قال الدرهم الزائف وأشباهَهُ وقال مجاهد وعطاء كانوا يعلقون الأعذاق من العمر الردى في مسجد النبي لا للصدقة فنهاهم عن ذلك فقال ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه قال يقول لو كان لك على غيرك دين ما أخذته منه إلا أن تغمض له فتأخذه على رداءته قال مجاهد يقول لا تأخذونه في سوقكم في بيوعكم ولا في غريمكم إلا بزيادة على الطيب وقال عمران بن حصين لو وجدتموه فى السوق ما أخذتموه حتى ينقص
من ثمنه
۹۷ ۱
۱۷
وكذلك يصوم فيصمت عن الغيبة عند من يحفظها عليه ويعد ذلك منه وكذلك النظر والكذب وغيره
قلت من الذي يليه
تهاوناً بصومه
قال الموالي بإكمال الفريضة بما لو تركه لم يكن حرجاً ولا منقوصاً كالمبادرة إلى التكبيرة الأولى ورفع اليدين وأخذ الشمال باليمين وشدة تنكيس الرأس والسكون والخشوع والاعتدال والتطويل في الركوع والسجود والقراءة بعد أداء ما يجزى عنه من ذلك يعلم الله عزّ وجلَّ أنه لو خلا ما طابت نفسه أن يقصر عما لا يجزيه غيره ولما زاد على ذلك فإذا رآه الخلق حسن وعمل وتتبع الاتباع فيها من الرفع وغيره وكثرة الخلوة في شهر رمضان وطول صمت يريد بذلك أن يحمد بشدَّة التحرز للفرض وكذلك فى زكاته وكفارته ونذره وبره والديه وصلة الرحم يتخير الجيد الذي ليس عليه من الدراهم والطعام وعتق الرقبة الغالية وإعطاء الطعام الجيد إرادة الحمد بأنه يؤثر الله عزّ وجلَّ على نفسه ويُباين بذلك العوام في أداء فرضهم ويؤديها بأتم الأشياء وأكملها وكذلك في حجه من شدة الصمت
وشدة التوفى عند من يحضر ذلك منه وحسن المرافقة لرفيقه وشدة الإخبات في حجه ولو خلا لأدى ما يجزئ من ذلك فقط ولم يزد على ذلك وغلب عليه الورع من تضييع الفرض ولم يتورع من إكماله من الأمر الذي يجزيه لو تركه
قلت من الذي يليه قال المرائى بالتزيد فى السنن الواجبة كالمبادرة فى إتيان الجماعة في أول أهل المسجد والصف الأول وطلب أن يلى الإمام فيكون قبالته ولو خلا لما بالى أين قام لما عرف به من الفضل أن يُرَى فى حال الصلاة منقوصا من الفضل عند من يعرفه بالمسابقة إلى الفضل وكذلك
في إكرام الضيف فوق ما يجزى بعد ما أدى ما يجب عليه ليثنى عليه قلت من الذي يليه
قال المرائى بالطاعة النافلة وقد يظهر أيضًا التورع والتقوى مع تصنُّعه بالنافلة يريد بذلك أن يختال فى المعصية فهو وإن كان أسوأ حالا من كثير ممن ذكرنا قبله فإنه إنما راءى بالتطوع وإن كان أعظم منه بليةً بطلبه المعصية لأن ذلك عظيم أن يجعل طاعة الله عزّ وجلَّ سلما وبضاعة ينال بها معاصيه كالرجل يريد الوصية ليختانها أو أخذه مالاً يتصدق به على المساكين أن يختانه أو طلب امرأة يريدها للفجور أو غلامًا يريده لذلك وذلك على
ولا بد للتقوى من المحاسبة وقد كان المحاسبي كثير المحاسبة لنفسه بل إنه لم يسم المحاسبي إلا لهذه المحاسبة وقد روى عن النبي الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت وقوله دان نفسه یعنی حاسب نفسه ولقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر
للآن
وكتب إلى أبي موسى حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة هذا الذي قدمناه يعتبره المحاسبى كالمقدمات العامة للموضوع ثم يأخذ في وصف منازل التوابين ويبين فيه اختلاف الفطر والجبلات فمن الناس من نشأ على الخير فرعاية حقوق الله عز وجل عليه أسهل ومنهم تائب بعد صبوته وراجع إلى الله عن جهالته وإنه ليدخل في نطاق قوله تعالى
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم أما الثالث فإنه المصر على ذنبه المقيم على سيئاته إنه محتاج إلى ما يحل به عقود الإصرار
من قلبه فيتوب إلى ربه من ذنبه فيلحق بصاحبيه اللذين من قبله الناشئ على غير صبوة والمنيب بالتوبة إلى خالقه تعالى ما الذى يبعثه على التوبة وترك الإصرار أما الذي يبعثه على التوبة وترك الإصرار فهو الخوف والرجاء يقول تعالى
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى فأخبر عز وجل أنه لما خاف ربه نهى نفسه عن الهوى ولقد وصف الله أولياءه بأنهم يدعونه رغبا ورهبا أى راجين خائفين وينال الخوف والرجاء بأن تصبح المعرفة بعظم قدر الوعد والوعيد واضحة سافرة والله سبحانه قد خوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا ورجانا لنرجيها ومما يعين على ذلك وقد أمرنا الله به أن نفكر فى المعاد وهجوم الموت وعظيم حق الله عز وجل
ووجوب طاعته
وحقا إن الفكر في ذلك ثقيل على النفس بيد أنه مما يخفه علم الإنسان بعظيم قدر ما ينال بالفكرة من المنافع في الدنيا والآخرة ذلك أن فى نعيم الطاعة فى الدنيا والظفر بنعيم الآخرة سعادة لا تعدلها لذة المعاصى ولن يتذكر متذكر أو يفكر فى المعاد والنجاة مفكر ما لم يجتمع همه فطريق الفكرة ومفتاحها
إنما هو اجتماع الهم مع المطالبة بالعقل والتوكل على الرب لا على العقل
۱۷۳
قسمين من الناس أما طلب الفجور وغيره من أهل الفسوق وأما اختياره الوصية والمال يجعل للمساكين والوديعة يريد أن يختارها وأخذ المال للغزو والحج يختانه فذلك كثير ممن يظهر القراءة وقد يظهر القراءة أيضًا بعض الفجار فيطلب الغلمان والنساء بالطاعة فيظهر لبس الصوف والخشوع وكثرة الذكر وطلب العلم والجلوس مع أهل الدين وإتيان مجالس الذكر وغير ذلك من البر ليؤتمن ويوصى إليه أو يعطى مالا للمساكين وللوديعة يريد أن يختانها ويعطى ما يغزو به أو يعطيه لمن يغزو به وكذلك من يحج وكذلك من يتجر يظهر التزين بالخشوع والذكر وغير ذلك لئلا يتهم فى الطلب فلا يمكنه الظفر أو ليطمئن إليه المرأة والغلام لما يظهر
من البر والدين
قلت من الذي يليه
قال المرائى بالنوافل وقد يُظهر أيضًا التورّعَ مع تصنعه بالتطوع لمعصية هو مقيم عليها مخافة أن يفطن له فإن اختان مالا فادعى عليه أو اغتصب مالا فاتهم به أظهر الخشوع والدين والنسك لأن يبرأ فى القلوب ويظنّ به البراءة مما يُدعى عليه أو مما يرمى به أو يُظَن به وكذلك إن كان مقيماً على فجور يستره بالنوافل والتورّع وإظهار الطاعات والبر لئلا تقع عليه التهم فلا يُصدق عليه إن قيل فيه أو اتهم
قلت من الذي يليه
بذلك
قال المرائى بالتطوع لينال بذلك الدنيا كالمرأة يريدها حلالا أو يرغب في التزويج فيظهر الحزن والبكاء والقصص ۱ والعمل الصالح وتذكير الناس ليرغب فيه فيزوج كما يفعله
كثير من القصاص وكما يروى عن الأعرابي الذي هاجر لتزوجه أم قيس نفسها قلت من الذي يليه
قال المرائى بالنوافل تكلفاً إذا اطلع على بعض ما ينقصه في الدين عندهم أو خاف أن يُظَنَّ به أنه لا يريد الله عزّ وجلَّ بذلك يخاف أن تزول منزلته وتغير حاله في القلوب التي كانت فيها كالرجل يمشى مستعجلا أو يطلع عليه متلفنا فإن لقى لاهيا أو اطلع عليه سكن في مشيته وخشع وغض طرفه وخفض صوته وأرخى جفونه لئلا ينظر إليه بعين السهو واللهو وذلك رياء من يظن أنه من الخاصة من القراء لئلا ينظر إليه بالنقص ولذلك إن اطلع على نقص فيه من
۱ يقصد بالقصص الوعظ
١٧٤
والخوف
ضحك أو مزاح استغفر وتنفس وتحزن كراهية أن يقال لاهى وألا ينظر إليه بعين الخزن فيستغفر مما ليس بذنب ويظهر الحزن والتنفس والتندم مما يريد به الله عز وجل ولقد أن الله عزّ وجلَّ لا يعذَّب على ذلك وماذلك بذنب يُستغفر منه ولكن لكيلا تغير منزلته من قلوبهم ولا يظن به إلا الحزن والانكسار فيجزع مما كان منه لسقوط المنزلة عندهم أو يتكلف إظهار الحزن والاستغفار والخشوع لغير الله عزّ وجلّ
علم
قلت من الذي يليه
قال المرالى بالعمل لا يريد إلا الخلق تكلفا من أجل حمدهم كالمصلى وحده يرى المصلين فيخاف أن يقال كسلان أو لا يحمد على الصلاة أو يبيت مع القوم فيقومون
فيقوم كراهة أن يظن به أنه ممن ليس يقوم بالليل وليعرف بذلك أو ينامون فيقوم فيصلي ليريهم أنه فوقهم وأنه من القوامين المصلين وإذا خلا لم يفعل ذلك يعلم الله عزَّ وجلَّ أنه لو لم يروه ويعلموا به ما فعل ذلك وكالقوم يصومون وهم فى موضع واحد فيصوم معهم ولو كان وحده لأفطر جزعاً أن يفوقوه بالصوم فينظروا إليه بعين النقص فيصوم فلو خلا لأفطر وما صام ولا تطوع بذلك الصوم وكذلك الغزو والحج وسائر أعمال الطاعات وكذلك يُظهر البر والطاعة ليعدل فتقبل شهادته وتُقضى حوائجه ويُوصل ويبر ويُعظم أو يثنى عليه ويشهر بالخير ويذكر به أو ليترأس بذلك وما أشبه لا يريد بذلك إلا الخلق ولا يذكر ثواباً في عمله ولا في بعضه
قلت من الذي يليه قال المرائى بالعمل يريد الله عزّ وجلَّ ويريد غيره ولولا إرادة الخلق وحمدهم بذلك ما عمله من أجله ولو خلا لما عمله لله عزَّ وجلَّ وحده فلما اجتمع له الأجر والحمد نشط له
قلت من الذي يليه
قال الذى يعمل العمل يريد حمدهم والثواب وهو معتاد لتلك الطاعة بنيته ولو خلا لعملها وهو فرح مسرور بها وإذا جاء وقت فعلها بحضرتهم يجزع من قبل عقله وعلمه أن يكون تكلفا للعباد لا يريد الله عزّ وجلَّ به وقد غلبه طبعه على اعتقاد حمدهم مع اعتقاد الثواب قلت من الذي يليه
قال المرالى بتوهم الطاعة أنه عاملها وليس كذلك كالرجل يعرف بالصيام أو يرى غيره صائما أو يظن به الصيام فلا يأكل ولا يشرب خشية أن يراه من يظن به الخير أو يعرفه بذلك
۱۷۵
فيدع الماء وإنه لعطشان ويدعى إلى الطعام فيمتنع من الأكل محجبة أن يُرى أنه صائم وجزعا
أن يقال إنه مفطر فينظر إليه بالنقص من فضيلة الصائمين فإن علم بإفطاره اعتذر ليعذر فيرى أنه لم يدع الصيام من فترة ولكن إرادة بر والديه أو سرور أخ وأداء حق يلزمه في
دعوة أو إبرار مقسم أو عِلَّةٍ في بدنه
١٧٦
باب ما يورث الرياء من الأخلاق المذمومة وشرحها
قلت فأخبرني بالذى يورث الرياء من الأخلاق المذمومة عند الله عزّ وجلّ قال ما كان منها عن الرياء خاصة لا عن غيره فإنها تورث خلالا منها المباهاة بالعلم والعمل والتفاخر بالدين والدنيا وقد يعترى التفاخر أيضًا من الكبر ولكن التفاخر من جهة الرياء جزءًا أن يُعلى ومحبة أن يعلو والتكاثر بالمال وغيره من أمر الدنيا وبالعلم والعمل والتحاسد على العلم والعمل لغير منافسة ولكن جزعاً أن ينال من يحاسده من المنزلة والحمد ما لا ينال هو ورد الحق على من أمره أو ناظره لئلا يقال هو أعلم منه وقد يعترى ذلك أيضًا من الكبر ولكن كراهة أن يقال غلبه فلان أو أخطأ وحب الرئاسة والغلبة في المناظرة وترك التعلم لما يحتاج إليه من العلم
قلت ما الرئاسة
قال حب التعظيم والتسخير للعباد والحقرة لهم وألا يُرَدّ شيء من قوله ولا يساوى في العلم بغيره ولا يقدم عليه غيره وإن وُعِظ عَيْف وإن وعظ عنف فلم ١ يقبل وعنف وإن أنه قد أخطأ فلما علمه الناس أو وعظوه لم يُظهر الرجوع لئلا تنكسر رئاسته
علم
قلت ما المباهاة وكيف هى وما تورث وإلى ما يؤول ضررها قال المباهاة بالعلم والعمل فأما بالعلم فالدوام على الطلب للعلم وكثرة الحفظ له والمواظبة عليه وكثرة عدد من لقى من المحدثين والمبادرة إلى الجواب حين يسأل هو أو غيره يحب بذلك أن يصيب الحق ليعلو أو ليعلم أنه فوقه ويُعلم غيره أنه أعلم منه ويبادر إلى ذكر الحديث ليعلم صاحبه أنه أعلم منه وإن ذكر صاحبه حديثا أخبر أنه يعرفه مباهاة ليفوقه والمباهاة بالعمل إن اجتمع هو ومن يذكر الله عزّ وجلّ أو يقاتل في سبيل الله عز وجل أو يصلى أو يعمل عملا من أعمال البر فإن صلى غيره قام فصلى جزعاً أن يعلوه
۱ معنى العبارة التالية أنه إذا أخطأ فرده الناس وعلم هو خطأه لا يقبل منهم الحق ولا يظهر الرجوع إليه وعنف في
جدله كل ذلك لئلا تنكسر رئاسته
۱۷۷
معه
ويكره صلاة المصلى معه ليرى فضله وإن صليا جميعًا طول الصلاة ليتحثم صاحبه ويمل فيترك الصلاة فيُرفع فوقه ويكون قد علاه في المنزلة عند من يعلم ذلك أو عند ا المصلى ليستصغر نفسه ويرفعه على نفسه ويرى فضله عليه وكذلك القتال في الحرب يبادر قدام غيره ويحب أن يتخلف ويتقدّم هو ويحمل نفسه على الكرّ على العدو وبكل ما يقدر عليه ليعلوه ويرى فضله عليه ولعله يقتل على ذلك مُحبطاً أجره ولا آمن مقت الله عزَّ وجل له وكذلك في سائر الأعمال
من
وأما المباهاة فى الدنيا فالمباهاة بالبناء فينفق ما لو كان إليه وحده ما أنفقه ولكن لمن قاربه من الجيران أو من الأقارب والأصحاب والأشكال من أهل عمله ومثله فأنفق النفقة أكثر مما لو كان يريد بالبناء نفسه فأنفق للمباهاة أضعاف ذلك لئلا يعلوه غيره ليكون هو العالى عليه وكذلك فى طلب الدنيا مجتهدًا فى الطلب لئلا يعلوه ويعلو هو في شرف المال وذكره به وكذلك في الخدم والأثاث وغيره
قلت وما التفاخر قال التفاخر قد يجمع المباهاة في أكثر معانيه ولكن له أسباب ينفرد بها مثل ما قد يجاء معها في العلم فيخرجه التفاخر بالعلم إلى الاستطالة عليه فيقول كم سمعت وهل تحسن شيئًا وما تقول فى كذا وكذا يقول ذلك لغيره وما يحسن فلان وإن لم يسمعه وما سمع ما سمعت وما قام مقامی افتخارًا عليه وكذلك تفاخر بالدنيا مع المباهاة فيقول أنت فقير لا مال لك وكم ربحت وكم عندك من المال ومتى ملكت المال وعندى أكثر مما تملك ومولاى أغنى منك ! وكذلك فى العمل أن يقول ما قمت في الحرب مقام الفرسان وماكررت ولقد جبنت وما أحسنت الكر وكذلك في المناظرة والمفاخرة يقول كم تحفظ من الحديث ومن لقيت من المشيخة وكم أدركت من العلماء وما كان فلان يقدّمك وقد كان يقدمنى عليك ! ويقول ذلك لغيره من غير أن يسمعه افتخارًا عليه فيخرجه الرياء إلى إظهار التكبر عليه والاستطالة والبغى عليه
والتكاثر قد يجامع التفاخر ويزيد عليه فى بعض معانيه وهو مثل قوله سمعت كذا وكذا من الحديث وغزوت كذا وكذا غزوة وحججت كذا وكذا حجة وأدركت من المشيخة كذا وكذا وما أفطرت مُذكذا وكذا ومن ينام بالسِّحَر فإن كان مكاثرًا أو مفاخرا فطنا – يريد أن يحمد ويفاخر ولا يذم - لم يصرح بذلك [ ولكن ] عرض يجميع ذلك لينال المباهاة والمفاخرة
۱۷۸
والمكاثرة ولا يصرح فيقولوا مباه مراء مفاخر مكاثر وهذه بعضها تجامع بعضًا ولكن يزيد بعضها على بعض فمن ثم فرق الكتاب والسنة بينهما وذلك قول الله عزّ وجل وَزِينَةً وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرُ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ۱
وقد قال النبي من طلب الدنيا مكاثرًا مفاخرًا وقال في الحديث خلالا ففرق
بينهما
قلت فالتحاسد
قال يبعث عليه الرياء وغيره فأما ما كان من الرياء فحسدًا ونفاسة أن يدرك [ غيره ] من المنزلة أكثر مما يدرك ومِنْ حَمْدِ الناس أكثر مما يدرك من الحمد فيحب أن تزول عنهم النعم لئلا يعلوه بها فيكون دونهم عند إخوانهم وغيرهم وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال لأبي أمية لا أبقانى الله وإياك إلى زمان يتغاير فيه على العلم كما يتغاير على النساء قلت وكيف يرد الحق وهو يعلم أنه قال لكراهة أن يقر له بالصواب فيعلوه ولذلك تفرق أهل الكتاب بغيا بينهم وحسدا
قلت فحب الغلبة
حق
قال حب الغلبة قد تعترى من الرياء وغيره فأما ما يعترى من الرياء فكراهة أن يغلبه في المناظرة ويرتفع عليه من غلبه ويتضعَ عند من يعلم ذلك منه ويحب أن يغلب فيعظم عليه ويثنى عليه ويبر ويوصل بالأثرة عليه وكم من عبد قد صارم رجلا في علم فناظره حتى غلبه وقد كان المغلوب يبر ويعظم فجفاه من كان يبره حين غلبه ومال بالبر والتعظيم إلى الغالب فيحب أن يخطئ غيره ويصيب هو وإن أصاب اغتم لذلك ! وتلك نهمة إبليس في العباد أن يخطئوا في دين الله عز وجل ولا يصيبوا ويغتم إن أصابوا ولا يتفهم ما يقول مناظره إنما همته الردّ والشغب وبذلك وصف الله عز وجل الكفار فقال
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ
قلت وكيف يترك التعلم لما يحتاج إليه ولا يسأل عنه
قال قد يعترى ذلك من الرياء وغيره فأما ما يعترى منه من قبل الرياء فكراهة أن يُسأل عن أمر فيقال هذا لا يحسن مثل هذا فيدع الحق أن يطلبه والحرام أن يسأل عنه وهو يعلم أنه
۰۵۷ ۱
۱۷۹
يحتاج إليه ثم توهمه نفسه أن ذلك منه حياء وإنما هو منه رياء ولو كان حياء لكان من الله عزّ وجلّ أحق أن يستحى زعم من الناس أن يطلب الحق فيعلموا بذلك فيفطنوا يجهله ولا يستحى من الله عز وجل وقد علم أن الله عزّ وجلّ يعلم أنه يدع الحق أن يتعلمه ويطلبه وهذه الأخلاق كلها تتشعب من العجب والكبر وغيره وإنما أخبرنا بما يهيج عن الرياء ولقد
جاء الأثر بذلك بالنهى والذم من قبل الرياء فروى عن حذيفة رضى الله عنه عن النبي قال و لا تطلبوا العلم لتباهوا به العلماء أو تماروا به السفهاء ولا تجتروا به أبصار الناس
إليكم قال كعب يأتي على الناس زمان يتغايرون فيه على العلم كما يتغايرون على النساء فذلك حظهم منه
۱۸۰
باب علامة المرائى فى نفسه
قلت فما علامة المرائى فى نفسه
قال يحب الحمد على طاعة الله عزّ وجلّ ويكره الذم فيدعُ الطاعة من أجل الذم وإذا عمل عملا لم يعلم به غير الله عزّ وجلّ أو علم علما لم يعلم به إلا الله لم تقنع نفسه في علمه وعمله يعلم الله عزّ وجلّ ونظره وسمعه وحدَه حتى يغلب على قلبه الطلب لعلم غيره يهتم لذلك ! فإن اطلعوا عليه ارتاح قلبه لذلك وسر بحمدهم ! وأخف الناس عليه من حمده و ه وأثنى عليه وأثقلهم من ترك حمده والثناء عليه ولا تسخو نفسه بإتيان طاعة الله لا يعلم بها أحد فإن أراد نفسه على ذلك ثقل عليها ولم تطاوعه عليه وقد روى عن رجل أنه عرض على نفسه في أيام بابك وهو يقاتل المسلمين فقال لنفسه أتحبين أن تقتلى بابك ولا يعلم بذلك أحد فأبت وقالت مثل به أحد !! بابك يقتل ولا يعلم
۱۸۱
باب ما يجب أن يلزمه المريد نفسه
عند عمل السر والعلانية
قلت فما الذي أولى به أن يُلزمه قلبه قبل العمل وفيه وبعده
بهیج
البكاء
قال أن يكون يعمل العمل لا يريد أن يعلم به إلا الله عزّ وجلّ وحده قانعا بعلم الله عزّ وجل دون علم غيره لأنه قلّ من يقنع بعلم الله عز وجل إلا الخائف من الله عز وجل لأن العبد إذا أراد العمل من عمل جوارحه أو عمل في باطنه أو ابتدأ فيه كالفكر الذي والأحزان جزعت النفس أن يكون يعمل عملا عظيما له عند الناس قدر عظيم ولا يعلمون به فتغلى لذلك غليانا تقول به مثل هذه الفضيلة لا يعلم بها أحد !! لو علموا منك لقمت عندهم مقاما كبيرا ولا يعلم العبد أن في ذلك ضعة قدره عند الله عز وجل فليقنع بعلم الله عز وجل فإن طلع عليه فعلم به غيره منع قلبه من الارتياح والسرور فإن غلبه طبعه على الارتياح والسرور کره ذلك ومنع قلبه من الركون إليه ثم لا يزال حذرًا حتى يفرغ من عمله ثم يمسك عن إظهاره قليه أن يطلب البر من الناس لما يعرفون من بره وفضله ويكون وجلا ذلك كله أن يكون الله عزّ وجل قد أحصى عليه من النيَّة المذمومة فى عمله مالا يرضى بها لا يأمن من أن يكون نسيها وغفل عنها وأحصاها الله عزّ وجل عليه
ويمنع
مع
قلت قد وصفت عمل السرّ فما تقول فى العلانية كالجنازة وطلب العلم والصلاة تطوعا يوم الجمعة أو في المساجد حيث يراه الناس قال مثل ذلك أن تكون نفسه قانعة بعلم الله عز وجل لا تفرح بعلمهم إذا علموا بذلك يريد بذلك ثواب الله عز وجل وهو الرضا والجنة لأن فرح العبد بعلم من لا يملك رحمة الله عز وجل ولا جنته دلالة أنه لا يريد رضا الله ولا جنّته ثم يرعى جميع ما فسرت لك من ذلك بقلبه ويحفظ جوارحه
لأنه
واجتماع الهم إنما هو بعدم تشتت القلب والجوارح فى ميادين اللعب واللهو يقول ابن مسعود رضى الله عنه طوبى لمن يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر ربه بما تسمع أذناه على أن المصرين في منازل شتى فمنهم من كثرت ذنوبه ومنهم من قلت ذنوبه ومنهم تائب من بعض ذنوبه وهو مصر على البعض الآخر وعلاج كل ذلك هو إدمان الفكر بالتخويف كالداء إذا أعضل لم يبرأ صاحبه إلا بدوام التداوى وإدمان الفكر بالتخويف يستمر إلى أن تسخو نفسه بالتوبة الخالصة النصوح التي يوقن فيها أنها كانت بمنة ربه وتفضله سبحانه لا بقوته هو فيستأهل بذلك الزيادة من الله عز وجل
لأنه يقول
لئن شكرتم لأزيدنكم وفي التفسير لأزيدنكم من طاعتى على أنه إذا سخت نفسه بالتوبة فتاب فإنه يجب أن يستمر في تيقظه وحذره فإن الاهتمام والحذر إن ألزمها قلبه يوقظاه فيما يستقبل من عمره فإذا
استمر على توبته دخل تحت قوله تعالى
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
ومما لا مماراة فيه أنه لابد للخلق أجمعين من معرفة حقوق الله عز وجل بأسبابها وأوقاتها
وعللها وإرادتها ووجوبها وفيم هي وأيها بدأ الله عز وجل به خلقه
فعلى العبد أن يبدأ بما بدأ الله عز وجل به فيبدأ برعاية حقوق الله عز وجل في قلبه إذ عنه تكون أعمال الجوارح وجمل حقوق الله عز وجل في القلب ثلاث اعتقاد الإيمان ومجانبة الكفر واعتقاد السنة ومجانبة البدعة واعتقاد الطاعة ومجانبة الإصرار على ما يكره الله عز وجل من عمل قلب وبدن وجمل حقوق الله عز وجل في الجوارح القيام بالحركات فيما أوجب الله تعالى وترك الحركات وهو السكون عماكره الله عز وجل على أنه مع كل ذلك لابد من مراعاة حقوق الله عز وجل عند خطرات القلب الداعية إلى كل
خير وشر
وقد تكون الخطرات من هوى النفس والله سبحانه وتعالى يقول
إن النفس الأمارة بالسوء
وقد تكون خيرا
۱۸۳
وجل وذلك عقد المرائى أن يحمد فذلك نقص منه وذمّ عند الله عزّ وجل ولا يحبط العمل إن شاء الله إذا لم يراء به ولم يتمن اطلاع العباد عليه ولم يظهره لهم ولم يحدث به العباد وقد ينبغى له أيضًا أن يكون خائفًا على عمله الماضى أن يكون قد خالط قلبه من الرياء مالم يفطن له لغلبة الهوى فخاف ذلك لما رأى من محبة نفسه الحمدهم ويرجع إليها فيقول لولا أن للرياء في قلبك أصلا لما هاج حين اطلعوا ويرجو ألا يكون خالطه رياء يحبط عمله فيكون يأمل من الله عزّ وجل أن يكون تقبله منه ويكون خائفاً لما رأى نفسه تحب حمدهم عند اطلاعهم عليه أن يكون قد أحصى الله عزّ وجلّ من ضميره مانسيه ولم يفطن له فليستغفر الله عزّ وجلّ مما يعلم الله عزّ وجل ولا يعلمه هو فإن كان خالط عمله رياء رجوت أن يعفو الله عز وجل عنه وإن لم يكن خالطه رياء كان ذلك الإشفاق والمخافة طاعةً لربه عزّ وجلّ وزيادة حذر فيما يستقبل من الأعمال وردا على نفسه ما حدث في قلبه من سرورها بحمدهم
قلت فإن اطلع عليه من قبل أن يفرغ من العمل فيسر بذلك
قال ذلك مختلف فيه أيحبط أم لا إن كان سروره من حب المنزلة والحمد قلت أفليس قد روى عن النبي ع الا الله الحديث و أن رجلا قال يا رسول الله أُسر العمل لا أحب أن يُطلع عليه فيطلع عليه فيسرنى ذلك قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية قال هذا الحديث لم يقل فيه فيطلع عليه بعد فراغى منه أو قبل فراغى منه وقد يجوز أن يكون علم به قبل أن يفرغ ويجوز أن يكون بعد فراغه فإن يكن قبل الفراغ من العمل فذلك أشد وقد اختلف فى ذلك فقالت طائفة لا شيء عليه - لا يضره السرور منه بالعزم المتقدم الله عزّ وجلّ بالإخلاص الذى به دخل العمل - وروت هذا الحديث واعتلت به حديثا عن الحسن
منه
أنه قال إنهما سروران فإذا كانت الأولى لله عزّ وجلّ لم يضرّه الثانية
لأنه قد نقص العزم الأول وركن إلى
وقالت فرقة يحبط عمله إذا كان قبل الفراغ منه حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته وكذلك يروى عن معاوية رحمه النبي أن العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي العمل بخاتمته وبالله
الله
عن
التوفيق
والحديث قد روى من راءى بعمله ساعة حبط ما كان قبله ولا معنى لهذا عندهم إلا ما سألت عنه من سرور هذا الرياء قبل أن يفرغ من العمل فقد راءي بعمله ساعة فحبط ما كان قبله ولا معنى لهذا عندهم إلا ما سألت عنه من سرور هذا الرياء قبل أن يفرغ من
١٨٤
العمل فقد راءى بعمله فقد حبط ما مضى منه وما بقى إلا أن يتمه على غير ذلك العقد وأما حديث الحسن فإنما روى إذا كانت الأولى لله فلا تهدمه الثانية – أي لا تكسره – وأما ما روى فى الحديث الآخر لا يضره فهذا معناه ألا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله عز وجل ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره
وأما حديث النبي الله فليس في مسألة السائل قال يا رسول الله فيسرني من قبل حب المحمدة فيكون فيه حجة وقد يمكن أن يكون - إذ لم يصرح لم كان سروره - لمعان كثيرة
قلت فما تقول أنت
قال كنت لا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه الحبط فكنت أقف لاختلاف الناس في ذلك والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء وأما اليوم لأنه عمل على الرياء وختم عمله به وقد أحبطت السنة عمل
فقد تبين لى ذلك فأنا أقطع
به
المرائى وهذا قد ختم عمله بالرياء
قلت فما تقول في الحديث الذي روى عن النبي قال قد أخبرتك بما يمكن أن يكون سروره لاطلاعهم فإن يكن للنعمة أو لطاعتهم فيه أو للقدوة فله أجران أجر للعمل وأجر السروره لأن سروره طاعة لربه عز وجل إذ ظهر عمله فسر ليقتدى به ! فأخبره النبي اللهم أن له أجر ما ظهر من عمله فسر ليقتدى به وإن كان سروره
سروره
لحب الحمد والثناء فذلك عقد الرياء فلا أجره يصح فى الكتاب ولا في السنة تأويل من تأوله وإن السائل سأل عن ذلك فأجابه النبي الا الله و إن الأمة مجمعة على الكتاب والسنة أنه ليس فيهما أن الله عز وجل يأجر على الرياء ولا يقول ذلك أحد من علماء الأمة وإن أحسن حال المرائى أن يعنى له عما اعتقد من الرياء ويبقى له أجر عمله ولا يحبط كما تأول من ترخص في ذلك واحتج بحديث الحسن أن ذلك لا يضره فإما أن يقول أحد له أجر عمله وأجر بالرياء فذلك مالا يقوله أحد فإن احتج بالحديث فإنه لا يحتج أن الله عز وجل يأجر على الرياء وإنما يحتج به لئلا يبطل العمل الأول ولا يضره سروره والنبي الله قد جعل له أجرين أجر السر وأجر العلانية فأحسن أحواله أن يكون قال له لك أجر ما سررت ولا يضرك ما ظهر وإما أن يكون له على عقد الرياء أجر ثان فالذى لم يراء بعد ما اطلع عليه وأخلص الله قلبه ونفى خطرات الرياء عن قلبه أخس أجرًا والمرالى أعظم أجرًا له أجران على قياس هذا القول وذلك
مالا يقوله مسلم يعقل
۱۸۵
فلولا أن الرجل كان في مسألته ما يدل أن سروزه كان طاعة لربه وإن لم يكن له بذلك علم
وأشفق من اطلاعهم وسروره به لقلة علمه ۱ فلا يمكن أنه كان سروره إلا ببعض ما ذكرنا من النعمة أو لطاعة من اطلع عليه فيه أو لأن يقتدى به
وقد روى عن عبد الرحمن بن مهدى أنه قال إنما معنى هذا الحديث أنه أراد القدوة وقوله أجر العلانية يدلّ على ما قال عبد الرحمن لأن سروره بما علن من فعله عندهم فإن اقتدوا به كان له مثل أجرهم كما قال النبي الا الله من سن سنة حسنة فعمل بها كان له مثل أجر من يعمل بها والله أعلم بما أراد غير أن الكتاب والسنة لم يدلا على أن له أجرًا على الرياء وأن الله عز وجل لم يجعل المرائى أعظم أجرًا من المخلص
وتأول
والحديث
بعضهم
قال
في ذلك منهم عبد الرحمن أنه قال إنه ندم على ما اعتقد من الرياء فلذلك جعل له النبي عل الله أجرين أجرًا على طاعته وأجرًا على توبته وقد أخطأ من ذلك لأن المرالى إذا ندم على ريائه أجر على توبته وحبط عمله إذ قد أحبطه بالرياء ! ذلك عامة من يرويه غير متصل لا يرفعه إلى أبي هريرة – أكثرهم يوقفه على مع أبي صالح ومنهم من يرفعه إلى أبي هريرة والله أعلم أمحفوظ الحديث أم لا فإن كان محفوظا فلا وجه له إلا ما ذكرنا وإلا تركنا السنن بالتناقض له وخرجنا من إجماع العلماء وقد يمكن أن يكون اطلع عليه بعد العمل فسر ولم يعلم لم كان سروره فأخبره النبي الأن بذلك لا يضره وأن له أجرين أجر له على عمله وأجر له فما ظهر للعباد أن يعملوا بمثل عمله فيؤجر فيهم إذا اقتدوا به فدعاه النبى الله إلى أن يكون سروره بالأجر فيهم
لا بالرياء
سروره
1 العبارة هنا تحتاج إلى تكملة لعلها ولما أجابه الرسول بذلك
١٨٦
باب ذم الرياء والعجب
قلت فالحديث الذي يرويه أبو موسى عن رسول الله لا أن أعرابيا أتاه فقال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه من في سبيل الله قال النبي الله من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ولقد علمنا أن كل مسلم يجب أن تكون كلمة الله هي العليا قال قد تأول قوم في ذلك وزعموا أن ذلك لا يضر بهذا الحديث وذلك عندنا غلط منهم لأن الكتاب والسنة يدلان على غير ذلك فأما الكتاب فإنه روى عن طاووس وعدة من التابعين أن رجلا قال للنبي ع الرجل يصطنع المعروف أو قال يتصدق يجب أن يحمد ويؤجر فلم
يرد ما يقول له النبي حتى نزل
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ۱ وأما السنة فإن معاذا روى عن النبي عل الله إن أدنى الرياء شرك وروى أبو هريرة عن النبي لم أنه قال ويقال لمن أشرك فى عمله خذ أجرك ممن عملت له وروى عن عبادة بن الصامت أنه قال إن الله جل ثناؤه يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل لى عملا وأشرك معى غيرى ودعت نصيبى لشريكي وقال عبد الله من هاجر يبتغى شيئًا فهو له وقال عبادة بن الصامت إن النبي عله الا الله قال من غزا لا ينوى إلا عقالا فله ما نوى وقاتل رجل من أجل حمار فقال النبي و له الحمار وقال إنما لامرئ ما ينوى وكل مسلم يحب ا أن يغلب المؤمنون المشركين وإلا راءى ولو كان كما تأولت هذه الفرقة لكان لا يكون مراثيا في غزوة حتى يكفر لأن حبه لأن تعلو كلمة الكفر كفر ! فتتابعت الآثار بخلاف ما تأولته هذه الفرقة
وليس يكون ما سأل عنه السائل بحجة على العباد إنما سأل النبي عن أشياء لا يجوز أن تكون الله فأجابه بخلافه وما يصح عند الله فقال من قاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا فهو في
۱۱۰ ۱۸ ۱
۱۸۷
سبيل الله ولم يقل من أراد ما سألت عنه فقاتل لذلك ولتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله إنما قال له من فى سبيل الله فأخبره أن فى سبيل الله غير الذي عددت فأخلص القتال لعز الإسلام فمن ادعى معنى ثانيا قاله النبي الله فليأت به ولن يجده والآثار أيضًا بخلاف ما تأولت وقد روى عن ابن مسعود إن الملائكة إذا التقى الصفان نزلت فكتبت الناس على منازلهم فلان يقاتل للملك وفلان يقاتل للذكر وفلان يقاتل يريد وجه الله فذلك الشهيد وقول عمر رضى الله عنه وأخرى تقولونها في مغازيكم فلان شهيد ولعله أن يكون قد ملأ دفتى راحلته ورقاً قال وقال النبي حين سأله الرجل عن الرجل يقاتل في سبيل الله قال إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسباً مقبلا غير مدبر وقتل رجل من أصحابه الله فقال له أصحابه له الجنة فقال النبي ع ع و له الحمار إنه أراده وروى عبادة عن النبي أنه قال من غزا لا ينوى إلا عِقالا فله ما نوي والحديث في ذلك كثير فذلك غلط فى التأويل وأكثر العلماء يرون أنه أشد الحديث إذ لم يجعل في سبيل الله إلا من أخلص لتعلو الكلمة وحدها ولم يضم إليها إرادة غيرها
ولو كان كما تأولته هذه الفرقة لكان الرياء مباحاً لا يبطل العمل ولا يحبطه لأنه ليس من مسلم يقاتل إلا وهو يحب أن يَغْلِبَ المؤمنون ويُهزم الكفار فقد أباحوا الرياء في الغزو ولو كان أيضا كما تأولته ما كان ذلك حجة فى سائر الأعمال لأن الصدقة وأكثر الأعمال قد يفعلها العبد
لا يذكر الله فيها كما يذكره محبة أن يغلب المسلمون في الغزو
۱۸۸
باب ما يجوز للعبد أن
يقطع
أنه
أخلص
فيه الله وما لا يجوز له منه
قلت فهل يجوز لأحد أن يقطع أنه أخلص لله عملا إذ لم يعلم رياء خالطه أو الخوف والشك أولى به
قال أما قبل أن يبتدئ فى العمل فلا يجوز له أن يدخل العمل حتى يعلم أنه قد أراد الله به ولم يرد غيره لأنه لا يجوز له أن يدخل فى العمل ولا يدرى ما يريد به فعليه أن يكون متيقنا بأنه قد أراد الله عزّ وجلّ بذلك العمل وإلا لم يدخله فإذا علم أنه قد أخلص فأراد الله عز وجل وحده دخل فى العمل على ذلك فإذا مضى عليه من الأوقات - ولو كان كطرف العين - مما يمكن المخلوق فيه النسيان والسهو فالخوف أولى به لأنه لا يدرى لعله قد خطرت خطرة بقلبه
رياء أو عجب أوكبر أو غيره فقبلها وهو ناس لا يذكر أنها رياء فيكون مشفقا خائفاً قلت فإذا كان شاكاً في عمله فكيف يرجو على الشك ويأمل الرضا من الله عزوجل قال أما الشك في أنه لا يدرى دخل العمل بإخلاص أم لا فلا يجوز في ذلك الشك إذ قد
علم
م أنه قد دخل وقد أراد الله عزّ وجلّ وحده وأما الشك خوفاً من أن يكون قد أحْصَى الله عزّ وجل عليه قبول خطرة نسيها هو ولم يفطن لها فنعم فالخوف على عمله والوجل والإشفاق من أجل
ذلك
يستيقن
قلت فالرجاء والخوف على العمل أن يكون عمله الله أو لغير الله عزّ وجلّ إذا مستويين فأمله في الله عز وجل ضعيف فكيف ينعم بطاعته لله عزّ وجل ويجد حلاوتها قال بل الأمل والرجاء أغلب وأكثر لأنه قد استيقن أنه قد دخله بالإخلاص لله وحده ولم أنه راءى بشيء منه فالإخلاص عنده يقين والرياء هو منه فى شك فخوفه إن كان قد خالطه رياء كان ذلك الخوف مما يرجو به أن يصفيه الله له لإشفاقه على ما لا يعلم فيه فبذلك يعظم رجاؤه وإن لم يكن خالطه رياء فذلك زيادة على عمله وعبادة منه وكلما أشفق ازداد نعيما بالطاعة وأملا في الله عزّ وجلّ إذا أيقن أنه دخله بالإخلاص وختمه بالإشفاق والوجل عن علم الله عز وجل فبذلك يعظم رجاؤه وأمله ويتنعم بطاعة ربه عزّ وجلّ
۱۸۹
باب ما يجزى من النية عند ابتداء العمل
والنية في العمل
قلت فعلى الناس أن يقدموا النية عن كل عمل حتى يعلموا أنهم قد أرادوا الله عز وجل وحبه أم يجزى المريد نيته المتقدمة فى كل عمل يعرض له لأنه لا يعمله إلا لله عز وجل
وحده وقد سمعتك تقول لا يدخل حتى يستيقن أنه أراد الله عز وجل وحده قال إنما سألتني هل يجوز لأحد أن يقطع أنه قد أراد الله عزّ وجل فرجعت إليك في ذلك
أنه يجوز فى بدء العمل قبل دخوله ولم أقل لك إنه من لم يذكر النية فهو مراء قلت فهل تجزى المريد نيته المتقدمة أم لا تجزى إلا أن يقدم نية عند كل عمل قال إن النية المقدمة مجزية إذا عرض له عمل هو الله عزّ وجل طاعة وفيه ثواب أن يأتيه لاسم الطاعة وظاهرها وإن لم يذكر النية ما لم يخطر بباله خاطر الرياء فيقبله فإن لم يقبل خطرة رياء فهو على نيته الأولى وهى مجزية عنه لأن المريد لله عزّ وجلّ المخلص قد قدم النيّة الله تعالى ألا يـ يعمل عملا من طاعة الله عزّ وجلّ إلا لله عزّ وجل وإنما هذا للمريد فأما من قدم اعتقاد الرياء فلا تجزيه ذلك حتى يندم على العقد الأول ويحدد لله عزّ وجلّ نيّة عند العمل وأولى بالمريد وإن كان تجزيه النية الأولى أن يجددها عند كل عمل وذلك أنور للعمل في قلبه وأبعد له من الغفلة وأحرى إن خطرت خطرة رياء علم بها فلم يقبلها وإذا لم يحدد النية لم يكن في العمل كمن ذكر الله عز وجل وحده وذكر الثواب وأهاج الأمل فى قلبه ولأن من لم يذكر ذلك ولم يجدد نية كان أقرب إلى الغفلة والسهو ولا يؤمن عليه قبول الخطرة وهو لا يعلم فأولى به تجديد النية عند كل عمل وإن كانت تلك الأولى مجزية ومع ذلك أنه إنما تجزيه فى الطاعات المسميات في الكتاب والسنة كالجنازة تمر به فيقوم لها لأنها طاعة وإن لم يذكر النية وكالصلاة يقوم إليها
أو كالصدقة وقراءة القرآن فأما ما ليس اسمه بطاعة إلا أن يريد به الطاعة فلا يجزى حتى يجدد النية مثل سؤال الرجل إياه في حاجة يقضيها له من حوائج الدنيا أو دعاه إلى طعام أو زيارة أو أشباه ذلك فذلك يكون للدنيا ويكون الله عزّ وجل وليس اسمه طاعة - إنما يكون طاعة إذا أراد الله به -
۱۹۰
فلا يجزيه إلا أن يجدد نية عند ذلك لأنها ليست بطاعة فيكون إنما أهاجه اسمها ومعرفته بأنها طاعة لربه عزّ وجلَّ إلا أن يكون العبد معتادًا بعض ما ذكرنا أو ما أشبهه مما ليس اسمه طاعة إلا أن يراد الله عزَّ وجلَّ به فإن كان العبد معتاده وقد قدم النيَّة فيه الله عزَّ وجلّ فذلك كالرجل قد حسنت منه النيَّة فى القيام بحوائج الناس يريد الله عزّ وجل وحده بذلك فذلك يجزيه ما تقدم من نيته لأنه وإن لم يكن اسمه طاعة فقد ألزم قلبه البنية لله عزّ وجل بذلك وهو في عادته ومعرفته وما ألزم نفسه كالصدقة وأما ما لم يقدم فيه نيته لم يجزه إلا في أربعة في العالم والعابد أو المضطر أو الرحم فإنها فيهم أسهل وأرجو أن تجزيه النية الأولى لأنه إذا سأله العالم أو العابد الذى يحبه الله عزّ وجلَّ حاجة فقضاها له فإنما هو للحب المتقدم الله عز وجل والرغبة في العلم أو لحب العلماء أو لإغاثة اللهفان أو المضطر أو صلة الرحم فذلك يجزيه إن شاء الله عزّ وجلّ ما لم تعترض له خطرة رياء يقبلها إلا أن يكون هؤلاء قد تقدم في قلبه رجاء مكافأتهم أو خوف ملامتهم أو حب محمدتهم – يعرف ذلك من نفسه - فلا يجزيه إلا أن تجدد النية من لا يعلم أن نفسه تريد ذلك منه فهى تجزيه إن شاء الله عزّ وجلّ النية المتقدمة مالم يقبل خطرة رياء ولا سيّما من يحب في الله عز وجل خاصة فإن كل أمره عندى هو الله عز وجل ما لم تعرض خطرة رياء فيقبلها لغير الله
فأما
وخصلتان تغمض النية فيهما إرادة سرور المؤمن وإرادة منفعته بما يعلمه العالم فلا يتم السرور والمنفعة له إلا بالعلم فالعلم يغمض ويلتبس لأنك تريد أن تسره ليحمدك على ما أدخلت عليه من السرور وتعلمه فينتفع فيحمدك ويعظمك إذا رأى منفعة في دينه أنها بما علمته فيحمدك إذا نال الطاعة بما علمته فمن أجل أنك تريد سروره ومنفعته تغفل وتظن أ أنك عز وجل بذلك وإنما تريد أن يحمدك ويبرك ويعظمك قلت فكيف الإخلاص بهما
تريد
الله
قال أن تكون إنما تريد أن تدخل عليه السرور لتؤجر على سروره لا ليحمدك وتريد أن ينتفع بما تعلمه ليعمل به فتؤجر فيه ويكون لك مثل أجره لا تريد بذلك أن يحمدك ولا يعظمك
ولا يبرك
۱۹۱
باب العبد يدخل العمل يريد الله عز وجل وحده
ثم يجد من نفسه نشاطًا للزيادة
وما تجزيه من النية في ذلك
6
قلت العبد يدخل العمل يريد الله عزّ وجلّ به ثم يجد من نفسه نشاطاً للزيادة فيه من غير حادث نية يذكرها ولكن ينشط قلبه للزيادة أعليه تجديد النية فيه كان اسمه طاعة أو لم يكن قال تجزيه النية الأولى في ذلك ما لم تعترض خطرة رياء فيقبلها وكذلك كثير من الأعمال يقوم العبد وهو يريد أن يصلى بآيات قليلة العدد فيفتح له شهوة ونشاط حتى ربما قرأ القرآن كله ويسجد يريد التخفيف فيفتح له الزيادة في الدعاء في السجود فيطيل السجود وكذلك قراءة القرآن يبتدئ فى السورة لا يريد غيرها فيخف عليه قراءة الأخرى من غير ذكر نية معلومة
قلت هذا قد فهمته فيما كان اسمه طاعة فما لم يكن اسمه طاعة قال وما لم يكن اسمه طاعة فابتدأ فيه الله عزّ وجلّ ثم أتبعها التزيد فيه فهو على ما ابتدأ ما لم يكن حدث فى قلبه رياء كالرجل يريد الله وحده بإعانة بعض المسلمين على شرائه أو بيعه أو في حاجة يريد أن يعينه على بعض ذلك يريد الله وحده ثم ينشط فيزداد على ما كان نوى فهو على نيته الأولى ما لم يعترض رياء فيقبله وكذلك يُسْألُ الحاجة فينوى قضاءها الله عزّ وجلّ وحده ثم يحب الزيادة على ما يُسْألُ فيفعل ذلك وكذلك ينوى الهدية لله عزّ وجلَّ ثم يزيد فيها قبل أن يرسل بها فهو على تلك النية والتجديد أبعد من الغفلة وأقوى لأهل الثواب والرجاء لأنه قد يعترض في ذلك آفات إن كان أراد الله عزَّ وجلَّ بالأولى كالهدية يريد بها الله عزّ وجلّ ثم يخاف أن تستقل ويقال ما أبخله ! وإنما يزيد من أجل ذلك وكذلك المعونة فى البيع والشراء والعمل وقضاء الحاجة يزيد إذا رآهم قد سُروا رجاء أن يعظم حمدهم ويزيد مخافة أن ينمّ أو يقال لم تسخ نفسه من المعونة إلا بكذا فبين أن يكون أتم المعونة حتى يفرغ المعان من عمله أو بيع أو شراء فالتجديد أحب إلى وإن لم تجدد نية كان ذلك مجزياً لما تقدَّم من نيته ما لم تعترض له خطرة رياء فيقبلها
۱۹
باب وصف النية ماهي
قلت فالنية ما هي قال إرادة العبد أن يعمل بمعنى من المعانى إذا أراد أن يعمل ذلك العمل لذلك المعنى فتلك الإرادة نيَّة إما الله عزّ وجلَّ وإما لغيره لقول النبي الله وإنما لامرئ ما نوى لأنها نية للمعنيين نيَّة أن يعمل العمل ونيَّة أن يعمله لمعنى من المعاني دنيا أو آخرة كالرجل يريد أن يعمل أو يريد أن يغزو للأجرة أو للذكر وكذلك يريد أن يصلى للثواب أو للحمد لأن إرادة الصلاة أن يبتدئ بالتكبير ثم ينتصب قارئا ثم يركع ثم يسجد ثم يرفع والنية لثواب الله عز وجل أو للدنيا إرادة منه أن يصلى ليؤجر وأن يرضى الله عزّ وجلَّ بها عنه أو إرادة أن يحمد ويثني عليه فتلك النية فالنية فى العمل لله عزّ وجلّ أن يريد به ثواب الله عز وجل لا يريد غيره
قلت فأنا أريد أن أكون مخلصا وأكون مصليا وصائما ومطيعا في كل أمرى قال ذلك على وجهين أحدهما قد نويت أن تخلص وألا تريد بشيء مما تفعله إلا الله وحده ونويت أن تقوم فتصلى وأن تصبح صائماً وألا تعصى الله عزّ وجل وإن عرضت لك معصية ودعتها من خوف الله عزّ وجلّ فتلك الإرادة التى هى نيَّة لك هى نيَّة الله عز وجل آخر تريد أو تحب أن تكون مخلصًا وأنت مضيّع للإخلاص وتحب أن تكون صائمًا ومن نيتك الإفطار وتحب أن تكون مصليا وأنت كسلان عنها أو مؤثر عليها الشغل بالدنيا وتحب أن تدع المعاصى من خوف الله عزّ وجلّ والنفس لا تسخو بالتوبة فتلك إرادة محبة منك
ومعنى
للشيء
وإرادة ثالثة قد جوزتها العرب فى لغتها وأنزل بها الكتاب - إرادة كاد - قال الله جل
1=
ذكره جدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَض ۱
وقال الشاعر
لا تعجبى منى ومن سوادي ومن قميص هم بانقِدَادِ
۰۷۷۱۸ ۱
۱۹
ومهما يكن من شيء فإنه إذا عرضت الخطرات عرضها على الكتاب والسنة فما وافق قبله
وما خالف رفضه يجب أن يشهد له العلم أن الله عز وجل قد أمر بها وندب إليها أو أذن فيها بأسبابها وعللها ووقتها وإرادتها فيها فإنه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية إلى سنة وهى بدعة وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهى معصية وقد يرى أنها داعية إلى خير وهى شر كالخطرة تدعو إلى الإخلاص بترك العمل وإلى التنزه عن الخلق بالفكر وإلى الرجاء على العمل بالعجب والغرة وإلى المنافسة بالحسد وإلى الغضب الله عز وجل يتمنى البلاء في الدين والدنيا للمسلمين واعتقاد استحلال ما حرم الله عز وجل منهم ونحو ذلك من الخطرات وإلى القدر 1 بتنزيه الله عز وجل وإلى رأى جهم بنفى التشبيه وإلى التشبيه بنفى رأى جهم وإلى الاعتزال بتثبيت الوعيد وإلى الخروج بالسيف بالغضب الله عز وجل أو إلى الإرجاء بتعظيم الأقدار وتنزيه الإيمان من النقصان وقد تخطر الخطرة تدعو إلى بدعة فى الجملة يحسبها سنة ومما يدل على ذلك أن قلوب أهل البدع إذا خطر بها الخطرات تدعوهم إلى بدعة عدوها سنة فكذلك أهل السنة لن يدع العدو أن يدعوهم إلى البدع غفلاتهم من حيث لا يشعرون ولولا ذلك ما ابتدع أحد بدعة بعد اعتقاده بالسنة في عبادة ولا غيرها ا لأنه قد يدعوها إلى الابتداع في زهده وفى رضائه وتوكله فيخالف زهد الأئمة المتقدمين وتوكلهم ورضاءهم ويقينهم بمخالفته السنة واعتقاده البدعة وهو يرى أنها سنة كما اعتقد قوم الزهد في الدنيا بتضييع العيال وبترك وجوب حق الوالدين والتوكل بترك الاكتساب على الأهل والأولاد والخروج في السفر بلازاد والرضا بالسرور بالبلاء إذا وقع بالمسلمين وبتحريم الدواء وترك المنى أن المعاصي لم تكن وبالاشتغال بالله عز وجل بترك الفرائض وبترك النوافل ودعوى البصائر واستنارة القلوب بادعاء علم الغيوب من القطع على ما في ضمائر الخلق وما يسرون ويكتمون ويحتجون في ذلك بآثار مثل قوله الله و المؤمن ينظر بنور الله
عند
العدو
وكل فرقة ممن ذكرنا تحتج بالآثار والكتاب والمقاييس ولكن يطول ذكرها وإنما أردنا تحذير
جملتها ليعرفها العالم المثبت بالكتاب والسنة
1 القول بالقدر هو القول بحرية الإرادة أى أن الإنسان حر فيما يأتي وفيما يدع من الأفعال وليس مجبوراً من الله على
عمل من الأعمال
رأى جهم في الصفات هو أن الصفات عين الذات
ويقول آخر
۱۹۳
دماء بني عقيل
يريد الرمحُ صَدْرَ بني نزار ويرغب عن فوصف الله عز وجل الجدار بالإرادة ووصف الشاعر القميص بالهم وذلك أنه جدار مائل
كاد أن ينقض والقميص خلق كاد أن يتخرق لبلائه وتقول أردت والله أن أهلك كدت أهلكها لا أنه ينوى هلاك نفسه ولا يحب هلاكها
نفسی
أي
قلت فهل تحضر النية ويمكن العبد فى كل أمر وفى كل وقت قال أما النيَّة فما ليس فيه ثواب فلا تحضر ولا نية فى ذلك ومن أراد الله عز وجل في ذلك فمغرور غالط كالرجل بني البنيان الفاخر يريد بذلك زعم الله ويأكل الأطعمة الطيبة ويتكلفها لغير ضعف وجده به ولا قوة على طاعة لا يقوى على تلك الطاعة إلا بها فلا تجوز النية في ذلك وكل ما أشبهه وكذلك في المحرم المرأة يعتبر زعم بالنظر إليها فلا تجوز النية بالنظر
في ذلك
الرعاية لحقوق الله
١٩٤
باب معنى قوله لا تحضرني النية في العمل
قلت فما معنى قول من قال من المريدين لا تحضرني النية
قال ذلك يحتمل معنيين أحدهما أن يكون يُسأل حاجة أو يدعى إلى أمر له فيه الأجر فيبخل أن يقضى الحاجة
أو يكسل عما فيه الثواب فلا يرغب فيه فيبدى المذمة لنفسه كالمال يبخل به أو لا تسخو نفسه بإخراجه لله عزّ وجل أو يكسل عن الصلاة أو عن القيام للحاجة يُسألها أو لا تسخو نفسه بترك الطعام والشراب وتحمل الجوع والعطش للصيام فيقول لا تحضرنى نية أي لا تسخو نفسى بأن أدع شهوتى وطعامى وأتحمل الجوع والعطش فذلك معنى صحيح والمعنى الآخر أن تكون نفسه قد سخت الله عز وجل بإخراج ماله في سبيل الخير أو قد نشط الله عز وجل فى الصلاة لا يجد كسلا يعتريه وكذلك تسخو نفسه بترك الطعام والشراب للصيام فيعترض له الخطرات تدعوه إلى الرياء فيقول ليس لى نية يريد ألا يجد خطرة وأن يكون قلبه بعد ما خطر مثله قبل أن تخطر به الخطرة لا منازعة فيه وقد سكنت منه الخطرات فذلك غلط وضعف لأن العباد أمروا وندبوا إلى الطاعات وأن ينفوا الرياء أن يعتقدوه ولم يؤمروا أن يتركوا الطاعة من أجل دواعى الرياء ولو فعل ذلك عبد لأوشك إذا علم الشيطان بذلك منه أن يعترض له عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة ولم يؤمر الناس أن يخرجوا وسواس إبليس أن يعترض في صدورهم بعد إذ جعل الله عزّ وجلّ له السلطان بذلك ولا يغيروا خلقهم وطباعهم حتى تصير لا تنازع إلى معنى من زينة الدنيا من رياء ولا غيره حتى تكون طبائعهم الحمد فيها مكروه والذم فيها محبوب ! وإنما أمروا أن يستوى ذلك في دينونتهم من عقولهم بما استودعها الله عز وجل من العلم فأما في الخلقة فإن ذلك لم يكلفوه ولا يقدرون عليه ولكن قد يقوى العبد فتسكن دواعى النفس عن الدعاء في بعض ما يعمل و يعترض بالدعاء في بعض ما يخطر بضعف إلا أن الحمد والدم لا يستويان في طبعها فإنما أمر العباد بمجاهدة أهوائهم ولم يؤمروا ألا يكون في النفس غريزة تدعوه إلى شهوة ولا أن يخرجوا وساوس الشيطان أن يعترض في صدورهم بل جعلت لهم غرائز عقولهم ومن عليهم بالمعرفة والعلم
١٩٥
ضعف من
قائمين في عقولهم وبُلُوا بغرائزهم وجُعِلَ الشيطان مهيجا للغرائز بالتذكير لها بما تحب ! وأمروا أن يجاهدوا بعقولهم - بما استودعها الله عز وجل من المعرفة والعلم - ما هاج من دواعى غرائزهم ونزغ الشيطان وتزيينه للنفس ما فى غريزتها موافقاً لها فليس على العباد غير ذلك ولا يقدرون إلا عليه إلا أن بعضهم في ذلك أقوى من بعض وهم الذين أدمنوا المجاهدة حتى انكسرت النفس عن الدعاء من غير تغير الطبع وقد تخطر أقل مما كانت تخطر به من قبل الخطرة عما كان في أول بدايتهم فعلى العبد المجاهدة والنهى لنفسه عن هواها ولم يكلف تغيير طبعه حتى ينقلب فيجعله كطبع الملائكة ولكن النهي عما يدعو إليه الطبع ! وكما يروى عن وهب أنه قال الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حرون فإن فتر قائدها صدقت عن الطريق وإن فتر سائقها حرنت على قائدها فإذا استقام السائق والقائد مضت النفس طوعاً أوكرها ! ولو كنت كلما كرهت نفسك شيئًا تركته يوشك أن تترك دينك
کله
وقال النفس تنتظر الهوى والهوى ينتظر العقل فإن زجره العقل انزجر وإن أرخى له مر وصدق لأن العقل إذا لم يبصر بالعلم ويعتصم بالمعرفة صبا إلى ما تدعو إليه النفس من قبل هواها فكان هو الذي يختال للمكائد ويتلطف الشهواته وهواه وإذا تذكر فأبصر بالعلم واستعصم بالمعرفة عرف ضرر ما يدعو إليه الهوى وأبصر عاقبة ضرره زجره فأمسكت النفس عن
استعماله
وذلك أن الله عز وجل طبع الحيوان من أهل السموات والأرضين على طبائع شتى فطبع الملائكة على العقول والبصائر وعرَّاهم من الهوى والشهوات والاشتغال للمكاره التي يألم بها غيرهم من الحيوان فلا يعترض لهما الأهواء ولا تنازعهم الشهوات فهم دائبون في طاعة الله عزّ وجل وذكره لا يفترون إذ لم يجعل فيهم الأضداد التي بها يفترون والأهواء والشهوات التي تصد وتؤثر على الطاعات والذكر فلم يجعل لهم ثواب نعيم الجنان إذ لم يجاهدوا الأهواء ولم يتحملوا الآلام والتعب والنصب وأجيروا من العذاب وتركوا فى طاعتهم وطبع الأنعام والطير والهوام على الشهوات وجعل فيها المعرفة بقدر ما تغتذى وتطلب معاشها وتحذر على نفسها وأولادها بقدر ما عرفت من المكروه ولم يجعل لها من العقول ما تعقل الأمر والنهي والعلم للعواقب فرفع عنها العقاب فى كل ما أصابته من الشهوات التي حرمها على الإنس والجن فرفع عنها العقاب ولم يؤاخذها بما نالت من النكاح وما أصابت من أموال الناس
14
ودمائهم وأجارها من العقاب وجعل آخر مصيرها أن يجعلها ترابًا وطبع الإنس والجن على العقول التي تحتمل الأمر والنهى وتعرف العواقب وذلك إذا بلغوا
عنه
الحلم إلا من أزال الله عزّ وجل العقل كالمعتوه وغيره وجعل فيهم غرائز تحب كل ما وافقهم وتبغض كل ما خالفهم وآذاهم ثم أمرهم أن يجاهدوا بما أعطاهم من العقول ما دعت إليه النفس من قبل غريزتها فجعل لهم الثواب العظيم والعذاب الأليم
فاعقل كيف طبعت وبماذا أمرت ولا يخيل إليك أنك كلّفت أن تغير طبعك حتى تصير كطبع الملائكة فتدع الطاعة انتظاراً أن يصير الطبع إلى غير ما بنى عليه في الخلقة وأن يسكت العدو ويزول سلطانه عن الوسوسة فصدك ذلك عن طاعة ربك عزّ وجل فتدع العمل للإخلاص - زعمت - فلا تكون أخلصت عملا ولكن تركت أن تخلص عملا فيكون لك
ثوابه
فقول القائل لا تحضرنى النيَّة أى أريد أن أطيع الله عزَّ وجلّ ولكن أخاف ألا يخلص لى عمل لما يخطر بقلبه فذلك ضعف وغلط وأما من قاله على الكسل والبخل وقلة الرغبة وقلة سخاء النفس بالطاعة لله عزّ وجلّ فذلك صادق جائز من قول من قاله ولكن لا يحمد نفسه على بخلها وكسلها عن الخير وقلة سخائها بالطاعة ولكن ليذكرها ثواب الله عز وجل في الدنيا والآخرة حتى تسخو فإذا سخت فليرد الله عزّ وجلّ بذلك وينفى كل ما خطر بقلبه من خطرة رياء وغيره
۱۹۷
باب من يدخل فى العمل لا يريد الله عز وجل بذلك
ثم يندم كيف يكون عمله بعد الندامة
منه
قلت فالعبد يعمل العمل فيبتدئ فيه لا يريد به الله عزّ وجلّ ويريد حمد الناس أو اتقاء مذمَّتهم أو طمعاً لما فى أيديهم ثم يندم على نيته وهو في العمل لم يفرغ قال أما الأعمال كلها فلا يحتسب فيها بما مضى ولكن ليستأنف ابتداء غير ذلك العمل الأول إن أراد أن يتم له النافلة التي ابتدأها كالسورة يقرأ بعضها ثم يذكر فيبتدئ من أولها وما أشبه ذلك إلا الصلاة والصيام والحج فإن الناس فى الصلاة مختلفون فقالت فرقة يدع ذلك كله لأنه قد حبط ثم يبتدئ فيعيد ما عمل من قراءة أو ركوع أو سجود كان بعد الافتتاح
قلت ولم خصصت الافتتاح والإحرام وعقد الصيام فلم تفسده وأفسدت ما سواه قال لأن الافتتاح جعل تحريماً للصلاة وإنما الرياء عقد في قلبه لا يفسد التحريم والإحرام وعقد الصيام فيجعله كأنه افتتح الصلاة بالشعر واستقبل غير القبلة والافتتاح لا يفسد لأنه يتحرم بالصلاة وما سواه يفسد وقالت فرقة يبتدئ الأفتتاح وعقد الصيام والإحرام فلا يحتسب به لأنه وإن كان يحرم به للدخول في الصلاة فلم يفعل ذلك الله عزَّ وجلّ وإنما فعله للخلق فكل ذلك فاسد إلا ما أريد الله عز وجل به
وقالت فرقة ليستغفر ويتم ما بقى من صلاته وحجه وصيامه ويعتد بما مضى لأن الأعمال بخواتيمها وقد ختم صلاته بالإخلاص كما لو ختم صلاته وصيامه وحجه بالرياء حبط عمله كله ما مضى منه وما بقى فلأن العبد لا يكبر ولا يتوجه إلى القبلة ولا يركع ولا يسجد إلا لله عز وجل فلو فعله لغير الله عزّ وجلّ كان كافرًا فلو صلى الله عزّ وجلّ للإيمان وأراد حمدهم فإذا ندم فليحتسب بما مضى فإنه خالص وإنما هو كثوب أبيض لطخته بسواد ثم غسلته فنقى ورجع إلى البياض فكذلك افتتاحه وقراءته وركوعه وسجوده تعبد الله عزَّ وجل لا لإله غيره فلما ندم واستغفر ونوى أن يجعله الله عزّ وجلّ وحده زال عقد الرياء وبقى على أصل تدينه الله عز وجل بالصلاة فقد أخلص وصفا وصار لله وحده لأنه قبل أن يفرغ من العمل قد زهد في حمد المخلوقين فيما مضى
۱۹۹
أكثر مما كنت تظهر لتبرئ صدورهم مما ظنوا أو تيقنوا فإن أردت أن تعلم أ أن النفس قد ركنت إلى حمدهم أو لم تركن فإن تغيروا لك فانظر كيف غمك بزوال حمدهم فإن عمك بذلك يدل على ركونها إلى حمدهم ! وإن لم يتغيَّروا فأعرض على نفسك أن لو تغيروا لك عن الحمد إلى الدم كيف عمك بذلك فإن اغتممت فليغلب على قلبك الخوف واعلم أنها كانت إلى حمدهم راكنة وإن لم تغتم فلا تقطع بأنها صادقة لأنها قد تسخو بترك الغم مالم تنزل بها مذمتهم وقد يكون العبد صادقًا في النفى مع الحمد من العباد فإذا بلى بالذم زال عنه إخلاصه وما أقل ما يكون ذلك ! فالخوف أولى به أن يخاف أن تكون كاذبة فى إخلاصها إذا اغتمت بزوال
الحمد
۰۰
باب في الرجل يدع بعض النوافل إشفاقا على الناس أن يعصوا الله عز وجل فيه
قلت فما تقول أيما أفضل أدع بعض النافلة إشفافًا على الناس أن يعصوا الله في
أو أفعلها قال إن في ذلك أغلوطة منك أن تظن بعبد أنه يسىء بك الظن ويقع فيك فتدع العمل من أجل ذلك فقد جمعت خصلتين أسأت به الظن وتركت ما يقربك إلى الله عز وجل وقد تترك أيضاً بعض الواجب لعلك أن تدع إتيان القرابة الخوف الممر بهم ولعلك ترى منه المنكر فتمتنع أن تأمره لأنه عندك لا يقبل ولم تعلم منه ذلك فتضيع ذلك الأمر وتسىء به الظن إلا أن يكون فاسقاً متهتكا فذلك الظن به وقد يقبل مع فسقه ويحاجك القارئ إذا أمرته فتدع كثيرا من الواجب والنافلة لئلا يعصى الله عزّ وجل فيك زعمت فإن كنت صادقا في زعمك فقد غبنت وأسأت الظن وإن لم تكن صادقاً فإنما جزعت النفس من الذم فخيلت إليك أنها تريد الشفقة والنصح وأنت لم تشفق عليهم في غير ذلك لا تبالي في أن يعصوا الله في دنياك لا تدعها لهم وإن ظننت أنهم يعصون الله عزّ وجل ولا تغضب إن غضبت عليهم ولا غير ذلك وهذه الصفة التي تدعى صفة الأنبياء الأبدال الرحماء بالخلق فانظر هل تعرف نفسك بالخلق هكذا فى أحوالك فإن كنت تعرف نفسك بهذا فقد وضعت الشفقة على حال في غير موضعها إذ صدك عن الطاعة سوء الظن ولم تستيقن منه بأمر تشفق عليه منه إلا أن يكون أمرًا لا ينقصك من فرض ولا فضل فتدعه إشفاقاً أن يدخل عليهم الشيطان إلا أنهم كذلك في وقت ما تشفق عليهم ولكن تقول لا أعرضهم لفتنة ولم تدع لهم فضلا ولا فرضًا فيكون العدو قد أصاب
منك ما يريد
كما يروى عن النبي عل الله أنه قال إنها صفية وذلك أنها أتته وهو معتكف فلما خرجت استقبلها رجلان من أصحابه فقال إنها صفية فقالا يا رسول الله وهل نظن بك إلا خيرا قال إلى خشيت الشيطان أن يدخل عليكما ولم يقل قد دخل عليكما وأراد إبراهيم والأعمش أن يمرا في طريق فقال إبراهيم يقولون أعمش وأعور فقال
۰۱
الأعمش ما علينا أن نؤجر ويأثمون فقال إبراهيم وما علينا أن نسلم ويسلمون فما لم تنقص من خير فلا بأس بالإشفاق عليهم على غير قطع عليهم بشره وأكثر ما يكون ذلك جزءًا من الذم وسقوط المنزلة فلا يخدعن بذلك العبد العاقل اللبيب ! !
۰
باب إظهار العمل ليقتدى به
قلت فما تقول في إظهار العمل ليقتدى بى فيه كفعل الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي
من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه فيها
قلت فهل تجرى الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيره قال أما الصدقة فإن الناس فيها متقاربون في القدوة لأنها عطف ورحمة وإعانة الملهوف فإذا أظهر العبد ذلك لغيره كان فيه حض لغيره وترغيب فى الصدقة إلا أنه لا ينبغى لعبد أن يتعرض لإظهارها حتى يعلم أنه قد أراد الله عزَّ وجل بذلك وأنه لم يجزع من أن يسرها ولا أحب إظهارها لقلة القنوع بعلم الله عز وجل ومحبة منه ن يعلم الناس بصدقته ولكن جزءا أن يفوته عظيم الأجر أن يصيبه في غيره مع أجره على صدقته فلم يقنع بأجر الصدقة وحدها حتى أ أحب أن يحض بفعله عليها غيره ليؤجر فيه مع أجره على صدقته وفى الصدقة معنى آخر خاصة سترها خير من القدوة إذا كان المتصدق عليه يؤذيه ذلك ويكرهه فترك أذى المؤمن أفضل وقد اختلف في قول الله عزّ وجل لا تبطلوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ١
فقال بعضهم هو أنك تحدث بما تصدقت به عليه فيبلغه فيؤذيه
وقال أكثر العلماء هو أن تؤذيه بفعلك فإذا لم تجد من نفسك قوة عزم الله عزّ وجل في إظهارها للقدوة لا لغير ذلك فسترها أفضل وإن سلمت في إظهارها من الرياء ألم تسمع إلى ما يروى عن النبي يرويه عنه سلمان وغيره أنه قال سبعة فى ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله فذكر أحدهم فقال رجل تصدق بصدقة فأخفاها بیمینه عن شماله وقال في حديث آخر و فلو قدر أن يخفيها من شماله فالصدقة أفضل سرا إلا أن يظهرها للقدوة وقد يروى حديث إن العمل سرا أفضل من سبعين ضعفاً
٢٦٤ ۱
التها لحقوق الله
الأنى عبد الله الحَارِث المحاسِبي
وكذلك الخطرات التي تدعو إلى تدين القلوب من غير عبادات بالأعمال كالقدر ورأى جهم والرفض والاعتزال ونحوه فلن يميز العبد بين ذلك وبين ما أحب الله عز وجل من الأعمال والسنن إلا بشاهد العلم
لقد تعمدنا نقل هذا النص السابق بطوله لأنه يدل على اتجاه المحاسبي في الجانب العقدي أى إنه يحدد اتجاهه بالنسبة للفرق الموجودة فى عصره وهو نص غاية في الأهمية من الناحية الصوفية ومن الناحية الكلامية
أما من الناحية الصوفية فإن المحاسبي يحمل على من يدعو إلى الإخلاص بترك العمل وإلى التنزه عن الخلق بالفكر ويرى أن ذلك خطرات شيطانية وكذلك الأمر في كل خطرة تدعو إلى نوع من الزهد والرضا والتوكل الذي يخالف زهد الأئمة ورضاءهم وتوكلهم ويقينهم أي تخالف السنة أمثال ذلك اعتقاد قوم الزهد فى الدنيا بتضييع العيال وبترك وجوب حق الوالدين
ومن
وإنه لمن الانحراف الشيطاني - فيما يرى – أن يمتنع قوم عن الاكتساب على الأهل والأولاد أو الخروج في السفر بلا زاد تحت تعلة التوكل أو أن يرضى بالبلاء يقع بالمسلمين ويحرم الدواء ويمتنع عن الدعاء وكل ذلك تحت تعلة الرضا
إلى آخر ما ذكره المحاسبى من ذلك
أما
من الناحية الكلامية فإن هذا النص يبين أن المحاسبي لا ينتسب إلى المعتزلة ولا إلى الجهمية ولا يقول بالتشبيه ولا بالتعطيل ولا بوجوب تحقق الوعيد وأنه ليس من المرجئة وليس من الشيعة
إن هذا النص الذى جاء في صورة عابرة يشير إلى بعض ما كان يمكن أن يفصل لو أننا عثرنا على الكتب التي فقدت ولكن أهميته لا تقل بسبب إجماله إذ هو واضح كل الوضوح في بيان موقف المحاسبى من الفرق الكلامية ومن الاتجاهات المنحرفة في التصوف ثم بعد هذا يأخذ المحاسبي في شرح ما يبتدئ به الإنسان من أداء الفروض وترتيب ذلك فإذا عرض للعبد أمران واجبان فى وقت واحد بدأ بأوجبهما مثال ذلك في الوالدين فإن العبد يبدأ بحاجة والدته لأن برها مقدم فى سنة النبي الا الله وكذلك إذا وجب عليه الحج بالاستطاعة المالية وعليه دين حل موعده فليؤد إلى الدائن حقه وإذا عرض له واجبان لأحدهما وقت يفوت والآخر لا يفوت وقته بدأ بما يفوت وقته قبل
۰۳
علانية وإن العمل علانية للقدوة أفضل من السرّ سبعين ضعفاً قلت قد أجد القلب يقوى على ما تقول ويريده ويحب زيادة الأجر ولا تعرى النفس
من خطرات العدو ومن هواها أن تنازع فما الذي يفرق بين صدق الضمير بذلك وبين الخدعة
فيه من النفس
قال أن تعرض عليها أن لو أصَبْتِ الأجر فيهم من غير علمهم أكنت تقنعين بعلم الله عز وجل وحده وتصيبين هذا الأجر فإن رأيت القلب يقنع بذلك فهو صادق فإن رأيته لا يقنع بذلك فإنما هى خدعة ومحبة من النفس أن تظهر عملها لتظفر بحمدهم وتخيل للمخدوع بذلك أنها تريد الله عز وجل صادقة لتستكثر من الأجر
قلت فالصوم والصلاة والحج والغزو قال أما ذلك فلا أحبه لأحد ولم أجد عامة الناس يفعلونه إلا الرجل القوى الصادق الإرادة القوى على ردّ الخطرات فى العمل بعد ما يفرغ من العمل وقد يتبعه العدو فيخطر له في حال غفلته فيصرعه فلا بأس بإظهاره للقدوة والذي أمر به الناس أن يخفوا ذلك ما استطاعوا لأن النفس خدوع والشيطان مرصد بمكيدته
على الشد
معهم
فذلك
وقد كان الرجل يرفع صوته ليحرك بعض جيرانه في جوف الليل وذلك إذا قوى عزمه وهان عليه حمد من يسمعه وليس له رغبة فى عملهم به أكثر من أن يصيب ثواب الله عز وجل في تحريكه إياهم على طاعة ربهم فأما الغزو فذلك عمل ظاهر فالمسارعة فيه للقدوة به أفضل إذا قوى العزم أن يشد الرجل قبل القوم ليحض على القتال ويبعث من معه أفضل لأنه لم يخرج من سرّ الى علانية وإنما خرج من علانية إلى علانية لأن مقامه ذلك علانية فكلما حض غيره لفعله كان أفضل ولو خف له الشد والكر على العدو وكان ممن وهب الله عزّ وجلّ له القوة على نفى الخطرات وهو من المعروفين عند من حضر ممن يقتدى به ويحركهم فعله كان أفضل أن يظهر ذلك ولا يخفيه ليحض على قتال العدو وينصر الله عزّ وجلّ بذلك على الأعداء ويعز به الدين
٢٠٤
باب العبد يحدث إخونه ببعض ما يقوى عليه من العمل ليحضهم على ذلك
قلت فالرجل يُحدث إخوانه ببعض ما يقوى عليه من العمل ليحضهم بذلك قال قد تقدم فى ذلك رجال صالحون منهم سعد بن معاذ قال ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسى بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسى إلا بما هي قائلة وما هو مقول لها ولا سمعت رسول الله لا يقول قولا قط إلا علمت أنه حق وقال عمر ما أبالى أصبحت على عسر أم على يسر لأنى لا أدرى أى ذلك خير لى وقال ابن مسعود ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها وقال يا حبذا المكروهان الموت والفقر - وإنما هو الغناء والفقر وما أبالى بأيهما ابتليت - وقال عثمان ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكرى بيميني منذ بايعت بها رسول الله وقال شداد بن أوس ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه الكلمة فكان قال لغلامه إيتنا بالسفرة نعبث بها حتى يدرك الغداء وقال أبو سفيان بن الحرث لأهله لما حضرته الوفاة لا تبكوا على فما أحدثت حدثاً منذ أسلمت وقالت عائشة قال أسيد بن حضير وكان من أفاضل الناس ثلاثة أكون عليهن لوكنت فى سائر الأشياء فذلك لكنت ما تبعت جنازة قط فحدثت نفسى بغير ما هي صائرة إليه وإذا قرأت القرآن وإذا سمعت النبي الله وقال عمر بن عبد العزيز ما قضى الله لى بقضاء فسرنى أن يكون قضى لى غيره ولا أصبح لى هوى إلا في مواقع قدر الله عزّ وجلَّ فقد فعل هذا هؤلاء الأئمة ولا يظن بهم إلا الخير والحض لغيرهم على الطاعة وليس ذلك إلا لمن قوى وكان يعلم أن الذي يظهر ذلك له يضعه موضع القدوة وإلا كان قد وضع القدوة في غير موضعها وإن قوى عزمه ولم يرد به الرياء لأنا قد رأينا وجربنا من العباد أن الإمام كالخليفة والعالم إذا أظهر الصوف أو لباسا شنعاً من التقشف أو تكلم في العامة أوحضهم على خير يعملون به اتعظوا بذلك وخضعوا لأنه إمامهم وهو موضع قدوتهم ورأينا غيره ممن لا يعرفه
٢٠٥
الله أن يطاع
العامة أو يعرفه بعضهم بالعلم والفضل ولا يضعونه موضع قدوة قد يفعل ذلك فيستهزأ به فمن لم يكن للعامة إماما فذلك غلط أن يفعله في العامة فمن كان لهم إماماً فجائز له إذا كان قوياً كما روى عن ميمون بن مهران أنه رُلى فى السوق محلول الإزار ينادى لا إله إلا الله ألا ترى إلى قولهم اجعلنا للمتقين إماماً قال يقتدوا بنا فأثنى بذلك عليهم لرغبتهم في وقال إبراهيم لعل الله اجعل لى لسان صدق في الآخرين بهم وقال عز وجل وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرينَ معناه تركنا عليه الثناء الحسن فكل الأمم ممن يؤمن بكتاب أو نبي يقول إبراهيم منا وقد يفعل ذلك الرجل من العوام فَيُستهزأ بـ به ويقال فيه القبيح ويرمى بالرياء والطلب للدنيا والجنون والحمق لأنه ليس بإمامهم ولا يضعونه فى ذلك الموضع وإنما يريد العبد القوى أن يحضّهم على طاعة ربِّهم عزَّ وجلّ وينبههم لها فإذا كان وإن قوى عزمه إنما يحضهم على المعصية فيه فكيف تصح له الإرادة فيهم ولا يرى فيهم موضع أمل أن يزدادوا بما يحدثهم عن عمله أو يظهر لهم من طاعة فعلى العبد المريد أن يعرف ذلك ويضعه حيث وضعه الله عز وجل وقد يحدث الرجل القوم عن نفسه فيضعونه على الرياء منه لأنهم لا يقتدون به فمن الناس من يقتدى به أهله ولو أمر جيرانه أو يظهر لهم خيرا ما اقتدوا به
ومن الناس من يقتدى به جيرانه ولو تجاوزهم إلى أهل سوقه ما اقتدوا به أو رموه بالرياء لو حدثهم ببعض عمله أو أظهر لهم الذكر والزى من الصوف وغيره ومن الناس من يقتدى به أهل حيه وسوقه ولو أظهر للعوام ما لا يفعله العوام ظاهراً ثم سمى لها لما اقتدت به ولا ردعها ولأهاج بعض من لا يعرفه منها على سوء الظن والاستهزاء به حتى يعرف بعضها بعضا بالثناء عليه وذكر علمه وعمله ومن الناس من إذا أظهر من ذلك شيئًا فحين سمى للعامة بل لا يكاد يخفى عليها حين يمر بها أن يقال هو فلان كالخليفة إذا مر أو كالمحدّث المشهور أو كالمفتى المعروف عند العوام فذلك إمام للعامة من يسمع باسمه - وإن لم يكن رآه من قبل – خضع واقتدى بما يكون منه من خير حتى لقد رأينا من العوام من يقتدى بزلة العالم المشهور بالعلم والفاضل المشهور بالنسك فإذا كانت الزلة منه يسارعون إلى القدوة بها ولا يسارعون إلى القدوة بكثير من الخير من غيره فكيف بما يظهر من الخير فعلى العاقل المريد أن يعرف فى أى موضع من الناس وضعه الله عز وجل فيه فيمكنه الحسبة فيما يظهر من القدوة إذا قوى ولا يجاوز قدره وإن حسنت نيته وقوى عزمه وهان حمد المخلوقين
٢٠٦
عليه وكذلك روى عن الحسن أنه قال الرجل إمام أهله والرجل إمام حيه والرجل إمام العامة فالذي أمر به في السنة إخفاء العمل لطلب السلامة ولفضل السر لأن السر أحرز للعاملين وأبعد بهم من كثرة الخطرات وقبولها وقد روى عن الحسن رحمه الله أنه قال لقد علم المسلمون أن عمل السرّ أحرز للعاملين فلا ينبغي للمريد العارف أن يخدع نفسه وما جرب منها بأن يتعرض للبلاء وليلزم العافية وإنما مثله مثل سابح رحم الغرقى ليخرجهم فتشبثوا به
فغرقوه وليته يغرق كغرق الماء ولكن يكون منه ما يتعرض به للمقت من الله عز وجل ومن قوى عزمه وهانت خطوات العدو عليه فى قبول الرياء ولم يحمله على إظهار العمل إرادة غير الله عزّ وجلّ أو ظهر وهو لا يريد إظهاره فسر بما ظهر للناس فلم يهجه على ذلك قلة القنوع بعلم الله عز وجل وطلب علمهم ولكن أهاجه قلة القنوع بطلب الأجر في عمله وحده حتى أراد أن يتقرب بحضهم على طاعة الله عزَّ وجلَّ فيكون له أجر ذلك مع أجره على عمله ولم يجاوز قدره فيمن يقتدى به إلى من لا يقتدى به فهو أعظم أجرا وقد اختلف الناس فى ذلك فقالت طائفة من أهل العلم عمل السر أفضل من عمل
العلانية للقدوة وغيرها وعمل العلانية للقدوة أفضل من عمل العلانية لغير القدوة وقالت فرقة عمل السرّ أفضل من عمل العلانية لغير القدوة وعمل العلانية للقدوة أفضل من عمل السر ولولا أن عمل العلانية للقدوة أفضل لما حض النبي الله على ذلك ! وإنما حضهم ليفعلوا ما يستن بهم وذلك لا يكون إلا علانية حضهم على عمل العلانية لهذا المعنى وأخبرهم أن لهم أجرهم وأجر من اتبعهم فهذا دليل على أنه أخرجهم بالحض والترغيب من عمل السر إلى عمل العلانية لكثرة الأجر لا إلى الرياء به وأخبرهم أن لهم أجرهم وأجر غيرهم ! وقد علموا من قبل أن عامل السر له أجره وحده فذلك يبين أن عمل القدوة أفضل من عمل السر
وقد روى في بعض الحديث أن عمل السرّ يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السرّ سبعين ضعفاً وإنه ليكون أفضل بأضعاف لا تحصى يقول النبي الله من استن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فقد يستن الرجل السنة فيعمل بها إلى يوم القيامة
۰۷
باب عمل السر والضعف عن إظهار العمل
خوف العدو وحذر الشهرة
قلت فإذا كان فضل عمل السرّ كما ذكرت على عمل العلانية ولسنا من رجال القدوة فلا نظهر عملا ولا نعمل إلا سرا
قائل
قال ذلك غلط وخدع من العدو لأن الله عزّ وجلّ مدح السر والعلانية فقال عز من
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالليلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
وقال عزّ وجل
إن تُبدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فالسر أفضل من العلانية والعلانية أفضل من البطالة وترك العمل فالسر أفضل ما أمكن السر فإذا لم يمكن السر فالعمل علانية مع الإخلاص لله وحده أفضل من الترك قلت فقد كره المعرفة والشهرة بالخير قوم أئمة أقوياء منهم إبراهيم استأذن عليه رجل وهو يقرأ فأطبق المصحف فقال لا يرى هذا أنى أقرأ كل ساعة ومنهم إبراهيم التيمي قال إذا أعجبك الكلام فاسكت فإذا أعجبك السكوت فتكلم وقال الحسن إن كان أحدهم يمر بالأذى ما يمنعه من رفعه الأكراهية الشهرة وفى ذلك آثار كثيرة وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة وكان أحدهم يبيت عنده الزوار فيدع قيام الليل مخافة
الشهرة
الله أئمة
قال إنهم رحمهم ولنا فى جميعهم قدوة وبعضهم في بعض الحال أقوى من بعض فيقوى هذا فى حال يضعف فيها آخر ويضعف هذا القوى في حال أخرى يقوى فيها الذي ضعف فإذا سألت عن الفضل أخبرت بالفضل والفضل فى من قوى ونفى ولم يترك ما فتح الله عز وجل له من العمل كما جاء الحديث • إذا فتح لك باب من الخير فانتهزه ! ولكل ما ذكرت من الأحاديث مضاد ممن قوى وإن كان الذين ضعفوا عما قوى عليه غيرهم
۰۸
إنما أرادوا الإخلاص والسلامة لا فترة عن العمل فأرجو ألا يجيبهم الله واب ذلك
وإن كان الآخرون أقوى
منهم
فأما ما فعل إبراهيم رحمه الله في المصحف فإنه يروى عن ابن عباس أنه دخل عليه رجل وهو يقرأ فقال هذا جزئى فاتني البارحة وقال عثمان رضى الله عنه إنى لأستحى من ربي عز وجل أن يأتى على يوم ولا أنظر فيه إلى عهد ربي إلى وأخبر أنه يقرأ فى المصحف كل يوم وقال عمر رضى الله عنه ودخل عليه عبد الرحمن وهو يصلّى عند الزوال فقال هذا جزئى من الليل فاتني وكان عكرمة بن أبي جهل يقرأ فى المصحف ثم يأخذه فيضعه على وجهه وهو يبكى ويقول كلام ربي
کلام ربى ! والذى رواه عنه قد ظهر له ذلك منه
وأما قول إبراهيم التيمى فيحتمل معنيين أحدهما ا صحيح والآخر ضعيف وخلاف ما أمر به العباد ! وإن كان يدارى به بعض العمال نفسه محبَّة للإخلاص وغيره أقوى منه فأما المعنى الصحيح فإن كان ذهب إلى أن أعجبه الكلام من قبل شهوة النفس للفضول واللغو والحرام كما يقول القائل إنه ليعجبني من الطعام كذا وكذا فصحيح معناه وبذلك أمر العباد وكذلك إذا أعجبك السكوت أي أعجب النفس أن تسكت عن الذكر كسلا أو عن القول في الحق بين الخلق لشهوة استبقاء مودتهم فتكلم حينئذ وخالف إعجاب نفسك في السكوت فكأنه قال لا تتكلم بكل شيء ولا تسكت عن كل شيء ولكن انظر ما تهوى نفسك فخالفها لأن هواها لا يدعو إلا إلى أمر الدنيا فخالف دعاء هواك واتبع أمر الله عز وجل في الكلام والسكوت وإن كان أراد إذا أعجبك من قبل العجب به أو من قبل الرياء يعجبك أن يحمدوك على سكوتك أو قولك فاسكت وتكلم فإن كان أراد من قبل العجب بالعمل الصالح والقول بالخير فلم يؤمر العباد بالترك ولكن أمروا أن يذكروا أن ذلك نعمة من الله عزّ وجل وأن أنفسهم قد كان هواها خلاف ذلك فيلزموا قلوبهم الاعتراف له بالمنة فى ذلك وإن كان من قبل الإعجاب بحمد الناس فإن كان الإعجاب هو الذى بدأ أولا فأولى به السكوت بذلك ويترك ما أراد به الرياء سكونا كان أو كلاما كما قال إبراهيم وإن كان العقد الله عز وجل أولا وإنما خطر بعد الإخلاص الإعجاب بحمد الناس فلم يؤمر الناس فى ذلك بالترك ولكن بالنفى لما خطر وإتمام الأعمال لله عز وجل
وأما قول الحسن رحمه الله فقد يكون ذلك منه حضا لبعض الضعفاء ومن ظن أنه يريد الشهرة وحكى عن قوم ضعفوا في بعض الأحوال عن إرادة الإخلاص والخير - وقوله هذا
وحكايته هذا للناس يعظهم أشهر من رفع الأذى ومن البكاء وقد نصب نفسه للفتيا والعظة وذلك أشهر من كل ما ذكر ! ولكن حض على الزهد فى طلب الشهرة واختار هو لزوم العظة والذكر والفتيا لما وجد من القوة وذلك أشهر وأرفع من جميع ما ذكر عن من ذكر من رفع الأذى والبكاء وقد شهد النبي وأصحابه الجنائز وتطوع العلماء في الجمع والمساجد واجتمعوا للذكر والعلم ونصبت العلماء أنفسها وذلك يدل على أن أعمال العلانية أفضل من الترك لها
وأما إبراهيم النخعي فقد قوى فى غير ذلك فيما هو أشهر وأرفع نصب نفسه للفتيا حتى شهرته العامة وقول عثمان في إخباره عن نفسه من قراءة فى كل يوم أقوى في الفضل من إطباق إبراهيم المصحف وقعد ابن عباس رضى الله عنه يبكى وهو يقرأ في مصحف حين ذكر أصحاب السبت حتى سأله عكرمة عن بكائه فأخبره ذلك !! فالسر أفضل وعمل العلانية أولى مع الإخلاص والمجاهدة لما يعرض إذا لم يمكن عمل السر وإلا أصاب العدو حاجته وأطيع في تضييع !
الطاعة
۱۰
باب هل يجوز ترك العمل من أجل الرياء
قلت فهل أترك العمل من أجل الرياء ويكون ذلك أولى بي
قال نعم إن خطرات الرياء ثلاث خطرات فى ثلاث أحوال خطرة قبل العمل ولا يعتقد معها القلب العمل الله عزّ وجلّ ! فتلك الخطرة لا تطاع ولا يعمل العمل على ذلك إلا أن يسخو قلبه به لله عزّ وجلَّ وينفى ما سوى ذلك وخطرة قبل العمل مع العقد الله عز وجل فذلك العمل يدخل فيه وينفى الخطرة وخطرة بعد الدخول فى العمل بالإخلاص لله عزّ وجل فذلك ينفى عن القلب ويمضى العبد فى العمل على ما نوى أولا
قلت فهل من العمل ما ندب العبد إلى تركه وإن أراد الله عز وجل بذلك قال نعم إن الأعمال على قسمين أعمال عامة كالصوم والصلاة والغزو والجهاد والذكر والأمر والنهى وما أشبه ذلك وأعمال خاصة للخواص كالقضاء والخلافة والإمرة والانتصاب للخلق بالدعاء إلى الله عزّ وجلَّ والفتوى ومن ذلك ضرب عمر رضى الله عنه أبيا حين رأى قوماً يتبعونه وهو فى غير ذلك يقول إنه سيّد المسلمين ! وقال أيضاً هذا أبي سيد القراء ! وقد كان عمر رضي الله عنه يقوم يعظ ويخطب وكطلب الدنيا بعد القوام لينفق فى أمر الآخرة فيؤمر العوام بترك ذلك كله إذ كان لا يقوم به إلا الخواص الأقوياء الذين لا تميلهم الدنيا ولا يستنفرهم الطمع والله عزَّ وجلَّ في صدورهم أهيب من خلقه والزهد فيها قد لزم قلوبهم بحقيقة البصائر بالعلم ومكابدة عدوهم بقوة ما عودهم الله عزّ وجل من الردّ عليه ! فمن أخطأ طريق أولئك دخل عليه من الضرر في تلك الأعمال أكثر من المنفعة وكذلك رأيناهم يأمرون بترك الخلافة وترك التعرّض لها وكذلك الإمارة
ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي الله قال له يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن سألتها لم تُعَنْ عليها وإن أُوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها وقال لا تولى أمرنا هذا سألناه من وقد تعرض للصلاة والصيام والغزو وغيره قويهم وضعيفهم وقد سأل قوم النبي الله أن يُغريهم وبكوا لما لم يجدوا ما ينفقون فأثنى الله عزَّ وجلَّ عليهم
۱۱
بذلك ! فلم يجعل النبي الإمارة كذلك وقال إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من أخذها بحقها
وقال نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ولم يذمهم أن يحرصوا على الصلاة والغزو
والصيام وقال أبو بكر رضى الله عنه الرافع بن عُميرة لاَ تَأْمَرَنَّ على اثنين ثم ولى الخلافة فقام بها وقد قال له رافع ألم تقل لى لا تأمرن على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد قال بلى وأنا أقول ذلك لك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعنى لعنة الله عزّ وجلَّ وقال أيضاً لما قبض النبي الله ولم يذرنى أصحابي فقال رافع بن عميرة فما زال يعتذر
إلى حتى عذرته
وقال عمر رضى الله عنه من يأخذها منّى بما فيها وودت ذلك لأن القول من النبي قد تقدم فيها ما من والي يلى عشرة الأجاء يوم القيامة مغلولة بداه إلى عنقه أطلقه العدل أو أو بقه الجور رواه عنه معقل بن يسار وولى عمر رجلا فقال له يا أمير المؤمنين أشر على فقال اجلس واكتم على وروى الحسن أن رجلا ولاه النبي الله فقال للنبي مع الخولى فقال اجلس وروى هذا الحديث عن غير الحسن متصل الإسناد أن النبي عل الله قال للرجل الذي قال له خر لي قال
اجلس
وإياها عنى عمر بن عبد العزيز حين قام إلى المنبر يجر رداءه وتسيل دموعه من البكاء وكذلك القضاء لم يزل الناس يتقونه ويفرون منه لما تقدم من النبي عل من قوله
القضاة ثلاثة اثنان فى النار وواحد فى الجنة يرويه عنه بُريدة
وقوله عليه السلام فمن استقضى فقد ذبح بغير مسكين وذلك الدنيا أمروا بأخذ القوام ۱ منها ونهوا عن طلب الفضل لا أنه محرم ولكنه لا يسلم في طلب الدنيا إلا الأبطال الزاهدون العالمون بالله عزّ وجلَّ وأيامه وقد روى عن الحسن أنه سئل عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال القاعد أفضل مما يعرفون من قلة سلامته فى طلب الدنيا وأن من الزهد
1 قوام الأمر بفتح القاف وكسرها ملاكه الذى يقوم به والمراد هنا أخذ ما يكف أو ما يقيم الأود
۱
تركها إلا للقربة لله عزّ وجل ! فخشوا أن يزدادوا بُعداً من الله عزّ وجلَّ إذا طلبوها لفتنتها وشغل القلب بها وقال أبو الدرداء ما يسرني أنى قمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين ديناراً أتصدق بها أما إلى لا أُحَرِّمُ البيع والشراء ولكن أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله عز وجل !! وفي حديث آخر لئلا تشغلنى عن الذكر وكلا المعنيين واحد وقال كنت تاجراً قبل أن يبعث النبي الا الله فلما أسلمت أردت العبادة والتجارة فلم يجتمعا لى فتركت التجارة فأخبر أنه لا يمكنه التجارة إلا أن يلهو عن ذكر الله عز وجل ويشتغل عنه ولم يقل لا يعجبنى أن أنجر فأصيب كل يوم خمسين دينارًا وأتصدق بها ولا يلهينى ذلك عن ذكر الله عزّ وجلَّ ولا يشغلنى
0
وقد أجمع المسلمون على أن من ولى الخلافة أو الإمارة أو القضاء أو قام بالدعاء إلى الله عزّ وجل والفتيا فسلم أن ذلك أفضل من جميع الناس ! ! من ذلك قوله ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما وقال النبي أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له أجره وأجر من تبعه وقال النبي أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقْسِطُ أَحَدُهم وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل أحدهم وقال أقرب الناس منى مجلسا يوم القيامة إمام عادل رواه عنه أبو سعيد الخدرى وقال لمعاذ ولأن يهدى الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها والقاضي كذلك إن عدل وأصاب الحق كما رواه أبو بريدة عن النبي لا أنه قال في الجنة يعنى الذي قضى وأصاب الحق وقد اختلف في الطلب للدنيا بعد القوت إن طلب وسلم وتصدق به فقالت فرقة التارك أفضل وأزهد
وقالت فرقة إذا سلم وتصدق به فهو أفضل ممن ترك لأنه قد اكتسب من العمل ما لم يكتسب غيره وإنما يسأل عن ذلك كما يسأل عن الصلاة والصيام ليثاب عليه ونأمره بالترك خوفاً ألا يسلم !
الآخر كالرجل يريد الحج في وقت فيه سعة من الأيام فيأمره والداه أن يقيم إلى آخر الوقت للحج
فليطعها
وإذا كان في فرض فَعَرض له فرض دونه لم يخرج منه إلى ما هو دونه حتى يتمه كما إذا
كان في الحج المفروض محرماً به فكتب إليه والداه بالحضور فليتمه ولا يخرج منه وإذا كان في فرض فعرض له فرض أوجب منه قطعه بعد ما يحل فيه كالصلاة وكما إذا أمره والداه ألا يخرج من بلدهما فيحضر النفير لظهور المشركين على المسلمين وليس في وجوههم من يقوم بقتالهم فعليه الخروج وترك المقام
وإن عرضت له نافلة وهو فى واجب لم يقطعه من أجلها
وكذلك الفضل والتطوع يبدأ بالأفضل فالأفضل
على أن الواجب أن يبادر الإنسان بالعمل على نجاة نفسه حتى لا يكون مثله كمثل من قال الله
عز وجل فيه حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت قال الله عز وجل مجيبا
كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون قال عبد الرحمن بن يزيد لرجل يعظه يا فلان هل أنت على حال ترضى فيها الموت
قال لا
قال فهل أجمعت للنقلة إلى حال ترضى فيها الموت
فقال لا ما سخت نفسى بذلك بعد
قال فهل بعد الموت دار فيها مستعتب
فقال لا
قال فهل تأمن بغتة الموت
فقال لا
قال ما رأيت مثل هذا الحال رضى بها عاقل
والعاقل هو الذى يتوب قبل الموت - أى على الفور - توبة طاهرة عن الذنوب والخطايا بأن لو قيل له إنك تموت الساعة فإنه لا يجد عنده ذنباً يحتاج إلى التوبة منه فيسأل النظرة من أجله ولقد أجاد سيدنا عمر بن عبد العزيز فى الحض على الذكر والفكر حينما قال في خطبته
فقد انتظم له أن يزهد فى حمدهم وغيره من الدنيا حتى يكون الله عز وجل هو الذي يورث قلوبهم المحبة له ! ومع ذلك إنه حديث منقطع لا يضاد بالآثار في النهي عن طلب محمدة الخلق بطاعة الله عز وجل
٢١٥
باب ما يصح للعبد من غمه عندما يظهر للخلق من ذنوبه
قلت هل يصح إذا اطلع على بعض ذنوبى أن أغتم بذلك ولست أجد الغم يكاد ألا يعرى منه أحد
قال إن الغم فعل الطبع إذا ورد عليه ما يخالف طبعه فعرفت نفسه ذلك بعينه هاج الغم فالغمّ فعل الطبيعة والطبيعة الغريزة على ما وافق ولم يخالف من قول أو عمل أو غير ذلك فإذا هاج الغم - عن الطبع كان الإخلاص والصدق أو الرياء والكذب عند ذلك حينئذ يدعو العدو والنفس إلى الجزع من زوال المنزلة عندهم وسقوط الشهادة وترك البر والتعظيم للطاعة فإن قبل ذلك وجزع لذلك فقد استعمل غمه لما ينقصه في دينه وإن كان عمه خوفًا أن يُهتك ستره في القيامة لقول النبي عل الله ما ستر الله عزّ وجلّ على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة أو اغتم مما يعارضه طبعه مما امتحن به خوفًا أن يشغل ذلك عقله عن الله عز وجل فقد أخلص وصدق ! وإن لم يستعمل واحدا من الأمرين وترك الغم الذي هو فعل الطبيعة ولم يستعمله لم يضره ومن شغله الغمّ بعلم الله عزّ وجلّ بذلك الذنب عن الغم بعلمه فذلك أولى وأفضل ! ومن شغله الغمّ بعلمهم عن الغمّ بعلم الله عزّ وجل فذلك
الخاسر !
٢١٦
باب في ستر المعاصى عن العباد وإن اطلع الله عليها
قلت فما معناه في تستره أن يظهر معصيته للعباد وهى الله عز وجل بادية قال لقد كان أولى بالعبد ألا يخفى شيئًا سوى ما يظهره للعباد من الخير وأن تكون سريرته مثل علانيته بل أفضل كما قال عمر رضى الله عنه لرجل عليك بعمل العلانية قال يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية
قال ما إذا اطلع عليك لم تستح منه
وقال أبو مسلم الخولاني ما عملت عملا أبالى أن يطلع الناس عليه إلا إتيانى أهلى والبول
والغائط
ولكن الصادق إذا بلى بالذنب تستر لذلك ! حياء لغير طلب الرياء ولما جاء عن الله عزّ وجل أنه لا يجب إظهار المعاصى وعلى ما أجمع عليه المسلمون أنه من أظهر سوءا فهو المتهتك وهو أعظم عند الله عزّ وجل ممن استتر بستر الله عزّ وجل ! والمرائى إنما يستر ذلك ليحمد على الورع وليس بورع وأن يوهم أنه الله عز وجل خائف تصنعا منه للعباد ورياء لا ورعا لله عزّ وجلّ ولا حياة من العباد
۱۷
باب ما يستحب فيه الحياء ومايكره فيه
قلت قد أكثر الناس فى الحياء فكل مداهن ومراء يدعى الحياء والصادق يدعى
الحياء ! فهل من الحياء ضعف ومنه خير
قال الحياء كله خير كما جاء عن النبي الله وقول من قال منه ضعف إنما يروى في بعض الكتب لا يدرى ما ذلك
وقد غضب من ذلك عمران بن حصين حين قال رشيد بن كعب إنه يقال في الحكمة ! إن
منه ضعفاً ! فقال والله لا أحدثكم حديثاً اليوم أحدثكم عن رسول الله وتحدثوني عن الصحف !! فما كان عن النبي فهو أولى وقد قال الحياء شعبة من الإيمان وقال عليه السلام إن الله يحب الحيى الحليم
فالحياء فعل من الطبيعة الكريمة يختص به من يشاء من خلقه ينفع العاصى والمطيع أما المطيع فقد زايل كل خلق دنيء وأما الفاسق فلم يجمع مع فسقه إلا فسوقا وتهتكا
وقد جاء الحديث إن العصاة إذا تركوا الحياء وجل العامة والخاصة
فلم يغير عليهم عاقب الله عز
قال أبو بكر عن النبي الله أنه قال إذا ظهر السوء فلم يغيّره الناس أوشك أن يـ
بعقاب
الله
يعمهم
وقالت أم سلمة أنهلِكُ يا رسول الله وفينا الصالحون قال نعم إذا ظهر السوء فلم يغير
وآثار كثيرة
فالحياء غريزة كريمة فعندها يجد العدو الدعاء إلى الرياء فإن أطاعه العبد اعتقد الرياء واعتل بالحياء وصدق قد أهاجه أولا الحياء ثم خطر العدو بالرياء فقبله فكان مرائياً إذا تنقل من الحياء إلى الرياء وقد يهيجه الحياء على أن يريد الله عزّ وجلّ فيضم إلى الحياء الإخلاص لله عز وجل فإن فعله للحياء أو تركه لغير ذكر الإخلاص ولا رياء - ولا يكاد يكون ذلك – فهو خير لقول النبي الحياء خير كله وشعبة من الإيمان ما لم يكن شيء أولى به فيه الحياء من الله
جل وعز
۱۸
فالحياء من كل خلق دنيء في دين أو دنيا
ومثل ذلك كمثل رجل أتى رجلين فسأل أحدهما قرضًا أو صلة فكان أحدهما ليس في قلبه حياء فردَّه إذ لم تسخ نفسه بالإعطاء والآخر سئل مالا تسخو به نفسه فيمنعه الحياء من البخل من أن يرده فأمسك عن إظهار الردّ وبادر ليفعل فوجد إبليس موضع دعاء - والنفس - فقال أعطه لا يقول ما أبخله إن لم تعطه ! أو أعطه ليثني عليك به ويعظمك أو أعطه ليكافئك عليه وهذا أيسرها فاعتقد ذلك وأعطاه ولا يشك أنه أعطى للحياء عند نفسه لبدو هيجان الحياء من طبعه
به
ويسأل آخر مالا تسخو به نفسه فلم يقو أن يرده لما هاج فى قلبه من الحياء فخطر خاطر الرياء فنفاه وقال لا بل الله عز وجل أو لما رأى نفسه ه تمتنع من الرد من أجل الحياء ذكر في ذلك الوقت ثواب الله عز وجل فأراده ولولا الحياء لرد صاحبه ولما أمسك حتى ينوى الإعطاء الله عز وجل ولو أنه أخلص بالإعطاء شكرًا لمن جعل غريزته تهيج بالحياء أو لمن وهب له الحياء ولم يجعله كمن لا يستحى دون طلب الثواب لكان الله عز وجلَّ يستحق ذلك فكيف بطلبه
الثواب !
وآخر يُسأل أشياء فهاج من الحياء مالا يملكه فأعطاه العزم عليه ولم يقبل خطرة رياء ولم يذكر ثواباً وما أقل ذلك أن يعطى عبد أو يعمل أو يترك إلا لرغبة أو رهبة فإن أعطاه على ذلك الحياء أو أمسك عما لا ينبغى أعطاه مع الحياء فهو خير عن خلق كريم مالم
يعتقد الرياء
ومن جمع مع الحياء إرادة الله عز وجل وثوابه فذلك أفضل لأن الحياء غريزة كريمة لا يعطاه كل أحد ولا ينزع الحياء إلا من قلب شقى ومن ذلك ما يروى عن النبي أن رجلا من أهل اليمن أراد أن يشرب سويقاً عند النبي عل فاستر بثوبه من الناس
فقال رجل ما هذا فقال النبي الله هذا الحياء يعطيه الله قوماً ويمنعه آخرين فإذا هاجت تلك الغريزة فعندها يعتقد الإخلاص أو الرياء أو يعمل عليها بغير عقد رياء
ولا إخلاص
وكل مراء يمكنه أن يعتل بالحياء وقد يخيل إلى بعض المريدين أنه مستح وإنما هو مراء لا يستحى من تضييع الفرض ويستحى من أشياء مباحة كاستعجال المشى لأنه خروج إلى الخفة وكثرة الضحك فيقصر
۱۹
رياء وجزعاً من الزوال عن الخشوع عندهم وقد يأتي الشيء استحياء منه من الخلق والحياء من الله عز وجل في ذلك أولى فهو كخير أفضل من غيره من الخير كالرجل يرى من شيخ مسلم منكرًا فيريد أن يأمره فيستحى من شيبته فالحياء من ذى الشيبة وتوقير الكبير خير وخير من ذلك ألا يدع أن يأمره ! ولو كان مستحيا من شيبته لأن من الدين والأخلاق الكريمة إكرام ذى الشيبة وكذلك رواه أبو موسى عن النبي عل الله أنه قال إن من إجلال الله عز وجل إكرام ذى الشيبة المسلم والحياء من الله عز وجل أولى ألا يضيع ! الأمر من أن يقوم فيه الله عز وجل ! وإن استحى منه فليؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الخلق فافهم ما وصفت لك من الحياء فإن كثيرًا من الناس يغلطون فى ذلك ويكذبون على الحياء ويرون ذلك أنه حياء
وكل ما يستحى منه العبد لا يعقب رياء فلا بأس به كحيائه من وسخ ثوبه ووسخ جلده والسواد على ثوبه وعلى جلده وما أشبه ذلك فلا بأس به مالم يعقب رياء في الدين !
۰
باب من أين ينبغي للعبد أن يكره ذم المسلمين له ومن أين لا يكرهه
قلت أليس ينبغي للمسلم أن يكره ذم المسلمين له قال بلى ولكن قد يكرهه على وجوه
قد يكره ذمهم خشية أن يكون ذلك دليلا على ذم الله عزّ وجلّ له لقول النبي أنتم شهداء الله في الأرض هذا ما لم يظلموا في ذمّهم ولم يكذبوا وكراهة أيضًا أن يغيروا قلبه فيشغلوه عن الله عزّ وجلّ أو يجىء منه إليهم ما لا يحل فيعصى الله فيهم بقلبه أن أو إشفاقا عليهم يعصوا الله فيه
أو جوارحه
والذى هو أقل ذلك وهو مباح أن يكره أن يغتم بما يسمع أو يشق عليه لأنه مخالف للطبع فلا يكاد أن أن يمتنع يهيج الغم لسماعه ما يكره من القول فيه فليس عليه في ذلك جناح أن يكره ما يشق عليه فيما يهيج من فعل طبعه وألا يحب أن يغتم وإن ذمّوه فاغتم لا لما هاج من الطبع فلا بأس به مالم يكن يكره الذم ويغتم له جزعاً أن يزول عنه الحمد بالطاعة ومحبة أن يثنوا عليه بالورع ويبروه على الورع ويأكل بدينه ولا يجب أن يقولوا عليه غير ذلك فيزول عنه الثناء بعمله والبرّ على طاعته فإذا كان ذلك فقد نقص فى دينه وإن هو لم يراء بطاعة الله عزّ وجل من أجل ذلك ولم يجزع من ذلك لأن يتمّ له الثناء على طاعته لله عزّ وجلّ وسلم من ذلك وشغله مع السلامة من الرياء غم ذمهم إذا كانوا صادقين فيه عن الغم الله عز وجل فقد نقص وغين بل ما يرضى كثير من الناس بالغم بزوال الثناء بالدين حتى يبتدئ أعمالا أخر لم يكن يعملها ليزيل ذلك الذم عنه والخروج إلى الاعتذار بالكذب والتصنع والمؤمن لا يطلب بطاعة الله عزّ وجل حمد المخلوقين ولا يكتسب ذمهم ولا يحبُّه لأن فيه شغل قلبه ومحنةً له لعله أن يخرج إلى مالا يحل له وعصيان المسلمين فيه بالطاعة فالطاعة يريد الله عز وجل بها ولا يريد بها العباد وذم العباد لا يحبه ولا يكتسبه ولا يطلبه ويجب ألا يعصوا الله عز
وجل فيه ولا يشغلوه عن ربه عز وجل وأن يسلم دينه وأن يسلم عليهم
۱
ذمهم
قلت فإذا كان لا يحب ذمهم ولا حمدهم على طاعة ربه وليس بينهما منزلة فإذا لم يحب أحب حمدهم وإذا لم يجب حمدهم فهو يحب ذمهم
قال إن غمه بذمهم على طاعة ربه عزّ وجلّ ليس يجزع منه لسقوط منزلة ولا حب ثناء ولكن لشغل قلبه ولعصيانهم فيه فكذلك لا يجب حمدهم على طاعة الله عزّ وجلّ
قلت فيحب حمدهم لسقوط الشغل عنهم ولطاعتهم فيه لربه عزّ وجل قال إن شغله لحب الحمد وطلبه لتسكين الشغل عن قلبه محبَّة الثناء والتعظيم على طاعة ربه عزّ وجل فقد تعجل ثواب ذلك وإن كراهته لشغل قلبه بالذم ومحبته أن يزول الشغل عن قلبه طلب السلامة لا أنه معتقد للشغل يحبّ حمدهم ولكن كراهة أن يجاهد طبعه فلعله أن يغلبه في حال غفلته فكلما دفع ذلك عنه أن يمتحن به عدها نعمة من ربه عز وجل قلت فالحمد أيضًا يحبه جملة لغير طاعة لئلا تعارضه محنة ذم على طاعة يجاهد عنها طبعه فيشغله ذلك ولعله أن يزول
قال إن فى وقوع الذم نفار الطبع وليس فى دفع الحمد إذا لم يعقبه ذمّ نفار الطبع إلا جزعا لحب المنزلة وطلب الحمد منه لا يكون من قلبه إلا رجاء أن يحمدوه على خير وطاعة فإذا دعت النفس الحمد على جملة فقد علم أنهم لا يحمدونه إلا على خير وبر
قلت وكيف جوزت حبّ الحمد بعد العمل للستر عليه قال لم أجوز لهم إلا سروره بنعمة الستر بعد ما مضى العمل خالصا وبين الحمد والذم
منزلة
قلت وما وهى
قال أن تخلو قلوبهم من حمدهم على طاعة الله عز وجل ومن الذم كقلب من لا يعرفه ولا يذمه ولا يحمده وكقلب من يعرفه فينسى إحسانه فلا يحمده ولا يذمه أو يذكر إحسانه ذلك ولا يتفرغ قلبه الحمد ولا ذم فهو لا يحب أن يذموه كراهة الشغل ويجب ألا يحمد على طاعة لكراهية الرياء والزهد في المنزلة ويحب أن يخلو من ذلك جميعا فلا يكون منهم حمد فلا ذم على طاعة ولو اعتقدوا ذمه بعد أن لا يعلم به لهان عليه إذ لا تقع فيه المحنة إلا أنه لا يحبه لهم وإن لم يعلم به لأ لا يعصوا الله عزّ وجل فيه وفى الحمد هم مطيعون قلت أليس الحمد والدم منزلتين إحداهما قبل الأخرى
ا
قال إنه ليس بين الفعل والترك منزلة لأن الترك للفعل فعل ثان فالفعل ضروب فيكون
العبد يفعل فعلا آخر ثالثا لا حمد ولا ذمّ قلبه من الحمد والدم لبعض العباد فهو يحب أن يكون ذلك العبد يعيش عُمره لا يحمده أحد على طاعة ولا يدمه أحد لأ لا يشتغل قلبه عن الشغل بالآخرة ولا آمن أن يجىء منه إليهم ما يأثم فيه ومحبة ألا يعصوا الله عزّ وجل فيه وإن كان من يذمه محسن لم يحب الذم منه خشية أن يزداد إثما أيضًا أن يذكرهم بما لا يحل له وأدنى ذلك أن يشغلوا قلبه عن ربه عز وجل !
ألا ترون أنكم تتقلبون في أسلاك الهالكين ويرثها منكم الباقون كذلك حتى تردون إلى
الأرض
خير الوارثين وأنتم تجهزون كل يوم غاديَّا أو رائحاً إلى الله عز وجل تضعونه في صدع ال ثم في بطن صدع قد توسد التراب وخلف الأحباب وقطع الأسباب موجه للحساب غنى عما خلف فقير إلى ما قدم
ثم يبدأ المحاسبي شرح وتحليل الرذائل النفسية ووصف العلاج لها تلك الرذائل التي تحبط الأعمال وتنفى الإخلاص وأول هذه الرذائل هو الرياء ويستفيض المحاسبى فى الحديث عن الرياء استفاضة تغلغله في النفوس وتشعبه بحيث يظهر فيما لا يكاد يحصى من الأعمال على أن جميع أعمال البر عرضة لأن يعصف بها الرياء فتصبح كسراب بقيعة ومن أجل كل ذلك كتب عنه المحاسبى حوالى خمس وعشرين ومائة صفحة أى ما يزيد قليلا على ربع الكتاب ووضعه تحت
تتناسب مع
عنوان كتاب الرياء
ويبدأ المحاسبي كتاب الرياء على الصورة العادية فى كتاب الرعاية كله سؤال السائل وإجابة
المؤلف
قلت قد وصفت لى مراقبة الله - عز وجل - وذكر الرعاية الحقوق الله عز وجل ووجوه طلبها
والأول من الواجب والفضل فما تخاف على إن قمت لذلك قال أخاف عليك أن تفسده بما يبطل ثوابه فى آخرتك ويذهب بحلاوته من قلبك قلت ذلك أعظم للحسرة أن أتعنى ثم يحبط ويبطل عملى وما ذاك المعنى اهـ ومما يحبط عمل المتقى أن يحب أن يحمد ويوقر بسبب عبادته ولابد من الإخلاص التام حتى يصل الإنسان إلى منزلة خاصة وما من شك فى أن الإخلاص منزلة الأقوياء والخاصة من العابدين ولكن الجميع مطالبون به وعلى قدر إخلاصهم يكون ثوابهم
وقد سأل رجل رسول الله الله
فقال يا رسول الله
قيم النجاة
فقال ألا تعمل بما أمرك الله به تريد الناس
فسأله عن نجاته في أعماله فأخبره بترك الرياء
۳
باب كيف يكون قلب الصادق عند كراهية المنزلة
عند المخلوقين وحبه لإخمال ذكره
قلت كيف يكون قلب الصادق في ذلك
قال تكون نفسه سخية أو يكون فى الخلق ما عاش لا يخطر بقلوبهم حمده ولا معرفة فضله ولا تنطق بذلك ألسنتهم بالزهد فى المنزلة سخيًّا بذلك لربه عزّ وجلّ دون خلقه قلت ألم تجوز للعبد أن يحب رفع الشغل عنه والمعصية عن غيره بذمه وإن كانوا
ذامين له من قبل الغضب الله عزَّ وجل يذمونه في وجهه ويعظونه ولا يغتابونه قال يغتم لذلك من أجل هتك الستر ويحب لو بعث الله عز وجل إليه من يوقظه ويعظه ويحب مع ذلك أن الله عزّ وجل كان ستر عليه ويعظه من قلبه ولم يكل عظته وتأديبه إلى غيره بهتك ستره
قلت فإذا كان الذم إذا وقع كرهه للشغل والمعصية للعباد إذا كان بما لا يحل لهم لم لا جاز أن يفرح بالحمد منهم إذا كان يدفع الشغل عنه وحب طاعتهم
قال جائز إذا كان يدفع الشغل عنه وحب طاعتهم وكان لغير قيام منزلة إذا حمدوه بعد ما يفرغ من العمل أو حمدوه قبل أن يفرغ من العمل أو حمدوه على جملة على غير عمل يسمونه كمثل عافاه الله وجزاه خيرًا أن يعدّها نعمة إذ ستر القبيح وأظهر الجميل وحببه إلى خلقه وهو يتبغض إليه ويفرح لهم بأن يطيعوا الله عزّ وجلّ فيه وأن يقتدوا به إن كان موضع قدوة لهم متفقدًا لقلبه مع ذلك ألا يكون فرحه لحب المنزلة عندهم ذلك أن يكره أن تظهر منه فترة بعد ذلك فيغتم لألا يتغيروا له عن حمدهم أو يبتدئ في عمل وهو معتقد بقلبه أن يحمدوه عليه إن اعترضت له محبة ثناء وتعظيم بطاعته أو بالبر والصلة - نفى ذلك - شكرًا للذى ستر عليه قبيحه وأظهر جميله فعامله وحده وأخلص له قلبه قلت فما معنى إذا قول عبد الله حتى يكون حامده وذامه فى الحق سواء
وليحذر
مع
قال ذلك صحيح يستوى حامده وذامه فى نفسه للإخلاص والصدق الله عزَّ وجلَّ والزهد في حمد من لا يضرُّ ولا ينفع لأن الخلق عبيد لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فهم
٢٢٤
لغيرهم أولى ألا يملكوا له ضرا ولا نفعاً فزهد فى حمدهم فلم يبال بذمهم ! واستوى ذلك عنده لنفسه إذ الأمر في المنفعة والمضرة واحد وأن ذمهم لا يوجب ضرراً وأن حمدهم لا يوجب منفعة كما روى عن النبي الله قال له رجل وهو شاعر بني تميم يا رسول إن
حمدی زین وذمى شين قال
كذبت ذاك الله عزّ وجلَّ
فلما استيقن المؤمن وعلم وصدَّق بأن الله عزَّ وجلَّ إله واحد وكل ما سواه مألوه مربوب مدبر مصنوع لا يحدث في ملك مولاه وربه عز وجل ما لا يريد ولا يكون إلا ما أراد خلع من قلبه رجاء من لا يملك له ضرا ولا نفعاً وخوفه واستوى عنده حمد المخلوقين وذمهم إذ كانوا بهذه المنزلة ولم يستو عنده حمد الخالق وذمه إذ الملك كله له والمنفعة والمضرة من تدبيره عزَّ وجلَّ وصنعه فما حمده الله عزَّ وجلَّ من الفعل أمل فيه الثواب بعاجل الدنيا وآجل الآخرة وذلك أعظم المنفعة ! وما ذمه عليه الله عظم عليه وخاف عقابه فى الدنيا والآخرة إذ لا مالك لهما غير مولاه وإله وما حمده الخلق أو ذمّوه استوى عنده إذ لا ملك لهم فى المنفعة ولا فى المضرة فى الدنيا والآخرة بما لم يرد مولاه ولم يشأه
٢٢٥
باب استواء الحمد والذم في قلب العبد والفرق بين حبه لنفسه ولربه عز وجل
قلت مثل أي شيء يستوى
قال كرجل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فحمده من العباد حامد ونظر فإذا حمده لم يزده في رزق ولم يؤخر له في أجل ولا زاده في صحة ولا دفع عنه سقما ولا وجب له ثواب في الآخرة فكان عنده كأنه لم يكن ثم ذمّه آخر على أمره ونهيه فقال مُراء مكلف ! فنظر فإذا ذمّه لم ينقصه من رزق ولا من عمر ولا أزال عنه صحة ولا أحَلَّ به سقما ولا وجب به عليه عقوبة في الآخرة فكأن الذمّ منه لم يكن فاستوى ذم من ذمّه وحمد من حمده لنفسه إذ لم ينل بحمد الحامدين منفعةً ولم يُصِب بذم الذامين له مضرة فيستوى لنفسه ولا يستوى لربه لأن الذي حمده قد أطاع الله عز وجل فيه بحمده للحق وحبه للقيام به وحبه لمن أطاع الله عز وجل والذى ذمّه على الحق قد عصى الله فيه وأبغض الحق ولم يجب عليه فيبغضه على معصيته الله عز وجل في ذمه للحق وأهله فلا يستوى لربه
ويستوى لنفسه
6
قلت هذا معنى غامض دقيق لا يعقله مثلى إن لم تكن تشرحه لى كيف يميز بين ذلك وطبعه
ينازع إلى الحمد وينفر من الذم ! وكيف يستويان لمعنى ولا يستويان لمعنى آخر قال هو معروف موجود إذا قررت أن الحامد للحق مطيع الله عزّ وجلّ والذام للحق وأهله عاص لله عزّ وجل فقد ثبت الفرقان بينهما في الحب والبغض وثبت المساواة بينهما لنفسه لا لربه عزّ وجل إذا لم ينتفع بالحمد ولم يُضَرَّ بالدم قلت لا بد من معنى تنصبه لى أعرف به كيف أفرق بينهما وأستدل به على ما يكون من طبع لما أجد في الحمد والدم
قال إن الذى يسوى بينهما لنفسه قد يخالف بينهما لمنازعة النفس وخطر العدو ولكنه كاره لذلك راد على هواه وعدوه وقد يقوى ويعلو في الإخلاص حتى يأتى عليه بعض الحال يُدَم ويُحمَدُ فيها فلا يكاد أن يتغير طبعه لما قد قهر الطبع من قوة عزم العقل ونور الإخلاص وقد
الرعاية لحقوق الله
٢٢٦
ينازع طبع هذا القوى في بعض الحالات إلا أنها منازعةٌ ضعيفة لغلبة الصدق على قلبه ومن لم يقو فعليه المجاهدة والرد على دعوى نفسه وعدوه ويسوى بينهما بعقله وعلمه وإن نازع الطبع إلى الخلاف بينهما حتى يعلو ويقوى فتخفّ المحن ويضعف دعاء الغريزة ويهن ولما ثبت أنه إذا سوى بينهما بعقله لما استودعه الله عز وجل من العلم بمعرفة الخلق والخالق كانا عنده سواء أمر وندب إليه ولم تضره منازعة نفسه إياه وكذلك إذا فرق بينهما في الحب والبغض لربه عز وجل وساوى بينهما لنفسه سلم وصدق
قلت فيم يعتبر حتى يعلم أنه قد صار إلى ما قلت إن التبس عليه وخاف أن يكون
الفرقان بينهما للحب والبغض لنفسه وهى تدَّعى أن ذلك لربه عز وجل قال يعرض على قلبه أن لو كان المحمود على الطاعة غيره والمذموم عليها غيره كيف كان حبه الحامد إذا أحبه الله عز وجل وبغضه الذامَ إذا أبغضه الله عز وجل ويحمل قلبه
على
يدين الله بمثل ذلك سواء قلت فالطبع لا يستوى فيه حمده وحمد غيره وذمه وذم غيره قال أجل ما أقل ذلك ولكن يتديّن بعقله وعلمه أن يحبه ويُبغضه على نحو مما يبغض من يدم
غيره ويحب من يحمد غيره ويكون راداً على هواه كارها للفضل بينهما كما يكره منازعة النفس ومخالفتها بين الحمد والذم إذا استوى ذلك عنده من قبل تدينه بعقله لربه عز وجل وكذلك يستويان عنده فى الحب والبغض للحامد والذام لغيره والحامد والذام لنفسه ويكره ما نازع من الطبع من الزيادة والفضل بينهما التي تنازع الطبع إلى التفرقة بينهما وإذا فعل ذلك فقد دان الله بالحب والبغض للمطيعين والعاصين ودان الله عز وجل بالتهاون بحمد المخلوقين وذمهم فاستوى ذلك عنده وما خالف هذين بالمنازعة من قبل هواه كرهه ولم يركن إليه كما بنهى النفس عن الهوى قلت إن الإخلاص منزلة شريفة لا يبلغ مثلى إليها لأنها منزلة الخاصة وأنا مخلط قال ما أحد أحوج إلى الإخلاص من المخلط ! لأن المتقى لو حبط تطوعه كله نجا بتقواه والمخلط إنما يكتمل بتطوعه فرضه فإن حبط تطوعه بقى فرضه ناقصا فهلك إلا أن وجل بعد أن يلقى
أمر
الله عز وجل على توبته من الرياء
يعفوا الله عز
۷
باب في الرياء للوالدين ليرضيا وللعلماء ليستفيد به علما
قلت فهل يجوز الرياء للعالم ليستفيد منه علماً لا يريد بذلك دنيا ورياء الوالدين ليرضيا عنه يريد بذلك رضاهما ولا يريد بذلك دنيا
قال لا هذه أغلوطة وخدعة لأن الله عزّ وجلَّ إنما أمرك أن تعمل له وحده وتريده وحده ورياؤك لتزداد علما خسران وجهل فكأنك قلت أخسر عملا بازدياد علم لأن إرادتك أن يحمدك العالم ضدُّ إرادتك أن يحمدك الله عزّ وجلَّ فذلك يحبط عملك ولعلك لا تستفيد علما ولعلك إن استفدته لن ينفعك الله عزَّ وجلَّ به بسوء إرادتك لما راءيت بعملك وليس رياؤك بالذى تزداد به علماً إذ كان ما يصير إليك من العلم مقدورا راءيت أو أخلصت فإنه لا يصل إليك إلا ما قدر لك وما لم يقدَّر لك لن يصل إليك وما علم العالم بأنك تريده فيزيدك علماً بل لو علم أ أنك إنما تريده لغيره لمقتك - وكنت أحرى أن يمنعك العلم - لما ظهر له من سوء ضميرك فكيف تأمن الله عزَّ وجلَّ أن يمنعك ما تأمل من العلم لما يعلم من سوء ضميرك وإن أعطاك إياه منعك المنفعة به عقوبة فتكون إنما ازددت حجة ولم تنل خسران العمل وحبطه وتعرض للمقت وكذلك والداك إنما تطلب رضاهما لرضى الله عزّ وجلّ وفى رضى الله عزّ وجل ترك
منفعة
4 ご
الرياء له فكأنك قلت أطلب رضى الله عزّ وجل بسخط الله عزل وجل
فهذا متناقض ومحال لا يقوم فى وهم ولا يقرُّ به عقل ولعله لا يزداد إلا سخطا عليك لأنك إنما توهمه بما يظهر له منك أنك فى الضمير تطيع الله عزّ وجل فيلقى الله عز وجل
كذلك فى قلبه عقوبة فيزداد لك مقاً وبغضًا لثقلك على قلبه كما لم تهب الله عز وجل في ضميرك فتخلص له عملك
فاتق الله عز وجل فإن هذه خدعة أن تطلب رضا والداك بما لا يرضى الله عز وجل وإنما
تريد برضاهما زعمت رضا الله عز وجل فتطلب رضا الله بسخط الله عز وجل
L
L
۸
باب الرجل يحضر القوم يصلون فتحضره نية للعمل وإن لم يكن يفعل ذلك في خلوة
أو يبكون فلا يجد البكاء
قلت الرجل يبيت مع القوم في منزل بعضهم أو فى منزله فيقومون أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه وهو ممن لا يقوم وحده في منزله من الليل كما يقومون إنما يصلى ركعات ثم يوتر أو إما أن يقوم في منزله دون صلاته فتحضره نية ومحبة أن يقوم معهم
و يرتاب بنفسه إذ كان لا يقوم فى منزله مثل ذلك أبدع الصلاة ولا يزيد على ما كان يصلى في منزله أو يصلى
معهم
وكذلك لو حضرهم بالنهار في منزل أو مسجد
قال إن أسباب الدنيا مشغلة مفترة قاطعة عن العمل وإن أسباب أعمال الآخرة محركة مهيجة على العمل فإذا كان الرجل في منزله قطعته الأسباب من حب النوم مع زوجته وأهله أو على فراشه إن كان له ممكنا أن ينام عليه أو أكل طعام أو حديث مع زوجته أو شغل بولده أو ينظر في حساب أو غيره فيفتر لهذه الأسباب ونحوها وأخرى أن قيامه في منزله وإن قل دائم فلا يقوى على الدوام مع الكثرة فإذا صار إلى موضع غير منزله زالت هذه الأسباب عنه المفترة المشغلة له عن القيام فحضرته أسباب تهيجه على ذلك وتحركه عليه وذلك رؤيتهم وهم يصلون فيحركونه بصلاتهم ويجد الغبن أن يسبقوه بصلاتهم وربما لم يأخذه النوم لاستنكار الموضع أو لأصواتهم وحركاتهم فيستغنم ذهاب النوم فيجعل سهره في صلاة وقد لا يستنكر الموضع ويمكنه النوم ولكن حركوا قلبه للقيام وزالت عنها الأسباب المشغلة له وإنما هي ليلة أو ساعة أو ليال قليلة أو يوم واحد ثم ينقطع فيخف على النفس على ذلك ويغتنم ذلك إذا وجد على نفسه أعوانًا يحركونه للقيام بصلاتهم فقد تحضره المنية الصادقة بذلك وقد يكون ذلك خدعة من نفسه تخيل إليه أنه صادق يريد الله عز وجل بذلك لما حركوه بقيامهم وإنما هو جزع من ذمهم له والنظر إليه بالنقص أن يقولوا في أنفسهم ليس
لقلة الدوام
۹
هو ممن يقوم الليل أو ما كنا نظنه إلا صاحب قيام بالليل أو كنا نظنه يصلى أكثر مما صلى هذه الليلة أو جزع أن يكسلوه إذ لا يتحرك بحركتهم
قلت فما الفرق بين الهمتين وبين المعنيين
قال الفرقان بينهما أن يعرض على نفسه أن لو كان وحده وزالت عنه الأسباب التي كانت تشغله فى موضعه أو علم بصلاتهم فرآهم يصلون من حيث لا يرونه ولا يعلمون به فيخاف مذمّتهم إن هو لم يصل كما يصلون وعلم بهم من وراء جدار أو ساتر لهم عنه فعلم ولم يعلموا به ويحركوه بمثل ما حركوه به وهم لا يرونه أكان قائما أم لا فإن طابت بهم نفسه بذلك فليصل ما بدا له وإن لم تطب نفسه فلا يزيد على ماكان يصلى في منزله ركعة
وكذلك الصيام إذا حركوه به وكذلك إن لم يصل منهم أحد ولكن حضر معهم قراءة القرآن أو عظة فتحرك قلبه لذلك فأراد أن يصلى ما لم يكن يصلى من قبل وكذلك إن لم
يكن حضر معهم قراءة قرآن ولا ذكرا إلا أن النوم طار عنه فليعرض على نفسه أن لو كان في تلك القراءة أو العظة أو طار أكان مصليا فإن طابت
موضع
عنه
النوم
لا يرونه وسمع نفسه وسخت بذلك فليصل وإلا فلا يزيدنَّ على ما كان مصليا من قبل
أنه لا
لك معهم
ذلك
قلت فإن كان وقت ما حركوه - وهم يرونه - يجد من نفسه حركة للقيام ومسارعة من قلبه فلا يقوم إما كسلا من نفسه من تحمل القيام وأن تقول له نفسه انعس وإما أن يدعوه من قلبه داع أن القيام لا يصح لك لأنك لا تقوم في منزلك مثل هذا القيام قال إن كان كسلا وفترة من النفس والقلبُ قد سخا بالقيام معهم ابتغاء مرضاة الله وحده جل ذكره لا يجد غير ذلك فليقم معهم فأما الداعي فقد يكون من العدو ويكون من الله عز وجل فإن وجد من نفسه الغالب على قلبه حب القيام لله وحده ونفسه سخيّة أن لو خلا وحده وحركوه بمثل هذه الحركة من حيث لا يرونه قام فليقم وإلا فلا يقم إن وجد الأغلب على قلبه أنه لا يصح له القيام ولا يجد نفسه طيبة بالقيام لو خلا ورآهم يصلون من حيث لا يرونه أو طار عنه النوم أو سمع مثل ما سمع من القراءة
والعظة من حيث لا يرونه فلا يصلى ولا ركعة
قلت فإن كان يعرض حب حمدهم مع ما حضره من النية
يصح
قال إن كان الغالب على قلبه حب القيام الله عز وجل وكان كارها لحب محمدتهم رادا
على المنازع من نفسه حب حمدهم ونفسه سخية أن لو خلا وهو يراهم فحركوه بمثل ذلك
۳۱
رأى قلبه لا يرق كما ينبغى فيصيح ويزفر ويئن تحزناً منه واستدعاء للحزن من قلبه ثم يلحقه التصنع في وقت ما يبدو ذلك منه أن يستدلوا بذلك على أن قلبه خائف محزون فإن نفاه معاً ولم يقبل الخطرة خلص ذلك منه فإن قبلها بعد ما تقضى لم يحبط ذلك وذلك نقص إذا أحب قلبه حمد المخلوقين على طاعة ربه عزَّ وجل وإن قبل الخطرة مع الصيحة وزاد فيها حبط أجره فيها وإن قبلها معها ولم يتزيد فيها خشيت عليه ألا يُقبل
منه
والوجه الثالث أن يهيج الصباح والتنفّس والزفير أو الأنين عن الفكر بالخوف أو عن الاستماع للخوف أو النظر للمخوف والحزن كالنظر إلى الميت أو إلى القبور أو الشيء يعتبر به يدل على عقوبة الله عزَّ وجل أو معنى من معانى الآخرة يهيج ذلك منه عن غلبة من بهیج خالصاً لله عز وجل من خوف تحقيقه فى القلب وقد يخطر العدو مع الهيجان بذلك حين يظهر الصباح والتنفس حب محمدة المخلوقين أو جزعاً من أن ينظروا إليه بالقسوة وقلة الرقة والخوف فإن نفاها خلص ذلك إليه وإن قبلها فقد تصنّع بذلك
عقله فذلك
قلت وكيف جعلته متصنعا بذلك مرائيا وقد ابتدأ في الهيجان على غير كلفة قال إنه تصنع به قبل أن ينقضى وكذلك الصلاة وغيرها يدخل فيه ثُمَّ يخطر العدو بالدعاء إلى الرياء فيقبل ذلك منه ويتصنّع به وأعظم من ذلك الصياح والتنفس والتأوه والأنين يهيج عن الخوف فإذا ظهر للعباد تصنع بذلك العبد فيزيد فيه حتى يزيد في مد صوته أو تخزينه وكذلك تنفسه أو تأوهه وزفيره وأنينه فذلك الذي لا يختلف فيه أنه رياء لأن ذلك التزيد هو كابتدائه تكلّفه لطلب حمد المخلوقين فإن لم يقبل حتى يقضى صياحه وأنينه ثم خطرت بقلبه خطرة الحب حمدهم على ذلك فقبلها لم يحبط ذلك لأنه قبل الخطرة بعد تقضى الصياح إلا أن ذلك نقص منه وكذلك البكاء يحلّ منه هذا المحل في جميع أموره قد يتكلفه تصنعا للعباد وقد يتكلفه ليستدعى به البكاء يريد الله عزّ وجل بذلك ويخطر خاطر الرياء مع ذلك فيقبله وقد يهيج من الخوف مالا يملكه فيخطر خاطر الرياء مع ذلك فيقبله ويزيد عليه من ترجيع النشيج أو تخزين الصوت بالبكاء أو رفعه وقد يقبل الخطرة ويعتقد حب حمدهم على بكائه ولا يتزيد على ذلك شيئا وهو الذي يختلف فيه كالصلاة يدخل فيها فيبتدئ بها ثم يخطر خاطر الرياء فيقبله وكذلك التعديد على نفسه يحل
هذا المحل
۳
مع
قلت فالسقوط قال ذلك قد يكون تكلّفا وذلك فِعالُ الكاذبين يسقط لغير خوف أضعفه فألقاه أو ذهاب من عقله وقد يكون لضعف غلب على البدن فلم يتمالك أن يثبت جالساً أو قائما والعقل لم يذهب وقد يلحقه فى ذلك التصنّع به ليحمد على ما ظهر منه من دلالة الخوف وقد يلحقه في ذلك أعظم من التصنّع بما ظهر من سقوطه أنه تجزع نفسه أن يفطنوا أنه سقط لغير ذهاب عقله فيحمله جزعها من ذلك أن أنه ذهب عقله وهو صادق فى سقوطه يوهم ذلك من الضعف فجزعت نفسه أن بروه أنه سقط من غير ذهاب عقل فيظهر ذهاب العقل فيخرج إلى التكلّف له لا لشدة الخوف تصنّعا ورياء وقد يسقط من ذهاب العقل فيفيق سريعا فيخاف أن يظنوا أنه سقط من غير غلبة على عقله ولو كان سقط من غلبة على عقله لأبطاً فى سقوطه على الإفاقة فيسقط الله عز وجل لخوفه منه لا يملك ذلك ثم وجد العدو موضع فتنته فيدعوه إلى أن يُطول المكث لئلا يتوهموا أنه سقط من غير غلبة على عقله ليعظم عندهم بطول مكثه في سقوطه ليدل بذلك على أن الخوف الغالب في قلبه قوى وكذلك إذا سقط لضعف فقوى سريعا تجزع نفسه أن يظنوا به أنه سقط من غير غلبة إذ لو كان من غلبة على عقله لما أفاق سريعا وقد ينهض حين يُفيق ولا يتمكث بعد الإفاقة ثم يفيق ولا يظهر القوة سريعا ويخفيها إن تظهر منه فيضعف صوته ويُظهر الضعف في بدنه لئلا يظنوا به أنه سقط عن غير غلبة على عقله وكذلك يسقط لذهاب عقله ثم يفيق فيظهر الضعف لأن يزيل سوء الظن منهم ليستدلوا بما يُظهر من الضعف بعد الإفاقة أنه سقط من ذهاب عقله
لا غنى للعبد إذن عن تركه فإذا سألت الآن عن مفهوم الرياء فإنه إرادة العبد العباد
بطاعة ربه يقول تعالى
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نُوَفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين
ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقد روى عن معاوية بن أبي سفيان وروى عن مجاهد في تفسير هذه الآية قالا و هم
المراءون
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام الصحابة والتابعين رضى الله عنهم في التحذير من
الرياء لا يكاد يحصى ومن أشد ما يروى في ذلك حديث رسول الله الله عن أبي هريرة – فيما رواه مسلم - سمعت رسول الله يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرىء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها
قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسُحِب على وجهه حتى ألقى فى النار ورجل وسع ا الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتى به
فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها
قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار
وفي رواية أن النبي عل خط على فخذ أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك أول خلق الله عز وجل تسعر بهم نار جهنم يوم القيامة فذلك أعظم الرياء عند الله عز وجل
وإذا كان هذا إرادة غير الله بالطاعة فإن من أنواع المرائين من يريد الله ويريد الناس أيضًا وذلك أقل من السابق ولكنه أيضًا رياء
6
۳۳
باب ماينفى به التصنع للمخلوقين في التصنع والحزن
قلت فيم ينفى جميع ذلك فى الصباح والتنفس والسقوط قال أما إذا دعته نفسه إلى أن يفعل ذلك تكلفاً للعباد فليذكر إطلاع الله عز وجل على بدنه وعقله وقلبه بالمقت له إذ رآه متكلفاً لإظهار الخوف مع الأمن لله عزّ وجلّ إذا فعل ذلك يريد العباد ولا خوف فى قلبه وذلك خلق من أخلاق المنافقين أن يتكلف الطاعة لا يريد الله عزّ وجلّ بها ولولا العباد ما فعل ذلك ويُظهر أنه خائف من الله عزّ وجل بالأمن الله عزّ وجلّ لأن تكلفه ذلك وقصده لذلك إلى العباد من الأمن لغضب الله عزّ وجل ومقته ولو كان تكلفاً لله عزَّ وجلّ أو مغلوبًا على ذلك لما أهاج الخوف قلبه فيذكر نظر الله عزَّ وجلّ إليه وأنه لا يرضى إلا عن من فعل ذلك خوفا منه أو تكلفا ليستدعى به الخوف وتعظيما لما يخاف منه ثم يذكر أنه يستبدل بما يرجو رضى الله عزّ وجل عنه به التعرض لمقته من غير أن ينال ازدياد منفعة من العباد فى دين أو دنيا ولا اجتلاب حمد منهم ولعل الله عز وجل أن يزيل حمده من قلوبهم ويجعل عقوبته في قلوبهم ذما له إذا بارز الله عزّ وجلّ بما يكره فى ضميره فإذا خاف المقت وذكر الغبن والخسران أن يستبدل بما كان بدوه صدقا - يرجو الرضا من الله عزّ وجلّ عنه به والأمن من عذابه – بالتعرض لسخطه وحرمان رضاه بذلك عنه فإن لم يكن هذا خاسرا مغبونا فلا خاسر أبدا في شيء ولا مغبون فإن ذكر هذا بعقل عن الله عزّ وجل ولم يزد على ما تكلفه لله عزّ وجل ولا على ما هاج منه وهو لا يملكه ولم يحب حمدَهم على ذلك ولم يتزيد فيه بتحزين ولا يطول مكنه في سقوطه ولا إظهار ضعف إفاقته وكذلك تنكيس الرأس والإظهار للانكسار في مشيته وصوته وصلاته وعند الذكر ولم يهج من القلب خوف يكسره ينكس له رأسه وينكسر له بدنه ويخشع له قلبه ولم يتكلف حياء من نظر الله أو طلب السلامة أن لا ينظر إلى ما لا يقرب إلى الله عز وجل ولا يمزح ولا يبطر ليذلل نفسه بذلك الله عز وجل وذلك فعال المنافقين كما جاء فى الحديث تعوذوا بالله من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال إن يخشع البدنُ والقلبُ ليس بخاشع
٢٣٤
وكذلك إظهار الاستغفار والاستعاذة بالله عزَّ وجلّ من عذابه وغضبه
وقال عمر رضي الله عنه لا يزيد الخشوع على ما فى القلب قلت فيم ينفى ذلك
قال بذكر نظر الله عز وجل إليه وخوف مقته وقليل ما يرجع إليه من العباد بل
لا يرجع إليه منهم شيء يزداد به فى منفعة فى دين أو دنيا فمن الذي تطيب نفسه أن يتعرض لمقت الله عز وجل ويحبط عمله فى الآخرة لغير منفعة ينالها فى دين أو دنيا ما يفعل هذا إلا كافر أو أحمق ذاهب العقل أو فاجر على الله متمرد لا يكترث بغضبه ولا بعقابه قلت يعترض لى الخشوع حين أرى بعض الخلق وأنسى ما الذي أهاجه ابتداء قال إنك قبل أن تخشع في حال أخرى غير الخشوع فإذا رهقتك أبصار العباد فإن أرادت نفسك أن تغير من الحال التي كانت عليها إلى حال الخشوع فانظر ما الذي ثار في قلبك من الذكر له أعن اطلاع الله عزَّ وجلَّ أو عن ذكر الآخرة أو تصنُّعا لهم لما رأوا ذلك فإن كان الله عز وجل فامضه واحذر أن تركن إلى حمدهم بعد ما كان منك الخشوع على صدق وإن تغيرت عن الحالة الأولى تصنعاً لاطلاعهم فاستحى من الله عز وجل واحذر على ذلك مقته والفضيحة غدًا أن يُهتك سترك عند من كان يظن بك الصدق والإخلاص
عنه
ألم تسمع إلى ما روى وهب - أن أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب الله قال يا أيوب أما علمت أن العبد تضل علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزى بسريرته ومنه قول بعضهم أعوذ بك أن يرى الناسُ أنى أخشاك وأنت لى ماقت وكان من دعاء الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنه اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيني وتقبحَ لك فيما أخلو سريرتى أحافظ على رياء الناس من نفسي وأضيع ما أنت مطلع عليه منى أبدى للناس حسن أثرى وأفضى إليك بأسوأ عملى تقرباً إلى الناس بحسناتى وفراراً منهم إليك بسيئاتي فيحل بي مقتك ويجب على غضبك من ذلك يا أرحم الراحمين واحذر المقت والفضيحة فى الآخرة وسقوط الجاه عند الله عز وجل وحرمان الإجابة عند
أعذني
الاستغاثة لأن من تهاون لنظر الله
6
عز وجل إليه هان على الله عز وجل
ألم تسمع إلى ما يروى وهب بن منبه رحمه الله أن أحد الثلاثة النفر قال لأيوب يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا علانيتهم وأضاعوا سرائرهم فعند طلب الحاجات إلى الرحمن عز وجل تسود وجوه أولئك بالرد
٢٣٥
باب ما قالوا فى علامة صدق الخاشع الله عز وجل
إذا رمقته أبصار العباد
قلت فما علامة الصادق فيما يُظهر من الخشوع والخوف إذا رمقته أبصار العباد قال إن الصادق قبل أن ترهقه أبصارهم لا يخلو من إحدى منزلتين إما أن يكون خاشعاً أو غير خاشع فعلامة صدقه في ذلك أن لو اطلع عليه جميع العباد لم يتغير عن حاله التي هو عليها فينتقل من حاله التى لم يكن فيها خاشعاً إلى الخشوع ولا يزداد في خشوعه ولا يسر باطلاعهم على خشوعه إن كان خاشعًا قبل أن ترهقه أبصارهم من أجل اطلاعهم إلا أن يحضره صدق من قلبه يشهد أن الله عزّ وجلّ قد علم ذلك من قلبه يهيجه على ذكر الله عزّ وجل أو ذكر الآخرة أو تحرزاً منهم إن كانوا ممن يتحرز منهم فيخشع لئلا ينظر منهم إلى ما يلهيه أو يخاف إن لم يخشع انقباضا عنهم إن انبسطوا إليه وانبسط إليهم بما لا يسلم في دينه أو بغضًا لهم لله عزّ وجلّ أن ينظر إليهم إذ عرفهم بالعصيان لربه عزَّ وجلَّ أو إجلالا لهم وهيبة لله عزّ وجلَّ إن كانوا يستحقون ذلك ذلك أن يجد من نفسه سخاء أنه لو هاج من قلبه هذا الذكر الذي هاج فيه من غير أن يروه لخشع فذلك علامة الصادق في خشوعه وعلامة صدقه من قلبه مع الحذر منه أن يتغير قلبه فيميل إلى التصنع لهم بعد الصدق فالحذر من نفسه غالب على قلبه فإذا كان كذلك كان منه الخشوع وكأنه لا يطلع عليه إلا الله عزَّ وجل متقلبا في خشوعه كأن ليس فى الأرض غيره إلا خطرات تخطر بضعف والقلب راد لها بصدق قوى وإجلال الله عزّ وجلَّ وخوف منه فإذا كان كذلك لم يكن فى طاعة ولا مباح فيتغير ولا ينتقل إلا لاطلاع ربه عزّ وجل وابتغاء
ومع
مرضاته والطلب لما عنده من الثواب الجزيل والعيش السليم والنعيم المقيم
٢٣٦
باب الرجل يكون له صاحبان أحدهما غنى والآخر فقير فيكثر زيارة الغنى وبره دون الفقير كيف السلامة ومن أين فساده ذلك له من
قلت قد يكون لى صاحبان أحدهما فقير والآخر غنى فأجد نفسى تسارع إلى بر الغنى
وإيثاره بالزيارة والعيادة وغير ذلك
قال إن ذلك قد يصح وقد لا يصح فى الإرادة الله عز وجل فأما الذي يصح فإذا كان الغنى منهما أطوع الله عز وجل وأتقى أو كان أنفعها لك في دينك أو تكون تجد قلبك معه أزيد وأسلم لك في دينك أو تستفيد منه علماً تنتفع به في دينك فآثرته بالإتيان تريد الله عزّ وجل بذلك ولا تعتقد بذلك طلب دنياه فهو أولى حينئذ أن تؤثره بالبر والإتيان إلا أن تعلم من الفقير تجوعاً أو عريا فتبتدئ بمواساته حينئذ وكذلك أن يكون منك قريب المنزل فتنشط إلى إتيانه من أجل قرب منزله والله عز وجل يعلم أن نفسك سخية أن لو كان الفقير يقرب منزله ما آثرته بالإتيان على الغنى إذا كانا مستويين في الطاعة والسلامة والمنفعة والقرب والقرابة فإيثارك الغنى للدنيا لا يُشك فيه إلا أن تكون أنت عالماً والغنى يخاف ضعفه ورجوعه وفترته وهو أضعف قلباً من الفقير فتتألفه بالبر رجاء أن يقوى فى الدين فإن آثرته بالبر لذلك وأنت تريد الله عز وجل بذلك فهو أولى حينئذ بالبر والإتيان قلت قد تحضرني النية في إتيان الغنى ولا تعرض فى إتيان أخ فقير ولا آمن خدعة نفسي فيم أعرف ذلك قال اعرض عليها بعض الفقراء أن لو استوت أسبابه وأسباب هذا الغنى أكنت تأتيه فإن لم تسخُ نفسك بذلك علمت أنها غير صادقة
قلت فإن استوت أسباب الغنى والفقير فأتيتهما جميعاً أكنت تخاف على قال أما في الذهاب فلا ولكن أن تذكر العلم وتنشر الحكمة وتظهر الخشوع أكثر مما يكون منك عند الفقير فتفقد ذلك ثم دع فضل ما بينهما
۳۷
وقد روى أن ابن السماك قال الجارية له مالى إذا أتيتُ بغداد تفتحت لي الحكمة قالت له جاريته يُشحذ لسانك الطمع وصدقت إن العبد يُكثر الكلام بالخير عند الغنى ما لم يتكلم به عند الفقير يهيجه الطمع على ذلك أو تعظيمه للدنيا وكذلك يُظهر الخشوع وغيره من الطاعات
هذا آخر كتاب الرياء والحمد لله رب العالمين
كتاب الإخوان ومعرفة النفس
باب فى العبد يعزم على التوبة ثم يرجع وما الذي يقويه
ويعينه على التقوى ومخالفة الهوى والشهوة
قلت قد تسخو نفسى بالرعاية الحقوق الله عزّ وجلَّ وترك الرياء بالطاعة لعباد الله عز وجل وأعزم على ذلك ثم لم ألبث أن أزول عن ذلك حتى أضيع بعض الحقوق وأتصنع ببعض الطاعة فمن أين أوتيت
قال خوفك ضعيف وحذرك من الله عز وجل قليل قلت فكيف لى بقوة الخوف وشدَّة الحذر قال قد أجبتك عن ذلك بإدمان الفكر بالتخويف لنفسك
قلت قد خوفتُ نفسي كما أمرتنى حتى سخت بالعزم ورفضت الإصرار على المعاصي والرياء على الطاعة ثم لم ألبث أن زلّت ورجعت فراجعت التوبة والعزم ثم زلت ثم
راجعتُ التوبة والعزم ثم راجعتُ الذنب والتصنّعَ فى بعض ووفيت في بعض
قال إنك قريب العهد بالجهالة والزلل طويلُ العادة والألفة للمعاصى قليل العناية للمراقبة والصدق فهواك قوى وشهوتك هائجة لشدّة الف نفسك اللذات ومباشرة الشهوات فمن ثم أسرعت الرجوع ولم تحقق الوفاء بالعزم فى حقوق الله عزَّ وجلَّ حتى ضيعت بعضها وتصنعت ببعض الطاعة
قلت فكيف لى بموت شهواتى وضعف هواى وقوة خوفى وشدة حذرى قال الزم الفكر فيما سلف من الذنوب وخوف ما وجب عليك من الله عزّ وجلَّ بها والفكر في البعث والسؤال وشدة العذاب وحرمان الثواب فإنك لذلك مستوجب ومراجعة التوبة ومراجعة العزم والحذر فيما تستقبل ومنع النفس لذتها فيا يكره ربُّها عز وجل فإن زلت رجعت سريعاً وعاودت العزم والتوبة فإذا أدمنت الفكر بالتخويف لنفسك قوى خوفُك وإذا أدمنت الرد على نفسك والعصيان لها وترك استعمال شهواتها
٢٤١
٢٤٢
انقطعت النفس على عاداتها ويئست من أن تعطيها لذاتها وماتت شهواتها إذا لم تستعمل وما استعملت منها عاقبته بالخوف والحزن فحينئذ تقوى وتستقيم على الصدق وتعلو في المراقبة لله عزّ وجلَّ والإخلاص له قلت هذا قد يطول بي وقد يسرع فما الذى أستعين به على ضعفى ما دمت ضعيفاً حتى أقوى بعد إدمانى على الفكر ومجاهدة نفسى كما وصفت
قال يقوى ضعفك وتقوى على نفسك بخصلتين
إحداهما قطع كل يكون عنه زوالك وفتنتك إلا سبباً يجب عليك الاشتغال به سبب والإتيان به أو إتيانه أو سبباً هو عون لك على طاعتك لربك عز وجل والخصلة الثانية قلة المكث بعد الزلل والمسارعة إلى الإقلاع قبل أن تألف النفس
المعصية ويتمكن فى قلبه حلاوة الشهوة
قلت والأسباب التي يكون عنها الخطأ والزلل مثل أى شيء هو من الأسباب قال كالرجل يشكو حب النظر إلى ما لا يجل وهو يجلس على الطريق يتحدث أو يستريح إلى ذلك ويكثر لقاء الإخوان فكلما جلس على الطريق وهو ينوى ألا ينظر فجأه ما يُهيج شهوته على النظر فتغلبه نفسه فينظر ثم يرجع فيندم ويتوب ثم يعاود الجلوس فيصيبه مثل ذلك وإذا قطع الجلوس ولزم منزله أو مسجده سقط عنه السبب الذي كان يفتنه وصار في تلك الخصلة ضعفه أقوى من القوى الذى يعرض نفسه للفتنة بالجلوس الضعيف إذا قطع السبب الذى يُؤتى من قبله صار أقوى من القوى الذي يتعرض للسبب الذي يفتنه وكذلك الخروج في الحوائج التي لا تجب عليه فتركها أقطع عنه السبب فتنته
مع
قلت فإن كانت حاجة فيها بر وطاعة
لأن
قال إن كانت واجبة فليخرج لها ولا يعصى ربَّه عزّ وجلَّ بشك لا يدرى أيكون أم لا يكون لأن تركه للذهاب معصية والنظر منه لم يكن بعد ولا يدرى أيكون أم لا يكون بل إن ذهب والله عزّ وجلَّ يعلم منه أنه لو كان الذهاب لراحة نفسه أو حاجة له فيها لذة لما ذهب إبقاء على دينه لئلا ينظر إلى ماكره ربَّه عزّ وجلَّ ولولا أداء واجب حق الله عزّ وجل ما ذهب فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ا منه الصدق في ذلك من خوفه من النظر كراهة أن يُسخط الله عز وجل فذهب الله عزَّ وجلَّ ولولاه ما ذهب وتوكَّل على الله عزَّ وجل فإن الله يعصمه إذا علم أنه لا يذهب من أجل راحة نفسه فإذا ذهب على ذلك كان الله عزّ
٢٤٣
وجل أكرم من أن يخذله فإن كانت حاجة للدنيا لا غناء به عنها من الغذاء له أو لعياله فهو
4
يقوم هذا المقام إذا علم الله عزّ وجلَّ منه أنه لو كان يذهب لتكثر أو لرياء أو لافتخار ما ذهب ولآثر الترك لئلا يتعرض لما يُسخط ربَّه عزّ وجلَّ ولولا طلب العون على طاعة ربه عزّ وجلَّ والعذرُ فى عياله ونفسه ما ذهب متوكلا على ربِّه عزَّ وجل إنه لا يخذله إذا علم أنه لم يذهب للذة نفسه رجوتُ ألا يخذله الله عزّ وجلَّ بل لا يخذله ويعينه ويعصمه إن شاء الله فإن كان ذهابه الحاجة الدنيا فله عنها غناء وهو يعلم أنه لا يسلم لما جرب من نفسه فترك ذلك أولى به حتى يقوى ولست آمره بذلك دهره كله إنما أمره تداوياً لذلك قليلا حتى يقوى وكذلك إن كان يشكو لسانه أن يسبقه إلى الغيبة والمزاح بما لا يحل والاستهزاء لغيره فإذا أنعم الروية من أي وجه يوتى ومن أين أكثر ما يؤتى من مجالسة الإخوان وغيرهم وترك مجالستهم حتى يلحقه فرض واجب لا يؤديه إلا بالكينونة معهم أو معاش لا غنى به به عنه فيجالسهم حينئذ لإقامة الواجب أو لطلب الغذاء لا لراحة نفسه نفسه وشهوتها متوكلا في ذلك على ربه أن أنه تارك للمجالسة للذة نفسه وشهوتها ولولا أداء واجب له أو طلب ما يعينه على أداء واجب حقه لآثر الله عزَّ وجلَّ بالترك خوفاً أن يتكلم بما يُسخط ربَّه عزّ وجلَّ به به عصمه الله عز وجل وأعانه إن شاء
الله
يعصمه إذ
علم
وأما إذا علم أنه لا يسلم معهم ثم جالسهم بعد علم وتجربة من نفسه أنهم يخرجونه بحديثهم ومجاورتهم إلى الكلام بما يكره مولاه ثم ذهب أو جلس لغير واجب ولا طلب معاش لا غنى به عنه وهو يعلم ذلك فقد أعطى بيده إلى التهلكة على عمد منه متهاوناً بأمر الله عز وجل
٢٤٤
باب الرجل يخرج في الحاجة أو يجالس بعض إخوانه ممن يدعى أخوتهم في الله عزّ وجلَّ
وهو يعلم أنه لا يسلم له دينه معهم
قلت أرأيت إن ذهب وهو عازم ألا يتكلّم بما يكره الله عزّ وجل وقد جرب نفسه وجربهم فعلم أنه لا يسلم معهم
قال فإذا عزم على ترك الكلام فيما يكره الله عزّ وجلَّ وقد جالسهم وهو عازم من قبل كعزمه هذا المستقبل فلم يسلم فقد تعرّض للفتنة على علم وتجربة ويستحق من الله عز وجل ألا يعصمه وقد تعرّض للهلكة بعد علم وتجربة ويستحق من الله عزّ وجل ذلك وأعطى بيده بعد التجربة من نفسه لقلة السلامة وإذا استقصى ذلك من نفسه وقطع مجالستهم حتى يجب عليه حق الله عزّ وجلَّ أو معاش لا غناء به عنه علم الله عزّ وجل أنه لولاه ما جالسهم وكذلك زيارتهم ما زارهم كان الله أكرم من أن يخذله وقد ترك مجالستهم للذة نفسه وراحتها ولولا ربّه عزَّ وجلَّ لم يجالسهم ولم يأتهم ولكن لما وجب عليه حقه لم يُسلمه الله عزَّ وجلَّ إلى الهلكة وقد آثر الله عزّ وجل على هوى نفسه قلت فإن كانت مجالستهم على ذكر وخير وقد يجرى بين ذلك من الكلام ما يكره الله عزّ
من
وجل
قال يترك مجالستهم وإتيانهم إذا جرب نفسه أنه لا يسلم معهم لأن
بالمعصية
يقوم التطوع
قلت إنهم إخوان في الله عز وجل قال هذا اسم قد يستعيره الكاذب الدعوى على غير حقيقة إن أدنى ما يستحق الأخوة في الله عزَّ وجل بل المحبة فإنها دونها من تسلم معه دون أن تغتم معه ومن لا تسلم معه فهو عدو لك في دينك وإن سميته صديقاً وصاحبًا وأحا فى الله عزّ وجل فكيف يكون صاحبًا وأخا في الله عزّ وجلَّ من تتعرض بمجالسته ومحادثته لغضب الله عزَّ وجل ! لأنك لا تسلم
YE
يقول تعالى فمن كان يرجو الفاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ويقول له في حديث قدسى عن الله عز وجل أنا أغنى الشركاء عن الشريك من عمل لى عملا وأشرك معى شريكا ودعت نصيبي لشريكي ومن أخس أنواع الرياء أن يتظاهر الإنسان بالعبادة طمعا فيما في أيدى الناس وحبا في أن
يبروه بما يظهر من طاعة ربه لابد إذن من المجاهدة والمكابدة والتيقظ لمداخل الشيطان والنفس الأمارة وليس ذلك بسهل فى مبدأ الأمر والناس فى هذا متفاوتون ولكن الله سبحانه وعد بأن يُعين الذي يبدأ مخلصا في السير إليه حيث قال سبحانه
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
ثم يأخذ المحاسبي في وصف ألوان من الرياء عديدة تأتى على شكل خطرات تتردد في النفس
ليكون الإنسان منها على حذر ويبين المراءاة فى الفروض والمراءاة في السنن ثم يتحدث عن بعض ما ينشأ عن الرياء من الأخلاق المرذولة المذمومة ومن هذه الأخلاق تنشأ عن الرياء مثل المباهاة بالعلم والعمل والتفاخر بالدين والدنيا وحب الغلبة أما علامة المرائى فهى حب الحمد والثناء وإظهار العمل من أجل الاحترام والتبجيل
التي
والمنح
لهم
فقال عز وجل
ومن أجل كل ذلك لابد من إخلاص النية ولابد أن يصل الإنسان إلى أن يكون ممن وصف الله من عباده مادحاً يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرًا ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيما وأسيرًا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً قطريرًا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا أما من تحدث إلى الناس بما عمل من الطاعة يريد بذلك وجه الله و وحضهم على الاقتداء به فليس من الرياء في شيء ولأن يهدى الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها وقد ختم المحاسبي كتاب الرياء بقوله وقد روى أن ابن السماك قال لجارية له مالى إذا أتيت بغداد تفتحت لى الحكمة قالت له جاريته يشحذ لسانك الطمع وصدقت إن العبد يكثر الكلام بالخير عند الغنى مالم يتكلم به عند الفقير يهيجه الطمع على ذلك أو تعظيمه للدنيا وكذلك يظهر الخشوع وغيره من الطاعات
٢٤٥
معه
التي
أن تتكلم بما يكره الله عزّ وجلَّ وقد سمعت حديث بلال بن الحارث عنا إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى أنها تبلغ من سخط الله ما بلغت فيكتب الله بها عليه
سخطه إلى يوم يلقاه
منه
فمن أعدى لك ممن يُعرضك بمحادثته لأن تتكلم بكلام يغضب الله عزّ وجلَّ عليك
وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له
وحديث قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود إن الرجل ليتكلم بالكلمة في الرفاهية قال يعني في المجلس ليضحك به القوم فترديه بعد ما بين السماء والأرض أى يهوى بها في النار فمن أعدى لك ممن كان سبب هذا منه وبه
وكذلك إن كان لا يرضى منك إلا بالتصنع ولا تمتنع نفسك من ذلك إذا كان لا يرضى منك إلا بتصنع وكذلك أن تغضب لغضبه وتصارم من صارم جَارَ أو عَدَلَ في صرمه وغضبه وهذا يكون فى الفرط ولكن المحادثة أكثر ذلك
فهذا عدو لك لا أخ لك في الله عز وجل
الم
تسمع إلى حديث محمد بن النضر الحارثى إن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه
السلام يا موسى كن يقظانا مرتادًا لنفسك أخدانا فكل خدن لا يواتيك على مسرتى فلا تصحبه فإنه لك عدو وهو يقسى عليك قلبك فمن كان هكذا فهو لك عدو وإن سميته أخا في الله وصاحباً فوضعت عليه اسماً لا يستحقه ويستحق ضده وهى العداوة وكيف يكون أخاً فى الله عز وجل أو صاحباً في الله عز وجل من يُعصى الله عز وجل به ومن أجله ! فمن أشدّ لك ضررًا في دينك ممن كان سبب معصيتك به ! ألم تسمع إلى حديث أبي
موسی عن النبي له مثل صاحب السوء كمثل صاحب
الكير يعنى الحداد إن لم يحرقك بشرره يعبق بك من ريحه وكذلك هو كما قال إن لم
تعص
معه
الله عزّ وجل معه لم تعدم قسوة قلبك ولهوه واشتغاله فليس من كان لك هكذا بأخ ولكن هو لك عدو وهو أضرّ عليك في دينك ممن تعادى
وإنما الناس أربعة رجال رجل لا تعرفه أو تعرفه ولا تصاحبه ورجل مبتدع ورجل
فاسق ورجل عندك مستور وأنت له مصاحب فالمبتدع قلبك منه نافر والفاسق كذلك
٢٤٦
ولو دعواك إلى الحق لم تمل نفسك إليهما فكيف تخوض معهما فما لا يعنيك ومن لا تصاحبه ولا تعرفه فلست تحادثه فلا تؤانسه فهؤلاء كلهم لا تغتش بهم ولا يستريح قلبك إليهم فتغفل بهم حتى تتكلم بما يكره ربك عزَّ وجلَّ وإنما يؤتى من الصاحب الذى هو شكلك ومثلك وأنيسك فيستريح قلبك إليه ويغفل معه حتى تعصى الله عزّ وجلَّ وأنت غافل لا تذكر الله عَزَّ وجلَّ أو تذكره ولا تبالى لغلبة الهوى فيه وفى محادثته وهو من مكائد إبليس وحبائله يجبلك به حتى
يوقعك في حبائله لأنه شكلك وأنيسك ومثلك وهو أرفق من الصياد الرفيق ألا ترى أن الصياد لا يحتال للغربان فيصنع شباكا ليصيدها به من العصافير ولا يحتال للعصافير بالغربان فإنما يحتال فينصب لكل طير من صنفه وشكله لأن الشكل بالشكل يألف فعليه يقع وبه يُصطاد ألم تسمع إلى كتاب أبي الدرداء إلى سلمان رحمة الله عليهما بعد فإن يكن البدن من البدن بعيداً فإن الروح من الروح قريب وطير السماء على شكله من الأرض يقع
أما
وقد صدق رحمه الله قد رأينا ذلك فالصياد يحتال بالشكل للشكل من الطير وكذلك عدوك إبليس لما علم أنك نافر من أهل البدع ومن الفساق ومن مؤانسبة العوام حرك قلبك بالدعاء إلى لقى الأشكال والإلف بهم وحبُّ محادثتهم فلما التقينما على الحب والمؤانسة زال عن قلبك الحذر منه كما يحذر من المبتدع والفاسق وأنس قلبك به واستراح إليه فركن ولها بقربه فزين لك من القول ما يُزيلك حتى تشاركه فيه ثم الأصحاب عنده مختلفون فإن علم إبليس أنك حذر خائف في كثير من أحوالك لم يبدأ
به
صاحبك بالتزين له بالغيبة والكذب إن علم أنك من ذلك نافر وله مجانب ولكن يدعكما حتى إذا ذكر تما الله عز وجل واستأنست قلوبكما زين لكما فضول الكلام والراحة إلى الدنيا
فإذا خضتما في ذلك زين لكما الغيبة والكذب
فإن كنتما من الخائفين في كثير من أمور كما أجرى الغيبة من قبل الغضب الله عزَّ وجلَّ أو التعجب والإنكار أو التوجع لمن تغتابانه
وإن كنتما لا تقومان في الخوف ذلك المقام أجرى بينكما الغيبة من قبل الغضب والغيظ والمكافأة لمن ذكر كما أو ذكر أحدكما والآخر راض بذلك أو الراحة إلى ذكر عيوب الناس وكذلك الكذب والاستهزاء قد يزين لكما ذلك قبل أن يجرى بينكما شيء من ذكر الله عزّ
وجل على قدر ما عرف من ضعفكما
٢٤٧
وقد يُريد العدو العبد على ما يكره الله عزّ وجلَّ فيأبى عليه ولا تطيب نفسه أن يتكلم مع العوام بالخير دون الشر فكيف بالشر فإذا عصاه زين له لقاء من يرجو أن يطيعه به فإذا لقيه زين لأحدهما الكلام حتى يفاتحه الآخر ثم يزين له الكلمة بعد الكلمة فلعله يكون عامة نهاره أو بعضه ساكناً قد سلم أو متكلماً فيما ينفعه من الذكر أو طلب معاشه بما يحل له حتى يلقى من يزعم أنه أخوه فى الله عزَّ وجلَّ فإذا لقيه جرى بينهما من الكلام ما لعلهما لا يفترقان حتى يلعنا جميعاً
فمن ثم قال عمر رضي الله عنه واحذر صديقك إلا الأمين من الأقوام ولا أمين إلا من خشى الله عزَّ وجلَّ إذا غفلت نبّهك فإذا لقيته ازددت سلامة فإن كنت في لغو صرفك إلى ذكر وإن كنت متكلماً بما يكره الله عزَّ وجلَّ نهاك عن ذلك ونبيك له فإذا نبيك لما تعلم أنه لا يحل لك ندمت عليه وتبت منه وما لم تر أنه مما يكره الله عزَّ وجل لما أنت به جاهل عرفته واستفدت منه علم ما لم تكن تعلم من ذنوبك فتحذرها فيما يستقبل وكذلك قال الشعبي نصف عقلك أخيك وصدق رحمه الله لأنه إذا نبه عقلك بما كنت عنه مع غافلا كنت كأن عقلك كان معه فردّه عليك وكأن عقلك كله كان معه فرده عليك فى الوقت الواحد فأما في جميع أحوالكما فكان نصف عقلك معه لأنك قد تفطن لما يغفل أخوك عنه فتنبهه وتغفل أنت عنه فينبهك فأنت تعبد الله عزَّ وجلَّ بعقلين إذا اجتمعا وتعرف عيوب نفسك بعقلك وعقل أخيك فمن لم يخف الله عزَّ وجلَّ من الأصحاب وإن كان مصليا أو مدمنا للصيام أو غازياً أو حاجاً فهو عليك وبال لأن صلاته وصيامه وغزوه
وحجه وكثرة ذكره وزكاته له وخوضك معه وخوضه معك مما يكره الله عزَّ وجل عليك وبال وإنما مثله كمثل صاحب لك غنى موسر وأنت فقير محتاج فكلما أتاك أكل طعامك ولم يواسك بماله فماله له وضرره عليك لأكله طعامك فكذا هذا له صلاته وصيامه وغزوه وحجه ووباله - بما يخرجك إليه من الخوض - عليك فإن كنت قد سلمت قبل أن تلقاه أخرجك إلى العطب في دينك عند لقائه وإن كنت فى خير استبدلت به شرا عند لقائه ولعلك أيضاً تبدأه قبل أن يبدأك بالخوض فيا لا يحل لك لأنه موضع راحة قلبك وأنس نفسك أو لعلكما تفيضان في ذكر الله عزّ وجلَّ وطاعته أو تعاونان على بعضها على قدر قوتكما وقد يطمع العدو فيكما ثم لا تفترقان إلا عما كره الله عزَّ وجل من الكلام فلا يقوم ما تعاونتها عليه من البر بما تعاونتها عليه من الشر لأنكما ضيعتها فرضًا وتعاونتها على
٢٤٩
باب ما يستعان به على ترك لقاء الإخوان الذين يتخوف من لقائهم قلة السلامة في الدين
قلت فيم أستعين على ترك الأصحاب فإنك لم تذكر شيئاً أعظم على القلب منه فتنة ولا
في
أغلب في الراحة قال أن تكون معنيا بدينك مشفقا على بدنك من النار فإذا كنت كذلك فتذكر وتفكر فأحسن الفكر وأنعم الروية بالبحث والتفكر حتى تعلم كنه ما ينقصك لقاؤهم دينك فإن أنت نظرت في ذلك بفراغ قلب مع الإشفاق على بدنك من النار وعلى دينك من النقصان فعرفت كنه ذلك من كلام يحصى عليك لا تأمن فيه غضب الله عز وجل فلو عرفت أنك لا يكون منك من الكلام عند لقائك للأصحاب إلا كلمة مما يكره ربك عز وجل ثم أشفقت على نفسك ونظرت إليه وإليك بعين اليقين وأنت فارّ منه في القيامة مشغول عنه بما أنت فيه من الخطر العظيم وقد تحملت أوزارًا كثيرة لم تصبها إلا بصحبته لم يكن شيء أبغض إليك من لقائه وذلك إذا كنت مشفقا خائفًا من الله عز وجل ولذلك مثل بين أن لو كنت كلما لقيت إخوانك وأصحابك أخذوا من لحيتك شعرة أو من ثوبك لقل لقاؤك لهم ولأبغضتهم وأبغضت لقاءهم لأنك تعلم أنه إن دام ذلك ذهبت لحيتك وصرت مشوها ينظر إليك العباد بالشين والقبح وكذلك تعرى من ثيابك سريعا كان مشفقاً من على نفسه وعلى دينه ثم عرف كنه ما ينقص بلقائهم في دينه أبغض لقاء هم الا لقاء الذين يريدونه في دينه ورعا وتحرزا فأولئك الإخوان في الله عز وجل والاسم بالأيخوة لهم حق وصدق والاسم لغيرهم كذب وزور
سلكا
فكذلك
قلت أرأيت إن عزمت على ترك كل من لا أسلم معه معه في ديني فلم تصبر نفسى وجاشت على لقائه قال إن سخت نفسك بتركه ثم تحرزت فمن لا تأمن منه وتوقيت حتى يأتى عليك بعض النهار وأنت صامت عما كره ربك عز وجل قد فرح قلبك بالسلامة ازددت زهداً في لقائه ولم يكن شيء أبغض إليك من لقائه ورؤيته إذا وجدت حلاوة السلامة ورجوت رضا الله عز وجل بها عنك فإذا أحسست بمن تخاف أن يزيلك عنها ثقل عليك لقاؤه فإن
٢٥٠
استعملت التحرز إذا انفردت من الأصحاب حتى تظفر بالسلامة ويجد قلبك حلاوتها أبغضت لقاء من يزيلك عنها لأن المريد الساهى راحته في الكلام وغمه في السكوت وذلك
إذا كان الأغلب على قلبه حب راحة المحادثة للناس ولم يكن طلب السلامة أغلب على قلبه فَعَمُّه حينئذ فى السكوت ولذته وراحته في الكلام فإذا اهتم بالسلامة وغلب على قلبه طلبتها والاهتمام بها ثم عمل فيها بعض نهاره حتى يسلم ثقل عليه الحديث مع الأصحاب والإخوان إذا عرف أن في محادثتهم زواله عما قد من الله عز وجل عليه به من السلامة فإن رأى بعضهم فأفلتت منه كلمة مما يكره الله عزّ وجل ضاقت عليه الأرض برحبها إذ كان قبل أن يلقاهم سليم القلب والبدن يرجو رضا الله عز وجل مما صمت عنه مما يكره الله عزّ وجل خوفًا منه ثم تكلم بما يخاف أن يكون قد سخط الله عز وجل منه عليه فتضيق عليه الأرض ويلزم قلبه الغم إذ زال عن السلامة إلى العطب فبينما هو يسكت عن كلمة من محادثتهم فتكاد تضيق عليه الأرض برحيها إذ صار ذلك إذا تكلم بالكلمة التي كان يغتم السكوت عنها وهذا ميراث الورع وعادة التقى ومعونة الله عز وجل ونصره للمريدين إذا كابدوا له أنفسهم وجاهدوا له شهواتهم وأهواءهم قلت فإذا عزمت على ترك مؤانستهم لم أعر من لقائهم لمعاش في سوق أو اجتماع في حلقة علم أو جماعة في مسجد جامع أو غيره أو جنازة أو حاجة تعرض لأحدهم إلى أو تعرض لى إليه أو يأتيني زائرا أو أطمع فى أن يقبل منى فيقطع من يصحب ويعزم على
مثل ما عزمت عليه
قال إنك إذا عزمت على ترك مؤانسته وتفردت بنفسك عنه ثم لقيك فرآك نافرًا منه مشمئزا من حديثه استحى وتحرز أن يؤانسك بما لا تحب وزال عن قلبك السهو والغفلة به إذا ألزمت قلبك حذره فإذا عرف ذلك منك أمسك نفسه عنك فإذ لقيته بغير هوى وشهوة محادثته وإنما تلقاه لبعض هذه الأسباب أو لما يشبهها ثم ألزمت الحذر قلبك منه لعلمك أن العدو به وإن تكلم بشر أو بفضول قلت لنفسك ما أعرفنى بمن 1 دسه على ليزيلني عن طاعة الله عز وجل فاتخذته عبرة فإن كان ممن يحتمل العظة نهيته في رفق ونبهته لما يقول فلعلك أيضًا تنفعه فإن كان ممن يحتمل ذلك أو هو ممن يجادلك إذا نهيته حتى يخرجك إلى
يصطادك
1 يريد الشيطان
٢٥١
نقص فى دينك كرهت ما قال وتحرزت إلا أن يقول محرماً فتنهاه برفق ولا تجادله إذا أراد ذلك منك إلا أن يكون مريدًا لطلب البيان فتبين له إن كنت تحسن ذلك وإلا فاسكت عنه فإن أخذ فى الخوض ولم تقوّ على نهيه ولم يمكن القيام عنه فإن قدرت فاذكر الآخرة لعلك تصرفه عن ذلك فيكون لك أجرك وأجره كما يروى عن إبراهيم التيمي أنه قال إن الرجل ليأتى القوم وهم يخوضون في الباطل فيصرفهم إلى الذكر فيكون له أجره وأجرهم وإن بدأك بالخير قلت في نفسك هذا خير وما أدرى ما يكون بعده فأنت حذر وإن بدأك بذكر الله عز وجل لطول ما جربت من الأصحاب ومن نفسك فإذا كنت حذرًا كنت متحرزا وإذا كنت متحرزًا فجرى فى عقب الذكر خوض فيما لا يعنيكما فطنت له بالحذر اللازم لقلبك فلم تخض معه وإن لم يجر بينكما شيء كان حذرك زيادة في خوفك الله عز وجل وعملك عادتك لنفسك فمنعك أن تزل فى وقت آخر يجرى أوله الذكر ثم يجرى عقيب الذكر أو فى خلاله ما لا يعنيك أو ما هو معصية لربك عز وجل وكذلك في
سكت عنه
أهل سوقك تكلمهم في معاشك أو غير ذلك وقلبك حذر نافر منهم وكذلك إذا زارك أحد منهم أو أتيته لحاجة أو أتاك لحاجة أطلت معه الصمت وتركت معه الكلام حتى يجرى ما هو الله عز وجل رضى فإذا أفضت معه فى ذلك لم يزايل قلبك الحذر لطول ما جربت من نفسك وأما أن تأتيه لتعظه فإنه لم يبان لك ذلك بعد ما تشكو من ضعفك أنت كمن يتعلم السباحة فكيف يخرج الغرقى من يتعلم السباحة فاشتغل بنفسك إلا أن تبتلى بلقائه فيجب عليك حق تقوم به الله فتكون في سكوتك تخاف حينئذ عليه المقت من الله عز وجل إن فتأمره وتنهاه وتنبيه إن قبل وإلا صمت عنه ولم تجادله وكذلك بعض القرابات ممن تزورهم لله عزَّ وجلَّ ويزورونك فلا تأتهم لراحة نفسك واحذر إن كنت قد جربت نفسك معهم بالخوض فيما يكره الله عز وجل وكذلك من معك من في منزلك لا تشك به والْفُكَ له يجعلك تسهو وتغفل فتحادثهم بما لا يحل لك فكن منهم حذرًا وهذه أصعب الأسباب عليك إذا كنت لا تقدر أن تجانبهم ولكن احذر واذكر ما وصف ربك عز وجل عن أهل الجنة إذ قالوا حيث استقروا ورأوا عاقبة الإشفاق والوجل فقالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ووصف عدوه من أهل النار فقال جل من قائل إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا فكن منهم مشفقا حذرًا واحذر أن يفتنوك عن دينك وهم أصعب عليك في
٢٥٢
المؤانسة وفى الإنكسار عليهم فاحذرهم وأدب من وجب عليه الحق منهم بالنهي عن الخوض فيما يكره الله عز وجل حتى تقوم بأمر الله عز وجل فيهم إذ أمرك بأدبهم خاصة فقال قُوا أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
قال على رضى الله عنه أدبوهم وعلموهم
قال مجاهد أوصوهم بتقوى الله عز وجل وقال قتادة مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصية الله عز وجل وقال الضحاك وأهليكم فليقوا أنفسهم ويكون لك مثل أجورهم ويعرفوا مذهبك ويمسكوا عما يفتنك حين تسهو معهم فتخوض معهم فتفزع حينئذ من الخوض فى الباطل فترجع إلى الله عز وجل بالتوبة ألا ترى ما مدح الله عز وجل به اسماعیل صلى الله عليه وسلم فى قوله وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وقال الله عز وجل لنبيه له وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وكذلك طلب العلم تطلبه مع من لا تسلم معه وتجالس عليه من لا تسلم معه فلا تطلبه إلا وحدك أو مع من تسلم معه وأما المجالسة للاجتماع له فى بعض ذلك فلا يجوز أ أن تتركه فتترك العلم ولكن كن منهم حذرًا وأبدِ لهم التحرز والاشمئزاز منهم وإن وجب عليك حق فيهم فقم به فإنهم لم يخلوا من منازل ثلاثة إما أن ينتفعوا أو ينتفع بعضهم فيكف عنك أو يتصنع لك فيمسك عنك أو يستحى منك لعلمه باشتغالك بحديثه فيكف عنك فتسلم في دينك ويخلص لك طلب العلم بغير آفة ولا معصية تشوبه وكذلك الشريك في تجارتك أو صناعتك والأجير لك أو من أنت أجير له أو معامل له افطم نفسك عن عادتها معه وافطمه عن عادته معك واحذر واحترز ولا تستعن به على صلاح دنياك بفساد دينك فإن زللت في ذلك فلا يمنعك ذلك من أن تبادر التوبة فإنه لا غناء بك عن الرجوع والإنابة
جميع
إلى ربك عز وجل فإذا كان عزمك قطع الأسباب من العباد وغيرهم المزيلة لك إلى ماكره الله عز وجل فيما قمت به مما يجب الله عز وجل عليك فيهم حمدت الله عز وجل على ذلك فإذا زللت استغفرت الله عز وجل وندمت وحذرت ذلك السبب وتحرزت فيما تستقبل من تلك الزلة وحذرتك أمثالُها فخشيتك إن شاء الله عز وجل مشكورة إذا فعلتها رجاء الله عز وجل وخوفاً منه وذنبك مغفور إذا اتبعته بالتوبة وصار لك عبرة وتحذيرًا فيما أمثاله منه ومن فلم تلبث - إن صدقت الله عز وجل - إلا قليلا حتى يُقبل الله عز وجل عليك بمعونته ويرحم منك مكابدتك ومجاهدتك نفسك له وتأيس نفسك منك
تستقبل
٢٥٣
وتأيس ممن كان يفتنك ويُزيلك وتقوى على طاعة ربك عز وجل
فافعل في هذه الأسباب كما وصفتُ لك وكل سبب يُزيلك ويفتنك فإن ذكر كل الأسباب يطول به الكتاب والعاقل يجتزئ بالوحى دون التصريح وإنما قطعك الأسباب التي تزيلك وإمساك جوارحك عما يكره ربك عز وجل حمية تحتمى بها أن ترتع فتهلك كما يحتمى أهل الدنيا فيتركون ملاذهم رجاء العافية وخوف طول البلاء فمثلك فى حميتك لربك كمثل ملك من ملوك أهل الدنيا أمكنته الأشياء من الشهوات واللذات فرتع في ما يحب من الأشياء وأحاطت به الأدواء مع سقم من بدنه وضنى فإن رتع فيما يقدر عليه هلك وإن احتمى عاش ونهك فقد آخى الأطباء وحارف الصيادلة وتجشم شرب الأدوية المرة وجانب الأطعمة الطيبة فبدنه يزداد نهوكا لقلة طعمه وسقمه كل يوم يقل وصحته تزيد وإنما اختار الاحتماء وإن أنهك بدنه على أطايب اللذات خوفاً أن يرتع فيهلك ورجاء أن يؤديه الاحتماء إلى العافية فينال اللذات بجسم صحيح وعافية لازمة فتطيب حياته بغير سقم ويصفو عيشه فلا يكدر
فكذلك المؤمن المريد التقى احتمى عن كل مهلك من الدنيا في آخرته فتبين عليه النحول والتقشف والوحشة وزوال الأنس بالعباد وظهور الأحزان وزوال الأفراح فاختار ذلك كله كراهية الرتوع فى لذاته فيحل به غضب ربه - عز وجل ويجب عليه عذابه ورجاء أن يرضى الله عز وجل بذلك عنه فينجو من عذابه ويحل في جواره فيصيب اللذات في الجنان بغير سقم ولا تنغيص ولا تبعة في ذلك يخاف فيه الهلكة البقاء الدائم فيه أبدًا ورضوان ربه الأعلى
يحتمى
فالزم الحمية وتذكر سوء العاقبة في الآخرة وأمل طيب عيش الآخرة واستعن بالذى له لطلب مرضاته فإن الله عز وجل الذى لم يزل للمريدين عونًا وعليهم متحننا ولو شاء لأغناك فى أول بدايتك عن الحمية ولكنه أراد أن يعلم منك صدق الطلب لرضائه بالمجاهدة والمكابدة حتى إذا صدقت فى الطلب وتجشمت مكابدة نفسك ومجاهدتها أقبل عليك بالمعونة فسهل عليك ترك ما تهوى ونعمك بطاعته لأنه الكريم بغير تكلف والجواد الذي لا يعتريه البخل وإنما أحب من عبده المريد أن يصدق فى طلب مرضاته فيكابد له نفسه ويجاهد له هواه فعند ذلك يخفف الله - عز وجل عنه المحن ويميت منه الهوى ويلى سياسته وتقويمه حين رآه جادًا فى طلب مرضاته عز وجل
٢٥٤
ولو أن عبدا من عبيد أهل الدنيا أقبل إلى مولاه وهو ضعيف في بدنه فأقبل إلى مولاه بضعفه يقع مرة في مشيته ويقوم أخرى فكان ذلك منه مرارا فنظر إليه مولاه مقبلا إليه مكباً يكبو لوجهه لضعفه ثم يقوم فلا يمنعه وقوعه من الإقبال إليه لطلب القربة منه ومرضاته فرآه يصيبه ذلك فى الإقبال إليه مراراً وعنده دواب كثيرة ثم كان له أدنى كرم أو رحمة لما ودعه كرمه ولا رحمته إلا أن يرسل إليه بدابة يأتيه عليها مستريحا من الوقوع ويسرع عليها إلى لقائه فالله عز وجل أولى بذلك إذا رأى عبده المريد مجاهدا لنفسه يزل ثم لا يمنعه ذلك أن يعود إلى طلب مرضاته يجاهد من نفسه معتماً بزواله أعظم من غم الساقط على وجهه فإذا رآه كذلك خفف عليه طلب مرضاته وأسرع به إلى معالى درجات القرب منه جل من لا يشبه أحد في جوده وكرمه ورأفته ورحمته وتحننه ولطفه
۵
ويبدأ المحاسبي بعد ذلك في كتاب الإخوان ومعرفة النفس ولا يقصد المحاسبي أن يتكلم في هذا الباب على الصداقة وشروطها وواجباتها أو عن النفس من ناحية التصور الفلسفي لها جوهرا كانت أم عرضًا وقديمة أم حديثة كلا وإنما يريد أن يتحدث في الموضوع من ناحية الإعانة على ذكر الله والتقوى فقد يترك الإنسان الرياء فترة من الزمن عازما على ألا يعود إليه ثم تخور عزيمته وينتكث في طريقه
ولأجل ألا يحصل ذلك لابد من قطع كل سبب يكون عنه الزلل والفتنة فإذا مازل مع ذلك فلابد من المسارعة إلى الإقلاع قبل أن ألف النفس المعصية وتتمكن في القلب حلاوة الشهوة وقد يكون من أسباب الزلل مجالسة الذين لا يسلم الإنسان معهم - بسبب مجالستهم - من الزلل ومثل صاحب السوء كمثل صاحب الكير - يعنى الحداد -
إن لم يحرقك بشرره - يعبق بك من ريحه
ولقد قال سيدنا عمر احذر صديقك إلا الأمين من الأقوام لا أمين إلا من خشى الله كل هذا إذا أنس من نفسه ضعفًا أما إذا كان يمكنه أن يغير اتجاه أصحابه ويتغلب على تياراتهم فيوجههم إلى الخير فذلك حسن
يقول إبراهيم التيمي
إن الرجل ليأتى القوم وهم يخوضون فى الباطل فيصرفهم إلى الذكر فيكون له أجره
وأجرهم وبعد هذا الكتاب كتاب آخر يرتبط به ارتباطاً وثيقاً حتى لقد كان يمكن أن يكونا كتاباً واحدا ويكونا بذلك وحدة متحدة ذلك هو كتاب التنبيه على معرفة النفس وسوء أفعالها ودعائها إلى هواها ونكتفى في هذا بما ذكرناه سابقا ومن الرذائل الخبيثة في النفس العجب فبسببه هلك أئمة الضلالة وبالعجب تكبر المتكبرون وافتخر المفتخرون واختال المختالون
ولقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب
المرء بنفسه
وقد يكون العجب بالدين
والعجب بالدين بوجوه أربعة بالعمل والعلم والرأى الصواب والرأى الخطأ فالعلم ما حفظ وفهم من الكتاب والسنة وقول علماء الأمة
كتاب التنبيه على معرفة النَّفْسِ وَسَوء أفعالها ودعانا إلى هواها
باب التحذير من هوى النفس
قلت قد وصفت لى الرياء وأسبابه فمن أين أوتيت
قال من نفسك من قبل هواها
قلت وكيف أوتيت من قبل نفسى ولى عدو يكيدنى ويزين لى ودنيا تفتني قال فإنه لم ينال منك عدوّك ما يريد إلا من قبل هوى نفسك ولولا ذلك لكنت قد ازددت بدعاء عدوك قربةً إلى ربك إذ كان سبب القربة دعاؤه لأنه حين دعاك عدوك فأبيت أن تجيبه كنت بامتناعك مطيعا حين عصيت من دعاك إلى ما لا يحب ربك عزّ وجل وكان اعتصامك خوفا من الله عز وجل ورجاء ثوابه فامتنعت واستعملت الخوف والرجاء حيث أمرت ولو لم تكن تركن نفسك إلى الدنيا لازددت بزينتها قرية إذا امتحنت بالدنيا وغرورها فلم تركن إلى غرورها وأردت الآخرة ورغبت فيها وامتنعت أن ترتع في الدنيا أو تميل إليها فتحرم الآخرة ! أو تنقص منها فأطعت فيما امتحنت به فكان سبب ذلك الدنيا إذ يقول الله عز وجل
منه
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةٌ لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يخبرك أنه يريد حسن العمل في الزينة وإنما خلق زينة الأرض لينظر من الذى يحسن له العمل فيها وإن أحسن العمل فيها الزهد فيها وإيثاركَ الآخرة عليها فإن فاتك ذلك فاترك كل زينة عليها توجب سخط الرب جل وعز وذلك الورع الواجب عليك الله عز وجل ولم يضرك أحد من أهل الدنيا يدعوك إلى ضلالة وخطأ إن لم تجبه نفسك بل تؤجر إذ امتنعت وأبيت واستعصمت لقول الله عز وجل ورسوله الله وكذلك من عاداك وآذاك واغتالك وكادك إن لم تعص ! الله عز وجل فيه ولم تكافئه فتكون مثله لم يضرك بل عرضك للمنفعة وأهلك نفسه إلا عدوا أمرت بمجاهدته وهم الكفار فذلك الذى ينفعك مجاهدته وعلى أى الحالين فإنك الرابح الفائز إما أن تغلب أو تُقتل فالغلبة منك فيها أجر عظيم والقتل شهادة القول الله عز وجل
الرعاية لحقوق الله
YOY
۰۷۱۸ ۱
٢٥٨
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ 1
فوسيلة كل عدو ضرك بمكيدته نفسك من قبل هواها
قلت فقد ثبت عندى أن سبب كل محذور أخافه على نفسى من قبل الهوى فدلني ذلك أن في مخالفتها طاعة الله عز وجل وفى طاعة الله عز وجل صدقه والقيام لمحبته فاشرح لى
ذلك وعرفنيها
قال لا تصدق الله حتى تصدق نفسك ولا تصدق نفسك حتى تعرفها ولا تعرفها حتى تفتشها وتعرضها على الموت والعرض على الله عز وجل فتعترض أحوالها ولا تعترض أحوالها حتى تتهمها فيما تظنها محسنة فيه وتحكم عليها فيما ظهر من إساءتها فإذا اتهمتها فتشتها فإذا فتشتها اعترضت أحوالها وإذا اعترضت أحوالها عرفت تصنُّعها وخدعها وكذبها فإذا عرفتها حذرتها فإذا حذرتها تفقدتها فإذا تفقدتها أبصرت رَوْعاتها من طاعة ربها عزّ وجل وتزينها بما لا يحب خالقها لأنها معدن كل سوء والدعاية إلى كل بلية أخبرك عنها خالقها عزّ وجل أنها بالسوء أمارة وللهوى المردى متبعة فخذ منها حذرك واتهمها على دينك
٥٢ ۹ ۱
٢٥٩
باب بم يعرف سوء رغبة النفس
قلت فدلّني على ما أعرف به بعض عيوبها حتى يلزم قلبى تهمتها فأفتشها وأعرفها قال ألست ترى أن العزم منها فى حال الرضا مبذول على الحلم سخية غير ممتنعة
قلت بلى قال فكل خلق من كافر أو من مؤمن يحلم عند الرضا فإذا غضبت فطلبت منها الحلم فظهر منها السفه والحقد وسوء الخلق ما لو يظهر من بعض الولدان لكان قبيحاً
امتنعت منه
قلت بلى
قال فمن بذل الشيء حيث لا يُحتاج إليه ومنعه عند الحاجة أليس مخادعا وليس بصادق يخذلك عند الحاجة ويعدك فى الغناء أنه يغنيك فإذا احتجت إليه أسلمك للهلكة لأنها وعدتك أن تحلم عند الغضب فتستوجب بذلك الجنة وتعتصم من أن تُمضى غضبك يا يكره ربّك عزّ وجل خوفا أن تجب لك النار فلما احتجت إليها أسلمتك إلى التعرض لوجوب العذاب وأعانتك عليه وشجعتك فيه وثقلت عليك التعرض للنجاة فمن أعدى لك ممن فعل ذلك بك ومن أكذب وأفجر ممن فعل ذلك بك وكذلك الإخلاص تعطيك قبل العمل وليس الإخلاص إلا نية الإخلاص أن يُخلص العمل إشفاقا زعمت على العمل أن يحبط في يوم فقرك وفاقتك إليه تعطيك ذلك سخية غير ممتنعة فإذا عرض العملُ هاجت هى بالدعاء إلى الدخول فيما وعدت أن تفرّ منه وامتنعت مما وعدت أن تقوم به وهاجت الشهوة بالرياء وامتنعت من الإخلاص وامتنعت مما يُقبل به عملك ودَعَتك إلى ما يحبط به عملك في يوم فقرك وفاقتك
عند
أرأيت لو أنها وعدتك الرياء عند العمل والامتناع من الإخلاص عند العمل فأخبرتك أنها تريد بذلك حبط عملك حيث تحتاج إليه فى يوم فقرك وفاقتك ألم تكن قد أنجزت ما وعدتك وكذلك تُعطيك الورع فى حال العدم وإنما ذلك نيَّة الورع فتزعم أنها تدع ما يكره الله عزّ وجلّ حين تعرض للبلاء خوفاً أن يغضب الله عليك فتستوجب العذاب وتحرم الثواب وأنها تمتنع من المعصية ترجو بذلك الأمان من العذاب والظفر بالفوز والثواب
٢٦٠
حتى إذا قدرت وامتحنت جاشت لشهوتها فطلبت ما زعمت أنها تَدَعُه إذا عرض لها إشفاقاً عليك من النار وحرمان الثواب وامتنعت مما زعمت أنها تقوم به من الورع رجاء الأمن من العذاب والظفر بالفوز والثواب فهل يقدر أعدى الأعداء لك إلا أن يعطيك من الأمن ما تعتز به لتسكن فتطمئن ولا تحذره وتأمنه حتى إذا عرض ما وعدك أن يعطيك كان هو الذي يطلب هلاكك وعطبك لينال ما يريد ويشتهى وكذلك الزهد تعطيك قبل الملك حتى يخيل إليك أنك من الزاهدين حتى إذا ملكت الدنيا أو القليل منها هاجت منها الرغبة وكانت هى المطالبة والمنازعة إلى الرغبة والصادة عن الزهد والمثبطة عنه فأخلفتك الموعد وكانت عليك في خلاف ما أعطتك
وكذلك الرضا فى حال الرخاء والعافية قبل وقوع القضاء بالبلاء والمصائب حتى يخيل إليك أنك من الراضين وتلك حال يرضى بها كل مؤمن وفاجر لأنها حال توافق محبة النفوس وليس عند هذه الحالة أريد منها الرضا وإنما ذلك العزم منها نية أن ترضى لا رضاء لأن الرضا بعد القضاء بنزول البلاء والمصائب فإذا نزلت مصيبة أو بلاء في بدنه أو ضيق في معاشه من شدة من شدائد الدنيا امتنعت من الرضا بل كانت هى التي تهيج للجزع والتسخط وتثبط عن الرضا وتصد عنه فلم تف بما وعدت وكانت هي التي تدعو إلى ما يكره الله عز وجل من السخط وتصد عن الرضا وكذلك تعطيك التوكل والثقة بالله عز وجل ما واتتها الأسباب والدنيا وكفيت المؤونة فإذا جاءت حال يحتاج فيها إلى النظر إلى الله عز وجل لا إلى خلقه والأسباب التي دون الله عز وجل تعلقت بالأطماع وهاج رجاء المخلوقين وخوفهم ولزم القلب الاهتمام بالأسباب وظهر التصنع والعتملق للخلق فغدرت بك حين احتجت إليها وكانت هى التى تصد عن التوكل وتثبط عنه فإن أيقظك الله عز وجل لها ولمجاهدتها وذكرتها موعدها وما تحملك عليه من نقض موعدها وخلف عزمها جاهدتك وامتنعت فإن حملت عليها بذكر الوعيد والوعد وذكرتها نظر الله عز وجل وقيامه عليها وسؤاله غداً لها فتذكرت بعقلك استبان فيه اليقين وعظمت فيه المعرفة واشتدت فيه البصيرة فقهر ذلك هواها وغريزتها خلاف ما انقادت له فلما رأتك قد حلت بينها وبين الشر الظاهر والباطن طلبت الشر الخفى الغامض وانتشرت عليك بطلب الرياء لتتصنع به والعجب لتستريح إليه والكبر لتعظم به وتفتخر به تريد أن تنال لذتها فيا أجيبت إليه كأنها لا تريد أن تصل إلى خير من عمل الآخرة فإن صرت إليه جهدت في أن تحبطه وماذاك
٢٦١
بها ولكنها تحوم على أن تنال لذتها لا تبالى فيما نالتها كائنا ما كان غير مكترثة فإن حملت عليها وتفقدت دقائق منازعتها ولطائف خدعها فكرهت ذلك وذكرت ما قدم الله عز وجل إليك فيه وما توعدك به على قبول ذلك والركن إليه من الحبط والتعرض للمقت فغلب على قلبك الخوف والحذر انقادت وهي كارهة ثم لا ترضى مع إعطاء هذا العزم ثم الغدر بها أن تفى بها والمعاونة على الشر حتى تدعو إلى الله عز وجل وتكلم بكلام الخائفين وتقول بقول المؤمنين وتظهر تقشف المتواضعين وتنعت آفات الدين من الغيبة والكذب والرياء والكبر والحسد والاغترار فكنت مغترًا منها بذلك تظن أنها كذلك لما ظهر منها حتى لما وقعت المحن ونزلت النوازل التى تحتاج فيها إلى تحقيق ماتقول وتصديق ماتدعى ومعنى ما تظهر قلبت ذلك كله وأرادت خلافه
وقد كان تخيل إليك أن الخوف له أصل فى قلبك والصدق والإخلاص والتواضع والزهد والتوكل والرضا فلما جاءت الأحوال التي يتبين فيها هل صدقت فيما ظننت أنه قد سكن قلبك من الخوف والإخلاص والزهد والرضى والتوكل والصدق هاج الهوى منها وجاشت الشهوات فى ضدّ ذلك كله فلو كان ذلك ساكناً قلبك لهاج فى وقت الحاجة إليه ولما هاج ضده قمعه فعلمت أن ذلك إعطاء جملة بلا مؤونة مع دعوى غير محققة
ضده فإن هاج
منهم
أرأيت لو قال لك عدة من الخلق إنا معك إذا نزلت بك نازلة أو شديدة فلما نزلت بك النازلة خذلوك وطلبتهم فلم تجدهم علمت أنهم ليسوا معك ولكنهم غروك فبينا أنت متعجب من خذلانهم وقلة وفائهم إذ وثبوا هم عليك يعينون عليك عدوك لطال تعجبك واشتدّ منهم حذرك فيما يستقبل ولم تطمئن إلى موعد وعدوك به وإن سمعتهم الثانية يذكرون نصرتك عند الشدائد مقتهم لما عرفت منهم فاعرف نفسك فإنك لم ترد خيراً قط مها قل إلا وهى تنازعك إلى خلافه ولا عرض لك شر إلا أقله إلا كانت هي الداعية إليه ولا ضيعت خيراً قط إلا لهواها ولا ركبت مكروهاً قط إلا لمحبتها فحق عليك حذرها لأنها لا تفتر عن الراحة إلى الدنيا والغفلة عن ا الآخرة فإن تيقظت للآخرة وتذكرتها وتفكرت فيها نازعتك إلى الدنيا وإلى الراحة بالتذكر والفكر فيها والتمنى لها فما تمت لك قط ركعتان لم تنظر فيهما في شيء من أمر الدنيا مما يشغلك عما أنت فيه ولا تمت لك ساعة من أجزاء النهار بالفكر فى الآخرة لمجاذبتها إياك عن ذلك ومنازعتها إلى الدنيا فإن غفلت عنها ركنت واشتغلت وإن تيقظت نازعتك لتشغلك عما أنت فيه من أمر
٢٦٢
آخرتك فهواها قاهر لعقلك يغفل عقلك وهى لا تغفل ويذكر عقلك وهى تنازعك ألا يذكر فلا يحل لك قتلها ولا تقدر على مفارقتها وهى بهذه المنزلة من العداوة لك فاعرفها واحذرها فإنك إن عرفتها ازددت منها حذرًا وعلى ربك توكلا وبه ثقة وإليه طمأنينة ولها بغضًا ومقتا ولربك عز وجل مودة وحباً ومنها إياسا وقنوطا ولربك عزّ وجل رجاء وأملا ولله عزَّ وجلَّ بالنعمة والمنة والتفضل بما عملت اعترافاً وإقراراً وشكراً وأنها منه بريئة لأنك لو صحبت صاحبين أحدهما لا يحل لك قتله فلا تقدر على مفارقته كالوالدة أو الوالد وله نهمة أن يصيب لذته ويُروح بدنه وإن أعطبت في ذلك فبينما أنت معه إذ غفلت فجاء بصخرة ليرضخ بها رأسك فأيقظك الآخر الذى معك وأمسك بيده حتى قمت إليه فأخذت الصخرة من يده ثم ألقينها
وكذلك لو صُنع طعام فيه سم فنبهك الآخر له حتى عرفته لازددت له بغضا ومقتا وللذى نيهك وفطنك له مودة وحبًّا وللذى أراد بك القتل حذرًا وعلى الذي نبّهك توكلا وبه ثقة وانقطع رجاؤك ممن أراد أن يكيدك واشتد أملك ورجاؤك للذى أيقظك ونبهك وانقطع عنك العجب لفطنتك به وتخلصك من شره وأقررت بالنعمة والتفضَّل للذى نبهك وأيقظك مكائد عدوك الذى أراد أن يكيدك
حتى
امتنعت من
فالعدو الذى أراد مكيدتك نفسك والذى أيقظك ونبهك ربك عزّ وجل فكم من بلاء أرادته بك ونازعتك إليه وهممت به أو فعلته فنبهك الله عزَّ وجلّ عليه فتركته ولم تركبه وما ركبت منه ندمت عليه ونبت إليه
فإن عرفتها ازددت لله عزَّ وجلَّ حبًّا ومودة ولها بغضا ومقتا وعلى الله عزَّ وجل توكلاً وثقة ومنها إياسًا وإلى الله عزَّ وجل طمأنينة ومنها حذرًا ووجلا ولم تعجب بما عملته ولم تضفه إلى نفسك إذا كانت محبتها في خلاف ما عملت من الخير ومحبتها فيما تركت من الشر ولو تركت إلى محبتها صارت إليها فالذى أيقظك وأعانك على خلاف محبتها غيرها وهو الله عزّ وجل فاعرفه عزَّ وجل واعرفها فإنك إن عرفتها صدقتها وإن صدقتها ولم تداهنها ولم تمل مع هواها صَدَقْتَ الله عزَّ وجل واتقيته وأنبت إليه ووثقت به فاتهم ما خف عليها من الخير من غير أن ينقطع منك الرجاء فيدخلك الإياس والقنوط ولكن انهم وفتش وإن لم تعلم شيئاً فاحمد الله عز وجل وكن وجلا أن يكون قد كان منها ما يكره الله عزّ وجل فلم تذكره لغلبة هواها وأحصاه مليكها عليها مع الأمل فى الله عز وجل أن يقبل منك ما عملت وإن كان منك أمر
٢٦٣
مما يكره فيما عملت رجوت العفو عنه ولم تترك الوجل والإشفاق من ألا يعفو عنك وترجو بذلك الوجل العفو عنك والصفح لأن من خاف أن لا يعفى عنه بصدق منه عفى عنه ومن أمن واغتر استوجب أن لا يعفى عنه
فاحذرها وفتشها وخاصمها كما يخاصم الخصم الظلوم الخائن الموارب البليغ في حجته المزخرف القول الباطل بشدة بيانه حتى تقيم عليه البينات العادلة وتفتشه حتى إذا قامت عليه البيئة أو فتش فأصيب معه السرقة انقطعت حجته وأذعن وأقر فإن أبى أن يؤدى الحق الذى اعترف به أو قامت عليه البينة رفعته إلى موضع الحكم فحكم عليه بالحبس والضرب فإذا أن يُعطى أقل مما ينال منه وأن يؤخذ منه أكثر مما يمتنع منه أعطى
نظر إلى ذلك أنه وعلم
يمتنع
الحق ورد الظلم وكذلك فخاصمها بالكتاب والسنة وأقم عليها الحجة وفتشها عن عيوبها وذكرها خبثها وكذبها حتى إذا أذعنت بالإقرار والاعتراف بالحق وانقطعت معاذيرها ومواربتها وحججها الكاذبة فإن انقادت إلى الحق وإلا فارفع وهمها إلى النار وهي السجن والعذاب فتوهم شدة عذابها وأنه واجب عليها فإذا رأته ببصر العقل وعين اليقين وهاج منها الخوف لم تتمالك بالإذعان والندم والعزم وانقادت إلى الحق لما عاينت وعلمت أنه يؤخذ منها أكثر مما تنال ثم احذرها أيضًا بعد ذلك أن تنازع إلى ما تركت فتردك غادراً فإن نازعتك فأقم عليها الحجة وأرها العذاب ورجها بالترك الثواب وأرها إياه بمشاهدة اليقين واستعن بالله عز وجل عليها وتوكل عليه ثقة به وأحسن به الظن وايأس منها أن يكون منها خير إن وكلك الله عز وجل إليها فتوكل عليه ومنها فلينقطع رجاؤك وأملك
كتاب العجب
باب ما يؤدى إليه معرفة النفس
وشرح العجب والإدلال بالعمل
قلت قد عرفتني نفسى وحذرتها فأخبرنى ما الذى يؤدى إليه معرفتها بعد وصفك الرياء ولم يكن بى عنه غنى وإن عرفتها فما ينفعنى أن أعرف عدوى ولا أعرف مكائده آلة لمجاهدته فأخبرنى بالعجب ماهو وفيما هو وفيما ينفى ويتقى
وأسبابه ولا يكون معى
قال إنك سألت عن آفة في كثير من العباد عظيمة معمية لذنوبهم ومزينة لهم خطأهم وزللهم لأن العجب يُعمى القلب حتى يرى المعجب أنه محسن وهو مسيء وأنه ناج وهو هالك وأنه مصيب وهو مخطئ ولا يلبث صاحبه المعتقد له أن يركن إلى الغرة فيستصغر ما علم به من ذنوبه وزلله وينسى كثيراً منها ويُعمى عليه أكثرها حتى لا يظنه ذنباً فيستكثر عمله فيغتر به فيقل خوفه ويشتد بالله عز وجلَّ غرته بل قد يخرج صاحبه به إلى الكذب على الله عز وجل وهو يرى أنه عليه صادق وإلى الضلالة وهو يرى أنه مهتد فبالعجب هلك أئمة الضلالة وبالعجب تكبر المتكبرون وافتخر المفتخرون واختال المحتالون و به هلاك آخر هذه الأمة
ومما يدلك على ذلك قول النبي - وذكر آخر هذه الأمة - فقال لأبي ثعلبة إذا
رأيت شُحا مطاعا وهوى متبعاً وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك نفسك وقال أبو الدرداء ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه
وروى عن أبي هريرة عن النبي عل الله أنه قال ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه
وقال عمر رضى الله عنه مثل ذلك فدلوا بذلك أن فيه الهلاك
وقال ابن مسعود رضى الله عنه الهلاك فى اثنين القنوط والعجب وصدق رحمه
٢٦٧
٢٦٨
لم ير أنه أن
ينبغي
الله فإن الإنسان إذا أعجب لم يفطن لذنوبه وما فطن به من ذنوبه استصغره وما لم يفطن له يتوب منه وما استصغره لم يفزعه فيُقلع عنه فيقيم على ذنوبه فيهلك وإذا عرف كثرة ذنوبه واستعظمها ثم قنط لم ير أنه يقبل منه التوبة فأقام عليها فأمسك العمل لله عز وجل بالطاعة فيهلك فدل ابن مسعود بقوله هذا أن فى العجب الهلاك لأنه إذا أعجب زكي نفسه فإذا زكاها
لم يتهمها ولم تعظم عليه مخالفتها أمر ربها وظن أنها ناجية
ألا ترى إلى قول الله عز وجل فَلَا تُرَكُوا أَنْفُسَكُم ۱
عن
قيل في التفسير لا تبرئوها فكيف يتهمها وهى عنده بريئة فإذا لم يتهمها كيف يفطن لعيوبها وقوله جل ثناؤه فلا تزكوا أنفسكم قال زيد بن أسلم لا تبرثوها وقال ابن جريج يقول لا تعملوا بالمعاصي وتقولوا نعمل بالطاعة وقال مطرف لأن أبيت نائماً وأصبح نادما أحب إلى من أن أبيت قائما وأصبح متعجباً فيجمع العجب خصالا شتى يعمى عليه كثير من ذنوبه وينسى مما لم يعم عليه منها أكثرها وما ذكر منها كان له مستصغراً وتعمى عليه أخطاؤه وقوله بغير الحق ويخرجه ذلك إلى الكبر والتعظيم على العباد ويغتر بالله عز وجل ويدل عليه بعمله وعلمه حتى كأن له منة على ربه عز وجل فحينئذ ينقطع عن الله عز وجل عصمته وَيَكله إلى نفسه أنه من المحسنين وهو عند الله من الظالمين الفاسقين
فیری
به
ألا ترى إلى ما يروى عن عائشة رضى الله عنها أنه قيل لها متى يكون الرجل مسيئاً قالت إذا ظن أنه محسن وصدقت رضى الله عنها إنما يرى أنه محسن إذا أعجب بعمله ويخرجه العجب إلى المن بمعروفه وصدقته لأنه عظم عنده ما تصدق به أو تفضل وينسى منة الله عز وجل عليه وأنه مضيع لشكره على ذلك فمن بما اصطنع من معروفه فحبط أجره كما قال الله عز وجل لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَن والأذى ٢ ويستوجب عذاب ربه جل وعز قال النبي ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم
القيامة
ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أحدهم المنان فاعقل ما سألت عنه وافهم إجابتي إياك وقدم لله عز وجل العزم فى تركه بعد معرفته لعل الله عز وجل أن ينفعك
بإجابتي لك عنه
۳ ٥٣ ۱
٢ ٢ ٢٦٤
٢٦٩
واعلم
باب العجب بالدين
أن العجب بالدين بوجوه أربعة بالعمل والعلم والرأى الصواب والرأى الخطأ فالعلم ما حفظ وفهم من الكتاب والسنة وقول علماء الأمة وأما الرأى الصواب فما استنبط قياسا على الكتاب والسنة والإجماع مشبهاً بها حكمة مثل
حكمة
وأما الرأى الخطأ فما كان عن غير استنباط من كتاب ولا سنة ولا إجماع الأمة وإنما هو تأويل بغير الحق وانتحال له على سبيل الجهل من قبل هوى النفس مع اعتراض من الظن أنه
حق
فأما الإعجاب بالعمل والعلم والرأى الصواب فمعنى واحد لأنه كله منة من الله عز وجل ونعمة منه وله أول يكون عنه وقد ينفرد أوله فلا يكون عجباً فأما أوله الذي يكون عنه العجب فالاستكثار والاستعظام للعمل والاستحسان للعلم والرأى الصواب فمعنى واحد لأنه كله منة من الله عزّ وجلّ فإن استكثر العبد عمله واستعظمه تعظيما للنعمة والمنة عليه به أو رجاء ثوابه وأنه لا يستحق الثواب ولا كان أهلا أن يمن عليه به ولا هو أهل أن يقبل منه ولكن عظمت عليه النعمة به ورجاء التفضل بالقبول له لا غير ذلك فليس يعجب به ولكن إذا استكثر عمله واستعظمه واستحسن علمه ورأيه فأضاف ذلك إلى نفسه وحمدها عليه ونسى نعمة ربه عز وجل عليه ومنته بذلك فقد أعجب بعمله
وعلمه
فجملة العجب بالدين حمد النفس على ما عملت أو علمت ونسيان النعم من الله عز وجل عليك بذلك فحمد النفس ونسيان النعم هو العجب بالدين إلا العمل الذي يريد أن يقوم به العبد ولم يقم به بعد فإن في ذلك معنى زائداً وهو الاتكال على نفسه بالنسيان للتوكل على الله عز وجل وذلك أيضاً من النسيان للنعمة لأنه إذا نزل ما يناله بمنة الله عز وجل علم أنه لا مقوى له لما ينال غير الله عز وجل فإن من الله عز وجل عليه بذلك ناله وإلا لم ينله
٢٧٠
قلت فعلى أن أكون ذاكرًا لكل نعمة ينعم الله عز وجل بها على في الدين فإن نسيت شيئا
منها كنت معجبا
قال لا ليس عليك فريضة الذكر لكل نعمة إنها نعمة إذا كنت معتقداً في جملة إيمانك أن جميع النعم فى الدين والدنيا من الله عز وجل وإن ذكرت الله عند كل نعمة وعلمت أنها منة من الله عز وجل كان أفضل لك عند الله عز وجل وأبعث لك على الشكر وأبعد لك من العجب فإن نسيت ذكر النعمة فسهوت عنها ولم تُضيف الفعل إلى نفسك مع الحمد لها على ما أنعم عليك من العمل والعلم لم تكن معجباً وكنت ناسيا لتلك النعمة كنسيانك سائر النعم في غير عملك إلا أن تحمد نفسك على ذلك ناسيا لنعمة الله عز وجل فتكون حينئذ معجباً
۷۱
باب إضافة العمل إلى النفس
قلت وكيف يمكن ألا أضيف الشيء إلى نفسى ولم يعمل ذلك العمل غيرى ولو لم أعلم أنى أنا الذي عملته ما عددته نعمة ولا رجوت ثوابه من الله عز وجل
قال أجل ليس العجب علمك بما عملت وعلمت ولكن الإضافة إلى نفسك بالحمدلها ونسيان منة المولى بذلك فأما إذا علمت أن ذلك كان بمنة الله عز وجل وأن نفسك لو تركتها ومحبتها لركنت إلى خلاف ذلك فتفرد الله عز وجل بالمنة في ذلك فلست معجبا قلت بين لي فرقاً بين معرفتي أ أن أنا عملته وبين إضافتي العمل إلى نفسى وحمدى
إياها عليه
العمل
نفسك
قال معرفتك بأنك عملته معرفة قائمة في الطبع بالاضطرار لا تقدر أن تجحد أنك عملته ولا تحتاج إلى ذكر ذلك ولا مخاطبة نفسك به والعجب ذكر هائج تخاطبك به نفسك وينزع به عدوك وذلك أن استعظام عملك واستكثاره على أن تقول في نفسك لقد قويت مهیج وصبرت وتخلصت أو جودت أو جاهدت أو فهمت مستعظما لذلك فرحا من بقوتها ونفاذ بصيرتها معظماً لها على ذلك وقد تخاطبها بدون ذلك فتقول قرأت كذا صليت كذا لم أفطر منذ كذا صمت في يوم شديد الحر مع نسيان النعمة فذلك استكثار لعملك بإضافتك إياه إلى نفسك وجملة ذلك إذا هاج فرحك بقوتك على ما عملت وكذلك ما لم تقم به من العمل مضيفاً إليها القوة والصبر ترى أنك تقوم بذلك ناسيا لا تنظر منة الله عز وجل بذلك ولا تترك الاتكال على قوتك فلو كان الله عز وجل لم يمن عليك بشيء من ذلك أكنت تقوى على ذلك أكنت تقول في قلبك لنفسك وترى لها من القدر في القوة والنفاذ أكثر من ذلك فهذا الفرقان بين معرفتك بما من الله عز وجل عليك به من العمل وبين العجب من نفسك بعملك وعلمك
قلت أجِدُ ما تقول يعترض لى وأجده زائداً على المعرفة بعملى لأنى لو قلت ذلك لنفسي خوفاً منى أن تجهل أنها عملت ذلك العمل حتى ترى أن غيرى عمله كنت ذاهب العقل إنى أخاف أن تجهل نفسي أن تكون هى عملته وترى أ أنه عمله غيرها وأنها كانت كافة
۷
لم تتحرك لعمل حتى ترى أنها إذا كانت مصلية أنها نائمة أو إذا كانت صائمة أنها مفطرة وأن غيرى صام وصلى فلما لم يجز أن يكون ذلك منى كذلك فقد علمت أني لم أقله لأعرف نفسى ما جهلت إنما كان ذلك تعجباً من شدة قوتها على العمل وتخلصها وحسن بصيرتها فقد تبين لى أن ذلك هو العجب لا غيره إذا أضفت إليها ذلك بالحمد لها مع نسيان نعمة ربه عز وجل ولكن أريد مع ذلك دليلا من العلم أن ذلك هو العجب ليكون أعون لى على نفسى إن عارضنى بالتشكيك فيه معارض وإن استدلني عليه مستدل فلم يقنع بدون الحجة فيه بالعلم كان أدعى له إلى القبول
قال نعم إن العجب بالخير لا يكون إلا من المطيعين لله عزَّ وجل المريدين له فمن ذلك ما يروى ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس أنه قال ما أصاب داود الذنب إلا بإعجاب أعجبه من نفسه أن قال
يارب ما تأتى ليلة إلا وإنسان من آل داود قائم وما يأتى يوم إلا وإنسان من آل داود صائم وفي حديث حجاج ما تمر ساعة من ليل ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلى وإما يصوم وإما يذكرك فأضاف العمل بالليل والنهار إلى آل داود وكان هو أولهم في ذلك وأقومهم به وداعيهم إليه ومقومهم عليه فاستعظم ذلك لأن قوله ما تأتى ليلة مستعظم ذلك لأن العرب لا تعرف فى لغتها مثل هذا إلا الاستعظام للشيء من نفسه فأضاف العمل
إليها وحمدها عليه وقول الله عز وجل يدل على ذلك
وقال ابن عباس رضى الله عنه فأوحى الله عزّ وجل إليه ياداود إن ذلك لم يكن إلا بى ولولا عونى إياك ما قويت على ذلك وسأكلك إلى نفسك وفي حديث آخر وعزتي وجلالي لأ كلنك إلى نفسك فلو كان ذاكراً للنعمة فى ذلك لما ذكره ما هو له ذاكر ثم يعاقبه عليه فيتركه ونفسه ولكن ذكره النعمة التي كان لها ناسيا ووكله إلى نفسه التي أضاف العمل إليها وحمدها عليه فكان بعملها معجباً وسماه ابن عباس معجبا من نفسه وأخبر أنه أصاب الذنب من أجل عجبه بطاعة الله عز وجل
فطاعة الله أعجب بها فأدركته العقوبة على ذلك حتى أصاب ذنباً أورثه الندم والحزن أيام حياته والتبعة في الآخرة حتى يستوهبه الله عزَّ وجلّ من أورياء ١ كما جاء في الحديث فأعظم
بالعجب بلية وأعظم به آفة
۱ لعلها من أوزاره
۷۳
ومن ذلك ما قال الله عز وجل فى كتابه العزيز في يوم حنين لأصحاب محمد وهم خير عصابة على وجه الأرض بل لا عصابة تعبد الله عز وجل غيرهم ومن تبعهم غضاب لله عز وجل ينصرون دين الله عزّ وجلّ مستجمعون لقتال أعداء الله عزّ وجل فقال الله عزّ وجلّ وَيَوْمَ حُنَيْنِ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثَرْتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضِ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ١
منهم
وذاك أن قائلاً قال وسوا الله عز وجل في ذلك رفع الله عز وجل في ذلك الوقت النصر عنهم ليعلمهم أن كثرتهم
لن نغلب اليوم من قلة فلما أعجبوا بكثرتهم واتكلوا على قوتهم
ما
لا تغنى عنهم شيئًا وأن الله عزّ وجلّ الناصر الغالب لهم عدوهم لا عددهم ثم عطف الله عز وجل عليها بالنصر إكراماً لنبيه الا الله ولهم ونصراً لدينه ثم أنزل بذلك قرآنا فعرفهم به وما قال من قال منهم وهذا هو العجب بالكثرة
كان منهم
ومنه أيضاً ما روى ابن عيينة أن أيوب صلوات الله عليه قال إلهى أني ابتليتني بهذا البلاء وما ورد على أمر إلا آثرت هواك على هواى ونــدى مـن غمامة بعشرة آلاف صوت يا أيوب أنى ذلك أى من أين لك ذلك قال فأخذ رماداً فوضعه على رأسه فقال منك يارب أفلا ترى إلى رجوعه عما قال ناسيا أن يضيف نعمة العمل إلى ربه جل وعز ففزع إلى الذكر
بالذل والاستكانة والإقرار بالنعمة أنها من الله عز وجل فقال منك يارب وفى هذا أو فى حديث داود عليه السلام معنى من الإدلال بالعمل سأبينه لك إن شاء الله عزّ وجل عند ذكر الإدلال بالعمل
۰ ۹ ۱
٢٧٤
باب الإدلال بالعمل
قلت فأخبرني بالإدلال ما هو
قال إن الإدلال معنى زائد فى العجب وهو أن يعجب بعمله أو علمه فيرى أن له عند الله قدرًا عظيما قد استحق به الثواب على عمله فإن رجاء المغفرة مع الخوف لم يكن إدلالا وإن زايل الخوف ذلك فهو إدلال و كما قالت امرأة من المهاجرات وهي عند عائشة رضى الله عنها بايعت رسول الله الله ألا أشرك ولا أسرق ولا أزنى ولا أقتل ولدى ولا آتى ببهتان أفتريه بين يدى ورجلى ولا أعصيه فى معروف فوفيت لربى عزّ وجلّ ووفى لى فوالله لا يعذبني ربي فأوتيت في النوم فقيل لها أنت المتألية على الله ألا يعذبك فكيف بقولك فيما لا يعنيك ومنعك ما لا يغنيك وفي حديث آخر أنه أتاها ملك فقال لها كلامك تزجين وزينتك تبدين وخيرك تكدين وجارك تؤذين وزوجك تعصين ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها فقال خمس بخمس ولو زدت لزدناك قال فأصبحت وأثر الأصابع في وجهها فهذا الإدلال على الله عزّ وجل وإيجاب الثواب عليه على الغفلة والنسيان والجهل عليه
قلت فما الدليل أنه قد رأى أن له بذلك عند الله عز وجل قدراً عظيماً قال على ذلك دلائل كثيرة من قلبه ولسانه فمن ذلك أن يناجي الله عز وجل باستعظام عمله كما قال داود عليه السلام أو يستكثر أن ينزل به به بلاء أو ينصر عليه غيره أو يرد دعوته وهو يعمل مثل ذلك العمل
ومثل ذلك ما روى عن أيوب صلوات الله عليه حين قال إلهي أني ابتليتني بهذا البلاء وما ورد على أمر إلا آثرت هواك على هواى فإذا استنكر العامل أن لا تجاب دعوته أو ألا يفعل به ما يحب أو أن يبتلى أو يُسلم لعدوه أو لمهلكة من مهالك الدنيا فهذا معجب بعمله مدل به كأن له على الله عز وجل منة بما عمل يجب على الله عزَّ وجلّ مكافأته ولولا تفضل الله عزّ وجل على خلقه ما جعل لهم عملا لأن العمل منه بفضله ونعمته والشكر من العباد ضعيف والشكر بعينه نعمة من الله عز وجل والذنوب كثيرة
٢٧٥
ألا تراه يقول جل ثناؤه وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَازَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أبداً
فقال النبي لأصحابه - وهم خير الناس يومئذ وإلى اليوم ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله منه برحمته وقال لو وعيسى بن مريم بما نصيب بهاتين العذبنا
يؤاخذني الله أنا
ثم أصحابه من بعده - فضلهم وبرهم - يتمنون أنهم كانوا خلقوا بغير خلق الإنس لعظيم الخوف أبو بكر رضى الله عنه يود أنه لو كان قمرباً وعمر رضى الله عنه يتمنى أنه لو صار تبنة وأبو عبيدة وعمران بن حصين وغيرهم فلله عزَّ وجلَّ الحجة البالغة على عباده وله الفضل والطول والمنة عليهم ولا منة لهم عليه وما عملوا من خير فمنه وبه
قلت وما الدليل على ذلك إنه الإدلال
قال ما يروى عن قتادة في قول الله عزّ وجلّ ولأئمنن تَسْتَكْثِر قال لا تدل بعملك وقد اختلف فى تفسير هذا الحرف فقال بعضهم لا تهد حتى يهدى إليك إلا أن قتادة ذهب
إلى
أنه
الإدلال بالعمل وقول أيوب وداود عليهما السلام فى الحديث الذى يروى أن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه وقال لأن تضحك وأنت معترف بذنبين خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك فهذا العجب بالإدلال
فأما إذا انفرد العجب ولم يخالطه الإدلال فهو ما أخبرتك من حمد النفس ونسيان النعم وسئل رباح القيسي فقيل له يا أبا محاضر ما الذى أفسد على العمال أعمالهم فقال حمد
النفس ونسيان النعم
١ ٢٤
وفى نسخه يا أبا مهاجر
٢٧٦
باب العجب بالرأى الخطأ
قلت والعجب بالرأى الخطأ لم أسمعك أدخلته في هذا الجواب
قال إنه ليس بنعمة فيوصف بنسيان النعم فيه ولكنه بلاء وخذلان ونقص أما ما كان في الضلال والبدع فبلية وخذلان وماكان فى الأحكام فقد يكون خذلانا وإثما وقد يكون نقصاً في الدين دون الإثم فإذا كان الرأى على غير الكتاب والسنة والإجماع فعن العجب كان وهو الذي أهلك عامة العباد حتى ضلوا وكفروا وابتدعوا وأخطأوا في دين الله عزّ وجلّ
وقد ذمه النبي وأخبر أنه يغلب على آخر هذه الأمة وعنده يكونون قد عموا وصموا فلا ينتفعون بموعظة قال أبو ثعلبة الخشني سألت رسول الله لا عن قول الله عز وجل عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۱
فقال يا أبا ثعلبة التمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك نفسك فأخبر أن معناها إذا غلب على أهل الدنيا إيثار الدنيا والعجب بآرائهم
وذم أصحاب النبي الله العجب بالرأى والعلماء بعدهم وأخبروا أن فيه الهلكة ألا ترى إلى ما وصف الله عز وجل من قال عليه غير الحق فقال
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ٢ وقال عز وجل أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً ۳ فأخبر أن القوم معجبون بما يدينون به من الضلال والكفر والكذب على الله عزّ وجلّ جميع أهل البدع لولا أنهم معجبون بآرائهم ما اعتقدوا البدع ولا أقاموا عليها فبالإعجاب بالرأى الخطأ هلك عامة الكفار وأهل البدع من أهل الإسلام وأهل الخطأ في الفتيا
وكذلك
۸ ۳۵ ۳
100 1
۱۰۱ ۱۸
۷۷
لأنهم تأولوا فأعجبوا بتأويلهم وظنُّوا أنه الحق اليقين وقاسوا على غير القياس فأعجبوا بقياسهم وظنُّوا أنهم قد أصابوا الحق وقد تركوه ودانوا بغيره وخالفوه قلت قد أعظمت ضرره وبيَّنت كثرة الآفات فيه فأخبرنى ما هو قال الاستحسان بالرأى الخطأ من قبل هوى النفس مع اعتراض من الظن أنه حق يظنه
بغير يقين
قلت ممَّ كان ذلك فإنه لا يمكن أنه كان إلا عن إغفال وجهل
قال أجل قلت مم كان ذلك
قال من ترك تهمة النفس واستحسان الرأى بغير علم وضح له ولا دليل عليه من الله عزّ وجل وتلك بلية عظيمة لا نعمة ولو ذكر النعمة عند ذلك لما انتفى العجب بذلك بل يستحكم العجب بذلك فيغلب عليه وإنما أعجب حين رأى أنها نعمة ولم يعده بلية فينزع عنها أو يظن أنها بلية فيتهم نفسه فيثبت حتى يتبين له العلم فيعتقده أو ينفيه فإنما أعجب به حين
عده نعمة
وقد ينشأ الكبر عن العجب في الدين بالعلم والعمل فإذا كان من قبل العلم فإن العالم إذا أعجب بعلمه أخرجه عجبه إلى الكبر تعظماً على العباد فيتكبر على العوام وإن كان بعضهم أتقى
الله عز وجل منه
وذلك الذي خافه عمر - رضي الله عنه - على العلماء حين قال تواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم عند الله بجهلكم أى لا يزكو عند الله إذا
تكبرتم به
ومن العباد قوم ضلال قد جمعوا إلى الضلال الكبر لا يرون أن أحدا يقول الحق على الله عز وجل غيرهم وأنه لا مهتد في الأرض غيرهم وهم الذين يقولون إن القرآن مخلوق وهم الذين يقولون بالوقف والذين يقولون باللفظ والذين يكذبون بالقدر والذين ينكرون أن الله عز وجل يُرى فى الآخرة والذين يغلطون الموازين ومنهم الرافضة والمرجئة والحرورية والذين يكذبون بالشفاعة ويشتمون أصحاب رسول الله الله والذين يشتمون عائشة أم المؤمنين المبرأة من الإفك رضى الله عنها
ولولا ما أكره أن يطول الكتاب بذكرهم لذكرتهم فكل هذه الفرق آبقة جائرة عن الطريق لا يرون أحدا يقول بالحق وأنه لا مهتد فى الأرض غيرهم جهلا بالله عز وجل وتكبرا على عباده كما روى العباس رضى الله عنه عن النبي الله أنه قال يكون قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ثم التفت النبي - - إلى أصحابه فقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم وقود النار وقد يكون الكبر عن الرياء
ويجب على كل إنسان أن يعلم أن أصل ابن آدم من التراب الذي يُوطأ بالأقدام إنه من حمأ مسنون والله سبحانه وتعالى يقول
قتل الإنسان ما أكفره من أى شيء خلقه ! من نطفة خلقه فقدره ثم إن الله تعالى لا يحب المستكبرين ويقول ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبره
ثم يتحدث المحاسبى عن و الغرة بالله عز وجل وَيُميز بين الغرة والرجاء فبعض المغترين يظن أن الغرة منه رجاء فيقيم على معاصى الله عز وجل ويظن ذلك حسن الظن منه وليس ذلك يحسن كما قال وهب حسن الظن بالله ما جانب الغرة
۷۸
باب ما ينفى به العجب بأعمال الطاعة
قلت فيم ينفى العجب بالدين حتى يسلم منه العبد قال أما العجب بالحق والمطاعة من العمل والعلم والرأى الموافق للحق والصواب فيذكر النعمة فيه أن ذلك بمنة الله عز وجل وفضله ولولا منته بذلك لما نال ذلك أحد أبداً من نفسه لأن النفس لو تركت لما فعلت ذلك ولا كان منها لأن محبتها كانت فى خلاف ذلك حتى نبه الله عز وجل العقل فقهر به هوى النفس وعزم له على الرشد فخالف محبَّة النفس وشهوتها لأن العبد لا يكاد يأتى برا إلا وشهوتها فى ضده إن قام الليل فشهوتها فى راحتها من التعب وفى نومها فراراً من السهر وكذلك إن صام فشهوتها فى الإفطار لما بنيت عليه من حب الغذاء من الطعام والشراب وحبها الراحة إلى النكاح وغيره وكذلك جميع أعمال الطاعات فلم تكن لتعمله لو تركت فيذكر ويعترف إنما العمل من الله عز وجل نعمة أنعم بها عليه لا ابتداء من نفسه وأن عليه في ذلك الشكر وأنه غير قائم بالشكر على ذلك مقصر عن شكره لم يستأهل ما من عليه به بل يستأهل أن يسلبه لتضييعه شكر نعم الله عز وجل عليه
قلت قد يكون من البر ما لا تعب عليها فيه كالسكوت عن الخوض في الباطل وكغض
أن
البصر وترك الغيبة فى الآثام والفضول والفكر فى القلب والذكر قال إن ذلك كله يثقل عليها لأنه وإن لم يكن لها متعباً فإنه مشغل عن محبتها وهواها لأن راحتها في محادثة الخلق واستراحتها لتخرج ما يجول فى القلب وكذلك غض البصر عن النظر إلى ما تهواه وتشتهيه وكذلك الفكر والذكر بالقلب للآخرة شاغل عن النظر في راحة الدنيا والفكرة فيها فذلك يثقل عليها ويشغلها عن راحتها ومحبتها فقد صح لأولى النهى ما نالت من البر والطاعة كان يخالف محبتها للتعب الذى يدخل عليها أو منعها من راحة أو لذة تنالها فهذا دليل بين وشاهد واضح عليها أن الذى أدخلها في خلاف محبتها غيرها وهو مليكها المتفضل عليها بذلك فله الحمد والشكر وحده فإن رجعت إلى صاحبها بالدعوى منها أنها هي التي عملته وانتحلته فحمدها على صبرها وقوتها فليرجع إليها بهذه المعرفة التي يجدها في نفسه وطبعه وكفى بإخبار الله عزّ وجلَّ عنها أنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب وتفضل به
المولى فليرجع إليها بهذه المعرفة وأنها مبطلة فيما تدعى مباهتة به وكيف جاز لها ادعاء ما كانت تحب خلافه ويثقل عليها فعاله وكانت جاهدة أن تصدَّ عنه فكيف تدعى أن منها ما كانت تأباه وتحرص على خلافه وتنازع بعد الدخول فيه إلى قطعه وترك تمامه فذلك منها بهت ومن تصديق العامل لها جهل وحمق
قلت فقد يجد العامل لله عز وجل القوى العزم الزاهد في الدنيا نشاطا من نفسه للطاعة وشهوة منها لها لا تكاد تصير عنها كأنها طبع منها بل قد يكون في بعض الحالات أكثر من الطبع وقد نجده نحن أيضاً تخليطنا في بعض أحوالنا في أعمالنا
ご
قال إن ذلك لم يكن منها ابتداء ولا هو موافق لها فى الخلقة فى ضعفها ولا في حال قوتها وقد كانت أولا جاهدة حريصة أن لا يكون ذلك منها فلما وهب الله عز وجل للعبد قوة العزم والمواظبة على مجاهدتها والقمع لها فيئست أن يجيبها إلى محبتها وقهر الطبع منها قوة العزم ونور الحق وغلبت عليه هموم الآخرة وأحزانها سكنت عن دعائها وانقطعت عن طلب عادتها وهى مع ذلك على خلقتها وهيبتها ولو وجدت منه فترة الرجعت إلى أسوأ أحوالها ولرفضت أكثر طاعتها لربها عزّ وجلَّ أفرأيت من لم يَنْقَد إلا بالكره ولم يجب إلا بالوعيد والزجر ولم يذعن إلى الإجابة إلا إن قهره لك غيرك وأعانك عليه وأنت مع ذلك لا تأمن رجوعه عن إجابته وترك طاعته لك وانقلابه إلى شر أحواله لما تعلم أن محبته لم تتغير وأن شهوته لم تذهب ولكن قهر فأجاب وغلب فأطاع ولو وجد سبباً أو سبيلاً إلى ما يحب ويهوى ركن إليه سريعاً وولى معرضاً أكنت له حامداً على طاعته ! أو كنت منزلا منه ذلك المحبة منه لإجابتك أو هل تكون له ذاما لما تعرف من محبته وخلاف إرادته لطاعتك وهل كنت تحمد إلى الذي أعانك عليه حتى قهره وغليه لك حتى استعملته ومثل ذلك كأسير من بلاد العدو استأسرته وفرقت بينه وبين ماله وأهله وولده وأرضه ووطنه وقد كان جاهدك قبل الأسر على أن يكون هو المستأسر لك حتى أتاك أعانك عليه فشده لك كتافاً وأمكنك منه فلم يزل بعدما أمكنك منه جاذبك إلى الرجوع إلى بلاده ويطلب منك غفلة ليقتلك أو يستأسرك فيرجع بك معه إلى منزله ووطنه فلم تزل تضربه وتقهره حتى انقاد لك من الخوف وسارع إلى خدمتك وأنت مع ذلك متخوف أن يجد فرصة فيرجع ويتركك ويرفض ما فى يديه مما استرعيته من عملك أكنت له حامداً أو فى أمره متزيناً
من
۸۰
الله
فكذلك نفسك قد كانت حريصة على الركون من قبل إلى الدنيا وإيثارها على الآخرة فكانت جاهدة أن نستأسرك بهواها فتكون به عاملا ولطريق نجاتك إلى الآخرة تاركا فأبى عز وجل إلا أن يوفقك ويسددك فقوى ضعفك ونور قلبك وأعانك عليها حتى رفضت كثيراً مما تهوى وتركت كثيراً مما تحب وما انقادت إلى خلاف ذلك إلا بالكره والجبر ثم وجب لك زجرها ومعاتبتها وقوى عقلك على هواها وعلمك على جهلها وووفقك لدوام ترك إجابتها حتى أيست منك أن تنال محبتها وانكسرت عما كنت عودتها فأجابت مسرعة على غير انقلاب من طبعها ولا تغيير عن غريزتها وأنت مع إجابتها لك متوقع لرجوعها تسأل الذي تولى معونتك عليها وقهرها حتى انقادت لك طائعة بعد امتناعها أن يديم ذلك لك ولا يسلبك هو خشية أن يتبرى منك فتثب عليك فترجع بك إلى - جميع ما تحب وتهوى فيكون فى ذلك هلاكك في دنياك وآخرتك فهل تجد بينها وبين الأسير فرقاً بل هي أشد بلاء من الأسير وأعظم فتنة
قلت قد أجد بينها وبين الأسير فرقاً لأن الأسير لا يرى أن الخير فيما يراد به وهى قد علمت أن ما يراد منها خير لها
قال فقد ساوت الأسير فى مخالفته وفضلت عليه فى الشر إنها أبت وعصت عن معرفة وبيان والأسير أبى وعصى عن جهالة وعمى ولعله لو علم ما يراد به من الإسلام والفرق بينه وبين الكفر ودار الحرب التي أهلها محاربون الله عزَّ وجلَّ ولدينه لأجابك طائعاً وأبغض الرجوع إلى بلاده فهي شر وأعْجَبُ عصياناً وإباء من الأسير إذ عصت بعد العلم بأنك إنما تدعوها إلى نجاتها وتجانب بها هلكتها وقد نجد بعض الأسراء مشبها لها في جميع أمورها لأنه قد يكون الأسير يعرف الإيمان وفضله كما وصف الله عزّ وجلَّ به بعض أهل الكتاب أنهم يعرفون الحق ويجانبوه بعد العلم فقال فَإِنْ كُنتَ في شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذِينَ يَفْرُءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١
ووصف إبليس أنه اعترف له بالربوبية ثم عاند بعد علم وقال عز من قائل وإنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ٢
1 10 ٩٤ وأدل من هذا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ه
60 A Y
۸۱
فكذلك هي
تأبى بعد علم وبيان ومعرفة فهى تساوى شرّ الأسارى وتوافق كل أسير جاهل أو عالم فلا فرق بينهما فى الشبه من قبل الإباء والعصيان فالحمد لله وحده والذم لها والحذر والخوف منها وترك الطمأنينة إليها لمعرفتك بها فمن عرف نفسه زال عنه العجب وعظم شكر الرب عز وجل واشتد حذره منها والثقة والطمأنينة إلى المولى عز وجل والمقت لها والحب للمتفضل المنعم
أرأيت لو صحبك صاحبان فأراد أحدهما وأنت نائم أن يرضخ رأسك بصخرة فأيقظك الآخر وقد أمسك يده على الصخرة وهو رافعها ليرميك بها فأراك ما هم به وما أراد أن يغتالك به أو لو صنع لك سماً في طعامك ليقتلك به فأراك الآخر بالتجربة على بعض البهائم ما أراد أن يقتلك به من السم حتى عرفت أنك لو أكلت ماهيا لك من الطعام كان في ذلك عطبك من قتله بذلك السم للبهيمة التى جرب عليها ألم تكن تزداد له مقتاً وبغضا وللذي أنقذك من مكيدته حباً ومودة وأنسا ومنة وللذى أراد بك السوء حذراً وللذي حال بينك وبين ذلك ثقة وطمأنينة رجاء أن ينقذك من أمثال ذلك وخوفاً من الآخر أن يغتالك بمثل ذلك فإن ادعى المريد لك بالسوء أنه هو الذي أنقذك منه هل كنت ناسياً للذي أنقذك ومضيفاً نجاتك إلى الذي أراد بك المكيدة بالسوء كلا ماكنت فاعلا أبداً ذلك ما صح لك عقلك فكم من بلية قد أرادتها بك نفسك فعزم الله عزّ وجلَّ لك على تركها وأيقظك فعصمك منها وقد كان فيها عطبك بالنار أعظم من الميتة بالحجر والسم وكم من حق الله عز وجل قد هممت بتضييعه فأبى الله عز وجل إلا أن وفقك الخلاف ما هممت به فقد وجب عليك المقت لنفسك والحذر منها وترك إضافة العمل إليها بالحمد لها والحب لربك عز وجل والطمأنينة إليه والثقة به والحمد له خالصاً وحده والشكر له على منته بكل ما نلت من بر وطاعة قلت قد تبين لى بوصفك هذا - وقد كان عندى في الجملة هكذا - أن نفسی لو تركها ربي عز وجل لأهلكتني وأن الذى تولّى ذلك له المنة على بذلك حتى نلت مانلت من بر وطاعة هو وحده لا شريك له
۸
باب ما ینف به العجب بالرأى الخطأ
مصيب
قلت أفرأيت نفى العجب بالرأى الخطأ إذا كان ليس بنعمة فأذكر منة الله عزّ وجلَّ بذلك ولا أضيف ذلك إلى نفسى فيم أنفيه اذ تبين لى أنه بلية وخذلان أو نقص في الدين قال قد ينفى العبد العجب بالرأى الخطأ بتهمة نفسه وترك الاستحسان لشيء من رأيه إلا بدليل بين وحجة واضحة من الكتاب والسنة أو قياس عليهما واستنباط حكم في نازلة قلت وكيف يتهمها وما الذي ينال به تهمتها قال لمعرفته ما بنيت عليه فى الخلقة أن من شأنها السهو والغفلة ولما جرب منها من كثرة غلطها وكثرة زللها وسوء تأويله ما لا يحصى مراراً كثيرة في كل ذلك أنه یری لا يشك عند نفسه فى ذلك ثم يتبين له بعد أنه قد كان غفل وغلط وكان استجابة لذلك من قبل الهوى وتزيين الشيطان ولو لم يبعثه على تهمتها إلا ما يعرف من عامة هذا الخلق من غلطهم وقولهم فى دين الله عزّ وجلَّ بغير الحقِّ وكلهم يزعم فيما يدعى الحق وهو على باطل وهو – مع ما هو عليه من الباطل لا يشك أنه محق صادق وأن من خالفه مبطل كاذب من جميع أهل الأديان ومن أهل البدع من المسلمين وكثير من أهل الفتيا والرأى وقد علم أن النفوس طبعها بعضُه قريب من بعض بل كلها لا تعرى من السهو والغفلة ومانفسه إلا من أنفس الخلق من ولد آدم عليه السلام بنيته كبنيتهم وغريزته كغرائزهم ومع
ذلك فإن المزين لهم واحد وهو الشيطان المرصد لهم بالعداوة والباغي لهم الزلل والعصيان فإذا أثبت فى قلبه هذه المعرفة بنفسه اتهمها ولم يعجل بما يستحسن دون النظر في الكتاب والسنة أو مساءلة أهل العلم والبصيرة ولم يزل ذلك شأن الصالحين العارفين بأنفسهم ولم يزالوا متهمين لآرائهم خائفين من أنفسهم ومن ذلك ابن مسعود اختلف إليه شهرا في مسألة عن امرأة مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يسم لها صداقاً فلم يجبهم شهراً مخافة الخطأ في إجابته إياهم عما سألوه عن ذلك تهمة لنفسه وخشية لخطئها ثم قال لما لم يجد بدا من القول فيها قال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله عزّ وجلَّ وإن كان خطأ فمن نفسى وروى عن أبي بكر رضى الله عنه مثل ذلك
۸۳
وقال عمر رضي الله عنه إن الرأى كان من رسول الله الا الله صواباً لأن الله عز وجل كان يريه وهو منا الظن والتكلف
وقال أبو سعيد رضى الله عنه قال الله عز وجل لهم وهم أصحاب نبيه الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فى كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَتُمْ ١ فكيف فيمن دونهم من الناس وقال قتادة في قوله عز وجل لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم فأنتم أطيش أحلاماً فإتهم رجل رأيه وانتصح كتاب ربه عز وجل وقال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه يقول الله تعالى لنبيه لله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وقال ونحن أصحابه فأنتم أعجز رأياً
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيها الناس اتهموا الرأى ولقد رأيتني وأنا أهم أن أضرب بسيفي في معصية الله عز وجل ومعصية رسوله الله وقال سهل بن حنيف أيها الناس انهموا آراء كم وقال عمر رضى الله عنه اتهم رجل رأيه ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله الله يعني يوم صَالَح النبى الله قريشا يوم الحديبية في إجابته إياهم والأحاديث فى ذلك كثيرة وتركنا ذكرها كراهية التطويل
قلت فإن ثبتت المعرفة بذلك فاتهم رأيه كيف يتثبت حتى لا يخطئ قال تعلم أن من كتاب الله عز وجل آيات محكمات قد أجمع المسلمون على تفسيرها ومنه ما يشتبه ويمكن فيه التأويل وذلك الذى اختلف فيه ومنه مشتبه ولم يختلف فيه إلا أهل الزيغ الذين أخبرنا الله عز وجل أنهم يبتغون بتأويله ابتغاء الفتنة لما في قلوبهم من الزيغ والضلالة وكذلك سنة التي بهذه المنزلة فليعلم العبد المزيد للصواب ليدين الله عز وجل به أن من الكتاب والسنة محكماً بين التلاوة مفسرا بإجماع وأن ذلك واضح لا يحتاج فيه إلى النظر والبحث ولا يجب على النفس التهمة فى قبولها واجتنابها إياه وأن الذى يمكن فيه الخطأ والصواب لضعف ابن آدم وسهوه وغفلته وغلبة هواه له وتزيين عدوه له ما اختلف فيه أو حادثة يحتاج فيها إلى التمثيل والقياس على الكتاب والسنة والإجماع فعند ذلك يتهم نفسه ويتثبت ولا يعجل إذ كان الخطأ في ذلك منه ممكنا فالعجلة وترك التثبت غرور وخطأ وترك التفقد للدين والتحرز من القول على الله
V 29 1
باب العجب بالدنيا والنفس
قلت فالعجب من قبل الدنيا ماهو
قال العجب بالنفس والعجب بالمال والعجب بالحسب والعجب بالكثرة من والولد والمولى والعشيرة والأصحاب
قلت فالعجب بالنفس ما هو
٢٨٥
الخدم
قال هو العجب بالجمال والجسم بعظمه وتمامه والقوة والعقل والعمل وحسن الصوت فأما بالجمال والجسم فاستحسان ذلك من نفسه ونسيان مايلزم العبد من الشكر لله عز وجل على ذلك ونسيان القدر في البداءة وما يتقلب فيه من الآفات ومصير الجمال والجسم إلى الفناء والبلى حتى يتكبر ويتبختر ويتعرض بجماله للفجور ويفتخر به على غيره
قلت فيم ينفى ذلك
منه
قال بذكره النعمة وما وجب عليه من الشكر وما ضيّع للمنعم مما يستحق بخلافه وتضييعه للشكر أن يغير جماله بالشين بآثار عذاب الله عزَّ وجلَّ وأن النار تأكل حُسن الجسم وتمامه وبمعرفته قدره مما كانت بدايته من التراب والنطفة وما يتقلب فيه من الأقذار التي لا يمتنع منها من الغائط والبول ومصير جسمه وجماله إلى التراب وأن التراب سيمحو صورته ويبلى جسمه فإذا عرف نفسه وقدره ومصيره وما عليه من الشكر وما ضيع منه وما وجب عليه بتضييعه الشكر من العقاب زال عنه العجب واهتم بالشكر وتواضع للمنعم
قلت فالعجب بالقوة
قال استعظامها ونسيان الشكر والاتكال عليها ونسيان الاتكال على الله عزّ وجلَّ كما حكى عن قوم عاد حين قالوا من أشدُّ منا قوة فأعجبوا بقوتهم واتكلوا عليها وظنوا أنهم بنها يتخلصون من عذاب الله عزَّ وجلَّ وكما اتكل عوج على قوته فاقتطع من الجبل قطعة ليطبقها على عسكر موسى مع الله فثقبها الله عزّ وجل حتى صارت في عنقه وقد يتكل المؤمن أيضاً على قوته كما وصف النبي ع قول سلمان عليه السلام لأطوفنَّ الليلة بمائة امرأة فلما لم يقل إن شاء الله لم يكن ما أراد من الولد فيشكل العبد على قوته وينسى التوكل
٢٨٦
على ربه عز وجل ومنه قول داود عليه الصلاة والسلام إن ابتليتني صبرت وقد يجترىء أيضًا بما أعطى من القوة على الحروب في معاصى الله عزَّ وجلَّ ويسارع بالضرب والقتال إلى من نازعه لما يعرف من قوته عجباً بها واتكالا عليها ويعير غيره بضعفه ويفتخر عليه بقوته قلت فيم ينفى العجب بها
قال بمعرفته أنها من الله عزَّ وجلَّ نعمة فضَّله بها لينظر كيف استعماله لها في طاعته وأن عليه الشكر فيها إذ فضله بها على غيره من الضعفاء وأن الله عزّ وجلَّ هو الذي قواه بها ولو شاء هدها بعاهة أو بسقم أو ضعف فيلزم نفسه وجوب الشكر عليه ويخاف إن استطال بها واستعملها في معصية الله عز وجل أن يهدّها أو يكسرها بعقوبة منه فإذا ألزم قلبه ذلك انتفى العجب بها واهتم بأداء الشكر فيها
قلت فالعجب بالعقل والذهن والفطنة
قال استحسان ذلك واستعظامه ونسيان النعمة بالتفضل به والاتكال عليه أن يدرك به ما يريد وما يؤمل من علم أو رأى أو أحكام دين الله عز وجل أو دنيا وترك التوكل على الله حتى يخرجه ذلك إلى قلة التثبت لإعجابه بعقله حتى يخطئ في دين
ذلك عز وجل في جميع الله عز وجل ويقول عليه بغير الحق ويخرجه أيضاً إلى ترك التفهم ممن علمه أو أمره أو ناظره حتى يحرم الفهم للحق ويأبى إلا القول بالخطأ والغلط ويخرجه إلى حقرية من دونه ممن لم من الفطنة مثل ما أعطى وإن كان أورع ه وأفضل عملا حتى يُسمى كثيراً ممن هو جهالا حمقى ويراهم كالحمير التى لا تعقل إذ فضل عليهم بالفطنة والذهن ويستطيل عليهم ويرى أن لا قدر لهم ويستصغر ما عملوا من خير ويرى أنه منهم وإن ضيع العمل لفطنته ولعقله
يُعط
أورع
منه
وأفضل
منه
قلت فيم ينفى ذلك
خير
قال بمعرفته نجهله مهما أعطى من الفطنة وبسهوه وغفلته وقلة مايدري بعقله وإن كان قد أعطى من الفطنة أكثر مما أعطى غيره فقد وجب عليه في ذلك الشكر وإنما فضل بالذهن لتعظم الحجة عليه وتوكيد الطاعة باللزوم لها ولينظر الله عز وجل كيف استعماله لعقله في عنه والاشتغال به وإن ما أعطى من العقل بيد الله عز وجل لو شاء أن يغيره ويزيله
الفهم
ببعض
الآفات
كما رآه فَعَلَ ذلك بمن هو مثله ومن هو فوقه لفعل فلا يأمن من أن يسلبه الله عز وجل عقله فإذا عرف ضعفه وجهله وقلة ما يدرك بعقله وأن ما فضل به منة منه عليه فيه
الشكر وعظيم الحجة ووجوب الحق وأنه لذلك مضيع فإذا عرف ذلك علم أن من لم يؤت من
وأن
الفطنة مثل ما أوتى أحسن حالا منه إذ لم يشكر الله عز وجل على ما فصله به عليه الحجة عليه أعظم منها على من دونه وقد يرى كثيرا ممن هو دونه في الفطنة أطوعَ الله عزَّ وجلَّ منه وأنه مع ذلك لا يأمن أن يسلبه الله عز وجل عقله إن ضيّع القيام الله عز وجل به فيما وجب عليه من الفهم عنه والعقل عنه والعمل به فإذا ألزم قلبه هذه المعرفة زال عنه العجب وخاف عظيم الحجة وواجب الحق واهتم بالشكر وأداء الحق
وقيل للحسن إن قوماً يقولون نرجو الله عز وجل ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئًا طلبه ومن خاف شيئًا هرب منه ويتحدث المحاسبي في كتاب الغرة عن غرة أهل النسك وغرة الفقهاء وغرة الوعاظ وغرة المتكلمين
ثم يأخذ في شرح الحسد أسبابه ومضاره وما من ريب في أن جملة الحسد المحرم أن يكره الحاسد ما يرى من غيره من النعم ويحب زوالها عنه وأما المنافسة في خيرى الدنيا والآخرة وأن يحب ما يرى بغيره من النعم أ أن يكون له مثل غبطة منه دون أن يكره لغيره ما يرى به من النعم
فهذا لا بأس به بل إنه مما يحسن ومن هنا كان قوله و لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله عز وجل ما لا فسلطه على هلكته فى الحق ورجل آتاه الله عز وجل علما فهو يعمل به ويعلمه الناس ذلك الذي هو المنافسة في الخير
ويختم المحاسبي كتاب الرعاية بـ كتاب تأدية المريد يذكر فيه حيرة المريد في ساعات الليل والنهار إنه يرسم فيه الدستور الذى يسير عليه المسلم في حياته حينما يعزم على أن يأخذ السمت الإسلامي الصحيح
وفيه يقول المحاسبي فنعوذ بالله من الحيرة بعد الهدى ومن العمى بعد البصر ومن الإعراض عن الله تعالى بعد الإقبال إليه ونسأله السلامة والعون على ما يحب ويرضى
أثر المحاسبي وكتابه الرعاية في الفكر الإسلامي إن تأثير المحاسبي في الأجيال التالية له لا ينكر إنه من الواضح أن تلميذه الأكبر - وإن لم يلتق به - كان الإمام الغزالي
إن الإمام الغزالي يعترف بأنه قرأ كتب الحارث المحاسبى قال ذلك في كتابه المنقذ من
الضلال
أحمد
ولقد قرأ أيضًا سيرة الحارث المحاسبي ويتحدث عن الخلاف الذي كان بينه وبين الإمام بن حنبل ثم إنه نقل عنه فى كتابه الإحياء كثيرًا من الآراء والنصوص وفي كتاب و الإحياء يقول عنه الإمام الغزالى دون تحفظ ولا استثناء هذا التقدير الهائل
خير
المحاسبي الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأعوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه اهـ
۸۸
قلت فالعجب بالحسب
باب العجب بالحسب
قال استعظام القدر من أجل الآباء والأصل فإن كانوا من أهل الشرف في الدنيا من الذين شرفوا في الدنيا بالدين فيستعظم قدره من أجلهم وينسى منة الرب عز وجل إذ خلقه من الكرام الصالحين ورفع عنه محنة ضعة القدر لعله لو جعله وضيعاً في الحسب لسخط ذلك وانتمى إلى غير آبائه وأنف منهم فينسى ما رفع الله عزّ وجلَّ عنه من المحنة وما تفضّل به من المنة بأن جعله من ذُرِّية أوليائه وأهل طاعته فيُغفل ما عليه من الشكر وما وجب عليه من الحجة وأنه مأخوذ بعمله فيعجب إذا استعظم قدره من أجل آبائه وأغفل الشكر ووجوب الحجة حتى يخيل إليه بل قد يقطع بعضهم أنه ناج بغير عمل وأنه مغفور له وإن كثرت ذنوبه وإن لم يتب منها فيستطيل بذلك ويتكبر ويفتخر على غيره ويحقره ويأنف منه إن كان ذا قرابة أو جاراً أو غيره ممن هو دونه في الحسب ويختال في مشيته ويرى أن الخلق شبيه بالعبيد بل قد يرى بعضهم أن الأمة عبيد له فيخالف آباءه في فعالهم ويريد أن يكون عند الله عزّ وجلَّ مثلهم وذلك الاغترار بالله عزّ وجلَّ والجهل بأمره
قلت فيم ينفى ذلك قال بمعرفته ما وجب عليه من شكر الله عز وجلّ على ما من به عليه إذ جعله من ذرية من تولاه وأحبه وأنه مجزى بعمله دون عمل آبائه وأنهم إنما نجوا بالطاعة وشرفوا بها وقد ساواهم في الحس غيرهم فلم يؤمنوا ولم يطيعوا وكانوا عند الله عز وجلَّ شرا من الخنازير والكلاب وأنه وإن خالف طريقهم فحكمه أن يخالف به إلى غير دارهم وهى النار لن ينجو إلا بعمله أو رحمة الله عزَّ وجلَّ من ذلك قول الله عزّ وجل
إِن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وذلك أن الحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد لما أذن بلال يوم الفتح على
۱۳ ٤٩ ۱
۸۹
الكعبة أنكروا وقال الحارث بن هشام هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة فأنزل الله عز وجل إن أكرمكم عند الله أتقاكم رواه ابن أبي حسين ومنه قول النبي له إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية يعنى كبرها كلكم بنو
آدم وآدم من تراب فيعرف أن أصله وأصل بني آدم كلهم واحد وأنه فضل عليهم بالحسب والصلاح في الآباء لينظر كيف شكره وأنه إنما ينفعه عمله دون عمل آبائه ومن ذلك قول النبي يا معشر قريش لا يأتى الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا يعنى أعرض عنكم
وقال حين أمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين فناداهم بطنا بطنا حتى صار إلى أن قال يا فاطمه بنت محمد ويا صفية بنت عبد المطلب عَمَّة رسول الله ما اعملا لأنفسكما فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا رواه أبو هريرة وغيره عن النبي الله
فيلزم ذلك قلبه فإذا فعل ذلك وألزمه قلبه عرف نفسه وزال عنه اغتراره وعجبه واهتم بالشكر وخاف من الذنب وخاف أن يكون من دونه ينجو ويهلك هو إذ كان أتى الله عز وجل منه فإذا عرف نفسه بهذه المعرفة وأنزلها بهذه المنزلة قل فخره وخيلاوه وحقريته غيره بل يتواضع لهم ويتشبه بآبائه فإن الله عز وجل إنما رفعهم بتواضعهم له في خلقه ومخافتهم على
أنفسهم قلت فقد جاء الحديث عن النبي عل الله أنه قال - فى عقب قوله يا فاطمة ويا صفية اعملا لأنفسكما فإنى لا أغنى عنكما من الله شيئا - إلا أن لكما رحما سأبلها ببتلالها وقال أيرجو نسلهم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب فقد دلّ بهذا القول أنه سيخص قرابته بالشفاعة فكذلك كل صالح على هذا القياس يشفع لأقربائه
قال إن ذلك ينبغي له أن يرجوه ويعلم أنه لا يشفع النبي الله ولا أحد من الصالحين إلا لمن لم يغضب الله عليه وأراد أن يكون سبب رحمته له شفاعة نبيه وبعض أوليائه ومن غضب الله عز وجل عليه لم يؤذن لنبى ولا لأحد في الشفاعة له ألا تراه حين ذكر ملائكته قال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى قال قتادة يوم القيامة وقال مجاهد إلا لمن رضى عنه
ومن شفع فيه بغير علم أخبر أنه قد غضب الله عليه ألا ترى إلى قول النبي عل الله فيؤمر بقوم من أصحابي ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فهو
الرعاية لحقوق الله
۹۰
وإن رجا الشفاعة فهو خائف أن يعصى الله عز وجل فيغضب عليه ويكون قد غضب عليه فيما كان منه فلا يشفع له شافع ولا يؤذن لأحد أن يشفع له ومع ما يرجو من شفاعة النبي وإن كان قد خص بالشفاعة أقرباءه المسلمين يرجون شفاعة النبي الله ولكن لا تأمن الغضب والمقت من الله عز وجل
فإن جميع
يعجب
فإذا ألزم قلبه هذا خاف ورجا فلم يعجب ولم يغتر ولم يفتخر ولم يتكبر وكيف يـ ويتكبر وهو لا يأمن أن يكون عند الله عز وجل مغضوباً عليه شرا من القردة والخنازير وكيف يأمن ذلك وما أمنه أهل الحسب في الدين والدنيا وخير الخلق بعد النبي حين غبطوا البهائم وتمنوا أن يكونوا مثلها فى الخلقة خوف عذاب الله عز وجل وغضبه وإنما يعجب بأنه منهم فإذا خافوا هم هذا الخوف ولهم السابقة والفضل ولا سابقة له ولا فضل عنده ولو كان عنده فضل كان أولى به الخوف من الله عز وجل كما كانوا خائفين من ربهم عز وجل قلت أرأيت من كان له الحسب فى الدنيا وليس له آباء صالحون أكثر من الأصل عند الناس في الحسب ما العجب به
الناس
عليهم
قال العجب به استعظام القدر حتى يخرجه إلى الكبر والخيلاء والفخر والاستطالة على والحقرية لهم حتى يعيرهم بأحسابهم ويغتابهم ويقع فيهم ويرى لنفسه الفضل
قلت فيم ينفي
ذلك
قال يعلم أن أصله في البداية أصل الناس كلهم وخلقته كخلقهم ولم يفضل عليهم في الخلقة بشيء إذ الخلق واحد والأب واحد والأم واحدة والموت والبلاء في رقبته والحساب عليه والثواب والعقاب أمامه وأنه قد استوجب العذاب بذنبه وأن عليه الشكر إذ جعله في موضع لا يشينه فيكون عند الناس وضيعاً فعليه في ذلك الشكر وأن آباءه من تقدم منهم في الشرك غير معجب بهم ولا يليق بهم الإعجاب ولا لهم عند الله عز وجل قدر بل الكلاب عند الله تعالى خير منهم كما قال النبى الله وليد عن قوم الفخر بآبائهم وقد صارت فحماً في جهنم أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تذوق بآنافها القذر والحديث عن النبي لا أنه قال و افتخر رجلان عند موسى عليه السلام قال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد عشرة معه فمن أنت فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بآبائه تسعة من أهل النار أنت عاشرهم في النار
۹۱
وإن كان من آبائه من له صلاح ودين فهو على ما وصفت لك
قلت فإن كان آباؤه ليس لهم أصل فى العرب ولا سابقة في الصلاح والطاعة إلا أن لهم الشرف فى الملك والسطوة المتقدمة ما العجب بذلك قال استعظام القدر ونسيان ما صار إليه آباؤه من العذاب وأن ما كانوا فيه عار عليهم عند أهل العقل وشين عند الله عز وجل ويرى أن له الفضل على غيره ويحتقره ويتكبر عليه وينسى عاقبة ما كانوا فيه ويضيع الشكر إذ أخرجه الله عزَّ وجلَّ منهم وخصه بالإسلام والمنة وأبدله بشرفهم شرف الإسلام وجعل دينه الإيمان فيتكبر ويفتخر ويحقر من دونه في أنه الحسب حتى برى خير ممن تقدمت له السابقة في الصلاح وربما أورثه ذلك غشا للإسلام وعداوة للدين ولهم لأنهم هزموا آباءه وغلبوهم وورثوا أرضهم وديارهم بالحق
ونصرة الدين
قلت فيم ينفى ذلك
قال بمعرفته بما كانوا فيه من السطوة على عباد الله عز وجل والفساد في أرضه والكفر والجحد به وما صاروا إليه من العذاب والهوان وما من الله عز وجل عليه به إذ أخرجه منهم ولم يجعله مثلهم وأبدله شرف الإسلام وزينة الإيمان لأنه لا فخر بأهل النار ولا بكثرتهم وإن كان لهم مع ذلك كرم في الدنيا فى الرأى والقول وحسن المداراة لمن استرعوه حمد الله تعالى إذ زال عنه أن يجعله ممن يعير به كالزنج وغيرهم وعليه في ذلك الشكر إذ لم يعترضه - لفتته - الضعة في قدر الدنيا ومع ذلك إن العجب بآبائه زائل للمعرفة بقدرهم عند الله عز وجل وعند أوليائه من المؤمنين لا يعظم إلا من عَظُم عند الله عز وجل ولا يُصغر إلا من
عنه
صَغر
عند الله عز وجل
۹
باب العجب بكثرة العدد
قلت فالعجب بكثرة العدد من الولد والخدم والموالى والعشيرة والأصحاب والأتباع قال الاستكثار بهم والاتكال عليهم بالتحرز بهم والغلبة لغيرهم والتزين بهم والاتكال على عددهم ونسيان الاتكال على الله عزّ وجلَّ كما فعل بعض أصحاب النبي يوم حنين فأنزل الله عز وجل إذ أعْجَتِكُمْ كَثرتُكُمْ إذ قال قائلهم لن نغلب اليوم من قلة فاتكل على الكثرة وأغفل ذكر الله عز وجل فعوتبوا على ذلك وعلى الافتخار بالكثرة والعزة بهم
1
على
وقد يكون ذلك من المؤمنين ومن الكافرين كما قال الكافرون و نَحْنُ أَكثرُ أموالاً وَأَولادًا فيستطيل المعجب بالكثرة على الناس ويجترئ على المشاتمة والقتال والضرب لغيره مشكلا كثرتهم لينصروه ويمنعوه ويحمله ذلك على جحد الحقوق والجور والظلم بالاتكال على الكثرة وبالعجب ظلم أكثر من ظلم واستطال
الخذلان
قلت فهم أنفى ذلك قال بمعرفتك بضعفك وضعفهم وأن من لم ينصره الله عزّ وجلَّ فلا ناصر له ومن لم يقه الله عزَّ وجلَّ فلا واقى له وأن الاتكال عليهم دون الاتكال على الله عز وجل يستأهل به صاحبه من الله عز وجل حتى لا ينفعه جمعهم ولا كثرتهم وقد يعجل ذلك له فإن لم بعجل ذلك له لم يختر وتوقع ذلك سريعاً أن لم يُقلها أهل حنين وهم خير عصابة على وجه " الأرض وكيف يقلها العاصي الظالم المسرف على نفسه ۳ وبمعرفته أن الجمع سيتفرق عنه و عنه وأنه سيخلو بنزع الموت وحده ثم يموت فيسلمونه إلى البلى ولا يغنون عنه من الله عزّ وجلَّ شيئا وأن كل من استعان بهم فأعانوه عليه أو استطال أو ظلم بقوتهم أن ذلك كله مثبت عليه محزى به حين يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ومن يعجب بهم جميعا بل يتمى يوم
Yo 4 1
۳ يعنى ينفى ذلك أيضا بمعرفه
٢ أي لم يتجاوز عنها لأهل حنين
۹۳
القيامة إن لم يعفُ الله عز وجل عنه وأنهم فداؤه من النار وأن الشكر عليه فيما أعطاه من كثرة وجعله من أهل الكثرة وأنه إن ضيّع الشكر أغضب الله عز وجل بذلك ولم يغنوا عنه من الله شيئاً ولم يدفعوا عنه ما قدر فى دين ولا دنيا فإذا ألزم قلبه هذه المعرفة زال عنه العجب
بذلك واهتم بالعمل وخاف المقدور واتكل على الرب عزَّ وجلَّ لا على غيره
٢٩٤
قلت فالعجب بالمال ما هو
باب العجب بالمال
قال استكثاره والاتكال عليه حتى يخرج إلى الاستطالة به والافتخار به كما قالوا نَحْنُ أكثر أموالا وأولاداً ويحقر به الفقير ويطلب له الشهوات التي لا تحل ويجترئ به على الظلم ويتعظم على الفقراء ويتقذرهم كما روى عن النبي الله أنه رأى رجلا غنيا قد قبض ثيابه وكفها أن تصيب ثياب رجل فقير إلى جنبه فقال له النبي لا أخشيت أن يعدو فقره على
غناك !
قلت قم ينفى العبد ذلك
قال بمعرفة أنه إنما ابتلى به للفتنة والامتحان وأن الحقوق عليه أكثر وأوجب منها على الفقير وأنه قد عُرض للعطب إلا أن يشكر ربه عزّ وجل فيرحم نفسه من كثرته ويشفق منها ويرى للفقير عليه فضلا إذ أزيلت عنه الفتنة ووجوب كثرة الحقوق عليه من الحج والزكاة والصلة للرحم وإقراء الضيف ومواساة الجار وغيره وقد أشفق الصالحون من كثرتها وأشفق عبد الرحمن بن عوف وخباب وغيرهما من ذلك وقال النبي لا يرويه عنه أبو ذر و ما يسرنى أن لى مثل جبل أحد ذهبا أنفقه فى سبيل الله تأتى عليه ثالثة وعندى منه قيراط أو قيراطان فراراً من الكثرة لمعرفته بها وزهداً فيها وقال عمال الأكثرون هم الأقلون إلا من قال بين عباد الله بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه فإذا ألزم ذلك قلبه حقر نفسه وخاف عليها وعظم الفقير لأنه أقل بلاء منه ألا ترى إلى ما لقى من أخرجه العجب بالكثرة إلى مالا يحل له من ذلك ما وصف الله عز وجل به قارون في نجبره واختياله حين خرج على قومه فى زينته فخسف الله عز وجل به الأرض وقال النبي " بينما رجل يتبختر فى حلة له أو قال في بردين له وقد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة فيخاف ما يؤدى إليه العجب بالمال والزينة من العقوبة فأوضعُ من يرى عنده خير منه إذ لم يبتل بمثل ما ابتلى به ألا ترى إلى حديث أبي ذر قال كنت مع النبي الله فدخل المسجد فقال لى يا أباذر ارفع رأسك
٢٩٥
فانظر أرفع رجل تراه في المسجد فرفعت رأسى فإذا رجل يتبختر في حلة فقلت هذا فقال ه ارفع رأسك فانظر أوضع رجل في المسجد فإذا رجل عليه خلقان له قلت هذا فقال يا أباذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا لأنه ليس يُرفع عنده إلا بالطاعة لا بالمال
وغيره
فإذا ألزم قلبه هذا خاف من كثرة ماله ورأى أن الفقير خير منه وأنه إنما فضل عليه بالبلاء والفتنة وكثرة واجب الحقوق ويعلم أن الله عز وجل قد من عليه بالمال لينظر كيف شكره وأنه لا يعرف أنه شكر الله عز وجل كما يحق له فيشفق من ذلك ويزول عنه العجب
بالمال إن شاء الله
قلت فقد رأيت أكثر العلماء يسمّى من تكبر معجباً ويصف العجب بصفة الكبر قال إن أول بدو الكبر العجب فمن العجب يكون أكثر الكبر فمنه سمى بالكبر ولا يكاد المعجب أن ينجو من الكبر فلما كان العجب هو الذى أخرج إلى الكبر وعنه كان فإنه يسمى به ودلت أخلاق الكبر عليه لأنه قد يستعظم ما أعطى من دين أو دنيا ولا يتعظم به على أحد فذلك العجب إذا نسى منة الله عز وجل بذلك فإذا تعظم به على غيره وأنف منه فحقره فقد تكبر لأنه إذا أعجب بنفسه ولم يحقر غيره كان معجباً ولم يكن متكبراً فإذا أعجب بنفسه ثم نظر إلى غيره وقال في نفسه أنا خير منه محتقراً له مزدرياً به سمى حينئذ الكبر عجباً من أجل أنه هو
أهاجه على الكبر
وليس الكبر هو العجب
كتاب الكبر
باب وصف الكبر وشعبه وشرح وجوهه
قلت وما الكبر ومم يكون قال إن الكبر عظيم الآفات عنه عنه تشعب أكثر البليات يستوجب به من الله عز وجل سرعة العقوبة والغضب لأن الكبر لا يحق إلا لله عز وجل ولا يليق ولا يصلح لمن دونه إذ
كل من سواه عبد مملوك وهو المليك الإله القادر فعظم عند الله عز وجل الكبر ذنباً إذ كان لا يليق بغيره فإذا فعل العبد ما لا يليق إلا بالمولى عز وجل واشتد غضب المولى تعالى عليه ألا ترى ما يروى أبو هريرة عن النبي أنه قال
إن الله عز وجل يقول " الكبرياء ردالى والعظمة إزارى فمن نازعنى فيهما أدخلته نارى فيستحق المتكبر أن يقصمه الله عز وجل ويحقره ويصغره إذ جاز قدره وتعاطى مالا يصلح لمخلوق وكما يروى عن النبي عل الله وعن عمر رضى الله عنه أنه قال من تواضع الله عز وجل رفعه الله هكذا ومن تكبر هكذا وضعه الله هكذا
وعن ابن عباس رضى الله عنه أن النبي الله قال ما من بني آدم أحد إلا وفى رأسه حكمة ١ بيد ملك فإن تواضع لله رفعه الله إلى السماء السابعة وإن أراد أن يرفع نفسه وضعه الله في الأرض السابعة
وعن عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله الله يقول لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر وعن سلمان الأغر عن أبى هريرة عن النبي عل فيما يحكى عن ربه
عز وجل قال الكبر ردائى والعظمة أزارى فمن نازعني أحدهما قذفته في النار وعن كعب ما من عبد إلا وفى رأسه حكمة بيد ملك فإن تواضع رفعه الله وقال انتعش نعشك الله وإن تكبر وضعه وقال اتضع وضعك الله فيستأهل المتكبر أن يضعه الله ويحقره ويصغره في الدنيا والآخرة ألا ترى أن الله عز وجل
۱ ما يحكم به الفرس
۹۹
هذه الشهادة أو التقدير من الإمام الغزالي كان له أثر كبير فى كتاب و الإحياء الذي تضمن
تقريباً كتاب الرعاية وكلمة الشيخ الكوثري رحمه الله سبق أن ذكرناها في المقدمة التي كتبناها لكتاب الرعاية إذ يقول لقد تبطن الإمام الغزالى كتاب الرعاية فى كتابه الإحياء ولكن أثر المحاسبي كان أيضا كبيرا قبل الإمام الغزالى يقول السبكي
زمانه وأستاذ السائرين الجامع بين علمى الباطن والظاهر يقول الشعراني عنه إنه أستاذ أكثر البغداديين
عنه عالم العارفين في
لقد كان رحمة الله عليه أستاذ أكثر البغداديين وعلم العارفين في زمانه وامتد تأثيره إلى الإمام
الغزالي وإلى الصوفية من بعده واستمر هذا التأثير قرنًا فقرنا واستمر تقدير العلماء الصوفية له قرنًا فقرنًا حتى إذا كان القرن الحادي عشر الهجرى وكان المناوى صاحب التأليف الكثيرة المشهورة المعروفة كتب عن المحاسبى فى كتابه الكواكب الدرية يقول المحاسبي البصيري علم العارفين في زمانه وأستاذ السائرين فى أوانه عالم سار بنا فضله وصوفى طار نبله برع في عدة فنون وتكلم على الناس فأراهم الجوهر المكنون وأحيا القلوب بوعظه وشنف الأسماع بدرر لفظه تصانيفه مدونة مسطورة وأقواله محبوبة مشهورة وأحواله مصححة مذكورة وكان الأصول راسحًا راجحا وعن الخوض فى الفضول جانحاً وللمخالفين الزائفين قامعا
في
وناطحا وللمريدين مربيا وناصحاً
قال التيمي هو إمام المسلمين فى الفقه والتصوف والحديث والكلام وقال غيره له المصنفات النافعة الجمة بحيث تبلغ نحو مائتى مؤلف وناهيك برعايته وكتبه في هذه العلوم أصول لمن صنف فيها
قال في الإحياء المجانسي خير الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأعوار العبادات وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه على أن التقدير الذي نحب أن نسجله هنا هو ما كتبه الأستاذ لويس مسينيون عن كتاب ه الرعاية في كتابه مصطلحات التصوف
إن المحاسبي سما فيه بالتحليل النفسى إلى مرتبة لا نجد لها مثيلا في الآداب العالمية إلا نادراً
عبد الحليم محمود
٣٠٠
يقول والملائكة باسطوا أيديهم إلى قوله وكنتم عَنْ آيَاتِهِ تَسْتكبرونَ ۱ ثم قال تعالى لأهل النار ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِرِينَ ثم أخبر عز وجل أن أشد أهل النار عذابا أشدهم عنيًّا ۳ على الله عز وجل وأنهم المتكبرون وتحمل عليهم أوزارهم وأوزار الضعفاء الذين اتبعوهم قال الله عز وجل حين ذكر جناهم حول
جهنم
ثُمَّ لَنَتْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحمن عتيا 4
قيل في التفسير بدأ بالأكابر فالأكابر جُرماً
وقال الله عز وجل فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ثم قال جل قائلاً لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ٥ وقال عز وجل وَقَالَ الَّذِينَ اسْتضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُم لَكنَّا مُؤْمِنِينِ وقال الله عزّ وجلّ يصف به قوم صالح
قال الملأ الذين اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلذينَ اسْتُضْعِفُوا لمن آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَن صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ۱ فأخبر أن المستكبرين هم أهل الجحد لله تعالى والخلاف عليه وأهل الصد عن سبيله للضعفاء وأهل الخلاف على الرسل والأنبياء وقال الله عز وجل
۷
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٧
يعنى صاغرين وكذلك يحشرون وقال ابن عمر يُحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر يتواطأهم الخلائق
فحمل الكبر أكثر العباد على الرد على الله أمره والجحد به وهو إلى المعاصى أقرب وأسرع ولم يجعل الله عز وجل للمتكبرين موضعاً في جواره إنما بجاوره من تواضع لجلالة وهيبته ألا ترى إلى ما يروى عن النبي لا يرويه عنه ابن مسعود أنه قال و لا يدخل الجنة من في
١٦ ٢٥ 0
ve V T
V
41 1 ٢ ٤٠ ٧٦
۳ جرأة
1414 2
٢٠١
قلبه مثقال حبة من خردلة من كبر وذلك قول الله عز وجل
تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُون عُلُوا في الأَرْضِ وَلا فَسَاداً الآية 1 قال ابن جريج علوا تعظماً تكبراً فأخبر أن القليل
منه لا يدخل صاحبه الجنة من
أجله وكفى بذلك بلية ويستأهل أيضاً المتكبر أن يزيل الله عنه النعمة التي تكبر بها لأنه لا يتكبر إلا بنعمة الله عز وجل ومن ذلك حديث خليع بني إسرائيل حين أنف منه عابدهم فحبط أجره وغفر للخليع وتحولت الغمامة على رأس الخليع
ثم مع ذلك إنه يستحق من الله عز وجل ألا يفهمه العلم ولا يفقهه في الدين ومن ذلك قوله عز وجل سَأَصْرِفُ عَنْ آياتي الذينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ
قيل في بعض التفسير سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم وفى بعض التفسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت يعنى عن النظر إلى ما غاب باليقين وما شاهدوا من العبر وكفى بذلك بلاء وخذلانا قال ابن جريج سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا
وروى عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال إنّ الزرع إنما ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا وكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر ألا ترى أنه من شمخ برأسه إلى السقف شجه ومن تطأطأ أظله وأكنه مثل ضربه للمتكبر إنه إن تكبر وضعه الله وأزال عن قلبه فهم الحكمة وإن تواضع أفهمه الله عزّ وجل حكمته ونفعه بها فالمتكبر يتعرض للمقت من الله عز وجل وسرعة المعاجلة بالعقوبة ألا ترى إلى ما يروى أبو عمران الجوني وفي رواية أخرى عن مالك بن دينار أن سليمان عليه السلام أمر الربح فقال ارفعينا فرفعتهم حتى سمعوا زجل الملائكة بالتقديس ثم قال لها اخفضينا فخفضتهم حتى مست أقدامهم البحر فإذا منادٍ ينادى من السماء إن الله عز وجل يقول لو أعلم من قلب صاحبكم مثقال خردلة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته قلت الكبر ما هو ومم يكون وابدأ بما يكون عنه الكبر ومم يتشعب قال الكبر يتشعب من العجب والحقد والحسد والرياء وأصل ذلك من جهل
۸۳ ۷ ۱
۳۰۳
وذلك الأنف
الكبر
وهو من الكبر خلق عظيم شديد عند الله عز وجل قال
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ۱ وقال أيضًا نُفُورًا استكبارًا في الأَرْضِ
عز
ومن ذلك استكبر إبليس على آدم حتى خرج به إلى المعاندة وترك السجود لطاعة ربه وجل وكذلك يروى عن النبي إن إبليس إذا رأى ابن آدم ساجدا قال يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد وأمرت أنا بالمسجود فلم أسجد وقد كان الأنف من الركوع عند العرب قديماً يأنفون منه من أجل التحنية لأن التحنية عندهم قبل أن يبعث النبي كانت ضعة يأنفون منها ومن ذلك قول حكيم بن حزام با يعث النبي علي الا الله أن لا أخر إلا قائماً فبايعه التي على ذلك ثم فقه بعد رحمه الله وقال أبو سفيان يا معشر قريش إن الله لا يصنع بتحنيتكم شيئاً وذلك عندهم قديماً يأنفون منه يعرف ذلك منهم ويعرفونه من أنفسهم حتى إن كان أحدهم ليقع منه الشيء فيدعه ولا يأخذه يأبى أن يخر له ومن الناس اليوم من تنقطع نعله فتقع فيأنف أن ينكس فيأخذها أنفاً أن يحنى فينكس لأخذها فأنفوا من السجود إذ كان عندهم ضعةً من أجل التحنية ومن ذلك ما يروى عن حبيب عن يحيي ابن جعدة قال من وضع جبهته الله ساجدا فقد برئ من الكبر يعنى الكبر بينه وبين ربه عز وجل
وقد يجامع هذا الباب من الكبر بينه وبين ربه الرد على الرسل فيرد أمره ويعانده ويخالفه في أمره فأنفوا أن يتبعوا الرسل عليهم السلام ويكونوا لهم أتباعاً فعاندوا الله عز وجل في أمره
وردوا كتابه وجحدوا حجته ومن ذلك قولهم
أنؤمن البشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون
وقال ولكن أطعتم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إذن لَخَاسِرُونَ فأنفوا أن يكونوا تبعاً لمن هو مثلهم في الحلقة وقالوا
لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا
قال الله عز وجل لقد اسْتَكْبَرُوا في أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوا كَبِيرًا وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكَ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا وقالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كثر أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكَ وَقَالَ فِرْعَون
ر أو جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرنين
٢٥ ٦٠ ۱
٣٠٤
وقال الله عز وجل واسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ 1 فأنف أن يكون عبد الله عز وجل يعبده حتى ادعى الربوبية وقال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك الجنة ولك ملكك قال حتى أشاور هامان فشاوره وأخبره بما قال له موسى عليه السلام قال له بينما أنت رب تعبدُ إذ صرت عبداً تعبدُ !! فأبى حينئذ إلا المعاندة لموسى عليه السلام واستكبروا أن يخضعوا لبشر مثلهم وأرادوا أن يبعث إليهم من هو أعظم منهم وأظهر فى الخلقة استكبارا كما قال الله عز وجل لقد استكبروا في أَنْفُسهمْ
ومنه أيضًا حقريتهم لمن اتبع الرسل أن لا يكونوا مثلهم ولا يدخلوا في مشاركتهم وقالوا
لنوع وما نراك اتبعك إلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلْنَا بَادِيَ الرَّأْى
قال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضى الله عنه بادى الرأي ما ظهر فقال لهم يخبر وأنه ليس بالظاهر يصغر العباد عند الله فقال
منه
أنهم يأنفون من ولا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنَكُمْ لن يُوتِيَهُم الله خيرًا الله أعلم بما في أَنْفُسِهِمْ فأخبر أنهم از دروهم كبرا واستعظاماً عليهم فلم يتبعوه وردُّوا على الله عز وجل وكذبوا
رسله وجحدوا بآياته
وقالت قريش لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآن عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٌ قال قتادة هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفى يريدون أن يتبعوا من هو أعظم في الرياسة والدنيا من النبي لأنهم قالوا غلام يتم بعثه الله إلينا قال الله عز وجل أَهُمْ يَقْسِمُون رَحْمَةَ رَبِّكَ
وقالوا - ازدراء لمن اتبعه - لو كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ أى إنا أكبر منهم وأحق بالخير أن نوتاه منهم ومنها قول قارون إنما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ۳ عِنْدِي فرأوا بما يعتقدون من ارتفاعهم عليهم قبل أن يبعث الرسول الله أنهم أحق أن يُخَصُّوا
۷۸ ۸ ۳
۳۹ ۸ ۱
۳ ۱۳
٣٠٥
بالخير وأنهم من حقريتهم لهم لا يستحقون أن يُخصوا بالخير من بينهم قال الله عزّ وجلَّ لِيَقُولُوا أَهؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنَنَا استكباراً من أجل حقرينهم لهم وتعظمهم عليهم فردوا على الله عزّ وجلَّ أمره وخالفوا رسول الله استكبارا وأنها حتى جحد كثير من أهل الكتاب الحق وهم يعلمون أنه الحق كبرا وأنها ومن ذلك قول الله عز وجل
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا
وقال عز وجل وَجَحَدُوا بِهَا وَاستيقنتها أَنفُسُهُمْ ٢
وقد اختلف في تفسير ذلك ثم أخبر الله عزّ وجلَّ ما الذي حملهم على ذلك فقال ظُلْمًا وَعُلُوا
أرادوا العلو وهم ظالمون في ذلك ألا ترى أنه يقول تلك الدار الآخرَةُ نَجْعَلُها للذين لا يُرِيدُونَ علوا في الأَرْضِ وَلا فَسَادًا والعَاقِبَةُ
للمتقين ۳
وقالت قريش يا محمد يجلس إليك عبيدنا في قصة طويلة فأنزل الله عز وجل ولا تَطْرُدِ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغَداة وَالْعَشى يُريدُون وَجهُهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
إلى قوله أهولاء مَنَّ الله عَلَيْهِمْ مِن بَيْنَنَا 4
وَقَالَ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ ٥ الدُّنْيا
يقول تريد رفعة في الدنيا وقالوا حين دخلوا جهنم يخبرنا الله عزّ وجلَّ عنهم أنهم سيقولون
ذلك
مالنا لا نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ
يخبرون عن أنفسهم أنهم كانوا يحقرونهم ويزدرونهم قيل أبو جهل يعنى بقوله عمارا
وبلالا وصهيباً والمقداد رحمهم الله عز وجل
وأما الوجه الآخر من الكبر الذي بين العباد فهو التعظم عليهم
٤ ٢ ٥٣
۸ ۱۸ ۰
۸۹ ۱
1 TV T
۸۳ ۸ ۳
٣٠٦
قلت ما حقيقة التعظم عليهم قال خصلتان
إحداهما الحقرية لهم والأنفة منهم وذلك أنه يرى أنه خير منهم فهو ينظر إليهم بالازدراء
والحقرية لهم
والخصلة الثانية ردُّ الحق عليهم أن يقبله منهم وهو يعلم أنه حق إن أمره بعضهم بخير أو نهاه عن منكر أو ناظره في دين فيرد الحق وهو يعلم كما وصف الله عزّ وجلَّ عن بني إسرائيل قال
وَجَحَدُوا بها واستيقنتها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعَلوا وقال فَلمَّا جَاءَهُم مَاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فإن ناظر أحدا كان همته الغلبة والرد وترك الفهم أنفًا وتعززا أن يتعلم من غيره وحقرية
له وحباً للغلبة كما وصف الله عزّ وجلَّ عن الجاحدين فقال عزَّ وجلَّ
وَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرآنِ وَالْغُوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ٢ فإن أمره بخير أنف وأخذته العزة فرد الحق بالغضب استعزازاً للكبر الذي في قلبه ألم
تسمع إلى قوله عز وجل وإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّه أَخَذَتْهُ العِزة بالإثم ۳ وروى عن عمر أنه قرأها فقال إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ قام رجل فأمر بالمعروف فقتل
وقال
وَيَقْتُلُونَ الذين يأمرونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاس
فيقتل المتكبر من أمره ومن خالفه كبرا ألا تسمع إلى قول الله عز وجل وَإِذا بَطَشْتُم بَطَتُم جبارين 4 وقال عبد الله بن مسعود كفى بالرجل إنما إذا قيل له اتق الله قال عليك نفسك أنت تأمرنى قال النبي الله الرجل كل بيمينك قال لا أستطيع فقال النبي و لا استطعت ما منعك إلا الكبر قال فما رفعها بعد ذلك إلى فيه رواه عنه سلمة بن
الأكوع فمن رأى نفسه أنه خير من غيره مزدرياً به حاقرا له أو رد حقا وهو يعلم أنه حق فقد
٢٦ ۳
۱۳۰ ۹ ٤
١٤ ۷ ۱
٢ ٢٦٤١
۳۰۷
تكبر بينه وبين الخلق وقد يؤول به هذا الكبر بينه وبين الخلق إلى أن يتكبر بينه وبين الله عز وجل كما فعل إبليس قال ابن عجلان مازاد إبليس على أن قال أنا خير منه فلما رأى أنه خير منه أنف أن يسجد له وقد علم أن ذلك مهلكة إذ رد على الله عز وجل أمره وعانده بقوله لا أسجد أبيًّا على الله عز وجل معاندا الله سبحانه للأنف إذ رأى أنه خير من آدم لأنه عند نفسه كان خير أصل من آدم عليه السلام لأن أصله النار وأصل آدم عليه السلام الطين والنار أقوى من الطين لأنها تأكل الطين قال ذلك جهلا بالله عز وجل وأنفا من آدم عليه السلام فأخرجه الكبر على آدم إلى أن رد على رب العالمين عز وجل فكفر بذلك فجعله لعينا ملعنا ويجمع ذلك كله قول المصطفى حين سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال يا رسول الله إلى أمرؤ قد حبب إلى من الجمال ما ترى أفمن الكبر هو قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس يعنى ازدراء الناس وفي حديث آخر مَن سَفَهَ الحق وغمض الناس يعنى ازدراء الناس وحقرهم فمن تعظم وأنف أن يقبل عنا وجل أمره وأن يذل ويخضع لطاعته فقد تكبر بينه وبين ربه جل وعلا ومن رأى أنه خير من أخيه حقرية له وازدراء به أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر بينه وبين العباد فأصل الكبر التعظم وحقيقته الأنف وازدراء العباد ورد الحق بعد علم به فذلك جماع الكبر
الله
عز
٣٠٨
باب الكبر عن العجب وتفسير الكبر بالعلم
قلت ما الكبر الذى يكون عن العجب قال الكبر الذى يكون عن العجب فى الدين بالعلم والعمل فإذا كان من قبل العلم فإن العالم إذا أعجب بعلمه أخرجه عجبه إلى الكبر تعظمها على العباد فيتكبر على العوام وإن كان بعضهم أتقى الله عزّ وجلَّ منه وذلك الذي خافه عمر رضى الله عنه على العلماء حين قال تواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم عند الله يجهلكم أي لا يزكو عند الله إذا تكبرتم به
فإذا تكبر العالم بعلمه حقر من دونه فى العلم وازدراه وأقصاه وأبعده واستذله وانتهره واستخدمه وامتن عليه بما يعلمه وتعظم على العوام وانقبض عنهم ليبدءوه بالسلام ويتسخرهم ويغضب عليهم إن استخف بشيء من حقه أو لم تقض له حوائجه كبرا لأنه يرى أنه يستحق ذلك منهم وأن ذلك له عليهم واجب لازم لعظم قدر نفسه عنده وإن حاج أو ناظر أحدا منهم رد الحق على علم وإن وعظ عنف وإن وعظ عنف تعزرا من التعظم والكبر
وكذلك روى معاذ عن النبي لعل الله أنه قال ومن العلماء من إِن وَعظ عنف وإن وعظ عَنف أن استخف بشي من حقه أو رُدَّ عليه بعض قوله - ووصف في هذا الحديث أن
ويغضب
العلماء
6
سبع طبقات – لأنه فوقهم وهم دونه تعظما وأنفا أن يقبل منهم إن أمروه أو علموه أو وعظوه ويأنف أن يرفق بهم إن علمهم أو وعظهم أنفا أن يكلمهم بالسوية لأنهم عنده ليسوا مثله محتقرا لمن دونه فى التقى ولمن فوقه في التقى وينظر إليهم كأنهم الحمير التي لا تعقل لا يرى أن أحدًا ا منهم ينفعه علمه وإن نفعه فهو حقير عنده كل ذلك جهلا بالله عز وجل وهم أعلم بالله تعالى منه لأنهم أخوف الله تعالى منه لأنهم ينظرون إليه بالتعظيم وهو ينظر إليهم بالازدراء بهم فهو الوضيع وهم الرفعاء المتواضعون لأن الله عز وجل يضع ويحقر من تكبر ويرفع من تواضع له فيتكبر عليهم حقرية لهم يفتخر عليهم بعلمه ويعيرهم يجهلهم مضيعًا لحقوقهم فهو مزدربهم ممتن عليهم إن علمهم فهو جبار في علمه غير متواضع الله عز وجل
۳۰۹
ومنهم من يتقى بعض هذه الخلال ويتكبر ببعضها فمن أوتى من العلم شيئًا فقد يعترض له النعظم على من دونه ومنهم من يتكبر بغاية الكبر فى علمه ومنهم من يتواضع في خلق ويتكبر في آخر على قدر عقله عن ربه عز وجل وقدر معرفته بالحجة عليه الله عز وجل في علمه قلت العلم يزيد العبد تواضعا فقد زاده العلم كبرا وجهلا
قال إن العلم كما قال وهب العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فتزداد المرة مرارة وتزداد الحلوة حلاوة ويكثر ماؤها بالحلاوة ويكثر ماء المرة بالمرارة فكذلك العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها فيزيد المتكبر كبرًا لأن من كانت همته الكبر فهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا وإذا كان الرجل جاهلا وهو يخاف من الله عزّ وجل ويعلم أن حجة الله تعالى له لازمة وإن كان جاهلا فإذا حفظ العلم وفهمه ازداد خوفا ووجعا كما قال معاذ و من ازداد علما ازداد وجعاً فإذا ازداد وجعاً لعظم الحجة عليه لما علمه الله عز وجل ازداد ذلا وتواضعا وإشفاقاً وخوفًا وإذا كانت همته وهواه الدنيا والتعظيم ازداد بالعلم كبرا وأنها وحقرية لمن دونه وردا على من مثله ومن فوقه كبرًا وأنفا وحبا للغلبة
قلت فما يعترض للعامل سواء أكان عالماً أو لم يكن عالماً قال يحقر من دونه ممن لا يعمل مثل عمله سواء أكان أعلم منه أو أجهل منه إن كان أجهل منه قال في نفسه مضيّع جاهل وإن كان أعلم منه قال في نفسه الحجة عليه عظيمة وهو مضيع للعمل ويحقر من دونه فى العمل وينظر إليهم بالازدراء أو يتعظم عليهم وينقبض عنهم ليبدءوه بالسلام فلا يبدأهم ويبروه ولا يبرهم ويزورونه ولا يزورهم ويعودونه ولا يعودهم يريد أن يأخذ بفضله عليهم وينتهرهم ويستخدم من خالط منهم ويسخرهم ويأنف إن وعظوه لأنه فوقهم في العمل وهم مضيعون مفرطون فإن بدأ أحدا بالسلام أو رد عليه أو قاومه أو داخله أو أجابه إلى دعوته أو أنس به رأى أنه قد صنع إليهم معروفًا وأنه قد فعل بهم مالا يستحقونه من مثله ولكن يفعل ذلك عنده بفضله عليهم فقد تفضل عليهم بذلك عند نفسه وينظر إليهم بالاستصغار وإلى نفسه بالتعظيم ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ويخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه بل لا يكاد إذا رآهم أو ذكرهم أن يذكر الخوف على نفسه ولا يذكر إلا الخوف عليهم يرى أنهم هالكون كأنه قد أتاه من الله عز وجل الأمان بأنه لا يعذبه وذلك هو الهلاك منه
مهم
الدكتور عبد الحليم محمود
الت الحقوق الله
لأبي عبد الله الحَارِثِ المَحَاسِبُى
الطبع
ة الثالثة
دار المعارف
العالية الحقوق الله
للحارث المحاسبي
أكثر
ألا ترى إلى قول النبي إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم يرويه عنه أبو هريرة وصدق الله لأنه متكبر مزدر بالخلق مغتر بالله عز وجل آمن غير خائف فأخرجه كبره وحقريته إلى هذه الأخلاق المذمومة عند الله عز وجل وكذلك قال النبي كفى بالرجل من الشر أن يحقر أخاه المسلم لأن الحقرية لهم أخرجته إلى هذا كله وإلى غيره مما يطول ذكره فإذا نظر إليهم بالاستصغار وخاف عليهم مما يخاف على نفسه ورجا لنفسه أكثر مما يرجو لهم وينظرون إليه بالتعظيم وإلى أنفسهم بالاستصغار وخافوا على أنفسهم أكثر مما يخافون عليه بل يظنون أنه ناج وأنهم هالكون ورجوا له أكثر مما يرجون لهم كانوا هم أعبد الله عز وجل وأطوع فيه منه فيهم فقد تعرض للمقت من الله عز وجل وحبط الأجر فى الآخرة واستحق أن يسلبه الله عز وجل ما تكبر به عليهم من العمل وقد تعرضوا هم للرحمة من الله عزّ وجلَّ بتواضعهم وحبهم له واستصغار أنفسهم وتعظيمهم له لأنه يأنف من مجالستهم والكينونة معهم وهم يتقربون إلى الله بقربه والدنو منه ولولا حب الله عز وجل وتعظيمه ما أحبوه ولا عظموه فقد عظموه وأحبوه الحب الله عز وجل ورجاء القربة من الله عز وجل به فقد تعرضوا للرحمة والمغفرة وأن ينقلهم الله عزَّ وجلَّ إلى مقامه في العبادة والاجتهاد وقد تعرض هو الحبط عمله وأن ينقله إلى شر الأحوال إذ تكبر بما من الله عز وجل عليه به من العمل وحقر عباده وأنف منهم واغتر بالله عز وجل وجعل الخوف منه عليهم ونسى نفسه أن يكون عليها أخوف وأشفق فلا يؤْمَنُ ذلك عليه كما روى عن الشعبي وروى أيضًا عن أبى الجلد بن أيوب أن رجلا من بني إسرائيل كان يقال له خليع بني إسرائيل فمر الخليع بالعابد وعلى رأسه غمامة تظلله فقال الخليع في نفسه أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بنى إسرائيل فلو جلست إليه لعل الله أن يرحمني به فجلس إليه فقال العابد في نفسه أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع بني إسرائيل يجلس إلى فأنف منه وقال له قم عنى فأوحى الله عز وجل إلى نبى ذلك الزمان مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد
وفي حديث آخر و فتحولت الغمامة على رأس الخليع " وإنما أراد الله عز وجل من عباده قلوبهم فتكون جوارحهم تبعا لقلوبهم فإذا تكبر العالم أو العابد وأنف وتواضع الجاهل أو العاصى وذل هيبة الله عز وجل وفرقا منه فهو أطوع الله عز وجل من العابد والعالم بقلبه فى ذلك المعنى ومنه الحديث أن رجلا من بني إسرائيل أتى عابداً
۳۱۱
من بني إسرائيل فوطى على رقبته وهو ساجد فقال ارفع رأسك فقال له العابد فوالله لا يغفر الله لك فأوحى الله إليه أيُّها المتألى على بل أنت لا يغفر الله لك لأنه إنما تألى على الله عز وجل ألا يغفر له لعظم قدر نفسه عنده وأن الإساءة إليه عند الله عز وجل عظيمة لا يغفرها الله لعبادته وسجوده لأنه عند نفسه أنه عظيم القدر عند الله عز وجل فجمع وكبرا واغترارا بالله عز وجل
عجبا
وكذلك المتكبر المزدرى للعباد كأنه الناجي من بينهم كما يروى أن رجلا ذكر للنبي فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرنا لك فقال إنى أرى في وجهه شعفة من الشيطان فسلم ووقف على النبي الله وأصحابه فقال له النبي و أسألك بالله حَدَّثتك نفسك أنه ليس فى القوم أفضل منك فقال اللهم نعم فيرى كأنه الناجي من بينهم لفضله عليهم مشمئرا ينقبض عنهم كأنه يمن عليهم بعمله كما قال الحرث بن جرير الزبيرى صاحب النبي عل الله " يعجبنى من القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعمله فلا أكثر الله فى المسلمين مثل هذا ولو كان الله عز وجل يرضى هذا من أحد ما قال لنبيه ع
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وقال تعالى
فَيمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهُ لِنتَ لَهُمْ وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۱
ووصف أولياءه الذين يحبونه ويحبهم فقال
أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِين أَعزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ ٢
فلا قَدْرَ عند الله عز وجل لمن تكبر على عباده عابدا كان أو عالماً
ومن العباد قوم ضلال قد جمعوا إلى الضلال الكبر لا يرون أن أحدا يقول الحق على الله عز وجل غيرهم وأنه لا مهتد فى الأرض غيرهم وهم الذين يقولون إن القرآن مخلوق وهم الذين يقولون بالوقف والذين يقولون باللفظ والذين يكذبون بالقدر والذين ينكرون أن الله عز وجل يرى في الآخرة والذين يُغلطون الموازين ومنهم الرافضة ۳ والمرجئة
۳ الرافضة هم الشيعة
۱۰۹ ۳ ۱
٢ ٥٤٥
۳۱
والحرورية ۱ والذين يكذبون بالشفاعة ويشتمون أصحاب رسول الله والذين يشتمون عائشة أم المؤمنين المبرأة من الإفك رحمها الله ولولا ما أكره أن يطول الكتاب بذكرهم لذكرتهم فكل هذه الفرق آبقة جائرة عن الطريق لا يرون أحدا يقول بالحق وأنه لا مهتد فى الأرض غيرهم جهلا بالله عز وجل وتكبرا على عباده كما روى العباس رضى الله عنه عن النبي أنه قال يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ثم التفت النبي إلى أصحابه فقال و أولئك منكم أيُّها الأمة أولئك هم وقود النار
1 الحرورية هم الخوارج
۳۱۳
باب ما يكون من الكبر عن الرياء وما يورث من الأعمال المذمومة
قلت فما يكون منه عن الرياء
قال يرد الحق على من ناظره أو أمره وإن كان عند نفسه دونه أو خيرا منه فيرد الحق أنها أن يخطأ فتتضع منزلته أو يقال فلان غلب فلانا أو خطأه أو قهره فيخرجه الرياء إلى أخلاق الكبر وإن كان يعلم في قلبه أن الذى ناظره أو أمره خير منه ولكن يظهر الأنفة والتعزز رياة لا كبرا من قلبه قلت ما الذى يخرج إليه الحقد من الكبر قال يأنف أن يستحل ممن حقد عليه إن ظلمه أو سبه أو صارمه أنفًا أن يبدأه بالسلام ويرد عليه الحق عداوة وحقدًا ألا يـ أنه براه قبل منه أو يرى ذلك أحد منه فيحمله الحقد والعداوة على أن يستعمل الكبر في رد الحق أو يؤدى حقه فما كان من الرياء والحقد فقد يتخلق بأخلاق الكبر وهو يعلم أنه دون من يرائيه ومن حقد
عليه وعاداه
إلا أن العجب هو الذي يكون عنه الكبر بالقلب فيأنف ويرى أنه خير ممن لم يؤت مثل
ما أوتى يزدريه ويجمع ذلك الدين والدنيا من العلم والعمل فكلما فضل بنعمة على غيره أعجب بها وتكبر جهلا وتضييعاً للشكر فلا يأْمَنِ النَّسَاءُ ذلك على أنفسهم لأن العجب والكبر إنما يعترى من قبل النعم فكلما كثرت النعمة وعظمت كان العجب والكبر إليها أسرع ولا سيما ما بان منه على العامة بعلم أو عمل كان الكبر إليها أسرع ألا ترى إلى ما رواه ابن بريدة عن ابن عباس أن عمر قال و ما زال يعرف في طلحة بأواة منذ أصيب إصبعه مع رسول الله الله يوم أحد والبأواءُ عند العرب هو الكبر وكذلك يروى
عنه ابن عباس حديث حميد بن عبد الرحمن عن ابن عباس أن عمر رضوان الله عليه قال وقال له ابن عباس أين والبأواء عند العرب هو الكبر وكذلك يروى عنه ابن عباس حديث حميد بن عبد الرحمن عن ابن عباس أن عمر رضوان الله عليه قال وقال له ابن عباس أين أنت عن طلحة قال ذاك رجل به نحوة وعدهم واحدًا واحدا وذلك أن طلحة
يوم أحد
٣١٤
بان على أصحاب رسول الله الله إذ وقى رسول الله له بنفسه حتى ضربت كفه ليتخلى عن النبي فجذب إصبعه تحت قدمه ثم أكب على رسول الله الله فأخبره عمر أنها عرفت فيه بعد ذلك وما بلغنا أن ذلك أخرجه إلى حقرية مسلم بحق يعرفه ولكن إذا كان الأخيار لا يعرون
منه فنحن المساكين أولى أن نحذره فى كل حال وإلا هلكنا إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم و لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال خردلة من كبر
كذلك فيما يظهر من اللباس إن لبس الرجل الصوف يتكبر به على من هو دونه في اللباس ألا ترى إلى قول الحسن حتى إنَّ صاحب الصوف أشد كبرًا من صاحب مطرف الخز في خزة وصدق رحمة الله إنما يتكبر لابس الخز على من دونه من أهل الدنيا ويتواضع لأهل الدين والذي يلبس الصوف على الدين قد يتكبر على صاحب الخز وصاحب الخز إذا رآه عرف له الفضل عليه وذل فى نفسه له لما يرى عليه من لباس الصالحين وآثار الزاهدين في الدنيا فالعجب والكبر لا يأمنهما عاقل على حال فكل مابان به العبد على غيره كانت الفتنة إليه
ذلك أن أسرع ومن تميما الدارى أستاذن عمر فى القصص فأبى أن يأذن له وقال له إنه
الذبح واستأذنه رجل كان إمام قومه أنه إذا صلى وسلم من صلاته ذكرهم فدعا بدعوات فأبى أن يأذن له وقال إنى أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا فخشي عليه الكبر وصلى حذيفة بقومه فلما سلم قال لتلتمسنَّ إماماً غيرى أو تصلون وحدانا وقيل في حديث آخر إنه قال إنى أنه رأيت في نفسي في القوم أفضل منى فما أقل من يُخص بنعمة يبين بها على غيره إلا غلب عليه الكبر إلا من قواه الله عز وجل وسدده و بالله عز وجل الاعتصام
ليس
٣١٥
باب الكبر بالدنيا
قلت قد وصفت الكبر بالدين فما الكبر بالدنيا
قال الكبر بالدنيا الكبر بالحسب والجمال والقوة والمال وكثرة العدد فأما الكبر بالحسب فإذا تعظم بحسبه حقر من دونه فى الحسب وإن كان أفضل منه عملا حتى يبلغ التكبر ببعضهم إلى أن يرى أن العامة له خول كالعبيد ويأنف أن يخالطهم ويفتخر عليهم ويعيرهم عند الغضب وقد يعترى ذلك الرجل الصالح إذا كان حسيبا عند غضبه ومن ذلك ما يروى عن أبي ذر أنه قال قاولت رجلا عند النبي فقلت له يا بن السوداء فقال النبي
يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل وذلك أنه رآه خيرًا منه بأن كانت أمه سوداء وأم أبي ذر بيضاء وقول النبي إنه ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل يدل أنه رأى أنه خير منه فتعظم عليه قال
أبو ذر فاضطجعت ثم قلت للرجل قم فطأ عَلَى خدى ليذل بدلا مما قال له فقد يعترى ذلك الرجل الصالح عند غضبه وعند غفلته لمن دونه في الحسب حتى يغتابه ويذكره بحسبه يضعه بذلك ويتنقصه بذلك كقول الرجل خوزي وسندي ونبطى ينقصه بذلك وقد يعيره بذلك ويفتخر عليه مع التعيير فيقول أنا خير منك وأكرم أصلا وأنا ابن فلان ابن فلان ومن ولد فلان من أ أنت ومن أبوك وإنما أنت كذا وكذا ويقول له تجترئ أن تكلمني أو مثلك ينظر إلى أو مثلك يضع نفسه معى ومن ذلك ما يروى أن رجلين تفاخرا عند النبي علل الله فقال أحدهما للآخر و أنا فلان ابن فلان فمن أنت لا أم لك فقال النبي
افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان ابن فلان حتى عد تسعة فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن قل للذي افتخر بآبائه تسعة من أهل النار أنت عاشرهم ومن ذلك قول النبي الله ليد عن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في جهنم أو ليكونُنَّ أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تذوق بآنافها القذر
٣١٦
خلقه
ومن ذلك قوله إن الله عز وجل قد وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية فلا تفاخروا وكذلك التكبر بالجمال يحقر من دونه ويعيره ويقبحه ويفتخر عليه ويعيبه من
ومن ذلك ما يروى أن أم المؤمنين عائشة قالت دخلت امرأة على النبي فقلت
بيدى هكذا فقال لى النبي اغتبتها فيعيب من دونه في الجمال ويسخر منه ويحكيه
وكذلك القوة يتكبر بها ويحقر الضعيف ويعيره بضعفه ويفتخر عليه بقوته ويستطيل عليه لضعفه
وكذلك المال يستطيل به ويفتخر به ويغتر به ويتبختر بالزينة في لباسه بطرًا وكبرا ومرحا بكثرة ماله ولباسه ومن ذلك ما وصف الله عز وجل عن قارون فقال عز وجل فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ فقال قوم يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إلى قوله تعالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وكذلك الكبر بالولد والخدم والعشيرة يتكبر بهم ويستطيل بهم ويحقر من قلت عشيرته أو قل مواليه أو عبيده وذلك كله مبدأه العُجب ثم يصير كبرا
قلت قد أراك تسمى الكبر بما تسمى به العجب فما الفرق بينهما في الدين والدنيا قال أما في الدين فقد يعجب بعمله فيحمد نفسه عليه وينسى منة ربه بذلك ولا يتكبر على أحد وربما أخرجه العجب إلى أن يرى أنه خير من غيره فيحقره ويزدريه ويأنف فيكون حينئذ متكبرا معجباً وأما بأمر الدنيا فقد يعجب بجماله أو ماله أو حسبه أو قوته ولا يتكبر وما أقل ما ينفرد العجب بالدنيا دون أن يُخرج صاحبه إلى الكبر والمرح والخيلاء ألا ترى إلى قول النبي بينما رجل يتبختر في بردين له قد أعجبته نفسه فوصفه بالعجب في تبختره وخيلائه
منه
فيجمع المتكبر بالدين والدنيا خصالا يبغضها الله عز وجل حب العلو والأنف من الخضوع للحق والنفور من قبول الصواب ممن هو دونه فلا يكلم من دونه إلا بالذبر ولا ينظر إليهم لا شزراً ينظر إليهم بالاحتقار ويجاورهم بالاستصغار
۳۱۷
باب نفى الكبر وتعريف العبد قدرة
قلت فيم ينفى العبد الكبر
قال بمعرفته بقدره في الدين والدنيا
قلت فيم يعرف قدره
قال يعرف قدره بمعرفته ببدايته وحياته وعاقبته
أما
بدايته فقد مضت الدهور ولم يكن فيها شيئًا مذكورًا وأوجده الله عز وجل بعد العدم إذ فأوجده الله عزّ وجلَّ ميتا وبدأه بموته قبل حياته لأنه خلقه من تراب
لم يكن شيئًا مذكورًا ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مُضغة ثم جعله عظماً ثم كسا العظام لحما فبدأه بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته ويجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه و بیگمه قبل نطقه ويجوعه قبل شبعه وبعريه قبل ستره وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل
غناه
ثم أحياه بعد ما كان مينا وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعد ما كان لا بـ بصر له وقواه بعد أن كان ضعيفًا وعلمه بعد أن كان جاهلا وأغناه بعد أن كان فقيرا وأشبعه بعد أن كان جائعاً وكساه بعد أن كان عاريًا وهداه بعد أن كان ضالا فابتدأه بهذه الأحوال الدنيا ثم نقله إلى هذه الأحوال الرفيعة فصار موجودًا بعد العدم وحيا بعد الموت وناطقا بعد الخرس وسميعاً بعد الصمم وبصيرا بعد العمى وقويًّا بعد الضعف وغنيا بعد الفقر ومهتديا بعد الضلالة
فالأحوال الأولى ابتدأه بها يعرفه بها نفسه ليشهد عليها بالذلة والضعف والقلة والحاجة والمسكنة ليعرف بذلك صغر قدره ولتردعه معرفة ذلك عن الكبر والفخر والبطر والخيلاء والعجب بنفسه فما بدأه من صغر القدر وضعة المنازل عليه فيها من الله عز وجل نعمة سابغة إذ عرف بها نفسه فردعه ذلك أن يجوز قدرها وحجزه – إن عقل – عن الكبر والفخر والبطر
والنعمة الثانية عليه من الله عزّ وجلَّ سابغة إذ عرف بها ربه الذي نقله من الأحوال الدنية
۳۱۹
والبزاق في فمه والوسخ في أذنيه ثم النتن والأقذار تسرع إليه إن تهاون بنفسه أن يغسلها أو ينظفها صار أنتن من الدواب ووكلت به الأمراض والطبائع المختلفة المتضادة لا تفارقه من المرة والبلغم والريح والدم وهو مع ذلك عبد ذليل أمره إلى غيره يجوع كرها مقهورا و يعيش كرها مقهوراً ويغلبه النوم كرها مقهوراً لا يملك لنفسه فى ذلك ضرا ولا نفعا يُغلب في المكروهات يريد من نفسه ما لا يقدر يريد أن لا يجوع ولا يعطش ولا يظمأ ولا يمرض فينزل به من ذلك خلافُ مراده ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ینسی
فيذكره
و
الشيء
ثم هو مع ذلك لا يأمن أن يكون تلفه فيما يريد ويحب ولعله يكون تلفه في شبعه أو نومه
فلا يقوم منه
سمعه وبصره وجميع
عبد مملوك ذليل يقلبه غيره ولا يأمن في ليله ونهاره أن يُسلب جوارحه وعقله أو بعض ذلك حتى يرد إلى بعض أحواله في بداءته من العمى أو الصمم أو البكم أو الجهل حتى يذهب عقله وقد رأى الله عز وجل فعل ذلك بكثير من خلقه ثم هو مع ذلك لا يضمر بقلبه ولا يحرك جارحة من جوارحه ولا يكتسب ولا ينفق ولا يأكل ولا يشرب إلا وعليه من يحصى ذلك كله عليه حتى يحاسب به وينظر فيه
ثم هو مع ذلك لا يأمن أن يسلب ملكه فعليه في ملكه مالك وليس هو لنفسه بمالك
6
ولا على ما أراد فيها بقادر وهو مع ذلك مخالف لمالكه ومولاه غير شاكر له وناس غير ذاكر
منه
منه
له وقد ركب كثيرًا مما قد نهاه عنه وضيّع كثيرًا مما أمره به قد استوجب بذلك من العذاب ما إن لم يُعف عنه كانت الخنازير والكلاب خيراً وأفضل وأنظف وأطهر وأطيب وأرفع لأن الخنازير والكلاب تصير ترابًا وهو يصير معذبًا أبداً لو وجد الخلائق نتن ريحه لماتوا من نتنه ولو رأوه لصعقوا من وحشة خلقته ولو قطرت قطرة من شرابه – الذي يشربه ويفزع إليه ليسكن به عطشه - على جبال الدنيا لأذابتها مخلد في غاية الذل والخضوع والمسكنة والهوان
والعذاب
فمن هو فى الدنيا بهذا الوصف وأعظم منه قد وجب في رقبته واستحقه وحكم عليه به كيف يكون ذله وتواضعه كيف ينبغى لمن كان هذا الوصف قد وجب عليه أن يتقلب بين العباد وهل هذا إن عقل أن يكون في نفسه ذليلا مهينا أرأيت من وجب عليه حكم ألف سوط وهو في سجن ينتظر أن يخرج إلى العرض فيمضى فيه من الضرب ما قد حكم عليه به كيف ذلته في
يمتنع
انترال
rc
وصلى الله على محمد وآله وسلم وبالله أستعين الحمد لله حق حمده قال أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي رحمه الله
الحمد لله قبل كل مقال وأمام كل رغبة وسؤال فكل أمر مهم ذى بال لم يُبدأ فيه محمد الله وذكره فهو أقطع من القول غير ذى اتصال وكذلك يروى عن النبي فالحمد لله الأول القديم الذى لم يزل ولا يستحق هذا الوصف غيره ولا يليق بسواه لم يزل واحدا لا شيء معه ثم ابتدأ خلق الأشياء لا من شيء كان معه قديما فاخترع الأشياء وأنشأها وقدَّرها كما أراد فليس له شريك فى الملك وكل شيء له مملوك بدأنا منه بالنعم تفضلا وبالأيادى التى لا تحصى كرماً وجودًا فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وإياه نستهدى وبه نستعين وعليه نتوكل وصلى الله على محمد نبيه
لأنه
وعلى آله وسلم ثم على أثر ذلك فإني قد فهمت جميع ما سألت عنه وقد أحببت قبل جوابي إياك عما سألت عنه أن أحضك على حسن الاستماع لتدرك به الفهم عن الله عز وجل في كل ما دعاك إليه فقدم حسن الاستماع منك لما أجبتك به لعل الله عز وجل أن ينفعك بفهم ما أجبتك عنه من الرعاية الحقوق الله عز وجل والقيام بها فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه أنه من استمع كما يحب الله ويرضى كان له فيما يستمع إليه ذكرى يعنى اتعاظاً وإذا سمى من خلقه شيئًا فهو كما سَمَّى وهو واصل إليه كما أخبر قال الله تبارك وتعالى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ فقيل في التفسير له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد قال مجاهد شاهد القلب لا يحدث
وجل
C
لأحد
نفسه بشيء وليس بغائب القلب
الله عز
TV 0 1
الرعاية لحقوق الله
٣٢٠
السجن وتوقعه في كل وقت إلى أن يخرج إلى العرض فيقضى فيه الحكم أفليس هو في الدنيا وهو في السجن وقد وجب عليه العذاب لا يدرى متى يخرج من الدنيا إلى العرض ليحكم عليه بالعذاب إلا أن يعفو الكريم
وهو مع ما قد وجب عليه يتوقع الموت فالموت خاتمة عيشه لأنه قد علم أن آخر حياته إلى الموت فيعاد كما كان بده خلقه مينا بعد أن كان حيا ألم تسمع إلى قولهم ربنا أمتنا اثنتين وأحيتنَا اثْنَتَينِ ۱
أى كنا أموانًا في أصلاب آبائنا ثم أحييتنا ثم أمتنا بعد الحياة فيصير ميتا كما بدأ الله عز وجل خلقه فيعمى بعد البصر ويصم بعد السمع ويبكم بعد النطق وتقطع أوصاله ويصير جيفة تقذره الدواب والخلائق ثم يبلى فينخر عظمه ويصير ترابا إلا عجب الذنب كما قال النبي و يبلى من ابن آدم كل شيء إلا عجب الذنب فيصير تراباً فيرجع إلى أصله الذى خلق منه أبوه الأول فيصير معدوما بعد أن كان موجوداً كما كانت الدهور قبله ولم يكن فيها شيئًا مذكورًا ثم يحييه الله عزّ وجلّ بعد طول البلى فيخرجه إلى أهوال القيامة فتحدق به كلها من سماء ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منتثرة وشمس وقمر مطموسين زفير جهنّم فى سمعه وركوب الصراط لابد له أن يركبه بضعفه ثم يعرض على مولاه فيُسائله عن كل عمله ثم الحكم الذي وجب عليه أن يصرفه من بين يديه بعد السؤال إلى عذاب لا ينقطع في غاية الهوان والذل والخضوع فيصرفه إليه إن لم يعف عنه
فإذا تذكر العبد وتفكر كيف كان بدوه وما أصله وفصله وفي ضعفه ومسكنته وصغر قدره في نفسه مما يتقلب فيه من المكروهات من غير مؤامرته ومما لا يكاد أن ينفك منه من الأسقام والغموم والوجع والجوع والظمأ وما وجب عليه من العذاب والهوان وما يصير إليه من الموت والبلى وما بعد الموت مما يعاين من الأهوال وما يخاف أن يصير إليه من العذاب زال عنه الكبر ولزمه الخضوع والذلة والتواضع للمولى عز وجل والشكر للمنعم تعالى والانكسار للخوف من العقاب فإذا عرف ذلك عرف قدره وصغر قدر نفسه فى الدين والدنيا عنده وأمثال ذلك كثيرة
١ ١١٤٠
۳۱
وليس كمثله في صغر القدر مثل بدو ابن آدم إذا تفكر فيه فصغر قدره عند نفسه كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم أخبره بذلك والده وكذبَهُ فى خبره فكانت نخوة الهاشمية في نفسه متعظم متكبر بحسبه يحقر من دونه ويتفخر عليه لأنه لا يشك أن الذي حدثه به والده عن أصله وحسبه قد صَدَقَهُ فيه فبينا هو فى نخوته وكبره وتعظمه إذ أتاه رجلان أو عدة رجال ممن يثق بهم ولا يشك في صدقهم أصدق عنده وأبر من والده عن علم يخبرونه عن كبر أسنانهم وقديم معرفتهم بأصله وأخبروه بينه وبينهم أ أنه من الخوز أو النبط أو السند فصدقهم ولم يشك فى قولهم وأن أباه قد كذبه وأخبره بالباطل هل كان يمتنع أن يذل في نفسه و تنكسر تلك النخوة من قلبه وإن أظهر غير ذلك إذا أيقن أنه على خلاف ما كان يرى ويظن وكذلك ابن آدم يتكبر ويتعظم حتى كأنه ليس أ أصله التراب والنطفة والضعف والمهانة والذلة والمسكنة والضر والزمانة فإذا تفكر وصدق نفسه عن الخبر بالتذكر عن بدوه وأصله ومما هو وكيف كانت أحواله لم يمتنع أن يذل فى نفسه وينكسر عن نخوته وكبره ومثل حياته وصحته وما يتقلب فيه من ملكه وغناه مثل رجل كان عند نفسه حرا لا يشك فيه ثم مات والداه وأورثاه مالا كثيرًا فكان يتعظمُ ويتكبر بشبابه وحسن جسمه ذلك في سعة من المنازل والنظافة والطيب والمنعة والحرز والأمن فبينا
وهيأته
وغناه وملكه وهو مع هو كذلك متكبرا متعظما في نفسه إذ قدم عليه قادم من بعض البلدان فأخذه وأقام عليه البينة العادلة بأن أبويه كانا مملوكين له وأن ماكان في أيديهما من مال فهو له فحكم عليه الحاكم بذلك وعلمه أيضًا صدق ذلك وأطمأن قلبه إلى ما شهد به الشهود هل كان يمتنع في نفسه أن تزول عنه نخوته وكبره إذ علم أنه عبد مملوك ليس لنفسه بمالك ولا لما بيده من المال وأن مولاه إن أراد أن يأخذه أخذه منه وأنه لا يقدر أن يفعل شيئًا إلا بإذن مولاه وإرادته ونظر مع ما أيقن به من العبودية فإذا في منزله من الهوام والحياة وغير ذلك مالا يأمن أن تتلف نفسه - أغفل ما يكون – ولابد له من سكنى ذلك المنزل لأن مولاه الزمه ذلك لئلا يضيع ذلك المنزل وما فيه كيف يرى كان يكون فى نفسه لذلّة العبودية والانخلاع من ملكه وما يخاف من تلف نفسه - أغفل ما يكون - ولم يكن ذلك المنزل أحد إلا كان آخر مصيره إلى التلف هل كان يعد لنفسه مالا وهل كان يعد لنفسه منزلا أو قرارًا فكذلك ابن آدم إذا تكبر وتعظم وهو ناس لحالته التي وضع عليها وناس بضعته التي وضع بها فتذكر وتفكر في العبودية أنه عبد ذليل مملوك لا يملك نفسه ولا ماله متوقع للمتالف أن يعترض بعضها له أغفل ما كان في لذته وتقلبه وإن الرعاية لحقوق الله
۳
آخر مصيره إلى أن يتلف فيخرج من الدنيا ويزول عنه كل ما هو فيه هل كان يمتنع - إذا صَدَقَ الخبر بالذكر والتفكر في ذلك - من أن يذل فى نفسه ويخضع لمولاه ويخشع له
نفسه عن
والموضعه الذى وضعه به من الخوف للمتالف ومثل العاصى الله عزَّ وجلَّ الذى وجب عليه العذاب فى حياته كمثل عبد مملوك له سيد شديد النقمة شديد السطوة وهو يملك الأرض لا يأمر بأمر إلا نفذ وقَدَرَ عليه فوكله سيده بعمل ونهاه عن أشياء تفسد ذلك العمل وأعطاه مالا ينفقه على عمله فغفل وسها وجهل فضيع أكثر العمل فلم يعمله وعمل قليلا منه فأدخل فيه من الفساد والنقصان مما نهاه عنه مولاه وأنفق المال في لذة نفسه وشهوتها ونهو فى ذلك مرح فرح بطر أشر متكبر يتقلب في لذاته غير مكترث لما ضيع من عمل مولاه ولا ما أفسد مما عمل له ولا ما أتلف أعطاه فأتاه خبر صادق أن مولاه مرسل إليه من يخرجه من كل ما هو فيه عريانا
الذي
من
المال
ذليلا حتى يلقيه على بابه فى الشمس والحر زمانا طويلا معذبا بالشمس والحر حتى إذا بلغ ذلك منه غاية المجهود دعا به فعرضه عليه وأمره برفع حسابه ونظر في عمله ما ضيع منه وما أفسد منه وما أتلف من ماله ثم يأمر به إلى سجن ضيّق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة ولا يخرج من سجنه ذلك أبدا وقد علم أن مولاه قد أخرج كثيرا من عبيده إلى العذاب والهوان ممن فعل كفعله وقد عفى عن بعض هل كان يمتنع مع هذا الحظر إذا بلغه هذا الخبر فتفكر فيه وتذكر ولزم قلبه تصديقه أن ذلك كائن إلا أن يعفو عنه مولاه وأن ذلك واجب عليه والعفو شك لا يدرى أيكون أم لا ألم يكن ينكسر عن شره وبطره وفرحه وتكبره حتى يكون أذل الناس فى نفسه وأشدهم خضوعاً وذلا ومسكنة لما قد حكم به عليه مولاه ولما يتوقع في السرعة والمعالجة أن يؤخذ بغتة حتى يمضى فيه كُلُّ ما حكم مولاه عليه به فما كان يمتنع من ذلك كله أن يذل ويخضع فكذلك ابن آدم إذا تذكر في تضييعه كثيرا من عمل مولاه مما أوجب عليه وما أفسد مما عمله فيه مما أدخل فيه من الرياء والعجب وغير ذلك وما ذهب من عمره فيما أفناه من اتباع هواه ونسيان مولاه وأن الموت نازل سريعاً عاجلا فيخرج إلى قبره فيبلى فيه ثم يخرج إلى القيامة فيوقف حتى يبلغ به غاية المجهود فيعرضه مولاه ثم يحاسبه بكل ما عمل وضيع وأفنى من عمره ثم يأمر به إلى عذابه الذى لا يشبه عذاب الدنيا ولا عقوبتها لا يشك أن العذاب قد وجب عليه وإنما يرجو العفو على شك لا يدرى أيفعل ذلك به أم لا فإنه إن عفا عنه فهو لاشك أنه سيعرض ويحاسب ويوقف على ماضيع من العمل وأفسد وما أتلف من
۳۳
عمره وما أنفق فيه ماله أتراه كان يمتنع من أن يذل فى نفسه ويزول عنه تعظمه وتكبره وبذلك يروى الحديث في المساءلة عن النبي عله الا الله أنه قال لا تزول قدما ابن آدم من بين يدى الله عز وجل حتى يسأل عن أربع شبابك فيم أبليته وعمرك فيم أفنيته ومالك من أين اكتسبته وعملك ماذا صنعت فيه فإذا تفكر فى ذلك العاقل اللبيب ذل وخضع وزال عنه
أنفقته وفيم
الكبر والفخر
ولو لم تكن إلا خصلة واحدة من هذه الخصال التي ينفى بها الكبر من البدو ومن الحياة وما وجب عليه بمعصيته ولو خلق من خير الأشياء وساعدته الأقدار فلم يسقم ولم يمرض ولم يعتوره قذر في جسمه ولا فاقة نازلة به ولا يحل به موت ولا عذاب عليه في الآخرة ما كان الكبر مع هذه النزاهة والطهارة يصلح للعبد ولا يليق به لأنه عبد مملوك فذل العبودية ضد الكبر فلا يليق بالعبد الكبر وكيف وهو مع العبودية صغير القدر في البدو تعتوره الآفات في حياته مستوجب للعذاب مذ عصى ربه ثم إلى الموت مصيره والحساب أمامه والعذاب جزاؤه إلا أن يعفو عنه مولاه ولو لم يتذكر العبد هذه الخصال كان تذكره أن الله عز وجل نهاه عن الكبر وأنه يمقت عليه كفى بذلك نافيًا للكبر فكيف إذا ذكر هذه الخصال مع خوفه لمقت الله عز وجل أن يطلع على قلبه وقد عقد على الكبر فيمقته بذلك ومما يدلك أن الله عزّ وجلَّ يمقت عليه قول الله عز وجل
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ
ومن لم يحبه الله فهو له مبغض ماقت
وقول النبي لعل الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر وإنما يحرم الله عز وجل جواره من يمقته ويغضب عليه فبواحدة من هذه الخلال ينفى العبد اللبيب الكبر
٣٢٤
باب التكبر بالعلم والعمل خاصة
قلت قد تبينتُ بما وصفت من ذلك أنه ناف للكبر بالحسب والجمال والجسم والمال والكثرة إلا أنى أجد للعمل والعلم فتناً تعترض فيهما مع ذكر صغر القدر فقد تغلب على
والعمل والعلم العالم والعامل حتى يتكبر فما الذى يدفع به تلك العوارض التي تبعثه على الكبر قال إن العلم والعمل لكذلك ومن ذلك ما يجده العباد من أنفسهم لأن فتنها أعظم الفتن لأن قدرهما عند الله عزَّ وجلّ وعند العباد أعظم من قدر الحسب والمال والجمال بل لا قدر للحسب ولا للجسم ولا للجمال ولا للمال عند الله عز وجل إلا أن يكون مع ذلك عمل وعلم وكذلك العباد العامل والعالم فى صدورهم أكبر قدراً من كل حسب ومن كل مال وجمال فعظمت فتنها إذ عظم قدرهما عند الله عز وجل وعند العباد ألا ترى إلى قول حذيفة رضی الله عنه اتقوا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فبعظيم قدر العلم والعمل عند العباد افتتن الجاهل حتى لقد اتبع العالم في زلته والعابد في خطئه وقال النبي ثلاث كائنات زلة العالم إذا زل زل بزلته الناس أنه قال لتميم الدارى ما زلة العالم قال إذا زل زل بزلته عالم من الخلق وقال ثلاث بهن يهدم الزمان إحداهن زلة عالم وقال معاذ احذروا زلة العالم فإن قدره عند الخلق عظيم يقلدونه ويتبعونه على زلته وروى عن كعب أنه قال للعلم طغيان كطغيان المال فكما أن قدرهما ۱ عند الله عز وجل عظيم إن اتقياه فكذلك إنمهما عند الله عز وجل عظيم إن لم يتقياه لأن العامل إذا لم يتق الله عز وجل فأراد العباد بما يعمل من طاعة الله عز وجل كان عند الله عز وجل أعظم بلية ممن ضيع العمل لأنه ضيَّع العمل إذ لم يُرد الله تعالى به لأنه لم يعمله الله عز وجل وإنما عمله لغيره فشارك المضيع في تضييعه وفضله فى الشر بريائه وكبره وعجبه وحسده ألا ترى إلى المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار وقد تركوا الإيمان مع سائر الكفار
وقد روى عن عمر
۱ يعنى قدر العالم والثرى
٣٢٥
وأظهروا رياء للعباد فجعلهم فى الدرك الأسفل من النار فكذلك المفسد للعمل شر ممن ضيع العمل وأما العلم فكذلك الحامل للعلم المضيّع لأمر الله عز وجل أشد بلاء وأعظم إثماً ممن ضيع أمر الله عز وجل على جهل ألا ترى إلى إبليس لما علم أمر الله عز وجل واعترف له بالربوبية ثم عاند أمره بعد علم وبيان واعتراف لعنه الله عز وجل إلى يوم الدين وصار شر الخلائق وقطع رجاءه من التوبة أبدا
أولا ترى أن اليهود اليوم لا يدعون الله ولدًا ولا شريكا وهم عند جميع ا أهل الإسلام شر من النصارى الذين يدعون الله الولد والشريك لأن الله عز وجل وصف عامتهم بالجحد بعد
المعرفة فقال عز من قائل
يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۱
وقال جل وعلا لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهم
وقال تعالى ليَكْتُمُونَ الْحَقِّ وَهُم يَعْلَمُونَ
فكانوا عنده أعظم بلاء إذ جحدوا الحق بعد علم ومعرفة كما قال الله عز وجل فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه ۳ وقد عصى الله عزّ وجلّ ممن جهل ولم يعرف أمره مالا يحصى فلم يضرب له الأمثال التي ضربها للعالم الذى يعرف أمره فضرب المثل للكافرين المشركين من العرب الذين لا علم لهم فقال إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَام
وضرب مثل من آتاه العلم وعرف الحق ثم جانبه بعد علم ومعرفة كمثل الحمار والكلب
فقال
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار
وقال في بلعم بن باعورا
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فبدأ ذكره بأنه قد آتاه آياته حتى بلغ
۸۹ ۳
١٤٦ ۱
٢ ١٤٤٢
٣٢٦
فَمَثَلُهُ كَمَثَل الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَتْ أَو تَترُكْهُ يَلْهَتْ ۱
قيل في التفسير إن حملت على الكلب بالعصا لهث وإن تركته فلم تحمل عليه لهث يريد أنه يلهث على كل حال فضربه مثلا للعالم الذى أوتى العلم فضيّع أمر الله عز وجل كما ضيعه الجاهل وقال ابن مسعود بلعم بن برق وقال ابن عباس بلعم بن باعر أوتى كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض ولو شئنا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قال بعلمه وقال مجاهد هذا مثل من يقرأ الكتاب فلا يعمل بما فيه وقال ابن عباس في حديث عكرمة عنه أخلد ركن إلى شهوات الأرض ولذاتها وأموالها لم ينتفع بما جاءه من الكتاب
مثلا
وقيل في قوله عزّ وجل إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَتْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَتْ قال يقول الله عزّ وجلّ سواء على هذا العبد آتيته الحكمة أو لم أوته فضرب الكلب له
الشدة منهم
ثم قال النبي يخبر أن العالم يعذب عذابًا يطيف به أهل النار استعظاماً عذابه يخبر أنه أشد عذابًا منهم وقال أسامة بن زيد سمعت النبي الله يقول يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق أقتابه وقال بعضهم أفياده فيدور به كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر
و آتیه
وروى عن أبي الدرداء أنه قال ويل للذى لا يعلم مرّة ولو شاء الله لعلمه وويل للعالم
سبع مرات
رجع
فإذا عرض للعامل أو العالم ذكر عظم القدر والتكبر ردّ على نفسه أنه على خطر أن يكون قدره عند الله عزّ وجل وعند خلقه أصغر قدرًا من المضيع للعمل والجاهل بالعلم إذ كان أعظم بلية فإذا إلى نفسه إنى كما عرضتُ لأعظم الأجر وأكبر القدر فكذلك عرضت لأعظم الإثم وأصغر القدر وإن تكبرى يا نفس تكونى أصغر قدرًا من الجاهل والمضيع للعمل فهو كرجل قيل له إن لك قدرًا ما لم تر لنفسك قدرًا فإن رأيت لها قدرًا فلا قدر لك عند الله عزّ وجل وهو كذلك لأن الله عزّ وجل يضعه ويُذِلُّه إذا تكبر
فإذا عقل عن الله عزّ وجل علم أنه إن تكبر وضع قدره وإن نفى الكبر وذَلّ
رفع
قدره
18 V 1
۳۷
وإذا ألزم العبد قلبه ذلك انتفى الكبر عنه عاملا كان أو عالماً لأن خطرهما جميعا عظيم أما العابد فكثير آفاته وكثير أخطاؤه فى عمله وكذلك العالم وهو أعظمها خطرًا وأشدهما بلاء
ألا ترى إلى ما روى عن ا أبي ذرّ أن مولاه جعل يسأله عن العلم فقال له أبو ذر أما إنك
لا تسألني عن شيء إلا زادك الله
به
بلاء
وصدق رحمة الله عليه تعظم عليه الحجة عند الله عزّ وجل ويعظم منه الذنب وتكثر عظيم الحجة وكثرة الآفات إنما يؤجر عليه إذا عمل به بنية قلب أو فعل ألا ترى إلى قول معاذ بن جبل اعلموا ما شئتم أن تعلموا فإن الله عزّ وجل لا يأجركم على علم حتى
آفاته
ومع
تعملوا
ونيته للعمل به عند طلبه للعلم عمل فبمعرفته بعظيم الخطر يذل وينكسر وبمعرفته بعظيم الحجة عليه يزول عنه الكبر أن يتكبر على من دونه ولو لم يعظم خطره ولم تعظم الحجة عليه وأيقن أن الله عزّ وجل قد رفعه بعلمه على من دونه لكان حريًّا - إن كان بالله عز وجل عالماً - ألا يتكبر على من دونه فيزول عن منزلته ويتضع عن رفعته إذ علم أن الله عز وجل واضع بالكبر من تكبر على من دونه ومذله ومصغره وإنما كررت هذا عليك لتفهمه وتعرف أن الكبر لا يليق ولا يصلح ولا ينبغى | الله عز وجل إذ كل ما سواه مملوك ذليل لربه عزّ وجل كما يروى عن أبي هريرة أن رجلا كان لا يُعدى عليه وكان يمر بدابته لا ينظر إلى أحد فعرض له أبو هريرة فأخذ بلجامه وقال له ما رأيك إلى شيء لا يصلح إلا لله عزّ وجل تجعله لنفسك قال فانكسر الرجل وما رأى من بعد ذلك إلا خيرًا وتواضعاً
لأحد سوى
منه
قلت فإذا تذكر هذا وتفكر فيه حتى يلزم قلبه معرفته فذلت نفسه لصغر قدرها عنده وزال الكبر عن قلبه حتى لا يرى أنه خير ممن دونه من المسلمين ولا يزدريه ولا يأنف منه هل يجزى ذلك عنه فيما يستقبل من عمره
قال لا لأن النفس قد تعطى العزم على التواضع وترك الكبر إذعاناً منها للحق إذ بهرتها معرفته فعرف العبد صغر قدر نفسه فلما عرف صغر قدر نفسه ذل وخضع فتُعطى النفس العزم عند هذه المعرفة ثم تسهو أو تغفل في غير ذلك الوقت فتتكبر وتتعظم فتنقض ما أعطت من العزوم وتغير عن حالها تلك من الخضوع والذلة فتكبر وتعظم
٣٢٨
باب بم يعلم العبد
أن نفسه قد تركت الكبر على الصدق ولا خدعة منها
قلت فيم يعلم أنها قد وقت بعزومها أو أنها ناقضة لها
قال بتفقدها عند الداعى من القلب إلى الكبر وعند الأعمال التى يأنف منها المتكبرون ويتعظمون عنها فأما الداعى من القلب إلى الكبر فمثل الخطرة تهيج بالإعجاب بالنفس تدعو العبد إلى أنه خير من أخيه المسلم وأن ينظر إليه بعين الأزدراء والضعة فعند خطرة الداعي بذلك يكون حذرًا متيقظًا رادا لما خطر بقلبه من ذلك فإن أبت نفسه ذلك ذكرها صغر قدرها وما وجب عليها وخاتمة حياتها وما تخاف من سوء عاقبة الآخرة وأنه لذلك مستوجب وأما بالجوارح فإن أمره آمر أو نهاه ناه أو ناظره مناظر فتبين له أن الحق ماقال من أمره أو نهاه أو ناظره منع نفسه الردّ لقوله وحَمَلَها على القبول لقوله والخضوع للحق إذ تبين له وكذلك إن أنف من اكتساب الحلال من الأسباب الوضيعة حملها على ذلك فإن أبت ذكرها ما وصفت لك من صغر قدره وغيره
وكذلك إن أبت حمل ما ينفعها مما يأنف من حمله المتكبرون كالشيء يحمله لنفسه أو لأهله حملها على حمله وذكرها صغر قدرها
أصله
وكذلك إجابة دعوة الرجل المسلم وإن كان عبدا أو فقيرا أو دني الحسب وكذلك المشى معه لحاجته أو زيارته أو عيادته أو معاملته كان قريبا له أو بعيداً حملها على ذلك إذا كان ذلك نافعا له في دين أو دنيا وكذلك تعليم الحق أو سؤال عنه لمن دونه وكذلك الانتماء إلى ومواليه لأنه قد يُخرجه الكبر إلى أن ينتمى إلى غير أصله أو يدعى إلى غير مواليه أنفا وكبرا عن أصله ومواليه وذلك عند الله عز وجل عظيم
وروى عن سعد عن النبي علم أنه قال من أدعى إلى غير مواليه فالجنة عليه حرام وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه كفر بالله تبرُّلى من نسب وإن دق وكذلك
۳۹
يأنف من لبس الثوب الدنى فيدع ما وجب عليه كالصلاة وغيرها أو إتيان حق من قرابة أو
غيرهم
وقد روى أن أبا موسى رحمة الله عليه قيل له إن أقوامًا يتخلفون عن الجمع من أجل ثيابهم فلبس عباءة فصلى بالناس فيها وهذا الباب كله قد يجامع الكبر الرياء فيه فبذلك يحقق جُملة ماعزم عليه من نفى الكبر ألا ترى ما يروى عن النبي عل الله قال من اعتقل العنز ولبس الصوف فقد برىء من الكبر
وقال
إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعتقل القز وألعق أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس منّى والحديث إنه من حمل لأهله الفاكهة والشيء فقد برىء من الكبر والحديث عن أبي سنان أنه قال له رجل هات حتى أحمل عنك هذا اللحم فقال لا ثم قرأ إنه لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرينَ ١ ولا يرضى أهل العلم والمعرفة بما أعطت أنفسهم من العزم على ترك الكبر دون أن يبلوها ويختبروها عند الأعمال حتى ينظروا تحقق ذلك أم تنقضه ومن ذلك ما يروى أن عبد الله ابن سلام حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنيك ما يكفونك قال أجل ولكني أردت أن أجرب نفسى هل تنكر ذلك فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنف حتى يجربها أتصدق في ذلك أم هی كاذبة وقد يعترض للعبد مع الكبر فى مثل هذا كله الرياء فيجامع الكبر الرياة وهو ما أخبرتك في أول الجواب عن مسألتك أن الكبر يعترض من الرياء فيعترض في ذلك الرياء مع الكبر أنفا أن يقولوا فقيرًا أو وضيعا أو مسكينًا فينظروا إليه بعين الازدراء من الفقر أو الكسب الدني أو صحبة الرجل الدنى أو زيارته من القرابة وغيره أو أن يقبل الحق من غيره
فيقال فلان خطأه أو علمه أو يقول من غلبه فى نفسه خطأته أو علمته فإذا اعترض الرياء مع الكبر فليقارب بالفكر بين صغر القدر وما وجب عليه من العقاب وكراهية الرياء المحبطة لعمله فى يوم فقره وفاقته إلى صافى الحسنات لينجو بها من عذاب ربه عز وجل ويستحق بها ثوابه ورضوانه فيذكر صغر القدر وما وجب عليه من العذاب ويذكر مصيره إلى الموت والحساب
YY 1 1
فمن استمع إلى كتاب الله عز وجل أو إلى حكمة أو إلى علم أو إلى موعظة لا يحدث نفسه بشيء غير ما يستمع إليه قد أشهد قلبه ما يستمع إليه يريد الله عز وجل بذلك كان له فيه ذكرى لأن الله تبارك اسمه قال ذلك وهو كما قال عز وجل وبذلك وصف المؤمنين وأمرهم
به فقال عز وجل
الذين يستمعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأولئكَ هُمْ أُولُو الألباب ۱ وقال تعالى وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
وإن كان ذلك في الصلاة أو الخطبة فهو أدب لكل مستمع إلى خير ووصف الله تعالى مؤمنى الجن بذلك حين سمعوا النبي علا الله يقرأ بنخلة وقيل بعكاظ فقال تعالى فلما حَضَروهُ قالوا أنصتوا ۳
فأمر بالاستماع لكتابه مع ترك الكلام بحضور العقل لينال عباده بذلك الفهم عنه وذم من خالف ذلك فقال عز وجل
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى فمدح الناصت له لأن يستمع عنه كلامه مع حضور العقل وأمر عز وجل عباده بذلك أدبا لهم لأن ينالوا بذلك الفهم عنه وروى عن وهب بن منبه أنه قال من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى أن يكف العبد جوارحة أن يشغلها فيشتغل قلبه عما يستمع ويغض طرفه لئلا يلهو قلبه بما يرى ويحضر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع
٥
إليه ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم لأن أول ما أدب الله به عز وجل عباده المؤمنين أن يقدموا الإرادة والعزم على طلب الفهم عنه يستمعوا بإحضار عقولهم ونياتهم في ذلك أن يفهموا عنه فيعملوا له بما يفهمون عنه
۱۸ ۳۹ ۱
٢٠٤ ۷
٤٦ ٢٩ ۳
EV WV 1
ه في رواية أخرى قلوبهم
۳۳۰
و بالحكم بالجزاء ينفى الكبر وبالكراهة للرياء ينفى الرياء لأنه قد ينفى الكبر إذا عرض له الأنف من الأعمال التي تقربه إلى ربه عز وجل لضعة أسبابها فيتواضع ويعلم أن الكبر لا يليق به وتجزع نفسه بعد معرفته بصغر قدرها أن تُذَمّ وينظر إليها بالازدراء فهو في نفسه ولا يحب ذلك أن يكون عند الناس وضيعاً
وضيع
ومما يدلك على ذلك أنه قد يكون من بعض الخلق أن العبد يدعى إلى حسب شريف كادعائه أنه من أهل بيت النبوة أو من قريش أو العرب وهو عالم أن أصله غير ذلك فهو عند نفسه وضيع الأصل وهو يحب أن ينظر إليه الناس بعين التعظيم ويكره أن يعلموا بأصله وينظروا إليه بالازدراء وكذلك يظهر أنه غنى وهو فقير فذل الفقر في قلبه لمعرفته أنه لا غنى عنده وهو يحب أن ينظر إليه بالغنى ويكره أن يرى بالفقر وكذلك أنه يوهم العباد العلم مالا يعلمه ويكره أن يفطنوا يجهله فيزدروه ويحب أن ينظروا إليه برفعة العلم فهو عند نفسه دنى الحسب قليل المال جاهل وهو يوهم العباد أنه على غير ذلك لحب الحمد وكراهة
يحسن من
الذم وكذلك هذا الذى اعترض له الكبر مع الرياء قد ينفى الكبر ويستعمل الرياء فيدع ماهو أولى به وأقرب إلى ربّه عزَّ وجل ولعله أن يغلط فيرى أنه بنفيه الكبر قد نفى الرياء فيكون عند نفسه مخلصا متواضعاً وهو عند ربه عز وجل مراء ولعل نفسه عند ذلك أن تحيل إليه أن ذلك حياء منه وإنما تركه للحياء ولم يتركه للكبر ولا للرياء
وكذلك قد ينفى الرياء فيعلم أن العباد لن يضره ذمهم ولن ينفعه حمدهم فيكره ذلك وتأبى نفسه أن يفعل شيئًا من ذلك كبرًا فى نفسه وأنه لا يصلح ذلك لمثله ولو رفعه الناس
بذلك
وقد رأينا من قد يتكبر بالحسب مع الدين كمن هو من أهل بيت النبوة أو من قريش يرفع نفسه أن يصلى خلف العامة فيدع الجماعة انفاً وكبرا وقد علم أن العباد يذمونه يعلم ذلك منهم ويبلغه عن بعضهم ويسمعه من بعضهم ونفسه تأبى إلا كبرا وأنه لا يصلح له في قدره أن يؤمه غيره فقد لزم قلبه الكبر مع معرفته أن ذلك يزيل حمد العامة له وهو متكبر لا مرائى بذلك وكذلك لا يختلف إلى الفقهاء والمحدثين أنفا وكبرا أنه أحق أن يتعلَّم منه من أن يتعلم هو من غيره لأن العلم إنما جاء من أصله وآبائه ولعله جاهل لا يحسن أن يقيم صلاته أو
بعض فرضه
۳۳۱
فقد تبيّن بهذا أن العبد إذا قارن الرياء بالكبر أنه قد ينفى الكبر ويعتقد الرياء وقد ينفى الرياء ويعتقد الكبر فلا ينجيه إذا تقارنا أن ينفى أحدهما بما ينفى به الآخر إلا أن يكون عبداً قويا خائفاً فيذكر اطلاع الله عز وجل على مافى قلبه فينصرف عنها وذلك إذا كان عارفاً بهما وبما ينفيان قبل العارض فأما من لم يكن يعرف ما ينفيهما به فلا غنى به عن معرفة ذلك عند اعتراضها وذلك إذا كان يعرف - من قبل أن يعرضا - بم ينفيهما به ثم إن لم يكن عنده خوف وقوة يقين وإجلال الله عز وجل لم يكد أن يجزئه ذكر اطلاع الله أو ذكر عقابه لغلبة الهوى وضعف العزم واليقين حتى يخاصم نفسه ويعاتبها ويورد عليها أضداد ما ادعت من عظيم القدر ويرد عليها ما أرادت من رياء المخلوقين بذكر سوء عاقبة الرياء في معاده أفقر ما يكون إلى أن يقبل الله حسناته
فإذا نفى الرياء والكبر إذا اجتمعا في القلب بما وصفت لك من ذكر صغر القدر وما وجب عليه في حياته وما تكون خاتمة أمره فينتفى بذلك الكبر وينفى الرياء بالكراهية والإباء له لخوفه من حبط عمله حين لا ينجيه إلا الخالص من العمل فقد نفى الكبر حينئذ والرياء جميعا وسلم منهما بإذن الله عز وجل
۳۳
باب ما يجب من التواضع للمطيعين والعاصين لينفى به العجب والكبر
قلت قد أمرت بالغضب والبغضة للعاصين والمجانبة لهم والمقت لهم ومعرفة النعم التي بها عُصمت من كثير من أعمالهم فقد يمكننى أن أذل وأتواضع للمطيعين وأعرف لهم قدرهم وما رفعهم الله عزَّ وجلّ به على وأنى دونهم فكيف يمكنني أن أذل وأتواضع لمن أمرت بمقته
وبغضه وبمجانبته ومعرفة النعمة التي بها فضلت عليه
قال لا يمنعك ذلك من التواضع الله عزَّ وجل والذل فى نفسك مع القيام بذلك كله قلت ما أجدني أحسن أن أميز بين هذين أن أتواضع لمن أنا له مبغض وعليه غضبان وله مجانب أحمد الله على العصمة من مثل عمله وكيف لا أرى أنى خير منه وقد فضَّلني الله عزّ وجل عليه فقد التبس على معنى ما وصفت فى نفى العجب فإني لا أمتنع أن أعلم أن الله عز وجل رفع قدرى فوقه وأنى قد علمت ما لم يعلم وتورّعت عما لم يتورع وأما ما وصفت من نفى الكبر فلست أمتنع منه – إذا كنتُ أعلم أن الله عزّ وجلّ قد فضَّلنى عليه بأمور كثيرة – أن أنظر إليه بعين المقت والبغضة كما أمرت وندبت
قال إن ذلك ليلتبس على من هو أعلم منك وأقوى ومن ذلك أوتى كثير من الديانين حتى أعجبوا وتكبروا وظنُّوا أنهم قد أطاعوا الله عز وجل بذلك لأن الكبر على المطيع شر مقرر بعينه لا يلتبس إلا على الغافلين والكبر على العاصين يمازجه ويشوبه الغضب لله والمجانبة له والاعتراف بالنعم التي فضل بها عليهم والتبس واشتبه لهذه الشائبة حتى خدع بها كثير من المتعبدين وظنوا أنهم بذلك مصيبون الله عز وجل مطيعون
وسأبين لك ذلك حتى تميز بينهما فتغضب وتمقت وتجانب الله وتعرف ما فضلت به من النعم وتزايل العجب والكبر بالعلم وما يمكن فى النظر لمن عقل عن الله عزّ وجلّ أمره فإن ميزت بينهما نجوت من الكبر والعجب ومقت الله عزّ وجلّ بالغضب له وعرفان نعمه وإذا لم تميز بينهما خدعتك نفسك وعدوك بالطاعة فألقتك فى المعصية لما شابها من الطاعة شرح المسألة المتقدمة اعلم أن الناس عندك فرقتان فرقة مستورة لا تعرف منها سوةا
ولا جرما فتلك الفرقة أفضل منك عندك إذ لم تتبين منها مكروها
۳۳۳
والفرقة الثانية مختلفون في ذلك
6
فمنهم من هو عندك مهتوك في ذنب أو ذنبين أو أكثر من
ذلك إلا أنه أقل مما تبين لك من نفسك من الذنوب فى طول عمرك فهؤلاء أفضل منك عندك إذ كنت تعرف من نفسك أكثر مما تعرف منهم
وفرقة قد ظهر لك منها من الذنوب أكبر وأعظم مما قد ظهر لك من نفسك
فأما الكثرة فلا تقدر أن تحصيها من غيرك كما تحصيها من نفسك لأنك خال بنفسك في كل
حال في عمرك كله ولا تقدر أن تصحب غيرك فى طول عمرك فلا تفارقه كما لا تقدر أن تفارق نفسك ولا تطلع على سرائره وضميره كاطلاعك على سرائر نفسك وضميرها فذنوبك
عندك أكثر من ذنوب غيرك
فأما
العظم
فقد يظهر لك من غيرك ذنوب عظيمة كالقتل والسرقة والزنا وغيره من غيرك فقد يكون بعض ماظهر لك ذلك منه ليس عنده من المعرفة والعلم ما عندك فالحجة عليك أعظم منها عليه والحساب عليك فى سؤال القيامة بالعلم أشد فأنت تخاف على نفسك العذاب على قدر تضييعك مع العلم والمعرفة فتنفى عنك الكبر بذلك وقد يكون لبعض من ظهر لك ذلك منه من العلم مالك أو أكثر وقد ظهر لك من الذنوب أعظم مما أتيت به فهو أعظم عصيانًا منك فهذا الذي سألت عنه إن عقلت وأردت التمييز بين الغضب الله عزّ وجلّ والنجاة من العجب
أنك
والكبر فالذى عليك فيه أن تعرف نعمة الله عزّ وجلّ عليك إذ عصمك من مثل عمله وتغضب الله عزَّ وجلّ وتجانبه وتجفوه غضباً لربك تعالى فلا تنس الخوف على نفسك حتى ترى ناج وأنه هالك دونك وأنت لاتدرى بم يختم لك ولا بما يختم له وإنما وكلت بالخوف على نفسك من ذنبك ولم توكل بالخوف عليه من ذنبه إلا من طريق الإشفاق عليه فأما ما ندبت إليه ووجب عليك أن تخاف الله عزّ وجلّ وترهبه وتتوب إليه وتخاف ألا يقبل منك صالح عملك لما سلف من ذنوبك ولما تخاف أن يكون قد دخل عليك في عملك الآفات من التي تفسده وأن تخاف من سوء عواقب الخاتمة وسابق العلم فيك فإنما أمرت ووجب عليك الخوف على نفسك لأنك المأخوذ بذنبك لا بذنب غيرك ألم تسمع الله عز وجل يقول وَلا تَزِرُ وَازِرَة وزِرَ أُخْرَى
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا
۳۳۵
بدون ۱ ماعندك به فقد تبين لك أنه خير منك ومن كان عندك مهتوكا بأعظم مما عندك به
ففى ما عندك شغل عن الفراغ الحقريته وازدرائه والخوف عليه وخوف سوء الخاتمة على نفسك أولى أن يغلب على قلبك لأن البلاء إليك يصل إن لم يرض الله عز وجل عنك ولعلك أعلم منه فالحجة عليك أعظم وعلى أي حال عندك من الذنوب في الدين من الكبر والعجب
ولم
والرياء والحسد في الدين ماليس عنده وقد روى عن وهب بن منبه مايبين هذا أنه قال ماتم عقل امرىء حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسع خصالٍ حتى بلغ العاشرة فقال والعاشرة وما العاشرة ! هي التي ساد بها مجده وعلا بها ذكره إنه يرى الناس كلهم خيرًا منه وأنه شرهم حالا فقال يرى يقطع ثم فسر ذلك فقال وإنما الناس عنده فرقتان أو رجلان ففرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شرمنه وأدنى فهو يتواضع للفرقتين جميعًا بقلبه إن رأى من هو خير منه شكره وتمنى أن يلحق به وإن رأى من هو شر منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا أفلا تراه خائفا
العاقبة
6
ا من
ثم قال ولعل بر هذا باطن فذلك خير له لا يدرى لعل عنده خلقا كريما فيما بينه وبين ربه جل وعلا يشكره له فيرحمه به فيتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال ثم قال وبرى أنا ظاهر فذلك شرلى فلا يأمن ألا يكون سلم فيما أظهر من الطاعة أن يكون قد دخلها من الآفات ما يحبطها
ثم قال فحينئذ كمل العقل وساد أهل زمانه وصدق لأنه يتواضع لهما جميعا بقلبه مقرا معترفاً أن من لم يبد منه أعظم مما يعرف من نفسه فهو خائف على نفسه الهلاك وأن يختم له بشر من عمله أو لعله لم يتقبل له حسنة وأنه عند الله عز وجل شر منه مما سلف من ذنوبه ولعله يختم له بشر الأعمال فهو متواضع للفريقين جميعاً غير متكبر على واحد منهما غير تارك للغضب الله عز وجل والمجانبة لمن أمر بمجانبته والغضب عليه إذ لم ينس الخوف على نفسه
خائف أن العذاب واصل إليه ولعله شر من يرى وسينجو ويختم له بخير الأعمال ألا ترى إلى حديث أن عابدا كان يتعبد في جبل فأتى فى النوم فقيل له إيت فلانا
الإسكاف فاسأله أن يدعو لك فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويتكسب
1 أى بأقل
٣٣٦
فيتصدق ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول إن هذا لحسن فأما كالتفرغ لطاعة الله عز وجل فلا فأتى فى النوم فقيل له إيت الإسكاف فاسأله فقل له ما هذا الصفار في وجهك فأتاه فسأله فقال له الإسكاف مارفع لى أحد من الناس إلا ظننت أنه
وأهلك أنا فقال له العابد بهذه نجوت
وبهذا وصفهم الله عز وجل فقال
يُؤْتُونَ مَا آتَوُا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنهُمْ إِلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
وقال تعالى إنَّ الذينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ١
سيجو
ولم يصفهم بالإشفاق والخوف على غيرهم وهل يبلغ أحد من البراءة من الذنوب و دوام
الدعوب والاجتهاد بغير فترة ولا سآمة ما بلغت الملائكة وقد أخبرنا الله عنهم أنهم يسبحون
منه
6
الليل والنهار ولا يفترون وأنهم من خشية ربهم مشفقون فمتى زايل الإشفاق والوجَلُ قلبك ونظرت إلى غيرك بالازدراء والحقرية والأنفة وأنك خير منه من غير حذر ولا خوف لسوء العاقبة وسابق العلم أو رددت عليه حقا أنفا أن تقبل منه حقا منعته يجب له عليك كصلة رحم وغيره أنفًا أن تأتيه أو تعلم أنه لك قريب ازدراء به و وأنها من منه فقد
تكبرت عليه ومتى ذكرت نعمة الله عز وجل التي عصمك بها مما أتى غيرك من الذنوب وأنت غير تارك للوجل والإشفاق خائف على نفسك لا تقطع لك بالنجاة وعليه بالهلاك وأنت مع ذلك غضبان الله عز وجل مجانب له فقد نجوت من الكبر وقمت بما أمرت فيه ولم تنس النعمة عليك ولكن أخاف عليك أن تخدع بذكر النعمة فتنظر إليه وأنت لا تكاد تشك أنك الناجى وهو الهالك وإن جلس إليك أو قاربك في موضع جانبته تريد النزاهة والغضب الله عز وجل وأنت مع ذلك معظم لنفسك تأنف من مثله أن يقارب مثلك وأنك خير منه لاتذكر الخوف على نفسك كأنك لا تشك أنه مغضوب عليه وأنك مرضى عنك ناج لا محالة فتجمع نزاهة الدين وكبرا فتخدع باسم الغضب الله عز وجل والنزاهة فتتكبر وأنت لا تعلم ألا ترى إلى قول عون بن عبد الله ووصف المؤمن فقال ليس دنوه خدعة ولا خلابة ولكن دنوه ليغنم ولا نأيه ۳ عمَّن نأى عنه كبرا ولكن نزاهة منه ليسلم
٥٧ ۳ ۱
ليغنم ثواباً أو ليغنم رضا الله
۳ أي ابتعاده
۳۳۷
فاحذر العدو ان يزين لك البر ليلقيك فى الإثم أو يمن الله عز وجل عليك بطاعته فيحسدك العدو عليها فيزين لك إنما يخلط به الطاعة فتكون حينئذ غير شاكر لما من به عليك من طاعته فاحذر إذا ذكرت النعمة التي فضلت بها عليه أن تجمع مع ذلك كبرا فاذكر النعمة وأنت من العواقب مشفق وجل ولنفسك بما خالفت مولاك مستصغر مبغض ماقت
۳۳۸
باب في بيان الكبر
على أهل البدع وغيرهم من أهل الكفر والشرك
قلت قد تبين لي كيف أجانب الكبر في أهل المعاصى من المسلمين فأخبرني عن أهل البدع الذين يتدينون بغير السنة ويضلون العباد عن الله عزّ وجل أعداء لسنن رسول الله همتهم إطفاء نورها وإحياء الضلالة ومذلة أهل الحق وإعزاز أهل الافتراء والكذب بالتأويل على الله عز وجل وعلى رسوله الله
قال إن أهل البدع يجب عليك البغض لهم والمجانبة إلا من وجب له عليك حق تؤديه إليه فتؤديه إليه وقلبك له مبغض ومنه نافر كائن من كان إلا أن قلبك لا ينسى مافى رقبتك من الذنوب وما تقدم فيك من علم علام الغيوب بالشقاء أو السعادة أو سوء الخاتمة وتعلم مع ذلك أن الله عز وجل قد فضلك عليهم بما عصمك منه من التدين بأديانهم غير غافل حتى
منهم على
تقطع أنك خير منهم في الآخرة ترى أنك ناج وهم هالكون قد غيب الله عز وجل عنك العلم فيك وفيهم لايدرى أحد أى حال يموت وعلى أي حال تموت ولعله أن لا يغفر لك ولا له فتدخلا النار جميعاً فإذا كان عاقبة أمرك دخول النار فعندك شغل عن استصغاره والظن في نفسك أنك خير منه فإذا دنت الله عز وجل يبغضه وخالفته وعلمت ما من به عليك مما عصمك مما يدين ولم يغفل قلبك حتى يغلب عليك أنك ناج وهو هالك فقد نجوت من الكبر وإن غلب على قلبك أنك ناج وهو هالك فقد تكبرت في نفسك واغتررت بربك
عز وجل
فهذا بيان ما سألت عنه من الكبر ونفيه عنك فى أهل البدع
قلت إن أهل البدع وإن كانوا ضلالا فهم معتقدون للتوحيد ولكن أرأيت من لاشك فيه
أنه عدو الله عز وجل كافر به إن مات على كفره فهو فى النار لا يرحمه الله عز وجل أبدا
6
لا يمتنع قلبي من أن أعلم أنى خير منه وأنه هالك لا محالة وأنه ليس عنده من الخير مما يرضى الله أو يقبله مثقال خردلة وأنه لاحسنة له عند الله عز وجل في الآخرة قال هو كما ذكرت إلا أن يمن الله عز وجل عليه بالتوبة فإن مَنَّ الله عز وجل عليه بالتوبة
عز وجل
۳۳۹
قبل الموت فالله أحق بالتفضل عليه وإن لم يمن الله عز وجل عليه بالتوبة فهو الظالم الخاسر فأما الكبر على أحد من الناس فلا يجوز لك ولكن لك ولكل مسلم جائز - بل هو فضل وخير وقربة إلى الله عز وجل – أن تعلم أن الله عز وجل فضلك عليه وأنه لاخير عنده وأن الحكم عليه من الله عز وجل بالعداوة والغضب إلا أنك قد غيّب الله عز وجل عنك عاقبتك وعاقبته على مايموت وعلى ماتموت فعليك - وإن كنت عارفاً بضلالته وكفره وأن الله عز وجل فضلك عليه بأن عصمك من كفره ومن عليك بتوحيده أن تكون شاكاً في عاقبة أمرك لاتدرى على أى حال تموت وعلى أي حال يموت هو وأن تكون خائفًا من العواقب التي يختم بها العمل للعباد فأنت لا علم لك لعله يموت أعبدَ أهل زمانه وتموت أنت أكفر أهل زمانك فكن لذلك متخوفا
ومما يذلك على ذلك أن الله عز وجل ابتعث نبيه الا الله أفضل ما صلى على أحد من خلقه - فأجابه فى أول مادعى إلى توحيده قوم وتأخر عن الإجابة آخرون فكان ممن أجابه أبو بكر وعلى وبلال وخباب رحمة الله عليهم وغيرهم وعمر وغيره كفار وقد كان ممن أسلم مع النبي مثل عمرو بن عنبسة وبلال وغيرهما ينظرون إلى عمر ويعرفون أنه ضال كافر لا يدرون بم يختم له فوهب الله له الإسلام حتى فاق كل من أسلم قبله إلا أبا بكر وحده فلم يكونوا يعلمون مايكرمه الله عز وجل به وكانوا مؤمنين وكان هو كافرًا ثم أسلم ففضلهم وكذلك غيره ممن تقدم إسلامه وتأخر إسلام آخر بعده إلى عصرنا هذا وقد ارتد قوم أسلموا على عهد النبي علل الله فقتلوا كفارا يوم الردة وأسلم من كان كافرا وهم مؤمنون فحسن إسلامهم ثم قتلوا مؤمنين شهداء
فإذا كنت متخوفاً على نفسك العاقبة والخاتمة لا يغلب على قلبك نجاتها البتة ولا أنه ميت على كفره فقد نفيت الكبر ولم تغتر ولم تأمن على نفسك من التغيير والزوال اللذين يورثانك
العذاب
حدثنا الغلابي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول أول العلم حسن الاستماع ثم الفهم ثم
الحفظ ثم العمل ثم النشر وضرب بعض الحكماء مثلا لذلك كله فقال إن الباذر خرج ببذره وملأ منه كفَهُ فبذر فوقع منه شيء على ظهر الطريق فلم يلبث أن انحط الطير عليه فاختطفه ووقع منه شيء على صفا يعنى حجرا أملس عليه تراب يسير وندى قليل فنبت حتى إذا وصلت عروقه إلى الصفا لم يجد مساغاً ينفذ فيه فيبس ووقع منه شيء في أرض طيبة فيها شوك نابت فنبت البذر فلما ارتفع خنقه الشوك فأفسده واختلط به ووقع منه شيء على أرض طيبة ليس على ظهر الطريق ولا على صفا ولا فيها شوك فنبت ونما وصلح فمثل الباذر كمثل الحكيم ومثل البذر كمثل صواب الكلام يتكلم به الحكيم ومثل ما وقع على ظهر الطريق مثل الرجل يستمع الكلام وهو لا يريد أن يستمعه فلا يلبث الشيطان أن يختطفه من قلبه فينساه ومثل الذى وقع على الصفا مثل الرجل يستمع الكلام فيستمعه ويستحسنه ثم يفضي إلى قلب ليس فيه عزم على العمل فينفسخ من قلبه ومثل الذي وقع في أرض طيبة فيها شوك مثل الرجل يستمع إلى الكلام وهو ينوى أن يعمل بـ به فإذا اعترضت له الشهوات عند مواقع الأعمال خنقته فأفسدته فترك استعمال ما نوى أن يعمل به ومثل الذي وقع في أرض طيبة ليس على ظهر طريق ولا فيها شوك ولا على صفا مثل الرجل يستمع إلى الكلام وهو ينوى أن يعمل به فيفهمه ثم يصبر على العمل به عند مواقع الأعمال وبجانب الشهوات قال أبو عبد الله فلقد ضرب هذا المثل فما غادر ما يحب الله عز وجل أن يدل عليه مما أدب الله عز وجل به عباده لأنه أدبهم بالاستماع والإنصات والنية على الطاعة والصبر عليها عند مواقع الأعمال ومجانبة الشهوات والأهواء المزيلة عن الطاعة والمفسدة لها وإن
1
أدوها بجوارحهم فاستمع لما أجبتك
به على ما صفت من الاستماع فإنك إذا استمعت كذلك نفعك الله
تعالى بما أجبتك به لأن العبد إذا استمع الله
كما يحب
عز وجل أفهمه الله تبارك وتعالى
1 فى هذا المعنى يقول رسول الله إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طبيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاً فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
كتاب الغرة
باب الغرة بالله عز وجل
قلت ما الغرة بالله عز وجل ومم تكون قال إن الغرة بالله عز وجل تكون من الكافرين ومن العاصين من المسلمين ومن الديانين النساك وكل من اغتر بشيء من الأشياء فقد ضبَّع أمر الله عز وجل وقل حذره منه وخوفه فالغرة بالله عز وجل إنما هي خدعة النفس بصنيع الله عز وجلَّ بالعبد أو باسم رجاء الله عزَّ وجل أو ببعض العبادة والعلم فيغتر كثير من العباد ببعض ذلك حتى يعصى الله عز وجل وهو يرى أنه من المحسنين أو يكفر بالله تعالى وهو يرى أنه من المهتدين أو يغتر فيعصى على علم وهو يرى أنه مغفور له ناج لا يعذب فأما الغرة من الكافرين فهي خدعة من أنفسهم وعدوهم بظاهر الدنيا عن الآخرة
قلت فيم يغتر
قال إن الغرّة غرتان غرّة بالدنيا عن الآخرة وغرة بالله عز وجل وبالآخرة فأما الغرة بالدنيا عن الآخرة فإيثار الدنيا والاشتغال بها عن الآخرة وهو قول الله عز وجل فلا تغرنكم الحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغُرُورُ ١
وقول الله وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الغُرورِ
قلت عن الغرة بالله عز وجل أسألك وما الذي يغتر به العباد
قال أما ما اغتر به الكافرون عن الله عز وجل فهو ما رأوا من فعل الله عز وجل بهم من إكرامه لهم بالدنيا ورفعتها وسعتها فظنوا بذلك أن ذلك لم يكن من الله عز وجل إلا لمنزلتهم وأنهم أحق بالخير من غيرهم ثم هم بعد ذلك على وجهين فرقة منهم ثـ شكاك في الآخرة يقولون في أنفسهم وبألسنتهم إن يكن الله عز وجل معاد فنحن أحق به من غيرنا ولنا فيه النصيب الأوفر اغترارًا بما ظهر لهم من خير الدنيا وكرامتها أ ألا تسمع ما حكى الله عز وجل عن
عنده
۱۸۵ ۳
٣٤٣
۳ ۳۱ ۱
٣٤٤
الرجلين اللذين تحاورا فقال الكافر منهما للمؤمن المحاور له
وَمَا أَظُنُّ السَّاعة قائمةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبا أى لا أُوقن بأن الله عز وجل بعنا وثوابًا وعقابًا فإن كان فإن لي عنده خيرًا مما أعطاني في الدنيا غرةً بالله عز وجل وظنا أن الله عز وجل لم يكرمه فى الدنيا إلا وهو كريم عليه فإن كان
الله عز وجل بعث ودار فيها ثواب وعقاب فسيجيره من العقاب ويكرمه في الآخرة كما أجاره من الفقر والضيق فى الدنيا فحاور المؤمن الكفار بذلك
وفي التفسير لما كان بينهما قصة طويلة - وهما فيما يروى فى التفسير اللذان قال المؤمن منهما في الآخرة إنى كان لى قرين يقول أثنك لمن المصدقين! إلا أن المحاورة كانت بينهما في جملة أمرهما أن الكافر بنى قصرًا بألف دينار واشترى بستانا بألف دينار وخدمًا بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار وفى ذلك كله يعظه المؤمن ويقول له اشتريت قصرًا يخرب ويفنى ألا اشتريت قصرًا فى الجنة واشتريت بستانًا يخرب ويفنى وخدمًا يموتون ويفنون وتزوجت زوجة تموت وتفنى ألا اشتريت بستانا لا يفنى وخدماً لا يموتون وتزوجت زوجة لا تموت !! وفى كل ذلك يرد عليه الكافر ماهناك من شيء وإن كان ليكونن لي في الآخرة خير من هذا وكذلك وصف الله عز وجل لنا قول العاص بن وائل إذ يقول الأُوتينَّ مَالاً وَوَلَدًا
قال الله عز وجل أطَّلَعَ الغَيْبَ أم اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ! ۱ روى عن خباب بن الأرث أنه قال كنت رجلا قينًا وكان لى على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقضنى فقلت إلى آخذه منك في الآخرة فقال لى إذا صرت إلى الآخرة فإن لى هناك مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله عز وجل
منه
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنَا وَقَالَ الأُوتِينُ مَالاً وَوَلدًا
فاغتر الكافر بالله عز وجل وظن أن الله عز وجل لا يعذبه في الآخرة
وقال الله عزّ وجلّ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتَه لَيَقُولَنَّ هذا لى وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ
إلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ الْحُسْنَى ۳
٣ ٤١ ٥٠
۷۸ ۷۷ ۱۹ ۱
٢ أي حداداً
٣٤٥
قال ابن جريج عن مجاهد ليقول هذا لى بعملى وأنا محقوق بهذا يغتر بما أذاقه الله عز وجل من رحمته في الدنيا ألا تسمع الله عز وجل يقول عن قول المغترين بإنعام الله عز وجل عليهم في الدنيا
وَقَالُوا نَحْنُ أَكثرُ أموالاً وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذِّبِينَ ١ أى أن الله عز وجل أنعم علينا بنعمه لكرامتنا عليه فهو لا يعذبنا وقالوا لو كان خيرا ماسبقونا إليه ويغترون أيضًا بما فضلهم الله عز وجل بنعم الدنيا على غيرهم فيرون أن ماخص الله عز وجل به أهل الإيمان أنه لو كان عند الله هدى ما وفق الضعفاء له وتركهم فيغترون ويجانبون الهدى أن لو كان هذا هدى لكنا نحن أحق أن توتاه ممن هو دوننا ويغتر الكافرون بنعم الله عز وجل فى الدنيا فلا يرون أن الله عز وجل أخذهم بعقوبة في الدنيا وأنه إنما أعطاهم ما أعطاهم من الدنيا لما علم منهم من الخير وأنهم عنده بالمنزلة العظمى ألا تسمع إلى قول الله عز وجل إخبارًا عن مقال قارون وموسى ع يخوفه بأس الله عز وجل
فقال
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي
قال قتادة على خير عندى قال الله عز وجل
أَوَلَمْ يَعْلَم أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكثرُ جمعا أى لم يمنع الله عز وجل ما أعطاهم من نعيم الدنيا إذ لم يطيعوه أن يعذبهم فلم يعلم قارون أن الله عز وجل قد فعل ذلك بغيره وذلك من الله عز وجل استدراج لمن أراد أن يهلكه ويعذبه ليغتر بنعم الله عز وجل إلى قوله عز وجل سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ۳ تسمع
ألا
قيل في التفسير كلما أحدثوا ذنبًا أحدثنا نعمة
وقال فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبَوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة 4 وقال في قارون إنما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدى
قال سبحانه بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ
٦٨ ٤٤ ۳
٤ ٦ ٠٤٤
٣٤ ٣٥ ۱
۷۸ ۸
٣٤٦
ثم قال قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم ۱
فأخبر أن الدنيا فتنة بلوى واختبار وأنها ليست بدليل على رضا الله عز وجل عن العباد ألم تسمع قوله تبارك وتعالى
أهنته
فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذا ما ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعْمَةُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
إلى قوله رَبِّي أَهَانَنِ 4 قال الله عز وجل كلاً قال الحسن كذبها جميعًا يقول ليس هذا بكرامتي ولا هذا بهوانى ولكن الكريم من أكرمته بطاعتى على أى حال كان فقيرًا كان أو غنيًّا والمهان من بمعصيتى على أى حال كان فقيرًا كان أو غنيًّا فاغتر الكافرون بظاهر نعم الله عزّ وجلّ وظنوا أن ذلك من كرامتهم على الله عزّ وجلّ وكذلك وصفهم فقال أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ۳ وقال الحسن إن المنافق أساء وتمنى وإن المؤمن أحسن وأشفق ثم قرأ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لى عِنْدَهُ للحسنى ٤
وقد يعترى ذلك كثيرا من المسلمين حتى يخيل إليه أنه إذا وسع الله عليه في الرزق فإنه لعمل صالح عمله فكوفى به وأن الله تعالى يحبه فلذلك وسع عليه كما وصف به ابن آدم فقال
فأما الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعْمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن فقد شارك المسلم المغتر بذلك الذى يظن أن ذلك كرامة له من الله عزَّ وجلّ وأنه بمنزلة له عند
الله عزّ وجلّ الكافرين فى اغترارهم وإن لم يشك فى البعث والحساب ويغتر الكافر أيضًا باستئجار العقوبة عنه وإن خوفها لم يخف فيظن أن العقوبة لم تتأخر عنه هو أهل أن يعاقب وأنه على الحق أقطعنا قال أبو جهل اللهم ا للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة قال الله عز وجل وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
وهو
۵۰ ۳۹ ۱
۸۹ ١٥ ١٦ وتكملة المتروك من الآية وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن
٥٥ ٥٦ ۳ ۳
٤ ٤١ ٥٠
٣٤٧
ومن
ذلك أن قارون دعا موسى له إلى أن يلاعنه فخرج فبدأ قارون فلم يُجب ثم
فأجيب دعا موسى والفرقة الأخرى من الكفار يغترون بما زين لهم من سوء أعمالهم بعبادات يعبدون بها غير الله
فدعا قارون موسى إلى الملاعنة اغترارًا بالله
عز وجل يحسبون أنهم يحسنون صنعا فالغرّة من الكافرين خدعة من النفس بالظن أن له عند الله عز وجل قدرًا لما أكرمه به من الدنيا أو عمل ضلال يحسبه هدى
٣٤٨
باب الغرة من عوام المسلمين وعصاتهم
قال وأما الغرة من عوام المسلمين وعصاتهم فهى خدعة من النفس والعدو يذكرون الرجاء والجود والكرم يُطيبون بذلك أنفسهم فيزدادون بذلك جرأة على الذنوب فيقيمون على معاصى الله عزّ وجلَّ يظنُّون أن ذلك رجاء منهم كما قال وهب بن منبه لابنه يا بني إياك والغرة بالله عز وجل فإن الغرة بالله عز وجلَّ المقام على معصيته وتمنى مغفرته فيقيمون على المعاصي ويتمنون المغفرة والرحمة ويظنُّون أن الذى طيب أنفسهم الرجاء وإنما طيب أنفسهم الغرة فتمنوا وظنُّوا أن ذلك منهم رجاء لربهم عز وجل وإنما أمكن أحدهم ذكر للرجاء حتى ظن أنه رجاء للتوحيد أو لذكر آباء صالحين مع التوحيد أو عمل ضعيف فيغتر بذكر الرجاء ويظن أنه رجاء فيقيم على المعاصى طيب النفس غير نادم ولا مقلع لايشك أن ذلك رجاء منه لربه عز وجل فيطيب نفسه بذلك فيقل حذره وخوفه من الله عز وجل ولو كان ذلك رجاء لقد كان وضع الرجاء في غير موضعه وذلك الرجاء الكاذب فالغرة من الموحد خدعة من نفسه يتمنَّى المغفرة مع المقام على المعصية وذلك الرجاء الكاذب يظنه منه رجاء صادقاً كما قال سعيد بن جبير الغرة بالله عز وجل المقام على معصية الله عز وجل وتمنّى مغفرة الله عز وجل
٣٤٩
باب التمييز بين الرجاء والغرة
قلت بين لى الرجاء من الغرة حتى أعرف أحدهما من الآخر
قال الرجاء الله عزّ وجل في معنيين أحدهما حسن الظن بالله عز وجل حيث وضعه الله عز وجل لأن رجاء المذنبين من عباده ألا يقنطوا وأن يتوبوا إلى ربهم من ذنوبهم قال الله عزّ وجل
قُلْ يَا عِبادَى الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمة الله
إلى قوله تعالى وَأنيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا ١ لَهُ
وقال وَإِنّى لَغَفَّارُ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى الآية وقال وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فقلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أنهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنهُ غَفُورٌ رَحِيمٍ ۳ قال عكرمة نزلت في عمر رضي الله عنه حين كلم بن ربيعة وغيره من المشركين أبا طالب أن يكلم النبي ع أن يطرد بلالا وعماراً وغيرهما فقال عمر للنبي ع لو طردتهم
حتى ننظر ما يريدون فلما نزلت
وَلَا تَطْرُدِ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ 4 الآية
جاء عمر يعتذر من مقالته فنزلت
وَإِذَا جَاءَكَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَافَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ الآية
فرجى الله عز وجل العبد المغفرة على التوبة وإن عظمت ذنوبه وكثرت ألا يمنعه كثرة ذنوبه وعظمها أن يتوب إلى ربه عز وجل ولا يخاف خوفًا يَقْنط معه حتى يقول لا يغفر لى ولا يقبل توبتى فيقيم على المعصية خوفًا ألا يقبل له توبة فيزيده قنوطه مقاماً على المعاصي فيزداد بقنوطه معصبة إلى معاصيه لأن القنوط معصية الله عزَّ وجل يمنع من التوبة عن المعاصي
٦ ٥٤ 3
or 1 1
٥٤ ۵۳ ۳۹ ۱
۸ ۰
٣٥٠
ويزداد به العاصى عصياناً كما قال عبد الله بن سعود الكبائر أربع أحدها القنوط من رحمة الله عز وجل فرجى الله عزَّ وجلّ العاصى من عباده المغفرة على التوبة ألا يقنطوا من أجل ذنوبهم
فيدعوا التوبة إلى ربهم عزّ وجلّ وينقطعوا عن طاعته فهذا أحد المعنيين ورجى الجنات والمنازل العالية والقربة منه عزَّ وجلّ في درجات العاملين له من عباده فقال عز من قائل
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فى صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون
إلى قوله عز وجل أولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الذَّينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْس ۱ الآية وقال عزَّ وجلّ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ٢
فأخبر أن الجزاء والثواب أجور العمال على الأعمال ليرجوا ذلك الجزاء فيعملوا تلك الأعمال رجاء أن ينالوا ذلك الثواب
ثم أخبر أنهم الراجون دون المغترين فقال عز وجل
إِنَّ الذِينَ آمَنُوا والذينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فى سَبِيلِ الله أولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله ۳ فأخبر أن العاملين هم الراجون رحمة الله تعالى لا المغترون
فالمغتر بذكر الرجاء يظن أن الغرة منه رجاء فيقيم علي معاصى الله عزّ وجلّ ويظنُّ ذلك حسن الظن منه وليس ذلك بحسن ظن كما قال وهب حسن الظن بالله ماجانب الغرة وقيل للحسن إن قوماً يقولون نرجو الله عزّ وجلّ ويضيّعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه ودخل رجل على مسلم بن يسار فقال مسلم لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاى فقال الرجل إنا نرجو الله عز وجل فقال مسلم هيهات هيهات من رجا شيئاً طلبه ومن خاف
شيئاً هرب منه فالرجاء هو ماهاج من الطمع والأمل في الله عزّ وجلّ فسخا نفس العاصي بالتوبة وحال بينه وبين القنوط وبعث العبد على الطاعة لله عزّ وجلَّ والتشمير والاجتهاد رجاء ماوعد
۱۸ ۳
۱۱ ۱ ۳ ۱
۱۸۵ ۳
٣٥١
العاملين والغرة خدعة من النفس والعدو بذكر الرجاء بالتوحيد أو بالآباء الصالحين أو بعمل قليل ضعيف فتطيب نفسه بتلك الخدعة حتى تهون عليه ذنوبه لظنه أنها مغفورة فيتمنى المغفرة فيقيم عليها ولا يتوب فهذا فرق مابين الغرّة والرجاء وذلك موجود في فطر العباد في دنياهم أنهم إذا ضيعوا العمل عذلوا أنفسهم وعدُّوه منهم تفريطاً فإن قعدوا عن الأعمال وهم يظنون أنهم يعطون الأجر عدُّوا ذلك من أنفسهم حمقاً وغرة
قلت فأين أضع الرجاء حتى لا يكون غرة قال إن الله عزّ وجل خوف العاصين بغضبه وعقابه ليخوفوا أنفسهم بما خوفهم فيتوبوا إلى ربهم ورجى الله عزّ وجل التائبين من عباده على تركهم الذنوب لئلا يقنطوا فيقيموا على ذنوبهم ورجى العاملين ليبعثهم الرجاء على الأعمال التي تقرب إليه فعلى المؤمن بالله عز وجل العاقل عنه أمره أن يضع الخوف حيث وضعه الله عزَّ وجلَّ فإذا هم بمعصية خوف نفسه ما خوَّفه الله عز وجل به من عذابه فإن غلبه هواه فأتاها فأبت نفسه إلا المقام عليها خوف نفسه بما خوفه الله عزّ وجلّ من غضبه وعقابه ليدع المعصية ويتوب منها بعد ركوبها فإذا همت نفسه بمعصية أو عصت فأبت إلا المقام على العصيان عاتب نفسه وقال لها إن الله شديد العقاب وإن غضبه لا دواء له وإن عذابه لا صبر عليه فخوف نفسه بما خوفه الله حيث أمره أن يخوف نفسه ليقطع ويتوب وإذا أراد التوبة فعارضه القنوط الصاد له عن التوبة ذكر نفسه الجود والكرم فرجاها عفو الله عزّ وجل وكرمه وفضله ولطفه ورأفته ورحمته وما وعد التائبين أنه غفار لمن تاب وآمن وأنه غفور رحيم لمن أناب إليه
ألا
تسمع قوله لولد سبا كُلُوا مِنْ رِزْقَ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةً طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُور ۱ فعظمت علينا بذلك النعمة إذ أخبرنا الله عزَّ وجلّ أنه رب غفور وإذ أقالنا عثراتنا وبسط لنا التوبة ووعد عليها المغفرة أرأيت أن لو كان يأخذنا بأول ذنب أو لا يقبل منا توبة بعد مرة أو بعد مرتين أو بعد ثلاث مرات فإن الناس أكثر ما يردون العذر والتوبة من بعضهم على بعض بعد ثلاث مرات أن يقول أحدهم للآخر قد عفوت عنك ثلاث مرار أو أقلتك ثلاث مرار فلا أكثر من ثلاث فلو كان ربُّنا عزّ وجلَّ كذلك ما هنأنا عيش ولكن لو أذنب عبده ألف ذنب
10 YE 1
٣٦
ألم
كما يحب لأنه عالم بما يستمع به المستمعون مطلع على إرادتهم وهممهم ناظر إلى جوارحهم تسمعه تعالى يعيب من لا يريد الفهم عنه فإنه بذلك عالم منهم إذ يقول جل وعز نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ١ فالله جل وعز مطلع عليك يرى هممك وما تريد فألزم قلبك ما يحب الله تبارك وتعالى عند نظرك إلى ما كتبته لك واستماعك إلى ما أجبتك يورتك ذلك القيام الله عز وجل بحقه
بإذنه وتوفيقه ولطفه إن شاء الله
عنه
٤٧ ۱۷ ۱
٣٥٣
غلب على قلبه من حلاوة لذته فآثر إصابة لذته على طاعة مولاه في إتيانه يوم السبت الذي وعده فيه بالرضاء والثواب فأخر الذهاب إليه إلى يوم الأحد لئلا تفوته لذته وقد علم أنه قد توعده إن أتاه يوم الأحد أن يغضب عليه ويحرمه ما وعده ويعاقبه بأشد العقوبة فتشاغل يوم وهو طيب النفس بما تذكره نفسه من الرجاء فقد قطعه ذكر الرجاء عن خوف
السبت بلذته
العقوبة تاركاً للذهاب فى اليوم الذى وعده فيه الثواب ويرجو الثواب والعفو التأخير مع للذهاب في اليوم الذى توعده فيه بالغضب والعقاب وهو ناس للعقوبة تارك للذهاب لينجز ما وعده من الثواب في يوم السبت متمن لعفوه يقول لنفسه اذهب يوم الأحد فيعفو عنى مولاى ويرضى ويعطيني ماوعدنى من المال ويزوّجنى ويخدمني قد أنساه هذا الذي ترجيه نفسه خوف مولاه وحذره ولم يترك لذته القاطعة له عن طاعة مولاه ألم يك هذا مغررا بنفسه مخاطرًا ببدنه تاركاً للوثيقة والاحتياط لنفسه معرضًا نفسه لهلكتها مضيعًا لطلب رضا مولاه وتنجز ثوابه
وكذلك لو قال له مولاه إذا عملت كذا وكذا محكما تاما أعطيتك ألف دينار وإن أفسدته لم أعطك شيئاً وضربتك ألف سوط فترك إحكامه للذة شغلته وأفسده على عمد للذة آثرها لا ينالها إلا بفساد ذلك العمل فآثرها وهو يعلم أن العمل يفسد كراهة الشغل عنها بإحكام ذلك أو كراهة تحمل مكروه من تعب على بدنه أو قلة في غذائه وهو مع ذلك طيب النفس يطيبها ويرجيها ألف دينار غير خائف لما توعد به من ضرب ألف سوط ألم يك مغروراً قد غرته نفسه فوضع الرجاء في غير موضعه وأزال الخوف الذي يبعثه على طاعة مولاه عن موضعه ولم يضع وعد مولاه وتوعده كل واحد منهما في موضع ينتفع به
فكذلك المغتر بالله عز وجل أقام على ما أوجب عليه حرمان جواره والحلول في عذابه طيب النفس راجياً للثواب غير خائف من العذاب أفليس هذا مغترا مخاطرا بنفسه وإن كان مولاه عظيم العفو قد يفعل ذلك له وقد لا يفعل ألم يك قد اغتر وخاطر بنفسه وغرته نفسه وخدعته لأن العقاب في الحكم عليه يقين لاشك فيه والرجا للمغفرة من غير توبة مع الإصرار شك لا يقين فيه فهو تارك للوثيقة مغرر بنفس ليس لها خلف لا يأمن أن يبدو له من الله عز وجل غير ما يحتسب وذلك أن الذى وجب عليه لا يشك فيه كما وصف الله عز وجل المغترين
فقال
الرعاية لحقوق الله
٣٥٤
وَبَدَا لَهُم مِنَ الله مَالَمْ يَكُونُوا يحتسبونَ ١
قيل في بعض التفسير أعمال كانوا يرون أنها خير فصارت شرًا فذلك رجاء كاذب قلت أليس الرجاء مبسوطاً للموحدين وإن عظمت ذنوبهم والإياس محرم عليهم قال أجل وليس هذا موضعه الذى وضع فيه ولكنه موضع خوف من الله وقد يكون العبد عاصياً مغتراً فإن عارضه القنوط قمعه بالرجاء من أجل التوحيد فقمع به القنوط الذي هو معصية لمولاه لئلا يجمع معصية وقنوطاً فيكونا ذنبين فإن طيب بعد ذلك نفسه بذكر الرجاء فجرأه على المُقام على معاصى الله عز وجل فقد اغتر بالله عز وجل لأن الله عز وجل جعل الرجاء مزيلا للقنوط الذى يمنع من التوبة والعمل باعنا على الطاعة والقربة إليه وجعل الخوف مانعاً من الأمن والاغترار مزيلا عن الإقامة على الذنوب مانعاً لمواقعتها عند الهم
بها
ألم تسمع إلى قوله عز وجل وَأَمَّا من خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ٢ فالخوف مانع من الذنب قبل مواقعته مهيج على التوبة بعد إصابته
فهذا فرق ما بين الرجاء والغرة بالله عز وجل ولقد أعلمنا الله عز وجل على لسان النبي عمال العلم أن الغرة تشتمل في آخر الزمان على آخر هذه الأمة بذكر الرجاء في غير موضعه فدمهم النبي الله بذلك وأخبر أن ذلك عند ذهاب الحق وأهله وغلبة الباطل على آخر هذه الأمة رواه عنه معقل بن يسار أنه قال يأتي على الناس زمان يخلق أى يبلى فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان يكون أمرهم كله طمعاً لا خوف معه إن أحسن أحدهم قال يُتقبل منى وإن أساء قال يغفر لى فأخبر الله أن ذلك عند ذهاب الفهم والعقل عن الله عز وجل من قلوبهم حتى يخلق فيها فهم كتابه والأخذ فيه بأدبه يقلبون آدابه فيضعون الطمع موضع الخوف والإشفاق والوجل
وبذلك وصف الله عزَّ وجلَّ النصارى فى كتابه فقال - بعدما فرغ من إخباره عن بني
إسرائيل - فقال
٤ ٤١۰ ۷۹
٤٧ ۳۹ ۱
٣٥٥
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ ۱ لنا قال مجاهد هم النصارى يأخذون ما أشرف لهم من الدنيا من حلال أو حرام يشتهونه يأخذونه ويتمنون المغفرة وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه
وقال سعيد بن جبير يعملون بالذنوب ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه قال الذنوب وقال ابن عباس رضى الله عنه ألا يقولوا على الله إلا الحق ما يتمنون على الله عزَّ وجلَّ من
غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها يخبرك أنهم يغترون فيصيبون الذنوب و يعثرون فيقيمون عليها ويعاودونها يرجون المغفرة يعدونها أنفسهم مع معاصى الله عزّ وجل وعلى ذلك عامة عصاة المسلمين من غير قطع بالمغفرة ولكن غرة تطيب بها أنفسهم يظنونها رجاء صادقاً وهى غرة بالله عزَّ وجلَّ وخدعة عن طريق النجاة كما وصف المغترين من هذه الأمة أنهم إن أذنبوا قالوا يغفر لنا فلا يفزعون ولا يرهبون فيتوبوا وإن أحسنوا قالوا يتقبل منا فلا يشفقون ولا يوجلون فزال الخوف عنهم فلم يخافوا عقوبة على ذنوبهم ولم يشفقوا على إحسانهم فيحذروا على أعمالهم لتخلص بالقبول إلى ربهم عز وجل
14V 1
٣٥٦
باب الغرة من أهل النسك
وأصنافهم واختلافهم وغرة أهل العلم
قلت فما الغرة ممن أظهر النسك وعدَّه الناس وعدَّ هو نفسه من الديانين قال أولئك فى الغرّة أصناف مختلفون فمغتر بالعلم ومغتر بالقليل من العمل ومغتر
بالبصر بالحجاج والجدال ومغتر بالستر والإمهال ومغتر بالثناء من الناس والتعظيم منهم له ومغتر بذكر آبائه الصالحين
فأما المغترون بالعلم فهم فرق شتى على قدر منازلهم فيه
فمنهم فرقة تغتر بكثرة الرواية وحسن الحفظ مع تضييع واجب حق الله عز وجل وتخيل نفس أحدهم إليه وعدوه أن مثله لا يعذب لأنه من العلماء وأئمة العباد الحافظين على المسلمين علمهم ويعمى عليه أكثر ذنوبه فلا يرى أن مثله فيما بلغ من العلم يرائى ولا يعجب ولا يتكبر ولا يحسد وإنما يفعل ذلك الجهال الذين لا يعرفون العلم ولا يحفظونه فيقل خوفه وحذره من عذاب الله عز وجل وَيُغْفِلُ التفقد لنفسه إذ كان يرى أن مثله لا يعمل بالأخلاق الدنية لأنه قد ارتفع بالعلم عن ذلك فلا يتّهم نفسه فإذا لم يتهمها لم يتفقد من نفسه الأخلاق المذمومة عند الله عز وجل ولم يحذرها لأنه إنما يتفقدها الجاهل فأما مثله فقد ارتفع بالعلم عن ذلك فيضمر مايكره الله عز وجل من الرياء والعجب وغيره ويغتاب ويهمز ويلمز ويتكبر على العباد ويُسيء بهم الظنَّ ويشمت بالمصائب والبلاء وهو يرى أنه برى من جميع ذلك إذ لم يضع نفسه موضع التهمة فيتفقدها عند دعائها إلى ماكره الله عز وجل فلو تفقد نفسه علم ذلك كله حين تعرض بالدعاء إلى ماكره الله عز وجل فهو يَعدُّ نفسه من الورعين العالمين بالله عزّ وجل وهو عند الله عز وجل من الفاجرين والجهال به الذين لا يخافونه ولا يحذرون عقابه
وجل
وقد يعلم بعض هذه الفرقة بكثير من ذنوبه فلا يفزعه ذلك ولا يرهب من الله عز من أجله يرى أنه قد قام مقاماً من العلم لا يعذب مثله فهذه الفرقة الفاجرة ممن حفظ
العلم وأكثر روايته
rov
قلت فيم ينفي ذلك قال ينفيه بمعرفته أن العلم حجة عليه وأن الله عز وجل حمله ما أعظم به عليه حجته وشدد عليه به فى القيامة المسألة فإن ضيّع العمل فلم يقم بواجب الحق الله عز وجل وبترك ما نهى عنه في ظاهره وباطنه كان عند الله عز وجل أعظم وأشد عذاباً من الجاهل وإنما جعل الله عز وجل العلم وعلمه عباده ليعرفوا به ما أوجب عليهم وأحب فيقوموا لله عز وجل بذلك وليعرفوا ما حرم الله عز وجل فيجانبوه ويعرفوا ربهم فيخافوه وجزيل ثوابه فيرجوه وعظيم عذابه فيحذروه فإن لم يغلب الحذر على قلبه والخوف من الله عز وجل فهو جاهل في العلم لأن الله عز وجل وصف العلماء بذلك فقال عز وجل إنما يخشى الله من عِبَادِه العلماء 1
قيل في التفسير أعلمهم بالله عز وجل أشدهم له خشية
وقال خالد الربعي فاتحة الزبور ورأس الحكمة خشية الله عز وجل قال عبد الله ليس العلم بكثرة الرواية ولكن إنما العالم من خشي الله عز وجل وقال عبد الله بن مسعود كفى بخشية الله عزّ وجل علما وكفى بالاغترار بالله جهلا أن العالم هو الخائف من الله عز وجل وأن المغتر هو الجاهل حفظ العلم ورواه أو لم يحفظه كما قال في كتابه حين ذكر بلعم بن باعورا
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَتْ أو تَتْرُكْهُ يَلْهَتْ
قيل في التفسير يقول الله عزَّ وجلَّ سواء على هذا العبد آتيتُه الحكمة أو لم أوته وقال داود إلهى ما عِلْمُ من لم يخشك وما حكمة من ضيع أمرك ! فمن ضيع أمر الله عز وجل بعد علم فهو جاهل بالله عزَّ وجلّ إذا كان أعظم جرأة من الجاهل على الله عزَّ وجلَّ فلو كان هذا عالماً بالله عزَّ وجلَّ لما اجترأ بأعظم من فلا علم للمغتر بل هو أشدُّ جهلا بالله عزَّ وجلّ من الجاهل الذي لا يعرف العلم ولعله لو عرف كما عرف هذا المغتر الذى أكثر الرواية للعلم ما ضيع أمر الله عزَّ وجلَّ فهو شر من الجاهل
الجاهل
جرأة
كما روى عن أبي الدرداء ويل للذى لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للعالم سبع
۸ ۳۵ ۱
٣٥٨
مرات أي الحجة عليه أضعاف وكذلك العذاب
فإذا تذكر هذا وأمثاله حذر الله عزَّ وجلَّ وازداد مع العلم وجلا وحزنا كما قال
أبو الدرداء من يزدد علما يزدد وجعاً
وقال الله عز وجل
إِنَّ الَّذِينَ أوتُوا العِلمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجداً إلى قوله ويَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ١ وقال عز وجل إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا فوصف العلماء من قبلنا ومن هذه الأمة بالوجل والإشفاق والدليل على ذلك البكاء مع سجودهم إذا تتلى عليهم آياته وهى أعظم العلم وأشرفه وينفى اغتراره الذي عماه عن دنبه حتى يخيل إليه أنه لا يعتقد مثله الأخلاق المذمومة عند الله عزَّ وجلَّ لما حفظ من العلم فينفى غزته بذلك أن يعلم أن حفظه للعلم لن يجزيه دون معرفة معانيه فيما دل عليه من المحبوب لله عزّ وجلَّ والمكروه حتى يعرف معانى العلم في المحبوب الله عز وجل والمكروه وأنه إن عرف معانيه لم تجزه معرفته بذلك دون القيام بما أوجب الله عزّ وجل بعد معرفته به والانتهاء عما حرم الله عزّ وجلَّ عليه فإن علم أ أن ذلك لا يجزيه فألزم قلبه طلب معرفة معانى العلم وحمل نفسه بعد المعرفة على القيام بما أحب الله عزَّ وجلَّ وترك ماكره الله تعالى عرف أنه معطل من معرفة معانيه دون القيام به فلم يغتر وعلم أن ما علم عليه وبال إذ شارك الجاهل فى جهله بعد معرفة العلم وعظمت عليه الحجة إذ جهل معانيه بعد علمه بحفظ تلاوته وروايته فهو أشد بلاء من الجاهل الذى لم يعرف تلاوة العلم ولا حفظ روايته وقد شارك أيضا الجاهل في تضييعه العمل به بعد حفظه العلم
فإذا ألزم قلبه انتفت عنه الغرّة بما حفظ من العلم واهتم بطلب معانيه والتفكر فيه والقيام به فلم يغتر بما حفظ وعد نفسه جاهلا بالعلم بعد حفظه له وأسوأ حالا ممن لم يحفظه
ولم يدرسه ولم يروه
۰۸ ۱۹
۱۰۹ - ۱۰۷ ۱۷ ۱
٣٥٩
باب الغرة بالفقه
والفرقة الثانية يغتر أحدهم بالفقه فى العلم بالحلال والحرام وبالبصر بالفتيا والقضاء فهو يغتر كغرة الحافظ بالعلم وأعظم غرّة حتى لا يرى أن أحدًا أعلم بالله عزّ وجل منه لأنه قد علم الحلال والحرام والفتيا والقضاء فهو القائم للأمة بدينها ومَفْزَعها إليه ولولا مثله ضاع الدين وما عرف حلال من حرام واستصغر أهل الرواية والحفظ إذ لم يفقهوا الحلال والحرام ويعلموا الحكم والقضاء فهو عند نفسه القائم بالدين دون غيره وأن الله عزّ وجل لا يعذب مثله وأنه لا يعتقد ماكره الله عزّ وجل لأن مثله لا يركن إلى ماكره الله عز وجل ولا يطمع الشيطان في مثله إنما يطمع فيمن جهل حلال الله وحرامه فيغتر بذلك فيقل حذره من الله عز وجل ورهبئة له وتُعَمَّى عليه أكثر ذنوبه مما لم يفقه عن الله عز وجل في تركها والقيام في حقه فيما أحل وحرم
قلت فيم ينفى ذلك
عظمته
قال بمعرفته أن الفقه عن الله عز وجل فيما عظم من نفسه وأخبر به من جلاله وهيبته ونفاذ قدرته وما وعد من ثوابه وتواعد به من عقابه أعظم الفقه وأشرفه وأنه لن ينفع الفقه في الحرام والحلال إلا بالفقه في ذلك لأن من فقه عن الله عز وجل فيما أخبر من وجلاله وهيبته ونفاذ قدرته وملكه للأشياء فى الضر والنفع دون غيره وما وعد من ثوابه وتواعد به من عقابه هاب الله عز وجل وأجله واستحياه وعبده كأنه يعاينه لما فقه عنه من عظمته وجلاله وعظم ربوبيته ولما فقه عن الله عز وجل في وعده ووعيده حتى كأنه الجنة والنار بقلبه أشتد خوفه من الله عز وجل ورهبته به لما عاين بقلبه من أليم عذابه وأشتد شوقه إلى جواره والقرب منه لما استقر فى قلبه من عظيم ثوابه وكريم النعيم في جواره
يشاهد
فحينئذ يهاب الله عز وجل ويخافه فيترك كل ما فقه فيه من حرامه ويرجو الله عز وجل ويشتاق إلى جواره فيتحمل كل مكروه فى القيام بحقه الذي ينال به ما وعد من جزيل ثوابه فهو تارك لما كره الله عز وجل عامل بما أحب الله عز وجل لما وقر فى قلبه من الفقه عن الله عز وجل لأنه مزعج له عن كل ماكره مولاه باعث له على القيام بحقه فإذا فقه في ذلك عرف أنه معطل من
الفقه وأنه إنما فقه فيا وجب عليه به الحجة وأنه ليس من الفقهاء عن الله عز وجل لقوله سبحانه إنما يخشى الله من عباده العلماء
وأن الفقيه الخائف لله عز وجل كما قال تعالى قد فَصَّلنا الآيات لقوم يفقهون ۱ وقال النبي من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فمن أراد الله عز وجل به خيرا وفقه للفقه عنه والفقه فيما أحل وحرم فخافه ورجاه فجانب ما علم من الحرام وقام بما علم من واجب الحق الله عز وجل عليه ومن ضيع حق الله تعالى وركب ما نهى عنه بعد معرفة به فلم يوفق للخير ولكن ابتلى بما عظمت عليه فيه الحجة واشتدَّ عليه به البلاء وصار به من فجار العلماء بالحكم والفتيا مع التعرض لغضب الله عز وجل
وقد يطلب بما يفقه الدنيا لا الآخرة فإذا عرف ذلك لم يعد نفسه فقيها بغير خشية الله عز وجل كما روى عن الشعبي أنه قيل له افتنا أيها العالم يدلك هذا أنهم يعلمون أنه عالم بالفتيا فأجابهم إن العالم من فقه عن الله عز وجل ما توعده به فخافه وقال إنما العالم من خشي
الله
وقيل للحسن البصري إن فقهاء نا لا يقولون ذلك فى شيء استفتى فيه فقال لسائله وهل رأيت فقيها قط الفقيه القائم ليله والصائم نهاره الزاهد فى الدنيا يخبرك أن الفقيه من فقه عن الله عز وجل فأزعجه ذلك إلى كل ما أحب ربه عز وجل حتى زهد في الدنيا فجانبها بما فقه عن الله عز وجل فى فنائها وشدة الحساب عليها ونقصان من ركن إليها من أوليائه من الثواب وعذاب من ركن إلى حرامها من أعدائه وفقه عنه ما أخبر به من دوام نعيمه وجزيل ثوابه
فأسهر ليله وصام نهاره ورفض الدنيا ليناله أيضًا أن رجلا سأله عن شيء فأفتاه فيه بفتيا فقال له الرجل إن فقهاءنا
وروى عنه
لا يقولون ذلك فقال الحسن وهل رأيت فقيها قط الفقيه بدارى ولا يمارى ينشر حكمة الله عز وجل فإن قبلت حمد الله تعالى وإن رُدَّت حمد الله تعالى يخبر أن الفقيه من فقه عن الله عزّ وجل فعظمه بقلبه وأيقن أنه لا نافع ولا ضارّ غيره فهان عليه شأن الخلق فلم يخفهم فيداهنهم فيكتم ما علمه الله من حكمته ولكن أظهرها ا فإن قبلت حمد الله عزَّ وجلَّ إذ أخذ عنه ما يؤجر فيه ووفق عباده لقبول الحق ولم يفرح لقيام المنزلة عندهم وإن ردَّت حمد الله
441 1
٣٦١
عز وجل إذ وفقه لنشر الحق فآجره وإن ردَّه الخلق لم يغتم لسقوط منزلته عندهم ولا ذمهم
الأمر عليهم أعظم
الخلق
لأنه أخذ
منه
عليهم
ولا خافهم دون ربه عزّ وجل قائم بما عليه حامد له على كل حال متوكل عليه دون خلقه فإذا عرف العبد ذلك وألزمه قلبه اهتم بالخوف من الله عزّ وجلَّ فيما فقه وعلم فإذا اهتم بالخوف من الله عز وجل فيما فقه وعلم اهتم بالعمل فيما علمه الله عزَّ وجلَّ وفقه فإذا اهتم بطلب الخوف والعمل الله عزّ وجلَّ اهتم بالفقه عنه بطلب الخوف منه فحينئذ يعد نفسة من الجهال المضيعين حتى يرى نفسه خائفة راجية قائمة بأمر الله عز وجل فى نفسه وفي خلقه لأن الفقهاء على الجهال لأن الله عز وجل أوجب عليهم أن يقوموا به في أنفسهم وفى الميثاق فيما علمهم أن يُبينوه للناس ولا يكتموه فإذا علم ذلك زال عنه الاغترار بالله عز وجل فلزم قلبه الحذر والخنوف فيما علم ليقوم لله عز وجل به و يتفقد حق الله سبحانه في ظاهره وباطنه وعلانيته وسريرته وأهتم بمعرفة ذلك من نفسه فلم يعم عليه ذنوبه دون معرفتها ولم يقنع بمعرفتها دون تركها من خشية الله عز وجل فهو مهتم بالعمل فيما علم وفقه خائف من المسألة من الله عز وجل عن ذلك فلا يكون عنده حجة كما يروى عن أبي الدرداء أنه قال ما أخاف أن يقال لى يا عويمر ماذا علمت ولكن أخاف أن يقال لى يا عويمر ماذا عملت فيما علمت ولن يؤتى الله عز وجل أمراً علما فيه الدنيا إلا سأله عما عمل فيه يوم القيامة وروى أيضا أنه قال إن قلتُ علمتُ قيل لى فما عملت فيما علمت فإذا أنا لاحجة لى فبذلك ينفي الفقيه الغرة بربه تعالى
باب الرعاية لحقوق الله عز وجل والقيام بها
فأما ما سألت عنه من الرعاية لحقوق الله عز وجل والقيام بها فإنك سألت عن أمر عظيم أصبح عامة أهل زمانك له مضيعين وهو الأمر الذى تولى الله عليه أنبياءه وأحباءه لأنهم رعوا
عهده وحفظوا وصيته وبذلك جاء الحديث عن
النبي
رواه عنه محمد بن على بن حسين بن فاطمة ابنة النبي أنه قال لهم الملك العظيم فى الوقت الذى أمِنُوا فيه من كل ما كانوا يخافون وحَلُّوا في كل ما كانوا يأملون وفيا لم تبلغه آمالهم في المقعد الصدق الذي وعدهم فيه بأن يريهم وجهه ويبلغهم غاية الكرامة من رؤيته ورضوانه فقال لهم فى ذلك المقعد الذي ليس فوقه منزلة
ولا بعده غاية كرامة
مرحباً بعبادى وزوارى وخيرتى من خلقى الذين رعوا عهدى وحفظوا وصيتى
وخافونى
بالغيب لأنهم حفظوا ما استرعاهم واستودعهم وكلُّ ما أمر الله عز وجل بالقيام به قا قد أمر
برعايته ألا ترى إلى قول النبي
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
ألا ترى
فعلى العباد أن يقوموا بما أوجب الله تعالى عليهم في أنفسهم وفيمن استرعوه فالإمام راع على الناس يجب عليه حفظ ما استرعى من أمورهم وكذلك الخاصة والعامة عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لو أن سخلة ١ ضاعت بشاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عز وجل عنها وكل حق أوجبه الله جل وعز على عباده في خاصة أنفسهم أو فيا أوجب لبعضهم على بعض فقد أمرهم بحفظه والقيام به وذلك رعاية حقه الذى افترضه عليهم والقيام به ولقد ذم الله جل وعز قوماً من بنى إسرائيل ابتدعوا رهبانية لم يؤمروا بها فلم يرعوها حق
رعايتها فقال تعالى
1 السخلة الشاة
٣٦٢
باب الغرة بعلم العمال الله تعالى من علم الصدق والإخلاص ونفى الرياء والأخلاق المذمومة
ووصف الخوف والرجاء والحب
ومنهم فرقة علمت العلم وعملت بمعانيه فى حقوق الله عزّ وجلَّ التي تحقُّ الله عز وجل على عباده من حقه وحبه وخوفه ورجائه وحسن التوكل عليه والرضاء بقدره ومعانى ما ذم الله ونهى عنه من الأخلاق الدنية والمذمومة عنده كالرياء والعجب والكبر والحسد وسوء الظن وأشباه ذلك من أعمال القلوب ومن الكذب والغيبة فحسنت عبارتهم بذلك ويصفون تعظيم الله عز وجل وحبَّه والحياة منه وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرضاء عنه والإخلاص له فيذمون الأخلاق المذمومة عنده من أعمال القلوب والجوارح فلا يشك أحد منهم عند نفسه أنه لا يصف خلقا مما يقرب إلى الله عز وجل إلا وهو قائم به ولا خُلْقاً ذمه الله إلا وهو مجانب له لأنه علم أنه لم يعبر بلسانه إلا عما فى قلبه فيظن أنه لم يعظم الله بلسانه إلا وهو معظم له بقلبه إذ كان إنما
يؤدى لسانه عن قلبه
وكذلك الحياء من الله عز وجل وجميع الأخلاق الكريمة فلولا أن هذه الأخلاق ساكنة قلبه لازمة له معتقد لها بالعمل بها ما علمها ولا أحسن أن يصفها إذ كان وصفه بلسانه إنما هو ترجمة عما في قلبه ولولا أن ما يصف من حقوق الله عز وجل والقربة إليه ساكنة قلبه وأنه قائم بها لما ألزم معرفتها قلبه ولا عبر عنها بلسانه
وكذلك مايصف من تضييع حقوق الله عز وجل وما نهى عنه مما ذمه وأحبط العمل من أجله مما لا يُعرف إلا بشدة التفقد له ولولا أنه تارك مجانب له لما لزمت معرفة ذلك قلبه ولا ذمه بلسانه أما المغتر فهو يرى أنه من الخائفين الله عز وجل وهو من الآمنين ومن الراجين له وهو من المغترين المضيعين ومن الراضين عنه وهو من الساخطين عليه ومن المتوكلين عليه وهو من المتوكلين على غيره قليلة بالله ثقته ومن المخلصين له وهو من المراثين حتى أنه لقد يصف الإخلاص بترك الإخلاص ليقال مخلص ويصف الرياة ليقال قد فطن إلى مذهب الرياء قلبه
٣٦٣
فقره حسن وصفه وبيان عبارته بلسان ومعرفة قلبه بجملة ذلك كله وإنما ذلك كله لمعرفته بغير اعتقاد نية ولا عمل بضمير ولا جارحة إلا الشيء البسير الذي لا يعرى أن يناله عامة
المسلمين
قلت وكيف عرف بقلبه ووصف بلسانه ما هو منسلخ من العمل به قال تلك معرفة اللسان من الكتاب والعلم وحفظ كلام المتكلمين ممن عمل منهم بما
يقول فهو يصف الإخلاص لمعرفته بجملها ويصف الخوف لمعرفته ما الخوف لا أنه تكلف الخوف حتى خاف الله وحذره ثم وصف الخوف بعد القيام به وكذلك جميع أخلاق الدين وكذلك يصف الرياء بجملة المعرفة له ماهو فى العلم وما دلّ عليه العلماء من غير تفقد له من قلبه حذرًا من الله عز وجل أن يطلع على قلبه وهو معتقد للرياء فيمقته ويحبط في القيامة عمله فيكون قد تفقده بحذر من الله عز وجل ونفاه واتقاه وجانبه ثم وصفه بعد حذره من الله عز وجل من أجله ونفيه إياه عن قلبه ولكن يصف ما عرفه من العلم من محبة الله عز وجل وما يكره من غير تفقد منه لنفسه ولا قيام الله بما يحب في ذلك قلت هذه الغرة المستحكمة كيف له أن ينفى الغرّة بذلك من بعد علم أنه مغتر وما الدليل عنده أنه مغتر بجميع ذلك غير قائم به
جميع
قال إن الوصف للعلم غير العمل به فليبلُ نفسه عند العمل بذلك فإنه يبين له أنه مغتر لأنه إنما خاف من الله عز وجل وسكن الخوف قلبه فيما يرى أن يعذبه بذنبه كما قال على رضى الله عنه لا يخاف أحدكم إلا ذنبه وإن كان الله عز وجل يستأهل أن يخافه العبد وإن لم يذنب ذنباً كما خافته الملائكة وإن لم تذنب ذنباً لأن أول منازل الخائفين الخوف من الذنوب فإذا بلى نفسه واختبرها عند أول منازل الخائفين فافتقد الخوف منها فلم يجده علم أنه اغتر بما يصف بلسانه وأنه ليس من أهله فإذا عرض له فرض في باطنه أو ظاهره سرًا أو علانية نظر هل تسارع نفسه إلى القيام به حذرًا من الله عزّ وجل من تضييعه وإذا عرض له ذنب مما يسخط منه ربه عزّ وجلَّ نظر هل تسارع نفسه إلى تركه خوفاً من الله عزّوجل أن يحل به غضبه فإذا تفقد نفسه عند القيام بالفرض وترك الذنب فوجدها مضيعة لفرض الله عزّ وجلَّ غير خائفة وراكنة إلى الذنب غير فازعة علم أنه لو كان الخوف ساكنا قلبه قائماً به حذرًا من ربه عز وجل لاشتد هيجانه عند الفروض وركوب الذنوب إذ ادعت نفسه أنها تخاف الله وأن ما يصف من الخوف هو ساكن فيها وإذاً لهاج الخوف أعظم مما كان يجده عند وصفه له من غير أن يعرض فرض
منه
٣٦٤
ولا ذنب إذ كان فى ذلك غضب الله عزّ وجل وإيجاب النار عليه فلما افتقد ذلك ولم ير من قلبه فزعاً من الله عزّ وجل ورأى نفسه متمادية متسوفة علم أن الأمن هو الساكن في قلبه إذ كان هو المستولى عليه عند حاجته إلى الخوف والخوف قد زايله عند حاجته إليه وأولى حال أن يكون الخوف من الخائفين الحال التي توعد الله عزَّ وجلَّ فيها بسخطه وعقابه فلما فقد الخوف عند تضييع الفرض وركوب الذنب علم أن الخوف زائل عن قلبه وأن الأمن حال فيه وكذلك جميع ما يصف بلسانه وإن هو قام ببعض وضيّع بعضًا علم أنه لم يلزم قلبه من الخوف إلا بقدر ماحفظ من حق الله عز وجل وأن الخوف فيه ضعيف بخلاف ما كان يرى
وكذلك يصف الزهد في الدنيا حتى إذا أوتى منها شيئًا تشاغل به عن نفسه وآثر به هواه ولذته وأخرجه رياء للعباد فعلم أن الزهد لو كان ساكناً قلبه لرفض الدنيا ونبذها عند الظفر بها وما أثر على الله عز وجل وعلى الآخرة ما هو زاهد فيه ومبغض له
وكذلك يصف الحب الله عز وجل وهو عامة ليله ونهاره ناس له عند اعتراض محبته وإن أراد نفسه على الخلوة والأنس بربه عز وجل استوحش ذلك وثقل عليه فإن خلا بخير لم يجد للخلوة بمناجاة ربه عز وجل نورًا فى قلبه ولا حلاوة لذكره وإن عرض الأنس بالمخلوقين استراح إلى ذلك وملأ قلبه حلاوته
فهل رأيت حبيبا ينسى حبيبه ويُؤثر محبة نفسه عليه أو يستوحش من الأنس به ويستأنس بغيره وإن كان حائلا بينه وبينه هذا كذب من الحب غير صادق صاحبه إلا حب التوحيد الذي لو زال عنه كان كافرًا
ويصف التوكل عليه إن واتته الدنيا وأعطاه الله ما يحب فإن خولف هواه بضيق العيش أو عرض له خوف مخلوق أو طمع ما لما في يديه اضطرب قلبه فخاف غير الله وطمع لما في أيدى العباد واهتم لإبطاء رزقه وتسخط ماقل منه هل يتعلق هذا بشيء من توكل الواثقين بالله عز وجل وإنما يحتاج إلى التوكل عند هذه الحال وكذلك يصف الإخلاص فإذا عرض العمل هاج الرياء وافتقد الإخلاص وإنما يحتاج إلى الإخلاص عند العمل ونفى الرياء عند العمل من العمل لئلا يحبط الله عز وجل العمل عند الفقر في القيامة إليه فلما افتقد الإخلاص عند الحاجة إليه وهاج الرياء عند ذلك وغلب عليه علم أن الإخلاص لم يكن ساكنا قلبه ولو كان لما افتقده عند الحاجة إليه إلا عند الغفلة ثم
٣٦٥
يفزع إلى الرجوع كالحائد عن الطريق الذي يؤم المسير عليه
وكذلك يعرض له عند العمل العجب والكبر وغيره فيركن إلى عامة ماكره الله عزّ
وجل عند العمل كالعجب والكبر وجميع ماكان يذم بلسانه فإذا افتقد عامة ما كان الأخلاق المحمودة المقربة إلى الله عز وجل عند موضع الحاجة إليها وغلبت عليه الأخلاق المذمومة عند الحاجة منه إلى مجانبتها علم أنه كان مغترا بما كان يصف بلسانه
يصف من
قلت كيف يصف بلسانه ماليس فى قلبه منه شيء إلا معرفته فيغتر بذلك قال إن أصول ذلك في قلبه فى عقد إيمانه لأنه يحب الله عز وجل حب التوحيد الذي لو فارقه كان كافرًا بالله تعالى
وكذلك لا يأمن الله عز وجل لإيمانه أن له عقابًا وعذابًا ولو لم يعلم أن له ذلك كان كافرا
معاندا
6
وكذلك يُخلص لله التوحيد والفرض لا يعبد إلها غيره عقده على ذلك وكذلك يؤمن أنه مالك للضر والنفع مدير الأشياء ولو لم يعلم ذلك كان كافرًا فلما لزمت هذه الأصول التي هي عقود التوحيد قلبه ووصف معالى منازل الخائفين والراجين والمحبين والمتوكلين والمخلصين مع معرفته بذلك مما وجده في العلم وما وصف عن القائمين لله عزّ وجل يجيمع ذلك ظن أنه لم يصف شيئًا من ذلك ولم يعرفه إلا أنه من أهله وإذا رجع إلى قلبه لم يجده يعرى من أن يدين في عقود إيمانه بجميع ذلك فاجتمعت هذه الجملة من الإيمان في قلبه مع معرفة المنازل العالية التي كانت عن هذه الأصول ووجد عنده منها الشيء اليسير فلما وصفها بلسانه لم يشك أنه من أهلها والقائمين لله بها دون عوام المسلمين إذ لم يعرفوها ولم يصفوها إلا الشيء اليسير منها الذى يناله كثير من عوام المسلمين فلما تفقد نفسه عند الحاجة إليها فرآها له مفارقة لم يبق فيه منها إلا عقود تدين الإيمان علم أنه من شر عوام المسلمين وأنه زائل عما كان يصف من معالى الدرجات ومحامد الأخلاق وراكن إلى ماكان يصف من الدم ويخيل إليه أنه تارك له ناج منه فعرف غرته بذلك عند تفقده ذلك من نفسه فإن كان مع ذلك ممن يدعو العباد إلى ماكان يصف بلسانه ويعرفه من غير قيام الله عز وجل به كما وصفت لك علم حين تفقد ذلك من نفسه أنه أشد بلاء وغرة ممن كان لا يدعو العباد إلى ذلك وأنه كان مغترًا بما يصف ويعرف فيعلم أنه شرّ منه لأنه أظهر الدعاء إلى الله
٣٦٦
عز وجل وهو فارّ منه وأنه كان يحوف بالله وهو له آمن ويذكر بالله وينساه ويقرب إلى الله عز وجل ويتباعد منه ويحضُّ على التوكل على الله وهو غير واثق به وعلى الرضاء عنه وهو
ساخط عليه وعلى الإخلاص له وهو معامل لغيره
فحينئذ تعظم حسرته وتشتد ندامته ويحق له
ألم
تسمع ما يروى أسامة بن زيد عن النبي عل الله أنه قال يؤتى بالعالم يوم القيامة فيرمى به في النار فتندلق أقتابه فيدور به كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون له مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه ولا انتهى عنه " وقال النبي الله في حديث أنس رضي الله عنه * مررت ليلة أسرى بي بقوم تقرض شفاههم بالمقاريض فقلت الجبرائيل من هؤلاء قال هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أَفَلا يَعْقِلُون وروى عن الحسن أنه قال مكتوب فى التوراة ابن آدم أتذكر بي وتنسانى وتدعو إلى
وتفر منى !
وفي حديث غير الحسن لأن عدت إلى هذا الثانية لاجعلنك نكالا بين العابدين فالمغتر بجملة معرفته بما يصف بلسانه وإن لم يدع العباد إليه عظيم البلاء إذ خيل إليه بل كان عند نفسه موقنا أنه قائم بعامة مايعرف ويصف فما تفقد نفسه عند مواقع الأعمال التي ينال بها رضاء الله وافتقد ذلك من نفسه علم أنه بالله عز وجل عظيم الغرة حقيق بشدة الحسرة والندامة
وهذا الذى جمع مع غرته عن الله عز وجل بذلك دعاء العباد إلى ذلك حتى قام مقام الدعاة إلى الله القائمين بحقه عند نفسه وعند العباد هو أعظم حسرة وندامة وتأسفاً على ماقطع من عمره بالغرة والغفلة عن الله عز وجل وإنما أطلتُ الوصف في هذه الفرقة لأنها عظيمة غرتها قد غلب ذلك على كثير ممن يتعبد ويرى أنه من النساك العاملين لله عز وجل
٣٦٧
باب الغرة بحفظ كلام المذكرين والقصص وأحاديث الزهد وغيره
وفرقة ممن ترى أنها من أهل العلم يحفظ أحدهم كلام المذكرين وأحاديث الزهد والذم للدنيا لا يعرف معنى ما يقول ولا ما يذكر به من الحديث أكثر من أنه قد حبب إليه ذلك
وخف عليه
فمنهم من يذكر به الناس
ومنهم من يذكره الجلسائه وإخوانه غير عارف بما يقول وهو مع ذلك مغتر بذلك يرى أنه من العاملين لله عز وجل والعلماء به والعارفين لذم الدنيا يرى أن مثله لا يعذب وهو مع ذلك تعمى عليه أكثر ذنوبه لاغتراره بما يقول ويروى ويرى أنه إذ حفظ من الذكر ما حفظ ومن الأحاديث في الزهد ما حفظ قد جاوز مرتبة أهل الدنيا والرغبة فيها وأنه غير مُراء ولا متكبر ولا معجب ولا يأتى كثيرًا من الذنوب وإنما يفعل ذلك العوام الذين لا يعرفون ما يعرف هو فهو مغتر بما يقول ويروى ويكتب
قلت فيم ينفى الغرة بذلك
قال يرجع إلى نفسه فينظر أين خوفه مما يذكر من الخوف والرقة وكيف حفظه الجوارحه عما كره الله عزّ وجلَّ وهل قلبه طاهر من كل ما يسخط الله عز وجل عند دواعيه ونوازعه أهو كما يصف به القلوب من الطهارة ونفى الأدناس عنها وهل هو كما يروى من الحديث في خشيتها ورقتها وهل يراه مؤثرًا للدنيا على محبة ربه عزّ وجلَّ فيما أوجب فعله وأوجب تركه وندب إلى القربة به فإنه حينئذ يرى نفسه تغلبه إلى استعمال جوارحه فيما كره الله عز وجل من الكلام بلسانه والنظر بعينه وسائر جوارحه من المشى وغيره فيما عليه ولا هو له وكذلك قلبه يجده ينازعه إذا تفقده عند دواعيه إلى الرياء والكبر والعجب والحسد وغيره وكذلك بجد نفسه مؤثرة للدنيا على محبة ربه عز وجل فى أكثر أحواله فإذا علم بذلك من نفسه علم أنه كان يصف الخوف الله عزّ وجل وهو غير خائف منه ويصف طهارة القلوب ورقتها وقلبه دنس قاس ويصف الزهد فى الدنيا ويروى الآثار فيه وهو
٣٦٨
في الدنيا راغب ولها على الآخرة مؤثر فيعلم بذلك أنه كان مغترا بما يصف ويروى ويكتب من حسن القول وآداب الصالحين والزهد فى الدنيا والذمّ لها فيزول عنه بذلك غرته ولا يقنع بذلك من نفسه دون أن يراها كما يصف أو الغالب عليها مطالبة ذلك ليظفر بذلك إذا علم أنه كان منسلحًا من أكثر ما كان يصف ويقول ويروى ويكتب
۳۷۰
وجل كذلك وإن أبصرت الجدل والخصومات فإن اتهمت نفسها على الآراء والتأويل وتثبتت عند المتشابه فقضت بالحكم عليه وأوقفت فيها لم يجعل الله لها النظر فيه ولم يخرج من إجماع من مضى زالت عنها غرتها وثابت إلى ربها من ضلالتها وأما الفرقة المصيبة للحق مع غرتها عن الله عزّ وجل بالخصومات والجدل عما هو أولى بها فإنما تنفى غرتها بذلك بأن تعلم أن الله عزّ وجل تعبد من مضى بما تعبدها به وقد أدرك كثير منهم من أهل البدع والأهواء فما جعل عمره ولا دينه غرضًا للخصومات ولا اشتغل بذلك عن النظر لنفسه والعمل ليوم فقره إلا أن يرى موضع حاجة يظن أنه إن تكلم بالحق قبل فيقول بالحق ويحذر أن يخطئ على الله عز وجل فيرد الباطل بالباطل فكانوا على ذلك وذوا الجدل والخصومات ورووا ذلك عن نبيهم رواه عنه أبو أمامة أنه قال ماضل قوم قط إلا أوتوا الجدل
وذم الله عز وجل ذلك فقال وَهُوَ الدُّ الْخِصَامِ ۱
وقال تعالى لقريش بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
منه
قدم المراء والجدل فليرجع المؤمن إلى نفسه فيقل لها إنما تدعين إلى الاتباع والسنة بجدلك لأهل الأهواء ودعاؤك لهم بالجدل والمراء ترك للسنة لأن النبي نهى بسنته عن الجدل والخصومات وغضب على أصحابه حتى - كأنما فقيء في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب إذ خرج عليهم وهم يختصمون وهم كانوا أولى الخلق بالفهم والبصر بالحجاج فقال أ بهذا بعثت أم بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله عزّ وجل بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا به وما نهيتم عنه فانتهوا عنه ثم هو في نفسه قد بعث إلى جميع أهل الأديان فما جادلهم إلا بما تلا عليهم من التنزيل ولو شاء كلّمهم بالمقاييس ودقيق الكلام ولو كان ذلك هدى كان هو أولى به وعليه أقوى فلم يقم الحجة إلا بالتنزيل وأضرب عن جدلهم بالدقائق وعلم أ أن ذلك الله عز وجل
رضى ومحبة فترك الجدل والخصومات من السنة
ويرجع إليها أيضًا بأخرى من التذكرة إنى لو نجوت وعَطِبَ أهل الأرض من أهل الأهواء ماضرنى ذلك ولو عطبت ونجوا ما نفعنى فإقامتى الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسى
٢ ٤٣ ٥٨
٢٠٤ ۱
۳۷۱
ومع
ذلك
الله عزَّ وجلَّ في تضييعى أمره حتى أؤدى ما أمرنى به ربى وأنتهى عما نهانى عنه وأربح أيام عمرى ليوم فقرى وفاقتى أولى بى فقد شغلونى عن نفسي وعن العمل في نجاتي ما يؤمنى أن أقيم الحجة ببعض التأويل والقياس أرى أنه هُدى وهو عند الله عزَّ وجل ضلال وكذب عليه وقد تبين لى ذلك فيما مضى من عمرى قد كنت أقول القول ثم يتبين لى أنه خطأ فأرجع عنه فما كانت حالى عند ربى لو أقمت على حالى تلك وكذلك لا آمن مثلها ثم أموت عليها قبل أن أعرف خطى فإذا أنا قد أهلكت نفسى بطلبي نجاة غيرى ذلك أنه لو كانت المجادلة من السنة ولم أكن أشتغل بها عن العمل لآخرتى وأمنت الخطأ ومع
في حجاجي لما كان لكلامهم موضع فيه مزدجر في آخرتى إذ لم أر أحدًا منهم رجع عن قوله ولا تاب من بدعته فلو كان ذلك كذلك لكنت معنيًّا بنفسى فكيف وقد نهيت عن الجدل وهو يشغلنى عن العمل لنجاتى ذلك أتعرض للخطأ على الله عزّ وجل والكذب ومع عليه أو في دينه وأنا لا أشعر
فإذا
رجع إلى نفسه بذلك أبصر غرته واهتم بنفسه وعلم أنه كان في غرور وزخرف من رأيه وأنه قد مضى عمره بترك ماهو أولى به فحينئذ يهتم للعمل ويتفقد عيوبه ويقدم التوبة منها قبل
لقاء ربه عز وجل
۳۸
وَرَهْبَانِيَّةُ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
وقد اختلف فى هذا الحرف فقال مجاهد ما كتبناها عليهم إلا ابْتِغَاء رِضْوَانِ الله
عليهم
أي
كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله
وقال أبو أمامة وغيره ما كتبناها عليهم أي لم نكتبها عليهم ولم يبتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله فعابهم الله عز وجل بتركها وهذا أولى التفسيرين بالحق إن شاء الله وعليه أكثر
علماء الأمة فقال الله عز وجل
فما رَعَوْهَا حَقٌّ رِعايتها
فذمهم الله تعالى بترك رعاية ما لم يفترض ولم يوجب عليهم !! فكيف بمن ضيع رعاية حقوقه الواجبة التي أوجب في تضييعها غضبه وعقابه وجعل القيام بها مفتاحاً لكل خير في الدنيا والآخرة وهى التقوى ولأهلها أعد الجنة ولأهلها جعل الأمن في الآخرة وإياهم وعد قبول الأعمال وإياهم سمًّى بالولاية ورفع عنهم الخوف والحزن في المخافة والأحزان يوم إلا تارات أهوال تعم الخلائق ولهم جعل النصر فى الدنيا والمعونة على طاعته ولهم جعل المخرج من كل ما ضاق على العباد ولهم ضمن الرزق من غير الوجوه التي يحتسبونها فقال تبارك وتعالى وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ للمتقين ۳
فهل ترى فيها موضعاً لغير متق !
۷ ۵۷ ۱
جمع تارة بمعنى مرة
۱۳۳ ۳
۳۷
باب الغرة بالعبادة والعمل
قلت فالغرة بالعبادة والعمل كيف هي قال منهم فرقة تتكلف الرضاء والزهد والتوكل والحب الله عز وجل على غير حقيقة ولا معرفة بما هو أولى بها يتقلل أحدهم من اللباس والطعام زهدا في الدنيا وبعضهم يخرج إلى الحج بغير زاد ويدع المكاسب يؤم التوكل بذلك ومنهم من تخيل إليه نفسه أنه يشتاق إلى الجنة ومنهم من يدعى حب الله عز وجل يلهج بذلك ويجالس عليه ويصعق عند ذكره وكل هذه الفرق مغترة بالله عزَّ وجلَّ تتكلم بما يكره الله تعالى وهى لا تشعر وترائى بما تعمل وتتكبر وتعجب وتأتى كثيرًا مما يكره الله عزَّ وجلَّ وهى لا تشعر لم تعرف التقوى إلا بالاسم ولم تكلفها فى جوارحها وباطنها ولا تعلمها ولم تطلبها وهى ترى أنها قد قطعت التقوى وصارت إلى الزهد والتوكل والرضاء ومعالى الدرجات الكبرى وهم عامة قراء زمانك الغالب عليهم اتباع أهوائهم في طاعتهم وتقشفهم
قلت هذه الفرقة أولى بالرحمة من الفرق التي وصفت قبلها إذ كابدت أهواءها وحملت المكروه على أبدانها ووسمت بالتشمير عند العباد وظنت ذلك من أنفسها لأن كل الفرق اغترت من غير كثير مؤنة تحملتها ولا إدخال المشقة على أنفسها وهذه قد رفضت الدنيا فيا ترى وحرمتها أنفسها وهى راكنة إلى بعض الدنيا وهى لا تشعر فهى أولى بالرحمة من غيرها وقد خشيت أن يكون الغالب على أهل زماننا فكيف لها بأن تعرف غرتها وتنفيها وتجانبيها بعد معرفتها والنفى بعد المعرفة على هذا أيسر
إذ عرفت غرتها لأنها قد تحملت من المكروه ما هو اشد من النفي قال لا تفعل فإن مجانبة الهوى مع العمل البسير أعظم وأشد على النفس من تحمل المكروه والشدائد في الأعمال الكثيرة إذا كان معها الهوى
قلت فبين لى غرتها فإنها على حال نَفْى الغرة عليها أسهل قال أجل لأنها أسخى المغترين أنفساً بالأعمال وأشدهم تحملا للمكروه في ظاهر الطاعات فالذي تعرف به غرتها أن ترجع إلى أنفسها بدعائها إلى العزم على طلب التقوى
۳۷۳
وتعريف النفس أنها أصل الطاعات ولا تزكو الأعمال إلا بها حتى إذا عرفتها ماهي في السر والعلانية امتحنت أنفسها عند دواعيها إلى كل خير وشر في باطنها حتى تعلم هل طهرت قلوبها من كل مكروه يكره الله عز وجل
وهل طهرت جوارحها من معاصى الله عز وجل
وما الذي هو أولى بها أن تبدأ به فى الوجوب من الفروض عليها
فمن كان منها متقللا من الدنيا من غذائها ولباسها نظر كيف صحة معاشه فإن كان صحيحاً طيباً نظر هل ترك شيئًا يجب عليه فضيعه مع تقلله وكيف ضميره وحركات جوارحه في ليلة ونهاره
فإن رآه غير قائم بحق الله عزّ وجل فى ذلك أو فى عامته علم أ أنه قد کان بری أنه كان من الزاهدين وهو عند الله عزّ وجلّ من الفاجرين فإذا تفقد نفسه علم أنه كان مضيعا للتقوى مع تزهده وأنه كان مخدوعا مغرورا ثم ينظر ماذا كان يريد بتقلله وكيف كان ارتياح قلبه بعلم إخوانه وغيرهم بتقلله وبحمدهم حين يسمعه أو يبلغه عنهم وهل كان قائماً على قلبه بنفى ذلك خوفا من الله عز وجل فإن رأى قلبه أنه قد كان أغفل ذلك علم أن الغرّة كانت عليه مستحكمة قد علق قلبه بأعلى الدرجات فيما يرى واشتغل عما هو أولى به منها ثم لم يخلصها أيضًا مع ما اشتغل بها عما هو أولى به منها فحق الله عز وجل كان عنده مضيَّعا وعمله لا يأمن أن يكون عند الله عز وجل محبطاً وقد كان يري أنه قد من عليه بالزهد أو ببعض الزهد ولعل غذاءه الذي كان يتقلل منه حرام أو شبهه قد كان أولى به تركه كله للورع فهو آخذ للقليل الذي ينبغي له أن يتركه ورعا وهو يرى أن يأخذ القوت ويقدم الفضل زهدا في الدنيا ورفضا لها فإذا تبين له ذلك زالت عنه بإذن الله عزّ وجلَّ غرته واهتم بالتقوى وإخلاص العمل لربه
عزّ وجل
وكيف لا تزول عنه غرته بعد معرفته بنفسه وقد كان يعدها من قبل معرفتها أنه قد جاز أهل الورع وهو عنهم منقطع لأنه لم يك يأتى عليه يوم من أيامه إلا والله عزّ وجلّ مطلع فيه على ما يكن في صدره مماكره مولاه ونهى عنه من الرياء وغيره وكذلك جوارحه قل يوم إلا وقد يكون من بعضها مايكره مولاه فإن سلمت جوارحه لم يكد يسلم قلبه فلا يقيم على الغرّة بعد هذه المعرفة عاقل عن ربه عز وجل
٣٧٤
وأما المغتر بترك الأعمال والخروج بغير زاد فإن نظر بصحة النظر لطلب الاتباع للائمة الراشدين وحذرا من خوف المحدثات فلم يعرف أحدا من السابقين سبقه إلى ذلك الآثار فإذا هي تحض على ترك ماتدين به من العمل وحمل الزاد وأن الفضل في العمل وحمل
وتدبر
الزاد مع اليقين بأن الأرزاق إلى الله عز وجل ولا رازق إلا الله عز وجل اتباعا للنبي الله ولأئمة الهدى وقَطَعَ عن النفس خطراتها إلى طمع المخلوقين وأن يكون هو المأجور في نفسه بما يغدوها به دون غيره فيكون له ذلك الأجر الذى يُؤجر فيه غيره فإذا علم ذلك علم أنه كان الطريق الصالحين وأئمة العباد فى تدينه وقوله مخالفاً
وأيضا أن لو كان ذلك جائزا نظر هل أحكم ماسواه من التقوى في باطنه وجوارحه ومطعمه
وملبسه
وكيف كان إخلاصه فيا كان يظهر من توكله فإذا عرف أنه كان على مخالفة الاتباع وأنه مع ذلك قد كان مضيعا لكثير من حقوق الله في باطنه وجوارحه زالت عنه غرته واتبع واهتم لما هو أولى به فإن كان متقيا في باطنه وظاهره من قبل علم أنه كان على حال قد كان مغترا بما كان يتدين به من قوله إذ لا يعرف له إماماً سبقه إلى قوله وإذ الآثار تدل على خلاف قوله
وكذلك
لأنفسها
الفرق من المتقشفين على غير الصدق ولا التقوى فعلى نحو من ذلك التفقد جميع حتى تعرف غرّتها فتخاف الله عز وجل بما هو أولى بها
٣٧٥
باب الغرة بالورع في المطعم والملبس دون سائر الأشياء في أعماله الباطنة والظاهرة
ومنهم فرقة لاترى أنه
والملبس
يجب عليها من الورع فى زمانها إلا الورع في غذائها من المطعم
فلما نظرت وحملت أنفسها عليه ظنت أنها إذا بلغت أصعب الدرجات من الورع وأعزها في زمانها قد أحكمت التقوى وقامت به فعمى ببعض الورع أكثر الورع عليها في قلوبها
وجوارحها
قلت فيم تنفى ذلك
قال أن تعلم أن الله عز وجل لم يرض منه بالحلال وحده وأنه قد يعذب من طاب مطعمه إذا لم يخف الله عز وجل في غير ذلك وأنه قد يغضب مما يقول أو يُضمر أو يستمع إليه أو يخطو أو
يبطش
فإذا عرفت ذلك زالت عنها غرتها
٣٧٦
أن
باب الغرة بالعزلة والفرار من الناس
وفرقة قد غلب عليها الاستيحاش من الناس والخلوة وهى مع ذلك تتصنع بفرارها و تشتهر به وترتاح قلوبها بذكر العباد لذلك منها مع تكبر على العامة وعجب بأعمالها قد عُمى عليها أكثر ذنوبها إذ عدت أنفسها أنها أنيسة بالله عز وجل مستوحشة من خلقه قلت فيم تنفى غرتها بذلك قال تتفكر في عظيم حق الله عز وجل وواجب طاعته وكثرة عدد مايلزمها من مجانبة ماكره ربها عز وجل ونهى عنه فى ظاهرها وباطنها هل أحصت ذلك كله حتى لم تضيع الله عز وجل حقا ولم تركب نهيًا مما نهى الله عز وجل عنه فإذا تفكر أحدهم في ذلك علم أنه لم يقم بحقوق الله عز وجل كلها فى طول عمره ولم يسلم مماكره أن يأتيه بجارحة أو بقلب و القليل من عمله الذى يغتر به تعتوره الآفات التي تفسده أو تحبطه من الرياء والعجب والكبر والحسد وسوء الغذاء أو بعض ما يمقت الله عز وجل عليه فيحبط به العمل من تضييع الفرض وإتيان ما نهى الله عز وجل عنه وقد تهدد بذلك المؤمنين من عباده فقال
يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيُّ
إلى قوله أنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ١
النبي الله
وأن
وقال والذي بعثك بالحق
فتهددهم بحبط أعمالهم إن جهروا بالقول للنبي حتى كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يكلمه فيستعيده الحديث مراراً ما يفهم عنه لا أكلمك إلا كأخي السرار وهو صديق الأمة خوفًا مما تهدد الله عز وجل به فمن يأمن حبط عمله بعد قوله ذلك لخير الخلق بعد النبي وتهدده إياهم بهذا وقال النبي عل الله إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب
وقال من ترك صلاة العصر حبط عمله فمن يأمن أن يحبط عمله بتضييع بعض ما أوجب الله عز وجل وافترضه
Y 24 1
۳۷۷
وروى عن ابن عباس " لا تقبل صلاة من رجل في بطنه لقمة من حرام وروى عن ابن عمر عن النبي عل الله أنه قال من اشترى ثوبا بعشرة دراهم فيها درهم من حرام لم تقبل منه صلاة حتى يضعه عنه
فأى مال ينجو في زماننا من أن يخالطه الحرام
فلو سلم عمله القليل من الآفات التي تفسده لم يأمن أن يكون قد عمل عملا قد يَغْضَبُ الله عز وجل عليه به فأحبط عمله أو أحبط بعض مامضى من عمله وإن لم يغضب الله عز وجل عليه هذا لو سلم من الآفات التي تفسد ببعضها كالرياء الذي لا يقبل الله عز وجل الأعمال إذا
كان فيها
بالكتاب والسنة ثبت ذلك عند أهل العلم والمعرفة أن الرياء محبط للعمل إذا اعتقد عامله أو العجب كما جاء أن صلاة المدل لا ترتفع فوق رأسه أو كالحسد الذي جاء إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
فحقوق الله عز وجل عظيمة والطاعة واجبة والمعاصى في الظاهر والباطن كثيرة التي لا يكاد يسلم منها والقليل من عمله تعتوره الآفات التي تخالطه فتفسده وبتضييع بعض الحقوق الواجبة لا يأمن العبد في تضييعه إياها أن يحبط عمله ولو خلص من الآفات وسلم من الذنوب ولم يضيع حقا ولا ركب نهيًا ولا غفل غفلة يخاف الزلل منها وهو لا يشعر - وذلك يكاد يستحيل من مثلنا - لكان فى عظيم مايطلب من النجاة من العذاب والفوز بجوار الرحمن عز وجل عمله يسيرًا حقيرًا فى جنب ذلك ما لا يقوم عمله بشكر بعض نعم الدنيا دون نعم الدين فعمله صغير عندما أنعم الله عز وجل عليه وعندما يطلب
ولو أن أهل السموات وأهل الأرضين سحرهم الله عز وجل له فدأبوا واجتهدوا له لكانت النجاة من عذاب الله عز وجل أعظم وأكبر من عملهم له وكذلك الحلول في جواز الله عز وجل فكيف بعمله الضعيف مع كثرة الزلل والخطأ وغلبة الغفلة والنسيان عليه في طول أنه لا يأمن من الآفات التي تفسد عمله عليه فلذلك أشفق أولونا رحمهم
عمره مع
فالرياء لايشك أن الله عز وجل لا يقبل العمل إذا اعتقده عامله وأما العجب وما سواه فأخاف أن يحبط الله عز وجل به الأعمال ولا أقطع
ولتعرض هذه الفرقة وجلها وشفقتها على وجل السابقين أين وجلهم منه
به
الله
۳۷۸
باب الغرة بالغزو والحج وقيام الليل وصيام النهار
ومنهم فرقة اغترت بالغزو والحج وقيام الليل وصيام النهار فقد خيل إلى أحدهم أنه من عمال الله عز وجل والمشتغلين به والذابين عن محارمه فقد عُمى على أحدهم ذنبه فهو غير المطعمه وملبسه من الشبهات وغير ذلك وجوارحه منتشرة عليه في أكثر عمره فيما يكره
مصحح
ربه عز وجل وهو غير متفقد لنفسه لا يخيل إليه أنه ينبغي لمثله أن يتفقد نفسه وإن علم
منها ببعض التفريط هان عليه لما عنده من العبادة والعلم والغزو والحج
وهو مع
ذلك غير
متفقد للإخلاص فيا يعمل ولا عارف به دون تفقده
قلت فيم تنفى ذلك قال بتفقدها أنفسها حتى تعرف أنها كانت مشتغلة بالنوافل عن واجب الحق والقيام
بالفرض فإذا تفقد ذلك أحدهم من نفسه علم أنه كان يعدُّ نفسه ممن جاز التقوى وعلا في درجات النوافل يخيل إليه أنه لا يعذب مثله وأنه خاصة الله عزّ وجل من خلقه هو ومن كان مثله وقد كان مع ذلك مضيعا للخوف من الله عز وجل فيما أوجب ونهى عنه فحينئذ يهتم بالتقوى ويزداد إن قدر على ما كان يعمل رجاء أن يكفر مامضى من التضييع لحق الله عز وجل
والتصنع بعمله
۳۷۹
باب الغرة ممن أم التقوى
وأحسن التفقد لظاهره وداخله
ومنهم فرقة أهل بصر ونظر وتفقد لجوارحها ولكثير من خطرات قلوبها يؤمون التقوى ويريدونها ولا يحبون أن يبدوا بشيء من الأعمال غيرها فهم مع ما خصوا به من بين العابدين في زمانهم يغترون بها قد زايلهم الوجل والإشفاق يخيل إلى أحدهم أن العذاب إنما يرفع عن العباد به ويدعو الله عز وجل والغالب عليه أنه مستحق للإجابة غير وجل ولا مشفق أن يكون أعداء الله لبعض ماسلف منه أو لبعض ما يكون منه فى ضميره وجوارحه أو بأمر يختم له به فيشقى فيموت وهو عدو الله عز وجل على شر أحواله
من
قلت فكيف يغترون وهم معتقدون للتقوى ويطلبونها ويؤمونها قال أعجبوا بتفقدهم فظنُّوا أنهم ناجون واستصغروا من سواهم لمعرفتهم بتضييع العباد
لحق الله عز وجل في زمانهم
قلت فكيف تنفى غرتها بذلك
قال تعرض وجلها وشفقتها على وجل السابقين فتنظر أين وجلها من وجلهم فإنها تجدهم قد تمنوا - مع ما قد قاموا به الله عز وجل مما لم يأت بأقل القليل منه - أ أنهم كانوا بهائم إعظاما للأمر وخوفا من الرب عز وجل
وبذلك وصفهم الله عز وجل فقال يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
فليتفكروا ويتذكروا أى رب يعبدون وأى ثواب يطلبون ومن أى عذاب يهربون وما بين أيديهم من الأهوال وعظيم الخطر وما أحصى عليهم من الذنوب وسابق علم الله عز وجل فيهم فإنهم إذا تفكروا في ذلك كانوا - مع معرفتهم بتضييع العباد لحق الله عز وجل في زمانهم وبما من الله عزَّ وجلَّ عليهم من الطاعات والتقوى - يرون أنهم شر أهل زمانهم كما روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في ذات الله عز وجل تمی إلى نفسه فيكون عنده أحقر حاقر يرجع وكيف لا يكون كذلك والرب جل جلاله لا يؤدى حقه ولا يُبلغ قدر عظمته ولا تحصى
۳۸۰
نعمه وعذابه عذاب لا يقام له به وثوابه ثواب لا صبر عن دونه حتى لو أن أحدهم كشف له عن عبادات الملائكة لعلم أنهم مقصرون عما يحق لله عزّ وجل وعلى قدر يوم القيامة بأهواله وزلازله وشدائده فكيف بضعيف عمل أحدهم فحينئذ تزول عنهم غرتهم ويغلب على قلوبهم مع إحسانهم الشفق والوجلُ والحزن والحذر وترك الطمأنينة والسكون إلى شيء من أعمالهم إنما يرجون الله عزّ وجل وتجاوزه وإن لم يفعل ذلك بهم عطبوا إذ الله عزّ وجل الفضل عليهم على كل حال وأنه قد كان منهم ماقد استوجبوا به العذاب وإذ هم لا يشهدون لأنفسهم بالسلامة في أعمالهم لما يجدون من كثرة منازعة أنفسهم إلى ما يفسد أعمالهم ولما يعرفون من كثرة غفلاتهم خوفاً من إحصاء الله عزّ وجلَّ عليهم ماقد كانوا عنه يغفلون وإياه ينسون فيبدو لهم مالم يكونوا يحتسبون كما وصف الله عزّ وجلّ به المغترين قيل فى التفسير أعمال كانوا يرون أنها
خير صارت شرا
فبذلك ونحوه ينفون الغرة بأعمالهم
۳۸۱
باب الغرة بتقديم العزوم بإخلاص الأعمال
والعزم على الرضى والتوكل ومجانبة دناءة الأخلاق
ومنهم فرقة الغالب منها تقديم العزوم الله سبحانه بإخلاص العمل له في كل ما يعمل والعزم على الرضاء والتوكل وما أشبه ذلك وترك الكبر والعجب وسوء الظن والكذب والغضب وإشفاء الغيظ بما لا يحل فلما سخت أنفسها بالعزم على ذلك ونحوه عدت أنفسها من أهله والقائمين لله عز وجل به بعزمها على الإخلاص فإذا عرض العمل سهت وغفلت فراءت وكذلك سائر ماكره الله عز وجل إلا القليل من ذلك تنتبه له فتدعه غرتها عزومها فحكمت لأنفسها بذلك فلم تتفقد أنفسها عند ذلك ولم تتهمها عند تضييعه إذ رأتها قد سخت بالعزم على ذلك فلم تف بما عزمت عليه ولم تصدق في أكثر
ما عاهدت غفلة وسهوا قلت فيم تنفى غرتها بذلك
قال بمعرفتها أن العزم على العمل ليس بالعمل وأن العزم على العمل أقل مؤنة على النفس من العمل لأن العزم لا تعب فيه ولا مؤنة على النفس ولا ترك لذة بعد مقدرة عليها وأن النفس قد تعزم ثم تضيع العمل كراهة تحمّل المؤنة والتعب وقد تعزم على ترك اللذة ثم تواقعها عند الظفر لأن المحنة عند المقدرة أشدّ على النفس لأن شهوتها تهيج إذا أحست بلذتها ومحبتها وظفرت بها فإذا علمت أن ذلك كذلك لم تحكم لأنفسها بذلك دون الوفاء الله عز وجل بالعمل بما أوجب والترك لماكره وأن العزم المتقدّم طاعة منها وإنما يكون العازم عليها من أهلها إذا قام الله عز وجل بها كما عزم فلا يحكم لنفسه أحد منهم بالحلم إلا عند الغضب لأن العزم الأول على الحلم نيَّة أن يحلم لا حلم ولا بالإخلاص إلا في العمل لأن العزم الأول على الإخلاص نية الإخلاص إذا عمل عملا أن يخلصه لا إخلاص في العمل وكذلك جميع الأعمال التي تقدم العزم عليها إلا ما كان من أعمال القلوب التي ليس فيها للجوارح عمل كاعتقاد السنة والتدين بها وما أشبه ذلك فأما العزم على العمل فلا يغتر به فيغفل عن نفسه فيضيع العمل ويركن إلى ما عزم على تركه دون أن يتفقد نفسه ويأخذها بالوفاء بما عزمت عليه وبذلك وصف الله عز وجل أولياءه فقال رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهُ عَلَيْهِ
۳۹
باب معرفة التقوى وما هي
والتقوى التي أعد الله عز وجل الجنةَ لأهلها اتقاء الشرك فما دونه من ذنب
ما نهى الله عنه أو تضييع واجب مما افترضه الله قال تعالى ولَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۱ وهى وصية الله عز وجل في الأولين والآخرين
قال تعالى أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ ٢ وقد روى فى الحديث إن المنادي ينادي يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون فترفع الخلائق رءوسهم يقولون نحن عباد
الله عز وجل ثم ينادى الثانية الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس الكفار رءوسهم ويبقى الموحدون رافعي رءوسهم ثم ينادى الثالثة الذين آمنوا وكانوا يتقون فينكس أهل الكبائر رءوسهم ويبقى أهل التقوى رافعي رءوسهم قد أزال الكريم عنهم الخوف والحزن كما وعدهم لأنه أكرم
الأكرمين لا يخذل وليه ولا يُسلمه عند الهلكة
قال تعالى إنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامِ أَمِينِ ۳
لأن التقوى إنما كان أصلها الخوف والحذر من الله جل وعز
وكذلك يقول الله عز وجل وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان ٤ وأَما مَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسِ عَنِ الْهَوَى
۱۳۱ 4 1
۹۳ ۱ ۱۰
٤٤ ٥١ 3
٤ ٥٥ ٤٦
٣٨٢
باب الغرة بطول ستر الله تعالى وإمهاله للعبد
ومنهم فرقة اغترت بطول ستر الله عزّ وجلّ عليها وإمهاله لها فلما دام لها الستر فلم يظهر للعامة منها إلا خير وأثنت عليها وعظمتها اغترت بذلك وظنت أن ذلك لم يكن إلا ولها عند الله عز وجل منزلة عظيمة وأنه محب لها وهى مع ذلك كثير تخليطها كثيرة التصنُّع للعباد ولا تعرى من العجب بعملها والكبر على من دونها قليلة الفطنة لكثير ذنوبها قليلة الوجل والإشفاق لما رأت من الستر وحب الإخوان وثناء العوام فاغترت وظنت أنها ناجية وأن الله عزّ وجل عنها راض وأنه لو كان سخط عليها بما أسلفت من الذنوب لما ستر عليها ولا حبيها إلى كثير من الناس ولا نشر لها الثناء فهى مغترة بذلك غير متفقدة لأنفسها ولا تكاد تظن بها
أكثر ذنوبها قليل خوفها وحذرها
قلت فيم ينفى أحدهم ذلك
قال بمعرفته بنفسه وأن الستر عليه حجة من الله عزّ وجل عليه ليعلمه أنه لم يُعجل عليه ولم بهتك ستره ليستحى من ربه عزَّ وجلَّ الذى ستر قبيحه وأظهر له من الجميل ما لم يعمله فالستر عليه حجة من الله عز وجل ليس بغرة وثناء الناس إنما كان لستر الله عز وجل عليه ولو أظهر الله عز وجل لهم ما يعلم منه لأبغضوه ومقتوه وهو لا يجب أن يعلموا منه ما يعلم الله عزّ وجل منه من ذنوبه فيمقتوه والله عزّ وجل أولى أن يخافه أن يكون قد مقته بما سلف من ذنوبه أو قد مقته ببعض ما هو عليه مقيم وإنما أثنى الناس عليه لستر الله عزّ وجل عليه ولو علموا منه ما علم الله عزّ وجل منه ما أثنوا عليه فثناؤهم عليه طاعة منهم لربهم عز وجل بحسن ظنهم به فهو لا يغره ظنهم على غير يقين منهم بما عنده حتى ينسيه ما يعلمه يقينًا أن الله عزّ وجل يعلمه منه فلا ينسى اليقين من نفسه لظن الناس به خلاف ما هو عليه وذلك عبادة منهم لربهم عز وجل وحسن ظن منهم به فكيف يخيل إليه ويرى أنه كما يقولون وهو عالم من نفسه خلاف ما يظنُّون كما قال على عليه
السلام إذ أثنى الناس عليه أو كما قال غيره
اللهم
أنت تعلم وهم لا يعلمون فلا تؤاخذني بما يقولون
۳۸۳
ومر مطرف وابن أون برجل فقال الرجل من أحب أن ينظر إلى رجلين من أهل الجنة فلينظر إلى هذين فقالا اللهم أنت تعرفنا ولا يعرفنا أى أنه يتكلم بالظن على غير علم وأنت
عالم
وكان أبو البخترى الطالى وأصحابه إذا أثنى على أحدهم وضع شقه نحو الأرض وقال تواضعت لربى أنى أذل أن أكون كما يقولون تواضعًا لله عز وجل أن يرى أن له قدرًا بما سمع من ثنائهم عليه فلا ينسيه ظنُّهم يقينه بنفسه ومع ذلك لا يأمن أن يكون ثناؤهم عليه استدراجا من الله عزَّ وجل ليغتر بالثناء ويستأنس إلى الستر والإهمال ثم يأخذه بغتة بعقوبة أو يهتك ستره عنه أو يموت على ذنبه ولم يتب منه فلا يأمن ذلك إذ علم أنه على خلاف مايثنون عليه كما يروى عن أبي تميمة الهجيمي أنه قيل له كيف أصبحت قال بين ذنب والله ما أدري ما فعل فيه أغفره وعفا عنه أو غضب على من أجله وثناء من هؤلاء الناس والله ما أستأهله ولا أنا كذلك ولا يأمن أن يكون استدراجاً من ربه عز وجل إذ علم من نفسه خلاف مايثنون عليه به والله عزّ وجل يعلم خلاف ما يقولون فيه فهو لا يأمن مقته على ما يعلم أنهم لو علموا به لمقتوه وأبغضوه
عليه
فلا يعد الستر إلا توكيدًا للحجة عليه واستدراجا له
فبذلك ينفى الغرة بستر الله عزّ وجل وإمهاله له وثناء العباد عليه
كتاب الجسد
الرعاية لحقوق الله
۳۸۸
وجل إلا فيهما فقوله إلا في اثنتين أى الحسد فيهما جائز وقال النبي لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله عز وجل مالا فسلطه على
هلكته فى الحق ورجل آتاه الله عزّ وجلّ علمًا فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر في حديث آخر لأبي كبشة الأنصارى عنه كيف ذلك الحسد فقال لا مثل هذه الأمة مثل أربعة رجل آتاه الله مالا ولم يؤته علماً ورجل آتاه الله عزّ وجل علما ولم يؤته مالا فيقول رَبُّ العلم لو أن لي مثل مال فلان كنت أعمل فيه بمثل عمله فها في الأجر
سواء ويقول رب المال لو أن لى مثل علم فلان كنت أعمل فيه بمثل عمله فذلك هو الحسد الذي هو منافسة أحب أن يلحق به وغمّه أن يكون دونه ولم يُحب له وقد تُسَمِّى العرب الحسد المحرم منافسة لأنهما جميعا فى اللغة حسد فيقول الرجل للرجل نفست على أي حسدتني
شرا
وقال قثم بن العباس والمطلب بن ربيعة لما أرادا أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة لعلى رضى الله عنه حين قال لهما لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها فقالا ماذا إلا نفاسة منك والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أى هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجك
فاطمة
قلت ففسر لى هذا الحسد الذى هو منافسة تفسيرًا تميز به بينه وبين الحسد المحرم يرى بغيره نعمة في دين أو دنيا فيغتم ألا يكون أنعم الله عليه بمثل تلك النعمة فيحب أن يلحق به ويكون مثله لا يغتم من أجل المنعم عليه نفاسة منه عليه ولكن
قال هو
عما ألا يكون مثله
فهذا الحسد الذي هو منافسة
فإن كان الذى رأى بغيره من النعم قياما بفرض الله عز وجل وانتهى عما حرم الله عز وجل فحسد على ذلك وأحب أن يكون مثله وتمنى ذلك وسأل الله عز وجل ذلك كان ذلك عليه فرضًا واجباً أن يحاسده على ذلك ليؤدى فرض الله تعالى لأنه إن لم يغتم ويحزن بتخلّفه عمن قام بفرض الله عز وجل عليه واجتنب ما نهى عنه ولم يجب أن يكون مثله كان عاصيا مقيماً على تضييع الفرائض وركوب المحارم ولا يغتم بتركها ولا يحب أن يطيع الله عزَّ وجل كما أطاعه الورعون في القيام بحقه وإن كان مارأى بغيره من نعم الدين فضلا تطوعًا فاغتم أن يُقصر عن منزلته وأحب أن
۳۸۹
يلحق به ويكون مثله فذلك فضل منه وتطوع إذ أحب أن يتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ كما
تقرب غيره واغتم أن يقصر عن القربة إلى الله عزَّ وجلَّ بما يحب من طاعته وإن كان ما رأى بغيره من النعم مباحاً له فيما يتقلب فيه من لذته ونعيمه بالفضول فيا أحل له فاغتم ألا يكون له مثله وأحب أن يلحقه به فيوسع عليه كما وسع على من نافسه وأن يلحق به فيكون متنعها مثله فذلك مباح له وليس بمحرم عليه إلا أنه نقص من الفضل ومن الزهد إلا أن يخرج إلى السخط على الله عزَّ وجلَّ فيكون السخط على الله عزَّ وجل لا يحل له لا أن السخط منافسة لأنه يحبُّ السعة والتنعم بجلال الله عزَّ وجل وليس محبته تلك بسخط وإن كانت محبته نقصا من الفضل
وإن كان مايرى من غيره محرماً لا يحل له كاكتساب الحرام وإنفاقه المال فيما لا يحل به والعمل بالمعاصي في التلذذ بها فاغتم أن لا يكون مثله وأحب أن يكون مثله ويصيب من المال
واللذة
مثل
ما أصاب من ذلك فذلك منه لا يجوز له ولم يحسده الحسد المحرم من قبل الغش له ولكن حسده حسد منافسة في الحرام الذى لو كان ما نافسه فيه حلالا أو طاعة الجاز ذلك الحسد له وإنما أتى مالا يجوز له من قبل محبته للحرام لا من قبل أنه حسده حسدا غشا له وحبا للشر وكراهة الخير أن یراه به
وإنما كان ذلك الحسد لا يجوز من قبل تمنيه للحرام ومحبته له
وكذلك يروى أبو كبشة الأنصارى عن النبي الله قال ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في معاصى الله عزّ وجلّ ورجل لم يؤته الله عزّ وجل مالا فيقول لو أن لي مثل مال فلان كنت أعمل فيه بمثل عمله فها في الوزر سواء
قدمه النبي عل من قبل تمنيه الحرام لا من قبل حسده للمسلم غشا له وكراهية أن يرى به
خيرا من الدنيا
فهذا أحد الوجهين من الحسد وهو كراهة التقصير عن منزلة غيره ومحبة المساواة واللحوق به مع ترك التمنّى أن يزول عن من نافسه حاله التي هو عليها وأما الوجه الثاني فهو المحرم كله قد ذمه الله عزَّ وجل في كتابه والرسول الله في سنته واجتمع علماء الأمة عليه
قال الله عز وجل
۳۹۰
وَدَّ كثيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ وقال أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى ما آتاهم الله مِنْ فَضْلِهِ !
1
وقال كَانَ النَّاسُ أُمَّة وَاحِدَةً إلى قوله وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إلا الذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغَيًا بَيْنَهُمْ ۳ قيل في التفسير حسدا
وقال وما تَفرَقُوا إِلا مِنْ بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فأنزل الله عز وجل العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته فأمرهم أن يجتمعوا بالعلم
ويتألفوا به ولا يتفرقوا فتحاسدوا واختلفوا وتفرقوا حسدًا بينهم كل أراد أن يكون له الرفعة والرياسة وألا يكون تابعا لغيره وأن يُقبل قوله منه ويتبع وأحب أن يزول غيره عن الرفعة وكره رفعة المنزلة له فرد بعضهم على بعض وخالف بعضهم بعضًا بغيًا كما قال الله عز وجل فتركوا الحق وعاندوه حسدا بينهم
قال ابن عباس كانت اليهود قبل أن يبعث النبي عما إذا قاتلوا قوما قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذى تنزله إلا ما نصرتنا فكانوا ينصرون فلما جاء النبي الله من ولد إسماعيل وعرفوه كفروا به بعد معرفتهم به أنه الذى كانوا يستنصرون الله عزّ وجل به فقال الله عز وجل وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلى الكافِرينَ بِئْسَ مَا اشتروا بِهِ أنفسهم أنْ يَكْفُرُوا بما أنزل الله بَغْيًا
أي حسداً بينهم وقالت صفية بنت حيي ا
ماتقول فيه قال
للنبي
جاء أبي وعمى يوما من عندك فقال أبي لعمى
أقول إنه النبي الذي بشر به موسى قال
فما ترى قال
أرى معاداته أيام الحياة
۱۳ ۳
۱۰۹ ۱
٢ ٠٥٤٤
۳۹۱
وبذلك وصفهم الله عز وجلّ أنهم على علم كفروا به قال
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ
وقال يَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
وروى وهب بن منبه إن الله عزّ وجل قال لموسى عليه السلام و الحاسد عدو لنعمتي راد لقضائي ساخط لرزقى الذى قسمت لعبادي غير ناصح لهم "
وأما السنة في ذلك فإن النبي ع قال ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد
الله إخوانا يرويه عنه عبد الله بن عمر وأبو هريرة ثم أخبرهم أن الحسد سيكون فيهم كما كان في الأمم من قبلهم فقال النبي دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء
فأخبر أنه سيكون فيهم من الحسد ماكان في الأمم وأنه داء الأمم من قبلهم وأنهم منه أتوا
وبه هلكوا ولم يزل ذلك فى الكافرين ممن مضى وفى بعض المؤمنين
وقد روى عن الحسن أنه قيل له أيكون المؤمن حسودا قال لا أبا لك ما أنساك بني يعقوب فعلوا بأخيهم ما فعلوا
وقال أبو قلابة ماقتلوا عثمان رضي الله عنه إلا حسدا
الحسد
وروى الحسن عن النبي الا الله أنه قال ثلاثة في المؤمن فذكر إحداهن والحسد المحرم الذي ذمه الله عزّ وجل في كتابه والرسول في سنته كراهة النعم أن
تكون بالعباد ومحبة زوالها
قلت وكيف ذلك
قال أن يكون العبد إذا رأى بعبد مسلم نعمة في دين أو دنيا أو بلغه أنها به كرهها
وساءته وأحب زوالها عنه
ومما بين ذلك قول الله عز وجل
وَدَّ كَثيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بعد إيمَانَكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْد
1
أنفُسِهم فأخبر أنهم يودون أن تزول نعمة الإيمان عن المؤمنين
۱۰۹ ۱
۳۹
ربكم
وقال إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُوهُم ١
قال ابن عباس هذه في غزوة تبوك وقيل فى التفسير هذا الحاسد
وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها قيل هذا الشامت
وقال مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كفروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا المُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٌ مِنْ
فَقَالُوا
قال ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُون سَوَاء ثم أخبرك عن إخوة يوسف حين حسدوا فعبروا بألسنتهم عما في قلوبهم من حسده ليوسف وأخوهُ أَحَبُّ إلى أبِينَا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينِ اقْتُلُوا يُوسُفَ
أو اطرحُوهُ أَرْضًا يحْلُ لَكم وَجْهُ أبيكم وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحين ۳ فكر هوا خصوصية أبيه له بالحب من بينهم وأرادوا أن يزيلوا حب أبيه له وبره به وتفضيله إياه عليهم بأن يغيبوه عنه فيقبل بالحب عليهم والبر ويزول ذلك عن يوسف فقالوا يخل لكم وجه أبيكم ليكون لهم إذا غاب حسدًا له على حب أبيه وبره وتفضيله إياه وقول أبي قلابه ماقتلوا عثمان إلا حسداً أى حسدوه على الخلافة فأحبوا أن يزيلوها عنه
وقال الله عز وجل حين ذكر الأنصار
وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةٌ مما أُوتُوا ٤ أي لا تضيق صدورهم ولا يغتمون بما أوتوا من خير حسدا فأثنى عليهم بذلك
۹ ۸ ۱ ۳
۱۰ ۳ ۱
404 2
١٠٥
۳۹۳
باب من الحسد وليس بالحسد بعينه
ومن الحسد وليس به بعينه المحبة ألا يصير إلى من يحسده خير كما قال الله عزّ وجل مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكين أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرِ مِنْ رَبِّكُمْ ۱ فالمحبة بألا يصير إليه خير والتمنى له البلاء فعل من العبد يكون عن الحسد فإن طلب علما لم يحب أن يتم له وكذلك إن طلب خيرًا من خير الدنيا والآخرة لم يحب أن يتم له من ذلك شيء وذلك قبل نزول النعم بالعبد
وأما الحسد فكراهة النعم وحب زوالها بعدما يُمن بالنعم على العبد فيعلم الحاسد بالنعم
عليه من الله عزّ وجلَّ فيغتم لها حينئذ ويحب زوالها
قلت فأخبرنى عن الحسد الذى هو منافسة مم يكون
قال ماكان في الدين فمن حبّ طاعة الله عزّ وجلَّ والعزم على القيام بها لو أعطى
أسبابها التي بها ينال وماكان من دنيا فمن حبه الدنيا وحب سعتها والنعم بها قلت فهم يكون الحسد المحرم
قال يكون من الكبر والعجب والحقد للعداوة والبغضاء والرياء وحب المنزلة والرياسة أن يعلوه غيره وشح النفس بالخير عما يجده العبد على قلبه إذا رأى النعم بغيره في كثير من الناس من قرابته أو أشكاله أو أمثاله وغيرهم ممن هو مثله وفوقه ودونه لاتسخو نفسه بالخير لهم
قلت فبين لى ذلك كله
قال أما ما كان من الكبر فإنه يأنف أن يعلوه من كان دونه أو يساويه أو يعلوه من هو مثله في دين أو دنيا كما قالت قريش غلام يتيم
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم
وقال الله تعالى يصف كفار قريش
-10Y 1
فأخبر العليم أن الخوف كان قبل التقوى
والعرب مجمعة في لغتها على أنه إذا أمر بعضها بعضا بالاتقاء من شيء قال احذر السبع احذر الجدار احذر البئر أى احذر فتجنب ما أحذرك
فلما كان أصل التقوى الله تعالى الخوف منه وعدهم الأمن عوضًا مما أخافوا أنفسهم به من عقابه فقال جل وعز إِنَّ الْمُتَّقِينَ فى مَقَام أمين
1
وقال ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِين وقال تعالى أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ ۳ وبذلك جاء الخبر أنه يقول جل وعز يوم القيامة وعزتي وجلالي لا أجمع اليوم لعبدى أمنين ولا أجمع عليه خوفين فمن خافني في الدنيا أمنته اليوم ومن أمِنَني في الدنيا أخفته اليوم فما ظنك بالله عز وجل يقولها
وقلبك لا يخلو في ذلك الوقت أن يكون أحد قلبين إما قلبا كان في الدنيا الله تعالى خائفاً فاستطار فرحاً لما سمع الله عز وجل يقولها غبطة وسروراً لما رأى من عواقب الصبر وما حلّ في قلبه من الأمن وما سمع من الخصوصية له من الله جل وعز بالأمن والرضاء على رءوس أهل الجمع وإما قلباً كان في الدنيا غافلا مغترا آمنا فاستطار فرعًا ورعبا وغلبت عليه الندامة والحسرة حين رأى سوء عواقب غفلته واغتراره ولزم قلبه اليقين بأن غضب الله عز وجل قد حل به وأنه لن ينجو من عذاب الله جل وعز بضعفه وما خصه الله تبارك اسمه به من الشقاء والعداوة من النداء بالخيبة له على رءوس أهل الجمع يا أخي فإنى أحذرك ونفسى مقاماً عَنتْ فيه الوجوه وخشعت فيه الأصوات وذل فيه الجبارون وتضعضع فيه المتكبرون واستسلم فيه الأولون والآخرون بالذل والمسكنة والخضوع لرب العالمين وقد جمعهم الواحد القهار الذى لا ثانى له فى الهيبة ولا مشارك فى حكمه جمعهم بعد طول البلى للفصل والقضاء فى يوم آلى فيه على نفسه ألا يترك فيه عبدا أمره في
الدنيا ونهاه حتى يسائله عن عمله في سره وعلانيته !!
فانظر بأى بدن تقف بين يديه وأعِدَّ للسؤال جوابًا وللجواب صوابا فإنه لا يصدق إلا الصادقين ولا يكذب إلا الكاذبين
٤١ ٤٠ 3
51 ٤٤ 1
210 Y
٣٩٤
لِيَقُولُوا أَهولاء مَنَّ الله عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنَنَا ۱ فإذا أنف منه وازدراه ورثه ذلك الحسد له فأحب أن تزول عنه نعمة الله عزَّ وجلَّ عَمَّا
عنه
أن يراها بمن لا يستأهلها عنده وأنفًا أن يكون من دونه مثله أو فوقه فيحب لذلك أن تزول النعمة التي فضل بها لئلا يصير إلى المنزلة التي يعلوه بها أو يساويه حقرية له وازدراء له لأنه لا يستأهل عنده تلك النعمة ولا تلك المنزلة ويحمله الحسد له أن يرد الحق حسدًا أن يعلوه به
فيرفعه عليه
or 1
٣٩٥
باب مايكون من الحسد على الرياسة وحب المنزلة
وأما الرياسة والمنزلة عند الناس بالعلم فإنه يورث ردَّ الحق وتركه على علم كما تفرق أهل الكتاب حسدا بينهم أن يعلوا بعضهم بعضًا في العلم كل واحد منهم يحسد صاحبه الرياسة أن تكون له دونه وكذلك المنزلة عند الناس فرد الحق أن يقبله وابتدع فقال بغير الحق ليتبعه الناس على قول هو خلاف قول من يحسده وخطأه فيما يقول وإن كان حقا وأظهر أن الحق في غيره ليصدّ الناس عنه ويطفىء نوره حسدًا أن ترتفع منزلته أو يخضع له فيكون عليه
رئيسا
كما كفرت علماء اليهود بالنبي وهم يعرفون أنه قد جاء بالحق من عند الله عزَّ وجلَّ حسدا أن يرئسوه عليهم وتذهب رئاستهم في اليهود فيكونوا أتباعا بعدما كانوا متبوعين وكذلك في العبادة يكره أن يترأس بها فوقه ويُعظم عليه فيقع العالم في العالم والعابد في العابد خوفاً أن يترأس عليه أو يكون فوقه أو يعظمه الناس ويحب أن يهتك الله ستره وأن بعصى الله عزّ وجلّ فيفتضح بذلك وأن يخطئ على الله عزّ وجل في دينه ويقول عليه بغير الحق لئلا تثبت له رئاسة ولئلا تقوم له منزلة فيحب أن ينزل به كل مافيه زوال الرئاسة عنه والتعظيم من الناس
وكذلك في الرئاسة والمنزلة فى غير العامة يتحاسد الصاحبان فى الحب والمنزلة عند من يصحبانه فيحب أحدهما ألا يُفضّله عليه في عمل ولا علم ولا يرفعه عليه فيخطئه فيما يقول ويحب أن يُهتك ستره عند صاحبه ويقع فيه ويُقطنه إلى سوء الظنون فيه ويضع
أمره لئلا يكون أحب إليه منه وأن يكون الحب والمنزلة له عنده دون صاحبه وكذلك الشجاعان في الحرب يُجينُ أحدهما الآخر ويقع فيه لئلا يعلوه في المنزلة عند من يعرفها فيعظم بذلك دونه فيقع فيه حسدًا أو يُبغضه إلى غيره ويجبنه عند اللقاء في الحروب
٣٩٦
باب ما يكون من الحسد عن الحقد والعداوة والبغضاء
وأما ما كان عن الحقد والعداوة والبغضاء فهو أشدّ الحسد وذلك ما وضفه الله عز وجل عن الكفار وعداوتهم وبغضهم للمؤمنين
فقال وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُوهُمْ فأخبر أنهم مبغِضُون للمؤمنين يسوء هم مايرون بهم من نعمة حسدًا لهم لبغضهم وعداوتهم فأخرجتهم العداوة والبغضاء إلى الحسد والشماتة وكذلك وصف الله عز وجل قلوب المبغضين
وقال وَدُّوا ما عنتُم
قال ابن جريح يودون ماعنتوا في دينهم قد بدت البغضاء من أفواههم وكذلك قوله إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
قيل في التفسير هو الحاسد
وَإِنْ تُصِبْكُم سَيِّئَة يَفْرَحُوا بِهَا
فالمبغض لا يحب أن يرى بمن يُبْغِضُ نعمةٌ عليه من الله عز وجل ويحب أن يراه بأسوأ الحال في الدين والدنيا فإن نزلت به نعمة ساءته وكرهها ولو قدر أن يزيلها عنه لأزالها فيتمنّى لمن يعاديه ويبغضه البلايا ويكره ما به من النعم ويجب أن يزول عنه ويفرح بما نزل به من بلاء أو ضر
والمبغض المعادى لاينفك من الحسد والشماتة إلا من عصم ا الله عز وجل وقد يكون عن الحسد الذي عن العداوة والبغضاء القتل وأخذ المال والسعاية بمن يحسده وهتك ستره وغير ذلك فالمبغض حسده أعظم الحسد وأشده
۳۹۷
باب ما يكون من الحسد عن حب ظاهر الدنيا
وما كان من حب الدنيا أن ينال ما يرى بغيره من حب أو بر من قرابة أو غيره كالإخوة يتحاسدون أو أخ يحاسد الأخ عند أبيهما أو أمها أو قرابتهما
وكذلك الصاحبان أو الشريكان فيحسده على مايرى من حب أبيهما أو أمها أو برهما أو من صحبها أو شاركها ويحب أن يُؤثر بذلك دونه فيحسده فيقع فيه ويبغضه ليصرف وجه أبيه
أو غيره إليه بالبر والحب
وكذلك المرأتان والضرتان
وذلك كما وصف عن إخوة يوسف حين حسدوه في حب أبيه له دونهم وإيثاره إياه عليهم إذ قالوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينَا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ
إلى قوله
اقْتُلُوا يُوسُفَ أو اطرحُوهُ أَرْضًا يَحْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ١
وكذلك بنو الأم وبنو العم يتحاسدون ليحظى أحدهم دون الآخر وكذلك الرجلان يجرى عليها قرابة أو غيره فيتحاسدان وكل واحد منها يحسد صاحبه ويحب أن تنضع منزلته عند من يجرى عليهما أو يصلهما وقد يخرج الحسد الذي يكون من حب الدنيا كالملك والشرف حتى يقتتلوا فيقتل بعضهم بعضًا حسدًا أن ينال من ملك الدنيا أو شرفها أو عزها أو إكرام أهلها مالا ينال صاحبه
وكذلك التاجران والصانعان يحسد أحدهما الآخر ويحب أن يزول عنه المبايع والمستأجر فيبايعه دون صاحبه ويستأجره فيحبُّ أنْ حُرفاءه صاروا إليه وتركوه وأن من يبايعه أو يستعمله يدعه وينصرف إليه فيقع فيه أو فى متاعه أو صناعته ليبغضه إلى من يعامله فينصرف إليه
ويدعه
۹ ۸ ۱ ۱
۳۹۸
باب ما يكون من الحسد عن
العجب
وأما ما كان من الحسد عن العجب فما أخبرنا عن الأمم الماضية فقالوا للرسل عليهم السلام
مَا أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا
وقولهم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلَنَا
وقولهم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
فجزعوا أن يفضل عليهم بشرًا مثلهم فحسدوه وردوا الحق وقالوا وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلكم إِنَّكُمْ إِذًا لخَاسِرُونَ جزعا وتعجبا أن يفضل عليهم من هو مثلهم فى الخلقة والنسب فقالوا يتعجبون
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولا
وقالوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ! ۱
تعجباً وإنكاراً أن يفضلهم من هو مثلهم وقال الله عزّ وجلّ عن قول نوح وهود لقومها
أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ۳
فحسدوه فردوه الحق وعاندوا الإيمان
وكذلك الحسد في الأشكال والأمثال في النسب أو فى القدر أو في الغنا أو في التجارة أو في الصناعة أو في الولاية يتحاسد بنو الأم والأب وبنو الأعمام والإخوة أكثر ذلك دون سائر الناس
فيحسد بعضهم بعضاً ولا يكادون يحسدون غيرهم من الغرباء
وكذلك العالم يحاسد العالم ولا يكاد يحاسد غيره
وكذلك العابد يحسد العابد ولا يكاد يحسد العالم بل يخضع له ويذل ويحسد المتعبد مثله لأن العالم ليس مثله فيحسده وكذلك أهل التجارات يسرع الحسد من أهل كل تجارة إلى من شاركهم فيها دون سائرهم
٦٣
۱ ۵ ۱
۳۹۹
من التجار كالبزازين يحسد البزاز البزاز مثله يسوءه ويغمه مايرى من نفاق سوقه وأرباحه ولا يكاد يحسد الجزارين والصيارفة وسائر الباعة ومن ضامه فى سوقه من أهل تجارته كان الحسد منه إليه أسرع ممن تباعد عنه وإن كان من أهل تجارته
وكذلك من دنا منه من القرابة أسرع إليه بالحسد ممن تباعد عنه ومن ذلك ماروى أن عمر رضی الله عنه كتب إلى أبي موسى إن الأقرباء يتزاورون
ولا يتجاورون
ومن ذلك أن أهل نجران أتوا عمر رضى الله عنه فقالوا إنا قد تجاورنا ففسد ما بيننا فأجلنا عن بلادنا
فالقرب من المجاورة وغيره في الحسد أسرع والأشكال والأمثال الحسد من بعضهم إلى بعض أسرع منه إلى غيرهم يحسد القومُ عالمهم ويعظمون العالم الغريب لأنه ليس مثلهم ولا يساويهم في النسب أو الجوار
ومن ذلك ما يروى أن كعبا قال لأبي مسلم الخولاني كيف أنت في قومك قال
مطاع قال كذبتني إذا التوراة ما من حكيم فى قوم إلا حسدوه وكبروا عليه ومن ذلك ما يروى هشام بن عروة عن أبيه قال كان يقول لنا يابني إنه كان يقال إن أزهد الناس في العالم أهله فقد يكون ذلك من الحسد ويكون من غيره وقد يزهد القوم في الرجل يكون منهم حسدا له فيحسد القوم العالم منهم إنكارًا وتعجبًا كيف يفضلهم من هو مثلهم ومنهم وكذلك الشركاء وكذلك من النساء الضرائر ومنه قول أم رومان لعائشة قالت لها لما رماها أهل الإفك يابنية خفضى عليك الشأن أى هونى عليك هذا الأمر فإنه قل امرأة وضيئة عند رجل لها ضرائر إلا أكثرت عليها
وكذلك المشتركات فى عامة الأشياء من النسب والتجارة والبضاعة والشجاعة والجمال والقوة والصوت والعمل والعلم يسرع الحسد من بعضهم إلى بعض مالا يسرع منهم إلى غيرهم
فهذه مذاهب الحساد
فجملة الحسد المحرم من الحاسد كراهة ما يرى من غيره من النعم وحب زوالها عنه وجملة الحسد الذى ليس بمحرم إلا أن يستعمل الحاسد بعضه فيما لا يحل كالمنافسة في الحرام وهى المنافسة فى خير الدنيا والآخرة أن يحب مايرى بغيره من النعم أن يكون مثله وأن
٤٠٠
يناله ماناله غبطة منه له فأحب أن يكون مثله فما يغبطه ويكره أن يكون دونه في الخير ولا يكره له مايرى به من النعم إنما يكره لنفسه أن يصغر به دونه فيحب اللحاق به ولا يحب زوال النعم عنه
وأما شح النفس وقلة سخاها بالخير للعباد فذلك شر الحاسدين ولا يحسد لمعنى عداوة ولا غيرها أكثر من أنه لا تسخو نفسه للعباد بما من الله عزَّ وجلَّ عليهم غما يجده على قلبه أن رأى بغيره نعمة لغير عداوة يعرفها ولا غير ذلك أكثر من شح نفسه بالخير لهم نفاسة منه أن يصل إليهم خير قلت فيم ينفى الحسد المحرم الذى يكره صاحبه ما يرى من النعم بغيره ويحب زوالها عنه قال بيسير من الأمر أن تعلم أنك قد غششت من تحسده من المسلمين وتركت نصيحته و شاركت أعداءه إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين زوال النعم عنهم وكراهة ما أنعم عليهم به وأنك قد سخطت قضاء الله عزَّ وجلَّ الذي قسم لعباده فإذا علمت ماقد دخل عليك من هذا الضرر العظيم بغير منفعة فى دين ولا دنيا ردعك ذلك عن الحسد إن كنت مؤمنا بالله عز وجل خائفاً على نفسك من غضبه وعقابه فلم تتعرض لوجوب غضبه عليك من غير اجترار منفعة في دين أو دنيا صارت إليك ولا هى إليك صائرة لو زالت النعمة عن من تحسده لأنها إن زالت عنه لم تصر إليك فلا يتعرض لهذا الضرر العظيم الذى يوجب سخط الله عزَّ وجلَّ بغير منفعة في دين ولا دنيا نالها مؤمن عاقل
وأيسر من ذلك كله أن لو كان الذى تحسده أبغض الناس إليك وأشدهم عداوة لك أنه اتزول النعمة عنه بحسدك له لأن الله عزّ وجلَّ لو أطاع الحاسدين في المحسودين لما بقى عليهم نعمة ولكن يُمضى نعمه وقسمه لعباده ولا ينظر إلى حسد الحاسدين ولو فعل بالمحسودين
ما يحب الحاسدون لهم لما بقى على النبيين صلوات الله عليهم أجمعين نعمة ولأفقر الأغنياء لحسدهم لهم ولأضل المؤمنين الحسد الكافرين لهم ولكن الحسد على الحاسد ضرره والنعمة جارية على من أراد الله عزَّ وجل أن يتمها عليه إلى الوقت الذي أراده وقدره ولا ينظر إلى حسد
الحاسدين
ألا ترى إلى قوله عز وجل
وَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ١
٦٩ ۳ ۱
2-1
فمبحبتهم
المؤمنون
أن يُضل المؤمنين ضلوا بذلك لأن تلك المحبة لهم ضلال لأنهم أحبُّوا أن يرجع ضلالا وذلك هو الضلال أن يكفر بالله عزّ وجل فمن أحب أن يكفر بالله تعالى فهو کافر فازدادوا كفرًا بحسدهم مع غشهم للنبي والمؤمنين وإنما مثل الحاسد فيمن عاداه أو باهاه أو تكبر عليه أو تعجب عليه أو تفضَّل عليه مثل رجل أراد أن يرمى عدوا له بحجر فلما رماه له رجع الحجر على عين الرامي فأصابها وأعاد الرمى فرجع الحجر أيضًا على عينه فأصابها حتى فعل ذلك مرارا كل ذلك لا يصيب عدوه ويرجع الحجر عليه فيقع بعينه وكذلك إن رماه بسهم أو بغير ذلك كل ذلك يرجع على عينه ولا يصيب عدوه فلم يك هذا أبدا ليرمى عدوه وقد علم وتبين له أنه لا يصيب عدوه و
يصيب نفسه
وإنما
فكذلك الحاسد قد كان في نعمة قبل أن يحسد من حسده وهي نعمة السلامة من الحسد فلما حسد وأحب زوال النعمة عنه زالت عن الحاسد النعمة التي كانت عليه وهى نعمة السلامة من الحسد فتزول عنه سلامته من الحسد ونصحه للمؤمنين وينزل به من المكروه والإثم أعظم مما أراد بمن يحسده وتبقى النعمة على المحسود لم تزل عنه فإذا كنت أردت زوال النعمة عن غيرك وأن ينزل به المكروه بزوالها عنه فلم تزل عنه بإرادتك ولم ينزل به مكروه لمحبتك له المكروه وتزول عنك النعمة بتلك المحبة وينزل بك أنت المكروه من الإثم ولعل الله عز وجل أن يسخط عليك بذلك فأنزلت بنفسك ما أردت بغيرك وربما كان أكثر مما أردت به لأنك إن أردت أن تزول عنه نعمة الدين وينزل به الإثم فقد نزل بك ما أردت أن ينزل به وسلم هو مما أردت به وإن كنت أردت أن تزول عنه نعمة دنيا وأن ينزل به مكروه في الدنيا فقد أنزلت بنفسك من
الضرر أعظم مما أردت به ولم تزل عنه نعمة ولا نزل به مكروه مما أردت به
وكذلك قال الله عز وجل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغِيكُم عَلَى أَنْفُسِكُم فهل بينك وبين الرامي بالحجر لعدوه إذ رجع الحجر على عينه فرقان ۱ بل أنت أعظم بلاء وضررًا لأنك إذا حسدته فقد تعرضت لسخط الله عزّ وجلّ فيه وأثمت بربك ولم تزل عنه عليك عقوبة الإثم فصارت فى عينك فذهبت بها وكتب عليك إثم تؤخذ ورجع
النعمة
۱ فارق
الرعاية لحقوق الله
٤٠٢
به في الآخرة وتستوجب به غضب الله عزّ وجلّ فلو رجع الحجر على عينك بدل الإثم كان خيرا لك لأن عينك ذاهبة بالموت والبلاء لا محالة وإثم الحسد لا يبلى ولا يمحى حتى يوقفك الله عزّ وجل عليه ويسألك عنه ثم لعله يكون آخره الطامة الكبرى غضب الله عزّ و جلّ عليك من أجله فلأن تذهب عينك فى الدنيا خير لك من أن يكون لك عين فى النار ثم لا تلبث أن يُعميها العذاب أيُّها أيسر حالك أو حال من رجعت رميته إلى عينه ولم تصب عين عدوه فهو أيسر منك حالا وأنت أشد منه بلاء وضرراً إذ لم تزل النعم عمن حسدته وزالت عنك النعمة التي كانت عليك من سلامة قلبك من الحسد للمؤمنين فأنزلت بنفسك ما أردت بغيرك أو أكثر ولم يُرِكَ الله عزّ وجلّ فيه الذى تحب وبقيت النعمة عليه على الرغم منك والجزع منك وما دخل عليك من الضرر في دنياك أعظم عليك إذ لم تخف الآخرة إذ نزل الغم بقلبك كلما رأيت به حسنة أغممت بها وتعذب قلبك بالغمّ بها فالله عز وجل يُنعمه بطاعته أو بالدنيا وتعذب
قلبك بجسده
فأنت مغموم وهو مسرور فعذبت نفسك بنعيم غيرك بغير منفعة دخلت عليك فأنزلت بنفسك الغم بغيرك وأثمت وتعرضت للعذاب والعقوبة فلن يجهل هذا الوصف عاقل ولا يقيم على الحسد بعد هذا الوصف لبيب إذا تفكر فعقل ما يضره مما ينفعه إذا كان مؤمنًا بل الكفار لو تدبّروا هذا الوصف لردعهم ذلك عن الحسد وإن كانوا لا يؤمنون بالبعث والحساب إن علموا أن قلوبهم معذبة بالغموم لنعم الله عزّ وجلّ على خلقه والنعم على المنعم عليه جارية غير زائلة فلم يُعطوا ما أرادوا وعذبوا أنفسهم بالغمّ وتنعم أولئك بما يتعذبون به
فما من كافر لا يؤمن بالبعث يعرف هذا الوصف إلا ردعه عن الحسد إن كان له عقل من أجل دنياه دون آخرته فكيف من آمن بالبعث وعلم أن في الجسد الإثم الكبير وأنه لا يأمن غضب الله عزّ وجلَّ فى ذلك فذلك أولى ألا يعترض الحسد بقلبه الخطره فضلا عن القبول له إذ كان بهذه المنزلة فذلك ينفى الحسد حين يعترض ومن كان معتقدًا له عرفه وأعطى العزم ألا يعود فيه ويحذر فيما يستقبل وأيضًا مما يقوى على نفى الحسد من قلبك بعد قبوله ورده حين يعرض في القلب أن تعلم أن الحسد في الدنيا والدين من حسد إبليس لك إن كانت نعمة من الدين بأحد من المؤمنين وكان المنعم عليه بها فوقك فى الدين أو مثلك أو دونك فإن كان فوقك فلم تلحقه بعملك فتعمل مثل عمله أو تعلم مثل علمه كرها وحسدًا إذ فاتك اللحاق به فى العلم أو العمل فتكون مثله فكره إبليس
٤٠٣
لك أن تحبه على ما وهبه الله من ذلك وحسدك أن تشركه بمحبتك له على ذلك فتضرب بالشركة معه إذا أحببته على ذلك لما صنع وأحببت أن تكون مثله فألقى في قلبك الدعاء إلى حسده وحب زوال النعمة عنه لأن لا تضرب معه بسهم الحب إذ فاتك العمل والعلم فبعضه إليك وحبب إليك زوال النعم لأنه علم أنك إن أحببته على ذلك وفرحت له بما أنعم الله عز وجل عليه شركته في الأجر فألقى فى قلبك الكراهة لعمله وعلمه وحب زوال النعمة عنه لأن لا تلحق به بمحبتك إذ عجزت أن تلحقه بعملك
عنه
ألا ترى إلى قول الأعرابي للنبي الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم حين سأل النبي
عن ذلك فقال النبي و هو مع من أحب يرويه عنه صفوان بن عسال والأعرابي الذي سأله عن قيام الساعة فقال ماذا أعددت لها فقال ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام إلا أنى أحب الله ورسوله يعنى على طاعتهم حبا لطاعتهم فقال النبي مع من أحببت قال أنس فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ
أنت
يخبرك أنه كان أوثق أعمالهم عندهم بعد الإسلام
ومنه قول أبي موسى قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلى ويحب الصوام
ولا يصوم حتى عد أشياء فقال النبي هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً أو متعلماً فكن فإن لم تستطع فأحبهم فإن لم تستطع فلا تبغضهم قال سبحان الله لقد جعل الله عز وجل له مخرجا فأراد العدو أن يصدّك عن أفضل الأعمال لك مقصرًا كنت أو عاملا لأنك إن كنت عاملا فأحببت من سبقك من النبيين والصديقين فسررت بطاعتهم شركت معهم بالحب وكنت معهم كما قال النبي وإن كنت مقصرا في العمل ففاتك العمل لم يفتك أن تكون معهم بمحبتك فصدك عن ذلك إرادة ألا بمعنى من المعانى أن ولم يرض عرضك الحرمان اللحاق تلحق بهم
بهم حتى دعاك
إلى بغض فعلهم أن تكون منهم وإلى بغضهم والغش لهم وحب زوال الطاعات عنهم ففاتك أن تلحق بمن حسدته وازددت إنما وازددت فى الدنيا غما فياليتك إذ فاتك اللحاق به وازددت غماً في قلبك سلمت من الإثم ولكن أثمت ما فاتك من اللحاق به مع
٤٠٤
فاستحققت أن تهلك فيما ينجو به من حسدته فأتمت ولم تكف ورعا ولو كففت عن الحسد ورعا لأجرت وسلمت فأئمت على ما يؤجر به من حسدته
وقد جاء الحديث أهل الجنة ثلاثة المحسن والمحبُّ له والكاف عنه وذلك أن تكف عنه ورعا فتجب لك الجنة بذلك فلينظر الحاسد على من أدخل الضرر ومن حرم الخير وزالت عنه النعم ومن غبن هو أو
من حسده !
ولو كان يضر المحسود حسد الحاسد له فيزيل عنه بجسده له النعم لدخل عليك أعظم الضرر لأنك لا تعرى أن يحسدك غيرك فلو كان الحسد يضُرّ المحسود لما بقيت عليك نعمة إذ كنت لا تعرى أن يحسدك حاسد فيحب زوال النعمة عنك فإن أردت ألا يطيع ربك عزّ وجلّ فيك الحاسدين فأنت أهل ألا تحسد عباده اتباع محبته وشكرًا له على ذلك ولو لم يكن في الحسد إثم لكان أهلا أن لا تعصيه إذ يتم عليك نعمه ويرجع الحاسدون بحسراتهم منكسرة شهواتهم ومحبتهم وإرادتهم مردودة عليهم مع زوال النعم عنهم في دينهم تفضلا منه و ه وتكرما وامتناناً أن لا يعطى الحاسدين فيك ما يحبون فاشكره على ذلك
فدع الحسد الذى لم يطع به غيرك فيك لو كان هو الحاسد لك فارض بما قسم لعباده فإنك إن لم تفعل خالفت محبته وبارزته بالخلاف فيما أوجب وما آمن أن يزول عنك من النعم في الدنيا والدين سوى مازال عنك من نعمة السلامة والنصيحة قبل أن تحسده فينزل بك ما تمنيت بغيرك عقوبة من الله عزّ وجلّ لأنه يقول تعالى
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّبِي إِلا بِأَهْلِهِ ۱
وذلك كالماكر إنما أراد أن يفعل السوء بغيره فحاق به ما أراد بغيره وكذلك الحاسد لا يأمن أن ينزل به من البلاء وزوال النعم مثل ما أحب للمؤمنين
وقد يروى عن بعضهم أنه قال ما تمنيت لعثمان رضى الله عنه شيئًا إلا نزل بي حتى لو تمنيت له قتلاً لقتلت
فلو لولم تدع الحسد - خوفا من عقوبة الآخرة - إلا خوفًا من عقوبته في الدنيا أن ينزل بك مثل ما تمنيت لمن حسدته وساءَك ما أنعم عليه به فلا ينعم الله عليك مثل ما أنعم عليه به إذ
EY TO 1
٤٠٥
ساءَك تفضل الله عز وجل عليه فتخوّف بلاء الدنيا وزوال النعم فيها كان ينبغي لك أن تدعه لو أمنت عقوبة الآخرة ومالك أن تأمن ذلك وقد ذمه الله عزَّ وجلّ والرسول عل وسخطه الله عزَّ وجل وسخط على من اعتقده أخبرك بذلك في غير موضع في كتابه يذم أهل الحسد ويخبرك أن الأمم الماضية هو الذى فرق بينها وألقى الاختلاف في دينها ولو لم تخف عليك عقوبة آخرة ولا دنيا ولم يكن عليك فيه إثم كان ينبغى عليك أن تدعه لتعذيب قلبك بالغم من غير أن تصير إلى ما أردت لمن حسدته فلو لم تدعه إلا لذلك كنت حربًا أن تدعه من أجل ذلك إلا أن تكون معتوها لا عقل لك إذ عذبت قلبك بالغم ولم تدرك ماتريد وإنما فسرت لك هذه الخلال التى بها ينفى الحسد إن لم تسخُ نفسك بترك الحسد بالخلة أن تسخو أن تتركه بالخلة الثانية فإن لم تسخُ بالثانية فعسى أ الأولى فعسى أب تسخو بالثالثة أو الرابعة فتدبَّر ذلك وناصح نفسك فإنه قد شمل عامة أهل الدين والدنيا ولقد عجل لك بعض عقوبة الحسد فى الدنيا بما لزم قلبك من الغم وضيق الصدر وكثرة الهم بغير اجتلاب دنيا مع ذهاب الدين بغشك بنفسك للعباد وبسخطك قسم الله عزّ وجلّ لهم وغمك بفرحهم
٤٠٦
باب متى يعلم العبد أنه قد نفى الحسد
قلت قد بينت الحسد وعظمت ضرره فأحب أن أنجو منه بعلم فما الدليل إذا ذكرت نفسى ما وصفت مما ينفى به الحسد - أن أعلم أنى قد نفيته عن قلبي وجانبته وقد أجدني أذكر نفسى بعض ما وصفت ومنازع ينازعنى من نفسى بالكراهة للنعمة التي أنعم الله بها عليه وحب
زوالها
قال إنك لا تقدر أن تسكت عدوك إبليس ولا تغير طبعك فتجعل خلقة نفسك خِلْقَةً لا تنازعك إلى حسد من عاداها أو اختص بشيء دونها أو تريد أن يكون لها دونها فلا تكاد تملك نفسك إذا خطر العدو بتذكير الحسد أو لا يتحرك الطبع ولم تكلف ذلك أن تجعل طبع نفسك بهيئة لا يغفل ولا يسهو ولا ينازع إلى محبوب ولا مكروه فذلك طبع الملائكة وإنما كلفت أن تعقل بعقلك عن الله عزّ وجلّ فلا تمل إلى غير طاعته فإذا أردت بعقلك بما استودعه الله عزّ وجلّ من المعرفة بضرر الحسد على منازعة طبعك ودعاء عدوك فكنت من قبل عقلك كارها لما نازعك إليك طبعك أبيًا لذلك فلم تركن إليه من قبل عقلك كراهة له نجوت من الحسد
وكذلك جميع ما نازع من دواعى الشر فى القلوب فإذا كنت للحسد كارها أبيًا له من قبل
عقلك فلا تضرك منازعة نفسك به وخطرات العدو
وقد روى عن الحسن عن النبي الله أنه قال ثلاثة فى المؤمن له منهن مخرج الطيرة والحسد والظن فمخرجه من الطيرة ألا يرتد ومخرجه من الحسد ألا يبغى ومخرجه من الظن
ألا يحقق
فأخبر النبي أن من لم يبغ فقد خرج من الحسد إذ لم يبغ له الشر ولم يحب زوال النعم
عنه
٤٠٧
باب الرد على من قال إن الحسد بالجوارح وأنه لا يضر إذا كان في القلب مالم يبده
بفعل جارحة وبيان خلافه للعلم
قلت فما معنى قول الحسن وسُئل عن الحسد فقال غمه فإنه لا يضرك مالم تبده قال معنى ذلك صحيح لأنه إذا غمه ولم يبده فلم يدع إبداءه إلا من كراهيته له فذلك الذي وصفتُ لك من الردّ بالكراهية لأن الكراهية منعته أن يبديه فيستعمله بلسان أو جارحة أنه لم يبال أن يبديه ولم يغمه كما قال الحسن ولكن لم يجد له موضعا ولا أحدا يبديه إليه وقد يكره ويسوءه ما أنعم الله به عليه ويحب زوال ذلك عنه لكان حاسدا لأن الحسد إنما هو بالقلب وإن يستعمله باللسان أو اليد كان أعظم لإئمه كما فعل إخوة يوسف
ولو
ليوسف
فإذا استعمله بالكذب عليه والغيبة له أو الكلام أو الوقيعة فيه عند من يقبل منه فيحرمه الخير من علم يعلمه أو صلة يصله بها أو معونة يعينه بها أو الدعاء عليه أو الأذى له بالجوارح وذلك كله ليس بالحسد ولكن عمل عن الحسد بعثه عليه الحسد حتى استعمل جوارحه بما يكره الله عزّ وجل فيمن حسده ولو كان هذا هو الحسد لكان هذا الفعل من العباد لرغبة أو خوف أو طلب دنيا حسدًا كله فكان جميع إساءة العباد بعضهم إلى بعض حسدا فكانت معاصى العباد بعضهم في بعض حسدًا فلم يعص أحد في أحد إلا بجسده وهذا
أحد
يعلم أو يعقل
فالحسد بالقلب
مالا يقول به وكذلك وصفه الله عزّ وجلّ من الحاسدين فقال
رَبِّكُمْ
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وقال مَايَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِن خَيْرٌ مِنْ
1
۱۰۵ ۱
٤٠٨
وقال وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
وقال وَدَّ كَثيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُم كُفَارًا حَسَدًا ١ فوصف الحسد بكراهية القلوب للحسنات التي يمن بها على المؤمنين من نصر أو فتح أو خير وحب أن يزول عنهم إيمانهم فأضاف الله عزّ وجل الحسد إلى فعل القلب ووصفه به فهو بالقلب دون الجوارح فإن غمه وترك إبداءه كراهية له فقد نفى من قلبه أن يعمل به فأمسك جوارحه عن استعماله لما نفاه بالكراهة وإن كان لم يقدر أن يُسكت عدوه ولا يسكت طبعه أن ينازعه وكذلك قال الحسن لأن العبد لا يقدر على تغيير طبعه ولا إسكات عدوه فإن غمه وترك استعماله كراهية له وآبيا أن يقبله فقد نفى الحسد عنه فكفّ الجوارح أن يستعمله فيما نازعته نفسه إلى حسده لما نهاه الله عزّ وجلّ عنه وإنما فسرت ذلك لأن طائفة تقول إن الحسد إنما يضرُّ إذا استعمله العبد بجوارحه ويحتج بحديث الحسن هذا فيذهب قولها إن الحسد بالجوارح لا بالقلب وقد دلّنا الله عزّ وجلَّ أنه بالقلب واستعماله بالجوارح عمل عنه
ألا
تری أن الله عز وجل يقول وَلاَ يَجِدُونُ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ٢ فَدَلَّكَ بذلك أن الحسد في النفس دون الجوارح واستعماله بالجوارح عمل عن الحسد لا الحسد
۱۰۹ ۱ 1404 Y
٤٠٩
باب هل على الحسد مظلمة للمحسود عند الحاسد إذا أضابه ماتمناه له
أو هو ذنب بينه وبين الله عز وجل
قلت فإن ساءني ما رأيت من النعم وتمنيت زوالها فينزل به من البلاء ما يزول عنه كالغنى يزول عنه وينزل به الفقر أو الصحة فينزل به المرض أو العلم فيحل به الجهل أو العصمة فيحل به الخذلان أو الستر فيحل به هتك الستر ثم ندمت على ذلك أيكون للمحسود عندى مظلمة يجب على التحلل منها قال أما ماكان من عمل القلب ولم تستعمل به جوارحك فذلك ذنب بينك وبين ! الله وجل عصيته به في عباده نهاك عنه وذمه إليك فليس عليك في ذلك للمحسود تبعة ولا يجب عليك استحلاله
عز
فإن خرجت إلى غيبة أهاجك عليها الحسد الذى فى قلبك أو تكذب عليه أو تغتاله بغائلة تحرمه بها منفعة أو تنزل به مكروها أو أخذ مال لا يحل لك من ماله فعليك الاستحلال من ذلك وما أشبهه
وأما مالم يعد القلب فهو ذنب عظيم لا يجرى مجرى المظالم التي فيها القصاص بين العباد في عمل الجوارح في النفس والأموال والأعراض ولرب شيء لا قصاص فيه أعظم من كثير مما فيه
القصاص
وقد جاء في الحديث إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فالحسد كما أخبرتك بالقلب واستعماله بالجوارح عمل عنه ولو كان استعماله بالجوارح حسدًا لكانت الغيبة حسدا والكذب والضرب حسدًا والقتل حسدًا والسرقة حسدا وذلك كله معاص وقد يكون عن الحسد وعن الكبر وعن الرياء وعن حب الدنيا وعن خوف الفقر فقد أخطأ مَنْ تأول ذلك وخرج من معقول الدين
كتاب تأديب المرند وسيرته وتحذيره
باب الفتنة بعد هدايته
قلت كيف تكون سيرتى فى ساعات ليلى ونهارى وكيف أحتسب على قدر أحوالى
قال إن الله عز وجل يقول
الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ نَمُتْ في مَنَامِها الآية ١
قال ابن جريج روح ونفس في جوف الإنسان بينهما فى الجوف مثل شعاع الشمس فإذا توفّى الله عزَّ وجلَّ النفس كان الروح فى جوف الإنسان فإن أمسك الله عز وجل نفسه أخرج الروح من جوفه وإن لم يمته أرسل النفس فرجعت إلى مكانها قبل أن يستيقظ وقال ابن عباس مثل ذلك إلا أنه قال النفس العقل فأخبرنا ربنا عز وجل أنه يتوفى الأنفس فى النوم فوجب علينا الحذر من ذلك ووجب علينا في الحذر التطهر من الذنوب ووجب علينا فى التطهر أن نريد بذلك الله وحده لاغيره وشاهد إرادة الله ألا تهتك ستر المعصية ولا تقبل خاطرًا يدعو إلى مخالفته إذ كان هو المتولّى لتحذيرنا من بغتة الموت على غفلة منا عند منامنا نعمة منه علينا ورحمة لنا
وكان النبي إذا أراد أن ينام قال باسمك اللهم أموت وأحيا وكان إذا نام قال حين يضطجع اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين
خائف أن يموت فى منامه يدعو بالمغفرة إن قضى موته فى منامه وبالحفظ والتوفيق إن استيقظ حيا
وكان بعض العلماء إذا أراد أن ينام قال لأهله السلام عليكم يا أهلاه فودعهم خوفاً ألا يستيقظ وأن يتوفاه الله عز وجل في نومه ذلك
٤١٣
٤٢ ۳۹ ۱
٤١٤
فحق على المريد الخائف من الله عزّ وجلّ ألا يأمن بغته الموت على كل حال وفى منامه حين ينام فيخاف أن يموت فى منامه وألا يقوم منه فإذا ألزم قلبه الخوف لذلك فحق عليه أن يحققه بالحذر أن يقبض الله عزّ وجلّ روحه في نومه وهو مصر على بعض ماكره الله عز وجل من ركوب بعض نهيه أو تضييعه بعض حقه فيعطى الله سبحانه الندم على ما كان منه والعزم على التوبة أنه إن أصبح حيًّا اجتنب كل ما يكره الله عز وجل وأداء ما وجب عليه ورد ما أمكنه من المظالم إلى أهلها من مال أو استحلال في عرض فإن مات في منامه لقى الله عز وجل مغفورا له ذنوبه إن شاء الله وإن أصبح حيًّا كان عزمه على التوبة مهيجا له على الحياء من الله عز وجل لأن العبد أقرب ما يكون من العزم أشدّ ما يكون من الله عز وجل حياء إن عقل أن يقول لنفسه بانفس إنما عاهدت الله عز وجل البارحة أتنقضين عهدك إياه سريعا لم تف له بعزمك يوما واحدا ثم تجدد التوبة في القابلة إن عشت عند نومك فكلما أصبحت حمدت الله عز وجل إذ أبقاك ولم يتوفك فى منامك كما كان النبي علي يقول إذا استيقظ من منامه الحمد لله الذى أحياني بعد ما أماتني ولم يتوفنى في منامي ثم تأخذ نفسك بالوفاء بالعزم وتذكرها قرب العهد وتهيجها على الحياء من الرب جل وعزَّ فكلما نمت جددت العزم وذكرت الموت للعبرة بالنوم لأنك كالميت وقد سماه الله عز وجل وفاة وتخاف الله عز وجل أن يتوفاك في نومك فإذا أصبحت ذكرت النشور والبعث والعرض على الله عزّ وجل لأن الله عز وجل سماه بعثا وهو شبيه به وكان النبى الله إذا استيقظ ذكر النشور فقال اللهم بك أحيا وبك أموت وإليك النشور
فإذا استيقظت فأول ما تبتدئ به حمد الله عز وجل إذ أيقظك ولم يتوفك وتذكر النشور ثم إذا أردت أن تقوم أخذت ثوبك فنويت به الستر كما أمرت بالستر وحياء من الله عز وجل وملائكته وتسترا من أعين الجن ومن حضرك من الإنس ثم تأخذ سواكا إن أمكنك فتستاك تنوی به طهارة فيك ومرضاة ربك واتباع سنة نبيك ثم تتغوط إن احتجت إلى ذلك لإلقاء الأذى عنك لئلا تصلى وهما يدفعانك تتبع بذلك ما أمر به نبيك فإذا دخلت الخلا لحاجتك قلت كما كان النبي لعل الله يقول إذا أراد الخلاء بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإذا خرجت قلت كما كان النبي الله يقول الحمد لله الذى أذهب عنى ما يُوذينى وأبقى فى ما ينفعنى
٤١٥
ثم تتوضاً فتغسل يديك اتباعًا لسنة نبيك تستنجى بشمالك نظافة واتباعاً المحبة ربك عز وجل إذ يقول إن الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويحبُّ الْمُتَطَهِرينَ ١
لأنها نزلت فى أهل قباء إذ استنجوا بالماء ثم تُوضئ أطرافك لأداء فرض الوضوء الذي أوجبه عليك ربك عز وجل لتؤذى فرض الصلاة التى لا يقبلها الله عز وجل إلا به ولما أوجبه الله عز وجل ولقول النبي الله لا تقبل صلاة بغير طهور ففى هذا دليل على أنها بالطهور مقبولة ممن رحمه الله عز وجل
فلتلزم قبلك مع أدائك الفرض الأمل والرجاء أن يقبل الله عز وجل صلاتك فكلما استنشقت أو تمضمضت أو وضأت طرفاً من أطرافك أملت كفارة ما أصبت من الذنوب بجوارحك كما قال النبي الله إنه يكفر عن العبد المؤمن ما أصاب بمواضع الوضوء من الذنوب لأنه قال إذا غسل يده كفر ما أصاب من الذنوب حتى عد مواضع الوضوء من
الذنوب فإذا فرغت من وضوء ك أتيت مسجدك ونويت بإتيانك المسجد أداء الصلاة في الجماعة اتباعاً لسنة نبيك الله ومعاونة المسلمين على أداء الفرض ورجاء الرحمة بدعاء من يحضر معك من المؤمنين وأنك زائر لله عز وجل وتأمل بزيارتك ماقال سليمان من أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور كرامة الزائر فتأمل أن يكرمك الله عز وجل برضوانه عنك وجنته فإذا قضيت صلاتك نظرت أيهما أفضل وأوجب لزومك المسجد أو دخولك منزلك أو
غدوك لمعاشك أو لبر واجب أو تطوع فأى ذلك كان أولى بك فأتِه فإن دخلت منزلك ذكرت الإشفاق الذى وصف الله عز وجل به أولياءه الذين أباحهم الله عز وجل جواره وأدخلهم داره إذ قالوا حيث استقرت بهم الدار إنا كنا قَبْلُ في إهلنا قد اغتبطوا في إشفاقهم في أهلهم فألزم قلبك الإشفاق رجاء أن تأمن به في الجنة مع المشفقين من أوليائه فإن زل أحد منهم نهيته لتمضى أمر الله عز وجل فيهم بأن تقيهم نار جهنم لقوله تعالى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ٢ قيل في التفسير أدبوهم وعلموهم
مشفقين
1 1
٤٢
وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ۱
قال البر ما أمرتم به والتقوى ما نهيتم
عنه
وحدثنا الوليد بن شجاع عن ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال ما عبد الله العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم عنه
حدثنا الوليد قال حدثنا عمر بن حفص بن ثابت الأنصارى عن سفيان الثورى عن رجل
عن الحسن قال إن الله الذين اتقوا والذينَ هُمْ مُحْسِنُون مع قال اتقوا الله جل ثناؤه فيما نهاهم عنه وأحسنوا فيما افترض عليهم وحدثنا سنيد بن داود قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢ قال من الذنوب فأوجب الرحمة بترك الذنوب
وحدثنا أبو النصر عن شعبة عن منصور عن إبراهيم أو مجاهد في قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان ۳
قال يريد أن يذنب أو يهم فيخاف ربه فيدعه
وحدثنا سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى
ومَا تُحْفِى الصُّدُور ٤
قال تحدث به النفس
الله وحدثنا عبيد بن موسى قال أخبرنا هشام بن عروة أظنه ذكره عن أبيه
قال لما ولى أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حمد الله فأثنى عليه ثم قال أيها الناس
قد وليتكم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن وسن النبي الله وعلمنا فَعَلِمنا واعلموا أن أكيس الكيس التقى وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقوى القُوى الضعيف حتى آ آخذ له
بحقه وأن أضعفكم عندى القوى حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متَّبع ولست مبتدعا فإذا أحسنت فأعينونى وإن زُعْتُ فقومونى
٢٥ ۱
٣٦ ٤٥
٣ ٥٥ ٤٦ ٤ ٤٠ ١٩
٤١٦
فإن أردت أن تخرج في حاجة أو إلى سوقك فقدم النيات قبل خروجك وإن قدرت ألا تدع شيئًا ترجو أن تطيع الله عز وجل في طريقك أو في حاجتك أو في سوقك أن تنوى به فافعل فإن أجرك على قدر نيتك ألم
تسمع إلى ما روى كعب أنه وجد ثلاثة أسطر فى كتاب الله عز وجل و أن الشهداء ثلاثة رجل خرج في سبيل الله يحتسب ماله ويكثر جماعة المسلمين بنفسه لا يريد أن يُقتل ولا يقتل أتاه سهم غرب فقتله فذلك تغفر له ذنوبه بأول قطرة تقطر من دمه ويشفع في سبعين من أهل بيته ورجل خرج في سبيل الله يحتسب ماله ويكثر جماعة المسلمين بنفسه يريد أن يَقتُل ولا يريد أن يُقتل أتاه سهم غرب فقتله فذلك ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن في الجنة ورجل خرج فى سبيل الله يحتسب بنفسه وبماله ويكثر جماعة المسلمين يريد أن يقتل ويُقتل أتاه سهم غرب فقتله فذلك شاهر سيفه فى الجنة قبالة عرش الله عز وجل يشفع
فيمن يشاء لاتعصى له فيها عزمه يعنى كلمة
فساوى بين نفقاتهم وخروجهم وسبب قتلهم كلهم أتاه سهم غرب فقتله وفضل الثاني على الأول لأن الأول لم يرد أن يقتل ولا يقتل وأراد الثانى أن يقتل ولا يُقتل وفضل الثالث على الثانى إذ نوى أكثر مما نوى لأنه أراد أن يقتل ويُقتل
وقد قال كعب هي ثلاثة أسطر في كتاب الله عز وجل فأخبر أن ذلك عن الله عز وجل وروى بعض أصحاب ابن المبارك أنه رآه يمشى فى طريق مكة فقيل له فقال أسر الجمال وأروح عن الجمل فكلما نويت أكثر كان لك الأجر أكثر فإذا خرجت فانو كلما قدرت عليه مما يمكن من النية فإن فعلته أجرت على نيتك وعلى فعلك وإن لم تفعل ذلك أجرت على نيتك فإن خرجت إلى سوقك نويت إن مررت ببعض المجالس أن تسلم عليهم وإن رأيت مظلوما أن تنصره وإن رأيت منكرًا فاستطعت أن تغيره غيرته وإلا أنكرته بقلبك وإن مررت بأذى أن تميطه عن الطريق
وتنوى إن لقيت الأصحاب والمعارف أن تسلم عليهم وتسألهم عن حالهم الله عز وجل على قدر أقدارهم ممن تحبه الله عز وجل أو تعنى به لقرابة أو غير ذلك نويت أن تسأله عناية منك بأمره لتؤجر على سلامك وسؤالك وعنايتك به وتحمد له الله عز وجل أو للرحم وصلة له ومن كان يُسر بأن تبشر به إن لم تكن تعنى به نويت أن تسلم عليه لإدخال السرور عليه لتؤجر في
٤١٧
سلامك وإدخالك السرور عليه ومن كان لا تعلم منه سرورًا وكانت بينك وبينه خلطة سلمت عليه لأن تُعرضه للأجر أن يحمد الله عز وجل إذا سألته وكذلك يروى عن ابن عمر أ أنه قال ما أخرج إلا لأسلم ويسلم على ويُحمد الله عز وجل
وروى الفضيل بن عمرو ولم يصل الحديث قال لقى رسول الله لا يعنى رجلا فقال كيف أصبحت قال صالح قال كيف أصبحت قال صالح قال كيف أصبحت قال بخير أحمد الله قال هذا الذي أردت
وقال عمر رضى الله عنه لرجل كيف أنت قال بخير والحمد لله قال عمر إياها أردت يخبرك أنه أراد منه أن يحمد الله عز وجل ومن كان يغتم إن أعرضت عنه ولم تأمن عليه
أن يعصى الله عز وجل فيك نويت أن تسلم عليه لئلا يكون للشيطان عليه سبيل فتقدم النيات - ذكرك قلبك ماقدمت من النية وإن لم تذكر كانت النية
أحدا
منهم
فيهم كذلك فكلما لقيت الأولى مجزيتك مالم يعترض لك خوف مذمتهم أو حب محمدتهم أو رجاء طمع تناله منهم فإن عرض شيء من ذلك بقلبك نفيته عن قلبك ومضيت على نيتك وسلمت وسألت الله
عز وجل وحده
وكن حذراً قبل الاعتراض من الخطرة بدواعى الرياء لأن العدو حين تلقى من تسلم عليه يخطر يستخفك أو يحمدك أو يجفوك إن لم تسلم عليه ليسبق إلى قلبك ذلك فيشغلك أن تحتسب الثواب في سلامك وسؤالك فتعتقد ما خطر به فلا تحتسب الثواب في سلامك ولا في
يبالك
أنه
K
سؤالك فلا تدع أن تنوى بإفشائك السلام على المجالس في العامة الأجر والثواب كما أمرك النبي حين يقول أفشوا السلام بينكم وقال عمار ثلاثة من جمعهن جمع الإيمان إحداهنَّ بذل السلام للعالم وتنوى إن يُسلم عليك أن تردّ فتقوم بالفرض
ومر على النبي الرجل فقال السلام عليكم فقال عشر حسنات ثم مر آخر ثم قال السلام عليكم ورحمة الله فقال النبي عل الله عشرون حسنة ثم مر آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي عل وثلاثون حسنة يرويه الحسن ومكحول عن النبي لا إلا أن مكحولا قال قال رسول الله هكذا يتفاضل الناس وتنوى إن سئلت عن حالك أن تحمد الله عز وجل فإن لم يُسلَّم عليك ولم تُسأل عن حالك
كنت مأجوراً بنيَّتك التي قدمتها وإن سلموا عليك فرددت أو سألوك عن حالك فأجبت
٤١٨
ذكرتك نيتك المتقدمة طلب الثواب فيهم فأجرت فى النيَّة والعمل وإن سهوت فسلمت أو سئلت عن حالك فأخبرت بغير طلب الثواب كنت مأجورا على نيتك المتقدمة لقول النبي ل مَنْ هم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة فإذا سئلت أجبت بعقل محتسب للثواب ولا تكن كمن يُجيب بغير فهم ولا احتساب لثواب الله عز وجل فإن الناس قد أجروا المسألة بينهم بغير عناية ولا حسبة فالسائل لا يعنى ولا يحتسب والمسئول لايرى أنه يُسأل لعناية ولا حسبة ولا يعقل عما يسأل لأنه إذا سئل لو ظن أن الذى يسأله عن حاله لعناية منه به العلم كيف حاله لأجابه عما يسأله عنه لأنه لو قيل للمريض كيف بت البارحة أو كيف تجدك فلم يجب عن حاله بذكر نعمة الله أو يذكر ما يجد من الوجع لما قنع منه بدون ذلك لأنه لو قيل له كيف أنت فقال كيف أنتم لما قنعوا منه بذلك لأن مسألتهم إياه عن عناية به فأما للأصحاء فعامة سؤالهم وإجابتهم عن غير فهم ولا عقل يقول الرجل للرجل كيف أصبحت فيقول له كيف أصبحت فلو عقل السائل لما قنع منه بذلك حتى يجيبه عن حاله كيف أصبح أو يخبر عن نعمة الله عز وجل عليه ولو عقل المجيب عما يُسأل الأجابه عما يُسأل عنه بذكر نعمة الله عز وجل وحمده والله عز وجل يستحق منه ذلك فإذا قيل لك كيف أصبحت أو كيف أنت أو كيف أمسيت قلت بخير والحمد
لله
روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت من سئل كيف أصبحت فقال بخير والحمد لله فقد أدى شكر ذلك اليوم وقال أبو الدرداء إذا قال الرجل لأخيه كيف أنت فقال بخير والحمد لله قال الله جل وعز أثنى على عبدى وحمدنى
فتنوى أن تجيب بفهم وعقل محتسباً بذلك ثواب الله جل وعز فإن سئلت فأجبت بعثتك نيتك التي قدمتها على أن تجيب بعقل محتسباً للثواب وإن لم تسأل أو سئلت فأجبت بغير فهم لم تخب من نيتك المقدمة التي قدمتها حين أردت الخروج من منزلك
وتنوى أيضًا إن رأيت امرأة أن تغض بصرك وإن سمعت لهوا أو معصية الله عز وجل لم تصغ إليه وأن تعتبر بما ترى بعينك وتسمع بأذنيك وتشم بأنفك فأنت مأجور على نيتك فعلت شيئًا من ذلك أو لم تفعله وإن كنت تريد أن تأتى سوقك نويت أيضاً مع هذه النيات أن تأتى سوقك أو سببًا المعاشك صنعة أو وكالة أو غير ذلك لطلب الحلال والاتباع للنبي وللثواب في نفسك
وعيالك للاكتساب عليهم والاستغناء عن الناس والتعطف على الأخ والجار وأداء الزكاة وكل حق فيه واجب تأمل بذلك أن تلقى الله عزّ وجل ووجهك كالقمر ليلة البدر أبو هريرة عن النبي لا أنه قال روی ومن طلبها حلالا استعفافًا عن المسئلة وكدا على عياله أو تعطفاً على جاره لقى الله عزّ
كما
وجل ووجهه كالقمر ليلة البدر وتنوى الورع في سوقك وأن تدع كل ربح وأجرة وإصابة تعرض لك وإن كانت الدنيا كلها إن عرض لك فيها ما يكره الله عزّ وجلّ
وتنوى الإخلاص فى ورعك في تجارتك إذا ظهر للمشترى منك ومن تشترى أنت منه أو تعامله في صنعة أو غيرها ووكالة وتنوى عون المسلم في تجارتك إن استعانك لجاهك أو ببصرك بغير ذلك واعتبارك بأهل السوق وبما ترى فيه
وأن تذكر الله عزّ وجلّ فى السوق محتسباً لما جاء به الحديث إن الله عزّ وجلّ يعجب من
الذى يذكره فى السوق والحديث أيضًا • ذاكر الله فى الغافلين كالشاهر بسيفه خلف الفارين ومن ذكر الله في السوق كان له من الحسنات بعدد كل فصيح وأعجمي يعنى إنسان وبهيمة
وحديث عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال من أتى سوقاً فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألفى ألف حسنة ومحا عنه ألفى ألف سيئة وبنى له بيت فى الجنَّة تقول ذلك فإن كنت مارا فتذكر الله عز وجل وتراقبه وتستحى منه أن يطلع عليك فى سوقك ولا يرى عليك أثر ما خصك به من العلم كالجهال حولك فلا ترضى من نفسك ألا يراك الله عزّ وجل متقيا له ذاكرًا له عند خوض الخائضين كما قال عبد الله بن مسعود وينبغى الحامل القرآن أن يُعرف بورعه إذا الناس يخلطون وبصمته إذا الناس يخوضون فلير الله عليك أثر العلم وما ألزمك من حجته فتنوى هذه النيات كلها إن استطعت فتربح حسنات كثيرة قبل أن تربح شيئًا من الدنيا حين تخرج من منزلك فتؤجر على عقد نياتك كما قال كعب في الثلاثة وكذلك إن غدوت إلى شيرى شيء من تجارتك أو تقاضى دينك أو قضاء ما عليك أو شرى شيء لأهلك أو بيع شيء تريد بيعه أو إلى صنعتك نويت كل ما قدرت عليه مما
٤٢٠
أمكنك فيه أن تأمل الله عز وجل فيه وترجوه فإن الله عز وجل معطيك على قدر حسبتك وأملك فيه ورجائك من ثوابه
C
وكذلك إن أردت الذهاب إلى علم لم تدع ما أمكنك من النية والحسبة في الطاعات فتغدو وأنت تنوى أن تتبع بذلك أمر الله عز وجل ورسوله لا لا تطلب العلم وما ينفعك في دينك لتستدل به على خير أو تنهى به عن شر وتأمل أن يسهل الله عز وجل لك بذهابك طريقاً إلى الجنة كما جاء الحديث عن النبي من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وكذلك تأمل أن تضع الملائكة أجنحتها لك رضاً بما تصنع كما رواه صفوان بن عسال عن النبي الله ولتزاحم العلماء فى حلق الذكر وكذلك تنوى أن ترتع في روضة من رياض الجنة كما جاء الحديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل وما رياض الجنة قال حلق
الذكر
وكذلك السلام على من تسلم عليه ومسألته على قدر ما أمكنك وكذلك زيارة أخ أو قضاء حاجة مسلم أو اتباع جنازة أو عيادة مريض لا تدع شيئًا من النيات مما جاء به العلم وأمكن أن تؤمل الله عز وجل له إلا نويته واحتسبته ورجوته فإن تم لك كل ما نويت أجرت على ما قدمت من النيات وعلى عملك وإن لم يتم لك مانويت أن تعمل به أجرك الله عز وجل بنياتك كلها لأن النبي لعل الله يقول عن ربه جل وعزَّ إن الله عز وجل يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي عبدى ماشاء رواه عنه وائلة بن الأسقع
فعلى قدر ظنك
به
أن يتفضل عليك تجده قريباً مجيباً
٤٢١
باب مايخاف العبد على نفسه بعد قيامه لله عز وجل
بحسن الرعاية في ظاهره وباطنه
قلت فما تخاف على بعد هذا من طريق العمل لغير الله عز وجل قال أما ما دمت مشتغلا بنفسك متفقدًا لها بما أجبتك به فلستُ أخشى عليك إلا أن تؤتى من قبل النصح والرحمة فيأتيك إبليس من ذلك وتنازع النفس إلى محبتها فتردك برغبتها إلى ماتركت من حب ثناء العباد وحمدهم من جهة النصح والرحمة للعباد وهى تريد قيام المنزلة و شرف الرياسة فتفسد عليك عملك ألم تسمع إلى ماروى كعب بن مالك عن النبي الله أنه قال ما ذئبان جائعان أرسلا فى غنم بأفسد لها من حب الرجل للمال والشرف في دينه
قلت وكيف ذلك
قال إن كثيرًا من المريدين إذا تَطَهَّرُوا من الذنوب وجانبوا الرياء واعتقدوا الإخلاص ومنعوا قلوبهم أن تريد غير الله عز وجل لم يجد إبليس موضع طمع ولم تجد النفس موضع راحة إلى الدنيا فبينما العبد في إخلاصه وقوته قد ضيق على نفسه الركون إلى الدنيا لرغبتها فيها والتصنع في الدين لرغبتها في زينة الحياة الدنيا فلا تجد موضع طمع تتروح به إلى الدنيا ولا يجد العدو موضع طمع يُزيل به العبد إلى الدنيا فالعبد على العزم والقوة والنفس قد قهرت فهى طائعة من غير انقلاب من غريزتها متطلعة هل تجد موضع طمع إلى الركون إلى محبتها إذ نظر العبد إلى الناس صرعى في دينهم تضرب المثلات حیاری سکاری مرضی بهم أضنياء صم عمى موتى فغلبت على قلبه الرحمة لهم إذ كان عنده من الدلالة والمعرفة مايفتح الله تعالى به أبصار قلوبهم وما يُشفون به من مرض قلوبهم وما يحيون به من بعد موتهم من غير غرامة تدخل عليه بل له على ذلك الربح العظيم من الله عز وجل فها مثله إلا كمثل رجل كانت به علل كثيرة قد أسهرته فى ليله وأقلقته في نهاره كالصربان فى العين والآكلة فى الجسد فيعالج بدواء لاغرمة فيه بغير ثمن أخذه فيراه من ذلك وصح فنام الليل بعد طول سهره وسكن بالنهار بعد طول قلقه وصار إلى الصحة والعافية قطابت بها حياته وصفا بها عيشه فنظر إلى عدة من المسلمين لهم من العلل مثل الذي كان به
٤٢٣
تبجيلها وإكرامها فيجزع أن يفطنوا لفترته حتى قد يعتذر بالكذب وبالصدق كأنه إنما كان لهم يعمل لا لربه جل وعز
لنفسه
فإذا فعل ذلك انقطعت من الله عز وجل عصمته ورفع عند توفيقه فرجع متحيرا ممرجا من حيث لا يعلم غير متفقد لها أخذ لها بألا يزول عنه ماظهر لهم منه وعن تحقيق ما يدعو إليه لئلاتزول رياسته ولا تتضع منزلته فيرجع إلى معاصى الله عز وجل فتصير عامة طاعاته لغير الله عز وجل فيبقى فى الدنيا كذَابًا يدعو العباد إلى الله عز وجل وهو فار منه ويذكر بالله عز وجل وينساه ويُظهر الزهد فى الدنيا وأنه قد خربها بظاهره وقد رغب فيها وعمرها بباطنه يتحبَّب إليهم بما يُظهر ويتبغض إلى الله عز وجل بما يخفى يُظهر إلى العباد الانقطاع إلى الله عز وجل وهو عنه منقطع في باطنه
فنعوذ بالله من الحيرة بعد الهدى ومن العمى بعد البصر ومن الإعراض عن الله بعد الإقبال إليه ونسأله السلامة والعون على ما يحب ويرضى
قلت فمن أين يصح للعبد المريد النصح للعباد إذ كان كما ذكرت قال إنى لم أقل إنه لا ينصح أحدا إلا رجع عن الصدق ولكن أخبرتك بما أخاف
عليك إن لم تصدق الله عز وجل
قلت فمتى يصح لى أن أنصح بغير زوال
قال إذا عرفت لنفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالقوة وصار شأن المخلوقين عندك صغيرًا وكان الغالب عليك نفى خطرات حمدهم وذمهم والطمع لما في أيديهم وسخت نفسك بعيبهم لك فيما يحمدك الله عليه من غير محبة عصيان الله جل وعز فيك فغلب على قلبك اليقين بالمقدور فزال طمعهم عن قلبك فعزمت على النصح لهم بعد معرفة منك بما يصلحهم عن كتاب ربّك عزَّ وجل وسنة نبيك لعل الله فانصحهم وأحذر أن ينتشر عليك طبعك فكل خاطر يدعو إلى كراهة مذمة أو حب محمدة أو طمع في دنيا فاردده عنك وإن خيل إليك أنك تجترهم بذلك فإن ذلك خدعة أن تطلب نجاتهم بهلاكك وأنت ترى أنك ناج فإذا قويت بهذه القوة وتفقدت هذه الخطرات فلم تقبلها ولم تغضب أن يستخف بشيء من حقك أو يردُّوا عليك شيئًا من قولك وترجع إلى الله عزَّ وجل في ذلك وترضى بما قدر لك وتعلم أن ما تطالب من حق الله عز وجل من الحمد والثناء عوضا من حمدهم وزوال ذمهم والطمع لما في أيديهم وأنهم مع ذلك لم يقدروا أن يوصلوا إليك مالم يُقدَّر لك
٤٢٤
ولا يحمدوك بما لا يلقى الله عزّ وجل لك فى قلوبهم قانع بعلم الله عزّ وجلّ وحده وبحمده غير مكترث لذمهم فيما يحمده الله عزَّ وجلَّ غير طالب منهم ثوابًا ولا إكراما قانع بما تأمل من الله عزّ وجل من الثواب في الدنيا والآخرة فانصحهم وخف ترك تحقيق ماتقول بالفعل واحذر احذر واستعن بالله عزّ وجلَّ وتوكل عليه ولا قوة إلا بالله ومنه العصمة وعليه التكلان ونسأله تمام نعمه علينا برحمته
تم الكتاب بحمد الله ومنه ومشيئته وعونه وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم
تسليما
رحم الله من كتبه ومن قرأ فيه وعمل بما فيه وجميع المسلمين برحمة الله إنه هو الغفور الرحيم وكان الفراغ ۱ منه يوم الخميس فى ذى القعدة من سنة تسع وثلاثين وخمس مائة
۱ فراغ الناسخ من نسخة
الصفحة
۳۳
۳۹
٤١
٤٣
٤٧
٤٨
۵۸
1
٦٣
٦٦
9
yo
۸
Λε
الفهرس
مقدمة المؤلف
المقدمة
باب الرعاية الحقوق الله عز وجل والقيام بها
باب معرفة التقوى وما هي
باب معرفة ما يبدأ به العبد من العدة للمقام بين يدى الله تعالى
باب شرح التقوى
باب في تعريف المغتر نفسه وطول غرته
باب فى أول ما يجب على العبد معرفته والفكر فيه
باب في محاسبة النفس في مستقبل الأعمال
باب الرعاية
باب ما يبعث العبد على التوبة
باب ما ينال به خوف وعيد الله عز وجل
باب ما يحل به المصر إصراره ووصف ثقل الفكرة على القلب
باب ما تحفف به الفكرة على القلب
باب ما ينال به اجتماع الهم
باب وصف منازل المصرين وبم يقوى العزم على التوبة وترك الإصرار
باب ما يجب أن يلزم العزم عن الطاعة والاهتمام بالتيقظ والحذر بتصحيح التوبة
القلب عند معرفة النفس ومعرفة الخلال التي يكون عنها نقص
باب معرفة حقوق الله بأسبابها وعللها وإرادتها وترتيبها في القيام بها والرعاية لها باب رعاية حقوق الله تعالى عند الخطرات في اعتقاد القلوب
٤٢٥
باب شرح التقوى
٤٣
قلت فما التقوى
قال الحذر بالمجانبة لماكره الله عز وجل
قلت الحذر من ماذا قال الحذر من الله عز وجل
قلت في ماذا
قال في خَصْلَتين تضييع واجب حقه وركوب ما حرّم ونهى عنه في السر والعلانية وتجمع ذلك خصلتان القيام بما أوجب الله عز وجل الله وترك ما نهى الله عز وجل عنه لله
تبارك وتعالى
وكذلك يروى أن الفتنة لما وقعت قال طلق بن حبيب اتقوها بالتقوى فقال له بكر بن عبد الله المزنى صف لنا التقوى فقال التقوى أن تعمل بطاعة الله عز وجل على نور من الله عز وجل ترجو ثواب الله عز وجل
والتقوى ترك معاصى الله على نور من الله مخافة عقاب الله عز وجل
والتقوى حقيقتها فى الجوارح القيام بالحق وترك المعاصي
والتقوى حقيقتها فى الضمير إرادة الديان فى الفرض وإخلاص العمل له في النفل
بالبكاء والأحزان والصلاة والصيام وجميع ا أعمال الطاعات مما ندب الله عز وجل إليها عباده
ولم يفترضها عليهم رأفة بهم ورحمة لهم
ولا يقبل ما نَدَبَ إليه إلا بالتقوى حتى تخلص له الإرادة به
ومن التقوى كان الورع لأنه لما اتقى الله عز وجل تورع قلت ما الورع
قال مجانبة ماكره الله جل وعز ومنه قول عمر رضى الله عنه ورعوا اللص ولا تراعوه يقول اطردوه وجنبوه رحالكم ولا ترصدوه حتى يقع ومنه قول العرب ورع الإبل أى
جنبها
٤٢٦
باب منازل أهل الرعاية لحقوق الله عز وجل في رد الخطرات وقبولها في أعمال القلوب والجوارح على قدر منازل أهل القوة والضعف
باب شرح ما يبتدأ به من أداء الفروض وترتيبها في الأداء والوجوب باب منازل أهل الرعاية لحقوق الله تعالى
باب بيان منازل المصرين المقيمين على الذنوب وذكر ما يبعثهم على التوبة وقطع
التسويف
باب الاستعداد للموت وقصر الأمل
باب ما يهيج على معرفة كراهية الموت وكربه
الصفحة
۹۱
١٠٦
19
11
باب في صفة الرياء وذكره
كتاب الرياء
باب حض العاصى على الإخلاص في عمله
باب في شرح الرياء ما هو والدليل عليه
باب معرفة أن الرياء على وجهين أحدهما أعظم والآخر أهون وكلاهما
رياء
باب هيجان الرياء والدواعي إليه
باب وصف خوف المذمة والطمع لما في أيدى الناس
باب ما یکسر به دواعي الرياء والحمد والطمع
باب ما يراءى به من العمل واللباس وغير ذلك
باب ما ينفى به الرياء
باب معرفة ما ينال به الحذر من الرياء
باب معرفة قوة الإخلاص على منازعة النفس عند العارض والنفى له
باب وصف الحذر من عدو الله إبليس باب الغلط فى الحذر من العدو إبليس باب منازل الرياء وأوقاته
۱۷
۱۹
۱۳۱
١٣٤
۱۳۷
۱۳۹
١٤٢
120
١٤٩
١٥٣
١٥٥
١٦١
18
1
٤٢٧
الصفحة
١٦٩
١٧٦
۱۸۰
۱۸۱
۱۸
١٨٦
۱۸۸
۱۸۹
۱۹۱
۱۹
١٩٤
۱۹۷
۰۰
۰
٢٠٤
۰۷
۱۰
۱۳
۱٥
٢١٦
۱۷
۰
باب وصف أعظم الرياء وأدناه
باب ما يورث الرياء من الأخلاق المذمومة وشرحها
باب علامة المرالى في نفسه
باب ما يجب أن يلزمه المريد نفسه عند عمل السر والعلانية
باب سرور العبد عندما يظهر عليه من عمله قبل فراغه منه وبعد فراغه باب ذم الرياء والعجب
باب ما يجوز للعبد أن يقطع أنه أخلص فيه الله وما لا يجوز له منه
باب ما يجزى من النية عند ابتداء العمل والنية في العمل باب العبد يدخل العمل يريد الله عز وجل وحده ثم يجد من نفسه نشاطاً
للزيادة وما تجزيه من النية في ذلك
باب وصف النية ما هي
باب معنى قوله لا تحضرنى النية في العمل
باب من يدخل في العمل لا يريد الله عز وجل بذلك ثم يندم كيف يكون
عمله بعد الندامة
باب في الرجل يدع بعض النوافل إشفاقاً على الناس أن يعصوا الله عز وجل
فيه
باب إظهار العمل ليقتدى به
باب العبد يحدث إخوانه ببعض ما يقوى عليه من العمل ليحضهم على ذلك باب عمل السر والضعف عن إظهار العمل خوف العدو وحذر الشهرة
باب هل يجوز ترك العمل من أجل الرياء
باب ما يجوز للعبد من محبته لمحبة الناس له
باب ما يصح للعبد من غمه عندما يظهر للخلق من ذنوبه باب فى ستر المعاصى عن العباد وإن أطلع الله عليها باب ما يستحب فيه الحياء وما يكره فيه
باب من أين ينبغي للعبد أن يكره ذم المسلمين له ومن أين لا يكرهه
٤٢٨
باب كيف يكون قلب الصادق عند كراهية المنزلة عند المخلوقين وحبه لإخمال
ذكره
باب استواء الحسد والذم في قلب العبد والفرق بين حبه لنفسه ولربه
عز وجل
باب في الرياء للوالدين ليرضيا وللعلماء ليستفيد به علما
باب الرجل يحضر القوم يصلون فتحضره نية للعمل وإن لم يكن يفعل ذلك في خلوة أو يبكون فلا يجد البكاء
باب ما ينفى به التصنع للمخلوقين في التصنع والحزن
الصفحة
باب ما قالوا في علامة صدق الخاشع الله عز وجل إذا رمقته أبصار العباد باب الرجل يكون له صاحبان أحدهما غنى والآخر فقير فيكثر زيارة الغنى وبره دون الفقير كيف السلامة من ذلك له ومن این فساده
كتاب الإخوان ومعرفة النفس
باب في العبد يعزم على التوبة ثم يرجع وما الذى يقويه ويعينه على التقوى
ومخالفة الهوى والشهوة
باب الرجل يخرج في الحاجة أو يجالس بعض إخوانه ممن يدعى أخوتهم في الله عز وجل وهو يعلم أنه لا يسلم له دينه معهم
باب ما يستعان به على ترك لقاء الإخوان الذين يتخوف من لقائهم قلة السلامة
في الدين
۳
٢٢٥
۷
۸
۳۳
٢٣٥
٢٣٦
٢٤١
٢٤٤
٢٤٩
٢٥٧
٢٥٩
ودعائها إلى هواها
6
كتاب التنبيه على معرفة النفس وسوء أفعالها
باب التحذير من هوى النفس
باب يم يعرف سوء رغبة النفس
كتاب العجب
باب ما يؤدى إليه معرفة النفس وشرح العجب والإدلال بالعمل
باب العجب بالدين
باب إضافة العمل إلى النفس باب الإدلال بالعمل
باب العجب بالرأى الخطأ
باب ما ينفى به العجب بأعمال الطاعة
باب ما ينفى به العجب بالرأى الخطأ
باب العجب بالدنيا والنفس
باب العجب بالحسب باب العجب بكثرة العدد
باب العجب بالمال
كتاب الكبر
باب وصف الكبر وشعبه وشرح وجوهه
باب الكبر عن العجب وتفسير الكبر بالعلم
باب ما يكون من الكبر عن الرياء وما يورث من
باب الكبر بالدنيا
باب نفى الكبر وتعريف العبد قدره
باب التكبر بالعلم والعمل خاصة
الأعمال المذمومة
باب بم يعلم العبد أن نفسه قد تركت الكبر على الصدق ولا خدعة منها باب ما يجب من التواضع للمطيعين والعاصين لينفى به العجب والكبر باب في بيان الكبر على أهل البدع وغيرهم من أهل الكفر والشرك
٤٢٩
الصفحة
٢٦٧
٢٦٩
۷۱
٢٧٤
٢٧٦
۷۸
۸
٢٨٥
۸۸
۹
٢٩٤
۹۹
۳۱۳
٣١٥
۳۱۷
٣٢٤
۳۸
۳۳
۳۳۸
كتاب الغرة
الصفحة
٣٤٣
٣٤٨
٣٤٩
٣٥٦
٣٥٩
٣٦٢
٣٦٧
٣٦٩
۳۷
٣٧٥
٣٧٦
۳۷۸
۳۷۹
۳۸۱
۳۸
٤٣٠
باب الغرة بالله عز وجل
باب الغرة من عوام المسلمين وعصاتهم
باب التمييز بين الرجاء والغرة
باب الغرة من أهل النسك وأصنافهم واختلافهم وغرة أهل العلم
باب الغرة بالفقه
باب الغرة بعلم العمال الله من علم الصدق والإخلاص ونقى الرياء والأخلاص المذمومة
ووصف الخوف والرجاء والحب
باب الغرة بحفظ كلام المذكرين والقصص وأحاديث الزهد وغيره باب الغرة بالجدل وحسن البصر بالاحتجاج والرد على أهل الأديان
باب الغرة بالعبادة والعمل
باب الغرة بالورع
باب الغرة بالعزلة والفرار من الناس
باب الغرة بالغزو والحج وقيام الليل وصيام النهار باب الغرة ممن أم التقوى وأحسن التفقد لظاهره وداخله
باب الغرة بتقديم العزوم بإخلاص الأعمال والعزم على الرضى والتوكل ومجانبة دناءة
الأخلاق
باب الغرة بطول ستر الله تعالى وإمهاله للعبد
كتاب الحسد
باب فى ذكر الحسد ووصفه وتفسيره محرمه من مباحه
باب من الحسد وليس بالحسد بعينه
باب ما يكون من الحسد على الرياسة وحب المنزلة
باب ما يكون من الحسد عن الحقد والعداوة والبغضاء
۳۸۷
۳۹۳
٣٩٥
٣٩٦
٤٣١
الصفحة
۳۹۷
۳۹۸
٤٠٦
٤٠٧
29
٤١٣
٤٢١
باب ما يكون من الحسد عن حب ظاهر الدنيا
باب ما يكون من الحسد عن العجب
باب متى يعلم العبد أنه قد نفى الحسد
باب الرد على من قال إن الحسد بالجوارح وأنه لا يضر إذا كان في القلب ما لم يبده بفعل جارحه وبيان خلافه للعلم باب هل على الحسد مظلمة للمحسود عند الحاسد إذا أصابه ما تمناه له أو هو ذنب
بينه وبين الله عز وجل
باب الفتنة بعد هدايته
كتاب تأديب المريد وسيرته وتحذيره
باب ما يخاف العبد على نفسه بعد قيامه لله عز وجل بحسن الرعاية في ظاهره
وباطنه
هذا الكتاب يجى فى مقدمة مؤلفات أبي عبد الله الحارث المحاسبي يتناول فيه رعاية الخلق لحقوق الله الخالق يبدأ الكتاب بالتقوى - تلك الصلة التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه - ومنها يطرق أبوابا كثيرة متعلقة بالتقوى ومنزلة المتقين ثم يتناول بعد ذلك الرياء باعتباره دليلا على النفاق وعدم الإخلاص لحقوق الله
وبعد هذا يتحدث عن الإخوان ومعرفة النفس والكبر ووجوهه والغرة والحسد وتأديب المريد وسيرته وتحذيره
وهذه الموضوعات كلها تتعلق برعاية العبد لحقوق الله في السر
والعلن
دارا
I
دار المعارف
OTV/1
فالتقوى أول منزلة العابدين وبها يدركون أعلاها وبها تزكو أعمالهم لأن الله جل وعز لا يقبل عملا إلا ما أريد به وجهه فوالله ما رضى كثير من المتقين بها لله تعالى وحدها حتى أعطوه المجهود من القلوب والأبدان وبذلوا له المهج من الدماء والأموال ! ! فانظر رحمك الله
أين أنت منهم
ولقد خشيت أن تكون عامة أهل زماننا من العابدين مخدوعين مغترين فكم من متقشف في لباسه متذلل في نفسه آخذ من حطام الدنيا اليسير ومن مصل وصائم وغاز وحاج وباك وداع ومظهر للزهادة فى الدنيا والرفض لها على غير صدق من الضمير لرب العالمين عز وجل للعباد بما يظهر من الطاعات ويُرى أنه من المخلصين وجوارحه مع ذلك منتشرة من عين تنظر إلى ماكره الله ولسان يتكلم بما لا يحب الله جل وعز عند غضبه وعند أنسه بالناس
يتصنع
ومحادثته بالغيبة وغيرها
باب في تعريف المغتر نفسه وطول غرته
قلت فكيف لهذا المغتر بظاهر طاعته أن يعرف نفسه وطول غرته في أيام الدنيا
بقراءته
قال يرجع
هذا القارئ المتقشف إلى نفسه ثم يعرض أيامه التي خلت من عمره في تقشفه
وتزهده هل أتى عليه يوم منها طلعت عليه فيه الشمس ثم غابت عنه حفظ فيه جارحة من جوارحه مماكره الله عز وجل ونهى عنه وقام بها فيما أوجب الله عز وجل وافترضه عليه
فلو فعل ذلك فاعترضها جارحة جارحة هل يعرف يوماً إلى الليل حفظ فيه لسانه فلم يتكلم بكلمة تسخط الله جل وعز ولم يسكت عن كلمة أوجبها عليه ربه حتى أمسى لخشيت ألا يجد ذلك اليوم فيما مضى من أيام قراءته دون أيام جهالته
وكذلك بصره وسمعه وخطاه وجميع جوارحه ولو وجد من نفسه أنه حفظ الله عز وجل جوارحه أيام قراءته أو يوما خلا منها ثم رجع إلى قلبه فتذكر هل يعرف يوما من أيام قراءته مع حفظه الجوارحه هل تفقد فيه قلبه فعلم أ أنه قد كان حذرا من اطلاع الله عز وجل على ما يضمر فيه وكان عقله حارسا لهواه فى يومه ذلك فلم تخطر خطرة يكرهها الله عز وجل من الرياء والتصنع بعمله إلا عرفها وكرهها وسلم من خطرات هواه أو عدوه في يومه ذلك حتى عرف أنه قد أخلص يوما إلى الليل يتفقد جميع ذلك من غير غفلة ولا غرة لخشيت ألا يجد ذلك ولقد خشيت أن لو وجد ذلك ألا يكون سليم مما سوى ذلك مماكره الله عز وجل في ضميره من العجب والكبر والحسد والشماتة وسوء الظن وغيره لأن عامة قراء زماننا مغترون مخدوعون نعد أنفسنا المتقشفين المتنسكين ولعلنا عند الله من الفاجرين الفاسقين ! ! ! وكيف تأمن أن نكون كذلك ونحن لا يأتى علينا يوم إلا جددنا فيه ذنوبا لم تكن من قبل نضيفها إلى ما خلا من الذنوب بالأمس من ذنوب الجوارح وذنوب الضمير من الكبر والحسد والشماتة وسوء الظن والعجب والرياء وغير ذلك فكل يوم من أعمارنا نكتسب فيه ذنوبا جديدة بجوارحنا وقلوبنا نضمها إلى الذنوب التي كانت بالأمس جمعا جمعاً
٤٦
فلن تخلو من إحدى منزلتين أن نكون عند الله عز وجل من أهل العفو والتجاوز والصفح فكل يوم نزداد بتجديد الذنوب مع تجديد الأيام والليالي طول مقام بين يدى الله عز وجل وكثرة سؤال ودوام خطر وكثرة تعب غير موصوف أو أن نكون من أهل العداوة والغضب فكل يوم نزداد فيه بتجديد الذنوب زيادة فى العذاب بالتضعيف والذل والهوان فلا تخلو ذنوبنا من أن نزداد بها كثرة سؤال أو شدة عذاب لأن أول ذنب اكتسبناه عند البلوغ والإدراك استوجبنا به العذاب ثم كلُّ ذنب بعده ز زيادة فى العذاب بالتضعيف إلا أن يعفو الرحيم الجواد الكريم وإن يعف فأول ذنب أذنبناه عند البلوغ وجب علينا التوقيف عليه بين يدى الله
عز وجل والسؤال عنه ثم كل ذنب بعده نزداد به توقيفا عليه وكثرة سؤال عنه يا أخى فلتكن التقوى من بالك فإنها رأس مالك والنوافل بـ بعد ذلك ربحك وليس بتاجر عاقل ولا حصيف لبيب من يعدّ له ربحاً دون أن يكمل رأس ماله
٤٧
باب في أول ما يجب على العبد معرفته والفكر فيه
قلت فما أول ما تأمرنى أن أبتدئ به
قال أن تعلم أنك عبد مربوب لا نجاة لك إلا بتقوى سيدك جل وعز ومولاك ولا هلكة عليك بعدها فتذكر وتفكر لأى شىء خلقت ولمَ وضعت فى هذه الدار الفانية فـ فتعلم ا
تُخلق عبئًا ولم تترك سدى وإنما خلقت ووضعت في هذه الدار للبلوى والاختبار
أنك
لم
الله لتطيع
عز وجل أو تعصى فتنقل من هذه الدار إلى عذاب الأبد أو نعيم الأبد فإذا علمت أنك عبد مربوب ثم عقلتَ لِمَ خلقت ولماذا عرضت وإلى أي شيء لا محالة مصيرك إلى عذاب الأبد أو الثواب ونعيم ا الأبد كان ذلك أول ما يجب عليك أن تبدأ به لأن أول ما يلزمك في صلاح نفسك الذى لا صلاح لها في غيره وهو أول الرعاية أن تعلم أنها مربوبة متعبدة فإذا علمت ذلك علمت أنه لا نجاة للمربوب المتعبد إلا بطاعة ربه ومولاه وأن الدليل على طاعة ربه ومولاه عز وجل العلم ثم العمل بأمره ونهيه في مواضعه وعلله وأسبابه ولن يجد ذلك إلا في كتاب ربه وسنة نبيه الله ولأن الطاعة سبيل النجاة والعلم هو الدليل على السبيل فأصل الطاعة الورع وأصل الورع التقى وأصل التقوى محاسبة النفس وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء
والدليل على محاسبة النفس العلم بما تعبد
الله عز وجل به خلقه في قلوبهم وجوارحهم وكذلك أهل الدنيا لا يعالجون الأعمال ولا يتكلفون التجارات إلا ببصر قد تقدم منهم
وعلم بما يعملون وبما يبتاعون ويبيعون
ΕΛ
باب في محاسبة النفس في مستقبل الأعمال
قلت وما المحاسبة
قال النظر والتثبت بالتميز لماكره الله عز وجل مما أحب ثم هي على وجهين أحدهما في مستقبل الأعمال والآخر في مستدبرها فأما المحاسبة في مستقبل الأعمال فقد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء الأمة
فأما ما دل عليها من الكتاب فقوله عز وجل وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١ أي اتقوا الله عز وجل في أداء فرائضه واجتناب نهيه وكذا فسره المفسرون في غير موضع من كتاب الله عز وجل
وقوله يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وقوله جل وعز وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۳ وذلك تحذير منه لنا وتنبيه على ذكر الله عز وجل واطلاعه على ما في قلوبنا وقوله إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا 4
وقوله تعالى وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وجه الله ٥ وقال تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالعَشَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ٦ ووصف ضمير الصادقين فقال جل وعز
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ۳ قيل في التفسير لا نريد منكم مكافأة ولا ثناء وقال جل وعز فَأَعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ الا لله الدينُ الخالص
قيل في التفسير الذي لا يشوبه شيء
^
۳۹ ۳۰ 5
٦ ٦ ٥٢
4 VT V
۳۰۳۹ ۸
۱۳۰ ۳ ۱
٢٣٥
٥٠ ١٦ ۳
٤ ٤ ٩٤ وفى قراءة أخرى فتثبتوا
0
وقال تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وتثبيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قال الحسن كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كانت لله جل وعز وقال الحسن رحم الله عبدا وقف عند همه فليس يعمل عبد حتى يهم فإن كان له مضى وإن كان عليه تأخر
أمضاها
وقال في حديث سعد حين أوصاه سلمان الفارسى فقال اتق الله عند همك إذا هممت وعند حكمك إذا حكمت قال الحسن رحم ا الله القوم كانوا فقهاء علموا أنه لا يكون عمل حتى يكون بدؤه هما وكذلك المؤمن هو الوقاف وقال محمد بن على رضى الله عنه إن المؤمن وقاف متأن يقف عند همه الله جل وعز ليس
كحاطب ليل والآي في ذلك كثير فوصف الله جل وعز محاسبتهم لأنفسهم في أعمال جوارحهم وضمائر قلوبهم بالإخلاص له وأما السنة التي دلت على ذلك فإن النبي ع قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ما نوى رواه عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال ابن مسعود من هاجر يبتغى شيئًا فهو له
وقال النبي الله من غزا لا ينوى إلا عقالا فله ما نوى رواه عنه عبادة بن الصامت رجل أن يوصيه ويعظه فقال إذا أردت أمرًا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا
وسأله
فامضه وإن كان غيًّا فانته عنه رواه طاوس وقال لقمان إن المؤمن أبصر العاقبة فأمن الندامة
وقال بعض الحكماء إذا أردت أن يكون العقل غالبًا للهوى فلا تعجل بقضاء الشهوة حتى تنظر في العاقبة فإنه كان يقال إن مُكث الندامة فى القلب بارتكاب الشهوة أكثر مكنا من دوام الفرح فى القلب بانقضاء الشهوة
وروى شداد بن أوس عن النبي أنه قال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت وقوله دان نفسه یعنی حاسب نفسه وهى المحاسبة في لغة العرب
ودل على ذلك قول الله جل وعز يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين
۹۷۵ ۱
۱۱ ۸۳
۵۱
وقال الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهم طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تذكروا فإذا هم
مبصرون ۱
قال مجاهد الغضب تذكروا فإذا هم مبصرون
وقال عبد الله بن كثير أهل الشرك لا يبصرون كما يبصر الذين آمنوا ولا يرعوون ولا يحجزهم الإيمان
عنها
قال مجاهد وإخوانهم من الشياطين يمدونهم في الغي وروى عن عمر رضى الله عنه أنه كان يضرب قدمه - حدثنا بذلك كثير بن هشام عن
جعفر بن ميمون - بالدرة إذا جنه الليل ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم وروى عن ميمون بن مهران أنه قال لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبته شریکه وليس لهذا معنى إلا في مستدبر الأعمال لأن الشريكين لا يتحاسبان في بداءة اشتراكها حتى يعملا عملا يجب فيه النظر والمحاسبة وروى أبو داود الطيالسي عن عبد العزيز الماجشونى عن هشام بن عروة عن عائشة رضى الله ا أن أبا بكر رضى الله عنه قال لها عند الموت ما أحد من الناس أحب إلى من عمر قال ثم قال لها كيف قلتُ قالت قلت ما أحد من الناس أحب إلى من عمر فقال لا ما أحد من الناس أعز على من عمر فتدبر كلمةً قالها ثم أبدلها بكلمة غيرها وكذلك حديث أبي طلحة حين شغله الطير في صلاته فتدبر شغله فجعل حائطه صديقة الله عز وجل ندماً ورجاء العوض لما فاته وكذلك حديث عبد الله بن سلام حين حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في بيتك وغلمانك من يكفونك فقال أردت أن أجرب قلبي هل ينكره وقد روى المختار بن فلفل عن الحسن فى تفسير المحاسبة في مستقبل الأعمال ومستدبرها أنه قال إن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها الله عز وجل وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر عن غير محاسبة ثم فسّر المحاسبة فقال إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول والله إنك
۰۱۷ ۱
طائف الشيطان هو الغضب في رأى مجاهد
هدفا
بسم
بقلم الدكتور عبد الحليم محمود
الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
روى صاحب طبقات الصوفية بسنده عن الحارث بن أسد المحاسبي بسنده أن رسول الله قال أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق
ولقد وضع المحاسبي هدفًا له في الحياة يسعى إلى تحقيقه هو حسن الخلق لقد وضعه يعمل على تحقيقه في نفسه ووضعه هدفا يعمل على تحقيقه في مجتمعه أما فيما يتعلق بنفسه فإنه أخذها بتحقيق صفة العبودية على أساس من القرآن والسنة لا يحيد عنه وإنه ليعبر عن شعاره فى ذلك فيقول هذه الكلمة التى تصفه حالا ومقالا وإذا أنت لم تسمع نداء الله فكيف تجيب داعى الله ومن استغنى بشيء دون الله جهل قدر الله ولم يجهل المحاسبى قدر الله فلم يستغن بشيء دونه سبحانه وأما فيما يتعلق بالمجتمع فإن المحاسبي أخذ فى نشر حسن الخلق فيه بسمته واتباعه للسنة وبدروسه التي كانت تفعل الأعاجيب في القلوب وبكتبه التي تبين حسن الخلق وسائل وغايات والتي لا يزال لها إلى الآن أريج عطرى يتجدد على مر الزمن فيهدى الحيارى وينير الطريق أمام السالكين
ولكن من هو المحاسبي ومالنا نتعجل فتتحدث عن المحاسبي في القمة قبل أن نبدأ معه من
البداية
إنه الحارث بن أسد المحاسبي وكنيته أبو عبد الله ولقد نشأ بالبصرة واستمر بها سنوات لا يتأتى لنا تحديدها في يقين جازم ثم ذهب إلى
بغداد ويبدو أنه ذهب إليها في سن مبكرة واستقر به المقام فيها
۵
لتعجبنى وإنك لمن حاجتى ولكن هيهات هيهات حيل بينى وبينك فهذا في مستقبل العمل ثم قال ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا والله لا أعود لهذا إن شاء الله أبدًا فهذا في مستدبر الأعمال وكذلك أهل الدنيا في صناعاتهم وأعمالهم إذا أراد أحدهم أن يبتدئ العمل رؤاه في نفسه وقدره ومثله فى وهمه وصوّره فى العاقبة كيف يكون إذا فرغ منه فإذا تمثل في وهمه على ما يريد من الإحكام والتمام ابتدأ فيه حتى إذا فرغ منه اعترضه خشية أن يكون كان منه زلل أو نسيان فأخطأ فيه وفرّط فى إحكامه فإن رأى تفريطاً أتم ما بقى منه وأصلح فعمال الله عزّ وجلّ أولى بذلك أن يتثبتوا قبل أعمالهم ويمثلوها في أوهامهم كيف تكون بعد
ما فسد منه
فراغهم منها فلا فراغ لهم من جميعها إلا عند موتهم وكذلك روى عن الحسن أنه قال ما جعل الله عزّ وجلّ لعمل المؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقين ۱ يعنى الموت
6
وقيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا ! ! فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله عز وجل وكذلك المستأجرون من أهل الدنيا إنما فراغهم من أعمالهم إذا أنموها وإنما يحكمونها ويستعرضونها بعد فراغهم منها قبل أن يعرضوها على من استأجرهم لتكون على ما أراد وأحب وكذلك عمال الله جل وعز يتثبتون في أول أعمالهم ويعترضونها بعد فراغهم منها كيف تكون إذا عرضت على خالقهم هل هي كما يرضى بها عنهم وهل أنتموها كما أمرهم فشتان بينهما هذا مخلوق استأجر مخلوقاً بقليل فان مكدّر ممزوج بالغموم ولا يخلو - وإن ناله – من هم يعترض أو حزن يعترى أو مصيبة فاجعة أو سقم نازل أو موت فاجئ وفيه الحساب حتى يتتبع عليهم جميع ما عملوا واكتسبوا فيحاسبون عليه والذي عمل له الصادقون ملك عظيم وعدهم على أعمالهم الأجر الكبير الباقى الذي لا ينفد ولا يعترض فيه غم ولا يعترى فيه حزن ولا يحل بالعمال فيه سَقَم ولا يختم عيشهم بالموت ولا يتتبع عليهم
فيه بالحساب
فعجب ! كيف خف على العمال للدنيا التثبت قبل أعمالهم والنظر في أعمالهم بعد الفراغ منها للقليل اليسير المنغص المكدر بالأحزان والأسقام ! ثم يختم فراغهم بالموت ! ثم يتتبع الله عليهم
44 10 1
ذلك بالحساب من بعد الموت فى يوم الشدائد والأهوال ! ويسألون عن أعمالهم كيف كان اكتسابهم وإنفاقهم وإمساكهم وكيف كانت طاعتهم فيها لربهم جل وعلا وعجب ! كيف لا يخف على المؤمن التثبت قبل فعله والنظر فيه بعد فراغه منه للثواب العظيم والنعيم السليم والعيش المقيم ورضى الملك الكريم من غير أن يُنْقَصُوا من أرزاقهم ولا آجالهم ولا يفوتهم ما قدر لهم فعجب لذلك ثم عجب لولا متابعة الهوى ونسيان نظر الملك الأعلى وقلة التفكر في يوم الفصل والجزاء
فبالتحذير من ذلك اليوم ختم الله عز وجل كتابه فيما يروى عن البراء بن عازب أنه قال
آخر آية نزلت من كتاب الله عز وجل
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ١ وإن كانوا قد اختلفوا فى آخر آية نزلت آخر القرآن فإن هذه الآية عظة وعبرة
وقال الحسن الثابت فى مرضة مرضها أوصنى فقال أوصيك بيوم ترجعون فِيهِ إلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
قال فقال الحسن إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ آية من كتاب الله جل وعزّ كأنى ما سمعت بها إلا الساعة يسترجع على غفلته ونسيانه وفيما يحكى عن الله عزّ وجلّ أنه قال لموسى يا موسى صرّح الكتاب إليك بما أنت صائر إليه فكيف ترقد العيون على هذا أم كيف يجد قوم لذاذة العيش لولا التمادى في الغفلة والتتابع في القسوة من دون هذا يجزع الصديقون فقد صرّح الكتاب بما إليه المصير فقال واتقو يومًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللهِ
وقال تعالى فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فقد سترت الغفلة بيننا وبين أعمال الآخرة وصلبت القسوة قلوبنا على وعيد الله عزّ وجلّ وعمّى الرين ۳ بصائرنا عن ثواب الله جل وعزّ وعقابه وأمره وأحكامه وذلك أنا عطلنا قلوبنا من فكر الآخرة فغلبت عليها فكر الدنيا فشغلتها فنسينا أنفسنا لأننا نسينا النظر لها
۸۱ ۱
۱۵ ۹ و ۹۳
۳ الدنس يقال ان ذنبه على قلبه أى غلب قال الحسن الرين هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب
٥٤
وكذلك قال الله عزّ وجلّ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ
فسره المفسرون أنساهم النظر لها
فأول البلية تعطيل القلوب من فكر الآخرة وذكرها وعن ذلك يكون السهو ثم النسيان ثم الغفلة ثم التضييع لأمر الله عزّ وجل ثم مواريث السوء من الرين والقسوة اللذين يحجبان عن الآخرة فنعوذ بالله من مواريث السوء على أعمال السوء
وإنما قدمت إليك هذا الكلام قبل إجابتي إياك عن سؤالك عن رعاية الأعمال الله عزّ وجلّ واختلاف الناس فى طلبها على قدر ضعفهم وقوتهم لينفسح لفهم الإجابة صدرك وليرق ويخشع للقيام بالرعاية قلبك وليبعثك على الترغيب في طلبها
1 ٥٩ و ۱۹
٥٥
باب الرعاية
وإنى أرجع إليك بجواب مسألتك عن الرعاية الحقوق الله عز وجل والقيام بها واختلاف الناس في طلبها على قدر ضعفهم وقوتهم لتنظر فى أى حال أنت منها فتعمل على حسب ذلك إن شاء الله
باب منازل التوابين
اعلم أن الناس مختلفون في ذلك على ثلاث منازل لا رابع لها فمنهم من نشأ على الخير لا صبوة له إلا الزلة عند الشهوة كالزلة التي لم يعر من مثلها النبيون والصديقون ثم يرجع إلى قلب طاهر لم تعتوره الشهوات ولم يَغْتَدِ اللذات من الحرام ولم تعتقيه الذنوبُ ولم يعلُ قلبه الرينُ ١ ولم تغلب عليه القسوة
فرعاية حقوق الله عز وجل والقيام بها على هذا أسهل والمحنة عليه أخف ودواعى النفس له أقل وأضعف لأن قلبه طاهر والله عزّ وجلّ عليه مقبل وله محب ومتول والولى لا يخذل وليه والحبيب لا يُسلم إلى المملكة حبيبه
وقد جاء في الحديث يَعْجَبُ ربِّك للشاب ليست به صبوة أي يسر به ويعظم قدره عنده لأن العجب على وجهين أحدهما المحبة بتعظيم قدر الطاعة والسخط بتعظيم قدر الذنب في الجرأة والوجه الثاني الاستكثار للشيء وإنما يعجب استكثاراً للشيء الجاهل الذي لم يكن يعرف الشيء فلما رآه استكثره وتعجب منه وجل الله جل جلاله عن هذا الوصف وإن كان قد قرأ بعض القراء بل عجبت فليس هو على الاستكثار لما لا يُعلم ومعنى قوله يعجب
۱ الرين الدنس
٢ يشير إلى الآية الثانية عشرة من سورة الصافات وهى بل عجبت ويسخرون
ربك للشاب ليست له صبوة أى أن الله عز وجل محب له راض عنه عظيم قدره عنده وروى فى بعض الحديث عن شريح أن للشاب الناشئ على عبادة ربه ومحبته أجر سبعين
صديقا
العزم
وروى معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبي الله أن الله عز وجل يقول أيها الشاب الباذل شبابه لى التارك شهوته من أجلى أنت عندى كبعض ملائكتي فمن أطهر من هذا قلبا أو من أولى بالمعونة والتوفيق ممن لم يركب الذنوب عند بلوغه ونشأ على طاعة ربه وعبادته واعتاد القيام بحقه ورعاية حقوق الله عزّ وجلّ عليه خفيفة لطول عادته للقيام بها وتركه الركون إلى أضدادها قليل مكابدته ومجاهدتُه طويل بالله عزَّ وجلّ شغله واشتغاله وآخر تائب من بعد صبوته وراجع إلى الله سبحانه عن جهالته ونادم على ما سلف من ذنوبه في أيامه قد أعطاها ألا يعود إلى تضييع شيء من فرضه ولا معاودة شيء مما سلف من ذنوبه والنفس منه تنازعه إلى عادتها لترده برغبتها إلى لذتها وهو يَقْمَعها ويجاهدها ويخوفها عواقب ما كان منها وعدوه يذكرها ما فاتها ويدعوها إلى ما تركت من شهواتها وهو يذكرها قبيح ما كان منها ويعظم منة الله عزّ وجلّ عليها بنقلتها عما يَسْخَط به ربُّها عليها فما لبث إلا قليلا - إن صدق الله عز وجل فى مجاهدته وأمسك نفسه من الشهوات التي تنقص عزمه - حتى يمده الله عزّ وجلّ بمعونته فيسهل عليه سبيل الطاعة كما ضمن لمن أناب إليه فقال عزّ وجلّ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ۱ وقال عز وجل وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يوعظُون بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطًا مُسْتَقِيمًا
فوعدهم
الله تبارك وتعالى أن يحملهم على الطريق المستقيم ويريهم الحق نهارًا سرمدا لأنه كريم يتقرب ممن يتباعد منه فكيف بمن يتقرب إليه ويتحبَّب إلى من يتبغض إليه فكيف بمن
يتحبب إليه
وكذا روى أبو هريرة عن النبي أنه قال يقول الله عز وجل يا بن آدم إن تقربت إلى فتراً تقربت إليك شبرا وإن تقربت إلى شبرا تقربت إليك ذراعا وإن تقربت إلى ذراعاً تقربت إليك باعا وإن أتيتنى سعيا أتيتك هرولة
۱ وفى هذا المعنى قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وإنما هذا على حسن المعونة وسرعة الإجابة والهداية بالسداد والتوفيق والاكتناف
بالعصمة فلم يلبث هذا التائب إلا يسيرًا حتى يُقبل الله عزّ وجلّ عليه بمعونة فيغلب له هوى نفسه
منه
ويقوى منه ضعفه ويميت منه دواعى شهواته فيقهرُ العقلُ منه الهوى ويغلب العلم الجهل ويسكن قلبه الخوف والهم ويواصل فيه الأحزان بعد طول لهوه واتصال أفراحه بالدنيا كلما ذكر ما كان منه من ذنوبه هاج خوفه وغلب همه وطال حزنه فإذا غفل عن الذكر وسهى عن الفكر نازعته نفسه فمال إلى بعض الزلل الذى لم يعر من مثله الصالحون عند غفلاتهم وسهوهم ثم يرجع إلى الله عز وجل بقلب طاهر من الرين والدنس قد فطمه عن عادته وأعقبه بالخوف من الأمن والإصرار وبالرجاء الصادق من الغرّة والتسويف فهو من
سالف ذنوبه هارب لرحمة ربه عزّ وجل بهر به طالب حتى يلقاه آمنا من عذابه وقد جاء في الحديث عن النبي الا إن العبد ليذنب الذنب فيدخله ذنبه الجنة قيل يا رسول الله وكيف يُدخله ذنبه الجنَّة قال لايزال نصب عينيه تائباً منه هارباً منه حتى يدخله
الجنة
K
وقيل لسعيد بن جبير من أعبد الناس قال رجل أصاب من الذنوب فإذا ذكرها اجتهد وروى عن النبي أنه قال خياركم كل مفتن تواب يخبرك أن خيار أمته لم يعروا من الزلل وأن علمهم بالله عز وجل لن يدعهم حتى يرجعوا إليه بالتوبة والإنابة والثالث مصر على ذنبه مقيم على سيئاته يغلبه الهوى وضعف الخوف مقر مع ذلك بأن لله عزّ وجلّ معادًا يبعثه فيه وهو لا يتغشاه به ومقاما يوقفه فيه ويسأله عما كان منه وثواباً وعقابا يصرفه من بعد السؤال إلى أحدهما ثم يحل فيه مخلدًا إلا ما شاء الله الملك الكريم من بعد التخليد في العذاب الأليم
فهذا إقرار بالإيمان في قلبه قد زايل به الجَحْد وصدق به الرب عز وجل والقلب بالشهوات مشغول عن الفكر والرين له مانع عن الذكر إلا الخطوة تهيج من الإيمان بذكر المعاد ثم لا تجد موضعاً تستقر فيه لما غلب على قلبه من القسوة وتتابع فيه من الغفلة فقلبه هائج باشتغال الدنيا لا يلزمه ذكر التخويف ولا يتفرغ للفكر ولا يجد حلاوة الذكر وكيف يكون للذكر فيه مستقر والأشغالُ تنازعه والغفلات تغلب عليه فهذا محتاج إلى ما يحل به عقود الإصرار من قلبه فيتوب إلى ربه من ذنبه فيلحق بصاحبيه اللذين من قبله الناشئ على غير صبوة والمنيب بالتوبة إلى خالقه تعالى
۵۸
يدخل
باب ما يبعث العبد على التوبة وترك الإصرار
قلت فما الذى يبعثه على التوبة وترك الإصرار قال الذى يحل به إصرار قلبه ويتحول به عن خطاياه وذنوبه الخوف والرجاء لربه لأن الله عزّ وجل نهاه عما يهوى قلبه وتشتهيه نفسه فجعله الله عز وجل للطبع موافقاً خفيفاً وفى المباشرة لذيذاً وكذا روى عن المصطفى علي أنه قال حفت النار بالشهوات فأخبر أن العمل الذي به عامله النار شهى في النفوس وقال ابن مسعود رحمه الله فى هذا الحديث ومن اطلع الحجاب واقع ما وراءه أى من عمل بالشهوات المحرمات واقع النار ومن لم يطلع الحجاب كان بينه وبين النار حاجز وساتر فلم يدخله ومن لم يطلع حجاب النار فمأواه الجنة برحمة الله عز وجل وكذلك يقول الله عز وجل وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هي المأوى ١ ومن ذلك قول النبي إن الله تبارك وتعالى خلق النار فقال لجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها وخلق الجنة فقال الجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لا بها أحد يسمع إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد
فمن ترك ما يهوى قلبه وتشتهيه نفسه مماكره ربه جل وعزّ فقد احتجب عن النار واستوجب
الحلول في جوار الله
والأعمال التى أمر الله عزّ وجل بها وندب إليها أكثرها مُمل للقلب متعب للجوارح من اللذات وذلك كريه في الطبع ثقيل على النفس
أو مشغل عن
أضداده
٤٠, ٤١ ۷۹ ۱
۵۹
وكذلك يقول الله جل وعزّ
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكم ۱ وقال عز وجل فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا وقال الصادق المصدوق حفت الجنَّةُ بالمكاره
فأخبر أن الحجاب الذى حقت به الجنة هو الفعل الذى هو كريه في النفس ثم أخبر أنه من حمل نفسه على ذلك المكروه حتى يؤدى حقوق الله عزّ وجلّ عليه دخل الجنة برحمة الله جلّ
وعزّ
وقال عبد الله بن مسعود ومن اطلع الحجاب واقع ما وراءه أي من يحمل المكاره في طاعة الله عزّ وجلّ واقع الجنَّة أي دخلها والله العليم الكريم أعلم بخلقه وبما يصلحهم فعلم من هذا العبد من قبل أن يخلقه أنه إذا طبعه على حب ما وافقه وبغض ما خالفه ثم علم ما يوافقه مما يخالفه فهاجت لذلك شهواته ونازعته إلى ذلك نفسه ولا سيما من خاض فى استعمال الشهوات عمره لن يدع ما تشتهى نفسه إلا أن يخلق له عذابًا أليما ثم يتهدده به ولن يتحمل ما يكره إلا أن يخلق له نعيما مقيما ثم يرجيه ذلك النعيم ويعده إياه فخلقها جميعًا لعلمه بخلقه وما أراد من كرامة أوليائه وهوان أعدائه وعلم أن هذا العبد الضعيف الجاهل إذا غيب عنه الثواب والعقاب وصارا مذكورين في الخبر لا بالعيان لم يسمح قلبه بترك الشهوات وتحمل المكاره إلا بتخوّف لما خوف ورجاء لما فخوف عباده وتهددهم ورجاهم ووعدهم ليخوفوا أنفسهم ويرجوها فيخافوه ويرجوه وكذلك وصف الله الذين فهموا ذلك عنه وخافوه فقال عزّ وجل وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۳ فأخبر عزّ وجلّ أنه لما خاف ربه نهى نفسه عن الهوى
رجی
وقال ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويخافونَ سُوءَ الْحِسَابِ ٤ وقال جل وعلا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ٥
فأخبر أن ما غاب عنهم من العقاب هم له خائفون ولما رجاهم من الغيب هم له راجون
۱ ۱۳ ٤
24 Y1 0
٢١٦ ۱ 14 Y
٣ ٧٩ ٤٠
٦٠
وأنهم لما خافوا ورجوا هربوا وطلبوا وإنما جعل الجزاء من العقاب والثواب والرهبة والرغبة من الله تعالى ليذلوا للمجازي عزّ وجل فيعبدوه بالخضوع له والذلة ليورثهم في الآخرة النعيم والعز فأخبر أنهم لما رغبوا ورهبوا خضعوا له وذلوا وكذلك أهل الدنيا من خاف منهم ذل لمن يخافه حتى يعفو عنه ومن طمع منهم ذل لمن يرجوه حتى ينال منه ما يأمل وسارع في محبته وكذلك وصف الله عز وجل أولياءه فقال
يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ١ قال الحسن هو الخوف الدائم وقال مجاهد الذل فى القلب يعنى ذل الخوف إلا أنهم لما
رجوا ما غاب عنهم من الثواب تحملوا المكروه فوصفهم جلّ وعز في كتابه فقال إن الَّذِينَ آمَنُوا والذين هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أولئكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وقال عز وجل
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ۳ وقال عز وجل مَنْ كَانَ يَرْجُو لقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآت ٤ قيل في التفسير ثواب الله
فلما خافوا هربوا وجانبوا ما نهاهم عنه كما وصفهم فقال ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ
وَعِيدِ ٥
وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٦ وقال تعالى ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ٧
14 14 5 V4
۱ ۱۳ ۷
۹۰ ۱ ۱
۱۸
۱۱۰ ۱۸ ۳
٤ ٢٩ ٥
تو
باب ماینال به خوف وعيد الله عز وجل
قلت فيم ينال الخوف والرجاء
قال تعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد
قلت فيم ينال عظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد
قال بالتخويف لشدّة العذاب والترجى لعظيم الثواب
قلت وبم ينال التخويف قال بالذكر والفكر فى العاقبة لأن الله عزّ وجل قد علم أن هذا العبد إذا غيب عنه ما قد خوفه ورجاه لن يخاف ولم يرج إلا بالذكر والفكر لأن الغيب
لا يُرى بالعين وإنما يرى بالقلب فى حقائق اليقين فإذا احتجب العبد بالغفلة عن الآخرة واحتجب عنها بأشغال الدنيا لم يخف ولم يرج إلا رجاء الإقرار وخوفه وأما خوف ينغص عليه تعجيل لذته مماكره إله عز وجلّ ورجاء يتحمل به ماكرهته نفسه فيما أحبه ربه فلا ما دام مؤثراً الهوى نفسه وإنما يجتلب ذلك الخوف والرجاء - يمنة الله عز وجل - بالذكر والفكر والتنبيه والتذكر لشدة غضب الله وأليم عذابه وليوم المعاد
وقد أخبر الله أن أولياءه اجتلبوها بذلك وقال لآيات لقوم يتفكرون وقال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أخريته وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارِ ۱
إلى قوله جل وعزّ وَلا تُحْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وقرأ النبي عل هذه الآية في جوف الليل فقال ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سيلته فلم
يتفكر فيها وصلى وبكى عامة ليله فقيل له فى ذلك فقال أنزلت على هذه الآيات فأخبر الله تعالى أنهم لما تفكروا وتذكروا عظم عليهم خزى دخول النار فخافوا النار ثم ناجوه
۱ ۳ ۱۹۱ - ١٩٤ والتكملة ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
منى ولد
إننا لا نعلم بالضبط تاريخ ميلاده إذ أن الكتب القديمة التى تحدثت عنه لم تذكر ذلك بيد أن الملابسات ترشد إلى أنه ولد - على التقريب - في العقد السابع من القرن الثاني الهجرى أما وفاته فإن الكتب التى أرخت له تحدد سنة ٢٤٣ هـ ثلاث وأربعين ومائتين للهجرة وحياته الشخصية لا نكاد نعلم عنها شيئًا وقد يمكننا أن نقول استنتاجا إنه قضى طفولته فى شىء من اليسر والرخاء ذلك أن والده حينما توفى ترك ثروة تقدر بسبعين ألف درهم و بروى المؤرخون أن المحاسبى حينما توفى والده لم يأخذ من هذه الثروة شيئًا تورعا ذلك أن والده كان يقول بالقدر أي أنه كان قدرياً يدين بمذهب المعتزلة فلم يستسغ المحاسبي أن يشترك في الميراث توسعاً في تطبيق القاعدة الإسلامية التي تحرم التوارث بين أهل دينين مختلفين وما من شك في أن المحاسبى امتنع عن ذلك لمجرد الورع والزهد فيما تجره الثروة وتستتبعه من تفكير فيها وتدبير لها وتنمية وحفظ
هذه الحادثة ترشد إلى أمور
الأمر الأول هو أن أسرة المحاسبي كانت أسرة ميسورة الأمر الثاني هو أن والد المحاسبي كان من الذين اشتركوا في الثقافة الدينية والجدل
الكلامي وساهم في ذلك بنصيب وحدد المعسكر الذي يقف جنديا في جيشه وما من ريب في أن العامة حينئذ لم يكونوا في صف المعتزلة وما كان الذي يدين بما يدين به المعتزلة يفعل ذلك إلا بعد دراسة واختبار وأن الطريق التقليدى الذي كان يتبعه الجمهور إنما هو طريق أهل السنة
الأمة الأعظم من والأمر الثالث الذي ترشد إليه الحادثة هو ورع المحاسبى الذى حمله على أن يزهد في الميراث حاجته إليه تورعاً وتقوى
ونبأ آخر نتبين منه شيئًا عن شخصية المحاسبي يقول الجنيد كنت كثيرا أقول للحارث
عزلتي أنسى
فيقول كم تقول عزلتي أنسى ! لو أن نصف الخلق تقربوا منى ما وجدت بهم أ ولو أن نصف الخلق الآخر نأى عنى ما استوحشت لبعدهم هذه القصة ترشدنا إلى قوة شخصية الإمام المحاسبي والواقع أن الظروف والأحوال الثقافية ومواقف المحاسبى منها وحديث تلاميذه عنه - وإن كان نادرا - كل
التي
أحاطت بالمحاسبي
بأن يفكهم من النار ومن خزى يوم الحساب لأنهم لما رجوا النجاة بمنته أقبلوا إليه بالتضرع أن
ينجيهم من خزى ذلك اليوم
من
فالذي ينال به الخوف معرفة عظيم قدر العذاب والذى يعظم به معرفة عظيم قدر العذاب التخويف والتخويف ينال بالفكر في المعاد والفكر ينال بالذكر والذكر بالتيقظ الغفلة لأن الله جل وعزّ إنما خوفنا بالعقاب لنخوّف أنفسنا ورجّانا لنرجيها والتخويف تكلف من العبد بمنة الله عزّ وجل وبفضله عليه والخوف هائج منه لا يملكه يكون عن التخويف هيجه الله من القلب المحتوف لنفسه كما أمره الله وقد يُخطر الله جل وعزّ الخوف بقلب العبد المؤمن من غير تكلف إذا أراد أن يتفضل عليه بذلك وإن لم يخطره بباله لم يكن العبد عنده معذورا للتخويف كما أمره أن يخوف نفسه لأنه أمره بالفكرة في المعاد وذلك هو
التكلُّف بتركه التخويف والترجى وتهدده وأوعده ليتفكر في ذلك فيخافه ويرجوه
٦٣
باب ما يحل به المصر إصراره
ووصف ثقل الفكرة على القلب
فإذا أراد هذا العبد المصر أن يصل إلى ما يحل به إصرار قلبه ويبعثه على التوبة من ذنوبه فليعن بطلب الخوف بالتخويف بالفكر فى المعاد وهجوم الموت وعظيم حق الله عزّ وجلّ وواجب طاعته ودوام تضييعه لأمره وركوبه النهيه
قلت الفكرة أجدها على قلبي ثقيلة فمن أين ثقلت على العباد
قال ثقلت الفكرة على العباد لثلاث خلال فقد تجتمع على بعضهم فتثقل عليه الفكرة الخلة وقد يثقلها على بعضهم من هذه الخلال الثلاث أو الخلتان فإحداها قطع راحة القلب عن النظر في الدنيا بالذكر في الآخرة لأنه إذا تفكر سجن
عقله عن الدنيا فقطعه عن راحته بالفكر فى الدنيا والنظر في أمورها والخلة الثانية أن الفكر فى المعاد وشدائده تلذيع للنفس وغمّ لها حين تذكر المعاد والحساب وما لها وما عليها لأن الموحد المقر إذا تفكر فى ذلك هاج منه الغم والحزن لإيمانه بذلك فيثقل
الفكر على النفس من أجل ذلك لأنه يثقل عليها ما أهاج عليها الغموم والأحزان والحلة الثالثة أن النفس والعدو قد علما أن المريد إذا أراد الفكر في معاده أنه إنما يطلب بالفكر خوفًا يقطعه عن كل لذة لا تقرب إلى ربه ويحمله على كل مكروه يتحمله فيا أوجب عليه فالنفس يثقل عليها الفكر إذا علمت أنه إنما يطالب بما يقطع به عنها لذتها أيام حياتها ويحملها على ما تكره ويثقل عليها وقد علم العدو أنه إنما يطالب ما يبطل عنه مكائده ويدحض حجته ويخالف محبته فلهذه الخلال الثلاث ثقلت على المريدين الفكرة
ربه
باب ما تخفف به الفكرة على القلب
قلت فما الذى يخففّها قال العناية قلت فما تورث العناية قال عظيم المعرفة بعظيم قدر ما ينال بالفكرة من المنافع فى الدنيا والآخرة وبعظيم قدر ضرر الغفلة عن الفكر في المعاد قلت فإن اعترضته هذه الثلاث الخلال عند ذكره عظيم قدر ما ينال بالفكرة من المنافع فيم يدفعهن عند ذلك إذا ثقلت - باعتراضهن - الفكرة عليه قال يرجع العبد إلى نفسه في هذه الثلاث الخلال إذا اعترضت عند إرادته الفكرة أو عرض بعضها دون بعض لأن كل خلة منها فيها عبرة يذكر شكلها من شدائد الآخرة بل أعظم وأطم فيرجع إلى نفسه بالعتاب لها وبالتوبيخ فى ذلك فيقول لها أتجزعين أن أسجن عقلك عن النظر في الدنيا فكيف بسجنك في النار أبدا فتحملى هذا الثقل القليل للنجاة من السجن الطويل أتجزعين من سجن عقلك فيك عن النظر في الدنيا لنجاتك وفوزك فى المعاد ولا تجزعين إن تركت الفكرة التي تحجزك عن المعاصى التى تورثك السجن وتكبّك فى النار أبدًا فمن السجن في النار فاجزعي ! فتحملي هذا القليل الفاني للنجاة الدائمة وأما جزعك من تلذيع ذكر العقاب فكيف جزعك من مواقعته فالفكرة فيه أيسر من مباشرته فتحملى تلذيع ذكره للنجاة من الخلود فيه وأما فرارك من النظر فيما ينجيك من عذاب الله عز وجل كراهية أن ينغص عليك لذاتك في دنياك فكيف بالتنغيص عليك لذات الآخرة وحرمان ما فيها من نعيمها مع أن الله جل وعزّ ليس بتاركك إن صدقته ما تنالين من نعيم الآخرة حتى ينعمك بطاعته في الدنيا ففي نعيم الطاعة في الدنيا والظفر بنعيم الآخرة عوض من تنغيص لذات الدنيا وليس ا لو تعقلين بل شغل قلب لذات الدنيا بنعيم لا ينقضى وهم لا ينفد وحرص لا راحة معه مع ظلمة القلب إذا سُلبت بمعصية الله عز وجل نور الطاعة والتنعيم بها فالذل والهم فى لذاتك بالدنيا والعز والغناء والنعيم في الاستبدال بها النعيم بطاعة ربكِ جلّ وعزّ لأن ترك اللذة الله عزّ وجلّ ألذ عند المريد وأبقى في القلب لذةٌ من اللذة بمواقعة ماكره الله عز وجل لأن العبد يُصيب اللذة ساعة أو أقل من ساعة ثم يعقبه الندم الطويل وإذا تركها لله عز وجل ثم ذكر أنه تركها لطلب رضاه فكلما ذكرها فأمل ورجى أن يكون قد رضى عنه بتركها له وجد سرور ذلك ولذته فيبقى ذلك السرور في قلبه حتى يموت
مع
0
قلت قد تخف على الفكرة ولا أعرف طريقها فما الذى يفتحها قال اجتماع الهم مع
المطالبة بالعقل والتوكل على الرب لا على العقل وقد وصف الله عز وجل المستمعين لما يحب باجتماع الهم فقال عز من قائل إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۱ قال المفسرون حاضر ليس بغائب فحضور العقل باجتماع الهم لأن العقل إنما يشتغل عن الفهم والفكر في المعاد بتفريق الهم في
الدنيا فإذا اجتمع الهم حضر العقل ولم يعزب عن الفكر فيما أحب الله عزّ وجلّ وكذلك روى عن أبي العالية قيل له ما يفتح على الفكر قال اجتماع الهم لأن العبد إذا
اجتمع
همه تفكر وإذا تفكر نظر وإذا نظر أبصر
الرعاية لحقوق الله
TV 0⋅ 1
٦٧
والثانية أن يمنع قلبه أن ينظر ويتفكر في شيء من أمور الدنيا سوى ما يريد أن يتفكر فيه وكذا روى أبو هريرة عن النبي أنه قال من كل قلب ابن آدم في كل وادٍ شعبة فمن قلبه تلك الشعب لم يبال الله فى أى أوديته هلك ووقع وقوله عز وجل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
فهو ألا يتفكر فى غير ما يستمع وروى ذلك عن مجاهد وغيره
سمعه وبصره
فإذا قطع العبد شغل جوارحه من الظاهر وقطع فضول الفكر من الباطن ومنع قلبه من الفكر إلا فيما يريد أن يتفكر فيه اجتمع همه وحضر عقله وكذلك رأينا أهل الدنيا إذا أراد أحد منهم أن يُحكم شيئًا من أمر دنياه من تقدير عمل يعمله أو حساب يريد أن يُحكمه منع يشتغل بشيء غير ذلك ومنع قلبه أن ينظر في غير ذلك كراهية ألا يُحكم حسابه إن شغل قلبه بالفكر فى غير ذلك أو نظرت العين أو استمعت الأذن إلى شيء غير ذلك مال إليه العقل فاختلط عليه حسابه فإذا قطع العبد شغل جوارحه عن الدنيا في وقت فكرته ومنع قلبه من النظر في شيء من الدنيا اجتمع همه فإذا اجتمع همه ثم تفكر بالتوكل على الرحمن جلّ وعزّ لا على عقله فتحت له الفكرة بمنة الله عز وجل لأن العبد قد يغفل عند ذلك إذا اجتمع همه واتكل على عقله لما يعرف من فطنته وقد يوسوس له العدو أن الفكرة إنما كانت تستغلق عنك باشتغالك فأما إذا أحضرت همك فإنها تستفتح لك الفكرة فيتكل على عقله وينسى ربه تعالى فأخاف ألا يفتح له ما يريد من خير
ومن ذلك حديث سليمان النبي الله فى الولد أنه قال لأطوفن الليلة بمائة امرأة فتحمل كل امرأة بغلام ثم لَيُقَاتِلُن فرسانا فى سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فقال النبي فما حملت منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق غلام قال النبي لو قال إن شاء الله لكان كما قال
فإذا تفكر في المعاد بتخويف نفسه عظم قدر العذاب عنده فإذا عظم قدر العذاب عنده هاج في قلبه الخوف حتى لا يملكه فما مثل التخويف فى جنب الخوف إلا كمثل الوقود في جنب الغليان كالموقد يوقد تحت القدر المملوءة فكلما أدام الوقود اشتدّ الغليان فكذلك العبد كلما أدام الفكر بالتخويف في ذكر العقاب وكثرة الأهوال وعظيم السؤال مع المعرفة بعظيم حق الله جل وعز وواجب طاعته وأنه لعامة ذلك مضيّع هاج الخوف فإذا هاج الخوف قذف القلب بالإصرار على الذنوب وسخا عنها نفسا فندم وتاب وخشع وأناب وكذلك الوقود كلما اشتد دوام الوقود
A
اشتد الغليان فإذا اشتد الغليان قذفت القدر ببعض ما فيها فمن أدمن الفكر بالتخويف لنفسه فيما تهدده ربه وتوعده به هاج خوفه فأطفأ نار ۱ شهواته التي أصر عليها فسخا بترك الإصرار نفسا وأقلع عن الذنوب وخاف عاقبتها ولاسيما إذا أدمن الفكرة وهو يتلو كتاب الله عز وجل فيتفكر في وعده ووعيده وأهوال القيامة وشدائدها وتلك أنجع الفكرة إذا كانت بتلاوة كتاب
الله عز وجل
1 في رواية حلاوة
9
باب وصف منازل المصرين
وبم يقوى العزم على التوبة وترك الإصرار
قلت فهل يستوى المصرون في ذلك
قال لا المصرون فى منازل شتى فمنهم من كثرت ذنوبه وعظمت جليته وطالت غفلته واحتجابه بها عن الآخرة فإذا أعمل قلبه فى الفكرة بالتخويف لما خوفه ربه عز وجل لم يهيج منه الخوف سريعا لطول غفلته وغلظ القسوة فيه
ومنهم من قلت ذنوبه ولم تطل به الغفلة ولا احتجابه بها عن الآخرة ومنهم تائب من بعض ذنوبه وهو مصر على آخر من ذنوبه وهم في مطالبة الخوف
متفاوتون
منه
قلت ففصل لى بين مطالبة من عظم بلاؤه واشتدَّ مرض قلبه وبين غيره من المذنبين قال إن للعدو خدعًا من الدعاء عند مطالبة الخوف لمن عظم ذنبه وطالت غفلته وغلظت القسوة فيه فإذا أعمل قلبه بالفكر بالتخويف لما خوّفه ربه جل وعزّ لم يهيج الخوف سريعا لطول غفلته وغلظ القسوة في قلبه لأنه قد أعضل داؤه فلا ينجع الدواء فيه وكذلك أهل الدنيا في أمراض أبدانهم إذا طال السقم بأحدهم وأعضل داؤه لم ينجع الدواء فيه إلا بطيئا وكذلك من طال مرض قلبه وأعضل داؤه لم ينجع التخويف فيه سريعا فللعدو وللنفس تثبيط منهما بالدعاء عند طلب الخوف فإذا لم ينجع التخويف فيه سريعا دعته نفسه وعدوه إلى الملال والسآمة والانصراف عن الفكر وأنه ليس بمقامك ولا يُهيج الخوف من مثلك إنما تُعنى نفسك فيترك الفكر والطلب ويعتقد المنى والتسويف إلا أن يكون لبيبا فطنا فإن كان لبيبا فطنا رجع إليهما بالزجر لهما عن دعائهما وإن عظيم ما يطالب من النجاة وعظيم ما قد حلّ به من البلاء المسلم له إلى عذاب الله عزّ وجلّ إلا أن يعفو الكريم يزيلان السامة والملال في طلب الخوف ويبعثان على الدوام بالفكر بالتخويف وإنما هذا مقام مثلى لأنه إنما خوف العاصين من عباده ليخافوه وتهدد بالتخويف من عظم ذنبه وطالت غفلته ليتيقظ من رقدته ويفيق من سكرته ولكن دائي قد أعضل وسقم قلبي قد طال فالدوام
بالفكر بالتخويف أولى بي إذا أعضل دالى وطالت غفلتي فإن أدمن على ذلك هاج الخوف بإذن
ربي
ولذلك أمثال من الدنيا كالداء إذا أعضل لم يبرأ صاحبه إلا بدوام التداوى وكالثوب إذا كثر وسخه لم ينق إلا بإدامة غسله فإذا أدمن المصر الفكر بالتخويف سخت نفسه بالتوبة وكذلك التائب من بعض ذنوبه المقيم على بعضها قد يكون بعض ما هو مقيم عليه قد غلب على وطالت به غفلته ودامت له عادته ومطالبة الخوف فى عاقبة ذنبه ذلك عسيرة
قلبه
L
وهو دون المصر على أكثر ذنوبه إلا أنه محتاج أيضًا إلى الدوام على الفكر ودفع خدع النفس
والعدو بمثل ذلك حتى تسخو نفسه بالتوبة ويندم على جملة ما عمل من الذنوب وينوى ألا يعود وقد أنجع حينئذ فيهما الخوف
قلت فالندم على جملتها يجزيه دون معرفتها بأعيانها قال لا لأن كثيرًا من الذنوب يسترها الهوى ويحول بين العبد وبينها النسيان وللعدو والنفس خدع عند ذلك إذا علما أنه قد غلبهما وصار إلى الندم واعتقاد التوبة من ذنوبه أرياه أنه لا ذنوب له إلا الذنوب التي يذكرها في هذا المقام وقد تكون له ذنوب أخر كثيرة كانت في أحواله فيما مضى من عمره من كلام لا يظنه ذنباً أو عمل لا يعده خطأ أو مظلمة لا يرى أنها مظلمة لغلبة الهوى وقد يخيل إليه أنه قد تاب من جميع ذنوبه وهو مصر على أكثرها أو بعضها وهو لا يعلم لأنه فى وقت الخوف أطوعَ ما كان لربه جل وعز وليس له جارحة تتحرك بما يكره مولاه وهذا لا يكاد يعرف جميع ذنوبه تلك الساعة فإن كان عاقلا متيقظاً علم أن له ذنوبا كانت في أحواله فيما مضى من عمره كثيرة ومثله فيما كان فيه من الغفلة يُعمى عليه أكثر ذنوبه من كلام يتكلم به لا يظنه محرمًا عليه أو عقدِ ضمير بالسوء لم يكن يراه فيه مخطئاً
بل قد
بسمع
به فيتعجب ممن يأتيه وهو يفعله ولا يعرفه
قلت فيم يعرفها
قال يعرفها بتذكر ساعاته فيما مضى من أيامه فإنه لا يعرفها إلا بذلك ويتذكر أحواله في ساعاته فيما مضى من عمره كيف كان فيها من حق ضيعه أو ذنب قد ركبه فيعرض أيامه الخالية فى عمره وأحواله فى أيامه وحركاته وسكونه وضميره فى أحواله فيذكر غضبه ورضاه كيف كان فيه ومحبته وبغضه واكتسابه وإنفاقه وإمساكه وردّ ما كان عليه وأخذه ما كان له عند غيره كيف كان أخذه بالحق أم بغيره ومنطقه ولحظه واستماعه وخطاه برجله وبطشه
۷۱
ألا
بيده ومظالم العباد عنده فى أموالهم وأعراضهم وحقوق من يجب له عليها أقربائه وغيرهم فيتذكر تذكر من يريد الطهارة قبل لقاء الله عزّ وجل ويتذكر مظالم العباد عنده تذكر من أوقف نفسه للقصاص قبل القصاص بين يدى الله عز وجل فإذا تذكر كيف كان منذ أصبح إلى أن أمسى في جميع هذه الأحوال وكيف كان إذا أمسى إلى أن أصبح فـعـرض كــل جـارحــة على حيالها فى عمل ليله ونهاره وكيف كان قلبه فى أعماله الصالحة ما كان يريد بها وعلى ما كان يدور وما الذى كان يبعثه على الأعمال وكيف كانت عقود ضميره من الحسد على الدين وغيره وجميع أعمال قلبه ذكر حقوقاً كثيرة الله عزّ وجلّ ضيعها كلما ذكر حقا قد ضيعه هاج الندم من قلبه لما مضى من تفريطه في حقوق ربه وأعطى العزم أن يقوم به الله عزّ وجلّ فيما يستقبل من عمره وكلما مر بذنب قد اكتسبه هاج حزنه وندمه وخاف أن يكون قد نظر إليه الله جل وعز بمقت وغضب فآلى على نفسه ألا يقبله بعدها ولا يرحمه أبدا فأعطى العزم يعود إلى ذنب أبدا واتصل الرجاء بالخوف وامتنع منه الإياس ورجع إلى نفسه بذكر الرجاء أنه لو كان أوجب ألا يرحمني أبدًا لما أهاج قلبي بالرجاء ولا تسخى قلبي بالتوبة فالرجاء والخوف هائجان في قلبي وهو يستشف حقوق ربه حقا حقا وهو يتذكر ذنوبه ذنبًا ذنباً فإذا كثر ذكر التضييع لحقوق الله عزّ وجل فى قلبه وكثر ذكر عدد الذنوب التي كانت منه فلم يذكر يوما من أيامه طلعت فيه الشمس ثم غابت حفظ الله تعالى فيه جارحةً من جوارحه لا يعرف أنه حفظ لسانه في يوم من أيامه إلى أن أمسى فلم يتكلم بكلمة يتخوف سخط الله عزّ وجل فيها ولا سلم سمعه وبصره وخطاه ولا تفقد فيه قلبه يوماً إلى الليل في طاعة ربه فلم تخطر خطرة رياء ولا عجب ولاكبر ولا حسد إلاكرهها وسلم منها فأخلص طاعة ربه يوما من أيامه فيما خلا من عمره فإذا نظر إلى كثرة تضييع حقوق الله جل وعز ودوام ترك الرعاية لها وعظيم الذنوب وكثرة المظالم للناس عنده فى أعراضهم وأموالهم وترك الإخلاص في القليل الذي كان يعمله خاف أن يكون الخير مُحبطاً وتضييع حقوق الله تعالى وعظيم الذنوب قد سقط بهما من عين الله جل وعزّ وكاد يخامر الإياس عقله لأنه كان يظن أنه مطيعا الله عزّ وجلّ فكلما فتش نفسه وتذكر أحواله علم أنه قد كان حَرَبَ بدينه وهو لا يعلم فمثله كمثل رجل كان له مال عظيم في صندوق مقفل فسرق ما في الصندوق وأقفله كما كان فهو قوى القلب مسرور بما يرى أ
أنه
في الصندوق فلما فتح الصندوق فلم ير المال علم أنه قد كان حرب وهو لا يشعر فانكسر قلبه
وأيقن بفقره فكذلك هذا المتفتش لنفسه المتفقد لعيبه وكذلك لما أيقن بالافتقاد ثم فزع قلبه
ذلك يرشد إلى أنه كان صاحب شخصية إيجابية قوية
ومما يستأنس به تأييدا للقصة السابقة وإشارة إلى ما للمحاسبى من شخصية قوية وبيانا عابرًا عن بعض أساليبه في تأليف كتبه ما رواه الجنيد أيضًا بقوله كان الحارث المحاسبي يجيء
إلى منزلنا ليقول اخرج معى نصحر نذهب إلى الصحراء فأقول له تخرجنى عن عزلتي وأمنى على نفسى إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات فيقول ه اخرج معى ولا خوف عليك فأخرج معه فكأن الطريق فارغ من كل شيء لا نرى شيئًا
فإذا حصلت معه فى المكان الذي يجلس فيه قال لى
سلني
فأقول له ما عندى سؤال أسأله
فيقول سلنى عما يقع في نفسك
فتنثال على السؤالات فأسأله عنها فيجيبنى عليها للوقت
ثم يمضى إلى منزله فيعملها كتاباً
ترشد هذه القصة إلى أن المحاسبي لم يكن يخشى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات وأنه لم يكن يؤثر العزلة وما فيها من أمن على النفس وعدم تشتيت للفكر كلا إنه يجابه الحياة محاولا السير بها إلى ما يراه حقاً وإصلاحاً
أما فيما يتعلق بطريقته في التأليف فإنه يعمل أحيانًا على تلبية ما يرغب المتحدثون الإجابة عنه وهي طريقة حية إنها استجابة لما يحب المجتمع أن يرى الرأى الصريح فيه ولم تكن كتبه كلها على هذا النسق فإن بعضها كان إسهاما في الحركة المقاومة لحركة الاعتزال وكان بعضها حلقات في التخطيط الذي رسمه المحاسبي للإصلاح الأخلاقي في المجتمع
على
طبيعيا
أننا قد تعجلنا الحوادث مرة أخرى فتحدثنا عن المحاسبي في القمة ولم نتدرج معه تدرجاً
ولنعد إلى المحاسبي أول مقدمه بغداد كان ذلك فيما يبدو في سن مبكرة نسبيا وكانت بغداد حينئذ تموج بمختلف التيارات الفكرية ثقافة يونانية وافدة تريد أن تأخذ حق
الإقامة سيدة متغلبة
۷
إلى ذكر ذى الجود والكرم وأيادى الله السابقة فيمن كان أعظم منه ذنباً وأطول غفلة كالسحرة وغيرهم ثم رأى آثار الجود والتفضل عنده إذ نظر إلى نفسه قد هاج الخوف منها وتذكرت ما مضى من الذنوب لتطهر من أدناسها قبل لقاء ربها عزّ وجلّ هاج الرجاء أن يكون في سابق علمه وقدره وليا لربه عزّ وجلّ وأن ذلك الوقت تاريخ حكم ولايته وخاتمة من أسعده ليطهره قبل لقائه ويزينه للعرض عليه فيعطى الله عزّ وجلّ العزم بالتوبة عند كل ذنب يذكره وتضييع حق يعرفه وأدى المظالم إلى أهلها وتذلل لهم في عاجل الدنيا لرجاء التعزز في الآخرة بالسلامة من الخصوم بين يدى الله عز وجل حتى إذا أعطى العزم ألا يعود في ذنوبه وأن يقوم بجميع حقوق الله جل وعز وما كان عليه منها أداه كصلاة ضيعها في جهالته وصيام أو رحم قطعها لأن كثيرا من القراء يمكث الدهر الطويل فى قراءته وعليه صلوات قد ضيعها في جهالته لا يذكر أن عليه قضاءها كمتهاون فى جنابة أو سكر أو تخفيف لا تجزيه الصلاة به أو تقصير فى وضوء لا تجزيه بذلك الصلاة فتنسيه قراءته ذكر ما كان في جهالته فإذا عزم العبد القيام بجميع حقوق الله جل وعز بعد معرفته بذلك فعند ذلك للعدو وللنفس خدع يريانه أنه إنما ينال القيام بما عزم عليه بعقله وقوته وأنه بعد عزمه لن يغلب وينسى التوكل على ربه جل وعز فلا يؤمن عليه من ذلك الخذلان
ومن ذلك حديث سليمان عليه السلام أنه لم يُعط ما أراد بقصد عزمه إذ أغفل التوكل على ربه عزّ وجلّ بتركه الاستثناء كما قال المصطفى ليل الله وكما أنزل الله على النبي الله يعاتب أصحابه في يوم حنين حين قال منهم من قال لن نُعْلَبَ اليوم من قلة فأنزل تبارك وتعالى في ذلك يعاتبهم وهم خير عصابة على الأرض بل لا عصابة تعبد الله غيرهم ومن تبعهم غضاب الله ينصرون دين الله مستجمعون لقتال أعداء الله - بما أغفلوا التوكل عليه فقال جل وعزّ وَيَوْمَ حُنَيْنِ إِذْ أَعْجَتْكُمُ كَرْتُكُمْ الآية والأحاديث كثيرة في ذلك
فإن كان عبدا عاقلا حيثنذ إلى ضعف نفسه وإلى ذكر قوة ربه فرغب إليه في المعونة رجع
من عنده على أداء حقوقه ورعايتها وناجاه بقلب راغب راهب إنى أنسى إن لم تذكرنى
۱ ومنه قوله تعالى لنبيه ولا تقولن لشيء إلى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن
يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا
وأعجز وأضعف إن لم تقوّنى وأجزع إن لم تصبرنى وإن لم يناج ربِّه بذلك كان ذلك عقده في
طلب المعونة فعزم وتوكل واستغاث واستعان وتبرأ من الحول والقوة إلا بربه تبارك وتعالى وقطع رجاءه من نفسه ووجه رجاءه كله إلى خالقه ومولاه فإنه سيجد الله تبارك وتعالى قريبا مجيباً متفضلا متحننا متعطفاً وكذلك أمر من أناب إليه وعزم على طاعته فقال النبيه علي ففَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللَّهِ ووصف عبده الصالح شعيباً عليه السلام بالنية بترك ما يكره وبالعمل بما يحب وبالتوكل ذلك بطلب التوفيق من ربه فقال
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَخَالِفكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إلا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِ إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ۱
وعند هذه الحال للنفس والشيطان خدع من خطرات العجب باستعظام هذا المقام فيدعوانه إلى أن يضيف ذلك إلى نفسه وأنه إنما وصل إلى ذلك بعقله وفطنته وعمله وفقهه وحزمه وقوته فرحًا منه بقوته على ذلك فذلك لنفسه حمد مع نسيان منة ربه بذلك وتفضله عليه فإن غفل وسها فأضاف ذلك إلى نفسه أنه هو الذى وصل إلى ذلك وحمد عقله وفطنته وتخلصه وطلبه ونسى نعمة ربه استحق عند ذلك أن يوكل إلى نفسه كالذي يروى عن ابن عباس أن داود عليه السلام إنما أصاب الذنب بإعجاب أعجبه من نفسه فوكله إلى نفسه
بالإعجاب وسنأتي على ذكر العجب في غير هذا الموضع إن شاء الله عزّ وجلّ فإذا نبيه الله عزّ وجلّ وأيقظه علم أن ذلك كان بمنّة الله جلّ وعز عليه وأن نفسه من ذلك بريئة وإنما عزم على خلاف محبَّتها وأنها لم تنقد له إلا مجبورة ولم تنقد حتى احتاج إلى أن يتكلف الخوف فكيف يكون منها هذه الأحوال وهو خلاف محبتها ولم تنقد له إلا بجبر وكراهية فكيف يكون منها ما تأباه ولا تريده وهى التى كانت مهلكته من قبل هواها وأن الذي أدخلها فى خلاف محبتها إلهُها وخالقها جلّ وعلا فخلص له الحمد ووجب له الشكر وأمكنته الثقة وحسن الظن فيما يستقبل لما يرى من أثر المن والتفضل والاستراحة إلى المتفضل بذلك ولزوم القلب الإياس منها ووجب الذمّ لها وحذرها واتهمها وترك الطمأنينة إليها لأنه قد رأى ما قد مضى من أفاعيلها ما استحق ذلك عنده بعد ما عرفها وأراه ربه جل وعزّ من
AA 11 1
آثار تفضله ما استحق الرجاء والشكر وحسن الظن به حين خلص عزم التوبة في قلبه بعد الاعتراض لذنوبه فيما مضى من عمره وأزال العجب عن قلبه وألزم قلبه حسن الظن بربه فهو حينئذ تائب مقلع منيب خاشع مقر معترف أن توبته كانت بمنة الله ربه لا بقوته فيستأهل بذلك الزيادة من الله عزّ وجلّ لأنه ايقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ۱ وفي التفسير لأزيدنكم من طاعتى
١ ١٤ ٧
Vo
باب ما يجب أن يلزم القلب عند معرفة النفس
ومعرفة الخلال التي يكون عنها نقص العزم عن والاهتمام بالتيقظ والحذر بتصحيح التوبة
الطاعة
قلت وما الذي هو أولى به بعد ذلك أن يلزمه قلبه قال يعلم أن الله عزّ وجل محناً فيما يستقبل من عمره وأن عدوه لم يمت وأن طبعه قائم لم ينقلب ولم يحل وأن الدنيا بزينتها ومكروهها لم تفن وأنه لن ينال القيام برعاية حقوق الله عزَّ وجلّ مع هذه الأسباب الْمُزلّة المفتنة إلا بالتيقظ من الغفلة والذكر من النسيان وأن ذلك لا يجتلب إلا بالاهتمام والحذر قلت الاهتمام بماذا
قال الاهتمام بالوفاء بعزمه والحذر لنقض عزمه
قلت وما الذي ينقض عزمه فيكون له حِذرًا فيلزم قلبه الحذر له قال أن يُلزم قلبه الحذر لست خلال وبهنَّ يُنقض عزمه وهي التي تزيله عن الوفاء بعزمه لربه جل وعزّ وبتركهن يكون الوفاء بعزمه لربه جل وعزّ
فإحداها أن يحذر أن يعود إلى ذنب قد عزم على تركه حَذَراً أن تغلبه نفسه بهواها عند غفلته ونسيانه فيعود فيها لما هاج من شهوة لذته لأن العبد قد يترك لله جل وعزّ ما تشتهى نفسه ثم ترده إلى معاودتها رغبته فيها ألم تسمع قول وهب طوبى لمن لم تغلبه شهوته ولم ترده
رغبته !
والثانية أن يكون ذنب قد مضى من عمره ستره الهوى والشهوة في حال توبته فيعرفه فيما يستقبل فيُعطى الندم عليه والعزم ألا يعود فيه فيحذر أن تعود النفس إلى عادتها ومطالبة هواها ولذتها في وقت غفلته وليس عنده معرفة به فيركن إليها فإنما يرتَقِبُ متى تعرض نفسه بالطلب لعادتها فيعرفه إذا كان ذاكرًا مثبتاً
والثالثة أن يعرض له ذنب لم يكن فيا مضى من عمره لأن النفس إذا منعت أبوابا من الشهوات طلبت شهوات أُخر تستريح إليها عوضًا مما فُطِمت عنه من الشهوات واللذات
له
والرابعة حق الله عزّ وجلّ مما أوجب العمل به قد كان مضيعا له فأعطاه العزم أن يقوم لله تعالى به فيحذر أن يضيعه فيما يستقبل من عمره لاستقبال مكروه من تعب أو مشغل عن راحة الدنيا أو واضع من قدره عند المخلوقين كطلب الحلال وغيره أو استدلال منهم ! كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحقوق الله عزّ وجلّ فيما يخالف أهواء العباد والخامسة أن يكون حقًا الله عزّ وجلّ قد ضيعه فيما مضى من عمره - سترته كراهية النفس
للقيام به وهواها للراحة فى تركه فلم يعرفه فى حال توبته فيحذر أن تعود النفس إلى عادتها من تضييع حق ربها فيقدم الحذر ليفطن له إن عَرَضَ
والسادسة أن يبتلى ويمتحن بحق لم يبتل به من قبل ولم يجب عليه كالعيال وغيرهم
فيضيع ما وجب عليه من ذلك فيكون فى ذلك سخط ربه جل وعزّ فإذا ألزم قلبه الحذر لهذه الخلال الست والاهتمام بتركهن تيقظ فبالاهتمام والحذر يجتلب التيقظ وبالتيقظ يُجتَلَب الذكر وبالذكر يجتلب التثبت وبالتثبت يجتلب التفقد وبالتفقد بالعلم يتبين له ماكره الله عزّ وجلّ مما أحب وبالتبين مع الخوف يميز ماكره ربه جل وعزّ مما أحب وبالتمييز مع الخوف يكون متقياً موفياً بعزمه
قلت فالاهتمام والحذر إن ألزمهما قلبه يوقظاه فيما يستقبل من عمره
قال نعم
قلت فما الدليل على ذلك
قال الدليل على ذلك أن العبد قد ينام الليالي الكثيرة فلا يستيقظ إلا وقت صلاة الفجر أو بعده حتى إذا عرضت له حاجة من حوائج الدنيا يهتم بأن ينالها ويحذر أن تفوته إن لم يدلج لها فإذا نام مهتما بالقيام وقد ألزم قلبه الحذر من أن يذهب به النوم فيفوته البكور تيقظ في الليل مراراً لغير الوقت الذي كان ينتبه له يحركه الاهتمام والحذرُ اللذان نام وهما في قلبه فإذا كان الاهتمام والحذر لأمر الدنيا يوقظان عقله وينبهانه بعد ما نام وذهب عقله فهما أولى أن يوقظاه لأمر الآخرة وهو يقظان لم ينم ولم يذهب عقله بنوم وشتان بين المطلوبين هذا يطلب قليلا فانيا مكدرًا بالغموم والأمراض والأسقام ومن بعده يختم له بالموت ومن بعد الموت ينظر فيه بعد ما ذهب لذته ومنفعته وبقى السؤال بين يدى الله عزّ وجل عنه حتى يُسأل عنه ماذا فيه ثم العفو أو العذاب عليه ومع هذه الأسباب المكدّرة فى الدنيا والآخرة لن ينال من ذلك إلا ما قدر له وهذا يهتم لطلب باق كثير لا يفنى مع نعيم مقيم وعيش سليم قد أ قد أزيلت -
صنع
عنه
VV
الأمراض والأسقام ورفعت عنه الهموم والغموم والأحزان ولا يختم بموت أبدا ولا حساب ولا تبعة فيه عليه والمولى راض عنه وهو مسرور بما يتقلب فيه من نعيم الآخرة ة باق فيه أبدا ولا يشاء شيئا إلا بلغت فيه مشيئته في حياة ليس فيها موت ونعيم لا يخاف فيه أبدا له فَوَانًا مجاور للملك القدوس الأعلى في داره لا يخاف سخطه بعد رضاه ثم ما رضى له بذلك حتى أكمل ذلك له بغاية الكرامة وقربه إليه فى الزيارة وأنجز له ما وعده من الرؤية والنظر إلى وجهه الكريم عزّ وجلّ إذ يقول جل من قائل
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكِ مُقْتَدِرٍ 1 وأعظم به من مجلس وأكرم به من زائر ومزور وناظر ومنظور إليه ومقبل ومقبل عليه مترددٍ فيما بين نعيمه ولذاته والنظر إلى وجهه جلّ وعزّ فشتان ما بين الهمتين وشتان بين الغايتين فإذا كان هذا النائم يوقظه اهتمامه لهذا الفانى المنغص المكدّر بعد ذهاب عقله فالهم للباقى الهنيء السليم والحذر من فوته مع الحلول فى العذاب الأليم أولى أن يبقظ له العقل ولم يذهب بنوم فإذا اهتم وحذر تيقظ وإذا تيقظ ذكر فإذا ذكر تثبت فإذا تثبت تفقد فإذا تفقد نظر وإذا نظر بالنور وهو العلم أبصر وإذا أبصر تبين
قلت يتثبت عند ماذا قال يتثبت عند دعاء النفس والعدو لينظر ماذا يدعوان إليه أهو مماكره الله جل وعز أم أحبه لئلا يخفى عليه واحدة من هذه الخلال الست إذا اعترضت له في بلاء النفس بالمنازعة إليها فإن عرض له ذنب مما كان عزم على تركه الله عز وجل خوف نفسه أن يرجع فيما كان تركه الله عز وجل فيسميه الله عز وجل غادرًا مُخلفاً ويحضها على ترك الذنب الذي عرض له ليسميه الله جل وعز بالوفاء بالعهد والتمام على العزم فيحق له حكم الصادقين الموفين بعهودهم الماضين على عزومهم فإن استصعبت نفسه عند ذلك أهاج ذكر الخوف في عاقبة المعاد أن يوافيه وهو مخلف كذاب غير تائب لم يف بعزمه وعاد إلى ما يسخط ربه فيخوف نفسه الحكم عليه بذلك بين يدى الله جلّ وعزّ والنظر إليه بالمقت فى مقامه ذلك فلم يلبث أن تغلب
1 04 54 ٥٥ يقول سبحانه وتعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وكما في حديث رؤية الله تعالى كما
برى القمر ليلة التمام بدون شك بروايات صحيحة
VA
مرارة ذكر العقاب وخوف المقت فى العاجل حلاوة دواعى النفس إلى راحتها وشهوتها وقد يفعل ذلك العبد في خوف سوء عاقبته أمر الدنيا يعرض له أحب الطعام إليه فإذا ذكر فيه ضررًا من حرارة أو برودة أو غير ذلك امتنع منه فإن جاشت ودعته نفسه إلى أكله ذكرها سوة عاقبته وهيجان الوجع بعد ما تمضى لذته وحلاوته فيطفئ ذكر مرارة سوء عاقبة ذلك الطعام حلاوة تعجيل لذته فيتركه من أجل سوء عاقبة أيام قليلة لسقم فان مقدور واقع به إن كان قدر أكل ذلك الطعام أو تركه وإن لم يقدر له لم يقع به أكله أو تركه فهذا الذي غرَض له الذنب فذكر سوء العاقبة في الآخرة أولى أن تُطفئ ذكرُ مرارة سوء العاقبة خلاوة لذة الشهوة لأنه يخاف عاقبة دائمة فى ضرر عظيم لا يقوى عليه بدنه ولا يقوم له صبره إ إن لم يخفه لم ينج منه إلا أن يعفو عنه ربه عز وجل لأن ضرر الدنيا قد يصرف بحذر وغير حذر ولا يصرف ضرر الآخرة إلا بالحذر
الأبد
فإذا كان سوء عاقبة يوم أو يومين يطفئ حلاوة تعجيل أحب الطعام إليه فسوء عاقبة عذاب الحياء من الله ونظره إليه أولى أن يطفئ حلاوة شهوة الذنب مع
وإن عرض له ذنب مما كان قد ستره الهوى والشهوة فلم يعرفه فى حال توبته عزم على تركه وحمد الله جل وعز إذ فَطَّنه له قبل أن يتوفاه عليه وإذا عرض له ذنب لم يكن أذنبه من قبل خوف نفسه سوء الخاتمة إن واقعه أن يختم له بخاتمة الأشقياء فى آخر عمره ولم يأمن أن يكون
أخر له ليختم له بخاتمة الشقوة والهلكة وإذا عرض له حق الله جل وعزّ مما قد كان ضيعه فتاب منه وعزم على القيام به خوف نفسه أن يعود إلى التضييع له فيخلف وعده وينقض عزمه على القيام به فيكون اسمه عند الله عز وجل مخلفًا غدارًا ورجى نفسه على القيام به النظر من الله عزّ وجلّ بالرضا عنه وأن يسميه الله عز وجل موفيًا ويحكم له بالصدق الله يسمع ا جل وعزّ سمى بالكذب والخلف وأوجب العقوبة لمن عاهده وعزم على طاعته فلم يف بها له فقال تبارك وتعالى
لأنه
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَقَنَ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحينَ
وفي التفسير عن مجاهد أنهما رجلان خرجا على ملأ من الناس فقالا لئن آتانا الله من فضله لنصدقن وقال معبد بن ثابت هو شيء قالوه في أنفسهم ألم تسمع قوله تعالى
vo 4 1
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم
قال الله تبارك وتعالى فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ َفضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ إلى قوله تعالى وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ١
فسماهم الله عز وجل إذ لم يفوا بعزومهم مخلفين للوعد كاذبين له فسماهم الله عز وجل
بذلك وألزم قلوبهم النفاق حتى يموتوا على ذلك فعاقبهم بعقوبة لا يفلحون بعدها أبدا
ولا يصلون إلى التوبة مما يسخط ربّهم عزّ وجلّ وقد يخلف العبد الوعد فلا يعاقب إذا كان الله يعاقب من يشاء ويعفو عن من يشاء فيخوف
لأنه
•
عز وجل يريد أن يسعده في آخر عمره نفسه العقوبة وإن كان قد عاهد من قبل فأخلف رجى نفسه التوبة والإقالة فعاود العزم على الوفاء وذكر نفسه ما سمى الله عزّ وجلّ من أوفى بعهده وهو قوله جل ثناؤه رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ الآية
وروى في تفسير ذلك أثران
أما أحدهما فما ارواه أنس فقال و أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده !! لمن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتال مع قريش بعد هذا اليوم ليرين الله عزّ وجلّ ما أصنع وهابَ أن يقول غير ذلك فلما كان يوم أحد وانهزم الناس فقال سعد بن معاذ فاستقبلته فقال يا سعد إلى أين واها لريح الجنة ! ! إني لأجد ريحها دون أحد !! فتقدم فقاتل حتى قتل وأصيب به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم فما عرفته أخته إلا بثيابه فنزلت رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ
بن مالك أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك غاب عن قتال بدر
يعني عهده أي مات على ذلك وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظرُ
أي صادق قائم بالحق الله عزّ وجلّ وينتظر يوما فيه لقاؤه يموت على صدقه والوفاء بعهده ومر النبي مصعب بن عمير وهو قتيل منجعف على وجهه فقراً رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهُ عَلَيهِ
۱ ۹ ٧٦ ۷۷ وتكملة الآية فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلقوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ۳۳ ۳ وتكملة الآية وما بدلوا تبديلا
فيذكر نفسه ما قال الله عزّ وجلّ ما سمّى به من كذبه ولم يف بعزمه وما سمى به من
صدقه وأوفى بعزمه وإن تقاعست النفس وثقل عليها القيام بذلك الحق ذكرها ثواب الله جل وعزّ وما يأمل من نعيم الآخرة إن قام بذلك الحق ورجاها رضاء الله عزّ وجلّ والسرور والأمن في يوم الخوف والأحزان ودوام النعيم الذى لا ينقطع في جوار الله عزّ وجلّ والنظر إلى وجهه الكريم الأعلى ليطفئ بذكر حلاوة الثواب مرارة القيام بذلك الحق ويخفف على النفس ما ثَقُل عليها من القيام بذلك الحق لذكر حلاوة الثواب وذلك معروف فى أهل الدنيا لم ير عامل من عمال الدنيا ولا غيره ولا تاجر من تجار الدنيا يخف عليه التعب والمؤونة إلا لما يرجو من الأجر فالبناء و لذته في التعب وغمه فى الراحة لحلاوة الأجر وإنّ التعب له لمؤلم مؤذ وإن الراحة له لموافقة
وغيره
ولكن اختار النصب على الراحة لما يأمل من الأجر فإن كان أجره قليلا والمستأجر موفيًا مُلِيًّا فإذا ذكر قلة الأجر استثقل العمل وإذا ذكر أن المستأجر له ملى لن يظلمه خفٌ عليه العمل وإذا كان الأجر كثيرًا والمستأجر له لا يأمن من ظلمه فكلما ذكر ما يخاف من ظلمه استثقل العمل وإذا ذكر كثرة الأجر خف عليه العمل فإذا كثر الأجر وكان المستأجر ماليا موفيًا خف عليه العمل ولم يجد على قلبه ثقله له وعمله بنشاط له وخفة فلا مستأجر أملاً من الله عزّ وجلّ ولا أجر أكثر من الجنَّة وكذلك التجار من أهل الدنيا لا يقطعهم عن سفرهم لما يأملون من الأرباح الحر ولا البرد ولا الأمطار ولا الخوف من اللصوص ولا السباع لحلاوة ما يأملون من الربح فالعامل لله عزّ وجل والتاجر له أولى أن يخف عليه العمل إذا ذكر الربح الذي لا ينقطع ولا تنغيص فيه ولا تصريد من المربح الذى لا يظلم مثقال ذرة بل يضاعف ويعطى الكثير باليسير من العمل وتجار الآخرة لا يربحون كما يربح تجار الدنيا ولا عمالها لأن تجار الدنيا إنما يربحون من جنس الدنيا وجوهرها والله عزّ وجلّ لا يُربح عمال الدين من جنس الدنيا ولا من جوهرها ولا يرضى لهم بربح الدراهم والدنانير لأن ذلك من جنس الدنيا وجوهرها ولكن يُربحُهُمْ قصور الياقوت والزمرد والدر فى الدار التي لا تفنى تربتها المسك والزعفران مع زوال الهموم عن قلوبهم فلا يخطر أبدًا بقلوبهم الأحزان ولا تحل في قلوبهم أبدا والفرح والسرور لا يبرحان من قلوبهم أبدا فإذا تذكر هذا العبد حلاوة هذا الأجر مع تذكر نظر الجواد الكريم إليه وهو مجاهد لنفسه مكابد لهواه فأمل أن ينظر إليه على تلك الحال فيرضى عنه فيوجب له
۸۱
الخلود في داره والأمن من عذابه خف عليه القيام بذلك الحق وإن عرض له حق لربه جل وعلا مما كان قد ضيعه سترته كراهة النفس للقيام به وهوى الراحة في تركه فلم يعرفه في حال توبته فعرفه حين عرض له حمد الله جل وعزّ إذا فطنه له قبل أن يموت وهو مضيع للقيام بحق ربه جل وعزّ فيحل بذلك عليه غضبه وعقابه وإن عرض له حق ابتلى به في آخر عمره ووجب عليه مما لم يكن أوجبه الله عزّ وجل عليه قبل فثقل على نفسه القيام به حض نفسه على القيام به رجاء أن يكون إنما ذخره له فلم يوجبه عليه إلا فى آخر عمره ليستوجب بذلك رضاء الله عز وجل وليختم له بخاتمة السعداء فإن نكلت النفس عن القيام به خوفها خاتمة الشقاء بتضييعه وأن يكون إنما أخر لذلك ألم تسمع قول المطرف إن الحسنة أثقل ما يكون عليك وأنت تعملها فإذا فرغت منها ذهب ثقلها ويبقى سرورها فكيف بك إذا قرأتها بين يدى الله عز وجل ورأيت ثوابها فتذكر رضاءه عنه بالقيام به وذكر ثوابه وخوف غضبه على تضییعه يخف عليه القيام به
فإذا تطهر من هذه الخلال الست بالتوبة فقد صحت توبته وساوى الذى لم يكن له صبوة في رعاية حقوق الله عزّ وجلّ فيما يستقبل من عمره وساوى التائب من قبله الذي لم تستصعب عليه نفسه عند التوبة ولم تحتج إلى طلب الخوف بالتخويف ولم يغم عليه شيء من ذنوبه ولم يأمن أن يكون الله قد أحصى عليه ما قد نسيه كالسحرة وأصحاب محمد ع وغيرهم ممن انتهم منة الله عز وجل برفع الامتحان عنهم والتكلف لطلب التوبة فيهرت عقولهم حجته وأزعجها إليه توفيقه وتفضله إلا أنها وإن لم يكن معها امتحان التكلف للطلب فقد نبهت عقولهم على المعرفة بالله عز وجل وعظيم قدر ثوابه وعقابه وعظيم حقه عليهم وواجب طاعته ولم يتمالكوا هذه المعرفة أن رفضوا كل قاطع يقطعهم عن الله عزّ وجل وأقبلوا
مع
بعقولهم على ربهم قد استفرغوها فى الإقبال عليه والإنابة إليه فقد ساوى هذا التائب من قبله الذي قلت كلفته ولم تغم عليه ذنوبه عند توبته وساوى من
لم تكن له صبوة لأنه قد تطهر كما تطهر مما يكره الله عزّ وجلّ وعليهم جميعا حسن القيام بحق الله عزّ وجلّ فيما بقى من أعمارهم
وثقافة فارسية يحاول نشرها الفرس بما لهم من تأثير ونفوذ بما لهم من مال وثراء وبما لديهم من ترف فكرى وبما في نفوسهم من كبت لزوال ملكهم يحاول أن يتنفس – شاعرا أو غير شاعر - في صورة ثقافة تنافس الثقافة الإسلامية البحتة وثقافة عربية مشوبة بثقافات أخرى تريد أن تجد حلاً للتعارض والتنافس بين مختلف الألوان والأجواء الثقافية وثقافة إسلامية بحتة تجاهد فى أن تفوز في قيادة المجتمع إلى الهداية الربانية والرشاد الإلهي وجاء المحاسبي بغداد متعلما ومتثقفاً أو مستزيدا من العلم والثقافة يبتغى السير على السنن المستقيم
وأخذ في الدرس في جهد واجتهاد فتشعبت به الطرق وتجاذبته الثقافات المختلفة تحاول كل منها أن تستأثر به وحدها ولكل منها مغرياتها ولكل منها منطقها ووقف المحاسبي مستوعبا متأملا متروياً
هل طال به الوقوف
متى خرج من تأمله
متى استقر به الاتجاه
ذلك مالا تعلمه إذا نظرنا إلى الزمن
بيد أن المحاسبي وإن لم يعن بالتأريخ لحياته تأريخا زمنيًّا فإنه ترك لنا أثرا نفسيا أبان فيه عن بعض أحوال معاصريه وتحدث فيه عن حيرته الفكرية وعن أسبابها وعن كيفية خروجه
منها
وهذا الأثر نعتبره أساساً لكتاب المنقذ من الضلال راسما للإمام الغزالي تخطيطه موجها له إلى كتابته بل راسما له الطريق في حياته الروحية ولعل التشابه بين هذا النص الذى نثبته الآن وكتاب المنقذ من الضلال يجعلنا نستنتج أن التشابه قوى بين المحاسبي والغزالي في حياتهما
من
الضلال
ولأهمية هذا النص بالنسبة للمحاسبى ولعصره وبالنسبة لصلته بكتاب المنقذ صلة وثيقة نثبته بأكمله وإن كان فيه بعض الطول وقد كتبه المحاسبي مقدمه لكتابه ه الوصايا الذي طبع أخيرًا بالقاهرة يقول المحاسبي - في مفتتح كتابه الوصايا – بعد مقدمة
موجزة
والأبصار والألسن والأيدى والأرجل والمآكل والمشام والمباشرة بالأبدان من
والترك
الأخذ للفعل
فعلى العبد أن يبدأ بما بدأ الله عزّ وجلّ به فيبدأ برعاية حقوق الله عز وجل في قلبه فإنه أول عامل منه وعنه تكون أعمال الجوارح فيوقفه حيث أوقفه الله عز وجل من الرعاية لحقوقه فيوقفه على جمل رعاية حقوق الله عزّ وجلّ فى عقود ضميره حتى يقوم بها الله عزّ وجل كما أمره وتعبده وهي ثلاث خلال
اعتقاد الإيمان ومجانبة الكفر
واعتقاد السنة ومجانية البدعة
واعتقاد الطاعة ومجانبة الإصرار على كل ما يكره الله عزّ وجلّ من عمل قلب وبدن وجمل حقوق الله عز وجل فى الجوارح القيام بالحركات فيما أوجب الله تعالى وترك الحركات وهو السكون عماكره الله عز وجل ثم رعاية حقوق الله عزّ وجلّ عند خطرات القلوب الداعية إلى كل خير وشر
ΛΕ
باب رعاية حقوق الله تعالى
عند الخطرات في اعتقاد القلوب
قلت وكيف يرعى حقوق الله عزّ وجلّ عند الخطرات وبم يستدل على ذلك
والخطرات ما هي
لأن
قال يرعاها بالتثبت بالاستدلال بالعلم عند دواعي القلوب وهي الخطرات الخطرات هى دواعي القلوب إلى كل خير وشر قلت الخطرات من أين بدؤها ومن أى الوجوه هى أمن وجه واحد أم من وجوه
شتی
قال بدؤها من هوى النفس أو من العقل بعد تنبيه الله عزّ وجل له أو من العدو وهى على ثلاثة معان
الأولى تنبيه من الرحمن وكذلك يروى عن غير واحد يروى عن النبي لا أنه قال ه من يُرد الله به خيرا يجعل له واعظاً من قلبه وروى النواس ابن سمعان عن النبي لا أنه ضرب مثلا فقال مثل صراط وعليه ستور ودواع من أسفل الصراط أعلاه ودواع من فالدواعي من أعلاه واعظ الله عزّ وجلّ في قلب كل مسلم
فثبت بقول النبي الله أن الله يعظ عبده فيُخطر بباله ذكره ليتعظ بذلك وذلك أن الله عزّ وجلّ يخطر ببال المؤمن لينبهه بذلك ويعظه فمنه ما يخطر بباله بإحداث الخاطر فينشئه في
بن
قلبه ومنه ما يأمر الملك أن يخطر ببال العبد ليعظه بذلك وينبهه له وإياه عنى عبد الله مسعود بقوله لمَّة من الملك وقد قيل فى بعض الحديث عن عبد الله لمَّة من الملك یعنی الله تبارك وتعالى والثانية تسويل وأمر من النفس وكذلك قال الله عزّ وجل فيما يصف قول نبيه الله
إسرائيل إذ يقول لبنيه بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وقال جل وعلا في قصَّة ابنى آدم فَطَوعَت لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ وقال تعالى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
٨٥
والثالثة تزيين ونزغ ووسوسة من الشيطان
وكذلك أمر الله تعالى نبيه لعل الله أن يفزع إليه بالاستجارة به من خطرات الشيطان وقال
تعالى
وإما يَنزَعَنَّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم
· 1
وقال جل وعزّ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وقال عز وجل فيما وصف به آدم وحواء عليهما السلام فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَان وقال جل وعزّ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۳
فعلى العبد التثبت بالعلم الدال على الخطرات حتى يستدل فيعلم من أى الوجوه الخطرة حين تعرض فيجعل الكتاب والسنة دليله فإن لم يتثبت بعقله ويجعل العلم دليلة لم يبصر ما يضره مما ينفعه وقد قال بعض الحكماء إن أردت أن يكون العقل غالبا للهوى فلا تعجل بفعل الشهوة حتى تنظر في العاقبة
قلت وما التثبت
قال حبس النفس قبل الفعل وترك العجلة وهو الصبر قبل الفعل
قلت فإن جاشت النفس إلى العجلة بالفعل فما الذي يحبسها
قال يذكرها نظر الله عز وجل إليها ويخوفها نزول نقمته فإن أبت عاتبها فقال لها إن الله عز وجل يراك فلا تعجلى وقفى فإنكِ موقوفةٌ غدًا على فعلك ولا يدع الاستعانة بالله عز وجل أن يقوى ضعفه ويقهر له هواه لأنه من ثقل عليه توقيف الله عزَّ وجلّ غدًا على فعله خف عليه فى الدنيا أن يقف ويتثبت قبل فعله خوفًا وحياء من توقيف الله عزّ وجلّ غدًا على
فعله
فبالعقل والعلم والتثبت يبصر الضرر والنفع من دواعي القلوب بالخطرات وإلا لم يُؤْمَن عليه أن يقبل خطرة من نزغات الشيطان أو تسويل النفس يحسبها تنبيها من الرحمن جلّ وعزّ أو ينفي خطرة من التنبيه على الخير يحسبها من تسويل النفس أو من تزيين الشيطان فلن يميز بين ذلك ولا يعرفه إلا بالعلم والتثبت بالعقل ومثل ذلك كمن هو في ظلمة شديدة في الطريق
٣ ٦ ٤٣
١ ١١٤ ٥
۰۷
٨٦
مخوف من الآبار والزلل فى المطر الوابل فلن ينفعه بصره بغير سراج ولن ينفعه السراج إن لم يكن له بصر صحيح ولن ينفعه البصر والسراج إن لم يرم بصره حيث يضع قدمه ويتثبت فإن نظر إلى السماء أو التفت ونظره صحيح وسراجه يزهر كان كمن لا بصر له ولا سراج معه وإن هو رمى بطرفه نحو الأرض ولا سراج معه كان كمن لا بصر له فمثل البصر الصحيح كمثل العقل ومثل السراج كمثل العلم ومثل النظر بالتثبت مثل التثبت بالعقل والاستضاءة بالعلم وعرض ما يخطر على الكتاب والسنَّة وليس فى أكثر ذلك طول مكث لمن علم أنه يُراد منه أن يكون حَذرًا فإذا سنحت الخطرة بالاعتراض عرفها فى مثل لمح البصر للعلم المتأصل في قلبه إذ يقظهُ الحذرُ لذلك حتى يأتى الشيء الذى يلتبس عليه ويشتبه فعند ذلك يمكث حتى يُعلَم فإن لم يكن له علم فعليه التمكث وإن طال ذلك حتى يعلم أيرضى الله عزّ وجلّ قبول ما عرض من دواعى قلبه أو يُسخطه لا يسعه إلا ذلك 1
۱ وفى ذلك يقول الله عز وجل أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله في الظلمات ليس
خارج منها
باب منازل أهل الرعاية لحقوق الله عز وجل في رد الخطرات وقبولها في أعمال القلوب والجوارح على قدر منازل أهل القوة والضعف
والراعون الحقوق الله عزَّ وجلَّ فى منازل شتى وقد ينتقل كل راع منهم في تلك المنازل على قدر قوته وضعفه فأول منزلة من الرعاية وأهلها أقوى الخلق في الرعاية لحقوق الله عز وجل الرعاية عند الخطرات بعد اعتقاد جمل حقوق الله عزّ وجل فلا تخطر بقلبه خطرة من أعمال قلبه إلا جعل الكتاب والسنة دليلين عليها فلم يقبلها باعتقاد الضمير وبتركها يسكن قلبه في مجال الفكر من المنى وغيره إلا أن يشهد له العلم أن الله عزّ وجل قد أمر بها وندب إليها أو أذن فيها بأسبابها وعللها ووقتها وإرادتها فيها فإنه قد يقبل الخطرة يرى أنها داعية إلى سنة وهي بدعة وقد يرى أنها داعية إلى طاعة وهى معصية وقد يرى أنها داعية إلى خير وهى شر كالخطرة تدعو إلى الإخلاص بترك العمل وإلى التنزّه عن الخلق بالفكر وإلى الرجاء على العمل بالعجب والغرة وإلى المنافسة بالحسد وإلى الغضب الله عزّ وجلّ بتمنى البلاء في الدين والدنيا للمسلمين واعتقاد استحلال ما حرم الله عز وجل منهم ونحو ذلك من الخطرات وإلى القدر 1 بتنزيه الله عزّ وجلّ وإلى رأى جَهم بنفى التشبيه وإلى التشبيه بنفى رأى جهم وإلى الاعتزال بتثبيت الوعيد وإلى الخروج بالسيف بالغضب الله عز وجل أو إلى الإرجاء بتعظيم الأقدار وتنزيه الإيمان من النقصان وقد تخطر الخطرة تدعو إلى بدعة في الجملة يحسبها سنة ومما يدل على ذلك أن قلوب أهل البدع إذا خطر بها الخطرات تدعوهم إلى بدعة عدوها سنة فكذلك أهل السنة لن يدع العدو أن يدعوهم إلى البدع عند غفلاتهم من حيث لا يشعرون ولولا ذلك ما ابتدع أ بدعة بعد اعتقاده للسنة في عبادة ولا غيرها لأنه قد يدعوه العدو إلى الابتداع في زهده وفى رضائه
٢
أحد
1 القول بالقدر هو القول بحرية الإرادة أى أن الإنسان حر فيها يأتى وفيا يدع من الأفعال وليس مجبورا من الله على عمل من الأعمال
رأى جهم في الصفات وهو أن الصفات عين الذات
۸۸
وتوكله فيخالف زهد الأئمة المتقدمين وتوكلهم ورضاءهم ويقينهم بمخالفته السنة واعتقاده البدعة وهو يرى أنها سنة كما اعتقد قوم الزهد فى الدنيا بتضييع العيال وبترك وجوب حق الوالدين والتوكل بترك الاكتساب على الأهل والأولاد والخروج في السفر بالازاد والرضا بالسرور بالبلاء إذا وقع بالمسلمين وبتحريم الدواء والدعاء وترك التمنى أن المعاصى لم تكن وبالاشتغال بالله عزّ وجلّ بترك الفرائض وبترك النوافل ودعوى البصائر واستنارة القلوب بادعاء علم الغيوب من القطع على ما فى ضمائر الخلق وما يُسرون ويكتمون ويحتجون في ذلك بآثار مثل قوله المؤمن ينظر بنور الله وكل فرقة ممن ذكرنا تحتج بالآثار والكتاب والمقاييس ولكن يطول ذكرها وإنما أردنا تحذير جملتها ليعرفها العالم المتثبت بالكتاب والسنة
وكذلك الخطرات التي تدعو إلى تدين القلوب من غير عبادات بالأعمال كالقدر ورأى جهم والرفض والاعتزال ونحوه فلن يميز العبد بين ذلك وبين ما أحب اللهُ عزَّ وجلّ من الأ