لكل قوم تاج وتاج هؤلاء القوم الشبلي
من كلام الجنيد
تاج الصوفية
أبو بكر الشبلي
حياته وآراؤه
الدكتور
عبد الحليم محمود
الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المحبين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن
اتبع هديه إلى يوم الدين
وربنا آتنا لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا من
رشدا
اللهم لك الحمد يا ضياء السموات والأرض ويا بهاء السموات والأرض وياقيوم السموات والأرض ويا نور السموات والأرض بحق أسمائك عليك وبحقك عليك فلا حق أجل منك عليك وبحق ما أنزلت وبحق من جعلت له فهما فيها أنزلت يا ألله ويا من لا سواك
الله
اللهم على محمد وعلى آل محمد
من دعاء الشبلي
عدمة
إن لكل صوفى طابعاً معيناً ولكلامه مذاقاً خاصا
والصوفية
وإن كانوا جميعا يسيرون إلى هدف واحد وغاية
لا مذاهب فيها هي التوحيد - فإنهم يختلفون فى الشكل ويتفاوتون في
الطريق ومن
هنا كانت الكلمة المأثورة
التوحيد واحد والتوحيد هو الغاية
والطريق إلى الله كنفوس بنى آدم إنها تتعدد وتتفاوت
وكثير من الصوفية ساروا فى طريق الحب وقد اشتهر منهم البعض في هذا الطريق والناس جميعا يسمعون - في هذا المجال - عن السيدة رابعة قدس الله روحها - ولكنهم - فى كثير منهم - لم يسمعوا عن
العدوية
الإمام أبي بكر الشبلي
والإمام أبو بكر الشبلى صورة جميلة لزاويتين هما من أهم زوايا
التصوف - إن لم يكونا أهمها
أولاهما حب الله تعالى ولقد سار فيه الشبلي على طريق مستقيم إنه أحب الله إلى درجة الهيام واستولى عليه الحب فكان له السلطان والسيطرة
في كل ما يقوم به الشبلي من عمل
لقد هام الشبلي في رياض الحب وأخذ يتحدث عنه نثراً وشعراء
وشعره فى هذا المجال جميل مؤثر وما كان يكتفى في التعبير عن عاطفته بشعره هو وإنما كان يستشهد بشعر الآخرين في مختلف المناسبات وسيرى القارئ الكثير من هذا الشعر في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى بيد أن هذا الهيام الذى كان يستولى أحيانا على الشبلي فيملك عليه أقطاره حتى لا يرى ولا يحس ولا يسمع إلا ماله صلة بمحبوبه ولا يشعر بشيء إلا بما يعتمل في صدره من الله تعالى هذا الهيام المستغرق كان من مظاهره حسن العبادة وتحقق للشبلي عن طريق المحبة ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مظهر الإحسان بقوله حينما سئل ما الإحسان فأجاب
جميع
تعالى
أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
كان الشبلى متعبدا كأحسن ما يكون العباد المحبون وسيرى القارئ شيئًا من تفصيل كل ذلك في الكتاب إن شاء الله
أما الزاوية الثانية - فى صورة الشبلى الجميلة - فإنها زاوية التوحيد والتوحيد هو المذهب والتوحيد فى حياة الشبلي كما يعتبر المذهب والغاية فإنه بنظرة أعمق فى حياته - يعتبر أيضًا طريقا إنه حينما سئل عن
التصوف قال
A
بلوه معرفته ونهايته توحیده !
ولكن ما هذا البدء إنه معرفة الله واحدا ومعرفة ما يجب لهذا الواحد من فروض وواجبات وما يستحيل عليه سبحانه إنه معرفته منرها عن الشريك والند والولد والصاحبة
وإذا كانت النهاية توحيد شهادة أشهد أن لا إله إلا الله فإن البدء توحيد معرفة بما يجب وما يجوز وما يستحيل ومعرفة بما يجب أن يقوم به الإنسان من فروض وما يجب أن ينتهي عنه من منهيات
إن البدء توحيد معرفة مكتسبة من خلال كتب الدين والنهاية توحيد شعور وحال وذوق وكلاهما توحيد
وعندما يصل الإنسان إلى توحيد الشعور والحال فإن التوحيد والمحبة يمتزجان فيكونان وحدة متكاملة هي توحيد الحب أوحب الواحد الأحد
وامتزج الحب والتوحيد فى حياة الشبلى فكان ذلك تاجا على رأسه
وصدقت كلمة الإمام الجنيد
لكل قوم تاج وتاج هؤلاء القوم الشبلي
ومن
أجل ذلك من أجل هذا التناسق الجميل بين الحب والتوحيد
كتبنا عن الشبلي
والله نرجو أن يهدى بهذا الكتاب وأن يهدى له وأن يحيط الشبلي
بشأبيب رحمته وأن يتفضل عليه بحبه
إنه سميع قريب مجيب
الفصل الأول
حياته
حياته
من الشخصيات من إذا نظرت إليه أو قرأت له جذبك منظره أو
جذبتك القراءة له إلى حبه
والشبلى من هذا النوع الذى يجعلك تحبه حتى ولو لم تتفق معه في بعض الآراء والصنعة البارزة فى الشبلى التي تجعل كل من يقرأ له يحبه ويعطف
عليه هي صفة الحب عنده
لقد ملك الحب عليه أقطار نفسه وشغله عن كل شيء سوى محبوبه لقد هام في رياض الحب وتاه فى بيداء الحب وأنغمس في بحار الحب وبقى في اللجة إلى أن وافاه القدر المحتوم
إن الحب مركز الدائرة فى حياة الشبلى منذ أن أحب إنه طابعه ومظهره إنه ظاهره وباطنه والمحبة كما يقول الشبلى
صراط الأولياء
أحب الشبلي بكل أقطار نفسه ولم تتسع نفسه لغير حب الله وكان هذا الحب يلهيه عن الأكل والشرب وقد صرفه عن الزينة والملبس الأنيق ولم
يكن فى خياله ولا بين عينيه غير محبوبه
۱
ولكن هذا الحب سار في الطريق المستقيم
لقد كان ثمرة الجهاد فى العبادة لا يفتر ثم كان ثمرته جهادًا في العبادة
لا يفتر
والجهاد في العبادة من أقسامه الجهاد في المجتمع ليستقيم ليعبد
ولقد جاهد الشبلي - من أجل المحبة - في المجتمع بسلوكه وجاهد بكلامه وكان قدوة وكان واعظا وكان مدرسًا من أجل هدف واحد هو
المحبة
وإذا كان الجنيد قد وصفه بأنه تاج الصوفية فإن هذا التاج إنما هو
تاج الحب
كيف وصل الشبلي إلى ذلك
لنبدأ
الشبلي منذ البداية مع
إن اسمه المشهور به هو أبو بكر الشبلي
ولا نحب أن ندخل في تفاصيل الاختلاف في اسمه ولكن نحب أن نذكر ما يقوله صاحب الوفيات فى ضبط الاسم إنه يقول
والشبلى - بكسر الشين وسكون الباء الموحدة وبعدها لام - نسبة إلى شبلة وهى قرية من قرى أسروشنة - بضم الهمزة وسكون
السين المهملة وضم الراء وسكون الواو وفتح الشين المعجمة وفتح النون و بعدها هاء ساكنة وهى بلدة عظيمة وراء سمرقند من بلاد ما وراء النهر والشبلي إذن خرسانى الأصل ولكنه ولد بسر من رأى ونشأ في بيت عز وجاه فقد كان والده حاجب الحجاب للموفق وكان خاله أمير الأمراء بالاسكندرية
وبيت كهذا حينها ينشأ فيه ناشئ فإنه يعنى بثقافته عناية فائقة والأسس الأولى للثقافة إذ ذاك إنما هى اللغة العربية في صورة مستفيضة وهى علوم الشرع في كثير من العناية ثم ينظر الشاب الطامح إلى المادة التي يتخصص فيها حديثا أو تفسيرًا أو فقها أو غير ذلك ونشأ الشبلي وصورة والده ماثلة بين عينيه وهذا أمر طبيعي في كل ابن
له والد نابه
وأخذ الشبلى يتطلع إلى المجد واستشرفت آماله إلى الوظائف وكان
الطريق أمامه ممهدا فهو ابن موظف كبير في الدولة
وكما يسر الله طريق الثقافة له فإنه يسر له طريق الوظائف ووصل الشبلي إلى أن كان حاجباً للموفق وهو ولى العهد وكان الشبلي أيضا واليا
على دنباوند يقول صاحب الوفيات
دنباوند
يضم الدال المهملة وسكون النون وفتح الباء
الموحدة وبعدها واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة - وهى
12
ناحية من نواحي رستاق الرى فى الجبال وبعضهم يقول دماوند
والأول أصح
ويقول صاحب الكواكب الدرية
هو خرساني الأصل بغدادى المنشأ كان واليا بنهاوند وبالبصرة
وكان والده حاجب الحجاب للموفق
ولعل الشبلي تدرج فى الوظائف من مدينة إلى أخرى أكبر منها أو أهم منها وهذا طبيعي في المناصب
وما كان الشبلى فى يوم من الأيام منصرفا عن العلم بعد أن تنقف الثقافة العامة ولم تشغله الوظائف عن السمو بأفقه عن طريق العلم
لقد درس وثابر وسهر الليالى فى طلب العلم بل كان يحضر دروس
العلماء وهو في وظيفته
يقول السلمي عنه
كتب الحديث الكثير ورواه
ويقول عنه الإمام المناوى
تفقه على مذهب الإمام مالك وكتب حديثا كثيرا
ويقول صاحب الشذرات
وكان الشبلى فقيها عالما كتب الحديث الكثير
۱۵
ويقول أحمد بن عطاء سمعت الشبلي يقول
كتبت الحديث عشرين سنة !
وجالست الفقهاء عشرين سنة
ولم تكن دراسته هيئة فقد أخذ نفسه بالعزائم فحفظ الموطأ عن ظهر قلب أما القرآن الكريم فإنه لم يكتف بحفظه بقراءة واحدة وإنما
درس
أكثر
من
رواية
وانتهى به الأمر إلى أن أصبح علا من أعلام العلماء وأصبح صاحب حلقة يدرس فيها ويعظ ويهدى بقوله وسلوكه واستحق أن يقول فيه أبو عبدالله الرازي
لم أر فى الصوفية أعلم من الشبلي وكانت له مع العلماء جولات
مسائل من علم الشبلي
إن الشبلي مر يوما بأبي عمران وهو يدرس في حلقته فلما رأه أبو عمران قام إليه وأجلسه بجنبه فأراد بعض أصحاب أبي عمران أن يرى الناس أن الشبلى جاهل - فقال له يا أبا بكر
إذا اشتبه على المرأة دم الحيض بدم الاستحاضة كيف تصنع
فأجاب بثمانية عشر جوابا
فقام أبو عمران وقبل رأسه وقال
يا أبا بكر أعرف منها اثنى عشر وستة ما سمعت بها قط ومن ذلك ما يقوله أبو القاسم عبد السلام بن محمد المخرمي يقول
سمعت الشبلي
وسئل عن قول الله
ادعوني أستجب لكم
قال
ادعوني بلا غفلة أستجب لكم بلا مهلة
وسئل عن قوله تعالى
وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
قال
أبصار الرؤوس عما حرم الله تعالى وأبصار القلوب عما سوى الله وكان ابن بشار ينهى الناس عن الاجتماع بالشبلي والاستماع لكلامه فجاءه ابن بشار يوما يمتحنه فقال له ابن بشار كم في خمس من الابل
فسكت الشبلي فأكثر عليه ابن بشار فقال له الشبلي
في واجب الشرع شاة وفيها يلزم أمثالنا كلها
فقال له ابن بشار
هل لك في ذلك إمام
قال نعم
قال من
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه حيث أخرج ماله كله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ماخليت لعيالك
قال الله ورسوله - فرجع ابن بشار ولم ينه بعد ذلك أحدا عن
الاجتماع بالشبلي
ويقول محمد بن عبد الله سمعت الشبلي يقول في قول الله
ويمحو الله مايشاء ويثبت
قال
يمحو مايشاء من شهود العبودية وأوصافها ويثبت مايشاء من شواهد
الربوبية ودلائلها
وسئل عن قوله تعالى
والذين هم عن اللغو معرضون
فقال
كل ما دون الله لغو
وكان يقول
حفظ الأسرار صونها عن رؤية الأغيار
ومما يروى عن أبي القاسم عيسى بن على بن عيسى الوزير يقول
كان ابن مجاهد يوما عند أبى - فقيل له الشبلي
فقال يدخل
فقال ابن مجاهد سأسكته الساعة بين يديك وكان من عادة الشبلي إذا ليس شيئا خرق فيه موضعا فلما جلس قال له ابن مجاهد يا أبا بكر أين فى العلم إفساد ما ينتفع به
فقال له الشبلي أين في العلم
و فطفق مسحا بالسوق والأعناق
قال فسكت ابن مجاهد
فقال له أبي أردت أن تسكته فأسكتك !
ثم قال الشبلى له قد أجمع الناس أنك مقرى الوقت أين في القرآن
الحبيب لا يعذب حبيبه
قال فسكت ابن مجاهد
فقال له أبى قل يا أبا بكر
فقال قوله تعالى
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم
بذنوبكم
فقال ابن مجاهد كأني ما سمعتها قط
أما
موضوع إحداث خرق فى الثياب فإنه يرتبط بمحاولة البعد عن العجب والفخر أو الخيلاء أو الكبر وما كان خرق الثوب افسادا كليا له وإنما إفساد للفخر به وإفساد للعجب به وكانت الناس تعلم ذلك عن الشبلى ويفسرونه التفسير المناسب ما عدا هؤلاء الذين يكرهون الصالحين من
عباد الله
وسئل الشبلى عن الرحمن على العرش استوى
فقال
الرحمن لم يزل والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى
وسئل ما الحكم فى أنه تعالى ذم الاستهزاء والمكر ثم فعلها فقال
ويقيح من سواك الفعل عندى فتفعله فيحسن منك ذاك
فقال السائل أسألك عن القرآن فتجيب بالشعر فقال
لم أجب به إلا لتعلم أن في أقل قليل أدل دليل تخليته تعالى بينهم وبين الاستهزاء والمكر مكر منه بهم إذ لو شاع لمنع
وسئل الشبلي عن أرجى آية في القرآن فقال وقل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف
قال
فإذا كان الله تعالى أطلق للكفار دخول الجنة بذكر لا إله إلا الله مرة واحدة أترى من واظب عليها طول عمره كيف يمنع من دخول الجنة وهو
طاهر من نجاسة الشرك !
وقال
من خرج عن ماله كله الله فإمامه أبو بكر ومن خرج عن بعضه وأمسك بعضه فإمامه عمر ومن أخذ وأعطى وجمع الله فإمامه عثمان ومن ترك الدنيا لأهلها فإمامه على وكل علم لا يؤدى إلى ترك الدنيا فليس
يعلم !
وجاء رجل فقال ياسيدى كثرت عيالى وقلت حيلتي فقال له
ادخل دارك فكل من رأيت رزقه عليك فأخرجه وكل من رأيت رزقه
على الله فاتركه في الدار
ومن تقدير الشبلي للعلم أن كان يقول -
ليس الكامل من يوصل كل يوم ألفا من العوام بل من يوصل فقيها موسی والخضر كفاية لكل معتبر
واحدا في أعوام وفي قصة
ومن طرائفه في الشرح أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
جعل رزقی تحت سیفی
فقال سيفه الله أما ذو الفقار فهو قطعة من حديد وما من شك في أن الرزق تحت إرادة الله تعالى يقول سبحانه إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
ويقول
وفى السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق
مثل ما أنكم تنطقون
ويقول
وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها
وكان أحمد بن محمد بن مقسم يقول حضرت أبا بكر الشبلى وسئل
عن قوله تعالى
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فقال
لمن كان الله قلبه وأنشد
ليس منى قلب إليك معنى
كل عضو منى إليك قلوب
وتلا قوله تعالى
فإذا برق البصر وخسف القمر إلى قوله
إلى ربك يومئذ المستقر فلحظوا فهم ما أشار إليهم فقال
بعضهم متى يصح ذا قال
إذا كانت الدنيا والآخرة حلا والله تعالى يقظة !
وأنشد
دع الأقمار تغرب أو تنير لنا بدر تذل له البدور لنا من نوره في كل وقت ضياء ما تغيره الدهور
ذاته
أما
کن
الله تعالى فإنه يقول
إن الله تعالى موجود عند الناظرين فى صنعه مفقود عند الناظرين في
أدركته العناية
استمر الشبلى مندفعا وراء العلم حديثاً وفقها ثم ثم ماذا
يقول الإمام المناوى
تفقه على مذهب الإمام مالك وكتب حديثا كثيرا ثم شغلته العناية
عن الرواية
وكلمة الإمام المناوي
شغلته العناية عن الرواية
لها قصة وذلك أن الشبلى وهو في طريقه في الدنيا والجاه والمناصب والعلم الكسبي إذا به يحضر دروس ولى الله خير النساج وقبل أن نسير مع الشبلي فإنه لابد من لمحة عابرة عن خير النساج وقد كتبت عنه كتب الطبقات وعنها نوجز مايلي كنيته أبو الحسن كان أصله من سامرا وأقام ببغداد - صحب أبا حمزة البغدادي وسأل السرى السقطى عن مسائل وكان إبراهيم الخواص تاب في مجلسه وكذلك الشبلي تاب في مجلسه - عمر طويلا وكان من أقران
النوري وطبقته
٢٤
قال أبو الحسن المالكي
سألت من حضرموت النساج عن أمره فقال
لما حضرته صلاة المغرب غشى عليه ثم فتح عينيه وأوماً إلى ناحية باب البيت وقال قف عافاك الله ! إنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور وما أمرت به لا يفوتك وما أمرتُ به فوتنى فدعنى أمضى فيم أمرتُ به ثم امض لما أمرت به فدعا بماء فتوضاً وصلى ثم تمدد وأغمض عينيه وتشهد
ومات
وقد سمعه
أبو بكر الرازي وهو يقول
من عرف من الدنيا قدرها وجد من الآخرة حقها ومن جهل من
الآخرة حقها قتله من الدنيا نزرها
وقال
الصبر من أخلاق الرجال والرضا من أخلاق الكرام
وقال
من سبق بخطوة لا يدرك إذا كان صادقا مجتهدا
وقال خير النساج
الإخلاص هو الذى لا يقبل عمل عامل إلا به
وقال
ميراث أفعالك مايليق بأفعالك فاطلب ميراث فضله فإنه أتم وأحسن
قال الله تعالى
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
وقال
الأدب
الخوف سوط الله فى الأرض يُقوم به أنفسا قد تعودت سوء ومتى ما أساءت الجوارح الأدب فهو من غفلة القلب وظلمة السر
انظر طبقات السلمى وطبقات الشعراني والكواكب الدرية حضر الشبلي دروس هذا الرجل وفتن به وذلك أنه بصره بأمور آخرته وأمور دنياه إن الله سبحانه يقول
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا كُلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء
ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً
وما
من
شك فى أن خير النساج من خير من يتحدثون عن هذا
الموضوع وهو من أئمة من يعبرون عنه بشعورهم وبسلوكهم وبحديثهم
إن الجرى وراء المناصب والفخر والخيلاء والمال والثراء والزينة في جشع وفى تكالب وإن الاستسلام إلى الملذات والشهوات والنزعات إن كل ذلك متاع الحياة الدنيا والله سبحانه وتعالى يقول
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب
عديا
وكان حديث خير النساج وقد تجرد إلى الله وامتلأ قلبه بحبه مؤثراً
وانتبه الشبلى إلى نفسه في قوة وزاف الباطل كله في لحظات وانتفض أعماقه انتفاضة قذفت به مراحل في طريق الأتقياء ومن الله عليه من بجذبة من جذباته
وإن في تراثنا الروحى من هذا القبيل بيان جميل لكثير من هؤلاء الذين اجتباهم الله سبحانه فأخذهم عن أنفسهم إليه أو – على حد تعبير الجنيد - أماتهم عن أنفسهم وأحياهم به سبحانه إن الله سبحانه وتعالى
يقول
و الله يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب
وهؤلاء الذين اجتباهم الله لو لم تدركهم عنايته سبحانه لساروا في حياتهم عبيدا لشهواتهم ثم ماتوا فى جو من مقت الله ومن غضبه
ولكنهم حينما أدركتهم عنايته سبحانه أصبح لهم ذكر عطر على كل السان ذلك أنهم ألقوا بأنفسهم في رياض الطاعة عابدين متهجدين
صائمين قائمين
وألقوا بأنفسهم في المحيط الاجتماعي هادين مرشدين دالين على الله
سبحانه
وكان من علامة رضاء الله عنهم وحبه لهم أن ألقى حبهم في قلوب الصالحين من عباده وهدى على أيديهم الكثيرين ممن كانوا بعيدين عن جو التقوى ودخلوا بذلك في إطار
لأن يهدى الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها
ولأن يهدى الله بك رجلاً خير لك من
حمر النعم
ولم تقتصر هدايتهم للحيارى والعصاة والشاكين والبائسين على وجودهم في الحياة فإن آثارهم بعد انتقالهم إلى عالم الآخرة استمرت أنوارها هادية
للحياري والعصاة والشاكين والبائسين
وإن الله سبحانه من فضله ومن كرمه يقول
سنكتب ما قدموا وآثارهم
وآثار الصالحين ترفع إلى السماء فتسطر في سجل حسناتهم يوما فيوما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
ونعود إلى الشبلي وأستاذه
لقد أثر خير النساج تأثيراً قويا على الشبلي فزلزل نفسه من جذورها ودفعها دفعا نحو الطريق إلى الله فنزع حب الرئاسة من قلبه وتهافت الملذات من شعوره واستشرفت نفسه إلى سعادة من نوع آخر لقد أخذ يتطلع إلى ما قاله إبراهيم بن أدهم
حب
نحن في سعادة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسبيوف والشبه بين حياة الشبلى وحياة إبراهيم بن أدهم قوية فقد كان كل منها صاحب مركز مرموق كان ثرياً واسع الثراء كان ذا جاه عريض وفي لحظة من اللحظات - أنضر ما يكون شباباً وفتوة - زاف الباطل كل الباطل من بين عينيه واتجه فى لحظة إلى الباقيات الصالحات وأصبح وما زال - مصدراً للهداية واشعاعًا من النور ينير منازل السائرين
وإذا كانت توبة إبراهيم بن أدهم لم تسر على النسق العادي المألوف وإنما كانت آية من الآيات الخارقة للعادة فإن توبة الشبلي - وهي آية من سارت على النسق المألوف
آيات الله لقد تاب على يد خير النساج وكانت توبته صادقة وإذا صدقت التوبة
أثمرت مباشرة الاستقامة دون زمن فاصل أو حدود معرقلة واستقام الشبلي في قلبه وروحه وشعوره وجوارحه وما كان يتأتى - وقد وصل إلى ذلك - أن يجرى وراء المظاهر إنه يريد أن يتفرغ للدعوة
إلى الله في نفسه حتى تتزكى وفى المجتمع حتى يستقيم ومن أجل هذه العناية النبيلة قام بأمرين
- أما الأمر الأول فهو أنه رجع إلى البلدة التي كان والياً عليها وقال لأهلها
أنا كنت صاحب الموفق وكان ولانى بلدتكم هذه فاجعلوني في حل فجعلوه في حل ولكنهم اعتقدوا - فيما يبدو – أن الموفق أصبح غاضباً عليه فما كان يتأتى - في نظرهم - أن يترك أحد الولاية باختياره وأحبوا أن يكافئوه بشيء فجمعوا له مالا وهدايا
وجهدوا أن يقبل منهم شيئاً فأبى
وذهبت الإمارة وذهب معها كل ما يحيط بها وما يكمن فيها من
مفاسد وسيئات وتحلل الشبلي - بذلك
الدنيا
مما كان ينوء به من مظاهر
٢ - أما الأمر الثاني فهو ما يعبر عنه صاحب الوفيات وغيره بقوله
ومجاهداته في أول أمره فوق الحد
وتغيرت حالة الشبلى رأسًا على عقب لقد تغيرت في الأصدقاء كان أصدقاؤه من حاشية الموفق ومن الأثرياء وأصحاب الجاه ولكنه بعد
التوبة
صحب الشيخ أبا القاسم الجنيد ومن في عصره من الصلحاء ومن في
طبقة الجنيد
كان الجنيد - إذ ذاك إذ ذاك - مركز الجاذبية للصوفية كان متزنا كامل الاتزان وكان متعبدًا على علم وكان عالماً كأجمل وأعمق ما يكون العلم
كانت الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه
والفقهاء لتقريره
والفلاسفة لدقة نظره ومعانيه
والمتكلمون لتحقيقه
والصوفية لإشاراته وحقائقه
أرأيت كيف يكون العلم النافع إشعاعاً نورانيا لمختلف المثقفين في الشعب على أن هؤلاء الذين كانوا يحضرون دروس الجنيد لم يكونوا طلبة بالمعنى العادى للكلمة وإنما كانوا علماء وأساتذة في فروع العلم المختلفة ولا ريب في أن الذين كانت تجذبهم أنوار الجنيد بصورة أشد إنما كانوا من أصحاب المواجيد والأذواق أى من الصوفية وكان الجنيد إماماً لهم ومرشداً وأخذاً بأيديهم إن قصروا ومهدنا لهم إن زاد بهم الوله لقد كان
۱ والكتبة هنا هم اللغويون والأدباء الذين يعدون أنفسهم للكتابة أو الذين يعملون
فيها بالفعل وكانت وظائفهم عادة الكتابة في قصور الأمراء
قائداً يفرح بالنابه من جنده ويشد أزر من تعثر به الطريق ويرد جماح
جامحين والكل يدين له بالفضل ويعترف له بالتقدير
وارتبط الشبلى بالجنيد وما كان يهدأ الشبلى إذا أتاه الوارد حتى يذهب
إلى الجنيد ويتحدث إليه
ويسمع
منه
وحينما يأتيه الوارد ويأخذ فى البحث عن الجنيد لا يرى الأشخاص الآخرين ولا يعرفهم وإن كان قد التقى بهم أكثر من مرة إن صورة
جنيد تسيطر على فكره بل وعلى بصره حتى لا يكون فيها غيره ذهب مرة يبحث عن الجنيد وسار هنا وهناك ودخل المسجد ومر بأناس كثيرين وكأنه لم ير منهم أحداً ولذلك لم يسلم على أحد ثم ذهب إلى بيت الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشأ
عودوني الوصال والوصل عذب ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين أزمعوا أن ذنبي فرط حبى لهم وما ذاك ذنب
لا وحق الخضوع عند التلاقي ما جرى من
يحب إلا بحب
فأجابه الجنيد
وتمنيت
أن
أرا
فلما رأيتكا
غلبت دهشة السرو ر فلم أملك البكا
وأحب الجنيد أن يخفف مرة عن الشبلي فقال له مداعبا
لو رددت أمرك إلى الله استرحت
قال لا بل لو رد الله أمرى إليه لاسترحت
فقال الجنيد سيوف الشبلي تقطر دماء ودخل على الجنيد يومًا فقال له الجنيد مداعباً أيضاً
من كان الله همه طال حزنه
فقال الشبلى لا من كان الله همه زال حزنه
وكان الجنيد والشبلى كلاهما يحبان السماع ولهم في ذلك طرائف
أما الشبلي فإنه صاح يوما في السماع فقيل له فيه فقال خروا لعزة ركعا وسجود ۱ لو يسمعون كما سمعت كلامها
وأما عن الجنيد فإن الشبلي يقول
وكان أكثر اقتراح الجنيد على القوالين هذه الأبيات
فلو أن لي في كل يوم وليلة ثمانين بحرا من دموع تدفق لأفنيتها ثم ابتدأت بغيرها وهذا قليل للفتى حين يعشق به حتى الممات الشقوتى وحولى من الحب المبرح خندق
أهيم
۱ ویروی صاحب النجوم الزاهرة أن للشبلي هذين البيتين تغنى العود فاشتقنا إلى الأحباب
وكنا حيثما كانوا
وكانوا
إذ غنى
حيثما كنا
۳۳
و فوقی سحاب تمطر الشوق والهوى وتحتى عيون للهوى تتدفق
ومن تقدير الجنيد للشبلى هذه الكلمة المعبرة
يقول أبو بكر محمد بن أحمد المفيد سمعت الجنيد بن يوما على الشبلى - يقول
محمد - وأقبل
حرام عليك يا أبا بكر إن كلمت أحدًا فإن الخلق غرقي عن الله
وأنت غرق في الله
وأحب الجنيد أن يبين للناس قدر الشبلى وأن يصرفهم عن نقده في حبه الجامح وعن ذلك يقول أبو جعفر الفرغاني سمعت الجنيد يقول
لا تنظروا إلى أبي بكر الشبلى بالعين التى ينظر بها بعضكم إلى بعض
فإنه عين من عيون الله تعالى
وهذه الكلمة للجنيد تسلمنا إلى الحديث عن نظرة الكندى إلى التصوف طريقا وغاية
34
الفصل الثاني
الشبلي وتعريف التصوف
التصوف
كان أول ما وجه انتباهى إلى البحث عن الشبلي ما قرأته
زمن بعيد وقد سئل
لم سميت الصوفية بهذا الاسم فأجاب
إنما سميت الصوفية صوفية لبقية بقيت عليهم من نفوسهم ولولاها
ما تعلقت بهم تسمية
ويريد الشبلى أن يقول إن الاتجاه إلى الله والقرب منه سبحانه - وهذا هو التصوف - يقتضى أن يتجرد الإنسان من النزغات والشهوات والنفس الأمارة بالسوء وأن تذوب شخصيته في جو الأخلاق الربانية وتمحى إرادته في إرادة الله وأن يكون هواه تبعاً للشريعة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به
وما من شك في أنه لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما
ولقد قال سيدنا عمر مرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
٣٦
والله لأنت يا رسول الله أحب إلى من كل شيء إلا نفسى فقال لا - والذي نفسي بيده - حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال عمر فأنت الآن والله أحب إلى من نفسى فقال الآن يا عمر
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
الآن يا عمر
رواه البخاری
أى أن الأمر الآن قد استقام وبلغ الإيمان غايته
وكل هذا معناه أن الإنسان المتمسك بفرديته الشخصية وبشريته
لا يكون سائرا في جو القرب من الله سبحانه ولقد قال الجنيد مرة في تعريف التصوف
أن يميتك الحق عنك ويحييك
أي يميتك الحق عن أن تنظر إلى أعمالك وعن أن تتحرك بصفاتك وتسير على هواك ويحببك بالتخلق بالأخلاق الربانية
وهذا أيضاً هو معنى الاصطلاح الصوفى الفناء والبقاء ومعناه الفناء
عن ما هو مذموم والبقاء بكل ما هو محمود أو - بتعبير أدق عن البشرية
أي نسيان الإنية والبقاء بالربانية يقول الإمام القشيري
الفناء
أشار القوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف المذمومة وأشاروا بالبقاء إلى قيام الأوصاف المحمودة به
وإذا كان العبد لا يخلو عن أحد هذين القسمين فمن المعلوم أنه إذا لم يكن أحد القسمين كان القسم الآخر لا محالة فمن فنى عن أوصافه المذمومة ظهرت عليه الصفات المحمودة ومن غلبت عليه الخصال المذمومة
استترت عنه الصفات المحمودة
ويقول
فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة يقال إنه فني عن شهواته فإذا فني عن شهواته بقى بنيته وإخلاصه في عبوديته
ومن زهد في دنياه بقلبه يقال فنى عن رغبته
فإذا فنى عن رغبته فيها بقى بصدق إنابته
ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والغضب والكبر وأمثال هذا من رعونات النفس يقال فني عن سوء
الخلق
فإذا فني عن سوء الخلق بقى بالفتوة والصدق اهـ وكل هذا - أيضًا - ليس معناه إلا القرب بقدر الاستطاعة من
۳۸
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
أن تكون الحياة الله وحده وما دامت الله وحده فليس للإنسان منها حظ إنها كلها لله وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة التوحيد
أشهد أن لا إله إلا الله
فإذا ما شهد الإنسان التوحيد فهو من أولى العلم ودخل في نطاق
الآية القرآنية الكريمة
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط
لا إله إلا هو العزيز الحكيم
ومما يوضح ما نقصده أن يتحقق الإنسان بقوله تعالى
إياك نعبد وإياك نستعين
ولا عجب في أن يقول بعض العلماء
إن
سر
القرآن في الفاتحة الفاتحة في
إياك نعبد وإياك نستعين
وسر
۱ روی ابن كثير عن بعض السلف قوله إن الفاتحة القرآن وسرها هذه الكلمة وإياك نعبد وإياك نستعين فالأول أى قوله تعالى إياك نعبده تبرؤ من الشرك والثاني أي قوله تعالى إياك نستعين تبرؤ من الحول والقوة وتفويض إلى الله عز وجل
۳۹
وإن إياك نعبد وإياك نستعين تعبير صادق عن التوحيد -
وهذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن منها قوله تعالى ﴿فاعيده وتوكل عليهاهـ وهذه الكلمة القرآنية قد قدم الله سبحانه وتعالى لها بما يعتبر أساساً ومبرراً يقول سبحانه وتعالى والله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون
والله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم له هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ويقول سبحانه رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً
قل
وما من شك فى أن الآية الكريمة إياك نعبد وإياك نستعين تعنى عناية واضحة وجوب
إخلاص العبادة الله وحده ووجوب قصر الاستعانة على الله وحده والقرآن يوضح بما لا مزيد عليه أن الله سبحانه وتعالى هو وحده المتصرف فى الكون إنه المتصرف في اليسير من أمر الكون وفي
العظيم منه
قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير
من
أحد
وهو سبحانه كما يملك السموات والأرض وكما يمسكها أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكها من بعده فإنه يملك كل جزئية من جزئيات العالم إنه يملك البصر في العين وملك السمع في الأذن كما يملك العين والأذن ويملك الصحة في الجسم الصحيح ويملك استمرار الجاء عند ذوى الجاء ولو شاء سبحانه لأزال ذلك كله ومنع استمراره إن قوله تعالى وإليه يرجع الأمر كله عام شامل ومن أجل ذلك فإن العبادة يجب أن تكون خالصة له وأن الاستعانة يجب أن تتمحض له ولقد رسم سبحانه الوسيلة الصحيحة للاستعانة المثمرة به إنها إخلاص العبادة له فمن أحب أن يكون الله سبحانه وتعالى معه بالتوفيق والتيسير والعون من أحب أن يستجيب الله له فيلحقق العبودية له سبحانه فإياك نعبد وسيلة لتحقيق وإياك نستعين وفي حديث
٤١
والتوحيد نهاية التصوف يقول الشبلى في تعريف التصوف
بدؤه معرفة الله ونهايته توحيده
فإذا ما وصل الإنسان إلى التوحيد الصادق فقد تخلى عن جميع أهوائه ونزغاته ونزعاته وفرديته وإنيته وجميع صفات التحديد فيه ودخل بذلك في إياك نعبد وإياك نستعين
ولم تصبح له نية لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها وإنما تصبح هجرته إلى الله ورسوله خالصة صافية صادقة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نودي فمن كانت هجرته
قدسي رواه الإمام البخارى توضيح لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من أداء ما افترضته عليه ومايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته ولئن استعاذ بي لأعيذنه هذا الحديث الشريف ببين في وضوح أن أحب شيء يتقرب به الإنسان إلى الله إنما هو أداء ما فرض الله عليه وأن الإكثار من النوافل مع أداء الفرائض وسيلة إلى حب الله سبحانه وتعالى لعبد وإذا أحب الله إنسانا كان معه بالتوفيق والهداية والتيسير واستجاب له إذا سأل وأعاده إذا استعاذ وبعد فإن إياك نعبد وإياك نستعين هي تحقيق للايمان الصحيح والتقوى الصادقة أي أنها الصورة الواقعية لأولياء الله سبحانه والله تعالى يقول
وألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشري في من الحياة الدنيا وفي الآخرة لاتبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم
إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها
أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
والشبلي حينما يقول في تعريف التصوف الذي ذكرناه ونهايته توحيده
إنما يتحدث عن درجة الوصول أى الدرجة التي يطلق فيها على الإنسان أنه صوفى وهى الثمرة السامية لتزكية النفس التي يقول الله سبحانه عنها
وقد أفلح من زكاها
وهذه الثمرة لها طرق عدة ومن هنا يقول سادتنا رضوان الله عليهم
التوحيد واحد والطرق إلى الله كنفوس بني آدم
إن الناس يتفاوت استعدادهم ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الآخرين ولعل ذلك يفسر جزءًا من الحكمة في اختلاف أنواع العبادات من ذكر وصلاة وصيام وفتح باب النوافل في ذلك طويلا عريضا مع تحديد حد حتمى من الفروض وفى باب النوافل – في أي منها – متسع للاجتهاد وكل منها - بتوفيق الله - يقود إلى التعرض لنفحات الله وفى
الأثر
ألا إن لربكم فى أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها
وما من شك في أن السر فى القرب هو فضل الله تعالى ورحمته ولولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى منكم من أحد أبدًا
وتعددت - إذن - وسائل الوصول إلى تزكية النفس وتعددت طرق
الوصول إلى التوحيد الصادق
توحيد أشهد أن لا إله إلا الله
توحيد المشاهدة
توحيده وشهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم
ولكنها مهما تعددت فإنها تعود دائما إلى التوحيد إن التوحيد نهايتها ويشبهون الأمر بالدائرة ومركزها
إن الطرق هي الخطوط التي تبدأ من محيط الدائرة لتنتهى بالمركز وهى إذا تباعدت قليلاً أو كثيرًا فى المبدأ فإنها تقترب من بعضها كلما اقتربت
من المركز فإذا وصلت إلى المركز اتحدت والمركز هو التوحيد
ولكن الشبلي لم يعرف التصوف بتعريف واحد وإذا كان التعريف الذي ذكرناه هو أكملها وأتمها فإن له تعريفات أخرى توضح وتفسر في زاوية الطريق على الخصوص وهى فى صورة أدق توضح الطريق من الجانب الأخلاقي على الأخص ومن ذلك ما رواه أبو الحسن على بن
فقال
العنبري قال سألت أبا بكر الشبلى جحدر بن دلف عن التصوف
التصوف ترويح القلوب بمراوح الصفاء وتجليل الخواطر بأردية
الوفاء والتخلق بالسخاء والبشر في اللقاء وهذه كلمات في الجانب الأخلاقى أى فى جزء من أجزاء الطريق وهى كلمات مأخوذة من الأحاديث النبوية الشريفة ومتناسقة القرآن مع الكريم ومما يتناسب معها من القرآن والسنة - وهى لا شك مأخوذة منها
ما يلي
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ومن يؤمن بالله يهد قلبه
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
وأنفقوا من مال الله الذي أتاكم
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم
وإنما المؤمنون إخوة
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النعمان ابن بشیر رضى الله عنه
الحلال بين والحرام بين وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ۱
وفيها أخرجه ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال
تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام قالوا يارسول الله
ما هذا الشرح قال
نور يقذف به في القلب قالوا يا رسول الله فهل لذلك من أمارة
تعرف
۱ متفق عليه
قال نعم قالوا وما هي قال
الإنابة إلى دار الخلود والتجافى عن دار الغرور والاستعداد للموت
قبل الموت
وعن جابر - رفعه - سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي
الإسلام أفضل
قال من سلم المسلمون من لسانه ويده
قال فأى الإيمان أفضل
قال الصبر والسماحة ١
"
قال فأى المؤمنين أكثر إيماناً
قال أحسنهم خلقا
قال فأى الجهاد أفضل
قال من عقر جواده وأهريق دمه
قال فأي الصلاة أفضل
قال طول القنوت
۱ وفيما رواه جابر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من الإيمان قال الصبر والسماحة رواه الحارث وأخرجه ابن حبان في صحيحه
2
قال فأى الصدقة أفضل
قال جهد المقل
قيل فأى الهجرة أفضل
قال أن تهجر ما حرم الله عليك
وعن أبي هريرة - رفعه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن
الخلق
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال أى الإيمان أفضل
قال الخلق الحسن
فأعاد عليه فقال الخلق الحسن
فأعاد عليه الثالثة أو الرابعة فإما أقامه وإما أقعده قال أن تلقى أخاك وأنت طليق ثم مازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن الخلق الحسن ويقول هو من الله
1 أخرجه الإمام مسلم والترمذي باختصار ٢ أخرجه ابن أبي شيبة
ويقبح الخلق السوء ويقول هو من الشيطان ثم قال ألا تنظرون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ۱
ومن تعاريف الشبلى فى هذا الجانب ما يقوله
التصوف التآلف والتعاطف
وهو تعريف مأخوذ - أيضا - من القرآن والسنة ولعل مصدره
ما يقوله الله سبحانه
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
وقوله
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
وقوله
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ويقول
ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد إذا اشتكى عضو تداعى
له سائر الأعضاء بالسهر والحمى
۱ رواه الحارث مرسلا
٤٨
وإذا اتجهنا إلى الأخلاق فى ناحيتها الروحية الدقيقة التي تتصل
بالمحاسبة والمراقبة فإن الشبلي يعرف التصوف بما يلى
التصوف ضبط حواسك ومراعاة أنفاسك
ومصدر
هذا التعريف
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
ويعرف الشبلى التصوف بتعريف هو وصف لحال الصوفي يشرحه في
بعض أحيانه التصوف لا حال يقل ولا سماء يظل
ومعناه أن الصوفي لا يثبت على حال وذلك أنه في ترق باستمرار فإذا ثبت على حال فقد وقف وأصبح كالماء الآسن لأنه لا يجرى يقول القشيري في رسالته
والحال عند القوم معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج
أو هيبة أو احتياج
وقالوا الأحوال كاسمها يعنى أنها كما تحل بالقلب تزول في الوقت سمعت الأستاذ أبا على الدقاق رحمه الله يقول في معنى قوله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة إنه كان صلى الله عليه وسلم أبدا فى الترقي من أحواله فإذا ارتقى من حالة إلى حالة أعلى مما كان فيها فربما حصل له ملاحظة إلى ما ارتقى عنها فكان يعدها غينا بالإضافة إلى ما حصل فيها فأبدا كانت أحواله في التزايد
و مقدورات الحق سبحانه من الألطاف لا نهاية لها
وهو لا يسكن إلى ما تتروح به النفوس فى هذا العالم وهذا معنى لاسماء يظل
والمعنى أنه باستمرار في جهاد متصل وفى سعى للقرب من الله سبحانه لا يقف في جهاده ولا يسكن إلى الراحة يقول السهروردي
وأقوال المشايخ فى ماهية التصوف تزيد على ألف ويطول نقلها
وتذكر ضابطاً
يجمع جل معانيها فإن الألفاظ
متقاربة المعاني فنقول
وإن اختلفت
سوب
الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفى الأوقات عن
الأكدار بتصفية القلب عن شرب النفس
ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه فبدوام الافتقار ينقى من الكدر وكلها تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه فيدوام تصفيته جمعيته وبحركة نفسه تفرقته وكدره فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى
كونوا قوامين الله شهداء بالقسط
وهذه القوامية الله على النفس هي التحقق بالتصوف قال بعضهم
التصوف كله اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوف والسر فيه أن الروح مجذوبة إلى الحضرة الإلهية يعنى أن روح الصوفي منطلقة منجذبة إلى مواطن القرب وللنفس يوضعها رسوب إلى عالمها و انقلاب على عقبها
ولابد للصوفى من دوام الحركة بدوام الافتقار ودوام الفرار وحسن التفقد لمواقع إصابات النفس
ومن وقف على هذا المعنى يجد في معنى الصوفى جميع المتفرق في
الإشارات
وتعود فنقول إن تعريف الشبلي للتصوف بأنه
بدوه معرفة الله ونهايته توحيده
هو التعريف الأكمل وبقية التعريفات توضيح وتفسير
ولكن التعريف الكامل للتصوف هو حياة الشبلي نفسها إنها تعريف
واقعى واضح للتصوف
ومع ذلك فإنه ينبغى - وقد عرفنا التصوف عند الشبلي - أن نبدأ -
معه في رسم الطريق
Or
الفصل الثالث
الطريق الصوفي
عند
الشبلي
التوبة
الطريق الصوفى عند الشبلي
وأول الخطوات في طريق الصوفية إنما هى التوبة الصادقة والتوبة الصادقة ترتكز على شرطين أساسيين
أولها الانفصال التام عن المعاصى في الحاضر وثانيها العزم المؤكد على أن لا يأتى الإنسان الذنب في المستقبل ثم هي تختلف بعد ذلك بالنسبة للناس بحسب مواقعهم وذلك أن من توبة المدرس مثلاً أن يكون مخلصا في تدريسه وكذلك الموظف يكون أمينا في علمه وتوبة الحاكم أن يسير في حكمه بحسب الشرع الشريف فإذا حكم بدون ذلك لا يكون تائياً - وتوبة من بيده - إقامة الحدود إنما هي في أن يأمر بإقامة الحدود وإلا لا تقبل توبته
وكيف يتأتى أن يتوب مشرع مثلاً وهو يشرع بغير ما أنزل الله
وكيف يتأتى أن يتوب قاض وهو يحكم بغير ما أنزل الله وكيف يتأتى أن يتوب وال وهو - مع أن أمر ولايته بيده - يسير بها في جو من قوانين الغرب أو الشرق
٥٤
إن التوبة تثمر الاستقامة إذا صدقت وتأمل التعبير القرآني الكريم
حينها يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله فيقول له
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
لقد أمر الله تعالى بالاستقامة وأمر التائبين بها فإذا لم تثمر التوبة الاستقامة فلا توبة والاستقامة التزام الأمر فى التشريع والأخلاق ونظام المجتمع واجتناب النهي في كل ذلك
والاستقامة التي هي ثمرة التوبة النصوح تتضمن الإخلاص ولن تكون توبة إذا لم يتوافر الإخلاص ولن ينقبل الله العمل إذا لم يتوافر
الإخلاص وهو سبحانه القائل
و ألا الله الدين الخالص
فكل ما ليس بخالص لا يكون الله فيه نصيب
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له وأقام الصلاة
وأتى الزكاة فارقها والله عنه راض
ولقد سأل معاذ رضى الله عنه وهو مسافر إلى اليمن رسول الله صلى
الله عليه وسلم النصيحة فقال له
اخلص دينك يكفك العمل القليل
00
والإخلاص جوهره إخلاص النية قبل العمل وفي أثناء العمل وبعد
العمل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ماهاجر إليه
وتوبة الصوفي لها - مع كل هذه القواعد في مجرى العادة الوضع
الطبيعى عند الصوفية وهو أن تكون على يد شيخ
وهي بذلك تأخد أبعاد البيعة فهي توبة وهي بيعة أو هي توبة
متضمنة في البيعة !
وأول بنود البيعة هو
ألا نشرك بالله شيئًا
ويهتم الصوفية اهتمامًا كبيرًا بهذا البند ويتعمقون فيه تعمقاً لا يضارعهم فيه غيرهم ومن ذلك مثلاً ما يقوله الشبلي
بيو
الأسرار الأسرار صونوها عن الأغياره اهـ
إن القلب بيت الله وإذا كان الله بيوت فى الأرض هي المساجد فإن الله
يوتا في بنى الإنسان هي قلوبهم
ويحرص الصوفية أن تكون بيوت الله فيهم لا يسكنها إلا هو سبحانه
0
ومن أجل ذلك يحاولون - ابتداء من لحظة البيعة - أن يملأ الله قلوبهم !
قال الشبلي مرة وقد أخذه وجد شديد
ما أحد يعرف الله
قيل وكيف
قال
ذلك
لو عرفوه لما اشتغلوا بسواه !
مع
في
والانسان يمكنه القيام بعمله العادى وبالجهاد في سبيل الله وهو في كل الله وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مناضلاً الحياة جهادا وتربية للصحابة وعناية بكل صغيرة وكبيرة من أمر الدعوة وهو مع كل ذلك مع الله إن الصوفى يعمل في سبيل الله ولكنه في عمله لا يلاحظ نفسه يقول أبو بكر محمد بن عبد الله الرازي سمعت
أبا بكر الشلي يقول
ما أحوج الناس إلى سكرة
فقيل أي سكرة فقال
سكرة تغنيهم عن ملاحظة أنفسهم وأفعالهم وأحوالهم والأكوان
وما فيها !
OV
وكان يقول
ليس يخطر الكون ببالى وكيف يخطر الكون يبال من عرف المكون!
أما أهل البلاء - فيما يرى الشبلي – فإنهم أهل الغفلة
لقد سئل رضى الله عنه عن حديث
إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا ربكم العافية فقال
هم
أهل الغفلة عن الله تعالى !
ويقول الشبلي
عن
الله !
مساكين هؤلاء المماليك نظروا بعيونهم إلى الملكوت المخلوق ورضوا بالجنان المخلوقة فبقوا معها خالدين فيها وأما الملوك فلم يرضوا بها فنظروا بقلوبهم إلى مالك الملوك فبقوا معه في مقعد صدق عند مليك
مقتدر
وسأله رجل عن مقام التوبة قائلا
يطرق سمعى من كتاب الله ما يحدونى على ترك الأشياء والإعراض عن الدنيا ثم أرد إلى نفسى وإلى أحوالى وإلى الناس ثم لا أبقى على هذا ولا على هذا وأرجع إلى الوطن الأول مما كنت عليه من سماعى
القرآن
۵۸
30
01
فقال له الشبلي
يقول الله ما طرق سمعك من القرآن فاجتذبك به إلى فهو عطف
منى عليك ولطف منى بك !
وما أردك به إلى نفسك فهو شفقة منى عليك لأنك لم يصح لك التبرؤ
من الحول والقوة في التوجه إلى !
ويصل الأمر بالشبلي أن يقول
طرفة عين في غفلة عن الله لأهل المعرفة شرك
هذا النمط من التوحيد الذى يبدأ مع المريد منذ البداية والذي تنتهي التوبة الصادقة إلى استشرافه والذى هو طابع الاستقامة هو البداية
للتصوف وهو النهاية أيضا
بدوه معرفته [واحدا]!
ونهايته توحيده
وكما تثمر التوبة الصادقة الاستقامة وكما تتمر الاخلاص المتضمن في
الاستقامة فإنها تثمر العمل
ويقول الإمام الشبلي
لسان العمل أفصح من لسان العلم
وما من شك في أن العلم والعمل ضروريان ولكن العلم إذا لم يثمر
العمل فإنه لا يكون علما نافعا
والشبلى بمجرد توبته جد فى العبادة واجتهد فيها اجتهادا كبيرا إن
المؤرخين يقولون عنه
وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحد
ولكن فكرة التوحيد مسيطرة السيطرة الكاملة في كل خطوات
الصوفي وهي التي جعلته يقول
من طلبه به تعالى صح به توحيد ومن طلبه بنفسه لم يصح له توحيد
ويقول
من طلب الحق بالمجاهدات فهو بعيد عن وصوله إلى مطلوبه ومن طلبه به تعالى وصل إليه ثم أنشد
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يجتمعان هى شاميه إذا ما استهلت وسهيل إذا استهل يماني وسئل الشبلي هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة أو
الحق فقال
لابد من الاجتهاد والمجاهدة لكنها لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة لامتناعها عن أن تدرك بجهد أو اجتهاد وإنما هي مواهب يصل العبد
إليها بإيصال الحق تعالى لا غير ولولا أنه تعالى بدأهم بالمحبة وهداهم لما
أحبوه !
لابد من الاجتهاد والمجاهدة والشبلى يقول في وضوح
ليس المريد فترة
أى أن المريد في مجاهدة دائمة وكما يقول الجنيد عن التصوف
إنه عنوة لا صلح فيها
إنه جهاد مستمر ولكن
ولولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى منكم من
أحد أبدا
مجاهدة وخوف من الله وأمل فى القبول ورجاء في الرضا
ومع جد الشبلي في الطاعات على وجه العموم فإنه كان – حينما يدخل - جد في الطاعات أكثر ويقول
شهر رمضان
هذا الشهر عظمه الله فأنا أقوم بتعظيمه
وكان يقتدى في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجد في الطاعات على وجه العموم حتى إذا دخل شهر رمضان جد فوق جده حتى إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان - كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها
أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المنزر
ولسان العمل الذى هو أفصح وأدل على التقوى من لسان العلم
يتضمن
الذكر
والصوفية يهتمون بالذكر اهتماما بالغاء ومن كلماتهم في ذلك يقول سيدى أبو مدين التلمستاني رضى الله عنه
من دامت أذكاره صفت أسراره ومن صفت أسراره كان في حضرة
الله تعالى قراره
وقال الإمام القشيري
من خصائص الذكر أنه غير مؤقت بوقت فما من وقت إلا مطالب به إما وجوبا أو ندبا بخلاف غيره من الطاعات وفي ذلك تفضيله على سائر الأعمال
وما من شك في أنه مفضل على أعمال النقل إذ أن الفروض فروض لا وهي يستغنى عنها بشيء آخر وهذا هو ما قصده المؤلف رضى الله
عنه
وجاء في معاهد التحقيق كذلك - في معنى قوله تعالى
فاذكروني أذكركم
أي
اذكروني باللسان أذكركم بتنقيح الجنان !
اذكروني بالأسرار أذكركم بترادف المنح والأسرار نه کرم الله
اذكروني بالحضور أذكركم بالفتح والسرور!
اذكروني بالتعظيم أذكركم بالفوز العظيم!
اذكروني بالاحترام أذكركم بالكرامة والإكرام
اذكروني بالهمة والاهتمام أذكركم بالحكمة والإلهام!
اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف أسرار الغيوب
اذكرونى بالأركان أذكركم بالمحبة والعرفان اهـ
والصوفية حين يهتمون بالذكر فإنما يتابعون فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلوات الله وسلامه عليه يتابع توجيه القرآن
الكريم وهو
فاذكروني أذكركم
ولقد حث الله سبحانه وتعالى على الذكر الكثير فقال سبحانه
واذكر ربك فى نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول
بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين
وحث الله سبحانه وتعالى على الذكر الكثير فقال آمرا
٦٣
يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيراً وسبحوه بكرة
وأصيلا
ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب العقول المستنيرة التي رضى عنها
لأنها اهتدت بهذيه فقال سبحانه مادحا لهم
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب
الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب
النار
وربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك
لا تخلف الميعاد
ويصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصادقين بصفات يرضى عنها
اختتمها بقوله
والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا
عظيما
والأمر بالذكر كثير فى القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودا وعلى جنوبكم
ويقول ابن عباس - رضى عنها
في هذه الآية
أى بالليل والنهار فى البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر
والمرض والصحة والسر والعلانية !
ويقول الله سبحانه وتعالى ولذكر الله أكبر
ويقول ابن عباس - رضى الله عنها - عن هذه الكلمة القرآنية
الكريمة
إن لها وجهين
أحدهما إن ذكر الله تعالى لكم أعظم من ذكركم إياه والآخر إن ذكر الله أعظم من كل عبادة سواه ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً عن الذكر مادحاً
وأمراً
عن أبى هريرة - رضى الله عنه فيما رواه الإمام مسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فى طريق مكة فمر على جبل يقال له
جمدان فقال
0
سيروا هذا حمدان سبق المفردون
قالوا وما المفردون يا رسول الله
قال الذاكرون الله كثيرا
وذكر هذا الحديث الترمذى وفيه
يا رسول الله وما المفردون
قال المستهترون بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم
القيامة خفافاً
وكلمة المفردون كما يذكر صاحب كتاب الترغيب والترهيب
بفتح الفاء وكسر الراء
1 3 3 3
و المستهترون - بفتح التائين هم المولعون بالذكر المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم
وعن أبي موسى رضى الله عنه - فيها رواه البخاري - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
مثل الذي يذكر الله - ربه - والذى لا يذكر الله مثل الحى والميت وعن عبد الله بن بسر - رضى الله عنه فيما رواه الحاكم بإسناد صحيح - أن رجلاً قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على فأخبرتى بشيء أتشبت به قال
لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله
ويحدث الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضى الله عنه فيقول
فيما رواه الطبراني وغيره
إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت
أي الأعمال أحب إلى الله
قال
أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله
أجمل الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفسها - ووصاياه صلوات الله وسلامه عليه كلها جميلة نفيسة - وصيته لأم أنس حينها قالت له يا رسول الله أوصنى
قال
اهجرى المعاصي فإنها أفضل الهجرة وحافظي على الفرائض فإنها أفضل الجهاد وأكثرى من ذكر الله فإنك لا تأتين بشيء أحب إليه من
كثرة ذكره
السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله وأن
من
رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله
٦٧
وروى البيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل
عظيماً
من
شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين
قال الإمام الصاوى
وينبغي للإنسان أن يذكر الله كثيراً لقوله تعالى والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرًا
ولا يلتفت لواش ولا رقيب لقول السيد الحفنى خطاباً للعارف بالله تعالى أستاذنا الدردير
با مبتغى طرق أهل الله والتسليك دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيك ن اذكروني لرد المعترض يكفيك فاجعل سلاف الجلالة دائما في فيك والشبلي - على غرار القوم - يهتم بالذكر اهتماماً بالغاً وهو يقيم
الاعتبار لذكر القلب وفى ذلك يقول
ليس للأعمى من الجوهرة إلا لمسها
ولا للجاهل من الله إلا ذكره باللسان
وسئل الشبلى عن أقرب أصحابه إليه من يكون فقال ألهجهم بذكر الله وأسرعهم مبادرة لرضاه
ويعتبر الشبلي الذكر علاجًا إن أبا حاتم الطبرى الصوفى يقول
سمعت الشبلى يقول
ذكر الله على الصفاء ينسى العبد مرارة البلاء
والشبلي في ذلك يتابع القرآن الكريم فى توجيهاته في الذكر يقول
سبحانه وتعالى
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى
ويقول سبحانه
قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى
ومع
مكانة الذكر الكبرى فإنه فيما يروى الشبلي
ليس من استأنس بالذكر كمن استأنس بالمذكور
وهذه الفكرة يكررها الشبلى فى صورة أخرى فقد سئل
متى تستريح من الذكر
فأجاب
إني لا أستريح إلا إذا دخلت حضرة الشهود لأنها لا ذكر فيها
9
استغناء عنه بالشهود لأن الذكر إنما هو للغائب !
ويقول إن الذكر إنما يكون مع الحجاب لأنه دليل فإذا شهد المدلول فقد سقط الوقوف عند الدليل بل سقط عن شهود الدليل ومروره على
الخاطر
وإذا استغرق الإنسان فى الذكر وجد حلاوته وقاده الذكر إلى كثير من الأنوار والفيوضات ومما يقوده الذكر إليه
الزهد
ولقد سئل الشبلى عن الزهد فقال
تحويل القلب من الأشياء إلى رب الأشياء
وهذه الكلمة فى إيجازها الدقيق تلخص موقف الصوفية في الزهد إنها
تسير في نسق مع قوله تعالى
لكى لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وهي لا تعنى عدم امتلاك الأشياء وإنما تعنى أن لا يتعلق القلب بها ولقد سبق أن قلنا غير مرة إن الزهد فى الدنيا لا يعنى التجرد المتعمد منها وإنما يعنى أن لا تستعبد الدنيا الإنسان ولو كان الإسلام يحث على التجرد من الدنياء لما شرع نظام الزكاة ونظام الزكاة هو أن تملك وتزكى
عما تملك أي تخرج مما تملك ولما شرع الإسلام للبيع والشراء وكتابة الدين والميراث والسلم والمضاربة وغير ذلك من أمور الثروة
ولقد كان الكثير من الصوفية من الأغنياء يملكون الثروات ويتصرفون فيها كوكلاء الله عليها وكثيرًا ما يدعون الله بأن يغنيهم ولا يكتفون بذلك
بل يدعونه
سبحانه
أن يجعلهم سبب الغنى لأوليائه
ولقد كان من دعاء أبي الحسن الشاذلى فيما يتعلق بالدنيا ممثلة في المال
والثروة
اللهم اجعلها في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا
وكان من دعائه رضى الله عنه
اللهم وسع على رزقى في دنياى ولا تحجبني بها عن أخراى ولقد كان الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم من ذوى الثروات الضخمة وكانت هذه الثروات فى أيديهم ولم تكن في قلوبهم وكانوا يبذلونها سخية بها نفوسهم في سبيل الله فيجهز بعضهم جيش العسرة ويحفر بئر رومة ويتصدق آخرون فى سبيل الله بالغالي والنفيس ويؤثرون الله على كل شيء
ومن جميل ما نذكره فى ذلك ما يتحدث عنه القرآن الكريم من آثار
الاستغفار التي تعم الدنيا والآخرة يقول تعالى
۷۱
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم
مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم
ويقول
فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ۱
"
وعن أبي ذريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة ٢ وما يذكر القرآن من آثار التقوى فى مثل قول الله سبحانه ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون
وقوله
إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل
ذلك محسنين
۱ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
رواه البخاري
۷
وقوله
إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ
هو أهل التقوى وأهل المغفرة
قال قال ربكم
أنا أهل أن أتقى فمن اتقانى فأنا أهل أن أغفر له ۱ والواقع أن الله سبحانه وتعالى لم يحتجب عن خلقه – كما يقول الشبلي إنما الخلق احتجبوا عنه بحب الدنيا أى باستعبادها لهم وبجريهم
وراءها وتكالبهم عليها
وإن في الجنة درجات للغنى الشاكر
وحينها يستغرق الإنسان في الذكر تقوده أنواره إلى
التوكل
ويقول الشبلي عن التوكل
يقول أحدهم توكلت على الله وهو يكذب عليه لو توكل عليه
رضی بفعله
۱ رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي
والواقع أن التوكل يشمل التسليم ويشمل التفويض والتوكل متضمن بصورة طبيعية في الإيمان الصادق بـ لا إله
إلا الله وهو إذن - من صميم الإيمان
ويقول الإمام سهل بن عبد الله التسترى
العمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوكل حاله صلى الله عليه وسلم
فمن طعن في العمل فقد طعن في السنة
ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان
وكلمة سهل هذه إنما تعنى أن العمل والتوكل متلازمان وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمل طيلة حياته مكافحا ومجاهداً وهاديا ومرشداً وكان لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ودبر أمرها وقدر لها ما يلزمها وأحكم النظر فيها وهو مع كل ذلك في كل لحظة من لحظات حياته متوكل على الله تعالى وهو صلوات الله وسلامه عليه القدوة والأسوة والمثل الأعلى لكل الصوفية
ومن أنوار الذكر
الخوف والرجاء
VE
ولقد سئل الشبلى عن الخوف فقال
أن تخاف أن يسلمك إليك
وسئل عن الرجاء فقال
ترجو أن لا يقطع بك دونه
وإجابات الشبلي في ذلك إجابات ربانى تعلق كيانه كله بالله تعالى
ومن أنواع الذكر
المحبة
والآن نكتب عن صراط الأولياء على حد تعبير الشبلي وصراط الأولياء المحبة إنها صراطهم الدائم حين يصلون إليها تلهج بها ألسنتهم وتمتلى بها قلوبهم إلى آخر نفس من حياتهم والناس في العواطف درجات ومنهم سلطان المحبين ومنهم سلطان
العاشقين
ومهما جمع بالإنسان أمر الحب ومهما كان سلطانه فإنه في الأوضاع الشرعية التي التزمها الصوفية له شروط وله علامات لن يتأتى أن يكون
الحب بدونها
وقبل أن نبدأ في الحديث عن المحبة عند الشبلي نحب أن نقف وقفة ضرورية في تصوير هذا الموضوع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كلام علمائنا الأجلاء فيه
Vo
يقول الله تعالى في حديث قدسي
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه
وفي هذا الحديث الشريف يبدأ الله سبحانه بالتوجيه في قوة إلى صفاء
القلب وطهارة النية بالنسبة لأوليائه
أولياؤه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون
ومن عاداهم فإنما يعادى المؤمن التقى
ونتيجة هذه العداوة ما يقوله الله تعالى
آذنته بالحرب
ثم برسم الله سبحانه الطريق إلى حبه وأول خطوة في هذا الطريق
أداء ما افترضته عليه
ولن يتأتى حـ حب الله سبحانه دون الشرط الأول - شرط القرب منه
سبحانه - وهو أداء الفرائض
والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب بل إن أداء الفرائض شرط
لحسن الظن بالله
لقد ترك قوم العمل وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا كما يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم
لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل
لا بد من
أداء الفرائض وإلا لما كان لمهملها إلى القرب من الله تعالى أداء الفرائض - في جو القرب - الإكثار من النوافل
من سبيل ومع فإذا أكثر من النوافل أحبه الله تعالى
وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه
ويترتب على حب الله تعالى للعبد هذا الخير الكثير الذي ذكره الله
سبحانه وتعالى في الحديث القدسي
ويربط أسلافنا - رضوان الله عليهم - ربطا محكما بين محبة الله سبحانه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم متناسقين في ذلك مع توجيه الله
سبخانه
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
وهذا الربط معناه الربط بين محبة الله تعالى والعمل
ومقدمات محبة الله تعالى - مع توفيقه – هي العمل ومن نتائج محبة
الله سبحانه العمل
۷۷
يقول الإمام أبو سعيد الخراز
وبلغنا عن الحسن البصرى رضى الله عنه أن ناسا قالوا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا رسول الله إنا نحب ربنا حبًا شديدًا فجعل الله تعالى لمحبته علا
وأنزل عز وجل
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
فمن صدق المحبة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وزهده وأخلاقه والتأسى به فى الأمور والإعراض عن الدنيا وزهرتها
وبهجتها فإن الله عز وجل جعل محمدا عليه الصلاة والسلام علما ودليلا وحجة على أمته
ومن صدق المحبة الله تعالى إيثار محبة الله عز وجل في جميع الأمور على نفسك وهواك وأن تبدأ فى الأمور كلها بأمره قبل أمر نفسك
ويقول
فعلامة المحب الموافقة للمحبوب والتجاري مع طرقاته في كل الأمور والتقرب إليه بكل حيلة والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه
أما عن صلة المحبة بالإيمان فإن الإمام الغزالي يقول وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب الله من شرط الإيمان
VA
ve
في أخبار كثيرة
إذ قال أبو رزين العقيلي يارسول الله ما الإيمان
قال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
وفي حديث آخر
لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين
وفي رواية ومن نفسه
كيف وقد قال الله تعالى
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين
وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار أهـ ومن أجمل تعبيرات المحبين عن شعورهم ما يقوله يحيى بن معاذ
إلهى إنى مقيم بفنانك مشغول بثنائك صغيراً أخذتني إليك وسر بلتني بمعرفتك وأمكنتنى من لطفك ونقلتني في الأحوال وقبلتني في الأعمال سترا وتوبة وزهدًا وشوقاً ورضا وحبا تسقينى من حياضك وتمهلني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفًا بقولك وهاطر شاربي ولاح
طائرى فكيف أنصرف اليوم عنك كبيرا وقد اعتدت هذا منك صغيرا فلى ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأنى محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير
مصروف اهـ
وبعد فإن ثمرة محبة الله تعالى هى ما قاله سبحانه عن أوليائه
لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة لا تبديل لكلمات الله
ذلك هو الفوز العظيم
وهى أيضًا أن يجد حلاوة الإيمان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان
1 - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
- وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله
٣ - وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار
ولقد
سمع الناس كثيرا عن عاطفة الحب الإلهى عند السيدة رابعة العدوية رضى الله عنها وسمعوا عن حب الإمام ابن الفارض والإمام
البرعى
ونحب أن نضع بجوار هؤلاء شخصية الإمام الشبلي !
وإذا كان الجم الغفير من الشعب الإسلامي قد أخذ فكرة عن الحب عند بعض الصوفية فإنه لم تتح له الفرصة لأخذ فكرة مستفيضة عن
A
الحب عند الشبلى ولكن المؤرخين لحياة أبي بكر الشبلي يتحدثون عن حبه العميق وهيامه المستمر ومنهم مثلاً صاحب الحلية الذي يقول عنه ومنهم المجتذب الولهان والمستلب السكران الوارد العطشان اجتذب عن الكدور والأغيار واستلب إلى الحضور والأنوار وسقى بالدنان وارتهن ممتلأ ريان أبو بكر الشهير بالشبلي
وسيرى القارئ أن أسباب المحبة عنده وأن ثمارها وأن تعريفها وكل ما يحيط بها منغمس في جو من الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشعار من التزام الشريعة الغراء !
وسلم
وهكذا يتخذ الصوفية الشريعة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه
أساسا لكل تصرفاتهم
أما عن أسبابها فإنها فيها يرى الشبلى نتيجة الهمة والهمة عند
الصوفية هي التشمير والجد في العبادة
ويقول الشبلي
إن من ملت همته ضعفت محبته
فمع الهمة إذن صعودا وهبوطا تكون المحبة صعودا وهبوطا
ولقد جلس عنده جمع من المريدين فوجدهم غفلة لا يذكرون فقال
في حزن
۸۱
كفى حزنا بالواله الصب أن يرى - منازل من يهوى معطلة قفرا
وسئل مرة عن أعجب شيء فقال
من عرف الله ثم عصاه
ولايسر المحب شيء أكثر من موافقة من يحب
قال أبو القاسم عبد الله بن على البصرى قال رجل للشبلي
إلى ماذا تستريح قلوب المشتاقين قال
إلى سرور من اشتاقوا إليه وموافقته وأنشد أسر بمهلكي فيه لأنى أسر بما يسر الألف جدا ولو سئلت عظامي عن بلاها لأنكرت البلى وسمعت جحدا ولو أخرجت من سقمى لنادى لهيب الشوق بي يسأله ردا ولابد للمحب من الأدب الكامل فى القول فضلا عن السلوك
ويقول الشبلي
الانبساط مع الحق بالقول ترك أدب !
والمحبة رق للمحبوب وإذا سألت عن الفرق بين رق العبودية ورق
بن عمران قال
المحبة فإن أحمد محمد بن
سمعت الشبلي – وسئل
- فقيل ما الفرق بين رق العبودية ورق
۸
المحبة فقال كم بين عبد إذا أعتق صار حرا وعبد كلما أعتق ازداد رقًا
ثم أنشأ يقول
لتحشرن عظامي بعد إذ بليت يوم الحساب وفيها حبكم علق
وقد يسأل إنسان عن تعريف المحبة عند الشبلي ما هي
إنه يقول
المحبة إتباع أوامر المحبوب وتجنب نواهيه ومع ذلك فيجب الصدق والإخلاص وكتمان الحال مع بذل الجهد في المجاهدة ثم بعد ذلك
لا توصل للمحبوب إلا بفضله
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا
ويقول محمد بن
أحمد يعقوب الوراق سمعت الشبلي
بن
وسئل عن المحبة فقال المحبة الفراغ للحبيب وترك الاعتراض على
الرقيب
ويقول الشبلي أيضاً
المحبة كأس لها وهج إن استقرت في الحواس قتلت وإن سكنت في النفوس أسكرت فهى سكر فى الظاهر ومحبة في الباطن
۳ کواکب
ولقد سئل الشبلي هلى تظهر صحة الوجد على الواجدين
فقال نوراً مقارناً لنيران الاشتياق فيلوح على الهيكل آثارها أما الأنس فإنه - كما يقول الشبلى وحشتك في جميع ما يقطعك عنه
واستغراقك فيه
[٣٣ كواكب]
ويتحدث الشبلى بكلمة عن المحبة الكاملة فيقول في عمق عميق المحبة الكاملة أن تحبه من قبله
وكما كان الشبلي يعبر عن حبه وهيامه بذكره وتهجده وقيامه وصيامه فإنه كان يعبر عن ذلك بقوله وأكثر تعبيراته بالقول إنما كان بالشعر سواء من نظمه هو أم نظم غيره
أكان
والآن نسوق مجموعة من تعبيراته بالشعر دون أن نلتزم فيها ترتيباً معيناً وتأسف إذا لم يصلنا كل ما قال في ذلك
يقول أبو الفرج محمد بن عبيد الشاعر المعروف بالبارد
سمعت الشبلي ينشد
ليس تخلو جوارحي منك وقتاً هي مشغولة يحمل هواك
علم الله ذا
سوى ذكراك
ليس يجرى على لساني شيء وتمثلت حيث كنت بعيني فهي إن غبت أو حضرت تراك
٨٤
تاريخ بغداد ص
۳۹۱ - ۳۹۰
ΛΟ
ويقول عبد الله بن موسى السلامی سمعت الشبلى يقول
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني وكدت بلا وجد أموت من الهوى وهام على القلب بالخفقان فلما أرانى الوجد أنك حاضرى شهدتك موجوداً بكل مكان فخاطبت موجوداً بكل تكلم ولاحظت معلوما بغير عيان
وحج فلما رأى الكعبة أغمى عليه ثم أنشد
هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الأماق
وقيل
له ما بال الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه فقال رب ورقاء هنوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفاً ودهرا صالحا فبكت حزناً وهاجت حزنى فيکائي ربما أرقها وبكاها ربما أرقنى ولقد تشكو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهى أيضا بالجوى تعرفني
وحكى الخطيب في تاريخه قال أبو الحسن التميمي
دخلت على أبي بكر فى داره يوما وهو يهيج ويقول
من
عادته القرب
على بعدك لا يصبر ولا يقوى على هجر ك من تيمه الحب فإن لم ترك العين فقد يبصرك القلب
٨٦
وذكر الخطيب أيضًا في ترجمة أبي سعيد إسماعيل بن على الواعظ أن
أبا سعيد قال
أنشدنا طاهر الخثعمي قال أنشدني الشبلي لنفسه
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى دمعان في الأجفان يزدحمان ما أنصفتنى الحادثات رمينني لمودعين وليس لي قليان
ص ٤٠ الوفيات
وأخبر أبو بكر أحمد بن على بن يزداد القارئ قال سمعت زيد بن رفاعة الهاشمي قال سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم
الجمعة والناس حوله
يقول خليلي كيف صبرك عنهم فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف بقلبي هوى أذكى من النار حره وأصلى من التقوى وأمضى من السيف
وأنشد أبو بكر الرازي ما أنشده الشمل
وإني وإياه لفى الحب صادق نموت بما نهوى جميعا ولا نبدى
وقد جاء رجل إلى الشبلى فقال كم تملك نفسك بهذه الدعاوى ولا
تدعها فأنشأ يقول متمثلاً
إنى وإن كنت قد أسأت
بي اليو
م لراج للعطف منك غدا
أستدفع الوقت بالرجاء وإن لم أر منك ما أرتجي أبدا أغرر نفسي بكم وأخدعها نفسی ترى الغي فيكم رشدا
وكان عبد الله بن محمد الدمشقى يقول كنت واقفا على حلقة الشبلي في جامع المدينة فوقف سائل على حلقته وجعل يقول
يا الله ياجواد فتأوه الشبلي وصاح فقال
كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود ومخلوق يقول في شكله تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامله متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تراه
إذا ما جئته
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله هو البحر من أى النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ثم يكي وقال بلى يا جودا فإنك أوجدت تلك الجوارح وبسطت تلك الهمم ثم مننت - بعد ذلك - على أقوام بعز الاستغناء عنهم وعما في أيديهم بك فإنك الجواد كل الجواد لأنهم يعطون عن محدود وعطاؤك لا حد له ولا صفة فيا جواد يعلو كل جواد و به جاد كل من جاد [٣٤١ السلمي]
وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد وكنت يوما في حلقته فسمعته يقول الحق يفنى بما به يُبقى ويُبقى بما به يفنى
ايفنى بما فيه بقاء ويبقى بما فيه فناء فإذا أفنى عبداً عن إياه أوصله
به وأشرفه على أسراره وبكى وأنشد
لها - في طرفها - لحظات سحر تميت بها وتحيى من تريد وتسبى العالمين بمقلتيها كأن العالمين لها عبيد ألاحظها فتعلم ما بقلبي وألحظها فتعلم ما أريد
وبعد فلقد تقرب الشبلى إلى الله تعالى - كما تقرب أئمة الصوفية - بأداء الفرائض وطرق باب المحبة - كما طرق بابها أئمة التصوف -
بالإكثار من النوافل
وهداه الله ووفقه - كما هداهم ووفقهم - إلى السير على صراط
الأولياء المحبة
ثمار
وانتهى الجهاد والمجاهدة بالشبلي - بتوفيق الله - إلى درجة من الصفاء أخذ يتحدث فيها عن أمور هي أثر لتجربته الشخصية وفي حديثه ما يدل على أنه وصل إلى التحقيق بتعريفه للتصوف من
قوله ونهايته توحیده
يقول محمد بن إبراهيم سمعت الشبلي يقول وقفت بعرفة فطالبت الوقت فما رأيت أحدًا له في التوحيد نفس ثم فقلت ياسيدى إن منعتهم إرادتك فيهم فلا تمنعهم مناهم منك !
رحمتهم
۸۸
وتحدث الشبلي عن سمات الطريق ومن ذلك ما يقوله أبو بكر أحمد
ابن يعقوب الوارف سمعت أبا بكر الشبلي يقول
صاحب الهمة لا يشتغل بشيء وصاحب الإرادة يشتغل بشيء !
وقال الهمة الله وما دونه ليس بهمة
قال وسمعته يقول
ما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مردود
إليكم محدث مصنوع
وكان يقول
طرح العادات وصول إلى الكرامات ومن حقق رقه لمولاها
استوحش مما سواه
وقال
من عرف الله لا يكون له غم
أما عن الوصول فقد سمع الشبلي وهو يقول
الأرواح
تلطفت فتعلقت عند لذعات الحقيقة فلم تر غير الحق
معبوداً يستحق العبادة فأيقنت أن المحدث لا يدرك القديم بصفات
معلولة فإذا صفاه الحق أوصله إليه !
فيكون الحق أوصله إليه - لا وصل هوا
ويقول عمر البناء المزوق البغدادى بمكة سمعت الشبلي يقول ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه كمن جذبته أنوار رحمته إلى
مغفرته !
ولا يسعنا في نهاية الحديث عن تصوف الشبلي إلا أن تذكر هذه
الكلمات التي تعتبر شعوراً لكل سالك تذوق ووجد
إنه يقول الفرح بالله أولى من الحزن بين يدي الله !
وكان رضي الله عنه يقول
قلوب أهل الحق طائرة إليه بأجنحة المعرفة ومستبشرة إليه بموالاة
المحبة له
الفصل الرابع
التصوف والشريعة
عند
الشبلي
التصوف والشريعة
والتصوف عند الشبلي - وعند غيره من الصوفية - لا يتأتى أن يقوم إلا على أساس من الشريعة وللصوفية عن ذلك ما لا يحصى من التعاليم
والنصائح والأوامر
وقد كتبنا في ذلك فصولاً مطولة في كتاب المنقذ من الضلال والشبلي يوجز ذلك في لمحات تبين منهجه وتوضح طريق الصوفية في ذلك
يقول المؤرخون عن الشبلي
وكان يبالغ في تعظيم الشرع المطهر
وكان إذا دخل شهر رمضان المبارك جد في الطاعات ويقول
۹
هذا شهر عظمه
ربي
فأنا أقوم بتعظيمه
وكان الشبلي يقول
كل صديق لا يكون له معجزة فهو كذاب
فلما دخل دار العلاج دخل الوزير عليه فقال
أين قولك
كل صديق بلا معجزة كذاب
فأين معجزتك أنت فقال
موافقة الله في أوامره ونواهيه
وهذه الكلمة موافقة الله فى أوامره ونواهيه هي شعار من شعارات
الصوفية يحرصون عليه كل الحرص
وكما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه
لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة !
فإن الشبلي يقول
لا تأمن على نفسك وإن مشيت على الماء حتى تخرج من دار الغرور
إلى دار الأمن !
وروى الحسين بن أحمد الصفار قال سئل الشبلي - وأنا حاضر - أى
شيء أعجب قال
قلب عرف ربه ثم عصاه
ولشدة تمسك الشبلي بالشريعة كان بعض الصالحين يراه في الرؤيا كما يروى السلمي - ولسانه يلهج بالتمسك بالشريعة ومن ذلك أن محمد بن الحسين بن الخشاب يقول
سمعت بعض أصحاب الشبلي يقول
رأيت الشبلي في المنام فقلت له
يا أبا بكر من أسعد أصحابك بصحبتك
فقال
أعظمهم لحرمات الله وألهجهم بذكر الله وأقومهم بحق الله وأسرعهم مبادرة في إرضاء الله وأعرفهم بنقصانه وأكثرهم تعظيما لما عظم الله من حرمة عباده
وسئل الشبلى عن كمال العقل وكمال المعرفة فقال إذا كنت قائماً بما أمرت تاركا لتكلف ما كفيت فأنت كامل العقل وإذا كنت بالله متعلقاً لا بأعمالك غير ناظر إلى سواه فأنت كامل
المعرفة !
ويقول محمد بن على بن حبيش
أُدخل الشبلى دار المرض ليعالج فدخل عليه على بن عيسى الوزير عائدًا فأقبل على الوزير فقال ما فعل ربك
فقال الوزير
في السماء يقضى ويمضى
فقال
سألتك
عن الرب الذى تعبده لا عن الرب الذى لا تعبده
الخليفة المقتدر - فقال على لبعض حاضريه ناظره
فقال الرجل
يا أبا بكر سمعتك تقول في صحتك
كل صديق بلا معجزة كذاب وأنت صديق فما معجزتك
قال
يريد
معجزتي أن تعرض خاطرى فى حال صحوى على خاطرى في حال
سکری فلا يخرجان عن موافقة الله تعالى !
الفضل است امس
متناثرات
من الحكم والمواعظ والطرائف
متناثرات
من الحكم والمواعظ والطرائف
يقول صاحب الكواكب
ومن كلامه وحكمه التى وشحها بألفاظه وأقلامه ونضد عقودها بإحكام أحكامه وملأ بجيوشها صدور مهامه قال
تعالى
لا يكمل فقير حتى تستوى حالاته سفرا وحضرا وغيبة ومشهدا والفقير في لغته هو الصوفى لأنه فى كل أوقاته وأحواله فقير إلى الله
وقال
وقفت بعرفة فطالبت الناس بما يجب من الحضور والإجلال فرأيت الغالب عليهم التقصير فرحمتهم وقلت
إلى إن منعتهم إرادتك فيهم فلا تمنعهم مناهم منك اهـ
ويقول أبو الحسن بن سمعون قال لى الشبلي
كنت باليمن وكان بباب دار الأمير رحبة عظيمة وفيها خلق كثير قيام
۹۸
ينظرون إلى منظرة - فإذا قد ظهر من المنظرة شخص أخرج يده كالمسلم
عليهم فسجدوا كلهم فلما كان بعد سنين كنت بالشام وإذا تلك اليد قد
اشترت
لحماً
بدرهم
وحملته فقلت له
أنت ذلك الرجل
قال نعم من رأى ذاك ورأى هذا يغتر بالدنيا
وقال
ألا شجا بحنين ! ألا رقة بأنين من قلب قريح حزين ! ألا شارب بكأس العارفين ! ألا غارق في بحار المحبين ألا هائم في ميدان العاشقين ألا منتبه من رقدة يا مسكين ستقدم فتعلم سيكشف لك الغطاء فتندم كيف بك وقد كشف الغطاء وتجلى الجليل لفصل القضاء يا مسكين لم تبكي وتضج
دع المعاصى فتستريح لم هذا الإبطاء ولم هذا الانتحاب قف في
الدياجي على الباب وكان يقول - في صورة رمزية -
إنما تصفر الشمس عند الغروب لأنها عزلت من مكان التمام فاصفرت الخوف المقام وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه فإنه يخاف المقام وإذا طلعت الشمس طلعت مضيئة منيرة كذلك المؤمن إذا خرج من قبره خرج ووجهه مشرق مضيء
وكان رضي الله عنه يقول
ما ظنك بشمس الشموس كلها فيها ظلمة
وقال
الوفاء الإخلاص فى النطق واستغراق السرائر بالصدق
ويقول
الحرية هي حرية القلب لا غير
وقال الإفلاس ياناس الاستئناس بالناس
وقال الزم الوحدة وامح اسمك من القوم والزم الجدار حتى تموت
وقال
أهل البلاء أهل الغفلة عن الله
وقال
صحية الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار
وقال
رفع الله العباد على قدر علو هممهم فلو أجرى على الأولياء ذرة
مما أجراه على الأنبياء ذابوا وتقطعوا
وقال
كل صديق ليس له كرامة فهو كذاب
وكان أبو بكر الدينوري خادم الشبلي يقول سمعت الشبلي يقول
قبل موته
على درهم واحد مظلمة ظلمته يوم ولايتي وقد تصدقت عن صاحبه
بألوف وما على قلبي أعظم منه
وكان إذا دخل عليه فقير يقول له
أعندك خبر أو عندك أثر ثم ينشد
يخبرنا علما بها أين تنزل أسائل عن ليلى فهل من مخبر
ثم يقول
وعزتك وجلالك ما غيرك في الدارين مخبر
وقال
مربی بهلول المجنون وهو خارج إلى المقابر ومعه قصبة جعلها فرسه وبيده مقرعة وهو يعدو فقلت إلى أين فقال
إلى العرض على الله فجلست حتى رجع وقد انكسرت القصبة
واحمرت عيناه من البكاء قلت له
۱۰۱
ببر
ما كان منك قال
وقفت بين يديه على أن يكتبنى من الخدام فلما عرفني طردنى
وجاءه نصراني فأسلم فقال
ما
سبب إسلامك
قال كنت حال النصرانية أكرم دين النصرانية فرزقت دين الإسلام
ركة إكرامى ذلك الدين فصاح الشبلي وقال
إذا كان من يكرم الدين الباطل يرزقه الله الدين الحق فمن يكرم الدين الحق لا يرزقه الله الرحمة والمغفرة
وقال
لو كان لى فى يوم القيامة أمر لسألت الله أن يملأ جهنم منى وحدى لئلا يبقى فيها متسع لغيرى لأفدى بعض أمة محمد فرأى في نومه الله
يقول
أما تستحى أن تقول ما قلت إن كنت تتكرم على خلقى بما يضرك فأنا خالق الكرم وأولى أن أتكرم عليهم بما لا يضرني
فقلت وعزتك قد بهت فلم أدر ما أقول
وجاءه رجل فقال أى الصبر أشد قال الصبر في الله
۱۰
الله قال لا قال فالصبر الله قال لا قال فالصبر
قال لا
روحه
مع
قال فأي شيء قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت
أنشد
أن تخرج ثم الصبر يجمل في المواطن كلها
إلا عليك فإنه لا يجمل
ولقد كان الشبلى كثيرًا ما يتمثل بهذين البيتين
نعم الجنان على العبيد جحيها والهجر لو سكن الجنان تحولت
والوصل لو سكن الجحيم تحولت
وكان يقول
السعير على العباد نعيمها
ليس للمريد فترة ولا للعارف علاقة ولا للمحب شكوى ولا للصادق دعوى ولا للخائف قرار ولا للخلق من الله فرار
وقال
ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه كمن جذبته أنوار رحمته إلى
مغفرته
اعيد تيم ملكة فيها
ويقول
العارف لا يكون بكلام غيره لافظا ولا للغير لاحظًا ولا يرى غير
الله حافظا
at the t
ورثي خارجا
من مسجد يوم عيد وهو يقول
إذا ما كنت لى عيدا فما أصنع بالعيد جرى حبك في قلبي كجرى الماء في العود وقيل له العيد قد أقبل والناس يتزينون وأنت هكذا !
فقال زينة الفقير الصوفى فقره وصبره على فقره وفى العيد أيضا يقول
قالوا أتى العيد ماذا أنت لابسه فقلت خلعـة ســاقـى حبـة جـرعــا فقر وصبر هما ثوبای تحتها قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا الدهر لي مأتم إن غبت ما أملى والعيد ماكنت لى مرأى ومستمعا
أجرى الملابس ما تلقى الحبيب به يوم التزاور في الشرب الذي خلعا
وقد
أحمد
سمع
بن
محمد
بن مقسم الشبلى يقول
نظرت فى ذل كل ذى ذل فزاد ذلى عليهم !
ونظرت فى عز كل ذى عز فزاد عزى عليهم !
فإذا عزهم ذل في عزى!
وتلا فى إثره ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعًا
وكان يقول
من اعتز يذى العز فذل العز له عز
51-8
وقال
أظلت علينا منك يوما غمامة أضاء لها برق وأبطا رشاشها فلا غيمها يجلو فيينس طامع ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها
وقال رجل للشبلي ادع الله لى فأنشأ يقول
مضى زمن والناس يستشفعون بي فهل لى إلى ليلى الغداة شفيع ! وكان ينشد في مجلسه
الغيب رطب ينادي يا غافلين الصبوح فقلت أهلاً وسهلاً ما دام في الجسم روح
ويقول
قيل لي مجنون ليلى فرضيت ثم
أنشد
قالوا جننت على ليلى فقلت لهم
الحب أيسره ما بالمجانين
ثم أنشد وقال
جننا على ليلى وجنت بغيرنا وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ثم
أنشد
ولو قلت طأفي النار بادرت نحوها سرورا لأنى قد خطرت ببالكا
ثم أنشد
سألبس للصبر ثوباً جميلاً وأدرج ليلى ليلا طويلا
10
وأصبر بالرغم لا بالرضا أعلل نفسي قليلا قليلا
ثم
أنشد وقال
قالوا تنقب وزر فقلت لهم أشهر ما كنت حين انتقب إن عرفونى وأثبتوا صفتى أصبحت درا والدر ينتهب
ولقد سئل الشبلي عن قول بعضهم
لا تغرنكم هذه القبور وهدوءها فكم من فرح مسرور وداع بالويل
والثبور!
فقالوا أيما هي القبور عندك قبور الأموات !
قال لا !! بل أنتم القبور كل واحد منكم مدفون فالمعرض عن الله داع بالويل والثبور والمقبل على الله الفرح المسرور
ثم أنشأ يقول
قبور الورى تحت التراب وللورى رجال لهم تحت الثياب قبور
فقلت له يا سيدى ونعد في الموتى فقال
يحبك قلبي ما حبيت فإن أمت يحبك عظم في التراب رميم وسأله سائل هل يتحقق العارف بما يبدو له فقال
كيف يتحقق بما لا يثبت !
وكيف يطمئن إلى مالا يظهر !
وكيف يأتس بما يخفى!
فهو الظاهر الباطن والباطن الظاهر ! ثم أنشأ يقول
فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها أمانى لم تصدق كلمحة بارق
وقال رجل للشبلي هل شاهده أحد بحقيقته فقال
الحقيقة بعيدة ولكن ظنون وأماني وحسبان وأنشد وكذبت طرفي فيك والطرف صادق وأسمعت أذنى منك ماليس تسمع ولم أسكن الأرض التي تسكنونها لكيلا يقولوا إنني بك مولع فلا كبدي تهدأ ولالك رحمة ولا عنك إقصاء ولا فيك مطمع
فإذا تراءى له تحقیق حال شوشه بالتلبيس والأشكال !
وكثيرا ما كان الشبلي ينشد
ودادكم هجر وحبكم قلى ووصلكم حرم وسلمكم حرب
وكان ينشد كثيرًا أيضًا
لما بدا طالعا غابت لهيبته شمس النهار ولم يطلع لنا قمر
۱۰۷
وقال أبو نظر الطوسي
سمعت الحصرى يقول سمعت الشبلي يقول
أعمى الله بصرا يرانى ولا يرى فى آثار القدرة فأنا أحد آثار القدرة وأحد شواهد العزة لقد ذللت حتى عزّ في ذلى كل ذل وعززت حتى ما تعزز أحد إلا بى أو بمن تعززت به وما افترقنا وكيف نفترق ولم
يجر علينا حال الجمع أبدا !
وقيل للشبلي متى يكون الشخص مريدا
قال
إذا استوت حالاته فى السفر والحضر والمشهد والمغيب !
۱۰۸
الفصل السادس
تقدير الشبلي
تقديره
لقد استفاض الكثيرون فى الثناء عليه خصوصاً أصحاب الطبقات
ومن ذلك ما يقوله صاحب الكواكب الدرية إنه يقول
إمام اشتهر شرفه وسمت فى جنان المعرفة غرفه وأضاء كوكب زهده وديانته ونما فرع ورعه وصيانته !
ويقول أيضاً صار أوحد وقته علما وحالاً
وقال العروسي في حاشية الرسالة القشيرية عن الشبلي فكان لا نظير له في مجاهداته ومعاملاته لربه وفى كياسته وحدقه وذكاء قريحته وتنبيهه على مكملات الرجوع إلى الحق باستحلال الخلق وإن تحقق الخلو من حقوقهم اتهاما للنفس بالذهول والتقصير
ويقول عنه الإمام الشعراني
صار أوحد أهل الوقت علما وحالاً وظرفا
ولقد مشى الشبلى يوما إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر
مجاهد بن
فدخل على أبي بكر فقام إليه أبو بكر فتحدث أصحاب ابن مجاهد
بحديثها وقالوا لأبي بكر أنت لم تقم لعلى بن عيسى الوزير وتقوم
للشبلي
فقال أبو بكر ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لى
يا أبا بكر إذا كان فى غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة فإذا جاءك فاكرمه ! - قال ابن مجاهد فلما كان بعد ذلك بثلاثين أو أكثر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي
يا أبا بكر أكرمك الله كما أكرمت رجلا من أهل الجنة فقلت
يا رسول الله ! بما استحق الشبلي هذا منك فقال
هذا رجل يصلى كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة
ويقرأ
ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم
فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب
العرش العظيم أفلا أكرم من يفعل هذا
ولقد ذكرنا أيضاً خلال ما كتبناء من فصول بعض ما أثنى به على
الشبلي
١١٠
تقديره
لقد استفاض الكثيرون في الثناء عليه خصوصاً أصحاب الطبقات ومن ذلك ما يقوله صاحب الكواكب الدرية إنه يقول إمام اشتهر شرفه وسمت فى جنان المعرفة غرفه وأضاء كوكب زهده وديانته ونما فرع ورعه وصيانته!
ويقول أيضاً صار أوحد وقته علا وحالاً
وقال العروسي في حاشية الرسالة القشيرية عن الشبلي فكان لا نظير له فى مجاهداته ومعاملاته لر به وفى كياسته وحذقه وذكاء قريحته وتنبيهه على مكملات الرجوع إلى الحق باستحلال الخلق وإن تحقق الخلو من حقوقهم اتهاما للنفس بالذهول والتقصير
ويقول عنه الإمام الشعراني
صار أوحد أهل الوقت علما وحالاً وظرفا
ولقد مشى الشبلى يوما إلى أن جاء إلى مسجد أبي بكر بن مجاهد فدخل على أبي بكر فقام إليه أبو بكر فتحدث أصحاب ابن مجاهد
بحديثها وقالوا لأبى بكر أنت لم تقم لعلى بن عيسى الوزير وتقوم
للشبلي
فقال أبو بكر ألا أقوم لمن يعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لى
يا أبا بكر إذا كان فى غد فسيدخل عليك رجل من أهل الجنة فإذا جاءك فاكرمه - قال ابن مجاهد فلما كان بعد ذلك بثلاثين أو أكثر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لى
يا أبا بكر أكرمك الله كما أكرمت رجلا من أهل الجنة فقلت يا رسول الله ! بما استحق الشبلي هذا منك فقال
هذا رجل يصلى كل يوم خمس صلوات يذكرني في إثر كل صلاة
ويقرأ
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم
فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب
العرش العظيم أفلا أكرم من يفعل هذا
ولقد ذكرنا أيضاً خلال ما كتبناه من فصول بعض ما أثنى به على
الشبلي
ويقول صاحب الكامل في التاريخ
أحد مشايخ الصوفية الكبار ولى خاله إمرة الإسكندرية وولى أبوه حجابة الحجاب وولى هو حجابة الموفق ولى العهد
وسبب توبته أنه حضر مجلس خير النساج فسمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره
وصحب الجنيد ومن في عصره وصار أحد مشايخ الوقت حالا وقالاً بيد الله اول
السلالي
صاحب النيل قال وحد الشكل بيوم المجسمة ألف
الحجة
۱۱
314
قبال رفاند علی چندانی
ه إلى الو
ترتان با رجل أن من الرضاعة فعالم
يكون لي مع هذا الشيخ عبأن تم حطينا وصل
كان الليل مات
صالح يحمل التولى قال فدلوني سلام عليكم علي
a
مات
کے بو قام في الفيل امي
الفصل السابع
ريغول مهم وفاته
آن
دخل القوم على الشبل في
يا لها بكرا فانتا
يقول
على
ي أقيل
مقتل
يتهيأ أن يقال لرجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء عند نزوع
روحه وأمسك لسانه وعرق جبينه
وفي ليلة وفاته أخذ الشبلي يذكر تارة وتارة يردد هذين البيتين
كل بيت أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا يوم تأتى الناس بالحجج
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه خير ما يجزى الصالحين
١١٦
خاتمة
حينما تحدثنا عن حياة الشبلي تحدثنا عن علمه والجهد الكبير الذي بذله في سبيل تحصيل العلم حتى لقد قال عنه صاحب الشذرات
كان الشبلى فقيهاً عالماً كتب الحديث الكثير
ويقول هو عن نفسه
كتبت الحديث عشرين سنة وجالست الفقهاء عشرين سنة ووصل الأمر بالشبلى إلى أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها ويلتف
فيها من حوله العلماء والفقهاء
وموضوع العلم عند الصوفية أمر يهمله كثير من الكاتبين ربما كان السر في ذلك أن الأمر أظهر من أن يعقد له الإنسان فصلا أو يؤلف فيه كتاباً ولكن النتيجة لذلك كانت أن بعض الناس ظن أن الصوفية ليست لهم صلة وثيقة بالعلم وتمثلوا الأمر على غرار ما يرونه الآن من بعض من
ينتسبون إلى التصوف زوراً وليس لهم نصيب من العلم
ونحن إذا كنا قد كتبنا من قبل عن وجوب تفقه الصوفية مخصوصاً من يحتل منهم مركز الإرشاد - فى العلم - فإننا الآن أيضاً نطالب بهذا ونحن
نكتب عن عالم من كبار العلماء
وما من شك فى أنه لا يتأتى أن يكون الإنسان صوفي ما لم يأخذ من العلم نصيباً يمكنه من تصحيح دينه عقيدة وعبادة وسلوكًا
أما كبار الصوفية فهم كبار العلماء
ونحب أن نذكر من ذلك أمثلة لما يمارون في انتساب الصوفية للعلم
وتعمقهم فيه وقبل أن نبدأ في ذكر هذه النماذج تقول
إن جميع من ذكرهم صاحب حلية الأولياء من الصوفية في كتابه البالغ أكثر من أربعة آلاف صحيفة كلهم من العلماء وما ذكره صاحب كتاب الكواكب الدرية من الصوفية الذين يعدون بالمئات كلهم من العلماء
أي
والواقع أن العلم فى الدائرة الصوفية هو العلم بمعناه الإسلامي العلم بالطبيعة والعلم بما وراء الطبيعة إنه العلم بالأخلاق وبالفضيلة وهو العلم بالنواميس الإلهية السارية فى الكون التي يكتشفها علم التشريح أو
علم الطبيعة أو علم الفلك أو غير ذلك
وإذا كانت الحقيقة تسفر عن قناعها بالأمثلة فإنا نبدأ بمن قال عنه
القشيري
سيد هذه الطائفة وإمامهم
۱۱۸
إنه الجنيد
لقد كان فقيهاً يفتى فى حلقة أستاذه وبحضرته وهو ابن عشرين سنة وتأمل ما قاله القدماء عن درسه
لقد كان الكتبة الأدباء يحضرون مجلسه لألفاظه
وكان الفقهاء يحضرون مجلسه لتقريره
والفلاسفة يحضرون مجلسه لدقة نظره ومعانيه
أما المتكلمون فكانوا يحضرون مجلسه لتحقيقه
وكان الصوفية من قبل هؤلاء ومن بعدهم يحضرون مجلسه لإشارته
وحقائقه
ولقد حضر أبو الحسين على بن إبراهيم الحداد يوما مجلس القاضي أبي العباس بن شريح فسمعه يتكلم فى الفروع والأصول أى في علم الفقه وفي علم التوحيد بكلام حسن
هذا
ويقول أبو الحسن فعجبت منه فلما رأى إعجابي قال أتدري من أين
قلت يقول به القاضي
فقال هذا بير بركة مجالسة أبي القاسم الجنيد أما علم الجنيد نفسه فقد جاهد في سبيل تحصيله السنين الطوال عن
طريق الدرس والتحصيل وكان هذا الطريق الجانب الكسبى من
علمه
۱۱۹
أما الجانب الوهبي فإنه سئل من أين استفدت هذا العلم فقال من
جلوسي بين يدى الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة
وأوماً إلى درجة في داره
وقد حفظ الجنيد القرآن وفهمه ودرسه وتدبره وقيد الحديث واستوعبه قدر الاستطاعة لفظاً ومعنى رواية ودراية وذلك أنه يرى - كما يرى غيره من الصوفية - أن ذلك هو الأساس ولابد من إحكام
الأساس
وإحكام هذا الأساس يجعل من أحكمه فقيهاً ويجعله محدثاً ويجعله مفسراً ويجعله من علماء التوحيد
ولقد أحكم الجنيد هذا الأساس قدر الاستطاعة أحكمه تعبداً وأحكمه استنارة وأحكمه لأنه صوفي وقال فيها رواه
القشيري
من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به فى هذا الشأن لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
ولقد كرر الجنيد رضى الله عنه هذا المعنى حتى يثبت في أذهان الصوفية يروى الروذبارى عن الجنيد أنه قال
مذهبنا مقيد بأصول الكتاب والسنة
۱۰
ويروى القشيرى أيضاً عن الجنيد أنه قال
علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفى أن يتصفح الإنسان رسائل الجنيد رضى الله عنه ليشعر أنه
إمام عالم من أئمة علماء المسلمين
والجنيد رضى الله عنه مثال للصوفى على ما ينبغي أن يكون ولم يكن الجنيد بدعا في عالم الصوفية فأستاذه الحارث بن أسد المحاسبي لم يكن في زمانه نظير له في علمه
ومؤلفاته كثيرة متنوعة وكلها فى مستوى سام حتى لقد كانت من
المصادر الرئيسية التي أفادت الإمام الغزالي وأثرت فيه
وكتاب الرعاية للمحاسبى كتاب أديب عالم حجة وكتابه فهم القرآن - بحسب ما وصلنا منه من نصوص - كتاب الباحث الدقيق الذي يتخذ القرآن والسنة أساساً وينطلق منها إلى إضاءة جو العقائد ردا على المبتدعة والمنحرفين
ولقد حاول ذو النون المصرى من قبل الجنيد أن يكتشف من معميات الكون ماخفى على الكثيرين
لقد كانت له جولات فى عالم الكيمياء وأسرار الطبيعة ولقد حاول أن يكتشف أسرار علم قدماء المصريين وأن يقرأ كتابتهم ويتفهم لغتهم لقد كان يحب اكتناه الغامض ويحاول أن يزيل القناع عن المحجوب فضلا
۱۱
عن شعاره الدائم وهو القرآن الكريم وسنة رسول رب العالمين وهل أتاك نبأ الإمام القشيرى وأنه فسر القرآن كما يفسره هذا وذاك من علماء اللغة وعلماء أسباب النزول وعلماء النحو والبلاغة ولم يكن من أي منهم في علمهم وفنهم
أقل من
وأنه لم يكتف بذلك وإنما ألف في تفسير القرآن لطائف الإشارات فكان إلهاما من الإلهامات وكان نورا من الأنوار ولم يذكر فيه كل الإشارات وإنما ذكر لطائفها
ولقد خاض الإمام الغزالى بحار العلم وانغمس فيها ويعبر عن ذلك
بقوله
ولم أزل في عنفوان شبابي- منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين - اقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور أتوغل في كل مظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأقتحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته
ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته الله ما تسمي المرات کا ہے ما منك عقا ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته
ولا متكلما إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجالسته
ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته
ولا زنديقا معطلاً إلا وأتحسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله
وزندقته
وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدنى من أول أمرى وريعان عمرى غريزة وفطرة من الله وضعنا في جبلتي لا باختياري وحيلتي حتى انحلت عنى رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد من الصبا اهـ
أما الذي طوع مختلف العلوم وامتلك ناصية المعرفة على مختلف فروعها ووصل فيها على القمة لم يجاره فى ذلك فيلسوف من فلاسفة الشرق ولم يجاره فى ذلك فيلسوف من فلاسفة الغرب فإنه
الشيخ الأكبر سيدنا محيى الدين
لقد طوع المعرفة لفكره وطوعها لقلمه وبلغ فيها القمة وبحق سمى الشيخ الأكبر ولقد كان فى فتوحاته مفسرا خيرًا من كثير من ! المفسرين وفقيها خيرًا من كثير من الفقهاء وشارحا للحديث خيرا من كثير من شراحه وفتوحاته كنز من المعرفة لا ينفد ومعين من العلم لا ينضب إنه رشفة من بحار رسول الله صلى الله عليه وسلم تتسم دائما بنضرة منبعها
والصوفية في الجانب العلمى لا يكتفون بالجانب الكسبي أى جانب التعليم من الكتب وعلى أساتذة الكتب ولكنهم قرأوا في كتاب الله تعالى وعلمناه من لدنا علما
فتعلقت آمالهم بهذا العلم الآتى مباشرة من الله وتطلعت أمانيهم إلى
هذا العلم الذى هو من عند الله واتخذوا الطريق إليه
والطريق إليه رسمه الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز وعلى لسان رسوله الكريم إنه الجهاد في سبيل الله
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وهو العمل بما علموا
من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم
وهو تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى ومن حقق العبودية لله كان الله
سمعه وبصره
كنت سمعه الذي يسمح به وبصره الذي يبصر به وشعار الصوفية على وجه العموم فيما يتعلق بالعلم هو شعار أستاذهم وقدوتهم وحبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان شعاره رب زدنی علما
وإذا كان أهل الظاهر قد فرحوا بعلمهم الظاهر واكتفوا به فإن
الصوفية قد حصلوا هذا العلم ولكنهم لم يكتفوا به لقد شاركوا علماء الظاهر في علمهم ولكن علماء الظاهر لم يشاركوهم إلهاماتهم وإشراقاتهم هل تذكر في هذا المجال الإمام الغزالى فى علمه الظاهر وفي علمه
الباطن
هل تذكر القطب الكبير أبا الحسن الشاذلى أو القطب الكبير أحمد الرفاعي أو القطب الكبير عبد القادر الجيلاني في علمهم الظاهر وفى علمهم الباطن
والشعراني الذي ساهم تقريباً في جميع فروع المعرفة الدينية أننساه في هذا المجال إن التصوف والعلم يؤلفان وحدة متحدة منذ أن نشأ التصوف
وفى ختام هذا الموضوع ننقل قول صاحب اللمع
ثم إن طبقات الصوفية أيضًا اتفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم وقبلوا علومهم ولم يخالفوهم في معانيهم ورسومهم إذا كان ذلك مجانباً للبدع واتباع الهوى ومنوطاً بالأسوة والاقتداء وشاركوهم بالقبول والموافقة في جميع علومهم ومن لم يبلغ من الصوفية مراتب الفقهاء وأصحاب الحديث في الدراية والفهم ولم يحط بما أحاطوا به علماً فإنهم راجعون إليهم في الوقت الذي يشكل عليهم حكم من الأحكام الشرعية أوحد الأحكام الشرعية أوحد من حدود الدين فإذا اجتمعوا فهم في جملتهم فيما اجتمعوا عليه فإذا اختلفوا فاستحباب
١٢٥
الصوفية في مذهبهم الأخذ بالأحسن والأولى والأتم احتياطاً للدين وتعظيماً لما أمر الله به عباده واجتناباً لما نهاهم الله عنه
وليس من مذهبهم النزول على الرخص وطلب التأويلات والميل إلى الترفه والسعات وركوب الشبهات لأن ذلك تهاون بالدين وتخلف عن الاحتياط وإنما مذهبهم التمسك بالأولى والأتم في أمر الدين فهذا الذي عرفنا من مذاهب الصوفية ورسومهم في استعمال العلوم الظاهرة المبذولة والمتداولة بين طبقات الفقهاء وأصحاب الحديث
ثم إنهم من بعد ذلك ارتقوا إلى درجات عالية وتعلقوا بأحوال شريفة ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة ولهم في معانى ذلك تخصيص لغيرهم من العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث
١٢٦
فهرس الكتاب
الصفحة
من دعاء الشبلي
مقدمة
الفصل الأول حياته
الفصل الثاني الشبلى وتعريف بالتصوف الفصل الثالث الطريق الصوفى عند الشبلى الفصل الرابع التصوف والشريعة عند الشبلى
۹۱
الفصل الخامس متناثرات من الحكم والمواعظ والطرائف ٩٧
الفصل السادس تقدير الشبلي الفصل السابع وفاته
خاتمة
۱۰۹
AL-MITAFAEEM