الدكتور عبد الحليم محمود
التفكير الفلسفي في الإسلام
اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونسألك الرعاية والتوفيق
أما بعد فهذا كتاب يهدف إلى تأريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام في المشرق إلى نهاية عهد الغزالى حجة الإسلام رضوان الله عليه
والتفكير الإسلامي متشعب الجوانب مترامى الأطراف ولا يمكن لشخص ما أن يلم به في جميع مناحيه وبيئاته ولذلك حددنا بحثنا بالتفكير الفلسفي على أن التفكير الفلسفى نفسه ضخم هائل ودراسته تحتاج إلى أن نبدأ به منذ نشأته بل إن نشأته نفسها تحتاج إلى دراسة الجو الذي نشأ فيه
سندرس إن شاء الله هذا الجو
و سندرس أيضًا القرآن من حيث القضايا الدينية المتصلة بموضوع الفلسفة التي أتى بها واستدل
عليها
والقرآن وإن كان كتاباً مقدسا ووحيًا من السماء وليس ثمرة من ثمار التفكير البشرى فإنه الأساس الأول الذي مهد لما جدّ بعد ذلك من مذاهب وآراء
وسنسير مع
التفكير الإسلامى سيرًا زمنيا فندرس النزعات الأولى والآراء التي تكاد تكون فردية والفرق التي لم تتصل كثيرًا بالجدل النظرى حتى نصل إلى الكندي و الفارابي و ه ابن سینا فندرسهم بعد دراسة المرحلة الترجمة الأولى فى الإسلام في العهد العباسي على
الخصوص
وسندرس الغزالى وأثره في تهافت الفلسفة والفلاسفة ونختتم الكتاب بدراسة حجة الإسلام فتكون دراسته أشبه بخاتمة الكتاب
وقد سبق أن درسنا هذه الموضوعات ودرسناها وكتبنا عن بعضها في إيجاز أحيانًا وفى استفاضة أحيانا أخرى وإنا لنرجو من الله تعالى - في كل ما نأتى وما ندع - الهداية والتوفيق
ولقد توهم بعض الكتاب أن التفكير الإسلامي أخذ يتدرج وينمو شيئًا فشيئًا على مر الزمن حتى أصبح ناضجاً عميقاً وحاولوا - في شيء من التعسف - أن يقدروا تيار التفكير الإسلامي على هذا الأساس ويتحدثوا عنه طفلا فشابا فرجلا
ولكن التفكير الإسلامي بدأ - فى قوة جارفة - بالقرآن - كلام الله تعالى - فاتخذ منه أساسا واتخذ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة وهاديًا
وإذا ما تركنا القرآن ومحمدًا ل جانبا لأنهما أمران إلهيان فإنا نرى في بدء الإسلام الأفذاذ في مختلف النواحى كخالد بن الوليد في رسم الخطة الحربية وتنفيذها وذلك فن
وعبقرية
و عمر بن الخطاب في الإدارة والسياسة والتشريع وإنه ليندر أن تجد من يماثلها على مر العصور وإذا ضربنا المثل بالتشريع فإننا نجد تيارين يسيران متجاورين من أهل الرأى وأهل الحديث فقد كان هؤلاء وهؤلاء يسيرون جنبا إلى جنب منذ أن بدأت الدولة الإسلامية ولا يزالون كذلك إلى الآن كان هناك ربيعة الرأى و ابن المسيب والأول يمثل مدرسة الرأي والثاني يمثل شرحبيل
مدرسة الحديث
وكان هناك إبراهيم النخعي وبجواره في الكوفة نفسها محدث الكوفه
الشعبي
ثم كان أبو حنيفة يمثل مدرسة الرأى و مالك يمثل مدرسة الحديث وإذا نظرنا إلى التيار الفلسفي فإننا نجد المشبهة يسيرون جنبا الجنب مع المعتزلة ومع ه الكندي و الفارابي وه ابن سينا ونجده ابن ماجه و ابن الطفيل متأخرين في النشأة عن الفارابي و ابن سينا ولم يبلغا شأوهما
والأشاعرة كانت نشأتهم بعد المعتزلة ومدرسة و ابن تيمية أنت بعد مدرسة الأشعرى فهل كان المعتزلة أقل عمقًا وأقل نضجاً من الأشاعرة وهل كان الأشاعرة أقل تفكيرا من مدرسة ابن تيمية
ثم ما هذا الجنين الذي نشأ وترعرع وشب وانتهى إلى مقدمة ابن خلدون الواقع أن التفكير الإسلامي كان بين مد وجزر وخمول ونشاط وضعف وقوة و سندرسه على هذا الأساس إن شاء الله تعالى
وسيرى القراء أننا نبدى رأينا فى المسائل والآراء ونحكم عليها وليس هذا مسلك جميع المؤرخين فالشهرستانى مثلا يقول فى كتابه الملل والنحل
وشرطى على نفسى أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم ولا كسر عليهم دون أن أبين صحيحه من فاسده وأعين حقه من باطله وإن كان لا يخفى على الأفهام في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفحات الباطل وبالله التوفيق بيد أن الشهرستاني لم يلتزم هذه الخطة ونقضها بعد صفحات تعد على الأصابع
فيقول
فالمعتزلة مشبهة الأفعال
والمشبهة حلولية الصفات
وكل واحد منهم أعور بأى عينيه شاء
فإن من قال إنما يحسن منه ما يحسن منا ويقبح منه ما يقبح منا فقد شبه الخالق بالخلق ومن قال يوصف البارى تعالى بما يوصف به الخلق أو يوصف الخلق بما يوصف به البارى تعالى فقد اعتزل عن الحق
وشبه النبي لالالالالال مع كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال ه القدرية مجوس هذه الأمة 1 وقال المشبهة يهود هذه الأمة والروافض نصاراها لم ير الشهرستاني أن الواجب يحتم عليه بيان قيمة هذين الحديثين من ناحية الوضع أو الضعف ذلك أن هذين الحديثين يصوران رأى و الشهرستانی نفسه
"
۱ القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم أخرجه أبو داود والحاكم في
المستدرك ورمر له السيوطى بقوله حديث صحيح
٢ أخرجه الإمام أحمد في مسنده
Λ
ويرى بعض الذين ينتسبون للناحية العلمية بالمعنى الحديث أنه لا يجوز للإنسان أن يحكم على المسائل والآراء بالحسن أو القبح أو بالخير أو الشر لأن ذلك لا مقياس له ولكني لم أتابع الشهرستاني فى حيدته المزعومة فهو نفسه لم يتبعها ولم أجار النزعة العلمية الحديثة لأننى لا أعرف كيف يكتب مؤمن في مسائل الإيمان دون أن يبدي رأيه وأريد أن أعلنها صريحة واضحة إنني أكتب فى هذا الموضوع وأنا مسلم معتز بإسلامي وإذا لم يجد أرباب النزعة العلمية الحديثة مقياسًا للحكم فسأتخذ أنا الإسلام مقياسا للحكم على الآراء
والإسلام يوجب عرض الآراء فى دقة سواء أكانت مؤيدة له أم معارضة وقد ضرب لنا القرآن في ذلك خير الأمثال حينما تحدث إلينا عن اعتراضات المشركين على الرسالة المحمدية والإمام الغزالى يوجب عرض آراء المعارضين أحسن عرض وتصويرها أحسن تصوير إنه يوجب عرضها وتصويرها كما يعرضها ويصورها زعماء المذهب أنفسهم ثم بعد ذلك يأتي دور النقد والتمحيص
على هذا النمط سنسير إن شاء الله تعالى
وقد جرينا على أن علم الكلام جزء من التفكير الفلسفى فى الإسلام وجارينا في هذا الكثيرين من مؤرخى الفلسفة الإسلامية أمثال رينان والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ
مصطفى عبد الرازق
يقول رينان إن الحركة الفلسفية الحقيقية في الإسلام ينبغي أن تلتمس في مذاهب
المتكلمين ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق و أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملا - كما بينه الأستاذ و هرتن – لما يسمى فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام
وقد اشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضًا من شعب هذه الفلسفة خصوصا في العهد الأخير الذى عنى فيه المستشرقون بدراسة التصوف تمهيد ص ٢٦ - ٢٧ بل إن الشيخ مصطفى عبد الرازق يعد أصول الفقه من الفلسفة الإسلامية
۹
وسنبدي رأينا - إن شاء الله - فى التصوف وأصول الفقه هل هما من الفلسفة أم لا عندما
نتحدث عن التيار الفلسفى البحث فيما يلى إن شاء الله تعالى
ولقد شاع بين كثير من الناس أن الفلسفة موضوع غامض مبهم ولعل من الأسباب التي روجت هذه الإشاعة
1 - أن بعض الفلاسفة كان يتعمد الغموض والإبهام حتى لقد قال هرقليطس عن
نفسه
إنه لا يفصح عن الفكر ولا يخفيه ولكنه يشير إليه
و ابن سينا يسمى أحد كتبه الإشارات والتنبيهات
ثم إن الفلاسفة لم تكن عنايتهم باللغة والأدب كعناية الأدباء وكان من الطبيعي أن تكون سلاسة الأسلوب وفصاحة التعبير عند بعضهم أقل منها عند الأدباء ومما لا شك فيه أن موضوع الفلسفة لا يمتاز بالسهولة والوضوح هذه الأسباب كلها
أو بعضها كانت سببا في انتشار تلك الإشاعة
وسوف لا أتعمد الغموض - إن شاء الله تعالى - وسأعمل - جهدى - ليكون الأسلوب سهلا والموضوع واضحاً وأرجو ألا يجد القارئ من ذلك إلا ما يسر ولكن هذا الأسلوب الذى أعمل جهدى فى أن يكون سهلا لا يعود الطلبة على الأساليب الفلسفية ولا مناص من سد هذا النقص
ولذلك اقتبست كثيرًا من النصوص الفلسفية على اختلاف أساليبها وجاريت في هذا المرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق فى كتابه تمهيد لتاريخ الفلسفة الذي نشر
صحفه
ه في صياغتها التعليمية التي تراعى حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة وإن لم يخفَّ ذلك على ذوق المطالعين جميعا
وكلمة أخيرة إن النزعة الغربية حاولت - منذ زمن بعيد - اتهام الشرقيين بأنهم بطبيعتهم أقل من الغربيين في جميع ميادين الحضارة وتأثر بهذه الفكرة بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية فكتبوا فى الفلسفة الإسلامية على أنها مجرد تقليد أو تلفيق أو ترجمة للفلسفة
اليونانية
ولعل من الخير أن ننصف دائماً - كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا - هذا الشرق المظلوم فنبين أصالة الفلسفة الإسلامية فيما لها فيه من أصالة وألا نحيف عليها في بعض ما تعتز به وبالله
الهداية والتوفيق
عبد الحليم محمود
بسم الله التحية الخير
1
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُه الله الصمد لم يلد ووَلَمْ يُولَدْ وَلَيَكُن لَهُ كُفُوا أَحَدٌ
۱ إنها سورة الإخلاص وهى تشتمل على أهم ركن من الأركان التي قامت عليها الرسالة
الإسلامية وأعنى به توحيد الله وتنزيهه
وقد ورد في الخبر أنها تعدل ثلث القرآن
لأن من عرف معناها حق المعرفة وأدرك ما أشارت إليه إدراك صاحب البصيرة المستنيرة لم يكن بقية ما جاء في التوحيد والتنزيه عنده إلا تفصيلا لما علم وشرحًا لما حصل
الفصل الأول
الجو الذي نشأ فيه الإسلام
١ - الحنفاء
۱ - وأسلمت
وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا ۱
دحاها
فلما
استوت
شدها
سواء
وأسلمت
وجهي
إذا
هی
أسلمت لمن سيقت إلى
بلدة
وأرسى له المزن تحمل أطاعت
عليها
الجبالا
عذبا
زلالا
قصبت عليها
سجالا
بهذه الأبيات كان يترنم زيد بن عمرو بن نفيل ثم يستقبل البيت ويقول لبيك حقا حقا تعبدا ورقًا البرَّ ۳ أرجو لا الخال ۳ وهل مهجر
قال ٥ ! ثم ينشد
٤
عذتُ
ما عاذ
يقول
أنفي لك
عان
به إبراهم راغم
مستقبل مها
الكعبة وهو
قائم
تجشمنی فإني
°
جاشم
ثم يسجد
كمن
كان زيد بن عمرو عربياً أصيلا فهو ابن عم سيدنا عمر بن الخطاب وهو أبو سعيد
۱ من مصادر هذا الفصل الأغانى جـ ٥٠٣ في الأدب الجاهلي للدكتور و طه حسين سيرة ابن هشام والروض الأنف تمهيد لتاريخ الفلسفة للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق فجر الإسلام للمرحوم الدكتور أحمد أمين
الملل والنحل للشهرستاني
البر الطاعة والخير
۳ الخال الخيلاء
٤ المهجر السائر في الهاجرة
0 قال أقام في القائلة
1 الأعانى الجزء الثالث ص ١٣٤
10
ابن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وكان أحد من اعتزل عبادة الأوثان وامتنع عن أكل ما ذبح باسمها وكثيرًا ما أنكر على قريش ذبحها على غير اسم الله قائلا يا معشر قريش أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه
وتذبحونها لغيره !
ولقد أثارت حالته هذه اهتمام بعض علماء الكلام من قديم الزمان وهم من أجل ذلك يذكرونه عند تعريفهم للنبي الله ويتساءلون أهو خارج عن التعريف أم داخل فيه
يقول و الجلال الدواني في تعريف النبي
ه هو إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ ما أوحاه إليه وعلى هذا لا يشمل من أوحى إليه ما يحتاج إليه لكماله فى نفسه من غير أن يكون مبعونًا إلى غيره كما قيل فى زيد بن عمرو بن نفيل اللهم إلا أن يتكلف ۷ ولعل من الأسباب التي وجهت بعض المتكلمين إلى ذكر زيد عند حديثهم عن النبوة ما روى عن سعيد بن زيد بن عمرو قال
سألت أنا وه عمر بن الخطاب رسول الله لعن و زيد فقال
يأتي
يوم القيامة أمة وحده وسواء أكان زيد نبيا أوحى إليه بما يكمل نفسه أم لم يكن نبيا فإنه كان من هؤلاء
الذين يتطلبون المعرفة الحقيقية ويسعون وراءها جاهدين كان يعتصر ذهنه ويشحذ شعوره أن يحل الغاز الكون ويكشف أسرار العالم ويجيب عن
يريد
من أين وإلى أين
ولكن يتلفت يمينا ويتلفت يسارًا فلا يجد نفسه إلا فى بيداء مظلمة وفي ضلال محيط
ويثور شعوره الديني فينشد - وكأنه
يصرخ أو يستغيث -
أربا واحدا أم ألف
رب أدين إذا
عزلت اللات والعزى جميعا كذلك
يفعل
تُقسمت الأمور المجلد
الصبور
۷ العقائد العضدية ص ٢
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صَنَمَى
أدين
وكان
بنی
عمرو
لنا في الدهر إذ حلمى
ولا هبلا ربا عجبت وفي الليالى معجبات وفى
A
أزور
بسير
الأيام
يعرفها
البصير
بأنَّ
الله
قد أفنى رجالا كثيرا
كان
شأنهم
الفجور
وأبقى
آخرین
بير
قوم
فيربو
الطفل
الصغير
وبينا
المرة
يفتر ثاب
يوما
كما
يتروح
الغصن
المطير
ولكن
أعمد
الرحمن ربی
ليغفر
ذنبی
الرب
الغفور
فتقوى
الله
ربكم
احفظوها
متی
ما تحفظوها لا تبوروا
تری
الأبرار
دارهم
جنان وللكفار
حامية
وخزى في الحياة وإن يموتوا
يلاقوا
ما تضيق
به
سعيرُ
الصدور
ولكن الهداية إلى الدين القويم لم تكن - إذ ذاك - سهلة هيئة
وإذا كانت الوثنية ضلالا فأين الهداية
وإذا ترك اللات والعزى وهبل فإلى أين يتجه
ويستولى عليه شعور ديني عميق ويغمره فيض من التطلع إلى المعرفة فلا يجد مفرا من الهجرة يستنبئ في أثنائها الطاعن والمقيم عله يجد من يرشده إلى سبيل الله القويم والقصة التالية توضح لنا - سواء أصحت أم لم تصح - الكثير من جوانب نفسه ومما كان
يشعر به نحو اليهودية والنصرانية حينئذ
وها هي ذى كما رواها صاحب الأغانى
إن زيد بن عمرو خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه فلقى عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال لعلى أدين بدينكم فأخبرني بدينكم
فقال اليهودى إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله فقال زيد بن عمرو لا أفر إلا من غضب الله وما أحمل من غضب الله شيئاً أبداً
وأنا أستطيع فهل تدلني على دين ليس فيه هذا
قال ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً
۸ عقلی و ادراکی
١٨
قال وما الحنيف
قال دين و إبراهيم
فخرج من عنده وتركه فأتى عالما من علماء النصارى فقال له نحوا مما قال لليهودى فقال له النصرانى إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله فقال إنى لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدا وأنا أستطيع فهل تدلني على دين ليس فيه
هذا
فقال له نحوا مما قال اليهودى لا أعلمه إلا أن يكون حنيفاً فخرج من عندهما وقد رضى بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم فلما برز رفع يديه
وقال
اللهم إنى على دين إبراهيم
استمر زيد يجاهد في سبيل الوصول إلى الله
كان يجاهد تارة بمنطقه وتفكيره وتارة بسؤاله كل من يصادفه من ذوى المعرفة الدينية كان يسأل الناس إذا أقام ويسأهم إذا ارتحل حتى انتهى فى النهاية إلى مذهب اطمأنت إليه
نفسه فخاطب قريشا قائلا
د يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيرى ويقول الدكتور طه حسين عن زيد
إنه كان رجلا رقيقاً ليناً مرهف الحس ذكى القلب نقي الطبع مستعدا للإيمان الصادق مبغضًا للقديم شديد النشاط للتجديد شك فى وثنية قومه ثم جحدها والخمس دينا صفوا وملة نقية وجعل ينكر على قريش ما كانت فيه فكانت قريش تسمع منه
وتعرض ولا تحفل بما كان يقول
ولكن الخطاب بن نفيل ثبت له ثم قاومه ثم جد فى فتنته حتى أشقاه ثم حبسه في مكة ثم أغرى به الشباب حتى اضطره إلى أن يستخفى وأن يحتال في الفرار من مكة ليلتمس ما كان يحب من دين عند اليهود والنصارى وقد فر زيد بدينه الجديد - أو باستعداده للدين الجديد - وجعل يلتمس ما يحب عند
اليهود مرة وعند النصارى مرة حتى استيأس من أولئك وهؤلاء ۹
۹ و عن مجلة الهلال سنة ۱۹۳۷ م
۱۹
كيف انتهى زيد إلى حقيقة مذهبه وماذا كان سبيله إلى الاطمئنان الروحي
وماذا كان يرى فى مشكلة المبدأ ومشكلة المصير ومشكلة الغاية عن كل ذلك يصمت
التاريخ
ولكن الذي لا شك فيه أن وراء الطبيعة
إلى منطق أو إلى إلهام فيما يتعلق بما
ولم يكن زيد الوحيد فى جزيرة العرب الذى بحث عن الله بل كان هناك كثير غيره
كان هناك
٢ - أمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور
وكان حسب ما يروى صاحب الأغانى
ه قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدا
وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وشك في الأوثان وكان محققاً والتمس الدين وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو وشعره حافل بذكر الرسل والأنبياء والجنة والنار والثواب والعقاب حتى لقد قال
ه ابن سلام كان أمية كثير العجائب يذكر في شعره خلق السموات والأرض ويذكر الملائكة ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء ! ونحن وإن لم يصلنا كل شعره لكن ما جمعه منه الأستاذ شلتس يدل على الكثير من منازعه ومن شعره الذى يدل على اتجاهه
ألا أيها
الإنسان إياك وإياك لا تجعل
الله
الله
خافيا
الله غيرك
ثانيا
والردى فإنك لا تخفى من غيره فإن سبيل الرشد أصبح باديا أدين إلا ها رضيت بك اللهم ربا فلن أرى أدين لرب يستجيب ولا أرى أدين لمن لم يسمع الدهر داعيا بعثت إلى موسى رسولا مناديا وأنت الذي من فضل من ورحمة
فقلت له اذهب و هارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
۰
وقولا له
أأنت رفعت
هذه
وقولا له أأنت سويت هذه بلا وتد حتى اطمأنت كما عمد أرفق إذا بك بانيا وقولا له أأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
هيا
بلا
وقولا له من يرسل الشمس
غدوة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من يُنبت الحب في الثرى فيصبح
ويخرج
منه
حبه
منه
يهتز
رابيا
البقل في رءوسه وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا لأكثر إلا ما غفرت
وإني ولو سبحت باسمك ربنا ويقول مترجمه في دائرة المعارف الإسلامية ١٠
خطائيا
إنه يمكن قسمة قصائده بحسب موضوعها إلى قسمين كبيرين أصغرهما يتكون من قصائد وأبيات قيلت في مدح أشخاص وبخاصة في مدح رجل من أغنياء مكة هو عبد الله بن جدعان وهى لا تختلف في جوهرها عن نظائرها عند غيره من شعراء العرب القدماء أما القسم الأكبر الذى يبدأ بالقصيدة الثالثة والعشرين من طبعة شلتس فيدل دلالة كاملة على النزعة التي يمكن تسميتها بالحنيفية وأساسها القول بإله واحد وهو رب العباد ونرى فيها صورًا شبيهة بالوحى عن مقام الله وملائكته وحكايات عن الخلق وآراء تتعلق بيوم القيامة والجنة والنار وفيها دعوة إلى عمل الخير وإشارات إلى عبر أخذ بعضها من أخبار العرب عن عاد و ثمود وبعضها من قصص التوراة عن الطوفان و إبراهيم و لوط و فرعون وابن أبي الصلت مولع إلى جانب هذا بقصص الحكايات على ألسنة الحيوانات ونلاحظ في شعره أيضاً ذكراً للأعمال السحرية
وكان أمية كما كان زيد يريد دين إبراهيم فلم يكن يهوديا ولا نصرانيا ومما يثبت هذا في غير لبس ولا إبهام قوله
كل دين يوم القيامة
عند الله
ه
إلا دین الحنفاء
زور
۱۰ دائرة المعارف الإسلامية الطبعة العربية مادة أمية
ولكنه على خلاف ما كنا نتوقع قد عادى الرسول وحار به فغلبت عليه شقوته وصح فيه
قول رسول الله الله
آمن شعره وكفر قلبه
ويخيل إلينا أنه قد ندم فى آخر حياته ندماً شديدًا على موقفه ذاك من الرسول فتمنى أن
لو كان - بدل معرفته وعلمه - راعيًا فى رءوس الجبال يرعى الوعول لقد قال وهو على فراش الموت هذا الشعر اليائس الحزين الرائع
كل
عيش وإن ليتني كنت قبل ما قد
تطاول
في اجعل الموت نصب عينيك واحذر غولة
دهرا بدا لي
منتهى
أمره إلى أن يزولا الجبال أرعى الوعولا رءوس الدهر إن للدهر
غولا
- وكان أبو قيس بن أبي أنس من الحنفاء وهو من بني النجار وكان قد ترهب وليس المسوح وفارق الأوثان وهم باعتناق النصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجداً لا يدخله طامث ولا جنب وقال أعبد رب إبراهيم
11
فلما قدم رسول الله له أسلم وحسن إسلامه وقال في رسول الله له شعرا يمدحه ٤- ومن الحنفاء خالد بن سنان وهو من بني عبس ويقول ابن قتيبة
وروی
أن رسول الله قال
ذلك نبي
أضاعه
قومه
وأنت ابنته رسول الله الا الله فسمعته يقرأ قل هو الله أحد
فقالت كان أبي يقول ذا ۱
بعض من رأى التدين بالنصرانية
كانت النزعة إلى الحنيفية شائعة فى جزيرة العرب ولكن من العرب من رأى التدين بالنصرانية أو اليهودية بيد أنهم لم يكونوا يدينون بواحدة منهما إلا بعد أن يحولوا في شعاب
۱۱ المعارف لابن قتيبة ص ۸
۱ المعارف لاس قتيبة ص ٢٩
التفكير ويضلوا في متاهات ما وراء الطبيعة فيروا بعد بحث وتفكير أن الأسلم التزام دين يأمنون في رحابه من ضلال الأوهام
ذكر ابن هشام المتوفى بالفسطاط سنة ٢١٨هـ في سيرته ص ٢٣٧
قال ابن اسحاق واجتمعت قريش يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويدورون به وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يوما أربعة نفر نجياً ثم قال بعضهم لبعض
فخلص منهم تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض قالوا أجل وهم ورقة بن نوفل و عبد الله بن جحش بن رئاب وكانت أمه أميمة بنت
عبد المطلب و عثمان بن الحويرث و زيد بن عمرو بن نفيل
فقال بعضهم لبعض
تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم ! ! ما حجر نطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ! يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا فإنكم والله ما أنتم على شيء فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم أما ورقة بن نوفل فاستحكم فى النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم
علما
من أهل الكتاب وأما وعبد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة فلما قدمها تنصر وأما و عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم وبادى قومه بعيب ما هم عليه وكان من هؤلاء ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى وهو عربي أصيل من
ذروة بيوتات قريش
ا وهو - كما يروى صاحب الأغانى - أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب الدين وقرأ الكتب وامتنع عن أكل ذبائح الأوثان
طلب ورقة الدين ولم يكتف فى طلبه باللغة العربية بل لعل اللغة العربية إذ ذاك لم تكن تسعفه بما يريد من معرفة فتعلم العبرانية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ولم يكن أمر معرفته وعلمه مجهولا بين قومه ولذلك انطلقت خديجة بنت خويلد إليه بالنبي الله لتستفسر عما عرض للرسول من أمر الوحى فأفادها وطمأنها وتمنى أن لو عاش حتى يرى الرسول قد أمر بنشر دعوته لينصره نصرًا مؤزراً وكان ورقة شاعرًا ناضج التفكير في شعره ومثال ذلك قوله
لقد
نصحت لأقوام وقلت لهم أنا
لا تعبدن
إلها
غير
خالقكم
أحد
النذير فلا يغرركم فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد ۱۳
سبحان ذى العرش سبحانا نعوذ به وقبل قد سبح الجودي والجمد ١٤
مسخر کل ما تحت السماء
له لا ينبغي أن يناوى ملكه أحد
مما
تری
تبقى
بشاشته
يبقى
لاشيء الإله ویودی المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سلمان إذ دان الشعوب له والجن والإنس تجرى بينها البرد ١٥ ويروى أن رسول الله ما سئل عنه فقال
ه قد رأيته في المنام كأن عليه ثياباً بيضًا فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه
البياض
لم يكن أمثال ورقة وأمثال زيد من النادرين فى العرب ولم يكونوا يستخفون بآرائهم فكثيرا ما كان يدور النقاش بينهم وبين قومهم فضلا دورانه بين بعضهم وبعض ولقد عاب زيد فيما يبدو ورقة على اعتناقه النصرانية وأراد منه التخلى عنها فقال أنا أستمر على نصرانيتي إلى أن يأتى الذي تبشرنا الأحبار
وحينما اطمأن زيد إلى التوحيد وأعلن ذلك قال ورقة له
۱۳ المبع
١٤ الجودى والحمد جيلان
١٥ البرد جمع بريد وهو الرسول
٢٤
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما
تجنبت
تنورا
بدينك
ريا
ليس
كمثله
رب
وتركك
جنان ١٦
من النار حاميا الجبال كما هيا
٢ - الحكماء
كان الطابع العام لهؤلاء الذين ذكرنا هو البحث عن الدين المستقيم والتطلع إلى الهداية السماوية ولكن ميدان التفكير الناضج في أرجاء الجزيرة العربية كان أوسع من أن يكون مقصوراً
على هؤلاء
يقول الشهرستاني ومنهم - أى الفلاسفة - حكماء العرب وهم شرذمة قليلة لأن أكثرهمْ حِكَمُهُمْ فلتات الطبع وخطرات الفكر وربما قالوا بالنبوات وحكماء العرب هؤلاء هم العلماء الذين كان يُرجعُ إليهم فيما يعرض من مشاكل وهم في الجملة أعظم العرب حظا في الثقافة
وكان مثلهم في الحكمة مثل حكماء اليونان لقد أثرت عنهم الحكم القصيرة التي تركزت فيها التجربة والحنكة مثل مقتل الرجل بين فكيه من طلب شيئًا وجده وإن لم يجده يوشك أن يقع قريبا منه الحرب مأيمة إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى وإذا ماقارنا هؤلاء الحكماء بمن يماثلهم من حكماء اليونان وجدنا أنهم يتشابهون في كثير من النواحي يقول أفلاطون
واجتمعوا - أى الحكماء - في دلف وأرادوا أن يتقدموا الأبولون في هيكله ببواكير حكمتهم فاختصوه بالآيات التي يرددها الناس الآن مثل اعرف نفسك و لا تسرف و الصلاح عسير فكانوا مصلحين ومشرعين ولم يكونوا فلاسفة بمعنى الكلمة ١٧ وكذلك كان حكماء العرب
وقد روى عن حكماء العرب بعض الآراء التي تدل على تفكيرهم
ا كان منهم عامر بن الظرب الذى يقول فيه الميدانى كان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما ولا يحكمه حكما
11 جنان الجبال الذين يأمرون بالفساد من شياطين الجن
۱۷ تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص ۸
ومن كلامه في استدلاله على وجود الله وعلى تصريفه للكون
إلى ما رأيت شيئًا قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعا ولا جائيًا إلا ذاهبًا ولو
كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء
ب ومن حكماء العرب أكثم بن صيفى بن رباح
وكان من حديثه – كما ذكر الألوسى - أنه لما ظهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة ودعا إلى الإسلام بعث أكثم ابنه حبيسا فأتاه بخبره
C
فجمع بني تميم وقال يابني تميم لا تحضرونى سفيها فإنه من يسمع يَخَل ۱۸ إن السفيه يوهن من فوقه ويثبط من دونه لاخير فيمن لا عقل له كبرت سنى ودخلتنى ذلة فإذا رأيتم منى حسنًا فاقبلوه وإن رأيتم منى غير ذلك فقومونى أستقم
إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة وأتانى بخبره وكتابه يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق ويدعو إلى توحيد الله تعالى وخلع الأوثان وترك الحلف بالنيران وقد حَلَفَ عَرَفَ ذوو الرأى منكم أن الفضل فيما يدعو إليه وأن الرأى ترك
ما ينهى عنه
فهو
إن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم فإن يكن الذى يدعو إليه حقاف لكم دون الناس وإن يكن باطلا كنتم أحق الناس بالكف عنه والستر عليه وقد كان أسقف نجران يحدث بصفته وكان سفيان بن مجاشع يحدّث به قبله وسمى ابنه و محمدا فكونوا فى أمره أولا ولا تكونوا آخرًا اثتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينًا لكان فى أخلاق الناس حسنا أطيعوني واتبعوا أمرى أسأل لكم أشياء لا تنزع منكم أبدا وأصبحتم أعزّ حَى في العرب وأكثرهم عددًا وأوسعهم دارًا فإنى أرى أمرًا لا يجتنبه عزيز إلا ذل ولا يلزمه ذليل إلا عز إن الأول لم يدع للآخر شيئًا وهذا أمر له ما بعده ومن سبق إليه غمرته المعالى واقتدى به التالى والعزيمة حزم والاختلاف عجز
مثلا
فقال و مالك بن نويرة قد خرف شيخكم
فقال أكثم ويل للشجى من الخلى ولهفى على أمر لم أشهده ولم يسبقني فذهب
۱۸ ه من يسمع أخبار الناس ومعاييهم يقع فى نفسه المكروه عن مجمع الأمثال للميداني
٢٦
جـ وكان منهم قس بن ساعدة الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه وخطبته بسوق عكاظ مشهورة أيها الناس اسمعوا وعوا إلخ ودليله على وجود الله أيضا مشهور إنه يستدل بالأثر على المؤثر وهو يصف الإله فيقول كلا ! بل هو الله إله واحد ليس له ولد ولا والد أعاد وأبدى وإليه المآب غدًا
ثم ينشد
ینبه
من بقايا بزهم من نوماته
خرق الصعق
يا باكي الموت والأموات في جدث عليهمو دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم كما د وأما عبد المطلب ه جد الرسول وهو من حكماء العرب المشهورين فقد رويت عنه سنن أقر القرآن أكثرها كالمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق والنهي عن قتل
الموءودة ١٩
ولم تكن الناحية الأخلاقية بمهملة لدى الشعراء و زهير بن أبي سلمى يتحدث عنها في
كثير من شعره وهو القائل
فلا تكتمن الله
مافی
نفوسكم ليخفى
يعلم
ومهما يكتم الله يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
ويقول في ضرر الحرب والدعوة إلى السلم
وما الحرب
إلا
ما علمتم
متی
تبعثوها
تبعثوها
وما هو
۰
عنها بالحديث المرجم
۱
وتضرى إذا ضَرِّيتُموها
فتضرم
۱۹ تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١١٠
۰ المرحم من الحديث المقول بطريق الظر لا عن تحقيق أي وما حديثي عن الحرب وتخويفكم ويلاتها بالحديث
المفترى بل أنتم قد علمتم ويل الحرب وذقتموها
۱ متى تهيجوا الحرب نهيجوها مدمومة ويشتد حرها وتضرم بارها
۳
٢٤
3333
عرك
فتنتج فتعلل
لكم
الرحى
بثفالها وتلقح كشافا ثم تنتج
كأحمر عاد علمان أشأم كلهم
ترضع
لكم
ما لا تغل
لأهلها
قرى بالعراق من قفير
ويرهم
- رأى الحمس
وإذا كان ماسبق يعتبر من الجوانب المحدودة برغم كثرته فإن قريشاً قد غمرتها روحانية ففكرت فى أمر الدين وقداسته والبيت وحرمته وبعد تأمل وترو ابتدعت رأى الحُمْس والحمس جمع أحمس والأحمس كما يقول صاحب المختار - هو الشديد الصلب في الدين والقتال ولم يكن هذا الرأى الذى ابتدعوه إلا تحمسًا دينيا وعاطفة روحانية قوية وكانوا يذهبون فيه - كما يقول السهيلي - و مذهب التَّأله والتزهد وكان مثلهم في
ذلك مثل من قال الله فيهم ورهبانية ابتدعوها قال ابن اسحاق وقد كانت قريش - لا أدرى قبل عام الفيل أم بعده – ابتدعت رأى الحمس رأيا رأوه وأداروه فقالوا نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنوها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولامثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا فلا تعظموا شيئًا من الحل كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخف العرب بحرمتكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون بأنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولانعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس والحمس أهل الحرم ا هـ ولقد كانوا في سبيل ذلك يشقون على أنفسهم ويشقون على غيرهم فيحرمون على أنفسهم
الثغال جلدة توضع تحت الرحى كشافا سنتين متواليتين تتم تلد توأمين والمعنى إذا أثرتم الحرب طحتكم طحن الرحى وتدوم زمنا طويلا في شدة وتكون كالناقة التي تحمل مرتير في عامين متتاليين وتلد في كل منهما توأمين ۳ إن أمر هذه الحرب يطول وتنتج لكم غلمان مثلهم فى الشؤم كمثل عاقر ناقة صالح - عليه السلام - وتعيش هذه الغلمان حتى ترضع وتفطم يريد بذلك أن يكنى عن طول الحرب وشرورها ٢٤ وسوف لا تخل الحب الذى لا يكال بالقفيز أو يباع بالدرهم إذ هى لا تنتج إلا الموت والملاك
أشياء ويفرضون عليها أخرى وكذلك كانوا يفعلون بالنسبة للحاج وللمعتمر قال ابن اسحاق ثم ابتدعوا فى ذلك أمورًا لم تكن لهم حتى قالوا لا ينبغي للحمس أن يأتقِطُوا الأقطَّ ٢٥ ولا يسلئوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا - إن استظلوا - إلا في بيوت الأدم ٢٦ ما كانوا حرما
ثم رفعوا في ذلك فقالوا
لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجاً أو عمارًا ولا يطوفوا بالبيت - إذا قدموا أول طوافهم - إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا بالبيت عراة فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا
فحملوا على ذلك العرب فدانت به ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً عليها
ثم تطوف فيه
6
وكان الغرض من طوافهم عراة - إن لم يجدوا ثياب أحمس - هو طرح الثياب التي اقترفوا فيها الذنوب فقد تدنست بما أتوا من معصية
حلف الفضول
هذه العاطفة الدينية تبعها - كلازم من لوازمها - عمل أخلاق كريم قد بلغ من السمو لا يكاد يحدث فى التاريخ إلا نادرًا إننا نريد أن نتحدث عن حلف الفضول قال صاحب الروض الأنف
ܟܠܰܐ
وكان حلف الفضول ۷ هذا قبل البعث بعشرين سنة وكان أكرم حلف وأشرفه وأول
٢٥ الأقط الجين أى لا يصنعون الحين ولا يصنعون السمر ٢٦ بيوت الأدم الأخبية التي تصنع من الجلد
۷ بدكرون في سبب تسمية هذا الحلف بهذا الاسم أن جرهما في الرمس الأول قد سقت قريشا الى مثل هذا الخلف فتحالف منهم ثلاث هم ومن تبعهم أحدهم الفضل بن فضالة والثاني " الفضل بن وداعه والثالث فضيل بن الحارث وقيل بل هم
من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب
وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه 1 العاصي بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار و مخزوماً و جمع و سها و عدى بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاصي وزبروه زجروه فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فصاح بأعلى صوته
یا آل فهر لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائی الدار والنفر لم يقض عمرته يا للرجال ! وبين الحجر والحجر الفاجر الغدر
ومحرم
أشعث
إن
الحرام
تمت لمن
کرامته ولا حرام
لثوب
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال
ما لهذا مترك !
فاجتمعت هاشم و زهرة و تيم بن مرة فى دار ابن جدعان فصنع لهم طعاما وتعاقدوا وكان حلف الفضول وكان بعدها أن أنصفوا الزبيدي من العاصى ۸ ويقول ابن هشام راويا عن ابن إسحاق
تداعت قبائل من قريش إلى حلف فأجمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمر لشرفه وسنه فكان حلفهم عنده بنو هاشم و بنو عبد المطلب و أسد بن عبد العزى و زهرة بن كلاب و تيم بن مرة فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول كان بحق - كما يقول السهيلى - أكرم حلف وأشرفه ومن أجل ذلك قال رسول الله
==
في شأنه
الفضيل بن شراعة و الفضل بن وداعة و الفضل بن قضاعة فلما أنه حلف قريش هذا حلف هؤلاء الجر همین سمى حلف الفضول
وقيل بل سمى كذلك لأنهم تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها وألا يغرو ظالم مظلوما
۸ - عن الروض الأنف
لقد شهدت في دار و عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو أدعى
به في الإسلام
لأجبت
٤ - الفكرة العامة عن العرب وتصحيحها
ومع كل ذلك فإنه لا يخفى علينا أن الفكرة العامة عن العرب هي أنهم كانوا في تدهور خلقى وفى تدهور ديني لا حد لها
لقد كانوا يشربون الخمر !!
وكانوا يعبدون الأصنام ! ! كانوا يعبدون قطعا من الحجارة منحوتة بأيديهم ويدعونها آلهة
ويعبدونها
وهل من دليل على فتورهم الديني أوضح من تركهم أبرهة يسير إلى البيت الذي يقدسونه ويعظمونه ليهدمه بدل أن يمتشقوا الحسام لصده إنهم تركوه وما يريد دون أن يثيروها عليه
شعواء
هذه شبهات تعلق بالذهن وتثار فى كل آونة ولابد من أن نتحدث عنها أما الخمر فقد تركتها طائفة في الجاهلية ودعت إلى تركها ومنهم قيس بن عاصم التميمي و صفوان بن أمية الكنائى و عفيف بن معد يكرب الكندى وغيرهم
ومما يقول قيس فيها
وجدت
الخمر
إلى آخر القصيدة
جامحة وفيها خصال تفضح الرجل
الكريما
أما الأصنام فلم يكن العرب يعبدونها لذاتها ولم تكن عندهم مجرد قطعة من حجر وإنما اتخذوها على شكل الهياكل العلوية ۹ فكانوا يعبدونها باعتبارها رمزًا للهياكل العلوية وكانوا يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى أما مسألة تركهم أبرهة فإن الصورة التي عند العامة فى هذا الأمر غير صحيحة وللحق
والتاريخ نقول
۹ الشهرستاني
إن أبرهة أراد أن يصرف العرب عن الحج إلى بيت الله الحرام ومن أجل ذلك ه بنى - كما يقول ابن هشام - القُلَّيْسَ بصنعاء فبنى كنيسة مة ٣٠ لم ير مثلُها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يين مثلها لملك قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
وتحدث العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي وثار بهم الغضب فخرج رجل من كنانة حتى أتى القليس فقعد فيها - أى أحدث فيها - يريد أن يعرف أبرهة أنها ليست لذلك بأهل
وكان ما فعل هذا الكنانى يعبر عما كان يريد الكثيرون من العرب - إذ ذاك - ولكنه أغضب أبرهة غضباً لا حد له وحلف ليهدمن البيت الحرام وندع بعد ذلك ابن هشام
يتحدث
وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة - بيت الله الحرام -
فخرج إليهم رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريد من هدمه وإخرابه فأجابه إلى ذلك من أجابه ثم عرض له فقاتله فَهُزِم ذو نفر وأصحابه ثم مضى أبرهة على وجه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له تقيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه وأبرهة
فلما نزل أبرهة المغمس بالقرب من مكة همت قريش وكنانة وهذيل
ومن كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك نري من هذا أن العاطفة الدينية عند العرب لم تكن فاترة ضعيفة إلى الحد الذي يتصوره بعض المؤرخين والكتاب
۳۰ سميت القليس لارتفاع بنائها وعلوها وكان أبرهة ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صاحبة سليمان - عليه السلام - وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ وكان يستخدم في سبيل ذلك مع أهل اليمن العنف الذى لا حد له حتى لقد كان يقطع يد العامل إذا طلعت عليه الشمس قبل أن يأخذ في عمله
الأديان في جزيرة العرب على أن الذي ينبغي أن يلاحظ أن جزيرة العرب لم تكن كلها وثنية كانت النصرانية في
ربيعة وغسان وبعض قضاعة
وكانت اليهودية فى حمير وبني كنانة وبنى الحارث بن كعب وكندة وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة وحاجب بن زرارة ومنهم الأقرع بن حابس كان مجوسياً وكانت الزندقة فى قريش أخذوها من الحيرة ۳۱
ومن العرب من كان يدين بالرجعة يقول صاحب لسان العرب
والرجعة مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم ولم يكن القول بالجبر أو القول بالاختيار بعيدا عن العقلية العربية
يقول يحيى بن متى راوية الأعشى كان الأعشى قدريا وكان لبيد مثبتا
قال لبيد
من
هداه
سیل
الخير
اهتدی
ناعم
البال
شاء
ومن
أضل
وقال الأعشى
أستأثر
الله
بالوفاء وبالعد
ل وولى
الملامة
الرجلا
والحق أن جزيرة العرب لم تكن - كما يظن عادة - بمنأى عن التفكير الديني القوى إنكارًا وجحودا أو إثباتا وتأييدا وسنرى فيما بعد إيضاحا الجوانب أخرى من تفكيرهم الديني عندما نتحدث عن موقف القرآن منهم ونريد الآن أن نذكر آراء بعض الكتاب فى شأن العرب نستأنس بها فما ذكرنا
۳۱ و ابن قتيبة كتاب المعارف
٦- بعض الآراء عن العرب
يقول الجاحظ وذكر الله تعالى حال قريش في بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام
وصحة العقول
وذكر العرب وما فيها من الدهاء والنكراء ۳ والمكر ومن بلاغة الألسنة واللدد عند الخصومة فقال فَإذا ذهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِالْسِنَةِ حَدَادٍ ثم ذكر خلابة ألسنتهم واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم فقال وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
ثم قال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قوله في الحياةِ الدُّنْيَا مع قوله وَإِذَا تَوَلى سَعَى فى الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۳۳ وقال جورجى زيدان فى تارخ آداب اللغة العربية وقد يتبادر إلى الذهن أن أولئك البدو كانوا أهل جهالة وهمجية لبعدهم عن المدن وانقطاعهم للغزو والحرب ولكن يظهر مما وصل إلينا أنهم كانوا كبار العقول أهل ذكاء ونباهة واختبار وحنكة وأكثر معارفهم من ثمار قرائحهم وهى تدل على صفاء أذهانهم وصدق نظرهم في الطبيعة وأحوال الإنسان مما لا يقل عن نظر أعظم الفلاسفة فإن قول زهير بن أبي سلمى في معلقته رأيت المنايا خبط عشواء إلى قوله ه وإن خالها تخفى على الناس تعلم ٣٤
۳ النكراء الدهاء والفطنة
۳۳ البيان والتبيين ص ١
٣٤ تذكر هنا الأبيات التي أشار إليها الكاتب نقلا عن كتاب المعلقات ليرى القارئ بنفسه مبلغ ما وصل إليه و زهير
من عمق
مشمت
تكاليف
الحياة
ومن
يعش
ثمانين
حولا
لا
Li
لك
يسام
وأعلم
في ما
اليوم
والأمس
قبله
ولكننى
عن
علم
ا
في غد
عم
رأيت
المنايا
خيط
عشواء
من
تصب
تمنه
ومن
تخطی
يعمر
فيرم
ومن
لم
في يصانع
أمور
كثيرة
ومن
يجعل المعروف من دون
عرضه
يفره
بأنياب يفرس
وبوطة بمنم
ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن
ذا يك
فضل فيخل
بفضله
على
قومه
يستغن
عنه ويذم -
لا يقل شيئا عن أحكام أكابر الفلاسفة جزء ١ ص ۹
ويقول فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق
ه فى الشعر الجاهلي معان سامية وحكمة صادقة ومن يقرؤه خالى الذهن من كل ما قيل فيه يرى العجب من ذكاء منشئيه وسعة خيالهم وإقصائهم النظر في تأليف المعاني والتصرف في فنون الكلام
وكما اعتمد و الجاحظ على القرآن فيما ذكرناه له من رأى سابق فإن الدكتور طه حسين يرى أن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية وهذه القضية – كما يقول الدكتور طه - غريبة حين تسمعها ولكنها بديهة حين تفكر فيها قليلا
فليس من اليسير أن نفهم أ تكون بينهم وبينه صلة هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفنى البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه
أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن
وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه
وفى القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية
وفيه رد على اليهود
وفيه رد على النصارى
وفيه رد على الصابئة والمجوس
وهو لا يرد على يهود فلسطين ولا على نصارى الروم ومجوس الفرس وصابئة الجزيرة وحدهم وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها
= ومن يوف لا يذمم ومن هد قلبه
إلى مطمئن البر لا
يتجمجم
1333333
هاب
أسباب المنايا
ينلنه
وإن
يرق
أسباب السماء
يسلم
يجعل
المعروف في
غير
أهله
یکن
حمده
بعض
أطراف
الزجاج
فإنه
يطيع
دما عليه العوالي ركبت کل
ويندم
لخذم
یدد
عن حوضه
بسلاحه
يهدم
ومن
У
يظلم الناس يظلم
يغترب
تكن
يحسب عند امرئ من
عدوا
صديقه
ومن
لا يكرم نفسه
لا يكرم
خليقة
وإن
خالها
تخفى على
الناس
تعلم
۳۵
ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها وإنما يمثل شيئًا آخر غيرها لا تجده في هذا الشعر الجاهلي يمثل حياة عقلية قوية يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما
أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون بقوة الجدال والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون فى الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها في البعث في الخلق في إمكان الاتصال بين الله والناس فى المعجزة وما إلى ذلك
ويمضى الدكتور طه حسين في الحديث عن تصوير القرآن للأمة العربية من الناحية الاقتصادية ومن ناحية اتصال العرب بغيرهم من الأمم ويتمشى مع القرآن في أن العرب لم يكونوا كلهم سننا واحدًا بل كان فيهم الأعراب فى جفوتهم وغلظتهم وإمعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتدين
الأعراب أشَدُّ كُفْرًا ونفاقا وَأجدرُ َالا يَعلَمُوا حدُودَ ما أنزلَ اللَّهُ
ونعود إلى و الجاحظ في مقارنة له بين العرب في عصرهم الجاهلي وغيرهم من الأمم وهذه المقارنة قد اعتقد قوم أنها مقارنة بين العرب كجنس - أي بين العرب في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم - وبين غيرهم ولكن ذلك خطأ واضح
و فالجاحظ يقارن بين العرب في طور من أطوارهم - هو الطور الجاهلي فحسب – وبين غيرهم ولذلك لم يتحدث في هذه المقارنة عن الدين أو فلسفة و الكندي وهو عربي صميم أو فلسفة المعتزلة فقد كانوا منها على حظ وافر
ولم يتحدث عن تشريع أبى حنيفة أو الشافعي وقد كان في ذلك - لو أراد - ميدان من أخصب الميادين لتأييد رأيه
يقول الجاحظ إن الهند لهم معان مدونة وكتب مجلدة لا تضاف إلى رجل معروف ولا إلى عالم موصوف وإنما هي كتب متوارثة وآداب – على وجه الدهر - سائرة
مذكورة
واليونان فلسفة ومنطق ولكن صاحب المنطق نفسه بكى اللسان ولا موصوف بالبيان
٣٦
وفى الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام فتأتيه المعاني إرسالا وتتثال عليه الألفاظ انثيالا من كل ما سبق نرى أن العرب لم يكونوا - كما يظن كثير من الناس - أهل جهل مطبق أو ضلالة شاملة وإنما كانوا أصحاب شعر وحكمة ودين كان فيهم بلاغة المنطق ورجاحة الأحلام وصحة العقول وشعور دينى قوى يضحون في سبيله بأموالهم وأنفسهم
- العرب حسب ما تعتقد
أما ما نريد أن ننتهى إليه من كل ما سبق فهو الرأى الذي رآه فضيلة المرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه
ه تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ومهما يكن من أمر العرب عند ظهور الدين المحمدى فإنهم لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأولى من الناحية الفكرية التي تهمنا يدل على ذلك ما عرف من أديانهم وما روى آثارهم الأدبية ٣٥ من
وكان العرب عند ظهور الإسلام يتشبثون بأنواع من النظر العقلى يشبه أن تكون من أبحاث الفلسفة العلمية لاتصالها بما وراء الطبيعة من الألوهية وقدم العالم أو حدوثه والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك ٣٦
الدهماء لا يمثلون الأمة
ومع
ذلك فإننا نعلم حق العلم - أن الأكثرية العظمى فى جزيرة العرب كانت من البدو
الرحل الذين شغلهم البحث وراء لقمة العيش عن التفكير فى الدين وفيما وراء الطبيعة
٣٥ تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص ١٠٢
٣٦ المصدر نفسه ص ١٠٥
وليس من الطبيعي أن تتطلب من شخص يقاسى - في عنف - شظف الحياة أن يفكر تفكيرا
مجردا
إن الأغلبية العظمى من جزيرة العرب صحراء قاحلة وليس لساكنيها استقرار ما وليس بها أمن مستتب والحروب والغارات في جبالها ووهادها لا تكاد تنقطع فمن الطبيعي أن لا يكون عند هؤلاء أوقات فراغ يقضونها في التفكير فيما وراء الطبيعة ولكن إذا كنا لا نتخذ من عقلية الفلاح الحافى القدمين الذي قوّس انحناؤه على الفأس ظهره مثالا لحضارة المصريين وثقافتهم سواء أكان ذلك في العصر القديم أو فى العصر الحديث وإذا كنا لا نتخذ من الفرنسى الريفى الجاهل مثالا لحضارة فرنسا وثقافتها فإنه من غير الطبيعي أن يكون البدو الرحل مقياسا للثقافة العربية فيما قبل الإسلام
الفصل الثاني
القرآن
١ - وصف القرآن *
كانت جزيرة العرب - كما تحدثنا سابقا - تعج بمختلف الآراء الدينية كان فيها النصرانية واليهودية والحنفاء وكان فيها الزندقة والدهرية ومن ينكرون البعث ومن ينكرون إرسال الرسل وكان فيها من يقول بالرجعة ومن يقول بالجبر ومن يقول بالاختيار كان فيها توحيد وإلحاد ومؤمنون ومشركون ولكن هؤلاء وأولئك كانوا جميعًا ينتظرون بارقة تشرق عليهم فتبدد حيرتهم وتحسم ما بينهم من جدل واختلاف
في هذه الآونة قام رسول الإسلام م م بدعوته ودعوته لم تنشأ – كما يقرر - عن تفكير إنسانى شخصى وإنما هي وحى أنزله الله عليه وهى معصومة لأنها وحى إنها معصومة عن التخبط في الآراء معصومة عن ضلالات الأوهام معصومة عن متاهات الخيال
والقرآن وهو كتابها المقدس كِتَابٌ أُحكمت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ 1
وهو كتاب
ا لا يأتيه الباطِلُ مِنْ بَيْن يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حكيم حَمِيدِ ۳ ولقد قال رسول الله في وصفه - كما روى عن على رضى الله عنه
ه من مصادر هذا الفصل القرآن الكريم والكشاف للزمخشرى والكندي لأبي ريدة
۱ هود ۱
٢ فصلت ٤٢
۳۸
۳۹
عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخير ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل
ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله هو حبل الله
منه
المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم هو الذي لا يزيغ به الأهواء ولا يشبع العلماء ولا يخلق عن كثرة الرّد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به أفلح ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ا هـ
وقد وصل إلينا القرآن بطريق التواتر بحيث لا يمكن الشك مطلقاً في أنه وصل إلينا كما نزل على محمد دون زيادة أو نقص والمستشرقون - برغم تحامل بعضهم على الإسلام - لا يجدون مطعنا صحيحاً من تلك الجهة
قط
ولقد قال المستشرق الفرنسي الأستاذ ديمومبين بحق فى كتابه عن الإسلام إن المنصف لا مناص له أن يقر بأن القرآن الحاضر هو القرآن الذى كان يتلوه محمد
٢ - السبب في أن مهمة الرسول كانت شاقة ومع استشراف نفوس كثير من نابهى العرب إلى هاد يقودهم إلى السبيل السوى فإن مهمة الرسول لم تكن سهلة ميسورة
1 ذلك أن النفوس إذا ألفت شيئًا - فترة طويلة من الزمن - لم يكن من السهل انصرافها عنه والإلف - لا العقل ولا المنطق - هو الذى يعرقل دائماً عمل المصلحين خلال
التاريخ ب وكان التنافس بين الأسر فى قبيلة واحدة وبين القبائل المختلفة من العوامل أيضًا التي دفعت الكثيرين إلى المعارضة
جـ ورأى اليهود أن اعتزازهم بدينهم سينهار إذا انتشر الدين الجديد
د ورأى النصارى أن مصير دينهم هو الآخر الاندثار
هـ وضاق تفكير طائفة كبيرة من العرب فلم يروا العظمة إلا في الثروة ولم يكن محمد ثريا فقالوا
لولا نزل هذا القُرآن على رَجُلٍ من القريتين عظيم ۳
وتضامنت عوامل الشر هذه كلها وتألبت وأرادت - طيلة مدة الدعوة – القضاء عليها
٣- القيمة الذاتية للدعوة الإسلامية
الأنانية وبمنطق
ولكن الدعوة الإسلامية كانت تحمل في طياتها من القيمة الذاتية ما يفرضها ويكتب لها الانتشار وذلك أنها ۱ تمتاز عن النصرانية المنتشرة - إذ ذاك - بنظام اقتصادی خلت منه عقلى لا يوجد فيما كان مأثورًا - حينئذ - من كلام السيد المسيح عليه السلام ثم هي تصحيح للمسيحية نفسها التي كانت موجودة - إذ ذاك - محرفة كما يذكر القرآن الكريم وكما يثبت
التاريخ
ب وهى تمتاز عما كان موجودًا - إذ ذاك - من اليهودية وذلك لما فيها من بساطة ونضرة وتنزيه الله ورسله وأنبيائه لا يوجد ما يماثله فى العهد القديم ثم هي رجوع باليهودية إلى الحق قبل أن يحرفها ذووها
جـ وهى هداية للحنفاء إلى دين إبراهيم الذي يتطلعون إليه د ثم هي معصومة وليست رأيا يجوز بالبحث أن يكون وهما من الأوهام هـ وهى - بعد كل ذلك - نظام كامل للحياة الإنسانية فيها العقيدة وفيها التشريع وفيها الأخلاق إنها ترضى العقل وترضى الوجدان
٤- وسائل الدعوة لهداية العرب ولكن العرب قابلوها بصراع فاتخذت الدعوة الإسلامية – من أجل هدايتهم -
الوسائل
أحكم نبهتهم إلى أنه ليس من المنطق أن يكون الإلف وأن تكون العادة أو العرف مقياساً للحق فليس من المنطق إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله أن يقولوا
بل تتبع ما ألفينا عليه آباءنا
۳ الزخرف ۳۱
٤١
لأنه من الجائز أن يكون آباؤهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهتدون ٤
وليس من المنطق أن يقولوا
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أمةٍ وإِنَّا على آثَارِهِمْ مُقْتدون ٥ وسخر القرآن من الذين حرموا على أنفسهم مزية الفهم والتبصر فقال فى أسلوب لاذع
مَثَلُ الذينَ حُمَّلُوا التَّوْراةَ ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحمارِ يَحملُ أَسْفَارًا ٢ ثم أضاف الإسلام إلى ذلك تقدير المسئولية الفردية ليجتث بذلك كل محاولة من الفرد لإلقاء التبعة على الجماعة أو على البيئة أو على الآباء والرؤساء الأَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ۸
ثم صرح في وضوح واضح بالمسئولية فيما يتعلق بالآراء خاصة ورتب العقاب الشديد على من قلد غيره في ضلاله وأهوائه فقال تعالى
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذا القرآنِ وَلا بالذي بين يديهِ ولَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرجع بعضُهُم إِلى بَعْض القولَ يَقُولُ الذينَ اسْتضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مؤمنين
قال الذين استكبروا للذينَ اسْتضْعِفُوا أنحنُ صَدَدناكم عن الهدى بعد إذ جاء كم بل كنتم مجرمين
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْر اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُر بِاللَّهِ ونَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وأسروا الندامةَ لمَّا رَأوا العذابَ وَجَعَلْنَا الأَعْلالَ في أَعْنَاقِ الذِينَ كَفَرُوا هَل يُجزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۹
٤ البقرة ۱۷۰ 0 الزخرف ۳
٦ الجمعة ٥
۷ النجم ٣٨ - ٣٩
۸ الزلزلة ۰۸
٩ سورة سبأ آية ۳۱ - ۳۳
٤٢
وإذا كان الإسلام قد قرر المسئولية الفردية - أعنى أن كل إنسان مسئول عن عمله – فإنه مع ذلك لم يخل الفرد من المسئولية بالنسبة لغيره فالرسول - - يمثل الجماعة الإنسانية يسفر على سفينة أخذ بعضهم في إفسادها فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا وإن تركوه
هلك وهلكوا ١٠
ويقول الله تعالى وَاتَّقُوا فِتنة لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصةً ١١
ويقول في عنف عنيف
يَا أَيُّها الذين آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُم وَأَهْلِيكُمْ نَارا وَقُودُها النَّاسُ والحِجَارة عَلَيْها مَلائِكَةٌ غلاظ شِدَادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمرون ۱
روى أن و عمر رضى الله عنه قال حين نزلت هذه الآية
ه يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا
فقال عليه الصلاة والسلام
النار
تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله فيكون ذلك وقاية بينهن وبين
على أن الرسول الله يصور هذا النوع من المسئولية تصويرا جميلا في غير ما حدث إنه يصور الأمة في توادها وتراحمها يجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الأعضاء بالسهر والحمى
وهو يقول في روعة أخاذة
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ثم يفصل هذا الإجمال ويضرب بعض الأمثلة فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته والزوجة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته فكلكم راع ومسئول عن رعيته
۱۰ عن النعمان بن بشير رضي الله عنها أن النبي قال و مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا البخاري وغيره ۱۱ الأنفال ٢٥
١٢ التحريم ٦
٤٣
- إذن - الآباء والأجداد ليسوا مقياس الحقيقة وكذلك العرف والعادة والفرد مسئول عما
يفعل وكل إنسان مأمور بأن يصلح من أمر الآخرين
في هذا الجو أخذ محمد - ع - ينشر دعوته
ه - الدعوة الإسلامية دعوة موحدة
وهي دعوة موحدة لا مفرقة إنها دعوة نوح و إبراهيم و موسی و عیسی عليهم السلام
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا والذي أَوْحَيْنَا إِليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِه إبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تتفرقوا فيه ۱۳
وعلام الاختلاف والإسلام دعوة لا تهدف إلا إلى عبادة الله وعدم الشرك به وعدم اتخاذ أرباب من دونه قُلْ يا أَهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا مِنْ دُونِ اللهِ فإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ١٤ هذه الدعوة الإسلامية تقرر أصولا في ناحية العقيدة وشعائر للعبادة ومبادئ في القانون وقواعد للأخلاق والذى يعنينا هنا على الخصوص هو العقيدة
٦ - إثبات الرسالة
إن أشق مرحلة يصادفها كل رسول من الرسل إنما هي إقناع الناس برسالته وقد اختلفت وسائل هذا الإقناع واختلفت أساليبه وقد بدأ الرسول ل كأسلافه بتقرير أنه رسول وأنه متصل بالسماء وأن الوحى ينزل عليه تباعاً
وقد أرسله الله تعالى لحكمة سامية قد رددها القرآن في غير ما موضع هي تزكية النفوس وتطهيرها تزكيتها وتطهيرها خلقيًّا واجتماعيا مؤسساً ذلك على تطهيرها وتزكيتها من ناحية
العقيدة
۱۳ سورة الشورى آية ۱۳
١٤ سورة آل عمران آية ٦٤
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِم يَتْلُوا عَلَيْهم آياتِهِ وَيُزَكِّيهم ويعلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين ١٥ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمُ ١٦
ومن أجل ذلك كان إرساله رحمة للعالمين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولكن العرب سخروا من دعوته وكان لابد من أن يفحمهم بآية من آيات الله فكانت
هذه الآية هي القرآن لقد تحداهم به في عنف وتحداهم - متدرجا بهم - من أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا إلى أن يأتوا بعشر سور مثله ثم انتهى بهم أخيرًا إلى أن يأتوا بسورة من مثله قال
تعالى
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَت الإِنْسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا ١٧
أَمْ يَقُولُونَ اخْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثلِهِ مُفتريات وادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
۱۸
وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مما نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله وَادْعُوا شُهَدَاءَ كُم مِنْ دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتقوا النار التي وقودها النَّاسُ والحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ۱۹
١٥ سورة آل عمران آية ١٦٤
١٦ سورة البقرة آية ۱۹ ۱۹ سورة البقرة آيتا ٢٣ - ٢٤
۱۷ سورة الإسراء آية ۸۸
۱۸ سورة هود آية ۱۳
في هذه الآيات كرر القرآن لفظ مثل والمثلية لا تختص بجانب دون جانب وإنما تعم جميع المناحي والواقع أن النقاش في أن القرآن معجز بأسلوبه أو بمعانيه أو بقصصه أو بأخباره عن الغيبيات أو بغير ذلك من وجوه إنما هو نقاش لا يتمشى مع الفكرة القرآنية التى هى فى التماثل من جميع النواحى قال صاحب البحر المحيط ه والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والإخبار بالغيب مما كان وما يكون وما احتوى =
ولم الشك في أمر الرسول مع أنه لو أخبرهم أن خيلا وراء الوادى ستغير عليهم لصدقوه لأنهم لم يعهدوا عليه كذبا على أنه قد لبث فيهم من قبل ذلك أربعين عاما فلم يحدثهم بنبوة ولا برسالة ذلك أن هذا الأمر إنما يرجع إلى مشيئة الله فحسب قُلْ لو شَاءَ الله مَا تَلوتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ ۰
ويطلب إليهم القرآن أن يتفكروا في أمر صاحبهم هذا الذى نشأ بينهم وترعرع على مرأى ومسمع منهم بل كانوا يعرفونه - كما يعرفون أبناءهم - بالصدق والأمانة ورجاحة العقل
قال تعالى
قل إِنَّا أَعِظُكُمْ بِواحِدةٍ أَنْ تَقُومُوا اللَّهِ مَثْنَى وفَرَادَى ثم تتفكروا ما بِصَاحِبَكُمْ مِنْ جنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَى عَذَابٍ شَدِيدٍ ۱
= عليه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف ومنشأ الاختلاف في تحديد وجوه الإعجاز في القرآن راجع إلى اختلاف درجة الاستعدادات الفطرية والاتجاهات
والتبديل ج ص ١٠٤ - ١٠٥
الفكرية لإدراكها ومعرفتها
فثلا من وجد القرآن مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل وأخبار السابقين والغيبيات التي لا تحيط بها البشرية علما حصر وجوه الإعجاز فيا أدرك ومن نظر إلى القرآن من ناحية اللفظ وحسن السبك وجزالة الأسلوب وما له من روعة تملك على السامع شعوره
ووجدانه حصر الإعجاز فى ذلك
ومن أجال فكره فيما حواه القرآن من الأسرار الكونية التى تكشف عنها العلوم والبحوث أياما كانت فهو مصدق لما في الطبيعة والفطرة سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم اتجه هذا الاتجاه إلخ
۰ سورة يونس آية ١٦ ۱ سورة سبأ آية ٤٦ والمعنى على ما ورد في الزمخشري و ملخصا إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهى أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا ثم تتفكروا في أمر محمد وسلم وما جاء به
أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين لا يميل بها اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادة الحق وسنته =
٤٦
ولم الشك في أمره مع أنه قد تجرد من كل مطمح دنيوي
قل ما سألتكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِى إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ شهيد
ولم التشكك فى أمره وهو أمى لا يقرأ ولا يكتب ومن كانت حاله هذه لا يمكنه أن يستمد ما يقول من كتاب قال تعالى
وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُهُ بيمينك إِذًا لارتابَ الْمُبْطِلُونَ ۳ هذه الظروف وهذه الملابسات فضلا عن القرآن ترشد إلى أن محمدا كان
صادقا في دعواه
- معارضة العرب
بيد أن العرب تغالوا في المعارضة حتى لقد وصلوا أحيانًا إلى حد السخف ولكن القرآن كان لهم بالمرصاد وكان دائما يفحمهم في قوة
لقد قالوا مَا لهذا الرَّسولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمشى في الأَسْواقِ ٢٤ فرد الله عليهم بما يقطع حجتهم
ومَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ المُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ ليَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمشونَ في الأَسْوَاقِ ۰
- وكذلك الفرد يفكر فى نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى إن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويمنع من الرؤية ومع ذلك يقل الإنصاف ويكثر
الاعتساف
وقد علمتم أن محمدا اما به من جنة بل علمتموه أرجح قريش عقلا وأصوبهم رأيا وأصدقهم قولا وأنزههم نفساً فكان مظنة لأن تظنوا به الخير وإذا فعلم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية
سورة سبأ آية ٤٧
۳ سورة العنكبوت آية ٤٨
٢٤ الفرقان ٧
٢٥ الفرقان ۰ -
٤٧
وقال ولقد أرسلنا رُسُلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ٢٦ ولم يجد اليهود ولا النصارى مفرا من الاعتراف بأن الرسل السابقين كانوا حقا كذلك وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عَلَيْه القرآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً ٢٧
فإذا بالقرآن يعلل ذلك تعليلا في غاية القوة والوضوح
كذلك لنثبت
به
فُؤَادَكَ وَرَتِّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ۸
۹
وقالوا لَوْلا نُزل هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فرد عليهم القرآن فى أسلوب لاذع أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ٣٠ ورأوا أن يكون الرسول ملكا فإذا بالقرآن يجيبهم في منطق صارم وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجْعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ۳۱ ويذكر ذلك في موضع آخر مصورا تعنتهم في إنكار النبوة فيقول وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا
٢٦ الرعد ۳۸
۷ الفرقان ۳
۸ وهذا أيضًا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم الدالة على تشردهم عن الحق وتجافيهم عن اتباعه قالوا هلا نزل عليه دفعة واحدة في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة وما له أنزل على التفاريق والقائلون قريش وقيل اليهود
وهذا فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة
أو مفرقا
وقوله تعالى كذلك لنثبت به فؤادك جواب لهم أى كذلك أنزل مفرقًا والحكمة فيه أن تقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء وجزء 1 عقيب جزء ولو ألقى عليه جملة واحدة لبيل به وتحيا بحفظه
والرسول لا فارقت حاله حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام حيث كان اميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا قارئين كاتبين فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزل عليه منجها في عشرين سنة وقيل في ثلاث وعشرين وأيضا فكان ينزل على حسب الحوادث وجوابات السائلين عن الزمخشري جـ ص ۱۰۹
۹ الزخرف ۳۱
۳۰ الزخرف ۳
۳۱ الأنعام ٩
٤٨
ويرد عليهم القرآن معللا الأمر بتعليل آخر غير السابق فيقول
قُلْ لَوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يمْشُونَ مُطْمَنين لتزلْنَا عَلَيهِمْ مِن السَّماءِ مَلَكًا رسُولاً ۳
وهذا التعليل في غاية العمق فإنه ينطوى على سبب من أهم أسباب إرسال الرسل فالملائكة ليسوا - بطبيعتهم - فى حاجة إلى من يهديهم من الناحية الأخلاقية إنهم ملائكة ويتعمد القرآن أن يصفهم بأنهم يمشون مطمئنين فيثبت بذلك توضيح طبيعتهم الملائكية في أذهاننا ذلك يقول لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً ومع
لم إنهم ملائكة وهم يمشون مطمئنين فما حاجتهم إلى الرسالة
الواقع أن مهمة الرسول الأولى ليست الأخلاق وإنما هي معرفة الله والملأ الأعلى وما وراء الطبيعة وذلك لا يتأتى فى صحة لا يشوبها خطأ بمنطق عقلى أو قياس نظرى وإنما يتأتى عن
الله بواسطة سفرائه إلى عباده وهم الرسل
والملائكة كالبشر عاجزون عن معرفة الله إلا به
ولقد قالوا كما حكى القرآن عنهم سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ۳۳ أما الأخلاق فإنها في المرتبة الثانية بعد معرفة الله
وأرجفوا بأن محمدًا لا يستمد القرآن من شخص معين فرد عليهم القرآن في قوة
لسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِليهِ أَعْجمى وهَذَا لِسَانُ عَرَبِى مُبين ٣٤
ولما استيأس العرب من الجدل المنطقى تقمصوا عقلية الصبيان
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكونَ لَك جنةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبِ فَتُفَجِّرُ الأَنهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا أو تُسْقِط السَّمَاءِ - كَمَا زَعمت - عَلَيْنَا كسفا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ و الملائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتُ مِنْ زُحْرف أو تَرْقَى فى السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرَقِيكَ حَتَّى تُنزل
عَلَيْنَا كِتَابًا نَقُرُوهُ
۳ الإسراء ٩٥٩٤ ۳۳ سورة البقرة آية ٣٢
٣٤ النحل ۱۰۳
فيجيبهم القرآن في سهولة قوية لاذعة جادة ساخرة
قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ! هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً ۳۰
ويثور العرب حينما يرون منطقهم ينهار فينادون
ريَأَيُّهَا الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْمَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ
ويرد عليهم القرآن مبينا لهم ما قد خفى عنهم
ما نزل الملائكة إلا بالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذَا مُنْظَرِينَ ٣٦
ويصور القرآن في النهاية موقفهم الحقيقى الذى لا يخرج عن أن يكون عنادا لا شائبة فيه لطلب الحق ولا للرغبة في الهدى فيقول
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّا سُكَرَت أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ ۳۷
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتابًا في قِرْطَاسِ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرُ مبين ۳۸
فلما أخذتهم الحجة من جميع أقطارهم ورأوا أنهم أضعف من أن يغلبوا بالمنطق أعرضوا
وقالوا
قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقَرٌ وَمن بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا
عَامِلُونَ ۳۹
فيذكرهم القرآن بموقف الأمم قبلهم وينذرهم بعذاب كما هي سنته مع هذا النوع من
٣٥ الإسراء الآيات من ۹۰ - ۹۳
٣٦ الحجر ٦ - ٨
۳۷ سورة الحجر ١٤ - ١٥
۳۸ الأنعام ٧
۳۹ فصلت ه
المعاندين فَإِنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ٤٠ حقا لقد كانت خصومة العرب للرسول الله عنيفة قوية ولقد صورها القرآن في قوتها وفى عنفها ولم يأب أن يذكر ما فاهت به العرب مما يسيء الرسول علم فذكر وصفهم له بالجنون وبالشعر وأنه ساحر أو مسحور وبأنه ليس من عظماء القريتين ٤١ وبأنه يأخذ القرآن عن غيره أو بأن القرآن ليس إلا سحرًا أو أساطير الأولين اكتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ذكر القرآن كل ذلك وصور الخصومة في عنفوانها عارضًا أدلة الجاحدين ذلك أن القرآن هداية الله وهدايته سبحانه وتعالى هى الحق الذي يُقذف على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
- وجود الله
لقد كان من الطبيعي - بعد أن تثبت النبوة - أن يتلقى العرب كل ما جاء في القرآن بالقبول ولكن القرآن لم يكن يلقى القول على علاته وإنما يأتى بالقضية مبرهنا عليها بالدليل تلو الدليل فيرضى العقل ويطمئن النفس ويقود الضمير إلى الإذعان
وبرغم أن وجود الله أوضح من أن يبرهن عليه فقد وجد في كل الأزمنة قلة نادرة من المنحرفين جحدوا الصانع المدير العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه وبلا صانع ولم يزل الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان كذلك كان وكذلك يكون
أبدا ٤٢
على هؤلاء في كل زمان ومكان يرد القرآن في استفاضة وفى تنوع وما من شك في أن مسألة إثبات وجود الله لم تكن فى يوم من الأيام هدفا من أهداف القرآن ولم تكن في يوم من الأيام هدفا من أهداف الرسول مع الله أو أحد أصحابه وذلك أن الإيمان بوجود الله مسألة فطرية
وبديهية
من
ونحن هنا نسير على أنه يمكن أن يؤخذ من القرآن أدلة على وجود الله وإن لم يكن ذلك هدفا الأهداف القرآنية وإذا نسقنا الأدلة أو نظمناها فإنما يرجع ذلك إلى استنتاج من نصوص هدفها الصحيح بيان عظمة الله وتدبيره وقدرته وهيمنته على كل ما في العالم من صغيرة وكبيرة وبيان عناية الله ورعايته وإحكامه المحكم وإبداعه المتقن لكل ما يسرى في العالم من قوانين
٤٠ فصلت ۱۳
٤١ مكه والمدينة
٤٢ الغزالى - المنقذ من الضلال طبعة دار الكتب الحديثة
۵۱
ونواميس هذا في الحقيقة هو هدف القرآن من النصوص التي يتحدثون عنها بمناسبة إثبات وجود
الله
والواقع أن القرآن يمكن أن يؤخذ منه الرد على من انحرفت فطرتهم بيد أنه يجب ألا يغيب عنا أن ذلك ليس هدفًا من أهداف القرآن فإذا أحببنا أن نسير على نسق من يأخذ من القرآن الرد على الجاحدين فإنه يمكن أن يقال إنه يرد عليهم أولا بضروريات فكرية فيثبت الدلالة
الضرورية من الخلق على الخالق أَفِي اللهِ شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ ٤٣
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ٤٤ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ ٤٥
ويؤكد هذا بمبادئ مقررة يعترف بها كل إنسان عندما يفكر فيها تفكيرا بسيطا إنه من البين أن الشيء لا يمكن أن يوجد بدون علة ولا يمكن من جانب آخر أن يكون عله صياغة نفسه أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أم هُمُ الْخَالِقُونَ ٤٦ ولا يقتصر القرآن على ذلك بل يورد فى غير ما موضع وفى غير ما سورة ذلك الدليل الذي يقول عنه كانت إنه يُذكر مع الاحترام أعنى الدليل الذي يطلق عليه أحيانا دليل العناية وأحيانا أخرى دليل النظام أو القصد أو التدبير أو الغائية وهذا الدليل هو الذي يستند إلى ما نراه في العالم من تناسق وتضامن وانسجام ومن تدبير محكم وعناية تامة بكل صغيرة وكبيرة وترابط لا انفصام له بين أجزاء العالم وأجزاء وحداته أيضًا
وقد استخدم القدماء هذا الدليل ولا يزال المحدثون يستخدمونه ويعتبره بعضهم أوضح الأدلة على وجود الله بل وأقواها وهو في الوقت نفسه أسهلها بالنسبة للإدراك الإنساني قال الله تعالى
٤٧
وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ٧ اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُم الْبَحْ ٤٨
٤٣ إبراهيم ١٠
٤٤ الروم ٢٠
٤٥ الشورى ۹
٤٦ الطور ٣٥
٤٧ النحل ١٥
٤٨ الجانية ١٢
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ٤٩ وَهُوَ الذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَى رَحْمَتِهِ ٥٠ والله جعَلَ لَكُم الْأَرْضَ بِسَاطًا أَلَم نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالجِبَالَ أَوْتَادًا وخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَانًا وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجا وأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً تَجاجًا لِنخْرِجَ بِه حَيًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ٥١
وإذا تصفحت القرآن تبينت مصداق قوله تعالى
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ٥٢
وكثير من آي القرآن ما يجمع بين دليل الخلق ودليل العناية
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ واختِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ والفُلْكِ التي تجرى في البَحْرِ بما يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابةٍ
وَتَصْرِيفِ الرياح والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٥٣ وتوجد آيات متتالية فى سورة الروم تجمع بين الدليلين - الخلق والعناية - وهي قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ويُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلكَ تُخْرَجُونَ
ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
للعالمين
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فضله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ
٤٩ البقرة ٢٩
٥٠ سورة الفرقان آية ٤٨ ٥١ سورة النبأ الآيات ٦ - ١٦
٥٢ إبراهيم آية ٣٤ ٥٣ البقرة آية ١٦٤
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ
تَخْرُجُونَ ٥٤ هذه الأدلة تكاد تتضمن كل ما عداها من أدلة قديمة كانت أو حديثة برغم اختلاف أساليب التعبير بحسب اختلاف البيئة أو الزمن
إنها تتضمنها فى صورتها السهلة الأثر يدل على المؤثر
وتتضمنها في صورتها الكلامية كل حادث لابد له محدث
وتتضمنها في صورتها الفلسفية القديمة الممكن والواجب
وتتضمنها في صورتها الفلسفية الحديثة سواء رجعنا فيها إلى شعور الوجدان أو فكرة الكمال
أو غير ذلك
الوحدانية
وإذا كان القرآن لا يجعل من أهدافه إثبات وجود الله فإنه يجعل من أهدافه الكبرى إثبات التوحيد والإسلام هو دين التوحيد والله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له ويستدل القرآن بالمشاهدة الصادقة لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا هذه المشاهدة العادية تلبس صورة منطقية رائعة فلو كان هناك إله غير الله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض
على أن القرآن لا يكتفى بالمشاهدة وبالمنطق وإنما يرجع بالإنسان إلى وجدانه ويثبت الوحدة عن طريق النظام والعناية والتدبير فيقول في آيات رائعة قُل الحَمْدُ للهِ وسَلامٌ على عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفَى اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أمِّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِن السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حدائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ
ما كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهُ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِي وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجزا أَ إِلهُ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
٥٤ سورة الروم الآيات ۱۹ - ۵
٥٤
أَمَّنْ يُجيب المضطر إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهُ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ
أمنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ البر والبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياح بشرًا بَين يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
أَمَّنْ يَبْدأُ الخَلْقَ ثُمَّ يعيدُه وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَ إِلَهُ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ٥٥
العلم
والله سبحانه وتعالى عالم إنه عالم الغيب والشهادة
اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كل أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وما تزدَادُ وكلُّ شيءٍ عِنْدَه بمقدارٍ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المتعَالِ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسر القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَن هُوَ مُسْتَخْفِ باللَّيلِ وَسَارِبُ بالنَّهارِ ٥٦
والله تعالى لا يعلم الماضى والحاضر فحسب ولكنه يعلم المستقبل أيضا ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلا فى أنْفُسِكُمْ إلا فى كتابِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرأَهَا إِنَّ ذَلِكَ على الله يسير ٥٧
وهو يسخر ممن جعلوا الله شركاء ويسألهم في سخرية وإنكار
وَجَعَلُوا اللَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُوهُمْ أَمْ تُنبِّئُونَهُ بمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرِ مِنَ الْقَوْلِ ٥٨
وفي القرآن آية يرى بعضهم أنها تشير إلى العقل الباطن أو اللاشعور وإن تجهر بالقول
فإنه يعلم السر وأخفى ٥٩
٥٥ سورة النمل الآيات ٥٩ - ٦٤ ٥٦ سورة الرعد الآيات ۸ - ۱۰ ۷ بيورة الجديد
٥٨ سورة الرعد ۳۳
٥٩ سورة طه ۷
والقرآن يرشد إلى أن علمه ليس مقصوراً على ذاته كما يرى أرسطو وليس مقصوراً على الذات والكليات كما يرى بعض الفلاسفة ولكنه علم شامل للذات والكليات والجزئيات جميعها على الوجه التام
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِم الغَيْبِ لَا يَعْرُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السَّمَوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكبر إلا في كِتَابٍ مُبِينٍ ٦٠
وعِنْدَه مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فى البر وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ
إلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رطب وَلا يَابِسٍ إلا في كتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثمَّ يُنبئكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١١
أما دليل القرآن على علم الله فهو غاية الوضوح والقوة أَلَّا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٦٢
مظاهر صفاته
الله عالم وهو مريد وقادر وحكيم ومن مظاهر صفاته هذه المتضامنة هذا الكون وما حواه من بديع صنعته والقرآن يتحدث فى استفاضة عن مظاهر هذه الصفات في كثير من السور بل لا تكاد تخلو سورة من هذه المظاهر كلها أو بعضها
وإليك بنموذج يحدثك بذلك الله الذي رفع السمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمى يُدَبِّر الأمر يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ إلى قوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهم الحُسْنَى ٦٣
٦٠ سورة سبأ ٢ - ٣ 11 الأنعام ٥٩ - ٦٠
٦٢ الملك ١٤
٦٣ سورة الرعد ۴ ۱۸
٥٦
۹ - البعث
الله سبحانه وتعالى خالق وهو واحد مريد عالم قادر إلخ وهو أيضا باعث ومسألة البعث مسألة أنكرها قوم يطلق عليهم الإمام الغزالي الطبيعيون وهو قوم أنكروا البعث مع اعترافهم بالصانع لقد اعترفوا بالصانع لما رأوه فى عجائب الطبيعة من تناسق محكم لا يمكن أن يكون وليد المصادفة ولكنهم رأوا أن النفس تابعة للبدن ولذلك تفنى بفنائه وكانت نتيجة ذلك أن جحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والحساب
على هؤلاء وأضرابهم على اختلاف بيئاتهم وأساليبهم يرد القرآن في غير ما موضع وطبيعيو العرب لم يكن عندهم فى هذه المسألة منطق جدلى فلسفى وليس لهم من دليل سوى
الإنكار والاستبعاد وَقَالُوا أهذا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَانًا أَعنَّا لَمبْعُوثُونَ خَلْقًا جديدًا ١٤
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ٦٥ والقرآن يرد عليهم بتذكيرهم بمظاهر قدرة الله السائدة فى الكون وبأنه ليس من العدالة الإلهية أن يترك الإنسان سدى فلا يجازي على ما قدم
أَيَحْسَب الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ مِنْ مَنِي يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
وفى القرآن كثير من الآيات ترد عليهم مستندة إلى مظاهر قدرة الله وعدالته وفيه آيات متتالية فى آخر سورة يس تحدثت عن رأى منكرى البعث ثم ردت عليهم ردودا متنوعة مختلفة واضحة قوية ونحن نذكر هذه الآيات ونذكر تفسير الكندى لها نقلا عن كتاب الكندي للأستاذ أبي ريدة
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
قُلْ يُحْيِيهَا الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عليمٌ
٦٤ سورة الإسراء ٤٩
15 سورة يس ۷۹
الذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَحْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَولَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَوَتِ والأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلِهِمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاق
الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٦٦
ويقول الأستاذ أبو ريدة عن تفسير الكندي لهذه الآيات إن فيه يبرز فيلسوفنا الأصول النظرية التي تتضمنها هذه الآيات من جهة ويستخرج النتائج التي تلزم عنها من جهة أخرى وهي
۱ - وجود الشيء من جديد بعد كونه وتحلله السابقين ممكن بدليل مشاهدة وجوده بالفعل مرة لا سيما أن جمع المتفرق أسهل من إيجاده وإبداعه عن عدم وإن كان لا يوجد بالنسبة الله شيء هو أسهل وشيء هو أصعب - هذا الدليل موجود في الآيات في كلمات قليلة
قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم
- ظهور الشيء من نقيضه كظهور النار من الشجر الأخضر ممكن وواقع تحت الحس وإذن يمكن أن تدب الحياة في الجسد المتحلل الهامد مرة أخرى
وذلك أيضًا على أساس المبدأ الأكبر وهو إن الشيء يمكن أن يوجد من العدم المطلق بفعل المبدع الحق – هذا الدليل موجود في آية الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَحْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ وقد انتفع به الأشعرى في إثبات إمكان البعث
- خلق الإنسان أو إحياؤه بعد الموت أيسر من خلق العالم الأكبر بعد أن لم يكن وهذا
هو مضمون آية
أَو لَيْسَ الذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ! بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ
العليم - الخلق والفعل مطلقا مهما عظم المخلوق لا يحتاج من جانب الله المبدع لا إلى مادة
٦٦ سورة يس الآيات ۷۸ - ۸۳
۵۸
ولا إلى زمان - خلافًا لفعل البشر الذى لا يتم إلا فى زمان ويحتاج إلى مادة تكون موضوع الفعل وهذا هو معنى آية إِنَّا أَمْرُهُ إِذَا أراد شَيْئًا أَنْ يَقُول لَه كُنْ فَيَكُونُ وهذه الآية - في رأى الكندى - إجابة عما في قلوب الكفار من النكير بسبب ظنهم
أن الفعل
الإلهى المتجلى فى خلق العالم الكبير يحتاج إلى زمان يناسب عظمته قياسا منهم لفعل الله على فعل
البشر
لأن فعل البشر لما هو أعظم يحتاج إلى مدة زمانية أطول فجاءت الآية حاسمة في بيان نوع الفعل الإلهى وأنه إبداع بالإرادة الخالقة والقدرة المطلقة لا يحتاج إلى مادة ولا إلى امتداد زمانی
فأى بشر - كما يقول الكندى - يقدر بفلسفة البشر أن يجمع في قول بقدر حروف هذه الآيات ما جمع الله جل وتعالى إلى رسوله الله فيها من إيضاح أن العظام تحيي بعد أن تصير رميماً وأن قدرته تخلق مثل السموات والأرض وأن الشيء يكون من نقيضه !! كلت عن ذلك الألسن المنطقية المتحايلة وقصرت عن مثله نهايات البشر وحجبت عنه العقول الجزئية اهـ ٦٧
على أننا لا نترك موضوع البعث دون أن نوجه ذهن القارئ إلى هذا التنظير البديع الذي ذكره القرآن الكريم بين الأرض الموات التي يحييها الله فتنبت من كل زوج بهيج والعظام والرفات التي يحييها الله ويصورها فيحسن تصويرها
يَأَيُّها النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ ة مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبِينَ لَكُمْ ونقر فى الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمى مَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ومِنكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمرِ لكيلا يعْلَم مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضِ هَامِدةً فَإذا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهترتْ وَرَبَتْ وأَنْبَتَتْ مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيج
ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَنْ فِى القُبُورِ ٦٨
٦٧ رسائل الكندي ص ٥٧ ٠ ٥٨
18 الحج ٥ - ٧
مشاهد القيامة
ويسبق البعث ويعقبه أمور تحدث عنها القرآن في كثير من الآيات ووصفها في روعة
أخاذة
إنها تصف يوم القيامة وتتحدث عن الحساب والميزان وتصف حالة المؤمنين والكافرين وتصور النار في صورتها البشعة الكريهة والجنة فى روحها وريحانها ورياضها الفيحاء وسنكتفى من كل ذلك بآيات من آخر سورة الزمر
يقول الله تعالى
وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقٌّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتِ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ونفخ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذا هُمْ قِيامُ يَنْظُرُونَ
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضِ بِنورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِي بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيت كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وسيق الذينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمرا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ
قيل ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرين وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ تَبُوا مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أجرُ العَامِلِينَ وَتَرَى الملائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقيل الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۱۹
٦٩ الزمر ٦٧ ٧٥
١٠ - القرآن ومعتقدات العرب
إن ما قدمناه سابقا لم يكن إلا مناحى موجزةً من العقيدة الإسلامية لم تستوعبها فنحن لم نتتبع القرآن آية آية أو سورة سورة لنصل من ذلك إلى إعطاء فكرة تامة عن العقيدة
الإسلامية
على أن إيضاح هذه العقيدة يستلزم حتما توضيح موقف القرآن مما كان منتشرا في جزيرة
العرب من معتقدات
لقد قلنا سابقاً إن جزيرة العرب كانت ملأى بمختلف العقائد سواء ما استند منها إلى الخيال والوهم أو ما استند منها فى أساسه إلى كتاب سماوى والقرآن يتحدث عن هؤلاء وأولئك ويناقشهم ويجادلهم ليقودهم فى النهاية إلى الطريق المستقيم وإذا كان القرآن قد تحدث عن هذه المعتقدات فلم يكن ذلك لأنها في جزيرة العرب فحسب وإنما كان ذلك لأنها أنماط من معتقدات منتشرة في جزيرة العرب وفي خارجها وكان هدفه من ذلك طبعا تخليص فكرة الألوهية من كل ما يشوبها من خطأ وضلال ووهم تحدث القرآن عن معبودات لا تتصف بصفة الحياة كالأصنام والكواكب وفى قصة سبأ ذكر لعبادة الشمس وفى قصة إبراهيم ذكر لهذين النوعين وفيها ما يبطلها أما فيما يتعلق بالكواكب فإنه من البين أن الإله لا يطرأ عليه المغيب إذ الإله منزه عن
ذلك
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحب الآفِلينَ فلما رأى القمر بازغا قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِي رَبِّي لِأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضالين
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةٌ قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِلَى بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۷۰
بيد أن عبادة الأصنام كانت متغلغلة فى جزيرة العرب إلى درجة هي من القوة بحيث أخذ
۷۰ الأنعام ٧٦ - ۷۸
1
القرآن يتفنن فى الرد عليها واختلفت أساليب رده بين الجدل الصارم والسخرية اللاذعة
والتهكم المرير
واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَا إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُ لَهَا عَاكِفِينَ
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون ۱ أما الأسلوب المنطقى الساخر المتهكم فإنه يتمثل في الآيات التالية وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَه مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا به عالِمينَ إذْ قَالِ لأَبِيهِ وَقَومِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَها عابِدِينَ
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أنتم وآبَاؤُكُمْ في ضَلالٍ مُبِينٍ
قَالُوا أَجِتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعبين
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الذى فَطَرَهنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَاللهُ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُدَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِالهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالمينَ قَالُوا سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِه عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أ أنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِالِهتنا يا إبراهيم
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُم الظَّالِمُونَ ثُمَّ نَكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنْطِقُونَ
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دون اللهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أَفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ۷
۷۱ الشعراء ٦٩ - ٧٣
۷ الأنبياء ٥١ - ٦٧
٦٣
أما عجل بني إسرائيل فقد كان و له خواره ثم إنه لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يُمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ۳ ذلك اتخذوه إلها ٤ ومع ولم يقتصر القرآن – في تصحيح فكرة الألوهية في العالم - على الرد على عبدة الأصنام أو الكواكب إذ كان هناك عبدة فرعون وعبدة الجن وعبدة الملائكة
وقد ذكر القرآن كل هؤلاء وهم جميعًا ينطبق عليهم ما ينطبق على الذي حاج إبراهيم في ربه فليس في استطاعتهم أن يغيروا مجرى سير الكواكب الذي رسمه الله لها منذ أن وجد العالم ألم ترَ إِلَى الذِي حَاجَّ إِبْراهيم في رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّى الذِي يُحْيِي َويُمِيتُ قَالَ أَنا أُحْيى وأميتُ
قَالَ إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الغُرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ٧٥
وليس في استطاعتهم مجتمعين أن
يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُم الذُّبابُ شَيْئًا لا يَستَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ ٧٦
فإذا كانوا قد عجزوا عن أن يغيروا سنة واحدة من سنن الله الكونية وعجزوا عن أن يخلقوا ذبابة بل يعجزون عن أن يستنقذوا منها ما استلبته منهم إذا كانوا قد عجزوا عن ذلك فليسوا بآلهة لأن من خصائص الإله المقدرة العامة الشاملة
المسيحية
آخر
على أن الصراع القوى إنما كان بين الإسلام من جانب والمسيحية واليهودية من جانب
۷۳ طه ۸۹۸۸
٧٤ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه
وكانوا ظالمين الأعراف ١٤٨
٧٥ سورة البقرة ٢٥٨
٧٦ سورة الحج ٧٣
٦٣
فقد كان اليهود يعتزون بالتوراة ويعتزون بإبراهيم وموسى وينظرون إلى كل من عداهم نظرة احتقار يسرونها أحياناً ويعلنونها حينما تواتيهم الظروف وكان المسيحيون يعتزون بالإنجيل ويعتزون بعيسى وموسى وإبراهيم وينظرون
إلى غيرهم نظرتهم إلى القطيع الضال يتطلب راعيًا يقوده إلى الحظيرة وقد زاد اعتزازهم بأديانهم حينما اعترف القرآن بموسى وعيسى واعترف بما أنزل الله عليهما من توراة وإنجيل وحقاً لقد كان موقف القرآن كريماً بالنسبة إلى المسيحيين انظر إليه في سموه إذ يقول إِذْ قَالَتِ الملائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ
وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين
وَيُكَلَّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ومِنَ الصَّالِحِينَ
قَالَتْ رَبِّ أَنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ له كُن فَيَكُونُ
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ والتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِسَكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بإذن الله وَأُبْرِئُ الأكمة والأبرص وَأحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأَنْتَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآية لكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ
۷۷
وبينما يرمى اليهود مريم بأبشع النقائص لحملها بدون زواج إذ بالقرآن يقول
يا مريم إنَّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ۷۸ ولكن القرآن لا يعرف المجاملة فى الحق وقديما قال أرسطو كلمته المشهورة أحب أفلاطون وأحب الحق وأوثر الحق على أفلاطون وإذا كان القرآن يعترف بأن أقرب الناس مودة إلى المؤمنين هم الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون فإنه لا يجامل في بيان الحق وتوضيح
۷۷ سورة آل عمران ٤٥ - ٤٩
۷۸ سورة آل عمران ٤٢
الجادة وتصحيح فكرة الألوهية التي حرفها النصارى بعد عيسى لقد أرسل الله عيسى برسالته إلى بني إسرائيل فحرفها من بعده الذين انتسبوا إليه أفظع تحريف وشوهوها أبشع تشويه وأبعدوا في الضلال فزعموا تارة أن المسيح هو الله وزعموا أن المسيح ابن الله وزعموا أن الله ثالث ثلاثة بل لقد الهوا مريم ! وكل هذا ضلال تتنزه عنه الرسالة الإلهية وقد رد عليهم القرآن من طريق المنطق تارة ومن طريق كتيهم وما جاء فيها تارة أخرى وفي كلتا الحالتين كان أسلوبه قوياً عنيفاً كأنه الصواعق تنزل على
افترائهم فتحطمه تحطيما
وقالوا اتخذ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ! ! لقد جنم شَيْئًا إِذًا !! تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وتَخرُ الجِبالُ هَذَا أَنْ دَعَوا للرَّحْمَن وَلَدا وَمَا يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ في السَّمَواتِ والأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمنِ عبدا ۷۹
ويرد عليهم القرآن وعلى غيرهم في هذا متخذاً أساس الرد عقيدة من عقائدهم إنهم يعتقدون أن ليس الله تعالى زوجة فيقول القرآن
بَديعُ السَّمواتِ والأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
بكل شيء عَلِيمٌ ۸۰
ثم إن النصارى الهوا المسيح وأمه عليهما السلام وأخذ القرآن يرد عليهم في هذا بمختلف
الردود
۷۹ سورة مريم ۸۸ - ۹۳
۸۰ سورة الأنعام ١٠١
يقول صاحب البحر المحيط في تفسير هذه الآية
كيف يكون له ولد وهذه الحالة أى أن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له فلا ولد له
وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه
أحدها أن مبتدع السموات والأرض وهى أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا والثاني أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو تعالى متعال عن المجانس فلم يصح أن تكون له
صاحبة فلم تصح الولادة والثالث أن ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج
اليه ا هـ النهر الماد من البحر جـ ٤ ص ١٩٤
وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيم أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ أَتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ الهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال سُبْحَانَكَ ! مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتَهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَم ما في نَفْسِي وَلا أَعْلم ما في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتني به أَنِ اعْبُدُوا الله ربي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِم شَهِيدًا مَا دُمتُ فيهم فلما توفيتنى كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وإِنْ تَغْفِرْ لهم فإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۸۱ لَقَد كَفَرَ الذينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المسيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَاللهُ مُلْكُ السَّمَواتِ والأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير ۸
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المسيحُ بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ َثالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِله إِلا إِلَهُ وَاحِدٌ ۸۳
وينبه القرآن المسيحيين إلى أن المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام ٨٤ ومن البين أن الذي يأكل الطعام فيتحول فى جسمه دما ولحماً وعِظَاماً وينضح عرفا ويخرج فضلة لو بقيت في الجسم لأضرته من الواضح أن كائنا من هذا النمط لا يمكن أن يكون إلا بشرا خاضعا لكل قوانين البشرية التى لا تؤدى إلى نقص في مرتبته كرسول لقد كان الميلاد المسيح بدون أب أثر قوى فى زيغ كثير من النصارى وكثير من اليهود لقد غلا النصارى فقالوا إنه ابن الله وأسرف اليهود في عنادهم فرموا أمه المطهرة بالفجور على هؤلاء وأولئك يرد القرآن في بساطة ووضوح
بأن
۸۱ سورة المائدة ١١٦
۸ سورة المائدة ۱۷
۱۱۸
۸۳ سورة المائدة ۷ - ۷۳
٨٤ سورة المائدة ٧٥
٦٦
مثل عيسى عِنْدَ الله كَمَثلِ آدم خَلَقَهُ من تُرَابٍ ثُمَّ قال له كُن فَيَكُون واليهود والنصارى يعترفون بأن آدم خلقه الله دون أب وأم فأمره إذا أعجب وأغرب من أمر عيسى فما كان لهم أن يغلوا في أمره غير الحق أو يسرفوا في الانتقاص من أمه
اليهود
وإذا كان المسيحيون هم أقرب الناس مودة للمسلمين فإن أشد الناس عداوة للمسلمين هم اليهود ومثلهم فى ذلك مثل الذين أشركوا هكذا يصفهم القرآن ويستفيض في الجدل معهم استفاضة تتناسب مع تاريخهم الطويل وعنادهم الشديد ومكرهم الخبيث ولقد كان الصراع قوياً عنيفاً بين الإسلام واليهود كان صراعًا بالمنطق والبرهان وكان صراعا بالسيف والرماح ولا يعنينا هنا التحدث عن السيف والرمح وإنما نتحدث عن الصراع
بالمنطق والبرهان
ولقد خص القرآن آل عمران من بنى إسرائيل بسورة من أكبر سوره هي سورة آل عمران سماها باسمهم وسورة المائدة وهى من أكبر سور القرآن أيضا تكاد تكون مقصورة عليهم وفى القرآن سورة يوسف وسورة إبراهيم وسورة مريم وسورة الأنبياء وكلها ملأى بالحديث عن بني إسرائيل أما سورة الأعراف فإنها تروى قصة موسى مع فرعون ومع السحرة المصريين وتتحدث عن إخراج " بني إسرائيل من مصر ومناجاة موسى لربه وأخذه الألواح وتذكر انحراف بني إسرائيل واتخاذهم العجل معبودا وغير ذلك من شئونهم
على أن القرآن لا يقتصر - في الحديث عن بني إسرائيل - على هذه السور التي ذكرناها وإنما تخلل الحديث عن بني إسرائيل كثيرا من السور من ذلك نرى مبلغ الأهمية التي وجهها القرآن إلى بني إسرائيل لإرشادهم إلى الجادة ولقد صور القرآن في أحاديثه هذه أخلاقهم فى وضوح وكان في ذلك كطبيب يشخص المرض تشخيصًا دقيقاً حتى يسهل العلاج ولكن اليهود الذين بلغوا من موسى مبلغا جعله يقول رَبِّ إِنِّي لا أملك إلا نَفْسي وَأَخِي فَافُرق بيننا وبَيْنَ القَوْمِ الفَاسِقِينَ كانوا عصيين على العلاج حتى لقد أيأسوا داود وعيسى عليهما السلام فلعنهم
٦٧
لُعِنَ الذين كفروا من بني إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى بِن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يعتدون كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرِ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۸۰
ولقد وصل بهم الأمر إلى أن كانوا يقتلون أنبياءهم بغير حق بيد أن هذه الناحية الأخلاقية ليست من أهدافنا الأولى فى هذا الكتاب وتصفح القرآن خير هاد المعرفتها والذى يعنينا هنا إنما هو عقيدة اليهود والقرآن يذكر أنهم اتخذوا العجل معبودا وأنهم قالوا عزير ابن الله وأنكروا رسالة محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وقد تحدثنا عن رد القرآن على هذه الأمور فيما سبق
تحديد فكرة الألوهية
وإذ بدد القرآن كل شبهة حلقت في سماء فكرة الألوهية وثنية كانت تلك الفكرة أو كتابية فإنه خصها بسورة واضحة جلية سهلة موجزة سماها سورة الإخلاص لتخليصها تلك الفكرة من شوائب كل باطل وضلال
بسم
الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ الله أَحَد اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد ولقد ورد في الخبر أنها تعدل ثلث القرآن لأن من عرف معناها حق المعرفة وأدرك ما أشارت إليه إدراك صاحب البصيرة المستنيرة لم يكن بقية ما جاء في التوحيد والتنزيه عنده إلا تفصيلا لما علم وشرحا لما حصل ٨٦
في هذه السورة يوصف الله بأنه أحد
وكلمه أحد أبلغ في الدلالة على الوحدة من كلمة واحد فأحدية الله لا تركب فيها بوجه من الوجوه إنها ليست كواحدية الإنسان الذى يتركب من أعضاء ووحدات وفى هذه الآية تحديد فكرة الإسلام في مقابل فكرة التعدد على أى وضع كانت و لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالث ثَلاثَة
٨٥ سورة المائدة ۷۹۷۸
٨٦ الشيخ محمد عبده جزء عم ص ١٧٦
TA
إنها تنفى التثليث وتنفى التركب إنها رد على النصارى وعلى مشركي العرب وهي رد على مشبهة الإسلام فيما بعد
و اللهُ الصَّمَدُ فإليه يرجع الأمر كله وهو وإن كان قد سبب الأسباب وأجرى سنته على أوضاع محددة وطلب إلينا أن نتخذ الأسباب فإنه مع ذلك المرجع الأول والأخير لكل
ما يجرى في هذا العالم من شئون
فإذا ما توجهت الآمال إلى سواه فقد ضلت وانحرفت ولقد ضلت بسبب ذلك النصارى واليهود فقد اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وفى هذه الآية بصورة عامة توجيه وهداية لكل من كان يعلق آماله على غير الله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
يتزه الله عن أن يلد أحدًا ويشير إلى فساد رأى القائلين بأن له ابنا أو بنات وهم مشركو العرب والهند والنصارى وغيرهم ويبين لهم أن النبوة تستلزم الولادة والتعبير بالانبثاق ونحوه لا يغير المعنى والولادة إنما تكون من الحى الذى له مزاج وما له مزاج فهو مركب ونهايته إلى إنحلال وفناء وهو - جل شأنه – منزه عن ذلك
وقوله لَمْ يُولَدْ يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابنا الله يكون إلها ويعبد عبادة الإله ويقصد فيما يقصد فيه الإله بل لا يستحى الغالون منهم أن يعبروا عن والدته بـ أم الله القادرة فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج وهو لا يسلم من عاقبة
الفناء
ودعوى أنه أزلى أبيه مما لا يمكن تعقله ولا تغير من حقيقة الأمر شيئًا فإذا أراد أحد من هؤلاء أن يدعى التنزيه فما عليه إلا أن يقلع عن هذه الألفاظ والنسب ويقول كما نقول الله أحد الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَم يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد وهو نفى لما يعتقده بعض المبطلين من أن الله ندا فى أفعاله يعاكسه في أعماله على نحو ما يعتقد
بعض الوثنيين فى الشيطان مثلا
فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الإشراك وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه ۸۷
۸۷ الشيخ محمد عبده تفسير جزء عم ۱۷۸ - ۱۷۹
9
١١ - القرآن وأسئلة العرب في هذه الفترة من صدر الإسلام - فترة حياة الرسول الله - كان القرآن وكان الرسول في أحاديثه يلبيان حاجات الأمة اعتقادية كانت أو تشريعية أو خلقية وكانت الأسئلة تترى موجهة إلى الرسول الله فيجيب عنها الوحى القرآنى تارة وتجيب عنها أحاديث الرسول تارة أخرى وأسئلة المجتمع إذ ذاك لم تكن تنتهى إلى حد وكانوا يسألون الرسول في كل
صغيرة وكبيرة
فقد سألوه عن الروح وسألوه فى القدر وسألوه عن الأزل وسألوه عن المصير وسألوه
عن الله وعن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة
وسألوه عن الخمر والميسر والمأكل والمشرب والأهلة والمحيض وسألوه عن كل ما كان يجول في أذهانهم وكان القرآن سجلا يصور الكثير من الأسئلة ويعطى الإجابة عنها وها هى ذى آيات متتالية من سورة البقرة توضح هذه الفكرة
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ به عليم
كُتِبَ عَلَيْكُم القِتَالُ وَهُوَ كُرْهُ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ والله يعلم وأنتم لا تعْلَمُونَ
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيه قُلْ قِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ وَصِد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرَ بِهِ والْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وإخراج أهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الله وَالفِتْنَةُ أكبر من القتل وَلَا يَزالون يُقَاتِلُونَكُمْ حَتى يَردُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٍ فَأُولئِكَ حبَطَتْ أَعْمَالُهُمْ فى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ أولئكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في
الدنيا والآخرة
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحُ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تَخالِطُوهُم فَإِخْوانُكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ من المُصْلِح وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَعْتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
المُفْسِدَ
وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تَنكِحُوا المشركينَ حَتَّى يُؤْمِنوا وَلَعَبْدُ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُون إلى النَّارِ والله يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ والمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمحيضِ قلْ هُوَ أذى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المحيض وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يطهُرْن فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المتطهرين ۸۸
أظن أننا بعد الذي قدمناه لسنا في حاجة إلى الرد على الأستاذ و دى بور في قوله جاء القرآن للمسلمين بدين ولم يجتهم بنظريات وتلقوا فيه أحكاماً ولكنهم لم يتلقوا فيه
عقائد ۸۹
لقد رأينا بوضوح فيما سبق أن القرآن جاء للمسلمين بدين وبمبادئ وبأحكام
وبعقائد
ولا شك أن الإمام الرازي كان أصدق رأيا وأعمق غورًا إذ يقول معبرا عن الحقيقة إن الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية وأما البواقي ففي بيان
التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين
۸۸ سورة البقرة الآيات ۱٥ - ۱
۸۹ تاريخ الفلسفة في الإسلام ترجمة و أبي ريدة ص ٤٦
۷۱
ويقول وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل اهـ
ولم يرفع الرسول الله إلا وقد أكمل الله دينه
وأتم
نعمته على المسلمين
اليوم أكملت لكم دينكم وأَتمَمْتُ عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا ۹۰
لقد أكمل الله للمسلمين الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه عز وجل فلا ينقصه أبدا وقد رضيه فلا يسخطه أبدا
۹۰ سورة المائدة آية ٣
الفصل الثالث
الفرق والأحزاب السياسية *
- حديث الفرق وتقسيم المتقدمين روى عن رسول الله الله أنه قال
عليهم
ستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منهم واحدة والباقون هلكي
قيل ومن الناجية قال أهل السنة والجماعة
وقيل وما السنة والجماعة
قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي
"
لقد أثار هذا الحديث تفنن كثير من مؤرخى الفرق الإسلامية فخيل إليهم أنه من المحتم أن يبلغوا بالفرق الحد الذى ذكر فى هذا الحديث
ه والشهر ستانى المتوفى سنة ٥٤٨ هـ - ١١٥٣ م ذكر هذا الحديث في مستهل كتابه ثم أخذ في تعداد الفرق وحصرها في العدد المذكور وكأنه قد تيقن
الملل والنحل
#
أنه
سوف لا تنشأ حقيقة فرق بعده ۱ وكأنه قد تيقن - أيضًا - أنه أحاط بكل ماكان يموج به العالم الإسلامي في زمنه - على
سعته - من آراء
من مصادر هذا الفصل شرح العقائد العضدية للجلال الدواني وحاشية الإمام محمد عبده ومقدمة ابن خلدون والملل والنحل الشهرستان
۱ لقد زاد عدد الفرق عند الإمام الرازي فقال كالمعتذر
فإن قيل إن هذه الطوائف التي عددتهم أكثر من ثلاث وسبعين ورسول الله لم يخبر بأكثر فكيف ينبغي أن يعتقد
في ذلك
۷
وقد صنع كثير غيره صنيعه في حصر هذه الفرق وعدها بطرق تدعونا أحيانًا إلى الابتسام
لسذاجتها
قال ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس بعد أن ذكر أن أصول الفرق هي الحرورية و القدرية و الجهمية و المرجئة و الرافضة و ه الجبرية وقد قال بعض أهل العلم أصل الفرق هذه الست وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتى عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة ا هـ
لقد أراد بعض أ هذا أهل العلم رحمهم الله أن يتخلصوا من حصر الفرق فكان منه هذا التقسيم السهل الساذج الذي يرتكز على المساواة في تقسيم كل أصل من أصول الفرق
الفرقة الناجية في رأى كل فرقة
وإذا كان مؤرخو الفرق قد تعسفوا في تعدادها فإن رجال الفرق أنفسهم قد دافع كل منهم عن فرقته ورأى أنها - وحدها - هى الناجية أما ما عداها فهو في النار وقد وصل بهم الأمر في تبرير رأيهم أن يتلقفوا كل ما يتوهمون أنه يساعدهم ولو كان باطلا يدعو إلى السخرية أو مجرد تخيل لا يقام له وزن
وهاك مثالا على ذلك ذكره صاحب العقائد العضدية
و قال ابن المطهر المحلى في بعض تصانيفه
قد باحثنا في هذا الحديث مع الأستاذ و نصير الدين بن محمد الطوسي في تعيين المراد من الفرقة الناجية لم فاستقر الرأى على أنه ينبغى أن تكون تلك الفرقة مخالفة لسائر الفرق مخالفة كثيرة وما هي إلا الشيعة الإمامية فإنهم يخالفون غيرهم من جميع الفرق مخالفة بينة بخلاف غيرهم من الفرق فإنهم يتقاربون في أكثر الأصول قلت أكثر الشيعة يوافق المعتزلة فى أكثر الأصول ولا يخالفها إلا في مسائل قليلة أكثرها
والجواب عن هذا أنه يجوز أن يكون مراده الله من ذكر الفرق الكبار وما عددنا من الفرق ليست من الفرق العظيمة وأيضا فإنه أخبر أنهم يكونون على ثلاث وسبعين فرقة فلم يجز أن يكونوا أقل وأما إن كانت أكثر فلا يضر ذلك كيف ولم تذكر فى هذا المختصر كثيرًا من الفرق المشهورة ولو ذكرناها كلها مستقصاة الجاز أن يكون أضعاف ما ذكرنا بل ربما وجد في فرقة واحدة من فرق الروافض - وهم الإمامية - ثلاث وسبعون فرقة
الرازي و اعتقادات فرق المسلمين والمشتركين ص ٧٤ - ٧٥
يتعلق بالإمامة وهى بالفروع أشبه بل الأليق بذلك هم الأشاعرة فإن أصولهم مخالفة لأكثر أصول المذاهب ولا يوافقهم فيها غيرهم كمسألة الكسب وجواز رؤية الله تعالى - مع كونه غير جسم – وتنزهه عن المكان والجهة بل جوزوا رؤية كل موجود من الأعراض وغيرها حتى جوزوا رؤية الأصوات والطعوم والروائح وجوزوا رؤية أعمى الصين بقة بالأندلس واستناد الممكنات كلها إلى الله تعالى ابتداء وكون صفاته لا هى عين الذات ولا غيرها والفرق بين الإرادة والرضا إلى غير ذلك من المسائل التي شنع مخالفوهم عليهم فيها اهـ أرأيت كيف يُتَّخذُ الاختلاف والإغراق في الابتعاد عن الآخرين أساسا للنجاة ولو اتبعنا هذا الأساس لكان الإغراق فى الإلحاد أساسا للنجاة بل لكان التخريف
أو تخيلات المجانين أكثر قرباً للنجاة لأنها أكثر ابتعادًا عن آراء الآخرين الفرقة الناجية !! إنها المعتزلة فى رأى المعتزلة وهى الكرامية في رأى الكرامية وهى المشبهة في رأى المشبهة وكل فرقة ترى أن مَن عداها في النار ولكن ما الرأى فى هذه المشكلة التى أثارها هذا الحديث مَنْ هي الفرقة الناجية ومن هي الفرق الهلكى وهل انتهت الفرق إلى العدد المذكور في الحديث إذا تجرد الإنسان نوعا ما من عصبيته لفرقته فما هو شعوره أمام هذا الحديث
- قيمة الحديث
إن هذا الحديث الذي ذكره الشهرستانى وتقيد به وأورده البغدادي في الفرق بين الفرق وجعله صاحب المواقف في مستهل بحثه عن الفرق لم يتقيد به ابن حزم في الفصل ولم يتقيد به الرازي فى كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ثم إنه لم يُرو في واحد من الصحيحين البخاري ومسلم حقيقة أنه قد رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حبان وصححوه عن أبي هريرة
وكان لفظه عندهم ه افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى كذلك وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة
العقائد العضدية ص
Yo
قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي
ولكن مما يدعو إلى الارتياح ويثلج الصدور أن الشعرانى فى ميزانه قد روى من حديث
ه ابن النجار وصححه الحاكم بلفظ غريب وهو
ستفترق أمتى على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة
وفي رواية عن الديلمي الهالك منها واحدة
وفي هامش الميزان عن أنس عن النبي له بلفظ تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة كلها فى الجنة إلا الزنادقة
وما في هامش الميزان هذا مذكور في تخريج أحاديث مسند الفردوس و للحافظ بن
حجر ولفظه
تفرق على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة وهي الزنادقة أسنده
و أنس
وقال صاحب كشف الخفاء
ولعل وجه التوفيق
أن المراد بأهل الجنة فى الرواية الثانية ولو مالا فتأمل
- رأينا في تقسيم الفرق
عن
إذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بهذا الحديث فإن رأينا الخاص فيما يتعلق بافتراق الأمة
يهدف إلى التمييز بين نوعين من الافتراق
نوع هو أحزاب دينية ونوع هو فرق دينية
الأحزاب الدينية
أما الأحزاب الدينية فلا شأن لها - باعتبارها أحزابا - بالعقائد إلا عرضًا وأما الفرق الدينية فإنه لا شأن لها - باعتبارها فرقا - بالحكم إلا عرضًا والأحزاب الدينية هى الشيعة و الخوارج
والفرق الدينية هى بحسب الترتيب الزمنى - المشبهة والمعتزلة ومدرسة ابن تيمية
والأشاعرة
وهذا التقسيم في رأينا يتمشى مع طبيعة الأشياء إذ الأحزاب الدينية نشأت حول
الإمامة وبسببها
وأما الفرق الدينية فإنها نشأت من التفكير فى الدين وقد استقلت كل فرقة برأى يتصل
بالعقيدة يخالف رأى غيرها
ونريد أن نزيد الأمر وضوحا يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأصولها
إن أهم ما امتازت به الشيعة عن سائر فرق المسلمين
هو القول بإمامة الأئمة وهو فرق جوهرى أصلى وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد كالحنفى والشافعي وغيرهما وهذه الإمامة يقول عنها ابن خلدون
وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجتماعية ولا تلحق بالعقائد ونحن نتفق كل الاتفاق مع ما يراه الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في أن الإمامة
هي المميز الجوهرى للشيعة
ونتفق مع ابن خلدون فى أن الإمامة ليس مثلها في ناحية العقيدة كمثل الإيمان بالله أو برسله أو بالمعاد إنها قضية مصلحية
ومن هنا كانت الشيعة حزباً ولكنه حزب دينى أعنى أنه يرى أن الأسرة العلوية خير من يقيم الدين على ظهر المعمورة وأنه يؤيدها من أجل الدين ولأنها صاحبة حق ديني في الخلافة نقول إنها حزب وليست بفرقة ونحتكم إلى التاريخ فإذا به يحدثنا أن زيد بن على إمام الزيدية تتلمذ في الأصول على واصل بن عطاء رأس مع اعتقاد و واصل أن جده على بن أبي طالب رضي الله عنه في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام ماكان على يقين من الصواب وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه فاقتبس منه الاعتزال وصار أصحابه كلهم معتزلة ا هـ الزيدية إذن كلهم معتزلة أهم شيعة أم معتزلة
المعتزلة
VV
هذا
إنهم شيعة باعتبار حزبهم معتزلة باعتبار فرقتهم ولا أظن أنه يمكننا تفسير الأمر على غير
والإمام أبو حنيفة معروفة عقيدته إنه من أهل السنة ومع ذلك فإن الشهرستاني
يحدثنا
وكان أبو حنيفة رحمه الله على بيعته بيعة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب ومن جملة شيعته حتى رفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبد حتى مات في الحبس وقيل إنه إنما بايع محمد بن عبد الله الإمام في أيام المنصور ولما قتل محمد بالمدينة بقى الإمام أبو حنيفة على تلك البيعة يعتقد موالاة أهل البيت فرفع حاله إلى المنصور فتم عليه ما تم
ويحدثنا أبو الفرج الأصفهانى فى كتابه مقاتل الطالبيين
أن أبا حنيفة كان يوالى زيدا ويناصره حتى لقد أرسل إليه يقول إن لك عندى معرفة وقوة على جهاد عدوك فاستعن بها أنت وأصحابك في الكُراع ۳
والسلاح
ویروی صاحب الكشاف
وكان أبو حنيفة يفتى سرًّا بوجوب نصرة زيد بن على والحمل إليه والخروج معه
على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة
أكان أبو حنيفة سُنيا أم شيعيا
لقد كان سُنيًّا في عقيدته ولكن ميوله مع العلويين
وكان ابن إسحاق صاحب السيرة المشهور يرمى بالتشيع والقول بالقدر والتشيع حزبية والقول بالقدر عقيدة بل إن الأمر ليصل إلى أن تجد شخصًا شيعي الحزب معتزلى العقيدة أو سنيها
المذهب أو حنفيه
يقول الشهر ستانى عن فرق الشيعة
شافعی
۳ الكراع اسم يجمع الخيل
VA
وهم خمس فرق كيسائية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه ٤ فليست الشيعة إذا فرقة
دينية وإنما هي حزب ديني
والخوارج إنما خرجوا على على رضى الله عنه لا لأنه تحدث عن الله - سبحانه وتعالى - أو عن صفاته بما لا يرضيهم أو بما يخرجه عن حظيرة الإسلام ولا لأنه أنكر نبوة الرسول الله أو طعن فيه أو أنكر المعاد كلا
وإنما خرجوا عليه لأنه قبل التحكيم وقد كونوا - فى مقابل حزب الشيعة - حزباً معارضا يستل السيف ويمتشق الحسام
لم يكن بين الشيعة والخوارج خلاف فى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر
ولم يكن بينهم خلاف فى الصلاة والزكاة والصيام والحج
وقد تمركز الخلاف بينهم وتبلور فى شخصية الإمام على وحدها تقريبا فرأى فريق أن سیاسته ضلال وانحراف أدت به إلى الكفر ورأى فريق أن سياسته هدى ورشاد تؤدى
لو اتبعت إلى الخير كل الخير
لا يمكننا إذن أن نسمى مثل هذا الاختلاف اختلافاً في أصول العقيدة يقول
الشهرستاني
وانقسمت الاختلافات بعده بعد الإمام على إلى قسمين
أحدهما الاختلاف في الإمامة والثانى الاختلاف في الأصول اهـ
الاختلاف في الإمامة كما يرى الشهرستاني وكما يرى ابن خلدون وكما يرى غيرهما ليس اختلافا في أصل من أصول الإسلام
والخوارج إذن على هذا الوضع أيضًا ليسوا بفرقة دينية وإنما هم حزب ديني
مثلهم في ذلك مثل الشيعة سواء بسواء
٤ الشهرستاني في الملل والنحل
الحكمة في هذا التقسيم
قد يقول قائل وما هى الحكمة التي نرجوها من وراء هذا التقسيم أما هذه الحكمة فذات
شقين
أولا أن هذا التقسيم يتمشى مع طبيعة الأشياء لما رأينا من أن الاختلاف ليس على
أصول الدين
ثانيا إذا اعتبرنا الشيعة حزباً - كما هو الواقع - فإن الجدل بينهم وبين غيرهم لا يتجه وجهة دينية بحتة وينتج عن ذلك أن حدته - من الناحية الدينية - تخف كثيرًا فلا يرمى بعضهم بعضا بالكفر والإلحاد والزندقة
يقول الشهر ستانى بحق وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ماسل سيف فى الإسلام على قاعدة دينية مثل ماسل على الإمامة في كل زمان اهـ
إنها قاعدة دينية فرعية وليست أصلا من أصول الدين الأساسية الجوهرية ومع ذلك لم يسل سيف في الإسلام فى كل زمان مثل ماسل من أجلها ولكنها الدنيا ولكنها الأهواء ! ! قال صاحب الأغاني قال و الهيثم ثم إن ابن الزبير مضى إلى صفية بنت و أبي عبيد وزوجة عبد الله بن عمر فذكر لها أن خروجه كان غضباً لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ه والمهاجرين والأنصار من أثرة معاوية وابنه وأهله بالفيء وسألها مسألته أن يبايعه فلما جاء ابن عمر وقدَّمت عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير واجتهاده وأثنت عليه وقالت ما يدعو إلا إلى طاعة الله عز وجل وأكثرت القول في ذلك فقال لها أما رأيت بغلات و معاوية اللواتى كان يحج عليهن الشهب فإن ابن الزبير
ما يريد غيرهن 11 اهـ
بغلات معاوية الشهب المحلاة بالسروج المذهبة - رمزا للدنيا المترفة - إنها هي مطمح المتطلعين للإمامة وهى أصل النزاع وأساس الداء إنها الدنيا كما قلنا وإنها الأهواء
إزالة لبس
ونريد أن نعجل بإزالة لبس قد يتجه إلى الذهن
ذلك أننا لا نريد من كلمة الشيعة هذه الأهواء التي كانت تثور فجأة في بعض الرءوس التي فقدت الاتزان المنطق ثم تندثر وتنتهى كأن لم تغن بالأمس فلا يبقى لها من أثر إلا صداها البغيض والشيعة أنفسهم يتبرءون منها
إننا لا نريد بالشيعة السبئية أو الخطابية أو ما شاكلها من الفرق الغالية وإنما نقصد من الشيعة تلك الأحزاب التي بقيت إلى الآن كثيرة الاتباع منتشرة في أقاليم عدة وهي التي تمثل حقيقة الشيعة ونعني
الإمامية والزيدية أما الإسماعيلية فلا ندخلها في زمرة الشيعة إنها نزغة ضالة
المرجئة
وأما المرجئة فإنها فى رأينا ليست بحزب ديني وليست بفرقة دينية وإنما هي نزعة إنها نزعة إلى السلامة إن المرجئ لا يريد أن يتورط في حزب ولا يريد أن يبذل مجهودا في تأييد أو فى معارضة إنه لا يريد أن يمتشق السيف مؤيدا أو مناهضا إنه يحب السلامة وهو منصرف عن كل ما يتطلب منه مجهودا سواء أكان هذا المجهود علمياً نظريًّا أم كان عمليًّا حربيًّا
الجهمية
أما الجهمية فإنها شذوذ فى الرأى ونشاز في التفكير فإنها ليست بنصية لأنها تقول بالتعطيل وليست بعقلية لأنها تقول بالجبر والانسجام العام مفقود بين أجزائها فهي مذهب مضطرب متأرجح ولذلك لم تسد كفرقة وبقيت فكرة يعمل جهم على نشرها فلا
يكاد يجد صدى لما يقول ورغم محاولة بعض مؤرخى الملل والنحل من عدها فرقة افترقت إلى فرق فإنها لم تكد تتجاوز رأس جهم ويمكن الحديث عنها كحلقة فردية من حلقات التفكير الإسلامي
۸۱
الفرق الدينية
وإذا كانت الشيعة والخوارج أحزابا دينية وإذا كانت المرجئة نزعة إلى المسالمة فإن المشبهة والمعتزلة والأشاعرة والتيميين أتباع ابن تيمية فرق دينية وإذا كان السبب فى ظهور الشيعة والخوارج هو الاختلاف على الإمامة فإن السبب في ظهور هذه الفرق هو البحث والجدل في العقيدة الدينية وإننا لنرى أن الفرق الإسلامية لا تخرج عن هذه الفرق الأربعة وهذا التقسيم على كل حال يتخذ موقف الفرق من العقل كأساس ذلك أن المعتزلة يعتمدون كل الاعتماد أو يكادون يعتمدون كل الاعتماد على العقل فذهبهم عقلى
والنص لأنه يحتمل معان عدة يُؤول بحسب ما يراه العقل وفى مقابل المعتزلة المشبهة إنهم يأخذون بظاهر النص وبمعناه الحرفى ولا يعبثون بمجافاة
المعنى الحرفى للعقل
ووصل بهم
الأمر إلى ألا يقيموا وزنًا لما فى الأسلوب العربي من استعارة ومن مجاز
المعتزلة والمشبهة طرفان يكاد الاختلاف بينهما يكون شاملا وبين هؤلاء وأولئك الأشاعرة والتيميون
والأشاعرة أقرب إلى المعتزلة فهم يستعملون العقل ولكن للنص عندهم منزلة كبيرة والتيميون يأخذون بالنص بيد أنه لا يمكننا أن نزعم اختفاء العقل والمنطق من مذهبهم أما واسطة العقد ودرة القلادة ومن تساموا بأنفسهم عن أن يتبعوا الهوى المردى أو الشكل دون الجوهر أو الهيكل دون الروح فإنهم السلف إنهم هؤلاء الذين ساروا على ما كان عليه النبي الله وأصحابه رضى الله عنهم إنهم الفرقة
الناجية حقا
لقد نجاهم الله من بلبلة الأفكار ومن ضلالات الوهم والخيال ومن مزالق الشك والاضطراب إنهم سلكوا الطريق السوى واستسلموا للوحى المعصوم وركنوا إلى الحصن الذي لا ينهار
۸
وهم الناجون يومَ لا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُم يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهم
وليس معنى ذلك أن غيرهم من الفرق التي ذكرنا كافر كلا حقا إن المعتزلة والأشاعرة لا يسلم بعضهم - أحيانًا - من بلبلة الفكر والشك والحيرة والاضطراب وإن محيط ما وراء الطبيعة لأعظم من أن يمخر عبابه سابح وأعصف من أن يسلم فيه كل السلامة من خاض غمراته ولكن المعتزلة والأشاعرة يهدفون إلى تنزيه الله ويسعون سعيًا حثيثا إلى مرضاته ويجاهدون أعداء الدين جهادًا لا هوادة فيه ويسهرون الليل ويقومون النهار لإعلاء كلمة الله وإن الله لا يضيع أجر العاملين ولم يكن ابن تيمية دسيسة على الإسلام إنه لم يكن يهوديًا اعتنق الإسلام للتضليل بالمسلمين وإنما عاش طيلة حياته مناضلا في إخلاص عما يراه الحق ويثيرها شعواء على ما يراه بدعة ومجاهدًا فى غير هوادة ولا لين هؤلاء الذين أداه تفكيره إلى أنهم انحرفوا عن الجادة ولكنه - في رأينا - ليس بسلفى فما يتعلق بالصفات على الخصوص ولكننا نعجل فنقول إن شخصية تحملت من العذاب فى سبيل مبدئها ما تحمله ابن تيمية لهي شخصية مخلصة كل الإخلاص أما المشبهة فاستعدادهم في رأينا إنما هو استعداد الدهماء ولو وضعت الأمور في نصابها واتخذ كل شخص المهنة التي تليق به لما كان استعداد المشبهة يؤهلهم لأكثر من أن يكونوا عمالا أو صناعا إن استعدادهم لا يؤهلهم إلا إلى الحدادة والنجارة أو حمل الفأس أو الضرب بالمعول ولكن انحراف الأمور والاضطراب العام فى نظام المجتمعات جعلهم في عداد العلماء وحملة الأقلام
ولما بينهم وبين الدهماء من تشابه أخذ بعض الدهماء يسيرون خلفهم وقذفوا بهم إلى كرسى الرئاسة بل ومنصة القضاء وهم مع ذلك مخلصون إنهم لا يبطنون كفرًا ويظهرون إيماناً ولكنك لا يمكنك أن تطلب في الماء - كما يقولون - جذوة نار ولا يمكنك أن تطلب من طبيعة الدهماء الغليظة أن تتسم بالروحانية في صفاتها وأن
تستشعر الحق ناصعا وضاء لا شك فى أن طبيعة المشيهة هي طبيعة الدهماء
إنها طبيعة ذلك الشخص الذى وقف يستمع إلى درس من دروس المعتزلة في مسجد بدمشق فسمع الأستاذ يقول إن الله سبحانه وتعالى ليس بفوق ولا بتحت ولا بيمين ولا بشمال وليس بعرض ولا يجوهر فلم يستسغ عقله ذلك وخرج على عجل يتمتم إن هؤلاء يريدون أن ينفوا أن فى السماء إلها وأخذ يستعيذ ويحوقل
ومع ذلك فهم مخلصون مؤمنون بالله وبرسالة سيدنا محمد عل وباليوم الآخر وهم يصلون ويصومون ويؤدون الشعائر على وجهها ويتجهون إلى القبلة كل يوم خمس
مرات
وإذا كانت طبيعتهم كما ذكرنا فإنه من المستحيل تحويلهم عنها في سهولة ويسر ولا شك أن إخلاصهم مسجل في الكتاب الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ولا يعترينا شك أن مثل هؤلاء كمثل تلك المرأة الساذجة التي سئلت - رسول الله علي الله عن الله فقالت إنه في السماء
فقال رسول الله الله اتركها فإنها مؤمنة
فيما يروى – أمام
والفرق الغالية كلها خارجة عن موضوعنا سواء أكانت غالية الشيعة أم غالية المشبهة
٤- رأى ابن خلدون في تقسيم الفرق ونريد أن نستأنس في رأينا الخاص بهذا التقسيم بكلام مؤرخ شهير هو ابن خلدون قال
في مقدمته ه
إن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب كلها وصريحة فى بابها فوجب الإيمان بها ووقع في كلام الشارع - صلوات الله عليه - وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على
ظاهرها
ثم وردت في القرآن أى أخر قليلة توهم التشبيه مرة فى الذات وأخرى في الصفات فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها يبحث ولا تأويل
٥ س ٣٢٥ ٣٢٦ طبعة عبد الرحمن محمد
ΛΕ
وهذا معنى قول الكثير منهم اقرء وها كما جاءت أى آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء فيجب الوقف والإذعان له وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه ففريق شبهوا الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آى التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضى النقص والافتقار وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض وجمع بين نفى وإثبات إن كان بالمعقولية واحدا من الأجسام وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقوا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما أسمائه من ويتوقف مثله على الإذن وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه فى الصفات كإثبات الجهة والاستواء والتزول والصوت والحرف وأمثال ذلك وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن
ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء وألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه فى آى السلوب فقضوا بنفى
صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها وقضوا بنفى السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام وهو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ وإنما هو إدراك المسموع أو المبصر وقضوا بنفى الكلام لشبه ما فى السمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس
فقضوا بأن القرآن مخلوق بدعة صرح السلف بخلافها
وعظم ضرر هذه البدعة ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها وخالف أئمة السلف فاستحل الخلافهم إيسار كثير منهم ودماءهم وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه
البدع
وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرى إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم
6
بالنفس بطريق النقل والعقل ورد على المبتدعة في ذلك كله وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح وكمل العقائد في البعثة وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب وألحق بذلك الكلام فى الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنه يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة فى ذلك لمن هي له وكذلك على الأمة
و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجتماعية ولا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام أهـ ولعل القارئ قد لاحظ أن ابن خلدون في تعداده للفرق قد بين أولا رأى السلف ثم تحدث عن المشبهة في الذات
ذكر المشبهة في الصفات
ثم ذكر المعتزلة ونشأتهم عندما تقدمت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدين والبحث ثم تحدث عن الأشاعرة
ولم يتحدث عن الشيعة كفرقة ولا عن الخوارج لا عن المرجئة وبين أن الإمامة ليست من العقائد وإنما هي من الأمور المصلحية
شيعة وخوارج هما أحزاب دينية
ومرجئة هي نزعة
وجهمية هي فكرة فردية
٨٦
ومشبهة ومعتزلة وأشاعرة وتيميون تلك فرق دينية
والفرقة الناجية هي ما عليه الرسول الله وأصحابه
إنها السلف إنها ناجية من بلبلة الفكر ومن ضلالات الأوهام ومن زيغ العقول وهى تمثل الاطمئنان التام والشهرستاني يسميها طريق السلامة
- الحالة في عهد الرسول
الفصل الرابع
مذهب السلف
كان رسول الله له المرجع في إزالة الحيرة من نفس الحائر وكان المسلمون يسألونه مستفسرين والمخالفون لدينه يسألونه معارضين ومتعنتين ومجادلين
كانت هناك الأسئلة من كل نوع وكان الرسول الله يجيب على حسب ما يقتضيه المقام ولكن الرسول الله كان يكره المراء في الدين والجدل بين المسلمين وفى هذا المعنى رويت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف ولكنها في جملتها تثبت هذا المعنى بحيث لا تدع للشك مجالا في موقف الرسول بالنسبة للجدل بين المسلمين في مسائل الدين
من هذه الأحاديث ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله الله على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون في القدر فخرج مغضبا حتى وقف عليهم فقال
یا قوم ! ! بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به
وعن أبي سعيد قال
وكنا جلوسا عند باب رسول الله لعل الله تذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية فخرج علينا رسول الله الله كأنما يفقاً في وجهه حب الرمان فقال
من مصادر هذا الفصل الشهرستاني الملل والنحل الإمام الغزالي و الإحياء وه الجام العوام
الإمام الرازي و أساس التقديس
۸۸
يا هؤلاء !! بهذا بعثتم أم بهذا أمرتم
لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط والبزار وعن أنس مثله
وقد روى هذا المعنى في كثير من الأحاديث على اختلاف بينهما في الطول والقصر
والصحة والضعف
- موقف الصحابة
ورأى الصحابة رضوان الله
عليهم
أن الله قد صرح
بأنه أكمل دينه وأتم نعمته على المسلمين فأخذوا أنفسهم بالتزام ما يأتى به على الوجه الذي أتى به وقد أثبت القرآن وجود الله فهم يؤمنون بوجود الله وتطمئن نفوسهم إلى خبر القرآن عن وجوده وكذلك الأمر في وحدانية الله وقدرته وبقية صفاته وقد استفاض القرآن في الاستدلال على رسالة الرسول مع الله فهم يثبتونها ويستدلون بما استدل به القرآن
وقد أثبت القرآن البحث وأقام عليه الدليل فهم يثبتونه ويقيمون عليه دليل القرآن يقتصر السلف إذن فى الاستدلال على معرفة الله ووحدانيته وصدق الرسول عليه
الصلاة والسلام وعلى اليوم الآخر على ما ورد فى الكتاب الكريم
ويصور الإمام الغزالي موقفهم فيقول
أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله تعالى
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِن السَّماءِ والأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِـ الميت ويُخرجُ الميت مِنَ الْحَى ومَنْ يُدبر الأمر فسيقولون الله ۱
وقوله تعالى
أفلم يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج والأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَالقَيْنَا فيها رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
۱ سورة يونس آية ۳۱
تبْصِرَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
ونزلنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُباركًا فأنبتنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ
والنخل باسقات لها طَلْعُ نَضِيدٌ
وكقوله
ید
فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَيْنا الماءَ صَبا ثم شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيها حَبًّا وعنبا وَقَصْبًا وَزَيْتُونا ونَخْلاً وَحَدائِقَ غُلُبا وفاكهة وأبا ۳
وقوله
أَلم نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا والجِبالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُبانًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباسًا وجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشًا وبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجا وأنزَلْنَا مِنَ المُعْصِراتِ ماء تجاجًا لتخرج به حبا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ٤
وأمثال ذلك وهى قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب و جواهر القرآن بها ينبغى أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين إن الأعراض حادثة وإن الجواهر لا تخلو عن الأعراض الحادثة فهي حادثة ثم الحادث يفتقر إلى محدث فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش على قلوب العوام والدلالة الظاهرة القريبة من الأفهام على ما في القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة ا هـ ه أما الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله لَوْ كَانَ فيها آلِهَةٌ إلا الله لَفَسَدَنَا
فإن اجتماع المديرين سبب إفساد أمر التدبير وبمثل قوله تعالى
لَو كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُون إذًا لا بتغوا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبيلاً
سورة في الآيات ٦ - ١٠ ۳ سورة عبس الآيات ٢٤ - ٣١ ٤ سورة النبأ الآيات ٦ - ١٦
وقوله تعالى
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهِ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهِ مَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعضي ٥
وأما صدق الرسول عل فيستدل عليه بقوله تعالى
قُلْ لن اجتمعَتِ الإِنْسِ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا
وبقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وقوله تعالى قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُورٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وأمثاله ٦
٥ سورة المؤمنون آية ۹۱
1 وللإمام الغزالى في كتابه المنقذ من الضلال منحى في غاية القوة فيما يتعلق بكيفية إثبات النبوة نورده فيما يلى وما من شك في أن الإمام الغزالي قدس الله سره قد بين أن هذه الآيات الكريمة بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته وقد أتت في القرآن لهذا كما ذكر الإمام حجة الإسلام وقد درج الناس على أن يأخذوا منها أدلة على وجود الله وهى بالفعل من أقوى الأدلة على وجوده سبحانه ولكنها لم ترد في القرآن الكريم لهذا وإنما وردت لتبين وجلال الله الخالق وعظمته ولم يكن إثبات وجود الله هدفا من أهداف القرآن الكريم فالله ثابت بالفطرة والبديهة وكل محاولة لإثباته وإن كانت مشكورة فإنها لا تساير الجو القرآنى ولا تساير جو الفطرة والبداهة وعن الوحدانية يقول الإمام الغزالي
فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لا فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم
تشاهدهم
ولا تعجز أيضًا عن معرفة كون الشافعي - رحمه الله - فقيها وكون جالينوس طبيبا معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير بل بأن تتعلم شيئًا من الفقه والطب وتطالع كتبها وتصانيفها فيحصل لك علم ضرورى بحالها فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضرورى بكونه - - على أعلى درجات النبوة وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق في قوله ه من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم وكيف صدق في قوله
ه من أصبح وهمومه هم واحد أى التقوى كفاه الله تعالى هموم الدنيا والآخرة فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف حصل لك علم ضرورى لا تتمارى فيه
فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا ثعباناً وشق القمر فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ربما ظننت أنه سحر وتخييل وأنه من الله إضلال فإنه يضل من يشاء ويهدى من
يشاء
۹۱
وأما اليوم الآخر فيستدل عليه بقوله تعالى قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيها الذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
وبقوله تعالى
أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ مِنْ مَنِي يُمْنَى
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَ
يُحْيِي الموتى ۷
ويقول تعالى
يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنبيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثم نُخْرِجَكُمْ طِفلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةٌ فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّت
وربت ۸
إلى آخر الآيات وأمثال ذلك في القرآن فلا ينبغي أن يزاد عليه ۹ إنهم أي الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد الله وإلى إثبات الإلهية مع عبدة الأصنام وإلى إثبات البعث مع منكريه ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ١٠
= وترد عليك أسئلة المعجزات
فإن كان مستندا إيمانك إلى كلام منظوم فى وجه دلالة المعجزة فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الأشكال والشبية عليها فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في مجلة نظرك حتى يحصل لك علم ضرورى لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين مل من حيث لا يدرى
ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد فهذا هو الإيمان القوى العلمي وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ولا يوجد إلا في طريق الصوفية
۷ سورة القيامة الآيات ٣٦ - ٤٠
۸ سورة الحج آية
9 إلجام العوام - ص ۷ - ۸ طبعة منير
١٠ المصدر نفسه ص ۳۰
۹
۱۱
وما ركبوا ظهر اللجاج فى وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحرير طريق المجادلة وتذليل طرقها ومنهاجها وكل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتنة ومنبع التشويش وأدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوى وسائر الأدلة كالأطعمة
التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا ١٢ فمن الجلى أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال وَهُوَ الَّذِي يَبْدأ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم وأن من خلق علم كما قال تعالى أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ فهذه الأدلة تجرى للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر فهو الذي ينبغي أن يتوقى
والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك ويدل عليه أيضا أن رسول الله الا الله و الصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين فى تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه والخاضوا في تحرير الأدلة خوضًا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض ا هـ وإذا عارضوا اليهود والنصارى عارضوهم بكلام الله سبحانه وتعالى في أوثق نص من نصوصه المنزلة وهو القرآن
كان الأمر هكذا فى زمن أبي بكر وفى زمن عمر وعند كل من التزم النهج الصحيح وروى عن عمر رضى الله تعالى عنه و أنه سأل سائل عن آيتين متشابهتين فعلاه بالدرة كما أنه سأله سائل عن القرآن أهو مخلوق أم لا فتعجب من قوله فأخذ بيده حتى جاء إلى علي رضي الله عنه فقال
يا أبا الحسن استمع ما يقول هذا الرجل
۱۱ إلجام العوام ص ۳۰ ۱ إلجام العوام ص ۹
قال
وما يقول يا أمير المؤمنين
فقال الرجل
سألته عن القرآن أمخلوق هو أم لا
فوجم لها - رضي الله عنه وطأطأ رأسه ثم رفع رأسه وقال سيكون لكلام هذا نبأ في آخر الزمان ولو وليتُ من أمره ما وليت لضربت عنقه
رواه أحمد عن أبي هريرة ١٣ وهذا المذهب مذهب اتباع القرآن والتزام ما جاء فيه والبعد عن الجدل الكلام قد اتبعه الصحابة والتابعون وكبار الأئمة
- موقف الأئمة من علم الكلام
وعلم
ولقد ذهب إلى تحريم علم الكلام والجدل فى الدين الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وأهل الحديث من السلف قال ابن عبد الأعلى - رحمه الله - سمعت الشافعي - رضي الله عنه – يوم ناظر حفصاً الفرد - وكان من متكلمى المعتزلة - يقول
ه لأن يلقى الله عز وجل بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه وقال أيضًا قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر فى الكلام وحكى الكرابيسي أن الشافعي - رضي الله عنه - سئل عن شيء من الكلام فغضب
وقال
سل عن هذا حَفْصًا الفرد وأصحابه أخزاهم الله وقال أيضا لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد
۱۳ الجام العوام ص ۳۸ ط منير
وقال أيضًا إذا سمعت الرجل يقول
الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له
قال الزعفراني قال الشافعي
حكمي فى أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدًا ولا نكاد نرى أحدًا نظر في الكلام إلا وفى قلبه دَغَلٌ
وقال علماء الكلام زنادقة
وقال مالك رحمه الله -
أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أبدع دينه كل يوم لدين
جديد يعنى أن أقوال المتجادلين تتفاوت
وقال مالك - رحمه الله - أيضًا
لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء
فقال بعض أصحابه في تأويله إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أى مذهب كانوا وقال أبو يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق
وقال الحسن لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه مع أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب
أنهم
وقالوا ما سكت عنه الصحابة غيرهم - إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر ولذلك
قال النبي
الألفاظ
من
هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون ! أي المتعمقون في البحث والاستقصاء
واحتجوا أيضًا بأن ذلك لوكان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله الله ويعلم طريقه ويثنى عليه وعلى أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام فى القدر وقال أمسكوا عن القدر
٩٥
وعلى هذا استمر الصحابة – رضي الله عنهم - فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم
الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة ١٤
٤ - موقف السلف من مشكلة القدر
ذلك هو منهج السلف ومنهج من سار على طريقتهم
بيد أنه عرض لهم بعض المشاكل منها مشكلة القدر ومشكلة الصفات أما مشكلة القدر فإنه قد ورد في القرآن آيات ربما تشعر بالجبر مثل
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ
فمن يُرِدِ اللهُ أن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا
كأنما بصَّعَدُ فى السَّمَاءِ
وفيه آيات ربما تشعر بالاختيار
فَمَن شَاء فَليؤمن وَمَنْ شَاء فَلْيَكْفُن
وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
لا يُؤاخذكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فى أَيَّانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُ كُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ولكننا إذا تتبعنا الأحاديث وتتبعنا منزع كبار الصحابة رأينا أن الاتجاه كان ينحو نحو
الاعتقاد
بأنه لا تطرف في العالم طرفة عين ولا تهب فيه نسمة هواء ولا يحدث فيه حادث صغر أوكبر إلا بإرادة وتقدير من الله - سبحانه وتعالى لقد ملأت فكرة الإلهية قلوبهم وسيطرت على نفوسهم فاستسلموا الله خاضعين مؤمنين بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
١٤ و الغزالي - كتاب قواعد العقائد من إحياء علوم الدين
9
هذا الله واستسلامهم هو نفسه الذي دعاهم إلى أن يعملوا وأن يجتهدوا في أعمالهم وأن يعدوا لكل أمر عدته وأن يتخذوا الأسباب فيعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ومن رباط
الخيل
ولم يمنعهم استسلامهم للقدر من أن يكونوا من كبار المكافحين لدينهم أولا ولدنياهم ثانيا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ذلك حق
ولكن الله أمرهم بالعمل وأمرهم بالسير فى الأرض والضرب في مناكبها وأمرهم بالجهاد لإعلاء كلمة الله والسيطرة على أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون
هذا الموقف هو موقف الاستسلام لله وإذا أردنا الدقة قلنا
إنه ليس موقف الجبر وليس موقف الاختيار وليس موقف الكسب إنه موقف الاستسلام لله
ويتمثل هذا الموقف فيما يروى عن على - رضي الله عنه - قال
وكنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتى رسول الله عله فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال
ه ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومعقده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال
ه اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء ثم قرأ
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسرُهُ لِلْيُسْرَى وإذا أنعمنا النظر في هذا الحديث وجدنا فيه نوعا من الغرابة أو نوعا من الطرافة
وطرافته أو غرابته آتية من أنه مُربك للجبريين ومربك للاختياريين ومربك للكسبيين فصدره يتجه إلى الجبر وفيما يتلو يأمر بالعمل وينتهى بالحديث بآية قرآنية ترشد إلى أن تيسير الله الصراط المستقيم للإنسان إنما هو مترتب على الإحسان والتقوى والتصديق بالحسنى ولكن الحديث فى جملته لا يرشد إلا إلى الاستسلام الله هذا الاستسلام على ما بيناه هو الذي يفسر قول الرسول في بيان الإيمان وأن يؤمن بالقدر خيره وشره وهو حديث متفق عليه من البخاري ومسلم وغيرهما
ويفسر قول ابن عمر رضى الله عنهما وقد جاءه رجل فقال
إن فلاناً يقرأ عليك السلام لرجل من أهل الشام فقال ابن عمر إنه بلغنى أنه قد أحدث التكذيب بالقدر فإن كان قد أحدث فلا تقرأ منى عليه السلام وموقف ابن عمر في هذا كموقف الرجل الذى يرى أن التكذيب بالقدر معناه عدم سيطرة فكرة الإلهية على النفس سيطرة تامة فكل من يكذب بالقدر لا يكون موقفه موقف الاستسلام التام لله سبحانه وتعالى
ونريد أن نوضح الفكرة فنرى سيدنا عمر - رضي الله عنه - دقيقاً كل الدقة حينما اعترض عليه أبو عبيدة وقد أراد أن يترك الأرض التي بها الطاعون أفراراً من قدر الله يا عمر فقال
أفر من قدر الله إلى قدر الله
كان عمر يؤمن بقدر الله وكان أبو عبيدة يؤمن بقدر الله ولكن لم يمنعها هذا من اتخاذ الأسباب
فقد كان أبو عبيدة قائد الجيوش لا تكاد عينه تذوق النوم إلا غرارا لأنه مشغول بتدبير أمر الجيش ولا يترك شيئًا من أحكام التدبير حتى ينتهى بالأمر إلى غايته وكان عمر هو الآخر لا يذوق النوم إلا لماما ليدبر أمر الأمة ومع ذلك فإنه حينما أتته الطعنة المشئومة ودهمه القضاء المحتوم كان يردد الآية الكريمة وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا إنه من البديهى أن الصدر الأول للإسلام كان يؤمن بالقدر ويتخذ الأسباب وكان إمامه في ذلك الرسول مع الله الذى كانت حياته كلها استسلاما الله – سبحانه وتعالى – فكانت لذلك إيمانا بقدره وجهادًا وتضحية وكفاحا لا هوادة فيه حتى لقد كسرت رباعيتاه وجرحت ركبتاه وشج رأسه في غزوة أحد ورمى بالأحجار حتى سال الدم من عقبيه في الطائف وهاجر من مسقط رأسه ومأنس نفسه مكة إلى يثرب المدينة إنه فى كل تصرفاته كان مستسلما الله - سبحانه وتعالى - وذلك مذهب السلف جميعا أظن أننا - بعد أن حددنا مذهب السلف هذا التحديد - لسنا بحاجة إلى الرد على من يزعم أن المسلمين قوم متواكلون وتواكلهم أتاهم من دينهم
۹۸
إن المسلمين حينما اتبعوا أمر دينهم واستسلموا الله فى الصدر الاول دكوا معاقل القياصرة وحطموا حصون الأكاسرة لإعلاء كلمة الله واتخذوا - كما أمرهم دينهم - لكل شيء سببا وأعدوا ما ستطاعوا من قوة ومن رباط الخيل وكأنما قد صغرت رقعة الدنيا فطووها في فتوحهم طيا ولم يمض زمن طويل حتى فتحت بلاد الفرس كلها وانتزع العرب من الإمبراطورية الشرقية أحسن ولايتين فيها وهما الشام ومصر
هذا ما يقوله ديبور المستشرق الألمانى عن المسلمين الأول أى المسلمين حينما كانوا يتبعون الإسلام كما أنزل
أما المسلمون المتواكلون فالإسلام منهم براء
ه - موقف السلف من الأخبار الموهمة للتشبيه
ولقد أثارت الأخبار الموهمة للتشبيه كاليد والقدم والنزول والاستواء وما يجرى مجراهما كثيرًا من الجدل وإنها إلى الآن لا تزال تثير الجدل بين أنصار ابن تيمية وأنصار الأشعري
وإن هذا الموضوع ليثير العواطف فى قوة لأنه يتصل بالإلهية
وقد كتب فيه - سلباً وإيجابًا وتفسيرًا وتأويلا - كثير من المؤلفات التي تمثل مختلف
الترعات
ولم يكن هذا الموضوع يثار فى عهد الصحابة ويتناقش فيه وإنما أثاره وناقشه من أتى بعدهم معتمدين على أقوالهم واتجاهاتهم كان هذا المذهب الذى سنشرحه سائدا بين الصحابة لا يكاد يشذ عنه فرد ولكن
الكتب لم تدون في عهد الصحابة ولم تكن قد نبتت الشبهات في رءوس الأفراد وانتهى عهد أبى بكر و عمر و عثمان ولم يتناقش القوم في مسألة الصفات لقد شغلوا في عهد أبى بكر بحروب الردة وفي عهد عمر بالفتوح
وشغلوا فى أوائل عهد عثمان بالفتوح وفي أواخره بالفتنة وكان عهد على من الاضطراب الاجتماعي بحيث لا يدع للجدل في صفات الله مجالا ولكن مذهب المشبهة لم يلبث أن أطل برأسه ومذهب نفى الصفات بدأ مع المعتزلة ومع جهم بن صفوان و غيلان
۹۹
كان تشبيه من جانب ومن جانب آخر نفى للصفات أو - بتعبير أدق - توحيد بين الذات
والصفات
فكان لابد إذا من تحديد مذهب السلف
وكان و لمالك و الشافعي و أحمد فيما بعد الفضل كل الفضل في إيضاح هذا المذهب وبيانه في دقة وتحديد
كانوا يؤمنون بما ورد به الكتاب والسنة ولا يتعرضون للتأويل
وكانوا يحترزون عن التشبيه حتى لقد قالوا
من حرّك يده عند قراءة قوله تعالى خلقت بيدى أو أشار بإصبعه عند روايته قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن - وجب قطع يده - وقلع إصبعه ١٥ وعلى الرغم من أن موقف هؤلاء الأئمة العظام لا لبس فيه فقد استمر الجدل في مسألة الصفات من بعدهم ثم تحول الجدل إلى تحديد مذهب السلف نفسه ولا يزال هذا الجدل حول تحديد مذهب السلف مستمرا إلى الآن بين مدرسة الأشعرى ومدرسة
ابن تيمية وكل منهما يزعم انتسابه للسلف ومتابعته لمالك وأحمد بن حنبل -
رضى الله عنهما
وليس من شأننا الآن تحديد ما إذا كان أحدهما أو كلاهما متابعاً أو غير متابع
السلف ذلك
لمذهب
إننا الآن بصدد تحديد مذهب السلف فيما يتعلق بصفات البارى تعالى وسنعتمد - إن شاء الله تعالى - في هذا التحديد بوجه أخص على الشهرستاني فى الملل والنحل وعلى الإمام الغزالي في الإحياء وفى الجام العوام وعلى الإمام الرازي في أساس
التقديس وأظن أن خطورة الموضوع تعطينا كل العذر في الاستفاضة والاسترسال ونعود فتتساءل ما موقف السلف من الصورة واليد والنزول والاستواء وما يجرى مجراها مما ورد فى الكتاب والسنة مما يوهم التشبيه
١ - إن أول موقف يقفه السلفى من هذه الأخبار إنما هو التقديس الله – سبحانه وتعالى –
والتنزيه له عن الجسمية وتوابعها
۱٥ انظر الشهرستانی ج ۱ ص ۱۷ ط بدران
فإذا سمع كلمة الصورة مثلا في قوله
ه إني رأيت ربي في أحسن صورة فينبغي أن يعلم أن الصورة اسم مشترك قد يطلق ويراد
1
L
به الهيئة الحاصلة في أجسام مؤلفة مرتبة ترتيباً مخصوصا مثل الأنف والعين والفم والخد التي هي أجسام وهى لحوم وعظام وقد يطلق ویراد به ما ليس بجسم ولا هيئة فى جسم كما تقول صورة هذه المسألة كذا وصورة الواقعة كذا ولقد صورت للمسألة صورة في غاية الحسن
فليتحقق كل مؤمن أن الصورة في حق الله لم تطلق لإرادة المعنى الأول الذي هو جسم وهيئة وإن خالق الأجسام يتنزه عن مشابهتها وصفاتها وإذا علم هذا يقينا فهو مؤمن فإن خطر له أنه عليه الصلاة والسلام إن لم يرد هذا المعنى الجسمي فأى معنى أراد فينبغي أن يعلم أن ذلك لم يؤمر به بل أمر بألا يخوض فيه فإنه ليس على قدر طاقته لكن ينبغي أن يعتقد أنه أريد به معنى يليق بجلال الله وعظمته مما ليس بجسم ولا عرض في
جسم
أن
۱۷
C
وعلى هذا النمط يكون موقفه في بقية ما ورد كالفوقية والنزول واليد والقدم يجب ينفي في كل ذلك المعنى المادى وألا يحدد معنى يخترعه هو ٢ - ويجب عليه الإيمان والتصديق وهو أن يعلم - - قطعا - أن هذه الألفاظ أريد بها معنى يليق بجلال الله وعظمته وأن رسول الله صادق في وصف الله تعالى به فليؤمن بذلك وليوقن بأن ما قاله صدق وما أخبر عنه حق لا ريب فيه ويقول آمنا وصدقنا وأن ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه به رسوله فهو كما وصفه وحق بالمعنى الذي أراده وعلى الوجه الذى قاله وإن كان لا يقف على حقيقته ۱۸ - ويجب - أمام هذه الأخبار – أن يعترف بالعجز فإن التصديق واجب وهو عن إدراك المعنى عاجز فإن أدعى المعرفة فقد كذب
الخلق
وأوائل حقائق هذه المعانى – بالإضافة إلى عوام الخلق - كأواخرها بالإضافة إلى خواص
١٦ إلجام العوام ص ٧ منير
۱۷ ص ۸
۱۸ إلجام العوام ص ۱۰ ط منير
۱۰۱
من
- وبالسؤال عن هذه الأمور يتعرض الإنسان لما لا يطيقه وقد ضرب عمر بالدرة
أسئلة
سأله عن المتشابهات ويرى الإمام الغزالي أنه يحرم على الوعاظ على رءوس المنابر الجواب عن المتشابهات وإنما يجب عليهم المبالغة فى التقديس ونفى التشبيه ۱۹ ه - ولا يجوز تبديل لفظ من الألفاظ المتشابهة بلفظ آخر غير متشابه وسواء كان بالعربية أو بالفارسية - وذلك لأن الألفاظ المتشابهة قد يكون بعضها أكثر إبهاما للباطل من
البعض
۰
فتفسيرها وترجمتها إذن ممنوعان ولا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها ومنها ما يوجد لها فارسية ولكن ا
ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعانى التي جرت عادة العرب باستعارتها منها ومنها ما يكون مشتركا فى العربية ولا يكون فى العجمية كذلك و الأمثلة كثيرة فمثلا لفظ الاستواء فإنه ليس له فى الفارسية - كما يقول الإمام الغزالي - لفظ مطابق يؤدى بين الفرس من المعنى ما يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على
أن ينحنى ويعوج
مزيد إيهام إذ فارسيته أن يقال راست باستاد وهذان لفظان الأول ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور والثاني ينبئ عن سكون وثبات فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها فى العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها في العربية فإذا تفاوتا في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذى لا يخالفه ولو بأدنى شيء ۱ ويجب الاحتراز عن التصريف فلا تقول في قوله تعالى
اسْتَوَى أنه مستو فاسم الفاعل يدل على كون المشتق ممكنا ومستقرا أما لفظ الفعل
فدلالته على هذا المعنى ضعيفة ٢٢
۱۹ الجام العوام ص ۱۳ ط منير
٢٠ أساس التقديس للرازي ص ۸ ط محيي الدين الكردي
۱ إلجام العوام ص ١٣ - ١٤
أساس التقديس ص ۹ ط محيي الدين الكردى
۱۰
ولا يجوز الجمع بين هذه الألفاظ المتشابهة في مكان واحد لأنا إذا جمعنا الألفاظ المتشابهة وروينا هذا دفعة واحدة أوهمت كثرتها أن المراد منها ظواهرها فكان ذلك الجمع سببا لإيهام زيادة الباطل
وكما لا يجوز الجمع بين متفرق لا يجوز التفريق بين مجتمع فإن ما يسبق الكلمة وما يلحقها له تأثير في تفهيم معناها
والله سبحانه وتعالى لم يذكر لفظ المتشابهات إلا وقرن بها قرينة من سابق أو لاحق تدل على زوال الوهم الباطل ٢٣ فذكر العبودية عند وصف الله تعالى بالفوقية فى قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده يدل على أن المراد من تلك الفوقية شيء آخر غير الفوقية المكانية ولا يقاس على هذه الألفاظ فإذا ورد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد أو العضد أو الكف مصيرًا إلى أن هذا من لوازم اليد كل ذلك محال وكذلك زيادة قد
٢٤
يتجاسر عليها بعض الحمقى - وكما يجب على الإنسان إمساك اللسان عن السؤال وعن التصريف فإنه يجب عليه كف الباطن عن التفكير فى هذه الأمور وهذا ثقيل على النفس ولكن من الممكن أن يشغل الإنسان نفسه عنه بمختلف أنواع العبادة أو بهواية من الهوايات العلمية أو العملية ويرى الإمام الغزالى أن الاشتغال بلعب أو لهو خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره العظيم خطره بل لو اشتغل العامى بالمعاصى البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله تعالى فإن ذاك غايته الفسق وهذا عاقبته الشرك إنَّ الله لا يغفرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء ٢٥
وأخيرًا فإن حاصل هذا المذهب - كما يقول الرازي - هو أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها ثم يجب
تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها ٢٦
۳ أساس النقديس ۹ للكردي
٢٤ إلجام العوام ص ٢٤
٢٥ إلجام العوام ص ٢٦ والآية رقم ١١٦ من سورة النساء
٢٦ أساس التقديس ص ۳
أسباب التوقف في التفسير والتأويل
والتوقف في تفسير هذه الآيات وتأويلها إنما كان لأمرين
أحدهما المنع الوارد في التنزيل فقد قال الله تعالى في شأن القرآن
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَه مِنْهُ ابتغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ
۷
ولا مناص لمن يريد أن يحترز عن الزيغ من أن يمتنع عن التأويل والتفسير والتصريف وغير ذلك مما ذكر سابقا والأمر الثانى أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق والقول فى صفات الباري بالظن غير جائز فربما أولنا الآية على غير مراد البارى تعالى فوقعنا في الزيغ بل نقول كما قال الراسخون في العلم كُلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۸
والحق مذهب السلف
والحق مذهب السلف ويتبين ذلك من تسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل 1 إن أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي فإن ما ينفع في الآخرة أو يضر لا سبيل إلى معرفته بالتجربة كالمعرفة الطبية إذ لا مجال للعوم التجريبية إلا بما يشاهد على التكرار
ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضر وأخبر عنه ولا يدرك بقياس العقل فإن العقول قاصرة عن ذلك والعقلاء بأجمعهم معترفون بأن
العقل لا يهتدى إلى ما بعد الموت وأقروا بأن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوة ب ورسول الله لم يبعث إلا لتبليغ الخلق ما أوحى إليه من صلاح العباد في معادهم
ومعاشهم ولذلك كان رحمة للعالمين
۷ سورة آل عمران ۰۷
ص ۱۷۳ - ط بدران ۸ الشهرستاني
١٠٤
ونهى عنه
وقد بذل فى سبيل ذلك جهده ولم يترك شيئًا مما يقرب إلى الله إلا دل عليه وأمر به ولا شيئاً مما يبعد عن الله إلا حذر منه وذلك في العلم والعمل جميعا جـ وأعرف الناس بمعاني كلامه الا الله وأحراهم بالوقوف على كنهه ودرك أسراره إنما هم الذين شاهدوا الوحى والتنزيل وعاصروه وصاحبوه وتلقوه بالقبول للعمل به وللنقل إلى من بعدهم وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره د ولم يؤثر عنهم - إلى آخر أعمارهم - أنهم دعوا الخلق إلى البحث والتفتيش والتفسير والتأويل في المتشابه بل على العكس من ذلك زجروا من خاض فيه وسأل عنه وتكلم به ۹ والحق مذهب السلف ذلك أن نقيضه بدعة مذمومة وضلالة وقد اتفقت الأمة - قاطبة - على ذمّ البدعة التى ترفع سنة وهذه بدعة رفعت سنة إذ كانت سنة الصحابة المنع من الخوض فى ذلك وزجر من سأل عنه كما نقل ذلك عن
عمر و علی رضي الله عنهما
ومما يجب التنبه له أن هذه الكلمات ما جمعها رسول الله الدفعة واحدة وإنما
جمعها المشية
ولجمعها من التأثير فى الإيهام والتلبيس على الأفهام ما ليس لأحادها المتفرقة وهي -
إذا اقتصر منها على ما في القرآن - كلمات يسيرة معدودة وما ذكر رسول الله لا كلمة منها إلا مع قرائن وإشارات يزول معها إيهام التشبيه ومن أعظم القرائن - في زوال الإيهام - المعرفة السابقة بتقديس الله عن قبول هذه الظواهر وقد سمى رسول الله الا الله الكعبة بيت الله - سبحانه وتعالى - وليس المراد أنها مسكنه
ومأواه
وقالت العرب بغداد فى يد الخليفة وليس المراد أن بغداد بين أصابعه وإنما المراد معنى آخر غير المعنى الظاهر
وجميع
الألفاظ الموهمة في الأخبار يكفى فى دفع إيهامها قرينة واحدة وهي معرفة الله وأنه ليس جسم وليس من جنس الأجسام وهذا مما افتتح رسول الله له ببيانه في أول
بعثه قبل النطق بهذه الألفاظ ٣٠
۹ اللحام العوام في
ط مير
۳۰ الحمام العوام ص ٤٠ ٤٢ طمبة
10
ومن تلك القرائن معرفة المسلمين أنهم نهوا عن عبادة الأصنام وأن من عبد جسما فقد عبد صنما سواء أكان الجسم صغيرًا أم كبيرًا قبيحاً أو جميلا سافلا أو عاليا على الأرض أو على العرش ونفى الجسمية ونفى لوازمها معلوم للمسلمين على القطع والضرورة بإعلام رسول الله المبالغة فى التنزيه بالقرآن العظيم وبقوله تعالى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وسورة الإخلاص وقوله تعالى وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهِ أَنْدَادًا
وبألفاظ كثيرة لا حصر لها في الكتاب والسنة الصحيحة مع قرائن قاطعة لصرفها عن إرادة الظاهر منها
ويأتي الإمام الغزالي في كتابه إلجام العوام بأسئلة وأجوبة تعتبر تطبيقا على ما سبق
بيانه من مذهب السلف
فإذا سئل الإنسان عن الاستواء و الفوق و اليد و الأصبع مثلا فالجواب أن يقال
الحق فيه ما قاله الرسول الله وقال الله تعالى وقد صدق حيث قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
فيعلم قطعا أنه ما أراد الجلوس والاستقرار الذى هو صفة الأجسام ولا ندرى ما الذي أراده ولم نكلف معرفته
وصدق حيث قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وفوقية المكان محالة فإنه كان قبل المكان فهو الآن كما كان وما أراده فلسنا نعرفه وليس علينا ولا عليك أيها السائل معرفته مذهب السلف - إذا - يقف عندما ورد في القرآن والسنة من أدلة على وجود الله وصفاته دون زيادة أو نقص
ويرى أن ذلك كاف فى تثبيت الإيمان وفى إقناع الملحدين وفى رد اليهود والنصارى إلى
الجادة
ويرى أن قواعد الإيمان وأصوله قد بينها القرآن بيانا تاما
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتَى ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ويقف من الله - سبحانه وتعالى - موقف الاستسلام فيؤمن بالقدر ويتخذ الأسباب ويعد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل
ويحترز عن الزيخ فلا يتبع المتشابه ولا يسير وراء الجدل المردى
٦ - رأى بعض الغربيين في أبحاث ما وراء الطبيعة
وقد سبق أن ذكرنا في هذا الفصل موقف الأئمة مالك و الشافعي و ابن حنبل من الجدل فى علم الكلام وأنه لا يفلح صاحب كلام أبدا كما قال الإمام أحمد أن بينا في استفاضة في كتابنا التوحيد الخالص أو الإسلام والعقل أن العقل قاصر - كل القصور - فيما يتعلق بمحيط ما وراء الطبيعة وأن خير طريق للسلامة والنجاة إنما هو اتباع النص
وسبق
والآن نريد أن نثبت هنا كلمة عن آراء بعض الغربيين في علم ما وراء الطبيعة المبنى على العقل وعلى العقل وحده
قال الأستاذ ا س رابوبرت فى كتاب مبادئ الفلسفة ۳۱
ه وهل علم ما بعد الطبيعة سينال غرضه يوما ما أو سيظل صاغرا متسولا أمام ساحة تلك القوة الخفية الكبرى لا يستطيع أن يطأ حماها عاجزا إلا عن تخيل ما فيها محارباً للصعاب التي تعترضه في سبيل كشف النقاب عن ألغاز هذا العلم الكثيرة وهل يستطيع العقل البشرى أن يحل هذه المسائل حلا مرضيّاً أو سيظهر له أن البحث فيها بحث في مستحيل كل هذه الأسئلة كانت ولا تزال عبئًا ثقيلا عن العلم والفلسفة
ولقد قيل
إن علم ما بعد الطبيعة والشعر الرفيع السامى يلتقيان فيمتزجان وإن عالم ما بعد الطبيعة عالم درج فى غير عشه ببحثه عن شيء فوق الحقائق فإذا هو شاعر
۳۱ مبادئ الفلسفة ترجمة أحمد أمين ص ١٣ - ١٤
1V
وقال فولتير
إن علم فيه ما نعانيه فيها من الحساب والقياس بل فيه نحلم حلما لذيذاً وقال بكل في كتابه المدنية في إنجلترا
ما بعد الطبيعة بستان يرتاض فيه العقل وإنه لألد من علم الهندسة فلا نعانى
إن كل باحث في علم ما بعد الطبيعة إنما يبحث أعمال عقله ولم يكن من وراء ذلك البحث استكشاف في أي فرع من فروع العلم
وقال بخنر مؤلف كتاب القوة والمادة فى أحد مؤلفاته الأخيرة المسمى و يجانب
قرن يُحتَضَرُ
بينا نرى علم النفس والمنطق والجمال والأخلاق وفلسفة القانون وتاريخ الفلسفة تستحق البقاء وينبغي أن يدرسها العقل البشرى إذ نرى ما بعد الطبيعة علما مستحيلا وراء
الطبيعة وراء حواسنا فيجب أن يترك بمضيعة ويعد سقط المتاع ا هـ أظن أنه أصبح من البديهي أن مذهب السلف هو حقا طريق السلام
- التفكير في ذات الله
الفضل اخت امس
التفكير في عهد الصحابة
كان الوحى ينزل على الرسول عل الله تباعا مبينًا أمر الدين ولكنه سكت عن بعض المسائل فلم يبينها وهذه المسائل التي سكت عنها تنقسم إلى قسمين ۱ - ما يتصل منها بذات الله وكنهه وحقيقة صفاته ومدى ارتباطها بذاته وأسراره في القدر وغير ذلك من المسائل المشتبهة التي لا مجال للعقل الإنساني فيها غربياً كان أو شرقيا وقديما كان أو حديثا وقد كان الاتجاه العام في القرآن وفى تصرفات الرسول ع الهلال النفور من البحث فيها يقول الشهر ستانى
واعتبر حال طائفة أخرى حيث جادلوا في ذات الله تفكرًا في جلاله وتصرفا في أفعاله حتى منعهم وخوفهم بقوله تعالى
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقِ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فى اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ المحال أما الأحاديث فكثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ونذكر منها الآن ما يلي
قال رسول الله
ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ حَصِمُونَ
رواه الترمذى و ابن ماجه وقال الترمذى حسن صحيح
من مصادر هذا الفصل الملل والنحل الشهرستاني الفرق بين الفرق لـه البغدادي التبصير في الدين لـه الإسفرايني مقالات الإسلاميين لـه الأشعرى فجر الإسلام لـ الدكتور أحمد أمين
۱۰۸
14
وقال مال
من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا فى رَبَض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى
الله له بيتا في أعلى الجنة
رواه ابن ماجه وحسنه الترمذى
وقال
ه إذا ذكر القدر فأمسكوا رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن
وكان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ينفرون مما كان ينفر منه الرسول فقد حدث في عهد عمر رضى الله عنه أن أخذ رجل يسمى صبيغ بن عسل يسأل
عن المتشابه فطلبه عمر وأخذ يضربه بعراجين النخل حتى دَمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي يريد بذلك أنه قد تاب وأن نزغاته قد ذهبت بها عراجين النخل ولكن الفاروق لم يكتف بذلك بل نفاه إلى البصرة حتى استيقن من صلاح حاله
٢ - التفكير في مسائل الفقه
- ولم يذكر القرآن كل المسائل الجزئية التي تتصل بالفروع فإنها لا يحيط بها الحصر وقد بيّن القرآن الأصول العامة للتشريع وبيّن كثيرًا من الجزئيات وسكت عن الباقي تاركاً أمرها إلى اجتهاد الفقهاء
وعلماء الإسلام يرون أن الاختلاف في هذه المسائل على قولين أحدهما تصويب المجتهدين كلهم فيما ذهبوا إليه وكل مجتهد مصيب والثاني يرى فى كل فرع تصويب واحد من المختلفين وتخطئة الباقين من غير تضليل منه للمخطئ ۱
وقد كان الناس في عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه يسألونه عما يحدث لهم ويقع من المسائل الفرعية التي سكت عنها الوحى وهو يجيب دون نفور منه ثم كانوا يسألون كبار
۱ الفرق بين الفرق ص ٦
الصحابة وكانوا يجيبونهم بما يعلمون أنه ينسجم مع
المرعية فيه
الأهداف العامة للدين ومع
الأصول
وقد انهال على الصحابة - باتساع الفتوح - الكثير من الأسئلة الخاصة بالفروع وكان كثير من الصحابة يجيبون برأيهم ويستعملون القياس من ذلك ما روى مثلا عما رفع إلى عمر من حادثة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها فتردد عمر هل يقتل الكثير بالواحدة
فقال له على
أرأيت لو كان نفرًا اشتركوا فى سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت
قاطعهم قال نعم
قال فكذلك فعمل عمر برأيه
وقد كان يحدث أحيانًا أن يبدى السائل ملاحظة فيعدل الصحابي عن رأيه لوجاهة
الملاحظة
فقد رفعت إلى عمر - المسألة المشتركة - وهى التى توفيت فيها امرأة عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء كان عمر يعطى للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة لأم الثلث فلا يبقى شيء للإخوة الأشقاء
فقال الإخوة الأشقاء لـ عمر
هب أن أبانا كان حجرًا في اليم ألسنا من أم واحدة فعدل عن رأيه وأشرك بينهم وأهم من ذلك بكثير ما كان يراه بعض - الصحابة - من النظر في دقة إلى الحكمة الشرعية والمصلحة العامة والظروف والملابسات والأسباب والدواعي والأمثلة على ذلك كثيرة قد ذكرها الفقهاء في غير موضع في كتبهم ومن أمثلتها ما يلى
قال الله تعالى
إِنَّمَا الصَّدقَاتُ لِلْفقراء وَالْمَسَاكِين وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا والمؤلَّفَةِ قُلُوهم وَفِي الرِّقابِ والغارمين وفى سبيل الله وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ
سورة التوبة ٦٠
۱۱۱
فجعل – المؤلفة قلوبهم - مصرفًا من مصارف الزكاة وقد ثبت أن النبي كان يعطى بعض الناس يتألف قلوبهم للإسلام كما أعطى أبا سفيان و الأقرع بن حابس و عباس بن مرداس و صفوان بن أمية و عيينة ابن حصن كل واحد منهم مائة من الإبل حتى قال صفوان لقد أعطاني ما أعطانى وهو أبغض الناس إلى فما زال يعطيني حتى كان أحب الناس إلى ثم في زمن أبى بكر جاء عيينة و الأقرع يطلبان أرضا فكتب لهما بها فجاء عمر فمزق الكتاب وقال إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم عليه وإلا فبيننا وبينكم السيف ۳ ويقول الدكتور أحمد أمين بعد ذكر الحادثة السابقة فترى من هذا أن عمر علل الدفع إلى المؤلفة قلوبهم بعلة هي المصلحة فلما ارتفعت هذه المصلحة بعزة الإسلام وعدم حاجته إلى من تتألف قلوبهم لم يستمر في إجراء الحكم
عليه اهـ
وقد حفظت لنا الأيام وثيقة قيمة تبين توجيه عمر للقضاة الذين يرسلهم إلى الأقاليم النائية وفيها ينصح عمر أبا موسى الأشعرى بما يجب أن يكون عليه كقاض ويبين
له فيها بعض القواعد الفقهية
بعد
له
بسم
الله الرحمن الرحيم
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما
فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ
آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر
۳ فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين
۱۱
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالا لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل
فما يتلجلج
الفهم الفهم في صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنة ثم اعرف الأشباه والأمثال ! فقس الأمور عند ذلك واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقا غائباً أو بينة أمدًا ينتهى إليه فإذا أحضر بينته أخذت له بحقه
وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا فى حد أو مجربا عليه شهادة زور
أو ظنينا في ولاء أو نسب ! فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان وإياك والقلق والضجر والتأذى بالخصوم والتنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله ! فما ظنك بثواب غير الله - عز وجل - فى عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام
من مظاهر الاختلافات بين الصحابة ذلك فإنه من الخطأ البين أن يظن الإنسان أنه لم يحدث اختلاف بين الصحابة فقد ومع اختلفوا في كثير من مسائل الفقه ولكن مؤرخى الأديان - بعد أن يؤكدوا أن الاتفاق كان تاما في مسائل الأصول أعنى العقيدة - يذكرون اختلافات معينة فالأشعرى المتوفى سنة ۳۳۰ هـ يذكر فى كتابه مقالات الإسلاميين الاختلاف فى الإمامة وفي قتل عثمان وفى أمر على ٤
و البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ هـ يذكر فى كتابه الفرق بين الفرق اختلاف الصحابة في موت النبي الله ودفنه وفى الإمامة و فدك وقتال مانعى وجوب الزكاة ويذكر اختلافهم في أمر عثمان و على ٥
٤ مقالات الإسلاميين ص ٤١۰۹ ط النهضة المصرية
٥ الفرق بين الفرق ص ۱
ويذكر الإسفرايني ٦ الاختلاف في وفاة الرسول مع الله وموضع دفنه وفى الإمامة وفى أمر عثمان وفى أمر على ويذكر اختلاف و الخوارج فى عهد على وظهور فرقة السبئية ٧ ونحن نذكر الآن هذه الاختلافات التي حدثت نقلا عن الشهر ستانى ۸ فإنه أوفى المراجع التي بين أيدينا الآن في ذكر هذه الاختلافات
قال في كتابه الملل والنحل
وأما الاختلافات الواقعة فى حال مرضه عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته بين الصحابة رضى الله عنهم فهى اختلافات اجتهادية كما قيل كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج
الدين
فأول تنازع وقع في مرضه - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى بإسناده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه
قال
لما اشتد بالنبي مرضه الذي مات فيه قال
إيتونى بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى
فقال عمر رضى الله عنه و إن رسول الله قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله
وكثر اللغط فقال النبي
ابن عباس
L
قوموا عنى لا ينبغى عندى التنازع قال
الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله الخلاف الثانى فى مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه
فقال قوم يجب علينا امتثال أمره و أسامة قد برز من المدينة
وقال قوم قد اشتد مرض النبي عليه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته والحالة هذه فنصبر حتى نبصر أى شيء يكون من أمره
1 المتوفى سنة ٤٧١ هـ
۷ التبصير فى الدين للإسفراین ص ۱ ۱۳
۸ المتوفى سنة ٤٥٨ هـ
١١٤
وإنما أوردت هذين التنازعين لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة في أمر الدين وليس كذلك وإنما كان الغرض كله إقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب وتسكين نار الفتنة المؤثرة عند تقلب الأمور الخلاف الثالث فى موته عليه الصلاة والسلام قال عمر بن الخطاب من قال إن محمدا قد مات قتلته بسيفى هذا وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه السلام
وقال أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه
من كان يعبد محمدًا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد إله محمد فإنه إله محمد لم يمت ولا يموت وقرأ قول الله سبحانه وتعالى
وَمَا مُحمدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِيهِ فَلَنْ يَضُرُ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
فرجع القوم إلى قوله وقال عمر رضي الله عنه كأني ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر
الخلاف الرابع فى موضع دفنه عليه الصلاة والسلام
أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة لأنها مسقط رأسه ومأنس نفسه وموطئ قدمه وموطن أهله وموقع رحله وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء عليهم السلام ومنه
معراجه إلى السماء
ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة لما روى عنه عليه الصلاة والسلام الأنبياء يدفنون حيث
يموتون
الخلاف الخامس في الإمامة
وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ماسل سيف في الإسلام على قاعدة دينية
مثل ماسل على الإمامة في كل زمان
110
وقد سهل الله تعالى ذلك فى الصدر الأول فاختلف المهاجرون والأنصار فيها
فقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد ابن عبادة
الأنصاري
فاستدركه أبو بكر و عمر رضي الله عنهما فى الحال بأن حضرا سقيفة بني
ساعدة
وقال عمر
كنت أزور في نفسى كلاما في الطريق فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر
مه یا عمر ! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ماكنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدى إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت الفتنة إلا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرة يجب أن يقتلا وإنما سكتت الأنصار عن دعواهم لرواية 1 أبى بكر عن النبي - عليه الصلاة
والسلام - الأئمة من قريش ۱۰ وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة ثم لما عاد إلى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة سوى جماعة من بني هاشم و أبي سفيان من بني أمية وأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه كان مشغولا بما أمره النبي الله من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ودعوى فاطمة عليها السلام وراثة تارة وتمليكا أخرى حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة
۹ ويذكر الإسفرايني في كتابه و التبصير في الدين استدلالا طريقا لـه أبي بكر رضي الله عنه لم نجده عند غيره من المؤرخين للأديان فهو يذكر أن الصديق خطب ثم تلا قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون قال فسيمانا الصادقين ثم أمر الله المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين بقوله تعالى يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ثم روى لهم الحديث و الأئمة من قريش ص ۱ ۱۰ يقول - الشيخ زاهد الكوثرى فى تعليقه على التبصير - مع شهرة هذه الحكاية - بين المتكلمين لا ينت احتجاج أبي بكر هذا الحديث يوم البيعة وإن كان الحديث واردا سند جيد عند الطبراني وغيره كما يظهر من تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم للحافظ العلاني التبصير ص ۱
١١٦
عن النبي - عليه الصلاة والسلام - نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة الخلاف السابع في قتال مانعى الزكاة
فقال قوم لا نقاتلهم قتال الكفرة
وقال قوم بل نقاتلهم حتى قال أبو بكر رضى الله عنه لو منعونى عقالا مما أعطوا رسول الله ما لقاتلتهم عليه ومضى بنفسه إلى قتالهم ووافقه جماعة من الصحابة بأسرهم وقد أدى اجتهاد عمر - رضى الله عنه - فى أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم وإطلاق المحبوسين منهم والإفراج عن أسرائهم
الخلاف الثامن في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة فمن الناس من قال قد وليت علينا فظا غليظا وارتفع الخلاف بقول أبي بكر لو سألني ربى يوم القيامة لقلت وليت عليهم خير أهلهم وقد وقع في زمانه اختلافات كثيرة فى مسائل ميراث الجد والإخوة والكلالة وفى
عقل الأصابع وديات الأسنان وحدود بعض الجرائم التي لم يرد فيها نص وإنما أهم أمور الاشتغال بقتال الروم وغزو العجم وفتح الله تعالى الفتوح على المسلمين وكثرت السبايا والغنائم وكانوا كلهم يصدرون عن رأى عمر رضي الله عنه وانتشرت الدعوة وظهرت الكلمة ودانت العرب ولانت العجم
الخلاف التاسع في أمر الشورى واختلاف الآراء فيها
وأخذوا
واتفقوا كلهم على بيعة عثمان رضي الله عنه وانتظم الأمر واستمرت الدعوة في زمانه وكثرت الفتوح وامتلأ بيت المال وعاشر الخلق على أحسن خلق وعاملهم بأبسط يد غير أن أقاربه - من بني أمية - قد جاروا فجير عليه ووقعت في زمانه اختلافات كثيرة عليه أحداثا كلها محالة على بني أمية منها - رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله له وكان يسمى طريد رسول الله وبعد أن تشفع إلى أبي بكر و عمر رضى الله عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا - ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم بنته وتسليمه خمس
غنائم إفريقية له وقد بلغت مائتي ألف دينار ومنها إيواؤه عبد الله بن أبي سرح وكان رضيعه بعد أن أهدر النبي - عليه الصلاة
والسلام - دمه وتوليته إياه مصر بأعمالها وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى فيها ما أحدث
إلى غير ذلك مما نقموا عليه
أحدث
وكان أمراء جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام و سعد بن أبي وقاص عامل الكوفة وبعده الوليد بن عقبة و سعيد بن العاص و 1 عبد الله بن عامر عامل البصرة وه عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه وقتل مظلوماً في داره وثارت الفتنة من الظلم الذي جرى عليه ولم تسكن بعد
الخلاف العاشر في زمان أمير المؤمنين على - رضي الله عنه - بعد الاتفاق عليه وعقد
البيعة له
فأوله خروج طلحة و الزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل
والحق أنهما رجعا وتابا ! إذ ذكرهما أمرًا فتذكراه فأما و الزبير فقتله ابن جرموز - بقوس - وقت الانصراف وهو في النار لقول النبي
بشر قاتل ابن صفية بالنار
وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض فخر ميتاً وأما عائشة - رضي الله عنها فكانت محمولة على ما فعلت ثم تابت بعد ذلك ورجعت والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومخالفة الخوارج وحمله على التحكيم ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعرى وبقاء الخلاف إلى وقت
وفاته مشهور
وكذلك الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان - عقدًا وقولا ونصب القتال معه فعلا
ظاهرا - معروف
وبالجملة كان على - رضي الله عنه – مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه ! أمثال الأشعث بن قيس و مسعود بن فدکی التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وكذلك ظهر فى زمانه الغلاة فى حقه مثل عبد الله بن سبأ وجماعة معه
ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة وصدق فيه قول النبي يهلك فيك اثنان محب غال ومبغض قال
وانقسمت الاختلافات بعده إلى قسمين
أحدهما الاختلاف في الإمامة
والثاني الاختلاف في الأصول اهـ
۱۱۸
الفصل السادس
الاختلاف في الإمامة
١ - أصل الشيعة
يختلف الناس في أصل الشيعة فيعزوها بعضهم إلى أثر الفرس الذين كانوا يقدسون فلما زال ملكهم ودخلوا في الإسلام ظهر أثر ذلك في موقفهم من آل البيت
الملك للأئمة وتقديسهم
ویرى آخرون أن الشيعة تدين في نشأتها لـ عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديا واعتنق الإسلام للنيل منه والكيد له فأظهر هذا المذهب ليفرق بين المسلمين ويقضى على
وحدتهم وعزتهم
رأى ولهوزن و دوزی يقول الدكتور أحمد أمين
وقد ذهب الأستاذ ولهوزن إلى أن العقيدة الشيعية نبعت من اليهودية أكثر
مما نبعت من الفارسية مستدلا بأن مؤسسها عبد الله بن سبأ وهو يهودى ويميل الأستاذ دوزى إلى أن أساسها فارسی فالعرب تدين بالحرية و الفرس يدينون بالملك وبالوراثة فى البيت المالك ولا يعرفون معنى لانتخاب الخليفة وقد مات
•
من مصادر هذا الفصل مقالات الإسلاميين و للأشعرى
الفرق بين الفرق للبغدادي التبصير في الدين للإسفرايي
الملل والنحل للشهرستاني مقدمة ابن خلدون عثمان للدكتور طه حسين على وبنوه للدكتور طه حسين فجر الإسلام و للدكتور أحمد أمين ضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين أصل الشيعة وأصولها و للشيخ محمد الحسين آل
كاشف الغطاء أصول الإسماعيلية و للدكتور برنارد لويس
۱۱۹
۱۰
منه
محمد ولم يترك ولدا فأولى الناس بعده ابن عمه على بن أبي طالب فمن أخذ الخلافة كأبي بكر و عمر و عثمان و الأمويين فقد اغتصبها من مستحقها وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى إلهى فنظروا هذا النظر نفسه إلى على و ذريته
وقالوا إن إطاعة الإمام أول واجب وإن إطاعته إطاعة الله ۱ اهـ
رأينا في أصل الشيعة
ولكنا نرى أن السبب في نشأة الشيعة لا يرجع إلى الفرس عند دخولهم في الإسلام ولا يرجع إلى اليهودية ممثلة في عبد الله بن سبأ وإنما هو أقدم من ذلك فنواتها الأولى ترجع إلى شخصية على - رضي الله عنه - من جانب وصلته بالرسول - عليه الصلاة والسلام -
من جانب آخر
نفسه
وتوضيح ذلك أن صلة على بالرسول - عليه الصلاة والسلام - أقدم من الإسلام
لم ينس محمد - عليه الصلاة والسلام - بعد زواجه بخديجة رضي الله عنها عطف أبي طالب عليه ورعايته له فقد ضم أبو طالب الرسول إليه وكفله بعد وفاة جده عبد المطلب وذلك بالرغم من كثرة عياله وعدم ثرائه وكان من تصرفات المقادير أن أصابت قريشاً أزمة شديدة فتحدث رسول الله مع العباس وكان من أيسر بني هاشم فقال له إن أخاك و أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا إليه فلتخفف عنه من عياله أَخُذُ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكلها عنه فقال العباس نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب
عمه
وانتهى الأمر بينهما وبينه أن أخذ رسول الله الله عليا فضمه إليه وأخذ العباس
جعفرًا
۱ فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين ص ٣٤٠
سيرة ابن هشام - ص ۹۳
۱۱
نشأ على مع الرسول منذ نعومة أظفاره فتفتحت عيناه – طفلا – على أكرم مثل للقدوة الحسنة ممثلة في الرسول عليه الصلاة والسلام وتفتحت عيناه على أكرم مثل للود المتبادل بين الزوجين الطاهرين والحنان الذى يملأ البيت الكريم والرحمة التي تفيض من قلب محمد وخديجة فيكون من أثرها حمل الكل وصلة الرحم وقرى الضيف والإعانة على نوائب الدهر فترك ذلك في نفسه أكرم الأثر وأوحى الله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى - يومئذ – ابن عشر سنين فلم تتدنس جبهته بالسجود لصنم ولم يكن فى سن تجترح فيها المعاصي فاعتنق الإسلام طاهرا ولقد أراد - قبل إسلامه – أن يستشير أباه وبات ليلته يفكر في الأمر فلم يكد يغمض له جفن فلما أصبح أعلن في ثقة واطمئنان أنه أسلم وأنه في غير حاجة لرأى و أبي طالب
وقال
لقد خلقنى الله من غير أن يشاور أبا طالب فما حاجتى أنا إلى مشاورته لأعبد الله ه وكان رسول الله الله إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شا الله أن يمكثا ٣ وحين نزلت الآية الكريمة وَأَنذِرْ عشيرتك الأقربينَ دعا محمد عشيرته إلى الطعام في بيته وحاول أن يحدثهم داعيا إياهم إلى الله فقطع عمه أبو لهب حديثه واستنفر القوم
ليقوموا
ودعاهم محمد في الغداة كرة أخرى فلما طعموا قال لهم ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر فأعرضوا عنه وهموا بتركه لكن عليا نهض وهو ما يزال صبيا دون الحلم وقال
أنا يا رسول الله في عونك أنا حرب على من حاربت فابتسم بنو هاشم وقهقه
1
بعضهم وجعل نظرهم يتنقل من أبي طالب إلى ابنه ثم انصرفوا مستهزئين ٤
۳ سيرة ابن هشام
٣٦٢
٤ حياة محمد للدكتور هيكل ص ١٤٠
0
وفي ليلة الهجرة أسر الرسول علا إلى على أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عنه الودائع التي كانت عنده للناس وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار حين نزلوا المدينة ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض ثم أخذ بيد على بن أبي طالب فقال هذا أخي
فكان رسول الله و على بن أبي طالب رضي الله عنه أخوين 1 لقد رباه رسول الله لا صغيرًا وكان رضي الله عنه يعيش فى بيته كأحد أبنائه وكان أول من أسلم من الذكور وآخى رسول الله الله بينه وبينه وزوجه بأحب بناته إليه فاطمة رضي الله عنها
ثم إن شجاعته الفذة وإخلاصه النادر للرسول لهم وتقواه وزهده كل ذلك مشهور لا يحتاج إلى توضيح ولذلك يقول الدكتور طه حسين بحق ولو قد قال المسلمون بعد وفاة النبي إن عليا كان أقرب الناس إليه وكان ربيبه وكان خليفته على ودائعه وكان أخاه بحكم تلك المؤاخاة وكان ختنه وأبا عقبه وكان صاحب لوائه وكان خليفته فى أهله وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي نفسه
لو قد قال المسلمون هذا كله واختاروا عليا ا بحكم هذا كله للخلافة لما أبعدوا
ولا انحرفوا ۷
ولا غرابة والأمر كذلك أن كان جمع من الصحابة يرى أن عليا أفضل من أبي بكر و عمر وغيرهما وذكروا أن ممن كان يرى هذا الرأى عمارا و سلمان الفارسی و جابر بن عبد الله و العباس و بنيه و أبي بن كعب و حذيفة إلى كثير غيرهم ۸ ولكن اجتماع الثقيفة انتهى باختيار أبي بكر رضي الله عنه خليفة للمسلمين كما سبق
٥ المصدر نفسه ص ۱۱
1 سيرة ابن هشام والروض الأنف ص ۱۸
۷ عثمان للدكتور طه حسين ص ١٥٢ ۸ فجر الإسلام ص ۳۸
۱۳
أن بيناه فامتنع على رضي الله عنه عن البيعة لاعتقاده أنه أحق بالخلافة
والحديث التالي يبين موقفه
في صحيح البخاري حدثنا يحيى بن بكير عن عائشة أن فاطمة - عليها السلام - بنت النبي الله أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله الله مما أفاء الله عليه بالمدينة و فدك وما بقى من خمس خيبر فقال أبو بكر
إن رسول الله قال
لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله الله ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله فأبي أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي الله ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها على ليلا لم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلى من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن اثتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية أن يحضر عمر فقال
عمر
لا والله لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر
وما عسيتهم أن يفعلوا بي والله لآتينهم
فدخل عليهم أبو بكر فتشهد على فقال
إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرًا ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله الله نصيباً حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال
والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله الا الله أحب إلى أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ولم أترك أمرا رأيت رسول الله لا يصنعه
فيها إلا صنعته
فقال على لأبي بكر موعدك العشية للبيعة
فلما صلى أبو بكر الظهر رقى المنبر فتشهد وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة
وعذره بالذي اعتذر إليه ثم استغفر
وتشهد على فعظم حق و أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكارًا للذى فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف ۹ ا هـ
بايع على أبا بكر في إخلاص المؤمن الصادق الإيمان وأخذت حياته تسير في مجراها الطبيعي زهد وتقوى وعلم وورع واستمر منارة يهتدى بها الحائر ومثلا أعلى يسير على هداه من رغب عن سنن الباطل وطمح إلى رضوان الله
وتوفى أبو بكر - رضوان الله عليه - بعد أن عهد بالخلافة إلى الفاروق فاجتمعت كلمة المسلمين على ابن الخطاب فقادهم جَهْدَه إلى مرضاة الله وكان على في زمنه كما كان في زمن أبي بكر المنارة والمثل الأعلى
وكان كل شيء يرشح عليا للخلافة بعد موت عمر قرابته من النبي علا وسابقته في الإسلام ومكانته بين المسلمين وحسن بلاثه فى سبيل الله وسيرته التي لم تعرف العوج قط وشدته في الدين وفقهه بالكتاب والسنة واستقامة رأيه فى كل ما عرض عليه من المشكلات ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على أبي بكر لأنه كان رفيع المكانة عند النبي وثاني اثنين في الغار ولأنه خلف النبي على الصلاة بالناس ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على عمر لمكانة عمر أولا ولعهد أبي بكر بالخلافة إليه ثانيا
لقد كان المسلمون يستطيعون أن يختاروا عليا للخلافة لا يجدون بذلك بأسا ولا يلقون فيه حرجاً فعمر قد رشحه ومكانته ترشحه ثم هو كان بعد ذلك من قوة العصبية في
العرب عامة وفى قريش خاصة بالمنزلة التي كان فيها عبد الرحمن بن عوف فهو قد أصهر إلى قريش وأصهر إلى مضر وأصهر إلى 1 ربيعة وأصهر إلى
1 البخارى ويجب أن نأخذ هذا الحديث بتحفظ فيما يتعلق بتفاصيله وتعبيراته فهو رواية السيدة و عائشة - رضى الله عنها - وقد يكون فيه بطريقة لا شعورية وبعض ما يخض من شأن على ولكنه صحيح فيا يعرفنا به من امتناع على
عن البيعة ومن تحديد الزمن الذي امتنع فيه ولهذا أهميته
١٢٥
اليمانية وكان له بنون من نسائه على اختلاف قبائلهن فلو قد ولى الخلافة قبل أن يفترق الناس لكان خليقا أن يقارب بين العصبيات المتباعدة وأن يجمع الناس على طاعته وأن
يحملهم على الجادة كما قال عمر
ولكن المسلمين لم يختاروه لأمرين
أحدهما خوف قريش أن تستقر الخلافة في بني هاشم إن صارت إلى أحد منهم وقد بينت الحوادث أن عليا لم يكن لينقل الخلافة بالوراثة فهو قد سار سيرة و النبي وسيرة عمره فلم يعهد لأحد من بعده والآخر أن عليا لم يقبل ما عرضه عليه و عبد الرحمن من أن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر و عمر لا يحيد عن شيء من ذلك تحرج على من أن يعطى هذا العهد مخافة أن تضطره الظروف إلى أن يقصر عن الوفاء به كاملا فعرض أن يبايع على أن يلزم كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين بقدر جهده وطاقته ١٠ وللمرة الثالثة لم يتول سيدنا على الخلافة وإنما تولاها سيدنا و عثمان واستمر سيدنا على المنارة والهدى والمثل الأعلى وحدثت الأحداث التي انتهت بقتل سيدنا و عثمان وتولى سيدنا على الخلافة فلم يتغير سلوكه ولم ينحرف عن الجادة وقد عاش على قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح عيشة هى إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين فلم يتجر ولم يتسع وإنما اقتصر على عطائه يعيش منه ويرزق أهله ويستثمر فضوله في مال اشتراه ثم لم يزد عليه ولما مات لم تحص تركته بالألوف فضلا عن عشراتها أو مثاتها أو الملايين وإنما كانت تركته
كما قال الحسن ابنه في خطبة له سبعمائة درهم كان يريد أن يشترى بها خادمًا وكان على فى أثناء خلافته القصيرة يلبس خشن الثياب والمرقع منها ويحمل الدرة ويمشى فى الأسواق فيعظ أهلها ويؤديهم كما كان يفعل عمر فكان هذا دليلا على أن
عمر كان صادق الفراسة حين قال لو ولُّوا الأجلح لحملهم على الجادة ١١
حقا لقد كان سيدنا و على مثلا ساميا في الدين والأخلاق ومع ذلك فإنه لم يكد يتولى
الخلافة بعد مقتل سيدنا عثمان حتى اضطرب الأمر واختل النظام
١٠ عثمان للدكتور طه حسين
۱۵۳ - ۱۰
۱۱ عثمان ص ١٥
١٢٦
أراد سيدنا على أن يقود الناس إلى الآخرة فإذا هم متطلعون إلى الدنيا وأراد أن يوجههم إلى الله فإذا بالمادة قد غلبت عليهم ولقد عاش طيلة خلافته في جلاد وصراع ضد الأهواء والشهوات والدنيا وفى النهاية لقى مصرعه على يد عبد الرحمن بن ملجم وتغلبت الأهواء والشهوات والدنيا ممثلة في معاوية
وانتصرت الدنيا ولكن كان للآخرة عشاقها ومحبوها وهؤلاء لم يتوانوا في نصرة على حيا فلما قتل أخذوا يذكرون حياته الحافلة بصالح الأعمال وجليلها وأخذت صورة على - بمر الزمن - تلبس شيئًا من هالة الإجلال والتقديس والتنزيه والربانية والألوهية و وهل من مزيد
كانت الشيعة - في بدء أمرها - محبة كمحبَّة سلمان الفارسي لآل البيت ثم أصبحت محبة وعطفاً وشفقة حينما اعتقد بعض الناس أن البيت العلوى لم يأخذ المكانة اللائقة في المجتمع فلما أصبح الظلم اضطهادًا وتعذيباً وتشتينا وبترا للأعضاء وسملا للعيون وقتلا تكونت الشيعة بالمعنى الاصطلاحي المعروف الآن وكان رجال البيت العلوى ومن يعطف عليهم يغذون الفكرة ويمدونها بما استطاعوا من مال ومن تشجيع ولكن الأفكار - إذ ذاك - لم تكن تسير بالمال والتشجيع فحسب وإنما كانت تتطلب سندا من الدين لا مناص منه
ولجأت الشيعة إلى القرآن وإلى السنة تستمد منهما - فى يسر أو فى تعسف - ما يعينها على ما تريد
وآل أمر الشيعة إلى شيع وأفرط الكثير منها في على وغالى والحب – حقا – يعمى ويصم فكان من ذلك الغلاة ولعل فيما تقدم ما يدل على أن أصل الشيعة لم يكن يهوديًّا ولم يكن فارسيا كما يزعم بعض المستشرقين وإنما نشأت الشيعة نشأة طبيعية ونمت نموا طبيعيا
۱۷
فرق الشيعة
إلى
وبرغم أن الشيعة تفرقت إلى ما لا يكاد يحصى من أحزاب فإنه من الممكن تقسيمها
۱ - غلاة
٢ - إسماعيلية وما تفرع عنها
إمامية اثنا عشرية
٤- زيدية
أما الغلاة فقد بادوا وانقرضوا وقد تبرأ منهم الشيعة الإمامية منهم والزيدية يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء في رده على بعض الناقدين للشيعة فهل مراده ما يسمونه غلاة الشيعة كالخطابية و الغرابية و العلياوية و المُخَمسة و البزيعية وأشباههم من الفرق الهالكة المنقرضة التي نسبتها إلى الشيعة من الظلم الفاحش وما هى إلا من الملاحدة كالقرامطة ونظائرهم
أما الشيعة
الإمامية وأئمتهم ع فيبرءون من تلك الفرق براءة التحريم ۱ أما عبد الله بن سبأ الذى يلصقونه بالشيعة أو يلصقون الشيعة به - فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه وأخف كلمة تقولها كتب رجال الشيعة في حقه ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا عبد الله بن سبأ ألعن من أن يذكر ۱۳
وأما الإسماعيلية وهم منتشرون فى الهند والباكستان وجنوب إفريقيا وشرقها فلسنا الآن بصدد الحديث عنهم وعن مذهبهم وقربه وبعده عن الدين وصلته أو عدم صلته بالأفلاطونية الحديثة أو بغيرها من مذاهب وسنترك ذلك لفرصة أخرى إن شاء الله سنقتصر في الحديث إذًا على الإمامية الاثنى عشرية و الزيدية
و الشيعة الإمامية الاثنا عشرية يمثلون - كما يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء - أكثرية أهل السواد في العراق وتسعة أعشار إيران وجماعات في القفقاز
١٢ أصل الشيعة ص ٤٦ - ٤٧
۱۳ أصل الشيعة ص ٥٠
۱۸
من الاتحاد السوفييتي وجبل عامل من الشام وجزر البحرين و الكويت وسواحل الأحساء و الهند ١٤
ويقول الدكتور أحمد أمين ويبلغ الإمامية الآن نحوا من سبعة ملايين في
فارس ونحو مليون ونصف فى العراق وخمسة ملايين في الهند ١٥ و الزيدية هم الشعب اليمني على الخصوص
١ - والإمامية والزيدية يتفقون على أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله وأنه لذلك كان أحق بالخلافة من أبي بكر و عمر
أما فيما عدا هذا فلا يكادون يتفقون على شيء
مذهب الإمامية
والإمامية مجمعون على أن النبي الله نص على استخلاف وعلى بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف وأنها قرابة وأنه جائز للإمام في حالة التقية أن يقول إنه ليس بإمام وأبطلوا جميعا الاجتهاد في الأحكام وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس وزعموا أن عليا رضوان الله عليه كان مصيبا في جميع أحواله وأنه لم يخطئ في شيء من أمور الدين وأنكروا الخروج على أئمة الجور وقالوا ليس يجوز ذلك دون الإمام المنصوص على إمامته
وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة على بن أبي طالب ١٦ وسميت الإمامية الاثنا عشرية لأنها تُسكسيلُ الأئمة إلى الثانى عشر و محمد بن الحسن بن على وهو الغائب المنتظر عندهم الذى يدعون أنه سيظهر فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا والشجرة التالية تبين تسلسل الأئمة عند فرق الشيعة نقلا عن المستشرق بارنارد لويس
١٤ أصل الشيعة
١٥ ضحى الإسلام ص ۱۳
١٦ مقالات الإسلاميين ص ۸۷ - ۸۸ ط النهضة المصرية
الأئمة المستورون الإسماعيلية
آل على
على توفى سنة ٤٠ هـ - ٦٦١ م
الحسن ٥٠ هـ - ٦٧٠ م
الحسين ٦١ هـ - ٦٨٠ م محمد بن الحنفية
الحسن
I
۱۹
1هـ ۷۰۰ ۷۰۱م
على زين العابدين ٩٤ هـ ٧١٢ ٧١٣ م
عبد الله محمد الباقر ۱۱۳ هـ ۷۳۱ ۷۳ مزید ١٢٥ ١٢٦ هـ ٧٤٣
إبراهيم
محمد النفس الزكية
١٤٥ هـ ٧٦٢م
يحي
إسماعيل
محمد
عيسى
جعفر الصادق - ١٤٨ هـ - ٧٦٥ م
موسى الكاظم ۱۸۳ هـ - ۷۹۹م
I
على الرضا ۰ هـ - ۸۱۷
۸۱۸م
I
٧٤٤م
أحمد
الحسين المعل
عد
محمد الجواد ۰ هـ
٢٨٣٥
على الهادى ٢٥٤ هـ - ٨٦٨م
على الماري
محمد القائم ٣٢٢ هـ - ٩٣٤م حسن العسكرى ٢٦٠ هـ - ۸۷۳ ٨٧٤ ٠
الخلفاء الفاطميون
I
محمد المهدى استتر حوالى
سنة ٢٦٠ هـ ٨٧٢ ٨٧٤م
لة الشيعة الأثنى عشرية
۱۳۰
الزيدية
وكان الإمامية و الزيدية في بدء أمرهما حزبا واحدا اختلفا والسبب في اختلافهما لم يكن أصلا من أصول الدين وإنما كان حول الإمامة وهو يبين وجهة نظر كل منهما فيها
يقول - البغدادي وسبب افتراقها أن زيد بن على قد بايعه على إمامته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم على والى العراق وهو يوسف بن عمر الثقفى عامل ه هشام بن عبد الملك على العراقيين فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفى قالوا له
إنا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك فى أبي بكر و عمر اللذين ظلما جدك على بن أبي طالب فقال زيد
إنى لا أقول فيها إلا خيرا وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيرًا وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسن وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيتا لله بحجر المنجنيق والنار ففارقوه عند ذلك - حتى قال لهم رفضتموني ! ومن يومئذ سموا
رافضة
وبقى و زيد في مقدار مائتى رجل وقاتلوا جند يوسف بن عمر الثقفى حتى قتلوا عن
آخرهم وقتل زيد ثم نبش من قبره وصلب ثم أحرق بعد ذلك ١٧ والزيدية يرون أن الأدلة الخاصة بإمامة على - رضي الله عنه – اقتضت تعيينه بالوصف لا بالشخص وتقصير الناس إنما أتى من حيث أنهم لم يضعوا الوصف في موضعه وهم لا يتبرءون من الشيخين ولا يطعنون في إمامتهما مع قولهم بأن عليا ۱۸ أفضل منها ذلك أنهم يحوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل ويشترطون أن يكون و الإمام عالما زاهدا جوادًا شجاعًا ويخرج داعيا إلى إمامته -
۱۷ الفرق بين الفرق للبغدادي ص ٢٥ ط المعارف ۱۸ ابن خلدون ص ۱۳۹ ط عبد الرحمن محمد
۱۳۱
وقد كان و زيد يناظر أخاه و محمد الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه و الباقر ألا يكون أبوهما زين العابدين إماماً لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج وكان الباقر ينعى عليه أيضًا مذاهب و المعتزلة وأخذه إياها عن
واصل بن عطاء ١٩
وه الزيدية سموا بذلك نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن على بن الحسين السبط
وقد ساق الزيدية الإمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص فقالوا بإمامة على ثم ابنه الحسن ثم أخيه و الحسين ثم ابنه و على زين العابدين ثم ابنه زيد بن على وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعيا إلى
الإمامة فقتل وصلب وقال الزيدية بإمامة ابنه يحيى من بعده فضى إلى خراسان بعد أن أوصى إلى ه النفس الزكية فخرج بالحجاز وتلقب بالمهدى فأرسل إليه و المنصور جيشاً فقتل بعد أن عهد إلى أخيه إبراهيم الذي قتل و بالبصرة ٢٠
الشيعة وأصول الإسلام ترى مما سبق أن الشيعة تكونت فى المبدأ حبا فى على لقرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم
ولشخصيته الفذة ثم تطورت فأصبحت و حزب البيت العلوى ونظرياتها دارت - أولا وبالذات - حول الإمامة وحول الإمام فالمهدى إمام من أئمتهم يعود فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و العصمة لأنمتهم لا شك فيها بحسب نظرهم وه الغيبة التي تعقيها و الرجعة إنما هى لإمام هو آخر الأئمة اختفى وهم في انتظار
عودته مهما طال الزمن
و الثقيَّة إنما وجبت لإحكام العمل حتى يتولى و البيت العلوى الرياسة أين الخلاف في الأصول في كل هذا
۱۹ مقدمة ابن خلدون ص ١٤٠
۰ مقدمة ابن خلدون ص ١٤٠ ط عبد الرحمن محمد
۱۳
يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء فيما يتعلق بموقف و الشيعة الإمامية من الغلاة الذين يتبرأ منهم كل مسلم أما الشيعة الإمامية وأعنى بهم جمهرة العراق وإيران وملايين من مسلمي الهند ومئات الألوف في سوريا والأفغان فإن جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعة يبرءون من تلك المقالات ويعدونها من أشنع الكفر والضلالات وليس دينهم إلا التوحيد المحض وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوقات أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقص والإمكان والتغير والحدوث وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم فى الحكمة والكلام من مختصره كالتجريد أو مطولة كالأسفار وغيرهما مما يتجاوز الألوف وأكثرها مطبوع منتشر وجلها يشتمل على إقامة البراهين الدامغة على بطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم
رأينا في الشيعة
۱
و الشيعة حزب وهم لذلك يزيفون كل ما يقف عقبة في سبيل توطيد مركزهم ويتهافتون على كل ما يتوهمون أنه يساعدهم ويؤولون التاريخ حسب ما تهوى نفوسهم فإذا ما تركنا العصبية جانباً فإننا نرى - فى إخلاص - أنه لو كان هناك ما يشبه - ولو من بعد - أن يكون رغبة للرسول فى أن يتولى على الأمر من بعده لسارع أبو بكر
و عمر إلى بيعته
إن إخلاص أبي بكر و عمر الله ولرسوله وللدين أسمى وأجل من أن يتطرق إليه
ظل من الشك وسيدنا عمر - رضى الله عنه - حينما دهمته الطعنة المشئومة وأوشك أن يلاقي ربه وأراد أن يخرج من الدنيا ولم يأل جهدا في الإخلاص لربه وللأمة الإسلامية لم يول عليا وإنما جعل الأمر شورى بين ستة نفر هم أمثل الأمة الإسلامية في نظره ومن
بينهم على رضوان الله عليه
ولم ينته مجلس الشورى هذا باختيار على
٢١ أصل الشيعة ص ٤٧ - ٤٨
۱۳۳
ولما تنازل عبد الرحمن بن عوف عن ترشيح نفسه ليختار الخليفة – وكان الأمر بيده - لم يختر عليًّا وإنما اختار عثمان رضى الله عنهما ثم إنه قد امتنع عن بيعة على سعد بن أبي وقاص بطل القادسية وفاتح فارس وأول من رمى بسهم في سبيل الله وأحد هؤلاء الذين توفى الرسول وهو راض عنهم ومطمئن إليهم وامتنع عن بيعته عبد الله بن عمر الرجل الزاهد الورع الذي آثر الله في كل
تصرفاته
وامتنع عن بيعته أيضًا أسامة بن زيد - وصلته بالرسول معروفة – وتقدير الرسول له أشهر من أن يتمارى فيه اثنان
وامتنع عن بيعته محمد بن مسلمة ومكانته فى الأنصار معروفة وامتنع عن بيعته غير هؤلاء ممن أراد السلامة لدينه والبعد عن الفتن على أن أصول الإسلام العامة تستوجب المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات وتجعل الأكرم هو الأتقى والحق أن الأمة الإسلامية - على اختلاف طبقاتها - تقدر عليًّا تقديرًا كريما وتنزله من نفسها منزلة سامية أما ما وراء ذلك من آراء الشيعة الغالية منهم والمعتدلة فليس دينا وليس ضرورة عقلية
وإننا لنعتقد - فى إخلاص - أن الزمن كفيل برد الشيعة إلى السنن القويم وبالله التوفيق
- الخوارج نشأتهم
الشيعة حزب ديني كما رأينا والخوارج هم الحزب الديني المعارض أما معاوية وأنصاره فإنهم ليسوا حزبا دينيًّا وإنما هم حزب سياسي بحت أما كيفية نشأة الخوارج فإنه لما صار علي و معاوية إلى صفين حين انكسرت سيوف الفريقين ونصلت رماحهم وذهبت قواهم وجثوا على الركب فوهم بعضهم على بعض قال معاوية لعمرو بن العاص
ياه عمرو ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت قال
بلی ! قال
١٣٤
فما المخرج مما نزل قال له عمرو بن العاص
فلى عليك ألا تخرج مصر من يدى ما بقيت قال -
لك ذلك ولك به عهد الله وميثاقه قال
فأمره بالمصاحف فترفع ثم يقول أهل الشام لأهل العراق يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم البقية البقية فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه وإن خالفك خالفه
أصحابه
وكان عمرو بن العاص في رأيه الذى أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق
فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار عليه عمرو بن العاص ففعلوا ذلك فاضطرب أهل العراق على على - رضوان الله عليه وأبوا عليه إلا التحكيم وأن يبعث على حكما ويبعث معاوية حكمًا فأجابهم على إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه فلما أجاب على إلى ذلك وبعث معاوية وأهلُ الشام و عمرو بن العاص حكما وبعث على وأهل العراق أبا موسى حكمًا وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق - اختلف أصحاب على عليه وقالوا
قال الله تعالى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ ولم يقل حاكموهم وهم البغاة فإن عدت إلى قتالهم وأقررت على نفسك بالكفر - إذ أجبتهم إلى التحكيم - وإلا نابذناك وقاتلناك
فقال على - رضوان الله عليه -
قد أبيت عليكم في أول الأمر فأبيتم إلا إجابتهم إلى ما سألوا أجبناهم وأعطيناهم العهود
والمواثيق وليس يسوغ لنا الغدر
فأبوا إلا خلعه وإكفاره بالتحكيم وخرجوا عليه فسموا خوارج لأنهم خرجوا على على بن أبي طالب - رضوان الله عليه ۳
مقالات الإسلاميين ص ٦١
۳ مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعرى ص ٦٤ ط النهضة
۱۳۵
ألقاب الخوارج
و للخوارج ألقاب عدة منها الوصف لهم بأنهم خوارج ومنها الحرورية و الشراة و المارقة والمحكمة
وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا المارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية ٢٤
والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على على بن أبي طالب والذى له سموا مُحَكَّمة إنكارهم الحكمين وقولهم لا حكم إلا الله والذى له سموا حرورية نزولهم بـ حرارة فى أول أمرهم والذي له سموا شراة قولهم شربنا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها و بالجنة ٢٥
ما يجمع الخوارج
وقد اختلفوا فيما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبهم فذكره الكعبي في مقالاته ٢٦ أن الذى يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها إكفار على و عثمان و الحكمين و أصحاب الجمل وكل من رضى بتحكيم الحكمين والإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام الجائر
ويرى أبو الحسن الأشعرى أن الخوارج بأسرهم يثبتون إمامة أبي بكر و عمر وينكرون إمامة عثمان رضوان الله عليهم في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها ويقولون بإمامة على قبل أن يحكم وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية و عمرو بن العاص وه أبا موسى الأشعري ويرون أن الإمامة في
قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مستحقاً لذلك ولا يرون إمامة الجائر ٢٧ ولم يرض الأشعرى ما حكاه الكعبى من إجماعهم على تكفير مرتكب الذنوب
٢٤ مقالات الإسلاميين ص ۹۱
٢٥ مقالات الإسلاميين ص ۱۹۱ ٢ الفرق بين الفرق ص ٥٥ ط المعارف
۷ مقالات الإسلاميين ص ۱۸۹ ط النهضة المصرية
١٣٦
قالوا
والحق أن النَّجَدات من الخوارج لا يكفرون مرتكبى الذنوب من موافقيهم ولقد
إن صاحب الكبيرة من موافقيها كافر نعمة وليس بكافر "دين
النقاش بينهم وبين الإمام على -
۸
ولم يبدأ الإمام على في حربهم إلا بعد أن أرسل ابن العباس لمناقشتهم وبعد أن
ناقشهم هو نفسه
وفيما يلى نمط مختصر مما كان يدور إذ ذاك فقد وقف الإمام على وقال
یا قوم ماذا نقمتم على حتى فارقتمونى لأجله قالوا قاتلنا بين يديك يوم الجمل حتى هزمنا أصحاب الجمل فأبحت لنا أموالهم ولم تبح لنا نساءهم وذراريهم !!! وكيف تُحل مال قوم وتحرم نساءهم وذراريهم وقد كان ينبغي لك أن تحرم علينا الأمرين معا أو تبيحها لنا معا !!
فقال على رضوان الله عليه
أما أموالهم فقد أبحتها لكم بدلا مما أغاروا عليه من بيت المال الذي كان بالبصرة قبل أن أصل إليهم ولم يكن لنسائهم وذراريهم ذنب فإنهم لم يقاتلونا وكان حكمهم حكم المسلمين ومن لم يحكم له بالكفر من النساء والولدان لم يجز سبيه ولا استرقاقه وبعد لو أبحت لكم نساءهم فمن كان منكم يأخذ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قسمه فلما سمعوا هذا الكلام خجلوا وقالوا قد نقمنا عليك سببا آخر وهو
إنك يوم التحكيم كتبت اسمك فى كتاب الصلح إن أمير المؤمنين على بن أبي طالب وه معاوية حكما فلانا فنازعك و معاوية وقال
به
لو كنا نعلم أنك أمير المؤمنين ما خالفناك فمحوت اسمك فإن كانت إمامتك حقا فلم رضيت
فقال أمير المؤمنين
۸ الفرق بين الفرق ص ٥٦
۱۳۷
إنما فعلت كما فعل النبي ع حين صالح سهيل بن عمرو وكتب في كتاب الصلح هذا
ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فقال سهيل
لو علمنا أنك رسول الله ما خالفناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فأمر النبي بذلك حتى كتب
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك ستبتلى بمثله يوما ما
فالذي فعلته كان بإذنه واقتداء به
قالت الخوارج
لم قلت للحكمين إن كنت أهلا للخلافة فأثبتانى فإن كنت في شك من خلافتك فغيرك
بالشك فيك أولى
فقال على رضوان الله عليه
إنما أردت أن أنصف الخصم وأسكن الثائرة ولو قلت للحكمين احكما لي لم يرض بذلك معاوية وهكذا فعل النبي علا الله مع نصارى نجران حين دعاهم إلى المباهلة فقال تعالوا ندع أبناءنا وأبناء كم ونساءنا ونساء كم وأنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثم نبتهل فنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وهذا إنما قاله على سبيل الإنصاف لا على سبيل التشكك وهو كقوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدًى أَوْفى ضَلالٍ مُبِينٍ ولهذا حكم النبي ه سعد بن معاذ في بني قريظة والحق فى الحقيقة كان لرسول الله ثم إن حكم النبي الحكم بالعدل و حكمى الذي حكمته خُدع فكان من
الأمر ما كان ٢٩
ولكن السبب الرئيسي في خروجهم هو ما ذكرناه عندما تحدثنا عن نشأتهم
٢٩ التبصير للإسفراينى ص ۷ - ۸ - والفرق بين الفرق للبغدادی ص ٥٨ - ٦٠
۱۳۸
تقدير الخوارج
وليس من همنا هنا أن نستفيض فى بيان فرقهم المتعددة وما بينها من فروق واختلافات فإن ذلك من وجهة النظر الفلسفى البحث لا قيمة له إذ أن الخوارج باعتبارهم خوارج لا رأى لهم - خاصا في مسائل الدين الأساسية من إيمان بالله ومن بحث في بهم صفاته ومن دراسة في البعث إلخ
وقد كفانا الإمام على مئونة الرد عليهم في موقفهم منه أما رأيهم في الإمامة فإنه هو الرأى الذى يؤيده الاتجاه الحديث ويؤيده كل مخلص
لدينه ووطنه
ورأيهم فى مرتكب الكبيرة يتفقون جميعًا عليه ويكفينا في هذا المقام أن نعيد ثانية قول الله
تعالى
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
٣ - المرجئة الموجئة ومؤرخو الأديان
إن حديث مؤرخي الملل والنحل عن المرجئة فيه خلط كثير
ولا يمكن للإنسان أن يستخلص مذهبهم إلا بعد إمعان في البحث في مختلف الكتب وبعد موازنة وترو وتعمق فى النظر والشيخ زاهد الكوثرى يقول بحق عن صاحب التبصير
ه وللمصنف تساهل فى شرح مذاهب المرجئة اهـ هذا التساهل فى شرح مذاهب المرجئة لا يختص به صاحب التبصير فحسب ذلك
أن و الشهرستاني يذكر فرق المرجئة فيذكر من بينها مثلا مرجئة الخوارج والواقع أنه ليس فى الخوارج مرجئة و الخروج لا يمت إلى الإرجاء بأية صلة
وهذا التعبير من ناحية معناه تعبير خطاً ويذكر الشهرستاني مرجئة القدرية و القدرية لفظ كان يطلق على المعتزلة والمعتزلة و عيدية فلا يمكن أن يكون بينهم مرجئة والتعبير من ناحية المعنى خطأ أيضًا
۱۳۹
حقيقة أن هناك مرجئة يقولون بالاختيار ولكن القول بـ الاختيار وحده شيء
والاعتزال شيء آخر ثم إن الشهرستاني يتعجب من غسان المرجئ لعده و أبا حنيفة من المرجئة ويقول ولعله كذب كذلك عليه ويأخذ فى تبرئة أبي حنيفة من تهمة الإرجاء وينتحل مختلف الأسباب لإخراجه من المرجئة ولكنه في نهاية الفصل الذى عقده فى كتابه الملل والنحل عن المرجئة يذكر رجال
المرجئة فيعد من بينهم أبا حنيفة وأبا يوسف و محمد بن الحسن فأنت ترى من ذلك أن الشهرستاني يكذب من عد أبا حنيفة من المرجئة ثم
لا تكاد تمضى بضع صفحات حتى تراه - هو نفسه - يعده من المرجئة وإذا بحثت عن سبب النفور من المرجئة تفجوك فى كل مكان العبارة المشهورة التي تعزى
إليهم
لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة وإذا سألت عن معنى هذه الجملة فى دقة لا تكاد تقف على معنى محدد لها أو تقف على معنى - يلقى دون مبالاة - كما يقول أبو البقاء في الكليات ٣٠ المرجئة هم يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا وإنما العذاب للكفار - ا هـ أكان المرجئة يقولون ذلك حقاً أم أن أبا البقاء لم يصور مذهبهم على ما هو عليه إن الأشعرى في المقالات يقول واختلفت المرجئة في فجار أهل القبلة هل يجوز أن يخلدهم الله في النار إن أدخلهم النار على خمسة أقاويل
فيها
من ذلك نرى أن الأشعرى يذكر اختلافهم لا في دخول النار فحسب وإنما في الخلود
وفرق شاسع بين هذا القول وقول أبي البقاء فأى الرأيين هو الحق ثم إنك لا تعدم أن تجد من يعلل النفور من المرجئة بالحديث المرجئة مجوس هذه الأمة أصلا أنه حديث غير صحيح مع
۳۰ ص ٣٥٠ ط بولاق
١٤٠
وحديث صنفان من أمتى ليس لهما من الإسلام نصيب المرجئة - و القدرية حديث
موضوع 1
وليس بين أيدينا كتب للمرجئة نستخلص منها مذهبهم
لكل ذلك لم يكن من السهولة بمكان استخلاص الحق فيما يتعلق بهم
نشأة المرجئة وتسميتهم
كانت نشأة المرجئة نشأة طبيعية
ذلك أن البيئة الإسلامية حينئذ كانت منقسمة على نفسها انقساما منكرا وكل قسم منها يرمى الأقسام الأخرى بالكفر والضلال من غير ما تحرج
كان في البيئة الإسلامية خوارج يرمون عليا ومن تابعه ومعاوية ومن تابعه بالكفر
والضلال
وكان فيها عثمانيون يعلنون أن من عداهم علويين كانوا أم خوارج كفار
مارقون
والشيعة يكفرون هؤلاء وأولئك
وكل يشحذ ذهنه ويعمل تفكيره ويبذل ما استطاع من جهد في الإتيان بالحجج لتبرير
موقفه
وكانت حجج كل فريق تأتى إرسالا وتنثال انثيالا وتلبس صورة براقة تأخذ بالألباب وتستولى على الأفئدة
ولم يأل العرب - الذين وصفهم القرآن بأن ألسنتهم حداد وأنهم ألد الخصام - جهدا في تصوير خصومهم بأنهم حزب الشيطان وتصوير أنفسهم بأنهم حزب الله
ما هو الحق - إذن - يا ترى من بين هذه الحجج التي تتصارع
رأي
قوم أن معرفة ذلك أمر عسير ما الموقف الحكيم إذن
إن الموقف الحكيم أن نرجى أمرهم إلى الله
ومن هنا كان اسم المرجئة
١٤١
آراؤهم
إن هؤلاء الذين يتصارعون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويحجون البيت وهذه كلها علامة المسلم الظاهرة وهي التي تدل على أن من أتى بها كان مسلما
الله
ثم إن وحدة الأمة التى عليها يرتكز عزها ومجدها وبها نصرة الإسلام وانتشاره وإعلاء كلمة
هذه الوحدة التي يحرص عليها كل مسلم تقتضى الا نتنابز بالكفر بعد الإيمان الشيعة إذن و العثمانيون و الخوارج مسلمون
ولكن هؤلاء القوم يحارب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا ويأتون أعمالا كثيرة منكرة متبادلة فيما بينهم أهم مع ذلك مؤمنون أليس للإيمان صلة بالأعمال
رأى المرجئة أن الأعمال شيء وأن الإيمان شيء آخر فالإيمان هو التصديق بالقلب في ثقة واطمئنان
والأعمال من فعل الجوارح
حقيقة أن الإيمان من شأنه أن يصدر عنه العمل ولكن ليس من المحتم أن يصدر عنه العمل فقد تحول الحوائل وتمنع الظروف عن العمل ويكون الإيمان مجرد تصديق قلبي وقد قال الله تعالى إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ
وأمر الإيمان – إذن - والكفر مرده إلى الله الذى يعلم السرائر
ذلك أنه أمر قلبي لا تراه الأعين ولا تسمعه الآذان وأمر كل إنسان – إذن – إلى الله
وهو وحده الذي يوفيه حسابه
ولكن جريمة القتل التي ترتكب وجريمة التعدى على الأعراض التي تنتهك ألا يخرج ذلك
الإنسان عن حظيرة الإيمان
هل تخرج الكبيرة المؤمن عن إيمانه
يرى المرجئة أن الإيمان هو التصديق كما سبق أن ذكرنا
١٤٢
والتصديق لا يزيله إتيان الكبيرة فالمصدق العاصي مؤمن عاص لم يزل عنه وصف
الإيمان لعصيانه وسيتولى الله حسابه
ولكن هل مقتضى الجريمة الخلود في النار
يرى المرجئة أن الخلود في النار خاص بالكفار
أما المؤمن فقد يعفو الله عنه وقد يعاقبه ولكن مصيره في النهاية الجنة
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِم لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جمِيعًا إِنَّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ
إِن اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمَنْ يَشَاءُ مرد الأمر في العقوية والمثوبة - إذن - إلى مشيئة الله الحرة المطلقة وعلى كل فمآل المؤمنين في
النهاية الجنة
هذا رأى جمهورهم ولكن قلة منهم رأت أن مالهم إنما مرده إلى الله الذي لا يتحتم
عليه شيء
ترى من هذا أن نشأة المرجئة كانت طبيعية وأن أبحاثهم إنما دارت حول تحديد الإيمان وحول ما يترتب على هذا التحديد من خلود في النار أو عدمه وهذا في الواقع هو الأساس الأصيل وهذا هو الجوهر الأساسى لمذهب المرجئة إنهم يجمعون عليه وكان من الممكن أن نكتفى بهذا ونعد المرجئة نزعة نزعة إلى السلامة ولكن المؤرخين اتفقوا على عدها فرقة بل وقسموها إلى فرق وكنا نحب ألا تجاريهم في هذا بيد أن جو التأريخ للفكر الإسلامي يجعلنا - مع هذا التنبيه - نذكر شيئًا مما قاله المؤرخون إننا نذكر آراء فرقتين من فرقهم بعد أن ذكرنا الأصل الذي يجمعهم ونتعمد ذكر رأى هاتين الفرقتين بالذات لأن الأولى منهما وهى اليونسية ويعدها الشهرستانى من المرجئة الخالصة ربما كانت السبب في القولة الشائعة
لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة
وفى
وهم أبي البقاء صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا
الفرقة الثانية هى فرقة أبي حنيفة وأصحابه
١٤٣
اليونسية
اليونسية هم أصحاب يونس بن عون
وقد رأى الإيمان إنما هو المعرفة بالله والخضوع له ويتمثل في شيئين أحدهما ترك
الاستكبار عليه والثانى المحبة له فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن وللمحبة الله والخضوع له عند يونس شأن كبير يجب أن يكون الخضوع الله على خلوص ويقين وأن تكون المحبة له صافية خالصة من كل شائبة يجب أن يسيطر الخضوع والمحبة على القلب سيطرة تامة ومن كان هذا شأنه لا يتأتى أن تصدر عنه معصية إنه - ولا مرية فى ذلك - لا يمكن أن يتعمد المعصية ومن الجائز أن تصدر عنه هفوة لا عن عمد وهذه لا تضره إنها لا تضره فى يقينه وإخلاصه ولا تضره في خضوعه ومحبته ولا تضره في صلته بالله بسبب يقينه وإخلاصه وخضوعه ومحبته وهو ولا شك تائب منها مستغفر
والمؤمن إنما يدخل الجنة بإخلاصه ومحبته لا بعمله وطاعته ۳۱
على ضوء هذا يمكننا أن نفهم ما يعزى إلى المرجئة من أنه لا تضر مع الإيمان معصية ويمكننا أيضًا أن نفهم قول و الشهرستاني شارحًا رأى
یونس
من أن الطاعة ليست جزءا من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصا واليقين صادقًا ۳
وبعد هذا الضوء الذى ألقيناه على اليونسية ترى البعد الشاسع بين مذهب المرجئة في روحه وجوهره وقوله يرسلها أبو البقاء في شرحه له وتفسيره
ويقول الشهرستاني عن فرقة من المرجئة
هي الثوبانية ومن العجب ! أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا محالة
ولكل ما قدمنا ينبغي أن نأخذ كلام مؤرخى الملل بشيء من الحذر
۳۱ و الشهرستاني ص ٣٦١ ط بدران
۳ نفس المصدر
١٤٤
أبو حنيفة وأصحابه
ويقول شيخ و الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون
أهل السنة والجماعة الإمام الأشعرى فى كتابه مقالات الإسلاميين
التفسير
والإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة
فإنهم يحكون عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه لا يزيد ولا ينقص ٣٣
كلمة أخيرة
إن فرقة اليونسية لا تمثل في دقة مطلقة - فيما نرى - مذهب الإرجاء في أساسه
وجوهره مجردا عن الدخيل عليه
أما
صميم
هذا المذهب فإنه يتمثل في هذه الأبيات السهلة التي قالها شارحا له الشاعر و المرجئ ثابت قطنة وقد اختصرناها من قصيدة له عن مذهب الإرجاء
المسلمون
على
ولا أرى أن
يتق من
الله
وما قضى الله
الإسلام كلهمو
دنيا بالغ
والمشركون استووا في دينهم قددا أحدا م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا في الدنيا فإن له أجر التقى إذا وفى الحساب غدا من أمر فليس له رد وما يقض من شيء يكن رشدا
أما
كل و الخوارج مخط على وہ عثمان
في
مقالته ولو تعبد فيما فإنهما عبدان لم يشركا بالله مد
قال
واجتهدا
عبدا
الله
يعلم
ماذا
يحضران
به
وكل عبد
سیلقی
الله
منفردا
وهو كما يرى القارئ لا يكاد يختلف في كثير أو قليل عن رأى أهل السنة والله أعلم
۳۳ مقالات الإسلاميين ص
من جزء 1 ط النهضة المصرية
الفضل المتابع
بدء الاختلاف في الأصول
١ - بنو أمية ومذهب الجبر حينما استقر الأمر لمعاوية بعد الاتفاق الذى تم بينه وبين الحسن بن علی رضى الله عنهما أراد معاوية أن يثبت في أذهان الناس أن إمرته على المسلمين إنما كانت بقضاء الله وقدره فأشاع الفكرة وشجع مذهب الجبر وأخذ هو وخلفاء بني أمية من بعده يبثون الفكرة بمختلف الوسائل
ومما يوضح ذلك ما رواه البخاري في صحيحه
عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال
كتب و معاوية إلى المغيرة اكتب إلى ما سمعت النبي يقول خلف الصلاة فأملى على المغيرة قال
سمعت النبي الله يقول خلف الصلاة
لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
وقال ابن جريج أخبرنى عبده أن ورادا أخبره بهذا ثم وفدت بعد إلى
معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك القول
الباعث على القول بحرية الإرادة
رأى - إذن - بنو أمية أن القول بالجبر يبرر كل ما يأتون من مظالم وعملوا على أن يفسر الناس كل ظلم بقضاء الله وقدره فكان من الطبيعى أن يكون لذلك رد فعل في البيئة
120
١٤٦
الإسلامية وأن يوجد من ذوى الضمائر من يعلن أن فكرة الجبر خطأ وأن الإنسان حر مختار فيما يأتى وفيما يدع يقول الشيخ زاهد الكوثرى في مقدمته لكتاب و تبيين كذب المفترى وقد سمع هناك [ في البصرة ] معبد بن خالد الجهني من يتعلل في المعصية بالقدر فقام بالرد عليه ينفى كون القدر ساليا للاختيار في أفعال العباد
وهو يريد الدفاع عن شرعية التكاليف فضاقت عبارته وقال
لا قدر والأمر أنف ۱
"
ویروی صاحب كتاب المعارف أن معبدا الجهني و عطاء بن يسار كانا يأتيان الحسن البصرى ويسألانه
يا أبا سعيد إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال ويقولون إنما تجرى أعمالنا على قدر الله
ويرد عليها الحسن كذب أعداء الله
أول من قال بالاختيار
فانطلقت أنا وحميد
وكان و معبد بن عبد الله الجهنى أول من قالوا بحرية الإرادة وإثبات الاختيار روى مسلم في صحيحه قال حدثنى أبو خيثمة زهير بن حرب عن يحيى ابن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ابن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ! أحدنا
عن
فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتتفته أنا وصاحبي يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقلت ه أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف
۱ ص ۱۱
١٤٧
قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم بأنى برىء منهم وأنهم برآء منى والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن
بالقدر
0
و معبد هذا يقول عنه الذهبي في ميزان الاعتدال
إنه تابعي صدوق
إنه تابعى صدوق ! ثم هو يرى الجور يملأ أقطار البلاد ويرى تبجح الجائرين وتعللهم بالقدر !! فكان لابد مما ليس منه بد وثار معبد مع ابن الأشعث ۳ على بني أمية فقتله الحجاج صبرا ٤ سنة ٨٠ هـ
غيلان الدمشقي
قتل الحجاج معبدا لكن فكرته لم تمت فقد أخذها عنه و غيلان الدمشقي الذي يسميه و الشهرستانی غيلان بن مروان الدمشقى وقد ترجم له و ابن المرتضى وسماه غيلان بن مسلم ووصفه بقوله واحد دهره فى العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله وعده من المعتزلة ومن طبقتهم الرابعة
أما ابن الخياط فى كتابه الانتصار فإنه يقول عنه وأما غيلان فكان يعتقد الأصول الخمسة التي من اجتمعت فيه فهو معتزلى وهذه رسائله قد طبقت الأرض وسواء أكان و غيلان من المعتزلة أم لا فقد أخذ ينشر مذهبه وقد اشتهر
۱ - بقوله بالقدر خيره وشره من العبد ٥
٢ - وفى الإمامة إنها تصلح فى غير قريش وكل من كان قائماً بالكتاب والسنة
٢ باب القدر من كتاب الإيمان - جره ۱ ص ۱۵۰
۳ يقول الدكتور طه حسين عن ثورة ابن الأشعث في كتابه الأدب الجاهلي
ر تم عن معلم أن حفيد و الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن عيد بن الأشعث قد تار بـ الحجاج وطلع عبد الملك وعرض ملك آل مروان للزوال وكان مسا في إراقة دماء المسلمين من أهل العراقي و الشام وكان
الذين قتلوا في حروبه يخصون فيبلغون عشرات الآلاف
4 حبسه ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات
٥ الشهر ستانى
٦٧ - ط بدران
١٤٨
كان مستحقا لها وأنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة 1
- وفى الإيمان إنه المعرفة بالله الثانية المعرفة الناشئة عن نظر واستدلال
والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول الله وبما جاء من عند الله سبحانه وتعالى وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان ۷ ولرأيه هذا في الإيمان عده أبو الحسن الأشعرى من المرجئة
جمع
القدر
ويرى الشهرستاني بحق أن غيلان قد خصالا ثلاثة و الإرجاء و الخروج أخذ و غيلان ينشر مذهبه في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز ۹۹ - ۱۰۱هـ والروايات مضطربة في موقف عمر منه ولكن الثابت أنه لم ينله بأذى وكذلك الأمر في موقف يزيد بن عبد الملك ١٠١ - ١٠٦ هـ فلما تولى ه هشام بن عبد الملك ١٠٦ - ١٢٦ هـ توجه غيلان إلى أرمينيا فأرسل هشام في
طلبه وقتله لم قتله هشام
تزعم بعض الروايات أنه قتله من أجل الدين ولكن هشاما لم يكن أكثر تحمسا للدين من عمر بن عبد العزيز
وقد قال غيلان بالقدر - فى عهد عمر بن عبد العزيز - فلم يصب بأذى أن السر الحقيقى يجب أن يلتمس فى رأى غيلان في الإمامة الذي يصفه
والواقع
ه الشهرستاني من أجله بالخروج ويجب أن يلتمس فيها اشتهر به غيلان من تشنيعه على بني أمية لظلمهم وجورهم ثم لأنه داعية مفوّه إلى القول بالاختيار ونفى الجبر الجبر الذي يدعو إليه بنو أمية
تبريرا لظلمهم وجورهم
٢ - القول بالجبر
L
ولكن القول بالاختيار يبدو - في أذهان بعض الناس - وكأنه ينتقص من السيطرة المطلقة
٦ ص ٢٦٧
۷ مقالات الإسلاميين ص ۰۰ ط النيضة المصرية
١٤٩
الإلهية أو كأنه يتنافى مع الخضوع المطلق لسلطانها ! وفى الناس من ملكت فكرة الإلهية عليهم جميع أقطارهم فلما رأوا المغالاة في القول بالاختيار ثارت ثائرتهم فنادوا بالجبر
ودعوا إليه
نادوا به ودعوا إليه لا لأنه يوافق هوى بني أمية وينال استحسانهم وتشجيعهم وإنما لأنهم رأوا أن ذلك هو الحق الذى لا مرية فيه
وقد حمل علم الدعوة الجعد بن درهم و جهم بن صفوان وقد كان لهما بجوار رأيهما في القدر آراء أخرى فى الإيمان وفي الصفات وفى غير ذلك مما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى ولكننا نعجل فنقول
إن رأيهما كان متحدا في جميع المسائل والمؤرخون يذكرون أن جهما أخذ آراءه عن جعد حينما تلاقيا فى الكوفة ولكنهم يتحدثون عن جهم في قليل من الاستفاضة بينما هم لا يكادون يتحدثون عن الجعد بن درهم ولذلك سنتحدث عن آراء جهم مكتفين بها عن آراء جعد معتقدين أنها تصور
رأيهما معا في الأصول
الجعد بن درهم ولقد كان الجعد - فيما يبدو - شخصية لها وزنها إذ إنه اختير مؤدبا ومربيا ل مروان بن محمد أحد أمراء بني أمية وآخر خلفائهم ويظهر أنه كان من قوة الشخصية بحيث طبع مروان بن محمد بطابعه حتى لقب
ب مروان الجعدی
كان مولى لبنى و الحكم وكان يقطن دمشق وأخذ ينشر رأيه فطلب في دمشق فهرب منها ثم نزل الكوفة وفى الكوفة أخذ ينشر رأيه ولكن والى الكوفة خالد بن عبد الله القسرى تلقى الأمر من هشام بن عبد الملك الخليفة المرواني بقتل الجعد فحبسه خالد وإذا بكتاب آخر من هشم يأتي بقتله وصادف ذلك أيام عيد الأضحى فلما صلى خالد العيد وخطب قال في آخر خطبته انصرفوا
10
وضحوا بضحاياكم تقبل الله منا ومنكم فإنى أريد اليوم أن أضحى بـ الجعد بن درهم
فإنه يقول
الله ه ما كلم تكليما ولا اتخذ الله إبراهيم خليلا موسی تعالى الله عما يقول علوا كبيرًا ثم نزل وحز رأسه بالسكين بيده
ونريد أن نتساءل أحقيقة قتل الجعد من أجل عقيدته لقد كان يقول بالجبر وفى ذلك خير شفيع له عند بني أمية ولكنه كان أستاذا لـ مروان بن محمد فهل اقتصر على الثقافة والدين فحسب ألم يتدخل في السياسة ألم يوح لـ مروان وأولياء و مروان باتجاه معين
ولم يريد الكثيرون أن يشنعوا على مروان فيطيعونه بـ مروان الجعدي ويشيعون ذلك
في كل ناد حتى يلتصق الجعد بـ مروان أليس للسياسة دخل في هذا إننا حقا لنشك في أن الحامل لـ هشام على قتل جعد كان هو العقيدة ويغلب على الظن أن الحامل على ذلك إنما كان هو السياسة قاتلها الله
جهم بن صفوان أما
جهم بن صفوان فقد كان منبته فارس والمؤرخون ينسبونه تارة إلى سمرقند وتارة إلى ترمذ وقد ظهر على كل حال أول ما ظهر في ترمذ ومذهبه يعتبر رد فعل لمذهبين بدأت بذورهما تتغلغل في الدولة الإسلامية إذ ذاك ا مذهب الاختيار الذى كان يدعو إليه غَيْلان الدمشقي فقال جَهم
بالجبر
أحدهما
وثانيهما إثبات مقاتل بن سليمان للصفات إثباتا يجعله في زمرة المشبهة فقال اجهم بنفى الصفات
ويروى عن أبي حنيفة أنه قال أفرط
اجهم فى نفى التشبيه حتى قال إنه تعالى ليس بشيء وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه اهـ ويمكن أن يقال - على هذا النمط - إن غيلان أفرط فى إثبات الاختيار فأفرط
اجهم في إثبات الجبر
151
أخذ جهم يدعو إلى مذهبه فى طمأنينة تامة واشتهر أمره فأرسل إليه
فأخذ
ه واصل بن عطاء بعض أصحابه المباحثته ومجادلته ومع ما في آرائه من خطورة فقد تركه بنو أمية هادئا وغضوا الطرف عنه يعمل جهده باٹا دعوته ومجادلا للمشبهة ومجادلا للاختياريين بل ومجادلا للشمنية أتباع أحد المذاهب الهندية روى الإمام أحمد رضی الله عنه أن الجهم لقى بعض السمنية فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت فى ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا
في دينك
فوافق على ما قالوا فبدءوا يسألون
ألست
تزعم
أن لك إلها
قال بلى
فقالوا له
فهل رأيت إلهك
قال لا
قالوا هل سمعت كلامه
قال لا
قالوا أشممت له رائحة
قال لا
قالوا هل وجدت له حسا
قال لا
قالوا فوجدت له مجساً
قال لا
قالوا فما يدريك أنه إله
فقال لهم جهم ألستم تزعمون أن فيكم روحا
قالوا بلى
فقال لهم هل رأيتم روحكم
١٥٢
قالوا لا
قال لهم سمعتم كلامه
قالوا لا
قال فهل وجدتم له حسا أو مجسا
قالوا لا
قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون فى مكان دون مكان اهـ
وكان من الممكن أن يستمر جهم فى هدوئه وطمأنينته وجدله هذا النظرى ولكنه تدخل في السياسة فحمل السيف وخرج مع الحارث بن سريج على خلفاء بني أمية ودارت رحى الحرب فكانت منيته بمرو سنة ١٢٨هـ
أما آراؤه فقد شوهها كثير ممن كتبوا عنه واقتضبوها اقتضابًا أخل بقيمتها إذ بتروها عن
أسبابها ودواعيها وأدلتها ومن أجل ذلك كان حكم الخلف عليه قاسيا ومهما يكن من أمر فإن هذا المذهب لم يكتب له الانتشار والسبب في ذلك هو ما قلناه سابقا من أن هذا المذهب يعتبر شذوذا في الرأي ونشازا في التفكير ذلك أنه ليس بعقلى لأنه يقول بالجبر وليس بنصى لأنه يقول بالتعطيل وهو لذلك لا يرضى فريق الأمة النصيين والعقليين
آراؤه
۱ - پری جهم إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع فالعقل يمكنه أن يعرف الخير والشر ويمكنه أن يصل إلى معرفة ما وراء الطبيعة والبعث ويجب على الإنسان أن يعمل بهدى العقل فى ذلك إذا لم يكن هناك وحى الهى - والإيمان هو المعرفة التصديقية فحسب ولذلك لا ينقسم إلى عقد وقول وعمل ولا يتفاضل أهله فيه إذ إنه معرفة والمعارف لا تتفاضل ۸ - ومن أشهر آرائه أنه لا يصف الله بوصف يجوز إطلاقه على خلقه لأن ذلك يقتضى
۸ الشهرستاني ص ۱۳۷ ط بدران
١٥٣
تشبيهه فلا يوصف الله بأنه شيء أوحى أو عالم أو مريد لأن الإنسان يوصف بأنه شيء وحى وعالم ومريد ولكنه يصف الله بأنه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيي ومميت إذ إن هذه الأوصاف مختصة ٩ به وحده ويترتب على قوله هذا قوله بنفى الرؤية وإثبات خلق الكلام والقرآن على ذلك مخلوق وردا على هذا يقول بحق الشيخ زاهد الكوثري لم يفرق جهم بين الاشتراك فى الاسم والاشتراك فى المعنى والممنوع هو الثاني دون الأول بشرط كونه واردا في الشرع لأن العلم مثلا مما ورد وصف الخالق به والمخلوق مع أنه ليس بمشترك بينهما في المعنى لأن الله حضوری وعلم المخلوق حصولى وكذلك بقية
الصفات ١٠ اهـ
- وأشهر آرائه قوله بالجبر إنه من الجبرية الخالصة على حد تعبير الشهرستاني إن الإنسان - فى رأيه - لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات كما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت وغامت السماء وأمطرت واهتزت الأرض وأنبتت إلى غير ذلك ۱۱ إلا أن الله خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارًا له منفردًا بذلك كما خلق له طولا كان به طويلا ولونا كان به متلونا ١٢
ه - وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ۱۳
- ويحكى عن جهم أنه قال بفناء الجنة والنار ويختلفون في تعليله لذلك فيرى الشهرستاني أن تعليله إنما هو استحالة تصور حركات لا تتناهى آخرا كما لا تتصور
حركات لا تتناهى أولا
۹ الفرق بين الفرق للبغدادی ص ۱۹۹
۱۰ مقدمة تبيين كذب المفترى ص ۱
11 و الشهرستاني ص ١٢٦ ط بدران
۱ مقالات الإسلاميين و لأبي الحسن الأشعرى ج ۱ ص ٣١٢ ط النهضة المصرية
۱۳ مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعرى ص ۳۱
ولكننا نرى أن هذا التعليل أشبه بكلام أبي الهزيل العلاف منه بكلام جهم ويقول الأشعرى عن تعليل جهم لذلك
حتى يكون الله آخرًا لا شيء معه كما كان أولا لا شيء معه ١٤
ويقول صاحب الفرق بين الفرق
إن جهما وإن قال بفنائها فقد قال بأن الله - عز وجل - قادر بعد فنائهما على أن يخلق أمثالهما
ما هو رأى جهم بالضبط في أمر الجنة والنار
ذلك ما لا نتبينه في وضوح لا لبس فيه ! وكنا قد أردنا أن نضرب عن ذكره صفحا ولكنه - على ما فيه من غموض غامض - مذكور فى كثير من الكتب ذلك فإننا نتفق كل الاتفاق مع الشيخ زاهد الكوثرى في قوله عن جهم وتنسب لجهم آراء وليس له فرقة تنتمى إليه بعده ونسبة غالب ما نسب إليه من قبيل النبز بالألقاب تهويلا لسوء سمعة الرجل بين الفرق وآراؤه توزعت بينهم بعد تمحيصها على حسب أنظارهم لا على ما ارتآه و جهم شأن كل رأي يشيع في الناس على أن مقاومة هذه الحركة الفكرية الدينية كانت عنيفة وقد نهض كثير من العلماء - كما يقول الدكتور أحمد أمين - المقاومة هذه الحركة ونشطوا للرد على الجهمية نشاطاً عظيما ولعل أهم ما حملهم على الرد مسألتان
مسألة الجبر لأنها
10
تدعو إلى التعطيل وترك العمل والركون إلى القدر ومسألة المغالاة فى تأويل الآيات التى تثبت الله صفات وفى هذا التأويل خطر على القرآن
وتفهم معانيه ١٦
تعقيب
رأى بنو أمية أن القول بالجبر يوطد مركزهم ويوجه الأذهان نحو تبرير مظالمهم بنسبتها إلى قضاء الله وقدره فكان من الطبيعى أن يعملوا جهدهم على نشر هذه الفكرة
١٤ مقالات الإسلاميين ص
٢٢٤
10 مقدمه تبيين كدب المفترى ص ۱ ١٦ فجر الإسلام الدكتور أحمد أمين
١٥٥
وثارت بعض الضمائر ضد الظلم وضد الجور والعسف فنادوا بالاختيار وحرية الإرادة وتلمس هؤلاء وأولئك ما يسند رأيهم من نص قرآني أو حديث نبوى وغالى القائلون بحرية الإرادة فكان لموقفهم رد فعل فرأى قوم أنهم يحدون من شأن
الألوهية فأخذوا - مخلصين - ينادون بالجبر
يقول الشيخ زاهد الكوثري
ولما بدأ يذيع رأى و معبد أخذ فى الرد عليهم جهم بن صفوان بخراسان فوقع في الجبر ونشأ عنه مذهب الجبرية
كل هذه المواقف كانت طبيعية لا شأن للأثر الأجنبى أو الدخيل فيها ولكن التعصب يملى على أصحابه ما شاءت الظنون وما شاءت الأهواء تشويها أو انتقاضا
المذهبي أخذ لهذه الآراء التى ظهرت ظهورًا طبيعيا
ولذلك يجب ألا نعير أية أهمية لما يذكره ابن نباتة مثلا في سرح العيون أو المقريزى فى خططه عن أصل مذهب الجبر أو أصل مذهب الاختيار فلسنا - والحق يقال - بحاجة إلى سوسن نصرانى أو إلى طالوت يهودى على أن يكون أصلا لهذه المذاهب في الإسلام
ولسنا كذلك بحاجة إلى قرائين يهود نصيين أو ربانيين يهود عقليين لتفسير نشأة الجبر أو الاختيار في الإسلام إذ إن نشأتها الطبيعية لا لبس فيها ولا إيهام والله أعلم
- الحسن البصرى
كثيرون هم الذين عرفوا بالتقوى والورع والعلم أيام الدولة الأموية ولكن قل أن تجد فيهم من أحرز مكانة و الحسن البصرى أو ترك فى النفوس أثرا عميقا بعيد الحدود كالذى تركه و الحسن
وقد يكون لعلمه وزهده وقدرته البيانية دخل كبير فى ذلك ولكن هذه الملكات جميعا ليست إلا مظاهر من شخصيته المحبوبة المحترمة المهيبة – التي كادت تبرأ في جوهرها - من النفاق في القول والعمل وتسلم من التناقض الصريح بين ما تريده وما تجده وقد كان الواقع العملى فى الحياة يومئذ يفرض على الناس - كما يفرض عليهم في كل
زمان - ان يعملوا بغير ما يقولون وأن يخفوا غير ما يظهرون وأن يسكتوا حين يكون الكلام
واجباً
وفى ذلك الجو الذي تمثله تذبذبات القراء حين كانت تجرهم مغريات المال والجاه أو تنزلهم من صوامعهم المثالية ضروريات الحياة وقف الحسن يجاهد نفسه ويروضها على عبادة المثل الأعلى رياضة نبي نذير قد أصلح نفسه وعرضها على الناس ليثبت لهم أن بلوغ الغاية أمر غير مستحيل ١٧
0
وصف درسه
قال أبو حيان التوحيدى فى وصفه لدرس الحسن البصري
ه قرة الحراني
نقلا عن
ويجمع مجلسه ضروباً من الناس وأصناف اللباس لما يوسعه من بيانه ويفيض عليهم
بأفنانه
هذا يأخذ عنه الحديث وهذا يلقن منه التأويل وهذا يسمع منه الجلال والحرام وهذا يتبعه في كلامه وهذا يجرد له المقالة وهذا يحكى له الفتيا وهذا يتعلم الحكم والقضاء وهذا يسمع الموعظة وهو في جميع هذا كالبحر العجاج تدفقا يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير و عمرو وواصل صاحبا الكلام و ابن أبي اسحق صاحب النحو و فرقد السنجي صاحب الرقائق وأشباه هؤلاء ۱۸ ونظراؤهم
موقف الحسن من الجبر والاختيار والروايات عن الحسن في مسألة الجبر والاختيار متضاربة وقد حاول أصحاب كل رأى جره إلى رأيهم فابن المرتضى مثلا فى كتابه المنية والأمل يعد الحسن البصري من المعتزلة في الطبقة الثالثة ويروى له رسالة بعث بها إلى الحجاج تثبت أنه يقول بالاختيار
۱۷ والحسن البصرى الإحسان عباس ص ٣
۱۸ من كتاب المقابسات
١٥٧
بينما يرى الشهرستاني أن هذه الرسالة ليست للحسن ولعلها كانت
لـه واصل بن عطاء فما كان الحسن ممن يخالف السلف فى أن القدر خيره وشره من الله تعالى وأن هذه الكلمة كالمجمع عليها عندهم وقد سبق أن بينا أن رأى السلف إنما هو الاستسلام الله وقد كان و الحسن البصرى يثور في وجه من يتعللون لإتيانهم المعاصى بالقول بالقضاء والقدر وكان الحسن يثور أيضاً حينما يرى المغالاة فى إثبات مشيئة إنسانية حرة مطلقة الحرية بجوار مشيئة الله
فقد كانت عظمة الله تسيطر على نفسه سيطرة لا حد لها ومن هنا اختلف النقل
وأرادت كل فرقة أن تَشرف بالانتساب إليه وتقوى برأيه
عنه
ولكن اختلاف الروايات عنه لا يمكن أن يفسر فيما نعتقد إلا بالاستسلام التام الله
تعالى
والله أعلم وبالله التوفيق
ربنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
القسم الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُوتَ الْحِكْمَةَ فقد أوتي خيرا كثيرا
الفصل الثامن
الفلسفة
معناها وصلتها بالتصوف وأصول الفقه
۱ - المعنى العادي لكلمة فلسفة
تحدثنا في القسم الأول من هذا الكتاب عن الصلة بين علم الكلام والفلسفة ووعدنا بأن نتحدث في هذا القسم عن الصلة بين الفلسفة والتصوف وبين الفلسفة
وأصول الفقه
هل بين الفلسفة والتصوف من صلة هل التصوف جزء من الفلسفة أم أن بينهما تنافرا
وتباينا
إننا لأجل أن نصل إلى نتيجة - إذا لم تكن يقينية فهى على الأقل راجحة - لابد لنا من تحديد كلمة فلسفة وقد استفاض البحث في معنى هذه الكلمة منذ آماد طويلة بين المتصلين بالمباحث النظرية وقد تحدث عنه فلاسفة الإسلام غير مرة
يقول الفارابي إن
اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل فى العربية وهو على مذهب لسانهم فيلا سوفيا ومعناه إيثار الحكمة وهو فى لسانهم مركب من فيلا و سوفيا و فيلا الإيثار و سوفيا الحكمة
والفيلسوف مشتق من الفلسفة وهو على مذهب لسانهم فيلوسوفوس فإن هذا التغيير وهو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم ومعناه و المؤثر للحكمة
١٦٣
١٦٤
والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره
والحكمة 1
يقول الفارابي إن الفلسفة إيثار الحكمة
ولكن ما هي هذه الحكمة
إن ابن سينا يعطينا شيئًا من التفصيل لمعنى كلمة الحكمة فى سعتها وعمومها إنه يقول في رسالة الطبيعيات الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية فالحكمة المتعلقة بالأمور التي لنا أن نعلمها وليس لنا أن نعمل بها تسمى حكمة
نظرية
والحكمة المتعلقة بالأمور العملية التى لنا أن نعلمها ونعمل بها تسمى حكمة
عملية
وكل واحدة من هاتين الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة
فأقسام الحكمة العملية
حكمة مدنية وحكمة منزلية وحكمة خلقية
ومبدأ هذه الثلاثة مستفاد من جهة الشريعة الإلهية وكمالات حدودها تستبين بها
وتتصرف فيها بعد ذلك القوة النظرية من البشر بمعرفة القوانين واستعمالها في الجزئيات فالحكمة المدنية فائدتها
أن يعلم أنه كيف يجب أن تكون المشاركة التي تقع فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان
والحكمة المنزلية فائدتها
أن
تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم به المصلحة المنزلية
والمشاركة المنزلية تتم بين زوج وزوجة ووالد ومولود ومالك وعبد
وأما الحكمة الخلقية ففائدتها
١٣٤
۱ ابن أبى
165
أن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس وتعلم الرذائل وكيفية توقيها لتطهر
عنها النفس
أما الحكمة النظرية فأقسامها ثلاثة
حكمة تتعلق بما فى الحركة والتغير من حيث هو فى الحركة والتغير وتسمى حكمة
طبيعية
وحكمة تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن عن التغير وإن كان وجوده مخالطاً للتغيير وتسمى حكمة رياضية وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير فلا يخالطها أصلا وإن خالطها فبالعرض لا أن ذاتها مفتقرة فى تحقق الوجود إليها وهى الفلسفة الأولى والفلسفة الإلهية جزء منها وهى معرفة الربوبية
ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة ومن أوتى استكمال نفسه بهاتين الحكمتين والعمل مع ذلك بإحداهما فقد أوتى خيرا كثيرا اهـ
- عدم دقة المعنى العادي
هذا المعنى العام الذي ذكره ابن سينا والذي يشتمل على الرياضيات والطبيعيات
والإلهيات
كما يشتمل على السياسة والأخلاق هو المعنى العادي الذي يحلو لمؤرخي الفلسفة اليونانية أو الإسلامية أن يذكروه في مبتدأ كتبهم عند تقسيمهم للفلسفة وبعض المؤرخين يضيف إلى ذلك المنطق أيضًا
لها
وبعضهم يجعله مقدمة أو مدخلا هو من الضرورة بحيث لا تنفك الفلسفة عنه وبعض الناس يصل به الأمر إلى إدخال الكيميا والفلك والطب في الفلسفة كأجزاء
وينتهى أمر التعميم إلى حده الأخير فيقولون
إن الفلسفة هي مجموعة المعلومات في عصر من العصور والفيلسوف على رأيهم إذن هو من أحاط بمعارف عصره
ولكننا نرى أن كل ذلك بعيد عن الدقة الدقيقة وبعيد عن التمحيص العميق
1
فسقراط كان فيلسوفا باعتراف الجميع ومع ذلك لم يكن يتجه في بحثه إلى
الطبيعيات أو إلى غيرها من علوم الكون المادية مما يعدونه أقساما للفلسفة إنه فيلسوف ما فى ذلك شك ولكنه اقتصر أو كاد على الناحية الأخلاقية وعلى ما يوطد دعائمها مما وراء الطبيعة
إن المعرفة الشاملة التامة - فيما يرى سقراط - ليست في متناولنا غير أن هناك نوعا من المعرفة في مقدورنا الوقوف عليه أعنى معرفة المدركات الكلية التي إذا حددت وعرفت كانت نبراسا نوجه حياتنا على ضوئه
كان و سقراط - فيما يروى أكزنوفون - يبحث فيما هو في متناول الإنسان لا يحيد عن
ذلك ولا يتغير
فبحث في الصالح والطالح فى الشرف والوضاعة فى العدل والظلم في الحكمة والجنون في سمو النفس وصغرها فى الدولة ورجل الدولة في الحكومة وتوجيهها وبالاختصار كان يبحث فى كل ما يكون الرجل الصالح الشريف وفى كل ما بدونه لا يستحق الإنسان إلا اسم العبد الرقيق ورأى و سقراط أن الميتافيزيقيين أخذوا في عمل مستحيل فضلا عن أنه
وعبث
رجس
و ابتعد عن أن يبحث في العالم بأجمعه كما كان يفعل الكثيرون وابتعد عن أن يبحث فيا سماه السوفسطائيون أصل العالم والعلل الضرورية التي أوجدت الأجسام السماوية بل لقد أخذ يبرهن على جنون من يبحثون فى ذلك ويسأل نفسه أيبحثون في ذلك لاقتناعهم بأنهم انتهوا من معرفة العلوم الإنسانية أم أنهم يرون من
الحكمة أن ينصرفوا عما هو في متناول الإنسان ليتعمقوا في مساتير الألهة ۳ أما أفلاطون فقد انتهت به الحياة قبل أن يخترع أرسطو المنطق كما أن سقراط من قبله انتهت حياته قبل اختراع المنطق الأرسطى كلاهما إذن لم يكن يعرف المنطق ومع ذلك فقد كان كل منهما فيلسوفاً
و ۳ المشكلة الأخلاقية والفلاسفة
١٦٧
وقد وجد في القديم كما وجد في العصر الحديث كثير من الشخصيات النابهة التي تحيط بكثير من العلوم والتي تبتدع فيها وتخترع ومع ذلك فلا يطلق على شخصيته منهم اسم فيلسوف
والتفرقة بين العالم والفيلسوف كانت موجودة منذ ابتداء الفلسفة اليونانية كما أنها كانت موجودة من قبل ذلك كما هى موجودة الآن كل ذلك يدعونا إلى التساؤل من جديد عن معنى الفلسفة وعن معنى الحكمة
المعانى المتداولة لكلمة حكمة
وقد وردت كلمة الحكمة كثيرًا فى اللغة العربية فى الشعر وفي القرآن الكريم وفى الأحاديث النبوية وهي تطلق عند علماء الإسلام وفى اللغة العربية على معان عدة بلغ بها صاحب البحر المحيط تسعة وعشرين رأيا منها
الإصابة في القول والعمل ومنها الفهم ومنها الكتابة ومنها إصلاح الدين وإصلاح الدنيا
ويذكر صاحب البحر المحيط أن معانى الكلمة قريب بعضها من بعض ما عدا قول
السدي
أما قول السدى في تفسير الحكمة فهو
أنها النبوة ولكن السدى لا يستقل بهذا الرأى فقد قاله و ابن عباس فيما رواه عنه و أبو صالح وقريب منه ما قيل في معنى الحكمة من أنها العلم اللدنى أو من أنها تجريد السر لورود
الإلهام
والواقع أن معانى هذه الكلمة تنقسم طبيعيا إلى قسمين أحدهما ما يبدو فى السلوك الخارجى من سداد فى الرأى واتزان في التفكير واتجاه في السلوك إلى الطريق الأقوم والثاني هو الناحية الإشراقية الإلهامية وهى ناحية باطنية داخلية يعلمها صاحبها ويلقنها من يصطفيهم من خاصة صحبه أو تلاميذه
١٦٨
وهذان المعنيان لا يتعارضان وإنما يوجدان أحيانًا في انسجام وتناغم وأحيانا يوجد المعنى الأول فقط
ومما لا شك فيه أنه لا يوجد المعنى الثاني بدون المعنى الأول
فالشخص الملهم مسدد الرأي متزن التفكير إنه حكيم باطنيًّا وظاهريًا وبهذين المعنيين فسر علماء الإسلام معنى كلمة حكمة فى عدة آيات من القرآن الكريم مثل قوله تعالى فيما يتعلق بداود عليه السلام
وآتاه اللهُ الْمُلكَ وَالْحِكْمَةَ ٤
وقوله تعالى
يوتي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُوتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا 3
٤ - المعنى الفلسفي لكلمة حكمة ومع كل ذلك
المعرفة بالله
فإن الرأى الذي نراه هو ما قال به عطاء من أن الحكمة هي
والواقع أن المعرفة بالله تعالى لا تتأتى ولا تكتمل إلا بالفضيلة وعلى ذلك فالحكمة ينتهى معناها في رأينا إلى كلِّ متكون من جزأين أحدهما المعرفة بالله وثانيهما المعرفة بالخير والعمل به أو - بعبارة أدق - هي وحدة عبارة عن المعرفة بالله التي
تتضمن المعرفة بالخير والعمل به
ه - دعائم المعنى الفلسفي لكلمة حكمة
أما ما يدعونا إلى هذا الرأي فهو أن جميع الفلاسفة على بكرة أبيهم تشتمل مذاهبهم على البحث عن الألوهية والبحث عن الخير
أما ما عدا ذلك من أبحاث فقد يكون وقد لا يكون
وسقراط - برغم توجيهه همه الأكبر إلى البحث عن الفضيلة وعن الخير - فإنه بحث
أيضًا عن الألولهية واقتصر على ذلك
٤ سورة البقرة ٢٥١
٥ سورة البقرة ٢٦٩
١٦٩
وافلاطون كان مركز الدائرة فى أبحاثه هو الخير سواء عبر به عن الله أو عبر به عن
الفضيلة
أما الفلاسفة المحدثون فتكاد أبحاثهم تقتصر على ما وراء الطبيعة وعلى الأخلاق وكلمة الفلسفة الأولى كانت تطلق عند اليونان وعند فلاسفة الإسلام على و الإلهيات
6
ثم إن القدماء والإسلاميين كانوا يطلقون على كل فيلسوف عدة أوصاف فيقولون عن الكندى مثلا كان طبيبا ومهندساً وفلكيا ورياضياً وفيلسوفاً ويعنون باستمرار بكلمة فيلسوف شيئًا آخر غير الباحث فى الرياضة وفى الفلك وفى الهندسة إنهم كانوا يعنون بكلمة و فيلسوف الباحث في الأخلاق وعلى الخصوص الباحث في
الإلهيات
الحكمة إذن المعرفة بالله وطريقها الفلسفة فالفلسفة إذن إيثار الحكمة أو حب الحكمة أي الجهد المتواصل للوصول إلى معرفة
الله !!
والفيلسوف و هو - على حد تعبير الفارابي - الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة أى المعرفة بالله التي تتضمن المعرفة بالخير
٦ - هل الفلسفة بحث عقلى فحسب
ونعود فنتساءل
ما الطريق إلى معرفة الله
وبتعبير آخر
ما الطريق إلى الحكمة
إنه الفلسفة !
ولكن هل الفلسفة نمط واحد
هل هي طريق مفرد
يرى بعض المفكرين أن العقل هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحكمة
ويقول ابن سينا إنه
۱۷۰
متصرّف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة
ولكن ابن سينا الذي ذكر أن الوسيلة هي العقل انتهى به الأمر إلى رأى آخر ذكره - في تفصيل - فى كتابه الذي كان يعتز به كثيرًا وهو كتاب الإشارات يقول ابن سينا متحدثاً عن العارف
ثم إذا بلغت به الإرادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه
ثم إنه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض ثم إنه ليوغل فى ذلك حتى يغشاه فى غير الارتياض فكلما لمح شيئًا عاج عنه إلى جناب
القدس فيذكر من أمره أمرًا فيغشاه غاش فيكاد يرى الحق في كل شيء ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوف مألوفًا والوميض شهاباً بينا وتحصل له معارفة مستقرة كأنها صحبة مستمرة إلى ما وصفه - على حد تعبير ابن طفيل - من تدريج المراتب وانتهائها إلى النيل بأن
يصير سره مرآة مجلوة يحاذى بها شطر الحق
وحينئذ تدر عليه اللذات العلا ويفرح بنفسه لما يرى بها من أثر الحق ويكون له في هذه المرتبة نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه وهو بعد متردد ثم إنه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وإن لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظه
وهناك يحق الوصول اهـ
وهناك إذن - فى رأى ابن سينا - طريقان طريق العقل وطريق الارتياض فالفلسفة إذن - وهى تحضير للحكمة - إما أن تكون ارتياضًا وإما أن تكون بحثاً عقلياً هل يستقل ابن سيناء بهذا الرأى في العالم الإسلامي إن كل باحث في الفلسفة الإسلامية يعرف أن هذا هو رأى الفارابي من قبله ورأى ه ابن طفيل من بعده وتوضيحا لرأى ابن طفيل نقول إنه يرى
أن هناك رتبة من المعرفة ينتهى إليها بطريق العلم النظرى والبحث الفكرى وهذه الرتبة تعتير طورًا من أطوار حي بن يقظان فإنه بعد أن شب وترعرع وبلغ دور التمييز وانتهى إلى مرحلة التعقل والاستدلال
۱۷۱
والبرهان أدرك بطريق النظر حقيقة الجسم وأنه متناه وأدرك أبدية العالم وحصلت
عنده فكرة نظرية عما وراء الطبيعة واستقام له الحق بطريق البحث والنظر فلما انتهى من هذه المرحلة بدأ في المرحلة الثانية
مرحلة الوصول إلى الحكمة بطريق الرياضة
وكان مما يقوم به من الارتياض
أنه كان يلازم الفكرة فى الموجود الواجب الوجود ثم يقطع علائق المحسوسات ويغمض عينيه ويسد أذنيه ويضرب جهده عن تتبع الخيال ويروم بمبلغ طاقته ألا يفكر في شيء
سواه ولا يشرك به أحدا
ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه وبالاستحثاث فيها فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات وضعف الخيال وسائر القوى التي تحتاج إلى الآلات الجسمانية وقوى فعل ذاته التي هي بريئة من الجسم فكانت فى بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود
الواجب الوجود
ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله وترده إلى أسفل السافلين فيعود من ذى
قبل فإن لحقه ضعف يقطع به عن غرضه تناول بعض الأغذية بحسب شرائط معينة ٦ ثم انتقل إلى شأنه
ثم رأى أن الحركة من أخص صفات الأجسام وكان يريد طرح أوصاف الجسمية عن فأخذ يقتصر على السكون في مغارته مطرقًا غاضاً بصره معرضًا عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية مجتمع الهم والفكرة فى الموجود الواجب الوجود وحده دون
ذاته
شركة
فمتى سنح الخياله سانح سواه طرده عن خياله جهده ودافعه وراض نفسه على ذلك
1 يشترط ابن طفيل في الغذاء أن يكون المقدار بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها وإذا أخذ حاجته من الغذاء أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه حتى يلحقه ضعف يقطع به عن بعض الأعمال التي تجب عليه وعندئذ يتناول منه حاجته ه انظر كتابنا فلسفة و ابن طفيل ورسالته حي بن يقظان ص ۰ ط مكتبة الأنجلو المصرية
۱۷
وذهب فيه مدة طويلة بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك وفى خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الأشياء إلا ذاته فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود يسوءه ذلك ويعلم أنه شوب فى المشاهدة المحضة وشركة في الملاحظة ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت
فكان
عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد والتى هى الذوات العارفة بالموجود الحق وغابت ذاته في جملة تلك الذوات وتلاشى الكل واضمحل وصار هباءً منثوراً ولم يبق إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود وهو يقول بقوله الذى ليس معنى زائدا على ذاته لِمَنِ الْمُلكُ اليوم الله الواحد القهار ففهم كلامه وسمع نداءه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم واستغرق في حالته هذه وشاهد مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر ۷
الفلسفة بحث وارتياض
على أنه من المعروف - كما يقول صاحب كتاب مفتاح السعادة - إن أفلاطون الحكيم كان يعلم بعضا من تلامذته بطريق التصفية وإعمال الفكر الدائم في جناب القدس
وسموا بـ الإشراقيين
وبعضا
منهم بطريق البحث والنظر فسموا بـ المشائين
ورئيس المشائين هو أرسطو وهو الذي دون الحكمة البحثية ۸ أما الشيخ شمس الدين السخاوى ۹ فإنه يذكر الطريقين في صورة سهلة
صحيحة دقيقة يقول
ولما اشتدت الحاجة إليه - أى علم الإلهيات - اختلفت الطرق
۷ انظر في ذلك كتاب فلسفة ابن طفيل ورسالته حي من يقظان ص ۱۳۰ - ۱۳ ط مكتبة الأنجلو المصرية
۸ ج ١ ص ٢٤٢ -
٢٤٣
۹ المتوفى سنة ٧٩٤
۱۷۳
فمن الطالبين من راح إدراكه بالبحث والنظر وهؤلاء زمرة الباحثين ورئيسهم أرسطو وهذا الطريق أنفع للتعلم لو وفّى بجملة المطالب وقامت عليها براهين يقينية ومنهم من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية يكشفها له العيان ويجل أن توصف بلسان
ومنهم من ابتدأ أمره بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد والتصفية فجمع الفضيلتين
وينسب مثال هذا الحال إلى سقراط وأفلاطون والسهروردي والبيهقي وسواء نظرنا إذن إلى الفلسفة اليونانية أو إلى الفلسفة الإسلامية نجد أن الحكمة لها طريقان
طريق البحث العقلى وطريق التصفية
وطالما كانت الفلسفة هى الطريق إلى الحكمة فهى إذن - لا مناص - تطلق على طريق البحث العقلى وعلى طريق التصفية
هل هذا المعنى مستعمل الآن
يقول الأستاذ رينيه جينو الفيلسوف الفرنسي
إن كلمة فيلوسوفيا تعنى تماماً حب سوفيا أى الحكمة والميل للحصول عليها وقد استعملت لتدل دائما على كل تحضير للحصول على الحكمة وعلى الأخص لمحيها حيث تساعده على أن يصير سوفوس أي حكيما وبما أن الوسيلة لا تؤخذ على أنها غاية كذلك حب الحكمة ليس هو الحكمة بذاتها
- فرق الفلاسفة
من كل ما سبق يمكننا القول بأن كل شخص يجعل الوكد من حياته وغرضه من
الحكمة عمره
مختلفة
هو فيلسوف
ومن الطبيعي إذن أن يتخذ الطالبون للحكمة طرقاً مختلفة ويكونوا بحسب هذه الطرق فرقاً وقد ذكرهم الإمام الغزالي تحت وصف أصناف الطالبين للحق
وهم على حد تعبيره
1 - و المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر
١٧٤
٢ - الباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام
المعصوم
الفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان
- الصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة
والمكاشفة ١٠ و ا هـ ومن البين أن بعض هؤلاء يطلب الوصول إلى الحكمة عن طريق البحث العقلى وبعضهم يطلبها عن طريق التصفية
وهم جميعاً - باعتبارهم مؤثرين للحكمة - فلاسفة
يقول المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق
و أصبح لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية شاملا - كما بينه الأستاذ هورتن -
لما يسمى و فلسفة أو حكمة ولمباحث علم الكلام
وقد اشتد الميل إلى اعتبار التصوف أيضًا من شعب هذه الفلسفة خصوصا في العهد الأخير الذى عُنى المستشرقون فيه بدراسة التصوف ويعد الأستاذ ماسينيون من متصوفة الإسلام و الكندى والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة فى كتابه المطبوع سنة ۱۹۹ المسمى مجموع نصوص لم تنشر متعلقة بتاريخ التصوف في بلاد الإسلام ۱۱ اهـ
- قيمة الطريق العقلى فى الوصول إلى الحكمة
ولعل القارئ يتساءل
هل يستوى طريق العقل وطريق التصفية فى سبيل الوصول إلى الحكمة إننا إذا ألقينا نظرة على التاريخ نجد أن الذين اتخذوا الطريق العقلى يختلفون ويتعارضون ويتناقضون وليس فيهم من زعم أنه اتصل بالله !!
۱۰ المنقذ من الضلال ص ۸۹
۱۱ تمهيد و ص ٢٦ - ٠٢٧
۱۷۵
ومن
الأمور ذات المغزى البالغ أن تلاميذ أرسطو - حينما رأوا قوة الاعتراضات على مذهب أستاذهم فيما وراء الطبيعة هالهم الأمر وأخذوا يحاولون معالجة النقص أورد
الهجمات ففشلوا
ووصل بهم الأمر إلى أنهم يئسوا من الوصول إلى رأى سليم فيما وراء الطبيعة فاتجهوا على الخصوص إلى الأخلاق
وأرسطو - كما هو معلوم - إمام فريق الباحثين العقليين فيما وراء الطبيعة وبرغم شدة اهتمام ديكارت بمباحث ما وراء الطبيعة فإنه لم يحدثنا عن أنه اتصل
بالله ! !
والمتكلمون مع اعتمادهم على النقل اختلفوا لأنهم حكموا العقل في النقل على تفاوت
فيما بينهم
على أنه لم يسلم مذهب عقلى واحد من النقد القوى الحاد سواء في ذلك مذاهب العقليين القدماء أو مذاهب العقليين المحدثين ولقد انتهى الأمر بمذهب من أحدث المذاهب العقلية وهو مذهب البراجماتيزم
رأى
أن
أن الحقيقة المطلقة لا سبيل إلى معرفتها فى يقين جازم ومن العبث إذن الجرى
وراءها
والخير كل الخير أن نقيس الحق والباطل بمقياس الفائدة
فالرأى المفيد حق وما عداه باطل
والواقع أن العالم منذ أن نشأ وهو يحاول أن يجد مقياسا عقليا ليزن به الحق والباطل في ميداني الأخلاق وما وراء الطبيعة ولكنه على مر الدهور وعلى اختلاف البيئات وبرغم الجهد المتواصل لم يجد هذا المقياس العقلى
والمنطق وعصمته للذهن أصبح أسطورة يتندر به
ليس هناك إذن مقياس عقلى للتفرقة بين الحق والباطل بالنسبة لما وراء الحجب أو بالنسبة للغيب على حد التعبير القرآنى وكل ما يمكن أن يصل إليه العقل احتمالات وترجيحات
لا تنتهى إلى اليقين الاستدلالى الذى لا يتأتى فيه الشك
هذا من جهة الطريق العقلي في معرفة الغيب
١٧٦
10 - طريق الارتياض
أما طريق التصفية فأمره وأمر رجاله على خلاف ذلك
وإذا كان الطريق العقلى يؤدى إلى نتائج متعارضة فإن طريق التصفية يؤدى إلى نتيجة
متحدة
ذلك أن طريق التصفية يصل بالإنسان خطوة خطوة إلى أن يصير سره – على حد تعبير
ه ابن سينا - مرآة مجلوة يحاذى بها شطر الحق فمعارفه إذن مستفادة من مصدر النور والهداية
وإذا كان أصحاب البحث العقلى لا يزعم واحد منهم أنه اتصل بالله فالمعروف عن رجال التصفية أنهم يتصلون به سبحانه وليس هذا رأى الصوفية فى الإسلام فحسب وإنما هو رأى جميع الإشراقيين إنه رأى فيثاغورس ورأى أفلاطون ورأى أفلوطين وهو رأى الفارابي وابن سينا وابن طفيل
إنه رأى و ابن سينا مع أن ابن سينا لم يتخذ طريق التصفية سبيلا ذلك أن الحياة والجاه والسلطان كل ذلك شغله عن التزام طريق التصفية وشهادته إذن لهذا الطريق - وهو ليس من أهله - لها قيمتها
۱۱ - الطريق الأمثل في الوصول إلى الحكمة
طريق العقل وطريق التصفية ! !
أهما طريقان أم هما طريق واحد هو عبارة عن مرحلتين أو جزأين متكاملين فصل بينهما نوع من الانحراف الإنسانى فجعلها طريقين !
إن المثل الأعلى لمن يطلب الحكمة هو ما عبر عنه أفلوطين فى كلمة موجزة دقيقة
بالغة العمق يقول
الكشف عن الإله ثم الاتصال به
الكشف عن الإله بوساطة العقل الاستدلال والبرهان
ذلك منتصف الطريق الكامل وبعض الناس يقفون عنده ! إنهم مقصرون !!
۱۷۷
وتقصيرهم إما أن يرجع إلى طبيعتهم وإما أن يرجع إلى بيئتهم التي انحرفت فظنت أن
العقل - وحده – يدرك الغيب
ثم الاتصال به وذلك طريق التصفية وهو النصف الثانى من الطريق الكامل وهذا الطريق الكامل رسمه و ابن طفيل في أسلوب أخاذ وفي وضوح تام في رسالته
احي بن يقظان وقد سبقت الإشارة إليه
على أن من اقتصر على النصف الأول من الطريق أعنى الجانب العقلى فإنه يكون عرضة
للشك وعدم الاطمئنان والصورة الواضحة كل الوضوح تنقصه وما الإمام الغزالى إلا مثل صادق لما نقول فإنه حينما اقتصر على الجانب العقلى شك وارتاب وتحير ووجد لكل ذلك سندًا ومبررا من العقل نفسه ولكنه حينما أخذ في تكملة الطريق حينما عالج الأمر بوساطة التصفية اطمأن وهدأت
نفسه
وقد صور حجة الإسلام ذلك كله فى كتابه الطريف المنقذ من الضلال وكتابه تهافت الفلاسفة هو بأكمله محاولة جريئة موفقة لتبين أن الاقتصار على العقل في
مسائل ما وراء الطبيعة طريق ناقص ولا يؤدى وحده إلى الحكمة
لمحبى
الكشف عن الإله ثم الاتصال به ذلك هو النهج الوحيد المتكامل الذي لا مناص منه
الحكمة والمؤثرين لها
۱ - تعريف الفلسفة
الله
وإذا أردنا إذن تعريفا للفلسفة فإن الأمر - بعد كل ما سبق - بين واضح إنها المحاولات التي يبذلها الإنسان عن طريق الفعل وطريق التصفية ليصل بها إلى معرفة
هذه المحاولات هي الفلسفة والنتيجة هي الحكمة
-"
ومن ذلك يتضح أن الإمام الغزالى باعتبار أنه استكمل شطرى الطريق - أصل في الميدان الفلسفي من ابن سينا ومن أرسطو اللذين لم يقطعا إلا نصف الطريق
وإذا كان ذلك صحيحاً بالنسبة للإمام الغزالي فهو أيضًا صحيح بالنسبة لكبر
الصوفية الإسلاميين
۱۷۸
ذلك أنهم جميعا قد حققوا الكشف عن الإله ثم الاتصال به إنهم فلاسفة كاملون والفلاسفة العقليون إذن وزعيمهم أرسطو يصدق عليهم التعبير بأنهم أنصاف فلاسفة إذ إنهم لم يقطعوا إلا نصف الطريق الفلسفى وهو الجانب العقلى وعلى ذلك فلا معنى لأن ندخل فى المهاترات المغرضة التي أثارها الغرب على الخصوص حول قيمة الفلسفات القديمة كالفلسفة الهندية مثلا
ذلك أن هذه الفلسفات و قد حققت الكشف عن الإله ثم الاتصال به وهى من أجل
ذلك فلسفة كاملة
ومن الواضح - والأمر كذلك - أن أصول الفقه ليست كشفا عن الإله ولا اتصالا به فهى إذن ليست بفلسفة وبالله التوفيق
الفضل الشايع
الفلسفة الإسلامية بين الأصالة والتقليد
1 - المشاكل الفلسفية أثيرت فى البيئة الإسلامية قبل عصر الترجمة وصلنا بتوفيق الله تعالى فى القسم الأول من كتابنا هذا إلى الحسن البصري الذي
توفى سنة ١١٠ هـ
ورأينا أن البيئة من جانب والبحث في القرآن من جانب آخر كانا السبب في نشأة ما نشأ من أحزاب دينية
لم تكن الكتب الفلسفية قد ترجمت إذ ذاك إلى اللغة العربية في البيئة الإسلامية 1 ومع ذلك فإن المشكلات الفلسفية الخاصة بالتنزيه والعدل وصلة الله بالإنسان والعالم ووجود الخير والشر والحرية والاختيار قد أثيرت ونوقشت وأبدى فيها زعماء الفكر الإسلامي آراء هم المختلفة التي يستند كل منها إلى أدلة عقلية تستأنس بالنقل أو أدلة نقلية يؤيدها العقل كان و واصل بن عطاء إذ ذاك تلميذا و للحسن البصرى ثم انفصل عنه وكون اتجاها آخر وأثار فى قوة المشاكل الفلسفية وأجاب عليها ولم يكن للمسلمين في عهده علم بالتراث اليوناني الخاص بالإلهيات أو بالنفس أو بالأخلاق على أن سابقيه أثاروا المشكلات نفسها وأخذوا يجيبون عنها
ومن قبل كل ذلك قد تعرض القرآن لمسائل الإلهيات والأخلاق والنفس والقدرة
وأفعال العباد
1 يقول الأستاذ سانتلانا في مخطوطه المذاهب الفلسفية
ونقل كتب اليونانية إلى العربية ابتدأ في عهد آل عباس وهو ينقسم إلى ثلاثة أدوار فالدور الأول من خلافة أبي جعفر المنصور إلى وفاة هارون الرشيد أى من سنة ١٣٦ إلى ١٩٣
۱۷۹
1A
٢ - الاتجاهات الفلسفية وجدت فى البيئة الإسلامية منذ نشأتها
والواقع أننا إذا استعرضنا التاريخ الفكرى فى الآماد البعيدة أو في العصور الحديثة فإننا نجد في كل أمة من الأمم متبدية كانت أو متحضرة ثلاثة اتجاهات تعمل في آن واحد ١ - إننا نجد الحسيين الذين يتشبثون بالنظرة المادية ولا يكادون يرفعون أبصارهم إلى السماء ٢ - ونجد الاتجاه العقلى الذى يرى أن مشاكل ما وراء الطبيعة ومشاكل الأخلاق مشاكل الدنيا ومشاكل الآخرة إنما يحلها العقل بأقيسته وبراهينه ومنطقه - والاتجاه الثالث هو الاتجاه الروحى أو الإلهامي أو البصيري الذي يؤمن أن مسائل ما وراء الطبيعة ومسائل الأخلاق تتأتى لنا المعرفة بها عن طريق الاتصال المباشر بالملأ الأعلى ولن تتأتى المعرفة الصحيحة الحقيقية فى ميدان ما وراء الطبيعة والأخلاق حسب ما يرون إلا عن طريق هذا الاتصال
هذه الاتجاهات الثلاثة توجد في كل أمة على تفاوت فيما بينها يتأرجح ارتفاعاً وانخفاضا بحسب الظروف الاجتماعية والثقافية وهذه الاتجاهات الثلاثة وجدت فى الأمة الإسلامية منذ تكونها ولكنها لم تظهر ظهورًا بينا إلا في عهد الاستقرار
ولأن الدولة الإسلامية كانت متشبعة بالفكرة الدينية وكان الخلفاء وأمراء المؤمنين يهمهم ألا تشيع المبادئ الهدامة في حجر الدولة الإسلامية فإن الاتجاه الأول لم يظهر ظهورا قويا ومع ذلك فإنه كان موجوداً واستعمال كلمة زنديق و زنادقة لم يكن نادرًا فى العصر الأموى وإذا لم تكن الكلمة عربية أصيلة ففى اللغة العربية ما يعادلها وهى كلمة ملحد وكلمة دهرى ولم تكن علة هذا الاتجاه ترجمة الفلسفة اليونانية فقد كان موجودا في العرب قبل
الإسلام ثم وجد بعد الإسلام كما وجد وكما هو موجود في كل أمة من الأمم وقد حكاه القرآن عن طائفة فى الجزيرة العربية كانت موجودة قبل الإسلام وكان من حكمة القرآن أن ساق رأيهم فى نسق بديع من البيان مقدما لرأيهم بمقدمات تشعر شعورًا بينا أن من حاد عن جادة الصواب إنما يحيد لهوى فى نفسه لا للمنطق والتبصر ثم أعقب الرأى بالفكرة الصحيحة وأرشد إلى أن حجتهم على ما يدعون لا تتصل بالمنطق
۱۸۱
ولا بالتفكير وإنما هى أشبه شيء بعبث الأطفال يقول الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِن الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُعْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَمَا يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا انتوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحييكُمْ ثمَّ يُمِيتُكُمْ ثم يجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
ولله مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَحْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ٢
أما الاتجاه الثانى والثالث فقد وجدا منذ عهد مبكر لقد وجدا منذ عهد الفترات الأولى لتكون الدولة الإسلامية وكان الاضطراب في البيئة الذي انتهى بالفتنة الكبرى بين الصحابة من أهم العوامل في نموها هذه الفتنة جعلت الأنصار المتحمسين فى كل فريق يتصارعون بالمنطق والبرهان
سورة الجانية ۱۸ - ۷
۱۸
والحجة كما يتصارعون بالسيف والرمح والسنان وجعلتهم يؤولون القرآن ويفسرونه على
ضوء ما يؤمنون به من مبادئ
وهذه الفتنة نفسها وجهت طائفة أخرى من المسلمين إلى الاعتزال والزهد والاتجاه الروحى وتنسم الحق والمعرفة عن طريق العبادة والتقوى والتأمل أوجدت هذه الفتنة إذن نموا في الاتجاه العقلى ونموا فى الاتجاه الروحي ولكنها لم تكن العامل الوحيد في هذين الاتجاهين بل هى فى رأينا لم تكن العامل الأساسي
الأصيل
فالعامل الأساسي الأصيل فى رأينا هو القرآن
إن تلاوة القرآن مما يتعبد به والقرآن دعوة واضحة إلى الاتجاه الروحي وهو وإن كان يدعو إلى الجهاد وإلى السيادة والسيطرة على العالم من أرضه وسمائه وجباله وبحاره فإنما دعوته لذلك من أجل إعلاء كلمة الله وحتى يكون الدين كله الله
فالقرآن دافع قوى إلى السلوك الذي يرضى الله ورسوله وليس القرآن فى ذلك بدءًا من الأديان فكل دين موحى به من السماء إنما هو كذلك ولا يعنينا هنا الاستفاضة فى هذا الأمر البديهي
ولكن البحث في القرآن اضطر المسلمين اضطرارًا إلى استعمال عقولهم فهو يحث على النظر والتأمل وعدم أخذ الأمور تقليدًا واتباعًا للأجداد والأسلاف ويسخر من هؤلاء الذين مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً ومن هؤلاء الذين يقولون
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ
ويعقب على قولهم فيقول ساخرا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاءهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
ويدعو القرآن إلى التثبت
يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَيَا فَتَبَيَّنُوا وفي قراءة أخرى فتثبتوا
وليس بنادر تلك الآيات التي تحث على عدم اتباع الظن
إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا
ويمكننا أن نقول بعد ما سبق
۱۸۳
إن الحضارة الإسلامية استكملت منذ نشأتها تقريباً البذور الأولى الاتجاهات الفكرية وإن هذه الاتجاهات الفكرية أخذت - على تفاوت فيما بينها - تتطور وتنمو تبعا للعوامل الداخلية - اجتماعية كانت أو دينية - التى وجدت في البيئة الإسلامية ومن المعروف أن هذا النمو والتطور إنما كان بطيئًا فى المبدأ لانشغال الأمة الإسلامية بتوطيد دعائمها كدولة وفى أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية أخذت هذه الاتجاهات تنمو وتتطور بسرعة مستقلة عن كل العوامل الأجنبية تقريباً على أننا نريد شيئًا من التحديد إن حديثنا هنا مقصور على الناحية الفكرية النظرية أو بتعبير آخر على الإلهيات والأخلاق ومن المعروف أن الإلهيات والأخلاق لم يترجما إلا فى أيام المأمون ۳ وفي هذه الفترة كان هناك
معتزلة وصوفية ونصيون وملحدون يتصارعون فيما بينهم تصارعاً لا هوادة فيه ولقد تكونت هذه الطوائف من قبل أن تترجم الإلهيات والأخلاق ونقولها في صراحة
تامة وفى بساطة كاملة
إنه لو لم تترجم إلهيات اليونان وأخلاقهم ولو لم تترجم عقائد الفرس أو الأفكار الصوفية الهندية لسارت هذه الاتجاهات سيرًا طبيعيا حتى بلغت نهاية الطريق إن كان لطريق الإلهيات والأخلاق العقلى والروحى والمادى نهاية ينتهي إليها
انحراف مؤرخى الفلسفة الإسلامية عن المنهج الصواب والمنهج الصحيح إذن فى دراسة الفلسفة الإسلامية هو التدرج مع التفكير الإسلامي خطوة خطوة والسير معه درجة درجة دون التعصب لفكرة معينة ولكن أكثر المؤلفين فى الفلسفة الإسلامية تعصبوا - متعمدين أو غافلين – لفكرة معينة
۳ إن نقل الكتب فى الدور الأول من خلافة أبي جعفر المنصور إلى وفاة هارون الرشيد أي من ١٣٦ هـ إلى ۱۹۳ هـ كان مقصورًاً أغلبه على الكتب الطبية وشيء من الكتب المنطقية وكتب الهندسة على ما كانت تقتضيه حاجة
الناس في ذلك الوقت
وقد وافق ذلك استحكام علم الكلام وانتشار مذاهب المعتزلة اهـ
سانتلانا المذاهب الفلسفية
١٨٤
هي أن الفلسفة الإسلامية تقليد للفلسفة اليونانية أو هى الفلسفة اليونانية مكتوبة باللغة العربية
وحينما أنشئت الجامعة المصرية القديمة واستدعى الأستاذ سانتلانا لتدريس المذاهب الفلسفية بدأ دراسته بتخليص الفلسفة اليونانية وجزم منذ مبدأ دراسته أن العلوم الإسلامية مؤسسة منذ بدء نشأتها على علوم اليونان وأفكار اليونان بل وعلى أوهام اليونان تعصب الأستاذ سانتلانا إذن منذ محاضرته الأولى لفكرة معينة ووضع سامعيه أمام اتجاه خاص سيسلكه ولم يجعل هذا الاتجاه قابلا للاحتمال أو الأخذ والرد وإنما أطلق الأمر إطلاقاً عاماً وجزم به فى صورة لا يستسيغها العلم الدقيق
ثم أخذ معتمداً على القضية التي أطلقها يتلمس أية ناحية من نواحى التشابه بين الأفكار الإسلامية والأفكار اليونانية فيجعل أصلها يونانيا ويجزم بأن المسلمين أخذوها من
اليونان
وذلك نمط من البحث لا يسير فيه إلا المتعصبون إذ إنه فى مناهج البحث الدقيقة يشترط للقول بتقليد اللاحق للسابق أمور منها أن يثبت ثبوتا بينا ١ - التشابه أو التطابق التام بين الفكرتين ٢ - أن يثبت بطريقة لا لبس فيها أن الأخير قد تلقن مباشرة – سواء بالتلمذة أو بوساطة الكتب - عن السابق - ومن أهم الشروط ألا تكون الأصالة أو العبقرية متوفرة في اللاحق أي أن تكون في اللاحق طبيعة التقليد فإذا ما خرج عن طبيعة التقليد إلى الأصالة أو العبقرية فقد خرج عن شبهة المحاكاة وعن شبهة التقليد ٤
٤ عالج الفيلسوف الفرنسي الكبير هنرى برجسون هذه المشكلة التي يتورط فيها بصفة عامة كثير من مؤرخي الفلسفة عالجها بمنطقه الرصين وأسلوبه الفذ وخيرته الشاملة ودراسته العميقة للمذاهب الفلسفية وعالجها كذلك عن طريق خبرته الشخصية كفيلسوف ونحن بلخص هنا رأيه ونهديه إلى مؤرخى الفلسفة عندنا وإلى الكاتبين عن العبقرية علهم يثونون إلى شيء من الاعتدال يقول الفيلسوف إن مؤرخى الفلسفة ينظرون عادة إلى البناء الخارجي للمذهب الفلسفي ويفرحون بأن يقولوا لأنفسهم - بعد دراسة الفيلسوف وإننا نعلم مصدر المواد الأولية التي تكون منها مذهبه وتعلم كيف تم البناء ونرى في المسائل التي
۱۸۵
ومن البين أن الأستاذ سانتلانا لم يراع كل هذه الشروط
ذلك أنه جزم بأن أفكار اليونان وعلومهم وأوهامهم كانت أساسا للعلوم الإسلامية
منذ بدء نشأتها
أن نشأة مع العلوم الإسلامية يمكن أن يقال إن أسسها ومبادئها تدرجت تكونا ووضعا منذ بدء الإسلام نفسه أي أساسها كان الوحى نفسه
عرضها الأسئلة التي كانت تثار حوله وتعثر في الحلول التي يقدمها على عناصر الفلسفات السابقة له أو التي عاصرته فهده الفكرة أده بها فلان وتلك استمدها من ذاك وهكذا لا يستريحون حتى يمزقوا المذهب إلى خرق زاعمين أنها هي التي كونت هذه الحالة التي نعجب بها
بيد أننا حينما نعيد قراءة المذهب وحينما نعيد هذه القراءة أيضًا لتستقر في فكر الفيلسوف بدلا من أن تلف حول مظهره الخارجي فإننا نرى أن مذهبه يتخذ وجها آخر ونرى أجراء المذهب يتداخل بعضها في بعض وتنصهر كلها في نقطة واحدة هذه النقطة هي جوهر مذهب الفيلسوف وهى أساسه وهى روحه ونرى حينئذ - أن مهمتنا في الواقع - إذا أردنا فهم الفيلسوف على حقيقته - إنما هى الاقتراب من هذه النقطة ما أمكن
وهذه النقطة
هي
التي أراد الفيلسوف طيلة حياته أن يوضحها فهو يكتب عنها ثم يرى أنه لم يعبر عنها في دقة فيعود إلى الكتابة من جديد عله يكون أكثر توفيقاً في المرة الثانية منه فى المرة الأولى وهكذا يستمر طيلة حياته ولا هم له إلا محاولة إيجاد الانسجام بين هذه النقطة البسيطة التي يشعر بها وبين الوسائل التي لديه للتعبير عنها كيف بدأت هذه النقطة في شعوره
إنها بدأت بالتفى والإنكار إن الفيلسوف فى مبدأ أمره منكر أكثر منه مثبتاً وناف أكثر منه مصدقاً وثائر أكثر منه سلماً ولعلنا نذكر جميعا كيف كان يعمل الروح الذى سيطر على سقراط لقد كان يوقف إرادة الفيلسوف في لحظة معينة ويمنعه عن العمل أكثر مما كان يحدد له ما يجب عمله وإنه ليخيل إلى أن شعور الفيلسوف يسلك في أحيان كثيرة - فيما يخص التفكير النظري - مسلك الروح الذي سيطر على سقراط بالنسبة للجانب العملي فكثيرا ما يجد الفيلسوف نفسه أمام آراء تصادف القبول العام ونظريات تبدو مؤكدة وأقول يعتبرها الناس علمية بيد أن شعوره همس في أذنه بكلمة مستحيل مستحيل حتى ولو تكاتفت كل الأسباب والظواهر على أن ذلك حق ثابت مستحيل حتى ولو كان الجميع يؤمنون بأنه ويبدأ الفيلسوف أول ما يبدأ - بإنكار الكثير مما تعارف الناس على أنه صواب وتزييف ما يرى الوسط الذي يعيش فيه
يقيني
أنه حقيقة
وما من شك في أن المشاكل التي عنى بها الفيلسوف هي المشاكل التي أثيرت في عصره وأن العلم الذي استعمله أو نقده كان علم زمنه وأنه يمكننا أن نعثر في النظريات التي يعرضها على كثير من الآراء التي لمعاصريه أو لسابقيه وكيف يكون الأمر على خلاف ذلك 11 إن الإنسان إذا أراد أن يشرح الجديد وينشره لابد له من أن يعبر عنه معتمدا على القديم مستخدماً المشاكل التي سبق عرضها والحلول التي عولجت بها وباختصار الفلسفة والعلم اللذين كانا في عهده إن ذلك - فيما يخص كبار المفكرين - إنما هو المادة التي يضطرون إلى استخدامها ليخلعوا على فكرهم صورة مفهومة ولكننا نخطئ الخطأ كله حينما نعتبر كل ذلك عناصر أساسية في المذهب في حين أنها لم تعد أن تكون وسيلة للتعبير عن
المذهب وسيلة فحسب
١٨٦
والعلوم الإسلامية إذا أطلقناها كانت عقيدة وشريعة وأخلاقاً
كانت تفسيرا للقرآن وشرحاً للحديث وجدلا حول العقيدة التي نزل بها الوحى وكانت اتجاها روحيا يستمد مبادئه ونظرياته من القرآن ومن السنة ومن التأسى بالرسول صلوات الله وسلامه عليه
وإذا أردنا شيئًا من التمثيل الواقعى فإننا نقول فى الاتجاه الروحي إن أبا ذر الغفاري لم يدرس الأفلاطونية الحديثة ولم يدرس اشتراكية أفلاطون ولم يتخذ ذلك أساسا لدعوته ولكنه اتخذ الزهد - الزهد الإسلامي - مذهبا ومنهجا في الحياة وأهل الصفة لم يتتلمذوا على الأفلاطونية الحديثة أو على الفيثاغورية فيتخذوا عنهم الزهد والتقوى منهجًا وسننا
ونقول في ناحية التشريع إن سيدنا معاذاً أو سيدنا عمر أو سيدنا عليا أو الإمام
مالكا لم يدرسوا نظريات اليونان حتى يتخذوها أساسا لفتاواهم وأحكامهم والبحث في القدر وفى غيره من المشاكل الكلامية كالبحث في الذات الإلهية نشأ منذ عهد مبكر في الإسلام بل لقد تجادل الصحابة فى حياة الرسول نفسه في هذه الأمور ولم يكونوا في ذلك منغمسين في شرح وتفسير أفلاطون و أرسطو واستمر الحديث والجدل في مسائل علم الكلام هادئا بطيئًا أو عنيفًا سريعا إلى أن نشأ واصل بن عطاء و عمرو بن عبید فنظماه ونسقاه وكونا فيه مذهبًا على شيء كثير من النضج العقلى ومع ذلك فإن الفلسفة اليونانية من الهيات وأخلاق لم تكن قد ترجمت بعد
=
وما من شك في أن كل مذهب من مذاهب كبار الفلاسفة يحتوى على عدد لا يحصى من أوجه الشبه الجزئية التي تلفت نظرنا ومن أوجه التقارب كل ذلك حق ولكن ذلك كله ليس إلا مظهرًا خارجيًا أما أساس المذهب وجوهره وروحه فإنه شيء آخر إن الفيلسوف لم يقل طيلة حياته إلا شيئًا واحدا ولقد استنفد جهده في محاولة التعبير عنه
بشتی
الصور - في دقة ثم يختم الفيلسوف و برجسون كلمته بهذه الفكرة الجريئة الحاسمة وكان من الممكن أن يجبى الفيلسوف قبل زمنه الذي عاش فيه أو بعده بعدة قرون وكان من الممكن أن يعالج فلسفة أخرى وعلماً آخر ومشاكل من نمط مختلف ويستعمل تعبيرا من نوع آخر وكان من الممكن ألا يكون أي فصل مما كتب على ما هو
عليه ومع كل ذلك كان يقول نفس الشيء وما كان يتأتى بحال أن يختلف روح المذهب ولا جوهره إن الفيلسوف لا يبدأ من أفكار سابقة له فى الوجود وأقصى ما يمكن أن يقال إنه يصل إليها اهـ
JAV
- آريون وساميون ونزعة سانتلانا إنما هى نزعة مواطنيه الغربيين
والنزاع بين الشرق والغرب قديم ومستمر وهو ليس نزاعاً حربياً فقط إنما هو نزاع فكرى أيضا
والغرب يريد أن يقلل من شأن الشرق ما أمكن ليسود هو ويستعلى وكما استعمل في سبيل السيادة المالية الوسائل المادية استعمل أيضًا - لإضعاف الروح المعنوية في الشرق – الوسائل الفكرية وبدأ المزيفون للحقائق فى الغرب يقسمون الجنس البشرى إلى نوعين كبيرين
النوع الآرى ويتمثل خير ما يتمثل في أوربا وخصوصا شمالها والنوع السامى ويتمثل خير ما يتمثل فى الشرق الأوسط وفى الجنس العربي ثم أخذ الغربيون يتخيلون خصائص ومميزات لكل نوع وانتهى بهم الوهم إلى أن الجنس الآرى مبتدع مبتكر مخترع
أبدا
وأن الجنس السامي تابع مقلد هو بطبيعته كذلك وهو كذلك الآن وسيكون كذلك
والنتيجة لهذه المقدمات الزائفة أنه لم يكن للشرق فلسفة في الماضي لأن الفلسفة ابتداع واختراع وتنسيق وذلك من خصائص الجنس الآرى وليس للشرق فلسفة في الحاضر ولن
يكون للشرق فلسفة في المستقبل
وما سمى فلسفة إسلامية إذن ليس إلا تقليدا ومحاكاة لليونان ! !
هو إذن فلسفة يونانية مكتوبة بلسان العرب وتبنى رينان هذه الفكرة فى أواخر القرن التاسع عشر وتزعم الدعوة لها وكان رینان ذا شخصية جارفة وأسلوب قوى واطلاع واسع وكان لكل ذلك أثر بالغ في نشر
الفكرة ورواجها
وأيد المستعمرون الفكرة بجاههم وبمالهم وأضفت دعايتهم عليهم بريقاً كالسراب يوهم
بأنها حقيقة أيدها أعداء الشرق على وجه العموم فأخذت مجراها وسارت شرقاً وغرباً حتى لقد
۱۸۸
كادت فى فترة من الفترات تلبس صورة الحقيقة المطلقة
وأخذ دارسو الفلسفة الإسلامية من الغربيين يبدءون بموجز عن الفلسفة اليونانية وبإعطاء فكرة عن مدارس متناثرة فيما بين النهرين دجلة والفرات أو فى غير ذلك من الأماكن التي كانت موطنا للثقافة اليونانية وشعت منها هذه الثقافة على غيرها من الأقطار الشرقية لقد تحدث ديبور عن هذه المدارس كما تحدث عنها سانتلانا كما جعل جميع الغربيين حظا وافرا في تأليفاتهم للإشادة بقيمة التراث اليونانى وفضله على التراث العربي
ه - تاريخ الشرقيين للفلسفة اليونانية
ومن المتصور أن يكون ذلك موجودًا فى الغرب فالغرب تسيطر عليه فكرة السيادة على الشرق باستمرار وهو يتخذ دائمًا كل الوسائل للتقليل من شأن الشرق ما استطاع إلى ذلك
سبيلا ! !
ولكن الذي ليس بمفهوم ولا بمتصور ولا بمستساغ أن يجارى الشرقيون الغربيين حينما يكتبون عن الفلسفة الإسلامية وبين أيدينا الآن بضعة كتب فى الفلسفة الإسلامية تنحو كلها نحو المنهج الغربي إنها تبتدئ هي الأخرى بالتحدث عن الفلسفة اليونانية وبشرح آراء الطبيعيين الأول وآراء المدارس التي سبقت سقراط ثم تستفيض في شرح آراء أفلاطون وأرسطو ومنها ما يتوسع على الخصوص في شرح الأفلاطونية الحديثة
- خطأ وتعسف ومجازفة
والمؤلفون الذين يفعلون ذلك - سواء أكانوا شرقيين أم غربيين - ليسوا على صواب منهجي
لأمرين 1 - إنهم يحصرون أنفسهم في إطار محدد وهو القول - لا مناص - بالتقليد والتأثر والمتابعة ويكون همهم كل همهم - أن يثبتوا التقليد والمتابعة والتأثر في كل مسألة
عنها
يتحدثون
- إنهم يضعون القارئ مباشرة ومن أول الأمر تجاه فكرة معينة ويوحون إليه بها من الصحائف الأولى وهو إما أن ينكر عليهم منهجهم فيلتمس باستمرار نقض آرائهم ولو
۱۸۹
كان بعضها صحيحاً أو يتابعهم في منهجهم فيقلدهم فيما يقعون فيه من أخطاء والواقع أن من يبدأ التأليف فى الفلسفة الإسلامية بفصل أو فصول عن الفلسفة اليونانية أو عن مدرسة من مدارسهم فقد تحيز من أول الأمر لفكرة محددة وسحب بذلك
ثقة الناس به كباحث
وإذا تعصب الإنسان لفكرة فإنه يتعسف - لا محاولة - في إثباتها ومن هنا كان هذا المظهر التعسفى الذى نراه عند كثير ممن كتبوا في الفلسفة الإسلامية و استعمال كلمات التقليد والتلفيق والأخذ التي نراها منثورة في هذه الكتب بغير حساب هى مظهر من مظاهر هذا التعسف
ونريد أن نضرب الآن مثلا أو مثلين زيادة فى التوضيح لفكرة التعسف هذه إن النفس الإنسانية إما أن تكون - بحسب الاحتمالات العقلية – خالدة وإما أن تكون فانية وليس هناك رأى ثالث ولا مناص من أن يقول المفكر بهذا أو ذاك فإذا ما قال أحد فلاسفة الإسلام بأن النفس خالدة وهى الفكرة التي نشئ عليها طفلا
ويافعا وشابا سارع مؤرخو الفلسفة وقالوا إنه أخذها عن أفلاطون وإذا انحرف به تفكيره فقال إن النفس فانية سارع مؤرخو الفلسفة وقالوا إنه أخذها عن و أرسطو وإذا قال أحد فلاسفة الإسلام إن صفاء النفس وشفافيتها يؤدى إلى اتصالها بالملأ الأعلى سارع مؤرخو الفلسفة - سامحهم الله - إلى القول بأنه أخذها عن أفلاطون أو أخذها عن الأفلاطونية الحديثة
فإذا ما أنكر ذلك سارعوا فقالوا إنه يتابع أرسطو ولكن المسألة أضخم من ذلك والتعسف يبلغ منتهاه حينما يتحدثون عن الثقافة الإسلامية ككل
إنهم إذن لا يتلمسون ولا يتعسفون فحسب وإنما يجازفون ويتهورون فالتصوف الإسلامي زعموا - نتيجة لثقافة أجنبية دخلت في الإسلام والفلسفة الإسلامية ليست إلا تقليدًا للفلسفة اليونانية والتشريع الإسلامي يستمد من التشريع
الروماني
الغريب في الأمر أنهم ينقسمون فرقًا تتجادل في المصادر والمنابع كأنهم يعتقدون أن القراء
۱۹۰
يأخذون آراءهم مأخذ الجد ويعتبرونها بحثا علميا صحيحا ولنضرب مثلا يوضح إلى أي مدى يبلغ الاستهتار العلمي
فالزهد والتصوف أثران للقرآن والحديث ولحياة الرسول الشخصية ومع بداهة ذلك فإن المستشرقين ومن تابعهم من الشرقيين يأخذون في الجدل حول مصدر الزهد والتصوف في الإسلام يراه بعضهم في المسيحية ويراه آخرون فى الديانة الفارسية وقوم يرونه أثرا من آثار العقائد الهندية وآخرون يرون أصوله في الأفلاطونية الحديثة
ثم يتجادلون ويصطنعون مظهر الجد في جلهم ويتسرب الجدل حول هذه المنابع والأصول من الغرب إلى الشرق فيتجادل الشرقيون أيضًا حول أصول التصوف ومنابعه ومصادره الأجنبية عن الإسلام
وفى حميا الجدل وفى فورة المناقشة تتناسى الحقائق الثابتة وهي أن الزهد كان منذ ظهور الإسلام وأن التصوف نشأ مع الإسلام وأن التشريع وجد مع ا القرآن وأن كل هذه المسائل كانت في القرآن وكان الرسول ل مثلا حيا لتطبيقها وكذلك كان شأن الكثير من أصحابه
٧ - انهيار نظرية التفرقة بين ساميين وآريين
إِنَّ البَاطِل كَانَ زَهُوقًا ثم تنهار النظرية المزيفة التي كانت الأساس لكل هذا الباطل وهى نظرية التفرقة فى الخصائص والمواهب والصفات بين جنس سامی و جنس آری وكان انهيارها على أيدى الغربيين أنفسهم ومن الحق أن نقول إن انهيارها لم يكن على أيدى المستشرقين ومن لف لفهم من رجال الاستعمار وأذنابه وإنما كان على أيدى رجال أخلصوا ضمائرهم للعلم وحده وذكر هؤلاء الغربيون الأسباب في نشأة النظرية الزائفة وترجع هذه الأسباب في نظرهم إلى
العواطف والتعصب والهوى
ونحن نضيف إلى ذلك أن الاستعمار والعداوة ضد الإسلام كانا سبباً في رواجها
وانتشارها
وإذا انهارت النظرية من أساسها فقد انهار ما بنى عليها من زيف ومن باطل
۱۹۱
كتبت المجلة العلمية الأمريكية مقالا بعنوان آریون وساميون و ترجمته مجلة المقتطف ونشرته في يونيه سنة ١٩٤٤ يقول الكاتب
ه وليس في الدعوى القائمة على تفوق السلالة النوردية شيء جديد بل هي ناحية جديدة من مذهب سرى فى خلال القرن التاسع عشر
مؤداه
إن بعض طوائف من الناس لها حق منزل فى أن تسود الطوائف الأخرى ومن قبل ذلك أحس المؤلف الإنجليزى دانيال ده فوا مؤلف رواية روبنسن كروزو بأنه مطالب من قبل نفسه بل ومن قبل الحق والعدل أن يَهُب إلى السخرية من مثل هذا الرأى الذى يرمى إلى تبوؤ سلالة معينة المكانة العليا في تاريخ الإنسانية كأن هذه المكانة خاصة بها من طريق الوضع الإلهى ولكن العواطف الإنسانية قوية لتأصلها فى الطبيعة البشرية فتطغى على صوت العقل ونوازع المنطق
التاريخ
فتبدو نظرية التفوق العنصرى أو تفوق سلالة خاصة مرة بعد أخرى في خلال عصور أن العقل والعلم لا يؤيدان الأركان الواهية التي تقوم عليها مع ونحن الآن نشهد انبثاق هذه الفكرة أو هذه النزعة من جديد بعد ما كنا قد ظننا أنه قد قضى عليها في أواخر القرن التاسع عشر
ونظرية التفوق النوردى هي فرع من نظرية التفوق الآرى أي تفوق الشعوب الآرية التي كان زعيمها ذلك الأرستقراطي الفرنسي الكونت جوزيف أرثر د هـ جوبينو المتوفى سنة ١٨٨٢ م
ف جوبينو هذا ذهب إلى أن الشعوب الآرية وحدها دون غيرها هي التي خلقت كل ما له قيمة في الحضارة وحافظت عليه
وفكرة وجود سلالة آرية إنما نشأت عن تشابه اللغة الهندية الأوربية مما حدا إلى القول بأنها جميعها ترتد إلى أصل واحد هو اللغة الآرية والقول بتفرع اللغات الهندية الأوربية من اللغة الآرية قول له سند صحيح أما ما ذهب إليه جوبينو من أن وجود لغة آرية أصلية تفرعت منها اللغات الهندية الأوربية
۱۹
يقتضى كذلك وجود سلالة آرية فقد كان وهما من الأوهام فلما خلقت هذه السلالة الوهمية على الطريق المتقدم أسندت إليها جميع الفضائل
وقيل إنها منبع جميع الحضارات العالمية من قديم الزمان إلى حديثه وقيل إن النورديين هم سلالة الآريين الذين توطنوا شمال أوربا في القديم ومنهم الشعوب التيوتونية والأنجلوسكسونية ومع ذلك لم يستطع أحد من العلماء أن يأتي بسند علمى واحد على أن السلالة الآرية كانت موجودة حقيقة إذ ليس ثمت علاقة حتمية بين اللغة والسلالة
فالآرية لغة واستعمالها للدلالة على سلالة معينة كما يستعملها الألمان اليوم ليس له مسوغ
علمي واحد
أما الشعوب النوردية فلا يعلم أصلهم على وجه التحقيق بل ليس من المؤكد أنهم ينتمون إلى سلالة صريحة النسب اهـ ه وقد كتب الأستاذ جرج بواسون كتاباً بعنوان الآريون عرَّب المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق عرضًا لهذا الكتاب عن مجلة الشهر الفرنسية نقتطف منه ما يلي ونجد في الكتاب أن كل الأمم التى هى من الأسرة الآرية صيغت من خليط من عناصر الأجناس الأولى وما يكون لأمة أن تعتز بأن لها من النقاء حظا أكبر من حظ غيرها على أن هذا النقاء ليس مما يستطاع تحديده
ثم إن المدنية الآرية هى أثر مشترك لجميع العناصر الجنسية التي شملتها هذه المدنية إذ إن
كل عنصر ساهم فيها بشمائله ومعارفه على نسب متعادلة
- الرأى الصحيح هو رأى فلاسفة الإسلام أنفسهم ليس معنى ما تقدم أننا نريد نفى كل أثر للفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية ذلك
ما لا يقول به منصف
ورأينا في الموضوع هو رأى الباحثين الذين لا يحملهم باعث – أيا كان – على قول أو رأى
يجافي الحقيقة
٥ المقتطف يونيه ١٩٣٤
۱۹۳
والواقع أن فلاسفة الإسلام أنفسهم ذكروا القول الفصل في الموضوع الذي نحن بصدده ذكروه في أسلوب جميل مهذب رقيق يليق حقيقة بالمستوى النابه الذي وصلوا إليه ونحن نذكر في هذا الصدد رأى الكندي ورأى ابن سينا ثم نستخلص منهما الفكرة المستقيمة عن هذا الموضوع
يقول الكندي
ومن أوجب الحق ألا نذم من كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزلية فكيف بالذين هم أكبر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدية ! فإنهم وإن قصروا عن بعض الحق فقد كانوا أنسابا وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سبلا وآلات مؤدية إلى علم كثير
مما قصروا عن نيل حقيقته ولا سيما إذ هو بين عندنا وعند المبرزين من المتفلسفين قبلنا من غير أهل لساننا أنه لم ينل الحق - بما يستأهل الحق - أحد من الناس يجهد طلبه ولا أحاط به جميعهم بل كل واحد منهم إما لم ينل منه شيئًا وإما نال منه شيئًا يسيرًا بالإضافة إلا ما يستأهل الحق فإذا جمع يسير ما نال كل واحد من النائلين الحق منهم اجتمع من ذلك شيء
له قدر جليل
فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين تيسير الحق فضلا عمن أتى بكثير من الحق إذ أشركونا في ثمار فكرهم وسهلوا لنا المطالب الحقية الخفية بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سبل الحق فإنهم لو لم يكونوا لم يجتمع لنا مع شدة البحث في مددنا كلها - هذه الأوائل الحقية التي بها تخرجنا إلى الأواخر من مطلوباتنا الخفية فإن ذلك إنما اجتمع في الأعصار السابقة المتقادمة عصرًا بعد عصر إلى زماننا هذا شدة البحث ولزوم الدأب وإيثار التعب في ذلك وغير ممكن أن يجتمع
في زمن المرء الواحد وإن اتسعت مدته واشتد بحثه ولطف نظره وآثر الدأب ما اجتمع بمثل ذلك من شدة البحث والطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك من الزمان الأضعاف الكثيرة
ويقول فحسن بنا - إذ كنا حراصًا على تتميم نوعنا إذ الحق في ذلك - أن تلزم في كتابنا هذا عاداتنا فى جميع موضوعاتنا من إحضار ما قال القدماء في ذلك قولا تاما على أقصد سبله وأسهلها سلوكا عن أبناء هذه السبيل وتتميم ما لم يقولوا فيه قولا تاما على مجرى
عادة اللسان وسنة الزمان وبقدر طاقاتنا
١٩٤
ويقول ابن سينا
وبعد فقد نزعت الهمة بنا أن نجمع كلاماً فيما اختلف أهل البحث فيه لا نلتفت فيه لفت عصبية أو هوى أو عادة أو إلف ولا نبالى مفارقة تظهر منا لما ألفه متعلمو كتب اليونانيين إلفا عن غفلة وقلة فهم ولما سمع منا في كتب ألفناها للعاميين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أن الله لم يهد إلا إياهم مع اعتراف منا بفضل أفضل سلفهم يريد به أرسطو في تنبيهه لما نام ذووه وأستاذوه وفى تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض وفي ترتيبه العلوم خيرا مما رتبوه وفى إدراكه الحق فى كثير من الأشياء وفى تفطنه الأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم وفى إطلاعه الناس على ما بينها فيه السلف وأهل بلاده وهذا أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول من مد يديه إلى تمييز مخلوط وتهذيب مفسد ويحق على من بعده أن يلموا شعثه ويرموا ثلما يجدونه فيما بناه ويفرعوا أصولا أعطاها فما قدر من بعده أن يفرغ نفسه من عهدة ما ورثه منه فذهب عمره في تفهم ما أحسن فيه والتعصب لبعض ما فرط من تقصيره فهو مشغول عمره بما سلف ليس له مهلة يراجع فيها عقله ولو وجدها ما استحل أن
يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى مزيد عليه أو إصلاح له أو تنقيح إياه وأما نحن فسهل علينا التفهم لما قالوه أول ما اشتغلنا به ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم وكان الزمان الذى استعنا فيه بذلك ريعان الحداثة ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطن لما أورثوه ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يسميه اليونانيون المنطق - ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره حرفا حرفا فوفقنا على ما تقابل وعلى ما عصى وطلبنا لكل شيء وجهة فحق ما حق وزاف ما زاف ولما كان المشتغلون بالعلم شديدى الاعتزاز إلى المشائين من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم وأغضينا عما تخيطوا فيه وجعلنا له وجها ومخرجا ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظله واقفون فإن جاهرنا بمخالفتهم فعن الشيء الذي لم يمكن الصبر عليه وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل مما سبق نرى أن الكندي يشكر الفلاسفة الذين سبقوه ويعترف بأنهم قصروا عن بعض الحق ويعتذر عنهم في تقصيرهم هذا ذلك أنه لا يتأتى لشخص أن يحيط بأطراف الحق وإنما كل ما يمكن أن ينال الشخص في
منه
١٩٥
حياته بجده وجهده شيء يسير من الحق بل بعض الناس برغم جده وجهده لم ينل منه
شيئا
وطريقته التي يصرح بها إنما هي دراسة أقوال السابقين دراسة تأمل وروية فينفى منها الباطل ويقر الحق ويتمم ما قصروا عنه ويضع لبنة في الصرح الذي تحاول الإنسانية منذ نشأت بناءه وتشييده و ه ابن سینا و استعرض كلام السابقين حرفا حرفا حتى تبين الحق فيه والزائف ثم أكمل ما أراده السابقون ولم يصلوا إليه فقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم هناك إذن آراء السابقين وفيها حق وباطل وفيها قصور ونقص وهذه الآراء غربلها فلاسفة الإسلام واستبقوا حقها ونفضوا أيديهم من باطلها ثم أكملوا ما يحتاج إلى التكملة
منه
وزادوا ما يحتاج إلى الزيادة وجددوا وابتكروا فكانت الفلسفة الإسلامية ولقد كتبنا من قبل في هذا الموضوع نفسه ونورد منه فقرة زيادة في الإيضاح و أما الرأى الذى نراه وهو الرأى الذى يقره كل منصف ولا يجد مناصا من اعتناقه فهو الرأي الذي تحدث به الكندي فيلسوف العرب وتحدث به و ابن سينا وغيره أيضًا يرى هؤلاء أن الحق لا يمكن أن يحيط به فرد من الأفراد بالبحث والدراسة مها طال عمره بل ولا يمكن أن يحيط به جيل من الأجيال مها جد فى البحث والتحصيل وعشاق الحقيقة يتابعون البحث منذ أن وجدت الإنسانية فيصلون بالتوالى إلى بعض ما يجاهدون في الوصول إليه
والحق إذن يتكشف شيئًا فشيئًا وهو أعز منالا من أن يسفر القناع لكل طارق مهما بلغ
من العبقرية
لقد كشف القناع عن جزء من الحق في الأزمنة القديمة ويجب أن نشكر الذين جاهدوا في سبيل ذلك على حد تعبير الكندي ولكن لا يزال محيط المساتير ضخماً شاسعاً بل إنه كلما تكشف جزء منه تبين عظم ما وراءه
من مساتير
والموقف الصواب ألا يبنى الباحث المتأخر صرح الحق من جديد لبنة لبنة وإنما ينظر فيما ترك الأوائل من آراء
فإذا ما اتخذ هذا الموقف وجد فيها ما هو متهافت قد انحرف عن الطريق وضل
١٩٦
ووجد فيها ما أصله ثابت قد شيد على متينة فأصاب الحق
ووجد من جهة ثالثة نقصا ومجهولا
فهو إذن كباحث وراء الحق يأخذ الحق الصراح
ويهدم الزيف والباطل
ويبنى ما لم يتم بناؤه
ويجاهد في الكشف عما لا يزال مجهولا
هذا فيما يرى الكندى وابن سينا وغيرهما موقف الإسلاميين من الفلسفات القديمة نظروا فيها فانتقدوا منها الباطل واعتنقوا الحق وساهموا في تكملة صرح الحق على قدر طاقتهم
ويقول الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريده بحق و فيها بدا من شبه بين آراء مفكرى الإسلام وآراء غيرهم ممن سبقهم أو عاصرهم فإن آراء الإسلاميين لها طابعها الخاص ولها مكانتها فى نظام واسع بحيث لا يصلح النظر إليها منعزلة بل من حيث صورتها الخاصة وعلاقتها بغيرها ووظيفتها فى جملة البناء الفكري عند
أصحابها
ويجب على الباحث أن يراعى ذلك لأنه ليس في تاريخ الفكر الصحيح تقليد فلا يوجد فى التاريخ فيلسوف أرسطو طالیسی خالص ولا فیلسوف أفلاطونى خالص والفكرة الفلسفية عندما تنتقل إلى بيئة ثقافية أخرى وتدخل فى نظام فكري جديد تتغير من وجوه شتى وهى فى هذه الحال ليست ملكا لأهلها الأولين بل ملكا لأصحابها الجدد الذين اتخذوا منها نقطة بداية لنزعات جديدة تناسب روحهم وجملة تفكيرهم الفلسفي 1
اهـ
ليس في تاريخ الفكر الصحيح تقليد تلك كلمة حق ومن هنا كان جميلا أن يعترف الأستاذ دوجا بالوضع الصحيح وأن يعبر عنه في صورة أسئلة
1 رسائل الكندي
۱۹۷
يقول الأستاذ دوجا
هل يظن ظان أن عقلا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئًا طريفا وأنه لم يكن إلا مقلدا لليونان
وهل مذاهب المعتزلة والأشعرية ليست ثماراً بديعة أنتجها الجنس العربي ۷
۹ - نحو الإنصاف
على أن الله تعالى قد وفق رجالا منصفين من الغرب لرد هجمات التعصب والهوى الصادرة
من بنى وطنهم ونكرر القول بأنهم ليسوا من المستشرقين ولا من أذناب الاستعمار ومن
ذلك
أمثلة
الأستاذ كاردانوس وهو فيلسوف ورياضى إيطالى يقول عن الكندى إنه واحد من بين الاثنى عشر الممتازين في العالم
ويقول الأستاذ فلنت Flint عن ابن خلدون
"
إن أفلاطون وأرسطو وأوجستين ليسوا نظراء لابن خلدون وكل من عداهم غير جدير حتى بأن يذكر إلى جانبه ۸ أما فيما يتعلق بالثقافة الإسلامية ككل وأنها كانت إلهاما ومصدرا وعاملا أساسياً للحضارة الغربية فإنا نستسمح القراء فى أن ننقل ما يلى عن كتاب تجديد التفكير الديني في الإسلام للدكتور محمد إقبال ترجمة الأستاذ عباس محمود
يقول الدكتور محمد إقبال
لقد كانت أوربا بطيئة نوعاً ما فى إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي
وأخيرا جاء الاعتراف بهذه الحقيقة
وسأتلو عليكم فقرة أو فقرتين من كتاب بناء الإنسانية
*Making of Humanity<<
الذي ألفه بريفولت Briffault
۷ الشيخ مصطفى عبد الرازق التمهيدى ص ۱۳ ۸ محمد إقبال تجديد التفكير الديني ترجمة عباس محمود
۱۹۸
يقول بريفولت
إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية فى مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميها العرب في الأندلس وليس الروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل فى ابتكار المنهج التجريبي فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة
العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبى هى طرف من التحريف الهائل لأصول
الحضارة الأوربية
وقد كان المنهج العربى التجريبى فى عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا وانكب الناس في لهف على تحصيله في أوربا ربوع لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث ولكن ثماره كانت بطيئة
النضج
وإن العبقرية التى ولدتها ثقافة العرب فى إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد مضى وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت بباكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية 1
ويقول
فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحى الازدهار الأوربى إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون فى نشأة تلك الطاقة التى تكون ما للعالم الحديث من قوة متمايزة
ثابتة وفى المصدر القوى لازدهاره أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة فحسب بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا إنه يدين لها بوجوده نفسه فالعالم القديم كما رأيناه لم يكن للعلم فيه وجود وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم
۹ محمد إقبال تجديد التفكير الديني ترجمة عباس محمود
۱۹۹
كانت علوما أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجاً كليا بالثقافة اليونانية وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث في دأب وأناة وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم والملاحظة الدقيقة المستمرة والبحث التجريبي كل ذلك كان غريباً تماماً عن المزاج اليوناني ولم يقارب البحث العلمى نشأته فى العالم القديم إلا فى الإسكندرية في عهدها الهليني أما ما ندعوه العلم فقد ظهر في أوربا نتيجة لروح من البحث جديدة ولطرق من الاستقصاء مستحدثة لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس ولتطور الرياضة إلى صورة لم يعرفها اليونان وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربى ١٠
اهـ
أما بعد فإن أملنا الوحيد وهدفنا من كل ما تقدم إنما هو الإنصاف ولعل أبناء الشرق في تقدمهم السريع في سلّم الحضارة يدركون مكانتهم الممتازة فيعملون على إظهارها ويتابعون العمل للوصول إلى المساهمة الفعالة فى السير بالإنسانية نحو التقدم والرقى
وبالله التوفيق
۱۰ محمد إقبال تجديد التفكير الديني نقلا عن الأستاذ بريفولت في كتابه وبناء الإنسانية
الفضل العاشر
مرحلة الترجمة الأولى في الإسلام
۱ - هدفنا من كتابة هذا الفصل ليس من هدفنا - فى هذا الفصل - أن نستفيض فى الكتابة عن الترجمة ذلك أن الذين يستفيضون فيها إما أن يكون هدفهم
١ - البيان الكامل التام لهذه المرحلة فيبحثون فى نشأتها وبواعثها وتطوراتها والكتب التي ترجمت كتابا كتاباً ويتحدثون عن المترجمين وما ترجمه كل منهم وغاياتهم من ذلك مجرد التأريخ لهذه الظاهرة كما فعل ذلك صاحب كتاب الفهرست مثلا - وإما أن يكون هدفهم من الاستفاضة الحكم على الفلسفة الإسلامية بأنها تقليد
للفلسفة اليونانية أو اقتباس منها وأن نشأتها وظهورها مدينان لما ترجم من آثار وما دمنا لا نهدف إلى هذا ولا إلى ذاك فإننا سنقتصر على إعطاء صورة مجملة موجزة ولكنها كافية عن هذه المرحلة التي يراها بعض الناس عاملا أساسيا في تكوين الفلسفة الإسلامية ونراها نحن عاملا ثانوياً مساعداً
٢ - بدء الترجمة
كان و خالد بن يزيد أول من فكر فى أمر الترجمة إلى اللغة العربية يقول الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبًا شاعرًا وفصيحاً جامعاً وجيد الرأي كثير الأدب وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء ويزيدنا و ابن النديم فى كتابه الفهرست بعض الإيضاح عن جنسية المترجمين الذين قاموا بما أمر خالد فيقول
۰۱
كان خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة ٨٥ - ٧٠٤ يسمى حكيم آل مروان وكان فاضلا فى نفسه وله همة ومحبة للعلوم خطر بباله الصنعة ۱ فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطى إلى العربي وهذا أول نقل كان في الإسلام وفى موضع آخر يزيدنا ابن النديم إيضاحاً عن السبب الذي جعل خالدا يعنى بترجمة كتب الكيمياء على الخصوص فيقول
قال محمد بن إسحاق الذي عنى بإخراج كتب القدماء فى الصنعة و خالد بن يزيد ابن معاوية وكان خطيبا شاعرًا فصيحاً حازما ذا رأى وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء
وكان جواداً يقال إنه قيل له لقد جعلت أكثر شغلك في طلب الصنعة فقال خالد ما أطلب بذلك إلا أن أغنى أصحابي وإخواني إلى طمعت في الخلافة فاختزلت دونى فلم أجد منها عوضًا إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة ف فلا أحوج أحدا عرفني يوماً أو عرفته إلى أن يقف بباب السلطان رغبة أو رهبة ٢
٣ - الترجمة في عهد الدولة العباسية
أما الترجمة فى عهد الدولة العباسية فإن ابن أبي أصيبعة يعطينا صورة مجملة عامة عنها مبندنا بالحديث عن الأسباب التى صرفت الدولة الإسلامية عن الترجمة من قبل قال ابن أبي أصيبعة وكانت العرب في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها ولما كان عندهم من الأثر عن النبي في الحث عليها حيث يقول ه يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا واحدًا وهو
الهرم
فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك
١ كلمة الصنعة معناها الكيمياء القديمة أي تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة
٢ كتاب الفهرست ص ٣٥٤
إليهم ثابت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من سذاجتها فكان أول من عنى منهم بالعلوم
الخليفة الثانى أبو جعفر المنصور فكان رحمه الله مع براعته في الفقه مقدما في علم
الفلسفة وخاصة في
علم
صناعة النجوم
كلفاً وبأهلها
"
وأقليدس
ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون بن الرشيد بن محمد المهدى بن أبي جعفر المنصور تم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بفضل همته الشريفة وقوة نفسه الفاضلة فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب و أفلاطون وأرسططاليس وأبقراط وجالينوس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم بإحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغيهم فى تعلمها فنفقت سوق العلم فى زمانه وقامت دولة الحكمة في عصره وتنافس أولو النباهة فى العلوم لما كانوا يرون من إحظائه لمنتحليها واختصاصه لمتقلديها فكان يخلو بهم ويأنس بمناظرتهم ويتلذذ بمذاكرتهم فينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء والمحدثين والمتكلمين وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنسب فأتقن جماعة من ذوى الفنون والتعلم في أيامه كثيرًا من أجزاء الفلسفة وسنوا لمن بعدهم مناهج الطلب ومهدوا أصول الأدب حتى كادت الدولة العباسية تضاهى الدولة الرومية أيام اكتمالها وزمان اجتماع شملها وقال في موضع آخر إن أول علم اعتنى به عن علوم الفلسفة علم المنطق والنجوم فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارس كاتب أبي جعفر المنصور فإنه ترجم كتب أرسططاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق وهى كتاب و قاطاغوریاس ۳ وكتاب بارى أرميناسي 4 وكتاب أتولوطيقا ٥ وترجم مع ذلك المدخل المعروف بـه إيساغوجي لـ فرفوريوس الصورى وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ وترجم مع ذلك الكتاب الهندى
۳ کتاب قاط غيور باس أى المقولات
٤ أي كتاب القياس
٥ هو كتاب أنا لوطيقا وهو أنا لوطيقا الأولى يعنى القياس وأنا لوطيق الثانية يعنى البرهان
۰۳
المعروف بـ كليلة ودمنة وهو أول ما ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية فأول من عنى به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري وذلك أن
وأما
علم
النجوم
الحسن بن محمد بن حميد المعروف بـ ابن الآدمى ذكر فى زيجه الكبير المعروف بـ نظم العقدة أنه قدم على الخليفة المنصور فى سنة ١٥٦ رجل من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هند فى حركات النجوم فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية ا هـ في عهد المأمون اتسعت الترجمة وانتشرت بل لقد تنافس كثير من الوجهاء في تبنى الترجمة والتوسعة على المترجمين وقد شجع المأمون كل ذلك وساهم بالنصيب الأوفر في تشجيع الترجمة على العموم وفعل المأمون ما لم يفعله السابقون ونعنى أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات وبالأخلاق وبالنفس
أما الأسباب الداعية لموقف المأمون هذا فيختلف فيها المؤرخون ولعلها - مجتمعة - كانت داعية للمأمون إلى الترجمة
من هذه الأسباب الداعية ما حكاه و ابن النديم
أن المأمون رأى في منامه رجلا أبيض اللون مشربا بحمرة واسع الجبهة حسن من
الشمائل جالسا على سرير قال المأمون
وكأني بين يديه قد ملئت هيبة
فقلت من
أنت
فقال أنا و أرسطو
فسررت به وقلت أيها الحكيم أسألك
قال سل
قلت ما الحسن
قال ما حسن في العقل
قلت ثم ماذا
قال ما حسن في الشرع
قلت ثم ماذا
قال ما حسن عند الجمهور
٢٠٤
قلت ثم ماذا
قال ثم لا ثم
قلت زدني
قال عليك بالتوحيد
هذا السبب يراه و سانتلانا أشبه بالأساطير منه بالحقائق
ويرى آخرون أنه تعبير عما يشعر به المأمون من تقدير لأرسطو
وقد يكون السبب الذي دفع المأمون إلى الترجمة هو استعداده الخاص الذى ينسجم كـ الانسجام مع الاتجاه الاعتزالى
وقد يكون السبب هو نشأة المأمون وثقافته
كل
ولقد دخل و المأمون - في عنف - في الخصومة الخاصة بخلق القرآن وأصبحت المسألة بالنسبة له على أعظم جانب من الأهمية ومن الجائز أنه رأى أن مما يساعده في نصرة رأيه ترجمة الكتب اليونانية الخاصة بالإلهيات وبالأخلاق
- الخطأ في الترجمة
قال أبو حيان التوحيدى المتوفى سنة ٤١٠ هـ في كتابه المقايسات على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالا لا يخفى على أحد
ولو كانت معانى يونان تهجس فى نفس العرب مع بيانها الرائع وتصرفها الواسع وافتنانها المعجز وسعتها المشهورة لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب وكاملة بلا نقص ولو كنا نفقه من الأوائل أغراضهم بلغتهم لكان ذلك أيضًا ناقعاً للغليل وناهجًا للسبيل ومبلغا إلى الحد المطلوب
ويسجل الغزالى هذا التحريف فيقول فى كتابه تهافت الفلاسفة ه ثم المترجمون لكلام أرسطو لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل حتى أثار ذلك أيضًا نزاعاً بينهم
ثم إنه من المعروف أن الترجمة تحتاج إلى ثلاثة أمور
1 - إتقان اللغة المترجم منها
٢٠٥
- إتقان اللغة المترجم إليها
- المعرفة بالمادة المترجمة
وكثير من المترجمين لم تكن تتوافر فيهم هذه الشروط بأكملها
ولذلك كان يأمر الخلفاء بإصلاح بعض التراجم أو بإعادة ترجمتها من جديد كما فعل - فيما يروى - الكندى فى كتاب الربوبية المعزو لأرسطو فقد أصلح ترجمته أن الخطأ الذي كان يقع فيه التراجمة لم يكن في المعنى فحسب وإنما كان كذلك في
على
نسبة بعض الكتب إلى غير مؤلفيها
والخطأ من هذا النوع وقع فيه السريان قبل العرب ولعل وقوع السريان في هذا الخطأ هو الذي أثر على العرب في تلك الناحية
هذا الخطأ كان له أحيانًا بعض الآثار الخطيرة فمثلا كتاب الربوبية قد عزى لأرسطو فلما اطلع الفارابي على هذا الكتاب واعتقد أنه لأرسطو قام بتحرير نظريته المشهورة في التوفيق بين آراء أفلاطون وأرسطو معتمداً على الخصوص على هذا الكتاب وقع الفارابي في الخطأ وانهارت نظريته فى التوفيق بمجرد أن عرف أن هذا الكتاب ليس لأرسطو وإنما هو فصول أخذت أو لخصت من تساعيات و أفلوطين وهو بعيد عن روح أرسطو
الفصل الحادي عشر
الكندى
١٨٥ هـ – ٢٥٢ هـ
و فنحن نسأل المطلع على سرائرنا والعالم باجتهادنا في تثبيت الحجة على ربوبيته وإيضاح وحدانيته وذب المعاندين له الكافرين عن ذلك بالحجج القامعة لكفرهم والهاتكة لسجوف فضائحهم المخبرة عن عورات نحلهم المردية أن يحوطنا ومن سلك سبيلنا بحصن عزه
الذي لا يرام وأن يلبسنا سرابيل جنته الواقية ويهب لنا نصرة غروب أسلحته النافذة والتأييد بعز قوته الغالبة حتى يبلغنا بذلك نهاية نيتنا من نصرة الحق وتأييد الصدق ويبلغنا بذلك درجة من ارتضى نيته وقبل فعله ووهب له الفلج والظفر على أضداده الكافرين نعمته والحائدين عن سبيل الحق المرتضاة عنده
الكندي
۱ - تقدير الكندى ١
و فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها
وكانت دولة المعتصم تتجمل به وبمصنفاته وهي كثيرة جدا
القفطي
ابن نباتة المصرى
۱ نحن في هذا الفصل مدينون - في كثير - إلى الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه فيلسوف العرب والمعلم الثاني وإلى الأستاذ الفاضل الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريده في كتابه رسائل الكندي والدكتور النابه الأستاذ أحمد فؤاد الإهواني في نشره لرسالة الفلسفة الأولى جزاهم الله خيرًا عن العلم وأهله
٢٠٦
٢٠٧
نفسه
كان عظيم المنزلة عند المأمون و المعتصم وعند ابنه أحمد
طبقات الأطباء
كان الكندى رجلا منصرفاً إلى جد الحياة عاكفاً على الحكمة ينظر فيها التماساً لكمال
ويقوم بأول محاولة لتوظئتها أو مدافعة ما يعوق قومه عن الإقبال عليها من العصبية
الجنسية والعصبية الدينية
مصطفى عبد الرازق
كان الكندي هادئا في حياته آخذا بأسباب الاقتصاد والنظام وسياسة النفس
ومجاهدة شهواتها
وقد كان الرجل في خلقه وعقله من أعظم ما عرف البشر
يقول ده بوير فى دائرة المعارف الإسلامية عند ترجمته للكندى
Curdan
L
فلاسفة النبضة وهو فيلسوف من أنقذ الناس
و إن كوردان Le Renaissance رينيسانس يعد الكندي واحدا من اثنى عشر هم أئمة العلوم الفلكية وأنه كان فى القرون الوسطى يعتبر واحدا من ثمانية هم مصطفى عبد الرازق
عقلا
- نسبه
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن
الأشعث بن قيس وقد وقف الأشعث بن قيس يتحدث عن مآثر قومه وفعالهم في الجاهلية أمام كسرى
فقال
لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر وقديم زحفها الأكبر وأنا غياث اللزبات فقالوا لم يا أخا كندة قال لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه وتقلدنا منكبه الأعظم وتوسطنا بحبوحه
الأكرم
و الأشعث بن قيس أول من أسلم من أجداد الكندي
٢٠٨
يقول صاحب تاريخ بغداد عنه
قدم على رسول الله ل في وفد كنده
ويعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة
وله عن النبي
L
رواية
وقد شهد مع سعد بن أبي وقاص قتال الفرس بالعراق
وكان على راية كندة يوم صفين مع على بن أبي طالب
وحضر قتال الخوارج بالنهروان
وورد المدائن ثم عاد إلى الكوفة فأقام بها حتى مات فى الوقت الذي صالح فيه الحسن ابن على معاوية بن أبي سفيان وصلى عليه و الحسن
مات في آخر سنة أربعين بعد قتل على بأربعين ليلة - فيما أخبر ولده – وتوفى وهو ابن ثلاث وستين ا هـ وقد كان من الطبيعي - وأمر الأشعث بن قيس كما ذكر - أن ينال أبناؤه وأحفاده من نباهة الذكر ورفعة المكانة ما هم به جديرون بيدان حادثتين نفرتا ملوك بني أمية منهم فخفت ذكرهم طيلة عهد الدولة الأموية أما الحادثة الأولى فهى استعمال و ابن الزبير لمحمد بن الأشعث على الموصل وقد كان بين ابن الزبير و معاوية عداوة مستحكمة وحروب مشتعلة
أما الحادثة الثانية فهى حادثة خروج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على عبد الملك بن مروان فقد ثار - كما يقول الدكتور طه حسين - بالحجاج وخلع عبد الملك وعرض ملك آل مروان للزوال ولكن بمجرد انتهاء الدولة الأموية واستيلاء الدولة العباسية على الحكم بدأ يأخذ بيت الكندى مكانته التي تليق به فلما كان عهد الخليفة المهدى تولى والد الكندى ولاية الكوفة واشتهر بالكرم فأخذ يقصده ذوو الحاجة ويقصده الشعراء يمتدحونه لما ينالون من بره وخيره
ومن شعر نصيب فيه
أغر لأبناء
السبيل
موارد
إلى
بیته تهديهم
وطريق
وإن عد أنساب الملوك وجدته
إلى
نسب
يعلوهم
ويفوق
أما شخصيته فكانت من المهابة بحيث
وكان يزاحم بمنكبه أبناء عمومة الخليفة وكانت ولاية الكوفة دولة بينه وبينهم بل كان ابن عم الخليفة يلجأ إلى اسحاق بن الصباح ليلين من شكيمة القاضي شريك
ابن عبد الله ۳
٣- نشأته وثقافته
B
وولد الكندى في أواخر حياة أبيه وتوفى والده وهو لم يبلغ سن الشباب بعد و فنشأ في الكوفة في أعقاب تراث من السؤدد ومن الغنى وفى حضن اليتم وظل الجاه الزائل ٤
وكانت بغداد إذ ذاك فى عز ازدهارها ثقافة وحضارة وثراء لذلك كانت تتطلع إليها أنظار من يطمحون إلى نباهة الذكر بالعلم أو بالثراء أو بالجاه والحظوة لدى الخلفاء وكان من الطبيعي أن ينتقل الكندى من الكوفة إلى بغداد
فأخذ
وفى بغداد اشتغل - كما يقول ابن نباتة -
- بعلم الأدب ثم بعلوم الا الفلسفة جميعها فأتقنها
ولم تكن نفسه الطلعة لتكتفى بميدان واحد من ميادين العلم أو تقتصر على لغة واحدة
يتعلم من اللغات ما يشبع طموحه العلمي
وقد حدثنا المؤرخون له بأنه كان من أبرع التراجمة
ويحدثنا صاحب و أخبار الحكماء بأن
مما اشتهر من كتب بطليموس وخرج إلى العربية كتاب و الجغرافيا في المعمور من الأرض وهذا الكتاب نقله الكندى إلى العربية نقلا جيدا ويوجد سريانيا ولكن بعض الناس يتشكك فى معرفة الكندى للغات أخرى غير العربية
فيلسوف العرب لمصطفى عبد الرازق ۳ فيلسوف العرب والمعلم الثانى ص ١٥ ٤ المصدر السابق ص ١٨
۱۰
غير أن هناك نصا نقله صاحب كتاب الفهرست عن الكندى ربما كان حاسماً لهذا
النزاع
قال الكندي
لا أعلم كتابة تحتمل من تحليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية ويمكن فيها من
السرعة ما لا يمكن فى غيرها من الكتابات
هذا النص لا يقوله إلا من يعرف عدة لغات
درس الكندى الفلسفة اليونانية والفلسفة الفارسية والفلسفة الهندية ودرس
الهندسة والطب والجغرافيا والموسيقا
ولم يكد يترك مجالا من المجالات العلمية إلا وقد ألف فيه حتى لقد قدر ابن النديم أن تصانيفه تبلغ حوالى مائتين وثمانية وثلاثين كتاباً ورسالة
ويقسم ابن النديم هذه الكتب إلى أنواع بحسب موضوعاتها فيقول
- كتبه الفلسفية
٢ - كتبه المنطقية
- كتبه الحسابيات
٤ - كتبه الكريات - كتبه الهندسيات
ه - كتبه الموسيقيات
- كتبه النجوميات
- كتبه الفلكيات
- كتبه الطبيات
۱ – كتبه النفسيات
١ - كتبه الأحكاميات ۱۱ - كتبه الجدليات
۱۳ - كتبه السياسيات 14 - كتبه الأحداثيات ١٥ - كتبه الأبعاديات ١٦ - كتبه التقدميات ١٧ - كتبه الأنواعيات
ويقول أيضًا
ه وقد يقع في تعديل كتب الكندى خلاف بين المؤرخين بالزيادة والنقص ولكنهم متفقون على أن له فى أكثر العلوم مؤلفات من المصنفات الطوال والرسائل القصار والطريف في حياة الكندى أنه كان يجرى الكثير من التجارب حتى تقوم معرفته - في الميدان التجريبي - على أساس سليم وأنه كان يعرف الموسيقا نظرياً وعملياً ويمزج الموسيقا بالطب في أمر العلاج ويحكى عنه في هذا الميدان حكاية طريفة وسواء أصحت أم لم تصح فإنها تدل على أساس من معرفة الكندى بالموسيقا وبالطب ومن مزج بينهما
۱۱
روی صاحب كتاب أخبار الحكماء
وقد ذكروا من عجيب ما يحكى عن يعقوب بن إسحاق الكندي هذا أنه كان في جواره رجل من كبار التجار موسع عليه في تجارته وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه وشرائه وضبط دخله وخرجه وكان ذلك التاجر كثير الإزراء على الكندي والطعن عليه مدمنا لتعكيره والإغراء به فعرض لابنه سكتة فجأة فورد عليه من ذلك ما أذهله وبقى لا يدرى ما الذى له فى أيدى الناس وما لهم عليه مع ما دخله من الجزع عن ابنه فلم يدع بمدينة السلام طبيبا إلا ركب إليه واستركبه لينظر ابنه ويشير عليه من أمره بعلاج فلم يجبه كثير من الأطباء - لكبر العلة وخطرها - إلى الحضور معه ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه وأعلم الناس بعلاج هذه العلة فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب
فدعته الضرورة إلى أن يحمل على الكندى بأحد إخوانه فثقل عليه في الحضور فأجاب وصار إلى منزل التاجر فلما رأى ابنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه مع تلامذته في علم الموسيقا ومن قد أتقن الحذق بضرب العود وعرف الطرائق المحزنة والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس فحضر منهم أربعة نفر فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الدساتين ونقلها فلم يزالوا يضربون فى تلك الطريقة و الكندى آخذ مجس الغلام وهو في خلال ذلك يمتد نفسه ويقوى نبضه ويراجع إليه نفسه شيئًا بعد الشيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائماً لا يفترون
فقال الكندي لأبيه سل ابنك عن علم ما تحتاج إلى علمه مما لك وعليك وأثبته فجعل الرجل يسأله وهو يخبره ويكتب شيئًا بعد شيء
فلما أتى على جميع ما يحتاج غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها وفتروا فعاد الصبي إلى الحال الأولى وغشيه السكات فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به
فقال
هيهات إنما كانت صبابة قد بقيت من حياته ولا يمكن فيها ما جرى ولا سبيل لى ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته إذ قد استوفى العطية والقسم الذي
قسم الله له
۱
أما شأنه في الأدب فلم يكن شأن المتخصصين ولكن تروى عنه حكايات لطيفة تبين اتجاهه في النقد ومداعباته للأدباء
ففي كتاب مرح العيون لابن نباتة المصرى
حكى أنه كان حاضراً عند أحمد بن المعتصم ه وقد دخل و أبو تمام فأنشده قصيدته
السينية فلما بلغ إلى قوله
إقدام في عمرو سماحة حاتم قال و الكندى ما صنعت شيئًا
قال كيف
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال مازدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب وأيضًا إن شعراء دهرنا
تجاوزوا بالممدوح من كان قبله ألا ترى إلى قول و العكوك في أبي دلف
رجل أبو على
شجاعة
عامر
بأسا
وغير
في
حاتم
فأطرق أبو تمام ثم أنشد
لا تنكروا ضربى
له
من
دونه
مثلا شرودا في
الندى والباس
فالله
قد
ضرب
الأقل لنوره
مثلا
المشكاة
من
والنبراس
ولم يكن هذا فى القصيدة فتعجب منه ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل فاستصغر
عن ذلك
فقال الكندي
ولوه فإنه قصير العمر لأن ذهنه ينحت من قلبه فكان كما قال وسمع رجلا ينشد قول
ربيعة الرقى
لو قيل للعباس یا ابن محمد قل لا وأنت مخلد ما قالها فقال ليس يجب أن يقول الإنسان في شيء نعم وكان الوجه أن يستثنى ثم قال هجرت في القول لا إلا لعارضة تكون أولى بلا في اللفظ من نعم
۱۳
وسمع الكندى إنسانا ينشد ويقول
وفى أربع منى خلت منك أربع فما أنا أدرى أيها هاج لى كربي خيالك في عيني ! أم الذكر في في أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي فقال والله لقد قسمها تقسما فلسفيا
ويعقب فضيلة الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق على ذلك فيقول وهذه الشواهد تعرب عن منهج الكندى فى النقد الأدبى وهو مذهب فلسفى يقوم على العناية بسلامة المعنى من الوجهة المنطقية واستقامته في نظر العقل
واحتل الكندى المكانة التي تليق به من ناحية علمه ومن ناحية نسبه وحسبه فنال التقدير في قصور الخلفاء واصطفاه المعتصم مؤدباً لابنه أحمد وكان بينه وبين و أحمد
ابن المعتصم مودة وصداقة
وكانت دولة المعتصم - على حد تعبير ابن نباتة - تتجمل به و بمصنفاته هذه المكانة خلقت له حسادا وخصوماً
ومع أن الكندي لم يكن يطمح إلى منصب رسمى في القصر أو في تولى ولاية في الدولة
الإسلامية
أنه لم يكن ينافس طلاب المال أو الجاه في أمر من أمورهم
ومع أنه – وقد هيأ الله له من الثراء ما يكفيه - كان منصرفا انصرافا يكاد يكون تاماً إلى
كتبه وأبحاثه وثقافته الخاصة
مع كل ذلك لم يتركه الآخرون هادئا مطمئناً
أخذوا يكيدون له بكل الوسائل بل ويكيدون لأصدقائه
يقول الطبرى
ه إن محمد بن موسى المنجم عمل بعد موت المنتصر على إبعاد و أحمد بن المعتصم عن الخلافة لأن أحمد كان صاحب الكندي الفيلسوف أما محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر فقد أخذا يكيدان للكندى في أيام ه المتوكل كما كانا يكيدان لكل من ذكر بالتقدم في معرفة حتى أغضبا المتوكل عليه ثم
وجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة سميت الكندية ثم هيا الله الأسباب لاسترداد الكندى مكتبته واعتكف الكندي اعتكافا تاما إلى أن وافته منيته على الراجح أواخر سنة ٢٥٢ هـ رحمه الله رحمة واسعة
٤ - نظرية المعرفة عند الكندي
6
تختلف معرفة الإنسان من ناحية آلاتها ومن ناحية قيمتها وثباتها ومن ناحية فرديتها
وعمومها وشمولها ومن ناحية مصدرها
۱ - الإدراك الحسي
أما فيما يتعلق بآلات المعرفة فإنها أولا الحواس عند مباشرة الحس محسوسة ٥
وهي تحدث فور هذه المباشرة
بلا زمان ولا مئونة
هذه المعرفة غير ثابتة ذلك أن المحس غير ثابت لأنه في صيرورة دائمة إنه يتبدل في
4
كل لحظة إنه باستمرار متبدل و بأحد أنواع الحركات وتفاضل الكمية فيه بالأكثر والأقل والتساوى وغير التساوى وتغاير الكيفية فيه بالبشبيه والأشد والأضعف فهو الدهر في زوال دائم وتبدل غير منفصل
هذه المعرفة التي يباشرها الحس تنتقل منه إلى المصورة وتؤديها المصورة إلى الحافظة والمحس يتمثل ويتصور في نفس الإنسان فله صورة موجودة في النفس
وهو دائما ذو طبيعة مادية
ه فالمحس أبدا جرم وبالجرم
هذا النوع من المعرفة لا يصور تصويرًا دقيقاً ما هية الأشياء
إنه قريب من الحاس جدا لمعرفته بالحس فور مباشرة الحس إياه ولكنه أبعد ما يكون عن تصوير الطبيعة على حقيقتها
٥ سنحاول - ما أمكن - استعمال أسلوب الكندى كلما تيسر ذلك معتمدين في النقل على رسائله التي نشرها الأستاذ
الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة
٢١٥
- الإدراك العقلى
والأشياء إما كلية وإما جزئية
فالكلي هو
ه الأجناس للأنواع والأنواع للأشخاص والجزئي هو الأشخاص للأنواع
والإدراك الحسي هو جزئى باستمرار
أما الإدراك العقلى أي إدراك الأجناس والأنواع فإنه غير واقع تحت الحواس وليس موجوداً وجودًا حسياً وإنما إدراكه يكون بوساطة قوة من قوى النفس التامة أعنى
الإنسانية هي المسماة العقل الإنساني
"
وهذا النمط من المعرفة وليس متمثلا للنفس وليس له صورة تحتفظ بها الحافظة ذلك أن الذى يتمثل للنفس إنما هو المحس والإدراك الكلى إنما هو تجريد وطرح للأعراض الزائلة المختلفة المتغيرة واستبقاء للمشترك العام
فحينما ندرك معنى الإنسانية فإن ذلك بتجريدها عن اللون مثلا وعن الطول والقصر وعن السمنة والنحافة ويتبقى بعد هذا التجريد الحيوانية والناطقية وهما القدر المشترك العام
بين جميع أفراد الإنسان
والإنسانية إذن - وقد جردت من كل ما هو محس لا صورة لها تتمثل في الذهن وإذا قلت و هو لا هو غير صادقين في شيء بعينه فإن هذا إدراك للنفس ليس بحسى وإنما هو اضطراري وليس يتمثل لهذا مثال في النفس لأنه لا مثال له لا لون ولا صوت ولا طعم ولا رائحة ولا ملموس له بل إدراك لا مثالى وإذن كل ماكان هيولانيا فإنه مثالى يمثله الحس الكلى في النفس فأما اللاتي لا هيولى لها ولا تقارن الهيولى فليست تتمثل في النفس بتة وإنما نقربها لما يوجب ذلك
اضطراراً
فمن بحث الأشياء التي فوق الطبيعة أعنى التى لا هيولى لها ولا تقارن الهيولى فلن يجد لها مثلا في النفس وإنما يجدها بالأبحاث العقلية وكثير من الناس من يطلب تمثل المعقول - مع أنه واضح عقليا - ليدركه عن هذا الطريق
٢١٦
إن من يفعل ذلك يعمى عن المعقول كغشاء عين الوطواط عن نيل الأشخاص البينة الواضحة لنا في شعاع الشمس
ولهذا الخلط بين المحس الذى يتمثل ويتصور فى الذهن والمعقول الذي لا يتمثل ولا يتصور في الذهن تحير كثير من الناظرين فى الأشياء التي فوق الطبيعة إذ استعملوا في
البحث عنها تمثلها في النفس على قدر عاداتهم للحس مثل الصى
مناهج العلوم إن لكل علم منهجاً ينسجم معه هذا المنهج يناسب طبيعة العلم نفسه وطبيعة العلوم إذن هي التي تحدد مناهجها والخطأكل الخطأ أن نستعمل منهج علم في علم آخر له منهجه الخاص به و إن من الخطأ أن نستعمل المنهج الطبيعى للرياضة أو المنهج الطبيعى لما فوق الطبيعة وبسبب هذا الخلط و ضل أيضًا كثير من الناظرين في الأشياء التميزية لأنهم استعملوا منهجاً
واحدا لكل الأشياء
فمنهم من جرى على عادة طلب الإقناع وبعضهم على عادة الأمثال وبعضهم جرى على عادة شهادات الأخبار
وبعضهم جرى على عادة الحس
وبعضهم جرى على عادة البرهان
ه وإذا استعمل الإنسان منهجاً واحدًا فقد قصر على تمييز المطلوبات
والسبب في نهجهم هذا السبيل هو إما تقصيرهم عن علم أساليب المطلوبات وإما للعشق للتكثير من سبل الحق وسواء كانوا مقصرين أو مريدين تكثير سبل الحق فإنهم في كلتا الحالتين حائدون عن
الطريق الصحيح لذلك ينبغى
أن نقصد بكل مطلوب ما يجب ولا نطلب في العلم الرياضي إقناعاً ولا في العلم الإلهى حسا ولا تمثيلا ولا في البلاغة برهانا ولا في أوائل البرهان برهانا – فإنا إن تحفظنا هذه الشرائط سهلت علينا المطالب المقصودة وإن خالفنا ذلك أخطأنا أغراضنا من مطالبنا وعسر علينا وجدان مقصود اتنا
۱۷
- الإدراك الإشراقي تتأتى المعرفة عن طريق الحس بيد أن من يقتصر على الحس – فيما يرى الكندى – يبتعد عن المعرفة الحقيقية للمهايا
وتتأتى المعرفة عن طريق العقل وهى - فيما يرى الكندى – الطريق لمعرفة الأجناس والأنواع
وكثير من الفلاسفة من يقتصر فى تحديد آلات المعرفة على هذين الطريقين أما الكندى فإنه يرى - ككثير من الفلاسفة الإشراقيين - أن هناك طريقاً آخر للمعرفة هو الطريق الإشراقي
وهو - في ذروته العليا - خاص بمن يصطفيهم الله للنبوة والرسالة وهؤلاء الذين اصطفاهم الله فلعلمهم خصائص تبعدهم عن العلم الكسبي إنه بلا طلب ولا تكلف ولا بجيلة بشرية ولا زمان إنه بلا طلب ولا تكلف ولا بحث ولا بحيلة الرياضيات والمنطق ولا بزمان
بل مع إرادته جل وتعالى
بتطهير أنفسهم وإنارتها للحق بتأييده وتسديده وإلهامه ورسالاته فإن هذا العلم خاصة للرسل صلوات الله عليهم دون البشر وأحد خوالجهم العجيبة أعنى آيامهم الفاصلة لهم من غير البشر
تستيقن العقول أن ذلك من عند الله جل وتعالى إذ هو موجود عندما عجزت البشرية بطبعها عن مثله فإن ذلك فوق طبعها وجبلها فتخضع له بالطاعة والانقياد وتنعقد فطرها فيه على التصديق بما أتت به الرسل عليهم السلام
ويستمر الكندى في توضيح الفروق بين العلم الكسبى والعلم الإلهي فيقول فإنه إن تدبر متدبر جوابات الرسل فيما سئلوا عنه من الأمور الخفية الحقية التي إذا قصد الفيلسوف الجواب فيها يجهد حيلته التى أكسبته علمها لطول الدءوب في البحث والتروى ما نجده أتى بمثلها في الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب ثم يضرب الكندى مثالا تطبيقاً جزئيا لما يقول وذلك ک جواب النبي ه فيما سأله المشركون عنه مما علمه الله إذ هو بكل شيء عليم
۱۸
لا أولية له ولا تقضياً بل سرمدا أبداً إذ تقول له وهى طاعنة ظانة أنه لا يأتى بجواب فيما
قصد به السؤال عنه صلوات الله عليه يا محمد
مَنْ يُحيى العِظَامَ وَهِيَ رَمِيم أن كان ذلك عند السائلين أمرا مستحيلاً فأوحى إليه
الواحد الحق
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الْأَحْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَو لَيسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
ثم بأخذ الكندى في شرح الآيات الكريمة توضيحاً لفكرته عن العلم الإلهى فيقول ٦ فلى دليل في العقول النيرة الصافية أبين وأوجز من أنه إذا كانت العظام قد وجدت بالفعل بعد أن لم تكن فإنه من الممكن - إذا بطلت وصارت رميما - أن توجد من جديد فإن جمع المتفرق أسهل من صنعه من العدم وإن كان الأمر بالنسبة لله لا يوصف بكونه أشد وأضعف !
وإن القوة التي أبدعت ممكن أن تنشئ ما أدثرت
أما كون العظام موجودة بعد أن لم تكن فذلك ظاهر للحس فضلا عن العقل وإنّ السائل عن هذه المسألة الكافر بقدرة الله جل وتعالى مقر أنه هو نفسه كان بعد أن لم يكن فَعَظمه إذن وجد بعد أن لم يكن فإعادته وإحياؤه أمر ممكن ولا سبيل
إلى القول بخلاف ذلك
ثم يبين سبحانه أن كون الشيء من نقيضه موجود فيقول
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخضر نَارًا فَإِذَا أَنتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ فجعل من لا نارٍ نارا ومن لاحار حارا فإذا كان الشيء يحدث من نقيضه فإنه من باب أولى يحدث من ذاته وقال سبحانه
أو لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ
1 ستحاول هنا الأخذ من كلام الكندى كلما كان واضحا للقارئ فإذا ما كان فيه خفاء ذكرنا معناه في دقة
۱۹
ثم قال لما وجب من ذلك بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاق الْعَلِيمُ والأمر في هذه القضية واضح
بدیهی
ثم قال - لما فى قلوب الكافرين من الإنكار من خلق السموات لما ظنوا من مدة زمان خلقها قياسًا على أفعال البشر إذ كان عندهم عمل الأعظم يحتاج إلى مدة أطول في عمل البشر فكان عندهم أعظم الحساب أطولها زمانًا في العمل – إنه جل ثناؤه لا يحتاج إلى مدة للخلق والإبداع لأنه جعل هو من لا هو فإن من بلغت قدرته أن يعمل أجراما من لا أجرام ويخرج الوجود من العدم فإنه لا يحتاج أن يعمل في زمان إِنَّا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
أي إنما يريد فيكون مع إرادته ما أراد جل ثناؤه وتعالت أسماؤه عن ظنون الكافرين ! إذ ليس مخاطب ۷ فإن هذا فى لغة العرب المخاطبين بهذا القول بين مستعمل فإنما خوطبوا بعادتهم فى القول فإن العرب تستعمل للشيء في الوصف ما ليس في الطبع كقول أمرئ القيس بن حجر الكندى
له فقلت
ما
تمطى
بصليه
بكلكل
وأردف أعجازا وناء ألا أيها الليل الطويل ألا أنجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل
والليل لا يقال له ولا يخاطب ولا صلب له ولا أعجاز ولا كلكل ولا نهوض وإنما معناه أنه أحب أن يصبح ويختم الكندى شرحه للآيات الكريمة بهذه الكلمة القوية التي تؤكد فكرته فيقول فأى بشر يقدر بفلسفة البشر أن يجمع فى قول بقدر حروف هذه الآيات ما جمع الله جل وتعالى إلى رسوله لا فيها من إيضاح إن العظام تحيا بعد أن تصير رميماً وأن قدرته تخلق مثل السموات والأرض وأن الشيء يكون من نقيضه !
كلت عن مثل ذلك الألسن المنطقية المتحيلة وقصرت عن مثله نهايات البشر وحجبت عنه العقول الجزئية
۷ ليس هناك مخاطب بقوله تعالى كن فإن الشيء لم يكن قد وجد بعد
۰
هذا النمط من العلم كما وضحه الكندى ليس مصدره حسا ولا عقلا إن مصدره الوحى إنه علم الهى وإذا كان ذلك خاصا بمن يصطفيهم الله فإن في أفراد البشر من يصل إلى مراتب من العلم الإشراقى الذى يتأتى عن صفاء النفس وإن كان دون مرتبة العلوم النبوية وقد ترك و الكندى رسالة فى القول فى النفس وذكر أنه اختصرها من كتاب أرسطو و أفلاطون وسائر الفلاسفة
وهذه الرسالة وإن كان عنوانها يدل على أنها مجرد اختصار فإن روحها واتجاهها وما فيها أحيانا من كلمات الاستحسان والتقدير مثل
ولقد صدق أفلاطون فى هذا القياس وأصاب به البرهان الصحيح كل ذلك يدل على أن الكندى متفق فى الرأى مع ما ذكره في هذه الرسالة أو على الأقل مع ما ينسجم منها انسجاما تاما مع دينه وفى هذه الرسالة متناثرات تنسب إلى أفلاطون وإلى فيثاغورس تبين فكرة الإدراك الإشراق والسبيل إليه
ومما لا شك فيه أنها تعبر عن رأى الكندي
وتركز هذه الآراء على أن النفس بسيطة ذات شرف وكمال عظيمة الشأن ولكنها أحيانا بل في أغلب الأحايين تكون صدئة ومثلها كمثل المرآة إذا كانت صدئة لم يتبين صورة شيء فيها بتة فإذا زال منها الصدأ ظهرت وتبينت فيها جميع الصور كذلك النفس العقلية إذا كانت صدئة دنسة كانت على غاية الجهل ولم يظهر فيها صور المعلومات والسبيل إلى صقلها معروف
إن النفس إذا كانت وهي مرتبطة بالبدن تاركة للشهوات متطهرة من الأدناس كثيرة البحث والنظر فى معرفة حقائق الأشياء انصقلت صقالة ظاهرة واستنارت بقبس من نور الباری بسبب ذلك الصقال الذى اكتسبته من التطهر فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلها
ومعرفتها كما يظهر صور خيالات ستائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا كانت صقيلة وإذا بلغت هذه النفس مبلغا في الطهارة رأت فى النوم عجائب من الأحلام وخاطبتها الأنفس التي قد فارقت الأبدان وأفاض عليها البارى من نوره ورحمته فتلتذ حينئذ لذة دائمة فوق لذة تكون بالمطعم والمشرب والنكاح والسماع والنظر والشم واللمس لأن هذه لذات حسية دنسة تعقب الأذى وتلك لذة إلهية روحانية ملكوتية تعقب الشرف
۱
الأعظم والشقى المغرور الجاهل من رضى لنفسه بلذات الحس وكانت هي أكثر أغراضه
ومنتهى غايته
وهذه النفس لا تنام مطلقاً لأنها في وقت النوم تترك استعمال الحواس فتعلم كل ما في العلم
وكل ظاهر وخفى
وكلما ازدادت صقالا ظهر لها وفيها معرفة الأشياء
وإذا كنا نعتقد أن الكندى يرى ذلك كله منسجما فيه مع أفلاطون وفيثاغورس فإننا لا نعتقد أنه حاول أن يصل إلى المعرفة عن هذا الطريق ومثله في ذلك مثل ه ابن سينا الذي أقر هذا الطريق ولكنه لم يأخذ فيه واستمر الكندى - فيما نرى – فيلسوفا عقليا طيلة حياته
ه - الفلسفة معناها - دراستها - صلتها بالدين بعد هذا التحديد لوسائل المعرفة عند الكندى نريد أن نعرف رأيه في معنى الفلسفة
وفي دراستها وفى صلتها بالدين
۱ - معناها
أما فيما يتعلق بمعنى الفلسفة فقد كان الكندى متواضعا إنه لم يرد أن يذكر تعريفاً شخصيًّا وإنما ذكر المعانى المتداولة التي أوردتها القدماء ولا ينسب الكندي كل معنى من هذه المعاني إلى قائله
وربما كان هدفه من ذكر هذه التعريفات جميعها دون الاقتصار على واحد منها أن يشير إلى أن كلا منها لو أخذ منفردًا كان قاصرًا وأنه باجتماعها يتبين المعنى في دقة ومن أجل ذلك أضاف إلى كل معنى من المعاني الجانب الذي يشير إليه المعنى ذلك أن بعضها يشير إلى الاشتقاق وبعضها يشير إلى السلوك وبعضها يشير إلى العلة وهكذا
ومهما يكن من شيء فإنها باجتماعها تُعنى بالمعرفة النظرية والسلوك العملى وهى على كل حال بحث عقلى وسلوك ارتياضي بيد أننا نعجل فنقول إن الكندي لم يسلك السبيل الارتياضى وإن كان يقره وإنما سلك السبيل العقلي ومثله في ذلك - كما
قلنا - مثل ابن سینا ولنذكر الآن المعانى التي ذكرها الكندي لمعنى الفلسفة 1 إذا نظرنا إلى الاشتقاق فمعناها رحب الحكمة
ب وإذا نظرنا إليها من جهة السلوك الإنسانى فإنها التشبه بأفعال الله تعالى بقدر طاقة الإنسان - أرادوا أن يكون الإنسان كامل الفضيلة حـ ويمكن أن ينظر إليها من جهة السلوك الإنسانى أيضا فيقال إنها العناية بالموت ويقصدون إماتة الشهوات - فهذا هو الموت الذي قصدوا إليه لأن إماتة الشهوات السبيل إلى الفضيلة ولذلك قال كثير من أجلة القدماء اللذة شر
د وحدوها - من جهة العلة - فقالوا صناعة الصناعات وحكمة الحكم هـ وحدوها - من جهة معرفة الإنسان لنفسه - فقالوا هي معرفة الإنسان نفسه وأرادوا بذلك ان الإنسان جسم ونفس وعرض فإذا عرف ذلك تماماً فقد عرف كل شيء ولذلك سمى الحكماء الإنسان العالم
الأصغر
و أما حدها التقليدى فهو أنها علم الأشياء الأبدية الكلية إنياتها ومائيتها وعللها بقدر
طاقة الإنسان
وسواء عرفنا الفلسفة بهذا التعريف أو ذاك فإنها على كل حال و أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأشرفها مرتبة أما تعليل ذلك فيذكره الكندي
بقوله
ولأن غرض الفيلسوف فى علمه إصابة الحق وفى عمله العمل بالحق وإذا كانت هذه التعريفات تشير إلى جوانب - كما ذكرنا سابقا - فإن هذه الجوانب متفاوتة في الشرف والمنزلة وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة - فيما يرى فيلسوفنا - الفلسفة الأولى أعنى علم الحق الأول الذي هو علة كل حق ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف لأن علم العلة أشرف من علم المعلول لأننا إنما نعلم كل واحد من المعلومات علماً تاماً إذا نحن أحطنا إذا كان الأمر كذلك فبحق ما سمى علم العلة الأولى الفلسفة الأولى إذ جميع باقي الفلسفة منطو فى علمها وإذ هى أول بالشرف وأول بالجنس وأول بالترتيب من جهة الأيقن علمية وأول الزمان إذ هى علة الزمان
التام
يعلم
علته
۳
- دراستها
ومع
أن الفلسفة بهذه المنزلة فإنه وجد في كل زمن من يثورون ضدها باسم الدين بيد أن هؤلاء - فيما يرى الكندى - يعتبرون غرباء عن الحق وإن كانوا يتوجون بتيجان الحق من
غير استحقاق
إن في فطنهم ضيقاً عن أساليب الحق وفى نفوسهم حسد متمكن يحجب أبصارهم عن نور
الحق
وهم إنما يفعلون ذلك ذباً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عدماء الدين ومهما يكن من أمرهم فإنه يلزمهم دراستها وذلك أنهم لا يخلون من أن يقولوا إن اقتناءها يجب أو لا يجب
فإن قالوا إنه يجب وجب طلبها عليهم
وإن قالوا إنها لا تجب وجب عليهم أن يحضروا علة ذلك وأن يعطوا على ذلك برهانا وإعطاء العلة والبرهان قنية علم الأشياء بحقائقها
فواجب إذن طلب هذه القنية والتمسك بها
- صلتها بالدين
والفلسفة
علم
الأشياء بحقائقها
وفي علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة وجملة علم كل نافع والسبيل إليه والبعد عن كل ضار والاحتراس منه واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل عن الله جل ثناؤه فإن الرسل الصادقة صلوات الله عليهم إنما أتت للإقرار بربوبية الله وحده وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وآثارها
وحينما أخذ الكندى يشرح قوله تعالى والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَان قال ولعمرى إن قول الصادق محمد صلوات الله عليه وما أدى عن الله جل وعز
٢٢٤
لموجود جميعا بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حرم صورة العقل واتحد بصورة الجهل من جميع الناس
فأما من آمن برسالة محمد وصدقه ثم جحد ما أتى به وأنكر ما تأول ذوو الدين والألباب ممن أخذ عنه صلوات الله عليه فظاهر الضعف في تمييزه إذ يبطل ما يثبته وهو لا يشعر بما أتى من ذلك أو يكون ممن جهل اللغة التى أتى بها الرسول صلوات الله عليه ولم يعرف اشتباه الأسماء فيها والتصريف والاشتقاقات اللواتى - وإن كانت كثيرة فى اللغة العربية – فإنها عامة لكل لغة
الفلسفة إذن تثبت بالمقاييس العقلية ما أتت به الرسل وتنتهى بمقاييسها العقلية إلى النتائج التي أنزلت من السماء ومن أجل ذلك يحق أن يتعرى من الدين من عائد قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها
كفرا
والفلسفة - فى النهاية - أشرف صناعة ودراستها واجبة على من أقرها ومن أنكرها وهي تسير في ركاب الدين خادمة له
وإذا كان الأمر كذلك فما هى النتائج التي وصل إليها الكندى عن طريق الفلسفة !
٦ - العالم حادث
يهتم الكندى اهتماما بالغا بإثبات أن العالم بجميع عناصره التي هي الجرم والزمان
والحركة متناه
هذه الفكرة كأنها مركز الدائرة أو الأساس الأصيل الذى يبنى عليه الكندي رأيه في إثبات
حدوث العالم وبالتالي إثبات المحدث
ولأهمية فكرة تناهى العالم عند الكندى تحدث عنها في كثير من كتبه ورسائله ويكاد أسلوبه في الحديث عنها - رغم كثرة هذا الحديث – لا يختلف وهو في كل مرة يتحدث فيها عن هذه الفكرة يبدأ بمقدمات بديهية يبنى عليها برهانه من هذه المقدمات مايلي
1 كل الأجرام التي ليس منها شيء أعظم من شيء متساوية
٢٢٥
ب والمتساوية المتجانسة أبعاد ما بين نهاياتها واحدة بالفعل وبالقوة حـ وذو النهاية ليس لا نهاية له
د وكل الأجرام المتساوية إذا زيد على واحد منها جرم كان أعظمها وكان أعظم مما كان من قبل أن يزاد عليه ذلك الجرم
هـ وكل جرمين متناهي العظم إذا جمعا كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم وبعد هذه المقدمات البديهة يأخذ الكندى فى الاستدلال فيفترض - خلافًا لما يعتقد - أن هناك جرماً لا نهاية له ثم يسوق الدليل على نقض هذه القضية بإبطال النتائج التي تترتب
عليها
فإن كان جرم لا نهاية له فإنه إذا فصل منه جرم متناهى العظم فإن الباقي إما أن يكون متناهى العظم وإما لا متناهي العظم فإن كان الباقي متناهى العظم إذا زيد عليه المفصول منه المتناهى العظم كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم وهذا حق وهو خلاف المفروض وإن كان الباقى لا متناهى العظم فإنه إذا زيد عليه المفصول منه صار أعظم مما كان قبل أن يزاد عليه أو مساويا له
فإن كان أعظم مما كان فقد صار ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له وهذا باطل وإن كان ليس بأعظم مما كان قبل أن يزاد عليه فقد زيد على جرم جرم فلم يزد شيئًا ومعنى ذلك أن الكل يساوى الجزء وهذا باطل
فقد تبين إذن أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له وهذا الدليل إذا كنا قد أقمناه فى الجرم فليس معنى ذلك أنه خاص به إنه يصدق على كل ما يمكن أن يقال فيه إنه لا متناه فى عالمنا هذا كالزمان والحركة والمكان وإذا كان الزمان متناهيا فالجرم باضطرار له مبدأ
على أنه لا جرم بلا زمان ولا زمان بلا حركة والواقع أن الجرم والحركة والزمان - فيما يرى الكندى - متلازمة ذلك أن الجرم جوهر ذو أبعاد ثلاثة أعنى طولا وعرضًا وعمقاً فهو إذن مركب والتركيب حركة والحركة إذن إنما هى حركة الجرم فإن كان جرم كانت حركة وإن لم يكن جرم لم
تكن حركة
٢٢٦
والزمان إنما هو مدة تعدها الحركة أو مقياسها الحركة فإن كانت حركة كان زمان وإن لم تكن حركة لم يكن زمان
الجرم إذن لا يسبق الحركة والزمان ملازم للحركة
والنهاية لكل هذا أن الجرم والحركة والزمان لا يسبق بعضها بعضا في الإنية فهى معاً وهي متناهية وهى لذلك حادثة
وللكندى دليل خاص على تناهى الزمن وهذا الدليل إذا أردنا تبسيطه نصيغه كالآتى لو فرضنا أن الزمن غير متناه فى الماضى فإن معنى ذلك أننا لو فرضنا جدلا أننا نسير من الآن - رجوعا القهقرى - مع الزمن فى ماضيه لما انتهينا إلى نهاية إذن من الآن ما لا نهاية له في الماضي لا يمكن أن يؤتى عليه أو يقطع أو ينتهى وإذن فإنه إذا صدق
ذلك فإنه يصدق ضرورة
إلى
أنه لا يمكن أن يقطع من لا نهاية له فى الزمن الماضى حتى يتناهى إلى الآونة الحاضرة ومادمنا قد وصلنا إلى الآونة الحاضرة فمعنى ذلك ضرورة أن الزمن له مبدأ
الله وجوده - ووحدانيته
۱ - الوجود
العالم إذن حادث
تلك قضية أثبتها الكندى بالاستدلال العقلي
وبمجرد إثباتها يثبت ما يلزمها وهو إثبات المحدث إذ المحدث محدث المحدث إذ المحدث والمحدث من المضاف فلكل محدث محدث اضطرارًا عن ليس ۸ هذا الدليل فى نتيجته هو الدليل العادي الذي يستدل به المتكلمون وإن كان و الكندي يختلف عنهم اختلافا بينا فما يتعلق بطريقة الإثبات وما دام قد ثبت أن العالم حادث وأن الله هو المحدث فمعنى ذلك - ضرورة وبداهة - أن الله أوجده عن العدم والإيجاد عن العدم من الأمور التي لا تتأتى إلا عن الله يقول
و الكندي
۸ أي عن العدم
۷
إن الفعل الحقى الأول تأييس الأيسات عن ليس ۹ وهذا الفعل بين أنه خاصة الله تعالى الذى هو غاية كل علة فإن تأييس الأيسات عن
ليس ليس لغيره
وهذا الفعل هو المخصوص باسم الإبداع
ويعرف الكندى الإبداع بأنه إظهار الشيء عن ليس ۱۰ على أن الكندى لا يقتصر على هذا الدليل في إثبات وجود الله وإنما يورد أيضا الدليل الذي يتحدث عنه القرآن الكريم فى غير ماسورة وهو إثبات وجود الله عن طريق هذا التدبير المحكم السارى فى الكون والنظام الشامل العناية التي تسود العالم بأكمله وتربط أجزاءه وهذا الدليل قد ورد في القرآن الكريم على أنه إخبار عن عناية الله بالكون وبالإنسان ولم يرد أنه دليل على وجوده سبحانه إذ إن القرآن الكريم يعتبر وجود الله فطرة وبديهة فلا يحتاج
على
إلى دليل يقول الكندي
وليس أثر الصنعة من باب أو سرير أو كرسى بما يظهر فيها من تقدير تأليف على الأمر
الأتقن بأظهر من ذلك فى هذا ۱۱ الكل لذوى العيون العقلية الصافية
وإذا نظرنا إلى هذا العالم في جملته وجدناه منضدًا مترابطاً مقدراً على الأمر الأنفع
الأتقن " ووجدنا
و بعضه علة لكون بعض وبعضه مصلحاً لبعض
وكل ذلك
ظاهر لمن كانت مرتبته علم هيئة الكل
فأما من قصر ذلك فإنه يقصر عن فهم ما ذكرنا لتقصيره في علم هيئة الكل ه وإن في الظاهرات للحواس لأوضح الدلالة على تدبير مدبر أول فإن في نظم هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه فى بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير
1 أى إيجاد الموجودات من العدم
۱۰ أي عن العدم
۱۱ أي العالم
۸
بعضه لبعض وإتقان هيئته على الوجه الأصلح في كون كل كائن وفساد كل فاسد وثبات كل ثابت وزوال كل زائل لأعظم دلالة على أتقن تدبير - ومع كل تدبير مدير - وعلى أحكم حكيم - لأن هذه جميعا من المضاف
حكمة -
كل حكمة
وهذا الدليل ١٢ في وضوحه وبداهته إنما يشعر به شعورًا غامرًا
ه من كانت حواسه الآلية موصولة بأضواء عقله وكانت مطالبه وجدان الحق فإن من كان كذلك الهتكت عن أبصار نفسه مجوف سيلف ۱۳ الجهل واستحيت من الحرص على اقتناء مالا تجد وتضييع ما تجد
٢ - الوحدانية
ومحدث العالم سبحانه واحد لا شريك له ولا تركب في ذاته ذلك أنه لوكان
۱ هذا الدليل تحدث عنه القدماء أمثال سقراط وتحدث عه فلاسفة العصور الوسطى وتحدث عنه فلاسفة العصور الحديثة مثل كانت ونورد هنا مثالا توضيحيا عن سقراط
اسمه و أرسطو ديموس
قال سقراط لشاب - لا يؤمن بالله تعالى أفى الناس من يعجبك براعته في الصنائع فقال نعم وسمى من الشعراء والمصورين ممن كان بعده أبرع من غيره فقال سقراط أيهما عندك أرفع شأنا أمن يصنع التماثيل العارية عن الحركة والعقل أم من يصور الأشباح الحية المتحركة فقال من يصنع الصور الحية اللهم إلا إذا كانت تلك الصور من عمل المصادفة والاتفاق لا من عمل العقل قال سقراط إذا فرضنا أشياء لا يظهر المقصود منها وأشياء أخرى بينة القصد والمنفعة فما قولك في تلك الأشياء ما هي التي عندك من فعل العقل وما هى التي عندك من فعل الاتفاق
من
المنفعة
قال لا شك أن ما ظهر قصده ومنفعته من فعل العقل قال سقراط أولست ترى أن صانع الإنسان فى أول نشأنه - جعل له آلات الحس لما في تلك الآلات الظاهرة فأعطاه البصر والأذنين ليبصر ويسمع ما يكون لعيشه صادقا وما فائدة الروائح لو لم تكن لنا الخياشيم ! وكيف ندرك المطاعم ونفرق بين الحلو والمر والمز لو لم يكن لنا لسان نذوق به إن بصرنا معرض للآفات أو لست ترى كيف اعتنت القدرة الإلهية بذلك فجعلت الأجفان كالأبواب لتمنع ما يصيب البصر !! وجعلت الأهداب كالمناخل لتقيها من أضرار الرياح !! وما قولك في آلة السمع وهى تقبل جميع الأصوات ولا تمتلى أبدا !! أما رأيت الحيوانات كيف رتبت أسنانها المقدمة وأعدت لقطع الأشياء فتلقيها إلى الأضراس فندقها دقا !! فإذا تأملت في ترتيب ذلك أيمكنك أن تشك هل هي
من فعل الاتفاق أم من فعل العقل قال أرسطو ديموس نعم إذا تفكرنا في ذلك لا نشك في أنها من فعل صانع حكم كثير العناية بمصنوعاته ۱۳ أي أستار ظلمات الجهل
ه من مخطوط سنتلانا
۹
آلهة متعددون لكانوا مركبين من صفة تعمهم جميعاً وهى أنهم فاعلون ومن صفات
تميز بعضهم فهم إذن مركبون مما عمهم ومن خواصهم
والمركبون لهم بالضرورة مركب لأن التركيب يستلزم مركبا وإذن فإن كان هذا المركب واحدا فهو الفاعل الأول سبحانه وإن كان كثيرًا فهم مركبون وهو يخرج
بلا نهاية
وقد اتضح بطلان ذلك
فإذن ليس كثيرًا بل هو واحد غير متكثر سبحانه وتعالى عن صفات الملحدين علوا كبيرا لا يشبه خلقه لأن الكثرة في كل الخلق موجودة وليس فيه بتة ولأنه مبدع وهم مبدعون ولأنه دائم وهم غير دائمين
- الأخلاق
ذكر و الكندي من تعريفات الفلسفة أنها التشبه بأفعال الله تعالى بقدر طاقة الإنسان وعقب على ذلك بقوله أرادوا أن يكون الإنسان كامل الفضيلة
وذكر تعريفاً آخر للفلسفة هو أنها
العناية بالموت
وشرح قصد القدماء في العناية بالموت من أنه
إماتة الشهوات
وعلل ذلك بأن إماتة الشهوات هي السبيل إلى الفضيلة
ذلك أن اللذة شر إذ إن التشاغل باللذات الحسية ترك لاستعمال العقل
ولعل السؤال الذي يتأتى بعد ذلك هو
كيف يكون الإنسان كامل الفضيلة وكيف يميت شهواته ليصل إلى الفضيلة
والإجابة على هذا السؤال إنما هى فى معرفة الفضيلة نفسها وفى التزام ما تتطلب من
سلوك
والفضائل الإنسانية - حبيبها يرى الكندى - هي
۳۰
الخلق الإنساني المحمود
وهذه الفضائل تنقسم إلى قسمين
قسم هو أساس يكون في النفس ولكنه ليس أساسا سلبيا وإنما هو معرفة وعمل
وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهى
الحكمة والنجدة والعفة
أما الحكمة فهى فضيلة القوة الناطقة أى القوة العقلية والحكمة عبارة عن شيئين أحدهما نظرى وهو علم الأشياء الكلية بحقائقها
والثاني عملى وهو استعمال ما يجب استعماله من الحقائق أما النجدة فهى فضيلة القوة الغلبية أو على حد التعبير الجاري فضيلة القوة الغضبية
والنجدة عبارة عن توطين النفس على الاستهانة بالموت فى أخذ ما يجب أ أخذه
ما يجب دفعه
L
ودفع
أما العفة فهي تناول الأشياء التي يجب تناولها من أجل تربية البدن وحفظه والإمساك عن
غير ذلك
وهذه الفضائل الثلاث التى فى النفس تعتبر سورًا للفضائل على وجه العموم وحدا فاصلا بينها وبين الرذائل إنها السور الذى يحد الفضائل فيمنع الإفراط والتفريط والفضائل في عمومها إذن وسط بين الإفراط والتفريط
والرذائل إنما هي إفراط أو تفريط
إنها الخروج من الاعتدال سواء كان ذلك بالإيجاب أو بالسلب
وإذا أردنا تمثيلا لذلك فيما يتعلق بفضيلة النجدة فإننا نجد الإسراف فيها وهو
التهور والهوج رذيلة
والتفريط فيها وهو الجبن رذيلة
وإذا نظرنا إلى فضيلة العفة فإننا نجد الإفراط فيها رذيلة وذلك كالحرص على المآكل والمشارب وهو الشره والحرص على النكاح من حيث سنح وهو الشبق المنتج العهر والحرص على القنية وهو الرغبة الذميمة الداعية إلى الحسد والمنافسة أما التفريط في فضيلة
العفة فيتمثل فى الكسل بأنواعه
۳۱
ومما تقدم نرى أن فضيلة هذه القوى النفسانية جميعها إنما هي في الاعتدال والقسم الثانى من الفضائل الإنسانية ليس فى النفس وإنما هو نتيجة وثمرة لهذه الفضائل الثلاث إنه نتيجة لاعتدالها وهو يتمثل في العدل
والرذيلة المقابلة له إنما هي الجور
الفضائل الإنسانية إذن إنما هى فى أخلاق النفس وفي الثمرة الناتجة عن هذه
الأخلاق
وإذا التزم الإنسان الفضائل نتج عن ذلك أنه يعيش سعيدا ومادام كل إنسان في هذه الحياة يسعى إلى السعادة وما دامت السعادة هدفًا أخيرًا لكل إنسان فما على من يرغب فيها إلا أن يتسلح بهذه الفضائل بيد أن من يمكنه أن يلتزم هذه الفضائل إنما هو عدد محدود من الناس إنهم الممتازون إنهم هؤلاء الذين يسيطرون على أنفسهم فيلزمونها حد الاعتدال وليس كل الناس بقادر على
ذلك
وإلى هؤلاء المساكين الذين يعيشون في الحياة عرضة للأحزان وللآلام يقدم الكندي بعض النصائح
هذه النصائح تتمثل فى جانب سلبي وجانب إيجابي فإذا استعرضنا هذه الأسباب التي ينشأ عنها الحزن عند عامة الناس فإننا لا نكاد نجدها تخرج عن فقدان ما يمتلكه الإنسان في النواحى المادية أو عن عدم الحصول على ما لا يملك من النواحي المادية
وإذا اعتمد الإنسان فى سعادته على الامتلاك والاقتناء والثراء العريض فقد انحرف عن
طريق الصواب ذلك أن السعادة إنما هى فى النفس لا في ما تمتلكه النفس الماديات بطبيعتها عرضة للتغير وللزوال والإنسان العاقل يجب عليه ألا يربط سعادته
بالمتغير الزائل
ولعل أنفس المتغير الزائل إنما هو الجواهر واللآلئ ومع ذلك فإنها لا تعدو أن تكون حصى الأرض وأصداف الماء وإذا وضعها الإنسان في موضعها الحقيقى يرى أنها أتفه من أن تثير حزنًا
إذا فقدت
۳
ويجب على الإنسان أن يفطم نفسه عما لا يمتلك لأنه إذا أرخى لها العنان فسوف لا تنفد
لها مطالب
وقديما قال سقراط وقد سئل عن السر في أنه لا يحزن
ه إنني لا أقتني ما أحزن على فقده
وسئل مرة أخرى
و لم لا تشعر بالشقاء مع أنك
محروم من كثير من الملاذ فقال
إنى لا أشعر بالحرمان مما لا أرغب فيه
وضع المادة في موضعها الحقيق إذن - حينما تكون فى امتلاك الإنسان – وعدم الحرص على امتلاكها - إذا لم تكن فى حوزته - حرصًا يؤدى إلى الشقاء والحزن ذلك ما يجب على الإنسان العاقل أن يفعله خصوصًا وأن عالم المادة إنما هو عالم فان
على أن حياة الإنسان في هذا العالم فترة عابرة ويجب على العاقل ألا يربط سعادته بماديات سيفارقها - لا مناص - وشيكا
إن عالمنا فان ولكن هناك العالم الباقى ومن هنا نتطرق إلى القسم الإيجابي من نصائح
ه الكندي فإذا كنا نريد أن نسعد حقًّا فيجب أن نمتلك جواهر العالم الباقى ولآلثه يجب أن نحرص على الممتلكات العقلية إنها لا تفنى ولا تبيد ولا تغتصب
وفى العلم سعادة وفى التفكير والتأمل فرح ولذة إنها الحياة الخالدة فقل للباكين ممن طبعه أن يبكى من الأشياء المحزنة ينبغى أن يبكى ويكثر البكاء على من يهمل نفسه
فيأيها الإنسان الجاهل ألا تعلم أن بقاءك في هذا العالم إنما هو كلمحة بصر ثم تصير إلى العالم الحقيقى تبقى فيه أبد الآبدين ! وللكندى تشبيه لطيف للحكيم العاقل بالنسبة للماديات إنه بالنسبة إليها كالملك الجليل الذي بلغ من عظمته ألا يتلقى مقبلا ولا يشيع ظاعنا وللكندى حكم كثيرة تحث بوجه عام على التزام الفكرتين الأساسيتين في نصائحه
وهما
القناعة في الماديات والطموح إلى اكتساب المعقولات منها اعص الهوى وأطع ما شئت
۳۳
ا لا تنج مما تكره حتى تمتنع عن كثير مما تحب وتريد إن النظر فى كتب الحكمة اعتياد النفوس الناطقة
من ملك نفسه ملك المملكة العظمى واستغنى عن المؤن ومن كان كذلك ارتفع عنه الذم وحمده كل واحد وطاب عيشه
ه ولو أفسد أحد أحسن أعضائه كان مذموماً وأشرف الأعضاء الدماغ ومنه الحس والحركة وسائر الأفعال الشريفة ومستعملو السكر يُدخلون الفساد على أدمغتهم ومتى توالى السكر على بدن مرض دماغه واشتد ضعفه وبعد عن القوة الممدة للأفعال
الإرادية والنفسانية
ونختم هذه الكلمة بتلخيص دى بور لرسالة الكندى في الحيلة لدفع الأحزان والحق أنه لا دوام لشيء في هذا العالم عالم الكون والفساد الذي قد يُسلب منا في أية
لحظه كل ما هو عزيز لدينا من مقتنياته ولا ثبات ولا دوام إلا فى عالم العقل فإذا أردنا أن تقر أعيننا ببقاء مقتنياتنا وألا يسلب منا ما هو حبيب إلى نفوسنا وجب علينا أن تقبل على خيرات العقل الدائمة وعلى تقوى الله وأن نعكف على طلب العلم وعلى صالح
الأعمال
وأما إذا جعلنا طلب الخيرات الحسية المادية همنا معتقدين أننا قادرون على استبقائها فإنما نجرى وراء المحال الذي ليس في الوجود
- الكندي بين الأصالة والتقليد 1- و الكندى وأرسطو
رأينا مما سبق أن الكندى يقول بحدوث العالم إنه يثبت حدوث الزمان والحركة والجرم أما أرسطو فإنه يقول بقدمها والمادة أزلية فى رأى أرسطو حادثة في رأى الكندى أثبت الكندى حدوث العالم وأثبت خلق الله له عن العدم وكل ذلك خلاف أصيل في وجهة النظر بينه وبين زعيم المشائين
على أن الخلاف الذى لا يقل عن ذلك أصالة هو تدبير الله للعالم وعنايته به وتصرفه فيه وعلمه بجزئياته وكلياته يثبت و الكندى ذلك وينفيه أرسطو إن أرسطو
٢٣٤
ينفيه إلى درجة أنه يجزم بأن الله لا يعلم عن العالم شيئًا إنه لا يعلم وجوده فضلا عن
تدبيره !!!
والكندى يثبت الوحى والنبوة وما الوحى والنبوة إلا مظهران من مظاهر عناية الله
بالعالم
وإذا كان أرسطو ينفى هذه العناية فإنه لا يتأتى له أن يثبت وحيا ولا نبوة ولذلك اقتصر - فى مصادر المعرفة - على الحس والعقل أما الكندى فقد زاد المصدر الإلهي والكندى في كل ذلك منسجم مع الإسلام سائر فى تياره أو هو – بتعبير آخر –
انتهى بالأدلة العقلية الشخصية إلى ما أتى به الوحى الإلهى على لسان محمد أما فيما يتعلق بالأخلاق فإن النظرة اليسيرة ترى أن الكندى متأثر بأرسطو ذلك أنه يقول بنظرية الفضيلة وسط بين طرفين
ولكن هذه النظرية في روحها إسلامية
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوما محسورا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ١٤
بيد أنه من البين أن الكندى متأثر فيها على الخصوص بأرسطو غير أن هدف الكندى منها يختلف عن هدف أرسطو ذلك أن هدف أرسطو منها إنما هو السعادة في عالمنا هذا في عالمنا الفاني أما هدف الكندي فهو السعادة في عالمنا هذا وفى العالم الأخروي العالم الباقى
عالم الخلود
14 على أن عند العرب مثلا مشهورًا هو خير الأمور أوساطها ومن طريف ما يروى بمناسبة موضوعنا أن مثل الحسن بن الفضل • إنك تُخرج أمثال العرب والعجم من القرآن فهل تجد في كتاب الله خير الأمور أوساطها ! قال نعم فى أربعة مواضع قوله تعالى لا فَارِضُ وَلَا بِكُر عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وقوله تعالى والذين إذا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وقوله تعالى وَلا تَجْعَلَ يَدَكَ مَعْلُولَةٌ إلى عُنقكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ وقوله تعالى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً
٢٣٥
- الكندى وأفلاطون
يقول الأستاذ الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة
يشبه الكندى أفلاطون فى القول بحدوث العالم والزمان والحركة ولكن البواعث على ذلك والغاية منه ليست واحدة عند الفيلسوفين هذا إلى أن الكندى يرفض وجود شيء أيا كان قبل وجود هذا العالم الحادث وهو في ذلك يخالف أرسطو كما تقدم لكنه يخالف فيه أفلاطون أيضاً لأن أفلاطون يقول بشبه مادة سابقة على وجود هذا العالم لينة وغير معينة لا هي روحانية معقولة ولا مادية محسوسة وهو يسميها اللا موجود أو القابل أي الذي يقبل فعل المثل بحيث ينشأ هذا الفعل عالمنا المادى المحسوس المتغير الزائل الخلاف بين فيلسوف العرب من جهة وبين أفلاطون أو أرسطو من جهة و مرجع
أخرى مباينته لهما في مفهوم الفاعل الأول الحق أعنى الله وصفاته وفعله أن نلاحظ من قراءة رسائل الكندى أن أمر الخلق وكيفيته أوضح ونستطيع عنده مما هو عند أفلاطون الذى لم يتخلص من خيال الفنان كما نجد ذلك في قصة
طماوس مثلا
والكندى بحكم نزعته العربية الواقعية ونزعته الإسلامية الواضحة لا ترضيه ضروب
الخيال الموجود عند اليونان بالإجمال ۱٥
الكندى والإسلام
ومما سبق من شرح لآراء و الكندى يتبين أنه لم يأت برأى يعارض به أصلا من أصول الإسلام والكندى بذلك خارج عن دائرة الفلاسفة الذين كفرهم الإمام الغزالي لقولهم بقدم العالم وبعدم علم الله بالجزئيات وبالبعث الروحاني فقط أما موقف الكندى من الإدراك الحسي فهو موقف ربما يستساغ من الناحية النظرية التجريدية ولكنه لا يستساغ من الناحية العملية
١٥ رسائل الكندي ص ۸۰
الفصل الثاني عشر
الفارابي
٢٥٩هـ - ٣٣٩هـ
شرائط يجب توافرها فيمن يتسامى إلى الفلسفة
يجب و أن يكون جيد الفهم والتصور للشيء الذاتى ثم أن يكون حفيظا وصبورًا على الكد الذي يناله فى التعليم وأن يكون - بالطبع - محبا للصدق وأهله والعدل وأهله غير جموح ولا لجوج فيما يهواه وأن يكون غير شره على المأكول والمشروب تهون عليه – بالطبع - الشهوات والدرهم والدينار وما جانس ذلك وأن يكون كبير النفس عما يشين عند الناس وأن يكون ورعا سهل الانقياد للخير والعدل عسر الانقياد للشر والجور وأن يكون قوى العزيمة على الشيء الصواب ثم بعد ذلك يكون قد ربي على نواميس وعلى عادات تشاكل ما فطر عليه وأن يكون صحيح الاعتقاد لآراء الملة التي نشأ عليها متمسكا بالأفعال الفاضلة التي في ملته غير مخل بكلها أو بمعظمها
وأن يكون - مع ذلك - متمسكا بالفضائل التي هي - فى المشهور - فضائل غير مخل بالأفعال الجميلة التي هي - فى المشهور - جميلة
۱ - تقديره
الفارابي
كان و الفارابي يعيش في عالم العقل ابتغاء للخلود وكان ملكا في عالم العقل
وت ج دی بور
و فيلسوف المسلمين غير مدافع
٢٣٦
القفطى
۳۷
وهو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن منهم من بلغ رتبته فى فنونه والرئيس أبو على بن
سينا المقدم ذكره بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه
ه ابن خلکان
ولئن كانت الأجيال تهتف باسم الفارابي منذ ألف عام في الشرق والغرب فإنه قد استحق ذلك بما وهب حياته لخدمة العلم والحكمة وبما ترك من أثر في تاريخ التفكير البشرى وفى تاريخ المثل العليا للحياة الفاضلة
مصطفى عبد الرازق
أول مفكر مسلم
كان فيلسوفا بكل ما للكلمة من معنى
مسینیون
فلم
والذى اتفق عليه جلة الثقات أن فلسفة الفارابي فلسفة إسلامية لا غبار عليها ير فيها جمهرة المسلمين المعنيين بالبحث الفكرى حرجًا ولا موضع ريبة ولا نخالها تغضب متدينا بالإسلام أو بغيره من الأديان
- حياته
العقاد
هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان ويعرف بالفارابي نسبة إلى ولاية و فاراب وهي إقليم كبير وراء نهر جيحون على تخوم بلاد الترك أكان فارسيا أم تركيا إن أكثر المترجمين لحياته يذكرون أنه تركى ولكن ابن أبي أصيبعة في كتاب طبقات الأطباء يذكر أن أباه كان فارسى الأصل تزوج من امرأة تركية وأصبح قائدا فى الجيش التركي ويصمت التاريخ صمتاً تاماً عن فترة الطفولة وفترة الشباب لفيلسوفنا فلا يحدثنا بشيء عنهما بل يغفل أيضًا ذكر ميلاده ولولا أن ابن خلكان ذكر أنه توفى سنة ٣٣٩ هـ وقد ناهز ثمانين سنة لما أمكن استنتاج تاريخ مولده إلا ظنا وكلمة و ابن خلكان إذن يؤخذ منها أنه ولد حوالى سنة ٢٥٩ هـ مكانته الاجتماعية
"
۳۸
أما مكانته الاجتماعية فقد تضاربت فيها أقوال المؤرخين ولا سبيل إلى القول فيها بالقطع والذي نميل إليه هو أنه نشأ في أسرة على جانب كبير من الرخاء كان أبوه قائد جيش كما يذكر ابن أبي أصيبعة وكان - كما يذكر ليون الأفريقى - شريف النسب معدا لحياة البذخ ثم وانته الدنيا وواتاه الجاه فاشتغل بالقضاء في بلدته
دراسته الفلسفة
ولعلنا لا نكون مخطئين إذا تخيلنا أن طبيعة الفارابي لم تكن طبيعة الذين يجرون وراء
الجاه والمجد الدنيوى والترف المادى
لقد كانت نفسه تتطلع إلى معرفة الغيب واختراق الحجب والكشف عن المساتير بيد أن دراسته الفقهية وعمله فى القضاء الذى كان ثمرة لهذه الدراسة لم يؤهلاه إلى ما يطمح إليه فضلا عن أن بيئته وما يستلزمه عمله من مخالطة واتصالات لا تترك له فراغاً كل ذلك كان يحول بينه وبين ما يطمح إليه
وها هي ذي السنون تمضى الواحدة تلو الأخرى ويزداد شوق الفارابي إلى معرفة الحقائق الخاصة بما وراء الطبيعة
وفي فترة من فترات التحمس الشديد عدل فجأة عما هو فيه - وقد ناهز الأربعين تقريبا - فمال راضياً مغتبطاً إلى حياة التأمل والتفكير الفلسفى الصوفى فغادر بلدته قاصدا بغداد وهى إذ ذاك مصدر الثقافة والمعرفة
لم يدرس الفارابي إذن الفلسفة فى مبدأ حياته والذى يدعونا إلى القول بهذا أن الفارابي بدأ يحضر دروس المنطق في بغداد على أبي بشر بن متى ثم تابع دراسة المنطق على يوحنا بن حيلان فى حران وأكب منذ دخوله بغداد على دراسية الفلسفة على وجه العموم فى شغف زائد وفى شوق بالغ ولا شك أن ذكاءه وشوقه كانا كفيلين ببلوغه من تعلمها إلى ما يطمح إليه فى فترة قصيرة من الزمن خصوصًا وأنه كان في مرحلة النضج
العقلي الكامل
كانت نفس الفارابي إذ ذاك متطلعة إلى استكشاف المجهول وكان من وسائل إرضائها في هذا الجانب الرحلات والأسفار
۳۹
ذهب من بلدته إلى بغداد وذهب من بغداد إلى حران ثم عاد إلى بغداد ثانية وسافر إلى
دمشق وإلى مصر
ه وملك سيف الدولة حلب سنة ٣٢٣ هـ وبسط حمايته على العلم والأدب فقصد إليه و الفارابي وآوى منه إلى ركن شديد ثم إنه عَظُم شأنه وظهر فضله واشتهرت تصانيفه وكثرت تلاميذه ۱
معرفته باللغات والموسيقى
أما مبدأ اتصاله بسيف الدولة فتروى فيه حكاية لا شك أنها من اختراع متخيل بيد أنه لم يُين التخيل فيها على غير أساس وهى إذا جردناها من المبالغات فيها تعطينا ثلاثة جوانب في حياة الفارابي وهى فى الواقع حقائق الجانب الأول معرفته باللغات ولا شك أن الفارابي كان يعرف أكثر من لغة منها على كل حال العربية والتركية والفارسية
والجانب الثاني معرفته بالموسيقى لقد كان يعرف الموسيقى نظريا وعمليا أما الجانب الثالث فهو عزة نفسه
والحكاية كما رواها ابن خلكان هي
يقول ابن خلكان
إن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزى الأتراك وكان ذلك زيه دائماً فقال له و سيف الدولة
عنه
اقعد
فقال حيث أنا أم حيث أنت
فقال حيث أنت
فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه
وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه
أحد فقال لهم بذلك اللسان
۱ فيلسوف العرب والمعلم الثاني ص ٦١
٢٤٠
إن هذا الشيخ قد أساء الأدب وإلى سائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرجوا به
فقال له أبو نصر بذلك اللسان
أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقيها فعجب سيف الدولة منه وقال له أتحسن هذا اللسان
فقال أحسن أكثر من سبعين لسانا
فعظم
عنده
ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس فى كل فن فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقى يتكلم وحده ثم أخذوا يكتبون ما يقوله فصرفهم
سيف الدولة وخلا به فقال له
هل لك في أن تأكل
فقال لا
فهل تشرب
فقال لا
فهل تسمع
فقال نعم
فأمر سيف الدولة بإحضار القيان فحضر كل ماهر - في هذه الصناعة – بأنواع
الملاهي فلم يحرك أحد
سيف الدولة
منهم
آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له أخطأت فقال له
وهل تُحسن في هذه الصناعة شيئًا
فقال نعم
ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيدانًا وركبها ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس !
ثم فكها وركبها تركيباً آخر ثم ضرب بها فيكى كل من كان في المجلس ! ثم فكها وركبها وغير تركيبها وضرب بها ضربا آخر فنام كل من في المجلس حتى البواب فتركهم نياما وخرج !!!
ويعقب الشيخ مصطفى عبد الرازق على هذه القصة فيقول
٢٤١
ولئن كانت هذه الحكاية أدنى إلى الأساطير منها إلى التاريخ فهي تشبه أن تكون غلوا
مجاوزا لا اختراعا صرفاً
غط حياته
والمترجمون لحياة و الفارابي مجمعون على أنه كان يعيش معيشة الزاهدين في العالم
وكان يميل إلى العزلة والتأمل
ويصف الشيخ مصطفى عبد الرازق نمط حياته فيقول
وقد عاش الفارابي عيشة الزهاد حياته كلها فلم يقتن مالا ولا اتخذ صاحبة
ولا ولدا !!!
وكان يستطيع أن يستمتع برفه العيش خصوصاً في شيخوخته أيام استظلاله بظل الملك الجواد سيف الدولة بن حمدان لكنه لم يتناول من سيف الدولة إلا أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضرورة العيش وهو الذى اقتصر عليها لقناعته ولو شاء زيادة لوجد مزيدا
"
ويصفه ابن خلكان بأنه كان يعيش عيشة قدامى الفلاسفة
ويقول ابن خلكان أيضًا
وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالباً إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض
ويؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه
ويقول صاحب كتاب مفتاح السعادة وكان منفرداً بنفسه لا يكون إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض ويؤلف كتبه هناك ويعقب الشيخ مصطفى عبد الرازق على أقوال المؤرخين لحياة الفارابي فيقول وتلك حياة فيلسوف زاهد وموسيقى شاعر
وقد تحدث كثيرون عن نزعة الفارابي الزهدية والصوفية سواء أكان ذلك في حياته الشخصية أم في مذهبه الفلسفي
فيلسوف العرب والمعلم الثاني
٢٤٢
ويحدثنا كاراده فو عن هذه النزعة الفارابية وعن الفرق بينها وبين موقف ابن سينا من التصوف فيقول
التصوف لا يظهر فى مذهب ابن سينا إلا فى آخره كتاج يتوجه وهو جزء منفصل تمام الانفصال عما عداه من أجزاء مذهبه وقد عالجه بمهارة فائقة على أنه فصل من فصول فلسفته التي كان عليه أن يبسطها من جهة موضوعية بحتة
والأمر على نقيض ذلك عند الفارابي
فالتصوف يتخلل جميع مذهبه وعبارات المتصوفة شائعة تقريبا في كل أقواله وكأنما التصوف عنده ليس نظرية من النظريات وإنما هو حالة ذاتية ۳
ثقافته وكتبه
قال القاضى صاعد فى كتاب التعريف بطبقات الأمم
إن الفارابي أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر فبذ جميع أهل الإسلام فيها وأربى عليهم في التحقق بها فشرح غامضها وكشف
L
سرها وقرب تناولها وجمع ما يحتاج إليه منها فى كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة فنيه على ما أغفله الكندى وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس وأفاد وجوه الانتفاع بها وعرف طرق استعمالها وكيف تصرف صورة
القياس فى كل ما دق منها فجاءت كتبه فى ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاصلة ثم له بعد هذا كتاب شريف فى إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه لا يستغنى طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه وله كتاب في أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطو طاليس يشهد له بالبراعة في صناعة
الفلسفة والتحقق بفنون الحكمة وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر وتعرف وجه الطلب اطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علمًا علماً
وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض شيئًا فشيئًا
L
ثم بدأ بفلسفة أفلاطون فعرف بغرضه منها وسمى تأليفه فيها ثم أتبع ذلك بفلسفة
۳ دائرة المعارف الاسلامية الترجمة العربية مادة أبو نصر الفارابي
٢٤٣
أرسطو طاليس فقدم له مقدمة جليلة عرف فيها بتدرجه إلى فلسفته ثم بدأ يوصف أغراضه في تأليفه المنطقية والطبيعية كتابا كتاباً حتى انتهى به القول - في النسخة الواصلة إلينا - إلى أول العلم الإلهى والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه ولا أعلم كتاباً أجدى على طالب الفلسفة منه فإنه يعرف بالمعانى المشتركة لجميع العلوم والمعاني المختصة بعلم علم منها ولا سبيل إلى فهم معانى قاطيغورياس 4 وكيف هي الأوائل الموضوعة لجميع العلوم إلا منه ثم له بعد هذا فى العلم الإلهى وفى العلم المدنى ٥ كتابان لا نظير لهما أحدهما المعروف بالسياسة المدنية والآخر المعروف بالسيرة الفاضلة عرف فيهما يحمل عظيمة من الإلهى على مذهب أرسطو طاليس فى مبادئ الستة الروحانية وكيف يؤخذ عنها الجواهر الروحانية وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية على ما هي عليه من النظام واتصال الحكمة وعرف فيها بمراتب الإنسان وقواه النفسانية وفرق بين الوحى والفلسفة ووصف أصناف المدن الفاضلة وغير الفاضلة واحتياج المدينة إلى السيرة الملكية والنواميس
النبوية وكتب و الفارابي كثيرة بلغ بها بعضهم إلى مائة وثمانية وعشرين كتابا ورسالة وهي في كل فن تقريباً ! ثم إنها تنقسم طبيعيا إلى قسمين
۱ قسم هو شرح أو تعليق أو بيان لآراء و أفلاطون وأرسطو ب وقسم هو تأليف شخصى للفارابي ومن أشهر كتبه مايلي - رسالة فيما يجب معرفته قبل تعلم الفلسفة
٢ - رسالة فى مسائل متفرقة
- رسالة في إثبات المفارقات
- رسالة في العقل
ه - رسالة فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة 1 - رسالة في جواب مسائل سئل عنها
- عيون المسائل
4 أى كتاب المقولات
ه أي
علم
الأخلاق بالنسبة للفرد وللأسرة والمجتمع أو سياسة الفرد لنفسه ولأسرته وسياسة الرئيس للمجتمع
٢٤٤
- إحصاء العلوم
- ما يصح ومالا يصح من أحكام النجوم
١٠ - تحقيق غرض أرسططاليس فى كتاب ما بعد الطبيعة
۱۱ - مقالة في أغراض ما بعد الطبيعة
۱ - شرح رسالة زينون الكبير اليونانى
١٣ - التعليقات
١٤ - كتاب الجمع بين رأيي الحكمين و أفلاطون وأرسطو
١٥ - كتاب تحصيل السعادة
١٦ - کتاب آراء أهل المدينة الفاضلة
۱۷ - كتاب السياسة المدنية
۱۸ - كتاب الموسيقا الكبير
١٩ - التنبيه على سبيل السعادة
٢٠ - فضيلة العلوم والصناعات
۱ - الدعاوى القلبية
ويقول كاراده فو
وكان غرض الفارابي شأن غيره من فلاسفة مدرسته أن يحيط بجميع العلوم ويظهر أنه كان رياضياً بارعاً وطبيبًا لا بأس به وكتب كذلك في العلوم الخفية كما كان إلى جانب هذا موسيقياً متفننا ندين له بأهم رسالة عن نظرية الموسيقا الشرقية وكان يوقع على المرمز ويؤلف الألحان
وقد أثارت عبقريته إعجاب سيف الدولة ولايزال دراويش المولوية يحفظون أغانى قديمة تنسب إليه ٦
وفيما بعد سنتحدث في شيء من التفصيل عن كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أما الآن فلا نريد أن نترك هذا المكان قبل أن نذكر حكاية طريفة عن كتاب للفارابي
1 دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية مادة أبو نصر الفارابي
٢٤٥
كان لها أثر كبير على ابن سينا وهذه الحكاية يقصها ابن سينا نفسه فيقول قرأت كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو فما كنت أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا وأنا ذلك لا أفهمه مع ولا المقصود به وأيست من نفسى وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر فى الوراقين ۷ وبيد دلال مجلد ينادي عليه فعرضه علی فرددته رد متبرم معتقد الا فائدة هذا اشتر هذا منى فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه فاشتريته فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب و ما بعد الطبيعة ورجعت إلى بيتى وأسرعت قراءته فانفتح على فى الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لى محفوظا عن ظهر قلب وفرحت بذلك وتصدقت فى ثانى يوم بشيء كثير على الفقراء
شكرا لله تعالى
وفاته
من
العلم
فقال لى
وفى سنة ٣٣٩ هـ اصطحبه سيف الدولة فى حملته على دمشق فتوفى هناك في السنة نفسها وقد بلغ من العمر ثمانين عاماً وصلى عليه سيف الدولة في نفر خاصته ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير
أما صلاة ابن حمدان فى بعض خواصه على أبي نصر التي عنى المؤرخون بتسجيلها فهي آية مودة وتكريم من سيف الدولة لرجل آتاه الله حكمة تتعالى عن عقول العامة
وقلوبهم "
"
A
المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة
الفلسفة والواقع
ليس هناك - فى المنطق السليم - فلسفة واقعية وإنما هناك أدب واقعى أو وصف
واقعی
۷ سوق الكتب
۸ فيلسوف العرب والمعلم الثاني
٢٤٦
فالأدب - في قسم من أقسامه - هو وصفى يحاول تصوير الواقع في دقة كدقة آلة التصوير أما الفلسفة فإنها كلها مثالية
ولعل من الأسباب التي جعلت الناس يخطئون فى التعبير وفى الفكرة فيتحدثون عن فلسفة واقعية هو التفرقة القديمة بين نزعة أفلاطون ونزعة أرسطو وإطلاقهم على أفلاطون أنه مثالى وعلى أرسطو أنه واقعى
وكان سبب هذه التفرقة هو قول أفلاطون بعالم المثل وحفزه الهمم إلى استشرافه والتطلع إليه وأن يكون سلوك الإنسان في نفسه وسلوك الجماعة في نظمها وقوانينها متمشياً ثمار المعرفة بهذا العالم عالم المثل
مع
بينما ينقض أرسطو هذه النظرية ويعمل - ما استطاع – على هدمها وتقويض
دعائها
ولكن مما لا شك فيه أن أرسطو - مثله فى ذلك مثل أفلاطون كان يريد أن يرقى بالمجتمع وأن يسمو به إلى آفاق من السعادة والخلق والسلوك لا يستمتع بها في واقعه إنه كان يرسم فى نظرياته السياسية والأخلاقية مثلا عليا وأهدافا سامية لا تمت أو لا تكاد تمت بصلة إلى الواقع إنه مثالى فى نظرياته السياسية وفى مذهبه الأخلاق وكل فلسفة إنما هى محاولة لتغيير الواقع فى الآراء وفى السلوك في المعتقدات وفى الأخلاق إنها تصوير لفكرة الفيلسوف عن المثل الأعلى للفرد وللإنسانية كل فلسفة إذن هي مثالية بهذا الاعتبار
وإذا كانت الفلسفة في جميع عصورها مثالية - أو يجب أن تكون كذلك - فإن الأذهان تنحرف حينما تقرب بين كلمة مثالى وكلمة خيالي أو وهمي ذلك أن المذهب الذى يرسمه الفيلسوف إنما هو مذهب يؤمن الفيلسوف كل الإيمان بأن من الممكن تحقيقه
وإذا لم يأخذ الناس به فليس ذلك لأن المذهب مستحيل التحقيق وإنما لعوامل أخرى ليست هي المذهب في نفسه ومثل الإنسانية بالنسبة لمذاهب الفلاسفة مثلها بالنسبة للأديان ومثلها بالنسبة لكل فكرة تدعو إلى الخير والأخوة والسلام
٢٤٧
ترى الإنسانية بعقلها أن الأديان السماوية فى صفاتها الأصلي تحقق لها السعادة ولكن الإنسانية تجرى وراء غرائزها فتقع في الشقاء وتتجرع الآلام وترى الإنسانية بعقلها أن السلام والأخوة يحققان لها أسمى ما تطمح إليه من أمن وتعاون ولكنها بغرائزها الحيوانية تنغمس فى التغالب والاغتصاب والأثرة فتجر على نفسها الكوارث والملمات وما ظلمتهم الفلسفة وما ظلمتهم الأديان وما ظلمتهم أفكار الخير ولكن الناس
أنفسهم يظلمون
مدينة الفارابي
نقول هذا بمناسبة البدء في الحديث عن مدينة الفارابي الفاضلة أو عن فكرته عن المجتمع المثالى وهي فكرة تعتبر مركز الدائرة فى فلسفته أو هي فكرة جمعت فلسفته ذلك أن الفارابي فى هذه المدينة لا يرسم نظاما سياسيا فحسب وإنما يبين آراء أهل
المدينة الفاضلة
إنه يبين معتقداتهم فيما يتعلق بما وراء الطبيعة ويرسم أدلتهم على المعتقدات إنه يبين معتقدهم في الله وفى النبوة فى المبدأ والمصير في الهدف والغاية ويبين نظام سلوكهم كأفراد ونظام سلوكهم كجماعة ونظام صلتهم بالرئيس ويبين الأساس الذي ينبني عليه السلوك
ويبين الضلال الذي تنهار فيه المدن أسبابه وعلله ظواهره ومظاهره نتائجه وثمراته وفى خلال ذلك يتحدث عن الترابط الكونى سمائه وأرضه
وعن الترابط الاجتماعي بين الرئيس والمرء وسين ولا عجب بعد ذلك إذا قلنا إن مدينة الفارابي جمعت - على التقريب فلسفته
اهتمام الفارابي بالمدينة الفاضلة
وقد اهتم الفارابي اهتماما بالغا بموضوع المدينة الفاضلة فقد ألف فيها كتاباً أسماه آراء أهل المدينة الفاضلة وأهمية هذا الكتاب ترجع إلى ناحيتين
أما أولا فلأنه أحاط بالموضوع من جميع أطرافه أى من ناحية الاعتقادات ومن ناحية النظام ومن ناحية السلوك
٢٤٨
وأما ثانيا فلأنه من آخر ما ألف الفارابي إذا لم يكن آخر كتاب ألفه وهو إذا يعتبر تصويراً لرأى الفارابي الأخير
يقول ابن أبي أصيبعة إن الفارابي
ابتدأ بتأليف كتاب المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة والمدينة الفاسقة والمدينة
المتبدلة والمدينة الضالة ببغداد
وحمله إلى الشام في أواخر سنة ٣٣٠
وتممه بدمشق في سنة ۳۳۳ وحرره
ثم نظر فى النسخة بعد التحرير فأثبت فيها الأبواب
ثم سأله بعض الناس أن يجعل له فصولا تدل على قسمة معانيه فعمل الفصول بمصر سنة ٣٣٧ ومن المعروف أن الفارابي توفى سنة ۳۳۹ فكان آخر عهده بهذا الكتاب إذن قبل وفاته
بعامين على أن و الفارابي قد ألف فى الموضوع نفسه كتاب السياسات المدنية ثم إن كتابيه و تحصيل السعادة و التنبيه على سبيل السعادة إنما هما بيان لبعض جوانب المدينة الفاضلة
على أنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن كتاب الفارابي الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو الذى يسخر منه الكثيرون ۹ يعتبر في نظرنا كتاباً حاسما في بيان بعض آراء الفارابي نفسه
۹ يقول هدى بوره في كتاب تاريخ الفلسفة الإسلامية - ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريده وقد دعا و الفارابي إلى رأى ! يبدو اليوم عجيبا شاذا تبرره نزعة فلاسفة المشرق إلى توحيد المذاهب المختلفة ذلك هو أن الفلسفة القديمة يجب أن تكون واحدة أو على الأقل ينبغى ألا يكون هناك تناقض بين قطبيها الكبيرين اللذين يمثلانها وهما أرسطو وأفلاطون فمذهباهما يجب ألا يكونا سوى التعبير عن حقيقة واحدة بأسلوبين مختلفين وعلى هذا يبدو عظماء الفلاسفة من القدماء كأنهم أنبياء حقيقيون يلقبون بالأئمة كما يلقب علماء الدين وتعاليمهم نوع من الوحى يجب أن تبرأ من التناقض والخطأ وكتب و الفارابي في هذا المعنى عدة رسائل كتاب الجمع بين رأبي الحكيمين و أفلاطون الإلهى وأرسطو طاليس وه أغراض أفلاطون وأرسطو وكتاب التوسط بين أرسطو طاليس وجالينوس ويجب أن نلاحظ أن فيلسوفنا كان يعتقد بصحة نسبة كتاب • أثولوجيا إلى أرسطو طاليس وهو كتاب منحول في الأفلاطونية الجديدة - كتب على نهج تاسوعات أفلوطين وقد أدى هذا الخطأ إلى أن يكون أبو نصر فكرة خاطئة إلى حد بعيد عن مذهب المشائين
٢٤٩
والواقع
أن هذا الكتاب مبنى على فكرة سليمة وهى أن الحقيقة لا تخترع ولا تبتدع
وإنما يكشف عنها وسبيل الكشف عن الحقيقة ليس مقصورًا على شخص معين بالذات وكل من أخلص في البحث عنها وأمضى عمره فى الكشف عن جوانبها فإنه سينتهي إلى ما انتهى إليه من يماثله فى الإخلاص وفي الدأب على البحث وليس فى الكشف عن الحقيقة إذن شيء شخصي أو جانب ذاتي ومن الطبيعي كذلك أن يتفق أفلاطون وأرسطو - وقد أخلصا ودأبا على البحث في النتائج التي وصلا
إليها
والأمر
الفكرة إذن في أساسها سليمة وقد حاولتها الأفلاطونية الحديثة من قبل الفارابي ثم جاء و الفارابي وحاولها من جديد ولكنه لم يصاحبه التوفيق فى الجمع بين رأييهما لأنه اعتمد في تصوير آراء و أرسطو على كتاب الربوبية الذي اعتقد - خلافا للواقع أنه لأرسطو بيد أن الطرافة فى كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أنه يصور رأى الفارابي الشخصي في المسائل التي عرض لها فقد انتهى به البحث إلى آراء فى الفلسفة وآمن بها واعتقد أنها الحق فجعلها الأساس وفسر كلام أفلاطون وكلام أرسطو على ضوئها مع أنها رأيه
الشخصي
وسنعتمد في تصوير آراء الفارابي على هذه الكتب جميعها وعلى كتابين آخرين لهما
أهميتها
أحدهما فصوص الحكم وهو كتاب ركز فيه الفارابي جملة من آرائه في أسلوب موجز عليه طابع الأسلوب الصوفى
وثانيهما كتاب عيون المسائل وهو كتاب جمع فيه الفارابي كثيرا من آرائه
الفلسفية
من عوامل الاجتماع الانساني
الناس يجتمعون لأن كل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج – في قوامه وفى أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها هو وحده بل يحتاج إلى قوم يقوم له
كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه وكل واحد من كل واحد بهذه الحال !! فلذلك لا يمكن أن ينال الإنسان الكمال الذى لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية إلا
٢٥٠
باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه من قوامه فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفى أن يبلغ
الكمال
ولهذا كثرت أشخاص الإنسان فحصلوا في المعمورة من الأرض فحدثت منها الاجتماعات الإنسانية ١٠
فمنها الكاملة ومنها غير الكاملة
والكاملة ثلاث عظمی ووسطى وصغرى
فالعظمى اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة والوسطى اجتماع أمة في جزء من المعمورة
والصغرى اجتماع أهل مدينة في جزء من مسكن أمة
ويلاحظ الدكتور على عبد الواحد أن الاجتماع الأول الذي ذكره الفارابي وجعله أكمل المجتمعات الكاملة جميعًا لم يذكره أحد من قبله بل لم يخطر ببال فلاسفة اليونان فهؤلاء لم يفكروا إلا فيما كان يقع تحت مشاهدتهم وهو الدويلات الصغيرة التي تتألف كل دولة منها من مدينة وتوابعها أو من بعض مدن وتوابعها ولعل ذلك يرجع إلى تأثر الفارابي بتعاليم دينه إذ إن الإسلام يهدف إلى اخضاع العالم كله لحكومة الخليفة الذي هو ظل الله في أرضه ۱۱
۱۰ آراء أهل المدينة الفاضلة للقارابي
يقول نصير الدين الطوسي شارحًا فكرة ابن سيناء في هذا الموضوع
و الإنسان لا يستقل وحده بأمور معاشه
لأنه يحتاج إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح لنفسه ولمن يعوله من أولاده الصغار وغيرهم وكلها صناعية ولا يمكن أن يرتبها صانع واحد إلا في مدة لا يمكن أن يعيش تلك المدة فاقدًا إياها أو يتعسر إن أمكن لكنها تتيسر الجماعة يتعاونون ويتشاركون فى تحصيلها يفرغ كل واحد منهم لصاحبه عن بعض ذلك فيتم
بمعارضة وهى أن يعمل كل واحد مثل ما يعمل الآخر
ومعاوضة وهي أن يعطى كل واحد صاحبه من عمله بإزاء ما يأخذه منه من عمله فإذن الإنسان بالطبع محتاج في
تعيشه إلى اجتماع مؤد إلى إصلاح حاله وهو المراد من قولهم [ الإنسان مدنى بالطبع ]
والتمدن في اصطلاحهم هو هذا الاجتماع
۱۱ من كتاب فصول من آراء أهل المدينة الفاضلة للدكتور على عبد الواحد
٢٥١
وإذا كان الفارابي يتحدث عن مجتمع المدينة الفاضلة فليس معنى ذلك أن كلامه خاص بالمدينة ذلك أن كلامه يصدق على المجتمع الأكبر الذى هو العالم كله وعلى المجتمع المتوسط الذي هو القطر
وعلى المجتمع الأصغر الذي هو المدينة وما يحيط بها من قرى تابعة لها وبما أن أعمال الإنسان اختيارية وكان شأن الخير فى الحقيقة ينال بالاختيار والإرادة وكذلك الشر كانت الغاية من الاجتماع إما الاتجاه إلى الشر وإما الاتجاه إلى الخير والمدينة الفاضلة إنما هي المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة والاجتماع الذى يتعاون به على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة هى الأمة الفاضلة وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها يتعاونون على بلوغ السعادة والسعادة الحقيقية إذن إنما هى هدف الاجتماع الفاضل وهذه السعادة إنما تكون ثمرة لمعتقدات ولنظم معينة محددة وسنبتدئ بالحديث عن
المعتقدات
وجود الله
وأول المعتقدات وأهمها هو طبعاً الاعتقاد في وجود الله
والاعتقاد في وجود الله يبنيه الفارابي على دليلين
أما أحدهما وهو المشهور عنه والمعروف به فهو دليل الوجوب والإمكان وهو الدليل الذي أخذه عنه ابن سينا واشتهر به الفلاسفة من بعد الفارابي
وأساس هذا الدليل أن الموجودات على ضربين
أحدهما إذا اعتبرت ذاته لم يجب وجوده ويسمى ممكن الوجود والثانى إذا اعتبرت ذاته وجب وجوده ويسمى واجب الوجود
وممكن الوجود هو ما استوى فى أمره الوجود والعدم فلاغنى إذن لوجوده عن علة وهذه العلة إما أن تكون ممكنة فلابد لها من علة ولا يجوز فيما يتعلق بالأشياء الممكنة و أن تمر بلانهاية فى كونها علة ومعلولة ولا يجوز كونها على سبيل الدور بل لابد من انتهائها إلى شي
٢٥٢
واجب هو الموجود الأول ١٢ وذلك هو الله تعالى ١٣
وأما الدليل الثاني فهو دليل الإتقان فى صنع هذا العالم والعناية به وأن كل شيء من أجزاء العالم وأحواله موضوع بأوفق المواضع وأتقنها على ماتدل عليه كتب التشريحات ومنافع الأعضاء وما أشبيها من الأقوال الطبيعية
صفات الله
ه والفارابي فيا يتعلق بصفات الله يذهب إلى التنزيه المطلق ويصل في أمر التنزيه إلى أقصى غايته ويحقق المعنى العام الشامل الكلى في أوسع معانيه وأبعد أهدالله
القول الله تعالى ليس كمثله شي ولقوله عز وجل
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
اوربما أخذ عليه بعض الناس الإغراق في التنزيه ولكننا لا نفهم حقيقة كيف يؤخذ على الفارابي ذلك أو كيف يمكن أن يوصف الفارابي بالإغراق في أمر أتى به الإسلام
۱ عيون المسائل
۱۳ هذا الدليل هو أحد الأدلة التي استعملها وابن سينا فى إثبات وجود الله وهو يقول عنه في الإشارات تنبيه كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره
فإما أن يكون بحيث من يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون
فإن وجب فهو الحق بذاته - الواجب الوجود من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال إنه ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودًا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا أو مثل شرط وجود علته صار واجباً وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقى له فى ذاته الأمر الثالث وهو الامكان فيكون باعتبار ذاته
الشيء الذي لا يحب ولا يمتنع فكل موجود
إما واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود بذاته
إشارة ما حقه فى نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه من حيث
هو ممكن
فإن صار أحدهما أولى فلحضور شيء أو غيبته
فوجود كل ممكن هو من غيره
وينتهى و ابن سيناء بأن هذا الغير إنما يكون واجبا لأن التسلسل باطل
٢٥٣
ومادام الفارابي يثبت الله حقيقة موجودة فإن كل ما يقوله بعد ذلك في التنزيه لا يمكن
أن يؤخذ عليه وأول شيء ينفيه الإسلام نفيا باتاً حاسماً عن الله هو المادة فالله ليس بمادى أعني أن المادة لا دخل لها في ذاته عز وجل وذلك أيضًا من أوائل ماينفيه الفارابي نفيا باتا حاسما عن الله سبحانه وتعالى
ه ولانه ليس بمادة ولامادة له بوجه من الوجوه فإنه بجوهره عقل بالفعل لأن المانع للصورة أن تكون عقلا وأن تعقل بالفعل هو المادة التي فيها يوجد الشيء فتي كان الشيء في وجوده غير محتاج إلى مادة كان ذلك الشيء بجوهره عقلا بالفعل وتلك حال الأول فهو إذن عقل بالفعل وهو أيضًا معقول بجوهره
فإن المانع أيضًا للشئ من أن يكون بالفعل معقولا هو المادة
وهو معقول من جهة ماهو عقل
لأن الذى هويته عقل ليس يحتاج فى أن يكون معقولا إلى ذات أخرى خارجة عنه تعقله بل هو بنفسه يعقل ذاته فيصير بما يعقل من ذاته عاقلا وعقلا بالفعل وبأن ذاته تعقله يصير معقولا بالفعل
وكذلك لا يحتاج فى أن يكون عقلا بالفعل وعاقلا بالفعل إلى ذات يعقلها ويستفيدها من خارج بل يكون عقلا وعاقلا بأن يعقل ذاته فإن الذات التي تعقل هي التي تعقل فهل عقل من جهة ماهو معقول فإنه عقل وإنه معقول وإنه عاقل هي كلها ذات واحدة وجوهر واحد غير منقسم فإن الإنسان مثلا معقول وليس المعقول منه معقولا بالفعل بل كان معقولا بالقوة ثم صار معقولا بالفعل بعد أن عقله العقل فليس إذن المعقول من الإنسان هو الذى يعقل ولا العقل منه أبدًا هو المعقول ولا عقلنا نحن - من جهة ماهو عقل هو معقول
ونحن عاقلون لا بأن جوهرنا عقل فإن ما نعقل ليس هو الذى به تجوهرنا فالأول ليس كذلك بل العقل والعاقل والمعقول فيه معنى واحد وذات واحدة
وجوهر واحد غير منقسم وكذلك الحال في أنه عالم
٢٥٤
فإنه ليس يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته ولا فى أن يكون معلوماً إلى ذات أخرى تعلمه بل هو مكتف بجوهره في أن يعلم ويعلم وليس علمه بذاته شيئًا سوى جوهره فإنه يعلم وإنه معلوم وإنه علم فهو ذات واحدة وجوهر واحد
وكذلك في أنه حكيم فإن الحكمة هي فعل الأشياء بأفضل علم
وأفضل
العلم هو العلم الدائم الذى لا يمكن أن يزول وذلك هو علمه بذاته ويمضى الفارابي فى التنزيه إلى أبعد حدوده فلا يفرق بين ذات وصفة ويصل بذلك إلى الأحدية المطلقة أو التنزيه المطلق
أسماء الله
أما فيما يتعلق بالأسماء التي ينبغي أن يسمى بها الله سبحانه وتعالى فإنها هي التي تدل في الموجودات التي لدينا ثم في أفضلها عندنا على الكمال وعلى فضيلة الوجود من غير أن يدل شيء من تلك الأسماء فيه هو على الكمال والفضيلة التي جرت العادة أن تدل عليها تلك الأسماء في الموجودات التى لدينا وفى أفضلها بل على الكمال الذى يخصه هو في جوهره
وأيضًا فإن أنواع الكمالات التي جرت العادة أن يدل عليها بتلك الأسماء الكثيرة كثيرة وليس ينبغي أن نظن بأن أنواع كمالاته التي يدل عليها بأسمائه الكثيرة أنواع كثيرة - ينقسم الأول إليها ويتجوهر يجميعها بل ينبغى أن يدل بتلك الأسماء الكثيرة على جوهر واحد ووجود واحد غير منقسم أصلا
إدراكنا لله
وينتهي الفارابي إلى أن الأول أي الله هو فى الغاية من كمال الوجود فكان ينبغى لذلك أن يكون المعقول منه في نفسنا على نهاية الكمال أيضًا ولكننا نجد الأمر غير ذلك - على حد تعبير الفارابي - فما هو السر في عسر تصورنا له
يجيب الفارابي عن ذلك بقوله
ينبغي
أن نعلم أنه من جهته غير معتاص الإدراك إذ كان في نهاية الكمال ولكن
٢٥٥
لضعف قوى عقولنا نحن والملابستها المادة والعدم يعتاص إدراكه ويعسر علينا تصوره ونضعف من أن نعقله على ما هو عليه في وجوده
فإن إفراط كماله يبهرنا فلا تقوى على تصوره على التمام كما أن الضوء هو أول المبصرات وأكملها وأظهرها به بصیر سائر المبصرات مبصرة وهو السبب فى أن صارت الألوان مبصرة ويجب فيها أن يكون كل ما كان أتم وأكبر كان إدراك البصر له أتم ونحن نرى الأمر على خلاف ذلك فإنه كلما كان أكبر كان إبصارنا له أضعف ليس لأجل خفائه ونقصه بل هو فى نفسه على غاية ما يكون من الظهور والاستنارة ولكن كماله بما هو نور يبهر الأبصار فتحار الأبصار عنه كذلك قياس السبب الأول والعقل الأول وعقولنا نحن ليس نقص معقوله عندنا لنقصانه في نفسه ولا عسر إدراكنا له لعسره هو في وجوده لكن لضعف عقولنا نحن عسر تصوره
إذ كلما قربت جواهرنا منه كان تصورنا له أتم وأيقن وأصدق وذلك أنا كلما كنا أقرب إلى مفارقة المادة كان تصورنا له أتم وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلا بالفعل وإذا فارقنا المادة على التمام يصير المعقول منه فى أذهاننا أكمل ما يكون
صفة العلم
ويهمنا على الخصوص أن نتحدث عن رأى الفارابي في صفة العلم فإن هذه الصفة قد أثارت خصومة عنيفة بين رجال الدين ورجال الفلسفة ومن مظاهرها هذا النزاع على تحديدها الذي حدث بين الغزالي وابن رشد لقد جعلها الغزالي من المسائل التي كفر بها الفلاسفة إذ يقولون – حسبما يرى – بعلم الله بالكليات فحسب وينكرون علمه بالجزئيات
أن
أما ابن رشد فإنه يخطئ الامام الغزالي في شرحه لآراء الفلاسفة ويرى الفلاسفة يقولون بعلم الله بالكليات والجزئيات على السواء ونريد هنا أن نبين رأى الفارابي في هذا الموضوع مقتبسين في ذلك نصوصاً له وسيتضح من ذلك أن كلام و ابن رشد و أدق في التعبير عن رأى الفارابي من كلام الإمام الغزالى وأن كلام الغزالي صادق فيما يتعلق بأرسطو وأتباعه ويجو الفلسفة اليونانية على وجه العموم
٢٥٦
يقول الفارابي إن الباري جل جلاله مدير جميع العالم لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا يفوت عنايته شيء من أجزاء العالم على السبيل الذي بيناه في العناية من أن العناية الكلية شائعة في الجزئيات وأن كل شيء من أجزاء العالم وأحواله موضوع بأوفق المواضع وأتقنها على ما يدل عليه كتب التشريحات ومنافع الأعضاء وما أشبهها من الأقاويل الطبيعية ١٤
ويقول و الفارابي فى كتاب الفصوص علمه الأول لذاته لا ينقسم وعلمه الثاني عن ذاته إذا تكثر لم تكن الكثرة فى ذاته بل بعد ذاته وما تسقط من ورقة إلا يعلمها من هناك يجرى القلم في اللوح المحفوظ جريانا متناهيا إلى يوم القيامة
ويقول في كتاب الفصوص أيضًا
ه لحظت الأحدية نفسها فكانت قدرة فلحظت القدرة فلزم العلم الثانى المشتمل على
الكثرة
ويقول في كتاب الفصوص أيضًا
كل ما لم يكن فكان فله سبب ولن يكون العدم سببًا لحصوله فى الوجود والسبب إذا لم يكن سبيا ثم صار سبيا فلسبب صار سبيا
وينتهي إلى مبدأ تترتب عنه أسباب الأشياء على ترتيب علمه بها
فلن تجد فى عالم الكون والفساد طبعاً حادثاً أو اختيارًا حادثاً إلا عن سبب ويرتقى إلى مسبب الأسباب
ولا يجوز أن يكون الإنسان مبتدئا فعلا من الأفعال من غير استناد إلى الأسباب الخارجية التي لیست باختياره وتستند تلك الأسباب إلى الترتيب والترتيب يستند إلى التقدير والتقدير يستند إلى القضاء والقضاء ينبعث عن الأمر وكل شيء مقدر
ونختم هذه الكلمة بقول الدكتور محمد عبد الهادى أبوريدة
ومن المعروف أن أرسطو ينكر علم الذات الإلهية بالجزئيات وهنا يخالفه و الفارابي
مخالفة صريحة فيقول
١٤ كتاب الجمع بين رأيي الحكمين
٢٥٧
إن الله هو المدبر لجميع العالم ويقرر الفارابي هنا أن الأقاويل الشرعية في ذلك
صحيحة وعلى غاية السداد ١٥
خلق العالم
يقول الفارابي في أول سطر من كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها اهـ
وعنه سبحانه وتعالى وجد العالم ولكن وجود الأشياء
عنه لا عن جهة قصد يشبه قصودنا ولا يكون له قصد الأشياء
ولا صدور الأشياء عنه على سبيل الطبع من دون أن يكون له معرفة ورضا بصدورها لكونه عالما بذاته وأنه مبدأ لنظام الخير في الوجود على
عنه
وحصولها وإنما ظهرت الأشياء ما يجب أن يكون عليه فإذن علمه علة لوجود الشيء الذي يعلمه ١٦
ولكن السؤال الذي يختلج في الأفئدة هو
إذا كان الله سبحانه وتعالى واحدا من كل وجه وأحديته مطلقة فكيف يمكن أن يصدر عنه العالم في كثرته وتنوعه
إن الواحد المطلق لا يصدر عنه الكثير فكيف وجد العالم المتكثر عن الله الواحد رأى الفارابي حلا لهذه المشكلة إن الله سبحانه وتعالى صدر عنه - أول ما صدر - العقل الأول واستنجد الفارابي
ببعض الأحاديث منها أول ما خلق الله العقل إلخ وهو حديث ضعيف والعقل الأول وإن كان واحدا إلا أن وحدته ليست مطلقة إنها ليست كوحدة الله
عن هذا العقل صدر عقل ثان هو أقل فى أحديته من العقل الأول ۱٥ ورأى ابن سينا فى هذه المسألة شبيه برأى الفارابي يقول ابن سيناء فى كتاب الإشارات تذنيب فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيات علماً زمانيا حتى يدخل فيه
الآن
والماضي
والمستقبل
فيعرض لصفة ذاته أن تتغير بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالى عن الزمان والدهر ويجب أن يكون عالماً بكل شيء لأن كل شيء لازم له بوسط أو بغير وسط يتأدى إليه بعينه قدره الذي هو تفصيل
قضائه الأول
١٦ عيون المسائل للفارابي طبع و الخانجي ص ٦٨
٢٥٨
واستمرت سلسلة العقول وكل منها أقل فى الوحدة - ممن سبق وهكذا إلى العقل
العاشر
وكانت وحدته بالنسبة إلى العقل الأول فضلا عن الله بعيدة وكأن يشبه أن يكون كثرة وعن هذا العقل العاشر - صدر العالم الأرضى بما فيه من كثرة وتنوع هذه العقول هي الملائكة في لغة الدين
والعالم كله سماؤه وأرضه في رأى الفارابي
۱ - ممكن
- وحادث
إنه ممكن لأنه لا يقوم بنفسه ولا يستمر فى الوجود لولا علته فهو قد وجد عن علة
وهو مستمر في الوجود عن علة وهو حادث لأن له بدها زمانيا
ومن
الخطأ
البين الواضح بل القبيح المستنكر - فيما يرى الفارابي - ظن بعض
الناس أن أفلاطون يقول بحدوث العالم وأن أرسطو يقول بقدمه ذلك أن أرسطو - حسبما يرى الفارابي - مثله كمثل أفلاطون في القول بحدوث العالم أما ما جاء في كتاب أرسطو المسمى السماء والعالم من أن الكل أى العالم ليس له بده زمانى إنما معناه أن العالم لم يتكون تدريجياً شيئًا فشيئًا وأولا فأولا وجزءا جزءا كما يتكون البيت والحيوان فتسبق الأجزاء بعضها بعضًا بالزمان كلا وإنما تكون العالم عن إبداع الباري جل جلاله إياه دفعة بلا زمان وعن حركته حدث الزمان ألم يقل أرسطو في كتاب الربوبية ١٧ إن الهيولى أبدعها الباري لا عن شيء وأنها تجسمت عنه وعن إرادته ثم ترتبت في
مراتبها
ألم يقل أيضًا في كتاب و السماء والعالم وفى كتاب و السماع الطبيعي إنه لا يتأتى قط أن يكون فى حدوث العالم بالبحث والاتفاق والمصادفة بدليل النظام البديع المتقن المحكيم بين أجزائه
۱۷ كان و الفارابي يعتقد خطأ أن كتاب الربوبية هو من تأليف و أرسطو
٢٥٩
يتفق أفلاطون وأرسطو إذن على أن العالم مُبدع من غير شيء ويوافقها الفارابي على ذلك بل وينتقد أفكار أهل الملل في منطقهم الذي لا يحسم الأمر حسماً جازما فقولهم بوجود ماء عنه نشأ هذا العالم لا يدل على أن العالم نشأ عن لا شيء وهذه القضية أيضًا تخالف الفكرة العامة عن الفلاسفة من أنهم يقولون بأزلية العالم مراتب العقول الإنسانية
وإذا كانت العقول السماوية متدرجة فى النزول من العقل الأول إلى العقل العاشر فإن العقول الإنسانية البشرية متدرجة صعودًا
حينما يولد الإنسان يكون عنده عقل بالقوة
وحينما يأخذ في التعليم ينشأ عنده شيئًا فشيئًا بواسطة الشعور والإحساس والتجارب عقل يسمى العقل بالفعل فإذا ما أجهد الإنسان نفسه فى التفكير وواصل الليل بالنهار فى البحث وتعمق في مسائل ما وراء الطبيعة استشرف إلى الملأ الأعلى واتصل به فأصبح لديه و العقل المستفاد وهو عقل استفاده من إشراق الملأ الأعلى عليه أو بتعبير آخر إنه عقل مستفاد من العقل العاشر السماوي بهذا العقل المستفاد يعرف الإنسان ما وراء الطبيعة والملأ الأعلى وأسرار الكون وما يخفى على الآخرين والذين يصلون إلى درجة العقل المستفاد طائفتان من الناس ۱ - الفلاسفة بالبحث وإعمال العقل
- الأنبياء بالمخيلة القوية
وهو على كل حال أسمى مرحلة يمكن أن يصل إليها بنو البشر
هذا مجمل العقائد التي ينبغى أن تسود فى المدينة الفاضلة ولكن هذه المدينة لا تسير بنفسها ولابد لها من رئيس هذا الرئيس لابد أن تتوافر فيه صفات معينة فطرية وأخرى كسبية
صفات الرئيس
يقول الفارابي عن منصب الرئاسة
ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر
عليها
٢٦٠
أحدها أن يكون تام الأعضاء سليمها ومتى هم عضو من أعضائه يعمل يكون به أتى
عليه بسهولة
ثم أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل وعلى حسب الأمر في نفسه ثم أن يكون جيد الحفظ لما يفمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه وفي الجملة لا يكاد
ينساه
ثم أن يكون جيد الفطنة ذكيا إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دل عليها
الدليل
ثم أن يكون حسن العبارة يواتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة ثم أن يكون محبا للتعليم والاستفادة منقادا له سهل القبول لا يؤلمه تعب ولا يؤذيه الكد
الذي يناله منه
ثم أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح مجتنبا بالطبع للعب مبغضا للذات الكائنة عن هذه
ثم أن يكون محباً للصدق وأهله مبغضًا للكذب وأهله ثم أن يكون كبير النفس محبا للكرامة تكبر نفسه بالطبع عن كل ما يشين من الأمور وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها
من
ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيئة عنده ثم أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ومبغضًا للجور والظلم وأهلها يعطى النصف
أهله
ومن غيره
ثم أن يكون قوى العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل هذه هي الصفات الفطرية التى يرى الفارابي أنه يجب أن تكون في الرئيس واجتماعها من غير شك فى إنسان عسر نادر لذلك لا يوجد من فطر على هذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس على أنه إذا تحققت في إنسان ما هذه الصفات الفطرية فلا يستأهل أن يكون رئيسا إلا إذا توافرت فيه شروط مكتسبة وهذه بطبيعة الحال لا تتوفر إلا بعد كبره أحدها أن يكون حكيماً
٢٦١
والحكيم عند الفارابي هو الذي يوحى الله عز وجل إليه بتوسط العقل الفعال هذا العقل الفعال الذي يسميه الفارابي روح القدس و الروح الأمين وثاني الشروط أن يكون عالماً حافظاً للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون للمدينة
محتذيا بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها
وثالث الشروط أن يكون له جودة استنباط فما لا يحفظ عن السلف فيه شريعة ويكون فما يستنبطه في ذلك محتديا حذو الأئمة الأولين
ورابع الشروط أن يكون له جودة روية وقوة استنباط لما سبيله أن يعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التى تحدث مما ليس سبيلها أن يسير فيه الأولون ويكون متحريا بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة
وخامس الشروط أن يكون له جودة إرشاد بالقول إلى شرائع الأولين وإلى التي
استنبطت بعدهم مما احتذى فيه حذوهم
وسادس الشروط أن يكون له جودة ثبات ببدنه فى مباشرة أعمال الحرب وذلك أن يكون
معه الصناعات الحربية الخادمة الرئيسية
وإذا ما تولى هذا الرئيس منصة الحكم فى المدينة فإنه يوجهها لا محالة نحو الخير أو نحو
السعادة
الهدف العام للمدينة والهدف العام للمدينة وللاجتماع على وجه العموم إنما ينبغي أن يكون بالسعادة والسعادة كما يكون من عناصرها الاعتقاد فإنه يكون من عناصرها الأفعال
ويوجز الفارابي ذلك فيقول
إنما يبلغ الإنسان السعادة
بأفعال ما إرادية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنيه وليست بأى أفعال اتفقت بل بأفعال ما محددة مقدرة تحصل عن هيئات ما وملكات ما مقدرة محددة وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة
والسعادة هي الخير المطلوب لذاته وليست تطلب أصلا ولا فى وقت من الأوقات لينال
بها شيء آخر وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها
٢٦٢
والأفعال التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل وهذه خيرات لا لأجل ذواتها بل إنما هى خيرات لأجل السعادة والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور وهى الأفعال القبيحة والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس
تعريف السعادة
ولكن ما هى السعادة
إن السعادة فيا يرى الفارابي هى أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج فى قوامها إلى مادة وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام في جملة الجواهر المفارقة للمواد وأن تبقى على تلك الحال دائما أبدا إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل
الفعال
تقدير الفارابي
وننتهى من هذه الدراسة عن الفارابي بذكر رأى ابن طفيل عنه ابن طفيل له قيمته الكبرى باعتباره صادرًا عن فيلسوف
يقول ابن طفيل
وأما ما وصل إلينا من كتب أبى نصر فأكثرها فى المنطق
ورأى
وما ورد منها في الفلسفة فهى كثيرة الشكوك فقد أثبت فى كتاب و الملة الفاضلة بقاء النفوس الشريرة بعد الموت فى آلام لا نهاية لها بقاء لا نهاية له
ثم صرح فى السياسة المدنية بأنها منحلة وصائرة إلى العدم وأنه لا بقاء إلا للنفوس الكاملة ثم وصف فى كتاب الأخلاق شيئًا من أمر السعادة الإنسانية وأنها إنما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار ثم قال عقب ذلك كلاما هذا معناه وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز
فهذا قد أيأس الخلق جميعا من رحمة الله تعالى
٢٦٣
وصير الفاضل والشرير فى رتبة واحدة إذ جعل مصير الكل إلى العدم وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر
هذا
مع ما صرح به من سوء معتقده فى النبوة وأنها بزعمه للقوة الخيالية خاصة وتفضيله الفلسفة عليها إلى أشياء ليس بنا حاجة إلى إيرادها
الفصل الثالث عشر
الشيخ الرئيس ابن سينا
جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو أن يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولذلك فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل وعبرة للمحصل فمن سمعه عنه فليتهم نفسه لعلها لا تناسبه وكل ميسر لما خلق له
فاشماز
ابن سينا
م الله الرحمنِ الرَّحِ
اللهم إنا نسألك الهداية والتوفيق وبعد فإن ابن سينا ۱ قد احتل في الأدب العالمى -
۱ حياة و ابن سينا بقلمه إلى أن اتصل به تلميذه و الجوزجانی ثم بقلم الجوزجاني في شيء من الاختصار نقلا عن ابن أبي أصيبعة و القفطى وغيرهما
قال الشيخ الرئيس إن أبي كان رجلا من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى فى أيام نوح بن منصور واشتغل بالتصوف وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميشن من ضياع بخاری وهى من أمهات القرى وبقربها قرية يقال لها أفشنه وتزوج والدى منها بوالدتى وقطن بها وسكن وولدت منها بها ثم ولد أخى ثم انتقلنا إلى بخارى وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضي مني العجب
وكان أبي ممن أجاب داعى المصريين ويعد من الإسماعيلية وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذى يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخى وكانوا ربما تذاكروا بينهم وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسى وابتدعوا يدعونى أيضًا إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند وأخذ والدى يوجهنى إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه ثم جاء إلى بخاري أبو عبد الله الناتلى وكان يدعى المتفلسف وأنزله أبى دارنا رجاء تعلمى منه وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد وكنت من أجود السالكين وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذى جرت عادة القوم به ثم بدأت بكتاب إيساغوجي على الناتلي ولما ذكر لى حد الجنس أنه هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله ! ويعجب منى كل العجب وحذر والدى من شغلى بغير العلم وكان أى مسألة قالها لى أتصورها خيرا منه حتى قرأت ظواهر المنطق عليه وأما دقائقه فلم يكن عنده
منها خبرة
ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق وكذلك كتاب إقليدس فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه ثم توليت بنفسى حل بقية الكتاب بأسره ثم انتقلت إلى المجسطى ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال الناتلى =
٢٦٥
٢٦٦
تول قراءتها وحلها بنفسك ثم اعرضها على لأبين لك صوابه من خطئه وما كان الرجل يقوم بالكتاب وأخذت أحل ذلك الكتاب فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما عرضته عليه وأفهمته إياه ثم فارقني
الناتلي متوجها إلى كركانج واشتغلت أنا بتخيل الكتب من النصوص والشروح من الطبيعي والإلهي وصارت أبواب العلم تتفتح على
6
ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون على علم الطب ! وتعهدت المرضى فانفتح على من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة مالا يوصف ! وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة !
ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصفاً فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة وفى هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها ولا اشتغلت في النهار بغيره وجمعت بين يدى ظهورًا فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت لها مقدمات قياسية ورتبتها في تلك الظهور ثم نظرت فيما عساها تنتج وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لى حقيقة الحق فى تلك المسألة وكلما كنت أتحير في مسألة أو لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لى المغلق وتيسر المعسر وكنت أرجع بالليل إلى دارى وأضع السراج بين يدى وأشتغل بالقراءة والكتابه فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلى قوتى ثم أرجع إلى القراءة ومها أخذنى أدنى نوم أحلم بتلك المسألة بأعيانها حتى إن كثيرا من المسائل اتضح لى وجوهها في المنام ۱ وكذلك حتى استحكم معى جميع العلوم ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنسانى وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزد فيه إلى اليوم حتى أحكمت علم المنطق الطبيعي والرياضي
ثم عدلت إلى الالهى وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة كنت لا أفهم ما فيه والتبس على غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة ! وصار لى محفوظا وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به ويئست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه وإذا أنا فى يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين ٢ وبيد دلال مجلد ينادى عليه فعرضه على فرددته رد متبرم معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم فقال لى اشتر منى هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة ورجعت إلى بيتى وأسرعت قراءته فانفتح
=
۱ وهي حالة يعرفها الدارسون ولا تستغرب فى رأى العلم الحديث لأن الوعى الباطن يتنبه في هذه الحالة فيتعاون العقلان ولا ينفرد العقل الظاهر بالتفكير عن الشيخ الرئيس ابن سينا للعقاد سوق الكتب
٢٦٧
على في الوقت غراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظاً على ظهر القلب وفرحت بذلك وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرا لله تعالى
وكان سلطان بخارى فى ذلك الوقت نوح بن منصور واتفق له مرض حار الأطباء فيه وكان اسمى
E
اشتهر بينهم بالتوفر على القراء فأجروا ذكرى بين يديه وسألوه إحضاري فحضرت وشاركتهم في مداواته وتوسمت بخدمته فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب فأذن لى فدخلت دارًا ذات بيوت كثيرة في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض في بيت منها كتب العربية والشعر وفى آخر الفقه وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد فطالعت فهرست كتب الأوائل وطلبت ما احتجت إليه منها ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضًا من بعد فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها وعرفت مرتبة كل رجل في علمه فلما بلغت ثمان عشرة سنة من عمرى فرغت من هذه العلوم كلها وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم أنضج وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء وكان في جوارى رجل يقال له أبو الحسين العروضى فسألني أن أصنف له كتاباً جامعاً في هذا العلم فصنفت له المجموع وسميته به وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي ولى إذ ذاك إحدى وعشرون
معی
سنة من عمرى وكان في جوارى أيضا رجل يقال له أبو بكر البرقى خوارزمى المولد فقيه متوحد في الفقه والتفسير والزهد مائل إلى هذه العلوم فسألنى شرح الكتب له فصنفت له كتاب الحاصل والمحصول في قريب من عشرين مجلدا وصنفت له في الأخلاق كتاباً سميته كتاب البر والإثم وهذان الكتابان لا بوجدان إلا عنده أحدا فلم يعر ينسخ منهما
ثم مات والدى وتصرفت بي الأحوال وتقلدت شيئا من أعمال السلطان ودعتنى الضرورة إلى الارتحال عن بخارى والانتقال إلى كركانج وكان أبو الحسين السهيلي المحب لهذه العلوم بها وزيراً وقدمت إلى الأمير بها وهو على بن مأمون وكنت على زى الفقهاء إذ ذاك وأثبتوا لى مشاهرة دارة بكفاية مثلى ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى نسا ومنها إلى بارود ومنها إلى طوس ومنها إلى شقان ومنها إلى سمينقان ومنها إلى
جاجرم رأس حد خرسان ومنها إلى جرجان وكان قصدى الأمير قابوس فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك تم مضيت إلى دهشان ومرضت بها مرضًا صعبا وعدت إلى جرجان فاتصل أبو عبيد الجوزجانى بي وأنشأت فى حالى قصيدة فيها بيت القائل عظمت فليس تق علمت قال أبو عبيد الجوزجاني صاحب الشيخ الرئيس فهذا ما حكى لى الشيخ من لفظه ومن ها هنا شاهدت أنا من أحواله
مصر
واسعى
علا
المشترى
٢٦٨
=
كان يجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي يحب هذه العلوم وقد اشترى للشيخ دارا في جواره وأنزله بها وأنا أختلف إليه كل يوم أقرأ و المجسطى وأستملى المنطق فأملى على المختصر الأوسط في المنطق وصنف و الأبي محمد الشيرازي كتاب المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية وصنف هنا كتباً كثيرة كأول القانون مختصر المجسطى وكثيرا من الرسائل
حتى
ثم انتقل إلى الرى واتصل بخدمة مجد الدولة وكان بمجد الدولة إذ ذاك غلبة السوداء فاشتغل بمداواته وصنف هناك كتاب المعاد وأقام بها إلى أن قصد شمس الدولة وعالجه من مرض القولنج شفاه الله وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة ورجع إلى داره بعدما أقام هناك أربعين يوما بلياليها وصار من ندماء الأمير حتى تقلد الوزارة له ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم فكيسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأغاروا على أسبابه وأخذوا جميع ما كان يملكه وسألوا الأمير قتله فامتنع منه وعدل إلى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم فتوارى فى دار الشيخ أبي سعيد بن دخدوك أربعين يوماً فعاود الأمير شمس الدولة القولنج وطلب الشيخ فحضر مجلسه فاعتذر الأمير إليه بكل الإعتذار فاشتغل بمعالجته وأقام عنده مكرما مبجلا وأعيدت الوزارة إليه ثانياً ثم سألته أنا شرح كتب ه أرسطو طاليس فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك فى ذلك الوقت ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صح عندى من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين ولا اشتغال بالرد عليهم فعلت ذلك فرضيت به فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه كتاب الشفاء وكان قد صنف الكتاب الأول من القانون وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم وكنت أقرأ من الشفاء نوبة وكان يقرئ غيرى من القانون نوبة فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم وهيئ مجلس الشراب بآلاته واستمر كذلك إلى أن توفى شمس الدولة وتولى ابنه مكانه وأبى الفيلسوف أن يتولى الوزارة له وكاتب و علاء الدولة سرا بطلب الانضمام له وأقام في دار أبي غالب العطار متواريا وطلبت منه إتمام كتاب الشفاء فاستحضر أبا غالب وطلب الكاغد والمحبرة فأحضرهما وكتب الشيخ في قريب من عشرين جزءا على الثمن بخطه رءوس المسائل كلها وبقى فيه يومين حتى كتب رءوس المسائل كلها بلاكتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه بل من حفظه وعن ظهر قلبه ثم ترك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات ماخلا كتابي الحيوان والنبات وابتدأ بالمنطق وكتب منه جزءا ثم اتهمه و تاج الملك بمكاتبة على الدولة وأنكر عليه ذلك وحث فى طلبه فدل عليه بعض أعدائه فأخذوه إلى قلعة يقال لها فردجان وأنشأ هناك قصيدة منها
دخولى
باليقين كما تراه
وكل
الشك في أمر الخروج وبقى فيها أربعة أشهر ثم أفرج عنه و ابن شمس الدولة و ورده إلى همدان فنزل في دار العلوى =
٢٦٩
واشتغل هناك بتصنيف المنطق من كتاب الشفاء وكان قد صنف بالقلعة كتاب الهدايات ورسالة حي بن يقظان وكتاب القولنج ثم عن للشيخ التوجه إلى أصفهان فخرج متنكرا وأنا وأخوه وغلامان فى زى الصوفية إلى أن وصلنا إلى طيران على باب أصفهان ! بعد أن قاسينا شدائد في الطريق فاستقبلنا أصدقاء الشيخ وندماء الأمير علاء الدولة وخواصه
وحضر مجلس و علاء الدولة فصادف في مجلسه الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله ثم رسم الأمير علاء الدولة ليالى الجمعات مجلس النظر بين يديه بحضرة سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم والشيخ من
جملتهم فما كان يطاق فى شيء من العلوم واشتغل فى أصفهان بتتميم كتاب الشفاء ففرغ من المنطق
وكانت فترة خصبة فى التأليف وتنقيح كتب المتقدمين وتهذيبها وإصلاح التقويم المعمول به كان من عجائب أمر الشيخ أنى صحبته وخدمته خمسا وعشرين سنة فما رأيته وقع له كتاب ينظر فيه على الولاء بل كان يقصد المواضع الصعبة منه والمسائل المشكلة فينظر ما قاله مصنفه فيها فيتبين مرتبته في ودرجته في الفهم
العلم
وكان الشيخ جالساً يوماً من الأيام بين يدى الأمير وأبو منصور الجبائي حاضر فجرى عن اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره فالتفت أبو منصور إلى الشيخ يقول إنك فيلسوف وحكيم ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضى كلامك فيها فاستنكف الشيخ من هذا الكلام وتوافر على درس كتب اللغة ثلاث سنين واستهدى كتاب تهذيب اللغة من خراسان من تصنيف أبي منصور الأزهرى فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها وأنشأ ثلاثة قصائد ضمنها ألفاظاً غريبة من اللغة وكتب ثلاثة كتب أحدها على طريقة و ابن العميد والآخر على طريقة الضابي والآخر على طريقة الصاحب وأمر بتجليدها وإخلاق جلدها ثم أوعز إلى الأمير فعرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبالي وذكر إنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد فيجب أن تقرأها وتقول لنا ما فيها فنظر إليها و أبو منصور
وأشكل عليه كثير مما فيها فقال له الشيخ إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور فى الموضع الفلانى من كتب اللغة وذكر له كثيرا من الكتب المعروفة في اللغة كان الشيخ قد حفظ تلك الألفاظ منها فقطن أبو منصور إلى أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ وأن الذي حمله عليه ما جبهه به فى ذلك اليوم فاعتذر إليه ثم صنف الشيخ كتاباً في اللغة سماه لسا العرب لم يصنف في اللغة مثله ولم ينقله إلى البياض حتى توفى فبقى على مسودته لم يهتد أحد إلى ترتيبه وكان قد حصل للشيخ تجارب كثيرة فيما باشره من المعالجات عزم على تدوينها في كتاب القانون وكان ة علقها على أجزاء فضاعت من ذلك أنه صدع يوماً فتصور أن مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه وأن
لا يأمن ورماً
۷۰
شرقيه وغربيه - مكانة لم تتح إلا لأفراد قلائل من العباقرة الأفذاذ ولقد أثارت شخصيته القوية أحاسيس الناس من مختلف الطبقات فأخذ بعضهم يروى ما يشبه الأساطير عن ذكائه النادر وعن طبه الذي وصل إلى سر الخلود وعن سحره الذي يكتنه به سر الغيب في حين يتحدث آخرون عن دهائه ومكره أو عن ملذاته وأهوائه ن حياته الصاخبة المليئة بالخطر ولقد بذل كثير من العلماء - شرقيين وغربيين - جهودًا كبيرة فى تحقيق مؤلفاته ونشرها ودراستها وتكوين فكرة صحيحة عن مؤلفها وكثرت المقالات والكتب التي تصور حياة ابن سينا وآراءه وكثر كذلك الجدل بين العلماء في مدى تأثر ابن سينا بغيره من بيئته أو من خارج بيئته معاصرين كانوا أو متقدمين عليه في الزمن ذلك فإن ابن سينا لم ينل تقديرًا عادلا بعد مماته كما لم ينل تقديرًا عادلا في أثناء ومع
حياته
أما العامة وأشباههم فقد انحرفوا به إلى زمرة السحرة والمنجمين أو الزنادقة والملحدين
يحصل فيه فأمر باحضار ثلج كثير ودقة ولفه فى خرقة وغطى رأسه بها وفعل ذلك حتى قوى الموضع عن قبول تلك المادة حتى عوفى ومن ذلك أن امرأة مسلولة و بخوارزم أمرها ألا تتناول شيئًا من الأدوية سوى و الجلنجين السكرى حتى تناولت على الأيام مقدار مائة وشفيت المرأة وكان الشيخ قوى القوى كلها وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب وكان كثيرا ما يشغل
به فأثر في مزاجه
ومرض الشيخ وكان فى حاجة إلى الراحة ولكنه لم يفتر له نشاط فكان يعالج نفسه وينتكس إلى أن علم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض فاهمل مداواة نفسه وأخذ يقول المدبر الذي كان يدبر بدنى قد عجز عن التدبير والآن فلا تنفع المعالجة ثم نفض يديه من الدنيا واغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات وكان موته فى سنة ثمانى وعشرين وأربعمائة وقبره تحت السور من جانب القبلة من همدان وقيل إنه نقل إلى
أصفهان ومن أشهر كتب و ابن سينا فى الفلسفة كتاب الشفا وكتاب النجاة وكتاب منطق المشرقيين وكتاب الإشارات ومن رسائله فى الفلسفة والحكمة حي بن يقظان وفى إثبات النبوات وفي المبدأ والمعاد وقصة الطير وفى الطب كتاب القانون
۷۱
وكما أنهم انحرفوا بأبي نواس فألبسوه شخصية مهرج كذلك انحرفوا بابن سينا فجعله بعضهم وليا من كبار الأولياء تستمد منه النفحات ويتبرك به ويزار ضريحه وجعله بعضهم من أئمة السحر أو من كبار الملحدين أما الخاصة فقد تضاربت آراؤهم واختلفت وعلى رغم تضاربها واختلافها فإنها تكاد تنتهى صراحة أو ضمناً إلى أن ابن سينا كان مجرد شارح أو مقلد لغيره إنه أرسطي أو أفلاطونى أو أفلوطيني أو مقلد لمقلد إنه فارابي ومن الغريب أنك إذا درست
حياة ابن سينا وآراءه وجدت لكل دعوى من دعاوى العامة والخاصة سندا وتأييدا كانت حياة ابن سينا مفعمة بضروب مختلفة من الأحاسيس والانفعالات والعواطف لقد عاش الحياة بالعرض لا بالطول وكانت حياته كما أرادها عريضة وقصيرة لا طويلة ضيقة لقد انتشى من الكأس المترعة واستمتع بالغيد الأماليد وسكرت روحه بتناغم الألحان واسمتع بشهوات السمع والبصر ولكنه أيضًا لجأ إلى الله مخلصاً وابتهل إلى مبدع الكل طالبًا التوفيق والعون وكم شهده المسجد وشهده بيته مستقبلا القبلة متوجها إلى الله بقلب سليم وكم أكب على القرآن قارنا و دارسا وشارحا وكم شهده الفقراء متصدقًا عليهم مداويا لمرضاهم لوجه الله لا يريد منهم جزاء ولا شكورا
ووصل ابن سينا من المجد السياسي إلى مرتبة ليس فوقها إلا الملك ولكنه أيضًا أحس
الذلة والهوان طريدًا مستخفيًا أو بين جدران السجن ومنحه الله ذكاء نادرا فاستغله في السياسة ولكنه استغله خير استغلال في الناحية العلمية
لقد كان في سن السابعة عشرة ممن يشار إليهم بالبنان ونجح وهو في هذه السن فيما لم ينجح فيه كبار الأطباء واستمر نجاحه في كل ميدان يطرقه إلى أن انتهت به الحياة كما يرى
القارئ ذلك واضحا في حياته التي ذكرناها في الهامش
وكان لابن سينا أنصار وكان له أعداء ورفعه أنصاره إلى الثريا ونزل به أعداؤه إلى أدنى المراتب وأقلها ولا يزال ابن سينا برغم مرور العصور يجد له المناصرين والمعارضين
لقد وصل الأمر بالعروضي السمرقندى أن يرى أن كل من يعترض على ابن سينا فإنه و يخرج نفسه من زمرة أهل العقل ويسلكها في مسالك المجانين ويعرضها في مجمع أهل العته وقد انتقد مرة رجل كتاب القانون لابن سينا فلما سمع بذلك و العروضي السمرقندى
۷
ذهب لرؤية الرجل بعد أن قرأ الكتاب ثم كتب عن النقد وصاحبه وقد رأيت الرجل والكتاب أما الرجل فمعتوه وأما الكتاب فمكروه
وفى مقابل هذا يقول ابن الصلاح عن ابن سينا لم يكن من علماء الإسلام بل كان شيطانا من شياطين الإنس ورأى فيمن يدرس مؤلفات ابن سينا أن من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى
وإذا كان و ابن سينا قد أثار فى الماضى الإعجاب الذي كاد يكون عبادة والكره الذي كاد يكون كفرًا فإن أنصاره وخصومه الآن من المعتدلين الذين يهمهم جميعا الوصول إلى مقطع الحق في أمره
ومن أجل المساهمة فى توضيح الفكرة عن ابن سينا قمت بهذا البحث عن تصوفه واعتمدت فيه كل الاعتماد على كتاب الإشارات وخاصة على الفصول الثلاثة الأخيرة منه وقد تعمدت الاعتماد على هذا الكتاب بالذات وعلى الفصل التاسع بالذات لأن هذا الكتاب يعبر عن رأى ابن سينا في دور النضج وهذه الفصول أوسع مرجع منظم عن تصوف ه ابن سينا والفصل التاسع يعتبر قمتها ومن أجل ذلك اقتصرنا عليه أما عن قيمة كتاب الإشارات فيقول ابن أبي أصيبعة إنه آخر ما صنف ابن سينا في الحكمة وأجوده وكان يضن به ويقول الدكتور إبراهيم مدكور هذا الكتاب من المؤلفات السينوية يتيمة العقد وجوهرته الثمينة وثمرة النضوج الكامل يمتاز بسمو أسلوبه وعمق أفكاره وتعبيره عن آراء ه ابن سينا الخالصة التي لا تشوبها نظريات المدارس الأخرى ۳ وقد كان ابن سينا نفسه يعتز بهذا الكتاب ويرى أنه أبان فيه عن زبدة الحق ويوصى الإخوان أن يصونوه عمن ليس بأهل له وبين الشروط التي يجب أن تتوافر فى المستأهلين للاطلاع على هذا الكتاب كما سيراه في نهاية هذه الدراسة
ولقد نال هذا الكتاب شهرة واسعة بين أرجاء العالم فقد شرحه الكثيرون من متفلسفى العرب من بينهم ابن كمونة ونصير الدين الطوسى والإمام فخر الدين الرازي ولم يكتف الامام الرازی بشرحه بل قام بتهذيبه فى كتاب سماه لباب الإشارات ولقد ترجم
۳ الدكتور مدكور في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق
۷۳
الكتاب إلى الفارسية وترجمه ابن العبرى إلى السريانية وترجمت الفصول التي تعرضنا لها
إلى الفرنسية
والفصول الثلاثة التي يختم بها ابن سينا الكتاب تكون وحدة منسجمة مرتبطة أنها تتحدث عن موضوع السعادة يتحدث ابن سينا فى الجزء الأول منها عن اللذة من ناحية ماهيتها وأنواعها ومن ناحية أسبابها وعوائقها وينتهى بإثبات اللذة العقلية وبإثبات أنها أسمى لذة وكأن المطلوب بالذات من هذا النمط ٤ إثبات اللذة العقلية وكأنه عناها بالبهجة والسعادة التي عنون النمط بها وليست السعادة الإنسانية شيئًا آخر غير هذه اللذة العقلية ومن وصل إليها فهو العارف وإذا كان الجزء الأول فى البهجة والسعادة فالجزء الثانى من البحث إنما هو في مقامات العارفين
ولعلنا نلحظ أن القسم الأول من الموضوع يستدعى بطريق طبيعي القسم الثاني فالسعيد
هو و العارف والعارف هو الصوفى وللعارفين أحوال ومقامات ودرجات فما هي أحوالهم وما هى مقاماتهم وهنا يتحدث ابن سينا عن التصوف حديث الدارس الواعي وفى ذلك يقول الفخر الرازي
هذا الباب أجل ما فى هذا الكتاب فإن ابن سينا رتب علوم الصوفية ترتيباً ما سبقه من
قبله ولا لحقه من بعده
وهذا الباب هو الذي ركزنا عليه
ولهؤلاء العارفين آيات وخوارق تصدر عنهم وهذا هو موضوع النمط الثالث إنهم يتركون الأكل مدة مديدة ويخبرون بالغيب ويتصرفون في العناصر فما هي أسباب ذلك ما هى أسرار الآيات التي تصدر عن العارفين
هذا هو موضوع القسم الثالث من البحث قلنا إن موضوع هذا البحث هو السعادة ويمكننا أن نقول أيضًا إن موضوع هذا البحث
هو التصوف
إنه التصوف بحسب ما رسمه ابن سينا ولكن ابن سينا فى رسمه له لم يحد عن طريق
٤ أي الفصل
٢٧٤
التصوف البحت تصوف و الجنيد وغيره من أئمة العارفين وليس لابن سينا في هذا شيء من الابتكار من ناحية الموضوع إذ ليس فى التصوف ابتكار من ناحية الموضوع ولكن الفضل كل الفضل لابن سينا إنما هو فى هذا العرض البارع هذا العرض الذي لم يسبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده على حد تعبير الإمام الرازي
نقول إن التصوف لا يمكن أن يوجد فيه ابتكار من ناحية الموضوع إنما يمكن أن يوجد فيه انحراف عن الجادة ويمكن أن يوجد فيه الخلط في رسم الطريق والخطأ في إتباع السنن
الصحيح
ليس هناك إذا تصوف فلسفى وتصوف صوفى وإنما هناك فهم صحيح وفهم سقيم لمسائل التصوف وابن سينا فهم التصوف الصحيح على حقيقته وعرضه في قوة وفى براعة وسواء نظرنا إلى موضوع التصوف أو إلى طريقه لدى ابن سينا فإننا لا نجد فرقاً ما بينه وبين غيره من الصوفية اللهم إلا أنهم وصلوا إلى الدرجات التي حام حولها و ابن سينا وعبروا البحر الذى لم يصل ابن سينا إلى حافته
إن و ابن سينا يعرض التصوف كما فهمه من دراسته للصوفية وأحوالهم إنه مسجل لظاهرة رآها في بعض معاصريه وسمع عنها كثيرًا وقرأ آثار من اختارهم الله للقائه من الصوفية السابقين وقرأ عن أحوالهم أيضًا
ليس له إذن تجديد وليس مبتكرًا وليس صحيحاً ما تتجه إليه الكثرة الكثيرة من مؤرخى الفلسفة في العصر الحديث من أن تصوف و ابن سينا متميز عن مذاهب الصوفية وأهل السنة من المسلمين فليس مذهبًا يدعو إلى الزهد والانخلاع عن العالم بل هو مذهب عقلى ينتهي إلى انتصار الذهن وإشراق العقل وتزكية النفس لتكون مستعدة لتلقى فيض العقل الفعال أو من أن ابن سينا اعتنق مختلف آراء و الفارابي الصوفية وأن وأخص خصائص النظرية الصوفية التي قال بها الفارابي أنها قائمة على أساس عقلى فليس تصوفه بالتصوف الروحى البحت الذى يقوم على محاربة الجسم والبعد عن اللذائذ لتطهر النفس وترقى مدارج الكمال بل هو تصوف نظرى يعتمد على الدراسة والتأمل وطهارة النفس في رأيه لا تتم عن طريق الجسم والأعمال البدنية فحسب بل عن طريق العقل والأعمال الفكرية أولا وبالذات ليس في التصوف مذاهب مختلفة ولا مدارس متنوعة وإنما هو سنن واحد يخطئه من
۷۵
يخطئه وينهج سبيله من هم ميسرون له بل إن أمثال هذه الآراء متناقضة فإنه لا شك أن صفاء الذهن وإشراق العقل وتزكية النفس ليس السبيل إليها التخمة والانغماس في ضجيج العالم وعجيجه وإنما ذلك يستلزم الزهد والانصراف كلية إلى قدس الجبروت على حد تعبير ابن سینا نفسه
ومما لا شك فيه أيضًا أن العمل ليس غاية فى نفسه وليس هدفا يطلب لذاته بالنسبة
للصوفية وإنما هو مرحلة ضرورية لابد منها لبعض الفطر التي للمادة عليها سلطان الأعمال البدنية مرحلة ومركزها بالنسبة للتصوف هو ما يحدده في دقة الإمام الرازي فى شرحه الإشارات حيث يقول
المقصود من الرياضيات البدنية حصول الرياضيات القلبية وإذا حصل المقصود كان
الاشتغال بالوسيلة عبثا بل ربما كان عائقا أن الصوفية ومن فهموا طريقتهم يرون أن المرحلة الحاسمة في سبيل الإشراق إنما والواقع هي الرياضة الروحية التي يعبر عنها أيضًا بالرياضة القلبية أما الأعمال البدنية فإنها ليست بوسيلة صحيحة بل ليست بوسيلة قط للإشراق ذلك هو رأى الصوفية أنفسهم إنهم يرون أن
الأساس هو الرياضة الروحية ويجب من أجل إقامته إزالة كل الأسباب العائقة فإذا كان الشخص زاهدًا بفطرته عازفاً عن ضجيج العالم وصخبه فليس هناك من رجال التصوف من ينصحه بأعمال بدنية أيا كانت أما إذا كان منغمساً فى ملذاته وشهواته فيجب إزعاجه عنها في قوة حاسمة لأنها عائقة عن اتخاذ السبل الصحيحة للوصول إلى الحق ولم يتحدث ابن سينا عن الأعمال البدنية لأن المقياس فيها يختلف باختلاف الطبائع فلا يمكن رسمها في تحديد يتناسب مع كل طبقة وإذا رسمت لا يمكن فرضها كشرط أساسي ذلك أنه قد لا يحتاج الإنسان قط إلى محاربة الجسم أو تعذيب البدن ومع ذلك فإن ابن سينا
يقول في صراحة إن الانصراف إلى البدن وإلى شواغله وعلائقه صارف للإنسان عن التطلع إلى كماله المناسب وإن الانفكاك عن الشواغل شرط في نيل الغبطة العليا
بقيت مسألة مهمة هي مسألة تأثر و ابن سينا فى نظريته الصوفية بغيره لقد قال
٢٧٦
ه ابن سينا بالاتصال بالملأ الأعلى فهل ابتدع نظريته تلك أم قالها متأثراً فيها بغيره يعزو بعض المؤرخين للفلسفة هذه النظرية إلى أرسطو ولست أدرى حقا كيف تعزى
إلى أرسطو نظرية كهذه وهو بطبيعته وبفلسفته بعيد عنها كل البعد ! إن أرسطو واقعى يتطلع إلى الأرض وهذه النظرية روحية تستشرف إلى السماء
ولعل الأقرب إلى المعقول أن تعزى هذه النظرية إلى أفلاطون أو أفلوطين كما زعم كثيرون ولكننا حقيقة يأخذنا العجب من أن بعض الناس يحاولون دائما إيجاد أصل أجنبي للنظريات التي تنبت فى البيئة الإسلامية ويعملون جاهدين على إيجاد مصدر قدیم یونانی أو فارسي أو هندى لكل ما هو إسلامي ولا أدل على ذلك من هذه النظرية نفسها التي نحن
بصددها
جميع
إن فكرة الاتصال بالملأ الأعلى وتلقى المعلومات عن السماء كانت شائعة ذائعة في أرجاء المملكة الإسلامية لقد كان يعرفها الرجال والنساء وكان يعرفها الكبار والصغار لقد كان الكل يعرف أن رسول الإسلام الله على صلة بالسماء وأنه يتلقى المعرفة عن بأخبار الأنبياء والرسل الذين اتصلوا بالله وسمعوا كلامه وأشرقت
الملا
الأعلى والقرآن مفعم نفوسهم ببهائه وفي القرآن قصة العبد الصالح الذى آتاه الله من لدنه علما لقد كانت البيئة الإسلامية على سعتها قائمة على تصديق الرسول مع الا في أخباره بأنه على صلة
بالسماء
أفيعقل بعد هذا أن نعزو فكرة الاتصال عند ابن سينا إلى أرسطو أو إلى أفلوطين أو إلى أفلاطون اللهم إن هذا تجن على الحق لا نرتضيه والآن سنأخذ بعون الله فما نحن بصدد دراسته من النمط التاسع ولعل القارئ يتبين منه في وضوح أن ابن سينا 1 - كان بعيدا كل البعد عن أرسطو فما يتعلق بنظريته عن الاتصال ٢ - وأنه إذا كان قريباً بعض القرب من أفلاطون وأفلوطين فذلك لأنهما عالجا نفس الموضوع الذي تحدث عنه الإسلام في وضوح واضح وقامت الدولة الإسلامية على التصديق به وهو موضوع الرسالة والوحى أو الاتصال بالسماء
والمعرفة اللدنية
والله ولي التوفيق
النمط التاسع في مقامات العارفين
إجمال وتحليل
الناس في هذه الحياة درجات ودرجاتهم تتفاوت بحسب مراتبهم في المعرفة وإذا نظر كثير من الناس نظرة تقدير إلى الثراء او المجد أو الجاه أو القوة فإن نظرتهم هذه سطحية مادية هي أقرب إلى نظرة الدهماء منها إلى نظرة الحكماء
درجة الإنسان في المعرفة إذن هى التي تحدد منزلته الحقيقية وارتفاع منزلته أو انخفاضها إنما يتبع تزوده بحظ وافر من المعرفة أو قلة بضاعته منها
والمعرفة التي نتحدث عنها هنا إنما هى المعرفة الصوفية ومن تسلح بها يسمى العارف وا للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها وهم في حياتهم الدنيا دون غيرهم ولهم أمور خفية فيهم هي بهجتهم بالحق وقد تصدر عنهم بعض الكرامات فيستنكرها قوم و يستعظمها آخرون
وقديما خلط الناس ولا يزالون يخلطون بين الزاهد والعابد والعارف
وإذا كان هذا الخلط قد وجد فى عهد ابن سينا بصورة اقتضته أن يميز بينهم فإننا الآن في أشد الحاجة إلى هذا التمييز ذلك أن الصحف والكتب والعامة والمثقفين لا يكادون يفرقون
بين الزاهد والعارف والعابد
وابن سينا يفرق بينهم تفريقاً دقيقاً من ناحية السلوك ومن ناحية الهدف إنه يرى إن المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد وهو في زهده إنما يجرى مجری تاجر يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة وإذا كان قد انصرف عن اللذات الحسية فهو انصراف المحب المتشوق إنه حنون إلى هذه اللذات الحسية غافل عما وراءها إنه متشبث بهذه اللذات لذات الزور وإذا كان قد تركها في دنياه فإنما تركها عن كره وما تركها إلا ليستأجل
أضعافها
۷۷
۷۸
وسيمنحه الله في الآخرة ما وعده من مثوبة
والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد والعبادة عند هذا معاملة ما إنه يعمل فى الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الأجر والثواب إنه يعبد الله لا لذاته وإنما ليبعث في الآخرة إلى مطعم شهي ومشرب هني ومنكح بهى وإذا اطلعت على آماله ومطامحه فلا تجدها تتعدى لذة البطن واللذة الحسية وسيمنحه الله في الآخرة ما وعده من أجر ومثوبة
والمنصرف بفكره إلى الله مستديما لشروق نور الحق فى سره يخص باسم العارف وإذا كان الزاهد قد يكون فى الوقت نفسه عابدا والعابد زاهدًا فإن العارف ينطوى على الزهد والعبادة ولكن زهده إنما هو تنزه عما يشغل سره عن الحق وتكبر على كل شيء غير الحق وعبادته إنما هي تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة حتى يتجه بكليته إلى الله لا يعوقه عن ذلك خيال فاسد أو وهم ضال أو شهوة جامحة والعارف - خلافا للزاهد والعابد - يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئاً على عرفانه إنه لا يعبده لهدف آخر يرجوه من ورائه إنه لا يجعل الحق واسطة لأجر يناله أو مثوبة يطمع فيها إن الحق غايته إنه مبتهج به لقد عرف اللذة الحق وولى وجهه سمتها فكان من المستبصرين بهداية القدس ولقد أنزل الله الدين هداية ورحمة فاستفاد منه بعض الناس الأمن والطمأنينة واستفاد
منه بعض آخر - زيادة على ذلك - الأجر الجزيل في الحياة الأخرى
أما العارفون فقد غمرتهم نعمة الله لقد استفادوا من الدين أمنهم وطمأنينتهم في هذه الحياة ولن يحرمهم الله مثوبته يوم القيامة هذا فضلا عما ينعمون به فى حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى من البهجة بالحق ومن الاستمتاع بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر ! !
والعارف لا يصبح عارفاً فجأة أو دون مجهود واكتساب وإنما لابد له من السير في طريق
صعب المرتقى
۷۹
إن هذا الطريق يبتدئ بما يسميه العارفون الإرادة وهى حالة تعترى المؤمن حين يتطلع إلى استشراف الملأ الأعلى والاتصال به
ومن الإرادة أتت كلمة مريد ولابد للمريد من أن يسلك الطريق لابد من الرياضة والرياضة تهدف إلى ثلاثة أغراض
الغرض الأول التنزه عما سوى الله وذلك بالزهد والغرض الثانى تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة وذلك بالعبادة المشفوعة بالفكرة والألحان المهذبة وبالوعظ الرشيد
أما الغرض الثالث فإنه تلطيف السر والسر محل المشاهدة ويعين على ذلك الفكر
اللطيف والعشق العفيف الذى يقوم على كريم الصفات لا على سلطان الشهوة وحينما يأخذ المريد فى الرياضة ويصل فيها إلى حل يحصل معه على شيء من الاستعداد يلوح له نور الحق كبرق خاطف يلمع ثم يخمد ويبتهج المريد بذلك فيتشوق إلى هذه البروق قبل أن تحدث ويتحسر على انتهائها
هذه البروق الوامضة اللذيذة هى التى تسمى عند العارفين أوقاتا وهي تكثر كلما أمعن الإنسان في الارتياض فإذا توغل فيه لاحت له هذه الأنوار فى غير الارتياض وكلما لاحت له أخرجته عن سكينته وتنبه جليسه إلى ما به ولكن الرياضة تصل به إلى أن ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوف مألوفًا والوميض شهابا بينا
C
ويمعن في الرياضة ويتغلغل فيها فتصبح هذه الأنوار له متى شاء ويتدرج في الترقى أيضًا فلا يتوقف الأمر على مشيئته بل كلما لاحظ شيئًا لاحظ الحق وينصرف دائما عن عالم الزور إلى عالم الحق وتنتهى الرياضة به إلى النيل
فإذا ما عبر الرياضة صار سره مرآة مجلوة محاذياً بها شطر الحق ودرت عليه اللذات العلا وابتهج بالحق وفرح بنفسه ثم ينتهى بالغيبة عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وإن لاحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة
وهذا المقام - كما يقول الرازي - آخر مقامات السلوك إلى الله وأول مقامات الوص التام إلى الله وهو الفناء عما سوى الله بالكلية والبقاء به بكليته وهناك يحق الوصو ودرجات السلوك في الله لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ومن أحب أن يتعرفي فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة وأن يصير من الواصلين إلى العين لا السامعين للأثر
٢٨٠
ثم يأخذ ابن سينا في الحديث عن أحكام العارفين وأسلوبه لا يخلو من جمال أخاذ إن العارف دائما طلق الوجه بسام المحيا / ذلك أنه دائماً فرح بالحق بل إنه فرح بكل شیء لأنه يرى الحق أينما ولى وجهه والناس عنده سواء لذلك يحترم الصغير كما يحترم الكبير ويهش للحامل كما يهش للنبيه
ولأنه مستبصر بسر الله فى القدر فهو لا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير ثم يقول ابن سينا في روعة
رائعة
العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت !
وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل ! ! وصفاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر !
ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق !
غيرهم
النمط التاسع في مقامات العارفين نصوص وشرحها
1 - تنبيه إن للعارفين مقامات ودرجات يخصون بها وهم في حياتهم الدنيا دون فكأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس ولهم أمور خفية فيهم وأمور ظاهرة عنهم يستنكرها من ينكرها ويستكبرها من يعرفها ونحن نقص عليك فإذا قرع سمعك فيما يقرعه وسرد عليك فيما تسمعه قصة لسلامان وأبسال فاعلم أن سلامان مثل ضرب لك وأن أبسال مثل ضرب لدرجتك فى العرفان إن كنت من أ تم حل الرمز إن أطقت
أهله
6
۱ العارفون هم الذين اتصلوا بالله إنهم الصوفية ولهم مقامات ودرجات يختصون بها في هذه الدنيا ليست لغيرهم إنك تراهم كالأفراد العاديين ولكن نفوسهم قد سيطرت على أبدانهم حتى لكأنها تجردت عنها والتحقت بعالمها عالم القدس ولهؤلاء العارفين أمور خفية فيهم هي سعادتهم بما يستمتعون به من مشاهدة
الملأ الأعلى ومن الاستمتاع بجمال الله وجلاله بما يفيضه سبحانه عليهم من معرفة وحكمة ولهم أمور ظاهرة عنهم هى الآيات التي تظهر آثارها عنهم فتسمى بالمعجزات أو بالكرامات وهي أمور يستنكرها الجاهلون بأسرارها ويستعظمها من يعرفها أما سلامان فهو عند و ابن سينا مثل للنفس الناطقة وأبسال مثل للعقل النظرى وهو درجتها في العرفان وزوجته القوة البدنية الأمارة للشهوة تقع في حب أبسال فيأبى عليها وهذا الإباء هو انجذاب العقل إلى عالمه فتكيد لإيقاعه بين أحضانها بالاستعانة بأختها وهى القوة العملية التي تسمى العقل المطيع للعقل النظرى وبتلبيسها نفسها بدل أختها وهذا هو تسويل النفس الأمارة ولكن قبل أن تحين الساعة الحاسمة يلوح من السماء برق هو الخطفة الإلهية التي تسنح في أثناء الاشتغال بالأمور الفانية وهى جذبة من جذبات الحق فيكشف لعين أبسال حقيقة الأمر الذي أوشك أن يقع فيه وينتشله من عالم الشهوات الحسية إلى عالم العقل المحض ٥
٥ من كتاب تاريخ الفلسفة في الإسلام ترجمة الأستاذ محمد عبد الهادى أبو ريدة ص ۱۸۹
۸۱
۸
۱ تنبيه المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق فى سره يخص باسم العارف وقد يتركب بعض هذه مع
بعض
تنبيه الزهد عند غير العارف معاملة ما كأنه يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة وعند العارف تنزه ما عن كل عمل يشغل سره عن الحق وتكبر على كل شيء غير الحق والعبادة عند غير العارف معاملة ما كأنه يعمل في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي
الأجر والثواب وعند العارف رياضة ما لهممه وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة ليجرها بالتعويد عن جناب الغرور إلى جناب الحق فتصير مسالمة للسر الباطن حينما يستجلى الحق لا تنازعه فيخلص السر إلى الشروق الساطع ويصير ذلك ملكة مستقرة كلما شاء اطلع إلى نور الحق غير
مزاحم من الهمم بل مع تشييع منها له فيكون بكليته منخرطا في سلك القدس
۱ كثيرا ما يستعمل الناس ألفاظاً ولا يكادون يميزون بينها منها الزاهد والعابد والعارف وأراد و ابن سينا أن يميز بينها وألفاظه واضحة غير أنه يلزم أن ينبه على أن الشخص الواحد يمكن أن يكون في آن واحد زاهدًا عابدا والعارف زاهد عابد بيد أن الهدف من زهده وعبادته يختلف عن هدف الزاهد والعابد على ما سياتي بيانه
غاية الزاهد من الامتناع عن طيبات هذا العالم أن يمنحه الله في الدار الآخرة طيبات ألذ وأمتع إنه كتاجر يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة وهدف العابد من عبادته الأجر والثواب في الآخرة فمثله كمثل العامل فى الدنيا الذي ينتظر أجره في
الآخرة جزاء عمله
أما العارف فإن زهده إنما هو سمو بنفسه عن كل ما يشغله عن الله وترفع عن الدنيا تلك التي لا تساوى جناح بعوضة أما عبادته فإنها رياضة الهدف منها تطويع قواه الشهوانية والغضبية والمتوهمة والمتخيلة بحيث تصبح عازفة عن الدنيا مسالمة للسر الباطن فلا تزاحمه في حالة المشاهدة فيخلص السر إلى الشروق الساطع وتتعود قوى الإنسان على ذلك حتى يصبح الأمر لها ملكة مستقرة كلما شاء السر اطلع إلى نور الحق غير مزاحم من القوى بل مع تشيع منها له ويقول الإمام القشيرى في تفسير السر إنه محل المشاهدة كما أن الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارف فالسر ألطف من الروح والروح
أشرف من القلب
۸۳
۱ إشارة لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما ويفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة لاختصاصه بآيات تدل على أنها من عند ربه ووجب أن يكون للمحسن والمسى جزاء من عند القدير الخبير فيوجب معرفة المجازى والشارع ومع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكرة للمعبود وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير حتى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع ثم زيد المستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا الأجر الجزيل في الأخرى ثم زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة التي خصوا بها فيها هم مولون وجوههم شطره فانظر إلى الحكمة ثم الرحمة ثم النعمة تلحظ جناباً تبهرك عجائبه ثم أقم واستقم
1 لا يمكن للإنسان أن يستقل وحده بأمر نفسه لأنه يحتاج إلى أشياء كثيرة لا يمكن أن يهيئها لنفسه إذا عاش في عزلة - لابد من مشاركة آخرين من بني جنسه يقوم كل واحد منهم بعمل وهذه هي المعارضة ثم يتبادلون الإنتاج وهذه هي المعاوضة - الإنسان بطبعه إذا محتاج إلى اجتماع وذلك معنى قولهم الإنسان مدنى بالطبع والتعاون والمشاركة لايتمان إلا بمعاملة ولابد فى المعاملة من سنة وعدل ولابد للسنة والعدل من شرع وشارع يقوم بالمحافظة على العدالة ولو ترك الناس وآراءهم لاختلفوا ولرأى كل منهم أن العدل هو ما يراه عدلا فيضطرب الأمر ويختل نظام الاجتماع لابد من وجود إنسان متميز باستحقاق الطاعة إذن واستحقاقه الطاعة لا يكون إلا لخصوصية له ليست لسائر الناس ولا يتقرر ذلك إلا بآيات تدل على أن ما أتى به من شرع إنما هو من عند ربه ذلك الشخص هو النبي وتلك الآيات هي معجزاته ولا تنتظم الشريعة دون أن تتضمن الثواب للمحسن والعقاب للمسيء وذلك يتضمن معرفة المجازى وهذه المعرفة الضرورية لا تثبت ولا تستقر إلا إذا كان معها سبب حافظ لها ومن هنا فرضت العبادة المذكرة بالمعبود وكررت فى أوقات متتالية كالصلوات وما يجرى مجراها حتى يستمر التذكير ويزو
احتمال النسيان وبذلك استمرت الدعوة إلى العدل الذي لولاه لما قامت للمجتمعات قائمة لابد للمجتمع من نبي ولا شك أن أفراد المجتمع باتباعهم لشريعة النبي ينالون السلام في الدنيا ولكنه فضلا عن ذلك ينالون الأجر الجزيل في الآخرة أما الخواص منهم وهم العارفون فقد أضيف إلى نقعه العاجل وأجرهم الآجل الكمال الحقيقى
فانظر إلى حكمة الله فى فرض الشريعة وهى بقاء نظام العالم
وانظر إلى رحمته تعالى وتفضله بالأجر الجزيل في الآخرة بعد النفع العظيم في الدنيا ثم انظر إلى
٢٨٤
ما أنعم به على العارفين فضلا عن النفع والأجر من الابتهاج والكمال فحينئذ يتجلى لك من أفق الجناب
الإلهى ما تبهرك عجائبه
وإذا عرفت كل هذه الفوائد التي للشرائع عرفت أنه لابد لك من أن تقيم غيرك عليها وأن تكون
مستقيما فيها
وقد شرح الإمام الطوسى هذه الإشارة فقال
أقول لما ذكر في الفصل المتقدم أن الزهد والعبادة إنما يصدران عن غير العارف لاكتساب الأجر والثواب في الآخرة أراد أن يشير إلى إثبات الأجر والثواب المذكورين فأثبت النبوة والشريعة وما يتعلق بهما على طريقة الحكماء لأنه متفرع عليهما وإثبات ذلك مبنى على قواعد وتقريرها أن نقول الإنسان لا يستقل وحده بأمور معاشه لأنه يحتاج إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح لنفسه ولمن يحوله من الأولاد الصغار وغيرهم وكلها صناعية لا يمكن أن يرتبها صانع واحد إلا في مدة لا يمكن أن يعيش تلك المدة فاقدًا إياها أو يتعسر إن أمكن لكنها تتيسر الجماعة يتعاونون ويتشاركون في تحصيلها يفرغ كل واحد منهم لصاحبه عن بعض ذلك فيتم بمعارضة وهي أن يعمل كل واحد مثل ما يعمله الآخر
ومعاوضة وهي أن يعطى كل واحد صاحبه من عمله بإزاء ما يأخذه منه من عمله فإذن الإنسان بالطبع محتاج فى تعيشه إلى اجتماع مؤد إلى صلاح حاله وهو المراد من قولهم الإنسان مدنى بالطبع والعمدن في اصطلاحهم هو هذا الاجتماع فهذه قاعدة
ثم نقول واجتماع الناس على التعاون لا ينتظم إلا إذا كان بينهم معاملة وعدل لأن كل واحد يشتهي ما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه فى ذلك وتدعوه شهوته وغضبه إلى الجور على غيره فيقع من ذلك الهرج ويختل أمر الاجتماع أما إذا كان معاملة وعدل متفق عليهما لم يكن كذلك فإذن لابد منها والمعاملة والعدل لا يتناولان الجزيئات غير المحصورة إلا إذا كانت لها قوانين كلية وهى الشرع
فإذن لابد من شريعة والشريعة في اللغة مورد الشارية وإنما سمى المعنى المذكور بها لاستواء الجماعة فى الانتفاع منه وهذه مقدمة ثانية
۳ ثم نقول
والشرع لابد له من واضع يقنن تلك القوانين ويقررها على الوجه الذي ينبغي وهو الشارع ثم إن الناس لو تنازعوا في وضع الشرع لوقع الهرج المحذور منه فإذن يجب أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق
الطاعة ليطيعه الباقون فى قبول الشريعة
٢٨٥
واستحقاق الطاعة إنما يتقرر بآيات تدل على كون الشريعة من عند ربه وتلك الآيات هي معجزاته وهي إما قولية وإما فعلية والخواص للقولية أطوع والعوام للفعلية أطوع ولا تتم الفعلية مجردة عن القولية لأن النبوة والإعجاز لا يحصلان من غير دعوة إلى خير فإذن لابد من شارع هو نبي ذو معجزة هذه قاعدة ثالثة
٤ ثم إن العوام وضعفاء العقول يستحقرون اختلال العدل النافع في أمور معاشهم بحسب النوع عند استيلاء الشوق عليهم إلى ما يحتاجون إليه بحسب الشخص فيقدمون على مخالفة الشرع وإذا كان للمطيع والعاصى ثواب وعقاب أخرويان يحملهم الرجاء والخوف على الطاعة وترك المعصية فالشريعة لا تنتظم بدون ذلك انتظامها به فإذن وجب أن يكون للمحسن والمسىء جزاء من عند الإله القدير على مجازاتهم الخبير بما يبدونه أو يخفونه من أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم ووجب أن تكون معرفة المجازي والشارع واجبة على المتمثلين للشريعة فى الشريعة والمعرفة العامية قلما تكون يقينية فلا تكون ثابتة فوجب أن يكون معها سبب حافظ لها
وهو التذكار المقرون بالتكرار والمشتمل عليها إنما يكون عبادة مذكرة للمعبود مكررة في أوقات متتالية كالصلاة وما يجرى مجراها فإذن يجب أن يكون النبي داعيا إلى التصديق بوجود خالق قدير خبير وإلى الإيمان بشارع مبعوث من قبله صادق وإلى الاعتراف بوعد ووعيد أخروبين وإلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله وإلى الانقياد لقوانين شرعية يحتاج إليها الناس في معاملاتهم حتى تستمر بذلك الدعوة إلى العدل المقيم الحياة النوع وهذا قاعدة رابعة
٥ ثم إن جميع ذلك مقدر فى العناية الأولى لاحتياج الخلق إليه فهو موجود في جميع الأوقات والأزمنة وهو المطلوب
وهو نفع لا يتصور نفع أعم منه وقد أضيف الممتثلى الشرع إلى هذا النفع العظيم الدنيوى الأجر الجزيل الأخروي حسبما وعدوه وأضيف للعارفين منهم إلى النفع العاجل والأجر الآجل الكمال الحقيق المذكور فانظر إلى المحكمة وهى تبقية النظام على هذا الوجه ثم إلى الرحمة وهى إبقاء الأجر الجزيل بعد النفع العظيم وإلى النعمة وهى الابتهاج الحقيقى المضاف إليها تلحظ جناب مفيض هذه الخيرات جنابا تبيرك عجائبه أي تغلبك وتدهشك ثم أقم أى أقم الشرع واستقم أي في التوجيه إلى ذلك الجناب
القدسي
وأما
جميع
صفات الحق فقد فسرناه وأما الانتهاء إلى الواحد الحق فقد عرفت المراد منه
٢٨٦
۱ إشارة العارف يريد الحق الأول لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئًا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة وإن كانتا فيكون المرغوب فيه أو المرهوب منه هو الداعى وفيه المطلوب ويكون الحق ليس الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره هو الغاية وهو المطلوب دونه إشارة المستحل توسيط الحق مرحوم من وجه فإنه لم يطعم لذة البهجة به فيستطعمها إنما معارفته من اللذات المخدجة [ الناقصة ] فهو حنون إليها غافل عما وراءها وما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحنكين فإنهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون واقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب صاروا يتعجبون من أهل الجد إذ ازوروا عنها عائفين [ كارهين ] لها عاكفين على غيرها كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلق كفيه بما يليه من اللذات لذات الزور فتركها في الدنيا عن كره وما تركها إلا ليستأجل أضعافها وإنما يعبد الله ويطيعه ليخوله [ ليعطيه ] في الآخرة شبعة منها فيبعث إلى مطعم شهي ومشرب هنى ومنكح بهى وإذا بعثر [ كشف ] عنه فلا مطمح لبصره فى أولاه وأخراه إلا إلى لذات قبقبة وذبذبة [ لذة البطن واللذة الجنسية ]
1 فى مثل هذه المعانى تقول رابعة العدوية إلهى إذا كنت أعبدك رهبة من النار فأحرقنى بنار جهنم ! وإذا كنت أعبدك رغبة في الجنة فاحرمنيها ! وأما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمنى يا إلهى من جمالك الأزلي
وتقول ما عبدته خوفا من ناره وحباً لجنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حبا له وشوقا إليه من عبد الحق لا لذاته وإنما طمعا فى ثواب أو خوفًا من عقاب فقد جعل الحق واسطة في تحصيل شيء آخر غيره إن مثل ذلك مرحوم من وجه ذلك أنه لم يطعم لذة البهجة بالحق فيستطعمها إن هذا الشخص لم يألف إلا اللذات الناقصة لذات هذا العالم المادى فهو حنون إليها غافل عما وراءها وهو بالنسبة إلى العارفين كصبى ألف اللعب وأنس به ينظر إلى أهل الجد فيتعجب من عزوفهم عن لهوه ولعبه إن من عميت بصيرته عن مطالعة بهجة الحق لا يرى إلا اللذات المادية فيعمل على تركها في الدنيا عن كره وما تركها إلا ليستأجل أضعافها وهو يعبد الله ويعطيه ليمنحه في الآخرة مالذ وطاب من شهوة البطن وشهوة الفرج تلك الشهوات التي لا مطمح البصره في غيرها
أما من استنارت بصيرته بالمعرفة فإنه يعرف اللذة الحقيقية ويولى وجهه سمتها مسترحما على من عميت بصيرته فكان مع الله تاجرًا أو أجيرًا ومع ذلك فهذا التاجر أو الأجير الذى كد وتعب سينال ما يرجوه ويطلبه حسبما وعده الأنبياء عليهم السلام
۸۷
والمستبصر بهداية القدس فى شجون الإيثار قد عرف اللذة الحق وولى وجهه سيمتها مسترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولا له بحسب وعده 1 إشارة أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعترى المستبصر باليقين البرهانى أو الساكن النفس إلى العقد الإيمانى من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى [ الاعتصام بها ] فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد
إشارة ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض الأول تنحية ما دون الحق عن مستن الإيثار
1 إن العارف لا يكون عارفًا إلا بعد أن يمر بمرحلة طويلة من الجهاد وقد أخذ و ابن سينا في ذكر درجات هذه المرحلة وتبيين أحوال العارفين في مختلف درجات فأولى هذه الدرجات هى الإرادة وهى حالة تعترى الشخص الذي آمن وحصل عنده التصديق بوجود الله وبوجود كماله سواء أكان هذا التصديق عن يقين برهانى أم كان عن إيمان تسكن النفس إليه وتطمئن وهذه الحالة إنما هى الرغبة القوية فى الاعتصام بحبل الله المتين والسير على الصراط المستقيم فيتحرك بذلك السر ويتجه إلى الله لينال من روح الاتصال وهذه الدرجة هي درجة المريد
ولابد لهذا المريد من الرياضة وللرياضة أهداف ثلاثة
الهدف الأول إبعاد كل ما يصرف عن الحق وإزالته وهذا الهدف يعين على تحقيقه الزهد زهد
للعارفين وقد سبق تفسيره
وأما الهدف الثانى من أهداف الرياضة فهو تطويع النفس الأمارة بالسوء المنغمسة في حب الملاذ للنفس المطمئنة حتى تتصرف قوى التخيل والتوهم عن الانشغال بالمادة والملاذ مجاراة للنفس الأمارة إلى الاشتغال بالأمور القدسية متناسقة في ذلك مع النفس المطمئنة ومما يعين على تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة العبادة المشفوعة بالفكرة لا تلك التي يقول الله فى حق أصحابها فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ويعين على هذا التطويع أيضا الألحان المتناسقة فإنها تبحث في النفس التناسق والانسجام وتجعلها أكثر استعدادًا لقبول ما لحن به من الكلام ويعين على هذا التطويع أيضًا الكلام الواعظ الصادر عن متحدث التزم الجادة في أعماله وفي سمته وكان
كلامه بعبارة بليغة ونغمة رخيمة
والهدف الثالث من أهداف الرياضة إنما هو تلطيف السر وتهيئته للاتصال ويعين على ذلك الفكر اللطيف المعتدل والعشق العفيف ذلك الذى تثيره فى النفس صفات المعشوق السامية لا ذلك الذي تثيره
الشهوة
۸۸
والثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلى
والثالث تلطيف السر للتنبيه والأول يعين عليه الزهد الحقيقى
والثاني تعين عليه عدة أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن به من الكلام موقع القبول من الأوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد
وأما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة
۱ إشارة ثم إنه إذا بلغت الإرادة والرياضة حدًا ما عنت له خلسات من إطلاع نور الحق عليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تحمد عنه وهو المسمى عندهم أوقاتاً وكل وقت يكتنفه وجدان وجد إليه ووجد عليه ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في
الارتياض
إشارة ثم إنه ليتوغل فى ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جناب القدس يتذكر من أمره أمرًا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شيء ۳ إشارة ولعله إلى هذا الحد تستعلى عليه غواشيه ويزول هو عن سكينته ويتنبه جليسه لاستيفازه عن قراره فإذا طالت عليه الرياضة لم تستفزه غاشية وهدى للتلبيس فيه
۱ ويبدأ المريد يحنى أولى الثمرات بعد أن يحصل على شيء من الاستعداد المكتسب بالإرادة والرياضة فتظهر له الأنوار الإلهية اللذيذة كأنها بروق تلوح ثم تخبو وهذه اللحظات اللذيذة هي التي تسمى أوقاتًا والمريد يتشوق إليها قبل حدوثها ويحن إليها بعد انتهائها هذه اللوامع تكثر إذا أمعن المريد في الارتياض فإذا ما أكثر ارتياضه واتصل فإن هذه اللوامع تتاح له في غير أوقات الارتياض ويصبح بحيث
كلما لمح شيئا انثنى عنه وتركه منصرفًا إلى جناب القدس فتلوح له البروق فيكاد يرى الحق في كل شيء ۳ والمريد حينما تلوح له هذه البروق تزول عنه سكينته فينتبه جليسه لحالته ولكنه باستمراره في
الرياضة يصل به الأمر إلى زوال اضطرابه وإلى القدرة على كتمان ما به
۸۹
۱ إشارة ثم إنه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوف مألوفا والوميض شهاباً بيناً وتحصل له معارفة مستقرة كأنها صحبة مستمرة ويستمتع فيها ببهجة فإذا انقلب عنها انقلب حسرانا آسفا
إشارة ولعله إلى هذا الحد يظهر عليه ما به فإذا تغلغل في هذه المعارفة قل ظهوره عليه فكان وهو غائب حاضرًا وهو ظاعن مقيماً ۳ إشارة ولعله إلى هذا الحد إنما تتسنى له هذه المعارفة أحيانًا ثم يتدرج إلى أن تكون له متى شاء
٤ إشارة ثم إنه ليتقدم هذه الرتبة فلا يتوقف أمره إلى مشيئته بل كلما لاحظ غيره - وإن لم تكن ملاحظته للاعتبار - فيسنح له تعريج عن عالم الزور إلى عالم الحق مستقر به ويحتف حوله الغافلون
0
إشارة فإذا عبر الرياضة إلى النيل صار سره مرآة مجلوة محاذيا بها شطر الحق ودرت عليه اللذات العلا وفرح بنفسه لما بها من أثر الحق وكان له نظر إلى الحق ونظر إلى نفسه فكان بعد مترددًا
٦ إشارة إنه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وإن الحظ نفسه فمن
۱ ويمعن المريد فى الرياضة ويتوغل فيها إلى حد بعيد فتبلغ به الرياضة درجة ينقلب له وقته فيها سكينة فيصير المخطوف مألوفًا والوميض شهابا بينا واضحاً ويستمتع بيهجة مستقرة كأنها مستمرة فإذا ما رجع عنها رجع وفى نفسه حسرة وفى قلبه أسف على ما فارقه من سعادة قبل هذا المقام كان الآخذ فى الطريق يبدو عليه الابتهاج أو يظهر عليه الأسف الحسرة ولكنه في هذا المقام يقل ظهور ذلك عليه حتى أن جليسه لا يشعر باتصاله بجناب الحق أو بغيابه عنه ۳ فيما مضى من المقامات لم يكن اتصاله بالملأ الأعلى خاضعا لإرادته ولكنه قد تدرج إلى أن وصل الآن إلى أن يتصل متى شاء إنه وصل إلى تحقيق ما ينصح به أحد العارفين حينما قال و اركب الحال لا تدع الحال يركبك
٤ قال الإمام الرازى فى هذه الإشارة
ا قال المحققون من أصحاب الطريقة ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله بعده فلما ترقوا قالوا ما رأينا شيئًا إلا ورأينا الله معه فلما ترقوا قالوا ما رأينا شيئًا إلا ورأينا الله قبله ثم ترقوا حتى ما رأوا شيئًا سوى الله وهذه الإشارة الغرض منها كمال الدرجة الأولى من هذه الدرجات
٦٥ يقول ابن طفيل فيما يقرب المعنى الموجود فى هاتين الإشارتين وفى خلال شدة مجاهدته =
۹۰
حيث هي لاحظة لا من حيث هي بزينتها وهناك يحق الوصول
۱ تنبيه الالتفات إلى ما تنزه عنه شغل والاعتداد بما هو طوع من النفس عجز والتبجح بزينة الذات من حيث هي للذات وإن كانت بالحق تيه والإقبال بالكلية على الحق خلاص إشارة العرفان مبتدئ من تفريق ونفض وترك ورفض جمعن في جمع هو صفات الحق للذات المريدة بالصدق منته إلى الواحد ثم وقوف
جمع
و مجاهدة حي بن يقظان هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الذوات إلا ذاته فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود فكان ذلك ويعلم
شوب فى المشاهدة المحضة وشركة في الملاحظة
يسوده
أنه
ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد وهى الذوات العارفة بالموجود وغابت ذاته في جميع الذوات وتلاشى الكل واضمحل وصار هباء منثورا ولم يبق إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود 1 الاشتغال بتنحية ما دون الحق وأبعاده إنما هو اشتغال بغير الله فهو انصراف عن الله والاعتداد بتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة إنما هو مظهر من مظاهر العجز والابتهاج بما يحصل للذات من للذات وإن كان ذلك الحاصل هو الحق نفسه إنما هو ابتهاج بغير الله وهو لذلك تيه وحيرة
حيث هو وتردد بين الله والذات
ولكن الاشتغال بالحق والإقبال عليه بالكلية هو الخلاص جمع ابن سينا فى هذه الإشارة جميع مقامات العارفين سواء منها ما يتعلق بتزكية النفس وهو ما ذكره سابقا في شيء من التفصيل أو فيا يتعلق بالنتيجة وهو ما سيذكره في شيء من التفصيل أيضا فيا بعد فهذا الفصل يركز في كلمات ما سبق ذكره ويشير فى كلمات أيضا إلى ما سيأتي إن درجات التركية يمكن أن ترتب في أربع مراتب فالسالك إلى الله يبتدئ بالتفرقة بين ما يشغله عن الله وبين ما يمهد له السبل للتوجه إلى الله إنها مرحلة تنظيم وتنسيق يتلوها نفض لكل ما يشغل عن كما ينفض الإنسان الغبار عن الثوب الذى يريد أن يحفظ به ناصع البياض ولكن السالك إلى الله حينما يكون بصدد التفريق ثم النفض يكون فى الوقت نفسه مشغولا بذكر الله فإذا ما شم رائحة الأنس بالذات العلية كان هناك الترك لما يشغله عن الله وتلك هي الدرجة الثالثة فإذا
الله
ما اشتد أنسه بالله كان هناك الرفض أى الاحتقار لما سوى الله تعالى وتلك هى المرحلة الرابعة وبها تتم
درجات التركية والسالك في النا ملوكه هذا وعلى الخصوص بعد أن ينتهي من هذه المرحلة يتطلع
=
۹۱
ويسعى في أن يكون ربانيا ويمعن في ذلك حتى يصبح الحق بصره الذى يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويده التي بها يبطش ويصبح بذلك متخلقًا بأخلاق الله ولكن نظره للآن متعلق بنفسه وبتلك الصفات وتعلق نظر العارف بنفسه شوب فى المشاهدة المحضة وشركة فى الملاحظة غير أن العارف لا يقف عند ذلك بل يستمر في جهاد حتى ينتهى إلى الواحد ويتلاشى كل ما عداه وهناك - كما يقول الطوسي - لا يبقى واصف ولا موصوف ولا سالك ولا مسلوك ولا عارف ولا معروف وهو مقام الوقوف وقد شرح الإمام الفخر الرازى هذه الإشارة فقال لقد وفق المصنف في هذا الفصل حتى جمع في هذه الألفاظ القليلة مقامات السالكين إلى الله واعلم أن السالكين إلى الله تعالى لابد وأن يتكلفوا الإعراض عن لذات الدنيا وشهواتها ولا يزالون في كلفة وتكلف من ذلك إلى أن يزول عن قلبهم حبها والميل إليها وهو الدرجة الثانية الآن ليس إلا محو ما سوى الله عن القلب ثم إذا شموا رائحة وثمرة اجتهادهم الأنس بالله وابتهجوا بالنظر إلى جمال الله وجلاله تركوا الالتفات إلى هذه اللذات الدائرة بقوالبهم وقلوبهم
إلا أن
منتهى سعيهم
وهذا هو الدرجة الثالثة
جميع
ثم لا يزال يشتد أنسهم بالرفيق الأعلى والكأس الأول إلى أن يصير الإنفاذ بما سوى الله تعالى مستحقرًا عندهم فى جنب تلك السعادات العالية الرفيعة فتلك اللذات التي كانت متروكة قبل ذلك تصير مستحقرة مرفوضة وهذا هو الدرجة الرابعة فهذه درجات التخلية وهى فى لسان الحكمة درجات الرياضات السلبية وفى لسان محققى الصوفية درجات التخلق بنعوت
وأما درجات الرياضات الإيجابية المسماة عند المحققين بالترقى فى مدارج الكمال فهى التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية والمنة الإنسانية وذلك أن يصير الإنسان رءوفًا عطوفا رقيقا شفيقاً وهذا هو مقام
الجمع
وقد اتفقت كلمة العارفين على أن مقامات السالكين إلى الله لا يخلو عن الفرق والجمع وأما الفرق ففيما سوى الله وأما الجمع ففي الله إلا أن النفس مادامت مشغولة باكتساب صفات الجمال ونعوت الكمال كانت في الفرق بوجه ما لأن نظره متعلق بنفسه وبتلك الصفات وبكيفية اكتسابها وذلك مانع من الاستغراق التام ويحكى أن المنصور لقي حسين بن الخواص في البادية وسأله عن أمره فقال أروض في مقام
التوكل
فقال و الحسين إذا أفنيت عمرك فى التوكل فمتى تصل إلى الله فأما الجمع الشام فلا يكون إلا بالوقوف عند باب الأحد الصمد الحق بحيث لا بيقي نظر إلى نفسه
۹
۱ إشارة من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثانى ومن وجد العرفان كأنه لا يجده بل يجد المعروف به فقد خاض لجة الوصول وهناك درجات ليست أقل من درجات ما قبله آثرنا فيها الاختصار فإنها لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف المقال عنها غير الخيال ومن أحب أن يتعرفها فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
تنبيه العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير وينبسط من الخامل مثل ما ينبسط من النبيه وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء
6
= ولا إلى اشتغاله بالله ولا إلى استفراقه في الله فيكون هناك الكمال التام ولنرجع إلى التفسير وأما قوله العرفان مبتدئ من تفريق ونفض وترك ورفض فاعلم أن هذه الألفاظ الأربعة دالة على المراتب الأربعة التي لخصناها
وأما قوله ممعن في صفات جمع
فأعلم
هي صفات للحق
أن قوله ممعن خبر عن العرفان كأنه قال العرفان مبتدئ من كذا ممعن في كذا وأما جمع صفات الحق فقد فسرناه وأما الانتهاء إلى الواحد الحق فقد عرفت المراد منه ۱ من يؤثر العرفان للعرفان فإنه مياه بذاته طالب شيئًا آخر غير المعروف إنه لا يهدف إلى الحق مباشرة بل يريد مع الحق شيئًا غيره أما من كان هدفه من المعرفة إنما هو المعروف فإنه العارف حقا وهو الخائض لجة الوصول
يقول الإمام الرازي وأما قوله وهناك درجات ليست أقل من درجات ما قبلها فاعلم أن المحققين قالوا السفر سفران سفر إلى الله وهو متناه لأنه عبارة عن العبور عما سوى الله وإذا كان ما سوى الله متناهيا فالعبور عليه متناه وسفر فى الله وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يترقى من بعضها إلى بعض والشيخ إنما تكلم فيما تقدم فى منازل السفر إلى الله تعالى ثم إنه نبه ها هنا على أن منازل السفر في الله ليست أقل مما تقدم الرازي ص ۱۱ وهذه المنازل أو هذه الدرجات لا تشرحها العبارة ويقول ابن الطفيل فى ذلك تلك حال تبدو من الغرابة بحيث لا يصفها لسان ولا يقوم بها بيان لأنها من طور غير طورهما وعالم غير عالمهما
ه ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلا وهو بمنزلة من يريد أن يتذوق الألوان من حيث هي ألوان ويطلب أن يكون الأبيض مثلا حلوا أو حامضًا تلك حال لا يمكن للإنسان أن يعرفها دون أن يتدرج في الرياضة حتى يصبح من أهل المشاهدة دون المشافهة ومن الواصلين للعين دون السامعين للأثر و فلسفة و ابن الطفيل ص ٤٣ هذا التنبيه هو من السهولة بحيث لا يحتاج إلى توضيح
۹۳
فإنه يرى فيه الحق ! ! وكيف لا يسوى والجميع عنده سواسية أهل الرحمة ومن شغلوا
بالباطل
۱ تنبيه العارف و له أحواله و لا يحتمل فيها الهمس من الحفيف فضلا عن سائر الشواغل الخالجة وهى فى أوقات انزعاجه بسره إلى الحق إذا تاح حجاب من نفسه أو من حركة سره قبل الوصول فأما عند الوصول فإما شغل له بالحق عن كل شيء وإما سعة للجانبين لسعة القوة وكذلك عند الانصراف فى لباس الكرامة فهو أهش خلق الله بهجته تنبيه العارف لا يعنيه التجسس والتحسس ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة فإنه مستبصر بسر الله فى القدر وإذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير وإذا جسم المعروف فربما غار عليه من غير أهله ۳ تنبيه العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت ! وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل ! وصفاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تجرحها زلة بشر ! ونساء للأحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق !
٤ تنبيه العارفون قد يختلفون فى الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب حكم ما يختلف عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند العارف القشف والترف بل
۱ للعارف أحوال لا يحتمل فيها الإحساس بأقل شاغل يرد عليه من عالم الحس فضلا عن سائر الشواغل الصارفة له عن الاتجاه إلى الحق هذه الأحوال تكون حينما يتجه بسره إلى الحق قبل أن يصل إليه إنه متلهف على الوصول متطلع إليه فإذا ما ظهر فى تلك الآونة مانع من جهة نفسه إذا ورد عليها ما يزيل الاستعداد للوصول أو مانع من حركة سره حينئذ تظهر عليه النفرة الشديدة عن كل ما يصده عن الله فإما عند وصوله إلى الحق فهو إما مشغول بالحق فقط غير شاعر بما عداه أو تكون روحه من القوة بحيث تتسع للجانبين فلا تكون الأمور الخارجية حينئذ شاغلة عن الحق وكذلك الأمر عند الإنصراف في لباس الكرامة فهو أهش خلق الله بهجته وإذا عظم المعروف فربما يسره غيره عليه من غير أهله عن الطوسي ص ۱۳ ۳ هذا التنبيه هو من الروعة بحيث لا يحتاج إلى شرح
٤ يتجه العارفون دائما اتجاهات تتناسب مع ما يختلج في قلوبهم من معان تختلف باختلاف العبر
والعظات
فأحيانا يستوى عند العارف شظف العيش وترقه بل ربما آثر شظف العيش على ترفه ويستوى عنده أيضًها فقدان العطر أو التعطر بل ربما آثر التفل وهو المكث بدون طيب يستوى كل ذلك عنده عندما =
٢٩٤
ربما آثر القشف وكذلك ربما استوى عنده التفل والعطر بل آثر التفل وذلك عندما يكون الهاجس بباله استحقار ما خلا الحق وربما أصغى إلى الزينة وأحب من كل جنس عقيلته وكره الخداج والسقط وذلك عندما يعتبر عادته من صحبة الأحوال الظاهرة وهو يرتاد البهاء في كل شيء لأنه مزية خطوة من العناية الأولى وأقرب إلى أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه وقد يختلف هذا فى عارفين وقد يختلف فى عارف بحسب وقتين ۱ تنبيه والعارف ربما ذهل فيما يصار إليه فغفل عن كل شيء فهو في حكم من لا يكلف وكيف والتكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله ولمن اجترح بخطيئته إن لم يعقل
التكليف
إشارة جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو أن يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ولذلك فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل عبرة للمحصل فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه لعلها لا تناسبه وكل ميسر لما خلق له إن البحث العقلى فى الإلهيات أمر طبيعى بالنسبة للمفكرين الذين نشئوا في أقاليم لم يوجد فيها کتاب مقدس من الطبيعي أن يوجد فى هذه الأقاليم رجال يحاولون ابتداع مذهب فيما وراء الطبيعة ذلك أن الإنسان بفطرته طلعة وهو يحاول دائماً معرفة العلل والأسباب ويتشوف إلى رؤية المجهول ويتطلع إلى الكشف عن عالم الغيب
يكون الخاطر الذى يحول بنفسه استحقار ما خلا الحق ولكنه يميل إلى الزينة ويحب من كل جنس درته ويكره النقصان وردىء المتاع فهو يتطلب البهاء في كل شيء لسببين الأول أن عناية الله بالشيء الجميل أتم والثاني أنه يتناسب مع ما عكف عليه بهواه من جمال وجلال قدسى وقد يختلف هذا في عارفين وقد يختلف فى عارف بحسب وقتين ۱ قد يستغرق العارف استغراقاً تاما في عالم القدس فلا يحس بمعان عالمنا الأرضى أو زمانه ويغفل عن كل شيء سوى الحق جل وعلا وهو في تلك الحالة فى حكم من لا يكلف وذلك أن التكليف إنما هو خاص بمن يعقل التكليف في وقت تعقله ذلك أو من يجترح الخطيئة بتركه التكليف إن لم يعقل التكليف بسبب
إهماله كالنائم والغافل
يشيره ابن سينا في هذه الإشارة أن الطريق إلى الله صعب المرتقى ولذلك كان الواصلون إليه هم من الندرة بحيث لا يصل إلى الله إلا واحد بعد واحد ولذلك فإن موضوعات هذا الفن تثير ضحك المغفل بينما هي عبرة للفاهم المطلع فمن سمع ما يقال فى هذا الفن فاشمأز عنه فليس ذلك لنقص في
الفن أو قصور فيه وإنما هو لنقص فى نفس السامع وقصور فيها وكل ميسر لما خلق له
٢٩٥
الطبيعي
أما في البيئات التي فيها نص مقدس يحتفظ بنضرته ولا يشك إنسان في صحته فإنه غير أن ينشأ بجوار هذا النص المعصوم اختراعات ذهنية تتصل بعالم الغيب ذلك أن ثمرة التفكير الإنسانى عرضة للخطأ والخطأ فى الذات الإلهية أو فى الصفات الإلهية أو الخطأ في عالم الغيب على وجه العموم فيه خطورة كبيرة الطريق المستقيم إذن هو ألا ينشأ بجوار النص المقدس اختراع عقلى يتصل بعالم الغيب تلافيا لما عساه أن يكون فى ثمار البحث العقلى من أخطاء
إذن التسليم للنص المقدس هو المبدأ السليم عند ذوى العقول الحكيمة وقد حدث مرة أن أخذ سقراط ورفقاؤه يتحدثون عن خلود النفس ويحاولون إقامة الأدلة على ذلك فلا يكاد يستقيم لهم الأمر في يقين جازم ثم يسكت سقراط ويسكت الجميع وبعد هنيهة يقول سيمياس إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل فيجب إما لاستيثاق من الحق وإما - إن امتنع ذلك - استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب مادام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن أعنى إلى وحى إلهى 1
المركب الأمتن والآمن في رأى سيمياس هو الوحى الإلهى ومعنى ذلك في وضوح لا لبس فيه أنه لو كان لدى سيمياس - أو لو كان في العهد اليوناني نص مقدس صحيح لاستسلم إليه الجميع دون نقاش أو جدال
أما استعمال العقل في عالم الغيب فإنه فى أغلب الأحايين مخاطرة لقطع البحر على لوح من خشب وهيهات أن ينجو من يفعل ذلك !!
واستسلم المسلمون الأوائل للنص المقدس متبعين في ذلك الطريق القويم ومضى الصدر الأول للإسلام دون جدال فى العقيدة - ودون محاولة عقلية لاختراع ما وراء الطبيعة أو بتعبير
آخر دون محاولة عقلية لتحديد ما لا يحد وتقييد ما لا يقيد
وكان أول انحراف منظم قوى عن هذا المبدأ السليم هو الطريق الذي سلكه و واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومدرستها إنهم لم يتعمدوا انحرافا ولا خروجا عن الطريق
1 يوسف كرم تاريخ الفلسفة اليونانية
٢٩٦
السوى وإنما خيل إليهم أن عملهم إنما هو خدمة للإسلام وخدمة للمسلمين ولكنهم بعملهم هذا حكموا العقل القابل للخطأ فى الدين المعصوم بل لقد أخذوا في وضع قانون تشريعي يفرض على الله سبحانه وتعالى الفروض
لقد أخذوا يوجبون عليه ويمنعون عليه فهو سبحانه - على رأيهم - يجب عليه أن يفعل كذا ويجب عليه ألا يفعل كذا وحكموا هكذا عقولهم فى الدين وفي الله ومادام عقل كل إنسان يختلف عن عقل الآخر فقد انقسمت المدرسة الاعتزالية إلى مدارس ومذاهب تكاد
لا تحصر
وكانت النتيجة لتحكيم العقل فى الدين أن بدأ الافتراق والاختلاف العقدي في البيئة
الإسلامية
لم يستسلم المعتزلة استسلام المؤمن المعترف بعجزه وقصوره تجاه الذات الإلهية كما فعل الصدر الأول وإنما وثقوا بعقولهم الثقة المطلقة فكان من نتيجة ذلك الشقاق والتفرق وحينما بدأ المسلمون في أوائل العصر العباسي يترجمون الثقافات الأجنبية فإنهم لم يسيغوا ترجمة الإلهيات والأخلاق ذلك أن يقينهم المطلق فى نصهم المقدس جعلهم يستهينون بكل ما عداها مما يتصل بما وراء الطبيعة أو بالأخلاق وكان موقفهم ذلك سليماً كل السلامة ذلك أن كل فكرة أوكل رأى متصل بما وراء الطبيعة يخالف ما أتى به الوحى إما أن يكون خرافة أو ضلالا عقليًّا والحياة الجادة لا تسيغ إنفاق الزمن في دراسة خرافات أو أضاليل عقلية ولكن المأمون ومن ورائه المعتزلة فعلوا ما امتنع جمهرة المسلمين عن فعله فترجموا إلهيات اليونان وأخلاق اليونان فأصبح بذلك الاختراع العقلى أو البحث العقلي أو الابتداع العقلي في الدين أرستقراطية عقلية يجرى وراءها الكثيرون ونشأ الفلاسفة وأخضع الفلاسفة كل شيء لعقولهم وأخذوا يرسمون القواعد ويقيمون الأدلة ويبتعدون كثيرًا أو قليلا عما فهمه المسلمون عن رسولهم وعما استشعروه من الروح العامة للإسلام على وجه العموم
والواقع أن إقامة ما وراء المادة على العقل إنما هو شهوة أو هوى ذلك أنه منذ ابتداء العهد اليوناني وهذا النهج من البحث في إحقاق متتابع وفى فشل مستمر وفي تناقض ملازم ورجاله يناقض بعضهم البعض ويهدم كل ما بناه الآخرون وعلى توالى الزمن تنهار الآراء وتنشأ آراء أخر لا تلبث أن تنهار وهكذا دواليك
۹۷
ومع رؤية كل باحث عقلى لهذه النتائج المنهارة باستمرار فإن ذلك لم يقم عظة واعتباراً في نظرهم واستمروا على الطريقة العقلية برغم رؤيتهم فى وضوح مآل بحوث سابقيهم المتهافتة ونشأ الإمام الغزالي
وكان من توفيق الله أن الإمام الغزالى منح طبيعة طلعة وذهناً ثاقباً وتفكيرا حكيما وأتيحت له تربية دينية سليمة منذ نشأته الأولى وأخذ تفكيره يجول في جميع المناحي الدينية فلحظ أن اختلاف الخلق فى الأديان والملل ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون فاقتحم لجة هذا البحر العميق وخاض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور وتوغل في كل مظلمة وتهجم على كل مشكلة وتقحم كل ورطة وتفحص عن عقيدة كل فرقة وكان نتيجة ذلك كله أن فقد ثقته في العلم ووجد نفسه عاطلا عن علم يقينى فأراد أن يبدأ من البسائط وأن أساسه قويًّا متينا حتى ينتهى إلى اليقين المطلق فيما يعلم ولكنه اختبر الثقة فى المحسوسات فلم تـ تسمح نفسه بالتسليم باليقين فيها وامتحن الثقة بالعقليات
يجعل
فانهارت العقليات ۷
ومر إذن الإمام الغزالى بتجربة قاسية هى تجربة الشك في الحسيات والعقليات فاستمر على ذلك شهرين هو فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال ۸ ثم شفاه الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين
مفتاح
ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو أكثر المعارف ۹
خرج الإمام الغزالى من هذه التجربة على نور من ربه وعلى بصيرة من أمره فحاول ما استطاع أن يرسم الطريق الصحيح للشغوفين بالمعرفة والمتطلعين إلى الهداية والمستشرفين إلى العلم بالملأ الأعلى لقد أراد أن يسلك الطريق الذى يرضى اتباعه الله ورسوله أراد أن يرسمه للحيارى والمتطلعين
۷ المنقذ من الضلال
۸ المنقذ من الضلال
1 المنقذ من الضلال
۹۸
إلى الهدى وللشاكين الآملين فى اليقين وللمسترشدين الذين يريدون أن يستمسكوا بحبل الله
المتين
أراد أن هذا الطريق بعد تجربة مر بها فرسمه فى ثقة المجرب وفى إحكام الخبير يرسم إن الأساس الخادع الذى لا يعدو أن يكون هوة عميقة يتردى فيها الكثيرون إنما هو إرادة تشييد ما وراء الطبيعة على العقل فما العقل بالنسبة إلى ما وراء الطبيعة إلا السراب الخادع الذي غرر بكثير من الظامئين إلى معرفة الغيب
ثم إن هذا الاتجاه خطر على الدين نفسه
إنه من جانب انصراف عن النص الإلهى إلى العقل
ومن جانب آخر إقامة مصدر لمعرفة الغيب غير النبوة وفى ذلك لا شك صرف للناس عن التأمل فى النص المقدس كمصدر لمعرفة الإلهيات وفيه كذلك تقليل من شأن النبوة
وهجم الإمام الغزالي بكل ما يستطيع على هذا المنهج ولم يفتر قط عن مهاجمته منذ أن ألف كتابه القيم تهافت الفلاسفة إلى أن انتهت به الحياة ولقد كان كتابه هذا محاولة جريئة كل الجرأة موفقة كل التوفيق وما كان المقصد الأول والهدف الأساسى لهجومه هو هدم الآراء فى نفسها إذ أن بعضها صحيح موافق للدين وإنما كان هدف الإمام الغزالي هدم النهج العقلى الذى استندت إليه هذه الآراء فخلود النفس مثلا رأى يقول به الغزالي ويقول به الفلاسفة ولكن الإمام حمل معوله وأخذ يهدم بيد قوية المسلك العقلى الذى أثبت به الفلاسفة خلود النفس فانهارت أدلتهم وتهافتت لقد فعل ذلك مع إيمانه بالخلود وهو لم يلتزم فى هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغيير في وجوه أدلتهم بما يبين تهافتهم ١٠ ومقصوده و تنبيه من حسن اعتقاده فى الفلاسفة وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض ببيان وجوه تهافتهم ويقول أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر إلا دخول مدع مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعاً بإلزامات مختلفة فالزمهم تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب
۱۰ تهافت الفلاسفة
11
۱۱ المصدر نفسه
۹۹
ويقول
۱
الكرامية وطوراً مذهب الواقفية ولا انتهض ذابا عن مذهب مخصوص الأستاذ بلاسيوس بحق إن الغزالي حينما سمى كتابه و تهافت الفلاسفة كان يريد أن يمثل لنا أن العقل الإنسانى يبحث عن الحقيقة ويريد الوصول إليها كما يبحث البعوض عن ضوء النهار فإذا أبصر شعاعاً يشبه نور الحقيقة انخدع به فرمی نفسه عليه وتهافت فيه ولكنه يخطئ مخدوعا بأقيسة منطقية خاطئة فيهلك كما يهلك البعوض فكأن الغزالي يريد أن يقول إن الفلاسفة خدعوا بأشياء أسرعوا إليها بلا إعمال روية فتهافتوا وهلكوا الهلاك الأبدى ١٣ والمعرفة عند الفلاسفة العقليين مصدرها إذن العقل والعقل وحده بيد أن الإمام الغزالي يرى عن تجربة أن وراء طور العقل طورًا آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما يكون في المستقبل وأمورًا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عند إدراك المعقولات وكعزل قوة الحس عن إدراكات التمييز ١٤ هناك إذن البصيرة وموضوعها الذي يتكشف لها إنما هو الغيب
وإذا تساءلنا مع الإمام الغزالى عن مراتب المعرفة بالغيب التي هي الإيمان فإننا نجده
يحدد ثلاث مراتب
- المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض
٢ - المرتبة الثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال ودرجته حسبما يرى الإمام قريبة من درجة إيمان العوام
٣ - المرتبة الثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين
ولا شأن لنا في حديثنا هذا بالمرتبة الأولى أما المرتبة الثانية وهي مرتبة المتكلمين وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر أو أرباب البحث والاستدلال فإنهم يشاركون الفلاسفة بهذا
الاعتبار في منهج البحث والإمام الغزالى يرى أن درجتهم قريبة من درجة العوام وهو من جانب آخر لا يرى فى منهج المتكلمين ما يؤدى إلى كشف الحقائق إنه يقول حرفيا
۱ المصدر نفه
۱۳ تاريخ الفلسفة الإسلامية ترجمة الدكتور أبو ريدة
١٤ المنقذ ص ١٣٤
۳۰۰
عن علم الكلام وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ١٥
ويرى في موضع صناعته كلاماً ١٦
آخر
أن المتكلم
لا يزيد على العامى إلا فى صنعة الكلام ولأجله سميت
أما المرتبة العليا فإنها الهدف الأسمى وهي مقصد الطالبين ومطمح نظر الصديقين إنها
مشاهدة روحية إنها يقين مطلق إنها المشاهدة بنور اليقين ولكن مشاهدة ماذا ويقين فى ماذا ما هو موضوع هذه المرتبة إنه إذا أردنا الإجمال – الغيب
أما إذا أردنا شيئًا من التفصيل فإنه أمور كثيرة كأن يسمع العارف من قبل أسماءها فيتوهم لها معانى مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك وتحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة ووجه ترتيبه الآخرة على الدنيا والمعرفة بمعنى النبوة والنبي ومعنى الوحى ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة وكيفية معاداة الشياطين للإنسان وكيفية ظهور الملك للأنبياء وكيفية وصول الوحي إليهم والمعرفة بملكوت السموات والأرض ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب ومعنى قوله تعالى
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
ومعنى قوله تعالى وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون
ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين ومعنى تفاوت أهل الجنان
١٥ الإحياء ص ١٩٨
11 الاحياء ص ۸۷
۳۰۱
حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدرى فى السماء إلى غير ذلك مما يطول
تفسيره ۱۷
ذلك بعض موضوع الغيب الذى يتطلع إلى معرفته - دون جدوى – المتكلمون والفلاسفة ولأنهم لم يتخذوا إليه السبيل الصحيح فقد اختلفوا فيه
أن
لقد اختلفوا في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى فبعضهم يرى ذلك أمثلة وأن الذى أعده الله لعباده الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر جميع على قلب بشر وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها وكذلك يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن المعرفة وبعضهم يدعى أمورًا عظيمة في المعرفة بالله عز وجل وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم اختلف الناس هذا الاختلاف لأنهم لم يتبعوا النهج الصحيح في معرفة الغيب وهذا النهج
الصحيح إنما هو جلاء البصيرة ولو اتبعوا الكشف عن البصيرة لارتفع الغطاء حتى تتضح للإنسان جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجرى مجرى العيان الذى لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان ۱۸ أهذا ممكن حقا في جوهر الإنسان
إنها دعوى من الإمام الغزالي تحتاج إلى إثبات وهى دعوى ينكرها الكثيرون ولكن الإمام الغزالي يرى أن الدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده أمران أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في الـ فلا يستحيل أيضًا في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا فى ركود الحواس وعدم اشتغ بالمحسوسات فكم من مستيقظ عاص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه والثاني إخبار رسول الله اللهم عن الغيب وأمور في المستقبل وإذا جاز ذلك للنبي عمال جاز لغيره إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق
۱۷ الاحياء ص ٣٤ ٣٥٠
۱۸ الأحياء ص ٣٤ ٣٥٠
۳۰
يقر
فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق وهذا لا يسمى نبيا بل يسمى وليا فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن بالبصيرة أو بتعبير آخر أن يقر بباب القلب ينفتح على عالم الملكوت هو باب الإلهام والنفث في الروع والوحى ١٩ والإمام الغزالي يتشبث بالرؤيا كبرهان ودليل على أن هناك آلة للمعرفة غير الحس والعقل
ويردد ذلك فى كثير من كتبه إنه يتحدث في المنقذ عن النبوة فيقول ه وقد قرب الله تعالى ذلك عن خلقه بأن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة إذ النائم
يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحا وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه وقيل له إن من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ويزول عنه إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره وأقام البرهان على استحالته وقال القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها فبألا يدركها مع ركودها أولى وأحق وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة ۰
ولكن الغزالى لا يكتفى بهذين الوجهين من الاستدلال بل يأتى بشواهد الشرع ويذكر التجارب والحكايات أما الشواهد - فيما يرى - فهي قوله تعالى
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَهُمْ سُبُلَنَا وقوله سبحانه يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا قيل نورًا يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات وقوله
من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم وسئل عن قوله أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ به ما ها
الشرح فقال
هذا
هو التوسعة إن النور إذا قذف به فى القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال عليه الصلاة والسلام إن من أمتى محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم المحدث هو الملهم والملهم هو الذى انكشف له الحق في باطن قلبه من جهة الداخل لا من
جهة المحسوسات الخارجية
٢٠ المنقذ ص ١٣٤
۱۹ الاحياء ص ۱۳۷۹
والقرآن
مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف
ولم يكن علم الخضر عليه السلام علما حسيًّا أو عقليا وإنما هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لدنَّا عِلْمًا ۱ كيف تنجلى البصيرة كيف يتأتى الكشف والإلهام والنفث فى الروع كيف تتأتى معرفة الغيب
معرفة مباشرة
إن الطريق إلى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولى لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم وإذا تولى أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه
حقائق الأمور الالهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحصار الهمة مع الإدارة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتسليم والدراسة والكتابة للكتب بل الزهد فى الدنيا والتبرى من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بالكلية على الله تعالى فمن كان الله كان الله له
وهو بفعله هذا يصير متعرضًا لنفحات رحمة الله وليس له اختيار في استجلاب هذه النفحات وليس له إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه
الطريقة
وإذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته تلمع لوامع الحق في قلبه ويرتفع
الحجاب بلطف خفى من الله تعالى فينكشف له الغيب ويحصل له اليقين ٢٢ هذا النهج الذي رسمه الإمام الغزالى لمعرفة الغيب له آثار عميقة بالنسبة للفرد في خاصة وبالنسبة للمجتمع وبالنسبة للدين ولتوضيح بعض هذا ولذكر بعض الآثار التي كانت لهذا النهج نذكر ما كتبه الدكتور محمد
نفسه
۱ الاحياء ص ٤١ ٠ ٤٣
الاحياء ص ۱۳۷۸ - ۱۳۸۸
٣٠٤
إقبال فى كتابه تجديد التفكير الدينى فى الإسلام عن الإمام الغزالى ويقول الدكتور إقبال على أنه لا سبيل إلى إنكار أن الدعوة التي نهض لها الغزالي تكاد تكون دعوة للتبشير بمبدأ جديد مثلها في ذلك مثل الدعوة التي قام بها وكانت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ففى ألمانيا ظهر المذهب العقلى لأول عهده حليفا للدين ولكن سرعان ما تبين أن جانب العقيدة من الدين لا يمكن البرهنة عليه حسياً فكان الطريق الوحيد إذن أن تنمحى العقيدة الدينية من سجل المقدسات وقد جاء مع محو العقيدة مذهب المنفعة في فلسفة وبذلك مكن المذهب العقلى من سيادة الإلحاد
الأخلاق
تلك كانت الحال في ألمانيا عندما ظهر كانت وكشف كتابه العقل الخالص عن قصور العقل الإنساني فهدم بذلك ما بناه أصحاب المذهب العقلى من قبل وصدق عليه القول بأنه كان أجل نعم ال الله على وطنه وإن التشكك الفلسفى الذى اصطنعه الغزالى على تطرفه بعض الشيء - قد انتهى إلى النتيجة نفسها فى العالم الإسلامي إذ قضى على ذلك المذهب العقلى الذي كان موضع الزهو على الرغم من ضحالته وهو المذهب الذي سار في الاتجاه الذي اتجه إليه المذهب العقلي في ألمانيا قبل كانت
غير أن هناك فارقاً هاماً بين الغزالي وكانت فإن كانت تمشى مع مبادئه تمشياً لم يستطع أن يثبت أن معرفة الله ممكنة أما الغزالى فعندما خاب رجاؤه في الفكر التحليلي ولى وجهه شطر الرياضة الصوفية وألفى فيها مكانا للدين قائما بنفسه وبهذه الطريقة وفق لأن جعل للدين حق الوجود مستقلا عن العلم وعن الفلسفة الميتافيزيقة ۳
وبالله التوفيق
,
۳ تجديد الفكر الدينى فى الإسلام ص ۱۰ ۱۱۰
مقدمة
القهري
۱ - الحنفاء
القسم الأول
الفصل الأول الجو الذي نشأ فيه الإسلام
بعض من رأى التدين بالنصرانية
٢ - الحكماء
- رأى الحمس
حلف الفضول
- الفكرة العامة عن العرب وتصحيحها ه - الأديان في جزيرة العرب
٦ - بعض الآراء عن العرب
- العرب حسب ما نعتقد - الدهماء لا يمثلون الأمة
۱ - وصف القرآن
الفصل الثاني القرآن
- السبب في أن مهمة الرسول كانت شاقة ٣ - القيمة الذاتية للدعوة الإسلامية
٤ - وسائل الدعوة لهداية العرب ه - الدعوة الإسلامية دعوة موحدة
- إثبات الرسالة
- معارضة العرب
۸ - وجود الله
٣٠٥
٢٤
{ { { { کے لے کے ہ
٤٣
ة له له شد تن تن کے کے
صفحة
صفحة
٥٣
٥٤
٥٥
0
۵۹
٦٧
9
۷
Yo
Vo
۸۱
٣٠٦
الوحدانية
العلم
مظاهر صفاته
۹ - البعث
مشاهد القيامة
١٠- القرآن ومعتقدات العرب
المسيحية
اليهود
تحديد فكرة الإلهية
11 - القرآن وأسئلة العرب
الفصل الثالث الفرق والأحزاب السياسية
۱ - حديث الفرق وتقسيم المتقدمين
الفرقة الناجية في رأى كل فرقة
٢ - قيمة الحديث
- رأينا في تقسيم الفرق
الأحزاب الدينية
الحكمة في هذا التقسيم
إزالة لبس
AY
۸۸
۹۵
المرجئة
الجهمية
الفرق الدينية
٤ - رأى ابن خلدون في تقسيم الفرق
الفصل الرابع مذهب السلف
۱ - الحالة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
- موقف الصحابة
- موقف الأئمه من علم الكلام ٤ - موقف السلف من مشكلة القدر
۳۰۷
صفحة
۹۸
۱۰۹
۱۱
۱۱۹
۱۱۹
۱۰
۱۷
۱۸
۱۹
۱۳۰
۱۳۱
۱۳
۱۳۳
۱۳۵
۱۳۵
١٣٦
۱۳۸
۱۳۸
١٤٠
١٤١
١٤٣
ه - موقف السلف من الأخبار الموهمة للتشبيه أسباب التوقف في التفسير والتأويل
والحق مذهب السلف
- رأى بعض الغربيين فى أبحاث ما وراء الطبيعة
الفصل الخامس التفكير في عهد الصحابة
1 - التفكير في ذات الله التفكير في مسائل الفقه
- من مظاهر الاختلافات بين الصحابة
الفصل السادس الاختلاف في الإمامة
١ - أصل الشيعة
رأى ولهوزن ودوزی
رأينا في أهل الشيعة
فرق الشيعة
مذهب الإمامية
آل على
الزيدية
الشيعة وأصول الإسلام رأينا في الشيعة
- الخوارج نشأتهم ألقاب الخوارج
ما يجمع الخوارج
النقاش بينهم وبين الإمام على
تقدير الخوارج
- المرجئة المرجئة ومؤرخو الأديان
نشأة المرجئة وتسميتهم
آراؤهم
اليونسية
صفيحة
١٤٤
١٤٤
١٤٥
١٤٥
١٤٦
١٤٧
١٤٨
١٤٩
150
١٥٢
١٥٤
١٥٥
10
10
١٦٣
١٦٥
١٦٧
١٦٨
١٦٨
١٦٩
۱۷
۱۷۳
۳۰۸
أبو حنيفة وأصحابه
كلمة أخيرة
الفصل السابع بدء الاختلاف في الأصول
۱ - بنو أمية ومذهب الجبر
الباعث على القول بحرية الإرادة
أول من قال بالاختيار
غيلان الدمشقي
٢ - القول بالجبر الجعد بن درهم
جهم بن صفوان
آراؤه
تعقیب
- الحسن البصرى
وصف درسه
موقف الحسن من الجبر والاختيار
القسم الثاني
الفصل الثامن الفلسفة معناها وصلتها
بالتصوف وأصول الفقه
1 - المعنى العادي لكلمة فلسفة
- عدم دقة المعنى العادى
٣ - المعانى المتداولة لكلمة حكمة
- 2
المعنى الفلسفي لكلمة حكمة ه - دعائم المعنى الفلسفي لكلمة حكمة
- هل الفلسفة بحث عقلى فحسب
- الفلسفة بحث وارتياض
۸ - فرق الفلاسفة
۹ - قيمة الطريق العقلى فى الوصول إلى الحكمة ۱۰- طريق ارتياض
١١- الطريق الأمثل في الوصول إلى الحكمة ۱- تعريف الفلسفة
الفصل التاسع الفلسفة الإسلامية
1 - المشاكل الفلسفية
- الاتجاهات الفلسفية
بين الأصالة والتقليد
۳ - انحراف مؤرخي الفلسفة الإسلامية
- آریون وساميون
تاريخ الشرقيين للفلسفة اليونانية
٦ - خطأ وتعسف ومجازفة
۷ - انهيار نظرية التفرقة بين ساميين وآريين
الرأى الصحيح
هو
رأى فلاسفة الإسلام أنفسهم
صفحة
١٧٤
١٧٦
١٧٦
۱۷۷
۱۷۹
۱۸۰
۱۸۳
۱۸۷
۱۸۸
۱۸۸
۱۹۰
۱۹
۱۹۷
۰۰
۰۰
۰۱
٢٠٤
٢٠٦
۰۷
۱
۹ - نحو الإنصاف
الفصل العاشر مرحلة الترجمة الأولى في الإسلام
۱ - هدفنا من كتابة هذا الفصل
٢ - بدء الترجمة
٣ - الترجمة في عهد الدولة العباسية - الخطأ في الترجمة
- تقدير الكندي
نسبه
۳ - نشأته وثقافته
- {
0
الفصل الحادي عشر الكندي
نظرية المعرفة عند الكندى
- الفلسفة
صفحة
٢٢٤
٢٢٦
۹
۳۳
٢٣٦
۳۷
٢٤٥
۷۷
۸۱
٦ - العالم حادث
الله وجوده ووحدانيته
- الأخلاق
- الكندي بين الأصالة والتقليد
تقديره
حياته
الفصل الثاني عشر الفارابي
المجتمع المثالي أو المدينة الفاضلة
الفصل الثالث عشر الشيخ الرئيس ابن سينا
النمط التاسع في مقامات العارفين إجمال وتحليل النمط التاسع مقامات العارفين نصوص وشرحها