www.Muhammad.com

https://Abdullahghumari. com

شرح مختصر صحيح البخاري

بهجة النفوس وتحليها بمعرفة مَا لَها وعليها

تأليف الإمام

عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي

تحقيق وتقديم

الدكتور بكري شيخ أمين

١٩٩٠ حديثاً وهي 296 من البخاري شرحت ب 1694 حديثا

بفضل الله تعالى وصلى الله وسلم على رسوله وآله، هذه نسخة أعدها في ساعات قليلة فاعل خير

قامت زوجتي بعمل صورة لكل صفحة من 100 أو 200 كل يوم، وقمت بتحميلها على Google Drive بتنسيق JPG وتحويلها إلى كلمات وورد. يجب تدقيقها وفقًا للنص الأصلي حيث توجد أخطاء قليلة في التعرف الضوئي على الحروف

100

ويليه كتاب" المرائي الحِسان" الهائلة التي يرى رسول الله يقدمها إليه، ويعده بأن الله تعالى أعد له في الجنة عشرات أمثالها وأكثر مما يتخيله هو والناس جميعاً

 الجافظ ابن حجر العسقلاني أعلم علماء الحديث الشريف

قال عن المؤلف "أمامنا

الجزء الأول

 

مقدمة المحقق الدكتور بكري شيخ أمين

المصادر التي تحدثت عن هذا الرجل كثيرة، لكن حديثها عنه لم يكن بالمستوى الذي كان يستحقه، فهناك كثير من العلماء ممن لم يكونوا بمستواه نالوا من الاهتمام والحديث والترجمة هذا الإنسان، حتى إن ابن كثير في البداية والنهاية لم يكتب عنه سوى سطر واحد، ومثله السيوطي في حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة وقريب منهما عمر رضا في معجم المؤلفين، والزركلي في الأعلام ، والشعراني في الطبقات الكبرى، والشيخ محمد ابن محمد مخلوف في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية وأبو الطيب الحسيني البخاري القنوجي في التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر ،والأول، وابن الملقن في طبقات الأولياء، وعبد الله محمد الصديق الغماري الحسيني الإدريسي في بِدَع التفاسير .

أما مؤلفات ابن أبي جمرة فمختلف في عددها ، لكن المؤكد ثلاثة كتب، هي: (جمع النهاية في بدء الخير والغاية، وهو مكون من مائتين وستة وتسعين حديثاً نسلها من صحيح البخاري، وكتاب (بهجة النفوس وتحلّيها بمعرفة ما لها وعليها وهو شرح لأحاديث جمع النهاية . والثالث كتاب: (المرائي (الحسان وهو مكوّن من سبعين رؤيا رآها حين شرح (جمع النهاية) فيما سمّاه (بهجة النفوس)، وهو كما يقول الزركلي، تقاريظ ربانية ونبوية .

ولقد ذكر القنوجي أن لابن أبي جمرة تفسيراً، ووصفه بـ (المشهور). ونعتقد أن هذا المؤلف كثير الوهم والتخليط ، فلقد قال عن ابن أبي جمرة: إنه توفي سنة ٥٢٥ هـ ثم أردف قائلاً : وقيل :

سنة ٦٩٥ هـ .

بقي أن نتساءل عن سبب هجرة المؤلف من الأندلس إلى تونس بادىء الأمر، ثم إلى القاهرة، وموته فيها. ونعود إلى جميع الكتب التي تحدّثت عن حياته الخاصة ثم إلى الكتب التي أرخت للفترة التي عاش فيها فلا نجد لهذا التساؤل جواباً .

ويخيل إلينا أن قوله في بعض مجالسه في بلده مرسية بأنه يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ، كما يذكر الشعراني، كان السبب القوي لهذه الهجرة. فلقد سادت بلاد الأندلس في عهده العصبية الدينية، بل التشنج الفكري ومقاومة كل من خرج باجتهاد يخالف ما تواضع عليه الناس، أو اعتادوا عليه حتى لقد أحرقوا كتب كثير من العلماء والفقهاء والفلاسفة والمفكرين، واضطهدوا

كثيراً من العلماء .

ولو قرأنا المرائي بإمعان وتمعنا ما بين سطورها وتنقلنا من رؤيا إلى رؤيا، وتساءلنا عما وراء هذه العطايا الكبيرة والهائلة التي يرى رسول الله يقدمها إليه ، ويعده بأن الله تعالى أعد له في الجنة عشرات أمثالها وأكثر مما يتخيله هو والناس جميعاً ، لأدركنا أن الرجل كان يعيش في محنة شديدة، وأن أعداءه كثيرون، بل هم أكبر مما يقدر على تحمّله ويذكر كثيراً للنبي عليه السلام أنه في محنة وأنه في وحدة وأن الخصوم يتآمرون عليه، وغير ذلك من ألوان الآلام، فيرى أن الله سينقذه، وأنه راض . عنه، وأنه ناصره، وأن الرسول عليه السلام آخذ بيده ومبشّره. وبهذه المرائي يجد نفسه ممسكاً بحبال الله متماسكاً أمام العواصف الهائجة في وجهه، ولا يبالي ما دام الله ورسوله معه وهو يرى النبي عليه السلام في مراء متوالية، ويبشره دائماً البشارات المتوالية، إذن فلتقم الدنيا وتقعد فهو لا يخاف ما دام الله ورسوله معه، وهو معهما في اليقظة وفي المنام، وفي السراء والضراء .

ونعتقد أن

وضع بلاد الأندلس في أيامه كان في أشد حالات الاضطراب والفوضى، فاليمانيون الذين تبنوا المذهب الشيعي في حروب مستمرة مع ضريين الذين تبنوا المذهب السني، حتى لقد نشبت حرب بين الفريقين بضع سنين في مرسية ذاتها بسبب ورقة شجرة عنب قطعها مضري من بستان ،يمني، كما يقول ابن عذارى .

زد على ذلك الحروب المستمرة بين العنصر البربري والعنصر العربي، ومحاولة كل منهما الاستثثار بالحكم دون الآخر ، وما جرّ ذلك إلى سفك دماء وإزهاق أرواح.

ولا ننسى انتشار المذهب الظاهري على يد ابن حزم وتغلغله بين البرابرة، وما يجيزه هذا المذهب من تكفير من يخالفه الرأي أو يسلك غير سبيله، أو يجتهد في الشريعة، فذلك كله بدعة، والبدعة مرفوضة حسنة كانت أو سيئة. وقد كان الظاهريون البرابرة أعداء للأمويين واليمانيين في الأندلس على طول المدى .

وما لنا نذهب بعيداً في استقصاء الأسباب وننسى أن الله تعالى أمر المسلم بالهجرة إن خاف على دينه، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَيكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ) وقال: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُوتَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ...) وقال : ثُمَّ إِن رَبِّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا . . ) وقال : ( أَلَمْ تَكُن أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَا جُرُوا فِيهَا ... وقال : وَمَن يُهَاجِرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) والآيات كثيرة في هذا الموضوع . أما وفاته فكثرة المترجمين يذكرون أنها كانت في سنة ٦٩٥ للهجرة النبوية، كما ذكر آخرون أنها سنة ٦٩٩ هـ، وقال جماعة إنها كانت في سنة ٦٧٥ هـ ، وانفرد الشعراني في تحديدها بسنة ٥٩٩ هـ ، ولا ندري السبب الذي حمل القنوجي على تحديدها بسنة ٥٢٥ هـ .

أصله ومضمونه

كتاب بهجة النفوس

قال ابن أبي جمرة في مقدمة كتابه (بهجة النفوس) : فلما كان من متضمن ما أودعناه برنامج الكتاب الذي سميناه (جمع) النهاية في بدء الخير والغاية إشارة إلى تكثير فوائد أحاديثه، وتعميم محاسنه وكنت عزمت على تبيينها ، لأن أتبع خيراً بخير، فيكون ذلك أصله وهذا ثمره، فإنّ كمال فائدة الثمار باجتناء الثمر ويعرف مجتنيه قدر الفائدة، بل الفوائد التي فيه .

ولما كان الإمام البخاري رحمه الله قد جعل لكل وجه مما يدل عليه الحديث باباً، ولربما كرر الحديث الواحد في أبواب شتى مراراً، ولربما قطع الحديث الواحد، وأتى في كل باب منه بقدر الحاجة إليه، رأيت أن أجعل كل حديث من تلك الأحاديث التي جمعت قائماً بنفسه مقام باب، وهو

ز

باب وأي باب، ومفتاحه ظاهر ،الحديث والأبواب التي تتفرع منه وجوه تتبعه . ثم تتبعت ألفاظ الحديث لأقتبس من بركات تلك الألفاظ العذبة الزلال ما يكون منه ريّاً لظما جهالات الفؤاد، لأنه، عليه السلام، لا يكون منه زيادة حرف ولا نقص حرف من الحروف إلا لمعنى مفيد، لأنه لا ينطق عن الهوى .

وهذا الكتاب يحتوي على جُملٍ من درر فرائض الشريعة وسننها ورغائبها وأحكامها، والإشارة إلى الحقيقة بحقيقتها والإشارة إلى كيفية الجمع بين الحقيقة والشريعة، وتبيين الطرق الناجية التي أشار عليه السلام إليها والإشارة إلى بيان أضدادها، والتحذير منها .

وربما استدللت على بعض الوجوه التي ظهرت من الحديث بأي وبأحاديث تناسبها وتقوّيها فمنها باللفظ ومنها بالمعنى. وأتبعت ذلك بحكايات ليشحذ الفهم بها، وليتبين بها المعنى، وربما أشرت إلى شيء من توبيخ النفس على غفلتها، لعلها تنتهي عن غيها . وأودعت فيه شيئاً من بيان طريقة الصحابة وآدابها وما يستنبط من حسن عباراتهم، ذلك وتحرزهم في نقلهم وحسن مخاطبتهم، وما يُستنبط من ( اداب الشريعة إذا تعرّض لفظ الحديث لشيء من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يغفل عن شيء من ذلك، لأنهم هم الصفوة المقربون

من

والخيرة المرفوعون .

مخطوطات الكتاب

المخطوطات التي اعتمدت عليها كانت كما يلي :

مخطوطة باريس الأولى : رقمها في المكتبة الوطنية (LA BIBLIOTHEQUE NATIONALE)

هو : ٥٣٥٢ .

تضم هذه النسخة ٤١٦ ورقة في الورقة بين ۳۸ - ۳۵ سطراً، وفي السطر ١٤ كلمة كتبت

بخط مشرقي واضح جميل .

وهي كثيرة الطمس والأحبار السوداء التي أكلت كثيراً من الكلمات، ولولا وجود نسخ أخرى

لما استطعنا قراءة المطموس .

الشيخ

أما ميزتها فتكاد تكون كاملة بدءاً من المقدمة وانتهاء بالحديث رقم (١٠٠). على ورقة الغلاف كتب ما يلي (الجزء الأول من كتاب بهجة النفوس وتحليها . الإمام ... أبو محمد عبد الله [ابن أبي جمرة ... شرح كتابه جمع النهاية في بدء الخير والغاية مختصر كتاب الإمام البخاري ... الله آمين آمين.

وفي وسط الورقة تبيّنت ما يلي : ( ... الشيخ محمد بن أحمد بن ... بدايع الزهور في وقايع

الأمور توفي الإمام العالم العلامة العامل البارع ... الناسك أبو محمد ... عبد الله بن أبي جمرة المالكي المذهب في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وستمائة بمصر ودفن بجدار تربة الشيخ ال ... رضي الله عنهما وهو الذي جمع الأحاديث الصحيحة عن رسول الله الله التي تقرأ عند قبره في أول يوم من السنة فيجتمع الناس هناك ويفتتحون العام بزيارته ويسمعون ما الأحاديث جمعه من الشريفة . انتهى) .

وفي أسفل الورقة كتب : ... محمد بن المقنع أحمد الرواس حماد بن . . .

في الورقة الثانية كتب في مطلعها : (بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين . قال الشيخ الإمام العالم ولي الله محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي العباس بن أبي جمرة رحمه الله تعالى ورضي عنه . الحمد لله الذي فتق رتق ظلمات جهالات العالم . . ) .

رغم كل الطمس في هذه النسخة فإن ميزتها كبيرة ، حيث تجد في كل ورقة تعليقات، وتصويبات ،

وشرح لبعض المفردات، ومقابلات على الهوامش بخط مشرقي حيناً وأندلسي حيناً آخر . كذلك تمتاز بتباين خط لفظ الحديث عن خط الشرح ، ومن السهل جداً تمييز هذا عن ذاك . وفي الورقة الأخيرة طمس شديد ، وبصعوبة بالغة تبينت ما يلي : . في تاريخ يوم الجمعة المبارك من شهر جمادى الآخر سنة ۱۱۰۷ ، ويبدو . أن هذا تاريخ نسخها .

ط

مخطوطة باريس الثانية رقمها في المكتبة الوطنية LA BIBLIOTHEQUE) (NATIONALE هو : ٦٩٥

تحتوي على ٤٦٢ ،ورقة كل ورقة فيها ما بين ۲۹ - ۳۱ سطراً، وفي السطر الواحد حوالي ١٤ كلمة، وكلها بخط أندلسي جميل وواضح. ويظهر لي أن هذه النسخة تتمة أو جزء ثان لنسخة باريس الأولى المكتوبة بخط مشرقي بالرغم من كتابة هذه بالخط الأندلسي، كما أخذت المرائي من هذه الأوراق ٣٦ ورقة، اشتملت على سبع وستين رؤيا وجزءاً من الثامنة والستين، وهي

بالخط نفسه .

كذلك

والفرق بين الجزء الأول الذي كان بالخط المشرقي وبين هذه النسخة ذات الخط المغربي أو الأندلسي هو أن الأولى مفعمة بالحواشي والمداخلات وأما هذه فقد خلت، تقريباً، من

تلك المميزات .

أول الأوراق تحميدات كثيرة، وصلوات على النبي ا ا ، وإيداع شهادة أن لا إله إلا الله محمد

رسول الله لتشهد لكاتبها بالتوحيد يوم القيامة .

أما الورقة الأولى الأم فقد تصدّرت بالبسملة والصلاة على النبي عليه ثم بدعاء الكاتب : (فيا رب يسر لنا وأعن، وأتمم لنا الخير يا معين ثم شرع الكاتب في النسخ فكتب : (قال الشيخ الفقيه الإمام العالم الحجة العارف بالله والمحب في رسول الله البركة سيدي عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي رحمه الله ورضي عنه ونفعنا به وبأمثاله بمنه وجوده وكرمه) .

وبدأ بنسخ الحديث الأول، وكان حديث الإفك) . والملاحظ على الناسخ في هذه النسخة أنه لا يورد الحديث كاملاً ، وإنما يورد الكلمات الأولى منه اعتماداً على القارىء بأنه يعرفه، أو يحفظه .

ولا بد من الإشارة إلى أن الناسخ أهمل نسخ شرح الأحاديث التي أرقامها من ۱۰۱ - ۱۱۸ . في نهاية هذه النسخة قال الناسخ : كمل الجزء الثاني من الكتاب المسمى ببهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها ، وعليها شرح مختصر البخاري المسمى بجمع النهاية في بدء الخير [وغاية]، مما عنا بجمعه الشيخ أبو محمد عبد الله بن [سعيد] بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، رضي الله عنه ورضي عنا به، وأعاد علينا من بركاته بمنه وفضله فإنه لا رب سواه، والحمد لله رب العالمين، وغفر لمن [دعى] وكاتبه ومؤلفه وكاسبه ولوالديهم بالرحمة والمغفرة آمين، آمين، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعبده وسلّم تسليماً .

نسخه وكان الفراغ من يوم

الأربعاء لثمانية عشر خلت من شهر شوال من السنة ستة ومائة

وألف، رزقنا الله خيره، وكفانا بفضله ،شره بجاه نبيّه محمد بن عبد الله .

مخطوطة لندن الأولى : رقمها في المكتبة البريطانية (THE BRITISH LIBRARY) هو

صورت على فيلم ونحن تولّينا تكبيرها .وإظهارها ويبدو أن الذين نسخوا هذه المخطوطة لم يشاؤوا نسخها كاملة، وإنما كانوا يختارون ما يرونه المناسب والأهم في نظرهم، فلقد بدؤوا بحديث (بدء الوحي) وهو الأول عند المؤلف، ونسخوا الثاني وهو (حلاوة الإيمان)، والثالث وهو (حديث عبادة بن الصامت في البيعة) ، ثم توقفوا عن نسخ ما بعدها ، ثم اختاروا من بقية الكتاب حديثين : حديث الإفك وحديث الإسراء والمعراج، وانتقوا جزءاً صغيراً من المرائي لا يزيد على سبع . كان نساخ هذه المخطوطة أكثر من واحد، فلقد تغيّر الخط في الورقة ١١٧ عند حديث الإسراء والمعراج، كما توقف التعليق والتصحيح والمقابلة . تحتوي المخطوطة على ١٦٠ ورقة (غير المرائي في الورقة الواحدة ٢٧ سطراً، وفي السطر

١٤ كلمة .

الورقة الأولى فيها اضطراب، إذ تجد في القسم العلوي منها جزءاً من حديث الإسراء والمعراج ، وفي النصف الثاني قول الناسخ في أول مقدمة ابن أبي جمرة : قال الشيخ الفقيه الإمام الحجة العارف الولي المكاشف الصوفي المحقق الثقة العدل الجامع الذي اشتهر فضله وانتشر في الأنام دينه وعدله سيدنا ووسيلتنا إلى ربنا الشيخ العلامة أبو محمد عبد الله بن سعد بن أبي جمرة الأزدي نفعنا الله به ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه . الحمد لله الذي فتق ظلمات جهالات القلوب . . . ) تمتاز هذه النسخة في مقدمتها وفي الأحاديث الثلاثة الأول بميزة المقابلة والتصحيح التي لا تخلو منها صفحة الصفحات . أما القسم الثاني الذي أشرنا إليه ففيه نقص عن الأصل، وفيه سطور كثيرة غير واضحة ولا سيما صفحات المرائي، وكانت إحداها بيضاء .

من

مخطوطة لندن الثانية : رقمها في (THE BRITISH LIBRARY) هو : ۳۹ .

صورت هذه المخطوطة على فيلم، ونحن تولّينا تكبيرها وإظهارها . تحتوي هذه النسخة على ۲۳۲ ورقة كتبت بخط شرقي واضح، وكل ورقة فيها ٢٣ سطراً، وفي السطر الواحد حوالي ۱۳ كلمة .

هذه النسخة ناقصة، إذ بدأت من الحديث ۱۲۱) الذي عنوانه (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) إلى الحديث ١٦٣ الذي عنوانه (صفة مجيء الوحي للنبي ) . وقد كتب الناسخ في آخر ورقة : (تم الجزء الثاني من كتاب بهجة النفوس وتحلّيها بمعرفة ما لها وعليها ... شرح البخاري المسما] بجمع النهاية) .

أما التعليقات والمداخلات والتصحيحات فقليلة جدًّا، كذلك لم نعثر على تاريخ نسخها،

ولا نعتقد أنها قديمة جدا، لا تبعد عن القرن الحادي عشر الهجري .

بشرط فاذا وقع المشرط وقع المشروط وبالله التوفيق حوله عن رسول الله صلى الله عليه ولا الا تصدقوا اهل الكتاب ولا يكدبوهم الحديث كامر الحديث يدل يمنع تصديق اهل الكتاب وتكرسهم تم الكلام عليه مروجي الأول هل النهي عام في كل ما يدعونه في كليهم وغيرها من الشهادات او هو حاور عابد عونه في كسبهم لا عير تحمل الوجبير معا لكر تمام الحديث ستفنى ان المراد به ايد عونه ولكنهم لانه علیه السلام قال بعد الهى ويداها امنا بالله وما اترا - اليكم يعني السورية والالجيرا لانه قد صح باخبار القران اور الكتان السورية والاجميل انزلا عليهم وانهم قد غير وافيهما وبدأوا فاذا قرواشيا وادعوا انه من السورية او الامل احتمال ان كون ذلك حقا لانهم لم بدلوا الكتاب كنه وانما بذلوا بعضه و احتمال ان يكون ذلك مما بدلوه وعين فلما ان احتمال الرصين معامع عليه السلام التصدتو لهم حذر امزان سب لله على ما لم يقلد و منع التكريب حدر من ان بعد با سلام اللہ تعلی اذا كان ما والو حقا و به يستدل ملك رحمه على القول بسد الدريع وقل منع الفقها بعد ريعهم من واحد كان ذلك فى كسهم او غير ما مع ان الحديث قد لا لحلوافر الاشتباره الى ذلك ووجه المنع من صديقتهم في كلام اياتون به انه لما ان اخلوا بالاصل و هو د نهم وكتابتهم الذي انزل عليهم فكر بوا فيد وخالفوا الحق فكيف لصد قول غير فان هلنا الحديث على العموم من غير السيد على ما ذهب اليه بعض الفقها فلا لح وأن حملناه على الخصوص لقولہ علیہ السلام وقولوا امنا باسه و ما انزل اليكم كان الحب ماد کرناہ تحصل مركلى الوجهين العموم العلم صلاهم على الالملاو و هذا هو الحكم وعليه عمل السلف و قاجا اليوم بعض

صورة الورقة الأولى من مخطوطة لندن الثانية ذات الرقم ٨٣٩ في المكتبة البريطانية THE BRITISH LIBRARY

مخطوطة حلب رقمها في المكتبة الأحمدية ٢١٥ خاص .

تتألف هذه المخطوطة من جزأين كبيرين، أوراقهما ٣٨٤ ورقة ، وفي الورقة صفحتان، أي أن مجموع صفحات المخطوط ٧٦٨ صفحة. في الصفحة ۳۳ سطراً، وفي السطر من ١٩ إلى ١٤ كلمة . الخط نسخي واضح، أقرب ما يكون إلى الخط الجميل كما أن هذه النسخة تكاد تكون

كاملة نسبياً، وليس على هوامشها تعليقات كثيرة، ولا مقابلات أو قراءات، إلا ما ندر . من سماتها : أن ناسخها جعل ألفاظ الحديث بحجم أكبر من بقية الشرح ليميزه، وأنه ـ وأعني الناسخ ـ كما يبدو لي لم يكن متعلماً بشكل كافٍ ، وإنما كان مجرد ناسخ أو ناقل، ذلك لأن الأخطاء الإملائية، والنحوية، بل تركيب الكلمات كان فاحشاً، مما يدلّ على أنه كاتب شبه جاهل . زد على ذلك أنه كان يقفز قفزات كبيرة في نقل الشرح ولا يبالي إن تم تركيب الجملة أو لم يتم، ويا ليت القفز كان في بعض الكلمات فإن الأمر حينئذ يهون لكن القفز كان في عدد كبير من الصفحات قد يصل أحياناً إلى تسع وعشرين صفحة من النسخة المطبوعة دفعة واحدة، وكذلك كان في أحاديث كاملة متناً وشرحاً مثل حديث (عمرة في حجة) .

تاريخ نسخ الجزء الأول كما سُجِّل في آخر ورقة كان سنة ١١٦٦ هـ. ولم يذكر الناسخ اسمه .

أما الجزء الثاني فقد كان غلافه كغلاف الجزء الأول كتب الناسخ عليه : (كتاب بهجة

بن

النفوس وتحلّيها بمعرفة ما لها وعليها . تأليف الإمام العالم العلامة ولي الله [أبو] محمد عبد الله سعيد بن أبي العباس ابن أبي جمرة الأزدي رحمه الله تعالى ورضي عنه بفضله، وهو شرح مختصر صحيح البخاري، رحمه الله تعالى، آمين.

والشيء الذي قلناه عن الجزء الأول ينطبق على الجزء الثاني .

وختم الناسخ هذا الجزء بما يلي: تمّ جميع الديوان المسمى ببهجة النفوس [وتحليتها]

عني

بمعرفة ما لها وعليها شرح مختصر البخاري المسمى بجمع النهاية في بدء الخير والغاية مما بجمعه الشيخ الإمام العلامة أبو محمد عبد الله بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، رضي الله عنه، ورضي عنا به، آمين . جزاه الله خيراً من تأمل صنعتي وقابل ما فيها من السهو بالعفو وأصلح ما أخطأت فيها بفضلِهِ وفطنته، وأستغفر الله من سهوي وكان الفراغ من الشرح المبارك يوم السبت ختام شهر ربيع الآخر من شهور سنة وستين ومائة وألف على صاحبها أفضل الصلاة على يد أفقر العباد إلى ربه، المضطر إلى عفوه

هذا

سبع

ورحمته وفضله، الناطقة عليه جوارحه بسوء عمله المقصر في حق نفسه، الراجي رحمة ربه. الفقير الحقير المسكين إبراهيم محفوظ بن محمد بن إبراهيم بن حافظ الدين بن شمس الدين السروري الغانمي المقدسي الحنفي مذهباً غفر الله له ولوالديه ولمن قرأ فيه، ودعا له ولكل المسلمين، وتاب الله عليه قبل أن يتوفاه وتلافاه إذا فغر الموت له فاه، وصلى الله على سيدنا محمد سيّد الكونين والثقلين وآله وصحبه وسلّم، والحمد الله كثيراً).

رقم المكتبة الأحمدية

٢١٥٠رخاص

الجزء الأول ا عامن

کتاب بهجة النفوس وتحليتها بمعرفة مانها وعليها تاليف الامام العالم العلامة واع الله ابو محمد عبد الله بن سعيدان والعباس

ابن ابي جمرة الأزدي زحمة استعالى

ورضى عنه بفضله

وهو شرح مختص الامام البخاري محمد

الله له با

امین

صورة غلاف مخطوطة المكتبة الأحمدية بحلب

ذات الرقم ٢١٥ خاص

المطبوعة المصرية

والرابع

تقع

هذه النسخة في أربعة أجزاء، الأول فيه ٢٣٦ صفحة والثاني كذلك، والثالث ۲۳۸ ، ۲۹۲ صفحة . . وتضم الصفحة الواحدة ٢٦ سطراً، والسطر فيه حوالي ۱۸ كلمة . طبعت هذه النسخة في مطبعة) الصدق الخيرية بالقاهرة سنة ١٣٥٥ هجرية، وقام على تصحيحها ومقارنتها بنسخة مخطوطة موجودة برواق المغاربة بالجامع الأزهر، ونسختين أخريين كانتا في مكتبة الأزهر كذلك إسماعيل بن عبد الله المغربي الصاوي، المشرف على طباعته، ويشيد إسماعيل بمعاونة الشيخ الهادي عبد القادر التونسي، والشيخ عبد الصمد الحسيني السنان الأزهري له أثناء عمله فيه، كما ذكر في آخر صفحة من الجزء الرابع . ثم جاءت (دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة ببيروت فصوّرت المطبوعة المصرية مرة بعد مرة، ونشرتها بين الناس، ولم تحذف كلمة إسماعيل بن عبد الله المغربي الطباعة، والملتزم لطبعه كما هو شأن كثيرين من الناشرين المصوّرين اليوم. تمتاز هذه النسخة بقلّة الأخطاء، وبكثير من الدقة والعناية وهذا لا يعني أ ب أنها خلت تماماً من الهنات والأوهام، كما أنها صدرت على النسق القديم من الطباعة فلا إشارات ترقيم، ولا ما يدلّ على بدء مقطع أو نهايته فالكلام كله متصل متلاحق ،متتابع، ومثل هذه الصورة من الكتب تتعب القارىء، وقد تزهده بمتابعة القراءة، أو تضيع عليه الكثير من الفوائد في الكتاب .

منهج التحقيق

الصاوي، المشرف على

اعتمدت بادئ ذي بدء على المطبوعة المصرية، وجعلتها أساساً في العمل، لما فيها من جهد ودقة ووضوح

ثم بدأت أقارن أحاديث (جمع (النهاية) التي كانت أساس (بهجة النفوس)، ومدار شرح ابن أبي جمرة، بمثيلها في صحيح البخاري، خشية أن يكون في النقل أو في الطبع شيء من ا الغلط . وحين انتهيت من هذه المرحلة انفتلت إلى العملية الثانية الأكبر، وهي مقارنة المطبوعة بالمخطوطات التي كانت بحوزتي ، واحدة بعد أخرى، وسجلت الفروق الصغيرة والكبيرة بينها، دون أن أهمل شيئاً، حتى ولو كان نقطة أو حرفاً بزيادة أو نقص. واستغرقت هذه العملية ما يزيد على ثلاث سنوات بمعدل عشر ساعات في اليوم الواحد.

وجاءت المرحلة الثالثة، وهي اختيار الأصح والأقوم بين مختلف الفروقات. وباعتقادي أن هذه العملية شديدة الخطر، وفيها غير قليل من المزالق ، إذ قد يكون المؤلف أراد شيئاً ونحن اخترنا شيئاً غيره، ثم نقول : إنه مراد المؤلف وهنا تكمن خطورة هذه المرحلة .

أج

في عملية الاختيار درست أسلوب ابن أبي جمرة دراسة متأنية، وسجلت مميزاته من خلال قراءتي لبهجة النفوس قبل عملية الاختيار والترجيح وعرفت طريقته في الشرح والمعالجة لكافة القضايا التي يدور بحثه حولها من تحليل واستنباط ،ومقارنات وتصوّف، وأصول، وتنبيه، وإرشاد، وغير ذلك .

ولقد ساعدتني هذه الدراسة كثيراً، وكشفت لي الطريق عند اضطراب النسخ واختلافاتها الكبيرة، وأعانتني على الترجيح.

ولا أزعم أني لم أخطىء في اختياراتي أو في ترجيحاتي، فلقد أكون أخطأت كثيراً، وابتعدت عن الحقيقة، ويشفع لي أني اجتهدت صادقاً، وعملت مخلصاً، وكنت محبا لابن أبي جمرة، مريداً أن يظهر كتابه للناس خالياً من الأخطاء قريباً من الشكل الذي كتبه بيده، أو مماثلاً للشكل الذي دونه . ومثل هذا الحب يدفع إلى الإخلاص، ويستهين بالجهد والوقت، والتعب،

والغالي والنفيس .

كاملاً،

ولم أكتف باجتهادي وحده وإنما رجعت إلى العلماء الموثوقين، وعرضت عليهم العمل كان يختلف اجتهادنا نتشاور ونتناقش حتى نصل إلى قناعة ترضينا جميعاً .

، وحين

وأخيراً، لست أدري ماذا أسمّي عملي في بهجة النفوس أهو تحقيق، والعهد بالتحقيق أن يسجل المحقق اختلاف النسخ في هامش كل صفحة ولم أفعل أنا هذا، ولم أسجل أي اختلاف ولا أشرت إلى نسخة مما كان بين يدي أم أسمّيه مقارنة أم مراجعة أم تصحيحاً، أم تحديثاً، أم

شيئاً آخر؟

في الحق كنت مهتماً أن أظهر هذا الكتاب الذي أحببته إلى الناس صحيحاً، سهل القراءة، محبّباً إلى العين، كما هو محبّب إلى النفس، ليقرأه العالم والمتعلم، والصغير والكبير، والعربي والمستعرب والقاصي والداني، فيستفيد منه الخلق جميعاً، ويكتب الله لي بقراءتهم واستفادتهم حسنات بعد حسنات، وأجراً فوق أجر، ويمرّ الزمان، وتتوالى الأيام والسنون والدهور ويبقى بهجة النفوس من العمل الخالد الذي لا ينقطع أجر صاحبه إلى يوم القيامة، وأكون أنا تحت لواء هذا العمل المأجور إلى يوم القيامة، وكفاني بذلك فخراً، وحسبي من الله أن يرضى عني، وعن والدي، وذريتي، ومن كان له فضل علي إلى يوم الدين .

شاهداً

اللهم إني أتوسل إليك أن تقبل هذا العمل، وتجعله في صحيفتي وصحيفة أبوي، ويكون لي الحساب، لا علي إنك سميع قريب مجيب . وصل اللهم على سيدنا ومولانا وحبيبنا

يوم

، وسلّم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

محمد، وعلى آله ، وصحبه،

حلب المحروسة : ١٦ ذو الحجة ١٣١٥ هـ / الموافق ١٦ أيار (مايو) ١٩٩٥ م .

36 ان

أد

وان الحر الجحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن أشرف ما يتعلمه الإنسان في حياته كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى، ، فهما

النور الهادي إلى الصراط المستقيم في الحياة، والقائد المُسَدّد إلى دار الخلود، وجَنَّةٍ عرضها

السماوات والأرض .

أنا وابن أبي جَمْرَة (أى الدكتور بكرى شيخ امين والحافظ عبد الله ابن الى حمرة

أحمد الله العلي العظيم أن جعلني أحد خدمة كتابه وسنّة نبيه عليه السلام، وأمدني بالعافية

والفراغ والوقت لأنهض بتحقيق أحد كتب السنّة النبوية، المسمى بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وعليها كتبه عالم ،عارف ومحدّث متقن، وبحر زاخر هو (الشيخ عبد الله بن أبي جمرة

الأزدي الأندلسي.

والذي حببني إلى العمل في هذا الكتاب أني حين كنت أقرأ فيه ذات يوم حديث (بدء الوحي) والشرح الذي كتبه ابن أبي جمرة عليه أدركت أن العلم نوعان : نوع نتعلمه من أساتذتنا والكتب التي بين أيدينا ونوع آخر يمنحه الله تعالى لمن يحب هو أكبر وأوسع وأعمق بدرجات لا تقارن بالأول، ولا تقاس به . الأول: علم دنيوي، والثاني : علم لَدُنّي. وما علم موسى والخَضِر، عليهما

السلام، إلا شاهد عليهما .

وأدركت بعد الانتهاء من قراءة الحديث الأول فقط أن مؤلف هذا الكتاب عنده من العلم الثاني الشيء الكثير ،الخطير ، وأن الكتب والشيوخ وأكابر المعلمين لا يمكن أن يبلغوا بالشرح ما

بلغه ابن أبي جمرة .

وازداد حبي للكتاب حديثاً بعد حديث، وكان حديث عبادة بن الصامت في البيعة) الحد الفاصل بين مجرد القراءة فيه، وبين اتخاذ القرار على تقديم هذا الكتاب للناس كافة، والمسلمين بخاصة، محققاً، مخدوماً، بشكل علمي، ليتربع في بيت كل مسلم وليقرأه العالم والمتعلم،

وكل منهما سيجد بغيته في ثناياه، وينتفع به أيما انتفاع .

وأكثر من هذا أني كنت أزور بين الفينة والفينة كوكب حلب، وعَلَمَها، والحبيب إلى أتقيائها وصالحيها وأتقياء وصالحي العالم الإسلامي، وأعني به الشيخ محمد النبهان، رحمه الله، فكنت أجد هذا الكتاب بطبعته القديمة على طاولته وكان يشيد بمؤلفه، ويثني عليه أيما ثناء، وينصح بقراءته، والتمعن فيه، وإعادة النظر في أسراره وجواهر محتواه.

كذلك سألت العالم المفضال والرجل الذي يحبه كل مسلم وتقي وصالح في مدينة حلب وغير حلب، والذي يتسابق الناس لحضور مجالسه واقتناء كتبه التي هي أثمن من الجواهر واللآلىء، وأعني به الشيخ عبد الله سراج الدين بن الشيخ العلامة الشيخ نجيب سراج الدين. أقول : سألت هذا الرجل عن كتاب ابن أبي جمرة فأثنى عليه وجعله في المقام الأمثل بين الكتب الإسلامية الرائعة وتمنى لو يسر الله له من يخدمه وينشره بين الناس على صورة تليق به، ليكون

مرجعاً لكل مسلم في كل بيت

وسألت عنه عالم حضرموت ونزيل جدة حالياً، السيد الشريف، والعلامة المفضال، السيد الشريف، والمحدّث الثقة، الشيخ عبد القادر السقاف، وهو من هو في العالم الإسلامي، فوضعه في ذروة الكتب الإسلامية، وتحدّث عن ابن أبي جمرة حديثاً لا أحلى منه ولا أروع، وحتني بشدة على العمل به، وخدمته، وبشرني بحسن الختام إن قدّمت للناس هذا الكتاب النفيس، فضلاً من الله ونعمة، وأن الله لا يضيع أجر من يخدمون سنة نبيه ، .

وشرح الله صدري لهذا العمل وبقيت سنوات أستجمع مخطوطاته من مكتبات العالم، وحصلت على مخطوطتين من إنكلترا، ومخطوطتين من فرنسا ونسخة من مكتبة الأحمدية بحلب، إضافة إلى المطبوعة بالقاهرة أولاً، ثم في بيروت تصويراً بعد ذلك .

وواجهتني

مشكلة تخريج

الأحاديث النبوية التي كان المؤلف يوردها بمعانيها، وهي كثيرة

جدا، وصممت على أن أردها إلى مصادرها وأدل على مكان وجودها في كتب السنّة، وأوردها بلفظها الأصيل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً .

ولم يكن باعي في التخريج واسعاً، ولا في مكتبتي الخاصة ما يعينني على ما أصبو إليه، وحيتنذ لجأت إلى عالمين جهبذين في هذا الفن ومكتبة كلُّ منهما تحوي كل ما يبهج ويفرح في هذا الموضوع، بل إن عند كل منهما من المصادر النادرة ما تتشهاه مكتبات الدولة العامرة، وتتمنى

وجوده على رفوفها .

كان هذان العالمان أمد الله ،بحياتيهما، وجزاهما عني وعن المسلمين كل خير، الشيخ محمد

نعمان حبوش

والشيخ محمد عدنان الغشيم. وتقاسما العمل في الأحاديث الواردة، ثم دفعاها إليَّ محققة مخرَّجةً، على خير ما يكون التحقيق والتخريج وكان عملهما خالصاً الله تعالى، لم يطلبا جزاء ولا شكوراً، واحتسبا جهدهما عند الله تعالى .

ورجل ثالث قريب لي وذو ،رحم كان بجانبي الوقت كله يدفعني ويشجعني، ويراجع ما عملت، ويساعدني إن احتجت إلى مساعدة فيقدم لي سيرة بعض من يشكل علي وجود سيرته في مكتبتي، أو يصحح ما يزل به قلمي، ويحاول أن يمد يد العون في كثير من الأوقات، وأقسم علي ألا أذكر اسمه ولا ،شكره ولا التنويه به وها أنذا أبر اليوم بقسمه ، وأحتفظ بذاكرتي باسمه، وأدع شكره وجزاءه الله تعالى .

وحين انتهى التحقيق للكتاب كله عرضته على أخ عالم كريم، وصديق ودود، له باع طويل في التحقيق والتأليف هو الأستاذ الدكتور فخر الدين ،قباوة لعله ينظر فيه، ويقوم ما أخطأ فيه اجتهادي . فتطوع متبرعاً ، وراجعه من أوله إلى آخره، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة فيه، حتى النقاط والفواصل وإشارات الاستفهام والأقواس وسواها. فجزاه الله وأحسن جزاءه، وبارك له في عمره وعلمه وعمله وذريته، إنه سميع قريب مجيب.

الرائع في هذا الكتاب أني كنت خلال عملي فيه أشعر بالسعادة والاطمئنان، وكذلك حدثني كل من شاركني العمل فيه، وكأن الله سبحانه وتعالى استجاب دعوة مؤلفه في أن يكون كتابه هذا نوراً لمن قرأه أو سمعه أو تملكه، إلى يوم القيامة، وكذلك كان طلب ابن أبي جمرة من النبي ، ، في أحد مراثيه أن يجعل البركة في كتابه هذا، وأن يحفظ قارئه، ومقتنيه في الدنيا والآخرة.

لقد أيقنت أن الله تعالى استجاب دعوة ابن أبي جمرة في كتابه في موطنين، كنت فيهما في غاية الشدة والبلاء، وكدت أرى الهلاك بأم عيني بين لحظة وأخرى ، وسألت الله، واستغثت به ودخلت عليه بأحبابه وما هي إلا ساعة من زمن حتى تغير الجو كله وكأن الدنيا أصبحت غير الدنيا، فلقد ابتسمت الوجوه بعد عبوس وحلّ الكلام اللطيف بعد الكلام الخشن، والاعتذار بعد الإنذار، والسماح بعد التهديد والوعيد ، ثم ختم الموقف بطلب الدعاء مني . وأشهد أني كنت خلال عملي في هذا الكتاب المبارك، والذي استغرق العمل فيه ست

(1) انتقل إلى رحمة الله تعالى في أواخر عام ١٤١٦هـ / ١٩٩٦م.

سنوات، في فرح دائم، ونشوة مستمرة، وكنت كلما ضاقت بي الدنيا لأمر من الأمور، أو طرأ علي طارىء آتي إلى مكتبي فأفتح كتاب ابن أبي جمرة وأبدأ بالعمل فيه، فلا تمر علي دقائق إلا وقد شرح الله صدري وأزال همّي وفرّج كربي، وإذا أنا في نشوة وفرحة، وإذا الدنيا تضيء في عيني، والفرح يغمرني والسعادة تشع من كل أطرافي وجوانحي .

اللهم إني أشهد أن أحبابك غالون عليك .

وقريب من هذه الحادثة ما حدثني أحد ممن أشرت إليه قبل قليل ، وأن الله تعالى أنجاه من شر عظیم ببركة اللجأ إلى الله ، ومحبَّة أحبابه . والأمثلة على مثل هذه كثيرة لا تكاد تحصى .

من هو ابن أبي جمرة؟

أضعاف ما كتب عن

المصادر التي تحدثت عن هذا الرجل كثيرة، لكن حديثها عنه لم يكن بالمستوى الذي كان يستحقه، فهناك كثير من العلماء ممن لم يكونوا بمستواه نالوا من الاهتمام والحديث والترجمة هذا الإنسان، حتى إن ابن كثير في البداية والنهاية لم يكتب عنه سوى سطر واحد، ومثله السيوطي في حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة وقريب منهما عمر رضا في معجم المؤلفين، والزركلي في الأعلام ، والشعراني في الطبقات الكبرى، والشيخ محمد ابن محمد مخلوف في شجرة النور الزكية في طبقات المالكية وأبو الطيب الحسيني البخاري القنوجي في التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر ،والأول، وابن الملقن في طبقات الأولياء، وعبد الله محمد الصديق الغماري الحسيني الإدريسي في بِدَع التفاسير .

كحالة

أما الرجل الذي أنصفه وأظهره للناس وكتب عنه عشرات الصفحات، وأبان علمه، ودينه، وخلقه، وتحدّث عن كراماته وزهده وكثير من خفايا حياته الخاصة فهو تلميذه العالم الفاضل الملقب بابن الحاج والمسمى بالشيخ محمد العبدري الفاسي ثم المصري، المالكي، في كتابه المشهور (المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد ببيان شناعتها وقبحها، والمشهور بين الناس باسم (المدخل) .

والحق يقال : إن معظم معلوماتنا عن ابن أبي جمرة مصدرها الأكبر ابن الحاج في (المدخل)، ومن خلال هذا الكتاب في الدرجة الأولى، ثم من الكتب الأخرى عرفنا أن اسمه الكامل : عبد الله بن سعد (ويقال : سعيد بن أحمد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، أبو محمد. وأن أصله من مدينة (مُرْسِية) بالأندلس، وهي تقع في الجنوب الشرقي من الأندلس، على نهر كبير يسقي جميعها كنيل مصر، رخيصة الفواكه، كثيرة الشجر والأعناب وأصناف الثمر، ولها حصون

د

وقلاع وقواعد وأقاليم معدومة ،المثال ومنها إلى بلنسية خمس مراحل، ومنها إلى قرطبة عشر

مراحل .

واستخلصنا من حديث تلميذه ابن الحاج أنه كان في الأندلس يتسبب بصناعة الفلاحة والغراسة في الأرض التي كان يملكها فلما أن ورد الديار المصرية أراد أن يتسبب بذلك لأجل العائلة، وحين رأى أكثر حال المزارعين في هذه الديار وما هم عليه من الشظف قال : لا يحل لي أن أتسبب ههنا ، ثم وقع له أن التسبب في حقه متأكد لأجل العائلة، فأراد أن يتسبب بغير الفلاحة، ثم قال : إذا اضطررت إلى التسبب تسبّبت لهم في غيرها، فانقطع إلى الله تعالى وترك الأسباب، واشتغل بالعبادة وإلقاء العلم، ففعل الله معه ما هو أهله، فأغناه الغنى الكلي عن الناس. كذلك لا نعرف الشيء الكثير عن أسرته من زوجة وأولاد وخدم أو غير ذلك، وكل الذي تعرفه أنه أمر زوجته، بُعَيْدَ زواجه أن تخبره بكل صغيرة أو كبيرة تتصرفها في المنزل في غيابه، ليعلمها ما هو شرعي، وما هو غير شرعي، وما يجب أن تداوم عليه، أو تبتعد عنه .

وعرفنا من سياق حديث ابن الحاج عن العقيقة أنه ولد له وَلَد في مدينة تونس، وفي ما مكان آخر يقول على لسانه في بعض الأوقات تكون في البيت الحركة الكثيرة والبكاء الكثير من الأولاد وغير ذلك مما يشوش الخاطر فلا أسمعه ولا أعرف به وكل ذلك راجع إلى حالي، وبعض الأوقات أشعر به، وما ذلك إلا بحسب الحضور والتفرقة .

أما شيوخه فقد كان الحديث عنهم نادراً، ولم نعرف منهم سوى أبي الحسن الزيات، وعبد الله بن محمد العرشي المرجاني، المتوفى سنة ٦٦٩ هـ، والذي كان واعظاً ومفسراً وفقيهاً ومتصوفاً، وقدم إلى مصر واشتهر بها ، وفيها ،مات كما يقول الشعراني عنه في الطبقات الكبرى .

وأما تلامذته فهم كثر ، وأشهرهم على الإطلاق ابن الحاج وهو الذي نشر اسم ابن أبي جمرة في الآفاق، وتحدّث في مواطن كثيرة عن حياته الخاصة، وعلاقته بأهله وطلابه، وحكام زمانه والناس جميعاً.

وأما علومه فإن قارىء كتابه (بهجة النفوس يستنبط أنه كان حافظاً للقرآن الكريم حفظاً متقناً، وكان محدثاً، وأصولياً، ومفسراً، وفقيها، ومطلعاً على المدارس الصوفية، وأخبار المتصوفة، وله معهم موافقات ومخالفات كما له سلوك خاص به، يقوم على الاعتدال، وأن لا إفراط ولا تفريط وخير الأمور الوسط. وفي هذا المقام لا بد من الإشارة إلى أن ابن حَجَر العسقلاني كان يذكر الشيخ ابن أبي جمرة كثيراً في كتابه (فتح الباري)، وينقل آراءه، ويسميه بـ(العارف)، ويثني عليه ثناء عطراً. وابن ،حجر كما هو معروف، مناوىء للمتصوفة، ويحمل عليهم، وينكر كثيراً من أقوالهم وتصرفاتهم .

هـ

نبيملسد

لسداد

لییا،

شرح مختصر صحيح البخاري

بهجة النفوس وتحليها بمعرفةمَا لَها وعليها

تأليف الإمام

عبد الله بن أبي جمرة الأندلسي

تحقيق وتقديم

الدكتور بكري شيخ امين

ص 3

محاسنه ،

الخير والغاية (١)) إشارة إلى تكثير فوائد أحاديثه، وتعميم وكنتُ عزمت على تبيينها، لأن أتبع خيراً بخير، فيكون ذلك أصله وهذا ثمره فإنّ كمال فائدة الثمار باجتناء الثّمر، ويعرف مجتنيه قدر الفائدة، بل الفوائد التي فيه . ولمّا كان الإمام صاحب الأصل، وهو البخاري، رحمه الله ، قد جعل لكل وجه مما يدل عليه الحديث الواحد باباً، ولربما كرّر الحديث الواحد في أبواب شتى مراراً، ولربما قطع الحديث الواحد، وأتى في كل باب منه بقدر الحاجة إليه، رأيتُ أن أجعل كل حديث من تلك الأحاديث التي جمعتُ قائماً بنفسه مقام ،باب وهو باب وأي باب؟ ومفتاحه ظاهر الحديث، والأبواب التي تتفرع منه وجوه تتبعه .

ثم تتبعتُ ألفاظ الحديث، لأقتبس من بركات تلك الألفاظ العذبة الزلال، ما يكون منه ريًّا لظماً جهالات الفؤاد، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه زيادة حرف، أو نقص حرف من الحروف، إلا لمعنى مفيد لأنه لا ينطق عن الهوى . ولذلك قال جُلّ العلماء : لا يُنقل الحديث إلا بالفاء والواو، كما ينقل الكتاب العزيز . لأنه كله عن الله ، إما وحي بواسطة الملك، وهو القرآن، أو ما أخبرنا عليه السلام في سنته أنه أخبر به عن ربه جل جلاله من عِلم غيبه، وإما وحي إلهام، وهو السنة. وقد جعل عزّ وجلّ، ذلك حكماً .نافذاً فقال تعالى: ﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ الله (۲) في عموم ما أُنزِل عليه، وفيما يظهر له على المشهور من الأقاويل وأرجحها. وقالت طائفة من العلماء : يجوز نقل الحديث بالمعنى بشرط فَهم المعنى. وما يعرف حقيقة ما ذكرناه عن جلّ العلماء والأظهر من القولين اللذين أشرنا إليهما إلا الصحابة رضي الله عنهم، وأئمة الدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا إذا وقع لأحدهم شك في صيغة اللفظ، وإن كان لا يخلّ بالمعنى، يبدون ذلك فيقولون : إخاله كذا، أو أظنّه كذا، ولا ذاك إلا

من وجهين :

أحدهما: الصدق في النقل .

الثاني : المحافظة على بركة ذلك اللفظ الخاص، لئلا تفوتهم بركته .

ومثل ذلك ما حكي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أدار راحلته بموضع في طريق الحج، فسُئل : لِمَ فعل ذلك ؟ فقال : لا أعرف إلا أنّي رأيتُ رسولَ الله ، ، فعل ذلك، ففعلت

(۱) اقتبس فيه من صحيح البخاري ثلاثمائة حديث غير بضع. وأولها حديث كيف كان بدء الوحي لرسول الله ) واخرها حديث دخول) أهل الجنة وإنعام الله عليهم بدوام رضاه فيها. وكأن عنوان الكتاب يشير إلى هذه البداية

الخيّرة والنهاية السعيدة . (۲) سورة النساء، من الآية ١٠٥ .

كما فعل (۱) ، فكانت ألفاظه وحركاته عليه السلام كلها عندهم بركات وأنواراً. وكيف لا؟ وقد حض، عزّ وجلّ على ذلك في مُحْكَم كتابه ، ونَبَّه عليه حيث قال : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبكُمُ اللهُ ) (٢) . وعموم الأمر بالاتباعية يقتضي حقيقة الاتباع في الدق والجل من الفعل والقول وغير ذلك، وهذا النوع من أفعال الصحابة كثير، ومَن تَتَبَّعه وَجَده.

وأما أئمة الدين رحمهم الله، فإنهم كانوا يحترمون الحديث أعظم الاحترام، حتى إنه كان عندهم مثل القرآن، يستنبطون من ألفاظه وحروفه أحكاماً ، وأتي أحكام ؟ وعليها يبنون قواعد مذاهبهم . أما احترامهم للحديث فمثل ذلك ما حُكي عن مالك رحمه الله، حين أتاه الخليفة إلى بيته ، فأبطأ عليه بالخروج ، فلما أن خرج قال الخليفة : يا مالك ما زلتَ تُذِلّ الأمراء . فقال : لا، والله ، إلا أنّي سمعتك، فعلمتُ أنك لم تأتِ إلا لتسألني عن الحديث، وكنت على غير طهارة، فكرهتُ أن أتكلم فيه، وأنا على غير طهارة، فما عملتُ شيئاً إلا أن توضأت وخرجتُ .

ومن ذلك أيضاً ما حُكي عنه أنه إذا طلبه الفقهاء لأن يدرّسهم يسألهم : ماذا تريدون؟ فإن أخبروه أنهم يريدون الفقه خرج على الحالة التي يجدونه عليها . وإن أخبروه أنهم يريدون الحديث تطهر وتطيب ولبس أحسن ثيابه، وتبخّر بالمسك والعُود ثم جلس للحديث. ومثل هذا عنه كثير ؛ فلما كان شأنه التعظيم لهذا سمّي أمير المؤمنين في الحديث .

رحمه

وأما استنباطهم للأحكام من ألفاظ الحديث وتتبع فوائده فمثل ذلك ما رُوي عن مالك، الله، في الأحكام التي استخرج من قوله عليه السلام : «فإذا وقعت الحُدودُ، وصُرِفَت الطُّرُقُ، فلا ا شفعة» (۳)، فأخذ مالك رحمه الله من هذا الحديث ثلاثة أحكام :

شريكاً .

الأول : أن الشفعة لا تكون إلا بين الشركاء، لا للجار وإن كان ملاصقاً؛ لأنه لا يسمى

(۱) رواه الإمام أحمد في المسند والبزار بإسناد جيد . (۲) سورة ال عمران، من الآية ۳۱

(۳) رواه الإمام مالك في الموطا مرسَلاً ، وابن ماجه والبيهقي وأبو داود والترمذي في السنن والطبراني في المعجم الصغير وكثيرون بألفاظ متعددة. والشُّفعة لغة: الضَّمُّ. ومنه الشَّفع في الصلاة، وهو ضم ركعة إلى أخرى. والشفع : الزوج الذي هو ضد الفرد والشفيع : لانضمام رأيه إلى رأي المشفوع له في طلب النجاح . وشفاعة النبي للمذنبين لأنها تضمهم إلى الصالحين والشفعة في العقار لأنها ضم ملك البائع إلى ملك الشفيع . وجاء في حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : الجارُ أَحَقُّ بِشفَعَتِه ، وقال في حديث آخر : جار الدار أحق بشفعة الدار . لكن الإمام مالك لم يثبت عنده إلا شفعة الأراضي، بينما المذاهب الأخرى رأت أن الشفعة تكون في الأراضي كما تكون في الدور والبساتين وما أشبهها . وللشفعة أحكام كثيرة فصلتها كتب الفقه في المذاهب كلها .

الثاني : أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم،

لا شفعة فيه، بدليل قوله : (فإذا وما لا ينقسم

وقعت الحدود) .

الثالث: أنها لا تكون إلا في الأرض أو ما شاكلها، بدليل قوله : (فإذا(۱) صُرفت الطرق)،

لأن الطرق لا تكون إلا في الأرض.

ومثل هذا عنه وعن غيره من الأئمة كثير، ومن تتبعه يجده فبقيت النفس متشوقة على الدوام أن تلحق خيراً بخير، تتردّد في ذلك تردّداً تنقطع به الأيام تسويفاً، إلى أن لما ذكرتُ أولاً، وهو رغب مني بعضُ من قرأ الأصل إبداء تلك المعاني، وما كانت النفس في ذلك أكنت . فأجبته إلى ذلك رجاء أن ينفعني الله وإياه بذلك، ومن قرأه بَعْدُ فصدق ورق .

وهذا الكتاب يحتوي على جمل من درر فرائض الشريعة وسننها ورغائبها وأحكامها والإشارة إلى الحقيقة بحقيقتها، والإشارة إلى كيفية الجمع بين الحقيقة والشريعة، وتبيين الطرق الناجية التي أشار عليه السلام إليها والإشارة إلى بيان أضدادها والتحذير منها، وربما استدللتُ على بعض الوجوه التي ظهرت من الحديث بآي وبأحاديث تناسبها وتقويها، فمنها باللفظ، ومنها بالمعنى. وأتبعتُ ذلك بحكايات ليشحذ الفهم بها، وليتبين بها المعنى. وربما أشرتُ إلى شيء من توبيخ النفس على غفلتها؛ لعلها تنتهي عن غيها .

وأودعت فيه شيئاً من بيان طريقة الصحابة وآدابها وما يستنبط من حسن عباراتهم، وتحرزهم في نقلهم ، وحسن مخاطبتهم ، وما يُستنبط من ذلك من آداب الشريعة إذا تعرّض لفظ الحديث لشيء من ذلك؛ لأنه لا ينبغي أن يُغفَل عن شيءٍ من ذلك، لأنهم هم الصفوة المقربون، والخيرة المرفوعون. وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ، مَا تَوَلَّى ) (۲) إِن المراد بذلك : الصحابة والصدر الأول، لأنهم هم الذين تلقوا مواجهة الخطاب بذواتهم السنية وانتفعوا بحسن السؤال عما وقع في النفوس من بعض الإشكال فجاوبهم عليه السلام بأحسن جواب وبين لهم بأتم ،تبيان فسمعوا وفهموا وعملوا وأحسنوا وحفظوا وضبطوا، ونقلوا وصدقوا؛ فلهم الفضل العظيم علينا ، إذ بهم وصل حبلنا بحبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبحبل مولانا، جلّ جلاله، فلهم اليد العليا حقًا وسَبْقاً . فجزاهم الله عنا أفضل ما جزى محسناً قد أحسن . وكيف نغفل ألفاظهم وما قلنا العشر مما يجب علينا؟

(۱) كذا.

(۲) سورة النساء، من الآية ۱۱٥ :وتمامها : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا لَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا

توَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) .

وإن ملحد تعرّض إليهم، وكفر نعمةً قد أنعم الله بها عليهم فجهل منه وحرمان، وسوء فهم

وقلة إيمان؛ لأنه لو كان يلحقهم تنقيص لما بقي في الدين ساق قائمة، لأنهم هم النقلة إلينا. فإذا جُرح النَّقَلةُ الكرام دخل في الأحاديث والآي الأمرُ المَخُوفُ الذي به ذَهابُ الأنام ؛ لأنه لا وحي بعد ا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال عزّ وجلّ في كتابه : ( لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغ ) (۱) وعدالة المبلغ شرط في

صحة التبليغ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : تركتُ فيكم الثَّقَلَيْنِ، لن تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكُتُم بِهما : كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (٢) . فمنهم ورَدْنا ماءَها السَّلسبيل وعذبها الزلال. وحُسنُ المنبع والمقر شرط في صفاء الشّراب وما أشكل على بعض النّاس من بعض الآثار فلتشبيههم بنا، والجهل بطريقتهم العليا . وكيف الإشكال وقد قال عليه الصلاة والسلام : (أَصْحابي كالنُّجوم بأَيْهِم اقتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُم) (۳) وما من نجم إلا وله نور وضياء؟ جعلنا الله ممن أحبهم واتَّبع طريقتهم . وبعد هذا، فإني ما أبرىء نفسي من الهفوات، لكنني جعلت قدوتي في ذلك ما قاله الإمام، وهو ابن عباس ، رضي الله عنهما ؛ حين سئل عن زواج التفويض إذا مات الرجل قبل الدخول وقبل أن يفرض لها، فبقي شهراً لم يجاوب في ذلك بشيء، فقيل له : يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لنا غيرك مجاوب في المسألة . فقال : إذا عزمتم فأجتهد . فإن أصبتُ فبفضل الله ورحمته، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. وصدق الله ورسوله ، ) . فجعلته، رضي الله عنه وأصحابه، وسيلة إلى الله فيما أملته وسميتُ الكتاب (بهجة النفوس وتَحَلّيها بمعرفة ما لها وعليها). وبالله أستعين، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وسلّم أفضل التسليم.

(1) سورة الأنعام من الآية .۱۹ . (۲) رواه الإمام أحمد في المسند والدارمي في السنن والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك بلفظ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي .. (۳) أورده كثير من علماء الحديث من مثل الحافظ في التلخيص، والدارقطني في غرائب مالك، والبزار والقضاعي في مسند الشهاب، والهَروي في كتاب السنة، والبيهقي في الاعتقاد وابن عبد البر في جامع بيان العلم، والذهبي في الميزان وابن الجوزي في العلل والعجلوني في كشف الخفاء، وكثيرون اخرون. واتفقوا على ضعف سنده و تجريح بعض رواته. لكن اللكنوي في إقامة الحجة يرى أن الحديث بسبب كثرة طرقه وصل إلى درجة (الحسن) ولذلك حسنه الصَّغَاني كما ذكره السيد الجرجاني في حاشية المشكاة، ويميل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة إلى إثباته . (٤) المسؤول عن زواج التفويض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انظر سنن أبي داود والترمذي والحافظ في التلخيص وعبد الرزاق في المصنف والبيهقي، والتفويض : هو الذي يكون بلا مهر . (٥) حكم ابن مسعود رضي الله عنه في المُفَوَّضة بأن لها مَهْرَ المثل. وخالفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال :

لا مَهْرَ لها .

مقدمة الإمام ابن أبي جمرة على مختصر صحيح البخاري

ان الجر الرجيم

الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسّلام على سيدنا محمّد الخيرةِ مِن خَلقه، وعلى الصحابة السادة المختارين لصحبته . وبعد، فلمّا كان الحديث وحفظه من أقرب الوسائل إلى الله عزّ وجلّ، بمقتضى الآثار في ذلك - فمنها قوله : (مَنْ أدى إلى أمَّتي حَدِيثاً واحداً يُقِيمُ بهِ سُنَّةٌ، أو يرد به بِدْعةً، فله الجنة) (۱) ومنها قوله : (مَن حَفِظ على أمتي حدِيثاً واحداً كان له أجر أحدٍ وسبعينَ نَبِيّاً صديقاً) (۲)، والآثار في ذلك كثيرة. ورأيت الهِمَمَ قد قصَرَت عن حفظها مع كثرة كتبها من أجل أسانيدها ، فرأيت (۳) أن آخذ من أصح كتبه كتاباً أختصرُ منه أحاديث بحسب الحاجة إليها، وأختصرُ أسانيدها ما عدا راوي الحديث، فلا بدَّ منه فيسهل حفظها وتكثر الفائدة فيها، إن شاء الله تعالى .

فوقع لي أن يكون كتاب البخاري، لكونه من أصحها ،ولكونه رحمه الله تعالى، كان من الصالحين، وكان مجاب الدعوة، ودعا لقارئه . وقد قال لي من لقيته من ا القضاة الذين لهم المعرفة والرحلة عمّن لقي من السادة المقر لهم بالفضل : إن كتابه ما قرى في وقت شدة إلا فرجت، ولا ركب به في مركب فغرقت قط. فرغبت مع بركة الحديث في تلك البركات، لما في القلوب من الصَّدأ، فلعله بفضل الله أن يكشفَ عَمَّا بها، وأن يفرج عنها شدائد الأهوال التي تراكمت عليها، ولعل بحمل تلك الأحاديث الجليلة، تُعْفَى من الغرق في بحور البدع والآثام.

فلما كملت بحسب ما وفق الله إليه، فإذا هي ثلثمائة حديث غير بِضع، فكان أولها (كيف

(۱) رواه أبو نعيم في الحلية والسيوطي في الجامع الصغير والمناوي في الفيض. واتفقوا على ضعفه . (۲) رواه البكري في كتاب الأربعين والنووي في المقاصد والحافظ ابن حجر والبيهقي رواية عن الإمام أحمد. وطرقه

كلها ضعيفة .

(۳) كذا.

كان بدء الوحي لرسول الله ) ، وآخرها (دخول أهل الجنّة الجنّةَ ، وإنعام الله عليهم بادوام رضاه فيها فسميتُه بمقتضى وضعه جَمْع النّهاية في بَدْءِ الخير والغاية، ولم أفرّق بينها بتبويب، رجاء أن يتمم الله لي ولكلّ مَن قرأه أو . سمعه بدءً الخير بغايته .

فنسأل الله الكريم، ربَّ العرش العظيم أن يجعلها لقلوبنا جلاء، ولداء ديننا شفاء، بمنه، لا رب سواه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين . والحمد لله ربّ العالمين .

حديث بدء الوحي

عن عائشة أم المؤمنين (١) ، رضي الله عنها أنها قالت: أوّلُ ما بُدِيءَ به رسولُ الله ، (۱) من الوحي الرُّؤيا الصالحةُ في النَّوم، فكان لا يَرى رُؤيا إلا جاءت مِثلَ فَلَقِ الصبح (٢) ، ثم حُبِّب إليه الخَلاءُ، وكان يخلو بغارِ حراء، فيتحنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذواتِ العددِ، قبل أن يَنزِعَ إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزوّدُ لِمِثْلِها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه المَلَكُ ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارىء . قال : فأخذني فقطني (۳) حتى بلغ مني الجَهدَ ، ثم أرسَلَني فقال : اقرأ. فقلتُ : ما أنا بقارىء . فأخذني فغطني الثانية حتى بلَغَ مِنّي الجَهْدَ ، ثم أرسلَني . فقال : اقرأ. فقلتُ : ما أنا بقارىء . فأخذني فغطني الثالثة، ثمَّ أرسلني . فقال : أقرأُ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَيْنَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فرجع بها رسول الله ، ، يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد)، رضي الله عنها، فقال : زملوني زملوني. فزمّلوه، حتى ذهب عنه الرّوعُ. فقال لخديجة وأخبرها

عائشة أم المؤمنين هي بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وأمها أم رومان. كانت أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين والأدب. تزوجها النبي في السنة الثانية بعد الهجرة، فكانت أحب نسائه إليه، وأكثرهن رواية للحديث عنه - روي عنها (۲۲۱۰) أحاديث . توفيت سنة ٥٨ هـ / ٦٧٨ م ودفنت بالبقيع.

(۲) فَلَقِ الصبح: وضوحه وظهوره .. (۳) غطني: ضغطني وعصرني عصراً شديداً.

(٤) سورة العلق، الآيات ١ - ٣ .

(٥) خديجة بنت خويلد : أم المؤمنين زوجة رسول الله له الأولى. نشأت في بيت شرف ويسار، وكانت أسن منه بخمس عشرة سنة، وهي أول من آمن به من الرجال والنساء. ولدت له القاسم وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. توفيت في السنة الثالثة قبل الهجرة بمكة المكرمة ودفنت بالمعلاة.

الخبر : لقد خشيتُ على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يُخزيك الله أبداً، إِنَّكَ لَتَصِلُ

الرَّحِم ، وتَحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عمّ خديجة. وكان امراً تنصر في الجاهلية. وكان يكتُبُ الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاءَ الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عَمِي . فقالت له خديجةُ : يا ابنَ عَمِّ، اسمَعْ من ابنِ أَخِيكَ . فقال له وَرَقَةُ : يا ابنَ أخي، ماذا ترى؟ فأخبَرَه رسولُ الله ، صلى الله عليه وسلم ، خَبَرَ ما رَأى. فقال له وَرَقَةُ : هذا الناموس الذي نَزَّل الله على مُوسَى . يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعاً، ليتَنِي أكونُ حَيّاً إِذْ يُخرِجُكَ قَوْمُكَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قال : نَعَمْ، لم يَأْتِ رجل قَطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ، وإنْ يُدْركني يومُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَخَّراً. ثم لم يلبث وَرَقَةُ أَن تُوُفِّي. وفَتَرَ الوَحْيُ .

قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سَلَمَة بنُ عبدِ الرحمنِ أن جابر بن عبدِ الله الأنصاري قال وهو يحدّث عن فترة الوحي؛ فقال في حديثه بينا أنا أمشي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً من السَّمَاءِ، فرفَعْتُ بَصَري، فإذا المَلَكُ الذي جاءَني بِحِراء جالس على كرسي بينَ السّماءِ والأرضِ، فَرُعِبتُ منه ، فرَجَعْت فقلت : دَكَّروني دَكَّروني . فأنزل الله عزّ وجلّ و يَتَأَيُّهَا الْمُدَّيْنُ قُرْفَأَنذِرَ . وَرَبِّكَ فَكَيّز . وَثِيَابَكَ فَطَعَرْ . وَالرُّجْزَ فَاهْجُز (۱) ، فحَمِي الوحي وتتابَعَ .

ظاهر هذا الحديث يحتوي على فوائد كثيرة من أحكام وآداب، ومعرفة بقواعد جَمَّة من قواعد الإيمان ومعرفة بالسلوك والترقي في المقامات. ولأجل ما فيه من هذه المعاني حدث به النبي ، ، عائشةَ رضي الله عنها، لتبدي ذلك للنّاس، لكي يتأسوا بتلك الآداب، ويحصل لهم معرفة بكيفية الترقي من مقام إلى مقام مع ما فيه من فائدة المعرفة بابتداء أمره عليه السلام، كيف كان؛ لأن النفوس أبداً تتشَوَّف (۲) إلى معرفة مبادىء الأمور كلّها، وتنشرح الصدور للاطلاع عليها، فكيف بها لابتداء هذا الأمر الجليل الذي فيه من الفوائد ما قد ذكرناه، ويُعرف منه مقتضى الحكمة في تربيته و تأديبه ، ولأجل ما فيه من هذه الفوائد حدثت به عائشة ، رضي الله عنها، وأُخِذ عنها. ونحن، إن شاء الله ، نشير إلى شيء منها ، وننبه عليها ، بحسب ما يوفق الله إليه فنقول : الكلام عليه من وجوه :

(1) سورة المدثر، الآيات ١ - ٥.

(۲) تتشوف : تتطلع .

الوجه الأول : قولها : (أَوّل ما بدىء به رسولُ الله ، من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم)

فيه دليل على أن الرؤيا من النبوة وهي وحي من الله ، إذ إن أوّل نبوّة النبي ، ، والوحي إليه كان بها، وقد صرّح الشارع عليه السلام بذلك في غير هذا الحديث. وسيأتي الكلام على المرائي وما يتعلق بها، والجمع بين متفقها ومختلفها ؛ ومجموع أحاديثها في موضعه من آخر الكتاب، إن شاء

الله .

الوجه الثاني : قولها : مثل فَلَق الصبح تريد بذلك صدق الرؤيا، وكيف كانت تخرج في الحين من غير تَراخِ ولا مُهلة على قدر ما رآه عليه السّلام، سواء بسواء. ولقائل أن يقول : لِمَ عبرت عن صدق الرؤيا بفَلَقِ الصبح ولم تعبّر بغيره؟ والجواب : أن شمس النبوة كانت مبادىء أنوارها صحة المرائي وصدقها، فما زال النُّور يتشعشع ويبين حتى بدا شمسها، وهو ما أُنزِل عليه من الهدى والفرقان فمن كان باطنُه نوريّاً كان في التصديق بما أُنزِل بكريا (١)، آمن وصدق، ومن كان أعمى البصيرة كان خُنّاسَ زمان الرسالة ، الشَّمسُ تَسْطَع وهو لا يرى شيئاً، فإن الخُفّاش يخرج بالليل ويتخبّأ بالنّهار، لأنه لا يبصِرُ مع ضَوء الشمس شيئاً وباقي الناس بين هاتين المنزلتين يترددون . كلٌّ منهم يُبصِرُ بقدر ما أُعطِي من النور . جَعَلَنا الله ممن أجزل له من هذا النور وحسنِ الاتباع أوفر نصيب بِمَنّه وبفضله . ولأجل هذه النسبة التي بين ابتداء النبوة وظهورها مع فلق الصبح وقعت العبارة به ولم تقع بغيره .

بسبب من

الوجه الثالث : قولها : (ثم حُبِّب إليه الخَلاء) فيه دليل على أن الهداية منه ربانية، لا بَشَرٍ ولا غيره ؛ لأن النبي ، ، جبل على الخير ابتداء من غير أن يكون معه مَن يُحرِّضه على ذلك . والخلوة كناية عن انفراد الإنسان بنفسه، فحُبّب إليه عليه السّلام، أصل العبادة في شريعته وعُمدتُها، لأنه عليه السلام قال : (الخَلوة عبادة) (۲) فالخلوة نفسها عبادة، فإنْ زِيدَ عليها شيء من الطاعات فهو التحنّث . ومعنى التحنث : التعبد، وهو نور على نور .

الوجه الرابع : قولها : (فكانَ يَخلُو بغارِ حِراءٍ َفيَتَحَنَّثُ فيه) التحنّث قد تقدم الكلام عليه (۳) ، وبقي هنا سؤال وارد وهو أن يقال : لِمَ اختص عليه السلام بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنّث به، دون غيره من المواضع، ولم يُبدّله في طول تحنّثه؟ والجواب : أن ذلك الغار له فضل زائد على غيره، من قبل أنه يكون فيه منزَوِياً مجموعاً لتحنُّثه، وهو يبصر بيت ربه ؛ والنظر إلى البيت عبادة،

(۱) بكريا : نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه . لعله مستفاد من معنى الأحاديث التي تحض على الخلوة، أو التي تدفع إلى العزلة في أيام الفتن. أما عبارة (الخلوة عبادة) فقد وردت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي في بحث آداب العزلة منسوبة إلى ابن سيرين .

(۳) التحنُّث : التعبد.

هذه الثلاث

فكان له اجتماع ثلاث عبادات وهي الخلوة والتحنّث والنظر إلى البيت. وجمع أولى من الاقتصار على بعضها دون بعض وغيره من الأماكن ليس فيه ذلك المعنى، فجمع له عليه السلام، في المبادي كلُّ حُسن بادي .

الوجه الخامس : قولها : (وهو التعبدُ الليالي ذَواتِ العَدَد) و (هو التعبد) تفسير منها للتحنث ما هو ؟ والليالي ذواتِ العدد تريد به كثرة الليالي ؛ لأن العدد على قسمين : عدد قلة، وعدد كثرة، وبمجموع القلة والكثرة يكون فيه ليال كثيرة . فلذلك كَنَتْ عنه بـ (ذوات العدد) أي مجموع أقسام

القلة والكثرة .

العدد، وهي مجموع الوجه السادس : قولها : (قبل أن يَنْزعَ إلى أهلِهِ تريد قبل أن يرجع إليهم. فما يزال، عليه السلام في التعبّد، الليالي المذكورة، حتى يرجع إلى أهله .

الوجه السابع : فيه دليل على أن المستحب في التعبد أن يكون مستمراً، لأن النبي ، كان يستمر على عبادته تلك ، ولم يقطعها إلا لما لا بدَّ منه ، وسيأتي الكلام عليه ؛ ولأن التعبد إن لم يكن مستمرا فلا يقال لصاحبه : متعبد لأنه لا ينسب المرء إلا إلى الشيء الذي يَكثُر منه .

الوجه الثامن : قولها : (ثم يرجِعُ إلى خديجة فيتزوَّدُ لِمِثْلِها) فيه دليل على أن النَّبتُّل (۱) الكلّي والانقطاع الدائم ليس من السنَّة، لأنه عليه السلام لم ينقطع في الغار ويترك أهله بالكلية، وإنما كان عليه السلام، يخرج إلى العبادة تلك الأيام التي يتحنّث فيها ، ثم يرجع إلى أهله لضروراتهم، لتحنثه. وقد نهى عليه السلام عن التبتل في غير هذا الحديث، فقال: (لا رهبانية في ثم يخرج الإسلام) (٢) . وهذا النهي إنما هو فيمن اتخذ ذلك سنة يُستَنّ بها. وأما من تبتل لعدم القدرة على التأهل من قبل قلة ذات اليد، أو عدم الموافقة (۳) ، فلا يدخل تحت هذا النهي .

الوجه التاسع : فيه دليل على أن العبادة لا تكون إلا مع إعطاء الحقوق الواجبات وتؤفيتها (٤)؛ لأنه عليه السّلام، لم يكن ليرجع لأهله إلا لإعطاء حقهم. فكذلك غيره من الحقوق يجب إعطاؤه و توفيته، وحينئذ يرجع إلى المندوبات .

الوجه العاشر : فيه دليل على أن الرجل إذا كان صالحاً في نفسه، تابعاً للسنة، يُرجى له أن

(1) التبل : التفرغ لعبادة الله تعالى .

(۲) نقل المطيعي في تكملته لمجموع الإمام النووي أن الحافظ ابن حجر :قال : لم أره بهذا اللفظ . وأورده الطبراني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والإمام أحمد في مسنده عن عروة رضي الله عنه، والدارمي في سننه عن سعد رضي الله عنه بغير هذه العبارة، لكن في معناها نفسه.

لعله

يريد عدم القدرة البدنية على النكاح.

(٤) يعني: أن العبادة لا تقبل إلا بعد توفية الإنسان ما عليه من حقوق وواجبات للآخرين .

الله ، سبحانه وتعالى، يُؤنسه بالمرائي الحميدة إذا كان في زمان مخالفة وبدع؛ لأن النبي ، ، لما انعزل للعبادة، وخلا بنفسه انسه الله عزّ وجلّ بالمرائي الجميلة، لما أن كان ذلك الزمان زمان كفر وشقاق . وسيأتي شفاء لهذا المعنى في الكلام على المرائي، إن شاء الله . فالمتبع للنبي ، ، يُرجَى له مثل ذلك أو قريب منه . أعني في المرائي.

الوجه الحادي عشر : فيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية : لأن النبي، ، أول ما بدىء في نبوّته بالمرائي . فما زال عليه السلام يرتقي في الدرجات والفضل حتى جاءه الملك في اليقظة كان كقابِ قَوْسَيْنِ (۱) أو أدنى، وهو النّهاية . فإذا كان هذا في الرسل

بالوحي، ثم ما زال يرتقي .

فكيف به في الأتباع ؟

حتى

لكن بين الرسل والأتباع فرق . وهو : أن الأتباع يترقّون في مقامات الولاية ما عدا مقام النبوة - فإنه لا سبيل لهم إليها ؛ لأن ذلك قد طُويَ بِساطه - حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية ولأجل هذا يقول أهل الصوفة : من نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، لأن النبي ، لا الله ، أخذ أولاً في التحنّث، ودام عليه بأدبه، إلى أن ترقى من مقام إلى مقام حتى وصل إلى مقام النبوة . ثم أخذ في الترقي في مقامات النبوة حتى وصل به المقام إلى قابِ قَوْسَيْن أو أدنى كما تقدم. فالوارثون له بتلك النسبة من دام على التأدب في المقام الذي أقيم فيه، يرقى في المقامات حيث شاء الله ، عدا مقام النبوة التي لا مشاركة للغير فيها بعد النبي ، لم .

يشهد لذلك ما حكي عن بعض الفضلاء أنه مُنَّ عليه باتباع السنة والأدب في السلوك بتأدبه في كل مقام بحسب ما يحتاج إليه من الأدب. فما زال يرتقي من مقام إلى أعلى منه حتى أُسْرِي بسره من سماء إلى سماء، إلى قاب قوسين أو أدنى، ثم نودي هنا أُسرِيَ بذات محمّد السَّنيَّة حيث

أَسْرِيَ بِسِرك .

الوجه الثاني عشر : فيه دليل على أن التربية للمريد أفضل من غيرها، لأن النبي ، ، أول نبوته كانت في المنام. فما زال يرتقي حتى كَمُلت حالته ، وهو عليه السلام، أفضل البشر. فلو كان غير التربية أفضل لكان أولى بها من غيره .

الوجه الثالث عشر : فيه دليل على أن الأولى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي ، ، كان في أول أمره يخلو بنفسه فلما انتهى عليه السلام، حيث قدر له، لم يزل يفعل ذلك . وبقي

(۱) قاب قوسين : قال في القاموس : أي قدر قوسين عربيتين، أو قدر ذراعين وقال مؤلف كتاب: رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن الشيخ محمود محمود الغراب: هي إشارة إلى التقريب الصوري.

يتحنّث بين أهله، وصار حاله إلى أنه إذا سجد غمز (۱) أهله ، فتضم رجلها حيث يسجد . وفي البداية لم يقنعه، عليه السلام أن ينعزل عنهم في البيت حتى خرج إلى الغار، على ما تقدم. الوجه الرابع عشر : فيه دليل على أن الخَلوة عَوْنٌ للإنسان على تعبده وصلاح دينه ؛ لأن النبي، لما اعتزل عن الناس، وخلا بنفسه أتاه هذا الخيرُ العظيم وكلّ أحدٍ إذا امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم الله له . مقامات الولاية .

من

والوجه الخامس عشر : فيه دليل على لزوم التسبب في الزاد عند دخول المعتكف أو الخلوة أو الوجهة به؛ لأن النبي ، ا ا ا ا ا ، و كان يخرج إلى التحنّث بما يصلحه من زاده للعيش طول مُقامه فيه . والحكمة في ذلك : أن الخروج بالزاد فيه إظهار لوصف العبودية وافتقارها وضعفها؛ لأن المرء أبداً ليس له قوة على تلك الأمور إلا بإعانة من الله سبحانه، والخروج بغير زاد فيه شيء ما من الادعاء، وإن كان لم يُنطَق به ، ولم يُنَوَّه، فيخاف على فاعل ذلك أن يَكِله الله لنفسه، فيعجز عن تَوْفية ما

أراد في توجهه . ولأجل هذا المعنى، كان بعض أهل الصوفة من شدّة ملاحظته للسنّة إذا دخل لخلوته وتعبده أخذ رغيفاً من خبز، وألقاه تحت وسادته، ويواصل الأيام العديدة، ولا يأكل منه شيئاً. فرآه بعض تلامذته كذلك، فأخذ الرغيف من تحت الوسادة، ثم تفقد الشيخ الرغيف فلم يجده . فصاح على مَنْ لاذَ به صيحة منكرة، وأغلظ عليهم فيما فعلوا . فقالوا : ليس لك به حاجة، فلِمَ تَتَّخِذُه هناك؟ فقال لهم : : أتظنون أن ما تَرَوْن من قوة هي منّي ؟ بل فضل من الله ومِنّة . أرأيتم إن رُدِدتُ إلى حال البشرية كيف أفعل ؟ فكان يعمل على حال ضعفه والعادة الجارية التي يقدر البشر عليها . وما كان من غير ذلك يراه فضلاً من الله عليه وهو حامله . كل ذلك على ما أشرنا إليه أولاً عن النبي . وفيه أيضاً وجه آخر من الحكمة وهو : أن الخروج بالزاد من باب سد الذريعة ؛ لأن الزاد إذا كان حاضراً لم يبق للنفس تشوف ولا تعلّق . وقد جاء في الحديث : (إنّ النفس إذا كانَ معَها قوتُها اطمأنت) (۳). هذا مع إمكان وجود القوت من حلّه ،ووجهه، وإلا فالله الرزاق ذو القوة المتين . وقد كان عليه السلام عند عدم القوت من وجهه يربط على بطنه ثلاثة أحجار (۳) شدة الجوع والمجاهدة، ولا يتسبب في الزاد، ولا ينظر إليه . الوجه السادس عشر : فيه دليل على أن المرء إذا خرج لتعبُّده أن يُعْلِم أهله ومَن يلوذ به

(1) غَمَزَه بيده يَعْمِرُه : شبه نَحْسَهُ . (۲) لم يتيسّر الوقوف على مصدر هذا الحديث الذي أورده المؤلف رحمه الله .

من

(۳) في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله و عصب بطنه بحجر. أما رواية (ثلاثة أحجار) فلم يتيسر

الوقوف عليها .

بموضعه ؛ لأن النبي ، لا والله لو كان يخرج إلى الغار وأهله يعلمون بموضعه، وماذا يريد بخروجه. والحكمة في ذلك من وجوه :

الوجه الأول أنه معَرَّضُ هو وأهله لما يطرأ عليهم من الأمراض وغيرها من الأعراض. فإذا

كان للأهلِ عِلْمٌ بموضعه علموا إلى أين يذهبون إليه إذا طرأ شيء من ذلك .

(الوجه الثاني) أن في إخبار الأهل بذلك إدخال سرور عليهم، وإزالة وسواس عنهم، لأنهم يتوقعون مسيره إلى مواضع مختلفة ممكنة. فإعلامه لهم بذلك إزالة لما ذكرناه، وإدخال السرور عليهم، لكونهم يعلمون أنه منقطع للتعبد ومشغول به. وفي إدخال السرور من الأجر والثواب ما قد

علم

(الوجه الثالث) ما في ذلك من الدعوة للأهل والإخوان للتعبد وإن كان لم يطلب ذلك منهم ، لأن الغالب من النفوس الانبعاث لما يتكرر عليها من الأمور .

(الوجه الرابع أن من عرفه منقطعاً للتعبد ومشغولاً به فإن أراد صحبته صَحِبَه على ما هو بسبيله من غير أن يُدخِل عليه خللاً في طريقه، ومن أراد غير ذلك لم يَصْحَبه، فاستراح منه وزال عنه ما يلحقه من التشويش في مخالطته

الوجع السابع عشر : فيه دليل على أن الشغل اليسير الضروري لا يكون قاطعاً للعبادة؛ لأنها أخبرت أنه عليه السلام كان يخرج إلى التعبد اللَّيالي العديدة، ولم تذكر ذلك في رجوعه إلى أهله. فدل على أن ذلك ضدّ الكثير ، وهو اليسير . واليسير مع الكثير في حكم التَّبع، ثم رجوعه

في

ثانية إلى التعبد دالّ على تعلّق قلبه بالعبادة ما دام في الضرورة التي خرج إليها فهو تعبد مستمر . ومثل ذلك المعتكف ؛ يخرج لحاجة الإنسان وشراء القوت ولم يحكم له إلا بأنه معتكف متوجه، وإن كان يتصرف فيما ذكرناه ويشهد لما قررناه قوله عليه السلام : (سَبْعَةٌ يُظِلُّهم الله ظلِهِ ، يَوْمَ لا ظل إلا ظله) (٢) . وذكر فيهم رجلاً قلبه متعلّق بالمساجد . فلم يضره خروجه عنها لتعلّق قلبه بها، وأجزل له هذا الخير العظيم. ولأجل هذا المعنى أخذ أهل الصوفة في عمارة قلوبهم بالحضور والأدب على أي حال كانوا من شغل مُباح أو تَخَلَّ ، فلما صَفَت بواطنهم تسموا باسم الصُّوفَة ، وهو مشتق من الصفاء .

هذه العبارات مستوحاة من الأحاديث التي تحض على قضاء الحاجة، وتفريج كربة المكروب، ولقاء المسلم (۲) حديث صحيح. أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي (وسيرد له شرح مسهب في أخاه بما يحبّ لِيُدخِل السرور إلى قلبه .

هذا الكتاب).

الوجه الثامن عشر : (حتى جاءَه الحَقُّ) تريد : بَدء الوحي، لأن العرب تسمي الشيء : وتسمّي البعض بالكُلّ، والكُلَّ بالبعض .

الوجه التاسع عشر : قولها : (فَجاءَهُ المَلَكُ فقال : اِقْرَأْ) فيه دليل على جواز التَّوْرِيَة، وهي إظهار شيء والمراد غيره، لأن جبريل عليه السلام كان يعلم أن النبي ، ، كان لا يقرأ، ولكن قال له ذلك ليتوصل به إلى ما يريد من التأديب على ما سيأتي، وكذلك كان النبي ، ، يفعل إذا أراد أن يخرج إلى جهةٍ يغزوها أَوْمَاً إلى غيرها إلا في غزوة (۱) واحدة لِبُعْدِها . وكذلك فعلت عائشة رضي الله عنها، على ما سنبينه في حديث الإفْكِ، إن شاء الله . لكن يُشترط في هذه الثورية ألا يقع للغير بها ضرر ممنوع شرعاً ، لأن جبريل عليه السّلام، لم يفعل ذلك، وللنبي، ، فيه ضرر، بل

كان ذلك مصلحة له على ما نذكره بَعْدُ ؛ لأنه لو كان التأديب بغير سبب لكان ذلك زيادة في النفور السبب والتلطف الأدب كيف رجع عليه السلام، يقول: (زَملوني والوحشة. فانظر مع زملوني). ولولا ما جبل عليه ، و من الشجاعة، وما مُدَّ به من العَوْن ما استطاع تلقي ذلك لأنّ

الأمر جليل .

في

الوجه العشرون : فيه دليل على أن أمر السائل إذا كان يحتمل أو وجوهاً، فليجاوب وجهين المسؤول على الأظهر من المحتمَلات ويترك ما عداها ؛ لأنه لمّا أن كان لفظ جبريل، عليه السّلام، يحتمل طلب القراءة من النبي ، ، ابتداء - وهو الأظهر - ويحتمل طلب القراءة منه لِما يُلقَى إليه - وهو المقصود في هذا الموضع - بما ظهر بعد ، أجاب النبي ، لا الله ، على أظهر الوجوه . وهو المعهود

من

الفصحاء

اء في تخاطبهم .

الفائدة،

الوجه الحادي والعشرون : قوله : أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ . أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكرم . فيه دليل لمن ذهب من العلماء إلى أن أول الواجباتِ الإيمان، دون النظر والاستدلال. وأنَّ النظر والاستدلال شَرْطُ كمال لا شَرْطُ صحة، لأن قوله: ﴿ أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ تمت به وحصل به الإيمان المُجْزىء. وقوله بعد ذلك : الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ ) هو طلب النظر والاستدلال، وهو زيادة كمال الإيمان، لأن الأنبياء عليهم السّلام، أكمل الناس إيماناً، ولم يفرض الله ، عزَّ وجلَّ، على الناس على أيديهم إلا الإيمانَ المُجزِىء، وبقي الكمالُ يَهبُه الله

(۱) الغزوة تطلق على التي حضرها عليه السلام بنفسه، عكس : السَّرِيَّة. وغزوة مؤتة لم يحضرها عليه السلام ولكنها رُفِعَتْ له، ووصَفَها لصحابته الكرام، فكأنه قد حَضَرها . والمقصود بالغزوة التي صرَّح بها (غزوة تبوك) لبُعْدِ المسافة بين المدينة المنوّرة وتبوك، فهي تقارب السبعمائة كيلومتر .

لمن يشاء من أتباعهم . يشهد لما قررناه قوله عليه السلام: (أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله) (۱) فلم يطلب منهم إلا النطق بكلمة الإخلاص، ولم يشترط في ذلك نظراً ولا

استدلالاً .

الوجه الثاني والعشرون : لقائل أن يقول : لِمَ أُنزلت هذه الآية (٢) أولاً قبل غيرها من آي القرآن؟ أعني : قوله عزّ وجل : أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ . أَقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) ؟ والجواب أن نقول : إن كان ذلك تعبّداً فلا بحث وإن كان ذلك لحكمة فحينئذٍ يُحتاج إلى البحث فيها. ومعنى قولنا : «تعبداً) أي : تَعَبَّدَنا الله بذلك، ولم يُطلِعْنا على الحكمة فيها، وأما الأمر في نفسه فلا بد فيه من حكمةٍ ،وهو عَزَّ وجل، يعلمها، ومن شاء إطلاعه عليها أطلعه . وظاهرُ مسألتنا هذه أنها لحكمة تُفهَم وتُعرَف من لفظ الآي.

بيان ذلك : أن هذا الكلام دال بمنطوقه وما يتضمَّن من الفوائد على ما تضمنه القرآن إجمالاً .

بيان أن كل ما كان في القرآن من آيات الإيمان والتوحيد والتنزيه دلّ عليه مضمون اسم ( الرُّبُوبية). وما كان فيه من الأمر والنهي ،والترغيب والترهيب، والندب، والإرشاد، والمحكم والمتشابه (۳) دلّ عليه مضمون حكمة ،الربوبية وما كان فيه من استدعاء الفكرة، والنظر، والاستدلال وما أشبه ذلك دلّ عليه متضمّن مقتضى قوله : الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ علق ، وما كان فيه من الرحمة والمغفرة والإيناس والإنعام، والترجي، والإحسان، والإباحة، وما أشبه ذلك دلّ عليه متضمّن كَرَم الربوبية. فلما كان بعد هذا الإجمال نزلت الآيات بحسب ما احتيج إليها مبيّنة بالنص، لما تضمّنه هذا الكلام الجليل من الإجمال ؛ فلَمّا كَمُلَت . ذلك الإجمال تبييناً وتفسيراً، قال تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٤) أي ما أجملته لكم أَوَّلاً اليوم أكملته لكم في التنزيل مفصَّلاً ، لأن متضمَّن الكمال يقتضي قبله أجزاء، والأجزاء هو ما أشرنا إليه من الإجمال. فكان الأول مصدّقاً للثاني، والثاني مصدّقاً للأول. ومنه قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (٥)

(۱) حديث صحيح متواتر .

ايات ثلاث . كذا، وهي

معاني

(۳) المُحْكَم ما وضح معناه أو ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. والمُتَشَابِه : ما غمض معناه، أو ما

احتمل من التأويل أوجهاً .

(٤) سورة المائدة، من الآية . (٥) سورة النساء، من الآية ٨٢ .

الوجه الثالث والعشرون: في الآية شَبَهُ الحال والإشارة بالتسلّي للنبي، ، والصبر عند نزول الحوادث، والوعد له بالنصر والظفر : لأن نسبته عليه السّلام، الآن منفرداً في أول أمره كنسبته خَلْقه . أوّلاً عَلَقة (١) ، فالإشارة إلى الامتحان بانتقال العَلَقة بالتطوير حتى رَجَع بَشَراً، ثم في الخروج إلى هذه الدار، وهي دار المكابدات. فالإخراج مقابله الخروج، والتطويرات مقابلها التغييرات والإشارة إلى اللطف بالالطاف في إخراجه من ظلمة الأحشاء بلا نَصَب ولا أذى، اللطف له بالغذاء مثل إخراج اللبن له من بين فَرْثٍ (۲) ودَم بلا تعب ولا عناء، والإشارة إلى النصر والظفر بما رُزِق بعد ذلك الضعف من كمال القوى والعقل والتصرف ودفع المضارّ وجلب المنافع، فلم تضره تلك التطويرات حتى صار أمره إلى هذه الحال .

وتيسير

فكذلك خروجه عليه السلام الآن بالضعف، لأنه وحيد فيما يأتي به ويدعو لشيء لا يُفهم عنه ولا يُعرف للعوائد التي جَرَت بضدّ ما يدعو إليه . فكأنه عزّ وجلّ، يقول له في ضمن ذلك الكلام : لا تهتم لشيء من ذلك، فإن العاقبة بالنصر لك وبالظفر . يؤيد ما أشرنا إليه قوله تعالى : ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَيةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْلَهُ (۳) فَتَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَاعَ لِيَغِيظُ بِهِمُ الكفار ) (٤) فما سُلِّيَ به بالضمن فيما نحن بسبيله صرح له به في هذه الآية، لأنه، عزّ وجلّ مَثَّله بالزرع الذي يخرج وحده أولاً منفرداً ثم أخرج شطأه، أي أفراخه، فاستوت الأفراخ والأصل، وتلاحقت بالسنبل، فنوّرت ،وأينعت، فأعجب الزراع، وأغاظ الكُفَّار . فسبحان القادر على ما يشاء كيف يشاء .

وبهذه الإشارة تعلّق أهل الصوفة، فأخذوا في الاتباع في الأقوال والأفعال وفي كل الأحوال، ولم يلتفتوا إلى ضعفهم ولم يعرّجوا على عوائد غيرهم وزادهم على ذلك يقيناً قوله تعالى : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (٥) فأيقنوا بالنصر، ثم جَدّدوا في الطلب، فأجزل لهم ما وُعِدوا، كما أجزل ذلك لنبيهم ، ، ﴿ أَفَحُكْمَ الجَهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ

العلقة : لها معان عدة، والمراد هنا طَوْر من أطوار الجنين وهي : قطعة الدم التي يتكون منها . قال الله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَفَة ) .

(۲) الفرث بقايا الطعام في الكرش. (۳) الشَّطه: ورق النبات أو الشجر أول ما يبدو.

(٤) الكفار : ج كافر. من كَفَرَ الزارعُ البدر: إذا ستره بالتراب والرجل الزارع يسمى كافراً باللغة. وللكلمة معان

أخرى. الآية من سورة الفتح، من الآية ۲۹ .

(٥) سورة الأنفال، من الآية ٦٤ .

يُوقِنُونَ ﴾ (۱) . فانتبه إن كنتَ لبيباً لفهم المعنى ،الغريب، واسلك الطريق النجيب، فإنْ أَبَيْتَ فعند انكشاف غبار الواقعة يبين لك قَدْرُ ما ضيَّعت وفي ماذا فَرَّطَتَ .

الوجه الرابع والعشرون : قوله : (فَغَطَّنِي حتى بَلَغ مني (الجَهْدَ) يريد أنه ضمه إليه حتى بلغ منه الجَهْدَ ، والجَهْدُ عبارة عن شدة الغطّ

والضم .

الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على المبالغة في التأديب ما لم يُؤَدِّ ذلك إلى المحظور ، لأن شدة الغط مبالغة في التأديب، وقد أمر ، عليه السلام بذلك، وحض عليه فقال: (لأن يؤدِّبَ أحدكم ابنه خيرٌ له من أن يتصدَّق بصاعِ طعام) (۲) فجعل عليه السلام، تأديب الابن أعلى من الصدقة، وهي من أفعال البر بحيث لا يخفى موضعها . وبه يستدل أهل الصوفة على تأديب النفس لأنها أجل من تأديب الابن يشهد بذلك قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (۳) ومجاهدة النفس هي تأديبها . فأورثهم هذا التأديب الهداية إلى سبيل الحق . ولا يوجد هذا القدر من الخير بغيرها من أفعال الطاعات. فلَمّا أَنْ كان في التأديب هذا الخيرُ العظيم بدىء به النبي ، ، على القاعدة التي قرّرناها، وهو أنه عليه السلام بُدىء في المبادي بكل حُسْنِ بادِي .

الوجه السادس والعشرون : فيه دليل على جواز التأديب من المعلم للمتعلم، لأن جبريل، عليه السلام، ضمّ النبي ، الله إليه تأديباً له حتى يحصل له التأديب بما يُلقى إليه، لكن يكون التأديبُ بِحَسَب حال المؤدَّب والمؤدِّب له ؛ لأن هذا التأديب - أعني تأديب جبريل، عليه السلام، للنبي صلى الله عليه وسلم ـ تأديب حبيب لمحبوب ، فكان بالضَّمَ والغَطَّ لا بالضَّرْب والإهانة .

الوجه السابع والعشرون فيه دليل لمن ذهب من الفقهاء على أنه ليس للمؤدب أن يضرب

فوق الثلاث، لأن النبي ، ، ل ا ل ا ل ، ل لم يكن له هذا التأديب إلا ثلاثاً . الوجه الثامن والعشرون : فيه دليل على أن كتاب الله تعالى لا يؤخَذُ إِلا بِقُوَّةٍ، وقد قال، عزَّ وجل، ليحيى عليه السلام : ( خُذِ الْكِتَبَ بِقُوق ) (٤) . فهناك بالقول، وهنا بالفعل والأمر. الوجه التاسع والعشرون: فيه دليل على أن كلام الله عزَّ وجلّ، حين نزوله ثقيل، يشهد لذلك قوله عز وجل : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلا ) (٥) . فشدّة الغَط هنا تدريج لحمل النقل.

من

سورة المائدة، الآية ٥٠ . (۲) أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك .

(۳) سورة العنكبوت من الآية ٦٩ .

(4) سورة مريم، من الآية ۱۲ . (5) سورة المزّمّل ، من الآية ٥ .

الوجه الثلاثون : فيه دليل على أن اتصال جزم الغاط بالمُغِ (۱) وضمه إليه يُحدِث به في الباطن

قوة نورانية متشعشعةً تكون عَوْناً على حمل ما يُلقَى إليه، لأن جبريل عليه السلام، لَمّا اتصل جِرمه بذات محمّد السَّنِيَّة حَدَث له بذلك ما ذكرناه وهو . حمله ما ألقي إليه ووقوفه لسماع خطاب الملك ، ولم يكن قبلُ له ذلك. وقد وجد ذلك أهلُ الميراث من أهل الصوفة المتبعين المتحققين، حتى لقد حكي عن بعض فضلائهم أنه أتاه ناس ينتقدون عليه، فأبى عن إجابتهم. وكان بحضرته رجل من العوام راعياً لغنم فدعاه الشيخ فضمه إليه ، ثم قال له : أجِبْ هؤلاء عما سألوا عنه . فأجاب الرجل وأبلغ في الجواب. ثم أوردوا عليه مسائل، فبقي يُفضّل ويمنع ويُجيز حتى قَطَعَ مَن حضره من الفقهاء في البحث. ثم دعاه الشيخ فضمه إليه ، فإذا هو قد رجع إلى حاله الأول لا يعرف شيئاً. فقال له الرجل: يا أيها السيد، إن الفقراء إذا وَهَبوا شيئاً لا يرجعون فيه. فقال له : نعم، هو كذلك؛ ولكن ليس لك نسبة في ذلك الشأن . ثم بشَّره بخير، وكان كذلك. فهذا قد وُجِد في ملامسة بَشَرٍ لبَشَرِ ، وهو وارث (۲) ، فكيف بملامسة جسد الموروث (۳) لِجَسَد الروح الأمين؟

الملائكة

الوجه الحادي والثلاثون لقائل أن يقول : قد اختلف العلماء : هل البشر أفضل من ا أو بالعكس؟ على قولين فعلى قول من يقول بأن البشر أفضل من الملائكة، فمستحيل أن تحصل القوة للأفضل بملامسة المفضول والجواب عنه : إنّا لا ننظر ههنا إلى الأفضلية بالذوات، وإنما ننظر من قبل المعنى وهي موجودة هنا لأن جبريل عليه السلام، كان حاملا لكلام الله، عزّ وجلّ، في ذلك الوقت، فحصلت له الفضيلة، لأجل ما احتمل والنبي ، ل ، لم يكن عنده ا نده القرآن إذ ذاك . ويشهد لهذا ما رُوي أن النبي ، لا لا اله ، وكان أجود الناس ، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه .القرآن فَلَرَسُولُ الله ، ، حين يلقاه جبريل أجْوَدُ بالخير من الريح المرسلة (٤) .

الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل لأهل الصوفة حيث يقولون : «إنّ التَّحَلّي لا يكون إلا بعد التَّخَلّي» لأن النبي ، ، تَخَلَّى أولاً حتى لم يبق من مجهودِهِ غاية، فلما كان تخليه أفضل وأشرفَ من تخلي غيره، والبشر قاصر عن تخلّيه ضمَّه جبريل عليه السلام، حتى حصل له تَحَلَّ من نسبة ذلك التخلّي، ولذلك قال : حتى بَلَغَ مِنّي الجَهْدَ) لأن التخلّي هو ضمه إليه حتى بلغ من مجاهدة النفس الغاية. والتحلّي هو إلقاء الوحي إليه، وفي هذا دليل على ما قدمناه وهو أن مَن دخل في

(۱) كذا، والصواب المغطوط.

(۲) الوارث في هذا المقام الآخذ والمستفيد.

(۳) الموروث : في هذا المقام المُعطِي والمفيد. ويقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(٤) أخرجه البخاري ومسلم .

الطريق بالتربية والتدريج أفضل ممّن لم يكن له ذلك، إذ هذا كله تربية وتدريج للنبي ، . فما كان عليه السلام، يَرْقى إلى مقام حتى يُحكم أدب الأول ويفهم معناه، وما احتوى عليه من الفوائد. ولأجل هذا المعنى الذي أشرنا إليه كان الناس أبداً ينتفعون على يدِ مَنْ كان مربّياً، وقلَّ من ينتفع على يد من كان دخوله بغير ذلك .

الوجه الثالث والثلاثون : لقائل أن يقول : لِمَ كان الغَط ثلاثاً ولم يكن أقل ولا أكثَرَ؟ والجواب

عنه من وجهين :

(الأول) : أن البشرية فيها عوالم مختلفة. فمنها العقل وموافقه وهو الملك . ومنها النفس والطبع والشيطان ومُوافِقُها وهو الهوى والغفلة والعادة المذمومة، وهي أشدُّها لقول الأمم الماضية : إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَ نَا عَلَى أُمَّةٍ (١) ، ، فلم يجدوا حجّة إلا بالعادة الجارية فيهم وفي ابائهم . وقد قالت الأطباء : إن العادة طَبْعٌ خامس . فكانت الثلاث غَطَّات مُذهِبَةٌ لتلك الخصال الثلاث وموافقها، وبقي العقل والمَلَك اللذان هما قابلان للحَقِّ والنُّور . وإن كان النبي، ، قد خُلقت ذاته المكرَّمة على الطهارة ،ابتداءً ونُزعت من قلبه عَلَقَةُ الشَّيطان (۲)، وأُعين على شيطانه حتى أَسْلَم (۳) ، وجُبِل على كل خير ومَكْرُمَة، لكن هذه الثلاثَ غَطَّات مقابلة لتلك الثلاث، إذ لو كانت هناك، لأنها من أصناف البشرية وهو عليه السلام المشرع ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ : ﴿ وَثِيَابَكَ فطر (٤) . وثيابه عليه السلام كانت طاهرة على كل التأويلات. لكن هذا مقتضى الحكمة في تكليف البشرية وتَرَقِّيها وهو عليه السلام الأصل لكل خير والمشرع له، فعومل على ما تقتضيه

البشرية لهذا المعنى . (الثاني) : أن الإيمان على ثلاث مراتب : إيمان وإسلام ،وإحسان، فكانت الثلاث غطات مبالغة في التخلّي كل درجة في التخلي مقابلها درجة في التحلّي، حتى أكمل أعلى الإيمان، وهو الإحسان؛ لأن من ضرورات الأنبياء عليهم السلام، أن يكون إيمانهم أقوى من إيمان أتباعهم، لأن مقامهم أجل وأرفع .

الوجه الرابع والثلاثون فيه دليل على أن التخلّي على ضربين: مكتسب وفيض من الله ، سبحانه . فالمكتسب : في مثل ما تقدم عن النبي ، من الخلوة في الغار، والتحنث فيه.

(۱) سورة الزخرف من الآية ۲۲ .

مستوحى من حديث الإسراء الذي أخرجه البخاري ومسلم وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد أبيه وابن حبان

والحاكم والضياء في المختارة.

(۳) أخرجه الإمام أحمد في المسند ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

(4) سورة المُدَّثَر ، الآية ٤ .

والفيض : هو ما نحن بسبيله من الغَطّ والضَمّ. فقد يكون من السَّالِكين مَن تَخَلّيه بالكسب لا غير، وقد يكون تخليه بالفيض لا غير، مثل إبراهيم بن أدهم (۱) ، والفُضَيْل بن عياض(٢) وغيرهما، وقد يُجمع لبعضهم بين الحالتين، فيكتسب ويُفاض عليه، كما فُعِل للنبي ، وكثير ما هم . وهو

فضل الله يؤتيه من يشاء .

الوجه الخامس والثلاثون : قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : ﴿ أَقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ يريد : اذكر اسم ربك - وفيه دليل على أنّ الإنسان إنما يخاطب أولاً بما يعرف أنه يصل إلى فهمه بسرعة من غير مشقة ولا بحث يحتاج إليه ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ قد أحال نبيه، عليه السلام، أولاً على أن ينظر في خَلْق نفسه بقوله عزّ وجلّ : خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ ولم يقل له : الذي خَلَقَ السَّماواتِ والأرض، والأفلاك وغير ذلك، وإنما قال له عزّ وجلّ، ذلك بعد ما تَقَرَّرَ له خَلْق نفسه وما هو عليه، وحصل له من المادة الإلهيّة ما يتسلّط به على ذلك .

الوجه السادس والثلاثون فيه دليل على أن الفكرة أفضل الأعمال؛ لأنّ في ضمن قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ ما يستدعي الفكرة فيما قيل حتى يحصل للمخاطب بذلك علم قطعي وإيمان صادق . وليس الإيمان به والتصديق بعد الفكرة كالإيمان به على البديهة، ولهذا المعنى أشار

عليه السلام، بقوله : (تَفَكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سَنةٍ) (۳) وفي رواية : (خيرٌ من عبادة الدهر) . لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه ، وبان له الحق واتضح . وبقدر تعمّقه في الفكرة يَقْوَى الإيمان . ولهذا المعنى قال بعض الفضلاء : أنا أوصيك بأن تديم النظر في مرآة الفكرة مع الخلوة، فهناك يبين لك الحق .

الوجه السابع والثلاثون فيه دليل على أن المتفكر في عظمة الله وجلاله ينبغي أن يفكر بعد ذلك في عفو الله وكرمه وإحسانه ، لأن قوله عزّ وجلّ : خَلَقَ الْإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ معناه ما تقدم، وهو

(۱) إبراهيم بن أدهم: (ت) (١٦١هـ / ٧٧٨م زاهد مشهور. كان أبوه من أهل الغنى في بلخ . فتفقه ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وأخذ عن كثير من علماء الأقطار الثلاثة وكان يعيش من العمل بالحصاد والحمل والطحن، ويشترك مع الغزاة في قتال الروم. مات أبوه وخلف له مالاً عظيماً فلم يعبأ به ووزّعه على الفقراء. وكان يلبس في الشتاء فزوا ولا قميص تحته، ولا يَتَعَمَّم في الصيف ولا يحتذي. وكان يصوم في السفر والحضر، وينطق بالعربية الفصحى ولا يلحن . تُوفي في سوقين حصن ببلاد الروم) وقيل بجَبْلة يرحمه الله . (۲) الفُضَيْل بن عياض : (ت ۱۸۷ هـ / ۸۰۳م شيخ الحَرَمِ الـ المكي : أكابر العباد الصلحاء. كان ثقةً في الحديث . خَلق كثير منهم الإمام الشافعي. ولد في سَمَرْقند، ونشأ بأبيورد ودخل الكوفة وهو كبير، وأصله منها،

أخذ عنه ثم سكن مكة وتوفي بها .

من

(۳) أورده الشوكاني في الفوائد المجموعة بلفظ (فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة) وقال : رواه أبو الشيخ عن أبي

هريرة مرفوعاً. وأورد روايات أخرى له منها ما وافق نص المصنف ابن أبي جمرة، ومنها بعبارة : خير من ستي سنة، أو ثمانين سنة، أو ألف سنة، وفي جميع هذه الروايات ضعف وجَرْح في عدد من رُواةِ سَنَدِهِ.

استدعاء الفكرة فيما نص الله عليه وذلك يقتضي العظمة والإجلال ، ثم قال، عزّ وجلّ، بعد ذلك : أقرأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ) وهذا الاسم يتضمن معاني الأسماء كلّها الموجبة للطف والإحسان. نسأل الله بمنّه أن يعاملنا بمقتضى متضمَّنه . والحكمة في منع التفكير في عظمة الله، دون ما يُضادها، أنّ المتفكر إذا تفكر فيها وحدَها قد يُخاف عليه، لئلا يذهب به الخوف إلى بحر ا التلف ، من القنوط، فإذا أعقبه بالتفكر في مقتضى الرحمة والإحسان أَمِنَ من ذلك.

الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على أن من أصابه أمر فله أن يتداوى بحسب ما اعتاد ما لم يكن فيه حرام، لأن النبي ، ، علما أن أصابه الرعب رجع إلى ما اعتاد من التدبير يقول: (زَملوني زَمّلوني) وقد قال عليه السلام : (تُدَاوَى كُلُّ نفس بما اعتادت) (1) .

الوجه التاسع والثلاثون قولها : فرَجَعَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَرجُف فؤاده) رجع بها : بمعنى حفظها . فظهرت هنا ابتداءً فوائدُ الغَطّ لسرعة الحفظ لما أُلقي إليه. والرَّجف : كناية عما لحقه،

عليه السلام من الخوف والوَجَل . والفؤاد : كناية عن باطن القلب؛ لأن الخوف والفرح فيه .

هو

الوجه الأربعون قولها: (فأخبَرَها (۲) الخَبَر ) فيه دليل على أن الاختصار في الكلام هـ المطلوب، وأنه هو الأولى؛ لأنها ذكرت خبَرَه مع المَلَك ، فأعادت الضمير عليه، ولم تحتج إلى إطالة الكلام بإعادة ذكر الملك ثانية . وهو من فصيح كلام العرب .

الوجه الحادي والأربعون قوله عليه السلام: (لقد خَشِيتُ على نفسي) خشيته، عليه السلام، هنا تحتمل وجهين أحدهما أن تكون خشيته من الرعب الذي أصابه من قبل المَلَك، فخشي أن يقيم بالمرض من أجل ذلك . الثاني: أن تكون خشيته عليه السلام، من الكهانة، وهو الأظهر ، لأنه عليه السلام كان يُبغض الكَهَنَةَ وأفعالهم، فلما جاءه المَلَك، ولم يصرح له بعد بأنه نبي أو رسول لأنه قال له : أقرأ وتلا عليه الآية (۳). وليس في ذلك ما يدل على أنه نبي أو رسول، خشي، عليه السلام إذ ذاك أن يُصيبه من الكهانة شيء، لأنها كانت في زمانه كثيرة. وهذا منه، عليه السلام كَثرةُ مبالغة في الاجتهاد، وتمحيص في الأفعال ؛ لأنه قد صَحَّ أن الحجر كان يخاطبه قبل ذلك (٤) ، ويشهد له بالرسالة ، والمَدَر والشجر (٥) كذلك، وقد أخبره بعض

(1) لم نقف على مصدره. كذا. ولفظ الحديث وأخبرها . (۳) كذا. والأصح : الآيات.

(٤) في مخاطبة الحجر وشهادته لرسول الله بالرسالة روايات كثيرة أوردها الترمذي في المناقب والدارمي ۱۲/۱ والحاكم في المستدْرَك ٦٢٠/٢ والبيهقي في دلائل النبوة ١٥٣/٢ و ١٥٤ .

(5) في شهادة المدر والشجر روى الترمذي في المناقب وأبو يعلى وابن حبّان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله =

الرهبان (۱) بذلك . لكن بعد هذا كله لَمّا أن أصابه عليه السلام هذا الأمر - وهو محتمل لوجهين : أحدهما ضعيف، والآخر قوي بتلك الأدلة التي ظهرت له قبل - لم يترك الوجه المحتمل، وإن كان ضعيفاً، حتى تحقق بطلانه بيقين .

وبه يستدل أهل الصوفة في الواقع إذا وقع لهم أمر محتمل لوجهين أو وجوه. وأحدها يُخاف منه، والوجوه الأخَرُ من المبشرات، أنهم يبحثون عن الشيء الذي يخافون منه، وإن كان ضعيفاً بالنسبة إلى غيره يشهد لما قررناه من أن النبي ، و كانت خشيته من الكهانة جواب خديجة إليه، وكيف رفعته إلى وَرَقَة، فلو كانت خشيته عليه السلام من المرض لما كان جواب خديجة إليه بتلك الألفاظ، ولما احتاج أن يبثّ خبَرَه ، عليه السلام، لوَرَقة .

الوجه الثاني والأربعون : قول خديجة ،له عليه السلام كَلا والله ما يُخزيك الله أَبَداً. إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وتَحمِلُ الكَلَّ، وتُكسِبُ المعدوم، وتَقْري الضَّيفَ ، وتُعينُ على نوائب الحَقِّ). فيه دليل على أن من طُبع على أفعال الخير لا يُصيبه مكروه. هذا إذا كان ذلك طبعاً، وأما من لم يكن له ذلك طبعاً وكان يستعملها، فيُرجَى له ما دام يفعلها ألا يُصيبه مكروه، لأن النبي، ، لما أن طبع على تلك الأوصاف الحميدة حُكم له بأنه لا يُصيبه مكروه للعادة التي أجراها الله تعالى لمن كان ذلك حاله، وقد قال عليه السلام: (صَنائِعُ المَعروفِ تَقِي مَصارِعَ السّوء) (٢) .

الوجه الثالث والأربعون فيه دليل على جواز الحكم بالعادة، لكن ذلك بشرط يُشترط فيها، ألا يقع بذلك خلل في الأمر والنهي، لأن خديجة رضي الله عنها، حكمت بما أجرى الله من العادة فيما ادعته، ولم يعارض ذلك شيء مما ذكرناه .

من

عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي الله فقال : بِمَ أعرفُ أنك نبي ؟ قال : إن دعوتُ هذا العِذْقَ هذه النخلة أتشهد أني رسولُ الله؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي . ثم قال : ارجع . فعاد. فأسلم الأعرابي. وأحاديث سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة وصحيحة . (1) أخرج الترمذي في باب ما جاء في بدء نبوة النبي ا ا و رقم ٣٦٢٤ عن أبي موسى الأَشْعَرِي عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي الله في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يَمُرّون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت (قال : فهم يَحُلُون رِحالهم) فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله فقال : هذا سيّد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش ما عِلْمُك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجَرٌ ولا شجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة .. إلى آخر الحديث، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .

(۲) أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن .

الوجه الرابع والأربعون فيه دليل على أن للمرء أن يحلف على عادة أجراها الله ، عزّ وجلّ، لعباده، لأن خديجة رضي الله عنها ، حلفت على ما تقدم ذكره .

الوجه الخامس والأربعون : فيه دليل على أن المرء إذا أصابه أمر مهم فله أن يحدث بذلك أهله ومن يعتقده من أصحابه إذا كانوا ذوي دين ونَظَر، لأن النبي ، ، ، لما أن وقع له ما وقع حدّث به خديجة رضي الله عنها، وهي في الدِّين والنظر السَّديد والعقل الرشيد بحيث لا يخفى . الوجه السادس والأربعون فيه دليل على أن من ادعى شيئاً فعليه بالدليل على صدق دعواه . وإن كانت تشهد له أدلة على ،مقاله، وله ما يستدل به زائداً على تلك الأدلة، فليأتِ به أولاً ليقوي ما ادعاه، وإن كان صادقاً في نفسه، مصدقاً عند غيره ؛ لأن خديجة رضي الله عنها، كانت في الصدق والتحري حيث كانت وكان النبي ، ل ، في تصديقها حيث كان على ما تقرر من أحوالهم وعُلِمَ . ولكن بعد ذلك كله لما أن قالت للنبي ، ، ، (والله ما يُخزيك الله أبداً) لم تقتصر على ما ادعته، حتى أتت له بالأدلة التي هي سبب ما أخبرت به من ،محامده عليه السلام، ومآثره، ثم لم تقنعها

تلك الأدلة حتى ذهبت معه إلى وَرَقة نُصرةً لدعواها حتى أثبتت ما ادعته بغير شك ولا احتمال . الوجه السابع والأربعون فيه دليل على أن المرء إذا وقع له واقع أن يسأل عنه أهل العلم والنُّهَى، لأن النبي ، ل ، لما أن وقع له ما وقع ذهب إلى وَرَقَة الذي هو أعلم أهل زمانه وأفضلهم

بعد النبي ، .

الوجه الثامن والأربعون فيه دليل على جواز خروج المرأة مع زوجها لأن النبي ، ، خرج مع خديجة رضي الله عنها إلى ورقة وقد رُوي عنه عليه السلام (أنه خرج مَعَ عِياله بِلَيْلٍ بعد الرسالة ، فَلَقِيَهُ بعضُ الصّحابة، فقال لهم : إنَّها صَفِيَّة) (۱) . لكن ذلك بشرط يُشتَرَط، وهو أن يكون فيما أباحته الشريعة، وعلى ما تقتضيه الشريعة من الستر وغير ذلك .

الصفات

الوجه التاسع والأربعون فيه دليل على أن من وصف امرأ لا يزيد على ما فيه من الحميدة شيئاً، لأن خديجة (۳) ، رضي الله عنها، أخبرت عن ورقة بما كان فيه من المحامد، ولم

تزد عليها .

بن

(1) أخرجه البخاري ومسلم عن علي بن الحسن رضي الله عنهما . و (صَفيّة) هي أحدى أمهات المؤمنين . أبوها حيي أخطب من بني إسرائيل من سِبطِ هارون بن عمران استصفاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من سَبي خَيْبَر، ثم أعتقها وتزوجها، وأسلمت ويُروى أنه عليه السلام دخل عليها يوماً وهي تبكي، فسألها فقالت : بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان: نحن خيرٌ من صَفِيّة، نحن بناتُ عمّ رسول الله وأزواجه. فقال عليه السلام: ألا قلت لهنّ : كيف تكنَّ خيراً مني وأبي هارون، وعمي موسى وزوجي محمد؟ توفيت سنة خمسين . كذا، والصواب عائشة رضي الله عنها، وهي راوية الحديث .

الوجه الخمسون : فيه دليل على أن أهل الفضل والسُّوْدَدِ إذا استشاروا امرأ في شيء أن يبادر المستشار في عَوْنهم ومشاركتهم، لأن خديجة رضي الله عنها، بادرت إلى الخروج مع النبي، حين استشارها من غير أن تقول له : اِمْضِ إلى فلان .

الوجه الحادي والخمسون فيه دليل على أن المرء إذا عرضت له حاجة عند أهل الفضل فالسنة فيه أن يُقدِّم إليهم مَن يُدِلُّ عليهم، إن وجد ذلك ، لأن النبي ، ، ، لم يمض وحده لورقة، خديجة رضي الله عنها، التي هي من قرابة ورقة .

وإنما مضى مع .

الوجه الثاني والخمسون : فيه دليل على أن من كان سفيراً بين أهل الفضل أن يتحرز في كلامه بينهم، ويُعطي لكل واحد منهم مرتبته ومنزلته، لأن خديجة رضي الله عنها، قالت لورقة: (اسمعْ من ابن أخيك تحرّزاً منها على منزلة النبي ، ل ا ل ا ل ، لئلا تُخلَّ بمنصبه؛ لأن العرب تقول لمن فوقها (أب) ولمن هو مثلها (أخ) ولمن هو دونها (ابن)، فاستعملت هي (ابن الأخ) لأنه أعز للنبي ، ، فإنّها لو قالت : (ابن) لكان يقتضي ترفيع المسمَّى بالأب على المسمَّى بالابن. لأن البنوة أخفضُ رتبة من منصب الأبوّة . ولو قالت (أخ) لم يكن ذلك حقاً، لأن الأخوة تقتضي المماثلة في على عادة العرب، فأعطت كلَّ ذي حق حقه، وتحرّزت في لفظها ؛ لأن العرب كانت عادتهم في الخطاب لمن يَكرُمُ عليهم وهو صغير في السن ينادونه : يا ابن الأخ ؛ لأن العم ليس له حق على ابن

أخيه مثل ابنه .

السن

عنهم،

الوجه الثالث والخمسون فيه دليل على التقدم في الكلام على أهل الفضل نيابةً . وترفيعاً لهم؛ لأن خديجة رضي الله عنها بادرت بالكلام لورقة قبل النبي، ، خدمة له

وتكريماً .

الوجه الرابع والخمسون فيه دليل على أن الواقع إذا وقع لامرىء فهو أَوْلَى أن يحدث به للعالم من غيره ؛ لأن خديجة رضي الله عنها قالت لورقة : اسمَعْ) من ابن أخيك) وقد كان النبي، حدثها بالواقع، فلم تُحدّث به، وأحالت على صاحب القضية .

الوجه الخامس والخمسون : قول وَرَقة : (هذا النَّاموس الذي نَزَّل الله على موسى). الناموس

عند العرب هو حاسوس الخير أي صاحب سِرّ الخير . والجاسوس بضده ؛ أي صاحب سِرّ الشر. وفي هذا دليل للوجه الذي قدمناه وهو الحكم بالعادة التي أجراها الله عزّ وجلّ، لعباده، وأن يُحلف عليها ؛ لأنّ ورقة ما أخبر بأنّ الآتي هو المَلَك، لَمّا أن ذُكِرت له الصفات والعلامات إلا لما يعهد من عادةِ الله عزّ وجلّ ألا يرسله إلا للنَّبِيِّين والمرسلين .

الوجه السادس والخمسون فيه دليل على أن للإنسان أن يتمنّى الخير لنفسه، لأن ورقة تمنى

أن يكون جَذَعاً في زمان ارسال النبي ، الله ، فينصُرَه . والجَذَع عند العرب هو الشاب، وقد اختلف العلماء في إيمان ورقة فمن قائل يقول : لم يحصل له الإيمان بعد لأنه لم يبلغ عمره زمنَ الرسالة، ومن قائل يقول : قد حصل له الإيمان وهو الأظهر، لأنه تمنّى أن يَنصُرَ النبيَّ ، . ومن جملة النصرة أن يكون على طريقته، وقد حصل له الإقرار بالرسالة، حيث قال : (هذا الناموس الذي نَزَّل الله على موسى فأقر أن الله عزّ وجلّ موجود، وأنه هو الذي يُرسل جبريل، عليه السلام، إلى أنبيائه ، عليهم السلام. وهذا هو الذي يُمْكِنه في ذلك الوقت، لأن النبي ، ، لم يكن أُرسل بعد . الوجه السابع والخمسون فيه دليل على أن العالِمَ بالشيء يَعرِف ماله على جَرْيِ العادة، فله أن يحكم بالمآل إذا رأى المبادىء ، لأن ورقة لما أن علم أن النبي ، ، ، أُرسل إليه ، علم أنه لا بدَّ له يَخرُج، فبصدق المبادي عَلِمَ حقيقة التناهي. لأن تلك عادة أجراها الله، عزّ وجلّ، لم تَتَخَلّف في أَحَدٍ من ،رسله على ما ذكر. وفي هذا دليل على ما قدمناه من الحكم بالعادة، على

من

أن

الشرط الذي ذكرناه .

الوجه الثامن والخمسون : قوله عليه السلام : أَوَمُخَرِجِيَّ هُم)؟ تعجباً منه، عليه السلام، لكونه من أشرفهم وأفضلهم، وهم يحترمونه ويُقرّون له بالفضل والسُّوْدَدِ، حتى إن اسمه عندهم كان الصادق والأمين ، ثم إنهم مع ذلك إذا جاءهم بالحق والنور يُخرِجونه فوقع منه، عليه السلام، التعجب على ما يقتضيه العقل والنظر والقياس، وهو أن من كان رفيعاً وأتى بزيادة في ترفيعه يزاد في الترفيع والحزمة، ولم يكن عليه السلام ليعلم العادة المستمرّة، وهو أن كل من أتى للنفوس بغير ما تحب وما تألف وإن كان ممن تحب وتعتقد، تعافه (۱) وتطرده. وقد قال، عزّ وجلّ، حكاية عنهم : ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّلِمِينَ بِنَايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ (۲) .

الوجه التاسع والخمسون فيه دليل على أن التجربة تُحدث علماً زائداً على العلوم لا يُلحق بالعقل ولا بالنظر ولا بالقياس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى نظره ما قدمناه لكونه أطرَدَ الحُكم وقاس عليه على الوجه الذي أبديناه وورقة أخبَرَ بما جرت به العادة وأفادته التجربة، ولذلك قال له : (لم يَأْتِ أَحَد (۳) بمِثْل ما جئتَ به إلا عُودِيَ) موافقةً منه للنبي ، على مقتضى العقل والنظر والقياس، وبياناً للحكم بما جرت به العادة، وأفادته التجربة، ولأجل هذا المعنى أوصى لقمان ابنه

بذلك فقال له : با بني عليك بذوي التجارب .

(۱) تعافه : تكرهه فتتركه ...

(۲) سورة الأنعام من الآية ۳۳ . كذا، ولفظ الحديث : رجل .

الوجه الستون : قولها : (ثم لم يَنْشَبُ ورقةُ أن تُوفّي تريد : أن ورقة لم تطل حياته لوقت الرسالة، بل اخترمته (۱) المنية قبلها .

الوجه الحادي والستون قولها وفَتَرَ الوحي تريد أن الوحي أبَطَاً بعد هذه المرة، والحكمة في إبطائه هي أن النبي ، ا ، و قد حصلت له روعة أوَّلاً عند نزول الملك عليه، على ما تقدم، فكان الإبطاء بعد ذلك لكي يتهدّنَ عليه السلام من روعته وتبقى نفسه المكرمة متشوفةٌ لمثله. كما روي عنه عليه السلام، حين أبطأ الوحي عنه كثر اشتياقه إلى عَوْدِهِ، حتى لقد كان يَرُوم أن يلقي بنفسه من شواهق الجبال .

الوجه الثاني والستون : قوله عليه السلام فرفعتُ بَصَري فإذا الملك الذي جاءني بِحِراء جالس على كرسي بين السماء والأرض. هذا إظهار قدرة الله عزّ وجلّ، إذا أراد شيئاً أن يقول له : كُن فيكون. فكما جعل عزّ وجلّ الأرض لبني آدمَ يتصرفون فيها كيف شاؤوا، فكذلك جعل الهواء للملائكة يتصرفون فيه كيف شاؤوا فالذي أمسك الأرضَ بمن يمشي عليها هو المُمْسِكُ للهواء ومَن يمشي عليه، ليس في قدرته عِلَّةٌ لمعلول، لكن ذلك مغطّى عن الأبصار، وإنما أراد ذلك للنبي ، ، تربية له، وترقياً، ليتقوَّى الإيمان واليقين، فيرجع له علم اليقين عين اليقين. وكذلك خرق العادة للمباركين أصحاب الميراث، إذا رأوا منها شيئاً قوي إيمانهم، وازداد يقينهم، وكان ذلك تربية لهم، وترقياً في مقامات الولاية .

به ،

الوجه الثالث والستون : قوله عزّ وجلّ : يَتَأَيُّهَا الْمُدَّثِر ( إنما سماه، عزّ وجلّ، بذلك من جهة الإيناس له واللطف لأن عادة العرب لا تُسَمّي الإنسان بحالته التي هو فيها إلا من جهة الإيناس واللطف ومنه قوله عليه السلام، لعليَّ رضي الله عنه: (قُمْ أبا تراب) (۲)، لأنه كان في وقته ذلك مضطجعاً على الأرض، فسمّاه بذلك من جهة اللطف والإيناس .

الوجه الرابع والستون : فيه دليل على أنه عليه السلام أمر بالإنذار حين نزول الوحي عليه من غير تراخ في ذلك ولا بُطْءٍ، لأنه أتى بالفاء، في قوله : ( فَأَنذِرْ ) وذلك يفيد التعقيب والتسبيب . الوجه الخامس والستون : لقائل أن يقول : النبي ، ل ، قد أُرسل بشيراً ونذيراً، فَلِمَ أُمِر في هذه الآية بالإنذار، دون البشارة؟ والجواب : أنه إنّما أمر بالإنذار أولاً، لأن البشارة لا تكون إلا لمن دخل في الإسلام، ولم يكن إذ ذاك مَنْ دخل في الإسلام. وفيه دليل لما قدمناه من أن خشية النبي، كانت من الكهانة لأنه طالما بقي له عليه السلام الاحتمال الذي ذكرناه بقي على خشيته

(1) اختَرَمَتْهُ المنيَّة : أخذته .

(۲) أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه .

ورغبته، فلما أن صرح له بالرسالة، وأمر بالإنذار زال عنه ذلك، فقام، عليه السلام، من حينه مسرعاً للأمر، ليس به بأس.

الوجه السادس والستون قوله عزّ وجلّ : وَثِيَابَكَ فَطَعِر قد اختلف العلماء في معناه. فمن قائل يقول : إن المراد به القلبُ ، ومن قائل يقول : المراد به الثياب التي تُلبس، وهذا هو والله أعلم . لأنه قال بعد ذلك : ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ومعناه : طهر قلبك من الرجز . والرُّجز هو الأصنام

الأظهر،

وغير ذلك مما كانت العرب تعبده . فإذا حملنا قوله عزّ وجلّ وَثِيَابَكَ فَطَقِر) (۱) على القلب، فيكون التطهير يعود على القلب مرتين . وليس من الفصيح .

فإن قال قائل : يكون بمعنى التأكيد قيل له : القاعدة في ألفاظ الكتاب والحديث أنه مهما أمكن حملها على كثرة الفوائد كان أولى من الاقتصار على بعضها ولا يقتصر على بعض الفوائد التي يدل عليها اللفظ ويُترَك بعضُها إلا لمعارض لها وههنا ليس لنا معارض في الحمل على الفائدتين المتقدمتين. بيان ذلك : أن هذا الخطاب كله ظاهر للنبي الله ، والمراد أمته، لأنه، عليه السلام، كان طاهراً مُطهَّراً، خُلِق على ذلك، ورُبّي فيه، وطبع عليه، ولكن يدخل عليه السلام في الخطاب مع أمته من قبل أنه كان يفعله أوّلاً على الندب أعني ما أمر به الآن من التعبد، ثم صار الآن على الوجوب كالصبي يُصلّي أوّل النهار على الندب ثم يصلي آخره على الوجوب، إذا بلغ

من يومه .

الوجه السابع والستون : قوله عزّ وجلّ : ﴿ وَلَا تَمنُن تَسْتَكْثِرُ) (۲). قد اختلف العلماء في معناه . فمن قائل يقول : معناه لا تُبطل صدقتك بالمَنِّ . ومنه قوله عزّ وجلّ : ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَتِكُم بِالْمَنِ وَالْأَذَى ) (۳) ومن قائل يقول : معناه لا تَمْنُنْ بكثرة العمل فتكسَلَ عن العبادة. ومن قائل يقول: معناه لا تُعطِ بالمَنْ والأذى الهديَّةَ لِتُثاب عليها. وهذا كلّه جارٍ على القاعدة التي قررناها وهو أن الخطاب للأمة ،وهو عليه السلام المتلقي للخطاب، والعموم يشمل الكل على ما بيناه .

الوجه الثامن والستون : فيه دليل لأهل الصوفة في قولهم : باستحباب العمل وترك الالتفات

من فصحاء العرب على القلب لفظ ثياب). وقد ورد ذلك في الشعر الجاهلي من شعر عنترة بن أوس

(1) يطلق . العبسي وهو يصف قتله لخصمه :

فشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الْأَصَمُ لِيابَهُ ليس الكريم على القَنَا بِمُحَرَّمِ

وثيابه قلبه بدلالة السياق.

(۲) هذه الآية الكريمة وما بعدها الواردة في الوجه التاسع والستين لم تَرِدُ في نَص الحديث . (۳) سورة البقرة من الآية ٢٦٤ .

ودوام الإقبال والحضور والعمل ، لأن النظر إلى كثرة العمل يحدث الكسل، كما تقدم، فكيف به إذا كان النظر لغير العمل؟ ومنه قولهم : الوقتُ سَيف، يريدون به : اقطع الوقت بالعمل لئلا يقطعك بالتسويف، ولأن الالتفات للحظوظ وكثرة العمل وغير ذلك هلاك، والسالك إذا التفت إلى الهلاك

كان هالكاً.

الوجه التاسع والستون ،قوله عزّ وجلَّ : ﴿ وَلِرَبِّكَ فَأصبر ) معناه : اصبر على عبادة ربك، ومنه قوله عز وجل : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (۱) لأن الشأن في العبادة الدوام والصبر عليها، ولهذا المعنى كان عليه السلام إذا َعمِلَ عملاً أثْبَتَهُ وواظب عليه (۲) .

الوجه السبعون قد اختلف العلماء في هاتين الآيتين، أيتُهما أنزلت قبل صاحبتها، بعد اتفاقهم على أنهما أوّلُ ما نَزل من القرآن أعني آية (المُدَّثْر) وآية (اقْرَأْ) فمن قائل يقول : آية المدثر . .. ومن قائل يقول : آية اِقْرَأْ . وكلاهما، والله أعلم ،حق، لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يقال : أول ما نزل من التنزيل آية (اقْرَأْ) وأول ما نزل من الأمر بالإنذار في التنزيل آية (المُدَّثِّر ) .

ومثله قوله عليه السلام أَوَّلُ ما يُحاسَبُ به العبدُ الصَّلاة) (۳). وقوله، عليه السلام : (أوَّلُ ما يُقضَى فيه الدّماءُ) (٤) . وهذان أيضاً حديثان متعارضان ويمكن الجمع بينهما على ما قررناه في الجمع بين الآيتين. وهو أن يقال : أول ما يُحاسب به العبد من الفرائض البدنية : الصلاة. وأول ما يحكم فيه من المظالم التي بين العباد في الدّماء. فصَح الجمع بين الآيتين والحديثين بهذا الذي ذكرناه . والله أعلم .

الوجه الحادي والسبعون: قولها : (فَحَمِي الوحي، وتَتَابَعَ). تريد : أنه كثر نزوله بعد نزول هذه الآية، ولم ينقطع ولقائل أن يقول : لِمَ عبّرت عن تتابع نزول الوحي بهذا اللفظ ، ولم تعتبر بغيره؟ الجواب : أنه إنما عبّرت بذلك تتميماً منها للتمثيل الذي مثلت به أولاً، وهو كونها جعلت المرائي التي قبل الرسالة من الرسالة وهي منها على ما تقدم فنسبة المرائي إلى الرسالة كنسبة انصداع الفجر مع طلوع الشمس، كما تقدم أول الحديث، لأن الحق إذا بدا يزيد ولا ينقص، فكذلك انتشارها وكثرة ،ظهورها أعني الرسالة كتمكن الشمس في ارتفاعها، وظهور نورها، وكثرة حرها، لأن ضوء الشمس لا يشتد ويتمكن إلا مع قوة حَرها عند استوائها. ولذلك قالت : (فَحَمِي

(۱) سورة الحجر، من الآية ۹۹ .

(۲) أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود عن السيدة عائشة رضي ا الله عنها بألفاظ مختلفة .

(۳) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه . (٤) أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

الوَحْيُ وتَتابَعَ) أي حمِيَ وتتابع على مقتضى تلك الزيادة ولم ينقص، لأنها شبهت بالشمس، والشمس إذا استوت في كبد السماء أخذت في الفَيْءِ وقَلَّ حَرُّها ، والحَر هنا عبارة عما تضمنه التنزيل من النُّور والهدى، فتحرزت بقولها : ( وتتابع) ، لئلا تمثل بالشمس من كل الجهات، لأن الشمس يلحقها الأفول والكسوف وما أشبه ذلك، فأفاد لفظها أن النور والكمال وتوالي البيان والمنافع بقي على الحال الذي أبدَتْه وشَبَّهت به، لم يلحقه نقص بعد ذلك .

في هذا المعنى دليل لأهل الصوفة حيث يقولون : شمسُ كلِّ مقام بحسب ح ، حاله . ولأن شمس النبي ، ، نزول القرآن عليه . ثم كذلك بتلك النسبة في الوارثين له، فشمس المريد : عَلْمه، وشمس الصديق : معرفتُه . ولكل مقام شمسه بحسب . حاله .

فاحذر من رياح طبعك أن تثير سحائب شهوتك، فتغطي على شمس حالك، فتوجب زَلّة قدمك، فتدخل في ضمن قوله عليه السلام: (لا يختلسُ الخَلسةَ حين يختلسُها وهو مؤمن)(۱)، أي كامل الإيمان، لأن تغطية نور الإيمان نقص فيه .

أعاذنا الله من نقصه ، وأدام لنا كماله حتى يقبضنا به إليه بمنّه .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

(1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن ا أبي . يسرق وهو مؤمن) .

الله عنه بلفظ (لا يسرق السارق حين

حديث حلاوة الإيمان

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوة الإيمان. أن يكونَ الله ورسولُه أَحَبَّ إليه مما سواهما . وأنْ يُحبَّ المرء لا يُحِبُّه إلا الله، عزّ وجلّ، وأن يَكْرَهَ أن يعود في الكفر كما يَكرَهُ أَن يُقْذَفَ فِي النّارِ).

ظاهر هذا الحديث يدل على أن الإيمان على قسمين بحلاوة وبغير حلاوة. ومنه قوله عليه السلام الإيمان إيمانان، إيمان لا يُدخل صاحبَه النارَ ، وإيمان لا يخلد صاحبه في النار)(١). فالإيمان الذي لا يُدخل صاحبَه النار هو ما كان بالحلاوة، والإيمان الذي لا يخلد صاحبه في النار هو ما كان بغير حلاوة . والكلام عليه من وجوه :

الوجه الأول : الحلاوة المذكورة هل هي محسوسة أو معنوية؟

الله

قد اختلف العلماء في ذلك . فحَمَلها قوم على المعنى وهم الفقهاء. وحملها قوم على المحسوس ، وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه، وهم أهل الصوفة، والصواب معهم في ذلك، والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل، وهو أحسن من التأويل ما لم يعارض لظاهر اللفظ معارِضُ. ويشهد لما ذهبوا إليه أحوال الصحابة، رضي عنهم، والسلف الصالح وأهل المعاملات، لأنه قد حكي عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة. فمن جملة ما حُكي عنهم في ذلك حديث بلال رضي الله عنه حين صُنع به ما صُنع في الرَّمْضَاءِ، إكراهاً على الكفر وهو يقول : (أحَدٌ ، أَحَدٌ) (۲) فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضاً عند موته، أهله يقولون: (واگز باه) وهو يقول : (واطَرَباه) .

غداً ألقى الأحبة

محمداً وحِزْبَة (٣)

(1) لم نعرف مصدره.

(۲) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٣/ ۲۳۲ .

(۳) هذا البيت من مجزوء الرّجز أورده ابن سعد في الطبقات ١٠٦/٤ على لسان وفد الأشعريين حين دنوا من المدينة

ومعهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه .

فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان .

ومنها حديث الصحابي الذي سُرِق فرسُه بِلَيْل، وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما كنتُ فيه أَكْبَرُ من ذلك (١) . وما ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك.

ومنها حديث الصحابيين اللذين جَعَلهما النبي ، الله، في بعض مغازيه ليلة يحرسان جيش المسلمين فنام أحدهما وقام الآخر يصلي، فإذا بجاسوس من قبل العدو قد أقبل ، فرآهما فكَبَّد (٢) الجاسوس القوس، ورمى الصحابي ، فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه ، فعند ذلك أيقظ صاحبَه ، وقال : لولا أني خفت على المسلمين ما قطعتُ صلاتي (٣) . وما ذاك إلا لشدّة ما وَجَد فيها من الحلاوة، حتى أذهَبَت عنه ما يجده من ألم السهام .

ومثل هذا ما حكي عن كثير من أهل المعاملات، يطول الكلام عليه، وفيما ذكرناه كفاية . الوجه الثاني : قوله عليه السلام : ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء، لا يحبُّه إلا الله عزّ وجلّ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكرَهُ أَن يُقْذَفَ فِي النَّار) هذه الثلاثة الألفاظ (٤) : ترجع إلى اللفظ الأول منها ، وهو أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، لأن من ضرورة المحبة الله ولرسوله أن يدخل مَا ذُكِرَ بعدُ في ضمنه . لكن فائدة إخباره عليه السلام، بتينكَ الحالتين اللتينِ ذُكِرتا بعد ذلك اللفظ يريد به: أن من ادعى حبَّ الله وحبَّ رسوله فليختبر نفسه في حب المرء، لماذا يحبّه؟ وفي الإكراه على الكفر . كيف يجد نفسَه إن ابتُلي بذلك؟ لأنه قد يَسْبِق للنفوس دعاوى بحبّ الله وحب رسوله ، فجعل عليه ،السلام هاتين العلامتين ليفرق بين الدعوى والحقيقة .

ومثل هذا قوله عز وجل : ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (٥) ، لأن حقيقة الإيمان أن يتوكل صاحبه في كل أموره على ربه، ويعتمد عليه، وإن كان بغير ذلك فإنّما هو دعوى،

(1) لم نعرف مصدره

(٢) كذا وفي القاموس، تكبد الفلاة إذا قصد وسطها ومُعظَمَها .

(۳) رواه البخاري في كتاب الوضوء تعليقاً، ووصله ابن إسحاق في المغازي ورواء عنه الإمام أحمد في المسند وأبو

داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . يريد : حُبَّ الله ورسوله، وحبّ المرء ، وكراهة الكفر .

سورة المائدة،

من

الآية ٢٣ .

وكذلك من ادعى حبَّ الله وحبَّ رسوله ، ، ، ثم لم يصدق في تَيْنِكَ العلامتين المذكورتين،

فحبه دعوى لا حقيقة .

الوجه الثالث : يرد على الحديث سؤال وهو أن يقال : لِمَ عَبَّر عليه السلام، عن تناهي الإيمان بالحلاوة، ولم يعبر بغيرها؟

والجواب : أنه إنما عبّر عليه السلام بالحلاوة لأن الله عزّ وجلّ، قد شبه الإيمان بالشجرة في كتابه حيث قال : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِ أُكْلَهَا كُلَّ حِينٍ بإِذْنِ رَيْهَا ) (۱) ؟ والكلمة الطيبة هي كلمة (الإخلاص) وهي أسنُ الدِّين، وبها قوامه (٢) .

فكلمة الإخلاص في الإيمان كأصل الشجرة لا بدَّ منه أولاً، وأغصان الشجرة في الإيمان عبارة عما تضمنته كلمة (الإخلاص) من اتباع الأمر، واجتناب النهي. والزهر في الشجرة هو في الإيمان عبارة عما يحدث للمؤمن في باطِنِه من أفعال البِرّ ؛ لما رُوي عنه ، عليه السلام، أَنَّ (مَن هَمَّ بحسنة خَرَجت على فِيه رائحةٌ عَطِرة، فيَشَمُّها المَلَك، فيكتب له حسنة)(۳). والزهر في الشجرة كذلك له رائحة عطرة وما ينيت في الشجرة من الثَّمَر هو في الإيمان عبارة عن أفعال الطاعات . وحلاوة الثمرة في الشجرة هي في الإيمان عبارة عن كماله وعلامة كماله ما ذكر ، عليه السلام، في الحديث، لأن غاية فائدة الشجرة تناهي حلاوة ثمرها وكماله . ولهذا قال تعالى: (تُونِ أكْلَهَا كُلَّ مِين بِإِذْنِ رَبِّهَا ) (٤) وأُكُلُها - على أحَدِ الأقاويل - تُؤْتِي دائم. فثمرة المؤمن لا تزال أبداً بين زهر وإبَارِ (٥) وبُدُو صلاح وتناهي طيب، فلم تزل معطرة مثمرة يانعة دائمة. ولهذا فُضَّلَت شجرة الإيمان على غيرها لأن الشجرة - عدا شجرة الإيمان ـ يأتي فيها كل شيء فريد، ثم يذهب عنها كل ذلك في بعض السنة، فالزهر فريد والإبار فريد، وبدو الصلاح فريد، وتناهي الطيب فريد . والمؤمن لاتزال ثمرة إيمانه - بمجموع ذلك كله - رائقةً عطرة، ولهذا المعنى قال، عليه السلام: (نية المؤمن أبلغ من عمله ) (٦) . قال العلماء معناه : أن المؤمن في عمل، ونيته - عند

(۱) سورة إبراهيم، ا ، الآية ٢٤ ومن الآية ٢٥ .

(۲) قوام الشيء : عماده ونظامه .

(۳) لم تعرف مصدره .

(4) سورة إبراهيم، من الآية ۲٥ .

(5) أبر النخل : أبراً وإباراً : لقمه. وأبَرَ الزرع : أصلحه.

(٦) قال العجلوني في كشف الخفاء عنه : رواه العسكري في الأمثال والبيهقي عن أنس مرفوعاً. وما أخرجه الطبراني

فراغه - لعمل ثان(۱) . فالزهر هو النية، والثمر هو العمل الصالح الحالي. وبدو الصلاح هو اتباع السُّنَّة في العمل، لقوله عليه السلام: (إنّ) الله لا يقبل عمل امرىء حتى يُتقنه . قالوا : يا رسول الله وما إتقانه؟ قال : يُخْلِصُهُ من الرياء والسُّمعة) (۲) . فترك النية في العمل عاهة فيه تمنع من بُدُو صلاحه، فإذا لم يَبْدُ صلاحه فمن باب أَوْلَى الاّ يَصِل إلى تناهي الحلاوة .

ويَرِدُ على هذا المعنى بحث دقيق، لأن الثمرة إذا لم يبد صلاحها لا يجوز بيعها، بمقتضى منع الشارع، عليه السلام ذلك والبيع في هذه الثمرة هو القبول لقوله عزّ وجلّ : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةُ ) (۳) الآية .

ولهذا المعنى أشار عليه السلام بقوله : (إنّ الله لا يقبلُ عملَ امرىء حتى يُتقنه). فإذا لحقت العاهة فلا ،إتقان فلا يكون مقبولاً . وهذه هي دائرة بعض العوام لجهلهم بالسنّة، وإن كان بعضهم يدّعي علوماً. فإن كل علم يجهل صاحبه علم السنة داخل تحت قوله، عليه السلام: (إنَّ مِن العلم لجهلاً) (1) .

وتناهي الطيب إنما يكون للخواص، وكيفية تناهي الطيب في العمل هو أن يعمل العمل حبا في الله وفي رسوله ، ، ، على ما جاء في الحديث لا يريد غير ذلك، فيكون عمله مشكوراً، لقوله عزّ وجلّ : ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاهُ وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّيْنَا يَوْمًا عَبُوسًا فَتَطَرِيرًا . فَوقَهُمُ اللهُ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَتَهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا . وَجَزَهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِفِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَابِكَ لَا يرُونَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا . وَدَانِيَةٌ عَلَيْهِمْ ظِلَلُهَا وَذُلِلَتْ قُطُوفُهَا نَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِعَانَيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيراً . قَوَارِيرًا مِن فِضَّةٍ فَذَرُوهَا نَقدِيرًا . وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأَمَا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجيلًا . عَيْنَا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ تُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْنَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا . وَإِذَا رَأَيْتَ ثُمَّ رَأَيْتَ نَعِيها وَمُلَكًا كَبِيرًا . عَلِيهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا . إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سعيكُر مَشْكُورًا (٥).

عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعاً (نية المرء خيرٌ من : عمله).

(۱) كأنه يريد أن يقول : إن المؤمن لا ينقطع عن عمله وعن نيته التي تسبق العمل ولا تنفصل عنه، وتؤدي إليه لا

محالة .

(۲) لم نعرف مصدره .. (۳) سورة التوبة، من الآية ۱۱۱ .

سننه عن بريدة رضي الله عنه . وضعفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والسيوطي في

(4) أخرجه أبو داود في . الجامع الصغير، والمناوي في فيض القدير.

(5) سورة الإنسان، الآيات ۹ - ۲۲ العبوس والقمْطرير الشديد المخيف نَضْرَة حلاوة وطراوة، الزَّمْهَرِير : =

السلام،

فلأجل هذه النسبة وهذا الاتحاد الذي بين الشجرة والإيمان عبّر عنه، عليه السلام في الحديث بالحلاوة ولم يعبر بغيرها ليقع المثال في كل الحالات. ومنه قوله، عليه السلام: (الناس کشجرةٍ ذات جَنِّى، ويُوشِك أن يعودوا كشجرة ذاتِ شَوك)(۱) . الحديث. فشبههم، عليه ، أيضاً بالشجرة وهم كذلك لا شك فيه ؛ لأن من تقدّم من السَّلف كان إيمانهم كاملا لتتبعهم للأمر والنهي، وحبّهم الله ورسوله ، والنصيحة التي كانت بينهم، حتى لقد كانوا إذا التقى بعضهم مع بعض يقولون : تَعَالَ نُؤْمِنُ) (٢) . فكانت شجرة إيمانهم تناهت في الطيب والحلاوة . وأما اليوم فقد ذهب ذلك، وظهر ما أخبر به عليه السلام لرجوعهم كشجرة ذاتِ شوك، لعدم اتباعهم للأمر والنهي، وترك النصيحة بينهم والغش الذي في صدورهم، فرجع موضع النصيحة غشاً، وموضع الامتثال مخالفة، فلم يبق معهم من صفة الإيمان في غالب أحوالهم إلا النطق بالكلمة (۳) ، وما عداها من الأفعال بضدّ ما يقتضيه الإيمان، فبقي لهم الأصل، وذهبت ثمرته التي هي هي شجرة السدر (٤) مع شجرة الثمر إذا أبدلت مكانها. فالأولى كانت تطعمهم الثمر وله حلاوة، والثانية تنبت الشوك. هذا هو حال عامتهم اليوم، اللهم إلا القليل النادر لقوله، عليه السلام: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ إلى قيام الساعة، لا يَضُرُّهُمْ مَن خالفهم)(٥). فهذه الطائفة التي أخبر بها عليه السلام، هي التي لم تزل ثمرة إيمانهم تُطعِم وتتناهى في الحلاوة، كما كان السلف رضي الله عنهم، ولولاهم ما أمطرت السماء قطرةً، ولا أنبَتَتِ الأرضُ خَضِرَة (٦) ، وَلَوَقَعَ الهلاك بمن تقدم ذكرهم، ولكنه عزّ وجلّ، يمهلهم لمجاورتهم لأهل الإيمان المتحققين، إكراماً لأوليائه، وترفيعاً جعلنا الله من أوليائه بمَنْهِ ويُمْنِه . آمين.

الأعمال، كما

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

البرد الشديد. ذللت قطوفها : لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا قوارير : ج قارورة وهي الوعاء ـ من الزجاج - تحفظ فيه السوائل. السَّلْسَبيل : الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته واسم عين في الجنة. استبرق

رضي

الله عنه .

الديباج الغليظ . (۱) انفرد الديلمي في مسند الفردوس بإخراجه عن أبي أمامة) (۲) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أنس بن مالك رضي الله عنه . (۳) يريد بـ (الكلمة) شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله . (٤) السدر : شجر النَّبِق واحدته سِدْرَة وسدرة المنتهى : شجرة في الجنة .

(٥) حديث صحيح متواتر .

(1) الخضرة (بضم فسكون) : لون الأخضر. والخَضيرة (بفتح فكسر الزرع الأخضر. وفي التنزيل (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِر الخرجُ مِنْهُ حَبَّا متراكبا) (الأنعام، من الآية ۹۹) .

حديث البيعة

عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله ، ، قال : (بايعوني على الا تُشرِكوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أولادكم، ولا تَأْتُوا بِبُهتانٍ تَفْتَرُونَهُ بَينَ أيديكم وأرجُلِكم ، ولا تَعصُوا في معروف، فمن وفّى منكم فأَجرُه على الله . ومَن أصابَ من ذلك شيئاً فَعُوقب في الدنيا فهو كَفَّارةٌ له. ومن أصابَ من ذلك شيئاً ثم سَتَره الله فهو إلى الله ، إن شاءَ عفا عنه، وإن شاءَ عاقبه) . فبايعناه على ذلك .

ظاهر الحديث يدل على أن مَن وقع في شيء مما نُهي عنه ، فاقتُصَّ منه أن القصاص يُسقط عنه في الآخرة وِزْرَه (۱) ، ويُكَفِّرُ ذنبه . وقد اختلف العلماء في ذلك، هل يسقط، أم لا؟ على قولين. والحديث دليل لمن قال منهم بالإسقاط لأنه نص في موضع الخلاف .

والكلام عليه من وجوه :

الوجه الأول: قوله عليه السلام بايعوني) هذه البيعة يُحتاج فيها إلى بيان: ما هي في الاصطلاح العُزفي وكم ،أنواعها وما حقيقة معناها وما المقصود بها في هذا الموضع، وما الفائدة فيها، وما الحكمة في وضعها على هذا الأسلوب، ولمن تجب، وبماذا تجب، وعلى من تجب ، وشروط الإجزاء فيها، وبماذا تصح، وبماذا تفسد ؟

فأما أنواعها : فهي على ضربَينِ : عامة وخاصة .

والعامة منها على وجوه وهي أيضاً على ضربَينِ : منها ما يصح دون شرط، ومنها ما لا يصح

إلا بشروط .

(1) الوِزْر : الذَّنْب، الحِمْل الثّقيل .

فالتي تصح منها بغير شروط هي مثل ولاية الأب على ابنه والرجل على أهله وعبيده، لأن هذه قد صحت بأمر من الله تعالى فلا تحتاج إلى شروط، وسيأتي بيان ذلك في الكلام على الحديث الذي قال فيه عليه السلام: (كُلُّكُمْ) راعٍ، وكلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ) (۱) . والتي لا تصحُ إلا بشروط فمنها ما هي ثابتة والشروط تأكيد لها، ولوجه ما مع ذلك

بمقتضى الحكمة الربانية ومنها ما هي ثابتة والشروط تأكيد للحق، وزيادة حقّ ثان .

فأما التي هي ثابتة والشروط تأكيد لها، ولوجه ما مع ذلك بمقتضى الحكمة الربانية فهي مثل بيعة الستُ بِرَبِّكُمْ ﴾ (۲) لأن كلَّ بيعة عهدٌ ، فبذاتِ الربوبية ثبت الحق على العبودية، وهذه البيعة هنا تأكيد للحق ولوجه ما اقتضته الحكمة وهو تعليق التكليف بهذه البيعة، ليثاب على الامتثال ويعاقب على الضدّ علّة شرعيّة لا عقليّة ولا عِلَّية (۳). ولهذا المعنى أشار صاحب الأنوار (٤) بقوله : (فرض في فرض لفرض لازم يريد أن الفرض وجب على العبودية بنفس إيجاد الإلهية لهم، ثم تأكد بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الموطن المذكور . والفرض اللازم هو: ما حكم، عزّ وجلّ، من الحكم المحتوم ألا يستقر في دار كرامته إلا من امتثل أمره، ووفى بعهده، أو ببعضه، وسامحه، عزّ وجلّ، من طريق الفضل والمنّ لقوله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ (٥) . هذا من طريق المن والفضل وأمّا العدل فهو ما تضمنه قوله، عزّ وجلّ، في كتابه جواباً لعيسى عليه السلام: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّدِقِينَ صِدْقُهُمْ ) )

وأما التي هي ثابتة والشروط تأكيد للحق وزيادة حي ثان فهي مثل البيعة للنبي ، . لأنه لما أرسله عزّ وجلّ ثبتت البيعة له لقوله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (۷) فقد قدمه ، عزّ وجلّ، عليهم. فالبيعة ،له عليه السلام تصديق منهم لرسالته، وإذعان لحكمه، وتصديقهم له تأكيد لما منّ الله به عليه .

وأما التي لا تصح إلا بشروط والشروط هي الموجبة لها فهي على نوعين : إما بتقديم الخليفة لشخص يرتضيه للمسلمين بَعدَه، كما فعل أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه، في توليته عمر،

(۱) حدیث صحيح، متفق عليه، وسيرد شرح مفصل له في هذا الكتاب في الحديث ذي الرقم (٥١) . (۲) سورة الأعراف من الآية .۱۷۲ .

(۳) العلية : نسبة إلى العلة . والعلة في علم الأصول هي التي تدور مع المعلول.

(٤) صاحب الأنوار: هو الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن الصقلي . انظر كتاب المدخل لابن الحاج ٢١٣/٣) .

(٥) سورة النساء، من الآية ٤٨ . (٦) سورة المائدة، من الآية ۱۱۹ . (۷) سورة الأحزاب، من الآية ٦ .

رضي

الله عنه، بعده، وإما بإجماع المسلمين عليه بعد موت الخليفة كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم في إجماعهم على عثمان رضي الله عنه بعد موت عمر ، رضي الله عنه ، فهذا حكم ثابت إلى يوم القيامة، لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنّةِ الخلفاءِ بَعدي) (۱) .

وأما الخاصة منها فهي ما بين الشارع عليه السلام في الجماعة إذا سافروا أن يُقدموا رجلاً منهم عليهم، وكذلك ما في معناه لأن ذلك كان لوجه خاص. ويتبين ما فيه من المنفعة ببيان منفعة العامة إذا ذكرناها إن شاء الله تعالى لأن فيها شَبَهاً منها .

وأما حقيقة معناها على التقسيم المتقدم فهي بَيع من البيوع، لأنه، عليه السلام، قال: ( بايعوني) ولم يقل : (عاهدوني). وهذا النص يتضمّن بمعناه شيئاً من أوصاف الرّق، على ما أبينه بعد، إن شاء الله تعالى، وإذا كانت بيعاً من البيوع فيحتاج إلى بيان المبيع ما هو ؟ والثمن ما هو ؟

قد

فأما المبيع في هذا الموضع فهو ترك ما للنفس من الاختيار وتفويض الأمر لصاحب البيعة . ليتصرف صاحب البيعة فيمن بايعه بحسب ما أمره الله عزّ وجلّ. وهذا ضرب من الرّق، لأن السيد مَلَكَ رقبة العبد، فلم يبق للعبد اختيار ولا تصرُّف، لأنّ مَن مَلَك الرقبة فقد مَلَك جميع المنافع . فأشبه ذلك العبد في انقياده دون استرقاق الرقبة، وبقي المال لمالكه لا لصاحب البيعة، ليس كما هو مال العبد لسيده، لأنه لم يشبه العبودية إلا في الذي ذكرناه لا غير .

وأما الثّمنُ على هذا البيع على أي وجه كان من الوجوه المتقدّم ذكرها، فهو (الجَنَّة) بشرط التوفية فيها لقوله عليه السلام في بيعة العقبة إذ سأله الصحابة رضي الله عنهم، على ما لَهُمْ من

العِوَض على بيعتهم فقال : (الجَنَّة). فقالوا : رَضِينا ، لا نَنقُضُ البيع . فقد سمى الشارع، عليه السلام البيع والثمن والمُثَمَّن . وكذلك كلّ من بايَعَ بيعةً من البيوع بعد ذلك على مقتضى لسان العلم - على التقسيم الذي ذكرناه - فهذا ثمنه إذا لم يقع نقضُها ، لأنّ كل بيعة من البيوع التي ذكرناها إنما هي تجديد لبيعة النبي ، . وتأكيد لها . وبيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، بيعة الله عزّ وجلّ، لقوله تعالى في كتابه : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ ) (۳) وبيعتهم الله تعالى وفاءٌ وتأكيد لبيعة ( أَلَسْتُ

وأما المقصود بها في هذا المَوْضع على التقسيم المتقدم فهو تقبيل اليد على الأوصاف

(1) أخرجه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه . (۲) أخرجه الإمام أحمد والحاكم والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي الزبير المكي عن جابر رضي الله عنه .

سورة الفتح ،

، من الآية ١٠ . (٤) سورة الأعراف، من الآية ۱۷۲ .

المذكورة في الحديث بعد. ويتعلق بهذا النوع من الفقه أنّ للخليفة أن يُجدّد بيعة أخرى على وجه ما من المصالح الدينية إذا ظهر له ذلك مصلحةً، لمن ظهر له كان بالخصوص أو بالعموم؛ لأن معنى البيعة في هذا الموضع تأكيد على الوفاء بما تقتضيه الألفاظ المذكورة بعد. وسأبين ما الحكمة في

ذلك، إن شاء الله تعالى .

وأما الفائدة فيها، على التقسيم المتقدم، أعني في أنواع البيعة مطلقاً، لا في هذه الخاصة، لأن الكلام على فائدة الخاصة يأتي في تبيان ألفاظ الحديث - إن شاء الله تعالى - فهي جَمْعُ كلمة المسلمين، لأنه إذا دار الأمر على واحد كان أجمع للأمر، وأعظم للفائدة، لأن في ذلك نكايةً للعدو، وعوناً على إقامة أحكام الله وحدوده ولهذا قال عليه السلام: (يَنْتَزِعُ الله بالسلطانِ ما لا ينتزع بالقرآن)(۱)، وأمر بقتال العدو مع كل بر وفاجر من الولاة(۲)، وأمر بحفظ البيعة وقال: (وإن كان أسود ذا زبيبَتَيْن، منفوخ الخَيْشوم، فاسمَعْ ،وأطِعْ ، وإن ضربَ الظهر وأخذ المال) (۳). فقيل : يا رسول الله : أرأيتَ إن وُلّي علينا أمراء يطلبون منا ،حقوقهم ولا يعطونا حقوقنا؟ فقال، عليه السلام: (أعطوهم حقوقهم واطلبوا حقوقكم من الله، فإن الله سائلهم عَمّا استرعاهم) (٤) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وذلك لما يترتب عليه من عزّ الإسلام، وإظهار الأحكام، وقمع الأعداء، والتشتيت يوجب ضدَّ ذلك .

فلفوائد :

وأما الحكمة في وضعها على هذا الأسلوب على التقسيم المتقدم، وهو تقبيل اليد،

الفائدة الأولى : أن في ذلك تحصيل المقصود بالأمر اليسير وتحصيل المقصود بالأمر اليسير

أولى من تحصيله بالأمر الكثير، ولا سيما إذا كان مقتضى الأمر من عالم كثير . الفائدة الثانية : أن بعض الأقوال قد يصطلح صاحبها في اعتقاده لأمر ما مخالفاً لما قصد منه . وقد اختلف العلماء في المبتدي للكلام إذا نوى شيئاً ووارى عليه هل يلزمه ما نوى أو صيغة

(۱) أورده ابن الأثير في جامع الأصول ٨٣/٤ برقم ۲۰۷۱ وذكر محقق هذا الكتاب «بهجة النفوس» أنه أخرجه رزين وإسناده منقطع، وهو مشهور من كلام عثمان بن عفان رضي الله عنه .

(۲) أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي في الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه . (۳) مؤلف من أحاديث عدة منها في البخاري في الأحكام - باب السمع والطاعة للإمام ـ عن أنس رضي الله عنه ، وعن أبي ذر رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم في الإمارة عن أم الحصين الأحمسية، رضي الله عنها، وفي البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه . (4) مؤلف من حديثين : الأول : عن مسلمة بن يزيد الجعفي في صحيح مسلم - كتاب الإمارة ـ وعن ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم والثاني: أخرجه البخاري في الأنبياء ومسلم في الإمارة عن أبي هريرة رضي الله عنه

مرفوعاً.

اللفظ ؟ على قولين فقرّر الشارع عليه السلام هذه البيعة بفعل، لأن الفعل إذا ثبت له حكم خاص من الشارع عليه السلام لم ينفع فيه التأويل . ولو جَعل عليه السلام، هذه البيعة بأيمان، لكان كل واحد من الناس باختيار نفسه متى أراد خَرج عن البيعة، لأن الأيمان قد جُعِلت لها كفارات، فإذا أراد المبايع النقض في البيعة كفّر عن يمينه وارتفع الإثم عنه. فجعل عليه السلام، هذه عهداً وشبهها بالبيع ـ كما ذكرناه ـ لأن المتبايعين ليس لأحدهما خيار دون صاحبه والعهد ليس فيه ثنيا) ، ولا كفارة، فجعلت هذه البيعة بهذين الوجهين الشَّدِيدَيْنِ تحضيضاً على حفظ فائدة الخاصة والعامة للمؤمنين .

الفائدة الثالثة : أن في ذلك رفعَ الذُّلة عن المؤمنين، لأنهم لو كُلِّفوا أن يقولوا معنى هذه البيعة كما قدمناه - وهو أن يقول البائع : «قد ملكتك قيادي، وأنا لك مثل العبد، وأنت المتصرفُ في كيف شئتَ لكان يَعِزّ على بعض الناس النطق بذلك، وقد يعجز بعضهم عنه، فرفعت تلك الكلفة بأدنى إشارة، وهذا من بديع الحكمة وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾

وأما قولنا : ولمن تجب؟ ، على التقسيم المتقدم، فتجب الله ولرسوله ، ولمن ولاه الله ذلك بمقتضى لسان العلم - على ما ذكرناه قبل - بِتَوْلِيَتِهِ أو بإجماعِ المسلمين عليه .

وأما قولنا : بماذا تجب؟ ، على التقسيم المتقدم، فتجب بالإسلام، والذكورية، والعقل،

وبلوغ حد التكليف، والأهلية، للمعرفة بمصالح الناس وذَبّ العدو، وخشية الله تعالى .

وأحد الشرطين المتقدمينِ - وهما : إما بتولية من الخليفة أو بإجماع المسلمين عليه ـ يشهد لذلك قول النبي ، ، للصحابة رضي الله عنهم، حين ولّى أسامة، وتكلّم بعضهم فيه، فقال: إنكم طَعَنتُم فيه وفي ولاية أبيه قبل، وإنّه لَجَديرٌ بها ، لما فيه من الدين، والخشية الله، عزّ وجلّ والشجاعة ) (۳). وأسامة، بحيث لا يُجهَل حاله، كُفْءٌ له من الفضيلة خدمته لخير البشر. فلم يلحظ ، عليه السلام كونه من الموالي لمّا كانت فيه الشروط المتقدم ذكرها .

وإنّما قلنا : إنّها تجب بالإسلام لقوله جلّ وعزّ : ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَفِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٤) ، ولقوله عليه السلام: (الإسلامُ يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه )(ه). ويترتب على هذا النوع من

سَبِيلا ) (٤)

(1) الثنيا: استثناء بلفظ (إن شاء الله) مثلاً .

(۲) سورة المائدة، من الآية ٥٠ .

(3) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما .

(٤) سورة النساء، من الآية ١٤١ .

(٥) أخرجه الدارقطني من حديث عائذ المزني رضي الله عنه والبيهقي في السنن .

الفقه أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين - كانت التولية خاصة أو عامة - ألا يولّي عليهم من ليس بمسلم ؛ إذ إنه لا يجوز بدليل ما ذكرناه من الكتاب والسنَّة .

وإنما اشترطنا : (الذكورية) فيها ، لقوله عليه السلام: (ما أفلَحَ قوم ولوا أَمْرَهم امرأة) (۱) . وأما ما ذكرناه من بقية الشروط ، فلأنه خليفة عن الله ، ولا يكون خليفة عن الله حتى تكون فيه أوصاف يُنال بها الخوف من الله والمعرفة بأحكامه والقدرة على توفية ذلك .

وأما قولنا : على من تجب؟ ، على التقسيم المتقدم، فتجب على كل ذكر ، حر، بالغ، عاقل، إذا لم يكن في عنقه بيعةٌ للغير وحَقُّ البيعة باقٍ عليه لأن النساء والصبيان والعبيد تحت حكم الرجال، لأنهم تحت إيالتهم ، فبيعة الرجال بيعة عنهم وعن كل من تحت إيالتهم من

والعبيد والصبيان .

النساء

فإن قال قائل : قد بايع النساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجب اطراد ذلك الحكم. قيل له : ذلك خاص بالنبي ، لأنه إنّما فعل ذلك جَبْراً لقلوبهنّ؛ لأنهن طلبن منه البيعةَ تبرّكاً، ففعل ذلك جَبْراً لهنَّ، ومع أن بيعته ، ، لهنّ لم تكن على صفة بيعة الرجال، بدليل قول عائشة ، رضي الله عنها، في حديث مسلم : (إنّما) كانت بيعته لهنّ بالقول لا باليد) (۳). ويدل على خصوصيته، عليه السلام، بذلك أن الخلفاء، رضي الله عنهم، قد وقعت لهم البيعات مراراً بعد النبي ، ، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه بايع النساء .

وأما شروط الإجزاء فيها، على التقسيم المتقدم، فهي ثلاثة شروط : قول، وعمل، واعتقاد. أما القول فتسميتها (بَيْعَة) قَبْلَ تقبيل اليد، ويُجزىء في ذلك لفظ واحد من الجماعة عن الكل مرة واحدة في ابتداء الأمر، إذا كان قولهم في فَوْر (٤) واحدٍ متّصل .

وأما العمل فهو تقبيل اليد إثْرَ القول من الكل كما فعل عمر ، رضي الله عنه، مع أبي بكر ، رضي الله عنه ، في سقيفة الأنصار حين قال له : مُدَّ يدَك ،نبايعك، فمدَّ أبو بكر يده، فبايعه عمر ومن ذلك الموطن من حينهم (٥) . فأغنى لفظ عمر ، رضي الله عنه، مرَّةً واحدة عنه وعن

حضر هناك

في

كل من حضر ذلك الموطن .

(1) أخرجه البخاري في الفتن والترمذي والنسائي والإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه . أي : تحت إشرافهم . من ال المَلِكُ رعيَّته : ساسَها وأشرَفَ على أمورها .

(۳) أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها . (٤) في فور واحد : في وقت واحد . (٥) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه والإمام أحمد في المسند .

وأما الاعتقاد فهو أن تكون امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ، ولرسوله ، لأنها من جملة المأمور به شرعاً، لا يُراد بها غير ذلك لقوله عليه السلام (ثلاثةٌ) لا يكلّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) وعد فيهم (رجلاً بايع رجلاً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن وَفَى وفى له ، وإلا لم يَفِ له ) (١) .

وأما قولنا : بماذا تصح؟ ، على التقسيم المتقدم أعني : بماذا يصح لصاحبها ما أُعِدّ له من الخير، ويكون خليفة حقاً بمقتضى لسان العلم؟ فهو أن يتقي الله عزّ وجلّ فيما كلفه، وأن يُوفي لكلّ ذي حق حقه، على مقتضى ما أمره الله به، ويبذل جهده في نصحه لمن استرعاه الله إياه، ويحفظهم ابتغاء مرضاة الله ، لا أن يكون له حظوة عليهم، ولا يتكبر ولا يتجبر، ولذلك قال، عليه السلام: (سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه : وعَدَّ فيهم الملك العادل(۲)، وكذلك كانت سنة النبي ، ؛ لأنه عليه السلام كان يقعد مع أصحابه ويحدّثهم، ويقعد مع الخادم ويطحن معها ؛ وكذلك كان الخلفاء، رضوان الله عليهم بعده .

مَثَل ذلك ما حُكِيَ عن عمر ، رضي الله عنه أنه كان يحرس المدينة بنفسه، فخرج في بعض الليالي ومعه بعض أصحابه يُعِينه على ذلك، فمَرَّ معه ما شاء الله، ثم أشار إليه عمر أن اقعد هنا ، فقعد ينتظره، فدخل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، في خربة (۳)، فعلم صاحبه على تلك الخربة، فلما كان من الغد أتى تلك الخربة، فوجد بها عجوزاً مُقعدة عمياء، فسألها : مَنِ الشخص الذي يأتيكِ ليلاً وما يَصنَعُ عندكِ؟ فقالت لا أعرف إلا أن شخصاً يسوق لي غذائي، ويُخرج عني أذَايَ . فقال في نفسه : أعثراتِ عمرَ تَتَّبِعُ ؟ (٤)

ومثل هذا عنه وعن غيره من الخلفاء كثير، وإنما ذكرنا هذه الحكاية إشارة وتنبيهاً على طريقهم المبارك، الذي هو طريق الحق والصراط المستقيم.

وأما قولنا : بماذا تفسد؟ ، على التقسيم المتقدم، وهو آخر التقسيم، فالكلام فيه على نوعين :

خاص وعام .

أفعال يفعلها، فتذهب عنه تلك الخيرات المذكورة قبل، فالخاص : هو ما يخصه في نفسه.

من

(1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه . (۲) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً . وسَيَرِدُ في الحديث رقم (٤١) .

(۳) الخربة : المكان الخراب.

روى هذه القصة أبو نعيم في الحلية والدميري في حياة الحيوان، وسمّى الرجل «طلحة) .

مع إبقاء الخلافة عليه وهو أن يفعل شيئاً من الظلم أو يغير حكماً من أحكام الله عزّ وجلّ، أو

يجور في الحكم.

أما

عدله) (۱) .

الظلم فلقوله عليه السلام : (إِنَّ الظالم يُحشَرُ مغلول اليدين إلى عنقه، لا يفكهما إلا

وأما تغيير الحكم فلقوله عليه السلام: (إنَّ الغادرَ يُنصَب له يوم القيامة لواء عند استه(۲) بقَدْر غَدْرَته ، يُنادَى عليه هذه غَدْرةً فلان بن فلان، وكذلك كل من غدر في صغيرة أو كبيرة، لواؤُه بِقَدْر غَدْرته ) (۳ ) .

وأما الجَوْر في الحكم فلأنه إذا كان الملِكُ العادل أعلى الناس منزلة يوم القيامة، بمقتضى

الحديث، فكذلك أبخس الناس منزلة يوم القيامة ضِدُّه ، وهو الجائر بمقتضى السُّنَّة . وأما العام الذي يجب على جميع من بايعه خَلْعُه من تلك البيعة وقَتْلُه فهو تَرْكُ الصلاة. لقوله، عليه السلام حين قيل له: أرأيتَ إن لو وُلّي علينا أمراءُ فُسَّاق، أنقتلهم؟ فقال : لا ، ما صَلوا، لا، ما صَلّوا) (٤)، فكان ذلك دليلاً على أنهم مهما صَلّوا لم يُقتلوا ومتى تركوا الصلاة قُتلوا، لأنه قد تقرر في الشريعة أنَّ مَن تَرَك الصلاة قُتِل، ولا فرق في ذلك بين الآمر والمأمور، لأن حكم الله، عزّ وجلّ، يتناول الكُلَّ . وتارك الصلاة مرتد عند بعض العلماء، والمرتدّ كافر، والكافر لا تجوز ولايته على المسلمين، كما تقدم .

الوجه الثاني : قوله عليه السلام على ألا تُشرِكوا بالله شيئاً) هذا لفظ عام، لأن (الشيء) يتناول القليل والكثير وبتخصيص هذا اللفظ افترقت الشَّيَع كلها وبتحقيقه والعمل على عمومه بانت الفرقة المحمدية الناجية من تلك الشيع كلها يدل على ذلك قوله عليه السلام: (افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقةً، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي ) (٥) . فأراد عليه السلام بهذه البيعة هنا بشروطها لكي يتبيَّن بها

لعله معنى للحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل. وإسناده جيد ورجاله رجال الصحيح كما في

الترغيب للمنذري . استه : عجزه

(۳) أخرجه الإمام مالك والإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه .

لعله معنى

لما أخرجه مسلم في الإمارة عن عوف بن مالك رضي الله عنه، وما رواه الإمام أحمد في المسند ومسلم وأبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها .

حديث صحيح متواتر . أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والحاكم في المستدرك =

طريقه وطريقُ أصحابه، لأنهم المخاطَبون بهذه البيعة فيتبيَّنَ بذلك الفرقة الناجية، فمن تبعهم في حقيقة هذا العموم المذكور كان منهم ، وإلا كان من المخالفين لهم بحسب تخصيصه لذلك العموم، قليلاً كان أو كثيراً .

فعلى هذا، فيُحتاج إذاً، إلى بيان بعض هذه الطرق الفاسدة، وكيف تخصيصهم لذلك العموم، ليتبين بذلك ما عداهم من أهل الطرق الفاسدة، ولولا التطويل لذكرناهم قسماً قسماً . ولكن بالمثال لمن له نظر يتبيَّن له الباقي، مع أنه لا بدَّ لنا من بيان الطريق المحمدي، وتبيين الفرقة الناجية. وبتبيين ذلك يَتَبَيَّن ما عداه من أنواع المخالفات لكن نذكر منها شيئاً زيادة بيان، وإيضاح لفساد مذاهبهم، وكيفية سوء ا وء اعتقادهم .

فمن جملة الشَّيع المخصّصة لهذا العموم الذي به مرقوا من الدِّين (القَدَرِيَّة)، لأنهم يقولون بخَلْق أفعالهم، وهذا منهم . خطأ واضح، بدليل العقل والنقل.

وأما العقل فقد أجمع العقلاء على أن خالق الوجود واحد، ليس له ثان .

وأما النقل فقوله عزّ وجلّ : لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا ) (۱) وهم قد جعلوا الله تعالى شركاء عدداً لا يحصره إلا هو عزّ وجلّ، فلم يحصل منهم الإيمان بمقتضى هذا العموم، ولأجل ذلك بكى عليه السلام حين ذكرهم وقال : (تَحقِرون صلاتكم معَ صَلاتِهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهمُ من الرَّمِيةِ) (۲) ، وسمّاهم: (مجوس هذه الأمة) (۳).

ومنهم (الجبرية)، فإنهم يقولون : بأن لا أفعال لهم. وأنهم مُجْبَرُون على الأفعال كلها. دقها وجلها ) ، ولا تأثير لفعلهم في شيء منها، ويقولون : إن الله إذا عذَّبهم على المعاصي فهو ظالم لهم، لأنهم - في زعمهم - لم يفعلوا شيئاً. وهذا منهم جَحْدٌ للضرورة (٥) ، وتكذيب للتنزيل .

والبزار في مسنده والبيهقي في المدخل . (۱) سورة الأنبياء من الآية .۲۲ .

(۲) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند، والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي في السنن وشعب الإيمان وأبو يعلى وابن حبان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .

(۳) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين .

(٤) دقها وجلها صغيرها وكبيرها .

(٥) شرح (الضرورة) سيوردها المؤلف بعد قليل بالتفصيل والشواهد.

فأَمَّا جَحْد الضَّرورة فهو ما يتصرّفون فيه بحواسهم واختياراتهم، ونحن نشاهد ذلك منهم عياناً. وأما التنزيل فقوله عزّ وجلّ : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (۱) وقوله عز وجل : ( أَفَرَهَيْتُمُ مَا تَحْرُثُونَ . وَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) (۲) فأثبت، عزّ وجلّ، الفعل للعبد، وأثبت الفعل لنفسه معاً.

فأما ما هو من فعل العبد فهو أن النبي ، ا ا ا ا ا ، و أخذ غَرْفةً من تراب بيده ثم رماها (۳). وهذا حقيقة فعل من البشر مرئي محسوس . وأما ما هو من فعل الرب سبحانه، فهو أن تلك الغَرْفَة ليس للبشر قوة على إيصالها إلى أعين الأعداء، وقد وصلت إلى جميع أعينهم ، حتى أوقعت الهزيمة فيهم .

جميع

يُبين هذا المعنى ويزيده إيضاحاً ،قوله عزّ وجلّ : وَمَا نَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ) (٤) فأثبت، عزّ وجلّ، لنفسه مشيئةً، ولِخَلْقه مشيئة، لكن مشيئة خَلقه لا تتم إلا بمشيئته عزّ وجلّ. هذا ما هو من طريق النقل والمشاهدة .

وأما من طريق العقل والنظر، فما يجد الإنسان في نفسه من الفرح، إذا شاء شيئاً، فساعدته القدرة على بلوغه ، فرِحَ بذلك لنفوذ مشيئته وبلوغ أمله . وإذا شاء شيئاً ولم تساعده القدرة على نفوذه حَزِنَ لعدم نفوذ مشيئته . فهذا أدلّ دليل على أن للعبد مَشِيئَةٌ. وما جعل الله، عزّ وجلّ، لعبيده من المشيئة وربط الأسباب بالمسيَّبات وربط العوائد في بعض الأشياء بما جرت، فهو أثر حكمته، وحكمته عزّ وجلّ، وصفٌ قائم بذاته، فإنكارهم لهذه الصفة تخصيص لذلك العموم.

ومنهم (المُجَسَّمَة)، لأنهم يقولون بالجسم والحلول، ومُعتقد هذا لا يصح منه الإيمان بعموم اللفظ المذكور في الحديث، لأنه لا يصح الإيمان بمقتضى لفظ الحديث حتى يصح الإيمان به (٥) ، عزّ وجلّ، بمقتضى ما أخبر به عن نفسه حيث يقول : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ (٦) و (شيء)

(۱) سورة الأنفال من الآية ۱۷ . (۲) سورة الواقعة، الايتان ٦٣ و ٦٤ .

(۳) أخرجه أبو نعيم والبيهقي في دلائلهما، وعزاه السيوطي في الدرّ لابن جرير الطبري وابن المنذر وابن مردويه . وفيه انقطاع بين ابن عباس وعلي بن أبي طلحة رضي الله عنهما كما في التقريب.

(٤) سورة الإنسان من الآية ۳۰ .

(ه) به : أي بالله .

(٦) سورة الشورى، من الآية ۱۱ .

ينطلق على القليل والكثير، وعلى كل الأشياء. فمن خصص هذا العموم، وهو قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَنى لم يصحَّ منه الإيمانُ لعموم لفظ الحديث، وإنِ ادعاه، لأن من لا يعرف معبوده كيف يصح له الإيمان به؟ وذلك محال .

ثم نرجع الآن إلى البحث معهم في بيان اعتقاداتهم الفاسدة بإشارة، الناظر فيها بالتناصف(۱) تكفيه . فنقول : ادّعاؤُهم الجسمانية والحلول - تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً ـ لا يخلو إما أن يدعوا ذلك من طريق المشاهدة، أو من طريق الإخبار أو من طريق القياس بالنظر العقلي، ولا رابع .

فإن ادعوا المشاهدة فذلك باطل بالإجماع ، ولا يخالف فيه بَرّ ولا فاجر .

وإن ادعوا الإخبار وتعلّقوا بقوله عز وجل، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (۲) فباطل أيضاً، لأن هذا اللفظ محتمل لأربعة معان وتأويلهم الفاسد خامس لها فكيف تقوم لهم حجة بلفظ محتمل لخمسة معان والحجة لا تكون إلا بدليل قطعي، ومع تلك الأربعة معان لها دلائل تقويها وتوضحها من طريق النقل والعقل؟ وتأويلهم الفاسد عليه دلائل تُضعِفُه من طريق النقل والعقل . وكيف يكون المرجوح دليلاً يُعمل به ويُترك الراجح ؟ هذا من أكبر الغلط .

ثم نذكر الآن تلك الوجوه، وما يشهد لها من طريق العقل والنقل .

الوجه الأول: أنه قيل في معناه : عَمَدَ إلى خَلْقِ العرش، كما قال، عزّ وجلّ : ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانُ ) (۳) أي : عَمَد إلى خلقها. والحروف في لسان العرب سائغ إبدال بعضها من بعض. يدل على ذلك ،قوله عليه السلام في حديث الإسراء (فأتينا على السَّماء السادسة) (٤) ، يريد إلى السماء السادسة، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ونشير هناك إلى شيء من فساد مذاهب الشيع كلها، وإلى بيان طريقة الفرقة الناجية في سلامة اعتقاداتهم .

الوجه الثاني : أنه قيل في معناه : السُّموّ والرّفعة كما يقال علا القوم زيد، أي: ارتفع، ومعلوم أنه لم يستقر عليهم قاعداً. وكما يقال : عَلَتِ الشَّمسُ في كبد السماء، أي ارتفعت، وهي لم تستقر . يشهد لذلك قول جبريل عليه السلام ، للنبي ، الله ، حين سأله هل زالت الشمس)؟ فقال جبريل عليه السلام: (لا ) نعم فقال له النبي ، ل : سالم قلت : لا ، ثم قلت نعم؟ فقال :

التناصف : إنصاف بعضهم بعضاً من أنفسهم بملء حريتهم واختيارهم.

(۲) سورة طه ، الآية ٥ .

(۳) سورة فُصِّلَتْ ، من الآية ۱۱ .

(٤) في حديث الإسراء : ثم عرج بي إلى السماء السادسة .

الثلاثة بغير دليل هو المُشْكِل، فكان تأويلهم على الإمام فاسداً بغير ما ذهب إليه الإمام، كما تأولوا ذلك في الكتاب) تأويلاً فاسداً.

وأما ما احتجوا به لمذهبهم الفاسد بقول ابن أبي زيد (١) ، رحمه الله، في العقيدة التي ابتدأ «الرسالة» (۲) بها بقوله : (وأنَّهُ فوق عرشِهِ ، المَجِيدُ بِذَاتِهِ فلا حجة لهم فيه أيضاً، لأنهم خفضوا (المجيد) وجعلوه صفة (للعرش) وافتروا على الإمام بذلك. والوجه فيه رفع (المجيد) لأنه قد تم الكلام بقوله : فوق عرشه و المجيد بذاته كلام مستأنف، وهو من غاية التنزيه ؛ لأن مجد الله ، عزّ وجلّ، بذاته ليس مكتسباً، ومجد عباده مكتسب . فافتروا على الإمام هنا، كما افتروا على الآخر هناك . وكيف يجوز من طريق الدين أو العقل لمن له عقل أن يقول في لفظ محتَمِل لوجهين من طريق العربية أن يقول عن أحدهما، وهو الفاسد : هذا ما أراد القائل وهذا ممنوع شرعاً ؛ لأن المؤمن لا يُحمل عليه السُّوءُ بالاحتمال، وإنما يُحمل الأمرُ على أصلحه - وهو الأليق بالإيمان ـ أو يحمل على ظاهره وهو الاحتمال للوجهين معاً، وهو أقلّ المراتب .

وأما البحث معهم من طريق العقل والنظر ، فلا يخلو أن يدعوا أن لهم على ذلك دليلا من طريق العقل والنظر، أو لا . فإن ادَّعوا ذلك فهو منهم افتراء، لأن أهل العقل قد أجمعوا على أن موجد الوجود غيرُ محتاج لِمَا أَوْجَدَه . لأنه لو كان محتاجاً لما أوجده كاحتياج من أوجده إليه لاسْتَوَيا، ولم يكن للموجد تفرد بالكمال دون مَن أَوْجَدَه ، وذلك محال .

ثم لا يخلو على زعمهم من الانتقال والاستقرار أن يدعوا أنه عزّ وجلّ كان قبل خلق العرش على شيء آخر غيره خلافه، أو كان على غير شيء، فإن ادعوا أنه كان على شيءٍ لزمهم أن يكون قبل ذلك الشيء شيء، وقبل ذلك الشيء شيء، إلى ما لا نهاية له، وهذا باطل بالإجماع والعقل . ثم لا يخلو أن يدعوا أنه لم يَزَل على شيء، أو أنه كان على غير شيء، وبعد ذلك انتقل إلى تلك الأشياء من بعضها إلى بعض . فإن ادعوا أنه لم يزل على شيء، لزمهم من ذلك سَبْقُ المخلوق للخالق . وذلك مستحيل إجماعاً وعقلاً ونقلاً وشرعاً .

وإن ادعوا أنه كان أولاً على غير شيء، ثم انتقل إلى تلك الأشياء بعضها بعد بعض، فلا يخلو أن يَدَّعوا أن يكون انتقاله إليها احتياجاً أو لغير احتياج .

فإن ادعوا أن ذلك كان للاحتياج فقد سقط البحث معهم؛ لأنهم نفوا ما يليق بصفة الربوبية من

(۱) هو عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن المالكي القيرواني فقيه مالكي ومفسّر. له كتاب في إعجاز القرآن . توفي

سنة ٣٨٦ هـ/ ٩٥٥م . (۲) طبعت في فاس في المغرب دون تاريخ وفي بولاق مع شرح لعبد المجيد الشرنوبي سنة ١٣١٤هـ.

الجلال والكمال، ورجع محتاجاً كسائر المخلوقات، وذلك مُحال بإجماع كل الطوائف من

المتكلمين وأهل العقل والنظر في حق الباري جلّ جلاله .

وإن ادعوا أن ذلك كان لغير احتياج، لَزِمَهم من ذلك أنهم وصفوه عَزَّ وجلّ بصفة النقص

لأن ما يُفعَل لِغَيْرِ احتياج كان عَبَثاً، وهذه صفة النقص، وتعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً .

فإن ادعوا أن ذلك كان لغير احتياج ولا عَبَث وإنما كان ذلك لوجه خاص من الحكمة كما خلق الخَلْق، وهو غير محتاج إليه، وليس خَلْقُهم عَبَناً ، قيل لهم : الحكمةُ في الخَلْق قد بانت وهي ما أراد الله، عزّ وجلّ من تبيين أهل الشقاء وضدهم، وإظهار أوصاف القدرة التي ليس للعبيد اتصال إليها، ولا معرفة بها إلا بالاستدلال بما ظَهَر من آثارها. وما يدَّعونه فليس للحكمة هناك دليل على ما ادعوه بل الحكمة تقتضي ضدَّ ذلك لأن من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ ينبغي بدليل الحكمة أن من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ) لا يَحُلُّ في شيءٍ ، ولا يَحُلُّ فيه شيء، ولا يخالطه شيءٌ ، لعدم التناسب . فقد بان بطلان ما ذهبوا إليه في هذه الثلاثة وجوه، ولا رابع .

ومما يزيد ذلك بياناً قول سيدنا محمد : لَمّا قضَى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غَلَبَتْ غَضَبي ) (۱) فيؤخذ من قوله أن الذي كُتِب فيه فوق العرش : أنّ حكمته، جلّ جلاله اقتضت أن يكون العرسُ حامِلا ومستودعاً لما شاء من أثر حكمته وقدرته وغامض غيبه، ليستأثر هو، جل جلاله بذلك الكتاب من طريق العلم والإحاطة عن جميع العالم كله فيكون ذلك من أكبر الأدلة على انفراده بعلم الغيوب التي لا يعلم مفاتيحها إلا هو . وقد يكون هذا الحديث (۲) تفسيراً لقوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أي : أن ما شاء قدرته وحكمته وكتابه هو الذي استقرّ على العرش، لا ذاتُه الجليلة . ولو أراد ذلك لأحده بالمصدر، كما فعل في كلامه حيث قال : ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) (۳) فأكده بالمصدر ، لأن العرب تقول : جاء زيد ويعنون : خبَرَه أو كتابه أو رسوله ، فإذا أرادوه بذاته قالوا : جاء زيد نفسه فأثبتوا بذلك الحقيقة حقاً . فذهب ما زعموه بنظرهم الفاسد والحمد لله .

من

وأما ما ادعوه من (التجسيم)، وتعلقوا فيه بظواهر اي وأحاديث، فليس لهم فيه حجة ، بدليل ما سنفصله، إن شاء الله . فمن جملة ما تعلقوا بظاهره بحسب نظرهم الفاسد، قوله عليه السلام

(1) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه

يريد به الحديث المتقدم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن

غضبي. (۳) سورة النساء، من الآية ١٦٤ .

حتى يضع الجبار فيها (قدمه) (۱) وفي رواية (ساقهُ) قال علماء أهل السنّة : في معنى هذا اللفظ عشرة أوجه، ونحن نذكر بعضها لكي يتبين فساد ما ذهبوا إليه بها ، وقد ذكرها أبو البقاء (۲) في كتابه

وغيره من الفقهاء .

فمن جملة ما قالوا فيه - وهو أظهرها وأرجحها - أنهم نقلوا عن أهل اللغة أن (الكافر) عندهم يسمى (قدماً) (٣) . فإذا كانت هذه اللغة فكيف يعوجون عنها إلى غيرها؟ كفى بهذا الوجه

ردا عليهم.

ومنهم من قال : إنه كما سُمّي الحجر الأسود ( يمين (الله) وهو حجر مَرئي مشاهَد لا خفاء فيه . لكن لما أن كان مَن لَمَسَ الحجرَ رُحِم، وشهد يوم القيامة للامسه ، على ما جاء الخبر به سُمّي يمين الله ، لكونه ،رحمةً، فكذلك لما أن كان ذلك موضع الغضب سمي : (قدَماً) ، فلو لم يكن نقل اللغة، وكان الموضع يحتمل عشرة أوجه مثل هذا الذي ذكرناه وما أشبهه، وتأويلهم الفاسد أحدها على زعمهم، كيف يسوغ أن يجزم بواحد دون التسعة مع أنه هو أضعفها، لأنه ينافي التنزيه ويخصص عموم قوله عزّ وجلّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَنى ؟ وكيف يخصص نص بمحتمل ؟ كفى بهذا أدلّ دليل في الردّ عليهم . فكيف واللغة لا تُحوج إلى ذلك؟

وو

ثم مع ذلك يَرِدُ عليهم قوله عزّ وجلّ، عن المؤمنين ( أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ (٤) وقد وقع الإجماع من أهل العقل والنقل أن ذلك بالمعنى لا على ظاهره. فإن هم تأوّلوه كما تأول الكافة لزمهم أن يتأولوا الآخر، ويعتقدوه كما فعل الكافة وإن هم حملوه على ظاهره، وقالوا بأنّ الصدق) (٥) جسد مجسّد وقدمه عند الحق سبحانه وباقيه عند المؤمنين، فقائل هذا لا خفاء في حمقه. فالبحثُ معه قد سقط .

والكلام معهم على رواية (الساق) (٦) مثله أيضاً، لأن السّاق يُطلق في اللغة على أشياء غير واحدة لأنهم يقولون ساق من ،جراد و ساق من قوم ويقولون (السّاق) ویریدون به الجارحة والأظهر في هذا الموضع والأليق به أن يكون المراد بالساق عدداً من الكفار) ، فإذا كملوا

(۱) رواه البخاري في تفسير سورة (ق) ومسلم في الجنة .

(۲) لم نقف على ترجمته .

(۳) آورد ابن حجر في فتح الباري في تفسير سورتي يونس و ق عددا من المعاني لكلمة (قدم).

(٤) سورة يونس من الاية ۲ .

(٥) الصدق : هنا - جزء من قوله ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ )

(٦) يريد - هنا - ما ذكره قبل قليل أن حديث ) حتى يضَعَ الجبّار فيها (قدَمَه روي أيضاً (حتى يضع هذا الجبار فيها ساقه) . ولم نقف على مصدر هذه الرواية الثانية .

فيها تقول : قَط (١) . فبان فساد ما ذهبوا إليه بما ذكرناه وفيه كفاية هذا البحث معهم من طريق النقل .

وأما البحث معهم من طريق العقل : فلو كان ما زعموا حقًا لما صح تعذيب أهل النار ، ولا حجبوا عن الله ، وقد حصل لهم العذاب والحجاب، لأنه لو كان ذلك حقًّا على زعمهم لكان أهل النار في النعيم حين وضع القدم ولشاهدوا الذات الجليلة، كما شاهدها أهل الجنّة، لأن مشاهدة الحق لا يكون معها عذاب وقد أخبر عزّ وجلّ أنهم ،محجوبون لأنّ الرُّؤيةَ مع العذاب لا تمكن فبان بطلان ما زعموا بدليل النقل والعقل .

وأما ما زعموا من (اليد) وتعلقوا في ذلك بقوله عزّ وجلّ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعكما ) (۲) إلى غير ذلك من الآي والأحاديث التي جاءت بالنص في هذا المعنى فليس لهم فيها حُجّة أيضاً، لأن (اليد) عند العرب تُطلق على أشياء غير واحدة فمنها الجارحة ومنها النّعمة، لأنهم يقولون : لفلان يدٌ على فلان يريدون بها النّعمة ومنها القوة لقولهم : لفلان في هذا الأمر يد، يريدون له معرفة به، وقوةٌ عليه. وكذلك ما أشبه هذه الأوجه وهي عديدة. يف يحققون أحد مُحتَمَلات في اللغة، ويجزمون به، مع أنه منافٍ لقوله عزّ وجلّ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ؟ فبان بطلان ما ذهبوا إليه بدليل ما ذكرناه من النقل .

وأما البحث معهم من طريق العقل : فلأن الملوك في الدنيا لا يفعلون بأيديهم شيئاً، والذين يفعلون بأيديهم إنّما هم عامة الناس وهذا منافٍ للعظمة والجَلال. فبان بطلان ما ذهبوا إليه من طريق العقل أيضاً .

وأما ما زعموا من (الوجه) وتعلقوا في ذلك بغير ما آية وغير ما حديث، فليس لهم فيه حُجّةٌ أيضاً، لأنه يحتمل في اللغة معاني عديدة فمنها الجارحة ومنها الذات، كقولهم : وَجْهُ الطريق، يريدون ذاته. ومنها الحقيقة كقولهم وَجْهُ الأمر ، أي : حقيقته، وما أشبه هذا المعنى وهي عديدة، فكيف يأتون بشيء محتمل لأوجه عديدة في اللغة، فيأخذون بأحد المحتمَلات ويجزمون به؟ ذلك باطل لا خفاء فيه .

وبعد بطلان ما ذهبوا إليه بما ذكرناه يَرِدُ عليهم قوله عزّ وجلّ : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

(۱) هذا معنى لحديث رواه الإمام أحمد في المسند ١٦/۳ والبخاري في تفسير سورة (ق) ومسلم في باب النار

يدخلها الجبارون). (۲) سورة يس من الاية ۷۱.

الله) (۱) فإن حملوه على ظاهره، وهي الجارحة، فيكون الوجه قد أحاط بجميع الجهات، فلم يبق للذات محلّ، وهذا باطل بإجماع أهل النقل والعقل . وإن هم تأوَّلوه لزمهم التأويل في الآخر . وكذلك أيضاً يرد عليهم قوله عز وجل : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ (۲) فإن هم وقفوا أيضاً في ﴿ هذه الآية مع ظاهرِها فقط سقط بحثهم مرة واحدة لأن الذات الجليلة بالإجماع لا تفنى ولا تتجَدَّد . وإن هم خرجوا عن الظاهر وحادوا إلى التأويل لزمهم نقض ما ذهبوا إليه في الوجه الآخر، ولزمهم الرجوع فيه إلى التأويل الحقيقي الذي يليق به عزّ وجلّ، وهو أنه يعود على الذات الجليلة، لا على الجارحة، والاعتراضات واردة عليهم كثيرة. وفيما أبديناه كفاية مع أن قوله عزّ وجلّ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ينفي ذلك كله ، ويبقى مذهب أهل السنة لا غير .

وأما ما زعموا من (الجسمانية) وتعلقوا في ذلك بظاهر قوله عليه السلام ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ) (۳) ، إلى غير ذلك من الآي والأحاديث التي جاءت في هذا المعنى، فليس لهم في ذلك حجّة أيضاً، لأن ذلك في اللغة مُحتَمِل لأوجه عديدة كقولهم جاء زيد يريدون ذاته، ويريدون ،غلامه ،ویریدون ،کتابه ويريدون خبره و (النزول) مثله كقولهم: (نزل المَلِكُ ) يريدون ذاته ويريدون أمره ،ويريدون ،كتابه ويريدون : نائبه . فإذا أرادوا أن يخصّصوا الذات قالوا نفسه، أو يؤكدونه بالمصدر ، وحينئذ ترتفع الاحتمالات. ولذلك قال عزّ وجلّ في كتابه : وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) (٤) فائده بالمصدر دفعاً للمجاز ، فلو قال الشارع عليه السلام هنا ينزل ربنا نفسه أو ذاتُه ، أو أكَّده بالمصدر ، لكان الأمر ما ذهبوا إليه . ولكن لما أن ترك اللفظ على عمومه، ولم يؤكده بالمصدر دل على أنه لم يُرِدِ الذات وإنما أراد نزول رحمة ومَنْ وفضل وطَوْلٍ على عباده وشبه هذا معروف عند الناس لأنهم يقولون : تنازل المَلِكُ لفلان، وهم يريدون : كثرة إحسانه إليه وأفضاله عليه، لا أنه نزل إليه ،بذاته وتقرب إليه بجسده، فهذا مشاهَدٌ في البَشَر ، فكيف بمن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَنى ؟ لقد أَعْظموا الفِرْية .

وأما ما زعموا من (الأصابع) وتعلقوا في ذلك بما رُوي في الحديث : أنّ السّماءَ تكون يومَ القيامة على إصبع واحد والأرض على إصبع واحد ) ( الحديث بكماله ، فليس لهم فيه حجّة أيضاً، (٥)

(۱) سورة البقرة من الآية ۱۱٥ . (۲) سورة القصص من الآية ۸۸ . (۳) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(٤) سورة النساء، من الآية ١٦٤ .

(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة الزُّمَر ومسلم في صفة القيامة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأوله : جاء

رجل إلى النبي فقال : إن الله يضع السماء على إصبع ..

لأنه محتَمِل في اللغة لأوجه عديدة لأن العظمة، يستعار لها اليد، كما قال : بِيَد عَظَمَتِه ، وبِيَدِ قدرته ، فكنى هنا عن بعض أجزاء العظمة، وعن بعض أجزاء القدرةِ بالإصبع، لأن أضعف ما في اليد: الإصبع، فصرّح هنا بأن بعض أجزاء القدرة وبعض أجزاء العظمة هي الفاعلة لما ذكر، وإن كانت العظمة والقدرة لا تتجزأ،ان، لكن هذا تمثيل لمن له عقل، لأن المتحيّز لا يُعرَف إلا متحيّزاً ، فضُرِب له مَثَل بما يتوصل الفهم إليه حتى يحصل له معرفة بعِظَم القُدرة، ولا يلزم المثال أن يكون كالممثل من كل الجهات فبطل ما ذهبوا إليه بدليل ما ذكرناه

ثم بعد ذلك يرد عليهم ،قوله عليه السلام ما) من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن) (۱) ومعناه عند أهل السنة بين أمرين من أمر الرحمن فإن هم تأوّلوه كما تأوّله أهل السنّة لزمهم التأويل في الآخر. وإن هم حملوه على ظاهره لزمهم أن يقولوا : بأن أصابع الرحمن عدَدُ الخلق ،مرّتَيْن لأن ما من عبد إلا وهو بين إصبعين، وأن الذات الجليلة تخالط ذوات العبيد بأجمعهم . ومعتقد هذا لاخفاء في حمقه، ولا شك فيه . والبحث معه قد سقط .

فانظر إلى هذا العمى الكليّ الذي مَرَقوا به من الدين كيف منعوا به فائدة ما احتوى عليه قوله عزّ وجل : قُلْ : أَبِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ لِلسَّابِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانُ فَقَالَ لَهَا وَالْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَنَيْنَا طَابِعِينَ . فَقَضَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (٢) . وقد أخبر الشارع، عليه السلام أن في هذه الأرض الواحدة ألفَ عالم (۳) فإذا كان هذا العالم كله في هذه الأرض الواحدة، فكم في الأرضِينَ الأَخَرِ، وفي السَّماواتِ السَّبْعِ وما بينهما ؟ وقال عزّ وجلّ في خلق هذا كلّه : ﴿ وَمَا مَسَّنَا مِن لَّغُوبٍ ) (٤) أي : من تعب ﴾ .

وفائدة مدلول هذا والإخبار به : إنما هو أن يُعلم أن هذا الخلق كلّه بِعِظَمِه وكثرة ما فيه من المخلوقات في هذا القدر من ،الزمان لا يمكن أن يكون بجارحة ولا آلة. هذا ما هو من

طريق النقل .

وأما من طريق العقل والنَّظَر، فهو أن العمل إذا كان بجارحة لا يكون إلا بعضُه يتلو

(1) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً في كتاب القدر .

(۲) سورة فصلت الايات ۹ - ۱۲ .

(۳) لم نعرف مصدره .

(٤) سورة ق من الاية .۳۸ ، .

بعضاً، ولو كان ذلك كذلك لاستحال أن يكون ذلك الخَلْق العظيم المذكور في هذا الزمان القليل، وهو ستة أيام .

ووجه آخر أيضاً مشاهد مرئيٌّ مُدْرَك ، وهو أن الجارحة التي تعمل الكثيف لا تستطيع أن تعمل الرفيع . ومثاله الذي يعمل في الحلفاء (۱) أو في الفاعل (۲) ، وما أشبههما ، إن مَدَّ يده إلى الخَزْ (۳) أو الحرير أو الرفيع من الكتان (٤) أتلفه مرة واحدة، فكيف يفعل فيه شيئاً يكون فيه فائدة؟ وكذلك الآلة التي يُعمل بها الأشياء، لأن الآلة التي يُعمل بها الرفيع لا يُعمل بها الكثيف، ومثاله منشار المشط لا يتأتى أن تُنشَر به الخشبة، وكذلك جميع الآلات لا يجزي بعضها عن بعض، فلا يجزي الرفيع عن الكثيف، ولا الكثيف عن الرفيع. وقد شاهدنا في المخلوقات مثل البعوضة والفيل إلى غير ذلك من اللطيف والكثيف مع كثرتها فكثرتها مع اختلاف أنواعها في قصر الزمان المذكور أدل دليل على ما ذكرناه، وهو أن خالقها اخترعها بقدرته دون جارحة ولا آلة

ولذلك جعلها عزّ وجلّ دليلا لإبراهيم عليه السلام في عظيم اليقين، فقال عزَّ مِن قائل : وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ (٥) فلما أن أراد الله عزّ وجلّ من خليله عليه ،السلام قوة اليقين ألهمه إلى النظر - بالتوفيق - في الملكوت، فبان له ما ذكرناه، فكان من الموقنين، يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ : شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ (٦) وشهادَتُه عزّ وجلّ، لنفسه هي ما تضمَّنَه مدلول مخلوقاته بوضعها على أنه جلّ جلاله : لَيْسَ

كَمِثْلِهِ شَيْ نحو ما تقدم . فالبحث مع هذه الثلاث فرق على ما تقدَّم، والتبيينُ لتخصيصهم ذلك العموم يُبيّن لك فساد ما ذهب إليه غيرهم من الاثنتين والسَّبعين فرقة (٧) ، وكيف تخصيصهم لِلفْظِ عام؟

ثم نرجع الآن إلى بيان اعتقاد أهل السنّة، وبه يتبيَّن فساد مذهب الغير، لأن الحق إذا بان فما خالفه فهو الباطل. لكن نحتاج إلى تقديم الكلام في بعض مسائل بقيت لبعض أهل السنة

(1) الحلفاء : نبات صحراوي يكثر في صحروات إفريقية، يُستغل في حشو الأرائك وصنع الورق . (۲) الفاعل : الرجل الذي يعمل في البناء والحفر والطين ، إذ تكون يداه خَشِنتينِ . (٣) الخَز: من الثياب : ما ينسج من صوف وإِبْرَيْسَم . والإِبْرَيْسَم : أحسن الحرير . (٤) الرفيع من الكتان : الرقيق الدقيق من نسيج الكتان . والكتان : نبات زراعي يتخذ من أليافه نسيج معروف .

(٥) سورة الأنعام من الآية ٧٥ (٦) سورة ال عمران من الآية ۱۸ .

يشير إلى الحديث : افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة إلخ ... وقد تقدم نصه قبل قليل في سياق شرح

هذا الحديث ذاته في البيعة

رحمه

يعتقدونها، وهي مما يشبه ما فصلنا عنه، وإن كانت ليست مثله لكن بينهما تناسب ما، وأنا أقول فيها، كما قال أبو الوليد الباجي (١) ، رحمه الله ، عن شيخه القاضي أبي جعفر السمناني (۳) ، رحـ الله ، أنه كان يقول : بأن النظر والاستدلال أولُ الواجبات) (۳) مسألةٌ من الاعتزال بقيت في المذهب لمن اعتقدها. وأنا أقول في المسائل التي بقيت لبعض أهل السنّة مثله، على نحو ما تقدّم من أنها تُشبهها ، وليست كمثلها لمن اعتقدها .

فمنها قول بعضهم: إن جميع مخلوقات الله عزّ وجلّ جواهر وأعراض ولا ثالث (٤) ، ومعتقد هذا يرد عليه أنّه معارض للكتاب والسنّة، وما تضمنته السنة بإرشادها، على نحو ما نذكر بعد بما أعتقد من ذلك .

فأما معارضة الكتاب والسنة فهي على نوعين : تخصيص لعمومها، ومعارضة لها بالكلية

أما التخصيص لعمومها فلأنهم قد خصصوا الكتاب والسنّة بما ظهر لهم من دليل عقلهم، وهذا ممنوع شرعاً وعقلاً. وقد قال العلماء بأن عموم القرآن يخصَّص بالقرآن وعموم الحديث يخصص بالحديث، واختلفوا هل عمومُ القرآن يخصَّص بالسنة المتواترة، أو لا؟ على قولين: فمن قائل يقول بالجواز ومن قائل يقول بالمنع . وكذلك اختلفوا في أخبار الآحاد هل تُخصِّص عموم القرآن، أو لا؟ على قولين أيضاً. وهؤلاء قد خصَّصوهما معاً بما ظهر لهم من دليل عقلهم وذلك باطل بالإجماع . وأما المعارَضَة بالكُلّية فهي مَن يعتقد منهم أنّ ما يقرؤونه من علم الكلام من واجبات الدين أو كماله، أو مندوباته، لأنهم عارضوا بذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ (٥) لا يخلو أن يقولوا بكمال الدين في ذلك الوقت، أو لا .

وهم

هو سليمان بن خلف القرطبي فقيه مالكي كبير ، ومن رجال الحديث. رحل إلى مختلف بلاد المشرق وألف كتباً عدة في الفقه وعلوم الحديث. توفي سنة ٤٧٤هـ / ١٠٨١م.

(۲) هو محمد بن أحمد قاض حنفي. أصله من سمنان العراق كان مقدّم الأشعرية، وشنّع عليه ابن حزم له تصانيف في الفقه . توفي سنة ٤٤٤هـ / ١٠٥٢م. (۳) النظر والاستدلال أول الواجبات وهذا لمن يتعلم بدليل قوله تعالى : ( أَولَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِى اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرُ . قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (العنكبوت: ۱۹) و (۲۰) . والأمر للوجوب لمن يبحث عن الدليل ليخلص من الشوائب الطارئة على فطرته، أو للاستزادة من الأدلة على الهداية علماً وتعليماً ، ودعوة، وإلا فالإيمان فطرة وهبة لا كَسْب . قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (يونس، من الآية ١٠٠). (٤) هذه غير مسلمة إذ الملائكة ليسوا جواهر ولا أعراض والأعراض لا تنفصل عن الجواهر . (٥) سورة المائدة، من الآية ٣ .

فإن قالوا بكمال الدين في ذلك الوقت فهذا العلم لم يكن في ذلك الوقت، ولا تكلموا فيه، فالكلام فيه بعد ذلك نقص في الدين إذ إنه لا يكون بعد الكمال إلا النقص، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما) كان قوم على هدى فضلوا ، إلا ابتلاهم الله بعِلم الجَدَل) (۱) ، ثم تلا ، عليه السلام، قولَه ، عزّ وجلّ : مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمُ خَصِمُونَ ) (۲) ﴿

وإن هم لم يقولوا بكمال الدين إذ ذاك، فقد كَذَّبوا بالتنزيل، وهي الآية المذكورة وقد كذَّبوا السنَّة أيضاً وأبطلوها وهي قوله عليه السلام : تركتُ فيكم الثَّقَلَينِ ، لن تَضِلُّوا ما تمسكتُم بهما ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (۳) ، وقد جعل هؤلاء للثَّقَلَين ثالثاً . ،

وأما ما تضمنته السنة فقوله عليه السلام عليكم) بسنّتي وسنة الخلفاء بعدي)، وقوله، عليه السلام: (أصحابي مثلُ النجوم، بأيهِمُ اهْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُم) (٥) ، وقوله عليه السلام: (خير القرون قَرْني ، ثم الذين يَلُونَهم ) (٦) ، ومجموع هؤلاء لم يتكلموا في هذا العلم شيئاً، فكيف يرجع الفاضل مفضولاً، والمفضول فاضلا؟ كفى بذلك غلطاً .

وأما ما ذكرناه من تخصيص البعض أوّلاً ، فهو بما يرد عليهم من الآي والأحاديث، وهي جملة تتضمن الردّ عليهم. فمن جملة ما يرد عليهم ما رُوي أن اليهود لما أن أرادوا أن يختبروا النبي ، ، ، هل هو نبي أو لا؟ أتوه بمسائل جملة، يسألونه عنها . ومن جملتها (الروح) فقالوا : إن أخبركم بجملة المسائل وبالروح، فاعلموا أنه ليس بنبي ، وإن سكت عن الروح وأجاب عن الغير ، فهو نبي حقًّا . فأتوه ، فسألوه فأجابهم عليه السلام على الكل، عدا الروح ، فلم يدرِ ما يجاوب عنه ، فنزلت ﴿وَيَسْتَلُونَكَ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (۱) فأخبر عزّ وجلّ، أن أحداً لا يعلم الروح غيره، فلما أن تلا

عليهم الآية قبلوا قَدَمَيْه ، وقالوا نشهد أنك نبي، لأن أحداً من الأنبياء، لا يعرف الروح (۸) .

(1) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ولفظه : ما ضَلّ قوم بعدَ هُدَى كانوا

عليه إلا أُوتُوا الجَدَلَ .

(۲) سورة الزخرف من الاية ٥٨ .

(۳) انظر تخريجه في مقدمة المؤلف رحمه الله .

(٤) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارِيَة رضي الله عنه .

(٥) انظر الكلام على هذا الحديث في حاشية مقدمة المؤلف - رحمه الله - .

الله حديث صحيح متواتر . أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. ولفظه من حديث عمران بن حُصَيْن رضي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خيرُ النّاسِ قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ولم يرد في الصحيحين (خير القرون) بهذا اللفظ ، وإنما ورد ( خَيْرُكُم (قزني) و (وخيرُ الناس قرني) و إن خيرَكُمْ (قرني .

(۷) سورة الإسراء، من الآية .۸۵ (۸) أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والبخاري ومسلم. أما تقبيل قدميه فقد ورد في حدیث اخر رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وفيه قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا =

ثم بعد هذه الآية الواضحة وهذا الأثر البيّن أتى بعض أهل هذا العلم وادعوا أنهم يعرفون ما أخبر عزّ وجلّ أنه لا يعلمه غيره كفى بهذا ردّاً عليهم، ومنها قوله عزّ وجلّ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) وهم قد قالوا بأنهم يعلمون العالم كله في قولهم بأن جميع المخلوقات جواهر وأعراض والآي في ذلك كثيرة، وفيما أشرنا كفاية لمن عَقَل .

وأما ما يرد عليهم من السنّة فمنها قوله عليه السلام في حَجَّة الوداع لأصحابه : (اللَّهُمَّ هل بلغتُ؟ فقالوا : نعم. فرفع رأسه إلى السَّماء، وقال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ) (۲) . فإن كان هذا العلم مما لا يكمل الدين إلا به ،وكان عليه السلام يَعلَمُه ولم يبلغه ، فكيف يَصِحٌ على ذلك قوله : (اللهم هل بلغتُ)؟ ومعتقد هذا كيف يصح دينه؟ وبماذا يلقى نبيَّه؟ وإن كان هو عليه السلام، لم يعلمه، ولا يكمُلُ الدّين إلا به، فيكون هو أعلم من نبيه ، فكيف يصح الإيمان مع هذا؟

ومنها قوله عليه السلام لِلَّهِ عزَّ وجلّ سبعَةَ َعشَرَ نوعاً من الخلق السَّماواتُ السّبْعُ ، والأرَضُونَ السَّبْعُ ، وما فيهما عالَم واحِدٌ) (۳) فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما وما بينهما عالماً واحداً فبقية العوالم ما هي؟ ومثل ذلك أيضاً قولهم في الإيمان والحكمة إنها أعراض. وسنبيّن فساد ما ذهبوا إليه من ذلك في موضعه، وهو حديث الإسراء، إن شاء الله تعالى .

هذا البحث معهم من طريق النقل .

وأما من طريق العقل، فلأنهم خصصوا أثَرَ قدرة القادر. وقدرة القادرِ عزّ وجلّ، صفةٌ قائمة بذاته. فمن خصص آثارها بغير دليل شرعي لزمه تخصيص الصفة وتخصيص الصفة يلزم منه تخصيص الموصوف. وهذا ممنوع عقلاً وشرعاً. فلحق معتقد هذا بالأصناف المذكورة أول التقسيم وهو لم يشعر - أعني المخالفين للسنة . فالبحث معه كالبحث معهم، وقد تقدم .

فإن قال قائل : قد تكلم في هذا العلم من تقدم عصرنا هذا من السادة الفضلاء قيل له : إنهم لم يكونوا يعتقدون هذا الاعتقاد الفاسد الذي يعتقده بعضُ أهل هذا العصر ، ولم يكن في هذا العلم هذا الحَصْرُ الكلّي الذي فيه الآن، ولم يتكلموا فيه إلا بعد تضلّعهم بالعلوم الشرعية وعلموا ما

النبي نسأله، فأتياه فسألاء عن قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَانَيْنَا مُوسَى يَسْعَ ءَايَتِم ) فذكر الحديث، وفيه : فقبلا يديه

ورجليه . وصححه الحاكم .

(۱) سورة النحل من الاية .۸ .

(٢) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه في القسامة

(۳) أخرجه أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية مقطوعاً من قول وهب بن مُنَبِّه كما في الدر المنثور ۱۳/۱ بلفظ (إن الله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا فيها عالم واحد .

أوجب الله عليهم من الاعتقاد والأقوال والأفعال من الكتاب والسنّة، فلم يضرَّهم نظرُهم في هذا العلم إذا جعلوه عدة لمن مَرَق من الدين، فردوه به إلى دائرة التوحيد .

وقد اختلف العلماء : هل (۱) لا يُقطع الخصم إلا بالحق، أو بأي وجه قطع من الحجج كائناً ما كان، حتى يرجع إلى الحق؟ على قولين: فعلى القول بأن المقصود القطع بأي وجه كان، إذ المقصود الرجوع إلى الحق. فبهذا ساغ لهم الأخذ فيه مع سلامة الاعتقاد لمقصدهم الجميل ، وهو أن مقصودهم إظهار الحق لا غير. وعلى القول بأنه لا يقطع إلا بالحق ولا يسوغ القطع بغيره فلا يجوز الكلام فيه مرة واحدة .

ولأجل هذا القول تاب بعض من تقدم من الفضلاء عن الكلام فيه وأقلع عنه، فمنهم إمام المتكلمين ورئيسهم أبو المعالي (۳) ، ومنهم الإمام الوليد بن أبان الكرابيسي (۳) ، ومنهم الإمام أبو الوفاء ابن عقيل (4) ، ومنهم الإمام الشهرستاني (٥) صاحب نهاية الإقدام في علم الكلام يشهد لما نقلناه عنهم ما نقله الإمام الجليل أبو العباس القرطبي ) في كتابه الذي وضعه على مختصر مسلم . وقد كان الأكابر من فضلاء الأندلسيين من ابتدأ عندهم بهذا العلم قبل تضلعه بالعلوم الشرعية يقولون بزندقته، ولا يلتفتون إليه فإن قرأه بعد تضلعه من العلوم الشرعية وفهمت منه الاستقامة فحينئذ يُسلمون له فيه .

ومنهم من تكلم في كتاب الله عزّ وجلّ، فقال بعضهم بـ (الحُلول)، وقال بعضهم بأنه (دال)

(1) كذا بإدخال (هل) على (لا) ، وهو لحن .

هو عبد الملك

بن عبد الله الجُوَيْني: أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي. ولد في جُوَيْن من نواحي نَيْسابور، ورحل إلى بغداد فمكة فالمدينة فأفتى فيها ودرَّس ، ثم عاد إلى نيسابور وبها توفي سنة ٤٧٨ هـ / ١٠٨٥م . له عدد من المصنفات في العقيدة والأصول والفقه . (۳) الوليد بن ابان الكرابيسي: معتزليّ من علماء ،الكلام من أهل البصرة له مقالات في تقوية مذهب الاعتزال، ثم رجع عنها وَفاءَ إلى مذهب أهل السنة والجماعة. توفي سنة ٢١٤ هـ/ ٨٢٩م .

(٤) هو علي بن عقيل البغدادي، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل . عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته . اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، ثم رجع عنه . له تصانيف في الفقه والأصول والعقيدة والفرق . توفي سنة

٥١٣هـ / ١١١٩م. (٥) هو محمد بن عبد الكريم أبو الفتح الشهرستاني، كان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، ولد في شهرستان وانتقل إلى بغداد، ثم عاد إلى بلده وبها توفي سنة ٥٤٨هـ / ١١٥٣م . له مصنفات كثيرة منها : الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم الكلام وتفسير سورة يوسف ومفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار في

التفسير، وسواها.

(٦) هو أحمد بن عمر أبو العباس الأنصاري القرطبي، فقيه مالكي، من رجال الحديث. كان مدرساً بالإسكندرية وبها توفي سنة ٦٥٦هـ / ١٢٥٨م وأصله من قرطبة . وله مصنفات في الحديث منها : المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، وكتاب اختصار صحيح البخاري ومختصر الصحيحين

وليس بحال، وكلاهما غلط بين . والبحث معهم فيه أن نقول : لا يخلو أن يكون ذلك مما كلفنا به شرعاً، أو مما لم نكلف به.

فإن قلنا بأنه مما كُلفنا به شرعاً، والنبي ، و لم يُبَيِّنه ولا الخلفاء، فيلزم على هذا ما لزم صلى الله عليه وسلم في الكلام قبل، وهو قوله عزّ وجل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ (١) . وقوله، عليه السلام: (اللَّهم هل بَلَّغتُ؟) والقول بأن التكليف واقع فيه يَردّ معنى هذين، وهو أن يكون الدين حين نزول الآية لم يكمل ، وأن يكون النبي ، ل ل ا ل له و مات ولم يبلغ ، والبحث في هذا كالبحث

فيما تقدم، سواء

وإن قلنا بأنه مما لم نكلف به شرعاً فلا يخلو أن يكون الكلام فيه جائزاً أو ممنوعاً، فإن قلنا بالمنع فلا كلام، ويَسَعُنا فيه ما وسع النبي ، ، ، ا و و و و و و الخلفاء والصحابة والسلف، لأنهم لم يأخذوا فيه

أصلا

ومثل هذا الكلام في البَسْمَلة : هل الاسم هو المسمَّى ، أو الاسم غير المسمى؟ قد تكلم فيه بعض المتأخرين، فقالت طائفة بأن (الاسم) هو المسمَّى ، وقالت طائفة بأن (الاسم) غير المسمَّى ، ثم أتى الفضلاء من أهل السنة المتّبعين، فقالوا : إنَّ من تقدم لم يتكلموا في ذلك، فَلْيَسَعْنا فيه ما وسعهم، ولم يجاوبوا في ذلك بأكثر .

وإن قلنا بجواز الأخذ فيه فلا يخلو أن نقول بجوازه مطلقاً، أو لا بد فيه من قيد فإن قلنا . بالجواز مطلقاً فممنوع، وإن قلنا بالتقييد فسائغ .

والتقييد هو أن يكون الكلام فيه لا يُخِلّ بقاعدة من قواعد اعتقاد أهل السنّة، ولا بالقاعدة الكلية التي اجتمع عليها أهل العقل .

فأما القاعدة الكلية التي اجتمع عليها أهل العقل فهي أن خالق المخلوقات لَيْسَ كَمِثْلِهِ وأن صفاته القائمة بذاته الجليلة ليس كمثلها شيء. فطالب الكيفية في هذه الصفة التي هي (الكلام) هل هو حال أو غير حال؟ يلزمه أن يطلب كيفية صفة القدرة القائمة بالذات الجليلة التي جميع المخلوقات صادرة عنها . أعني صفة القدرة كيف اتصالها؟ أعني : القدرة بالمقدور عليه الذي هو جميع المخلوقات عند بروزها من العَدَم إلى الوجود .

فإن ادعى معرفة الكيفية هنا فذلك محال بالإجماع من أهل العلم وغيرهم ؛ لأن الكل قد أقروا أن جميع المخلوقات صادرة عن القدرة وعجزوا عن معرفة كيفية اتصالها بالمقدور عليه . فلمّا كان

(۱) سورة المائدة، من الاية ٣ .

العجز هنا واجباً فكذلك في الأخرى واجباً أعني أن الكلام في هذه مثل هذه (۱) ، لأن هذه صفة قائمة بالذات الجليلة، وهذه صادرة عنها، فوجب الإيمان بهذه كما وجب الإيمان بهذه ووجب العجز عن معرفة الكيفية في هذه كما وجب العجز عن معرفة الكلية في هذه. وكذلك جميع الصفات الكيفية فيها ممنوعة كما هي في الذات؛ لأن الكيفية إنما تكون في البشر وصفاتهم وفي المحدثات وصفاتِها على ما أُجريت عليه.

وأما القواعد الشرعية فقوله عزّ وجلّ : ﴿ وَنَزَّلْتَهُ تَنزِيلًا ) (۲) وقوله ، عزّ وجلّ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا

عَلَيْكَ الْقُرْهَانَ تَنزِيلًا ) (۳) فأكدَهُ بالمصدر ، والعرب إذا أكدت بالمصدر نفت المجاز وأثبتت الحقيقة فإن هم قالوا بأنه (دال) لم يَصْدُق عليه اسم (التنزيل) ، فأخرجوا الحقيقة إلى المجاز بغير دليل عقليّ ولا شرعي. وإن هم قالوا : بـ (الحلول) فقد ردّوا أيضاً مقتضى قوله عزّ وجلّ ﴿فَإِنَّمَا يَسَرْنَهُ بلسانك ) (٤) . وهذه الحروف مُحْدَثَة ؛ لأن اللغة العربية محدَثَة، فكيف يجعلون المحدث قديماً؟ فنفوا الحقيقة، وأثبتوا المجاز بغير دليل عقلي ولا شرعي كما فعلت الطائفة الأولى. وقد قال عليه السلام: (سبعةٌ لعنتهم أنا وكلُّ نبيٌّ مُستجاب ) (٥) وعَدَّ فيهم المحرِّفَ لكتاب الله . فعلى هذا يجب الإيمان بالآيتين معاً. أعني قوله عزّ وجلّ وَنَزَّلْتَهُ تَنزِيلًا ) وقوله عزّ وجلّ ﴿ فَإِنَّمَا يَسَرْنَهُ بلسانك فيكون كتاب الله مقروءاً ومَتْلُوّاً بالعربية. هذا هو الذي يجب؛ لأنه متضمَّن الآيتين من غير إبطال إحداهما ، ولو كان غير ذلك لكان النبي ، و و و و و و و و و والخلفاء والصحابة يشيرون إليه .

العموم .

ثم بقي بحث مع بعض معاصرينا في مسائل يفعلونها تؤول بهم إلى ضرب من تخصيص ذلك

فمنهم من يرى الفتوى بمجرَّد العادة) مطلقاً في بعض المعاملات والبيوع، ولسان العلم يمنعها، ويقول : قد جرت العادة بذلك، فلا بأس به. وهذا ليس بشيء، لأنه يلزم على القول بذلك نسخ الشريعة بالعادة ولا قائل به فإن احتج بقول من قال من الفقهاء (العادة شَرْع) قيل له : إنما العادة شرع عند الفقهاء بقيد يقيدونها به لا على العموم، وهي أن تكون تلك العادة لا تُخِلّ بقاعدة من قواعد الشريعة ومثال ما جعلوه عادةً شرعاً - أعني الفقهاء - هو مثل شخص استأجر أجيراً ولم

م

(1) بمعنى أن الكلام عن الكيفية يشبه الكلام عن القدرة. والنتيجة هي العجز عن المعرفة في كلتيهما .

(۲) سورة الإسراء، من الآية ١٠٦ .

(۳) سورة الإنسان من الاية ۲۳ .

(٤) سورة مريم من الآية ٩٧ .

(0) أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها بلفظ (ستة) .

يُعلمه بأجرته ، فإذا فرغ من العمل طلب الأجير كثيراً، وأعطى المستأجِرُ قليلاً . فهنا يسأل الحاكم أهل المعرفة بذلك العمل، ما ثمنه؟ فيحكم بالعادة فيه. فهذا وما أشبهه هو الذي أراد الفقهاء بقولهم

(العادة شرع) لا على الإطلاق؛ لأن الحق في هذا الموضع لا يُقدر على الوصول إليه إلا بهذا الأمر . وقد نص عليه السلام بالمنع على ما هو أقل من هذا وأخف في حديث بَرِيرَة قال : كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو مائة شرط ( (۱) فإذا كان الشرط لا يُحكم به إذا لم يكن في

كتاب الله فكيف بالعادة إذا كانت مخالفة لكتاب الله وسنة رسول الله ؟ هذا من أكبر الغلط . ثم بعد هذا البيان الواضح يحتجون على الجواز بكون أن بعض تلك الأشياء الفاسدة كانت في زمن من تقدّمهم من الفضلاء ولم يتكلموا فيه ويرون أنهم لا يتكلمون وإن ظهر الفساد بالدليل الشرعي، لكون من تقدّمهم لم يتكلم فيه . وهذا غلط آخر أيضاً؛ لأن مَنْ كان قبلهم، وكان هذا الواقع في زمنهم ، يحتمل أن يكون الواقع على هذه الصيغة الفاسدة ويحتمل أن يكون وافق الاسم الاسم، ولم يكن على هذه الصيغة الفاسدة .

فإن كان في وقتهم ولم يكن على هذه الصيغة الفاسدة فلا حجة لهم فيه ؛ لأنه كان في زمانهم صالحاً، فلم يكن لهم فيما يتكلمون وهو الآن ،فاسد فوجب الكلام حين الفساد ولهذا المعنى قال رزین (۲) رحمه الله : ما أتي على بعض الفقهاء المتأخرين إلا من وضعهم الأسماء على غير مُسَمَّيات، لأنه كانت تلك الأسماء في الصدر الأول على صيغ جائزة بوجوه شرعية وهي اليوم على غير وجه جائز، فأجازوا غير الجائز لاشتراكه في الاسم مع الجائز.

وإن كانت في زمانهم على تلك الأحوال الفاسدة فهو محتمل أيضاً لأن يكونوا غفلوا عنها الشغلهم بما كان عندهم اكد وأهَمّ فلم يُلقوا إليها بالهم ، أو نظروا إليها وغلطوا فيها ؛ لأنه لا أحد معصوم من الغلط، فإذا غلط أحد فكيف يُتبَع في غلطه؟

والظاهر في هذا الموضع أحد الوجهين، والثالث ،مرجوح لأجل ألا يحمل على المؤمنين إلا الوجه الأصلح، ولا سيما من تقدّم . والوجهان هما ما تقدم من أنها كانت صالحةً، أو فاسدةً، ولم يلتفتوا إليها لشغلهم بغيرها ، لأنهم لو التفتوا إليها لتكلموا عليها، وعللوها، إما بالجواز أو بالمنع ولو فعلوا ذلك لنقل عنهم ، ولم يُنقل عنهم شيء في ذلك .

(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، ولفظه في رواية الشيخين من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن

شرط مائة شرط

(۲) هو رزین بن معاوية بن عمار العَبْدري السَّرَقُسطي الأندلسي، أبو الحسن إمام الحرمين نسبته إلى سَرَقَسْطَة من بلاد الأندلس جاور بمكة زمناً طويلا وتوفي بها . له تصانيف منها التجريد للصحاح الستة. توفي سنة

٥٣٥هـ / ١١٤٠ م .

فإذا لم يتكلموا فيها فكيف يُعطى الحُكْمُ للساكت؟ ولا قائل بذلك، مع أن الأصل تطرق الفساد إلى الأحكام لقوله عليه السلام : (لَتُنقَضَنَّ عُرى الإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً، وكلما انتقضت عروةٌ تشبث الناس بالتي تليها، وأوّلهن نقصُ الحُكم ، واخرُهُنَّ الصَّلاة) (۱) ، فيتطرق الفساد إلى الأحكام شيئاً فشيئاً ولا يُشعر به، كما أخبر الصادق عليه السلام فالعاقل يكون ممّن جَبَر ما نُقِض ، ويحذرُ لئلا يكون ممن أعان على النقض، وقد قال عليه السلام: (من أحيا سنة من سنتي قد أُميتت فكأنّما أحياني ، ومن أحياني كان معي في الجنّة) (۲) . فاحذر أن تكون مع الخلق، وكن مع الحق حيث كان ؛ لأنه عليه السلام ، قال : لا يَكُن أحدكم إمَّعَةً يقول : أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنتُ، وإنّ أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا) (۳).

ومنهم من يرى بمطالعة كتاب الزمخشري ويؤثره على غيره من السادة الفضلاء المشهود لهم بالسُّؤدد كابن عباس الذي شهد له عليه السلام بأنه ترجمان (٥) القرآن، ومثله ابن عطية (٦) من المتأخرين الذي قد اجتمع العلماء على فضله ودينه ، ثم إنهم يسمونه بـ (الكشاف) تعظيماً منهم وترفيعاً لقدره. وهذا لا يخلو الناظر فيه أن يكون من أحد قسمين : إما أن يكون عارفاً دعواه، فيعرف تلك الدسائس التي دس فيه من مذهب الاعتزال، ولا يضره ويأخذ منه فوائد أخَرَ مثل العربية والمنطق وما أشبه ذلك، أو لا يكون في هذه الرتبة .

فإن لم يكن في هذه الرتبة فلا يحل له النظر فيه لوجهين (أحدهما) وهو أشدّهما ـ أن تسبق تلك الدسائس إليه، وهو لم يشعر فيكون في جهل مركب لأنه معتزلي، وهو يظنّ أنه سُنِّي . (الوجه الآخر) أن يقدِّم مرجوحاً ويضعَ راجحاً ؛ لأنه يقدم شرحَ معتزليّ على شرح سُنّيّ .

(۱) أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان والحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه . (٢) أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . (۳) أخرجه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه وحسّنه . (٤) هو محمود بن عمر الزَّمَخْشَرِي، جارُ الله . ولد في زَمَخْشَر من قرى خوارِزْم ، وسافر إلى مكة المكرمة وجاوَرَ بها زمنا، وتنقل في البلدان ثم عاد إلى الجُرجانية وتوفي بها سنة ٥٣٥هـ / ١١٤٤م . له كثير من المؤلفات منها التفسير

المعروف بـ (الكشاف) وأساس البلاغة ، والمفصَّل والفائق - في غريب الحديث - وغيرها. وكان معتزلياً . (٥) حديث شهادة النبي الهلال الابن عباس بأنه ترجمان القرآن أخرجه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد وأبو نعيم في الحلية . هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي من محارب قيس الغرناطي. أبو محمد مفسر ، فقيه أندلسي . عارف بالأحكام والحديث. ولي قضاء المَريَّة، وكان يكثر الغزوات في جيوش المُلَمَّمين . له كتاب (المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) وسواه من التصانيف. توفي سنة ٥٤٢هـ / ١١٤٨م.

وإن كان في الرتبة المتقدم ذكرها فلا يحلّ له النظرُ فيه لوجوه : (الأول) أنه لا يأمن من

الغفلة، فيسبق إليه من تلك الدسائس شيء، وهو لم يشعر (الثاني): أنه يحمل الجهال بتعظيمه

له، والنظر فيه، وتطريز مجالسه به على تقديمه لأنهم إذا رأوا فاضلاً يطرّز مجالسه بكلامه ويقول : قال الكشاف كان ذلك ترغيباً للعوام في تقليده وتزهيداً في غيره . (الثالث) : أنه وضع راجحاً ورفع مرجوحاً، لأنه وضع كتاب أهل السنّة ورفع كتاب المعتزلي .

ولو كان صادقاً في دعواه وهو أن فيه أهلية للعلم وكان في الرتبة المتقدم ذكرها لما خفيت عليه تلك المكيدة التي كادها ولَما رضي من علمه أن يكون شَوّاشاً لمعتزلي، وهذا كان قصده، وهو أن يرفعه العالم، ويقلده الجاهل. والشَّوّاش هو الذي يُثني على الغير ليجتمع الناس عليه، فكانت قصارى هذا الفقيه المدَّعِي للرتبة المتقدم ذكرها أن يرجع شوّاشاً لمعتزليّ، فنعوذ بالله من التبديل بعد الهدى . وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لا تقولوا لمنافق (سيّداً) فإنه إن يَكُ سيّداً فقد أسخَطْتُم الله) (۱) ، وكذلك كل من رفع صاحب هذا الكتاب فقد أسخط الله في ترفيعه إياه، لأجل ما

هو عليه من الاعتقاد .

ثم بقي بحث مع بعض المنتسبين للمتصوفة حيث يأتون بألفاظ يَدَّعونها :

فمنها قولهم : بـ (العلم اللدني) ويُؤثرونه على علم الشرع المنقول ويقولون بأنَّهم أخذوا بغير واسطة وغيرهم أخذ ،بالواسطة، وهذا منهم جهل وخطاً لا شك فيه ولا خفاء، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنَّما العلمُ بالتَّعلُّم) (۲) وقد أنكر عليهم بعض الفقهاء ما ادعوه من ذلك وقالوا : ليس هذا بحق. ومُنْكِرُ هذا غَلَط منه أيضاً؛ لأن الشريعة دلّت عليه في غير ما آيةٍ وغير ما حديث. فمنها ،قوله عليه السلام: (إن) من أمتي لَمُحَدَّثِينَ وإن عمر لمنهم) (۳) ، وقد ظهر ذلك من عمر ، رضي الله عنه ، عياناً حين نادى السارية، وهو على المنبر في المدينة : يا ساريةُ الجبلَ . وكان سارية بالعراق أميراً على جيش المسلمين، فسمعه ،سارية، فطلع بالمسلمين الجبل، فنجوا من العدو

لتحصنهم بالجبل منهم

(۱) نسبه في الفتح الكبير ۳۳۳/۳ للإمام أحمد وأبي داود والنسائي عن بريدة رضي الله عنه بلفظ آخر . (۲) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه وللخطيب عن أبي الدرداء الله عنه ، ورواه ابن أبي عاصم والطبراني عن معاوية رضي الله عنه .

رضي

(۳) أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه .

(٤) رواه البيهقي في دلائل النبوة، وصححه الحافظ في الإصابة وابن تيمية في المقاصد الحسنة .

ومنها قوله عزّ وجلّ في كتابه : ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ) (۱) . وقد أخبر، عزّ

وجل، في كتابه حكاية موسى والخضر عليهما السلام ما هو نص فيما نحن بسبيله حيث قال الخَضِرُ لموسى إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَوْ تُحِطْ بِهِ خُبْرُ . قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا . قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْتَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْنَهَا لِتُفْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرهِقنِي مِنْ أَمْرِى عُسْرًا . فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا تكرا . قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . قَالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَحِبَنِي قَدْ بَلَغَتَ مِن لَّدُنِي عُدْرًا . فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَنْيا أَهْلَ فَريَةٍ أَسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَنَخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَيْنِكَ سَأَنْبِتُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَ هُم مَلِكُ يَأْخُذُ كُل سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينا أن يُرهِفَهُمَا طُغْيَنَا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَوَةً وَأَقْرَبَ رُحما. اَلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَمَينِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَلِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِهَا كَنَزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ (۳ ) . قال المفسرون في معناه : إنه قال له : أنا على علمٍ من عِلمِ الله لا تعلَمُهُ أنتَ ، وأنتَ على عَلْمٍ من عِلْمِ الله لا أَعلَمُه أنا . فعِلمُ موسى عليه السلام هو التشريع وهو المنقول الذي هو بالواسطة ، وعِلمُ الخَضِر عليه السلام هو اللدني الذي هو الإلهام، بغير واسطة .

والحق في هذه المواضع أن يقال : العلم اللَّدُنّي حقٌّ لا شكّ فيه، بدليل ما تقدَّم، لكنّ الدليل على تصديق من ادعى وجوده أن يكون عَمَلَه على الكِتاب والسُّنَّةِ، خالصاً من الشوائب، صادقاً في توجهه، عارفاً بالخواطر ، صالحها و فاسدها معرفة كلية ، لأن علم الخواطر علم قائم بذاته.

ونحن نذكر الآن شيئاً منه نشير به لبعض ما يحتاج الموضع إليه، فنقول : قد اختلفت المتصوفة اختلافاً كثيراً في هذه الخواطر، وأحسن ما قيل فيها وأوجزه : أن الخواطر على أربعة أقسام : نفساني وشيطاني، وملكي، وربّاني.

فالرباني أولها : هو مثل لمحة البرق لا يثبت، ثم يليه النفساني، مثل المُصلّي مع السابق،

(1) سورة البقرة من الآية ۲۸۲

(۲) سورة الكهف من الآية ٦٧ إلى ۸۲

رأس المصلّي في عنق السابق (۱) ، على ما يُعرف في سَبْق الخيل ولا يفرّق بين النفساني والرباني

إلا من كانت فيه الصفات المتقدم ذكرها ورزق التوفيق، فإذا حصل له التفرقة بينهما لم يجد في الرباني ، ل قط شيئاً مخالفاً لكتاب الله ، ولسنة رسوله ، ل ، لأن كل ما هو من عند الله ، سواء كان بواسطة أو بغير واسطة، فلا خلاف فيهما لأنّ الكلّ حق، قال عزّ وجلّ في كتابه : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (۲) فنصَّ ، عزّ وجل على أنّ كلَّ ما يأتي من قبله فليس فيه مخالف

والكلُّ حقّ .

ولهذا المعنى كان بعض الفضلاء وأهل هذا الشأن إذا خطر له الخاطر يقول : لا أصدِّقُكَ حتى تأتيني بدليلين : دليل من الكتاب ودليل من السنّة لعلمه بأن الربّاني لا يخالف الكتاب ولا السنة، فيجتمع له العمل بالعِلْمَينِ معاً : اللدُنّي والشَّرعي . وقد كان بعضهم إذا احتاج إلى معرفة أجزاء أوقاتِ الليلِ يرفع بصرَه وهو في فراشه وبيته مغلق عليه فيرى الكواكب في مواضعها التي هي فيها في ذلك الوقت فيعرف في أي وقت هو من الليل، فلا يُقنعه ذلك، ولا يعمل عليه، ويقول ليس هذا العلم المنقول، فيقوم فيفتح البابَ، ويخرج، فينظر إلى النجوم بعين بصره، فيراها في موضعها الذي راها فيها وهو في فراشه . ويتكرر ذلك منه مراراً، ولم ينتقل عن عادته .

وهذا هو حالهم لا ينفردون أبداً بالعلم باللدني حتى يوافقه المنقول، فيعملون بهما معاً اللهم إلا عند ضرورة لا يمكنهم العمل بالواقع من جهة المنقول فيبين لهم العلم في ذلك أعني العلم اللدني، فيعملون به لانحتام الوقت عليهم، ثم ينظرون في العلم المنقول بعد ذلك فيجدونه موافقاً لما هدوا إليه . ومثل ذلك ما حكي عن الثوري ) ، رحمه الله تعالى حين جمع الخليفة ببغداد أهلَ هذا الشأن، لَمّا وُشِي إليه فيهم وقيل له : إنّهم على غير استقامة فأمَرَ الخليفة بقتلهم . فلما جاء السياف إليهم يطلبهم للقتل، بادر إليه الثّوري رحمه الله فتعجب السياف من ذلك، وقال له : ما حملك على هذا؟ فقال : أُوثِرُ أصحابي بحياة ساعة. فتركهم ورجع إلى الخليفة فأخبره الخبر .

(1) المصلي من الخيل الذي يجيء بعد السابق، لأن رأسه يلي صَلا المتقدم وهو تالي السابق. وقال اللحياني إنما سمّي مصلياً لأنه يجيء ورأسه على صَلا السابق، وهو مأخوذ من الصَّلوَين لا محالة، وهما مكتنفا ذنب الفرس، فكأنه يأتي ورأسه مع ذلك المكان (اللسان)

(۲) سورة النساء، من الاية ۸۲ .

هو سفيان بن سعيد الثوري من بني ثور بن عبد مناة، أبو عبد الله : أمير المؤمنين في الحديث كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى ولد بالكوفة وراوده المنصور العباسي على أن يَلِي ،الحكم ،فأبى وخرج من الكوفة فسكن مكة والمدينة. ثم طلبه المهدي فتوارى، وانتقل إلى البصرة ومات فيها مستخفياً سنة ١٦١هـ / ۸۸۷م من كتبه : الجامع الكبير، والجامع الصغير في الحديث واخر في الفرائض .

فتعجب الخليفة ومَن حَضَره . فسأل القاضي الخليفة أن يتركهم حتى يذهب إليهم ، فيبحث معهم في أمرهم، حتى يتبين له طريقهم، فأذن له الخليفة في ذلك.

فأتى القاضي إليهم، فطلب منهم شخصاً ليبحث معه، شخصاً ليبحث معه، فقام الثَّوري، فقام الثوري، رحمه الله، فسأله القاضي عن مسائل فقهيّة، فنظر عن يمينه وقال : نعم ثم نظر عن يساره وقال: نعم، ثم أطرق

ساعة ثم رفع رأسه وأجاب القاضي بجواب مقنع في تلك المسائل. فتعجب القاضي من أمره فسأله عن ذلك. فقال له : لمّا أن سألتني عن تلك المسائل لم يكن لي بها علم، فسألتُ ملك اليمين عنها، فقال: لا علم لي فسألت مَلَكَ الشمال ،فقال لا علم لي فسألتُ ربَّ العِزَّة، فأخبرني في قلبي بما قلتُ لك . فرجع القاضي إلى الخليفة وقال له : إن كان هؤلاء زنادقة فليس على وجه الأرضِ مُسلِم .

فما كان مثل هذا وما أشبهه هو الذي ينفردون فيه بالعلم اللدنّي للضرورة ولانْحِتام الوقت ثم يجدونه بعد ذلك على وفق المنقول لا زيادة ولا نقصان. فمن لا يعرف هذا الشأن تسبق إليه الخواطر النفسانية والشيطانية والمَلكية فيعمل على كل خاطر يخطر له منها ولا يفرّق فيها بين الصالح والفاسد فيكون في عمى وضلال وكلّ من اتبعه كذلك فيصدق عليهم قوله عزّ وجلّ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعًا

ولأجل هذه الخواطر وما فيها من الاختلاف أخذ الفضلاء العارفون بها العهد على المبتدئين للسلوك ألا يُخفوا عنهم كلَّ خاطر يَرِدُ عليهم كائناً ما كان ليبينوا لهم تلك الخواطر الفاسدة والصالحة وما فيها بعد المشاهدة والعِيان. فنقل الجهال من المدعين للطريق هذه الصيغة إلى صيغة البيعة، وجعلوها من ضرورات الطريق لجهلهم باللفظ والمعنى .

: أنّه يشهد لِمَا أشَرْنا إليه عنهم ما حُكي عن بعض الفضلاء منهم ، أعني الفضلاء المتحققين أتاه شخص يريد السلوك ، فأدخَلَه الخلوة، وتركه أياماً، ثم دخل عليه وقال له : كيف ترى صورتي عندك ؟ فقال : صورة خنزير. فقال الشيخ : صدقت. ثم تركه في خلوته أياماً، ثم دخل عليه، وسأله مثل الأولى، فقال له صورة كلب، ثم كذلك إلى أن قال له صورة القمر ليلة كماله. فقال له : صدقت، الآن كَمُلَ حالك . وحينئذٍ أخرجه من الخلوة . وما ذاك إلا أن النفس إذا كانت في رعونتها وشهوتها مثلُ المِرآة الصَّدِئَةِ. فإذا أخذ صاحبها في المجاهدة فهي صقَالةٌ لها كصقالة الصَّفَّالِ للمرآة ؛ فقبل أن تَتمَّ صِقالتها إذا قابلتها الأشياء وقع

(۱) سورة الكهف، من الآية ١٠٤ .

المثالُ فيها فاسداً لبقاء بعض الصَّدَاً فيها، فإذا تَمَّت صقالَتُها وارتفع عنها ذلك الصَّدأ كله ظهر فيها

مثال الأشياء من غير زيادة ولا نقصان ورجعت تميز كلَّ خاطر بِحِدَتِه لِصَفائها .

ومنهم قوم يأتون بلفظ شنيع فيقولون: أنا هو وهو (أنا ويدَّعون ذلك حالاً، ويجعلونه من

الأحوال الرفيعة العظيمة وقائل هذا منهم يدور بين ثلاثة أقسام : إما أن يكون قد غُطي على عقله، فقال هذا، وهو لا يعقل ما قال. فقد ارتفع الخطاب عن هذا، فلا يلتفت لكلامه، ولا يُؤبَهُ له ، ولا يُحسب مقاماً . وهو ضرب من الجنون . وإما أن يكون جاهلاً يحكي عن غيره وليس له بذلك حال فهذا ينبغي تأديبه، لأن ذلك تحيل عقلا وشرعاً، وهو أن يرجع الخالق مخلوقاً، والمخلوق خالقاً.

وإما أن يكون له مذهب فاسد، فلما أن تعلق بطريق القوم صرّح به وجعله حالاً وهذا الأخير لا يخلو من أن يدعي ذلك بـ (المعنى) أو يدعيه بـ (الحلول) (۱) . والمعنى هو : أن يدعي أنه ليس له تصرف والتصرف لغيره فإن ادعى هذا فهو جبري. وقد تقدم الكلام معه وإن كان ادّعاؤه بالحلول فهو مجسّم ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك أيضاً .

وإنما حكي عن السادة الفضلاء من أهل هذا الشأن التأدب والاحترام والوقار، في مقاماتهم، ولم يُخلوا قط بأدب من آداب الشريعة، لا في حال حضورهم، ولا في حال غيبتهم .

مثل ما حكي عن الثوري رحمه الله حين أخذه الحال وبقي في بيته سبعة أيام يدور لا ينام ولا يقعد ولا يأكل ولا يشرب ويقول : أحد أحد لا يزال كذلك . فبلغ ذلك شيخه فقال : أمحفوظ عليه أوقاتُ صلواته؟ فقالوا : نعم . فقال : الحمد لله الذي لم يجعل الشيطان عليه سبيلاً

ثم بقي بحث مع بعض العوام في عوائد اتخذوها ، ولم يُنكَر عليهم فيها . فالذِّكْر للعوام ، والكلام مع من سامحهم من العلماء فيما فعلوه لأن من رأى منكراً ولم ينكره كمَن فَعَله ، وهو ما اتخذوه من الرّشا عند النوازل) (۲) ، وما اتخذوا من أصحاب الجاه لأن يحموهم ويعطوهم على ذلك

(۱) :الحلول : هو التجسيد ، أو بمعنى أن الله جلّ جلاله قد حلّ متجسّداً في الذات البشرية، أو هو الصلة بين الرب الذي هو (اللاهوت) والعبد الذي هو (الناسوت)، ويقابله في اللغات الأوروبية كلمة (Incarnation) وعكسه الاتحاد) ويعني : امتزاج الذات الإلهية بالذات الإنسانية حتى يصيرا شيئاً واحداً أو هو الاستهلاك بالكامل في

الله ، والغناء عما سواه، وهو يعرف باسم (Unification) وكلاهما : الحلول والاتحاد مرفوض شرعاً. (٢) الرّشا : بضم الراء وكسرها . ج: رشوة. وهي ما يعطى لقضاء مصلحة، أو ما يُعطى لإحقاق باطل، أو إبطال

حق .

شيئاً معلوماً، وهذا كله لا يحلّ ولا يجوز لأن الله عزّ وجلّ، يقول في كتابه ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ) (۱) وقال : عزّ وجلّ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ) (۲) وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ ، لأخيه شفاعةً فأَهدَى له من أجلِها هَدِيَّةٌ، فَقَبِلَها ، فقد فَتَحَ على نفسه باباً عظيماً من أبواب

الربا ) ) . هذا مما هو بعد قضاء الحاجة دون شرط ، فكيف بها قبل قضاء الحاجة بالشرط ؟

وكيف يأخذون على الحماية ثمناً ، والحماية لا تخلو أن تكون في حق من حقوق الله تعالى، أو في مَظْلِمَة؟ (٤) فإن كانت في حقٌّ من حقوق الله تعالى، فلا يَحِلّ لأحد أن يُعِين أحداً على ألاّ يوفّي حقا من حقوق الله تعالى، فإذا كان هذا لا يَحِلّ فكيف يأخذون عليه شيئاً؟ وإن كانت في مظلمة تعيَّن عليه نصرُ ،المظلوم، لقوله عليه السلام انصُرْ أخاكَ ظالِماً أو مظلوماً) (٥) . فكيف يأخذون أجرة على ما تعيَّن عليهم فعله شرعاً؟

فتشبهوا بفعلهم هذا بالجاهلية حيث كانوا إذا نزلوا بِوَادٍ أو بموضع يقولون : أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ أهله وقد أخبر عزّ وجلّ عنهم في كتابه حيث قال : ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يعوذُونَ بِيحَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا ) (٦) أي غيظاً عليهم. وكذلك هؤلاء المساكين طالما يُعطون الرّشا، ويتخذون الجاه، يزداد عليهم مَن يعطونه ذلك غيظاً، وهو أشدّ عليهم من الظالمين لهم بالظلم صراحاً، لأنهم الذين يأكلون أكثر أموالهم . فنعوذ بالله من العمى والضلال.

وإنما يحتاج المؤمن أن يكون على أحد قسمين :

إن كان قويا أَخَذَ بالقوة، وإن كان ضعيفاً أخذ باللطف والرأفة. فالمؤمن القوي، في تصديقه، صفته أن يسلّم لِلَّه في أمره، ويعمل بمقتضى ما تضمنه قوله عزّ وجلّ : ( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا (٧) وقوله عزّ وجلّ : ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨)

وإن كان من القسم الآخر - وهو الضعيف - فقد أثبتتِ السنة له الدواءَ فشأنه أن يتداوى

(۱) سورة البقرة من الآية ۱۸۸ . ، (۲) سورة آل عمران من الآية ٦٤ .

(۳) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي أمامة رضي الله عنه كما في الفتح الكبير ۲۰۲/۳

(٤) المَظْلِمة : هي الظلامة، وهي ما يطلبه المظلوم

(٥) أخرجه الإمام أحمد والبخاري والترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كما في الفتح الكبير ۲۸۱/۱ .

(٦) سورة الجن من الآية ٦ . (۷) سورة التوبة ، من الآية ٥١ . (۸) سورة المائدة، من الآية ۲۳ .

والدواء هو ما روي عنه عليه السلام أنه قال : ادفعوا البَلاءَ بالصَّدَقة) (۱) وقال عليه السلام (اسْتَعِينُوا على حوائِحِكُم بالصَّدَقة (٢) .

وقد حكي أنه كان في بني إسرائيل رجل يؤذي الناس، فاشتكوا به لنبي ذلك الزمان، فدعا عليه، ثم أخبرهم أنه يصيبه بلاءً في يوم كذا وكذا وكان الرجل قصاراً. فلما كان في ذلك اليوم المعيَّنِ فإذا بالرجل راجع إلى البلد وعلى رأسه رزمةُ ثياب فأَتَوْا لنبيهم فقالوا له : ها هو اليوم قد رجع ولم يصبه شيء. فدعا النبي به فأحضر ، فسأله : ما فعلت اليوم؟ فأخبره أنه كان معه رغيفان أخرجهما لغَدائه، ثم عَرَض له مسكين يسأله، فأعطاه الرغيفين فأمره النبي عليه السلام أن يُنزِل تلك الرزمة التي على رأسه، وأخَذَ ما فيها من الثياب، ففتحها فإذا حيّة عظيمة ملجَمَةٌ بلجام من نار . فقال النبي عليه السّلام هذا البلاء، كان أرسل عليه، وهذا اللجامُ المطوّق به هو الصدقة التي

تصدق بها .

وقد أبقى الله عزّ وجلّ هذا الخير لهذه الأمة بإخبار الشارع عليه السلام وهو ما تقدم. وقد ،وصف عليه السلام الفتن ووصف الدواء لها وكيفية النجاة منها، فقال: (الجأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات) (۳). وأشدّ من هذا كله أن قوماً منهم جهلوا هذا الأمر، وجعلوا الرُّشا المذكورة من باب المداراة. وهذا منهم جهل بالمداراة ما هي وإنما المداراة الممدوحة في الشرع بذل الدنيا، في صلاح الدين مثل ما كان النبي ، ل ، يفعل حين كان يعطي للمؤلفة قلوبهم الأموال الطائلة، حتى لقد كان عليه السلام يُعطي لبعضهم وادياً من غنم، ووادياً من بقر ، حتى حَبَّب إليهم الإيمان بالضرورة لكثرة عطائه ،لهم، فكانوا يرجعون إلى قبائلهم وأهليهم فيقولون لهم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاءَ مَن لا يخاف الفقر (٤) .

وقد حكي عن بعض المتَّبِعين الذين فهموا هذا المعنى أنه رأى بياعاً ، وهو متغيّر ـيّر، فسأله عن حاله، فقال البياع : أنا مستأجر على بيع هذا الطعام بدرهمين في اليوم، واخذه مَوْزوناً ، والسّعرُ معلوم، ولا أعطي للناس في الرّطل إلا رطلاً غيرَ ،تُمُنِ وبعد ذلك ينقص في كل يوم رأس مالي سوى أجرتي در همان وأحتاج في داري إلى نفقة، فطلع عليَّ الدَّين، فأنا مهتم لذلك . فقال له ذلك

(۱) مروي بالمعنى. وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم والخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه : حَصَّنوا أموالكم بالزكاة، ودَاوُوا مَرْضاكُم بالصَّدَقة، وأعِدُّوا للبلاء الدُّعاءَ .

(۲) مروي بالمعنى. وقد أخرج الديلمي في الفردوس ۱۲۵/۱ والمناوي في الفيض ٤٩٥/١ استعينوا على الرّزق

بالصدقة .

(۳) لم نعرف مصدره

(٤) أخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه في الفضائل .

فأعطاه ذلك

السيد : كم يكفيك في دارك من النفقة ؟ فقال : در همان فقال له : أنا أعطيك در همين . السيد ثمانية دراهم نفقة أربعة أيام . ثم أتاه بعد الأربعة أيام فأعطاه ثمانية دراهم عن أربعة أيام أُخَر . فلما أن جاءه في الثالثة، يعطيه قال له : والله لا آخذُ منك شيئاً . قال : وَلِمَ؟ قال: لأنه منذ تركتُ الأخذ من الناس رجعتُ أجِدُ كلَّ يوم در همين فاضلة عن أجرتي وعلى رأس مالي ودون نفقتي. فهذا وما أشبهه هي المداراة الممدوحة في الشرع . فمن كانت فيه إحدى هذه الأوصاف المتقدّم ذكرُها (۱) ، وهي ما ذكرناه في بعض العلماء النساك وبعض العوام المتقدم ذكرُهم وما أشبه ذلك، كيف يسوغ له أن يَدَّعي أنه من القسم الناجي؟ والنبي ، الله يقول في صفة الناجين (ما أنا عليه وأصحابي ) (٢)؟ وكيف يدخل بما يفعل من ذلك تحت توفية عموم ،الحديث وهو قوله عليه السلام في حديث البيعة (لا) تُشرِكوا بالله شيئاً؟) . و (الشيء) ينطبق على القليل والكثير ، كما تقدم، فهلا ينتبه المسكين من غفلته فيقيم ميزان الشَّرع على نفسه حتى يصح له حقيقة ما ادعى من ،الاتباعية وقد قال عليه السلام: (حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا) (۳).

وبعض

ثم نرجع الآن إلى بيان ما اشترطنا أن نبينه من اعتقاد أهل السنّة وأحوالهم.

، ووافق فأما اعتقادهم فهو على ما يقتضيه عموم قوله عزّ وجلّ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى

ذلك العقل والنقل . أما النقل فالآية الموردة هنا .

وأما العقل فلأن خالق الوجود لا يُشْبِه مَن خَلَق ، إذ إنَّ الصانع لا يشبه الصَّنعة ، ونَفَى التّكييف والتحديد، لأن التكييف والتحديد لا يكونان إلا في المخلوق لأنهما صفتان للمُحْدَث، وتعالى الخالق جلّ جلاله عن التكييف والتحديد والحلول .

وأن صفاته، عزّ وجلّ صفاتُ الجلال والكمال على ما يقتضي ذلك من الحياة والقدرة

(1) يعني ما ذكره قبل من الأوصاف الأميمة (۲) حديث صحيح . أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والحاكم في المستدرك والبزار في مسنده والبيهقي في المدخل وأوله : افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة. الله (۳) أخرج الترمذي وابن ماجه في صفة القيامة عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكَيْسُ مَن دانَ نفسَه وعَمِل لما بعد الموتِ والعاجِزُ مَن أتبَعَ نفسه هواها ثم أردف الترمذي قائلا : ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزيَّنوا للعَرْض الأكبر، وإنما يخفّ الحساب يوم القيامة على من

حاسب نفسَه . ورواه ابن الجوزي في مناقبه ۱۷۸ .

والعلم والحكمة والإرادة وإدراك جميع المدرَكات على ما هي عليه مع نفي الكيفية في الذات والصفات، وأنه محيط بالجزئيات والكليات ) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (۱) ؟

وأنه هو المخترع لجميع المخلوقات العرش وما حوى والسَّماوات والأرض وما بينهما ، وما تحت الثرى، كما أخبر عزّ وجل في مقتضى التنزيل و أن خَلْقَه لذلك من غير احتياج إليه ، ولم يدركه نَصَب في اختراعها وإبدائها ولا شريك له ولا

مماثل .

وأنه ليس في خلقه علة لمعلول ولا في تقديم بعضها على بعض لحقِّ موجب ولا تأخير متأخر منها لاضطرار لازم ولا نفي جمعِ الضدينِ لعجز واقع ولا تناهي مخلوقاته وانحصارها لضعف لاحق، بل كان ذلك لاختيار .وحكمة . وكل نعمة وهداية منه مِنة وفضل ، وكل ضلالة ومحنة عدل مِنه وحكمة ) . لا يُدرَك بالعقل ولا يُتصوّر بالوهم، بل السبيل إلى معرفته العجز عن معرفته كما قال أبو بكر رضي الله عنه : سبحان من لا يُوصَل إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته، ويشهد لذلك قوله عليه السلام: (يا دليل الحائرين، زدني فيك تحيراً)(۳). فهو الواحد، الأحد، الموجود، الذي لم يتقدم وجوده ،عدم كان ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه، ولا يزال على ما هو عليه تنزه عن الحوادث والتغيرات والأعراض والممكنات، وأنه المتصرف في خلقه بمقتضى حكمته وقدرته ،وإرادته وأن جميع ما يصدر في العالم من حركات وسكنات وخواطر وهمات (٤) ولمات وأرق من ذلك وأجلَّ خلق من خلقه، وتصرفات العباد فيها كسب لهم . فالخلق له عزّ وجلّ من جهة الاختراع والكسب للعبيد من جهة الفعل والاختيار.

يشهد لذلك النقل والعقل .

أما النقل فقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى (٥) فأثبت عزّ وجلّ، الرّميَ للعبد، وحقيقته للربّ، والآي في ذلك كثيرة .

وأما العقل فلأنه لو انفرد أحد من الخَلْقِ بذَرَّة من الخَلْق دونه لكان له شريكاً، ولا شريك له .

(۱) سورة الملك من الآية ١٤ .

(۲) نهاية العبارة تفسر بدايتها .

(۳) لم نعرف مصدره.

(٤) الهمة واللمة: الخطرة التي تقع في القلب .

(٥) سورة الأنفال من الآية .۱۷ .

قال عزّ وجلّ، في كتابه: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَاً) (۱) ، فكيف لو كان شركاءُ عِدة؟ فكان ذلك مستحيلاً عقلاً ونقلاً ، وكذلك أيضاً ، لو لم يكن للعبد كسب ما وقع التكليف عليه، ولا صح الخطاب بما في الكتاب من قوله تعالى ( وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (۲) ، ( بِمَا عَمِلْتُمْ ) (٣) ، ( بِمَا كُنتُم ﴿ تَعْمَلُونَ ) (٤) ، ولا صح أن يقول النبي ، ل ، لأبي بكر في الدعاء الذي علمه أن يدعو به : (اللَّهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت) (٥) .

فصَحَ مذهب أهل السنة بلا شكّ فيه ولا ريب. وهو أن أفعال العباد خَلقٌ للرَّبِّ وكسبٌ للعبد، ولا التفات للكيفية، وأن تعليق الثواب على الطاعات والعقاب على المخالفات علة شرعية لا عقلية ولا علية (٦) ، يجب الإيمان بها والاستسلام إليها بمقتضاها، وأن ربط العوائد بعضها ببعض لحكمة اقتضتها الإرادة ،الأزلية وقد يُزيلها عزّ وجلّ لحكمة أخرى، أو يزيد عليها كلّ ذلك ممكن بحسب القدرة والحكمة لا مانع لما أراد، ولا راد لما قضى. وأن الخواص وجواهرها خلقٌ خَلْقه، وخاصيَّها خلقٌ من خَلْقِه . فقد يزيل الخاصيّة أحياناً ويبقي الجواهر، وقد يزيد فيها تارةً من ويزيلها أخرى. كل ذلك سائغ بحسب القدرة والإرادة وأن القرآن كلامه عزّ وجلّ منزلاً حقاً مُيسراً صِدقاً، من غير التفات للكيفية، كما قال جلّ جلاله : ﴿ وَنَزَّلْنَهُ نَنزِيلاً هُ تَنزِيلًا) (٧) وقال ﴿ فَإِنَّمَا يَسَرْنَهُ بِلِسَانِكَ ) (۸)

والإيمان بالكتاب والسنّة ،بخاصه وعامه، ومُجملهِ ، على مقتضى اللسان العربي ما عرفت العقول معناه وما لم تعرف سلّم فيه، وأذعن إليه من غير اعتراض ولا تأويل، لقوله عزّ وجلّ : وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ) (۹) ولذلك قال عليه السلام لما أن سأله الصحابة رضي الله عنهم، فقال : فقالوا : (إنّا نَجِدُ في أنفُسِنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به ، فقال : أَوَجَدْتموه؟ فقالوا: نعم. ذلك صريحُ الإيمان) (۱۰) يعني : في دفعه عنهم، لا في نفس وجوده. وإنما هو الإيمان في نفس

(۱) سورة الأنبياء من الآية ۲۲ . (۲) سورة البقرة من الآية ١٣٤ .

(۳) سورة التغابن من الآية ٧ . (٤) سورة المائدة، من الآية ۱۰۵ . (٥) أخرجه البخاري في صفة الصلاة ومسلم في الذكر والدعاء.

(٦) علية نسبة إلى العِلة، كما مَرَّ سابقاً .

(۷) سورة الإسراء، من الآية ۱۰٦ . (۸) سورة مريم، من الآية ٩٧ .

(۹) سورة ال عمران من الآية ٧

(10) أخرجه البخاري في العتق ومسلم في الإيمان .

تعاظم الأمر ودفعه وقد قال عمر رضي الله عنه : ديننا هذا دينُ العجائز يعني في العجز والتسليم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله : كلّ ما يقع في القلب فالله بخلاف ذلك لأن كل ما يقع في القلب، على ما تقدم، إنما هو خلق من خلق الله ، فكيف يشبه الخالق المخلوق؟ وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله ، آمنتُ بالله كما أمر الله . وآمنتُ برسول الله كما أمرَ رسولُ الله ، . والسادة الفضلاء عن آخرهم على هذا الأسلوب سالكون، وإنّما اختلفت في التعبير صِيَغُهم لا غير، والمعنى واحد في الكل.

وكفى في هذا الموضع بياناً حديث جبريل عليه السلام حين أتى لتعليم الدين الحديث المشهور ، وقال فيه : فَإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) (۱) و و وطريقة النبي ، ، ل ا ل له ، وأصحابه ، التي هي طريقه النجاة، كانت على هذه القدم.

ومتضمّن هذه القدَم يعطي المسارعة في كل أفعال البرّ بكل ممكن، لأن المعاينة تقتضي التصديق والمبادرة وترك الالتفات والتأويل. ولأجل هذا المعنى ضرب الله عزّ وجلّ المثل للمؤمنين ،بمريم عليها السلام، حيث قال في صفتها : وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ، وَكَانَتْ مِنَ القننِينَ ) (۲) وما ضَلَّ مَن ضل وانحرف من انحرف إلا بسوء التأويل. نعوذ بالله من ذلك . هذا ما (٢)

تضمنه اعتقادهم .

وأما أحوالهم فهي الصدق، والتصديق، والاتباع ، وتَرْكُ ،الابتداع، وبذل الجهد، والاعتراف بالتقصير والتوكل ،والتسليم والافتقار والتعظيم وبذل النصيحة دون غش والتواضع دون تماوت، والتراحم ،والإشفاق والإيثار والإحسان والتواد بينهم والتعاطف بمقتضى الإيمان

كما وصفهم الله ، عزّ وجلّ، في التنزيل أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (۳) فهذا بعضُ أحوالهم

وعقيدتهم على ما تقدم .

فإن اتبعتهم كنتَ معهم لقوله عليه السلام أنتَ) مع من أحببت) (٤) فإن المحبة تقتضي الاتباع والحب بغير اتباع دعوى بغير حقيقة، لأن المحب لمن يحب مطيع ، يشهد لذلك قوله،

(۱) قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما :أوله : بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا

(۲) سورة التحريم من الاية ۱۲ .

(۳) سورة الفتح، من الاية ٢٩ .

(٤) أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم في كتاب البِرّ من حديث أنس رضي الله عنه .

عليه السلام: (لا يختلِسُ الخَلْسَةَ حين يختلسها وهو مؤمنٌ ، ولا يزني الزاني حين يزني وهو

مؤمن) (۱) لأن حقيقة الإيمان تقتضي الاتباع والتسليم

والمخالفة لا تكون إلا من أحد قسمين: إما من ضعف في الإيمان، أو عاهة تأتي عليه فإن وقعت منك مخالفة في بعض أحوالهم فحافظ على اعتقادهم واحذر من وقوع الخلل فيه، لأن المخالفة في الحال والاعتقاد قطعُ بينك وبينهم وسلامة الاعتقاد مع الخلل في الحال كَسْر ، والكسر قد ينجبر، والقطع لا يلتئم يشهد لذلك الحديث الذي نحن بسبيله، لأنه عليه السلام طلب البيعة أولاً على حقيقة التوحيد على ألا يشركوا بالله شيئاً، و (شيء) ينطلق على ما تقدم البحث في عموم لفظه ، وألا يأتوا من المحرمات شيئاً، فإن وقع شيءٌ مما حُرّم ، فوقع الحَدّ لأجله ، كانت الحدود تطهيراً للمحدود، وجبراً لكَسْره ، وإن لم يُحَدَّ بقي في المشيئة، إن شاء عزّ وجلّ، عذبه ، وإن شاء عفا عنه . وفي حقيقة الإيمان لم يُعْطِ عليه السلام فيه فترة ولا عذراً . ثم نرجع الآن

لتتبع ألفاظ الحديث .

الوجه الثالث : (٢)

قوله عليه السلام) ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم إنما نَصَ

عليه السلام على هذه الثلاثة لشناعتها وقبحها لأنها من الكبائر بالإجماع .

الوجه الرابع : لقائل أن يقول : لم ،خص عليه السلام بالقتل ،البنين دون غيرهم وقد جاء النهي عن القتل مطلقاً، ولم يفرّق فيه بين الصغير والكبير؟ والجواب من وجوه :(الأول) : أن العرب كانت تتهاون بقتل أولادها ، لما ذكر في الْمَوْؤودة، وغيرها ، فخصص عليه السلام ذكرهم تأكيداً في شأنهم حتى لا يفعلوا ذلك . (الثاني) أن الصغير لا يدفع عن نفسه فازداد لذلك التحريض في حقه . (الثالث) : أنه قد يحمل بعض الناس قلة ذات اليد إلى قتل الولد ، وقد نص عزّ وجلّ على ذلك في كتابه فقال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إمْلَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (۳) ذلك تأكيداً في حق الأولاد، ولكي يُعلم أن الله هو الذي يرزق الصغير والكبير، فلا يتعلق بهم . الوجه الخامس ،قوله عليه السلام (ولا) تأتوا .ببهتان البهتان على نوعين : بهتان من طريق المباهتة وهي الموافقة للشخص في وجهه حتى يَبْهَتَهُ والنوع الثاني : هو ذِكْر شيء لم يقع منه،

أنه قد وقع .

(1) أخرجه البخاري في المظالم ومسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (۲) هذا الوجه تابع لتفسير حديث البيعة الأساسي، فَلْيُنْتَبَة.

فنهى عن

(۳) سورة الأنعام من الآية .۱۵۱

الوجه السادس ،قوله عليه السلام : تفترونه بين أيديكم وأرجلكم هذا اللفظ يحتمل وجهين: أحدهما أن يُحمل على ظاهره والثاني يحتمل أن يكون المراد به معنى ثانياً غير الظاهر . فإن كان الأول فيكون المراد بما بين الأيدي الرأس وما فيه من الجوارح، والصدر وما فيه وهو القلب، ويكون المراد بما بين الأرجل ما بينهما من الجوارح وهو الفَرْج . فكل مَن ذَكَر عن جارحة من هذه الجوارح المذكورة فعلاً أو قولاً أو اعتقاداً لم يقع فقد بَهَت (۱) المقول عنه ، لقوله : عليه السلام، حين سئل عن الغيبة فقال : (أن) تقول في المرءِ ما يكره. قيل : وإن كان حقًّا؟ قال : تلك الغيبة، وإن كان باطلا فهو البهتان) (٢)

وإن كان الثاني - وهو أن يكون المراد به معنى ثانياً غير الظاهر - فهو يحتمل وجوهاً :

(الوجه الأول: أن يكون ذلك كناية عن الدنيا وعن الآخرة، كما قال المفسرون في قوله تعالى: ﴿ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ (۳) قالوا : ذلك كناية عن الدنيا وعن الآخرة. فالأرجل: الدنيا، لقوله تعالى: ﴿ وَأَخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) (٤) . قيل أخذوا من تحت أرجلهم، والدنيا هي أقرب المنازل . فكنَى بالأرجل عنها لقربها ، وكَنَى بالأيدي عن الآخرة لأنها بعد الدنيا .

(الثاني) أن يكون المراد بذلك الباطن والظاهر فما بين الأيدي هو القلب، وكنى به عن الباطن، وما بين الأرجل هو التخطي، وهو فعل ظاهر قال تعالى في كتابه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) (٥)

(الثالث) أن يكون المراد بما بين الأيدي الحال، والمراد بما بين الأرجل الماضي والمستقبل، لأن ما بين الأيدي ،حال، إذ إنه لا يحتاج فيه لحركة، وما بين الأرجل يكون من وجهين ماض أو مستقبل، لأنه لا يتأتى إلا بالسعي والسعي إما أن يكون قد وقع أو مستأنف . فمنع عليه السلام هذه الثلاثة الماضي والمستقبل والحال .

(الرابع) أن يكون المراد بما بين الأيدي ما يكون من كسب العبد ،بافترائه، والمراد بما بين الأرجل ما يكون من افتراء غيره لأن فائدة الأرجل، كما تقدم ليس فيها إلا النقل والتخطي . فإذا

وقع الاشتقاق جاز التأويل عليه من وجه ما .

(١) بَهَت فلاناً بهتاً وبَهتَةً وبُهتاناً قذفه بالباطل.

(٢) أخرجه مسلم في البر والصلة والترمذي عن أبي هريرة رضي الله . عنه .

(۳) سورة فصلت من الآية ١٤ .

(٤) سورة سبأ، من الآية ٥١ . (٥) سورة الأعراف من الآية ۳۳ .

وقد يحتمل أن يكون المراد جميع ما ذكرناه وأكثر منه، مع أن ما ذكرناه هنا منصوص على

منعه في غير ما اية وغيرِ ما حديث، فيجب الحذر عن كل ما تأولناه هنا، فيكون هذا اللفظ من الشارع عليه السلام من بديع الفصاحة والبلاغة، إذ إنه أتى بلفظ يسير يحوي معاني كثيرة. وقد أجمل، عليه السلام ذلك كله وزاد عليه في حديث آخر حيث قال : أتَّق) محارم الله تكنْ أعْبَدَ الناس وكل ما ذكرناه من جملة المحارم .

الوجه السابع ،قوله عليه السلام (ولا) تَعصُوا في (معروف) هذا أيضاً من أفصح الكلام وأبدَعِه ، لأنه ، عليه السلام جمع فيه المعروف كله شرعاً وعقلاً واجباً وندباً، فكان ذلك تصديقاً لقوله عليه السلام: (بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق) (۲). ومكارم الأخلاق مما عرفت حُسنها شرعاً

وطبعاً. فبهاتين الصفتين - أعني تَرْكَ ما تقدم النهي عنه ، وامتثال ما ندب إليه هنا - تمّت البيعة .

ولا يُتوهم أن البيعة كانت لأولئك لا لغيرهم، بل هي لكل من دخل في الإسلام، أو ولد فيه إلى يوم القيامة. قال، عزّ وجلّ ، في محكم التنزيل لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (۳) ولا فرق في ذلك بين الكتاب والسنة ، لأن الإنذار بهما معاً على حد سواء إلى يوم القيامة. فمن ترك شيئاً مما ذكر فقد نكث في البيعة ونكثه بقدر ما ترك . فليراجع نفسه قبل التلف .

الوجه الثامن ،قوله عليه السلام : فمن وَفَّى منكم فأَجْرُهُ على الله يريد من وفى منكم ، على مقتضى ما ذكرناه ولقائل أن يقول : لِمَ أَبْهَمَ عليه السلام هنا الأجر ولم يَحُدَّهُ؟ والجواب : أنه إنما أبهم عليه السلام هذا الأجر للعلم به وشهرته ،لأنه عليه السلام قد حده في غيرِ ما موضع، وقد حده عزّ وجلّ في غير ما موضع أيضاً منها حديث معاذ حيث قال له عليه السلام : وهل تدري ما حقُّ الله على عباده، وما حقُّ العبادِ على الله ؟ فقال : الله ورسوله أعلَمُ . فقال : حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئاً، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذَّب من لا يشرك به شيئاً، وإذا لم يعذبهم فقد دخلوا الجنة ) (٤) ، لأنه ليس هناك غير الدارَيْنِ : الجنة والنار. ومنها قوله عليه السلام (الإيمان إيمانان) (٥) . وقد تقدم معناه في الحديث قبل هذا، ومنها قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَيْكَةُ أَلَّا

(1) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه. (٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في حُسن الخلق . وهو حديث صحيح. (۳) سورة الأنعام من الآية .۱۹ .

(٤) حديث متفق عليه .

(٥) لم نعرف مصدره.

تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (۱) . والاستقامة هي بمقتضى

الحديث الذي نحنُ بسبيله . والآيُ والأحاديثُ في ذلك كثيرة .

الوجه التاسع ،قوله عليه السلام ( ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة وقد تقدم الكلام على ذلك الفصل أولاً في كونه دليلاً على أن الحدود كفارة للذنوب

الوجه العاشر : قوله : ( ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاءَ عفا عنه، وإن شاءَ عاقبه) وهذا أدل دليل على صحة معتَقَدِ أهل السنة، وهو ما قدَّمناه من أن تعليق الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي والمخالفات ليس عِلّة عقلية ولا عِليَّة وإنّما هي عِلَّةٌ شرعية، لأنه لو كان ذلك لِعِلَّةٍ عقلية أو عليَّة لكان يؤاخذ عليها على كل حال في الدنيا أو في الآخرة، فلمّا كان ذلك تعبداً شرعاً كان العبد تحت المشيئة، فإن شاء عزّ وجلّ، أخذاً أخَذَه بالعدل، وإن شاء ،عفواً

عفا عنه بالفضل .

عنه ،

الوجه الحادي عشر : قوله : فبايعناه على ذلك هذا إخبار من عبادة بن الصامت رضي الله بأنهم امتثلوا ما أمرهم النبي و له على تلك الأوصاف المذكورة بالرضا والتسليم. وفائدة إخباره، رضي الله عنه، بذلك إنما هو تحريض لمن يأتي بعد على توفية تلك البيعة، إذ إنها لازمة لمن يأتي بعدهم كما هي لازمة لهم، وفيه من الفقه أن كل ما ندب الإمام إليه لمصلحة من مقتضى الدين أن يُبادر إليه، ولا يُترك ؛ لأنه تجديد لما تقدم لا أنه استئناف أمر ثان وبالله التوفيق.

اللهم اجعلنا ممن وَفَى ببيعة نبيك محمد المصطفى ، ه ، في السر والعلانية، وأذهبت عنه الشكوك والاعتراضات وعافيته من الوساوس والنزعات وسلکت به منهاج أهل السنّة ،والسنن وعدلت به عن طريق الزيغ والزلل، وحميته بعنايتك في الاعتقاد والقول والعمل، واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا ربَّ العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وسلّم تسليماً .

(۱) سورة فصلت الآية ٣٠.

عن

حديث قتال المسلمين

أبي بَكْرَةَ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : إذا التقى المسلمانِ بسَيْفَيْهما فالقاتل والمقتول في النّار). فقلت يا رسول الله هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟ قال : إنه

كان حريصاً على قتل صاحبه .

ظاهر الحديث يدل على لحوق الوعيد بمن اتصف بهاتين الصفتين المذكورتين . والكلام عليه

من وجوه :

الوجه الأول ،قوله عليه السلام إذا التقى المسلمان بسَيْفَيْهِما) هل يُحمّل على العموم أو على الخصوص؟ ظاهر اللفظ العمومُ ، وليس هو كذلك في الحقيقة، وإنما هو محمول على الخصوص. وبيان ذلك أنهما قد يلتقيان بغير قصد، وإذا وقع القتل على هذه الحالة كان قتل خَطَا، والإجماع قائم على سقوط الإثم عن قاتل الخطأ. وقد يكون التقاؤهما على اختلافِ تأويل، فيكون كل منهما تأوَّلَ ، فظهر له في تأويله الحقُّ ، فقاتَلَ على الحق، وإذا كان قتالهما على هذه الحالة لم يتناولهما عموم ،الحديث، ومثل ذلك قتالُ بعض السلف وهم مشهود لهم بالجنَّة، الفريقان معاً. وقد يكون التقاؤهما لتعلُّم الحرب، فتكون الضربةُ خاطئةً فيقع القتل، ولا يقع الوعيد، لأنه خطأ. وقد يكون أحدهما يدفع عن نفسه، والآخر طالب له بالظلم فيتناول الوعيدُ الظالم ولا يتناول الآخر .

ولهذا وجوه عديدة يطول ،تتبعها فبان بهذا أن اللفظ محمول على الخصوص لا على العموم والخصوص هو أن يكون كل واحد منهما قاصداً لقتل صاحبه ظلماً وعدواناً بغير تأويل ولا

شبهة ولا حق .

وهنا تنبيه لمن أتاه لص أو محارب ليسفك دمه، أو يأخذ ماله ألا يقاتله بنية أن يسفك دمه وإنما يقاتله بنيّة أن يدفع عن نفسه وماله فإن خرجت الضربة منه خاطئة فمات بها اللص كان شرَّ

قتيل، وإن قُتِل هو كان شهيداً لقوله عليه السلام) مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد)(۱) . وقد قال الفقهاء في هذا الموضع : إنه إذا كان في سَعَة ناشده الله عزّ وجلّ في الترك، وإن لم يكن في سَعَة دفَع عن نفسه بالنية التي ذكرناها . ثم إذا خرج له بهذه النية، فإن جرحه فلا يجهز عليه، وإن هرب عنه فلا يتبعه، وإن سبقت منه الضربة فمات بها اللص فليس له في سَلْبِه (۲) شيء .

الوجه الثاني : فيه دليل لأهل السنّة في كونهم لا يكفّرون أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنه عليه السلام قال : إذا التقى المسلمان بسَيْفَيْهِما) فسمّاهما (مسلمين) مع ارتكاب هذا الذنب العظيم، ولم يخرجهما عن دائرة الإسلام. الوجه الثالث : لقائل أن يقول : لم ،خص عليه السلام هذا الالتقاء بالسيف دون غيره من الأسلحة؟ والجواب : أن ذلك من باب الخاص، والمراد به العام لأن السيوف كانت في الغالب من عدة العرب، فنبه عليه السلام، بالغالب على الكل، فكل من تلاقى بأي نوع من السلاح المعدّ عادةً للقتل بهذه النية المحذورة يتناوله الحديث. وقد جاء عن الشارع عليه السلام النهي عن أقل من هذا، وهي الإشارة بالحديدة ويؤيد ذلك عموم قوله عزّ وجلّ: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنَا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (۳)

فلم يُخصص آلةٌ من غيرها .

الوجه الرابع : قوله عليه السلام القاتل والمقتول في النار) إثم هذين هل هو واحد ويسمى المقتول قاتلاً ، كما سُمي القاتل قاتلاً ؟ أو ليس إثمهما واحداً؟ وإنما يستوجبان جميعاً دخول

النار بإثمين مختلفين، كما يدخل المؤمن العاصي والكافر ، وليس دخولهما على حد سواء. أما صيغة قوله عليه السلام القاتل والمقتول في النار) فلا يؤخذ منه ،تفرقة وما ذكر عليه السلام، آخر الحديث يقتضي أن لا تفرقة بينهما وهو قوله عليه السلام (إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه لأنه لما سُئِل : (هذا القاتلُ فما بالُ المقتول؟)، لأنهم قد علموا بمقتضى التنزيل أن القاتل محكوم له بالنار، وأن المقتول محكوم له بمغفرة الذنوب لقوله تعالى حكاية عن ولدَيْ ،ادمَ عليه السلام ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوا بِإِثْمِي وَإِيْمَكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاوُا الظَّالِمِينَ ) (٤) فأزال ، عليه السلام الإشكال الذي وقع للصحابة بما تقدم ذكره، فأعلمهم بأنه استوجب ذلك بحرصه وفسادِ

(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه . (۲) السَّلب (بفتح السين واللام ما على القتيل من سلاح ونحوه ومنه الحديث من قتل قتيلاً فله سَلبه وهو التنفيل من الإمام لحث الجند.

(۳) سورة النساء ، الآية ٩٣ .

(٤) سورة المائدة من الآية .۲۹. وقوله التالي فأزال» جواب لمّا» في قوله : لأنّه لمّا سُئِل .

نيته، ولأن الحرص عمل، ويتضمنه فساد النية . فقد تساوى المقتول مع القاتل في هاتين الصفتين لأن ما في قوة البشر قد عمله كل واحدٍ منهما، وإبقاء عمر أحدهما وإنفاذ عمر الآخر ليس من قوة البشر ، ولأنه قد خَتَم عمره بالحرص على قتل مسلم.

وقد قال عليه السلام: (إن) الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسقُ عليه كتابه ، فيعمَلُ بِعَمَلِ أهل النار ) (۱) ، ولأن الشريعة قد شدّدت في القتل حيث جعلت أقل الأجزاء منه كالفعل كله وهو أنه إذا اجتمع جماعة على قتل واحد وتَوَلَّى القتل واحد منهم، ولم يحصل من الكل إلا المساعدة بالحضور، فالكل عند الشرع ،قاتلون يجب قتلهم عن آخرهم. فإذا كان هذا في حق من حضر، ولم يحصل منه غير ذلك، فَنَاهِيكَ به فيمن حضر وحَرَصَ واجتهد . وقد جاء في القتل ما هو أشد من هذا كله وهو قوله عليه السلام: (مَن أعان على قتل مسلم ولو بشَطر كلمةٍ جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب : يائس من رحمة الله (۲) . فإذا كان هذا المُعينَ بشطرِ كلمةٍ فمن باب أَوْلَى مَن جَمع ثَلاثاً، وهي غاية ما يمكن من قوة البشر وهي الحضور والحرص والاجتهاد. فبان بهذه العلة التي أعطاها عليه السلام أنه لا يبوء القاتل بإثم صاحبه إلا إذا كان صاحبه لم يَنْوِ لَهُ نيّةً فاسدة، ولم يَسعَ له في ضَرر ، فلما كانت نية هذا أو عمله فاسدَينِ استوى مع صاحبه في دخول النار كما تقدم.

الوجه الخامس : فيه دليل على أن بعض العصاة من هذه الأمة يدخلون النار لأنه عليه السلام، سمّاهما مسلمين، وأخبر بأنّهما يدخلان النار . وقد زاد عليه السلام هذا بياناً وإيضاحاً في حديث آخر حيث قال : (الإيمان إيمانان) (۳). وقد بيّنا معنى ذلك حين أوردناه في الحديث المتقدم، وهو حديث المحبة في الله والبغض في الله (٤) .

الوجه السادس : إخباره عليه السلام عن القاتل بدخوله النار هل المراد به التأبيد تاب أو تُصَّ منه، أو في الحال، فإن تاب أو اقتص منه ارتفع الإثم عنه ، ولم يدخل النار؟

قد اختلف العلماء في توبة ،القاتل فمن قائل يقول : ليس له توبة، وهو ابن عباس وزيد بن ثابت في أحد قوليهما، ومن قائل يقول له توبة وهو المشهور ، وهو مذهب أهل السنّة واحتج

(۱) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . (۲) عزاه في الجامع الصغير إلى ابن ماجه في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه . قال في فيض القدير ٧٢/٦: قال ابن حجر كما قال المنذري : ضعيف جداً. ونقل عن ابن الجوزي تبعاً لأبي حاتم في العلل : إنه باطل موضوع .

والله أعلم . ورواه الإمام أحمد في المسند.

(۳) سبق القول : لم نعرف مصدره . كذا، وسمّاه هناك : حديث حلاوة الإيمان .

المانعون بقوله تعالى: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) (۱) ، واحتج أهل السنة بالآي والحديث . أما الآي فقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحًا فَأُولَتَبكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (۲) فاستثنى ، عزّ وجلّ،

التائبين من غيرهم. وتأولوا ما احتج به الأولون بأن قالوا ذلك جزاؤه إن جازاه . وأما الحديث فقوله عليه السلام: (التوبة تَجُبُّ ما قبلها ) (۳) وهذا اللفظ يعمّ القتل وغيره. فمن أخرج القتل من تحت هذا العموم يحتاج إلى دليل وقد كان بعض العلماء إذا سئل : هل للقاتل من توبة؟ ينظر في حال السائل، فإن ظهر له عليه أمارات الندم قال له ،توبة وإن ظهرت له عليه الشراهة وإرادة الإقدام على القتل قال : لا توبة له فبلغ ذلك بعض الفضلاء من العلماء فاستحسنه هذا ما تضمنه اختلافهم في التوبة .

وأما القصاص فقد اختلفوا فيه أيضاً. فمن قائل يقول : بأن القصاص لا يرفع الإثم، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يَتأُولِي الْأَلْبَابِ ) (٤) فقالوا : إنّما جُعل القصاص مصلحةً للناس وردع بعضهم عن بعض، والمقتول المظلوم حقه باق يأخذه يوم القيامة. ومن قائل يقول: يرفع الإثم إذا وقع القصاص، واحتجوا بالحديث الذي تقدم قبل هذا وهو نص في الباب، وهذا هو الحق الذي لا خفاء فيه، لقوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (۹) وهو عليه السلام، أعلم بمقتضى الآية من المتأولين فيها (٦) .

الوجه السابع : إخباره عليه السلام عن المقتول أنه في النار . هل ذلك على التأبيد أو له

(1) سورة النساء ، الآية ٩٣ .

(۲) سورة الفرقان ، الايات ٦٨ - ٧٠ .

(۳) تجبّ : من جَبَّ يجُبْ جَبَّا تقطع وتمحو ما كان قبلها من الكفر والذنوب ولعل ما أورده المؤلف رحمه الله معنى الحديث أورده مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه . والرواية المشهورة الإسلام يَجُبّ ما قبله.

(٤) سورة البقرة من الآية .۱۷۹

(5) سورة النحل، من الآية ٤٤

(٦) سقطت الفقرة هذه من نسختي حلب وباريس وجاء فيهما بدلاً منها: وفي قول آخر : وأما من اقتص منه فهو غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعاً على مقتضى حديث عُبادة، فإن لم يُقتص منه ولم يتب فهو في المشيئة عند أهل السنة

الخروج منها بعد ذلك؟ محتمل للوجهين معاً. ومثله القاتل أيضاً إن مات قبل التوبة أو القصاص لما في هذين الأمرين من الخطر، وهو أن يتردد كل واحد منهما بين أمرين :

(أحدهما) : فيه ما ذكرنا من الخطر والخوف الشديد، وهو المقتول هل يُخلَّد في النار أو لا يخلد؟ والقاتل مثله في ذلك الخطر العظيم، إن مات قبل أن يتوب أو يقتص منه

(وثانيهما): ما في القاتل من الخلاف إذا تاب أو اقتص منه هل يكون ذلك مانعاً له من دخول النار أم لا؟ على ما بيناه وكل واحد منهما عند الشرع محتمل لأحد الموضعين المذكورين. . فلأجل هذا ، أخبر عليه السلام بذلك ليكون ردعاً وزجراً .

الوجه الثامن : الظالم والمظلوم هل يلحقان بالقاتل والمقتول - أعني في الإثم - وأما التخليد

فلا إذا قصد كل واحد منهما ظلم صاحبه أم لا؟

أما الظلم فليس يشبه القتل من كل الجهات، لأن الظلم على نوعين حسي ومعنوي فالحسّي منه ما كان في الدماء والأموال والأعراض كما نص عليه السلام في حجة الوداع فالدماء قد تقدم الكلام عليها ، والظلم في الأموال لا يلتحق بما تقدم - وهو القاتل والمقتول - لأنا لا نقول للثاني (ظالماً) إلا من جهة التجنيس كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ (۱) فالسيئة الثانية ليست بسيّئة حقيقية وإنما هي قصاص فسميت (سيئة) من جهة المجانسة، وهو من فصيح الكلام. وفي كيفية انتصاف الثاني من الأول نتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وبقي الكلام هنا على الظلم المعنوي، وهو المناسب للموضع وهو على قسمين نية بلا عمل ولا تسبّب ونية بعمل وتسبّب . فالذي هو نية بلا عمل ولا تسبب فهو مثل البغي والحسد والبغض وما أشبه ذلك من النيات السُّوءِ المحذورة شرعاً لقوله عليه السلام: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تَدابَروا، وكونوا عبادَ الله إخوانا) (٢) . فهذا وما أشبهه ليس كالأعراض والأموال يتحاسبان فمن فضل له عند صاحبه شيء اقتص منه. وإنما مثل ذلك القاتل والمقتول وأنهما يعذبان معاً، ولا ينقص عذاب أحدهما من عذاب الآخر شيئاً، لأن أمور الباطن في الشر والخير أشد من الظاهر ، ولذلك قال عليه السلام (إن في الجسد مُضغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي

(۱) سورة الشورى من الآية ٤٠ . الله عنه (۲) متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي

كان المقتول حريصاً على قتل صاحبه، وجرت مؤاخذته على نيته بلا عمل قام به، ولم ينفذ نيته لعذر ر قاهرِ لا

خيار له فيه فكان كالقاتل نيّة وفعلا .

القلب) (۱) . وليس المراد بالقلب هنا : الجارحة، وإنّما المراد ما يكون في القلب . يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ،قوله عليه السلام لابن عبّاس إن قدرت أن تمسي وتصبح وليس في قلبك غِش لأحدٍ فافعل، ثم قال له : يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنّتي فكأنما أحياني، ومن أحياني كان له ما جَنى)(۳) ، وقال في الجنة)(۲)، وقال عليه السلام: (من أصبح وأمسى لا ينوي ظُلم أحدٍ غُفر له ما (جَنى

ن معي

عليه السلام في ضده : (من غشنا فليس منا) (4) ، و (مَنْ ضارّ بمسلم ضار الله به ، ومن مَكَرَ بمسلم مَكَرَ الله به) (٥) ، والآي والأحاديث في ذلك كثيرة . وأما الذي هو النية والعمل فهو مثل قطيعة الرحم ، لأنهما إذا تقاطعا معاً لا ينقص كل واحد منهما من الوعيد الذي توعد على ذلك شيئاً، ولا عذر له أن قاطعه غيره ،قبله لقوله عليه السلام (وأن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ) (٦) ، ولإخباره ، عليه السلام) : بأن الله عزّ وجلّ لمّا أن خلق الخلق قالت الرَّحم : يا ربّ هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : أما ترضين أن أصِلَ مَن وصلك، وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب . قال : فهو لَكِ) (٧) .

وأما الذي هو بالنية والتسبب فهو مثل الذي يسعى لشخص في خديعة أو مكر أو ما يضره وإن لم يصل إليه ما قصده من الأذى، لأن نيته الفاسدة وتسببه فيما فيه الأذى لمسلم ممنوعان معاً ، وصل ذلك أم لم يصل، وكان مثل من تقدم لا ينقص من ظلم أحدهما للاخر شيء، لأن كل واحد

(۱) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه . وأوله : الحلال بيّن والحرام بيّن . (٢) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه وقال : هذا حديث حسن غريب . وكلمة يا بني) مراد بها أنس وليس ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً، وليس كما أوهم كلام المؤلف رحمه الله من أن المراد ابن عباس .

(۳) رواه السيوطي في الجامع الصغير، ونقل المناوي أن الحافظ العراقي ضعفه ولفظه : من أصبح وهو لا يهم ظلم

أحد غفر له ما اجترم. (٤) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان . (٥) ورد هذا المعنى في أحاديث مختلفة، منها ما رواه الترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به، وما رواه الإمام أحمد عن أبي صرمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ ضارَّ ضار الله

به، ومن شاق شاق الله عليه) .

(٦) مؤلف من عدة أحاديث، منها ما رواه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه لقي النبي الله فأخذت بيده فقلت : يا رسول الله ، أخبرني بفواضل الأعمال فقال : يا عقبة صِلْ مَن قَطَعك، وأعطِ مَن حرمك، واعفُ عمّن ظلمك . وما رواه الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا أدلك

على أكرم الأخلاق في الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وأن تعفو عمن ظلمك (۷) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : نعم . أما تَرْضَيْنَ أن َأصِلَ من وصلك، وأقطعَ من قطعكِ؟ قالت: بلى . قال : فذلك لك . ثم قال رسول الله اقرؤوا إن شتتم : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ. أَوَلَيْكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ )

منهما قد سعى في ظهر الغيب لأخيه فيما منع شرعاً من نية فاسدة وتسبب فاسد ولأجل هذا كان الفضلاء من أهل العلم والعمل الذين رزقوا نور البصيرة لم يبغضوا أهل المعاصي والمخالفات لذواتهم، وإنما أبغضوا منهم تلك الأفعال التي نهى الشرع عنها وذمها، وأشفقوا عليهم لما به ابتلوا من سابق القدر عليهم وخافوا على أنفسهم لاحتمال تعدي الأمر إليهم، فكانوا بين بغض لأجل ما به أمروا، وإشفاق لأجل ما به طبعوا وخوف من ممكن يتوقعون، وكفى بذلك تنبيهاً قوله تعالى : وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) (۱) أي لا يحملكم ما جبلتم عليه من رأفة الإيمان على أن تضيعوا ما كُلفتم به من توفية الحدود والله الموفق .

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً .

(۱) سورة النور، من الآية ۲ .

حديث قيام ليلة القدر

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يقُم ليلَة القَدْرِ ، إيماناً

واحتساباً غُفِرَ لهُ ما تقدّم مِن ذَنبِهِ.

ظاهر الحديث يدل على فضيلة ليلة القدر والكلام عليه من وجوه

الوجه الأول : قوله عليه السلام (من) يقم هذا القيام يحتمل أن يكون المراد به العموم، ويحتمل أن يكون المراد به الخصوص. فإذا كان المراد به العموم فهو قيام الليل كله وإن كان المراد به الخصوص، فهو محتمل لوجهين أيضاً : (أحدهما ) : أن يكون المراد قيام أول الليل بعد صلاة العشاء تشبهاً بقيام رمضان. (الثاني): أن يكون المراد اخر الليل الذي هو التهجد وكنى عنه بالقيام توسعة، ومنه قوله تعالى: ﴿ قُ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا ) (۱) . والمراد به التهجد، لأن النبي ، لا الهلال بعدما أُنزلت هذه الآية عليه إنما كان قيامه بعد النوم، وهو التهجد، لغةً. وكل هذه الأوجه محتملة لما نحن بسبيله، وأظهرها - والله أعلم - القيام بعد النوم الذي هو : التهجد ، لأن النبي ، ، أَخَذ به، ، ، عمله عليه، ولا يأخذ ، إلا بما هو الأفضل والأولى والأرجح ، ولو كان غير ذلك أفضل لكان ، فعله وترك المفضول .

واستقر

الوجه الثاني : قيام النبي ، ا ، كان مما ثَبت عنه الإحدى عشرة ركعةً أو الثلاثَ عشرة ركعةً ، على اختلاف الروايات، وأنه لم يزد عليها في رمضان ولا في غيره هل ذلك أقل ما يجزىء من القيام في ليلة القدر ، أو هو النهاية في الإجزاء فيها؟ الظاهر أن ذلك هو نهاية الإجزاء فيها، والدليل على ذلك من وجهين : الأول : أنه لا الله و إنما يأخذ في حق نفسه المكرمة بالأعلى والأرجح ولا

(1) سورة المزمل، الآية ٢

اخر

يترك شيئاً من ذلك ويأخذ بالأقل. (الثاني): ما روي عنه عليه السلام أنه قال: من قام بالآيتين من سورة البقرة كَفتاه) (۱) ، وفي رواية: (من آخر سورة آل عمران) (۲) . ومعنى (كفتاه) أي : أجزأتاه عن قيام الليل وسمّي بهما متهجداً. وإذا قلنا : إنه حصل له التهجد الذي كنى به عن القيام فقد حصل له بهما ما يفضل على ألف شهر، ليس فيه ليلة القدر ، لقوله تعالى : ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ

فإن قال قائل : كيف يكون إحدى عشرة ركعة أو ثلاثَ عشرة ركعة تناهياً في الإجزاء والكمال، وقد يزيد الإنسان في ذلك فيقوم الليل كله ومن قام الليل كله كيف يكون من قام بالإحدى عشرة ركعة أفضل منه ؟ قيل له من قام بالإحدى عشرة ركعة أو الثلاثَ عشرةَ ركعة أفضل ممن قام الليل كله، بدليل حديث عبد الله بن عمرو . والكلام على هذا السؤال يأتي في الكلام عليه ، إن شاء الله، فمن أراد فليقف عليه هناك .

فإن قال قائل : قد يقوم المرء بالآيتين المذكورتين في ركعات جملة، يردّدها (٤) ، وإذا كان كذلك فلا يسوغ أن تكون ركعتان لا ،غير تجزئان عنه قيل له: لو كان المراد ذلك لنص الورد

(4)'

اية

عليه ، وَلَبيَّنَهُ ، كما فعل ذلك في ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ (٥) فقال : يكررها كذا كذا مرة، وكذلك في الكرسي، وفي سورة ليلة القدر (٦) ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي جاءت بالنص في التكرار فلما سكت هنا عن ذكر التكرار حكم بأنه لم يُرِده، مع أنه قد استمر فعل الصحابة رضي الله عنهم، على ما قررناه لأنهم لا يقولون : قام فلان بكذا إلا حيث انتهت قراءته من غير تكرار يكررها في الركعة الثانية، ولأن النبي ، و لا لا اله ، وخص هذا التهجد، الذي هو القيام وقال : من قام بعشر ايات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة اية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المُقنْطِرِين ) ( ) . فلو كان عليه السلام يعني بهاتين الآيتين التكرار لنصّ عليه كما نص عليه في الأحاديث التي أوردناها، ولأن عمله ، الله لو كان على الوجه الذي ذكرناه أبداً لا يتحول عنه ، وهو عدم التكرار

(1) أخرجه البخاري ومسلم (والرواية : من قرأ ولم ترد (من) (قام (۲) أخرجه الدارمي في السنن ۳۲۵/۲ بلفظ : من قرأ آخر آل عمران في ليلة كُتب له قيام ليله. وإسناده ضعيف .

(۳) سورة القدر، الآية ..

(٤) أي : لا ينال ثواب التهجد من قرأ هاتين الآيتين في ركعتين لا في ركعات - حسب نص الحديث . سورة الإخلاص، الآية ا... (1) آية الكرسي هي : ( اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...) وهي في (سورة البقرة، الآية (٢٥٥). وسورة ليلة (٦) القدر هي : ( إِنَّا أَنزَلْتَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .... الخ . (۷) أخرجه أبو داود وصححه ابن حبّان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه . و (المقنطر) هو من يملك الأموال الكثيرة المكدّسة .

على ما نقل عنه في الصحيح، إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى : ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾ (١) فنقل ، عنه ، ، ، و لأنه مر بها ليلة في تهجده، فجعل يردّدها حتى طلع الفجر، فعبروا عنها بالتردد ولم يعبروا عنها بالقيام والتكرار فصح ما ذكرناه

فإذا

صح ذلك فيه يتبين قدر فضل ذلك النبي ، ا ا ا ا و و و و ومرتبته عند ربه، وقدر منة الله تعالى على هذه الأمة وبسببه ،لأنه عزّ وجلّ جعل لهم في التهجد بهاتين الركعتين ثواباً أفضل من ثواب عمل ألف شهر في أشق ،العبادات وهو الجهاد على ما يأتي ،بعد ومبلغها ثلاثون ألفاً من الأيام وثلاثون ألفاً من الليالي فمجموعها ستون ألفاً من الدهر أوزعنا (۳) الله وإياكم شكر نعمته وجعلنا من أهلها، وأعاننا عليها بمنّه . ومثل هذا من الفضل والمنّ على هذه الأمة - جَعَلنا الله من صالحيها بلا محنة - قوله تعالى : وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) (۳) وقوله تعالى: لَين شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (٤) فضَمِن عزّ وجلّ، بالشكر مَزيدَ النَّعَم ، ثم قال النبي : من قال كلما أصبَحَ وأمسَى : أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم كلُّ ما أصبَحَتْ بي من نعمة، أو أمسَتْ بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ، ولك الشكرُ . فقد أدى شكر جميعِ نعم الله عليه)(٥) . فانظر إلى هذا الفضل العميم، كيف رضي عزّ وجلّ منا بهذا اللفظ اليسير عن شكر نِعَمٍ لا تُحصى ، وضَمِن

لنا به المزيد

الوجه الثالث : هل قيامها أفضل من قيام كل ليلة - ليلة من ألف شهر على انفراد الليالي - أو قيامها أفضل من مجموع قيام الألف شهر ؟ محتمل لوجهين معاً. والأظهر أنها أفضل من مجموع قيام الألف شهر، لأن به يحصل المقصود الذي من أجله أنزلت وهو التسلّي للنبي ، ، كما سيأتي بعد. وعلى هذا جمهور العلماء .

الوجه الرابع بعض العمل فيها هل يفضل جميع العمل في جميع تلك الليالي، وإن كان العمل في تلك الليالي متحداً أكثر من هذا العمل أم لا يفضل ذلك إلا إذا تساويا في العمل؟ ومثال

(۱) سورة المائدة، من الآية ۱۱۸ . (٢) أوزعنا الله : أَلْهَمَنا وأولَعَنا. (۳) سورة إبراهيم من الاية ٣٤ . (٤) سورة إبراهيم من الاية ٧ .

(٥) حديث مروتي ،بالمعنى، رواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن غنام رضي الله عنه . ولفظه : مَن قال حين صبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد والشكر ، فقد

أدى شكر يومه. ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته .

الأول : مَن صَلّى في هذه الليلة كانت له ألف حسنة، ومن صلى في تلك الليالي كانت له في كل ليلة مائة حسنة، فكانت الصلاة في هذه الليلة تَفضُل كلُّ ليلةٍ منها ليلةً من تلك بتسعة أعشار الثواب . ومثال الثاني : من صلى في هذه الليلة المذكورة ركعتين واخر صلى في كل ليلة من تلك الليالي ركعتين، وليالي تلك الألف شهر ثلاثون ألف ليلة وإيقاع ركعتين في كل ليلة منها تكون بستين ألف ركعة، فتكون هاتان الركعتان الواقعتان في هذه الليلة المذكورة تفضل تلك الستين ألفاً لا غير. ومن زاد على ذلك فلا تفضله هاتان الركعتان .

أما من جهة النظر إلى صيغة اللفظ فهو يعطي العموم، وأما من جهة النظر إلى بساط الحال الذي من أجله أنزلت فليس المقصود به الليالي وحدَها ولا الصلاة وحدها، وإنما المقصود الليالي والأيام، لأنه وقع ذلك على حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر، على ما سيأتي (١) . وحامل السلاح مجاهد، ونوم المجاهد كقيامه ، لإخباره : بأن) نوم المجاهد عبادة، وأن الصائم القائم لا يبلغ أجره) (٢) ، وكفى في ذلك قوله : ( ما أعمال البر في الجهاد إلا كبصقة في بحر ) (۳)

فإذا قلنا : إن العمل بها يفضل العمل في الألف شهر، جميع لياليها وأيامها ، فأي مقدار يكون هذا العمل؟ وما عدده؟ وقد تقدم الكلام عليه في البحث في القيام، هل المراد به الكل أو البعض؟ وإذا كان البعض فهل المراد به أول الليل أو اخره، أو كله ؟ وقد تقدم هذا كله وأثبتنا الراجح من المرجوح ، بفعله ، .

الوجه الخامس : فرائض هذه الليلة هل أجرها يضاعف على أجر فرائض غيرها من الليالي أم لا؟ أما اللفظ فليس فيه ما يدل على الأفضلية في نفس الفرض وأما من جهة النظر والقياس فقد تتطرق الفضيلة للفرض أيضاً قياساً على ما جاء في الأعمال، أنها تضاعف في الأيام الفاضلة والبقع المباركة أما الأيام فهو ما روي في الأشهر الحُرُم ، ورمضان، والأيام

(۱) سيرد بعد عدة صفحات أن رسول الله هو الله أخبر بأن رجلاً كان في بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر، فاستقلّ عليه السلام أعمال أمته لقصر أعمارهم، فسلاه الله بأن أنعم عليه وعلى أمته بأن جعل لهم ليلة

القدر .

(۲) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث معاوية رضي الله عنه بإسناد ضعيف . (3) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث جابر رضي الله عنه بإسناد ضعيف، ورواه الشيخ ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه في مسند الفردوس ٣٩١/٤ برقم ٦٦٦٥ : ما أعمال العباد كلهم عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر . قال محقق المسند: إن الحافظ ابن حجر

قال في تسديد القوس (۲۲۱) : وفي رواية أبي هريرة : إلا كتفلةٍ تفلها رجل في بحر لجي . والله أعلم . (٤) الأشهر الحُرُم : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم ، ورجب. وسميت بـ (الحُرُم) لأن العرب كانوا يحرمون فيها

القتال .

البيض (۱)

(۱) ، وغير ذلك مما جاء به تضعيف الأجر للعامل فيه. وأما البقع فما روي في مكة والمدينة، وبيت المقدس، في تضعيف الأجر فيها. هذا ما هو من جهة القياس، وهو لا يتم، لأن من العلماء من ينازع في هذا ويقول : إن هذه الأمور لا تؤخذ بالقياس، وإنما هي متوقفة على ما نقل عن الشارع ، ولم ينقل عنه في مسألتنا هذه شيء، ولم نجد لذلك دليلاً قطعياً إلا بما أبديناه، والخصم ينازع فيه .

الوجه السادس : من قام في هذه الليلة بأقل من ركعتين هل يحصل له الفضل المذكور، أو بعضه، أو لا يحصل له شيء ؟ أما الفضل كله ،فلا ، لقوله ل له : ((كَفَتاه). فما يكون أقل من ذلك فلا يكفي، وقد تقدم هذا بما فيه كفاية. وبقي هنا الكلام على هل يحصل له البعض أو لا يحصل له شيء ؟ محتمل لهما معاً .

والظاهر من الاحتمالين أن له نصيباً منها بدليل قول ،التابعي رضي الله عنه، وهو سعيد بن المسيب (٢) : من شَهِد العِشاء في جماعة فقد أخذ بحظه منها ، يعني : ليلةَ القَدْر ومعناه : أن صلاة الجماعة بالنسبة إلى الواحد مندوبة فمن شهدها في جماعة فقد أتى مندوباً من جنس الصلاة، فحصل له بهذا المندوب جزء من فضلها لا أنه حصل له فضلها كله ولأجل هذا تحرز التابعي فجعلها عشاء، وجعلها في جماعة . فتحرّز بذكر (العِشاء) من المغرب لأجل أنه قيل إنها وِتْرُ صلاة النهار. وتحرز بقوله ( في جماعة) خيفة أن يصلي أحد العِشاء منفرداً فيقول : قد أخذت بحظي منها، وهو لم يأت إلا بالفرض . وليس المطلوب في هذه الليلة ذلك، وإنما المطلوب التنفل بالصلاة عدا الفرائض، كما تقدم في الاحتمال هل أولاً ، أو آخراً، أو كلاً ؟ فقول التابعي هنا محمول على أحد الاحتمالات المذكورة بأقل ما يمكن من العمل . وإذا حكم له التابعي بأنه قد أخذ بحظه منها، وهو لم يزد على الفرض شيئاً خارجاً عنه، فمن باب أولى أن يقول فيمن زاد على الفرض ركعة إنه أخذ بحظه منها ، إذ إنه أتى بالنفل من الصلاة، عدا الفرض .

الوجه السابع : فيه دليل على أن الصلاة في هذه الليلة هي المطلوبة، وأن غيرها من أفعال البر لا يجزىء عنها، لأنه لو فهم التابعي رضي الله عنه جواز غير ما هو متن ،الحديث أعني في تضعيف الأجر ، لذكر غيرها من الطاعات، وقال : قد أخذ بحظه منها .

(۱) الأيام البيض : هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري . وقيل : سميت بذلك لأنه لمّا عمّ النور لياليها ناسب أن تعم العبادة نهارها وأصل التسمية : أي أيام الليالي البيض لوجود القمر طوال الليل (۲) سعيد بن المسيب سيد ،التابعين وأحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة. جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع . توفي سنة ٩٤هـ / ۷۱۳م .

الوجه الثامن فيه دليل على فضل الصلاة لهذه الأمة على غيرها من أفعال الطاعات، إذ إنّ ركعتين نافلة في هذه الليلة تَفضُلُ عملَ ألفِ شهر يُحمَل فيها السلاح في سبيل الله ، على ما سيأتي

بعد .

الوجه التاسع : قوله عليه السلام ( ليلة القدر) هذه الليلة سميت بهذا الاسم هل لحكمة فيها تقتضي تسميتها بذلك أم ذلك تعَبُّد؟ الظاهر أن ذلك مشتق مما قدّر فيها من الأحكام، لأنه قيل : إن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في السنة كلها. ومعنى التقدير هنا : إبرازه للملائكة وإعلامهم بما يفعلون في جميع السنة . وقيل : سميت ليلة القدر لعظم قدرها لأن فيها ،أنزل عزّ وجلّ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وفيها قدَّر هذا الأمر العظيم، ولأجل عِظَم قدرها ، وعِظَم ما قَدَّر فيها قال الله تعالى في تعظيمها و خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ (١) كما تقدم ﴿

الوجه العاشر : هل هي باقية أو رفعت؟ قد اختلف العلماء في ذلك فمن قائل يقول برفعها، واحتجوا بأن قالوا : كانت من خصائص النبي ، ، ، الله ، ثم رفعت لموته. ومن قائل يقول ببقائها وسلموا بأنها من باب الخصوصية للنبي ، ، ا ا ا ا ل ، لكنهم زادوا بأنهم أدخلوا أمة ، النبي ، ، ل لا ل ، في التخصيص ، وهذا هو الأظهر لوجوه منها ما روي في البساط (۲) الذي لأجله مُنَّ بهذه الليلة، وهو أنه كان ، ، أخبر بأن رجلاً كان في بني إسرائيل حمل السلاح في سبيل الله ألف شهر، فاستقل، عليه السلام، أعمال أمته لقصر أعمارهم، فسلاه الله بأن أنعم عليه وعلى أمته بأن جعل لهم ليلة القدر (۳)

فلو كانت خاصة به دون أمته لَما وقعت التسلية بها عند هذا البساط و (الأمة) تطلق على مَن لحقه، ومن أتى بعده ، ولم يذكر له ، له الله تقاصُرُ عُمُرِ أصحابه، وإنما ذكر أنه تقاصَرَ أعمار أمته، ولأن العلامة التي أخبر بها ، موجودة الآن، وهي ما روي عنه : أن الشمس تطلع في ، صبيحتها بيضاءَ نقيَّةً ، لا شعاعَ لها ) (٤) وكذلك يجدها أهل المراقبة لها إلى هَلَمَّ جَرَّا. هذا منقول من سلف إلى خَلَف، إلى زماننا هذا فلو رفعت لما رؤي من تلك العلامات شيء، ولأنه لم يزل أهل الخير والصلاح من الصدر الأول إلى هَلُمَّ جَرًّا يعاينونها عِياناً ، فبطل القول برفعها مرة واحدة . الوجه الحادي عشر : هل هذه الليلة بنفسها خير من ألف شهر أو العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ؟ محتمل للوجهين معاً. لكن الذي عليه العلماء أن المراد بالأفضلية هو العمل فيها ، وهو الحق الواضح، لأنه لو كان التفضيل فيها نفسها لم يكن في ذلك كبير فائدة، وإنما الفائدة في

(۱) سورة القدر من الآية ٣ . (۲) البساط هنا : هو الحال التي كان عليه السلام فيها المؤدية لهذه النعمة المسببة لها .

(۳) عزاه في الدر المنثور ۳۷۱/٦ لا بن المنذر وابن حاتم والبيهقي في السنن . وهو حديث مرسل . (٤) رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه

تعظيم الأجر فيها كما هي حكمة الله أبداً في تفضيل البقع والأيام، يضاعف في ذلك الأجور للعاملين فيها مِنَّةً على عباده وتعطفاً .

الوجه الثاني عشر : هل هي ليلة معينة لا تتبدل أو هي تدور في ليال عديدة؟ قد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً. فمن قائل يقول : بأنها في رمضان مطلقاً. ومن قائل يقول : بأنها في العشر الأواسط من رمضان والقائلون بهذا اختلفوا في أي ليلة تكون منه . ومن قائل يقول : بأنها في العشر الأواخر من رمضان والقائلون بهذا اختلفوا في أي ليلة تكون منه. ومن قائل يقول : إنها ليلة النصف من شعبان وكل واحد من هؤلاء له مستند صحيح من طريق الاثار ومنهم من قال : بأنها تدور في ، السَّنة كلها استعمالاً لكل الآثار التي جاءت فيها وهو مذهب مالك، رحمه الله ، وبعض السلف . وهذا هو الأظهر (۱) ، والله أعلم إذ إن الأحاديث كلها تجتمع على هذا التوجيه ويعمل بها كل من غير إبطال أحدها . ولا يعترض على هذا بقوله عليه السلام: (أراني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) (۲) فأصبح كذلك ليلة ثلاث وعشرين من ،رمضان لأنا لم نَنفِ أنها في رمضان ولكن نقول : هي تدور فقد تكون في رمضان وقد تكون في غيره، فكانت تلك السنة في تلك الليلة التي أخبر بها .

والحكمة في إخفائها لطف بالأمة ورحمة بهم، لأنها لو كانت معينة لكان من قامها يقع له الاتكال لما وعد فيها من الخير العظيم، فيقع التفريط في الأعمال. وهذا مثل إخفاء الصَّلاة الوسطى وغير ذلك، لكي تقع المحافظة على هذه الأفعال العظيمة، فيحصل للمرء من الثواب ما لا يصفه

الواصفون .

فعلى هذا ينبغي للمرء أن ينوي قيامها أول ليلة من السَّنة . فيقول : إن كانت الليلة ليلة القدر فأنا أقومها إيماناً واحتساباً، وينوي أن يفعل ذلك في كل ليالي السنة، ثم يستصحب قيام ليالي تلك السنة كلها، فإذا أكمل سنة بقيام لياليها من غير أن يُخِلَّ بواحدة منها ، فَيُرْجَى له أن يكون قد صادف الليلة قطعاً، وتجزئه النية الأولى على مذهب مالك (۳) ، رحمه الله ، على أصله في العمل المتتابع،

مثل الصوم وغيره، ولا يجزئه على مذهب الشافعي رحمه الله على أصله هو أيضاً في العمل المتتابع، إلا أن يجدّد نيّة كل ليلة .

(1) يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في فتوحاته المكية : إنني رأيتها في شعبان وفي شهر ربيع وفي ،رمضان وأكثر ما رأيتها في شهر رمضان وفي العشر الأواخر منه، ورأيتها في العشر الوسط من رمضان في غير ليلة ،وتر، وفي الوتر منها. وأنا على يقين أنها تدور في السنة في وتر وشفع من الشهر حاشية ابن عابدين ۱۳۷/۲ .

(۲) متفق عليه .

(۳) النية مرة واحدة تكفي صيام رمضان كله وكذلك نية قيامه أول ليلة من السنة التماساً لليلة القدر في السنة كلها .

الوجه الثالث عشر : قوله عليه السلام: (إيماناً واحتساباً) الإيمان والاحتساب هل هما بمعنى

واحد أو هما صفتان متغايرتان؟ محتمل للوجهين معاً. فإذا قلنا بأنهما بمعنى واحد فهو ظاهر لا خفاء فيه، لأن الإيمان يتضمن الاحتساب إذا كان حقيقياً، فيكون فائدة تأكيده عليه السلام بهذه الصفة التي هي الاحتساب ليفرق بين الإيمان الحقيقي والإيمان الضعيف فيكون الفضل المذكور لا يحصل إلا لمن كانت له الدرجة العليا في الإيمان .

الصفة، وهي

وإذا قلنا بأنهما لمعنيين فهو ظاهر أيضاً لاخفاء فيه، لأن العمل بغير إيمان لا يقبل بالإجماع . فالإيمان شرط في القبول، وإذا حصل الإيمان فبنفس حصول العمل معه يحصل الفضل على عمل ألف شهر كما تقدم وبقي الاحتساب. فإذا حصل كان مقابله مغفرة ما تقدم وهذا جارٍ على قواعد الشريعة وآثارها فمن ذلك قيام رمضان الذي قال فيه : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما بين رمضانَ إلى (رمضان) (۱) . وقيام رمضان فيه الأجر ابتداء، لكن لما أن زاد فيه هذه الاحتساب زيد له بمقابلها مغفرة ما بين رمضان إلى رمضان. ومن ذلك النفقة على العيال التي قال فيها : (إذا أنفق الرجل على أهله ، يحتسبها فهي له صدقة) (۲) ، والنفقة على العيال واجبة وفي عمل الواجب الأجر ، فإذا زاد الاحتساب زيد له في مقابله أجر الصدقة إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو كثير . الوجه الرابع عشر : فيه دليل على أن استصحاب الإيمان مطلوب في جزئيات الأعمال، لأنه، شرط هنا أن يكون قيام هذه الليلة بتصحيح النية فيما ذكر فيه، وقد اختلف العلماء في ذلك . فمن قائل يقول : المطلوب منه عند الشروعِ في الأعمال ، واستحصابه في الأجزاء شرط كمال .

وعلى هذا هم الجمهور.

الوجه الخامس عشر : فيه دليل على أن استحضار الإيمان زيادة فيه، لأن الإيمان قد ثبت أولاً، وإحضاره في النية قام مقام الزيادة

الوجه السادس عشر : فيه دليل على أن مَن لم يَنْوِ ِقيامَ هذه الليلة لم يحصل له الثواب المذكور وإن ،قامها ، لأنه ، شرط أن يكون قيامها بنية الإيمان والاحتساب وذلك لا يتأتى

حتى ينوي .

الوجه السابع عشر : قوله عليه السلام غُفِر له ما تقدم من ذنبه فيه دليل على أن أجلّ

(۱) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما

تقدم من ذنبه ) .

(۲) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .

الثواب على الأعمال المغفرة، لأن المغفرة جعلت ثواباً على قيام هذه الليلة، وقيامها خير من العمل ألف شهر يُحمَل فيها السلاح في سبيل الله على ما تقدم ولأن المغفرة هي الأصل، وهي المنجية من الهلاك، ولو كان من الرحمة ما عسى أن يكون مع عدم المغفرة فالهلاك ممكن. ولأجل ما فيها من هذا المعنى ،خص عزّ وجلّ، نبيه ، بها ، فقال : لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأْخَرَ ) (١) ، ولم يذكر له غير ذلك من الثواب، فدل بالعقل والنقل أن أفضل ما أعطي المرءُ : المغفرة؛ لأنه وإن كثرت الحسنات فهو محتمل للخلاص وضده، كما تقدم، ومن غفر له لم يبق عليه شيء يخاف منه كما تقدم الوجه الثامن عشر : فيه دليل على أن أعلى الأعمال الإيمان لأنه إن حصل قيام هذه الليلة خَلِيَّةً من أنوار الإيمان فيها لم يحصل الثواب المذكور ، فإذا حصل فيها أنوار الإيمان كان جزاء ذلك

أعلى الثواب، وهي المغفرة .

اللهم اجعلنا ممَّن غفرت له في الدارين بلا محنة، إنك جواد كريم .

وصلّى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليماً .

(۱) سورة الفتح من الآية .۲ .

حديث إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ

عن ، أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، ولن يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ . فَسَدَّدوا وقارِبُوا ، وأَبْشِروا، واستعينوا بالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ من الدُّلْجَةِ .

وجوه :

ظاهر الحديث يدل على أن الدين يسر وليس بعسر، وعلى طلب الرفق فيه . والكلام عليه من

الوجه الأول

قوله إن الدِّينَ يُسْرُ ) : هذا اللفظ يحتمل وجوهاً، وعلى كل وجه كلام من وجوه، إلى آخر الحديث. فنبدأ أولاً ،بوجه ونبين ،معناه، ثم نبين الحديث على ما يقتضيه ذلك الوجه إلى اخره ، ثم نرجع إلى الوجه الثاني ونبينه أيضاً إلى اخر الحديث، ثم كذلك إلى أن تفرغ الوجوه المحتملة للفظ ، ليكون ذلك أيسر على المُطالع، وأسرع للفهم، فنقول :

الوجه الأول : قوله عليه السلام: إنّ الدِّينَ يُسْرُ) احتمل أن يكون أراد به الإيمان، واحتمل

أن يكون أراد به الإسلام، واحتمل أن يكون أرادَهُما معاً. والإيمان هو التصديق، والإسلام هو الانقياد والأظهر أن يكون المراد هما معاً بدليل قوله تعالى: ﴿ وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ، ثم قال : ﴿ وَلَمًا يَدْخُلِ الْإِيمَنُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (۱) فلم يقبل منهم الظاهر لعدم تصديق الباطن، ولقوله تعالى: ﴿ إِنَّ المنتَفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (۲) مع أنهم قد أظهروا الانقياد، الذي هو الإسلام. لكنْ لَمّا أن لم يكن معهم الإيمان لم ينفعهم الإسلام إذ ذاك، وكذلك أيضاً في العكس ، وقد تقدم .

(1) سورة الحجرات من الآية ١٤ (۲) سورة النساء من الآية ١٤٥ .

فإذا قلنا بأن الإيمان والإسلام متلازمان فالمراد بـ (الدين) المذكور هنا : هما معاً، وإذا كان المراد هما معاً فنحتاج إذا إلى بيان يُسْرِهما .

فأما الإيمان فيكفي فيه من التيسير حديث الجارية المشهور، وهو حين سألها النبي صلى الله عليه وسلم : أينَ الله ؟ فقالت: في السماء، فقال لها : مَن أنا؟ قالت رسولُ الله . فقال لصاحبها : أعتقها فإنّها مؤمنة) (1) . فاقتنع ، لالا لال ، منها بأنها أقرت بأنه رسول الله وأن الله ،موجود، وهو قاهر حاكم ؛ لأنها أشارت إلى السماء، والسماء عند العرب كلُّ ما عَلا وارتفعَ، فكل من علا قَهَرَ وغَلَبَ . ولا يلزم منه ما قاله بعض الملحدين من التَّحَيُّز (۲) ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً ، لأنه ليس في الحديث - بمقتضى اللغة - ما يوجب القول بذلك .

الواضح

ولأجل هذا قال بعض علماء أهل السنة بأن الجاهل ببعض الصفات ليس بكافر، وهو الحق لأنه إن قيل بغير هذا القول يتضمنه تكفير عوامّ المؤمنين وقد وقع الإجماع من الصحابة والسلف بصحة إيمانهم، وقد قال النبي : نحن أمة أمية ، لا نقرأ ولا نكتب) (۳) ، وهذا بخلاف من يَنسب إلى الذات الجليلة ما لا يليق بها، فإذا اجتزىء في الإيمان بهذا القدر فهو يُسْر لا شك فيه . و وأما الإسلام فيكفي فيه من التيسير حديث ضمام (4) الحديث المشهور الذي سأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة قال : هل عَليَّ غيرُها؟ قال : لا، إلا أن تَطَوَّعَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان :قال : هل عَليَّ غيره؟ قال : لا ، إلا أن تَطَوَّعَ . قال : وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاةَ. قال: هل عَلَيَّ غيرُها ؟ قال : لا ، إلا أن تَطَوَّعَ . قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صَدَقَ (٥) والفالح هو من بلغ في الآخرة ما يؤمل، فإذا اجتزىء في الإسلام بهذا القدر، وكان صاحبه من المفلحين، فهو يُسْرٌ لا شكّ فيه .

الوجه الثاني : ،قوله ، الله : ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه . هذا اللفظ من أبنية المفاعلة من فعل بمقتضاه غَلَبه الدين، فإن شدّد في دينه بحيث لم يبلغ به حَدَّ المغالبة فقد خرج عن هذا النَّهي، وكان من القسم المحمود، لأن ذلك قوة في الدِّين ورفعة في الهمم والمناصب ، لقوله ، و الاول :

(۱) رواه مسلم عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه برقم ٥٣٧ . (۲) التحيز انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض ووجودها في مكان . (۳) رواه الشيخان البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .

(٤) ضمام بن ثعْلَبَة السَّعْدي من بني سَعْد بن بَكْر. قدم وفداً لقومه في السنة الخامسة الهجرية، وعاد مسلماً يدعو

قومه للإسلام. يقول فيه عمر رضي الله عنه : ما رأيت أوجز ولا أصرح منه .

(٥) متفق عليه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .

(المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) (۱) . فأفاد هذا الإخبار بأن الضعيف أقلّ مرتبة من القوي، وأن الضعيف له من الخير بقدر ما يخلص به نفسه، إذا وفى القدر المُجْزِىء من إيمانه على ما تقدم قبل فلم يخرجه ، و الله ، وإن كان ضعيفاً، من باب الأفضلية . وهذا يدل بما يتضمن أن المطلوب الكمال الذي هو القوة والترفق ، فمن لم يقدر على الكمال فحينئذ يرجع إلى ما هو أدنى منه قليلاً بقدر طاقته، ويحذر أن يأخذ في طرف الكمال حتى يبلغ به الحال إلى حَدّ المغالبة، فيَغْلِبه ،الدين، كما تقدم، لأنه إن تعمق في أخذ الوجهين المذكورين اللذين هما الإيمان والإسلام فالدين قد يغلبه بالضرورة، لأنه يفني عمره ولا يبلغ من أحدهما معشاره. مثال ذلك في الإيمان من يريد أن يأخذ إيمانه بغير تقليد، فيشتغل بالاستدلالات والاستنباطات، فيفرغ منه العمر ولم يبلغ في ذلك ما أمل وقد أقر بالغلبة هنا رئيس من أراد أن يأخذ الإيمان بغير تقليد، وهو أبو المعالي (۲) رحمه الله ، فإنه حكى عن الثقات أنه قال : لقد خلّيت أهل الإسلام وعلومهم ، وركبتُ البحر الأعظم، وغصتُ في الذي نهوا عنه، كل ذلك رغبةً في الحق، وهروباً من التقليد والآن قد رجعت من الكل إلى كلمة الحق والويل لابن الجويني، يعني نفسه . فإذا كان هذا قول رئيس من أراد أن يأخذ بغير تقليد، وأقرّ بالعجز والغلبة، فكيف بمن جاء بعده يقفو أثره؟

ومثل ذلك من يريد أن يُوفي ما يجب للربوبية على العبودية من الحقوق فهذا أيضاً يفني عمره وهو لم يبلغ معشارَ ما ،أمل لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه العزيز: ﴿يَتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَانِهِ ﴾ (۳) وهذا لا يطيق البشر بعضه إلا وينقطع. ويكفي في هذا بياناً حديث عبد الله بن عمرو حين أراد أن يقوم الليل ويصوم النهار ، فقال له الله إنكَ لا تطيق ذلك ) (٤) . هذا ما هو في أمرين من أمور الدين فكيف به في باقي أجزائه على مقتضى التعظيم؟ فصدق عليه بالضرورة أن الدِّينَ غَلَبَه . وإنما الطريق المخلّص والحال المحمود هو الأخذ بالكمال دون أن يصل إلى حدّ المغالبة . وكيفية ذلك في الإيمان أن يأخذ أولاً إيمانه بالجزم والتصديق على ما طلب منه، وينفي عنه الشكوك، فإذا حصلت له هذه القاعدة وخلصت فحينئذ يأخذ في النظر والاستدلال على مقتضى ما

(1) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم ۲٦٦٤ .

(۲) سلفت ترجمته في الحديث الثالث .

(۳) سورة آل عمران من الآية ۱۰۲ .

(٤) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي. وقد أثر عن ابن عمرو رضي الله عنه أنه قال في آخر حياته : ليتني أخذت

برخصة رسول الله ) .

أمر الله تعالى في كتابه من النظر إلى ملكوت السَّماواتِ والأرض، ليكون ذلك دليلاً على وحدانيته

عزّ وجلّ .

وكماله

ومن ذلك ما في السماء من الكواكب على اختلافها والشمس والقمر ومحاقه (۱) وغير ذلك، وما في الأرض من البقع واختلافها كما قال تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعْ مُّتَجَوِرَاتٌ وَجَنَّتُ مِنْ أَعْنَبِ وَزَرعَ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ) (۳) وكذلك ما فيها من المياه عذبها ومالحها كما قال تعالى : هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَابِعَ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةٌ تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ) (۳) وكذلك ما فيها من الثمار واختلاف * طعمها مع كونها تُسقى بماء واحد وتنبت في بقعة واحدة كما قال تعالى: ﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾ (٤)

وهذا النظر والاستدلال على ما أشرنا إليه يكفي في كمال الإيمان، لأن الله عزّ وجلّ، جعل ذلك لخليله عليه ،السلام سبباً لعلم اليقين قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ (٥) . ولهذا العلم أشار ، عليه السلام بقوله: (تعلموا اليقين فإني أتعلمه) (٦) ، ولم يقل ذلك في الإيمان، ولا طلبه جزماً ابتداء. فلما كان الأصل وهو الخليل لم يصل لعلم اليقين إلا بالدليل الذي ذكره عزّ وجلّ في كتابه، اتخذه النبي ، حالاً، ودلّ عليه سبيلاً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ ))

فمن أراد الزيادة على هذا الحد الذي به يبلغ علم اليقين فقد دخل في المغالبة، وهو لا يطيق ذلك، فغلبه الدين بالضرورة إمّا لِقَصَرِ الزمان مع كثرة الأدلة، وإمّا لشكٍّ يعرض له أو شبهة . وكيفية ذلك في الإسلام أن يأخذ أولاً بالفرض من كل الجهات حتى يوفيه، فإذا وفى حينئذ فليأخذ من المندوب بقدر استطاعته، ولا يتغالَ في طرفٍ من المندوب حتى لا يُخِلَّ بالآخر، لأن هذه هي المغالبة في الأعمال، وهي تؤول إلى الخسارة إلا أن يتداركه الله باللطف والتوبة .

(۱) المحاق ما يرى في القمر من نقص في جرمه وضوئه بعد انتهاء ليالي اكتماله .

(۲) سورة الرعد من الاية ٤ .

(۳) سورة فاطر من الآية ١٢

(٤) سورة الرعد من الآية ٤ . (٥) سورة الأنعام من الآية .٧٥ .

(٦) أخرجه أبو نعيم في الحلية من رواية ثور بن يزيد مرسلا ، وهو معضل (العراقي في تخريج أحاديث الإحياء

(۷۲/۱

(۷) سورة ال عمران من الآية ٦٨ .

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

ومحرري الأقصى من المجاهدين ضد الصهاينة

صفحات من 100 إلى 200 راجع على النسخة المصورة

يشهد لهذا ما روي أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، لقي النبي ، يوماً فقال : يا رسول

الله بماذا بُعِثْتَ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعثت بالعقل . قال : ومَن لنا بالعقل يا رسول الله ؟ قال : إن العقل لا حَدَّ له ، ولكنْ مَن حرَّمَ حرام الله ، وحلل حلالَه سُمِّي عاقلاً، فإن اجتهد سُمّي عابداً، فإن اجتهد سُمِّي جواداً، فإن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بغير حظ من عقل يدلّ على اتباع ما أَمَرَ الله واجتناب ما نَهى الله ، فَأُولئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعا (1)

وكذلك أيضاً إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال، فهذا أيضاً يقع في المغالبة من وجهين: أحدهما) العجز لقوله : (إنّ المُنبَيَّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبْقَى) (۲) لأن البشرية لا تحتمل ذلك . (الثاني): أنه قد يجتمع عليه في وقت أو في جل الأوقات أنواع من الواجبات والمندوبات في زمن ،فرد، ولا يقدر إلا على أحدها . فقد وقع في المغالبة لأجل ما أخذ نفسه به. وإنما حال الكمال في هذا أن يأخذ نفسه أولاً بما أشرنا إليه، ويعمل على متضمن الكلام على بقية الحديث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .

ولقائل أن يقول : لم لم يقل عليه السلام : ولن يُشادَّ رجل أو امرأة) وقال بدله (أحد)؟ قيل له : ذلك يدل على فصاحته ، ، ، ،وبلاغته لأن (أحداً) في اللفظ أقل كلاماً وأكثر فائدة ولأنه يطلق على الذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والحر والعبد ، والعالم والجاهل ، والعَلِيّ والدَّني ،

على اختلاف أحوال العالم .

الوجه الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم : (فَسدَّدوا وقاربوا) . احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد ،

واحتمل أن يكونا لمعنَيَيْنِ .

فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط، لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى، ولم يكن بالدون، فهو متوسط بينهما .

وإن كانا لمعنيين فيكون المراد بـ (سدّدوا الأخذ بالحال الوسط، على ما تقدم، والحال الوسط هو ما نَصَّ النبي ، لا اله الا هو عليه في حديث عبد الله بن عَمْرو حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (صُمْ وأفطر، وقُمْ ونَمْ، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقًّا ) ، ثم عمَّم بعد ذلك فقال : (وأعطِ

(1) لم تعرف مصدر الحديث. أما الآية الكريمة فهي في سورة الكهف من الآية ١٠٤. (۲) رواه البيهقي في السنن وفي شعب الإيمان قال الزبيدي فيه اضطراب روي موصولاً ومرسلاً ومرفوعاً و موقوفاً والمنبَتْ : هو من جهد دابته حتى أعيت والحديث يقال لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربّما يفوته على نفسه .

لكل ذي حق حقه). فهذا هو السداد، وهو أن يمشي المرء في الأمور كلها على ما فُرِض ونُدِب من

غير تغال ولا تقصير في جهة من الجهات.

ويكون المراد بـ (قاربوا) أي من بلغ منكم إلى حد السداد الذي هو ما ذكرناه، ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه، لأن ما قرب من الشيء أعطِي حكمه، وهذا بشرط ألا يقع بهذا التقريب خَلَل ولا نقص في شيء من الواجبات، لأن الواجب إذا كان فيه شيء من ذلك لم يجز، وغيره من المندوبات لا يقوم مقامه ، بل إنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات، ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه ويعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز، إما لمرض أو غيره، فحينئذ يطلق عليه : أنه قارب .

وقد نص عزّ وجلّ على هاتين الطائفتين معاً في كتابه أعني : الطائفة التي أخذت بالسداد والطائفة التي أخذت بالتقريب، فقال تعالى في حق الطائفة الأولى : ﴿ وَالسَبِقُونَ السَّبِقُونَ . أُوْلَيْكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (۱) وقال في حق الطائفة الثانية التي لم تستطع الوصول لذلك المقام، لكنهم قاربوا إليه إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلًا كَرِيمًا ) (۲)

وقد نضرب لهذا مثلاً ليكون أسرع للفهم، أعني في كيفية السَّداد وفي كيفية التقريب . فمثال ذلك أن يأتي الطالب أولاً لطلب العلم، ويعمل جهده على أن يكون من العلماء، فإن قدر على ذلك فيها ونِعْمَتْ لأنه يكون بذلك في الطائفة التي أخذت بالكمال وهو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلي نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع، لأن النبي ، ، ، ، قال : طَلَبُ العِلم فريضة على كل مسلم (۳) ، فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد .

وكذلك أيضاً يأخذ نفسه في التعبد بعد توفية ،الفرائض وإن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عزّ وجلّ، يقول على لسان نبيه الله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه. فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ) ، فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلي نفسه من طرف منه ، لإخباره، عليه السلام، أنه إذا كان يومُ

(1) سورة الواقعة، الآيتان ۱۰ و ۱۱ . (۲) سورة النساء من الآية .۳۱

(۳) رواه ابن ماجه وقال في الزوائد: إسناده ضعيف. وقال السيوطي كما نقل محقق مصابيح السنة : سئل النووي عن هذا الحديث فقال : ضعيف. وقال تلميذه المزي: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن. وقال الشيخ أبو غدة في تحقيق الأجوبة الفاضلة : صححه السيوطي ولم يسبق بتصحيحه، وعده من المتواتر حيث ذكره في الأزهار (النظم المتناثر (٢٧/٢٦) . (٤) جزء من حديث أخرجه البخاري مرفوعاً في الرقاق ومطلعه : من عادى لي وَلِيّاً .

القيامة يُنظر إلى صلاة العبد، فإن وَفّى وإلا قال تعالى : انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها) (۱) ، وكذلك في جميع الفرائض إذا نقص منها يُنظر في النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيُجبر منها. فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يُخاف عليه من عدم التوفية فيستحق العذاب .

يدل على ذلك ما روي أن النبي ، الله ، ورأى رؤيا في منامه، وكان مما رأى فيها رجلٌ يُشْدَخ (۳) رأسه، فسأل عنه، فقيل له : رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة (۳). ومعلوم أن قيام الليل ليس بواجب وكيف يعذَّب على ما ليس بواجب، والعذاب لا يقع إلا على ترك الواجب، أو وقوع الخلل فيه ؟ لكنه، وإن كان قيام الليل مندوباً، فالعذاب إنما يقع على وقوع الخلل في الواجب بيان ذلك أنه لما لم يكن ليعمل فيه بالنهار فقد أخَلَّ بالواجب، وهو لم يعمل المندوب الذي هو قيام الليل من حيث أن يجبر له الفرض به فوقع العذاب على ترك الواجب في الحقيقة وهو في الظاهر عليهما معاً.

ثم كذلك أيضاً : إن قدر أن يكون من الموقنين بعد توفية الإيمان المجزىء فليفعل، فإن عجز

عنه فلا يُخْلي نفسه من طرف منه لقوله عليه السلام: (تعلموا اليقين فإني أتعلمه). وقد حصل بما أشرنا إليه كفاية في ضرب المثال لما أردنا بيانه في التسديد والتقريب فنرجع

الآن إلى الكلام على الحديث .

الوجه الرابع : قوله عليه السلام وأبشروا) البشارة هنا على ضربين (أحدهما) معلوم محدود، و (الثاني) معلوم لا حد له.

فأما المعلوم المحدود فهو ما يُرجى من قبول الأعمال والثواب عليها، لأن الثواب عليها محدود بإخبار الشارع عليه ،السلام على ما نقل عنه، وقد قال عزّ وجلّ، في كتابه : ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ ( ٤ ) وقال عزّ وجلّ : وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ ﴾ (٥) . وأما المعلوم الذي هو غير محدود فهو ما وعد عزّ وجلّ في كتابه حيث قال: ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) (٦) فالزيادة معلومة عند الله تعالى مجهولة عندنا .

(1) رواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

(٢) يشدخ يشق . : :

(۳) رواه البخاري ومسلم وسيرد) شرح (له .

(٤) سورة الزلزلة ، الايتان ۷ و ۸ .

(٥) سورة الأنبياء من الاية ٤٧ . (٦) سورة النساء، من الآية ۱۷۳ .

وفيه دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين، لأنه عليه السلام، لم يقل (أبشروا ) إلا بعد

ما نص على العمل الذي يوجب البشارة، وهو التسديد والتقريب لمن عمل بهما، فأتى بالبشارة للعاملين بذلك، وهو مثل قوله تعالى في كتابه : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ) (۱) ، فنصَّ عزَّ وجلّ، على أن من فعل ما ذكره من الأعمال هو الذي يرجو رحمته عزّ وجلّ . وكذلك فيما نحن بسبيله، من أخذ بالتسديد والتقريب على نحو ما تقدم فهو الذي يستبشر .

ولقائل أن يقول : لِمَ قال عليه السلام ( أبشروا ) ولم يقل : أيقنوا؟ والجواب من وجهين : (الأول): أن الإيقان قطع بالأمر، والقطع لا يكون إلا الله وحده، وإنما لغيره قوة الرجاء لا غير، لأنه ليس للعبيد حق وجوب على الإله ، وإنما هو من طريق الفضل والمَنّ ، وما كان من طريق الفضل والمن فلا يطمع فيه إلا بقوة الرجاء، لا أنه يكون حتماً، وقد قال الله تعالى في كتابه: وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ، مِنَ اللهِ ﴾ (٢) . فتكون قوة الرجاء في هذا الوعد بحسب ما يرجى من عظيم الفضل اللائق بالجلال والكمال.

(الثاني) : أن ذلك سد للذريعة، لأنه لو قال : ( أيقنوا) لحصل به للضعفاء اغترار، وهو عين الهلاك، وربما يكون ذلك سبباً للتقصير في العمل مع كونه مهلكاً وهذا بخلاف البشارة، لأن البشارة رجاء، ونفس الرجاء يشرح الصدر ، وينشط للعمل، وتنتعش به الروح الأبية .

الوجه الخامس : قوله عليه السلام واستعينوا بالغُدوة والرَّوحَة وشيء من الدُّلجة) . الاستعانة هنا تنقسم ثلاثة أقسام: مستعين ومستعان به ومستعان عليه. فالمستعين هو المؤمن. والمستعان به أصله إعانة بعض لبعض لغرض ما من الأغراض كما روي في الحديث (ويعين الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة) (۳) أي يحمله له حتى يبلغه للموضع الذي أمل . والاستعانة هنا على وجهين : استعانة بالزمان واستعانة بالعمل .

فأما الاستعانة بالزمان فهي ما في طَرَفَي النهار من اعتدال الهواء ونشاط النفس فيهما، وما روي أن العمل فيهما أزكى مما في غيرهما . قال عزّ وجلَّ في كتابه خطاباً لنبيه عليه السلام وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (4) وقال تعالى على لسان

ها

(1) سورة البقرة من الآية .۲۱۸

(۲) سورة التوبة من الآية ۱۱۱ .

(۳) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(٤) سورة الكهف من الآية ۲۸ .

نبيه ، عليه السلام : اذْكُرْني ساعة بعد الصُّبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما)(۱) . والدلجة أيضاً كذلك لأن الدّلجة هي آخر الليل وآخر الليل هو أبداً للبدن ،أقوى لأنه قد أخذ راحته من النوم والغذاء، وقد ورد فيه من الفضل كثير . فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : يَنزِلُ ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا - وفي رواية : كلّ ليلة في ثلث الليل الأخير - فيقول : هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوبَ عليه ) (۲)) فإذا كان عزّ وجلّ، ينادي هكذا كلَّ ليلة في آخرها فمحال أن يدعو أحد إذ ذاك، أو يتوب أو يستغفر فيُرَدّ، لأن الله لا يُخلف الميعاد . والمراد بالنزول هنا نزولُ طَوْلٍ ومَنَّ ورحمة، دون حلول ولا انتقال .

وأما الاستعانة بالأعمال فهي أن تُعمَّر هذه الأوقات المذكورة بأنواع الطاعات وإذا عُمّرت بذلك لم يبق بعدها إلا الأوقات التي جعلت للراحات وهي ما نص عزّ وجلّ عليها في كتابه حيث قال : ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَعْدِنَكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَتُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحلم مِنكُر ثَلَثَ مَرَّتٍ مِن قَبْلِ صَلوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتِ اَ

فعلى هذا فمفهوم هذا الحديث ما نص عليه السلام عليه في حديث اخر حيث قال: روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة ) (٤) ، لكنه، عليه السلام زاد في الحديث الذي نحن بسبيله تعيين الأوقات التي جعلت للعبادة، أي جُعِلت العبادة فيها أفضل من غيرها من سائر الأوقات .

وإذا قلنا بهذا ـ وهو أن المطلوب عمارة هذه الأوقات بالطاعات - فهل ما يُعمَّر بها من الأعمال معيَّن أو غير معيَّن؟ احتمل الوجهين معاً .

فإن قلنا بالتعيين فهي الصلاة لأنها هي التي تسبق للذهن وإذا قلنا بأنها الصلاة فما الحكمة في تعيينها دون غيرها؟ فنقول - والله أعلم - إنها إنما اختصت بهذه الأوقات، وجعلت سبباً للاستعانة لما فيها من التعظيم الله ، والافتقار إليه، والدعاء واللجأ إليه، وما فيها من أنواع الخير على ما سيأتي بيانه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله .

وإن قلنا بعدم التعيين فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لقوله عليه السلام

(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (۲) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (۳) سورة النور من الآية ٥٨ .

(٤) رواه الديلمي ۳۷۸/۲ برقم ۳۰۰٤ وعزاه الجامع الصغير لأبي داود في مراسيله. وروى مسلم عن حنظلة بلفظ :

یا حنظلة ساعة وساعة .

(موضعُ الصَّلاة من الدِّين مَوضعُ الرأس من الجسد) (۱) ، وهذا هو الأظهر، والله أعلم، لأنه قد تُفرَضُ في بعض الأوقات أعمال تكون أفضل من الصلاة بحسب الأحوال، وهي كثيرة تتعدد .

فعلى ما ذكرناه من هذا التعليل يترتب عليه من الفقه وجهان :

(أحدهما) اغتنام نشاط النفس وخلو الشغل وقد نص عليه السلام على ذلك حيث

قال : (اغتنم خمساً قبل خمس وعَدَّ منها : فراغَك قبل شغلك ، وصحتك قبل سَقَمِك ) (۲) . (الثاني) : اغتنام حسن الزمان ،واعتداله لأن ذلك مما يعين على العبادة، وقد نص عليه

السلام، على ذلك حيث قال : (أبرِدُوا بالصَّلاة) (۳)

وأما المستعان عليه فهو يحتمل وجوهاً (الأول) وهو أعمّها، صلاح الحال في الدنيا والفلاح في الاخرة، وهو بلوغ ما يؤمل من الخير على ما نص عليه العلماء (الثاني): أن يكون عائداً على التسديد والتقريب . (الثالث: أن يكون عائداً على البشارة وما تتضمن، إلى غير ذلك من الوجوه، على مقتضى ما يحتمله الحديث على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى .

هذا ما تضمنه البحث على هذا الوجه إن كان المراد بالدين الإيمان والإسلام) معاً. ثم نرجع الآن على ما اشترطنا إلى بيان الوجه الثاني، فنقول :

الوجه الثاني

الأول منه ،قوله عليه السلام: إنّ الدِّين يُسْرُ) قد يريد به الإسلام دون غيره وهي أفعال الدين على ما بيّناه .

بيان ذلك : أن الخطاب بالحديث إنما كان للمؤمنين والإيمان قد كان حاصلاً، وإذا كان المراد به الإسلام فالكلام على بقية ألفاظ الحديث تَضَمَّنه الكلام على الوجه قبله، فأغنى عن

إعادته .

الوجه الثاني : قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسرِّ) قد يريد به أن الشيء الذي وُعِدتم أنكم تتخلصون به من الأعمال، وضُمِنَت لكم به النجاةُ، هو توفية ما فُرِض عليكم .

(۱) جزء من حديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ : لا إيمان لِمَنْ لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له وموضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد .

(۲) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما .

(۳) رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .

الوجه الثالث ،قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي لا تُوغِلوا في المندوبات فيؤول بكم الأمرُ إلى أن تُخِلّوا بالفرائض فيغلبكم الدِّينُ . ومثال هذا من يُكثر في طرف من المندوب ويترك شيئاً واجباً عليه من طرف آخر لم يفعله، وكذلك أيضاً من يتوسوس في الطهارة حتى يفضي به الأمر إلى إيقاع الخلل فيها ، وكذلك في سائر التَّعبدات إن تعمّق فيها حتى يُخِلّ بالفرض منها فقد غلبه الدِّين، لأن الدين هو الأصل الذي يتقرب به إلى ربه قد أخَلَّ به ، ولا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل، لأن الله عزّ وجلّ، يقول على لسان نبيه عليه السلام : (لن يتقرب إليَّ المتقربون

بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم . ثم لا يزالُ العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه ، فإذا أحبته كنتُ سَـ الذي يَسمعُ به ، وبَصَرَه الذي يُبصرُ به ، ويَدَه التي يَبْطِسُ بها) (۱) . وفي هذا إشارة إلى التربية بالتدريج في السلوك والترقي، ومنع الأخذ بالقوة أولاً في التعبدات من نوافل الليل والنهار وغير ذلك، لأن من يأخذ بذلك في بداءة أمره يغلبه الدِّينُ بالضرورة لقلة الرياضة فيما أخذ بسبيله

ومثل هذا ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فَقَدَ سليمان بن أبي حَثْمَة (۳) في صلاة الصبح فلما كان من الغد مرّ على الشَّفَّاءِ أم سليمان فقال لها : لم أرسليمان في الصبح. فقالت : إنه بات يصلي فغلبته عيناه . فقال عمر : لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحَبُّ إليَّ من

أن أقوم ليلة .

فانظر كيف فضَّل حضور الصلاة في الجماعة على قيام الليل كله، مع أن قيام الليل فيه من المشقة ما هو معلوم، لكن لما أن كان ذلك القيام كله من جنس المندوب ، وال أمره إلى أن أوقع الخلل في فضل من فضائل المفروضات كرهه عمر ، رضي الله عنه . فلو قام من الليل ،بعضه، ونام بعضه، وحضر الصلاة في جماعة، لكان من الآخذين بالكمال، ولم يقع عليه بذلك غلبة في نقص فضيلة، ولا غيرها. فإذا أخذ المرء أولاً نفسه بالرفق والرياضة في تعبداته حتى يصير له ما أخذ من ذلك عادة، كانت العبادة عليه يسيرة ، لا مشقة عليه فيها حتى يبلغ بها النهاية، وهو كأنه لم يزد على نفسه شيئاً كما يروى عن ابن السَّمَاك (۳) ، رحمه الله ، وهو من أحد شيوخ الرسالة، أنه انتهت به نافلته في دكانه مع بيعه ألف ركعة في اليوم.

(1) رواه البخاري مرفوعاً في الزقاق، ومطلعه : من عادى لي وليا فقد اذنته بالحرب. (۲) سليمان بن أبي حثمة : هاجر صغيراً مع أمه الشفاء، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمله عمر رضي الله عنه على السوق، وهو معدود من كبار التابعين.

اسمه عبد بن أحمد الهروي ثم المكي المعروف بابن السماك المالكي . توفي سنة ٤٣٤هـ / ١٠٤٣م. محدث حافظ، صوفي . أصله من هراة، وسمع ببغداد والبصرة وهراة و سرخس و بلخ و مرو و دمشق و مصر. وحدث بخراسان و بغداد . وجاور بمكة وبها توفي من مصنفاته تفسير ومستدرك على الصحيحين والسنة والصفات، ومناسك الحج، ودلائل النبوة، وفضائل القران وفضائل ،مالك وكتاب الجامع، وكتاب الدعاء، وكتاب شهادة الزور، وكتاب العيدين، ومعجمان أحدهما فيمن روى عنهم الحديث، والثاني فيمن لقيهم ولم يأخذ عنهم .

الوجه الرابع ،قوله عليه السلام (فَسَدَّدوا وقاربوا أي قاربوا الجد، ولا تأخذوا الأخذ الكلي الذي تصلون به إلى المشادة فيغلبكم الدين. و (سددوا ) أي : ليكن جِدُّ كلِّ شخص على ما تقتضيه بِنْيَتُه وطاقته ومزاجه

ومن هذا الباب راح كثير من العباد لأنهم يأخذون أنفسهم أولاً بأن يعاندوا من ليس مثلهم من أهل النهايات فيأخذوا مأخَذهم، ويسلكوا مسلكهم، فيُقطع بهم في الحال عنهم، لأنه قد يكون من أرادوا التشبه به أكثر قوة في بدنه منهم، وأعدل مزاجاً، وأخذ نفسه أولاً فيما هو بسبيله الآن بالتدريج في السلوك والترقي، حتى صار له ما هو بسبيله من التعبد مزاجاً، كما حكيناه عن ابن السماك، ولهذا قال يُمْنُ بن رزق (۱) - رحمه الله - الإمام في الطريقين - : حذارِ حذارِ أهلَ - البدايات، أن تَتَشَبَّهوا بأهل النهايات فإن هناك مقامات لم تُحْكِموها. فعلى هذا فالشأن الذي يُبلغ به المقصود، إن شاء الله ، ويكون صاحبه من أهل السداد أن يُحكم أولاً الخَمْسَ التي فُرِضت عليه ، وهي السَّيرُ بواجباتها ومندوباتها والمحافظة عليها. فإذا رجع له ذلك مِزاجاً أَخَذَ إذ ذاك بالرفق والسداد على ما أشرنا إليه في النوافل .

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام) وأبشروا) . البشارة هنا هي لمن زاد على الفرض، ولم يقتصر عليه، لأن الفرض قد جاء فيه ما جاء من الوعد الجميل في الكتاب والسنة في غير ما موضع . فإن حملنا البشارة هنا على ذلك فهو تحصيل حاصل، ونكون قد حملنا ألفاظاً جملةً على معنى واحد، وليس ذلك بالمَرْضي عند العلماء، وإنما يحمل كل لفظ على فائدة أو فوائد دون غيره من الألفاظ، إنْ وُجِدَ لذلك سبيل، وكفى في هذا دليلاً قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن

قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (۲) ولا ذاك إلا في النفل دون الفرض، والبشارة هنا على معنيين : (الأول) : هو أنه إذا أخذ بعد الفرض باليسير من النفل فَلْيَسْتَبْشِرْ بالزيادة، لمقتضى قوة البشارة، حتى يبلغ ما أمل من الأحوال الشريفة والمنازل المنيفة بلا كلفة لأن حقيقة البشارة لا تكون إلا في المستقبل، والبشارة بما قد وُعِد تحصيل حاصل . وإنما سميت بشارة مجازاً لا حقيقة وإنما البشارة الحقيقية مثل ما تضمنه ،إخباره عليه السلام ، لكعب بن مالك (٣) ، أحد الثلاثة الذين

(۱) يمن بن رزق إمام الطريقين. أصله من طليطلة . له مستدرك على الصحيحين وقضاء مالك، وكتاب التوبة . حدث في بغداد و خراسان وجاور بمكة وفيها توفي سنة ٣٦٠هـ ۹۷۰م .

(۲) سورة السجدة، من الاية ۱۷ .

(۳) كعب بن مالك : أنصاري خزرجي صحابي من أهل المدينة من أكابر الشعراء، وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم

شهد العَقَبَة وأحداً والمشاهد كلها إلا تبوك فإنه تخلف عنها ، وهو أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم:

وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَجُبَتْ .... الآية. وهم: كعب بن مالك وهلال

خُلفوا حيث تيب عليهم، فقال عليه السلام : ( أبشر يا كعب بخير يومٍ طَلَعَت عليكَ فيه الشمسُ ) ) . هذه هي البشارة الحقيقية، وهي خَفِيَّة دقيقة، لأن ظاهر اللفظ قد يستشكله السامع ، وقد استشكله بـ العلماء ، وقال : كيف يكون هذا خير يوم طلعت عليه فيه الشمس، وقد تقدمه يوم إسلامه، وهو خروجه من الكفر إلى الإيمان؟ وهذا القائل قد توهم أن هذا إشكال في الحديث، وليس ذلك بإشكال بيان ذلك : أنه أعقب يومَ إسلامه بهذا الذنب العظيم الذي استوجب به هَجْرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، له والصحابة. فلما تيب عليه هذه التوبة التي علم النبي ، و أنه لا معصية بعدها، أخبره عليه السلام بأن ذلك خيرُ يوم طلعت عليه فيه الشمس؛ لأنه لم يقع منه بعد ذلك معصية ولا مخالفة، والتزم الصدق والعبادة حتى قبضه الله إليه على أحسن حال فلو أراد النبي ، البشارة في ، ا و الماضي، لقال : (أبشر فقد غفر لك وتيبَ عليك وتحصل بذلك الكفاية. ولكن لما أن أراد عليه السلام البشارة في المستقبل أتى بصيغة ما ذكر. ولأجل ما فهم الصحابي من هذه البشارة خلع إذ ذاك ثيابه ولم يكن ليملك غيرها، فأعطاها في البشارة، لعلمه بعظيم ما بُشِّر به .

وكل بشارة وردت من الشارع عليه السلام مبهمة، فالمراد بها ما ذكرناه من مقتضى هذه البشارة. ولهذا قال أهل السلوك فيمن بلغ بعض المنازل فدام عليه بأدبه : إنه يترقى إلى ما هو أعلى منه، فما دام على هذه الحال لا يزال في ترقّ حتى يبلغ غاية المنازل الرفيعة، عملاً منهم على مقتضى البشارة وهي ما ذكرناه

(الثاني) : هو أنه إذا أخذ بتوفية ،الفرض وما تيسر عليه من النفل، فدام على ذلك، ولم يزد عمله شيئاً، فنفس البقاء على ذلك زيادة وهي البشارة يؤيد هذا قوله عليه السلام، حين أخبر عن الأخوَيْنِ اللذين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول بين يديه، عليه السلام فقال عليه السلام عن الآخر : وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته؟ إنما مَثَلُ الصلاة كمثل نَهَرٍ عَذَبٍ ، غَمْرِ (٢) ، بباب أحدِكم، يقتحم فيه كلَّ يومٍ خمْسَ ،مرّات، فما تَرَوْن ذلك يُبقي من دَرَيْهِ؟ فإنكم لا تدرونَ ما بَلَغَتْ به صَلاتُه ) (۳). ولهذا قال أهل السلوك : الدوام على الحال فيه زيادة

وترقُ ، عملاً بالحديث الذي أوردناه .

ابن أمية ومرارة بن ربيعة فتاب الله عليهم، وعدَرَهم، وغفر لهم، ونزل القرآن المَثْلُوُّ في شأنهم. وكان كعب بن يوم أحدٍ لبس لأمَةَ النبي وكانت صفراء ، وليس النبي لا لأمنه (تمويهاً للأعداء) فجُرح كعب بن مالك

مالك

أحَدَ عَشَرَ جرحاً. وتوفي كعب سنة ٥٠هـ / ٦٧٠م . (۱) متفق عليه . ولفظه : أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك . (۲) عَمْر : الغَمْر من الماء خلاف الضَّحْل، وهو الذي يعلو مَن يَدخله ويغطيه . (۳) رواه الإمام مالك والإمام أحمد بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة .

الوجه السادس ،قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والرَّوْحةِ وشيء من الدُّلْجَة. (استعينوا بالغَدوة أي بصلاة الضحى و (الرَّوْحَة) أي : الصلاة بين الظهر والعصر و (الدُّلْجَة) أي : قيام آخر الليل .

فإن قال قائل : لم عم عليه السلام الوقتين جميعاً وجعل من الثالث البعض؟

الله، وينام

قيل له : إن هذين الوقتين قريبان ،محدودان وهما معاً جزء من النهار، وآخر الليل جزء من الليل. لكنه غير محدود وإن كان عليه السلام قد حد الفضل فيه في حديث ،داود عليه السلام حيث قال: (أفضلُ الصلاة صلاة ،داود عليه السلام كان ينام نصف الليل، ويقوم سُدُسَه) (۱) . فالحد إنما حصل على الأفضلية، وما نحن بسبيله إنما وقع على الإجزاء الذي به تحصل الاستعانة. فمن قدر على الأخذ بالأفضل، فَبِها ونِعْمَتْ، وإلا فقد أخذ بالإجزاء الذي يستعين به، وهذا من باب التوسعة لأن ذلك وقت نوم وأعذار وليس النهار كذلك. وفي هذا دليل على التحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات، إذ إنَّ ذلك مما يُستعان به وما يستعان به لا يترك ، لأنه إن ترك ما يستعين به خيف عليه ألا يبلغ ما أمل . ولهذا اسْتُحِبّ له الابتداء أولاً باليسير أبداً، ويعمل عليه، ويكون ذلك دأبه لئلا يخلي نفسه من الاستعانة. فإن وجد النهاية لم يتركها، وإن حدث له ضعف أو شغل لم يترك قدر ما يطلق عليه اسم (الاستعانة) .

وقد نص عليه السلام على هذا المعنى الذي أبديناه في غير هذا الحديث حيث قال : (لِكلِّ عابد شرَّةٌ، ولكل شِرَّة فَتْرَةٌ ، فطوبى لمن كانت فترته إلى سُنّة ) (۲) . والسنة التي هي الفترة هي ما أشار إليها عليه السلام في هذا الحديث من الأخذ بالتعبد في هذه الأوقات اليسيرة. فسبحان مَنْ مَنَّ علينا بالخير به، وعلى يديه .

وفي هذا دليل لأهل السلوك والتربية حيث يستحبون أن تكون البداية أولاً في الليل وفي النهار ركعتين ركعتين، ثم يزيد على ذلك ما يشاء، وبحسب النشاط ، لئلا يخلي نفسه من الاستعانة، كما تقدم، حتى يبلغ بالتدريج ما أمل، لأن من أخذ من هذه الأوقات بقدر طاقته من العبادات ترقى إلى ما شاء الله من المراتب السنية ولا يدركه في ذلك تعب. فإذا أخذ بذلك كان أبداً في الترقي بالزيادة، تاركاً للنقص حتى يبلغ بذلك إلى نهاية ما يقتضيه حال البشرية .

وذلك مثل ما حكي عن بعض الفضلاء أنه أتاه أخ له يزوره فوجده يصلي الظهر، فجلس ينتظر فراغه من صلاته، فلما فرغ من الصلاة قام إلى النفل ، فجلس ينتظر فراغه من التنفل . فما زال

(۱) متفق عليه من عبد الله بن عمرو رضي الله عنه .

(۲) الشَّرَّة : الحِدة، والنشاط والحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي وقال: حسن صحيح غريب

كذلك إلى صلاة العصر، فصلى العصر ثم جلس للذكر، فخاف أن يقطع عليه ذِكْرَه ، فجلس ينتظر فراغه، فما زال كذلك إلى صلاة المغرب، فقام إلى الصلاة، فلما فرغ منها قام إلى التنفل ، فخاف أن يقطع عليه ،تنفله فجلس ينتظر ،فراغه فما زال كذلك إلى صلاة العشاء، فلما فرغ منها قام إلى التنفل، فجلس ينتظر فراغه من التنفل . فما زال كذلك إلى الصباح ، فقام إلى صلاة الصبح ، فلما فرغ منها جلس إلى الذكر، فجلس ينتظر فراغه. فبينما هو جالس في مصلاه لِذِكْرِه غلبته عيناه قليلاً، ثم استيقظ من حينه فجعل يمسح عينيه، ويقول أستغفر الله ، أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم. فانظر لما صار به من الحال، وهو يتنعم بذلك ؛ لأنه لولا الحلاوة التي وجدها في العبادة لما جعل هذه السِّنَةَ التي لا تنقض الطهارة ذنباً يستغفر منه ، فزال عنه التعب والمشقة اللذان يدركان البشر من ذلك ، ورجع له عوض الحلاوة والتنعم، وذلك ببركة الرفق والرياضة في التربية في السلوك .

نسأل الله أن يمن علينا بما مَنَّ به عليهم، وأن يعيد علينا من بركاتهم.

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث :

الوجه الثالث

الأول منه : قوله عليه السلام : ( إن الدين يُسْر ) قد يريد به أن ما تديَّنتم به بالنسبة إلى من كان قبلكم يُسر، وما كُلّفتم إلا بما تُطيقون، لأن الله عزّ وجلّ، قد رفع عن هذه الأمة الإصْرَ الذي كان قد جعل على الأمم الماضية، فجعل لهم عند الضيق المخرج. مثال ذلك : ما شرع لنا في التوبة وهو الندم والإقلاع والاستغفار وقد كانت لمن قبلنا بالقتل وكذلك أيضاً النجاسة طهارتها بالغسل، ولمن قبلنا بالقطع والمقراض. وكذلك أيضاً تَحِلة اليمين بالله ، شرعت لنا ولم تشرع لمن كان قبلنا وكذلك أيضاً أكل الميتة. وكذلك أيضاً لو كلفنا الله عزّ وجلّ، بما لا نطيق لكان ذلك سائغاً، لأنه الحاكم القاهر، لا راد لما قضى، ولكن بفضله عزّ وجلّ، ومنته عافانا، فلم يكلفنا إلا قدر استطاعتنا فقال تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) (۱) ومن كُلّف قَدْر وُسعه فهو يُسْرُ

عليه لا تعسير .

ومثال ذلك أنه عزّ وجلّ، عفا عن الخطأ والنسيان وحديث النفس وما استكرهنا عليه . وكذلك أيضاً شرع لنا عزّ وجلّ عند العجز عن القيام في الصلاةِ القعود، وعند العجز عن القعود الاضطجاع، وعند العجز عن التحرك الإيماء. وكذلك شرع لنا عزّ وجلّ ، التيمّمَ عند عدم الماء ،

(1) سورة البقرة، من الآية ٢٨٦

سُرَ الصلاة في السفر والفِطرَ فيه إلى غير ذلك، وهو كثير موجود في كتب الفروع وقد قال عليه السلام : ( إن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمه) (۱) .

من

الوجه الثاني ،قوله عليه السلام ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه يريد أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد، وترك ما رخص له فيه، فقد شادَّ الدين، وإذا شادَّ الدين غَلَبه الدين، ومثال ذلك شدد على نفسه فترك اليمين المشروعة وحلف بالمشي إلى مكة والطلاق والعتاق وترك التيمم عند العجز عن الطهارة بالماء، وأراد القيام في الصلاة مع العجز عنه إلى غير ذلك، وهو كثير ، فيريد الأخذ بالكمال في كل الجهات ويترك الرخص. فمن فعل هذا فقد شاء الدين، فيغلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه. وقد ذم عزّ وجلّ، مَن فعل ذلك من الأمم الماضية، فقال عز من قائل : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاة عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٢) .

العزم

عنه ،

الوجه الثالث : قوله عليه السلام: (فسددوا وقاربوا) . (قاربوا أي : قاربوا أولاً بالجد وقوة على الأخذ بالحزم والحزم هو ترك المحذور والعمل على براءة الذمة، والأعلى من المراتب والأفضل من الأحوال فإن وقع لكم عجز أو غفلتم أو وقعتم في شيء مما نُهيتم عن فسددوا . أي : أصلحوا حالكم بالخروج على المخارج التي جعلت لكم، والأخذ بالرخص التي تُصُدِّق بها عليكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ (٣) .

الوجه الرابع ،قوله عليه السلام: (وأبشروا ) أي : أبشروا ، فإن ذلك مخلص لكم ومبلغكم إلى رضا مولاكم وحسن العاقبة لكم، يؤيد هذا قوله عليه السلام: (رُبَّ ذَنْبٍ أَدخَلَ صاحبَه الجنة) (٤) قال العلماء : معناه أن ذلك الذنب كان سبباً لتوبته فتاب توبةً نصوحاً، فكان هو السبب الذي أدخله الجنة يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما قيل لبعض الفضلاء، حين غَلَب عليه، في وقتِ ما، خوفٌ من أجل التقصير في حق ،مولاه، ثم تَلمَّح سعة رحمته ، فخالط ذلك الخوف طمع في سَعَة رحمة ،مولاه فخوطب بأن قيل له : مَن أردناه اصطفيناه، فخوَّفناه، ورجَيْناه ، ومَن أبغضناه أَبْعَدْناهُ،

والهَيْناهُ .

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام واستعينوا) بالغَدوة والرَّوْحة، وشيء من الدُّلْجة) .

(1) العزائم : ج ،عزيمة وهي فرائض الله التي أوجبها . والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن

ابن عمر رضي الله عنهما . (۲) سورة الأنعام، الآية ١٤٠ . (۳) سورة النساء، من الآية ۲۹ .

(٤) لم نعرف مصدره .

الاستعانة هنا هي أن مَن واظب على الأعمال في الأوقات المذكورة، يرزق بها العون على ما أخذ بسبيله من أفعال الطاعات، ويسر له ما عسر عليه من أمر دينه، ويُزاد قوة في إيمانه، فيتبين له قَدْرُ ما لطف به، وماذا أريد منه ، وهذا من أكبر أسباب العون فإن به يسهل العمل، وتسمو الهمم إلى

المراتب العلية .

ولأجل ما يحدث من هذه المعاني بعمارة تلك الأوقات قال بعض الفضلاء من أئمة التحقيق: وأنا أوصيك بدوام النظر في مرآة الفكرة مع الخلوة فهناك يبين لك الحق . ومن بان له الحق رُجيَ له اتباعه، وكان من أهله فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه .

ومما يناسب ما نحن بسبيله من وجه ،ما ،قوله عليه السلام، (وَيْلٌ لمن غَلَبَت آحاده عَشَراتِه) (۱) ومعنى ذلك : أن الحسناتِ جُعلت بفضل الله عشراً إلى سبعين إلى سبعمائة والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء، والسيئة بواحدة ، ثم بعد هذا الفضل العميم يَغْفُل ابنُ آدمَ المسكين عن نفسه، حتى لا يجد لنفسه مَخْرَجاً، إما بتغال في الدين، وإما بتضييع محاسبة نفسه، فيهلك مع الهالكين، وهو لم يشعر ولهذا ،قال عليه السلام (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) (۳ ) . فيحق لمن غفل عن نفسه وألزمها هذا التغالي المذكور، أو غفل عن المحاسبة، ذلك الوعيد العظيم أعاذنا الله وإياكم من ذلك بمنّه .

فينبغي للعاقل أن يعين نفسه بما أشار الشارع عليه السلام إليه، وأن يقيم على نفسه ميزان الشرع، ولا يغفل عن محاسبة نفسه، ولا يشاد دينه لئلا يهلك بأحد هذه الوجوه . ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الرابع :

الوجه الرابع

الوجه الأول منه قوله عليه السلام : (إِنَّ الدِّينَ يُسْر ) . قد يُراد به : أنه يُسْرِّ على من عَرَفَه ، لأن مَنْ جَهله عَسُر عليه بمقتضى أدلته لجهله ،به فيكون هذا مثل قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) (۳) وشهادته لنفسه هي ما أظهَرَ في جميع مخلوقاته من آثار قدرته الدالة على وحدانيته وعظمته ، فيكون الحاصل من هذا التحضيض على علوم الدين بمقتضى الكتاب والسنّة على ما أشرنا إليه قبل . الوجه الثاني منه قوله عليه السلام : ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبَه المشادة هنا هي : أن

(1) لم نعرف مصدره. (۲) رواه البيهقي في الزهد وذكره في مناقب

(۳) سورة آل عمران من الآية ۱۸ .

من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير هذين الطريقين وهما الكتاب والسنة، إما بعلم العقل أو ما شابهه، واقتصر على ذلك، فيغلبه الدين إذ ذاك بالضرورة، لأنه إذا فعل ذلك عاد عليه مقام الحق مشكلاً، ومقام الحقيقة محتملاً ، فانقلب بصفقة خاسرة، خسر الدنيا والآخرة

الوجه الثالث : قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا السداد هنا بمعنى سداد الحال . يقال : سدد فلان حاله : إذا أصلحه سدد الله فلاناً :أي: أصلح الله فلاناً . سدد القاضي : أي : حكم بينهم بالعدل. لا يباع إلا على وجه :سداد أي بوجه صالح على مقتضى الشريعة . وصلاح الحال هنا هو صلاحه في الدين بمعرفته ومعرفة أحكامه، والعمل على ذلك ،واتباعه ويشهد لهذا قوله عليه السلام : طَلَبُ العِلمِ فريضة على كلِّ مُسلم (۱). قال العلماء المحققون : معناه ما وجب على المرء عمله وجب عليه العلم به، لأنه لا يمكن توفية ما أمر به إلا بالعلم بحدوده

وقد اختلفوا فيمن عمل العمل بغير علم فصادف عمله لسان العلم على ثلاثة أقوال فمن قائل يقول : بأنّ له الثوابَ على عمله واحتج بأن قال : هذا عمل وقع على ما أمر به، ومن فعل ما أمر به كان له الثواب على الامتثال . ومن قائل يقول : بأن عليه الإثم في ذلك، واحتج بأن قال : إن الله عزّ وجلّ، لم يتعبد أحداً بالجهل، وإنَّما يجوز له الإقدام على العمل بالعلم به ، وأما مع الجهل فلا . قال الله تعالى : ( فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (۲) فلما قدم على العمل بغير علم كان مرتكباً للنهي ومن ارتكب النَّهي أيم. ومن قائل يقول : بأنه ليس له ثواب وليس عليه عقاب واحتج بأن قال : إنه لم يقع بعمله في شيء مما نُهي عنه فلم يكن مأثوماً ، وأمر بألاّ يُقدِم على العمل إلا بالعلم، فلم يفعل ذلك، لم يكن له أجر عليه .

فإن العجز عن هذا السداد، الذي هو صلاح الحال بالعلم كما تقدم، فَلْيُؤْخَذْ بما تضمنه قوله عليه السلام: (قاربوا) ومعناه : السؤال لأهل العلم، كما تقدم لأن الله عزّ وجلّ، يقول: فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) والنبي ، يقول : (شفاء العِيِّ السؤال) (۳) .

الوجه الرابع ،قوله عليه السلام: (وأبشروا ) . البشارة هنا هي: أن من أخذ بالطريق المذكور الذي أبديناه فَلْيَسْتبشر بأن الله يرفعه في الدنيا والآخرة ويرزقه من حيث لا يحتسب إذا كان ذلك الله خالصاً. يشهد لهذا قوله عليه السلام تكفّل الله برزق طالب العلم) (4) . وهو ، عز

(۱) رواه ابن ماجه برقم ٢٢٤ . (۲) سورة النحل من الاية ٤٣ .

(۳) رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني كما في كشف الخفا رقم ٦٤٦ .

(٤) الرواية المشهورة من طلب العلم تكفل الله عزّ وجلّ برزقه) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه ۳/ ۱۸۰ وفي =

رفع

وجلّ، قد تكفل برزق الخلق كلهم لكن فائدة هذه الأخبار البشارة لطالب العلم بأن الله تعالى قد عنه التعب في طلب الرزق والكدّ عليه ويسره له وسهله عليه من غير تعب يدخل عليه في ذلك بلا مَشَقَّةٍ. يزيد هذا إيضاحاً قوله عليه السلام: (إذا ابتدع في الدين بدعةٌ كِيد الدين، فعليكم بمعالم الدين، واطلبوا من الله الرزق . قيل : وما معالم الدين؟ قال : مجالس الحلال والحرام) (۱) . الوجه الخامس : قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة). الاستعانة هنا هي : أن من عمر هذه الأوقات المنصوص عليها، بالتعبد فإن الله عزّ وجلّ، يعينه على ما أخذ بسبيله من التعلم، ويُفهمه وينوّر بصيرته. وهذا قد وجده كل من عمل ذلك بإخلاص وصدق، وقد قال، عزّ وجلّ، في كتابه : ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٢)

ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الخامس :

الوجه الخامس

الأول منه قوله عليه السلام: (إنّ الدِّينَ يُسْرِّ). قد يراد به أن ما كُلّفتم به بالنص ولا يمكن فيه التأويل : يُسْرٌ . وأن أكثر ما كُلّفتم به محتمل للتأويل وقابل له ، وإذا كان القابل للتأويل المحتمل له هو الأكثر فهو تيسير وتوسعة من المولى على عبيده. وقد نشير إلى شيء من ذلك بالنص على مسائل مما تحتمل التأويل ليتنبه بها لما ذكرناه .

فمن ذلك حديث بني قُرَيْظَة، الحديث المشهور، الذي قال فيه عليه السلام، للصحابة : (لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قُرَيْظَة . فأدركَهم العصر في الطريق، فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها . له ، وقال بعضهم بل ،نصلي فإنه لم يُرِد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي ، ا ، فلم يعنف أحداً منهم ) (۳) . : ذلك اختلاف الفقهاء في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ فمن قائل يقول به على الإطلاق في ،الصلاة وفي ،غيرها، ومن قائل يقول مثل الأول، لكنه قيَّدها بألا تكون إلا قبل القراءة، ومن قائل يقول بأنها لا تكون إلا بعد القراءة .

الرحيم

ومن

الجامع لاداب الراوي والسامع ۳۸/۱ والقضاعي في مسند الشهاب ٢٤٤/١ و ٣٩١ والديلمي في مسند الفردوس ٧٥/٤ . وقال عنه الذهبي في الميزان ٤٨٢/٤ والسلفي في تحقيق الشهاب : موضوع .

(1) لم نعرف مصدره .

(۲) سورة العنكبوت، من الآية ٦٩ . (۳) متفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما .

(٤) سورة النحل، من الآية ۹۸ .

ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيْبًا ) (١ ) .

فمن قائل يقول به على العموم، ومن قائل يقول به على الخصوص، ومن قائل يقول بجواز التيمم به منقولاً كان أو غير منقول ومن قائل يقول بعدم الجواز عند النفل .

ومن ذلك أيضاً اختلافهم في قوله تعالى: ﴿وَرَبِّبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِسَآبِكُمْ ) (۲) فمن قائل يقول بتحريمها ابتداء، ومن قائل يقول بعدم التحريم حتى تكون في حِجْرِه ويكون كفيلاً لها .

ومن ذلك اختلافهم في الربا وما العلة فيه ؟ فخرج كل واحد منهم على ما أعطاه اجتهاده من التأويل في الاحتمال وكل ما اختلفوا فيه أبداً إنما هو من أجل الاحتمال الذي في الآية أو الحديث. وهذا الاختلاف توسعة ورحمة. وقد كان بعض من لقيته من الفضلاء الجِلَّة يقول : لا يحل أن يُتَدَيَّنَ إلا بالمشهور، ولا يُفتى إلا به، وتكون فائدة الخلاف في أمر إذا وقع وفات ولم يُمكن تلافيه على المشهور، فيُخَرَّج إذ ذاك على قول قائل ؛ لأنه أحسن من خرق الإجماع . ولَعَمْرِي لقد أحْسَنَ هذا في الفتوى، لأن به يستعمل جميع الوجوه، فيكون الأخذ أولاً بالكمال في الدين وهو القوة عملاً بقوله عليه السلام: (المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خيرٌ ) (۳). فإن تعسر عليه الأخذ بالكمال رجع إلى الخلاف وأخذ بالتيسير فيكون بينه وبين المحارم حاجز كبير، لأنه إن تعذر عليه الأخذ بالكمال وجد ما يرجع إليه من غير أن يخرق الإجماع، بخلاف من يأخذ أولاً نفسه بالعمل على الرخص ؛ لأنه إن تعذر عليه الأمر في وقت ما فلا يجد حيلة إلا الوقوع في المحارم، وقد قال عليه السلام: (إن) لكل مَلكِ حِمى، ألا وإن حِمَى الله مَحارِمُه ، فمن حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه ) (٤)

الوجه الثاني : منه قوله عليه السلام ( ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غَلَبَه). معناه أن من يريد الأخذ بالكمال، فيريد أن يعمل في كل مسائله بالإجماع فيغلبه الدين؛ لأجل ما ألزم نفسه لأنه يجد كثيراً من المسائل لا ينعقد عليها إجماع .

الوجه الثالث : قوله عليه السلام فسدَّدوا وقاربوا) . السداد هنا على معنيين .

(الأول): أن يكون بمعنى صلاح الحال بالأخذ بما عليه الجمهور والجمهور هم الصحابة

(۱) سورة النساء من الآية ٤٣ .

(۲) سورة النساء، من الاية ۲۳ .

(۳) رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه . (٤) جزء من حديث رواه الستة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه .

والصدر الأول لقوله تعالى: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ، مَا تَوَلَّى ) (۱) قال :العلماء : هم الصدر الأول، ولقوله عليه السلام (خَيْرُ القرونِ قَرْني ، ثم الذين يلونهم) (۲) .

(الثاني) : أن يكون الآخِذُ بالأظهر من الأدلة، وبالوجه الراجح من الوجوه المحتملات في اللفظ الواحد، ولا يلتفت إلى الشواذ من الطرفين، طرف التشديد وطرف الترخيص . وإنما الشأن الأخذ بالوسط، كما قال الخليفة لمالك، رحمه الله ، حين أراد أن يجمع كتاب المُوَطَّأ، فقال له : اترك تشديد ابن عمر، ورُخَص ابن عباس، وألّف بعد ذلك ما شئتَ . فقال مالك : فخرجت من عنده فقيهاً. ويكون معنى التقريب هنا عند العجز عن الأخذ بما أشرنا إليه في السداد لأجل العذر ، فيُخرج على قول قائل عند العذر، ولا يأخذ بطرف ،التشديد ولا بطرف الترخيص مع عدم العذر . ويكفي في هذا ما روي عن عمر رضي الله حين قيل له عن رجل أتى إلى المدينة يطلب غريب التفسير وغريب الحديث فأمر رضي الله عنه بإحضاره، وقال له : من أنت؟ فقال له : عبد الله بن فلان فقال له عمر وأنا عمر بن الخطاب، ثم أخذ جريداً من نخل، فجعل يضربه بها على رأسه حتى أدماه وهو يقول: أنا عمر بن الخطاب. فقال له الرجل : جزاك الله عني خيراً، قد زال ما كان في رأسي (٣) . ولا ذاك إلا أنه من يطلب ذلك فالغالب عليه أن يعمل على أحد . الطرفين إما بطرف التشديد فيأخذ بالمشادة ويترك السداد، وإما بطرف الترخيص فيكون له ذريعة لأن يقع في المحارم، ويترك الأخذ بالتقريب

الله عنه ،

الوجه الرابع : قوله عليه السلام (وأبشروا). معنى البشارة هنا هي أن من عمل بما ذكرناه فَلْيستبشر بأن الله يجعل له عند العسر يسراً، وعند الضيق مخرجاً، ويؤيد هذا قوله تعالى : ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ (٤) وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ (٥) وقد حصل له زيادة لتلك البشارة أن

الله عزّ وجلّ قد جعله من المتقين .

(1) سورة النساء، من الآية ۱۱٥ .

جزء من حديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه (خير الناس قرني ... إلى آخر

الحديث).

(۳) الرجل المشار إليه اسمه : صبيغ بن ،عسل، كان يسأل عن المتشابه، وكان سؤاله لعمر رضي الله عنه عن مشكلات القرآن، فأمر عمر الناس ألا يجالسوه، وضرَبَه حتى أدمى رأسه . فقال : حَسْبُكَ يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنتُ أجده في رأسي. (انظر: الإصابة ،۱۹۱/۲ ، ومسند البزار ٤۲۳/۱ رقم ۲۹۰ ، والدارمي والخطيب وابن عساكر في التاريخ ۲۳۱/۲ ، والدارقطني في الأفراد (۲۰۲

(٤) سورة الطلاق، من الآيتين ۲ و ۳ . (5) سورة الطلاق، من الآية ٥

ولأجل الجهل بمعنى هذه البشارة دخل بعض الناس عندما ضاق عليهم شيء من الدنيا في المكروهات والمحرمات، ويقولون بأنهم معذورون لأنهم لا يجدون سبباً على زعمهم غير ما هم فيه . وهذا من العلامات الدالة على اقتراب الساعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : (من أشراط الساعة طلب الرزق بالمعاصي ) (۱) . فنعوذ بالله من العمى والضلال.

فانظر إلى هذا العمى الكلي والصَّمَم السَّرمدي كأنهم لم يسمعوا قط هذه البشارة، ولم يعرفوا مقتضاها، وكأنهم لم يروا في الكتاب، ولم يسمعوا منه الآيتين المتقدمتي الذكر، وكأنهم لم يسمعوا قوله عليه السلام : لا يُنَالُ ما عند الله إلا بطاعة الله ) (٢) . وكل هذا يدل على أن من طلب الرزق بغير طاعة فقد طلب الشيء من غير ،بابه ، ومن طلب الشيء من غير بابه تعب في طلبه، ورجع بصفقة خاسرة .

وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى حيث كانوا يطلبون الرزق بطاعة ربهم، لِيُتنَبَّهَ بذلك لما أردنا بيانه فمن ذلك ما روي عن بعضهم أنه كان ذا عيال وضاق عليه الوقت، ولم يقدر على شيء، فوقع في باله الأخذ بالطاعة التي هي سبب للرزق فخرج إلى مسجد خرب، فنظفه، وبقي يتعبد فيه . فيخرج غدوة ويخبر أهله أنه يتسبب، ثم يروح عشية ، فيقولون له : أين الأجرة؟ فيقول : الذي خدمت عنده كريم، فاستحييت أن أطالبه حتى يكون هو الذي يعطيني . فبقي ذلك أياماً يسيرة ثم أتى ليلة على العادة إلى منزله، فلما كان بقربه شم روائح طعام ،عطرة، فتعجب من ذلك لأجل أنه يعلم أن جيرانه في ضعف بحيث لا يقدرون على ذلك. فلما أتى منزله فإذا الذي شمّ من ذلك في منزله. فتعجب من ذلك أكثر من تعجبه أولاً، ثم نظر فإذا في بيته طعام وإدام وقماش ودراهم ووجد أهله بكسوة حسنة، فسألهم من أين لكم هذا؟ فقالوا له : إن الكريم الذي أنت تخدم عنده بعث إليك بما ترى وهو يقول لك : لا تقطع الخدمة . فقال : أجل .

فانظر من طلب الشيء من بابه كيف نجح سعيه وظفر بمراده

الوجه الخامس : قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة). الاستعانة هنا هي التعرض لنفحات الله تعالى في هذه الأوقات المذكورة، وتجد إذ ذاك لطفه بك كثيراً، وخيره عليك عميماً . يؤيد هذا قوله عليه السلام إذا سألت فاسْأَلِ الله ) (۳) وقوله عليه

(1) لم تعرف مصدره. (۲) رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي في المدخل، وصححه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم . (۳) جزء من حديث رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

السلام : (تَعرَّضوا لنفحات الله ) (۱) وقوله عزّ وجلّ، على لسان نبيه عليه السلام)، يَنزِلُ ربُّنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا في الثُّلُثِ الأخير من الليل، فيقول: هل من تائب فأتوبَ عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له ؟ ) (۲) فكيف يقول، عزّ وجلّ، هذا ويستغفر أحد إذ ذاك، أو يتوب، أو يدعو ، فَيُرَدُّ؟ ذلك محال من طريق قوة الرجاء في فضله سبحانه ومِنتِه .

وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى في هذا أيضاً ليتبين به المقصود الذي أردنا بيانه فمن ذلك ما روي أن بعض الثوار نزل بحصن فضيّق على أهله حتى هَمّوا بإعطائه . ثم قال بعضهم : لا تعطوه حتى تستشيروا فلاناً على ما أردتم فعله . وكان فلان عندهم رجلاً صالحاً متمسكاً بالخير والسداد. فاستشاروه ، فقال لهم : لا يحل لكم أن تملكوا رقابكم لمن يخالف لسان العلم، ويسفك الدماء بغير حقها. فبلغ ما قال لهم إلى الثائر. فأرسل إليه يهدده وهو يقول له: أما تعرف بطشي وصِغَرَ سِنّي ؟ فأرسل الشيخ إليه الجواب، وهو يقول له : أما تعرف كِبَرَ سنّي وقيامي له بالليل، ودعاي له في الأسحار؟ فلما أن وقف الثائر على الجواب لَحِقَه الرعب، وأقلع من حينه . ومما يزيد هذه الأوقات شرفاً وترفيعاً وترغيباً في المحافظة عليها قوله تعالى : ( وَاصير نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْفَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيا ) (۳) فمن رغب في هذه الأوقات، وحافظ عليها، أعينَ على ما أخذ بسبيله، ثم زاده على ذلك بشارة، وأي بشارة ترتاح لها نفوس العاملين العارفين ؛ وهي ما أخبر، عزّ وجلّ، في كتابه حيث قال : ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَانَنهُمْ تَقْوَنهُمْ ﴾ ( ٤ ) .

يا لها من بشارة ارتاحت لها نفوس الموفقين، وسكن بها حزن الخائفين، وتسابقت لها أقدام السابقين ! منحنا الله منها من فضله ما يليق بفضله

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السادس

الوجه السادس

الأول منه ،قوله عليه السلام: إنّ الدِّينَ يُسْرِّ ) . قد يراد به أن ما طلب منكم وهو الإذعانُ

(۱) رواه الطبراني والترمذي في النوادر والبيهقي في شعب الإيمان والسيوطي في جمع الجوامع من حديث أنس

رضي الله عنه .

(۲) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(۳) سورة الكهف، من الآية ۲۸ .

(٤) سورة محمد من الآية ۱۷ .

والاستسلام، يُسْر ، يشهد لهذا قوله عليه السلام للصحابة حين أنزل عليه : ﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى : أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ) (۱) فشَقَّ ذلك عليهم فقال لهم : (لا تكونوا مثل بني إسرائيل، ولكن قولوا آمَنَّا بالله وما أَنْزَل) فَآمَنُوا وأَذعَنوا فأنزل الله إذ ذاك ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ (٢) فجاءهم هذا الفرح العظيم لاستسلامهم وإذعانهم لأمر ربهم والإذعان والاستسلام يُسْرٌ ، لا شك فيه لأنه قد عمل بالقلب دون جارحة تتحرك فيه

الوجه الثاني ،قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه) . معناه : أن مَن لم يرض بالمقدور ولم يقع منه الإذعان والاستسلام لما فُرِض عليه، ويرى أن ما كلّفه من باب المشقة فقد شادَّ دينه، وإذا شادَّ دينه غلبه . وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل حين أُمروا بالقتال فأبوا، وقالوا لنبيهم : فَأَذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَهُنَا فَعِدُونَ ﴾ (٣) فشدد عليهم حين لم يَرْضَوْا ولم يذعنوا لما كُلِّفوا به فابتُلُوا لأجل ذلك بالتيه أربعين سنة، حتى مات فيه كبارهم ونشأ فيه صغارهم.

يزيد هذا إيضاحاً قوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُوْلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَتبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (٤) فَمَن رُزِق الإذعان للمقدور، والصبر عند نزوله ، عَظُمَ أجرُه ، ولُطف به. وإن ضجر وتسخط كان مأثوماً ، والمقدورُ لم يتغيَّر ، فشادَّ دينه فغلبه الدِّينُ . نعوذ بالله من ذلك .

الوجه الثالث ،قوله عليه السلام (فسددوا وقاربوا) . السَّداد هنا بمعنى صلاح الحال في توطين النفوس للتسليم والانقياد والمقاربة هنا أي إن لم تبلغوا هذا المقام فقاربوا إليه، لأن ما قارب الشيء أُعطِي حكمه .

الوجه الرابع ،قوله عليه السلام: (وأبشروا) . البشارة هنا هي أن من فعل ما ذكرناه، ووطَّنَ نفسه على ذلك واستسلم، فليستبشر بما تضمنته بقية الاية الموردة إلى آخر السورة، وهو قوله عزّ وجلّ: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى

(۱) سورة البقرة من الاية ٢٨٤ . (۲) سورة البقرة، الآية ۲۸٥ و من ۲۸٦ . (۳) سورة المائدة ، من الاية ٢٤ .

(٤) سورة البقرة الايات ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧ .

الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا

وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١)

الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة) الاستعانة هنا هي أن من عَسُر عليه العمل بما ذكرناه من نفسه فليقف بالباب الجليل في هذه الأوقات المعينة، ويلزم ذلك، يُرزَق العونَ إذ ذاك على النفس ويظفر بالنُّجح. ولأجل تضييع هذه الاستعانة غلبت بعض الناس نفوسهم، فلم يحصل منهم ما أريد منهم من الإذعان والاستسلام لأجل أنهم وكلوا إلى أنفسهم لكونهم لم يستعينوا بما شُرع لهم الاستعانة به ومثل هذا قوله عليه السلام للصحابة حين أخبر بالفتن فقالوا له : ما النجاة من ذلك ؟ فقال : (الجَأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات) (۲) .

وهذه الفتن قد كثرت وتكاثرت والقليل النادر من أخذ بالدواء الذي يعينه على النجاة منها. لا جرم أنّ الهالك قد كثر ، والناجي قد قل لقلة الامتثال لما به أُمِر . فبادر أيها المسكين للعمل، واترك الكسل قبل وزود الحِمام وتراكمِ المِحَن ، ويقال لك : (الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ) (۳) .

ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السابع :

الوجه السابع

الوجه الأول منه ،قوله عليه السلام: (إن الدِّينَ يُسْرُ). قد يراد به الأخذ بأقرب الوجوه التي اختلف فيها دون تعمّق في أَحَد الطرفين، طرف التشديد وطرف الترخيص، وترك الالتفات والمبادرة إلى الامتثال . وإذا كان المراد هذا، وهو المبادرة إلى الامتثال وترك الالتفات فهو يسر

لا شك فيه .

الوجه الثاني ،قوله عليه السلام: ( ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غلبه. أي لا يشدّد أحد على نفسه إلا ويشدّد الله عليه، لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه . وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل في البقرة التي أُمِروا بذبحها . لو أخذوا في امتثال ما به ،أمروا ، وذبحوا بعض البقر دون سؤال عن كيفيتها لأجزأت عنهم وكانوا بذلك ممتثلين للأمر، ولكنهم ث فسألوا عن صفتها وكيفيتها

(۱) سورة البقرة من الآية ٢٨٦ .

(۲) لم نعرف مصدره .

(۳) مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه .

ج (1)

فشدد عليهم فيها، فطلبوها فلم يجدوها ،زماناً ، ثم وجدوها بقرة واحدة عند شخص واحد، فطلبوها منه للشراء، فأبى عليهم، فما زالوا به إلى أن أنعم عليهم بالبيع، فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً وفضة . قيل : مرة، وقيل عشراً . فشدَّدوا فشدّد عليهم .

ولأجل هذا كان النبي ، الله يكره كثرة السؤال (۱) ، ويذمّ فاعله خيفة التشديد، حتى كان

الصحابة رضي الله عنهم، يتمنون أن يقدم على النبي ، ا ، غريب يسأله، فيسمعون الجواب ) . وهذا المعنى إنما كان الخوف منه في زمن النبي ، لا لا لا لا ل ل لأن الأحكام كانت إذ ذاك تتجدد في كل وقت وحين، فلما انتقل إلى ربه طاهراً مطهراً ، ، زال ذلك .

لكن بقي في بعض الناس ما يشبه ذلك، وهو كثير . فمن ذلك الوسواس الذي لبعضهم في شيء من تعبداتهم حتى يُخلوا بلسان العلم فيه فيبقى في تعبده على ضلال، وهو يحسب أنه يُحسِن صُنْعاً. وقد قال يُمن بنُ رزق - الإمام في الطريقتين - رحمه الله : إن الشيطان يأتي لابن آدم، فيرغبه في المعاصي، هذا بعد عجزه عن أن يوقع له شبهة في عقيدته، فإن قدر عليه فهو مقصوده وإن لم يقدر عليه رجع إليه من طريق الوسواس في تعبده حتى يجعله يُخلّ بشيء من لسان العلم . فإذا نال ذلك منه قنع به، ثم تركه وحَبَّب إليه العبادة، ومَدَّ له في الصوت، وربما تعرض له بعد ذلك مارِدٌ من الشياطين يريد أن يُغوِيَه فيقول له : دَعْه، فإنه بعملي يعمل . فشاء دينه فغلبه الدين، فانقلب بصفقة خاسرة . نعوذ بالله من العمى والضلال.

الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا). سددوا أي سَدّدوا حالكم باتباع الفروض والسنن ،وقاربوا ، أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه، فإن لم تقدروا فجاهدوا النفوس في الحمل عليه ) فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال ) (۳) ؟

الوجه الرابع : قوله عليه السلام: (وأبشروا) . أي إن فعلتم ما أُمرتم به كما ذكرناه لكم فأبشروا عند تلك المجاهدة بتيسير سُبل الخير والهداية، يشهد لهذا قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (٤)

روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله كره لكم ثلاثاً : قيل

وقال، وإضاعة المال وكثرة السؤال

(۲) مروي بمعنى الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الأعرابي فيسأل رسول الله ... إلى آخر الحديث .

(۳) سورة يونس من الاية ٣٢ . (٤) سورة العنكبوت من الاية ٦٩ .

الوجه الخامس : قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة) . الاستعانة هنا هي الملازمة على قرع الباب في هذه الأوقات، والمحافظة على ذلك عند نزول المحن لأن ذلك هو سبيل النجاة، فيأتيكم العونُ من عالم الخَفِيّات يشهد لهذا قوله عليه السلام: (مَن فُتح له في الدعاء، فقد فتحت له أبواب الخيرات)(۱)، وقوله، عليه السلام، إخباراً عن ربه، عزّ وجلّ ، من شَغَله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطِي السائلين (۲) .

والفتن،

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثامن :

الوجه الثامن

الوجه الأول منه قوله عليه السلام: (إنّ الدِّينَ يُسْرٌ ) . قد يريد به قِصَرَ الأمل ؛ لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين فيصير الدِّينُ بسببه يُسراً . بيان ذلك أن الأمل إذا قصر قلَّ الحرص وسهل الزهد، وخَفَّ العمل. وقد جاء هذا نصا منه عليه السلام، حيث قال : إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسَك بالصَّباح) (۳) .

وقد رُوي أن عيسى عليه السلام مرَّ في سياحته بشيخ كبير ، وهو يخدم في حائط (٤) له ، فتعجب عيسى عليه السلام من كبر سنّه ، وشدّة حرصه على التكسب . فلما أن وقع منه التعجب في ذلك راه قد أزال المسحاة من يده وأقبل على العبادة متوجهاً يشتغل بأنواع الخير ، فبقي على ذلك برهة من الدهر، ثم قام إلى الخدمة، كما كان أوّلاً ، فتعجب عيسى عليه السلام من ذلك أكثر من تعجبه أولاً، ثم أتى الشيخ فسأله : ما الموجب في تركك الخدمة، وما الموجب في عودك إليها؟ فقال له الشيخ: كانت خدمتي أوّلاً لِمَا طُبع عليه البشر من التكسب في هذه الدار لتحصيل ضروراتهم، فخطرت لي فكرة في كبر سنّي، وأن الموت قد دنا مني فقلت: ما لي وللتعب ااتَّعَبُ لغيري؟ فتركت الخدمة، وأخذت فيما أنا سائر إليه . ثم خطر لي أن قلت : ولعل أن يَطُولَ عُمُري ، فأحتاج إلى الغير، ففضلت التكسب على ما كنت أخذتُ ،بسبيله، فعدتُ إلى حالتي الأولى .

وهذه سنة الله تعالى مع أوليائه، ما سَهَّل عليهم العمل، وقطعوا مفاوز أعمالهم بالشغل بعبادته، والإقبال عليه إلا أنه عزّ وجلّ قصّر ،آمالهم فتيسر عليهم من أجل ذلك ما تعشر على

(1) رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وحسنه البغوي في المصابيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً. (۲) رواه البخاري في التاريخ والبزار في المسند والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (۳) رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأوله : كن في الدنيا كأنك غريب.

(٤) حائط بستان، حديقة .

غيرهم وقد قال عليه السلام لأسامة حين باع أو اشترى نَسِيئة إلى شهرٍ فقال: (إن أسامة لطويلُ الأمل ) (١) .

الوجه الثاني منه ،قوله عليه السلام : ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غَلَبه. معناه أن من أطال الأمل وقع له الكسلُ إذ ذاك، فغلبه الدِّينُ لأجل طول أمله . ومن آخر كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : يا هذا لا تُدخِل هَمَّ غدِك على يومك، فإن عشت فسيأتيك الله برزق جديد، وإن متَّ فلا تَشْغَلْ وقتك بما لا تلحقه. ومن هذا الباب ضاع كثير من العباد . الوجه الثالث : قوله عليه السلام: (فسدّدوا وقاربوا). سدّدوا أي: وطنوا النفس على قضر الأمل، لأن ذلك عين السداد وقاربوا أي: إن لم تقدروا على الأعلى في هذا السداد فقاربوا إليه، ولا تبعدوا عن الأعلى، والأخذ بالكمال فتُسبقوا، والمسبوق محروم .

الوجه الرابع ،قوله عليه السلام وأبشروا ) أي : أبشروا بصلاح دينكم ودنياكم إن قبلتم

ما به قد أشير عليكم، وأرشدتم إليه .

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدلجة). الكلام

على الاستعانة هنا كالكلام على الوجه قبله

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه التاسع :

الوجه التاسع

الوجه الأول منه قوله عليه السلام: (إنّ الدِّين يُسر ) . قد يريد به الرضا، لأنه معنى من المعاني يبلغ به أعلى المقامات، لأنه أعلى درجات السالكين يشهد لذلك قوله عليه السلام لابن عباس : (يا بني إن قدرت أن تعمل الله باليقين في الرضا فافعل وإلا فالصبر على ما تكره فيه خير

كثير ) (٢) .

الوجه الثاني قوله عليه السلام: (ولن) يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبه أي من لم يرض بالمقدور ،وتسخط شاد دينه فيغلبه الدين ولهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك تحرّ

(۱) رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في مسند الشاميين وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد ضعيف . قاله العراقي في تخريج الإحياء. (۲) جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أوله : يا غلام إني محدثك كلمات، احفظ الله يحفظك) رواه الإمام أحمد والبيهقي في الشعب والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك. ورواية الشيخ ابن أبي جمرة بالمعنى .

المقادير، فإن رضيتَ جَرَت وأنت مأجور ، وإن سخطت جرت وأنت مأزور (۱) . فغلبه الدين لأجل

ما ترتب عليه من الوزر عند عدم الرضا .

الوجه الثالث : قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا سددوا :أي خذوا بحقيقة الرضا و (قاربوا) أي إن لم تطيقوا ذلك فقاربوا إليه والمقاربة إليه هي: الصبر كما تقدم من ،قوله عليه السلام لابن عباس : فالصبر على ما تكره فيه خير كثير . وفائدة الرضا لا تظهر إلا عند الشدائد وتراكم المحن، وأما عند العافية والرخاء فلا ، لأن كل أحد يرضى بذلك.

الوجه الرابع : قوله عليه السلام: (وأبشروا). البشارة هنا هي أن من أخذ بالوجه المذكور أو بالوجه بعده فَلْيستبشر بنجح سعيه وظفره بمراده كلّ على قدر رضاه أو صبره، ثم يزاد له عند ذلك بشارة أخرى، وأي بشارة، زيادة على ما احتوى عليه لفظ الحديث، وهي ما تضمنه قوله تعالى في كتابه * وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) (۲) فإذا كانت الزيادة بحسب الفضل، فكيف يكون عظم البشارة؟

منحنا الله سبحانه منها من فضله ما يليق بفضله .

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من (الدلجة الاستعانة هنا كما هي في الوجه قبله .

ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه العاشر :

ميلة

الوجه العاشر

الوجه الأول منه ،قوله عليه السلام: (إن الدِّينَ يُسرِّ ) . قد يريد به اليقين، لأنه معنى من المعاني، ويُكتسب به أعلى الدرجات والمقامات. يشهد لهذا قوله عليه السلام في حق أبي بكر : (ما) فضلكم بكثرة صوم ولا صلاة ، ولكن بشيء وَقرَ في صدره) (٣) . والشيء الذي كان وقر في صدره هو قوة اليقين فنال أبو بكر ، رضي الله عنه أعلى المقامات، وفَضَل غيره بذلك المعنى الذي وقر في صدره دون تعب في العمل بجارحة . وهذا يُسر لا شك فيه .

ولأجل هذا حض عليه السلام على تكسبه ليتيسر على أمته حيث قال : (تعلموا اليقين فإني

(۱) مأزور من الوزر وهو الذنب. وهي عكس (مأجور)

(۲) سورة النساء من الآية ۱۷۳ .

(۳) قال السخاوي في المقاصد ٣٦٩ رقم ۹۷۰ : قال العراقي : لم أجده مرفوعاً، وهو عند الحكيم الترمذي في نوادر

الأصول من قول بكر بن عبد الله المُزَّني .

أتعلمه) (۱) . وهذا الذي حض عليه هو ما يُؤخذ بالكسب ؛ لأن اليقين على ضربين فيضي وكَسْبي . فأشار عليه السلام هنا إلى ما للعبد حيلة في تكسبه وكيفية التسبب إلى تعلمه هي التفكر فيما أظهر عزّ وجلّ في عالم الحس من أحكامه وإرادته الجارية مرة على نوع، وأخرى على ضده. والصورة واحدة، وما يظهر للعبد من ترجيح شيء ، ثم يرجح غيره عليه في وقته .

ولأجل النظر إلى هذه الدقائق التي أشرنا إليها قوي إيمان الأولياء والصالحين بزيادة اليقين

حتى قيل لبعضهم : بم عرفت الله تعالى؟ فقال : بنقضه لعزائمي . وكذلك أيضاً يتسبب في قوة اليقين بالنظر في ملكوت السَّماوات والأرض الذي جعله عزّ وجلّ للخليل عليه السلام سبباً لقوة اليقين كما تقدم في الحديث قيل : ولهذا قال عليه السلام : (تَفَكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدَّهر ) (۲)، لأنه بالتفكر في مثل ما ذكرنا يحصل به من اليقين في ساعة واحدة ما لا يحصل في عبادة الدهر فيتيسر عليه الدِّين وإن كان صعباً. وقد وصفهم الله ، عزّ وجلّ، بهذه الصفة في كتابه، حيث قال : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَأَنقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ

اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) (۳) .

فانظر لما أن قوي يقينهم بثقتهم بربهم زال عنهم رعب ما أخبروا به، وانقلبوا بعد ذلك بالفضل العميم والنعمة الشاملة في الدنيا والآخرة، فربحوا الدارين بتلك اللحظة التي فَوَّضوا الأمر فيها إلى ربهم، واستندوا إليه بقوة يقينهم.

الوجه الثاني : قوله عليه السلام: (ولن يُشادَ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبه) . أي من ضَعُف يقينه ، ولم يأخذ بالسبب الذي يقويه له، كما أشرنا إليه، فقد شادَّ دينه ومن شادَّ دينه غلبه الدِّين والغلبة هنا هي ما يكون من تسويلات النفس وتسويلات الشيطان ،وتخويفاته وقد وصفهم الله عزّ وجلّ، بذلك في كتابه حيث قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) ( ٤ ) .

مداری

الوجه الثالث : قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا) . أي خذوا بالأعلى من اليقين، واعملوا عليه وقاربوا أي إن لم تقدروا على الكمال فلا تبخسوا أنفسكم منه ، فيتعسّر عليكم الدين. ومن تعسر عليه دينه باءَ بالخسران والضلال . نعوذ بالله من ذلك .

(۱) تقدم تخريجه في الوجه الأول من هذا الحديث. (۲) سبق تخريجه في الحديث الأول.

(۳) سورة ال عمران من الآية ۱۷۳ والآية ١٧٤ .

(٤) سورة النساء من الاية ۱۲۰ .

الوجه الرابع : قوله عليه السلام وأبشروا) . أي أبشروا باليقين الفيضي الآتي من الفضل العميم إن أنتم امتثلتم الأمر بما أشير به عليكم فكسبتم من اليقين ما آلَ بكم إلى تكسبه .

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة) الاستعانة هنا كالوجه ،قبله يستعان بالعمل في هذه الأوقات المذكورة، ويُلجأ إلى الله فيها، لعله بفضله يجود، وبفضله أن يلهمنا النظر بالاعتبار في الأشياء التي يتقوّى بها اليقين، ويؤيدنا بالتوفيق من عنده ويزيدنا على ذلك .

الضرب الآخر : هو الذي لا يؤخذ بالكسب، وإنما يؤخذ بالفيض، فمن تعشر عليه شيء من هذا، أو حرم منه البتة، أو هو يريد الزيادة على ما حصل له فليقف بالباب في هذه الأوقات، ينجح له سعيه، ويظفَرُ بمُراده، لأن المخبر صادق، ومن أحيل عليه كريم، وهو لا يخلف الميعاد .

ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الحادي عشر :

الوجه الحادي عشر

الأول منه ،قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرُ ) . قد يريد به ترك ما للنفس من الحظوظ، واستسلامها بين يدي ،مولاها لأن طلبها حظوظها وترك استسلامها هو الحجابُ الأعظم، ولأنها ما أشرفت قط على شيء إلا أفسدته إلا من عصمه الله من شرها ، فقمعها بالاستسلام والانقياد ، وتَرْكُها

يسير على من يسره الله عليه . وقد سئل بعض الفضلاء من السالكين عن كيفية الوصول، فقال : اترك نفسك وقد وصلت .

الوجه الثاني : قوله عليه السلام (ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه. أي أن من عمل على حظوظ نفسه، فبلغها ،آمالها، وترك استسلامها، فقد شاد دينه ، وإذا شاد دينه، غَلَبه الدِّين، لأنه يُحْرَم بحجاب نفسه ما أُعِدَّ له من الخيرات عند الاستسلام من الألطاف والعون وغير ذلك.

الوجه الثالث : قوله عليه السلام: فسددوا وقاربوا) . فسدّدوا أي اعملوا على تَرْكِ ما للنفس : من الحظوظ مرة واحدة وأزيلوها عن ذلك وسلّموها إلى خالقها تَسْعَدوا (وقاربوا) أي : إن لم تقدروا على ذلك، وغلبتكم نفوسكم، فخذوا في الرياضة والمجاهدات حتى يأتي لكم منها ما قد

أشير به عليكم . الوجه الرابع ،قوله عليه السلام: (وأبشروا) . أي أبشروا إن أنتم فعلتم ما ذكر لكم بأن الله خيْرٌ لكم من أنفسكم، وأرحم بكم منكم ، وأنه يبلغكم آمالكم كيف لا، وقد قال تعالى في كتابه :

وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (۱) ، وقال تعالى ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانِ وَجَنَّتٍ هُم فيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمُ . خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (۲) ، وقال تعالى ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) (۳).

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام (واستعينوا بالغَدوة والرَّوحَةِ وشيء من الدلجة). أي استعينوا بهذه الأوقات، وحافظوا عليها تعانوا على ما أريد منكم ، وتفوزوا برضا ربكم عنكم . فهل من مشمّر يغتنم حصول زمن الإعانة قبل أن يفوته ثم لا يجد لنفسه على ما فرط فيه

إقالة ؟

ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثاني عشر :

الوجه الثاني عشر

الوجه الأول منه قوله عليه السلام: (إنّ الدِّينَ يُسْرٌ ) . قد يريد به إذا كان الدين الله خالصاً ويكون به وله فيعمل على التعظيم لحق ،مولاه، فإذا فعل هذا تيسر عليه الدين، لأنه يجد إذ ذاك حلاوة الطاعة، وتخفّ عليه بَلْ يتغذى بها، فيرجع ملكي (4) الباطن ، بَشَريَّ الظاهر. ولهذا قال

بعض الفضلاء من أهل السلوك مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قيل : وما نعيمها ؟ قال : حلاوة الطاعة. وقد ندب عزّ وجلّ لذلك في كتابه وحصّ عليه حيث قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ (٥) ، ثم جعله ، عزّ وجلّ متلوا في كل ركعة، مبالغةً في الحض على ذلك، حتى يكون حالاً، فإذا كان الله معينه وهادِيَه حُمِل باللطف والعناية، وتُوّج

بالبر والكرامة .

الوجه الثاني : قوله عليه السلام : (ولن يُشادَّ الدِّينَ أحد إلا غلبه). أي من اعتمد في دينه على نفسه، ولم يتعلق بالله فيه، فقد شاد دينه، وإذا شادّ دِينَه غلبه الدِّين، بما يظهر له من عيوب نفسه، و عجزه عن الخروج عنها، ثم يلحقه إذ ذاك أحد وجهين وكل واحد منهما إذا وجد في الشخص علم أنه هالك به إلا أن يتداركه الله باللطف والإقالة .

(1) سورة الأحزاب، من الآية ٤٣ (۲) سورة التوبة ، من الايتين ۲۱ و ۲۲ . سورة النازعات، من الآيتين ٤٠ و ٤١ .

(٤) مَلكي : نسبة إلى الملك . (٥) سورة الفاتحة ، الآية ٥ .

(أحدهما ) : القنوط من عدم بلوغ ما يؤمل فإذا اتصف بهذه الصفة خيف عليه إذ ذاك، لقوله

عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ ، يقول : لو كنتُ معجّلاً عقوبة لعجلتها على القانطين من

رحمتي) (1) .

على

(ثانيهما): رضاه بما هو عليه من الحال ودوامه عليه. فإذا اتصف بهذه الصفة أيضاً خيف عليه، لقوله تعالى في كتابه : ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) (۲) قال المفسرون : معناه : أنهم يصبرون الأفعال التي يعلمون أنها توجب لهم النار ، فكأن الصبر في الحقيقة على النار ، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (۳) ، ونحن نشاهدهم يأكلون طعاماً طيب المذاق، ولكن لما أن كان ذلك الأكل يؤول بهم إلى النار جعله عزّ وجلّ، كأنه النار .

الوجه الثالث ،قوله عليه السلام: (فسددوا وقارِبوا) . (سدّدوا) أي سددوا ما بينكم وبين أنفسكم، وتعلَّقوا بربكم في كل لحظاتكم واستعينوا به في كل أموركم و (قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السَّداد فقارِبوا إليه وخذوا أنفسكم بالرياضة في الوصول إليه، ولا تَغْتَرُّوا بطول المهلة لئلا يقال لكم : ﴿ أَوَلَوْ نُعَمِّرَكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ (٤) .

الوجه الرابع : قوله عليه السلام وأبشروا ) . أي إن تعلقتم به واستسلمتم إليه فأبشروا أنكم تجدونه حيث تؤملون. كيف لا ؟ وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام (أنا عند ظن عبدي بي)(٥).

الوجه الخامس ،قوله عليه السلام : ( واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلجة أي استعينوا بهذه الأوقات واغتنموا العمل والوقوف فيها بباب ،مولاكم تعانوا على ما أريد منكم ويسهل عليكم ما عَسُر . فالحاصل من هذا الوجه لمن امتثله زيادة بشرى على البشرى المتقدمة، لأن الإعانة تقتضي البشرى وقد تقدمها بشرى أخرى والبشارات هنا ،متعددة والمخبر صادق

والمقصود غني كريم ، يقبل من المُحْسِن ، ويتجاوز عن المسيء فهل من مشمّر صادق؟ ومثل هذه البشارة ما تضمنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ؟ أَلَمْ يَجْعَلْ

(1) لم نعرف مصدره. (۲) سورة البقرة من الآية ١٧٥ .

(۳) سورة النساء من الآية ۱۰ و (ناراً) مجاز مُرْسَل علاقته المستقبلية

(٤) سورة فاطر من الاية ۳۷ .

(٥) حديث قدسي. متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ؟ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ؟ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ؟ فَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولم ﴾ (۱) وذلك أن الله عزّ وجلّ، لما أن قال للملائكة ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالت الملائكة : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) (۲) فغضب عزّ وجلّ عليهم ففزعوا، فطافوا بالعرش أسبوعاً، فغفر عزّ وجلّ لهم وأقالهم ، ثم قال لهم : ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به المذنبون من بني آدم أسبوعاً كما طفتم أنتم بالعرش فأغفر لهم وأرحَمَهم ، كما فعلتُ بكم. ففعلوا .

فلما جاء الطُّوفان رُفع، وبقي أساسه ثم ،أمر عزّ وجلّ خليله إبراهيم عليه السلام ببنيانه، وأمره أن ينادي إليه ، وقال له : عليك بالنداء وعلينا البلاغ فامتثل ما قيل له، فأوقع الله صوته لكل من كان سبق في علم الله أنه يحج إليه من ولد آدم في الأرحام والأصلاب. فلما أن تعرض صاحب الفيل إلى هدم هذا البيت الذي جعله عزّ وجلّ سبباً لرحمة بني آدم وللمغفرة لهم، وأراد أن يحج الناس إلى بيت بناه صاحب الحبشة، وكان جيشه لا يطاق فعل الله به ما قد نص في السورة ومتضمن الإخبار بذلك وفائدته أن تعلم عِظم رحمة الله عزّ وجلّ ولطفه ،بخلقه، لأنه عزّ وجل، يقول بمتضمن ذلك الإخبار : (يا أيها المؤمن المذنب ؛ انظر إلى أثر قدرتي كيف أهلكتُ من أراد أن يقطع عنك ،رحمتي، مع تمردك عَلَيَّ، وأخذك لنعمي لتستعين بها على المعاصي؟ هذا ما أنا لك، وأنت على هذا الحال فكيف أكون لك إذا أقبلت عليَّ، وامتثلت أمري واتَّبعتَ كتابي وسنة نبيّي؟ أيقدر أحد على ضرّك، أو يصل إليك بسوء؟ كيف تكون لو تركتك لنفسك، أو تركتُ نصرتك إلى غيري أو أحوجتك إلى غيري؟ أقبل عليّ تجدني بك رحيماً، وعليك منعِماً، ولك وليا وناصراً. أولم تسمع خطابي لك ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (۳) فاستنصر بي أنصرْك ، وتضرع إلي أرحمك إني أرحم بك منك وأقوى على نصرتك منك .

فمن تأمل هذه البشارة ،ففهمها وعمل عليها، وجدها صدقاً حقاً ولقد رأيت بعض الفقراء، وكانت سنه فوق المائة سنة ، يقول : منذ رأيت شيخي لم أطلب حاجة من أحد فيقال له في ذلك فيقول : إنه أوصاني وقال لي في وصيته : اجعل حاجتك في كفكَ. فكنتُ كلّما أردت حاجة بسَطتُ يدي إلى الدعاء، فدعوتُ الله في قضائها، فإن كانت خيرا قضاها لي، وإن كانت شرًا أبعدها عني .

ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث عشر .

(۱) سورة الفيل الآيات ١ - ٥ . (۲) سورة البقرة من الاية ۳۰ .

(۳) سورة الروم، من الآية ٤٧ .

الوجه الثالث عشر

الأول منه قوله عليه السلام: إن الدِّينَ يُسرِّ ) . قد يريد به جميع الوجوه المتقدم ذكرها وما يتشعب منها ، أو أكثر منها، لولا التطويل لذكرنا منها جُمَلاً كلها بأدلتها . لكن من نظر وتأمل ما أشرنا إليه على تنويع احتمالاته سهل عليه النظر فيما عداه وبانت له طرق الرشاد، وتبين له اليسر على مقتضى احتمالاته ومشادة كل وجه بما يضاده، وبشارته بحسبه والاستعانة فيه بحسب مناطه والزيادة في الكل بحسب الفضل العميم .

جعلنا الله ممّن هداه لذلك ،بمنه وأسعده بما إليه هداه .

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

اليه

حالة

خاردار

مان

لولنا (1)

حديث وفد عبد القيس

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن وفد عبد القيس لما أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، قال : مَنِ القوم ؟ أو من الوفد؟ قالوا : ربيعة قال : مرحباً بالقوم أو بالوفد، غيرَ خَزايا ولا نَدامَى فقالوا : يا رسول الله ، إنَّنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحيّ ال من كفار مُضَر، فمُرْنا بأمرٍ فَضْلٍ نُخبِرْ به مَن وَراءنا، ونَدخُل به الجنةَ. وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده . قال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تُعطوا من المَغْنَمِ الخُمس (۱) . ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدُّبَاءِ، والنقير والمزفّت. وربما قال المُقيَّر. وقال : احفظوهن، وأخبروا بهنّ مَن وَراءَكم.

ظاهر الحديث يدل على وجوب الأربعة المأمور بها فيه وترك الأربعة المنهي عنها فيه، والحض على ذلك بالحفظ والتبليغ . والكلام عليه من وجوه :

الوجه الأول: قوله (مَن القَوْمُ أو مَنِ الوفد . هذا شك من الراوي في أيهما قال عليه السلام، هل القوم أو الوفد؟ وفي هذا دليل على صدقهم وتحرزهم في النقل، لأنه لما أن وقع له الشك أبدى ما كان عنده .

الوجه الثاني : فيه دليل على أن من السنة سؤال المقصود للقاصد عن نفسه حتى يعرفه ؛ لأنه،

عليه السلام، سأل عن هذه القبيلة حين قدمت عليه حتى عرفها .

(۱) لعلها إشارة منه إلى نصرهم على كفار مضر، وأخذ الغنائم منهم.

الوجه الثالث : في هذا من الفقه أن يُنزَلَ كل إنسان منزلته ؛ لأن سؤاله عليه السلام إنما كان

لأجل هذا المعنى ،ولأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال : (أنزلوا الناس منازلهم) (۱) . فما نص عليه في هذا الحديث فعله فيما نحن بسبيله، فإذا لم يعرف الإنسان القادم عليه لم يتأنَّ له أن يُنزِلَه منزِلَتَه . ولهذا كان الخلفاء، رضوان الله عليهم، إذا جلس أحد بإزائهم، وهم في المسجد سألوه : ما معك من القرآن؟ ولا ذاك إلا لأن يُنزِلوه منزِلَتَه ، لأن الفضل كان عندهم بحسب ما يكون عنده من القرآن .

الوجه الرابع : قوله (قالوا ربيعة) فيه دليل على ما خَصَّ الله عزّ وجلّ به العرب من الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لما أن سأل عليه الصلاة والسلام من هم؟ لم يذكروا له أسماء أنفسهم ولا انتسبوا إلى آبائهم وأجدادهم، لأن ذلك، يطول الكلام فيه، وقلّ أن تتأتى المعرفة بهم عن آخرهم . لذلك أضربوا عن ذلك، وسمّوا القبيلة التي يحصل بها المقصود دون إطالة كلام إبلاغاً في البيان، وإيجازاً في الاختصار .

الوجه الخامس : فيه دليل على جواز الإخبار بالكل عن البعض، لأن من قدم في هذا الوفد لم يكن قبيلة ربيعة كلها، وإنما كان بعضها، فسموا البعض بالكل، وهذا مستعمل في ألسنة العرب كثيراً ما يسمون البعض بالكل، والكل بالبعض. وهذا من فصيح الكلام.

الوجه السادس ،قوله صلى الله عليه وسلم مرحباً بالقوم أو بالوفد ،مرحباً ، أي صادفتم رَحباً وسَعَة. وفيه دليل على التأنيس للوارد، وذلك بشرط أن يكون ما يأنسون به مطابقاً لحال المتكلم، لئلا يدرك الوراد طمع في المورود عليه فيما لا يقدر عليه لأن الرَّحبَ والسَّعة التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام للقادمين عليه كانت عنده حقيقة حِسّاً ومعنى.

الوجه السابع : فيه دليل على أن من حسن المخاطبة تسمية الوارد حين الكلام معه، لأنه عليه السلام، قد سمّى هذه القبيلة التي وردت عليه حين خاطبهم ، حيث قال: (مرحباً بالقوم أو بالوفد على شكٍّ الراوي في أيهما قال عليه الصلاة والسلام، ولأن تسمية القادم زيادة في التأنيس وإدخال سرور عليه، وفي إدخال السرور عليه من الثواب ما قد علم، ولأنه قد يظن القادم أن الكلام مع غيره لأجل قلة أُنْسِه بالمَحَلّ .

الوجه الثامن : قوله عليه السلام: (غير خزايا) . أي أنتم مسعوفون (۳) في كل مطلوباتكم، لأن مَن لم يَخْزَ فقد أجيب وأسْعِف ، لأن نفي الشيء يوجب ضده.

(1) أورده مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة رضي الله عنها معلقاً. (۲) كذا. والصواب: مُسْعَفون». وفي نسخة الأحمدية : مسعودون .

الوجه التاسع : قوله عليه السلام ولا) ندامى هذا إخبار لهم بالمسرة في الآجل، لأن

الندامة في الغالب لا تكون إلا في العاقبة لأن حُبَّ الإنسان في الشيء أولاً قد يَخْفى عليه، لأجل حبه فيه فائدة ما ترك من أجله . فقد يتبين له بعد حصول المراد فائدة ما ترك، فيندم عليه أو يسرّ . فأخبرهم عليه السلام أولاً بالخير عاجلاً وآجلاً ، فلا يزال الخير لهم ، والفرح متصلاً . وكذلك هو أبداً كل من قصد جهة من جهات الحق سبحانه ، حصل له الفرح والفَرَجُ عاجلاً وآجلاً ، لأن النبي قال: (مَن ترك شيئاً لله عَوَّضه الله خيراً منه من حيث لا يحتسب) (۱) . فكل من ترك جهة الله فهو قاصد الأخرى بدلاً منها فالوعد الجميل خير، وإنما يكون الندم والحزن والخسران في غير هذه

الجهة المباركة .

الوجه العاشر : في هذا دليلٌ لأهل الصُّوفة في عملهم على ترك ما سواه وإقبالهم به عليه، إذ إن ذلك يُنالُ به حسن الحال في الحال والمآل

الوجه الحادي عشر : قولهم : يا رسول الله فيه دليل على أنّ هذا الوفد كانوا مؤمنين حين قدومهم، لأنه لو كانوا غير مؤمنين حين قدومهم لم يكونوا ليذكروا هذا الاسم، وَلَذَكروا غيرَه

من الأسماء .

الوجه الثاني عشر : فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل العلم والفضل والصلاح والخير وأن يُنادوا بأحب أسمائهم إليهم، لأنهم نادوا النبي ، لا لا لا له بأحب أسمائه إليه وأعلاها، وذلك من التأدب منهم معه والاحترام له .

الوجه الثالث عشر : قولهم : (إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام هذا الشهر هو رجب الفرد، شهر الله الأصم (٢) . فيه دليل على تعظيم هذا الشهر وفضله، إذ إن الله عزّ وجلّ، جعل له حرمة منذ كان في الجاهلية وفي الإسلام

الوجه الرابع عشر : فيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ لأن الجاهلية قد عظَّمت هذا الشهر، ولم تَدْرِ لماذا عظمته، إلا أن ذلك وقع في نفوسها فعظَّمته. والمؤمنون عظموه لأجل إعلامهم بحرمته فأبدى القادر ما شاء كيف شاء مرةً بواسطة، ومرَّة بغير واسطة .

الوجه الخامس عشر : فيه دليل على لطف الله تعالى بجميع خلقه ورأفته بهم كانوا مؤمنين أو

(1) لم نعرف مصدره . (۲) سُمِّي بالأصم لأن العرب فيه كانوا لا يتصايحون لحرب

کافرین

لأن إلهام الجاهلية لتعظيم هذا الشهر حتى يرفعوا فيه القتال ويسلكوا فيه السبيل حيث شاؤوا لا يعترض أحد أحداً ، لطف (۱) منه ، عزّ وجلّ، ورحمة بهم في هذه الدار .

الوجه السادس عشر : فيه دليل على أن كل من جعل الله فيه سِرًّا من الخير وألهم أحداً إلى تعظيمه وحرمته عادت عليه بركته وإن كان لا يعرف حقه لأن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا الشهر وجعل له حرمة يوم خلق السماوات والأرض. فلما ألهم هؤلاء تعظيمه مع كونهم جاهلين بحرمته عادت عليهم البركات التي أشرنا إليها . الوجه السابع عشر : قولهم : ( بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر) أي أن هؤلاء الكفار يقطعون بينهم وبين النبي ، الله ، فلا يستطيعون المجيء إليه بسببهم إلا في الشهر الفرد الذي يرتفع فيه القتال وفيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجباً كان أو مندوباً لأنهم ذكروا العذر الذي يمتنعون بسببه من المجيء إليه وبيَّنوه .

الوجه الثامن عشر : في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين، لأنهم سموا مضر كفاراً ؛ فلو كانوا غير مؤمنين لما سمّوهم كفاراً .

الوجه التاسع عشر : فيه دليل على أن التوفيق تخصيص بالقدرة، ولا يؤثر فيه قرب النسب، ولا قرب المكان ولا قرب الزمان، لأن قبيلة مضر (۲) أقربُ فمُنِعوا، وقبيلة ربيعة أبعد فأسعِدوا ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله : لو كان الظفر بالهياكل والصور ما ظفر بالسعادة بلال الحبشي وحُرِم أبو لَهَبٍ القرشي .

منهم

لديهم .

الوجه العشرون : قولهم : فمُرْنا بأمرٍ فَضل أي قطع ، لا نَسْخَ بعده ولا تأويل، وذلك حذراً لئلا يحتاجوا في أثناء السَّنة للسؤال أيضاً والتعليم فلا يجدوا سبيلاً إليه، لأجل العذر الذي كان وفيه دليل على طلب الإيجاز في التعليم مع حصول الفائدة فيه، وهو من الفقه والتيسير . الوجه الحادي والعشرون : قولهم : نُخبِرْ به من وراءنا فيه دليل على جواز النيابة في العلم . الوجه الثاني والعشرون : قولهم ونَدخُلْ به الجنة فيه دليل على أنه يُبدأ أولاً في السؤال عن أمر بما هو الآكد ،والأهم، لأنهم سألوا أولاً عن الأمر الذي يدخلون به الجنة، وهو الأهم، ثم بعد

ذلك سألوا عن غيره .

الوجه الثالث والعشرون: فيه دليل على أن الأعمال هي الموجبة لدخول الجنة ولا يظن ظان

(1) لطف : خبر لـ (أن) مرفوع بالضمة . (۲) إن سيدنا محمد الله من مضر .

أن هذا معارض لقوله عليه السلام: (لن) يدخل أحد بعمله الجنة. قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟

قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته) (۱)

والجمع بينهما أن يقال (۲) : الحديث الذي نحن بسبيله خطاب للعوام، لأنه مقتضى الحكمة، وعادة الله تعالى أبداً أنما يخاطبهم بما تقتضيه الحكمة، والقرآن بذلك ملان. فمن ذلك قوله تعالى : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (۳) إلى غير ذلك من قوله تعالى : ( بِمَا عَمِلْتُمْ ) (٤) و بِمَا كُنتُر تَكْسِبُونَ ) (٥) ( وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (٦) بِمَا أَسْلَفْتُمْ ) (٧) ( بِمَا تَفْعَلُونَ ) (۸) إلى غير ذلك وهو كثير . والخطاب في الحديث الآخر لأهل الخصوص ، وهم المنهمكون في التوحيد والمحققون بالقدرة. فلو قيل لمن يتحقق بالقدرة هذا الحديث لأدى بهم الأمر إلى ترك مقتضى الحكمة، وترك العمل بمقتضى الحكمة كفر بإجماع وإن اعتمد على القدرة والعمل بمقتضى الحكمة، وإن إجلال القدرة إيمان محض. ويدخل بذلك في ضمن قوله تعالى : لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ) (۹) والنهاية هي الجمع بين مقتضى الحكمة بتصحيح العمل وإجلال القدرة بتفويض الأمر لها . ولهذا قال بعض الفضلاء : اعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل، وتَوَكَّلْ تَوَكُل من لا يرى خلاصاً إلا بالتوكل ولأجل العمل على هذه الصفة ،أثنى عزّ وجلّ في كتابه على يعقوب عليه السلام، حيث قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ (١٠) لأنه جمع بين الحقيقة والشريعة . وسأذكر ذلك وأبينه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى .

(4),

الوجه الرابع والعشرون قوله (وسألوه عن الأشربة الأشربة في اللغة تطلق على كل شراب، عدا المحرَّم ، لأن المحرَّم عندهم يسمى بالخمر والأشربة المعهودة عندهم هي ما كان من نقيع التمر ونقيع الزبيب وغير ذلك مما فيه مصلحة لهم . وفي سؤالهم عن الأشربة دليل على أنه

(۱) رواه البخاري في كتاب الرقاق ومسلم في صفة القيامة والجنة وابن ماجه في الزهد بألفاظ مختلفة . (۲) جاء في النسخ الأخرى بدلاً من هذا التعليل ما يلي : إن الأعمال هي سبب لدخول الجنة . ثم إن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها برحمة الله تعالى وفضله . فصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل، وصح أنه دخل بالأعمال، أي بسببها وهي من الرحمة فدخول الجنة برحمة الله تعالى والدرجات بحسب الأعمال .

(۳) سورة النحل من الآية ۳۲ .

(٤) سورة التغابن من الآية 7 (٥) سورة الأعراف من الآية .۳۹ (٦) سورة البقرة من الاية ١٤١ . (۷) سورة الحاقة، من الآية ٢٤ . (۸) سورة النمل من الآية .۸۸ .

(۹) سورة يونس، من الاية ٢ (۱۰) سورة يوسف من الآية ٦٨ .

نهي لأنه لو لم يبلغهم في ذلك شيء لما سألوه عنها . وفيه زيادة دليل ،

بلغهم في بعضها تحريم ) لما قدمناه من أنهم كانوا مؤمنين قبل قدومهم .

الوجه الخامس والعشرون : قوله : ( فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع فيه دليل على أن الجواب

لا يكون إلا بعد تمام الخطاب، لأنه عليه السلام لم يجاوبهم حتى أتموا جميع سؤالهم . الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن الفصيح من الكلام الإجمال أولاً، ثم التفسير للإجمال بعده، لأنه عليه السلام أجمَلَ لهم أولاً، ثم بعد ذلك فَسَّر ما أجمل . والحكمة في ذلك أنه عند الإخبار بالإجمال يحصل للنفس المعرفة بغاية المذكور، ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه فيكون ذلك أوقع في النفس، وأعظم في الفائدة. الوجه السابع والعشرون : أمرهم بالإيمان بالله وحده فيه دليل على أنه يبدأ من الجواب بما هو الأهم والآكد، لأنه عليه السلام، بدأ أولاً بالأصل الذي هو الإيمان، ثم بعد ذلك أجاب

عن الغير .

الوجه الثامن والعشرون : فيه دليل لقول من يقول بأن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة لأنه عليه السلام، لم ينص على الأعمال حتى أثبت الإيمان.

الوجه التاسع والعشرون : قوله أتدرون ما الإيمان بالله وحده فيه دليل على استفهام المعلم للمتعلم عما يريد إلقاءه إليه، لأنه عليه السلام استفهم عن حقيقة فهمهم في الإيمان، ثم بعد

ذلك بيَّنه لهم .

الوجه الثلاثون : قوله : (قالوا : الله ورسوله أعلَمُ فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل الفضل والدين، لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي ، الله فردوا الأمر إليه فيه فيما استفهم عنه تأدباً واحتراماً منهم له، والحكمة في ردهم الأمر إليه من وجوه : ((الأول) : التأدب كما تقدم . (الثاني) : أن سمعهم منه تحقيق وتثبيت لما كان عندهم. (الثالث) : خيفة التوقع لئلا يكون زاد في الأمر شيء أو نقص، لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء بالزيادة والنقص، وهذا الوجه قد انقطع بانتقال الشارع عليه السلام، والوجهان الأولان باقيان لأن علتهما موجودة

الوجه الواحد والثلاثون في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي ، واحترموه غاية الاحترام وذلك مثل ما التزم الصحابة، رضي الله عنهم، من التأدب والاحترام حين قال ، له م ه م ا ) أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟ أي يوم هذا ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم) (۱) . وقد أقروا في هذا اللفظ الله بالوحدانية ، وله ، ، ، ، بالرسالة .

(1) رواه البخاري في الحج، ومسلم في القسامة

الوجه الثاني والثلاثون قوله : (قال) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيه دليل لمن يقول بأن أول الواجبات الإيمان دون نظر ولا استدلال لأنه عليه السلام لما أن ذكر لهم الإيمان لم يذكر لهم بعده نظراً ولا استدلالاً

الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على جواز الجواب بأكثر مما سئل عنه، بل يلزم ذلك إذا كان هو الأصل الذي عليه يتقرر ،الجواب وبعد صحته يتقرر ،السؤال لأنهم إنما سألوه عن الأفعال التي توجب لهم الجنة، فأجابهم عليه السلام عن الأفعال والاعتقاد وهذا مثل قوله ، ، حين سئل عن ماء البحر ، فقال : هو الطَّهُورُ ماؤُهُ، الحِلُّ مِيتَتُه) (۱) ، فأجاب بأكثر مما سئل عنه، لأن

الحاجة دعت إليه .

الوجه الرابع والثلاثون قوله : (وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وأن تعطوا من المَغْنَمِ الخَمُسَ) فيه دليل على أن الفروع لا تترتب على الأصول إلا بعد تحققها، لأنه ، ، لم يذكر لهم فروع الإيمان حتى تحقق منهم ،به ، وإن كان ما تقدم له من قرائن الحال يقتضي أنهم مؤمنون كما ذكرنا ، لكن لم يقنع بذلك حتى كان بالمشافهة والتعليم.

الوجه الخامس والثلاثون: قد اختلف العلماء في ترك النبي ، ، ، ذكر الحج هنا. فمن قائل يقول : إنما سكت عن الحج لعلم الناس به من كثرة شهرته، وهذا ليس بالجيد، لأنه يلزم على ذلك ألا يذكر الصلاة من باب أولى، لأن الصلاة تتكرر في اليوم خمس مرات، وذلك أعظم ما يكون من الشهرة. والحج إنما هو مرة في السنة، فقد لا يعرف، ولا يعهد، ولا سيما في أول الإسلام ومن قائل يقول : إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض بعد وهذا لا بأس به، لكن بقي عليه شيء . وهو : : أن هذا الوفد قد اختلف في قدومه فقيل كان قدومه سنة خمس، وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع . فعلى القول بأن قدومه سنة خمس أو سبع فهذا التوجيه صحيح، لأن الحج لم يكن فُرِضَ بَعْدُ، وعلى القول بأن قدومه كان سنة تسع فيبطل التوجيه بذلك مرة واحدة

ويظهر لي في هذا أنه إن كان القدوم سنة خمس أو سبع فالتوجيه ما قاله هذا القائل من أن الحج لم يكن فرض بعد، وإن كان قدومه سنة تسع فالتوجيه الذي لاخفاء فيه هو أنه إنما سكت عن لأن الله عزّ وجلّ، لم يفرضه إلا مع الاستطاعة، وهؤلاء ليس لهم استطاعة، لأن العدو قد بينهم وبين البيت وهم كفار مضر . فكيف يذكر لهم الحج وهم قد نصوا له أولاً على العلة التي هي موجبة لسقوطه عنهم ؟ فيكون تكليف ما لا يطاق ؟ وذلك ممنوع في هذه الشريعة السمحة .

الحج

حال

(۱) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

ثم انظر إلى ما يؤيد هذا ويوضحه، وهو أنه لما أن ذكروا له أنهم في المضاربة مع أعدائهم والمضاربة إذا كانت فللغالب الغنيمة، فأضرب لهم عمّا لا يجب عليهم، وهو الحج، لأجل العذر الذي ذكروا له، ونص لهم على الخُمس الذي لم ينص لغيرهم عليه، لأجل علمه بأنهم محتاجون إلى ذلك، لأجل أن الغنيمة في ضمن القتال ، كما تقدم (۱) .

الوجه السادس والثلاثون في هذا دليل على أن يخبر كل إنسان بما هو واجب عليه في وقته ولا يلزم غير ذلك، لأنه عليه السلام، ذكر لهم ما هو الواجب عليهم في وقتهم، وترك ما عداه وإن كان يلزمهم بعد ذلك . ولأجل هذا قال بعض العلماء في معنى قوله : طلب العلم فريضة على كل (مسلم) (۲) قالوا : المراد به ما هو واجب عليه في وقته (۳) .

الوجه السابع والثلاثون لقائل أن يقول : قد قال أولاً فأمرهم بأربع ، ثم أتى في التفسير بخمس، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وإعطاء الخُمُس؟ والجواب : أنهم سألوا عن الأعمال الموجبة لدخول الجنة. فأمرهم،

عليه السلام أولاً بالأصل الذي تترتب عليه الأعمال، وهو الإيمان، ثم أجابهم بعد ذلك بالأربع. فإن قال قائل : نعد الإيمان من الأربع ونجعل الآخر زائداً على الأربع. قيل :له ليس الأمر كذلك، لأنه قد علم أنهم مؤمنون بالأدلة التي تقدمت في الحديث على ما بَيَّنَّاه، لكن احتاج إلى ذكر الإيمان هنا للمعنى الذي قدمناه وهو ألا يكون فرع إلا عن أصل متحقق، فذكره ليقعد هذه القاعدة الشرعية وفيه أيضاً معنى ثانٍ وهو أنه لو كان الزائد الخامس لأبداء الراوي، فقال: وزادهم على ذلك، لأنه قد تحرى فيما هو أقل من هذا في أول الحديث حيث قال : مَنِ الوفد أو مَنِ القوم؟ فكيف به في هذا؟ وعادة الصحابة أبداً التحري الكلي والضبط الكلي في نقلهم، فلما كان الأمر ظاهراً، كما ذكرنا، لم يحتج إلى بيان ولا إلى عذر .

(1) جاء في حاشية نسخة باريس نقلاً من ابن حجر، ما يلي : ... قول من قال : إن ترك ذكره - يعني الحج - لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية. بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة، لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها. لكن يمكن أن يقال: إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي يجب عليهم فعلا وتركاً. ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع

أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها .

(۲) رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه . (انظر النظم المتناثر (٢٧/٢٦ ) . (۳) كأن هذا الحديث يشير إلى وجوب إتقان العلوم المستجدة في كل عصر لتبقى الأمة الإسلامية رائدة وسابقة لغيرها، ولئلا تكون عالة في هذه المخترعات والاكتشافات الجديدة على غيرها فيسهل استنزاف خيراتها

وثرواتها وخيرة أبنائها .

الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على أن تارك هذه الأفعال المذكورة لا يدخل الجنة وإن

كان مقراً بها، لأنهم سألوا عن الأعمال التي بها يدخلون الجنة ، فنص لهم عليه السلام على هذه الأعمال بعدما قرر لهم الإيمان، كما تقدم فالحاصل من هذا أنهم إن لم يعملوا ما نص لهم لم يدخلوا الجنة، وإذا لم يدخلوا الجنة دخلوا النار لأنه ليس هناك إلا الداران وبهذا يحتج من يقول : بأن التارك لها مع إقراره بها يقتل كفراً، وهو القليل، والجماعة على أنه يقتل حدا لا كفراً. وهو في المشيئة إن شاء، عزّ وجلّ، عذَّبه ، وإن شاء غَفَر له . وإذا عذبه فالتخليد ليس هناك لاعتقاده الإيمان.

الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على أنه يُبدأ أولاً بالفرائض، ويبدأ من الفرائض بالأوكد فالأوكد، لأن الفرائض كثيرة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك ، ولكنه ،

قد فضل هذه على غيرها وما فضل على الغير فالمحافظة عليه اكد ، مع أن المحافظة على الكل واجبة . الوجه الأربعون فيه دليل على فضل العلم على غيره من الأعمال، لأنه لا يُعلم هذا وأمثاله إلا بالعلم وعدم العلم به سبب لوقوع الخلل فيه . وإذا وقع الخلل فيه أو ترك وقع الحرمان من دخول الجنة والهلاك، نعوذ بالله من ذلك . الوجه الحادي والأربعون فيه دليل على أن أفضل العلوم علم الكتاب والسنة، لأنه لا يعرف هذا وأمثاله إلا من الكتاب والسنة ، وهو المقطوع به والمخلص الوجه الثاني والأربعون قوله: (ونهاهم عن أربع : الحَنْتَم ، والدُّبّاء، والنقير، والمزَفّت وربما قال المقيَّر الحنتم: اختلف فيه، فقيل : هو المطلي بالزجاج ، وقيل : هو الخَليّ عن ذلك . والدباء هي اليقطين والنقير هو عود النخل كانت العرب تحفر عود النخل وتنبذ فيه . والمزفّت هو ما طلي بالزفت، وربما قال : المقيَّر . شك من الراوي في أيهما فقال له الله ، ولكن المعنى يجمعه مع الأربع، وإن كان لم ينص عليه ، لأن المقيَّر هو ما طُلِي بالقار .

الوجه الثالث والأربعون : ظاهر هذا النهي يدل على تحريم الانتباذ في هذه الأواني لأن النهي يقتضي التحريم، وليس كذلك لقوله عليه السلام حين سئل عنها ثانية فقال : (انبذوا ، وكلُّ مسكر حرام) (۲) فأخبر عليه السلام، أن النهي إنما كان خيفة إسراع التخمر، فإذا أُمِن مِن ذلك، فلا

بأس به.

الوجه الرابع والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله، حيث يقول بسد الذرائع، لأنه،

، إنما نهى عن الانتباذ في هذه الأواني، لأن التخمر يسرع فيها

(1) كأنه يريد المتفق عليه .

(۲) رواه مسلم وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة .

الوجه الخامس والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله أيضاً في المشهور عنه أن

المرء يخاطب بالإيمان وإن لم تبلغه الدعوة، لأن نهيه عليه ،السلام عن الانتباذ في هذه الأواني إنما هو من أجل التخمر الذي يسرع إليه كما قدمنا وصاحبه لم يشعر به فیشر به جاهلاً به، فيكون قد شرب حراماً، وهو لم يشعر فيعاقب عليه فنهى عليه السلام عنها لأجل هذا المعنى، وإنما أحلها لهم بعد ذلك لأنهم قالوا : إن أرضنا لا تحمل الأزقاق (۱) من أجل حيوان عندهم يقطعها لهم. فلما أن تبين له هذا العذر منهم ورأى أنهم مضطرون إليها قال انبذوا ) وكلّ مسكر حرام إيقاظاً لهم وتنبيهاً على تفقدها في كل وقت وحين لئلا يسرع التخمر لها وهم غافلون. الوجه السادس والأربعون فيه دليل على فصاحته عليه السلام وإبلاغه في إيجاز الكلام مع إيصال الفائدة بالبيان لأنهم سألوا عن الأشربة وهي كثيرة. فلو ذكرها لاحتاج إلى تعدادها كلها ووصفها، ولكنه عليه السلام أضرب عن ذلك وأجاب عن الأواني المذكورة لا غير. فكأنه عليه السلام يقول : الأشربة كلها حلال إلا ما نبذ في هذه الأواني . فكان هذا تصديقاً لقوله عليه السلام: (أوتيت جوامع الكلم) (۲) .

الوجه السابع والأربعون : ظاهر هذا الإخبار يدل على أن الأشربة كلها حلال . وليس كذلك، لنهيه عليه السلام في حديث آخر عن شراب الخليطين مثل التمر والزبيب ، أو الزبيب والعنب، إلى غير ذلك، مع أن العلة واحدة في الكل وهي إسراع التخمر. فعلى هذا يجب اطراد هذه العلة، فحيثما وجدت وقع المنع ، وحيثما فقدت اطردت الإباحة .

الوجه الثامن والأربعون ،قوله عليه السلام (احفظوهن فيه دليل على الأمر بحفظ العلم

والوصية عليه .

الوجه التاسع والأربعون قوله عليه السلام وأخبروا) بهن مَن وَراءَكم فيه دليل على الحض على نشر العلم وتبيينه، وفيه دليل لما قدمناه وهو جواز النيابة في العلم . وصلّى الله على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً .

الله عنه .