يشهد لهذا ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي النبي يوماً فقال يا رسول
الله بماذا بُعِثْتَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالعقل قال ومَن لنا بالعقل يا رسول الله قال إن العقل لا حَدَّ له ولكنْ مَن حرَّمَ حرام الله وحلل حلالَه سُمِّي عاقلاً فإن اجتهد سُمّي عابداً فإن اجتهد سُمِّي جواداً فإن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بغير حظ من عقل يدلّ على اتباع ما أَمَرَ الله واجتناب ما نَهى الله فَأُولئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعا 1
وكذلك أيضاً إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال فهذا أيضاً يقع في المغالبة من وجهين أحدهما العجز لقوله إنّ المُنبَيَّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبْقَى لأن البشرية لا تحتمل ذلك الثاني أنه قد يجتمع عليه في وقت أو في جل الأوقات أنواع من الواجبات والمندوبات في زمن فرد ولا يقدر إلا على أحدها فقد وقع في المغالبة لأجل ما أخذ نفسه به وإنما حال الكمال في هذا أن يأخذ نفسه أولاً بما أشرنا إليه ويعمل على متضمن الكلام على بقية الحديث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول لم لم يقل عليه السلام ولن يُشادَّ رجل أو امرأة وقال بدله أحد قيل له ذلك يدل على فصاحته وبلاغته لأن أحداً في اللفظ أقل كلاماً وأكثر فائدة ولأنه يطلق على الذكر والأنثى والقوي والضعيف والحر والعبد والعالم والجاهل والعَلِيّ والدَّني
على اختلاف أحوال العالم
الوجه الثالث قوله صلى الله عليه وسلم فَسدَّدوا وقاربوا احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد
واحتمل أن يكونا لمعنَيَيْنِ
فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى ولم يكن بالدون فهو متوسط بينهما
وإن كانا لمعنيين فيكون المراد بـ سدّدوا الأخذ بالحال الوسط على ما تقدم والحال الوسط هو ما نَصَّ النبي لا اله الا هو عليه في حديث عبد الله بن عَمْرو حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم صُمْ وأفطر وقُمْ ونَمْ وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقًّا ثم عمَّم بعد ذلك فقال وأعطِ
1 لم تعرف مصدر الحديث أما الآية الكريمة فهي في سورة الكهف من الآية ١٠٤ رواه البيهقي في السنن وفي شعب الإيمان قال الزبيدي فيه اضطراب روي موصولاً ومرسلاً ومرفوعاً و موقوفاً والمنبَتْ هو من جهد دابته حتى أعيت والحديث يقال لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربّما يفوته على نفسه
۱۰۱
لكل ذي حق حقه فهذا هو السداد وهو أن يمشي المرء في الأمور كلها على ما فُرِض ونُدِب من
غير تغال ولا تقصير في جهة من الجهات
ويكون المراد بـ قاربوا أي من بلغ منكم إلى حد السداد الذي هو ما ذكرناه ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه لأن ما قرب من الشيء أعطِي حكمه وهذا بشرط ألا يقع بهذا التقريب خَلَل ولا نقص في شيء من الواجبات لأن الواجب إذا كان فيه شيء من ذلك لم يجز وغيره من المندوبات لا يقوم مقامه بل إنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه ويعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز إما لمرض أو غيره فحينئذ يطلق عليه أنه قارب
وقد نص عزّ وجلّ على هاتين الطائفتين معاً في كتابه أعني الطائفة التي أخذت بالسداد والطائفة التي أخذت بالتقريب فقال تعالى في حق الطائفة الأولى ﴿ وَالسَبِقُونَ السَّبِقُونَ أُوْلَيْكَ الْمُقَرَّبُونَ ۱ وقال في حق الطائفة الثانية التي لم تستطع الوصول لذلك المقام لكنهم قاربوا إليه إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلًا كَرِيمًا
وقد نضرب لهذا مثلاً ليكون أسرع للفهم أعني في كيفية السَّداد وفي كيفية التقريب فمثال ذلك أن يأتي الطالب أولاً لطلب العلم ويعمل جهده على أن يكون من العلماء فإن قدر على ذلك فيها ونِعْمَتْ لأنه يكون بذلك في الطائفة التي أخذت بالكمال وهو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلي نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع لأن النبي قال طَلَبُ العِلم فريضة على كل مسلم ۳ فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد
وكذلك أيضاً يأخذ نفسه في التعبد بعد توفية الفرائض وإن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه الله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلي نفسه من طرف منه لإخباره عليه السلام أنه إذا كان يومُ
1 سورة الواقعة الآيتان ۱۰ و ۱۱ سورة النساء من الآية ۳۱
۳ رواه ابن ماجه وقال في الزوائد إسناده ضعيف وقال السيوطي كما نقل محقق مصابيح السنة سئل النووي عن هذا الحديث فقال ضعيف وقال تلميذه المزي هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وقال الشيخ أبو غدة في تحقيق الأجوبة الفاضلة صححه السيوطي ولم يسبق بتصحيحه وعده من المتواتر حيث ذكره في الأزهار النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ٤ جزء من حديث أخرجه البخاري مرفوعاً في الرقاق ومطلعه من عادى لي وَلِيّاً
۱۰
القيامة يُنظر إلى صلاة العبد فإن وَفّى وإلا قال تعالى انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها ۱ وكذلك في جميع الفرائض إذا نقص منها يُنظر في النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيُجبر منها فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يُخاف عليه من عدم التوفية فيستحق العذاب
يدل على ذلك ما روي أن النبي الله ورأى رؤيا في منامه وكان مما رأى فيها رجلٌ يُشْدَخ ۳ رأسه فسأل عنه فقيل له رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة ۳ ومعلوم أن قيام الليل ليس بواجب وكيف يعذَّب على ما ليس بواجب والعذاب لا يقع إلا على ترك الواجب أو وقوع الخلل فيه لكنه وإن كان قيام الليل مندوباً فالعذاب إنما يقع على وقوع الخلل في الواجب بيان ذلك أنه لما لم يكن ليعمل فيه بالنهار فقد أخَلَّ بالواجب وهو لم يعمل المندوب الذي هو قيام الليل من حيث أن يجبر له الفرض به فوقع العذاب على ترك الواجب في الحقيقة وهو في الظاهر عليهما معاً
ثم كذلك أيضاً إن قدر أن يكون من الموقنين بعد توفية الإيمان المجزىء فليفعل فإن عجز
عنه فلا يُخْلي نفسه من طرف منه لقوله عليه السلام تعلموا اليقين فإني أتعلمه وقد حصل بما أشرنا إليه كفاية في ضرب المثال لما أردنا بيانه في التسديد والتقريب فنرجع
الآن إلى الكلام على الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا على ضربين أحدهما معلوم محدود و الثاني معلوم لا حد له
فأما المعلوم المحدود فهو ما يُرجى من قبول الأعمال والثواب عليها لأن الثواب عليها محدود بإخبار الشارع عليه السلام على ما نقل عنه وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ ٤ وقال عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ ﴾ ٥ وأما المعلوم الذي هو غير محدود فهو ما وعد عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ٦ فالزيادة معلومة عند الله تعالى مجهولة عندنا
1 رواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٢ يشدخ يشق
۳ رواه البخاري ومسلم وسيرد شرح له
٤ سورة الزلزلة الايتان ۷ و ۸
٥ سورة الأنبياء من الاية ٤٧ ٦ سورة النساء من الآية ۱۷۳
وفيه دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين لأنه عليه السلام لم يقل أبشروا إلا بعد
ما نص على العمل الذي يوجب البشارة وهو التسديد والتقريب لمن عمل بهما فأتى بالبشارة للعاملين بذلك وهو مثل قوله تعالى في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ۱ فنصَّ عزَّ وجلّ على أن من فعل ما ذكره من الأعمال هو الذي يرجو رحمته عزّ وجلّ وكذلك فيما نحن بسبيله من أخذ بالتسديد والتقريب على نحو ما تقدم فهو الذي يستبشر
ولقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام أبشروا ولم يقل أيقنوا والجواب من وجهين الأول أن الإيقان قطع بالأمر والقطع لا يكون إلا الله وحده وإنما لغيره قوة الرجاء لا غير لأنه ليس للعبيد حق وجوب على الإله وإنما هو من طريق الفضل والمَنّ وما كان من طريق الفضل والمن فلا يطمع فيه إلا بقوة الرجاء لا أنه يكون حتماً وقد قال الله تعالى في كتابه وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ﴾ ٢ فتكون قوة الرجاء في هذا الوعد بحسب ما يرجى من عظيم الفضل اللائق بالجلال والكمال
الثاني أن ذلك سد للذريعة لأنه لو قال أيقنوا لحصل به للضعفاء اغترار وهو عين الهلاك وربما يكون ذلك سبباً للتقصير في العمل مع كونه مهلكاً وهذا بخلاف البشارة لأن البشارة رجاء ونفس الرجاء يشرح الصدر وينشط للعمل وتنتعش به الروح الأبية
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغُدوة والرَّوحَة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا تنقسم ثلاثة أقسام مستعين ومستعان به ومستعان عليه فالمستعين هو المؤمن والمستعان به أصله إعانة بعض لبعض لغرض ما من الأغراض كما روي في الحديث ويعين الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة ۳ أي يحمله له حتى يبلغه للموضع الذي أمل والاستعانة هنا على وجهين استعانة بالزمان واستعانة بالعمل
فأما الاستعانة بالزمان فهي ما في طَرَفَي النهار من اعتدال الهواء ونشاط النفس فيهما وما روي أن العمل فيهما أزكى مما في غيرهما قال عزّ وجلَّ في كتابه خطاباً لنبيه عليه السلام وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ 4 وقال تعالى على لسان
ها
1 سورة البقرة من الآية ۱۸
سورة التوبة من الآية ۱۱۱
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ سورة الكهف من الآية ۸
0
نبيه عليه السلام اذْكُرْني ساعة بعد الصُّبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما۱ والدلجة أيضاً كذلك لأن الدّلجة هي آخر الليل وآخر الليل هو أبداً للبدن أقوى لأنه قد أخذ راحته من النوم والغذاء وقد ورد فيه من الفضل كثير فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام يَنزِلُ ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا - وفي رواية كلّ ليلة في ثلث الليل الأخير - فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوبَ عليه فإذا كان عزّ وجلّ ينادي هكذا كلَّ ليلة في آخرها فمحال أن يدعو أحد إذ ذاك أو يتوب أو يستغفر فيُرَدّ لأن الله لا يُخلف الميعاد والمراد بالنزول هنا نزولُ طَوْلٍ ومَنَّ ورحمة دون حلول ولا انتقال
وأما الاستعانة بالأعمال فهي أن تُعمَّر هذه الأوقات المذكورة بأنواع الطاعات وإذا عُمّرت بذلك لم يبق بعدها إلا الأوقات التي جعلت للراحات وهي ما نص عزّ وجلّ عليها في كتابه حيث قال يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَعْدِنَكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَتُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحلم مِنكُر ثَلَثَ مَرَّتٍ مِن قَبْلِ صَلوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتِ اَ
فعلى هذا فمفهوم هذا الحديث ما نص عليه السلام عليه في حديث اخر حيث قال روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة ٤ لكنه عليه السلام زاد في الحديث الذي نحن بسبيله تعيين الأوقات التي جعلت للعبادة أي جُعِلت العبادة فيها أفضل من غيرها من سائر الأوقات
وإذا قلنا بهذا ـ وهو أن المطلوب عمارة هذه الأوقات بالطاعات - فهل ما يُعمَّر بها من الأعمال معيَّن أو غير معيَّن احتمل الوجهين معاً
فإن قلنا بالتعيين فهي الصلاة لأنها هي التي تسبق للذهن وإذا قلنا بأنها الصلاة فما الحكمة في تعيينها دون غيرها فنقول - والله أعلم - إنها إنما اختصت بهذه الأوقات وجعلت سبباً للاستعانة لما فيها من التعظيم الله والافتقار إليه والدعاء واللجأ إليه وما فيها من أنواع الخير على ما سيأتي بيانه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله
وإن قلنا بعدم التعيين فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لقوله عليه السلام
1 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ سورة النور من الآية ٥٨
٤ رواه الديلمي ۳۷۸/ برقم ۳۰۰٤ وعزاه الجامع الصغير لأبي داود في مراسيله وروى مسلم عن حنظلة بلفظ
یا حنظلة ساعة وساعة
۱۰
موضعُ الصَّلاة من الدِّين مَوضعُ الرأس من الجسد ۱ وهذا هو الأظهر والله أعلم لأنه قد تُفرَضُ في بعض الأوقات أعمال تكون أفضل من الصلاة بحسب الأحوال وهي كثيرة تتعدد
فعلى ما ذكرناه من هذا التعليل يترتب عليه من الفقه وجهان
أحدهما اغتنام نشاط النفس وخلو الشغل وقد نص عليه السلام على ذلك حيث
قال اغتنم خمساً قبل خمس وعَدَّ منها فراغَك قبل شغلك وصحتك قبل سَقَمِك الثاني اغتنام حسن الزمان واعتداله لأن ذلك مما يعين على العبادة وقد نص عليه
السلام على ذلك حيث قال أبرِدُوا بالصَّلاة ۳
وأما المستعان عليه فهو يحتمل وجوهاً الأول وهو أعمّها صلاح الحال في الدنيا والفلاح في الاخرة وهو بلوغ ما يؤمل من الخير على ما نص عليه العلماء الثاني أن يكون عائداً على التسديد والتقريب الثالث أن يكون عائداً على البشارة وما تتضمن إلى غير ذلك من الوجوه على مقتضى ما يحتمله الحديث على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى
هذا ما تضمنه البحث على هذا الوجه إن كان المراد بالدين الإيمان والإسلام معاً ثم نرجع الآن على ما اشترطنا إلى بيان الوجه الثاني فنقول
الوجه الثاني
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسْرُ قد يريد به الإسلام دون غيره وهي أفعال الدين على ما بيّناه
بيان ذلك أن الخطاب بالحديث إنما كان للمؤمنين والإيمان قد كان حاصلاً وإذا كان المراد به الإسلام فالكلام على بقية ألفاظ الحديث تَضَمَّنه الكلام على الوجه قبله فأغنى عن
إعادته
الوجه الثاني قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به أن الشيء الذي وُعِدتم أنكم تتخلصون به من الأعمال وضُمِنَت لكم به النجاةُ هو توفية ما فُرِض عليكم
۱ جزء من حديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ لا إيمان لِمَنْ لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهور له ولا دين لمن لا صلاة له وموضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي لا تُوغِلوا في المندوبات فيؤول بكم الأمرُ إلى أن تُخِلّوا بالفرائض فيغلبكم الدِّينُ ومثال هذا من يُكثر في طرف من المندوب ويترك شيئاً واجباً عليه من طرف آخر لم يفعله وكذلك أيضاً من يتوسوس في الطهارة حتى يفضي به الأمر إلى إيقاع الخلل فيها وكذلك في سائر التَّعبدات إن تعمّق فيها حتى يُخِلّ بالفرض منها فقد غلبه الدِّين لأن الدين هو الأصل الذي يتقرب به إلى ربه قد أخَلَّ به ولا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه عليه السلام لن يتقرب إليَّ المتقربون
بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم ثم لا يزالُ العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنتُ سَـ الذي يَسمعُ به وبَصَرَه الذي يُبصرُ به ويَدَه التي يَبْطِسُ بها ۱ وفي هذا إشارة إلى التربية بالتدريج في السلوك والترقي ومنع الأخذ بالقوة أولاً في التعبدات من نوافل الليل والنهار وغير ذلك لأن من يأخذ بذلك في بداءة أمره يغلبه الدِّينُ بالضرورة لقلة الرياضة فيما أخذ بسبيله
ومثل هذا ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَقَدَ سليمان بن أبي حَثْمَة ۳ في صلاة الصبح فلما كان من الغد مرّ على الشَّفَّاءِ أم سليمان فقال لها لم أرسليمان في الصبح فقالت إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحَبُّ إليَّ من
أن أقوم ليلة
فانظر كيف فضَّل حضور الصلاة في الجماعة على قيام الليل كله مع أن قيام الليل فيه من المشقة ما هو معلوم لكن لما أن كان ذلك القيام كله من جنس المندوب وال أمره إلى أن أوقع الخلل في فضل من فضائل المفروضات كرهه عمر رضي الله عنه فلو قام من الليل بعضه ونام بعضه وحضر الصلاة في جماعة لكان من الآخذين بالكمال ولم يقع عليه بذلك غلبة في نقص فضيلة ولا غيرها فإذا أخذ المرء أولاً نفسه بالرفق والرياضة في تعبداته حتى يصير له ما أخذ من ذلك عادة كانت العبادة عليه يسيرة لا مشقة عليه فيها حتى يبلغ بها النهاية وهو كأنه لم يزد على نفسه شيئاً كما يروى عن ابن السَّمَاك ۳ رحمه الله وهو من أحد شيوخ الرسالة أنه انتهت به نافلته في دكانه مع بيعه ألف ركعة في اليوم
1 رواه البخاري مرفوعاً في الزقاق ومطلعه من عادى لي وليا فقد اذنته بالحرب سليمان بن أبي حثمة هاجر صغيراً مع أمه الشفاء وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر رضي الله عنه على السوق وهو معدود من كبار التابعين
اسمه عبد بن أحمد الهروي ثم المكي المعروف بابن السماك المالكي توفي سنة ٤٣٤هـ / ١٠٤٣م محدث حافظ صوفي أصله من هراة وسمع ببغداد والبصرة وهراة و سرخس و بلخ و مرو و دمشق و مصر وحدث بخراسان و بغداد وجاور بمكة وبها توفي من مصنفاته تفسير ومستدرك على الصحيحين والسنة والصفات ومناسك الحج ودلائل النبوة وفضائل القران وفضائل مالك وكتاب الجامع وكتاب الدعاء وكتاب شهادة الزور وكتاب العيدين ومعجمان أحدهما فيمن روى عنهم الحديث والثاني فيمن لقيهم ولم يأخذ عنهم
۱۰۷
الوجه الرابع قوله عليه السلام فَسَدَّدوا وقاربوا أي قاربوا الجد ولا تأخذوا الأخذ الكلي الذي تصلون به إلى المشادة فيغلبكم الدين و سددوا أي ليكن جِدُّ كلِّ شخص على ما تقتضيه بِنْيَتُه وطاقته ومزاجه
ومن هذا الباب راح كثير من العباد لأنهم يأخذون أنفسهم أولاً بأن يعاندوا من ليس مثلهم من أهل النهايات فيأخذوا مأخَذهم ويسلكوا مسلكهم فيُقطع بهم في الحال عنهم لأنه قد يكون من أرادوا التشبه به أكثر قوة في بدنه منهم وأعدل مزاجاً وأخذ نفسه أولاً فيما هو بسبيله الآن بالتدريج في السلوك والترقي حتى صار له ما هو بسبيله من التعبد مزاجاً كما حكيناه عن ابن السماك ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۱ - رحمه الله - الإمام في الطريقين - حذارِ حذارِ أهلَ - البدايات أن تَتَشَبَّهوا بأهل النهايات فإن هناك مقامات لم تُحْكِموها فعلى هذا فالشأن الذي يُبلغ به المقصود إن شاء الله ويكون صاحبه من أهل السداد أن يُحكم أولاً الخَمْسَ التي فُرِضت عليه وهي السَّيرُ بواجباتها ومندوباتها والمحافظة عليها فإذا رجع له ذلك مِزاجاً أَخَذَ إذ ذاك بالرفق والسداد على ما أشرنا إليه في النوافل
الوجه الخامس قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي لمن زاد على الفرض ولم يقتصر عليه لأن الفرض قد جاء فيه ما جاء من الوعد الجميل في الكتاب والسنة في غير ما موضع فإن حملنا البشارة هنا على ذلك فهو تحصيل حاصل ونكون قد حملنا ألفاظاً جملةً على معنى واحد وليس ذلك بالمَرْضي عند العلماء وإنما يحمل كل لفظ على فائدة أو فوائد دون غيره من الألفاظ إنْ وُجِدَ لذلك سبيل وكفى في هذا دليلاً قوله تعالى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن
قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ولا ذاك إلا في النفل دون الفرض والبشارة هنا على معنيين الأول هو أنه إذا أخذ بعد الفرض باليسير من النفل فَلْيَسْتَبْشِرْ بالزيادة لمقتضى قوة البشارة حتى يبلغ ما أمل من الأحوال الشريفة والمنازل المنيفة بلا كلفة لأن حقيقة البشارة لا تكون إلا في المستقبل والبشارة بما قد وُعِد تحصيل حاصل وإنما سميت بشارة مجازاً لا حقيقة وإنما البشارة الحقيقية مثل ما تضمنه إخباره عليه السلام لكعب بن مالك ٣ أحد الثلاثة الذين
۱ يمن بن رزق إمام الطريقين أصله من طليطلة له مستدرك على الصحيحين وقضاء مالك وكتاب التوبة حدث في بغداد و خراسان وجاور بمكة وفيها توفي سنة ٣٦٠هـ ۹۷۰م
سورة السجدة من الاية ۱۷
۳ كعب بن مالك أنصاري خزرجي صحابي من أهل المدينة من أكابر الشعراء وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم
شهد العَقَبَة وأحداً والمشاهد كلها إلا تبوك فإنه تخلف عنها وهو أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم
وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَجُبَتْ الآية وهم كعب بن مالك وهلال
•
=
۱۰۸
خُلفوا حيث تيب عليهم فقال عليه السلام أبشر يا كعب بخير يومٍ طَلَعَت عليكَ فيه الشمسُ هذه هي البشارة الحقيقية وهي خَفِيَّة دقيقة لأن ظاهر اللفظ قد يستشكله السامع وقد استشكله بـ العلماء وقال كيف يكون هذا خير يوم طلعت عليه فيه الشمس وقد تقدمه يوم إسلامه وهو خروجه من الكفر إلى الإيمان وهذا القائل قد توهم أن هذا إشكال في الحديث وليس ذلك بإشكال بيان ذلك أنه أعقب يومَ إسلامه بهذا الذنب العظيم الذي استوجب به هَجْرَ النبي صلى الله عليه وسلم له والصحابة فلما تيب عليه هذه التوبة التي علم النبي و أنه لا معصية بعدها أخبره عليه السلام بأن ذلك خيرُ يوم طلعت عليه فيه الشمس لأنه لم يقع منه بعد ذلك معصية ولا مخالفة والتزم الصدق والعبادة حتى قبضه الله إليه على أحسن حال فلو أراد النبي البشارة في ا و الماضي لقال أبشر فقد غفر لك وتيبَ عليك وتحصل بذلك الكفاية ولكن لما أن أراد عليه السلام البشارة في المستقبل أتى بصيغة ما ذكر ولأجل ما فهم الصحابي من هذه البشارة خلع إذ ذاك ثيابه ولم يكن ليملك غيرها فأعطاها في البشارة لعلمه بعظيم ما بُشِّر به
وكل بشارة وردت من الشارع عليه السلام مبهمة فالمراد بها ما ذكرناه من مقتضى هذه البشارة ولهذا قال أهل السلوك فيمن بلغ بعض المنازل فدام عليه بأدبه إنه يترقى إلى ما هو أعلى منه فما دام على هذه الحال لا يزال في ترقّ حتى يبلغ غاية المنازل الرفيعة عملاً منهم على مقتضى البشارة وهي ما ذكرناه
الثاني هو أنه إذا أخذ بتوفية الفرض وما تيسر عليه من النفل فدام على ذلك ولم يزد عمله شيئاً فنفس البقاء على ذلك زيادة وهي البشارة يؤيد هذا قوله عليه السلام حين أخبر عن الأخوَيْنِ اللذين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول بين يديه عليه السلام فقال عليه السلام عن الآخر وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته إنما مَثَلُ الصلاة كمثل نَهَرٍ عَذَبٍ غَمْرِ ٢ بباب أحدِكم يقتحم فيه كلَّ يومٍ خمْسَ مرّات فما تَرَوْن ذلك يُبقي من دَرَيْهِ فإنكم لا تدرونَ ما بَلَغَتْ به صَلاتُه ۳ ولهذا قال أهل السلوك الدوام على الحال فيه زيادة
وترقُ عملاً بالحديث الذي أوردناه
ابن أمية ومرارة بن ربيعة فتاب الله عليهم وعدَرَهم وغفر لهم ونزل القرآن المَثْلُوُّ في شأنهم وكان كعب بن يوم أحدٍ لبس لأمَةَ النبي وكانت صفراء وليس النبي لا لأمنه تمويهاً للأعداء فجُرح كعب بن مالك
مالك
أحَدَ عَشَرَ جرحاً وتوفي كعب سنة ٥٠هـ / ٦٧٠م ۱ متفق عليه ولفظه أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك عَمْر الغَمْر من الماء خلاف الضَّحْل وهو الذي يعلو مَن يَدخله ويغطيه ۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة
۱۰۹
الوجه السادس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والرَّوْحةِ وشيء من الدُّلْجَة استعينوا بالغَدوة أي بصلاة الضحى و الرَّوْحَة أي الصلاة بين الظهر والعصر و الدُّلْجَة أي قيام آخر الليل
فإن قال قائل لم عم عليه السلام الوقتين جميعاً وجعل من الثالث البعض
الله وينام
قيل له إن هذين الوقتين قريبان محدودان وهما معاً جزء من النهار وآخر الليل جزء من الليل لكنه غير محدود وإن كان عليه السلام قد حد الفضل فيه في حديث داود عليه السلام حيث قال أفضلُ الصلاة صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم سُدُسَه ۱ فالحد إنما حصل على الأفضلية وما نحن بسبيله إنما وقع على الإجزاء الذي به تحصل الاستعانة فمن قدر على الأخذ بالأفضل فَبِها ونِعْمَتْ وإلا فقد أخذ بالإجزاء الذي يستعين به وهذا من باب التوسعة لأن ذلك وقت نوم وأعذار وليس النهار كذلك وفي هذا دليل على التحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات إذ إنَّ ذلك مما يُستعان به وما يستعان به لا يترك لأنه إن ترك ما يستعين به خيف عليه ألا يبلغ ما أمل ولهذا اسْتُحِبّ له الابتداء أولاً باليسير أبداً ويعمل عليه ويكون ذلك دأبه لئلا يخلي نفسه من الاستعانة فإن وجد النهاية لم يتركها وإن حدث له ضعف أو شغل لم يترك قدر ما يطلق عليه اسم الاستعانة
وقد نص عليه السلام على هذا المعنى الذي أبديناه في غير هذا الحديث حيث قال لِكلِّ عابد شرَّةٌ ولكل شِرَّة فَتْرَةٌ فطوبى لمن كانت فترته إلى سُنّة والسنة التي هي الفترة هي ما أشار إليها عليه السلام في هذا الحديث من الأخذ بالتعبد في هذه الأوقات اليسيرة فسبحان مَنْ مَنَّ علينا بالخير به وعلى يديه
وفي هذا دليل لأهل السلوك والتربية حيث يستحبون أن تكون البداية أولاً في الليل وفي النهار ركعتين ركعتين ثم يزيد على ذلك ما يشاء وبحسب النشاط لئلا يخلي نفسه من الاستعانة كما تقدم حتى يبلغ بالتدريج ما أمل لأن من أخذ من هذه الأوقات بقدر طاقته من العبادات ترقى إلى ما شاء الله من المراتب السنية ولا يدركه في ذلك تعب فإذا أخذ بذلك كان أبداً في الترقي بالزيادة تاركاً للنقص حتى يبلغ بذلك إلى نهاية ما يقتضيه حال البشرية
وذلك مثل ما حكي عن بعض الفضلاء أنه أتاه أخ له يزوره فوجده يصلي الظهر فجلس ينتظر فراغه من صلاته فلما فرغ من الصلاة قام إلى النفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال
۱ متفق عليه من عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
الشَّرَّة الحِدة والنشاط والحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي وقال حسن صحيح غريب
كذلك إلى صلاة العصر فصلى العصر ثم جلس للذكر فخاف أن يقطع عليه ذِكْرَه فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة المغرب فقام إلى الصلاة فلما فرغ منها قام إلى التنفل فخاف أن يقطع عليه تنفله فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة العشاء فلما فرغ منها قام إلى التنفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال كذلك إلى الصباح فقام إلى صلاة الصبح فلما فرغ منها جلس إلى الذكر فجلس ينتظر فراغه فبينما هو جالس في مصلاه لِذِكْرِه غلبته عيناه قليلاً ثم استيقظ من حينه فجعل يمسح عينيه ويقول أستغفر الله أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فانظر لما صار به من الحال وهو يتنعم بذلك لأنه لولا الحلاوة التي وجدها في العبادة لما جعل هذه السِّنَةَ التي لا تنقض الطهارة ذنباً يستغفر منه فزال عنه التعب والمشقة اللذان يدركان البشر من ذلك ورجع له عوض الحلاوة والتنعم وذلك ببركة الرفق والرياضة في التربية في السلوك
نسأل الله أن يمن علينا بما مَنَّ به عليهم وأن يعيد علينا من بركاتهم
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث
الوجه الثالث
الأول منه قوله عليه السلام إن الدين يُسْر قد يريد به أن ما تديَّنتم به بالنسبة إلى من كان قبلكم يُسر وما كُلّفتم إلا بما تُطيقون لأن الله عزّ وجلّ قد رفع عن هذه الأمة الإصْرَ الذي كان قد جعل على الأمم الماضية فجعل لهم عند الضيق المخرج مثال ذلك ما شرع لنا في التوبة وهو الندم والإقلاع والاستغفار وقد كانت لمن قبلنا بالقتل وكذلك أيضاً النجاسة طهارتها بالغسل ولمن قبلنا بالقطع والمقراض وكذلك أيضاً تَحِلة اليمين بالله شرعت لنا ولم تشرع لمن كان قبلنا وكذلك أيضاً أكل الميتة وكذلك أيضاً لو كلفنا الله عزّ وجلّ بما لا نطيق لكان ذلك سائغاً لأنه الحاكم القاهر لا راد لما قضى ولكن بفضله عزّ وجلّ ومنته عافانا فلم يكلفنا إلا قدر استطاعتنا فقال تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۱ ومن كُلّف قَدْر وُسعه فهو يُسْرُ
عليه لا تعسير
ومثال ذلك أنه عزّ وجلّ عفا عن الخطأ والنسيان وحديث النفس وما استكرهنا عليه وكذلك أيضاً شرع لنا عزّ وجلّ عند العجز عن القيام في الصلاةِ القعود وعند العجز عن القعود الاضطجاع وعند العجز عن التحرك الإيماء وكذلك شرع لنا عزّ وجلّ التيمّمَ عند عدم الماء
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
۱۱۱
سُرَ الصلاة في السفر والفِطرَ فيه إلى غير ذلك وهو كثير موجود في كتب الفروع وقد قال عليه السلام إن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمه ۱
من
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه يريد أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد وترك ما رخص له فيه فقد شادَّ الدين وإذا شادَّ الدين غَلَبه الدين ومثال ذلك شدد على نفسه فترك اليمين المشروعة وحلف بالمشي إلى مكة والطلاق والعتاق وترك التيمم عند العجز عن الطهارة بالماء وأراد القيام في الصلاة مع العجز عنه إلى غير ذلك وهو كثير فيريد الأخذ بالكمال في كل الجهات ويترك الرخص فمن فعل هذا فقد شاء الدين فيغلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه وقد ذم عزّ وجلّ مَن فعل ذلك من الأمم الماضية فقال عز من قائل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاة عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ٢
العزم
عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا قاربوا أي قاربوا أولاً بالجد وقوة على الأخذ بالحزم والحزم هو ترك المحذور والعمل على براءة الذمة والأعلى من المراتب والأفضل من الأحوال فإن وقع لكم عجز أو غفلتم أو وقعتم في شيء مما نُهيتم عن فسددوا أي أصلحوا حالكم بالخروج على المخارج التي جعلت لكم والأخذ بالرخص التي تُصُدِّق بها عليكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ٣
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا فإن ذلك مخلص لكم ومبلغكم إلى رضا مولاكم وحسن العاقبة لكم يؤيد هذا قوله عليه السلام رُبَّ ذَنْبٍ أَدخَلَ صاحبَه الجنة ٤ قال العلماء معناه أن ذلك الذنب كان سبباً لتوبته فتاب توبةً نصوحاً فكان هو السبب الذي أدخله الجنة يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما قيل لبعض الفضلاء حين غَلَب عليه في وقتِ ما خوفٌ من أجل التقصير في حق مولاه ثم تَلمَّح سعة رحمته فخالط ذلك الخوف طمع في سَعَة رحمة مولاه فخوطب بأن قيل له مَن أردناه اصطفيناه فخوَّفناه ورجَيْناه ومَن أبغضناه أَبْعَدْناهُ
والهَيْناهُ
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجة
1 العزائم ج عزيمة وهي فرائض الله التي أوجبها والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن
ابن عمر رضي الله عنهما سورة الأنعام الآية ١٤٠ ۳ سورة النساء من الآية ۹
٤ لم نعرف مصدره
الاستعانة هنا هي أن مَن واظب على الأعمال في الأوقات المذكورة يرزق بها العون على ما أخذ بسبيله من أفعال الطاعات ويسر له ما عسر عليه من أمر دينه ويُزاد قوة في إيمانه فيتبين له قَدْرُ ما لطف به وماذا أريد منه وهذا من أكبر أسباب العون فإن به يسهل العمل وتسمو الهمم إلى
المراتب العلية
ولأجل ما يحدث من هذه المعاني بعمارة تلك الأوقات قال بعض الفضلاء من أئمة التحقيق وأنا أوصيك بدوام النظر في مرآة الفكرة مع الخلوة فهناك يبين لك الحق ومن بان له الحق رُجيَ له اتباعه وكان من أهله فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه
ومما يناسب ما نحن بسبيله من وجه ما قوله عليه السلام وَيْلٌ لمن غَلَبَت آحاده عَشَراتِه ۱ ومعنى ذلك أن الحسناتِ جُعلت بفضل الله عشراً إلى سبعين إلى سبعمائة والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء والسيئة بواحدة ثم بعد هذا الفضل العميم يَغْفُل ابنُ آدمَ المسكين عن نفسه حتى لا يجد لنفسه مَخْرَجاً إما بتغال في الدين وإما بتضييع محاسبة نفسه فيهلك مع الهالكين وهو لم يشعر ولهذا قال عليه السلام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ۳ فيحق لمن غفل عن نفسه وألزمها هذا التغالي المذكور أو غفل عن المحاسبة ذلك الوعيد العظيم أعاذنا الله وإياكم من ذلك بمنّه
فينبغي للعاقل أن يعين نفسه بما أشار الشارع عليه السلام إليه وأن يقيم على نفسه ميزان الشرع ولا يغفل عن محاسبة نفسه ولا يشاد دينه لئلا يهلك بأحد هذه الوجوه ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الرابع
الوجه الرابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إِنَّ الدِّينَ يُسْر قد يُراد به أنه يُسْرِّ على من عَرَفَه لأن مَنْ جَهله عَسُر عليه بمقتضى أدلته لجهله به فيكون هذا مثل قوله تعالى ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۳ وشهادته لنفسه هي ما أظهَرَ في جميع مخلوقاته من آثار قدرته الدالة على وحدانيته وعظمته فيكون الحاصل من هذا التحضيض على علوم الدين بمقتضى الكتاب والسنّة على ما أشرنا إليه قبل الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبَه المشادة هنا هي أن
1 لم نعرف مصدره رواه البيهقي في الزهد وذكره في مناقب
۳ سورة آل عمران من الآية ۱۸
۶
من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير هذين الطريقين وهما الكتاب والسنة إما بعلم العقل أو ما شابهه واقتصر على ذلك فيغلبه الدين إذ ذاك بالضرورة لأنه إذا فعل ذلك عاد عليه مقام الحق مشكلاً ومقام الحقيقة محتملاً فانقلب بصفقة خاسرة خسر الدنيا والآخرة
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا السداد هنا بمعنى سداد الحال يقال سدد فلان حاله إذا أصلحه سدد الله فلاناً أي أصلح الله فلاناً سدد القاضي أي حكم بينهم بالعدل لا يباع إلا على وجه سداد أي بوجه صالح على مقتضى الشريعة وصلاح الحال هنا هو صلاحه في الدين بمعرفته ومعرفة أحكامه والعمل على ذلك واتباعه ويشهد لهذا قوله عليه السلام طَلَبُ العِلمِ فريضة على كلِّ مُسلم ۱ قال العلماء المحققون معناه ما وجب على المرء عمله وجب عليه العلم به لأنه لا يمكن توفية ما أمر به إلا بالعلم بحدوده
وقد اختلفوا فيمن عمل العمل بغير علم فصادف عمله لسان العلم على ثلاثة أقوال فمن قائل يقول بأنّ له الثوابَ على عمله واحتج بأن قال هذا عمل وقع على ما أمر به ومن فعل ما أمر به كان له الثواب على الامتثال ومن قائل يقول بأن عليه الإثم في ذلك واحتج بأن قال إن الله عزّ وجلّ لم يتعبد أحداً بالجهل وإنَّما يجوز له الإقدام على العمل بالعلم به وأما مع الجهل فلا قال الله تعالى فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فلما قدم على العمل بغير علم كان مرتكباً للنهي ومن ارتكب النَّهي أيم ومن قائل يقول بأنه ليس له ثواب وليس عليه عقاب واحتج بأن قال إنه لم يقع بعمله في شيء مما نُهي عنه فلم يكن مأثوماً وأمر بألاّ يُقدِم على العمل إلا بالعلم فلم يفعل ذلك لم يكن له أجر عليه
فإن العجز عن هذا السداد الذي هو صلاح الحال بالعلم كما تقدم فَلْيُؤْخَذْ بما تضمنه قوله عليه السلام قاربوا ومعناه السؤال لأهل العلم كما تقدم لأن الله عزّ وجلّ يقول فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ والنبي يقول شفاء العِيِّ السؤال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالطريق المذكور الذي أبديناه فَلْيَسْتبشر بأن الله يرفعه في الدنيا والآخرة ويرزقه من حيث لا يحتسب إذا كان ذلك الله خالصاً يشهد لهذا قوله عليه السلام تكفّل الله برزق طالب العلم 4 وهو عز
۱ رواه ابن ماجه برقم ٢٢٤ سورة النحل من الاية ٤٣
۳ رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني كما في كشف الخفا رقم ٦٤٦
٤ الرواية المشهورة من طلب العلم تكفل الله عزّ وجلّ برزقه رواه الخطيب البغدادي في تاريخه ۳/ ۱۸۰ وفي =
١١٤
رفع
وجلّ قد تكفل برزق الخلق كلهم لكن فائدة هذه الأخبار البشارة لطالب العلم بأن الله تعالى قد عنه التعب في طلب الرزق والكدّ عليه ويسره له وسهله عليه من غير تعب يدخل عليه في ذلك بلا مَشَقَّةٍ يزيد هذا إيضاحاً قوله عليه السلام إذا ابتدع في الدين بدعةٌ كِيد الدين فعليكم بمعالم الدين واطلبوا من الله الرزق قيل وما معالم الدين قال مجالس الحلال والحرام ۱ الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي أن من عمر هذه الأوقات المنصوص عليها بالتعبد فإن الله عزّ وجلّ يعينه على ما أخذ بسبيله من التعلم ويُفهمه وينوّر بصيرته وهذا قد وجده كل من عمل ذلك بإخلاص وصدق وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ٢
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الخامس
الوجه الخامس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما كُلّفتم به بالنص ولا يمكن فيه التأويل يُسْرٌ وأن أكثر ما كُلّفتم به محتمل للتأويل وقابل له وإذا كان القابل للتأويل المحتمل له هو الأكثر فهو تيسير وتوسعة من المولى على عبيده وقد نشير إلى شيء من ذلك بالنص على مسائل مما تحتمل التأويل ليتنبه بها لما ذكرناه
فمن ذلك حديث بني قُرَيْظَة الحديث المشهور الذي قال فيه عليه السلام للصحابة لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قُرَيْظَة فأدركَهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها له وقال بعضهم بل نصلي فإنه لم يُرِد منا ذلك فذكر ذلك للنبي ا فلم يعنف أحداً منهم ۳ ذلك اختلاف الفقهاء في معنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ فمن قائل يقول به على الإطلاق في الصلاة وفي غيرها ومن قائل يقول مثل الأول لكنه قيَّدها بألا تكون إلا قبل القراءة ومن قائل يقول بأنها لا تكون إلا بعد القراءة
الرحيم
||
ومن
الجامع لاداب الراوي والسامع ۳۸/۱ والقضاعي في مسند الشهاب ٢٤٤/١ و ٣٩١ والديلمي في مسند الفردوس ٧٥/٤ وقال عنه الذهبي في الميزان ٤٨٢/٤ والسلفي في تحقيق الشهاب موضوع
1 لم نعرف مصدره
سورة العنكبوت من الآية ٦٩ ۳ متفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ سورة النحل من الآية ۹۸
١١٥
ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله تعالى ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيْبًا ١
فمن قائل يقول به على العموم ومن قائل يقول به على الخصوص ومن قائل يقول بجواز التيمم به منقولاً كان أو غير منقول ومن قائل يقول بعدم الجواز عند النفل
ومن ذلك أيضاً اختلافهم في قوله تعالى ﴿وَرَبِّبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِسَآبِكُمْ فمن قائل يقول بتحريمها ابتداء ومن قائل يقول بعدم التحريم حتى تكون في حِجْرِه ويكون كفيلاً لها
ومن ذلك اختلافهم في الربا وما العلة فيه فخرج كل واحد منهم على ما أعطاه اجتهاده من التأويل في الاحتمال وكل ما اختلفوا فيه أبداً إنما هو من أجل الاحتمال الذي في الآية أو الحديث وهذا الاختلاف توسعة ورحمة وقد كان بعض من لقيته من الفضلاء الجِلَّة يقول لا يحل أن يُتَدَيَّنَ إلا بالمشهور ولا يُفتى إلا به وتكون فائدة الخلاف في أمر إذا وقع وفات ولم يُمكن تلافيه على المشهور فيُخَرَّج إذ ذاك على قول قائل لأنه أحسن من خرق الإجماع ولَعَمْرِي لقد أحْسَنَ هذا في الفتوى لأن به يستعمل جميع الوجوه فيكون الأخذ أولاً بالكمال في الدين وهو القوة عملاً بقوله عليه السلام المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خيرٌ ۳ فإن تعسر عليه الأخذ بالكمال رجع إلى الخلاف وأخذ بالتيسير فيكون بينه وبين المحارم حاجز كبير لأنه إن تعذر عليه الأخذ بالكمال وجد ما يرجع إليه من غير أن يخرق الإجماع بخلاف من يأخذ أولاً نفسه بالعمل على الرخص لأنه إن تعذر عليه الأمر في وقت ما فلا يجد حيلة إلا الوقوع في المحارم وقد قال عليه السلام إن لكل مَلكِ حِمى ألا وإن حِمَى الله مَحارِمُه فمن حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه ٤
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن من يريد الأخذ بالكمال فيريد أن يعمل في كل مسائله بالإجماع فيغلبه الدين لأجل ما ألزم نفسه لأنه يجد كثيراً من المسائل لا ينعقد عليها إجماع
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدَّدوا وقاربوا السداد هنا على معنيين
الأول أن يكون بمعنى صلاح الحال بالأخذ بما عليه الجمهور والجمهور هم الصحابة
۱ سورة النساء من الآية ٤٣
سورة النساء من الاية ۳
۳ رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ جزء من حديث رواه الستة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
11
والصدر الأول لقوله تعالى ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى ۱ قال العلماء هم الصدر الأول ولقوله عليه السلام خَيْرُ القرونِ قَرْني ثم الذين يلونهم
الثاني أن يكون الآخِذُ بالأظهر من الأدلة وبالوجه الراجح من الوجوه المحتملات في اللفظ الواحد ولا يلتفت إلى الشواذ من الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وإنما الشأن الأخذ بالوسط كما قال الخليفة لمالك رحمه الله حين أراد أن يجمع كتاب المُوَطَّأ فقال له اترك تشديد ابن عمر ورُخَص ابن عباس وألّف بعد ذلك ما شئتَ فقال مالك فخرجت من عنده فقيهاً ويكون معنى التقريب هنا عند العجز عن الأخذ بما أشرنا إليه في السداد لأجل العذر فيُخرج على قول قائل عند العذر ولا يأخذ بطرف التشديد ولا بطرف الترخيص مع عدم العذر ويكفي في هذا ما روي عن عمر رضي الله حين قيل له عن رجل أتى إلى المدينة يطلب غريب التفسير وغريب الحديث فأمر رضي الله عنه بإحضاره وقال له من أنت فقال له عبد الله بن فلان فقال له عمر وأنا عمر بن الخطاب ثم أخذ جريداً من نخل فجعل يضربه بها على رأسه حتى أدماه وهو يقول أنا عمر بن الخطاب فقال له الرجل جزاك الله عني خيراً قد زال ما كان في رأسي ٣ ولا ذاك إلا أنه من يطلب ذلك فالغالب عليه أن يعمل على أحد الطرفين إما بطرف التشديد فيأخذ بالمشادة ويترك السداد وإما بطرف الترخيص فيكون له ذريعة لأن يقع في المحارم ويترك الأخذ بالتقريب
الله عنه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا معنى البشارة هنا هي أن من عمل بما ذكرناه فَلْيستبشر بأن الله يجعل له عند العسر يسراً وعند الضيق مخرجاً ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ٤ وقوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ ٥ وقد حصل له زيادة لتلك البشارة أن
الله عزّ وجلّ قد جعله من المتقين
1 سورة النساء من الآية ۱۱٥
جزء من حديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه خير الناس قرني إلى آخر
الحديث
۳ الرجل المشار إليه اسمه صبيغ بن عسل كان يسأل عن المتشابه وكان سؤاله لعمر رضي الله عنه عن مشكلات القرآن فأمر عمر الناس ألا يجالسوه وضرَبَه حتى أدمى رأسه فقال حَسْبُكَ يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنتُ أجده في رأسي انظر الإصابة ۱۹۱/ ومسند البزار ٤۳/۱ رقم ۹۰ والدارمي والخطيب وابن عساكر في التاريخ ۳۱/ والدارقطني في الأفراد ۰
٤ سورة الطلاق من الآيتين و ۳ 5 سورة الطلاق من الآية ٥
ولأجل الجهل بمعنى هذه البشارة دخل بعض الناس عندما ضاق عليهم شيء من الدنيا في المكروهات والمحرمات ويقولون بأنهم معذورون لأنهم لا يجدون سبباً على زعمهم غير ما هم فيه وهذا من العلامات الدالة على اقتراب الساعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من أشراط الساعة طلب الرزق بالمعاصي ۱ فنعوذ بالله من العمى والضلال
فانظر إلى هذا العمى الكلي والصَّمَم السَّرمدي كأنهم لم يسمعوا قط هذه البشارة ولم يعرفوا مقتضاها وكأنهم لم يروا في الكتاب ولم يسمعوا منه الآيتين المتقدمتي الذكر وكأنهم لم يسمعوا قوله عليه السلام لا يُنَالُ ما عند الله إلا بطاعة الله ٢ وكل هذا يدل على أن من طلب الرزق بغير طاعة فقد طلب الشيء من غير بابه ومن طلب الشيء من غير بابه تعب في طلبه ورجع بصفقة خاسرة
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى حيث كانوا يطلبون الرزق بطاعة ربهم لِيُتنَبَّهَ بذلك لما أردنا بيانه فمن ذلك ما روي عن بعضهم أنه كان ذا عيال وضاق عليه الوقت ولم يقدر على شيء فوقع في باله الأخذ بالطاعة التي هي سبب للرزق فخرج إلى مسجد خرب فنظفه وبقي يتعبد فيه فيخرج غدوة ويخبر أهله أنه يتسبب ثم يروح عشية فيقولون له أين الأجرة فيقول الذي خدمت عنده كريم فاستحييت أن أطالبه حتى يكون هو الذي يعطيني فبقي ذلك أياماً يسيرة ثم أتى ليلة على العادة إلى منزله فلما كان بقربه شم روائح طعام عطرة فتعجب من ذلك لأجل أنه يعلم أن جيرانه في ضعف بحيث لا يقدرون على ذلك فلما أتى منزله فإذا الذي شمّ من ذلك في منزله فتعجب من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم نظر فإذا في بيته طعام وإدام وقماش ودراهم ووجد أهله بكسوة حسنة فسألهم من أين لكم هذا فقالوا له إن الكريم الذي أنت تخدم عنده بعث إليك بما ترى وهو يقول لك لا تقطع الخدمة فقال أجل
فانظر من طلب الشيء من بابه كيف نجح سعيه وظفر بمراده
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي التعرض لنفحات الله تعالى في هذه الأوقات المذكورة وتجد إذ ذاك لطفه بك كثيراً وخيره عليك عميماً يؤيد هذا قوله عليه السلام إذا سألت فاسْأَلِ الله ۳ وقوله عليه
1 لم تعرف مصدره رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي في المدخل وصححه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم ۳ جزء من حديث رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
۱۱۸
السلام تَعرَّضوا لنفحات الله ۱ وقوله عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام يَنزِلُ ربُّنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا في الثُّلُثِ الأخير من الليل فيقول هل من تائب فأتوبَ عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له فكيف يقول عزّ وجلّ هذا ويستغفر أحد إذ ذاك أو يتوب أو يدعو فَيُرَدُّ ذلك محال من طريق قوة الرجاء في فضله سبحانه ومِنتِه
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى في هذا أيضاً ليتبين به المقصود الذي أردنا بيانه فمن ذلك ما روي أن بعض الثوار نزل بحصن فضيّق على أهله حتى هَمّوا بإعطائه ثم قال بعضهم لا تعطوه حتى تستشيروا فلاناً على ما أردتم فعله وكان فلان عندهم رجلاً صالحاً متمسكاً بالخير والسداد فاستشاروه فقال لهم لا يحل لكم أن تملكوا رقابكم لمن يخالف لسان العلم ويسفك الدماء بغير حقها فبلغ ما قال لهم إلى الثائر فأرسل إليه يهدده وهو يقول له أما تعرف بطشي وصِغَرَ سِنّي فأرسل الشيخ إليه الجواب وهو يقول له أما تعرف كِبَرَ سنّي وقيامي له بالليل ودعاي له في الأسحار فلما أن وقف الثائر على الجواب لَحِقَه الرعب وأقلع من حينه ومما يزيد هذه الأوقات شرفاً وترفيعاً وترغيباً في المحافظة عليها قوله تعالى وَاصير نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْفَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيا ۳ فمن رغب في هذه الأوقات وحافظ عليها أعينَ على ما أخذ بسبيله ثم زاده على ذلك بشارة وأي بشارة ترتاح لها نفوس العاملين العارفين وهي ما أخبر عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَانَنهُمْ تَقْوَنهُمْ ﴾ ٤
يا لها من بشارة ارتاحت لها نفوس الموفقين وسكن بها حزن الخائفين وتسابقت لها أقدام السابقين ! منحنا الله منها من فضله ما يليق بفضله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السادس
الوجه السادس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما طلب منكم وهو الإذعانُ
۱ رواه الطبراني والترمذي في النوادر والبيهقي في شعب الإيمان والسيوطي في جمع الجوامع من حديث أنس
رضي الله عنه
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة الكهف من الآية ۸
٤ سورة محمد من الآية ۱۷
۱۱۹
0
والاستسلام يُسْر يشهد لهذا قوله عليه السلام للصحابة حين أنزل عليه ﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ۱ فشَقَّ ذلك عليهم فقال لهم لا تكونوا مثل بني إسرائيل ولكن قولوا آمَنَّا بالله وما أَنْزَل فَآمَنُوا وأَذعَنوا فأنزل الله إذ ذاك ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ٢ فجاءهم هذا الفرح العظيم لاستسلامهم وإذعانهم لأمر ربهم والإذعان والاستسلام يُسْرٌ لا شك فيه لأنه قد عمل بالقلب دون جارحة تتحرك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن مَن لم يرض بالمقدور ولم يقع منه الإذعان والاستسلام لما فُرِض عليه ويرى أن ما كلّفه من باب المشقة فقد شادَّ دينه وإذا شادَّ دينه غلبه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل حين أُمروا بالقتال فأبوا وقالوا لنبيهم فَأَذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَهُنَا فَعِدُونَ ﴾ ٣ فشدد عليهم حين لم يَرْضَوْا ولم يذعنوا لما كُلِّفوا به فابتُلُوا لأجل ذلك بالتيه أربعين سنة حتى مات فيه كبارهم ونشأ فيه صغارهم
يزيد هذا إيضاحاً قوله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَتبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ٤ فَمَن رُزِق الإذعان للمقدور والصبر عند نزوله عَظُمَ أجرُه ولُطف به وإن ضجر وتسخط كان مأثوماً والمقدورُ لم يتغيَّر فشادَّ دينه فغلبه الدِّينُ نعوذ بالله من ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا السَّداد هنا بمعنى صلاح الحال في توطين النفوس للتسليم والانقياد والمقاربة هنا أي إن لم تبلغوا هذا المقام فقاربوا إليه لأن ما قارب الشيء أُعطِي حكمه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من فعل ما ذكرناه ووطَّنَ نفسه على ذلك واستسلم فليستبشر بما تضمنته بقية الاية الموردة إلى آخر السورة وهو قوله عزّ وجلّ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
۱ سورة البقرة من الاية ٢٨٤ سورة البقرة الآية ۸٥ و من ۸٦ ۳ سورة المائدة من الاية ٢٤
٤ سورة البقرة الايات ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧
۱۰
الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ١
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي أن من عَسُر عليه العمل بما ذكرناه من نفسه فليقف بالباب الجليل في هذه الأوقات المعينة ويلزم ذلك يُرزَق العونَ إذ ذاك على النفس ويظفر بالنُّجح ولأجل تضييع هذه الاستعانة غلبت بعض الناس نفوسهم فلم يحصل منهم ما أريد منهم من الإذعان والاستسلام لأجل أنهم وكلوا إلى أنفسهم لكونهم لم يستعينوا بما شُرع لهم الاستعانة به ومثل هذا قوله عليه السلام للصحابة حين أخبر بالفتن فقالوا له ما النجاة من ذلك فقال الجَأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات
وهذه الفتن قد كثرت وتكاثرت والقليل النادر من أخذ بالدواء الذي يعينه على النجاة منها لا جرم أنّ الهالك قد كثر والناجي قد قل لقلة الامتثال لما به أُمِر فبادر أيها المسكين للعمل واترك الكسل قبل وزود الحِمام وتراكمِ المِحَن ويقال لك الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ۳
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السابع
الوجه السابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسْرُ قد يراد به الأخذ بأقرب الوجوه التي اختلف فيها دون تعمّق في أَحَد الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وترك الالتفات والمبادرة إلى الامتثال وإذا كان المراد هذا وهو المبادرة إلى الامتثال وترك الالتفات فهو يسر
لا شك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غلبه أي لا يشدّد أحد على نفسه إلا ويشدّد الله عليه لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل في البقرة التي أُمِروا بذبحها لو أخذوا في امتثال ما به أمروا وذبحوا بعض البقر دون سؤال عن كيفيتها لأجزأت عنهم وكانوا بذلك ممتثلين للأمر ولكنهم ث فسألوا عن صفتها وكيفيتها
۱ سورة البقرة من الآية ٢٨٦
لم نعرف مصدره
۳ مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه
ج 1
فشدد عليهم فيها فطلبوها فلم يجدوها زماناً ثم وجدوها بقرة واحدة عند شخص واحد فطلبوها منه للشراء فأبى عليهم فما زالوا به إلى أن أنعم عليهم بالبيع فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً وفضة قيل مرة وقيل عشراً فشدَّدوا فشدّد عليهم
ولأجل هذا كان النبي الله يكره كثرة السؤال ۱ ويذمّ فاعله خيفة التشديد حتى كان
الصحابة رضي الله عنهم يتمنون أن يقدم على النبي ا غريب يسأله فيسمعون الجواب وهذا المعنى إنما كان الخوف منه في زمن النبي لا لا لا لا ل ل لأن الأحكام كانت إذ ذاك تتجدد في كل وقت وحين فلما انتقل إلى ربه طاهراً مطهراً زال ذلك
لكن بقي في بعض الناس ما يشبه ذلك وهو كثير فمن ذلك الوسواس الذي لبعضهم في شيء من تعبداتهم حتى يُخلوا بلسان العلم فيه فيبقى في تعبده على ضلال وهو يحسب أنه يُحسِن صُنْعاً وقد قال يُمن بنُ رزق - الإمام في الطريقتين - رحمه الله إن الشيطان يأتي لابن آدم فيرغبه في المعاصي هذا بعد عجزه عن أن يوقع له شبهة في عقيدته فإن قدر عليه فهو مقصوده وإن لم يقدر عليه رجع إليه من طريق الوسواس في تعبده حتى يجعله يُخلّ بشيء من لسان العلم فإذا نال ذلك منه قنع به ثم تركه وحَبَّب إليه العبادة ومَدَّ له في الصوت وربما تعرض له بعد ذلك مارِدٌ من الشياطين يريد أن يُغوِيَه فيقول له دَعْه فإنه بعملي يعمل فشاء دينه فغلبه الدين فانقلب بصفقة خاسرة نعوذ بالله من العمى والضلال
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سددوا أي سَدّدوا حالكم باتباع الفروض والسنن وقاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه فإن لم تقدروا فجاهدوا النفوس في الحمل عليه فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن فعلتم ما أُمرتم به كما ذكرناه لكم فأبشروا عند تلك المجاهدة بتيسير سُبل الخير والهداية يشهد لهذا قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٤
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله كره لكم ثلاثاً قيل
وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال
مروي بمعنى الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الأعرابي فيسأل رسول الله إلى آخر الحديث
۳ سورة يونس من الاية ٣٢ ٤ سورة العنكبوت من الاية ٦٩
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي الملازمة على قرع الباب في هذه الأوقات والمحافظة على ذلك عند نزول المحن لأن ذلك هو سبيل النجاة فيأتيكم العونُ من عالم الخَفِيّات يشهد لهذا قوله عليه السلام مَن فُتح له في الدعاء فقد فتحت له أبواب الخيرات۱ وقوله عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ من شَغَله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطِي السائلين
والفتن
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثامن
الوجه الثامن
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به قِصَرَ الأمل لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين فيصير الدِّينُ بسببه يُسراً بيان ذلك أن الأمل إذا قصر قلَّ الحرص وسهل الزهد وخَفَّ العمل وقد جاء هذا نصا منه عليه السلام حيث قال إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسَك بالصَّباح ۳
وقد رُوي أن عيسى عليه السلام مرَّ في سياحته بشيخ كبير وهو يخدم في حائط ٤ له فتعجب عيسى عليه السلام من كبر سنّه وشدّة حرصه على التكسب فلما أن وقع منه التعجب في ذلك راه قد أزال المسحاة من يده وأقبل على العبادة متوجهاً يشتغل بأنواع الخير فبقي على ذلك برهة من الدهر ثم قام إلى الخدمة كما كان أوّلاً فتعجب عيسى عليه السلام من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم أتى الشيخ فسأله ما الموجب في تركك الخدمة وما الموجب في عودك إليها فقال له الشيخ كانت خدمتي أوّلاً لِمَا طُبع عليه البشر من التكسب في هذه الدار لتحصيل ضروراتهم فخطرت لي فكرة في كبر سنّي وأن الموت قد دنا مني فقلت ما لي وللتعب ااتَّعَبُ لغيري فتركت الخدمة وأخذت فيما أنا سائر إليه ثم خطر لي أن قلت ولعل أن يَطُولَ عُمُري فأحتاج إلى الغير ففضلت التكسب على ما كنت أخذتُ بسبيله فعدتُ إلى حالتي الأولى
OFE
وهذه سنة الله تعالى مع أوليائه ما سَهَّل عليهم العمل وقطعوا مفاوز أعمالهم بالشغل بعبادته والإقبال عليه إلا أنه عزّ وجلّ قصّر آمالهم فتيسر عليهم من أجل ذلك ما تعشر على
1 رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وحسنه البغوي في المصابيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً رواه البخاري في التاريخ والبزار في المسند والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأوله كن في الدنيا كأنك غريب
٤ حائط بستان حديقة
غيرهم وقد قال عليه السلام لأسامة حين باع أو اشترى نَسِيئة إلى شهرٍ فقال إن أسامة لطويلُ الأمل ١
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غَلَبه معناه أن من أطال الأمل وقع له الكسلُ إذ ذاك فغلبه الدِّينُ لأجل طول أمله ومن آخر كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يا هذا لا تُدخِل هَمَّ غدِك على يومك فإن عشت فسيأتيك الله برزق جديد وإن متَّ فلا تَشْغَلْ وقتك بما لا تلحقه ومن هذا الباب ضاع كثير من العباد الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سدّدوا أي وطنوا النفس على قضر الأمل لأن ذلك عين السداد وقاربوا أي إن لم تقدروا على الأعلى في هذا السداد فقاربوا إليه ولا تبعدوا عن الأعلى والأخذ بالكمال فتُسبقوا والمسبوق محروم
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا بصلاح دينكم ودنياكم إن قبلتم
ما به قد أشير عليكم وأرشدتم إليه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدلجة الكلام
على الاستعانة هنا كالكلام على الوجه قبله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه التاسع
الوجه التاسع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسر قد يريد به الرضا لأنه معنى من المعاني يبلغ به أعلى المقامات لأنه أعلى درجات السالكين يشهد لذلك قوله عليه السلام لابن عباس يا بني إن قدرت أن تعمل الله باليقين في الرضا فافعل وإلا فالصبر على ما تكره فيه خير
كثير ٢
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبه أي من لم يرض بالمقدور وتسخط شاد دينه فيغلبه الدين ولهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك تحرّ
۱ رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في مسند الشاميين وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد ضعيف قاله العراقي في تخريج الإحياء جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أوله يا غلام إني محدثك كلمات احفظ الله يحفظك رواه الإمام أحمد والبيهقي في الشعب والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك ورواية الشيخ ابن أبي جمرة بالمعنى
المقادير فإن رضيتَ جَرَت وأنت مأجور وإن سخطت جرت وأنت مأزور ۱ فغلبه الدين لأجل
ما ترتب عليه من الوزر عند عدم الرضا
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا سددوا أي خذوا بحقيقة الرضا و قاربوا أي إن لم تطيقوا ذلك فقاربوا إليه والمقاربة إليه هي الصبر كما تقدم من قوله عليه السلام لابن عباس فالصبر على ما تكره فيه خير كثير وفائدة الرضا لا تظهر إلا عند الشدائد وتراكم المحن وأما عند العافية والرخاء فلا لأن كل أحد يرضى بذلك
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالوجه المذكور أو بالوجه بعده فَلْيستبشر بنجح سعيه وظفره بمراده كلّ على قدر رضاه أو صبره ثم يزاد له عند ذلك بشارة أخرى وأي بشارة زيادة على ما احتوى عليه لفظ الحديث وهي ما تضمنه قوله تعالى في كتابه * وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ فإذا كانت الزيادة بحسب الفضل فكيف يكون عظم البشارة
منحنا الله سبحانه منها من فضله ما يليق بفضله
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كما هي في الوجه قبله
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه العاشر
ميلة
الوجه العاشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به اليقين لأنه معنى من المعاني ويُكتسب به أعلى الدرجات والمقامات يشهد لهذا قوله عليه السلام في حق أبي بكر ما فضلكم بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ٣ والشيء الذي كان وقر في صدره هو قوة اليقين فنال أبو بكر رضي الله عنه أعلى المقامات وفَضَل غيره بذلك المعنى الذي وقر في صدره دون تعب في العمل بجارحة وهذا يُسر لا شك فيه
ولأجل هذا حض عليه السلام على تكسبه ليتيسر على أمته حيث قال تعلموا اليقين فإني
۱ مأزور من الوزر وهو الذنب وهي عكس مأجور
سورة النساء من الآية ۱۷۳
۳ قال السخاوي في المقاصد ٣٦٩ رقم ۹۷۰ قال العراقي لم أجده مرفوعاً وهو عند الحكيم الترمذي في نوادر
الأصول من قول بكر بن عبد الله المُزَّني
١٢٥
أتعلمه ۱ وهذا الذي حض عليه هو ما يُؤخذ بالكسب لأن اليقين على ضربين فيضي وكَسْبي فأشار عليه السلام هنا إلى ما للعبد حيلة في تكسبه وكيفية التسبب إلى تعلمه هي التفكر فيما أظهر عزّ وجلّ في عالم الحس من أحكامه وإرادته الجارية مرة على نوع وأخرى على ضده والصورة واحدة وما يظهر للعبد من ترجيح شيء ثم يرجح غيره عليه في وقته
ولأجل النظر إلى هذه الدقائق التي أشرنا إليها قوي إيمان الأولياء والصالحين بزيادة اليقين
حتى قيل لبعضهم بم عرفت الله تعالى فقال بنقضه لعزائمي وكذلك أيضاً يتسبب في قوة اليقين بالنظر في ملكوت السَّماوات والأرض الذي جعله عزّ وجلّ للخليل عليه السلام سبباً لقوة اليقين كما تقدم في الحديث قيل ولهذا قال عليه السلام تَفَكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدَّهر لأنه بالتفكر في مثل ما ذكرنا يحصل به من اليقين في ساعة واحدة ما لا يحصل في عبادة الدهر فيتيسر عليه الدِّين وإن كان صعباً وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بهذه الصفة في كتابه حيث قال إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَأَنقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۳
فانظر لما أن قوي يقينهم بثقتهم بربهم زال عنهم رعب ما أخبروا به وانقلبوا بعد ذلك بالفضل العميم والنعمة الشاملة في الدنيا والآخرة فربحوا الدارين بتلك اللحظة التي فَوَّضوا الأمر فيها إلى ربهم واستندوا إليه بقوة يقينهم
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبه أي من ضَعُف يقينه ولم يأخذ بالسبب الذي يقويه له كما أشرنا إليه فقد شادَّ دينه ومن شادَّ دينه غلبه الدِّين والغلبة هنا هي ما يكون من تسويلات النفس وتسويلات الشيطان وتخويفاته وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ٤
مداری
﴾
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا أي خذوا بالأعلى من اليقين واعملوا عليه وقاربوا أي إن لم تقدروا على الكمال فلا تبخسوا أنفسكم منه فيتعسّر عليكم الدين ومن تعسر عليه دينه باءَ بالخسران والضلال نعوذ بالله من ذلك
۱ تقدم تخريجه في الوجه الأول من هذا الحديث سبق تخريجه في الحديث الأول
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۷۳ والآية ١٧٤
٤ سورة النساء من الاية ۱۰
١٢٦
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا باليقين الفيضي الآتي من الفضل العميم إن أنتم امتثلتم الأمر بما أشير به عليكم فكسبتم من اليقين ما آلَ بكم إلى تكسبه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كالوجه قبله يستعان بالعمل في هذه الأوقات المذكورة ويُلجأ إلى الله فيها لعله بفضله يجود وبفضله أن يلهمنا النظر بالاعتبار في الأشياء التي يتقوّى بها اليقين ويؤيدنا بالتوفيق من عنده ويزيدنا على ذلك
الضرب الآخر هو الذي لا يؤخذ بالكسب وإنما يؤخذ بالفيض فمن تعشر عليه شيء من هذا أو حرم منه البتة أو هو يريد الزيادة على ما حصل له فليقف بالباب في هذه الأوقات ينجح له سعيه ويظفَرُ بمُراده لأن المخبر صادق ومن أحيل عليه كريم وهو لا يخلف الميعاد
6
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الحادي عشر
الوجه الحادي عشر
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرُ قد يريد به ترك ما للنفس من الحظوظ واستسلامها بين يدي مولاها لأن طلبها حظوظها وترك استسلامها هو الحجابُ الأعظم ولأنها ما أشرفت قط على شيء إلا أفسدته إلا من عصمه الله من شرها فقمعها بالاستسلام والانقياد وتَرْكُها
يسير على من يسره الله عليه وقد سئل بعض الفضلاء من السالكين عن كيفية الوصول فقال اترك نفسك وقد وصلت
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي أن من عمل على حظوظ نفسه فبلغها آمالها وترك استسلامها فقد شاد دينه وإذا شاد دينه غَلَبه الدِّين لأنه يُحْرَم بحجاب نفسه ما أُعِدَّ له من الخيرات عند الاستسلام من الألطاف والعون وغير ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فسدّدوا أي اعملوا على تَرْكِ ما للنفس من الحظوظ مرة واحدة وأزيلوها عن ذلك وسلّموها إلى خالقها تَسْعَدوا وقاربوا أي إن لم تقدروا على ذلك وغلبتكم نفوسكم فخذوا في الرياضة والمجاهدات حتى يأتي لكم منها ما قد
أشير به عليكم الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا إن أنتم فعلتم ما ذكر لكم بأن الله خيْرٌ لكم من أنفسكم وأرحم بكم منكم وأنه يبلغكم آمالكم كيف لا وقد قال تعالى في كتابه
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۱ وقال تعالى ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانِ وَجَنَّتٍ هُم فيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۳
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحَةِ وشيء من الدلجة أي استعينوا بهذه الأوقات وحافظوا عليها تعانوا على ما أريد منكم وتفوزوا برضا ربكم عنكم فهل من مشمّر يغتنم حصول زمن الإعانة قبل أن يفوته ثم لا يجد لنفسه على ما فرط فيه
إقالة
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثاني عشر
الوجه الثاني عشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به إذا كان الدين الله خالصاً ويكون به وله فيعمل على التعظيم لحق مولاه فإذا فعل هذا تيسر عليه الدين لأنه يجد إذ ذاك حلاوة الطاعة وتخفّ عليه بَلْ يتغذى بها فيرجع ملكي 4 الباطن بَشَريَّ الظاهر ولهذا قال
بعض الفضلاء من أهل السلوك مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قيل وما نعيمها قال حلاوة الطاعة وقد ندب عزّ وجلّ لذلك في كتابه وحصّ عليه حيث قال ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ٥ ثم جعله عزّ وجلّ متلوا في كل ركعة مبالغةً في الحض على ذلك حتى يكون حالاً فإذا كان الله معينه وهادِيَه حُمِل باللطف والعناية وتُوّج
بالبر والكرامة
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحد إلا غلبه أي من اعتمد في دينه على نفسه ولم يتعلق بالله فيه فقد شاد دينه وإذا شادّ دِينَه غلبه الدِّين بما يظهر له من عيوب نفسه و عجزه عن الخروج عنها ثم يلحقه إذ ذاك أحد وجهين وكل واحد منهما إذا وجد في الشخص علم أنه هالك به إلا أن يتداركه الله باللطف والإقالة
1 سورة الأحزاب من الآية ٤٣ سورة التوبة من الايتين ۱ و سورة النازعات من الآيتين ٤٠ و ٤١
٤ مَلكي نسبة إلى الملك ٥ سورة الفاتحة الآية ٥
أحدهما القنوط من عدم بلوغ ما يؤمل فإذا اتصف بهذه الصفة خيف عليه إذ ذاك لقوله
عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ يقول لو كنتُ معجّلاً عقوبة لعجلتها على القانطين من
رحمتي 1
على
ثانيهما رضاه بما هو عليه من الحال ودوامه عليه فإذا اتصف بهذه الصفة أيضاً خيف عليه لقوله تعالى في كتابه ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قال المفسرون معناه أنهم يصبرون الأفعال التي يعلمون أنها توجب لهم النار فكأن الصبر في الحقيقة على النار وهذا مثل قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۳ ونحن نشاهدهم يأكلون طعاماً طيب المذاق ولكن لما أن كان ذلك الأكل يؤول بهم إلى النار جعله عزّ وجلّ كأنه النار
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقارِبوا سدّدوا أي سددوا ما بينكم وبين أنفسكم وتعلَّقوا بربكم في كل لحظاتكم واستعينوا به في كل أموركم و قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السَّداد فقارِبوا إليه وخذوا أنفسكم بالرياضة في الوصول إليه ولا تَغْتَرُّوا بطول المهلة لئلا يقال لكم ﴿ أَوَلَوْ نُعَمِّرَكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ٤
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن تعلقتم به واستسلمتم إليه فأبشروا أنكم تجدونه حيث تؤملون كيف لا وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنا عند ظن عبدي بي٥
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلجة أي استعينوا بهذه الأوقات واغتنموا العمل والوقوف فيها بباب مولاكم تعانوا على ما أريد منكم ويسهل عليكم ما عَسُر فالحاصل من هذا الوجه لمن امتثله زيادة بشرى على البشرى المتقدمة لأن الإعانة تقتضي البشرى وقد تقدمها بشرى أخرى والبشارات هنا متعددة والمخبر صادق
والمقصود غني كريم يقبل من المُحْسِن ويتجاوز عن المسيء فهل من مشمّر صادق ومثل هذه البشارة ما تضمنه قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ
1 لم نعرف مصدره سورة البقرة من الآية ١٧٥
۳ سورة النساء من الآية ۱۰ و ناراً مجاز مُرْسَل علاقته المستقبلية
٤ سورة فاطر من الاية ۳۷
٥ حديث قدسي متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
88
۱۹
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولم ﴾ ۱ وذلك أن الله عزّ وجلّ لما أن قال للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ فغضب عزّ وجلّ عليهم ففزعوا فطافوا بالعرش أسبوعاً فغفر عزّ وجلّ لهم وأقالهم ثم قال لهم ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به المذنبون من بني آدم أسبوعاً كما طفتم أنتم بالعرش فأغفر لهم وأرحَمَهم كما فعلتُ بكم ففعلوا
فلما جاء الطُّوفان رُفع وبقي أساسه ثم أمر عزّ وجلّ خليله إبراهيم عليه السلام ببنيانه وأمره أن ينادي إليه وقال له عليك بالنداء وعلينا البلاغ فامتثل ما قيل له فأوقع الله صوته لكل من كان سبق في علم الله أنه يحج إليه من ولد آدم في الأرحام والأصلاب فلما أن تعرض صاحب الفيل إلى هدم هذا البيت الذي جعله عزّ وجلّ سبباً لرحمة بني آدم وللمغفرة لهم وأراد أن يحج الناس إلى بيت بناه صاحب الحبشة وكان جيشه لا يطاق فعل الله به ما قد نص في السورة ومتضمن الإخبار بذلك وفائدته أن تعلم عِظم رحمة الله عزّ وجلّ ولطفه بخلقه لأنه عزّ وجل يقول بمتضمن ذلك الإخبار يا أيها المؤمن المذنب انظر إلى أثر قدرتي كيف أهلكتُ من أراد أن يقطع عنك رحمتي مع تمردك عَلَيَّ وأخذك لنعمي لتستعين بها على المعاصي هذا ما أنا لك وأنت على هذا الحال فكيف أكون لك إذا أقبلت عليَّ وامتثلت أمري واتَّبعتَ كتابي وسنة نبيّي أيقدر أحد على ضرّك أو يصل إليك بسوء كيف تكون لو تركتك لنفسك أو تركتُ نصرتك إلى غيري أو أحوجتك إلى غيري أقبل عليّ تجدني بك رحيماً وعليك منعِماً ولك وليا وناصراً أولم تسمع خطابي لك ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ۳ فاستنصر بي أنصرْك وتضرع إلي أرحمك إني أرحم بك منك وأقوى على نصرتك منك
فمن تأمل هذه البشارة ففهمها وعمل عليها وجدها صدقاً حقاً ولقد رأيت بعض الفقراء وكانت سنه فوق المائة سنة يقول منذ رأيت شيخي لم أطلب حاجة من أحد فيقال له في ذلك فيقول إنه أوصاني وقال لي في وصيته اجعل حاجتك في كفكَ فكنتُ كلّما أردت حاجة بسَطتُ يدي إلى الدعاء فدعوتُ الله في قضائها فإن كانت خيرا قضاها لي وإن كانت شرًا أبعدها عني
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث عشر
۱ سورة الفيل الآيات ١ - ٥ سورة البقرة من الاية ۳۰
۳ سورة الروم من الآية ٤٧
3
0
۱۳۰
الوجه الثالث عشر
الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به جميع الوجوه المتقدم ذكرها وما يتشعب منها أو أكثر منها لولا التطويل لذكرنا منها جُمَلاً كلها بأدلتها لكن من نظر وتأمل ما أشرنا إليه على تنويع احتمالاته سهل عليه النظر فيما عداه وبانت له طرق الرشاد وتبين له اليسر على مقتضى احتمالاته ومشادة كل وجه بما يضاده وبشارته بحسبه والاستعانة فيه بحسب مناطه والزيادة في الكل بحسب الفضل العميم
جعلنا الله ممّن هداه لذلك بمنه وأسعده بما إليه هداه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
اليه
حالة
۱۳۱
خاردار
مان
ا چلہ
لولنا 1
حديث وفد عبد القيس
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن وفد عبد القيس لما أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال مَنِ القوم أو من الوفد قالوا ربيعة قال مرحباً بالقوم أو بالوفد غيرَ خَزايا ولا نَدامَى فقالوا يا رسول الله إنَّنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحيّ ال من كفار مُضَر فمُرْنا بأمرٍ فَضْلٍ نُخبِرْ به مَن وَراءنا ونَدخُل به الجنةَ وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تُعطوا من المَغْنَمِ الخُمس ۱ ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدُّبَاءِ والنقير والمزفّت وربما قال المُقيَّر وقال احفظوهن وأخبروا بهنّ مَن وَراءَكم
*
ظاهر الحديث يدل على وجوب الأربعة المأمور بها فيه وترك الأربعة المنهي عنها فيه والحض على ذلك بالحفظ والتبليغ والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله مَن القَوْمُ أو مَنِ الوفد هذا شك من الراوي في أيهما قال عليه السلام هل القوم أو الوفد وفي هذا دليل على صدقهم وتحرزهم في النقل لأنه لما أن وقع له الشك أبدى ما كان عنده
الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة سؤال المقصود للقاصد عن نفسه حتى يعرفه لأنه
عليه السلام سأل عن هذه القبيلة حين قدمت عليه حتى عرفها
۱ لعلها إشارة منه إلى نصرهم على كفار مضر وأخذ الغنائم منهم
الوجه الثالث في هذا من الفقه أن يُنزَلَ كل إنسان منزلته لأن سؤاله عليه السلام إنما كان
لأجل هذا المعنى ولأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال أنزلوا الناس منازلهم ۱ فما نص عليه في هذا الحديث فعله فيما نحن بسبيله فإذا لم يعرف الإنسان القادم عليه لم يتأنَّ له أن يُنزِلَه منزِلَتَه ولهذا كان الخلفاء رضوان الله عليهم إذا جلس أحد بإزائهم وهم في المسجد سألوه ما معك من القرآن ولا ذاك إلا لأن يُنزِلوه منزِلَتَه لأن الفضل كان عندهم بحسب ما يكون عنده من القرآن
الوجه الرابع قوله قالوا ربيعة فيه دليل على ما خَصَّ الله عزّ وجلّ به العرب من الفصاحة والبلاغة لأنه لما أن سأل عليه الصلاة والسلام من هم لم يذكروا له أسماء أنفسهم ولا انتسبوا إلى آبائهم وأجدادهم لأن ذلك يطول الكلام فيه وقلّ أن تتأتى المعرفة بهم عن آخرهم لذلك أضربوا عن ذلك وسمّوا القبيلة التي يحصل بها المقصود دون إطالة كلام إبلاغاً في البيان وإيجازاً في الاختصار
الوجه الخامس فيه دليل على جواز الإخبار بالكل عن البعض لأن من قدم في هذا الوفد لم يكن قبيلة ربيعة كلها وإنما كان بعضها فسموا البعض بالكل وهذا مستعمل في ألسنة العرب كثيراً ما يسمون البعض بالكل والكل بالبعض وهذا من فصيح الكلام
الوجه السادس قوله صلى الله عليه وسلم مرحباً بالقوم أو بالوفد مرحباً أي صادفتم رَحباً وسَعَة وفيه دليل على التأنيس للوارد وذلك بشرط أن يكون ما يأنسون به مطابقاً لحال المتكلم لئلا يدرك الوراد طمع في المورود عليه فيما لا يقدر عليه لأن الرَّحبَ والسَّعة التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام للقادمين عليه كانت عنده حقيقة حِسّاً ومعنى
الوجه السابع فيه دليل على أن من حسن المخاطبة تسمية الوارد حين الكلام معه لأنه عليه السلام قد سمّى هذه القبيلة التي وردت عليه حين خاطبهم حيث قال مرحباً بالقوم أو بالوفد على شكٍّ الراوي في أيهما قال عليه الصلاة والسلام ولأن تسمية القادم زيادة في التأنيس وإدخال سرور عليه وفي إدخال السرور عليه من الثواب ما قد علم ولأنه قد يظن القادم أن الكلام مع غيره لأجل قلة أُنْسِه بالمَحَلّ
الوجه الثامن قوله عليه السلام غير خزايا أي أنتم مسعوفون ۳ في كل مطلوباتكم لأن مَن لم يَخْزَ فقد أجيب وأسْعِف لأن نفي الشيء يوجب ضده
1 أورده مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة رضي الله عنها معلقاً كذا والصواب مُسْعَفون وفي نسخة الأحمدية مسعودون
۱۳۳
الوجه التاسع قوله عليه السلام ولا ندامى هذا إخبار لهم بالمسرة في الآجل لأن
الندامة في الغالب لا تكون إلا في العاقبة لأن حُبَّ الإنسان في الشيء أولاً قد يَخْفى عليه لأجل حبه فيه فائدة ما ترك من أجله فقد يتبين له بعد حصول المراد فائدة ما ترك فيندم عليه أو يسرّ فأخبرهم عليه السلام أولاً بالخير عاجلاً وآجلاً فلا يزال الخير لهم والفرح متصلاً وكذلك هو أبداً كل من قصد جهة من جهات الحق سبحانه حصل له الفرح والفَرَجُ عاجلاً وآجلاً لأن النبي قال مَن ترك شيئاً لله عَوَّضه الله خيراً منه من حيث لا يحتسب ۱ فكل من ترك جهة الله فهو قاصد الأخرى بدلاً منها فالوعد الجميل خير وإنما يكون الندم والحزن والخسران في غير هذه
الجهة المباركة
الوجه العاشر في هذا دليلٌ لأهل الصُّوفة في عملهم على ترك ما سواه وإقبالهم به عليه إذ إن ذلك يُنالُ به حسن الحال في الحال والمآل
الوجه الحادي عشر قولهم يا رسول الله فيه دليل على أنّ هذا الوفد كانوا مؤمنين حين قدومهم لأنه لو كانوا غير مؤمنين حين قدومهم لم يكونوا ليذكروا هذا الاسم وَلَذَكروا غيرَه
من الأسماء
الوجه الثاني عشر فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل العلم والفضل والصلاح والخير وأن يُنادوا بأحب أسمائهم إليهم لأنهم نادوا النبي لا لا لا له بأحب أسمائه إليه وأعلاها وذلك من التأدب منهم معه والاحترام له
الوجه الثالث عشر قولهم إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام هذا الشهر هو رجب الفرد شهر الله الأصم ٢ فيه دليل على تعظيم هذا الشهر وفضله إذ إن الله عزّ وجلّ جعل له حرمة منذ كان في الجاهلية وفي الإسلام
الوجه الرابع عشر فيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ لأن الجاهلية قد عظَّمت هذا الشهر ولم تَدْرِ لماذا عظمته إلا أن ذلك وقع في نفوسها فعظَّمته والمؤمنون عظموه لأجل إعلامهم بحرمته فأبدى القادر ما شاء كيف شاء مرةً بواسطة ومرَّة بغير واسطة
الوجه الخامس عشر فيه دليل على لطف الله تعالى بجميع خلقه ورأفته بهم كانوا مؤمنين أو
1 لم نعرف مصدره سُمِّي بالأصم لأن العرب فيه كانوا لا يتصايحون لحرب
1 lice
١٣٤
کافرین
لأن إلهام الجاهلية لتعظيم هذا الشهر حتى يرفعوا فيه القتال ويسلكوا فيه السبيل حيث شاؤوا لا يعترض أحد أحداً لطف ۱ منه عزّ وجلّ ورحمة بهم في هذه الدار
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن كل من جعل الله فيه سِرًّا من الخير وألهم أحداً إلى تعظيمه وحرمته عادت عليه بركته وإن كان لا يعرف حقه لأن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا الشهر وجعل له حرمة يوم خلق السماوات والأرض فلما ألهم هؤلاء تعظيمه مع كونهم جاهلين بحرمته عادت عليهم البركات التي أشرنا إليها الوجه السابع عشر قولهم بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر أي أن هؤلاء الكفار يقطعون بينهم وبين النبي الله فلا يستطيعون المجيء إليه بسببهم إلا في الشهر الفرد الذي يرتفع فيه القتال وفيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجباً كان أو مندوباً لأنهم ذكروا العذر الذي يمتنعون بسببه من المجيء إليه وبيَّنوه
الوجه الثامن عشر في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم سموا مضر كفاراً فلو كانوا غير مؤمنين لما سمّوهم كفاراً
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن التوفيق تخصيص بالقدرة ولا يؤثر فيه قرب النسب ولا قرب المكان ولا قرب الزمان لأن قبيلة مضر أقربُ فمُنِعوا وقبيلة ربيعة أبعد فأسعِدوا ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله لو كان الظفر بالهياكل والصور ما ظفر بالسعادة بلال الحبشي وحُرِم أبو لَهَبٍ القرشي
منهم
لديهم
الوجه العشرون قولهم فمُرْنا بأمرٍ فَضل أي قطع لا نَسْخَ بعده ولا تأويل وذلك حذراً لئلا يحتاجوا في أثناء السَّنة للسؤال أيضاً والتعليم فلا يجدوا سبيلاً إليه لأجل العذر الذي كان وفيه دليل على طلب الإيجاز في التعليم مع حصول الفائدة فيه وهو من الفقه والتيسير الوجه الحادي والعشرون قولهم نُخبِرْ به من وراءنا فيه دليل على جواز النيابة في العلم الوجه الثاني والعشرون قولهم ونَدخُلْ به الجنة فيه دليل على أنه يُبدأ أولاً في السؤال عن أمر بما هو الآكد والأهم لأنهم سألوا أولاً عن الأمر الذي يدخلون به الجنة وهو الأهم ثم بعد
ذلك سألوا عن غيره
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الأعمال هي الموجبة لدخول الجنة ولا يظن ظان
1 لطف خبر لـ أن مرفوع بالضمة إن سيدنا محمد الله من مضر
4
١٣٥
أن هذا معارض لقوله عليه السلام لن يدخل أحد بعمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله
قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته ۱
﴿
والجمع بينهما أن يقال الحديث الذي نحن بسبيله خطاب للعوام لأنه مقتضى الحكمة وعادة الله تعالى أبداً أنما يخاطبهم بما تقتضيه الحكمة والقرآن بذلك ملان فمن ذلك قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۳ إلى غير ذلك من قوله تعالى بِمَا عَمِلْتُمْ ٤ و بِمَا كُنتُر تَكْسِبُونَ ٥ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ٦ بِمَا أَسْلَفْتُمْ ٧ بِمَا تَفْعَلُونَ ۸ إلى غير ذلك وهو كثير والخطاب في الحديث الآخر لأهل الخصوص وهم المنهمكون في التوحيد والمحققون بالقدرة فلو قيل لمن يتحقق بالقدرة هذا الحديث لأدى بهم الأمر إلى ترك مقتضى الحكمة وترك العمل بمقتضى الحكمة كفر بإجماع وإن اعتمد على القدرة والعمل بمقتضى الحكمة وإن إجلال القدرة إيمان محض ويدخل بذلك في ضمن قوله تعالى لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۹ والنهاية هي الجمع بين مقتضى الحكمة بتصحيح العمل وإجلال القدرة بتفويض الأمر لها ولهذا قال بعض الفضلاء اعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتَوَكَّلْ تَوَكُل من لا يرى خلاصاً إلا بالتوكل ولأجل العمل على هذه الصفة أثنى عزّ وجلّ في كتابه على يعقوب عليه السلام حيث قال ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ ١٠ لأنه جمع بين الحقيقة والشريعة وسأذكر ذلك وأبينه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى
4,
الوجه الرابع والعشرون قوله وسألوه عن الأشربة الأشربة في اللغة تطلق على كل شراب عدا المحرَّم لأن المحرَّم عندهم يسمى بالخمر والأشربة المعهودة عندهم هي ما كان من نقيع التمر ونقيع الزبيب وغير ذلك مما فيه مصلحة لهم وفي سؤالهم عن الأشربة دليل على أنه
۱ رواه البخاري في كتاب الرقاق ومسلم في صفة القيامة والجنة وابن ماجه في الزهد بألفاظ مختلفة جاء في النسخ الأخرى بدلاً من هذا التعليل ما يلي إن الأعمال هي سبب لدخول الجنة ثم إن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة فدخول الجنة برحمة الله تعالى والدرجات بحسب الأعمال
۳ سورة النحل من الآية ۳
٤ سورة التغابن من الآية ٥ سورة الأعراف من الآية ۳۹ ٦ سورة البقرة من الاية ١٤١ ۷ سورة الحاقة من الآية ٢٤ ۸ سورة النمل من الآية ۸۸
۹ سورة يونس من الاية ٢ ۱۰ سورة يوسف من الآية ٦٨
١٣٦
نهي لأنه لو لم يبلغهم في ذلك شيء لما سألوه عنها وفيه زيادة دليل
بلغهم في بعضها تحريم لما قدمناه من أنهم كانوا مؤمنين قبل قدومهم
الوجه الخامس والعشرون قوله فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع فيه دليل على أن الجواب
لا يكون إلا بعد تمام الخطاب لأنه عليه السلام لم يجاوبهم حتى أتموا جميع سؤالهم الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن الفصيح من الكلام الإجمال أولاً ثم التفسير للإجمال بعده لأنه عليه السلام أجمَلَ لهم أولاً ثم بعد ذلك فَسَّر ما أجمل والحكمة في ذلك أنه عند الإخبار بالإجمال يحصل للنفس المعرفة بغاية المذكور ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه فيكون ذلك أوقع في النفس وأعظم في الفائدة الوجه السابع والعشرون أمرهم بالإيمان بالله وحده فيه دليل على أنه يبدأ من الجواب بما هو الأهم والآكد لأنه عليه السلام بدأ أولاً بالأصل الذي هو الإيمان ثم بعد ذلك أجاب
عن الغير
الوجه الثامن والعشرون فيه دليل لقول من يقول بأن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة لأنه عليه السلام لم ينص على الأعمال حتى أثبت الإيمان
الوجه التاسع والعشرون قوله أتدرون ما الإيمان بالله وحده فيه دليل على استفهام المعلم للمتعلم عما يريد إلقاءه إليه لأنه عليه السلام استفهم عن حقيقة فهمهم في الإيمان ثم بعد
ذلك بيَّنه لهم
الوجه الثلاثون قوله قالوا الله ورسوله أعلَمُ فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل الفضل والدين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي الله فردوا الأمر إليه فيه فيما استفهم عنه تأدباً واحتراماً منهم له والحكمة في ردهم الأمر إليه من وجوه الأول التأدب كما تقدم الثاني أن سمعهم منه تحقيق وتثبيت لما كان عندهم الثالث خيفة التوقع لئلا يكون زاد في الأمر شيء أو نقص لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء بالزيادة والنقص وهذا الوجه قد انقطع بانتقال الشارع عليه السلام والوجهان الأولان باقيان لأن علتهما موجودة
الوجه الواحد والثلاثون في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي واحترموه غاية الاحترام وذلك مثل ما التزم الصحابة رضي الله عنهم من التأدب والاحترام حين قال له م ه م ا أي بلد هذا أي شهر هذا أي يوم هذا فقالوا الله ورسوله أعلم ۱ وقد أقروا في هذا اللفظ الله بالوحدانية وله بالرسالة
1 رواه البخاري في الحج ومسلم في القسامة
۱۳۷
الوجه الثاني والثلاثون قوله قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيه دليل لمن يقول بأن أول الواجبات الإيمان دون نظر ولا استدلال لأنه عليه السلام لما أن ذكر لهم الإيمان لم يذكر لهم بعده نظراً ولا استدلالاً
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على جواز الجواب بأكثر مما سئل عنه بل يلزم ذلك إذا كان هو الأصل الذي عليه يتقرر الجواب وبعد صحته يتقرر السؤال لأنهم إنما سألوه عن الأفعال التي توجب لهم الجنة فأجابهم عليه السلام عن الأفعال والاعتقاد وهذا مثل قوله حين سئل عن ماء البحر فقال هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مِيتَتُه ۱ فأجاب بأكثر مما سئل عنه لأن
الحاجة دعت إليه
الوجه الرابع والثلاثون قوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المَغْنَمِ الخَمُسَ فيه دليل على أن الفروع لا تترتب على الأصول إلا بعد تحققها لأنه لم يذكر لهم فروع الإيمان حتى تحقق منهم به وإن كان ما تقدم له من قرائن الحال يقتضي أنهم مؤمنون كما ذكرنا لكن لم يقنع بذلك حتى كان بالمشافهة والتعليم
الوجه الخامس والثلاثون قد اختلف العلماء في ترك النبي ذكر الحج هنا فمن قائل يقول إنما سكت عن الحج لعلم الناس به من كثرة شهرته وهذا ليس بالجيد لأنه يلزم على ذلك ألا يذكر الصلاة من باب أولى لأن الصلاة تتكرر في اليوم خمس مرات وذلك أعظم ما يكون من الشهرة والحج إنما هو مرة في السنة فقد لا يعرف ولا يعهد ولا سيما في أول الإسلام ومن قائل يقول إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض بعد وهذا لا بأس به لكن بقي عليه شيء وهو أن هذا الوفد قد اختلف في قدومه فقيل كان قدومه سنة خمس وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع فعلى القول بأن قدومه سنة خمس أو سبع فهذا التوجيه صحيح لأن الحج لم يكن فُرِضَ بَعْدُ وعلى القول بأن قدومه كان سنة تسع فيبطل التوجيه بذلك مرة واحدة
ويظهر لي في هذا أنه إن كان القدوم سنة خمس أو سبع فالتوجيه ما قاله هذا القائل من أن الحج لم يكن فرض بعد وإن كان قدومه سنة تسع فالتوجيه الذي لاخفاء فيه هو أنه إنما سكت عن لأن الله عزّ وجلّ لم يفرضه إلا مع الاستطاعة وهؤلاء ليس لهم استطاعة لأن العدو قد بينهم وبين البيت وهم كفار مضر فكيف يذكر لهم الحج وهم قد نصوا له أولاً على العلة التي هي موجبة لسقوطه عنهم فيكون تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع في هذه الشريعة السمحة
الحج
حال
۱ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۱۳۸
ثم انظر إلى ما يؤيد هذا ويوضحه وهو أنه لما أن ذكروا له أنهم في المضاربة مع أعدائهم والمضاربة إذا كانت فللغالب الغنيمة فأضرب لهم عمّا لا يجب عليهم وهو الحج لأجل العذر الذي ذكروا له ونص لهم على الخُمس الذي لم ينص لغيرهم عليه لأجل علمه بأنهم محتاجون إلى ذلك لأجل أن الغنيمة في ضمن القتال كما تقدم ۱
الوجه السادس والثلاثون في هذا دليل على أن يخبر كل إنسان بما هو واجب عليه في وقته ولا يلزم غير ذلك لأنه عليه السلام ذكر لهم ما هو الواجب عليهم في وقتهم وترك ما عداه وإن كان يلزمهم بعد ذلك ولأجل هذا قال بعض العلماء في معنى قوله طلب العلم فريضة على كل مسلم قالوا المراد به ما هو واجب عليه في وقته ۳
الوجه السابع والثلاثون لقائل أن يقول قد قال أولاً فأمرهم بأربع ثم أتى في التفسير بخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وإعطاء الخُمُس والجواب أنهم سألوا عن الأعمال الموجبة لدخول الجنة فأمرهم
عليه السلام أولاً بالأصل الذي تترتب عليه الأعمال وهو الإيمان ثم أجابهم بعد ذلك بالأربع فإن قال قائل نعد الإيمان من الأربع ونجعل الآخر زائداً على الأربع قيل له ليس الأمر كذلك لأنه قد علم أنهم مؤمنون بالأدلة التي تقدمت في الحديث على ما بَيَّنَّاه لكن احتاج إلى ذكر الإيمان هنا للمعنى الذي قدمناه وهو ألا يكون فرع إلا عن أصل متحقق فذكره ليقعد هذه القاعدة الشرعية وفيه أيضاً معنى ثانٍ وهو أنه لو كان الزائد الخامس لأبداء الراوي فقال وزادهم على ذلك لأنه قد تحرى فيما هو أقل من هذا في أول الحديث حيث قال مَنِ الوفد أو مَنِ القوم فكيف به في هذا وعادة الصحابة أبداً التحري الكلي والضبط الكلي في نقلهم فلما كان الأمر ظاهراً كما ذكرنا لم يحتج إلى بيان ولا إلى عذر
1 جاء في حاشية نسخة باريس نقلاً من ابن حجر ما يلي قول من قال إن ترك ذكره - يعني الحج - لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي يجب عليهم فعلا وتركاً ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع
أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها
رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه انظر النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ۳ كأن هذا الحديث يشير إلى وجوب إتقان العلوم المستجدة في كل عصر لتبقى الأمة الإسلامية رائدة وسابقة لغيرها ولئلا تكون عالة في هذه المخترعات والاكتشافات الجديدة على غيرها فيسهل استنزاف خيراتها
وثرواتها وخيرة أبنائها
۱۳۹
الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على أن تارك هذه الأفعال المذكورة لا يدخل الجنة وإن
كان مقراً بها لأنهم سألوا عن الأعمال التي بها يدخلون الجنة فنص لهم عليه السلام على هذه الأعمال بعدما قرر لهم الإيمان كما تقدم فالحاصل من هذا أنهم إن لم يعملوا ما نص لهم لم يدخلوا الجنة وإذا لم يدخلوا الجنة دخلوا النار لأنه ليس هناك إلا الداران وبهذا يحتج من يقول بأن التارك لها مع إقراره بها يقتل كفراً وهو القليل والجماعة على أنه يقتل حدا لا كفراً وهو في المشيئة إن شاء عزّ وجلّ عذَّبه وإن شاء غَفَر له وإذا عذبه فالتخليد ليس هناك لاعتقاده الإيمان
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على أنه يُبدأ أولاً بالفرائض ويبدأ من الفرائض بالأوكد فالأوكد لأن الفرائض كثيرة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك ولكنه
قد فضل هذه على غيرها وما فضل على الغير فالمحافظة عليه اكد مع أن المحافظة على الكل واجبة الوجه الأربعون فيه دليل على فضل العلم على غيره من الأعمال لأنه لا يُعلم هذا وأمثاله إلا بالعلم وعدم العلم به سبب لوقوع الخلل فيه وإذا وقع الخلل فيه أو ترك وقع الحرمان من دخول الجنة والهلاك نعوذ بالله من ذلك الوجه الحادي والأربعون فيه دليل على أن أفضل العلوم علم الكتاب والسنة لأنه لا يعرف هذا وأمثاله إلا من الكتاب والسنة وهو المقطوع به والمخلص الوجه الثاني والأربعون قوله ونهاهم عن أربع الحَنْتَم والدُّبّاء والنقير والمزَفّت وربما قال المقيَّر الحنتم اختلف فيه فقيل هو المطلي بالزجاج وقيل هو الخَليّ عن ذلك والدباء هي اليقطين والنقير هو عود النخل كانت العرب تحفر عود النخل وتنبذ فيه والمزفّت هو ما طلي بالزفت وربما قال المقيَّر شك من الراوي في أيهما فقال له الله ولكن المعنى يجمعه مع الأربع وإن كان لم ينص عليه لأن المقيَّر هو ما طُلِي بالقار
الوجه الثالث والأربعون ظاهر هذا النهي يدل على تحريم الانتباذ في هذه الأواني لأن النهي يقتضي التحريم وليس كذلك لقوله عليه السلام حين سئل عنها ثانية فقال انبذوا وكلُّ مسكر حرام فأخبر عليه السلام أن النهي إنما كان خيفة إسراع التخمر فإذا أُمِن مِن ذلك فلا
بأس به
الوجه الرابع والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بسد الذرائع لأنه
إنما نهى عن الانتباذ في هذه الأواني لأن التخمر يسرع فيها
1 كأنه يريد المتفق عليه
رواه مسلم وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة
۶
١٤٠
الوجه الخامس والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله أيضاً في المشهور عنه أن
المرء يخاطب بالإيمان وإن لم تبلغه الدعوة لأن نهيه عليه السلام عن الانتباذ في هذه الأواني إنما هو من أجل التخمر الذي يسرع إليه كما قدمنا وصاحبه لم يشعر به فیشر به جاهلاً به فيكون قد شرب حراماً وهو لم يشعر فيعاقب عليه فنهى عليه السلام عنها لأجل هذا المعنى وإنما أحلها لهم بعد ذلك لأنهم قالوا إن أرضنا لا تحمل الأزقاق ۱ من أجل حيوان عندهم يقطعها لهم فلما أن تبين له هذا العذر منهم ورأى أنهم مضطرون إليها قال انبذوا وكلّ مسكر حرام إيقاظاً لهم وتنبيهاً على تفقدها في كل وقت وحين لئلا يسرع التخمر لها وهم غافلون الوجه السادس والأربعون فيه دليل على فصاحته عليه السلام وإبلاغه في إيجاز الكلام مع إيصال الفائدة بالبيان لأنهم سألوا عن الأشربة وهي كثيرة فلو ذكرها لاحتاج إلى تعدادها كلها ووصفها ولكنه عليه السلام أضرب عن ذلك وأجاب عن الأواني المذكورة لا غير فكأنه عليه السلام يقول الأشربة كلها حلال إلا ما نبذ في هذه الأواني فكان هذا تصديقاً لقوله عليه السلام أوتيت جوامع الكلم
الوجه السابع والأربعون ظاهر هذا الإخبار يدل على أن الأشربة كلها حلال وليس كذلك لنهيه عليه السلام في حديث آخر عن شراب الخليطين مثل التمر والزبيب أو الزبيب والعنب إلى غير ذلك مع أن العلة واحدة في الكل وهي إسراع التخمر فعلى هذا يجب اطراد هذه العلة فحيثما وجدت وقع المنع وحيثما فقدت اطردت الإباحة
الوجه الثامن والأربعون قوله عليه السلام احفظوهن فيه دليل على الأمر بحفظ العلم
والوصية عليه
الوجه التاسع والأربعون قوله عليه السلام وأخبروا بهن مَن وَراءَكم فيه دليل على الحض على نشر العلم وتبيينه وفيه دليل لما قدمناه وهو جواز النيابة في العلم وصلّى الله على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الله عنه
1 الأزقاق ج زِق بكسر الزاي وهو السِّقاء من جلد الحيوان الذي يجز ولا يُنتف رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي ۳ رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه
١٤١
حديث احتساب النفقة على الأهل
عن أبي مسعود البدري۱ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أنفَقَ الرّجُلُ على أهلِهِ يَحْتَسِبُها فهي له صَدَقَة
ظاهر الحديث يدل على أن الإنفاق مع الاحتساب صدقة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إذا أنفق الرجل النفقة هنا هي ما أوجب الله تعالى على الرجل لعياله من الطعام والشراب والكسوة والخدمة والسكنى وغير ذلك من ضروراتهم المعلومة عادة وشرعاً ولذلك قال أنفق ولم يقل أطعم لأن أنفق يعمّ كل ما ذكرناه و أطعم لا يفيد إلا المأكل لا غير
الوجه الثاني قوله عليه السلام على أهله الأهل هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد الزوجة ليس إلا الثاني أن يكون المراد الزوجة وكل ما تلزمه نفقته شرعاً لأن العرب تقول أهل الرجل وهي تريد زوجته وتقول أهل الرجل وهي تريد أهله وأولاده وقد جاء المعنيان في الكتاب وفي الحديث أما الكتاب فقوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَمُ وكان ذلك زوجته وبنيه وقوله تعالى ﴿ فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾ ٣ وأما الحديث فقول أسامة للنبي أهلك يا رسول الله 4 يريد زوجته لا غير والأظهر من هذين الوجهين العموم
لأنه وإن
اسمه عقبة بن عمرو يعرف بـ البدري لأنه سكن أو نزل ماء بِبَدر - في أصح الأقوال - وشهد العقبة
ت ٤١هـ / ٦٦١م
سورة ص من الآية ٤٣ ۳ سورة الأعراف من الآية ٨٣
٤ جزء من حديث الإفك رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
0
١٤٢
كان المراد الزوجة لا غير فغيرها من باب أولى لأن الزوج له الاستمتاع بها في مقابلة النفقة عليها ۱ والنفقة على الأهل ما عداها ليس فيه ذلك وفيه زيادة صلة الرحم
الوجه الثالث قوله عليه السلام يحتسبها الاحتساب هنا هل يشترط فيه إحضار الإيمان أو لا احتمل الوجهين معاً
فإذا كان المراد الإيمان والاحتساب معاً فيكون ترك ذكر الإيمان هنا للعلم به وشهرته ولأنه قد ذكره في غير ما حديث من ذلك قوله عليه السلام من قام رمضان إيماناً واحتساباً إلى غير ذلك فيكون الاحتساب يتضمن الإيمان
وإن كان المراد به الاحتساب دون شرط إحضار الإيمان فيكون لفظ الحديث على ظاهره وهذا أظهر وأرجح والله أعلم بدليل أنه عليه السلام لما أن ذكر هنا الاحتساب وحده جعل ثوابه ثواب الصدقة ولما أن ذكر الإيمان وحده في حديث آخر جعل ثوابه حسنات والحديث هو قوله عليه السلام مَنِ احتَبَس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شِبَعَه ورِيَّهُ ورَوْتَه وبَوْلَه حسنات في ميزانه يوم القيامة ۳ ولما أن ذكر الإيمان والاحتساب معاً جعل ثوابه مغفرة للذنب وهو أعلى الثواب كما تقدم في حديث ليلة القدر
الوجه الرابع هل هذه الصدقة مقصورة في هذا الموضع لا تتعداه أو هي متعدية احتمل الوجهين معاً والظاهر التعدي لأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال ويميط الأذى من الطريق صدقة والكلمة الطيبة صدقة ٤ إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو كثير ولأنه عليه السلام قد جعل لإحضار الإيمان والاحتساب أجراً زائداً وذلك يدل على أنه مقصود بنفسه وإذا كان مقصوداً بنفسه اقتضى تعديه لكل الأعمال واجباً كان أو ندباً ولأنه عليه السلام قد قال أوقع الله أجره على قدر نيته ٥ والنية هي القصد لفعل من
1 إذا كان استمتاع الرجل بزوجته في مقابلة النفقة عليها فاستمتاعها به في مقابل ماذا ونرى أن الاستمتاع حق مشترك على السواء كما قرره المحققون من الفقهاء وليس للزوج حق هجر زوجته الإيلاء منها أكثر من أربعة أشهر وليس المراد تعليق الاستمتاع بشرط الإنفاق فقد يبقى استمتاع الزوج بزوجته من غير إنفاق عليها لفقره المدقع ويبقى ينفق عليها إذا كانت مريضة دون أن يستمتع بها
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصلح ومسلم في الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله
0
كل سلامى من الناس عليه صدقة جزء من حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند والنسائي من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه وأوله ما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء سبعة
١٤٣
الأفعال واجباً كان أو ندباً فهي معنى لا تزيد ولا تنقص وإنما ترتفع وتسمو بانضمام أحد هذين
الوجهين لها أو كليهما وهما الإيمان والاحتساب
الوجه الخامس في هذا دليل لأهل الصوفة حيث يأخذون في تنمية أفعالهم واجباً كان أو ندباً بحسن نياتهم أما الواجب فيزيدون فيه الإيمان والاحتساب وأما المندوب فيزيدون فيه أكثر من ذلك لأنهم ينذرونه أولاً على أنفسهم فيصير واجباً ثم بعد الوجوب يزيدون فيه نية الإيمان والاحتساب وأما المباح فيتخذونه عوناً على طاعة ربهم فيصير مندوباً ثم بعد ذلك يزيدون له الإيمان والاحتساب فترتفع أعمالهم لأجل ذلك وتسمو هممهم ولأجل هذا المعنى كان لهم القدم السابق على غيرهم وإن كانت أفعالهم مع أفعال غيرهم في الظاهر على حد سواء وقد قال عليه السلام إن الله لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولكنْ يَنظُرُ إلى قلوبكم
الوجه السادس قوله عليه السلام فهو له صدقة الصدقة هنا بمعنى الأجر لأنه ليس الفائدة في الصدقة إعطاءها وإنما الفائدة فيها ما يترتب عليها من الأجر وهذا الأجر المنصوص عليه هنا ليس هو ثواب ذلك العمل وحده وإنما هو زيادة الأجر الذي له في النفقة لأن النفقة عليه واجبة ومن فعل الواجب كان مأجوراً لامتثاله الأمر وزيد بحسب ما زاد من إحضار الاحتساب أو الإيمان أو هما معاً أجراً ثانياً
الوجه السابع في هذا دليل على أن إحضار الإيمان والاحتساب مندوب إليهما في الأفعال وليسا واجِبَيْنِ لأنه عليه السلام عَيَّن لفاعلهما الثواب ولم يخبر أنّ على تاركهما عقاباً وهذه الصفة هي للمندوب
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ جعل في الإيمان والاحتساب هذا الثواب المذكور مع أنه ليس فيهما تعب ولا كبير مشقة لأن الجوارح لا تتحرك فيهما ولا تتصرف والجواب أنه إن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث يرد عليه وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى البيان والأظهر من الوجهين أنه معقول المعنى
بيان ذلك أن القلب جارحة بنفسه وإحضار النية فيه بهذه الأوصاف تعب للنفس وزيادة تعب النفس يزيد به الأجر بدليل قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وكل نوع من الأنواع التي تتعب النفس يسمى مجاهدة - وقد تقدم في الحديث قبل - ولأن له أن يفعل ما أمر به على حِدَة واجباً أو مندوباً دون إحضار الإيمان والاحتساب بل له أن يفعل بعض الأفعال دون
۱ رواه مسلم في باب البر والصلة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة العنكبوت من الآية ٦٩
١٤٤
إحضار النية البتة بدليل قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية فقد جعل عليه السلام إحضار النية في العمل من باب الخيرية وإذا كان ذلك في باب الخيرية فإيقاع العمل دونها جائز مجزىء وإلى هذا ذهب أكثر العلماء
لكن هذا ليس على العموم بمقتضى ما يدل عليه صيغة اللفظ وإنما هو في بعض الأعمال دون بعض بحسب ما تقتضيه قواعد الشريعة لأن الأعمال تختلف فمنها ما يكون واجباً ومنها ما يكون مندوباً لا يعمل إلا لله ومنها ما يكون مندوباً وقد يعمل الله وقد يعمل لغير الله أما الواجب فلا بد من إحضار النية فيه لأن الواجبات جعل لها حدود وصفات وأسماء فلا بد من تعيين ذلك بالنية وإلا فالعمل باطل مثال ذلك الصلوات المفروضات لها أسماء وصفات وحدود فلا بد من تعيين الصلاة لتمتاز عن غيرها فيحتاج إلى النية عند الإحرام لهذه العلة وتكون نيته بخمسة شروط على مذهب الشافعي الشرط الأول تعيين الصلاة الثاني اعتقاد وجوبها الثالث العمد إلى أدائها الرابع إحضار الإيمان إذ ذاك الخامس ما قدمناه من اقتران النية بالإحرام
أما عند الإمام مالك رحمه الله فلم يحك عنه في ذلك شيء واختلف أصحابه في ذلك كثيراً فمنهم من شرط فيها مثل شرط الإمام الشافعي رحمه الله منهم من قال إن وقعت بتلك الأوصاف قبل الإحرام بيسير أجزأت ومنهم من قال يكفي في ذلك العمد إلى الصلاة بعينها وزيادة تلك الأوصاف زيادة كمال وهذا هو الأظهر من مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة لأنه لو كان ذلك واجباً وترك الكلام فيه لما صح أن يكون إماماً وقد أجمعوا على أنه إمام واختلف في تعيين الركعات وتعيين الزمان إلى غير ذلك وهو مذكور في كتب الفقه ومثل ذلك أيضاً تَحِلّة اليمين إن أعتق المرء أو تصدق أو صام ولم ينو تحلّة اليمين لم يجزئه عن كفارته وأعاد مرة أخرى وكذلك أيضاً كفارة الظهار ۳ وصدقة المال إلى غير ذلك من سائر الواجبات إن لم يحضر النية لذلك لم تنفعه ويعيد
وأما المندوب الذي لا يعمل إلا الله فهذا هو الذي يدخل في ضمن قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية ففعله دون نية مجزىء وتقديم النية فيه زيادة خير مثال ذلك من قام يتنفل
1 لم نعرف مصدره تَحِلّة اليمين من حلّل اليمين تحليلاً وتحِلّة وتحلاً جعلها حلالاً بكفارة أو بالاستثناء المتصل نحو والله لأفعلن ذلك إلا أن يكون كذا ۳ الظهار هو طلاق الجاهلية ونهى عنه الإسلام يقول الرجل لزوجته أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي أي أنتِ علي
حرام
١٤٥
بركعتين فهو مأجور في إيقاعهما وإن لم يحضر نية لأن هذا الفعل بوضعه لا يكون إلا الله وتقدم النية فيه أفضل كذلك أيضاً إعطاء الصدقة التي ليست بواجبة إذا أعطاها لمن لم يتقدم له به معرفة ولم يكن له عليه حق فبنفس الإعطاء حصل الأجر وإن لم يكن له نية وتقدم النية أفضل وأما المندوب الذي يعمل الله ويعمل لغير الله فهذا لا بد من إحضار النية فيه لأنه مشترك فيحتاج إلى إحضار النية ليخلصه الله مثال ذلك الغسل للجمعة على قول من يقول بأنه سنّة لأنه يشترك فيه التعبد وغيره فقد يغتسل تعبداً وقد يغتسل تبرداً وتنظفاً فيوقع النية ليفرق بين المباح والتعبد
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم جعل في أعمال الباطن هذا الثواب وهو أعظم من الثواب على أعمال الظاهر وجعل إحضار الباطن سبباً في صحة جل أعمال الظاهر
الجواب أنه إن قلنا إن ذلك تَعَبُّد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى بيان والأظهر أن ذلك لحكمة وهي - والله أعلم - أنه لما كان أجل الأشياء من جميع النعم والتعبدات الإيمان ومحله القلب فكل ما كان صادراً عن المحل الذي هو وعاء للإيمان كان أَجلَّ من غيره يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب ۱ فصلاحه أعظم من صلاح غيره وفساده أعظم من فساد غيره لأن الجوارح كلها منقادة إليه
جعلنا الله ممن أصلح منه الظاهر والباطن بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
١٤٦
ياك
حديث مَن يُرِد الله به خيراً يُفَقَّهْهُ فِي الدِّين
البخاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ الدِّينِ وإنَّما العِلْمُ بالتَّعَلُّمِ
في
ظاهر الحديث يدل على تعليق الخير بالفقه وأن العلم لا يُنال إلا بالتعلم والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِد الله به خيراً الإرادة المذكورة هنا هل هي على بابها أي على ما تقتضيه صيغة اللفظ فيكون في المستقبل أو يكون بمعنى الماضي احتمل الوجهين معاً لأن العرب تستعمل المعنيين في كلامها وقد جاء القرآن والحديث بذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله تعالى ﴿ أَتَ أَمْرُ اللَّهِ ۱ وهو يأتي بعد الخطاب وقوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى ابْنَ مَريم والمراد به يوم القيامة فإن كان المراد بصيغة لفظ الحديث هذا المعنى وهو أن يكون للماضي فمعناه ما سبق من حكمته عزّ وجلّ وقدرته
وإن كان المراد به الوجه الثاني - وهو أولى لأن اللفظ يُحمّل على صيغته في المستقبل ويكون بذلك مطابقاً للفعل الصادر من العبد لأن فعل العبد لا يكون إلا بإرادة المولى وقدره قال تعالى في كتابه فَسَنُيَسِرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ٣ فَسَنُيَسَرُهُ لِلْمُسْرَى ٤ وقال تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله
1 سورة النحل من الآية 1 سورة المائدة من الآية ١١٦
۳ سورة الليل من الاية ٧ ٤ سورة الليل من الآية ١٠
١٤٧
4
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد علم من هو الصادق ومن هو الكاذب لكن المراد بهذا العلم العلم الذي يقع عليه الجزاء بمقتضى الحكمة - فإن كان المراد به هذا المعنى فتكون الإرادة في العاقبة
ولأجل احتمال هذين المعنيين لهذه الألفاظ وما شاكلها افترق المؤمنون على طائفتين فطائفة غلب عليها الخوف من السابقة وطائفة غلب عليها الخوف من الخاتمة وإن كان المعنيان
متلازمين لأن السابقة إذا تضمنت الخير أو الشر فالخاتمة في ضمنها داخلة وكذلك بالعكس لكن بينهما فرق ما من طريق المشاهدة وعدمها وهو أن السابقة لا يعلمها أحد إلا الله عزّ وجلّ أو من شاء إطلاعه عليها بالإخبار له وذلك من باب خرق العادة وهي لا تكون إلا للأفراد فلا يقع بالسابقة علم إلا عند معاينة الخاتمة لأنها تدل عليها إذ هي تتضمنها والخاتمة بخلاف السابقة لأنها مشاهَدَة مدرَكة حين يقضي الله بها يعاينها الناس بعضهم من بعض
ويعاينونها من أنفسهم ولهذا قال عليه السلام من مات على خير عمله فارجوا له خيراً ٢ وقد نطق الكتاب والحديث بهما معاً فقال تعالى في السابقة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنا الْحُسْنَى أُوْلَيْكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۳ وقال تعالى في الخاتمة ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ٤ قال العلماء معنى التثبيت في الحياة الدنيا عند الموت والثبات في الآخرة عند سؤال الملكين في القبر وأما الحديث فقوله عليه السلام لأبي هريرة جفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ فاقتصر ٥ على ذلك أو زد فدل على السابقة وقوله عليه السلام إنّما الأعمال بخواتيمها ٦ فدل على الخاتمة
الوجه الثاني قوله خيراً احتمل أن يكون الخير هنا محمولاً على صيغة لفظه فيكون على العموم لأن الصيغة منكرة واحتمل أن يكون معناه الخصوص لأن ذلك سائغ في ألسنة العرب فإن كان المراد به العموم فيكون معناه الخير في الدنيا وفي الآخرة وإن كان المراد به الخصوص فيكون معناه ما قاله بعض العلماء أن المراد بالخير المطلق الجنّة وهذا ليس بالقوي والأول أولى
1 سورة العنكبوت من الآية
رواه الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
۳ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۱
٤ سورة إبراهيم من الآية ٢٧
٥ رواه البخاري في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبري حكاه الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي رواية فاختص من الخصاء وهو تعطيل قوة الذكر عن الجماع والإنجاب
٦ رواه الإمام أحمد في مسنده عن معاوية رضي الله عنه
١٤٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام يفقهه الفقه هو الفهم يقال فقه فلان إذا فهم قال تعالى ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۱ أي لا يفهمون حديثاً والفهم هنا
يحتمل معنيين
الأول أن يكون المراد الفهم في أحكام الله الثاني أن يكون المراد الفهم عن الله
فإن كان المراد الأول فيكون الحديث الآتي بعده مفسراً لهذا المجمل لأنه قال فيه يفقهه في الدين وإذا اجتمع مُطلق ومقيَّد حُمِل المطلق على المقيَّد وهذا الفقه لا يؤخذ إلا بالتعلم على ما أشار إليه عليه السلام في الحديث بعد فيأخذ أولاً في الحفظ والضبط والاجتهاد في مطالعة الكتب الصحاح فإذا فعل هذا كان له الأجر على نفس فعله ذلك إذا كان خالصاً لا يشرك فيه غيره وأجره أجر الناقل للفقه ولذلك قال عليه السلام رُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقَهُ منه وكذلك قوله عليه السلام في حجة الوداع ألا فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبْلُغُه أن يكون أوعى له من بعض مَن سمعه ۳
معه
ثم بعد تحصيل ما أشرنا إليه والعمل به يأتيه إذ ذلك الفقه وهو نور يقذفه الله في قلبه يكون الفهم أو به بقدرة الله عزّ وجل ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب لأن الحفظ مع قلة الفهم قل أن يكون معه علم وقد ذم الله عزّ وجلّ مَن صَدَر منه ذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٤
ولأجل عدم تحصيل هذا الشرط الذي أشرنا إليه الذي هو سبب لحصول هذا الفقه كان كثير ممن يدعي العلم بزعمهم لما حفظوا بعض الكتب وطالعوا بعض الشروحات إذا سمعوا معنى من المعاني لم يروه منقولاً في الكتب التي حفظوها أو طالعوها يقع منهم الإنكار مرة واحدة ويحتجون بأن يقولوا ما سمعنا من قال هذا وإن رأوا في بعض الكتب مسألة وَهَم ٥ قائلها أو صُحُفت في النقل أو أرتجت عليه أخذوها بالقبول ووقع لها التسليم وقالوا هي منقولة
ونسبوها إلى صاحب الكتاب
1 سورة النساء من الآية ۷۸
جزء من حديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما
۳ جزء من خطبة النبي الله في حجة الوداع رواها البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه
٤ سورة الجمعة من الآية ٥ وهم بكسر الهاء في الحساب على وزن وَجِلَ وَوَهم بفتح الهاء في الشيء على وزن وَعَد - وهنا من الثاني
١٤٩
ولا ذاك إلا لعدم النور الذي به يفهمون لأجل أن البساط ۱ الذي عليه يأتي لم يفعلوه مع
أن البساط قد وقع من بعضهم في الظاهر الذي هو النقل كما أشرنا إليه لكن حرموا من أحد وجهين إما أن يكون عملهم لغير الله وإذا كان كذلك فالنور عليهم حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من عمل من هذه الأعمال التي تُراد للآخرة شيئاً يريد به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنّة ورائحة الجنة تُشم على مسيرة خمسمائة سنة وإما أن يدخل عليهم العُجب في نقلهم فيظنوا أن ذلك هو غاية العلم فيحسبوا أنفسهم من العلماء فيحرموا لأجل دعواهم فلو رُزق المسكين معرفة نفسه وأنه إنما يطلق عليه ناقل إن كان نقله على وجهه لرجي له عند الاعتراف بحاله وعجزه بأن الله تعالى يمن عليه بشيء من النور ومن رُزق شيئاً من النور رُجي له التوفيق والزيادة حتى يلحق بأهل الخير العميم المتقدمي الذكر فالحاصل من أحوالهم اليوم أن الكتب رجعت عندهم أسفاراً منقولة الأصول والشروح أسفار محمولة وهذا هو نفس ما ذم الله تعالى في كتابه كما تقدم وقلما يكون مع ذلك توفيق
نعوذ بالله من العمى والضلال
وإن كان المراد بـ الفقه الوجه الثاني وهو الفهم عن الله فيكون هذا الحديث مستقلاً بنفسه والحديث الآتي بعده مستقل بنفسه لأن هذا يُراد به الفهم عن الله والآخر يُراد به الفهم في
أحكام الله عزّ وجلّ وحَمْلُ الحديثين على معنَتَيْنِ أظهَرُ وأفيد من حَمْلِهما على معنى واحد
وقد يجوز أن يكون الحديث الذي نحن بسبيله على معنيين والحديث الآتي بعده مؤكِّدٌ للمعنى الواحد منهما وهو ظاهر بين لأن الفهم في أحكام الله اكد وهذا الفقه هو النور والإلهام وهو مأخوذ من السنة كما قد أشرنا إليه في حديث البيعة
وهذا لا يجده إلا أهل التحقيق والصدق والإخلاص والهدى والنور والحكمة والبرهان فهموا فَفَهِمُوا وأُريدوا فأرادوا أولئك الصفوة الكرام عيون الله من خلقه في أرضه كما قال عمر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه إن الله عيوناً في أرضه من خلقه وإن عَلِيّاً لَمِنْهُمْ ۳ وكان رضي الله عنه يقول نعوذ بالله من معضلة لا يكون فيها عليّ مع أن الخلفاء رضي الله عنهم كلهم عيون في العيون لكن كل واحد منهم يرفع صاحبه تواضعاً في نفسه
۱ البساط - هنا - بمعنى الوسيلة والأداة
مروي بالمعنى وأصله بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له من نصيب رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه والله أعلم
۳ لم نقف على مصدره
10
وتعظيماً لصاحبه لما خصه الله به كذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فكل من فهم عن الله فَهم أحكامه ولا ينعكس اختارهم عزّ وجلّ من خلقه فاختاروه على خلقه وعلى ما سواه فهم به وله بلا مثنوية ۱ ولا التفات
بحرمتهم
نسأل الله بحر متهم عنده أن يمن علينا كما مَنَّ عليهم ولا ربَّ سواه
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن مَن مُنْ عليه بأحد هذين الوجهين فليستبشر بالخير العظيم والفضل العميم إذ إن الشارع عليه السلام قد جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسره إليه وكيف لا تحق لهم البشارة وبهم يُرسِلُ الله الغيثَ ويرفع الجدب ويرحمُ
البلاد والعباد
الوجه الخامس لقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام هنا مَن يُرِد الله به خيراً يُفقهه في الدين وذكر في غيره من سائر الأعمال الثواب وعيَّنه وحدَه ومثل ذلك أيضاً قوله عليه السلام في العلم ما أعمال البِرِّ في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمالُ البِرِّ والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر
والجواب أنه عليه السلام إنما لم يحدد هنا الأجر ولم يعينه إشعاراً منه وتنبيهاً على أن ذلك إذا وجد على حقيقته فليعلم صاحبه بأن السعادة قد حصلت له وليستبشر بأن الله عزّ وجلّ لا يَنكُسُه على عَقِبه ولا يُخيّب مقصده لأن ما عدا هذا العمل من أعمال البر من جهاد وغيره هو محتمل لأن يكون عارية ۳ ومحتمل لأن يكون حقيقة فإن كان حقيقة فيكون له فيه ما وُعِد وإن كان عارية فكأنه لم يكن كما قال عليه السلام إن الرجلَ منكم لَيَعْمَلُ بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبقَ بينه وبينها إلا شبرٌ أو ذراع فَيَسْبِقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ٤
وهذا العمل الخاص إذا مُنَّ به صح ولا يمكن عدم الصحة لأن الإرادة قد سبقت بالخير وإنفاذه وما أراده عزّ وجلّ وحكم به لا ناقض له على ما بيَّناه فهي بشارة عظيمة ونعمة كبيرة وترغيب في هذا العمل الخاص فَليستبشرُ من فَهِم وليلجأ من عَجَز فلعل الكريم الجواد يَمُنُّ بنفحة من نفحات جوده بجوده إنه ولي كريم
1 كأنه يريد هؤلاء الصفوة موحدون الله توحيداً كاملاً يرون كل ما في الوجود يشهد أن الله واحد وموجود وآياته بارزة لِمَن كَانَ لَمُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فهم لا يرون إلا الله ولا يلتفتون إلى ما سواه إنه ملأ
عليهم قلوبهم وعقولهم وسمعهم وبصرهم ووجودهم
سبق تخريجه في الحديث الخامس ۳ العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إليك والمراد هنا غير المخلص
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في خلق الجنين في بطن أمه متفق عليه
0
33
١٥١
الوجه السادس قوله عليه السلام وإنما العلم بالتعلم إنما أتى عليه السلام هنا بـ إنما التي هي للحصر ليبين أن العلم لا يُتَوَصَّل إليه إلا بالتعلم ولا سبيل إلى غير ذلك ومن حاول غير ذلك فقد ضل عن الطريق وإنما أتى عليه السلام بالألف واللام في العلم والتعلم ليبين به أن العلم هو الذي يكون عَلَماً على الخير لأن العلوم كثيرة فأتى بالألف واللام التي هي للعهد لينبه على العِلم الخاص النافع الذي أراده منا
فإن قال قائل قد تكون الألف واللام للجنس
قيل له ذلك لا يسوغ هنا لأن علوم الشرائع من آدم عليه السلام إلى النبي ل ل ا ل كلها من الله تعالى إلى الرسل عليهم السلام إما بواسطة المَلكِ وإما بغير واسطة المَلكِ بحسب ما مشت الحكمة على ما عرف من قواعد الإخبار بالشرائع والمكلَّفون يتلقون ذلك من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فأصله النقل وإذا كان أصله النقل فلا تكون الألف واللام هنا إلا للعهد لأن المراد بالعلم العلم الشرعي وغير العلم الشرعي ليس أصله النقل وإنما أصله الاستنباط والاستنباط أيضاً منه ما يكون جائزاً شرعاً ومنه ما يكون ممنوعاً شرعاً
فلأجل هذه العلة التي أبديناها وهي كثرة العلوم وفيها ما هو ممنوع لم يَسُغْ أن تكون الألف واللام للجنس والمراد بـ العلم المشار إليه هنا قد نص عليه السلام عليه في غير هذا الحديث حيث قال تركت فيكم الثّقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ وما تضمنا من المعاني من علوم الفرائض وغيرها
وقد نص عليه السلام على أشياء جملة وهي تتفرع من الثقلين كما تقدم فمن ذلك قوله عليه السلام تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وهي أول ما يُنسى وقال أيضاً في هذا المعنى بنفسه تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم يُقبض من بعدي حتى إن الاثنين يختلفان في الفريضة فلا يجدان مَن يَفصل بينهما ۳ وكذلك كل ما حضت الشريعة عليه فهو منها
وأما العلم المعرف بالألف واللام فهو ما عرف بالشرع أو بالعادة التي ليس فيها خلل من جهة الشريعة أما الذي يعرف من جهة الشرع فهو كأمره عليه السلام بالتبليغ في حجة الوداع
1 سبق تخريجه في الحديث ۳
رواه ابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه والفرائض هي علم المواريث ۳ رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٥٢
8333
3
كما تقدم وكقوله عليه السلام يسروا ولا تعسروا إشارة إلى الرفق في التعليم وكقوله عليه السلام إنما أنا قاسم والله يعطي ۱ على ما أبينه بعد في الحديث الآتي
وأما ما يعرف بالعادة فهو مثل المؤدب يعلم أولاً الصبيان الهجاء ومعرفة الحروف ثم شيئاً من القرآن ثم شيئاً من اللغة ليفهموا به کتاب ربهم وسنة رسولهم وما أشبه هذا على ما تقتضيه الشريعة من الإجارة على ذلك أو الجعل ۳ عليه على الخلاف في ذلك وما سوى ذلك ممنوع مثل الألفاظ والاصطلاحات التي أحدثت ودلائل الشرع تمنعها وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الأحاديث قبل وقد نص عليه السلام على منع ذلك حيث قال يأتي في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم فخذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون ٤ الوجه السابع في هذا من الفقه أنه لا يكون الفقه إلا بعد معرفة العلم المنقول أو معه على ما قررناه قبل لأنه هو الأصل ولذلك عطف بالواو التي تقتضي التشريك والتسوية بين الشيئين أوزعنا ٥ الله من كليهما أوفر نصيب بمنه
وصلى الله على سيدنا ومَوْلانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه الإجارة الأجرة على العمل
٣ الجُعل والجمال والجعالة ما يجعل على العمل من أجر أو رشوة ٤ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
٥ أوزعنا الله جعل الله لنا قسم لنا
١٥٣
حديث من سلك طريقاً يطلب به علماً
البخاري رضي الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقاً يطلبُ به عِلماً سهل الله له طريقاً إلى الجنّة
ظاهر الحديث يدل على أن من حاول أمراً ليكون له عوناً على طلب العلم سهل الله عليه الوصول إلى الجنة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام من سلك طريقاً السلوك بمعنى الدخول قال تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَفَرَ ۱ أي ما أدخلكم وقال النبي لو سلكوا جُحرَ ضَبْ لَسَلَكتُموه ٢ أي لو دخلوا لدخلتم فإذا كان المراد به الدخول فهل هو مقصور على الدخول في طلب العلم أو يتعدى إلى غيره احتمل الوجهين معاً
والظاهر تعديه لأن ذلك في الشريعة كثير فمن ذلك قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۳ وقوله عليه السلام ينفق على عياله يحتسبها٤ على ما مرّ الكلام عليه وإذا كان متعدياً فيترتب عليه من الفقه أن كل ما كان عوناً على الخير فهو خير وقد وقع النص على ذلك وهو ما جاء في نوم المجاهد أنه عبادة لكونه عوناً له على الجهاد لكن ليس يؤخذ هذا على عمومه وإنما هو بشرطين
الشرط الأول أن يكون الذي يستعان به جائزاً شرعاً ولا يكون حراماً ولا مكروهاً يشهد
1 سورة المدثر الآية ٤٢
متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأوله لتتبعن سنن من قبلكم ۳ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ لا يحكم أحد بين
اثنين وهو غضبان
٤ نص الحديث في البخاري إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة وهو موضوع الحديث الثامن
١٥٤
لهذا قوله عليه السلام للذي طلب منه الوصية وأراد أن يوجز له فيها فقال له لا تقل شيئاً تستعذر عنه في يوم القيامة 1
وقد حكي عن بعض الفضلاء أنه أصابه من العبادة تعب وجوع لقلة ذات اليد ثم فتح عليه في لبن لم يطب له طريقه فامتنع منه فقالت له والدته لما امتنع اشربه وارجُ الله أن يغفر لك فقال لها أرجو الله أن يغفر لي ولا أشربه فانظر كيف امتنع من شربه وإن كان عوناً له على ما كان بصدده لكن لما أن كان فيه كراهيةٌ ما لم يُقدِم عليه وتركه البتة لأن الخسارة التي تعود عليه منه أكثر من الفائدة بل هو عري عن الفائدة لأنه لا يعين على الطاعة إلا الحلال الشرط الثاني أن ينوي به العون على طلب العلم أو على وجه من وجوه الخير على القول بتعدية الحكم وعلى القول الآخر فيكون في طلب العلم ليس إلا لأن المباح لا يؤجر عليه ولا يقربه إلى الجنة حتى ينوي به العون على الطاعة فإذا كان الشيء الذي ينوي به العون على الطاعة من طلب العلم وغيره فرضاً كان أو مندوباً كان له أجر المندوب وزيادة القرب إلى الجنة لأنه عليه السلام أتى بـ الطريق نكرةً والنكرة عامة في أن يكون فرضاً أو ندباً أو مباحاً والرابع ٢ ممنوع على ما بيناه
وهل يتصور هذا في الفرض أعني أن يكون له أجر الفرض وزيادة القرب إلى الجنة إذا اعتقد به العون على طلب العلم فالمشهور من مذاهب الفقهاء منع ذلك لأنهم اختلفوا في فرض وندب إذا اجتمعا بنية واحدة هل تجزىء أم لا على قولين
ومسألتنا من ذلك الباب وعموم لفظ الحديث يقتضي الجواز لكن من أراد أن يخرج عن الخلاف ويعمل بنص الحديث ليعظم له الأجر فينوي في هذا الفرض مثلما ينوي المغتسل يوم الجمعة من الجنابة وللجمعة الذي يريد أن يخرج من الخلاف يقول طهوري هذا الجنابتي وأرجو أن يجزيني عن غُسل جمعتي فيحصل له الخروج عن الخلاف ويكون متبعاً للفظ الحديث عاملاً عليه
الوجه الثاني قوله عليه السلام يطلب به علما الطلب هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد به تحصيل العلم والاشتغال به الثاني أن يكون المراد الاهتمام به والمسارعة إليه يدل على هذا قوله عليه السلام تعلّموا العلم فإن تعلمه الله حسنة وطلبه عبادة ۳ ففرق
1 لم نعرف مصدره والرابع أي القسم الرابع من أقسام المستعان به وقد بين الأقسام الثلاثة قبله فذكر أن منها الفرض والندب والمباح وأما الرابع فهو الحرام ۳ جزء من حديث طويل هذا مطلعه رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثقات وابن عبد البر وقال ليس له إسناد قوي انظر تخريج الحافظ العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين ٢٢/١
100
بين التعلم وطلب العلم وجعل نفس الطلب أعلى من نفس التعلم لأنه عليه السلام شبه الطلب بالعبادة وجعل نفس التعلم إذا كان الله حسنة والحسنة من بعض ما تتضمنه العبادة الوجه الثالث لقائل أن يقول لم كانت الوسيلة هنا أفضل من الشيء المقصود وينبغي أن
يكون بالعكس على ما عرف من قواعد الشريعة والعوائد
والجواب أن الشيء المقصود لم يجعل أخفض رتبة من الوسيلة ولا مثلها لأن الشيء المقصود إنما هو نور يضعه الله في القلوب على ما نقلناه عن العلماء والدرس والنقل والرواية سبب لتحصيل ذلك النور الذي يكون به العلم كما تقدم من قول مالك رحمه الله ليس العلم
بكثرة الرواية
فالحاصل
من
هذا أن الشيئين المذكورين سببان إلى تحصيل النور وأحدهما أشق على النفس وأشد وهو الحث والطلب فجعل له مقام العبادة التي فيها مشقة النفس ومجاهدتها والثاني أخف وهو الدرس والنقل فجعل فيه حسنة وهذا نص صريح من الشارع عليه السلام فيما نقلناه عن العلماء من أن العلم ليس بكثرة الرواية
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ العلم نكرة ولم يأت به مُعَرَّفاً كما أتى به مُعَرَّفاً
في الحديث قبله
والجواب أن قرينة الحال هنا أغنت عن التعريف وهي قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة والتسهيل للجنة لا يكون إلا بالعلوم الشرعية ولما أن كانت العلوم الشرعية متعددة أتى به نكرة من ذلك علم الفرائض والناسخ والمنسوخ وغير ذلك فلمجموع الأمرين أتى به نكرة ـ وهما البساط ۱ ـ وكثرة العلوم
ثم انظر إلى الحديث الذي استدللنا به لما أن أتى به في معرض مدح العلم وما لصاحبه من الخير أتى به معرَّفاً وقيَّده بأن يكون الله ثم عطف بالواو وجميع الخيرات التي ذكرت في الحديث بعد ذلك اللفظ حتى يكون الوصفان شرطاً في الخيرات المذكورة بعد والوصفان هما ما تقدم من أن العلم معرَّفاً يشير به إلى العلم الشرعي ويترك ما عداه وأن يكون الله خالصاً
وبقية الحديث هو قوله عليه السلام وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنازل سُبل أهل الجنة والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح
۱ البساط سبق أن قلنا إن المراد به الوسيلة والأداة
١٥٦
نے
على الأعداء والزَّين عند الأخلاء يرفع الله به قوماً ويجعلهم في الخير قادة وأئمة تُقتَبَس آثارُهم ويُقتَدَى بفعالهم ويُنتَهَى إلى رأيهم تَرغَب الملائكة في خُلّتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصباح الأبصار من الظلمة بالعلم تُبلغ منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يُعدّل بالصيام ومدارسته بالقيام وبه تُوصل الأرحام ويُعرَف الحلال والحرام والعلم إمام العمل والعمل تابعه فَيُلْهَمُه السعداء ويحرمه الأشقياء فكل هذه الخيرات والنعم لا تحصل إلا بعد حصول ذينك الشرطين وصحتهما وحينئذ تكون هذه الخيرات تابعة لهما والحديث أخرجه صاحب الجلية 1 فإن احتج محتج بتضعيفه قيل له قد صحح إسناده الأستاذ السمر قندي
رحمه الله
الوجه الخامس قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة سهل أي قرب ولقائل أن يقول لم جعل ثواب هذا العمل التسهيل ولم يجعل له حسنة ولا غير ذلك كما جعل في الحديث الذي أوردناه
والجواب أنه إن قلنا بأن الحسنة كناية عن الأجر والتسهيل كناية عن تسهيل الطريق له إلى نيل العلم فالحسنة أرفع وإن قلنا بأن التسهيل كناية عن التسهيل إلى الجنة فهو أرفع من الحسنة لأنه لا يُقَرَّبُ أحد إلى الجنة إلا وقد عوفي من النار والمعافاة من النار أفضل من كثير من الحسنات مع دخول النار ولذلك قال عليه السلام لو لم يكن إلا النجاة من النار فقد فاز فوزا عظيماً ۳ فعلى هذا يكون التسهيل أرفع من الحسنة وأفضل الوجه السادس لقائل أن يقول لم لم يقل أدخله الجنة عوض هذا التسهيل كما قال في
أحاديث غير هذا
والجواب أن دخول الجنة هو بالأعمال بفضل الله كما تقدّم وقد قدمنا أن ما هو فيه الآن سبب إلى تحصيل العلم ليس العلم نفسه وليس السبب للعلم كالعلم فلذلك عَدل عن ذكر دخول الجنة وأتى بصيغة التسهيل
1 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء كتاب في عشرة أجزاء ألفه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة ٤٣٠ هـ / ١٠٣٨م حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية
الأستاذ السمر قندي هو الحسن بن أحمد القاسمي إمام زمانه في الحديث استوطن نيسابور له بحر الأسانيد في صحاح المسانيد جمع فيه مئة ألف حديث في ثمانية أجزاء توفي سنة ٤٩١ هـ / ١٠٩٨م ۳ مروي بالمعنى لحديث رواه الإمام أحمد في المسند ۳۱/۵ والترمذي في السنن كتاب الدعوات وفيه فإن تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار
lov
الوجه السابع هذا الثواب المذكور على هذا الفعل احتمل أن يُراد به الآخرة ليس إلا واحتمل
أن يكون ذلك عاماً في الدنيا وفي الآخرة فإن رجعنا إلى صيغة لفظ الحديث فهو للاخرة ليس إلا وإن نظرنا لغيره من الأحاديث فنقول بعمومه في الدنيا وفي الآخرة وهو الأظهر بدليل قوله عليه السلام من خرج إلى المسجد ليعلم خيراً أو ليتعلمه كان في ذمة الله فإن مات أدخله الله الجنة وإن رجع كان كالمجاهد رجع بالأجر والغنيمة 1 فقد نص عليه السلام على مَا لَهُ في الدنيا من الثواب فلا سبيل إلى القول بغيره لكن هذا لا يكون إلا إذا كان العلم المعرف الذي أشار إليه عليه السلام ويكون الله خالصاً وفي تخليصه وحصول حقيقة الفقه الذي أشرنا إليه قبل هو ۳ الشأن فإذا حصل أحدهما أو مجموعهما فقد حصلت حقيقة السعادة لأنه قد قدمنا أن ذلك إذا وجد فهو علامة على أن صاحبه لا يمكر به ولا ينكص على عقبه ومثل هذا ما قاله هر قل وهو الحق الواضح إن الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لم يخرج منها
مَنَّ الله علينا بمجموعهما بِمَنْهِ ويُمْنِهِ
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ الطريق نكرة في الأول والثاني ولم يأتِ به مُعرَّفاً والجواب أن العلوم الشرعية كثيرة كما ذكرنا منها علم القرآن وعلم الحديث إلى غير ذلك من العلوم الشرعية فلما كانت كثيرة كانت طرقها كثيرة مختلفة لأنه ليس ما يتوصل به إلى علم القرآن هو الذي يتوصل به إلى علم الحديث وكذلك العلوم كلها لكل علم اصطلاح يخصه وهو الطريق إليه فلكثرة هذه الطرق أتى بها ۳ نكرة فمن أتى لعلم واحد منها سهل عليه ذلك الطريق الواحد وإن أتى لمجموعها سهلت عليه الطرق كلها وهذا مثل ما أخبر عليه السلام عن الأعمال أن كل صاحب عمل يُدعَى من باب من أبواب الجنة يختص بذلك العمل حتى قال في آخره ويدعى الصائم من باب الرَّيَّان فقال أبو بكر رضي الله عنه ما على كلِّ مَن يُدْعَى من تلك الأبواب كلها فقال عليه السلام وأرجو أن تكون منهم ٤ فكذلك من طلب العلوم الشرعية كلها قرب من كل باب من تلك الأبواب فإن طلب البعض وترك البعض قرُبَ من بعض دون بعض جعلنا الله ممن طلب الكلَّ وسهّل عليه الوصول إلى الكُلِّ ونودي من الكل بمنه وكرمه
لا رب سواه والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لم نعرف مصدره بهذا اللفظ
كذا بزيادة هو
۳ أي بالطريق
٤ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
١٥٨
-11
حديث قيام الأمة المحمدية على الحق إلى يوم القيامة
عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يُرِدِ الله به خيراً يُفَقَّهُهُ
عن معاوية رضي " في الدين وإنّما أنا قاسم والله يُعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرُّهم
مَن خالفهم حتى يأتي أَمرُ الله
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
الحكم الأول تعلق الخير بالفقه في الدين
الثاني أن حقيقة الإعطاء إنما هي الله عزّ وجلّ دون غيره
الثالث إبقاء هذه الأمة على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من
خالفهم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدين الكلام عليه كالكلام
على الحديث قبله لكن هنا زيادة الدين وهو يحتمل وجهين
الأول أن يكون المراد به العلم الذي يقوم به الدين
الثاني أن يكون المراد به التدين
2
فإن كان المراد به الأول فيكون تأكيداً لأحد المحتملات في الحديث قبله وإن كان المراد به الثاني فمعناه أن يفهم المرء ما تديَّن به وحقيقة الحكمة في التدين به وفي أمثاله نوعاً نوعاً فيزداد إذا ذاك إيمانه ويقينه عند فهمه لحسن ما تديَّن به وذلك أن حكمة الحكماء لو جمعت في حكيم واحد ثم رُزق صاحبها التوفيق وقوة اليقين ما كان يرى أن يزيد فيما حُدَّ وشرع ذرة ولا ينقص منه ذرة لما فيه من الحسن واللطف في الحكمة ومن ظهر له هذا المعنى
١٥٩
فقد أعطِي خيراً لم يُعطَ غيرُه مثله قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۱ وإليه أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هو باب العلم لأن النبي قال في حقه أنا مدينة العلم وعلي بابها فقال رضي الله عنه لكل اية ظهر وبطن ولكل حرف حَدٌ ومطلع ٣ فالحَدّ والبطنُ والظَّهرُ يتقارب الناس في ذلك بعضهم فوق بعض درجات والمطلع خصّ الله عزّ وجلّ به الخصوص مِن خلقه وأكرمهم به وهو الحكمة في وضع هذا على هذه الصفة
والأظهر من الوجهين هذا الوجه الذي نحن بسبيله وهو صعب عسير لا يستطيع الوصول إليه إلا مَنْ خالط الإيمانُ قلبه وأبلَجَ اليقين فؤادَه وكان عِلمُه وعَمله الله خالِصاً وأوتي النور والحكمة وأُمِدَّ بالعون والرحمة وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
والألف واللام للعهد لأن المراد به دين الإسلام
الوجه الثاني قوله عليه السلام وإنما أنا قاسم والله يعطي هذا أدل دليل على علوّ منزلته عليه السلام عند ربه وخصوصيته إذ إن هذا الخير العظيم الذي رحم الله به المؤمنين جعله على يديه وقد روي في الأثر أن الله عزّ وجلّ يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الخير وخلقتُ له أهلاً فطوبى لمن خلقتُه للخير وخلقتُ الخير له وأجريتُ الخيرَ على يديه ٤ فالنبي هو أجلّ من أُجرِيَ الخيرُ على يديه
الوجه الثالث لقائل أن يقول لِمَ سَمَّى عليه السلام نفسه المكرمة بهذه الصفة وهي القاسم وحقيقة هذه الصفة إذا تحققت هي إذا كان الإنسان يَقسِم شيئاً محسوساً على أشخاص
معلومين
والجواب أنه عليه السلام إنما وَصَفَ نفسه المكرمة بهذه الصفة للمعنى الذي ذكرنا وهو أن الله عزّ وجلّ قد قسم هذا الخير الذي رحم به المؤمنين على يديه فبين عليه السلام الشريعة بأتم بيان ثم حدَّ الحدود ورغب وحذَّر فقال مَن فعل كذا فعليه كذا على ما جاء في الأحاديث وكذلك القاسم في الشيء المحسوس سواء مَثَل ذلك الفَرَضِيُّ يحقق لكل إنسان قِسْطَهُ فيبين له قَدْرَ مَا لَهُ من الحق وما عليه من اللوازم فهذا من أبدع التمثيل وأفصحه
۱ سورة المائدة من الآية ٥٠
رواه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ المطلع مكان الطلوع أي لكل حرف مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ٤ عزاه المدني في الإتحافات السنية والنبهاني في الفتح الكبير للطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما
تم
ثم انظر إلى الفَرَضِي فإنه ليس عليه أن يبلغ صاحب الحق حقه وإنما يبلغه ويعطيه من بيده
الأمر والنهي والنبي جعل نفسه المكرمة كذلك سواء لأنه أخبر عن نفسه بأنه هو القاسم أخبر بأن المنفّذ لذلك والمعطي إنما هو الله جل جلاله وذلك بقوله والله يعطي فالله عزّ وجلّ هو المعطي وهو المانع لأن الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه وقد نص عزّ وجلّ على هذا المعنى وبيَّنه في كتابه في غير ما موضع فمن ذلك قوله عزّ وجلّ
}
عَلَيْكَ هُدَتْهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ ۱ وقوله تعالى ﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۳ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ ﴾ ٤ إلى غير ذلك وهو كثير وقد ظهر هذا المعنى ورُئي في الوجود حسّياً لأنه عليه السلام بيَّن طريق الهدى على حد واحد ولم يخص بذلك بعض الناس دون بعض فهدى عزّ وجلّ من شاء بفضله إلى التصديق والاتباع وخذل من شاء بعَدْلِهِ فكذَّب وأعرَض وهدى من شاء بحكمته إلى قبول البعض والإعراض عن البعض
الوجه الرابع في هذا دليل على أن للعالم أن يضرب الأمثال في تقرير الأحكام بقدر ما يفهم المخاطب ما أريد منه إذ إنه عليه السلام شبَّه نفسَه المكرَّمة بـ القاسم على ما تقدم ولهذا المعنى قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعبدنا لا بالألفاظ وكذلك قالت ذات النطاقين٥ للمؤدب حين أتته بولدها ليعلّمه القرآن أدبه وأحْسِنُ تأديبه والرحمن علم القرآن فمثل هؤلاء فهموا من هو المعطي وكيف تصريف الحكمة في الأشياء ومن غلب عليه الجهل بهذا المعنى يَنْسُب قلة حفظ الصبي للمؤدب وليس كما يزعم وإنما المانع والمعطي هو الله جل
جلاله في الأشياء كلها دِقّها وجِلَّها ٦ رزقاً كان أو علماً أو عملاً وإنما وظيفة المكلف في ذلك عمل الأسباب امتثالاً للحكمة والتعلق في حصول الفائدة بربه عزّ وجلّ
1 سورة البقرة من الاية ۷ سورة فاطر من الآية ٢٣ ۳ سورة هود من الآيتين ۱۱۸ و ۱۱۹ ٤ سورة الأنعام من الاية ٣٥
0
ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر الصديق صحابية من الفضليات اخر المهاجرين والمهاجرات ت ٧٣هـ / ٦٩٢ م وهي أخت السيدة عائشة لأبيها وأم عبد الله بن الزبير تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عدة أبناء بينهم عبد الله ثم طلقها الزبير فعاشت مع ابنها عبد الله بمكة إلى أن قتل فعميت بعد مقتله للنبي طعاماً حين هاجر إلى المدينة فلم و خبرها مع الحجاج مشهور سميت بذات النطاقين لأنها تجد ما تشده به فشقت نطاقها و شدت به الطعام لها ٥٦ حديثاً
٦ دقها وحلها صغيرها وكبيرها
١٦١
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان الأول أن الأسباب لا تأثير لها بذواتها إلا بحسب ما شاء القادر الثاني أنه لا بد من الأسباب إذ إنها أثر الحكمة وتركها مخالفة وعناد الوجه السادس لقائل أن يقول قد حضت الشريعة وندبت في أعمال البر ومن ذلك ما
نحن بسبيله وقد ذمّت الدنيا وزهدت في أسبابها وذلك كثير ومن ذلك قوله عليه السلام لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ۱ والجواب أنه لما كانت هذه الدار قد قسمت فيها الأرزاق وضمنت بمقتضى الآي والأحاديث أمر الشارع عليه السلام لأجل ذلك بالزهد في التسبب لأنه مقتضى الإيمان لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه يؤمنون بالغيب
والحرص في التسبب عاهة في الإيمان وضعف في التصديق وتعب في تحصيل حاصل والرغبة في التسبب في أعمال البر يقوى به الإيمان ويكون موافقاً ۳ لما به قد أمر ومع ذلك فرزقه قدر له في الدنيا لا بدَّ أن يأتيه حتماً لقوله عليه السلام من بدأ بحظه من آخرته نال من
الذي
آخرته ما أراده ولم يفته من دنياه ما قسم له ٤ والآي والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
والحث ٥ هنا من حقيقة الإيمان وكل ما هو من حقيقة الإيمان أو لازمه كان صاحبه مشكوراً مثوباً ومثل هذا المجتهد إذا اجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ لأنه قد بذل جهده في الأدوات فلما أخطأ لم يضيّع الله عزّ وجلّ له تعبه لأنه لم يترك من جهده شيئاً بمقتضى ما أمر بخلاف العامل بالجهل فإنه لا يُؤجر وإن أصاب الحق على أظهر الوجوه وأولاها
الوجه السابع في هذا دليل على أن الزهد لا يسهل إلا بالتقوى لأنه عليه السلام قال فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ومثل ذلك قوله تعالى وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ٦ والواو فيهما واو الحال ۷ فالأصل هو التقوى فإذا حصل ذلك حالاً أتى إذ ذاك الزهد راغباً
۱ رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين ورواه البيهقي في شعب الإيمان وقال إنه منقطع ولفظه وإن الروح الأمين نفث في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
سورة البقرة من الآية
۳ كذا بالتذكير ٤ لم نعرف مصدره
٥ الحث التحضيض والإعجال ويراد به هنا الرغبة في التسب
٦ سورة البقرة من الاية ۸
۷ هذا يقتضي تقدير أنتم بين الواو والفعل المضارع لأن واو الحال لا تباشره
3
١٦٢
ولأجل هذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر من غيرهم زهداً ورفضاً للتسبب لكثرة تقواهم وقد قال عليه السلام لو توكلتم على الله حَقَّ توكُلِهِ لَرَزقكم كما يرزقُ الطّيرَ تَغدو خماصاً وتَرُوحُ بطاناً ۱ مع أنه قد قال بعض من غلبت عليه شهوة الطلب في معناه إن طيران الطير في الهواء سبب في رزقه فهو تحضيض على التسبب وهذا ليس بشيء وقد أجابه بعض أهل التحقيق بجواب مقنع وهو الحق الذي لا خفاء فيه فقال طيران الطائر كحركة يد المرتعش سواء لا حكم لها
والمجاوب بهذا هو الذي فهم تخصيص الشارع عليه السلام الطير بالذكر من بين سائر الحيوانات من الوحوش والحشرات وغير ذلك لأن الوحوش والحشرات تتبع أسباب معاشها فمن كان منها يرعى تراه أبداً يتبع أرض الخصب ويترك أرض الجَدْب فلا تراها قَطُّ في أرض جَدْبَةٍ ومن كان منها يقتنص تراه أبداً يتبع أثر الصيد بالشمّ حتى يقتنصه فلما كان هؤلاء يشبهون بني ادم في التسبب عَدَل عليه السلام عن ذكرهم وذكر الطير الذي يطير في الهواء وليس في الهواء جهة تُقصد ولا حَبّ يُلتقط ولا شيء يُرعى إلا هواء وضياء ثم يمرح في ذلك ويتردد فيه حتى يؤتى به إلى رزقه أو برزقه إليه فلأجل هذا المعنى خصَّ الطير بالذكر دون غيره من الحيوانات وإن كانت الكل تغدو خماصاً وتروح بطاناً
الوجه الثامن قوله عليه السلام ولن تزال هذه الأمة الأمة هنا هل المراد بها العموم أو الخصوص محتمل للوجهين معاً
فإن كان المراد بها الخصوص فهو ظاهر من وجوه
الأول أن العرب تسمي البعض بالكل والكل بالبعض
الثاني أنه عليه السلام قد أخبر بالفتن التي تكون في آخر الزمان مِن رَفْعِ العِلم وظهور الجهل وظهور الجَوْر إلى غير ذلك مما جاء في أحاديث الفتن وكلها أخبار وما نحن بسبيله خبر والأخبار لا يدخلها نسخ فإذا حملنا الخبر الذي نحن بسبيله على الخصوص صحت الأخبار التي تعارِضُه كلها يؤيد هذا قوله عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين
۱ رواه الإمامِ أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان والخماص جمع خمصان وخمصانة وهو من كان ضامر البطن وخاليه من الطعام من شدة الجوع أو الضعف وعكسه البطان وتغدو تبكر في الذهاب وتروح تعود في المساء أحاديث آخر الزمان من رفع العلم وظهور الجهل والجور كثيرة منها ما رواه البخاري في كتاب الفتن ومسلم في العلم باب رفع العلم والإمام أحمد في ظهور الجور
١٦٣
فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ۱ فهذه الواحدة الباقية في هذا الخبر هي هذه الأمة المنصوص عليها فيما نحن بسبيله فتكون الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين هي هذه الأمة المنصوص عليها
وقد ثبت في بعض الروايات ما هو نص فيما نحن بسبيله فقال فيها لا تزال طائفة من هذه الأمة ومعنى هذا على ما قاله بعض العلماء أنه لا تزال طائفة من أهل العلم قائمين بوظيفة العلم على ما يُرضِي الله وطائفة من أهل الحقيقة كذلك وطائفة من أهل الأعمال الزاكية كذلك وكذلك في كل نوع من أنواع الخير علماً كان أو عملاً أو حالاً لا تزال طائفة من المؤمنين قائمين بذلك الشأن لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله
التي
وإن كان المراد بالأمة المذكورة العموم فوجهه ظاهر أيضاً لأن الأمة الحقيقية هي اتصفت بهذا الوصف المذكور في الحديث وهي المراد بقوله عليه السلام أُمّتي كلها في الجنة ۳ يعني الأمة الحقيقية الماشية على سَنَيْه وسُنّته وما عداهم في حكم المشيئة فمنهم من لا يكون من الأمة أصلاً وهم الذين يبدل بهم ٤ عند الخاتمة نعوذ بالله من ذلك ومنهم من يدخل في ضمن قوله عليه السلام يوم القيامة فسُحقاً فسُحقاً فسُحقاً ٥ فيكون لهم طرف من الإيمان لأنهم يحشرون بعلامة هذه الأمة عليهم
ومنهم من تناله الشفاعة بعدما ينال ما قدّر له من ذلك الأمر العظيم يدل على ذلك قوله
عليه السلام اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ٦
ومنهم من يعذب بأنواع العذاب بحسب اختلاف معاصيهم لأنه روي في غير ما حديث أن
لكل نوع من المعاصي عذاباً يخصه أو ما في معناه
۱ صحيح متواتر انظر الحديث ۳
متفق عليه
۳ رواه البخاري - كتاب الاعتصام - بلفظ كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى الخ
٤ لعله يعني تسوء عاقبتهم والعياذ بالله
0
جاء ذكر هذه الألفاظ في البخاري في حديث الذود عن الحوض وفي الرقاق وفي الأنبياء وفي بعض مواطن التفسير وكذلك في صحيح مسلم في الجنة باب فناء الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه فأقول فسُحقاً ورواية مسلم وفيه فأقول سُحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي وأما اللفظ الثالث فلم يَرِد في كلا
الصحيحين
٦ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رضي الله عنه بلفظ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
١٦٤
الوجه التاسع في هذا دليل على أن من وجدت فيه الصفات المذكورة في هذا الحديث
ومات عليها قطع له بالسعادة حتماً للوعد الجميل ومن كان على غير الصفة المذكورة بقي في المشيئة متوقعاً لما ذكرناه من هذه الأمور الخطيرة
أيقظنا الله من سنةِ الغفلة وحملنا على سبيل الهدى بفضله
الوجه العاشر في الحديث بشارة عظيمة وأي بشارة لمن أراد الخير وصَدَق فيه لأنه عليه السلام قد أخبر أن هذه الأمة لا تزال أبداً على هذا الحال الذي أخبر به إلى يوم القيامة فعلى هذا فخيرهم متعدّ لأنه لو كان غير متعد لانقطعت آثارُهم ولكنهم يخلفون جيلاً جيلاً فمن أراد الخير وصدق فيه يُرجى له أن الله تعالى ييسر له من هذه الطائفة من يدلّه عليه ويُلهمه إليه لأن المخبر صادق والأمر كذلك فيه ولولا هذا الخير لكاد لكثرة ما ظهر من الفساد أن يَقطَع الإنسانُ بأن هذه الطريق قد انقطعت أو يقطع اليأس من نفسه بأنه لا يصل إلى هذه الطريق ولا يجد من يدلّه عليه ولا مَن يرشده إليه
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام قائمة على أمر الله قائمة يحتمل وجهين الأول أن يكون معناه مُوَفِّية لأن العرب تقول فلان قام بالأمر أي وفاه حقه الثاني أن يكون معناه ثابتة على أصولها وقد جاء ذلك في الكتاب وهو قوله تعالى ﴿ قَابِمَةً عَلَى أُصُولِهَا ﴾ ١ أي ثابتة على أصولها ۱
وقوله على أمر الله أي بأمر الله لأن العرب تبدل الحروف بعضها ببعض هذا إذا كان المراد بـ قائمة الوجه الأول وإن كان الثاني فتكون على هنا على بابها و أمر الله هنا هو اتباع ما أمر واجتناب ما نَهى على واجبه ومندوبه ولذلك أتى بلفظ الأمر الذي يحتمل الوجوب والندب وجميع محتملاته على ما هو معروف بين المتكلمين
الوجه الثاني عشر في هذا دليل على ظهور الباطل وكثرته لأنه إذا لم يكن على الحق إلا طائفة واحدة فالباقي على الضلال قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَل ٢ فإذا وجد الحق فما سواه هو الباطل وقد وصف عزّ وجلّ هذه الطائفة في كتابه حيث قال وَقَلِيلٌ مَّا هُم ٣ فإن كنت لبيباً فافزع ٤ عن الأكثر ومِل إلى الأقل تحظ بالسلامة ولهذا
۱ سورة الحشر من الآية ٥ سورة يونس من الآية ٣٢ ۳ سورة ص من الآية ٢٤ ٤ فافزع عن الأكثر انفر وابتعد
*
١٦٥
قال عليه السلام بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء من أمتي قيل يا رسول الله
ومن الغرباء من أمتك قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ۱
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لا يضرهم من خالفهم الضر هنا يحتمل ثلاثة أوجه الأول أن يكون المراد به الأشخاص القائمين بالأمر لا يقدر أحد على ضرهم الثاني أن يكون المراد أن الضر لا يلحق فعلهم ويقبل منهم ولا ينقص لهم من أجورهم شيء إن كانوا مجاورين للمخالفين لهم ومخالطين لهم الثالث أن يكون لا يضرهم ولا يضر عملهم وهذا هو أظهر الوجوه بدليل قوله تعالى ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقوله تعالى لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُه ۳
الوجه الرابع عشر في هذا بشارة عظيمة لمن اتصف بالصفة المذكورة في هذا الحديث إذ إنه لا يخاف الضرر وإن كثر أهله فيكون أبداً مطمئنَّ النفس منشرح الصدر لأن المخبر صادق والمخبر عنه عالم قادر وقد نبه عزّ وجلّ على هذا المعنى وصرّح به في كتابه حيث قال وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كما تقدم والمؤمنون الذين أوجب لهم النصر بمجرد الفضل هم الموصوفون في هذا الحديث ولهذا قال بعض الفضلاء وهو يُمن بن رزق رحمه الله إذا وافقت الشَّريعة ولاحظت الحقيقة فلا تبال وإن خالف رأيك جميعَ الخليقة الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام حتى يأتي أمرُ الله حتى احتملت الوجهين
الأول أن تكون على بابها للغاية الثاني أن تكون بمعنى قرُبَ و أمر الله احتمل وجهين الأول أن يكون المراد به قيام الساعة الثاني أن يكون المراد به الآيات الكبار ونعني بـ الآيات الكبار هنا ما روي أنه بعد ما ينزل عيسى عليه السلام ويُحيي الله به هذا الدين ويعيش ما شاء الله بحسب ما جاء في الأحاديث ويموت ويدفن بين المسلمين ثم يبقى المسلمون بعده يسيراً ثم يقع فيهم الخلل ويكثر فإذا تفاحش ذلك فيهم يرسل الله ريحاً لينةً من تحت العرش تقبض أرواح المؤمنين ثم يرفع القرآن ولا يبقى إذ ذاك إلا الأشرار فيخرج إليهم الشيطان فيغويهم حتى يرجعوا إلى الجاهلية الأولى فإن كان المراد بـ الأمر هذا الوجه فتكون حتى على بابها للغاية وإن كان المراد به الوجه
الأول فتكون حتى بمعنى قرب كما تقدم
۱ رواه الآجري في كتاب فضل العلم بهذا اللفظ ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة المائدة من الآية ١٠٥
١٦٦
الوجه السادس عشر في هذا دليل على أفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم إذ إن الله عزّ وجلّ أبقاها على دينها إلى قيام الساعة من غير أن يدخل عليها في ذلك خلل ولا تتعبد بغير ما شرع لها وغيرها من الأمم ليس كذلك لأنه لم تأتِ قط أمةٌ حتى تنقرض الأخرى
الوجه السابع عشر في هذا دليل على شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عند ربه إذ إن تشريف أمته وتفضيلها يتضمن تشريفه من باب أولى ورفع قذره إذ إن بسببه حصلت لها هذه السعادة العظمى جَعَلَنَا الله من أمته وأسعدنا باتباع سنته إنه ولي كريم
الوجه الثامن عشر في الحديث إشارة لأهل الصوفة وهو أن أمر الله تعالى عندهم عام والمراد به الخصوص أي يختص بكل واحد بحِدَتِهِ دون مشاركة غيره وهو الموت فيكون المراد بسياق الحديث بأن يموتوا على الخير فتنشرح صدورهم للوعد الجميل وينتظرون الموت يفرحون به كالغائب يَقدُمُ على أهله
جعل الله به فَرَحَنا وجعل يومَه خَيْرَ أيامنا بِمَنّه ويُمْنِه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٦٧
حديث سؤال القبر وفتن
عن أسماء أسماء رضي شيء لم أكن أُرِيتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأُوحِيَ إِليَّ أنكم تُفْتَنون في قبوركم - مِثْلَ أو قريباً لا أدري أي ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال يقال ما عِلْمُك بهذا الرجل فأما المؤمنُ أو الموقنُ لا أدري أيهما قالت أسماء فيقول هو محمّد رسولُ الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتَّبعناه هو محمد ثلاثاً فيقال نَمْ صالحاً قد عَلِمْنا إنْ كنتَ لَمُوقِناً به وأما المنافقُ أو المرتابُ لا أدري أتي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعتُ الناس يقولون شيئاً فقلته
الله عنها أن النبي حَمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من
ظاهر الحديث يدل على فتنة القبر وسؤاله والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول حمد الله فيه دليل على أن الأمور المهمة تستفتح بحَمدِ الله لأن هذا الذي استفتح عليه السلام بالحمد فيه كان أمراً مُهما عظيماً وهو أنه عليه السلام كان قد انصرف من صلاة كسوف الشمس ثم أقبل على الناس يَعِظُهم ويُذَكَّرهم وكذلك كانت سُنَّته عليه السلام في كل أمر له بال يستفتحه أولاً بالحمد وكذلك السنّة في خطبة النساء لأنه أمر له بال وقد تقرر ذلك من فعله عليه السلام ومن فعل الصحابة
الوجه الثاني قولها وأثنى عليه فيه دليل على أن الثناء بعد الحمد من السنَّة ومرغب فيه لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك واستقر عمله وعمل الصحابة عليه هذه هي السنة فيما يخصه عليه السلام وأما غيره فلا بُدَّ له من الصلاة عليه لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاء من بعدي ۱ والخلفاء بعده والصحابة عن آخرهم كانوا يصلون عليه بعد
الحمد والثناء على الله عزّ وجلّ
1 سبق تخريجه في الحديث ۱
١٦٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا فيه دليل على أنه عليه السلام لم يكن يرى من الغيب جميعه في الزمانِ المتقدم على هذا الموطن إلا البعض وأنه في هذا الموطن تكملت له الرؤية لتلك الأشياء كلها
ويرد على هذا سؤال وهو أن يُقال ما المراد بقوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه هل المراد به جميعُ الغيوب أو المراد به ما يحتاج به الإخبارُ إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة
والجواب أن لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والظاهر منهما الوجه الأخير وهو أن يكون المراد به ما يحتاج به الإخبار إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة أو ما أكرمه الله بالاطلاع عليه
1,
والأول ممنوع يدل على ذلك الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى ﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله ۱ وأما الحديث فقوله عليه السلام مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم ما تَغِيضُ الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعةُ إلا الله وأنه لا يمكن أن يُحْمَل هذا على جميع الغيوب لأن ذلك يؤدي إلى استواء الخالق والمخلوق وهو مستحيل عقلاً وقد قال عزّ وجلّ في كتابه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۳ والأشياء منها ما قد وقع قبل خَلقِ بني آدم ومنها ما يقع بعد موتهم فكان ذلك مستحيلاً من طريق العقل والنقل الوجه الرابع فيه دليل على أن ما أرِيَ له عليه السلام من الغيوب فله الإخبار به وله ألا يخبر به وله أن يخبر ببعضه ولا يخبر بالبعض بخلاف الوحي فإن عليه أن يخبر به كله لأنه عليه السلام لما أُرِي له هنا ما أري أخبر ببعض ما رأى وهو الجنة والنار وسكت عن الغير ولم يكن ليفعل ذلك في الوحي إلا أن يخبر به كله كما أوحي إليه
والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه قد يكون فيما يُرى أشياء لا يمكن لأحد الاطلاع عليها ولا يقدر على ذلك إلا هو عليه السلام لِمَا أمدَّه الله به من القوة والعون بخلاف الوحي فإنه لا
يكون إلا بقدر ما تقدر الأمة على تلقيه
۱ سورة النمل من الآية ٦٥
رواه الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ سورة الرحمن من الآية ۹
١٦٩
الوجه الخامس فيه دليل على عِظم قدرة الله تعالى إذ إنه عليه السلام رأى في هذه الدار في هذا الزمن اليسير ما لم يره ليلة المعراج في العالم العلوي ومشاهدة الملكوت الوجه السادس فيه دليل على أن القدرة لا تتوقف على ممكن لأنه عليه السلام رأى في
هذا الزمن اليسير أموراً عظاماً ثم عَقَلَها جميعها مع إبقاء أوصاف البشرية عليه الوجه السابع قوله عليه السلام حتى الجنّة والنّار هذا اللفظ محتمل لوجهين الأول أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بأنه عاين كلَّ ما يَلْقَوْن بعد خروجهم من هذه الدار حتى يستقروا في الجنة والنار الثاني أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بعظم ما رأى من أمور الغيب فذكر الجنة والنار تنبيهاً على ذلك لأن الجنة قد رُوي أن سقفها عرش الرحمن والنار في أسفل السافلين تحت البحر الأعظم فإذا رأى هذين الطرفين فمن باب أولى أن يرى ما بينهما
الوجه الثامن فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان
حقيقة إذ إنه عليه السلام عاينهما في هذا المقام
الوجه التاسع فيه دليل على أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هذه الدار وهي في العالم العلوي فوق السبع الطباق وسقفها عرش الرحمن - كما تقدم - محدقةٌ بالسُّور ولها شُرَفات وأبواب إلى غير ذلك مما قد علم من صفتها وعلوّها ورأى النار وهي في أسفل سافلين تحت البحر الأعظم الذي عليه قرار الأرضين - على ما قد علم - ثم مع هذا البعد والكثافة العظمى لم يحجبه شيء من ذلك عن الرؤية والمعاينة
وهي
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تُحصَر بالعقل ولا تجري على قياس لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هنا وعاينها وليلة أسري به لم يرها وإنما رأى سدرة المنتهى وهي ليست في الجنة - على ما سيأتي بيانه في حديث المعراج إن شاء الله - ورأى النهرين اللذين ينبعان من أصلها ويمضيان إلى الجنة - وكل هذا يأتي في حديث المعراج إن شاء الله - فكان هذا أدلَّ دليل على أن القدرة تحجب ما شاءت كان بواسطة أو بغير واسطة وتُبدي ما شاءت كان بحجاب أو بغير حجاب
الوجه الحادي عشر يترتب على فائدة الإخبار بهذا ترك الالتفات للعوائد وتقوية الإيمان وترك الهم والفرح لإصابة شيء أو ذهابه إذا تحقق المرء بعظم القدرة التي هو صادر عنها فينشرح صدر المؤمن إذ ذاك للتعلق بجناب مولاه وعدم الالتفات إلى ما سواه وتكون يده لا تعويل عليها فيما يتصرف فيه من الأشياء إبقاء لأثر الحكمة
۱۷۰
الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام تفتنون في قبوركم تفتنون بمعنى رون قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
١ أي
لا يُخْتَبَرون لكن الاختبار هنا بوجه خاص كما أخبر في باقي الحديث على ما سيأتي بيانه الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن الله عزّ وجلّ قد عافى نبيَّه عليه السلام من فتنة القبر وأكرمه بذلك لأن قوله عليه السلام تُفتَنُون خطاب مواجهة فلم يكن هو عليه السلام داخلاً في الخطاب ولو كان داخلاً مع أمته في ذلك لقال نُفَتَنُ في قبورنا يزيد هذا إيضاحاً وبياناً قوله عليه السلام في باقي الحديث يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل ولا يمكن أن يسأل عن نفسه المكرمة
فإن قال قائل لعل أن تكون له فتنة خاصة به ليست على هذه الصيغة
قيل له لو كانت له فتنة خاصة لذكرها وبينها ليسلي أمته بذلك ويهون عليهم ما هم إليه سائرون كما فعل عليه السلام ذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله عليه السلام لِيُعَزَّى المسلمون في مصابهم المصيبة بي ۳ ومن ذلك قوله عليه السلام لفاطمة حين قالت واگرْباهُ فقال لا كَرْبَ على أبيكِ بعد اليوم ۳
ومن ذلك إخباره عليه السلام عن نفسه المكرمة بأنه يصعق يوم القيامة فيمن يصعق ثم يفيق من تلك الصَّعقة ويكون هو أول من يُفيق فيجد موسى عليه السلام متعلقاً بساق العرش لا يدري ري أَصَعِق فيمن صَعِق ٤ وقام قبله أم لم يصبه شيء إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى فلو كانت له عليه السلام فتنةٌ تخصّه لما ترك ذكرها كما لم يترك ذكر ما أشرنا إليه ولأن في ذكره لذلك لطفاً بأمته وتهويناً عليهم فيما بين أيديهم - كما تقدم - وكان عليه السلام ينظر أبداً ما هو أحسن لهم فيفعله لأنه كان بالمؤمنين رحيماً
الوجه الرابع عشر هذه الفتنة هل هي عامة في الخلق كلهم صغاراً وكباراً أو هي مختصة
1 سورة العنكبوت الآيتان ۱ -
نص الحديث عن سعد بن سهل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيُعَزّي الناس بعضهم بعضاً من بعدي إلى آخر الحديث رواه أبو يعلى في المسند والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان والمسلمون نائب فاعل للفعل المبني للمجهول يعزّى و المصيبة مفعول مطلق للمصدر مُصاب ۳ رواه البخاري في المغازي باب مرض النبي لا الهلال و الإمام أحمد في المسند وابن ماجه والنسائي عن أنس رضي عنه بلفظ لما ثقل رسول الله الله عن العمل لم يتغشاه الكزب فقالت فاطمة واكَرْبَ أبتاه فقال ليس على أبيك كَرْبُ
الله
بعد اليوم الخ ٤ صعقة النبي صلى الله عليه وسلم و رواها البخاري في كتاب الخصومات وفي الأنبياء ورواها مسلم في الفضائل في حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه
۱۷۱
بمن بلغ التكليف دون غيره لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والأظهر من الوجهين العموم لأنه عليه السلام قد صلى على صبي ودعا له بأن يعافيه الله من فتنة القبر فلو لم تكن الفتنة عامة لما صح أن يدعو له بذلك
الوجه الخامس عشر إذا كانت الفتنة عامة هل ۱ هي على حد سواء للصغير والكبير أو تختلف محتمل للوجهين معاً لأن القدرة صالحة لكليهما وأمور الآخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما هي موقوفة على إخبار الشارع عليه السلام ومسألتنا هذه لم يرد فيها نص فيتعين فيها
هي
الإيمان بالفتنة مطلقاً والتعيين فيما نص عليه وعدم التعيين فيما لم ينص عليه وتركه للاحتمال
الوجه السادس عشر فيه دليل على رد الأرواح إلى الأجساد في القبور لأن الفتنة لا تكون إلا للحيّ وأما الميت فلا يتأتى أن يُفتَن لأنه لا يفهم ولا يعقل ولا يُحِس بألم ولا تنعم وهذه الحياة التي في القبر والموتة التي تكون بعدها هي إحدى الحياتين وإحدى الموتتين اللتين أخبر بهما عزّ وجلّ في كتابه حيث قال رَبَّنَا أَمَتَنَا اثنين وأحييتنَا اثْنَتَين على ما قاله بعض العلماء ﴾
الوجه السابع عشر في هذا دليل على عِظم قدرة الله تعالى وأنه لا يعجزها ممكن نحو ما تقدم لأن الحي أبداً مهما أهيل عليه شيء من تراب ينطفىء ويموت وهو الآن يحيا تحت التراب ولا يضُرّه وهذا مما يجب الإيمان به على ما جاء الخَبَر ويُترك الالتفات للكيفية لأنه من جملة الغيوب والله عزّ وجلّ يقول في صفة المؤمنين يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ
الوجه الثامن عشر قوله عليه السلام مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال مثل أو قريباً شك من الراوي الذي روى عن أسماء في أيهما قالت وفيه دليل على تَحَرّيهم في النقل وصدقهم لأنه لما أن أشكل عليه ما قالت أسماء أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به
الوجه التاسع عشر تمثيله عليه السلام فتنة القبر بفتنة المسيح الدجال تحتمل وجهين الأول أن يكون مثل بها لِعَظَمِها إذ إنه ليس في الدنيا فتنة أعظم منها أعاذنا الله منها بمنّه
الثاني أن يكون مثل بها تنبيهاً منه عليه السلام على حال المنافق أو المرتاب في قصر العلة وذلك أن الدجال يَدَّعي الربوبية ويستدل عليها بأشياء منها أنه يُحْيِي وَيُمِيت ومنها أنه يسير لِسَيْره مِثلُ الجنة عن يمينه ومثل النار عن يساره ومنها أن أموال من يأبى عن اتباعه تَتْبَعُهُ إلى غير ذلك مما جاء في عظم فتنته وبعد هذا كله ذاتُه تكذب كلَّ ما اسْتَدَلَّ به لأنه أعور
1 كذا بحذف الفاء قبل هل سورة غافر من الاية ١١
ومركوبه أعور فلم تعطه قدرته أن يحسّن خَلْق نفسه ولا خَلْق مركوبه ثم بعد ذلك يَنْزِل عيسى عليه السلام فيقتله بحربته حتى يُرى دمه في الحربة فلو كان إلها لدفع النقص والهلاك عن نفسه والمنافق أو المرتاب أشبه في هذا المعنى لأنه أظهر الإيمان في الدنيا وتلبس به في الظاهر ولم يكمل ما شرط عليه فيه فإذا احتاج إلى الإيمان واضطر إليه لم ينفعه فأشبَهَ الدجال في علته القاصرة ولحوق الهلاك به
وقد يحتمل أن يكون عليه السلام مثل به تنبيهاً على هذين الوجهين معاً وهو الأظهر والله أعلم لأنه أجمع للفائدة
الوجه العشرون قوله عليه السلام يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل هذا الرجل المراد به ذاتُ النبي ورؤيتها بالعين وفي هذا دليل على عِظَم قدرة الله تعالى إذ الناس يموتون في الزمان الفرد في أقطار الأرض على اختلافها وبعدها وقربها كلهم يراه عليه السلام قريباً لأن لفظ هذا لا تستعمله العرب إلا في القريب
في
الوجه الواحد والعشرون في هذا ردّ على من يقول بأن رؤية ذات النبي في الزمن الفرد أقطار مختلفة على صور مختلفة لا تمكن لأن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله وقد قال عليه السلام من راني في المنام فقد راني حقاً ۱ فمَن يقول بعدم الرؤية فقد كذب هذا الحديث وقد حَصَرَ القدرة التي لا تُحصَر ولا ترجع إلى حد ولا إلى قياس
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل لمن يقول بأن رؤية النبي الله في الزمن الفرد في أقطار مختلفة سائغة ممكنة فدليلهم من طريق النقل ما نحن بسبيله ودليلهم من طريق العقل أنهم جعلوا ذاته السنية كالمراة كل إنسان يرى فيها صورته على ما هي عليه من حسن أو قبح والمراة على حالها من الحسن لم تتبدل
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الإبهام عند الاختبار من الشدة في الامتحان لأنهما عدلا عن ذكر الاسم المعلوم بالإشارة إلى الذات المكرمة وعدلا عن ذكر الإيمان إلى ذكر العلم فكان ذلك إبهاماً على إبهام كل ذلك شدة في الامتحان ولو لم يريدا شدّة الامتحان بذلك لقالا له كيف إيمانك بمحمد هذا فيكون أخفَّ عليه بل فيه شَبَه من تلقين الحُجَّة
نسأل الله أن يلهمنا الحجة عند عِظَم هذا الامتحان
1 رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
جاء في نسخة باريس ما يلي ومنهم من جعلها كالشمس وهو أولى لأنها تُرى من جميع أقطار الدنيا وهي
ني محل واحد
۱۷۳
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل لما قدمناه من أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأن الناس كلهم يرون النبي الله وهم في بطون الثرى ويُسألون عنه والثرى أكثر كثافةً من الجواهر كلها وكلهم يرونه قريباً متدانياً لأن هذا لا تستعمل إلا للقريب المتداني الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على صحة كرامة الأولياء في اطلاعهم على الأشياء البعيدة يرونها رؤية العين قريبة منهم ويخطون الخطوات اليسيرة فيقطعون بها الأرض الطويلة لأن القدرة صالحة لكل ذلك ولهذا قال بعضهم الدنيا خطوة مؤمن ومثل هذا اطلاعهم على القلوب مع كثافة الأبدان
وقد حكي عن بعض الفضلاء منهم في هذا الشأن أنه اجتمع مع بعض إخوانه بموضع وكان في القوم رجل من العوام ليس منهم فاطلع بعض إخوانه على قلب ذلك الرجل فرأى شيئاً منه لا يعجبه فخرج عنهم فخرج إليه هذا السيد المتمكن فقال له ارجع ما رأيتَ فقد راه غيرُك وإن لم يُحمل هذا هنا فأين يُحمَل فرَدَّه من طريق الفتوة ١ الوجه السادس والعشرون فيه تفسير وبيان وإيضاح لأحاديث ومسائل جملة تُشْكِلُ على
بعض الناس عند سماعها
فمن ذلك ما رُوي في الموت أنه يُعرَضُ يوم القيامة على أهل الدارَيْن ويعرفونه ومن ذلك معرفة المؤمنين ربهم عزّ وجلّ يوم القيامة حين يَتَجلَّى لهم ويقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ولم يتقدم لأكثرهم رؤيته عزّ وجلّ ولا معرفته
ومن ذلك ما يتفق لبعض الأولياء من معرفتهم ببعض المسائل الفقهية من غير أن يتقدّم لهم بها علم ثم يجدون ذلك موافقاً للعلم المنقول سواء بسواء إلى غير ذلك مما يشبه هذا المعنى وهذا كله في القدرة مع هذه القاعدة التي تقدم ذكرها لا إشكال فيه لأن القدرة تصنع ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السابع والعشرون قوله فأما المؤمن أو الموقن هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قالت أسماء وفيه دليل على ما تقدم من صدقهم وتحريهم في النقل والمؤمن والموقن صفتان متقاربتان على ما سيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثامن والعشرون قوله فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيناتِ والهُدى فأجبناه واتَّبَعناه وهو محمّد ثلاثاً هذا جواب أجلَّ ما يُمكن من المعرفة والإيمان لأنهم أخبروا
۱ الفتوة ـ هنا - بمعنى المكاشفة القلبية
١٧٤
باسمه عليه السلام وشهدوا له بالرسالة وبالهدى وبالبينات وادعوا أنهم أجابوا لذلك واتبعوا وهذا غاية ما يمكنُ البشر في الفعل والجواب ثم مع هذا الجواب المقنع لم يُقنَع منهم بالجواب مرة واحدة حتى أعادوها ثلاثاً
الوجه التاسع والعشرون يَرِدُ على هذا سؤال وهو أن يقال إعادتهم السؤال ثلاثاً هل هو تعبد أو معقول المعنى والجواب أنه محتمل لهما معاً فإن قلنا بالتعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فهو ظاهر من طريق العقل والنقل
أما العقل فلأن من فعل شيئاً وأتقنه مرة واحدة لم ينسب بفعله ذلك لا إلى صنعة ولا إلى إتقان لأن الواحدة قد تكون بحكم الوفاق والاثنين كذلك محتملان فإذا فعل ذلك ثلاثاً نُسِب إلى حسن الصنعة والإتقان في ذلك الشيء الذي فعل لأنه لا يمكن أن يقع الشيء في الغالب ثلاث مرات حَسَناً إلا عن تدريب به ومعرفة
ومثال ذلك الرامي إن رمى أولاً فأصاب فإنه لا يحسب رامياً إذ إنها قد تكون وفاقاً وكذلك في المرتين فقد تكونان وفاقاً فإن كرر ذلك ثلاثاً عُلم أنه لم يصب إلا لمعرفته وحسن صنعته لأن الثلاثة في الغالب لا تكون وفاقاً
وأما النقل فلأنه عليه السلام كان أبداً يكرر السؤال ثلاثاً في كل أمر ذي بال وهذا أمر له خطر وبَالٌ فكان التكرار فيه ثلاثاً
الوجه الثلاثون في هذا دليل على أن الأحكام في الآخرة جارية على مقتضى الأصول الشرعية
في هذه الدار
الوجه الحادي والثلاثون تكرار هذه الثلاث هل المراد به تكرار الجواب فقط فيكون الملكان عليهما السلام سألاه مرة واحدة وأجاب هو ثلاث مرات أو المراد به تكرار السؤال
والجواب
محتمل لهما معاً لكن ظاهر اللفظ ينص على أن المراد السؤال والجواب معاً لأنه ذكر السؤال والجواب ثم بعد ذلك قال ثلاثاً فدل على أن ما ذكر قبل ذكر الثلاث يُعاد بِرُمَّتِهِ ۱ الوجه الثاني والثلاثون في هذا دليل على أن الحق لا يتبدل وإن امتُحِنَ صاحبه به مراراً
۱ في حاشية نسخة باريس ما يلي قال محشيه قلت أفاد هذا أن الذي تكرر ثلاثاً هو لفظ محمد وظاهره أن السؤال لا يتكرر وكذا الجواب وإنما المكرر هذا اللفظ فقط فقوله ثلاثاً معمول لـ يقول لكنه قيد في قوله هو محمد خلافاً لما
قيده كلام الشارح
۱۷۵
لأنه لَمَّا أن كان هذا المسؤول على الحق وأعيد عليه السؤال ثلاثاً لم ينزع عن الجواب وبقي متمسكاً به لمعرفته وتحققه ولو كان الجواب بالباطل لدهش عند السؤال الثاني أو الثالث ونزع عنه خيفة أن يكون لم يصب الحق فيكون إعادة السؤال لأجل ذلك وقد قال عزّ وجلّ في كتابه وَلَوْ ولو كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فما كان من عند الله فهو حق والحق لا
خلاف فيه ولا يتبدل
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على أن المَيْزَ ۳ خَلَقٌ من خَلقِ الله يعطيه عزّ وجلّ من شاء بمقدمة وبغير مقدمة لأن أكثر هذه الأمة لم يتضلع بالعلوم حتى يعلم ذات النبي و لا الله وصفاته بالعلم وإنما ذلك القليل منهم ثم مع الجهل بصفته وذاته إذا رأوه يقولون هو محمد ويكرر عليهم السؤال ثلاثاً ثم لم ينزعوا عن ذلك ويعرفون أنه الحق وهذا أدل دليل على ما قدمناه من رفع الإشكال في بعض الأحاديث وبعض المسائل وكذلك أيضاً في الآي إذ إن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله لكل ما ورد من ذلك
الوجه الرابع والثلاثون في هذا دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجهل ببعض صفات الباري - عزّ وجلّ - مع اتباع أمره ونهيه لا يضرّ وأن معرفته عزّ وجلّ بالدليل والبرهان مع ترك الاتباع لأمره ونهيه لا تنفع لأن المؤمنين كلهم مَن عَرَف منهم صفة النبي لا الله ولو لمن لم يعرفها إذا رأوه عرفوه أشد المعرفة لأنهم يُسألون عنه ثلاث مرات وهم يجيبون بأنه هو محمّد رسول الله ه و لو لم ينزعوا عن ذلك
6
ومن المنافقين أو المرتابين من راه عليه السلام في الدنيا وعرفه بحقيقة المعرفة ثم عند فائدة المعرفة تنكرت المعرفة عليه وما ذاك إلا لأن المؤمنين كانوا متبعين لسنته والمنافقين لم يتبعوها فعاد عليهم العلم جهلاً فهل من مستيقظ من غفلته مشمّر عن ساق صدقه ليسلكَ
محجة خلاصه
الوجه الخامس والثلاثون قوله فيقال له نَمْ صالحاً النوم حقيقة ويحتمل أن يكون مجازاً
هنا يحتمل أن يكون
فإن كان حقيقة فيكون فيه دليل على أن النفس تبقى في القبر مع الجسد هذا على قول من
١ لم ينزع عن الجواب لم يكفّ أو ظل على جوابه ولم يغيّره
سورة النساء من الاية ۸
۳ الميز التمييز والفرز يقال مازه فرزه ويراد منه النور الذي يعطيه الله تعالى لعبده يعرف فيه رسول الله له
كما يعرفه النائم في رؤيا صالحة
١٧٦
يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمَّتَيْنِ مختَلِفَينِ والذين يقولون بهذا يقولون بأن النائم تقبض روحه وتبقى نفسه في الجسد فإذا أراد عزّ وجلّ أن يميته وهو نائم قبض الذي في الجسد فألحقه بالمقبوض وإن أراد بقاءه ردّ المقبوض إلى الجسد فرجع نَبهان حياً ولا تقبض الروح والنفس معاً إلا عند الانتقال من هذه الدار وعلى هذا حملوا قوله عزّ وجلّ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخـ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ١
فإذا كان المراد بالنوم هذا وهو النوم الحقيقي الذي يعهد في دار الدنيا فيكون فيه دليل على أن الموتة التي في القبر لا يوجد لها ألم كما يوجد في هذه الدار إذ إن النائم لا تعب عليه في نومه بل هو راحة له ورحمة هذا البحث فيه على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لِمُسَمَّيين مختلفين
وأما على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد فليس يكون النوم حقيقة وإنما هو موت فكنيا عنه بالنوم وهي إحدى الموتات المتقدم ذكرها وإنما عدلا عن الحقيقة إلى المجاز ليُحسنا له في العبارة لئلا يلحقه رعب لأن الميت يلحقه التنغيص والتألم عند موته والنائم لا يلحقه تألم ولا تشويش فهذا كناية منهم على أنه لا تعب عليه بعد هذا الوجه السادس والثلاثون الصلاح هنا يحتمل أن يكون مجهولاً لا يُعرف ويحتمل أن يكون معروفاً
أما الاحتمال الأول فهو ظاهر الحديث لأنه أتى بالصلاح منكراً فهو لا يُعْرَف وأما الاحتمال الثاني فقد تؤخذ معرفة الصلاح المذكور هنا من حديث آخر قال فيه إنهما يَفْتَحان له كُوَّةً عند رأسه إلى الجنة وكُوَّةً عند رجليه إلى النار ويرى مقعده من النار الذي عافاه الله منه وأعطاه إلى الكفار ويرى مقعده من الجنة الذي مَنّ الله عليه به ثم يقولان له من هذا عافاك الله يا وَليَّ الله - يعنيان الكُوَّةَ التي إلى النار - ثم يُغلقانها ويقولان له هذا ما وَعَدَك الله يا وَلِيَّ الله - يعنيان ما رأى له في الجنة - ويُبقيان له الكوَّة التي إلى الجنة يدخل عليه مِن عَرْفها ونعيمها إلى القيامة ثم يُفسح له في قبره مدى بَصَره ۳ وكفى بهذا صلاحاً والأحاديث في هذا المعنى
يوم
كثيرة ومتعددة
۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
٢ كذا والصواب منهما والضمير عائد على الملكين المذكورين في الوجه الحادي والثلاثين ۳ مركب من أحاديث عدة رواها مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار ورواها الترمذي في كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى
۱۷۷
الوجه السابع والثلاثون قوله قد علمنا العلم هنا يحتمل أن يكون المراد به علم
الحال الذي يقع عليه الجزاء ويحتمل أن يكون المراد به ما عَلِماه من طريق الغيب فيكونان يعرفان المؤمن والكافر حين يعاينانه والأظهر من هذين الاحتمالين الأول للقرينة التي قارنته وهو سؤالهما ثلاثاً ثم بعد الثلاث يقولان قد علمنا وهذا يدل على أن المراد علم الحال الذي يقع عليه الجزاء وهذا مثل قوله تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد عَلِمَ الصادق والكاذب قبل وقد كتب في اللوح المحفوظ قبل خلقه وعِلْمُ الله تعالى لا يتجدد لكن هذا العلم المراد به العلمُ الذي يقع عليه الجزاء وتنقله الحفظة بالضبط والشهادة على ما قاله العلماء وما نحن بسبيله مثله
الوجه الثامن والثلاثون قوله إن كنت يريدان فيما سلف من دار الدنيا لأنهما لو أرادا في الوقت لقالا إنك
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على جواز الحكم بالشاهد على الغائب لأنهما عرفا من حاله كيف كان في دار الدنيا ويُستَدَلّ بحُسْنِ المقال على حُسْن الحال في الدنيا لأن بحُسن مقاله استدلا على حسنِ حاله في الدنيا لكن هذا لا يمكن إلا إذا قامت قرينة لا يمكن معها التزوير الوجه الأربعون قوله لَمُوقِناً به إنما ذكر الموقن لأن الموقن أعلى من المؤمن فكل موقن مؤمن ولا ينعكس
الوجه الحادي والأربعون في هذا دليل على أن الموقنين محفوظون في الجواب عند السؤال وأنهم يَخْلُصون من الفتنة التي تطرأ عليهم في هذا الموطن وأما المؤمن فسيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثاني والأربعون قوله وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء المنافق والمرتاب متقاربان في المعنى لأن كليهما صاحبه مُظهِرُ للإيمان مُسِرٌّ للكفر وفيه دليل على تحريهم في النقل وصدقهم كما تقدم الوجه الثالث والأربعون قوله فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيه دليل على أن اتباعَ الناس دون علم مهلك لأن السبب المهلك لهذا أن جَعَل دينه تبعاً للناس من غير علم ولا معرفة فالعاقل يأخذ دينه من القواعد الشرعية التي بها الخلاص كما تقدم للناجي قبل الوجه الرابع والأربعون لقائل أن يقول لِمَ ذكر عليه السلام هذا الطرف وهو الهالك
وذكر الطرف الآخر وهو الناجي وسكت عن الطرف الوسط والجواب
۱ سورة العنكبوت من الآية
۱۷۸
أنه إذا وُجِد حُكْمان منوطان بعلتين مختلفتين ثم وُجِدَت تانك العلتان في شيء واحد مجتمعتين فلا بدَّ من أثر الحُكْمين أن يظهر في ذلك الشيء ومثل هذا ما قاله بعض العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالُ ۱ أنهم هم الذين خرجوا إلى الغَزْوِ بغير إذن أبويهم
فاستشهدوا فالشهادة تَمْنَعهم من دخول النار وعقوق الوالدين يمنعهم من دخول الجنة
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما حكي عن بعض الصالحين أنه كان خطيباً بأحد الأمصار بجامعها الأعظم فلما انتقل راه صاحب له في النوم فسأله ما فَعَل بك الملكان في القبر فقال سألاني فأُرْتِجَ عَلَيَّ ٢ فلم أذرِ ما أجاوبهما فبقيت متحيراً ساعة فإذا أنا بشاب حَسَنِ الصورة قد خرج من جانب القبر فلقنني الحُجَّة فلما جاوبتهما وذهبا عني أراد أن ينصرف فتعلقتُ به فقلت له من أنتَ يرحمك الله الذي أغاثني الله بك فقال أنا عملك قلت وما أبطأك عني حتى بقيتُ متحيراً في أمري فقال لي كنتَ تأخذ أجرةَ الخَطابة من السَّلْطنة فقلت والله ما أكلتُ منها شيئاً وإنما كنتُ أتصدَّقُ بها فقال لي لو أكلتها ما أتيتُك ولأَخْذِكَ إياها أُبطأتُ عنك
فتبين بهذا ما ذكرناه من أن العلتين إذا اجتمعتا في الشيء الواحد يظهر حكمهما لأنه لما أخذ بَطَأَ ۳ عنه ولما لم يأكل أتاه بعد البطء فحصل له من أجل الأخذ رجفة ومن أجل عدم الأكل والتصرف إعانة ورحمة وعلى هذا فقس
هما الوجه الخامس والأربعون لما بيَّن حكم الموقن أو المؤمن الكامل الإيمان اللذين متقاربان بقي الإيمان الضعيف الذي هو مختلط فقد يكون بعض الناس تغلب حسناته سيئاته وقد يكون بعضهم بالعكس وقد يكون بعضهم بالسَّوِية ثم يتفاوتون في ذلك بحسب الأحوال والأعمال فأحوالهم بالنظر إلى هذا المعنى كثيرة متعددة فلو ذكره لاحتاج أن يبيّن كل شخص بِحِدَتِهِ كيف تكون فتنته وكيف يكون جوابه وكيف يكون خلاصه أو هلاكه فيَطول الكلام في ذلك أكثر ما يكون بل إنه قد لا يُحْصَرُ لكثرة اختلاف الأحوال فذكر عليه السلام الطرفَينِ وبين حكميْهما اللذين هما محصوران وترك الطريق الوسط لكثرته يُؤخَذُ بالاستقراء وهذا أبدعُ ما يمكن من الاختصار والفصاحة وحسن الإدراك في العبارة إذ إنه ذكر الطرفين وبيّن علتَهما وعلتُهما إذا تؤملت تدل على أحوال الغير
۱ سورة الأعراف من الآية ٤٦
أَرْتِج عَلَيَّ أغلق عَلَيَّ باب النطق أو التفكير من رَبَّجَ الباب أي أغَلَقَه
۳ الصواب بَطُوَ أو أبطأ
۱۷۹
فإن قال قائل إنما ذكر عليه السلام المؤمن على الإطلاق ولم يقيده فلِمَ قيَّدتموه بصفة وهي الكمال
قيل له إنما قيدناه بصفة الكمال لأنه قد سوّى في الإخبار بين الإيمان واليقين واليقين أعلى من الإيمان الكامل على ما تقرر وعُلِم ولا يمكن أن يُسَوَّى في الإخبار بين ناقص وكامل وإنما يُسَوَّى بين صفتين متماثلتين أو متقاربتين وقد تقدم أن الإيمان الكامل يقارب اليقين وقد نص عليه السلام على أن المؤمنَ الناقص الإيمان لا بد له من العذاب في الغالب فكيف يقع له الخلاص هنا وهو بعدُ يُعَذَّب والنص الذي ورد في ذلك ما روي عنه عليه السلام أنه قال الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النارَ وإيمان لا يُخَلَّدُ صاحبه في النار ۱ فالإيمان الذي لا يُدخل صاحبَه النار هو الإيمان الكامل وصاحبه هو الذي يقع منه الجواب عند السؤال بصيغة ما ذكر في الحديث والإيمان الذي لا يخلد صاحبه في النار هو الإيمان الذي يكون معه بعض
المخالفات
الوجه السادس والأربعون يترتب على مجموع هذا الحديث من الفقه وجهان الأول تقوية الإيمان ورسوخ اليقين لكثرة ما فيه من الأدلة على عظم القدرة وعِظَمِ القادر كما تقدم في غير ما موضع قبل هذا الثاني أخذ الأهبة للارتحال والأخذ بطريق الخلاص والعمل على ذلك ما دام المرء
يجد لنفسه مهلة في هذه الدار لكثرة ما فيه من الإخبار والتبيين لطرق الخلاص وغيرها فهل من مُشَمِّرِ لخلاص نفسه قبل حلوله في رَمْسِه لأنه لا ينفع الاعتذار مع تقدم الإنذار وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۱۸۰
حديث أسعد الناس من قال لا إله إلا الله
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال قلتُ يا رسول الله مَنْ أَسعَدُ الناسِ بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ظَنَنْتُ - يا أبا هريرةَ ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك لِمَا رأيتُ من حَرصِكَ على الحديث أسْعَدُ الناس بشفاعتي يومَ القيامة من قال لا إله إلا الله خالِصاً من قلبه أو نفسه
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يَسْعَد بشفاعة النبي ل ا ل ل له يوم القيامة إلا من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على تقديم ذكر المسؤول على المسألة وإذا كانت أسماء المسؤول متعددة فَلْيُذكَر منها أعلاها وأحبّها إلى الشخص إذا كان ذلك الاسم على لسان العلم لأن هذا الصحابي رضي الله عنه لما أن أراد أن يسأل النبي لم يسأله حتى ناداه باسمه ولما كانت أسماؤه عليه السلام متعددة ناداه بأعلاها وأحبّها إليه وهو رسول
الله
الوجه الثاني في هذا دليل على ترك الدعاء والتملُّق عند السؤال لأنه لم يذكر بعد الاسم المعظم إلا حاجته دون دعاء ولا تملُّق
الوجه الثالث فيه دليل على أن حبّ الرسول عليه السلام بالاتباع دون المقال لأن هذا الصحابي رضي الله عنه كثيرُ الحب للرسول صلى الله عليه وسلم - على ما قد تقرر وعُلِم - وكان في الاتباع بحيث لا يُجْهَل ذلك منه لكنه لما نادى النبيَّ لا الهلال و هنا لم يزد على الاسم المعلوم شيئاً والصحابة عن آخرهم مثله في هذا المعنى وهم المهاجرون والأنصار والصفوة المحبّون ثم مع تأكد هذه المحبة لم يأتِ عن واحد منهم أنه أطراه يوماً واحداً ولم يقصروا في تعظيمه وترفيعه على ما قد عُلِم بالضَّرورة من أحوالهم
۱۸۱
الوجه الرابع فيه دليل لأهل الصوفة حيث يستحبون استفتاح الكلام بذكر الحبيب ويقولون
بان استفتاح الكلام بذلك يُنوِّرُ القلب ويهدي إلى الصراط المستقيم ويأتي بالفوائد دوماً لأنه لما أن نادى أولاً بأحب الأسماء إليه أثمر له ذلك تضعيف المسرّة
وبالمسرات يجيء والبشارة على ما سيأتي
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رجله ألم فلم يستطع مدها فاشتكى ذلك إلى الطبيب فقال له الطبيب لا تمدَّ يدَك أو رجلك حتى تنادِي بأحبّ الأسماء إليك فنادى وامُحَمَّداه فامتدَّتْ يَدُه
الوجه الخامس قوله رضي الله عنه مَنْ أسعَدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة فيه دليل على أن مِن أدب العلمِ حُسْنَ السؤال لأنه سأل عن الشفاعة ولم يذكر ما عنده من خبرها وما وقع
له من النظر والتردد حتى اضطر إلى ذكرها
الوجه السادس لقائل أن يقول لمَ قال من أسعد ولم يقل مَن هم أهلُ شفاعتك والجواب أن هؤلاء المشفوع فيهم يوم القيامة أصناف مختلفة فمنهم المؤمنون المذنبون ومنهم الكفار والمنافقون - على ما سيأتي بيانه - والمنافقون في الدَّرْكِ الأسفل من النار والمؤمنون المذنبون يدخلون النار بذنوبهم فمنهم من يخرج منها بعد القصاص بغير شفاعة ومنهم من يخرج بالشفاعة فمن شُفع له ثم عُذِّب لم تحصل له سعادة تامة وإنما حصلت له سعادة خاصة لأنه عوفي في الوقت من بلاء ثم أعقبه بعد ذلك بلاء أشد منه على ما سيأتي بيانه
وشفاعته عليه السلام على ضربين عامة وخاصة فالعامة أذكرها بعد والخاصة هي لأمته المذنبين فإذا شَفَع فيهم أخرجوا من النار وعُفي عنهم وأدخلوا الجنة هذه هي الشفاعة الخاصة والسعادة التامة فلأجل ذلك قال أسعَدُ التي هي من أحد أبنية المبالغة لأنها سعادة لا شقاء بعدها أبداً
الوجه السابع فيه دليل على قوة إيمان الصحابة وفضلهم لأنه لا يَسأل عن المسعود بالشفاعة وغير المسعود إلا من تحقق إيمانه بها وقَوِيَ تصديقه بذلك ولذلك قال عليه السلام ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ۱ وما وقر في صدره رضي الله عنه هو قوة الإيمان واليقين وكذلك الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم إنما فَضَلوا غيرهم بما وقر في صدورهم من ذلك وما خُذِل من خُذِل وارتدّ من ارتد إلا عند ضعف الإيمان
۱ ذكره الغزالي في الإحياء قال العراقي لم أجده مرفوعاً إنما هو عند الحكيم الترمذي من كلام بكر بن عبد الله المزني
والتصديق فيطلب إذ ذاك الكيفية فى أمور الآخرة وفي القدرة فيمرق من الدين كما يمرق السهم
من الرَّمِيَّة وهو المسكين لا يشعر بنفسه ٢ أعاذنا الله من بلائه بمنه
الوجه الثامن فيه دليل على طلب السعادة والاهتمام بها والعمل على أسبابها لأن من عرف طريق السعادة عمل عليها وترك ما عداها فلذلك سأل عنها
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم قال الناس ولم يقل أمتك والجواب أنه إنما عدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس لأن شفاعة النبي ا و على ضربين - كما تقدم - عامة وخاصة فالعامة هي لجميع العالم من الجن والإنس للكافر والمنافق والمؤمن على ما جاء في الحديث الصحيح أن العالم يبقون في المحشر بتلك الأحوال المهلكة - التي قد نُص عليها في غير ما آية وغير ما حديث - والنار قد أحدقت من كل الجهات والشمس قد دنت منهم حتى يكون بينها قدر المِرْوَد الذي تكحل به العين رجل الرّجل على رجل المرأة ورجل المرأة على رجل وبينهم الرجل ثم لا يعرف أحدهما صاحبه
حتى قالت عائشة رضي الله عنها حين سمعت شيئاً من هذا يا رسول الله الرجال ينظرون إلى النساء ۳ قال يا عائشة الأمرُ أشدُّ من أن يُهمَّهُم ذلك ثم يغرقون من شدة ما هم فيه حتى يبلغ عَرَفهم في الأرض سبعين ذراعاً فمنهم من يُلجمه العرق ومنهم من يبلغ أذنيه ومنهم من
يبلغ عنقه ومنهم من يبلغ ثدييه ثم هم كذلك يتفاضلون في ذلك الأمر العظيم بحسب أعمالهم ثم يبقون مع شدة هذه الأهوال التي أشرنا إليها وغيرها على ما قد عُلم من الأحاديث والآي قدر ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا لا يأتيهم خبر من السماء ولا يعرفون ماذا يُراد بهم ثم يلهمهم الله عزّ وجلّ طلب الشفاعة فيأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون له يا ادم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجَدَ لك ملائِكَتَه ألا ترى إلى ما نحن فيه اشفع لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر آدم عليه السلام خطيئَته فيبكي ويقول نَفْسِي نفسِي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
نوح عليه السلام
فيذهبون إلى نوح عليه السلام فيقولون له أنت أول الأنبياء والرسل وقد سمّاك الله عبداً
1 الرَّمِيَّة الصَّيد الذي ترميه
وهو الذي يتساءل ويتشكك - من خلال ضعف إيمانه ـ عن أمور الآخرة وعن قدرة الله تعالى خلافاً لمن كمل
إيمانه أو بلغ اليقين وانقطع تساؤله وانعدم شكه ۳ متفق عليه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها
۱۸۳
شكوراً ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشْفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر نوح عليه السلام خطيئته وهي دعاؤه على قومه فيبكي ويقول نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون له مثل مقالتهم الأولى فيجاوبهم عليه السلام كجوابهم ثم يرسلهم إلى موسى عليه السلام فيكون سؤالهم وجواب موسى عليه السلام
كما كان السؤال والجواب الأول ثم يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيقول لهم مثل الأول
ثم يرسلهم إلى محمّد عليه الصلاة والسلام فيقولون له أنت حَبيبُ الله وصَفوتُه من خَلقه وقد أنزل عليك كتابه الحكيم وقد خصك بالفضل العميم ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرَّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار
فيقول أنا لها فيقوم في الشفاعة فَيَشفَع - على ما جاء في الحديث - فيأمر الله عزّ وجلّ بالفصل بين العباد ويُنصَب الصِّراط على متن جهنم ويوضع الميزان ويقع الحساب فهذه هي الشفاعة العامة التي ينتفع بها كل العالم من الجن والإنس والحشرات فلأجل ذلك عَدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس وأما الشفاعة الخاصة فقد تقدم بيانها ٢
الوجه العاشر في هذا دليل على أن السؤال بالجنس ۳ أفيد من السؤال بالنوع لأنه رضي يعلم أن أسعد الناس بالشفاعة من أمة النبي المؤمنون ثم عدل مع علمه بذلك لذكر الجنس لاحتمال أن يكون ثَمَّ حُكم آخر لا يعرفه فلما أُخبِر بالأمر على ما هو عليه رجع
الله عنه
له ذلك حكماً قطعياً لا احتمال فيه
الوجه الحادي عشر في هذا دليل على أن أمور الاخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس والاجتهاد لأنه رضي ! الله عنه قد علم الشفاعتين اللتين في يوم القيامة وترجّح عنده من هو الأسعد بالشفاعة وغيره إذ ذاك معلوم بالضرورة لكنه لم يلتفت إلى ما ظهر له من مدلول جميعها حتى تلقاه من صاحب الشرع مشافهة وهذا يدل على أن هذا عندهم حكم ثابت لا يسوغ فيه غير
النقل كما تقدم
۱ يريد كجوابهما
أحاديث الشفاعة متواترة وقد رواها أصحاب المسانيد والصحاح والسنن والمعاجم عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
يريد بـ الجنس الألف واللام الداخلتين على كلمة الناس فهما لإرادة الجنس أي جميع عباد الله من المؤمنين وغير المؤمنين ولو كانت الألف واللام للنوع لقصد بهما أمة محمد الله دون غيرها من الأمم
١٨٤
الوجه الثاني عشر لقائل أن يقول لم قيَّد الشفاعة بيوم القيامة وهي مستمرة أبداً على الدوام في الدنيا وفي الآخرة لا يزال عليه السلام يَشفَع ويُشفّع
والجواب أنه إنما قيدها بيوم القيامة لأنه قد عاين هذه الشفاعة التي في الدنيا وعرفها وإن كانت على المشيئة لكنها وقعت كالمقطوع به لأنه عليه السلام لم يشفع قطّ لأحدٍ في هذه الدار إلا أجيبَ وأُسعِفَ فلم يكن ليسأل عن شيء قد عاينه وعرفه لأن السؤال عن ذلك كتحصيل حاصل والصحابة أجلّ من ذلك
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيتُ من حرصك على الحديث ظننت يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون بمعنى علمتُ والأظهر منهما العلم للقرينة التي تقويه في الحديث بعد وهي قوله لِما رأيت من حرصك على الحديث
الوجه الرابع عشر في هذا دليل على أن من السنة إدخال السرور على السائل قبل ردّ الجواب عليه لأنه عليه السلام قدم قوله لقد ظننت على رد الجواب عليه والسرّ الذي في هذا الإخبار من إدخال السرور هو أنه لا يتأتى ما أخبر به حتى يكون كما قال لما رأيتُ من حرصك على الحديث ولا يظهر له عليه السلام منه الحرص على الحديث إلا إذا كان يلتفت إليه على الدوام ويراعي أقواله وأفعاله والتفاتُه عليه السلام لحظة واحدة للشخص كان عند الصحابة أعظم ما يكون من السرور فكيف بها في مرور الليالي والأيام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على استنباط الأحكام بالأظهر من الأدلة لأنه عليه السلام
جعل الظنَّ هنا قطعياً لقوة الدليل الذي ظهر له على ذلك وهو الحرص على الحديث الوجه السادس عشر فيه دليل على أن إتباع المسَرَّةِ بالمسَرَّة أولى وأبلغ في المَسرَّة لأنه عليه السلام لو سكت عند قوله أول منك لكان الصحابي يُسَرّ بذلك فلما زاد له السبب الموجب لذلك وهو من كسبه الذي هو الحرص كان ذاك إدخالَ مُسَرَّةٍ على مَسرَّة ومثل هذا قوله عليه السلام لسيد وفد عبد القيس فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله قال يا رسول الله أتصَنْعه أنا أو شيء جبلني الله عليه قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله
ذلك شيء
الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله ۱
۱ متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ورواه مسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد القيس أبو قبيلة من أسد وسميت القبيلة به وكان موطنها البحرين والأشج لقب غلب عليه وقد لقبه
به رسول الله واسمه المنذر بن عائذ انظر الاستيعاب ص ١٤٤٨
١٨٥
ومثل هذا أيضاً ما وصف عزّ وجلّ في كتابه المؤمنين حين يدخلون الجنة فقال لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١ ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢ ﴿ بِمَا أَسْلَفَتُمْ فِي الْأَيَّامِ ﴾ هو
الخالية ۳ كل ذلك إعظام في إدخال السرور عليهم والزيادة لهم منه
نسأل الله بمنه أن يمن علينا بذلك بكرمه
الوجه السابع عشر فيه دليل على تسمية السائل عند رد الجواب عليه لأنه عليه السلام ناداه باسمه قبل ردّ الجواب عليه والحكمة في ذلك تظهر من وجهين
الأول أن نداءه باسمه أجمعُ لخاطره فيكون ذلك سبباً لتحصيل جميع ما يلقى إليه ومثل ذلك نداؤه عليه السلام لمعاذ بن جبل ثلاث مرات وهو معه على الراحلة ثم بعد الثلاث ألقى إليه ما أراد كل ذلك ليأخذ الأهبة للإلقاء ويصغي لسمع الخطاب
الثاني أن في ندائه باسمه إدخال سرور عليه لأن النداء أبداً إذا وقع من الفاضل إلى المفضول يحصل له به ابتهاج و سرور فكيف به وهو نداء سيّد الأولين والآخرين لتلك السادة المباركين الذين قد ثبت حبهم له بالتواتر وكانوا يتبركون منه بلمحة أو لحظة أو أي نوع كان يؤيد ما ذكرناه من هذا الوجه ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رِجْلَهُ ألَم القصة بكمالها وقد تقدم ذكرها في الحديث قبل هذا ٤
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن من السنة إدخال السرور بكل ممكن يمكن لأنه عليه السلام قد أدخل السرور على هذا السائل في ثلاثة مواضع في هذا الموضع وفي الموضعين المتقدمي الذكر هذا ما فعل واللفظ قليل فكيف به فيما عداه
عنه
الوجه التاسع عشر فيه دليل على تقديم الأولى في حق السائل وإن كان لم يسأل لأنه عليه السلام عَدَل عن الجواب الذي هو عام للسائل ولغيره وذكر قبله ما هو الأولى في
حقه وما يُسر به
الوجه العشرون فيه دليل على جواز الاستدلال على حال المرء بفعله لأنه عليه السلام استدل على حاله بما ظهر له من فعله وهو الحرص والحرص عمل من الأعمال فعلى هذا
۱ سورة النحل من الآية ٣٢ سورة الأعراف من الآية ٤٣
۳ سورة الحاقة من الاية ٢٤
٤ كذا والصحيح أن ذكر حديث عبد الله بن عمر تقدم في هذا الحديث نفسه قبل صفحات
١٨٦
فالاستدلال بالأعمال أولى من الاستدلال بالمقال لأن المقال قد يحتمل التجوّز في الكلام وغيره
والفعل ليس كذلك
الوجه الحادي والعشرون فيه دليل على أن ما يخص الشخص نفسه أكد عليه مما هو مشترك فيه مع غيره لأنه عليه السلام لم يذكر له ما هو له ولغيره إلا بعد ما حصل له ما يخصه في نفسه وهو قوله أوَّل منك بهذا الحديث
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على أن السنَّة في الحكمة لا تُلقى إلا لأهلها وأن الأشياء لا يتعدى بها وقتها لأنه عليه السلام لم يخبر بفضل هذا السيد إلا عند سؤاله عن هذا الحديث الذي قد يغفل عنه كثير من السادة الفضلاء
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن تسمية الحديث حديثاً من الشارع عليه السلام لأنه عليه السلام قد سماه بذلك هنا حيث قال أن لا يسألني هذا الحديث و لما رأيت من حرصك على الحديث فسمى المفرد والجمع باسم الحديث
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على فضل هذا الحديث على سائر الأحاديث لأنه عليه السلام قد أشار إليه بالأفضلية وخصّه من بين الأحاديث بقوله أن لا يسألني عن هذا الحديث
أحد أول منك فلو لم يكن لهذا الحديث مزيّة على غيره من الأحاديث لما جعله أولى به من غيره لأن ذلك مدح للسائل وتعظيم له لأنه أصاب بسؤاله كنزاً عظيماً وكيف لا وقد حصل له فيه من أدلة الإيمان غير ما واحد ـ على ما تقرر قبل وما أذكره بعد - وحصل له فيه من علوم الآخرة أو فرُ نصيب وعلوم الآخرة السؤال عنها نادر من أجل الاشتغال بعلوم الدنيا إذ إن الأعمال مرتبة عليها فلا يمكن تحصيل علوم الآخرة إلا بعد تحصيل علوم الدنيا التي بها التكليف مَنُوط اللهم إلا قدر ۱ ما يتضمَّنُه الإيمان منها فلا بدّ منه
1-
ويكفي في ذلك ما نص عليه جبريل عليه السلام حين أتى ليعلم الدين فسأل عن الإيمان فقال عليه السلام أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ٢ فكان هذا السيّد رضي الله عنه ممن حصل ما يحتاج إليه من علوم دنياه ثم بعد ذلك أخذ العلم الآخر فلذلك حصلت لهم مزيّة بهذا الحديث ولا يحصل بهذا ذمّ لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كان متكسباً لأنهم أيضاً حصلت لهم مزية امتازوا بها وهي معرفتهم بأحكام الله يدل على هذا ما حكي عنهم رضي الله عنهم أن أكثرهم مالاً كان أكثرهم علماً فأصلوا
۱ قَدْرَ مستثنى من علوم الآخرة رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
۱۸۷
رضي
الله عنهم قواعد الأحكام على جملة أنواعها مما يتعلق بالأبدان والذمم والأموال علماً وعملاً ولما تجرَّد هذا السيّد عن كثير من الدنيا حصل معرفة ما أحكمته الحكمة الربانية في أمور الآخرة وبَلَّغه إلينا مثل هذا الحديث وغيره فجزاهم الله عنا جميعاً خيراً
الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على فضل الحديث جملة وأنه أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى من بين سائر العلوم كلها عدا الكتاب العزيز لأنه عليه السلام قد مدح هذا السائل وعَظَّمه وجعله أول من يسأل عن هذا الحديث ولمعرفة ما احتوى عليه من الفوائد ولكونه كان حريصاً على الحديث وكيف لا وقد قال عليه السلام تركت فيكم التقلَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ يريد سُنَّته عليه السلام لأن أهل بيته لا يفعلون إلا ما كان عليه السلام يفعل فليس بعد القرآن إلا الحديث مَن تمسك بهما فقد نجا ومن
خالفهما فقد هَوَى
الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن مدح العمل لصاحبه مندوب إليه لأنه عليه السلام قد مَدَح هذا السيّد لأنه جعله أول من يسأل عن هذا الحديث للعمل الذي صدر منه وهو الحرص وهذا بخلاف مدح الذات لأنه ممنوع والفرق بينهما أن مَدْحَ العمل يزيد صاحبه فيه تغبطاً وحرصاً ومدح الذات يُخاف منه العجبُ والالتفات
الوجه السابع والعشرون فيه دليل على إبداء الدليل من الفاضل إلى المفضول لأنه عليه السلام أفضل الناس وأعلاهم قدراً ثم مع ذلك لما أن ذكر لهذا أنه أول من يسأل عن هذا الحديث أتاه بالدليل على ذلك وهو الحرص الذي كان منه ولم يقتصر على إعطاء الحكم دون دليل عليه الوجه الثامن والعشرون لقائل أن يقول لِمَ خص عليه السلام هذا بالحرص على الحديث ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم كانوا يحرصون على الحديث أعظم الحرص ويعظمونه ويحبونه
والجواب أنهم كلهم كذلك حقاً لكن لهذا السيد زيادة في هذا الشأن على غيره ويتبين ذلك ويتضح بما روي عنه رضي الله عنه أنه قال كان إخواني من الأنصار يشتغلون بإصلاح حوائطهم في بعض الأوقات وإخواني من المهاجرين يشتغلون بالتسبب في الأسواق وأنا التزمت النبي صلى الله عليه وسلم لِمَلْء بطني فوعيتُ ما لم يَعُوا فلهذه الزيادة - وهي الملازمة - حصل له هذا التشريف وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا يتنافسون في هذا وأشباهه مهما كان شيء
۱۸۸
۱ سبق تخريجه في الحديث ٣
من
ما
ட்
ت
الخير تراهم يبادرون إليه ويسارعون فإذا زاد أحدهم ذرّة في وجه من وجوه الخير على غيره نسبت تلك الطريقة إليه وكان هو إمامها وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين
يبين ما قررنا هنا ويوضحه قوله عليه السلام أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها ۱ مع أن الأربعة رضي الله عنهم كانت فيهم تلك الصفات كلها لكن كان كل واحد منهم يفوق صاحبه بشيء ما من تلك الصفة المذكورة فنسبت إليه
الوجه التاسع والعشرون في هذا دليل لأهل الصوفة وأي دليل لأنهم لما أن أربوا على إخوانهم المؤمنين بقطع العلائق والتعلق بالله والاضطرار إليه والتوجه إليه في جلّ أوقاتهم صَفَت بواطنهم فخصوا باسم الصفاء والصفوة مع أن المؤمنين لا بد فيهم من الصَّفاء إذ إن الإيمان يقتضي ذلك لكن لما أن كان لهم زيادة في ذلك الشأن خُصُّوا به دون غيرهم
أعاد الله علينا من بركتهم بمنه ويمنه
الوجه الثلاثون قوله عليه السلام أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه أسعد الناس بشفاعتي الكلام عليه كالكلام على قول السائل من أسعد الناس بشفاعتك وقد تقدم بما فيه كفاية وبقي الكلام هنا على قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه
فأما قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله فهي تحتمل وجهين أيضاً
الأول أن يكون المراد بها العموم الثاني أن يكون المراد بها الخصوص فإن كان المراد بها العموم فهي تحتمل وجهين الأول أن يكون المراد من قال لا إله إلا الله ولو مرة واحدة في عمره الثاني أن يكون المراد من قالها وداوم عليها حتى توفي عليها وإن كان المراد الاحتمال الثاني - وهو الخصوص - فهو مَن يقولها عند الموت
والضرب الثاني من العموم المتقدم يرجع إلى هذا الخاص لأنه وإن قالها على الدوام ثم لم يتلفظ بها ولم يعتقدها عند الموت كان ما قال قبل ذلك هباءً منثوراً وهذا هو أظهر الاحتمالات وأولاها بل لا يسوغ غيره في هذا الموضع بدليل قوله عليه السلام الأعمال بخواتيمها وقوله عليه السلام يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبق بينه وبين الجنة
١ لم نعرف مصدره بهذه الصورة المذكورة رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة بألفاظ أخرى
0
۱۸۹
إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار وإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة۱ وقوله عليه السلام مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وهذا نص في المسألة نفسها فلا يسوغ الجنوح إلى غير ما نص عليه
الوجه الواحد والثلاثون فيه دليل على أن من خالط إيمانه شائبة ما لا يسعد به لأنه عليه السلام شرط فيه الإخلاص والإخلاص يتضمن عدم الشوائب دِقها وجلها
الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل على أن من اعتقد الإيمان دون النطق به لا يسعد به ولا تناله هذه الشفاعة الخاصة لأنه عليه السلام شرط في ذلك التلفظ والشرط إذا عُدِمَ عُدِمَ
المشروط
الوجه الثالث والثلاثون من آمن بالله مخلصاً لكنّه لم يتلفظ بالشهادة لعذرِ كان لَدَيْه يمنعُه من ذلك ثم اختَرَمَتْهُ المنيّة قبل زوال ذلك العذر هل تلحقه الشفاعة أم لا أو يكون من أهل الإعذار هذا موضع بحث ونظر وأرجح ما في ذلك وأظهَرُه أنه يكون من أهل الإعذار لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَنُ بِالإِيمَنِ ۳
الوجه الرابع والثلاثون قوله من قلبه أو نفسه هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قال النبي وكلاهما بمعنى واحد لأن المراد بالنفس ما بَطَن وما بَطَن المراد به القلبُ لأن فيه يستقر الإيمان وهو الأميرُ على الجوارح يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغةٌ في الجسد إذا صَلَحَت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ٤
وفيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم وتحريهم في النقل لأنه لما أن حصل له مع أن اللفظين بمعنى واحد لا يقع في
الشك في أي اللفظين قال عليه السلام أبدى ذلك الإخبار بأحدهما دون الآخر خلل في المعنى ولا في الحكم نسأل الله بمنّه أن يمن علينا بالاقتداء بهم وبِنَبِيّه إنّه ولي كريم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث طويل رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ب الله عنه
۳ سورة النحل من الآية ١٠٦
٤ سبق تخريجه في الحديث ٨
۱۹۰
-١٤-
حديث رفع العلم بقبض العلماء
عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يَقبِضُ العلم انتزاعاً يَنتَزِعُه من العِباد ولكن يَقْبِضُ العلم بقبْضِ العُلماءِ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأضَلُّوا
ظاهر الحديث يدل على أن قبض العلم يكون شيئاً بعد شيء ولا يكون مرة واحدة والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الأعمال خَلْق للرب وكسب للعبد لأنه لا يقبض إلا ما قد أعطى فالقبض بمعنى الاسترجاع وقد صرح عليه السلام بإعطاء الله ذلك لعبيده وبَيَّنَهُ في حديث تقدّم بيانه قال فيه من يُرِد الله به خيرا يُفقَهْهُ في لأن العلماء الدين ۱ فهذا الخلق الله قد ثبت بالنقل وأما الكسب فهو مشاهد مرئي محسوس ينقلون العلوم ويدرسون وهو تكسبهم الوجه الثاني الألف واللام في هذا العلم المذكور يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن تكون للعهد والأظهر من الاحتمالين العهد للقرينة التي أتت في الحديث بعد تبيينه وهو قوله ضَلُّوا ٢ وأَضَلُّوا والضلال المحذور إنما هو فيما عدا العلوم الشرعية لأن العلوم الشرعية هي التي بها الهداية ولا يقال لغيرها من العلوم هداية مطلقة حتى تخصص باللفظ فيقال هداية لكذا وضلال عن كذا والعلم المذكور هنا المراد به الفهم في كتاب الله وسُنّة نبيه عليه
4
r
۱۹۱
السلام
۱ هو الحديث التاسع من هذا الكتاب الرواية فضَلُّوا
الوجه الثالث لقائل أن يقول ظاهر هذا الحديث مُعارِض لما روي عنه عليه السلام في الكتاب العزيز أنه يُرفع جملة واحدة وقيل له يا رسول الله أوليس قد وعيناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا وعلمناه أبناءنا ونساء نا فقال عليه السلام تأتي عليه ليلة يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور ولا في المصاحف منه شيء۱ ثم تلا قوله عزّ وجلّ وَلَيِن شِئنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا
في
والجواب أنه لا تعارض بينهما بدليل ما نقلناه عن الأئمة بأن العلم نور يضعه الله القلوب فيقع بذلك النور الفهمُ في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه السلام وقد نطق الكتاب والحديث بهذا المعنى وبيّنه ۳ أتمّ بيان فأما الكتاب فقوله عَزَّ وجلّ ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ٤ ولا يُفهم معاني القرآن وأحكامه إلا بالنور ومهما فقد النور وقع الضلال
نعوذ بالله من ذلك
ε
وأما الحديث فقوله عليه السلام إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثيرٌ مُعطوه العملُ فيه خيرٌ من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليلٌ مُعطوه كثيرٌ سائلوه والعلم فيه خيرٌ من العمل ٥ فقد جعل عليه السلام أولئك يفهمون وهؤلاء لا يفهمون مع أن هؤلاء أكثرُ حفظاً وأكثرُ ضَبطاً للحروف وأتى بذلك في معرض الذمّ لهؤلاء لكونهم لا يفهمون الأحكام فلم يبق إلا أن يكون النور الذي كان عند أولئك عَدِمه هؤلاء فرجع المساكين مثل بعض من تقدّم من الأمم الماضية نَقَلةٌ وحَمَلةً لأن الله عزّ وجلّ قد وصفهم بذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٦ وها هو اليوم قد كثر هذا الأمر وتفاحش لأن النّقَلَةَ والأسفار قد كثرت والقليل النادر من تجد عنده طرفاً من العلم الذي هو النور فهذا العلم هو الذي يُقبَض شيئاً فشيئاً فما يزال يرتفع
۱ رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود موقوفاً عليه
سورة الإسراء من الآية ۸٦ ۳ يريد وبَيَّناه
٤ سورة النساء من الآية ٨٣
٥ أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف العراقي على الإحياء
۱۷/۱
٦ سورة الجمعة من الآية ٥
۱۹
شيئاً فشيئاً حتى يُرفع المصحف فإذا رُفع المصحف ارتفع معه ذلك الطرف من النور الذي بقي عندهم فيبقون بعد ذلك في الضلالة يتخبطون وعن طريق الحق زاهقون مع أن الأحكام تبقى عندهم مسطورة في الكتب لكن لعدم النور وارتفاع الأصل لا يفهمون تلك الأحكام ففي ابقاء الأصل بشارة ببقاء ذلك النور وإن قل
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ نعت عليه السلام القبض أولاً بالنزع ثم نعته بعد ذلك بصفته التي هي القبض
والجواب أن الانتزاع فيه شدة وغلظة والقبض فيه لين وتسهيل فأخبر عليه السلام بأن شدة الانتزاع لا تكون وإنما يكون قبضاً برفق لا سيما وقد جعله عزّ وجلّ مغطى بحكمة قبض الوعاء وذلك ألطف وأخف لأنه لو كان قبضه بادياً دون حكمة تستره لكان العالم يجد منه خوفاً
ووحشة وهو عزّ وجلّ بعباده رؤوف رحيم لأن العالم إذا مات لم يقطع الناسَ إياسُهم بأن الله عزّ وجلّ يقيم عالماً مقامه فإذا أقيم ذلك العالم مقام الأول انجبرت النفوس ولم يحصل لها علم بمقدار من قبض ومن أقيم فبقيت الآمال في الفضل راجية والعين بما أبدلت قريرة وهذا أبدع ما يكون من اللطف والحكمة
الوجه الخامس إذا قبض العالم ثم أقيم آخرُ مكانه هل يكون مثله فيجبر تلك الخَلَّة وقعت في الإسلام أم لا
التي
ظاهر الحديث يفيد أن لا ويعارضه قوله عليه السلام إذا مات العالِم تُلِمت في الإسلام ثلمة لا يَسدُّها إلا عالم آخر ٢ فظاهر هذا معارض لما نحن بسبيله وليس بينهما تعارض في الحقيقة لأنه إذا مات الأول وقام الثاني فسدّ تلك الثَّلمة فهو معلوم بالضرورة أنه ليس كالأول على حد سواء لأن الثوب المرقع ليس كالصحيح وكلاهما يستُر وإن كان لا بخس ۳ المرقع وهذا موجود حسّاً ولا سيما إذا قلنا بأن العلم - كما قدمناه عن أئمة الدين - نور يضعه الله في القلوب فنقصه معلوم بالضرورة وموجود حسا لأن نور الصحابة رضي الله عنهم ليس كنور
في
۱ الإياس من أيستُ منه ايس يأساً لغة في يئست منه أيأس بأساً ومصدرها واحد والإياس واليأس بمعنى واحد اللسان أيس مروي بالمعنى عن أبي الدرداء مرفوعاً موت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد رواه الطبراني وفيه مجاهيل وعن عائشة رضي الله عنها رفعته موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسد ما اختلف الليل والنهار رواه البزار بإسناد ضعيف ورواه البيهقي في شعب الإيمان من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ٢ / ٢٦٨ بإسناد صحيح ۳ البخس النقص العيب
۱۹۳
التابعين ونور التابعين ليس كنور تابعي التابعين ثم كذلك جيلاً بعد جيل ففي كل جيل يرتفع منه
شيء ويقل
ولأجل هذا المعنى كان العلم أولاً في صدور الرجال ثم انتقل إلى الأوراق والكتب وبقيت مفاتيحه في صدور الرجال ثم الآن كثرت الكتب والأسفار وقلت المفاتيح وإن وجد مفتاح فقلما يكون مستقيماً إلا النادر القليل
ثم رجعت العلوم الشرعية مثل علوم القرآن والحديث كقدَح الراكب وما بقي النظر إلا بعض علوم الفروع وانصرفت الهمم إلى علم الجدل والمنطق وعلم النجوم وعلم الطبائع وما أشبه ذلك فارتكبوا النهي واستقرّت سنَّتُهم الذَّميمة عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تجعلوني كقدح الرَّاكب ٢ وهؤلاء قد اتخذوا القرآن والحديث كذلك ثم يريدون الكلام في دين الله بتلك العلوم الرديئة فمن كان باكياً فليبك على ذهاب العلم وأهله والدين وضعفه فإنا لله
وإنا إليه راجعون
فمنذ انتقل النبي إلى رحمة ربه أخذ العلم في النقص شيئاً بعد شيء إلى هلمّ جرّاً إلى أن يُرفع القرآن وقد نصَّ بعض الصحابة على هذا المعنى وبيّنه حيث قال لم ننفض أيدينا من التراب حين دفنا النبي و إلا ووجدنا النقص في قلوبنا ۳ لكن كان النقص في ذلك الوقت لا يعرفه إلا أهل القلوب وكذلك في القرن الذي بعده وكذلك في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فالعلم إذ ذاك ينقص وهو في الظاهر متوافر متزايد لكثرة العلماء
وكثرة الكتب
والمعنى الخاص الذي أشرنا إليه لا يعرفه إلا من أشرنا إليه وهم أهل القلوب ولذلك قال أسامة بن زيد رضي الله عنه إني لأسمع منكم في اليوم أشياء مراراً لا تبالون بها كنا نَعُدُّها في زمان رسول الله الله من الموبقات أو كما قال ثم بعد القرن الثالث رجع النقص يظهر لسائر الناس ويستبين وها هو اليوم أظهر من الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب
۱ قدح الراكب هو الإناء المعد للشرب وجمعه وجمعه أقداح وقدح الراكب يعلقه الراكب في آخر رحله عند فراغه
من ترحاله ويجعله خلفه
أي لا تؤخروني في الذكر والحديث عزاه السخاوي في القول البديع لعبد بن حميد والبزار في مسنديهما وعبد الرزاق في الجامع وابن أبي عاصم في الصلاة والتيمي في الترغيب والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في
الحلية وغيرهم كثير وكلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف والحديث غريب ۳ لعله معنى لحديث أنس رضي الله عنه قال والله ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نفضنا أيدينا من ترابه حتى أنكرنا قلوبنا رواه البخاري والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي
١٩٤
الوجه السادس لقائل أن يقول هذا الحديث معارض لقوله عليه السلام في الحديث المتقدم لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يَضِرُّهم مَن خالفهم حتى يأتى أمر الله ۱ وأخبر هنا بأن العلم يقبض وإذا قبض العلم بقي الجهل فيقع الضلال كما قد نَصَّ النبي ل عليه والجواب أنه لا تعارض بينهما لأن المراد بالطائفة المذكورة - في الحديث المتقدم ـ أنها تبقى موفية بالحق الذي يلزمها لا تخلّ منه بشيء وأما العلم الذي هـ النور فليس هو عندهم كما كان عند من تقدمهم يؤيد هذا المعنى قوله عليه السلام أنتم في زمان مَن تَرَك عُشْرَ ما أُمِرَ به هلك ويأتي زمان مَن فَعَل عُشْرَ ما أُمِر به نجا ۳ يريد في أعمال البر من المندوبات عدا الفرائض لأن الفرض في أول الزمان وآخره مطلوب على حد سواء وإنما المعتبر هنا الذي عليه وقع النص ما عدا الفرض من أعمال البر لأن الدين مطلوب بفرضه وندبه وادابه ونفله وكان الصدر الأول رضي الله عنهم يحافظون على توفية جميع ذلك وكان النبي يطلب ذلك منهم ويحرضهم عليه مثل ما روي عنه عليه السلام أنه هَمَّ أن يحرق بيوت قوم كانوا لا يشهدون الجماعة وشهود الجماعة على الواحد مندوب وكذلك ما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يطلبون من الناس تسوية الصفوف ۳ وتسوية الصفوف في الصلاة من المندوب فكانوا رضي الله عنهم يحضون على ذلك أكثر الحض ويَحرِصون عليه أكثر الحرص لئلا يقع لهم خلل في شيء من ذلك فيقعون في ترك ما حُدَّ لهم
وأما اليوم فذلك لا يُتَصَوَّر لِمَا حَدَث في الأعمال من البدع والمنكرات وقلَّ أن يتخلص العُشْرُ إلا بالجهد الكبير ونعني بالخلاص هنا أن يقع العملُ على ما حُدَّ وشُرِع دون بدعة ولا منكر ومثال ذلك شهود الجنازة والصلاة عليها أو حضور العرس وما أشبه ذلك قلّ أن يقدر الإنسان أن يفعل شيئاً من ذلك لِمَا كَثر فيه من البِدَع الفاحشة والمناكر المتلفة إلا نادر قليل فليس تركهم للتسعة الأعشار رغبةً عنها ولا زهداً فيها ولو كان كذلك لما نَجَوْا وإنما هو من أجل ما قررناه فالطائفة المذكورة المراد بها ما بيناه هنا من أنها لا تنقص مما يلزمها شيئاً
الوجه السابع يظهر من الحكمة في نقص هذا العلم وجهان
الأول أنه لما كان العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام فمعلوم بالضرورة القطعية أن
1 متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه بلفظ لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس انظر الحديث ۱۱
33
رواه الإمام أحمد والترمذي بسند ضعيف وأوله إنكم في زمان إلخ انظر فيض القدير للمناوي
معنى الحديث رواه مسلم کتاب المساجد
١٩٥
العلماء ليسوا كالأنبياء وذلك موجود مشاهد في عالم الحس لأن الوارث أبداً ليس كالموروث من
كل الجهات وإن كان يرث جميع المال لأن المتوفّى ينفرد بالكفن ومؤنة الدفن وما يحتاج إليه في تجهيزه فقد نقص من المال شيء ما دخل مع الموروث في قبره لا ينتفع الوارث به ولا يستطيع الوصول إليه هذا إذا لم يُوص فإن أوصى فقد أباحت له الشريعة الوصية بالثلث فقال
موتكم
عليه السلام إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم تتصدقون بها عند موتكم فحجزه عن الوارث والحكمة فيما نحن بسبيله من هذا القبيل لأن كل من أنعم عليه بشيء لا بد أن يختص منه
بشيء لا يناله غيره بمقتضى الحكمة
الثاني أن الوعاء له اشتراك ما مع ما أودع فيه فلا بد أن يصحبه منه شيء يدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودَع فيه مثال ذلك أوانٍ مملوءة إحداها زيتاً والأخرى عسلاً والأخرى سمناً إلى غير ذلك من الأشياء فلا بد أن يبقى في الوعاء بقية تدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودع فيه وإن كانت العلوم أنواراً لا ينقص من أعيانها شيء لكن لما أن شاء الحكيم أن يُرفع من أوعيتها شيء منها وقع ظهور النقص في هذا العالم فاتحدت النسبة بمقتضى الحكمة كما أشرنا
ولذلك قال أهل التحقيق عدد الطرق إلى الله عزّ وجلّ على عدد الأنفاس لأنه ليس كل شخص حاله كمثل حال الآخر من كل الجهات وإن وقع الشبه بين الحالتين فلا بد من فرق ما بينهما كما هو مشاهد في عالم الحِسَ فصُوّر الناس في وضع الخلقة على حد واحد وليس في حقيقة الشبه كذلك لأن كل واحد يختص بصفة ما يمتاز بها في النعت عن غيره وإن أشبهه في أكثر الصفات وكذلك جميع الحيوانات على اختلاف أصنافها على حد واحد في صفة وضع الخلقة وليس كذلك في حقيقة الشَّبه فسبحان من أظهر أثر عظم قدرته بجميل وضع حكمته في
جميع بريَّتِهِ
ولأجل هذا المعنى - الذي أشرنا إليه - أحال عزّ وجلّ في كتابه بالنظر إليه ليستدل به على وحدانيته فقال عز من قائل سَنُرِيهِمْ وَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ۳
الوجه الثامن قوله عليه السلام حتى إذا لم يُبْقِ عالِماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا فيه دليل على أن الضلال المخوف لا يقع مهما بقي من الطائفة
1 يريد هو ما
رواه الترمذي بلفظ إن الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم ۳ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٩٦
المذكورة واحد لأن تلك الطائفة هم الذين تمسكوا بالعلم وعملوا به لأنه مهما بقي عالم واحد على الحق لم تضر الضلالة وإن ظهرت لعدم الاجتماع عليها وقد قال عليه السلام لن تجتمع أمتي على ضلالة ۱ وكثير ما بين الظهور والاجتماع لأن الاجتماع هي الحالقة ٢ أعاذنا
الله من ذلك بمنّه
يبين هذا ويوضحه ما روي أن أحد أنبياء بني إسرائيل مرّ على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال يا رب ! كيف أهْلَكْتَهم وكنت أعرف فيهم رجلاً صالحاً فأوحى الله إليه أنه لم يَغَر ۳ لي قطُّ يوماً واحداً فأفاد ذلك أن موافقته لهم على الباطل وإن كان يعرف الحق كانت سبب هلاكهم ولو خالفهم ما هلك ولا هلكوا
الوجه التاسع في هذا المعنى وجه من الحكمة والاعتبار وذلك أنه لما أن جعل عزّ وجل هذه الدار للتغيير والذهاب جعل كل ما فيها بمقتضى الحكمة بتلك النسبة يلحقه النقص والذهاب لأن أجَلّ ما فيها العلم والإيمان وها هما يلحقهما النقص حتى يذهبا فلحقت علة الدار لسكانها
وما فيها
الوجه العاشر في هذا المعنى دليل ترغيب للزهد في هذه الدنيا وتحريض على تركها إذ هي وما فيها للنقص ففي ماذا الرغبة وعلى ماذا التعب
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن بلاء هذه الدار أكثر من خيرها لأنه إذا قلَّ العلم والإيمان وهما عَيْنُ الخير كثر ضدهما وهما الكفر والجهل فهما موجبان للشر بل هما عينه الوجه الثاني عشر يؤخذ من هذا الفقه تأكيد التخلّي عن الالتفات لهذه الدار وما فيها لمن العامة عقل إذ إن خيرَها يَقِلّ وشرَّها يزيد فخيرها نادر و شرها كثير موجود وقد قال علي بن أبي الله عنه لو كانت الآخرة من خَزَف وهي باقية والدنيا من فضة وهي فانية لكان يقتضي الزهد في الدنيا وإن كانت من فضة لِكَوْنها فانيةً والرغبة في الآخرة وإن كانت من خزف لكونها باقية فكيف والأمر بضد ذلك
طالب رضي
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن حقيقة الرئاسة لا تكون إلا بالعلم إذا كان على حقيقته -
1 رواه الإمام أحمد والطبراني والترمذي وابن ماجه والحاكم عن عدد من الصحابة الكرام يريد بـ الاجتماع اتفاق الناس جميعاً على ضلالة دون أن يكون فيهم رجل واحد ينكر تلك الضلالة وذلك ما عبّر عنه المؤلف رضي الله عنه بكلمة الحالقة ويعني بها التي تحلق الدين لا التي تحلق الشعر ۳ لم يَغَر لم تثر نفسه غَيْرة والفعل غار يغار غَيْرة يقال غار الرجل على زوجته أي ثارت نفسه لإبدائها زينتها ومحاسنها لغيره فهو غيران وهي غيرى والجمع غيارى وغير
۱۹۷
وهو أن يكون الله خالصاً على مقتضى الكتاب والسنة - وأن رياسة غير العالم ليست بحقيقة لأنه عليه السلام نَصَّ على أن العالم ما دام بين أظهرِ الناس دام به الخير وأن الجاهل إذا كان مكانه وقع به الضلال والهلاك والعلة في هذا المعنى ظاهرة بادية لأن كل الناس يحتاجون إلى العالم ليرشدهم لطريق ربهم ويبين لهم أمره ونهيه وغير العالم ليس كذلك لأنه قد يحتاج إليه بعض الناس في تلك اللحظة التي رأس بها وقد لا يحتاج إليه وهو الكثير ولهذا المعنى قال عليه السلام نِعمَ الرجلُ العالم إن احتيج إليه نَفَع وإن استغني عنه أغنى نفسه۱ ومعنى الغنى هنا الغنى بالله عزّ وجلّ فهذه هي حقيقة الرئاسة وقد بدا الآن ظهور ما أخبر عنه الصادق عليه السلام رأسوا بغير علم فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وضلّ من اتبعهم فلينتبه الجاهلُ المسكينُ من غفلته وليفق من سكرته وليحذر من هذا الأمر العظيم الذي حلّ به
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أنه لا بد للناس من رؤوس بمقتضى الحكمة لأنه عليه السلام أخبر أن العالم إذا عُدِم لم يبق الناس لأنفسهم كذلك وإنما يتخذون رؤوساً غير ذلك الصنف لتشبههم بهم فيقعون إذ ذاك في الضلال كما أخبر عليه السلام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أن أخذ الأشياء على غير ما أحكمته الشريعة لا يوجد لها فائدة بل تنعكس الفائدة بالضرر لأن العوام لم يتخذوا هؤلاء الجهال رؤوساً إلا لأجل الفائدة التي عهدوها ممن تشبَّهوا بهم وهو الإرشاد لما يصلحهم كما تقدم فلما لم تكن فيهم الشروط التي أحكمتها الشريعة جاءهم إذ ذاك ضد ما أرادوه وهو الضلال
الوجه السادس عشر فيه دليل لمن يقول بأن العالم لا يلزمه التعليم قبل السؤال لأن الفتيا لم تقع حتى وقع السؤال
r
الوجه السابع عشر فيه دليل على أن البهرجة لا تجوز على عالم لأن العوام إنَّما اتَّخذوا هؤلاء الجهَّال رؤوساً لأجل تشبههم بأهل العلم في الكتب مثلاً وفي جنس الكتب والنظر فيها فلما رأى الناس ما جرت العادة به يكون علماً على العلم - وهو النور كما تقدم في وصفه قبل - ظنوهم من الرؤوس حقيقة فصحت البهرجة عليهم ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۳ رحمه الله لِقِلَّةِ العقلاء لم
يُعْرَفِ الحَمْقى
۱ رواه الديلمي في مسند الفردوس ۱۰/۵ وذكر محقق الفردوس عن سلسلة الأحاديث الضعيفة أنه موضوع
لا تجوز لا تنطلي لا تخفى ۳ تقدمت ترجمته في الحديث
۱۹۸
وهذا المعنى بنفسه قد ظهر اليوم في زماننا هذا وكثر وتفاحش قوم يقرؤون النحو والأصول والمنطق وعلم الكلام وعلم الطبائع وما أشبه ذلك ثم يدّعون بها الرئاسة ويريدون أن يفتوا في دين الله بتلك العلوم ويرجع ذلك عندهم بعقولهم الفاسدة حتى إن بعضهم يدعي الاجتهاد على زعمه ويُخطىء من تقدَّم من الفضلاء وأئمة الدين وذلك لقلة فهمه لما قالوا وسوء لأنه لو حسن بهم الظن لعاد عليه من بركتهم بما يفهم من كلامهم
ظنه بهم
فالحذر الحذَرَ من هذه الطائفة الرديئة وقد حذر عليه السلام منها وبينها أتم بيان فقال يأتي في آخر الزمان أقوام يحدّثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ۱ أو كما قال عليه السلام فخُذ ما تعرف ودَع ما تنكر وعليك بِخُوَيصَّةِ نفسِك
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن العامّي وظيفته السؤال والامتثال دون بحث لأنه عليه السلام لم يجعل لهم في الحديث وظيفة إلا السؤال وامتثال ما أشير عليهم في ذلك السؤال وإنما ضلوا إذ إنهم لم يصادفوا الرأس الحقيقي
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن من عمل بفتوى على غير وجهها يلحقه من الإثم مثلما يلحق المفتي بها لأنه عليه السلام قد جعله ضالاً كما جعل ضَلال المفتي له بذلك سواء يؤيد هذا المعنى ويزيده إيضاحاً ما روي عنه عليه السلام في الضد أنه قال العالم والمتعلم شريكان في الأجر ٢
الوجه العشرون فيه دليل على أن الجاهل لا يُعْذَر بجهله عند وقوعه في المحذور لأنه عليه السلام قد جعل العوام الذين لم يصيبوا بفتياهم أهلها ضالين مثل الذين أفتوهم بها مع أنهم المساكين جاهلون بالأمر ليس لهم معرفة بما يميزون الفتيا الصحيحة من السقيمة
فارجع أيها الهائم إلى طريق الرشاد قبل سبق الحرمان بغلق الباب وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
السلعة
۱ رواه الإمام أحمد في المسند ومسلم في المقدمة رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله
۱۹۹
اوهاية
1801
حديث الحساب والعرض
عن عائشة زوج النبي لا أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي لا الله قال مَن حوسِب عُذَّبَ قالت عائشة فقلتُ أوَليس يقولُ الله عزّ وجلّ ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ١ فقال إنّما ذلك العَرْض ولكن من نوقِش الحِساب يَهْلِك
ظاهر الحديث يدل على أن الهلاك مع المناقشة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن حوسب عُذَّب هل هو على عمومه أو على الخصوص فالظاهر أنه خاص لكونه خصصه بعد بالمناقشة وعلى مقتضى الآثار مع اختلافها ينقسم الحساب على أقسام
فمنه عَرْض - كما أخبر في باقي الحديث - وقد جاء ما يبين كيفية هذا العرض في حديث ثانٍ حيث قال إنّ الله عزّ وجلّ يحاسب عبده المؤمنَ سرّاً فيلقي كَنَفَه عليه ويقول يا عبدي فعلت كذا في يوم كذا فعلت كذا في ساعة كذا فلا يمكنه إلا الاعتراف حتى يظن أنه هالك فيقول يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفِرُها لك اليوم اذهبوا بعبدي إلى الجنّة فإذا رأه أهلُ المَحْشَر يقولون طُوبَى لهذا العبد لم يَعْصِ الله قطُّ۳ فهذا بيان العَرْض المجمل هنا
لأنه عَرْضُ ولا عقاب فيه
ومنه نوع آخر وهم الذين لهم وعليهم فيُؤخَذ منهم فيُعطى فيما عليهم فتكون حسناتهم
بالسوية مع سيئاتهم فيبقى لهم الإيمان يدخلون به الجنة وهذا نوع من العَرْض
۱ سورة الانشقاق الآية ٨ كَنَفُ الله رحمته وسَتْرُهُ وحِفْظُه
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه والحديث هنا مروي بالمعنى
۰۰
يشهد لهذا ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي النبي يوماً فقال يا رسول
الله بماذا بُعِثْتَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالعقل قال ومَن لنا بالعقل يا رسول الله قال إن العقل لا حَدَّ له ولكنْ مَن حرَّمَ حرام الله وحلل حلالَه سُمِّي عاقلاً فإن اجتهد سُمّي عابداً فإن اجتهد سُمِّي جواداً فإن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بغير حظ من عقل يدلّ على اتباع ما أَمَرَ الله واجتناب ما نَهى الله فَأُولئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعا 1
وكذلك أيضاً إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال فهذا أيضاً يقع في المغالبة من وجهين أحدهما العجز لقوله إنّ المُنبَيَّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبْقَى لأن البشرية لا تحتمل ذلك الثاني أنه قد يجتمع عليه في وقت أو في جل الأوقات أنواع من الواجبات والمندوبات في زمن فرد ولا يقدر إلا على أحدها فقد وقع في المغالبة لأجل ما أخذ نفسه به وإنما حال الكمال في هذا أن يأخذ نفسه أولاً بما أشرنا إليه ويعمل على متضمن الكلام على بقية الحديث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول لم لم يقل عليه السلام ولن يُشادَّ رجل أو امرأة وقال بدله أحد قيل له ذلك يدل على فصاحته وبلاغته لأن أحداً في اللفظ أقل كلاماً وأكثر فائدة ولأنه يطلق على الذكر والأنثى والقوي والضعيف والحر والعبد والعالم والجاهل والعَلِيّ والدَّني
على اختلاف أحوال العالم
الوجه الثالث قوله صلى الله عليه وسلم فَسدَّدوا وقاربوا احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد
واحتمل أن يكونا لمعنَيَيْنِ
فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى ولم يكن بالدون فهو متوسط بينهما
وإن كانا لمعنيين فيكون المراد بـ سدّدوا الأخذ بالحال الوسط على ما تقدم والحال الوسط هو ما نَصَّ النبي لا اله الا هو عليه في حديث عبد الله بن عَمْرو حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم صُمْ وأفطر وقُمْ ونَمْ وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقًّا ثم عمَّم بعد ذلك فقال وأعطِ
1 لم تعرف مصدر الحديث أما الآية الكريمة فهي في سورة الكهف من الآية ١٠٤ رواه البيهقي في السنن وفي شعب الإيمان قال الزبيدي فيه اضطراب روي موصولاً ومرسلاً ومرفوعاً و موقوفاً والمنبَتْ هو من جهد دابته حتى أعيت والحديث يقال لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربّما يفوته على نفسه
۱۰۱
لكل ذي حق حقه فهذا هو السداد وهو أن يمشي المرء في الأمور كلها على ما فُرِض ونُدِب من
غير تغال ولا تقصير في جهة من الجهات
ويكون المراد بـ قاربوا أي من بلغ منكم إلى حد السداد الذي هو ما ذكرناه ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه لأن ما قرب من الشيء أعطِي حكمه وهذا بشرط ألا يقع بهذا التقريب خَلَل ولا نقص في شيء من الواجبات لأن الواجب إذا كان فيه شيء من ذلك لم يجز وغيره من المندوبات لا يقوم مقامه بل إنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه ويعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز إما لمرض أو غيره فحينئذ يطلق عليه أنه قارب
وقد نص عزّ وجلّ على هاتين الطائفتين معاً في كتابه أعني الطائفة التي أخذت بالسداد والطائفة التي أخذت بالتقريب فقال تعالى في حق الطائفة الأولى ﴿ وَالسَبِقُونَ السَّبِقُونَ أُوْلَيْكَ الْمُقَرَّبُونَ ۱ وقال في حق الطائفة الثانية التي لم تستطع الوصول لذلك المقام لكنهم قاربوا إليه إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلًا كَرِيمًا
وقد نضرب لهذا مثلاً ليكون أسرع للفهم أعني في كيفية السَّداد وفي كيفية التقريب فمثال ذلك أن يأتي الطالب أولاً لطلب العلم ويعمل جهده على أن يكون من العلماء فإن قدر على ذلك فيها ونِعْمَتْ لأنه يكون بذلك في الطائفة التي أخذت بالكمال وهو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلي نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع لأن النبي قال طَلَبُ العِلم فريضة على كل مسلم ۳ فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد
وكذلك أيضاً يأخذ نفسه في التعبد بعد توفية الفرائض وإن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه الله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلي نفسه من طرف منه لإخباره عليه السلام أنه إذا كان يومُ
1 سورة الواقعة الآيتان ۱۰ و ۱۱ سورة النساء من الآية ۳۱
۳ رواه ابن ماجه وقال في الزوائد إسناده ضعيف وقال السيوطي كما نقل محقق مصابيح السنة سئل النووي عن هذا الحديث فقال ضعيف وقال تلميذه المزي هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وقال الشيخ أبو غدة في تحقيق الأجوبة الفاضلة صححه السيوطي ولم يسبق بتصحيحه وعده من المتواتر حيث ذكره في الأزهار النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ٤ جزء من حديث أخرجه البخاري مرفوعاً في الرقاق ومطلعه من عادى لي وَلِيّاً
۱۰
القيامة يُنظر إلى صلاة العبد فإن وَفّى وإلا قال تعالى انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها ۱ وكذلك في جميع الفرائض إذا نقص منها يُنظر في النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيُجبر منها فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يُخاف عليه من عدم التوفية فيستحق العذاب
يدل على ذلك ما روي أن النبي الله ورأى رؤيا في منامه وكان مما رأى فيها رجلٌ يُشْدَخ ۳ رأسه فسأل عنه فقيل له رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة ۳ ومعلوم أن قيام الليل ليس بواجب وكيف يعذَّب على ما ليس بواجب والعذاب لا يقع إلا على ترك الواجب أو وقوع الخلل فيه لكنه وإن كان قيام الليل مندوباً فالعذاب إنما يقع على وقوع الخلل في الواجب بيان ذلك أنه لما لم يكن ليعمل فيه بالنهار فقد أخَلَّ بالواجب وهو لم يعمل المندوب الذي هو قيام الليل من حيث أن يجبر له الفرض به فوقع العذاب على ترك الواجب في الحقيقة وهو في الظاهر عليهما معاً
ثم كذلك أيضاً إن قدر أن يكون من الموقنين بعد توفية الإيمان المجزىء فليفعل فإن عجز
عنه فلا يُخْلي نفسه من طرف منه لقوله عليه السلام تعلموا اليقين فإني أتعلمه وقد حصل بما أشرنا إليه كفاية في ضرب المثال لما أردنا بيانه في التسديد والتقريب فنرجع
الآن إلى الكلام على الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا على ضربين أحدهما معلوم محدود و الثاني معلوم لا حد له
فأما المعلوم المحدود فهو ما يُرجى من قبول الأعمال والثواب عليها لأن الثواب عليها محدود بإخبار الشارع عليه السلام على ما نقل عنه وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ ٤ وقال عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ ﴾ ٥ وأما المعلوم الذي هو غير محدود فهو ما وعد عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ٦ فالزيادة معلومة عند الله تعالى مجهولة عندنا
1 رواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٢ يشدخ يشق
۳ رواه البخاري ومسلم وسيرد شرح له
٤ سورة الزلزلة الايتان ۷ و ۸
٥ سورة الأنبياء من الاية ٤٧ ٦ سورة النساء من الآية ۱۷۳
وفيه دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين لأنه عليه السلام لم يقل أبشروا إلا بعد
ما نص على العمل الذي يوجب البشارة وهو التسديد والتقريب لمن عمل بهما فأتى بالبشارة للعاملين بذلك وهو مثل قوله تعالى في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ۱ فنصَّ عزَّ وجلّ على أن من فعل ما ذكره من الأعمال هو الذي يرجو رحمته عزّ وجلّ وكذلك فيما نحن بسبيله من أخذ بالتسديد والتقريب على نحو ما تقدم فهو الذي يستبشر
ولقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام أبشروا ولم يقل أيقنوا والجواب من وجهين الأول أن الإيقان قطع بالأمر والقطع لا يكون إلا الله وحده وإنما لغيره قوة الرجاء لا غير لأنه ليس للعبيد حق وجوب على الإله وإنما هو من طريق الفضل والمَنّ وما كان من طريق الفضل والمن فلا يطمع فيه إلا بقوة الرجاء لا أنه يكون حتماً وقد قال الله تعالى في كتابه وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ﴾ ٢ فتكون قوة الرجاء في هذا الوعد بحسب ما يرجى من عظيم الفضل اللائق بالجلال والكمال
الثاني أن ذلك سد للذريعة لأنه لو قال أيقنوا لحصل به للضعفاء اغترار وهو عين الهلاك وربما يكون ذلك سبباً للتقصير في العمل مع كونه مهلكاً وهذا بخلاف البشارة لأن البشارة رجاء ونفس الرجاء يشرح الصدر وينشط للعمل وتنتعش به الروح الأبية
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغُدوة والرَّوحَة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا تنقسم ثلاثة أقسام مستعين ومستعان به ومستعان عليه فالمستعين هو المؤمن والمستعان به أصله إعانة بعض لبعض لغرض ما من الأغراض كما روي في الحديث ويعين الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة ۳ أي يحمله له حتى يبلغه للموضع الذي أمل والاستعانة هنا على وجهين استعانة بالزمان واستعانة بالعمل
فأما الاستعانة بالزمان فهي ما في طَرَفَي النهار من اعتدال الهواء ونشاط النفس فيهما وما روي أن العمل فيهما أزكى مما في غيرهما قال عزّ وجلَّ في كتابه خطاباً لنبيه عليه السلام وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ 4 وقال تعالى على لسان
ها
1 سورة البقرة من الآية ۱۸
سورة التوبة من الآية ۱۱۱
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ سورة الكهف من الآية ۸
0
نبيه عليه السلام اذْكُرْني ساعة بعد الصُّبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما۱ والدلجة أيضاً كذلك لأن الدّلجة هي آخر الليل وآخر الليل هو أبداً للبدن أقوى لأنه قد أخذ راحته من النوم والغذاء وقد ورد فيه من الفضل كثير فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام يَنزِلُ ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا - وفي رواية كلّ ليلة في ثلث الليل الأخير - فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوبَ عليه فإذا كان عزّ وجلّ ينادي هكذا كلَّ ليلة في آخرها فمحال أن يدعو أحد إذ ذاك أو يتوب أو يستغفر فيُرَدّ لأن الله لا يُخلف الميعاد والمراد بالنزول هنا نزولُ طَوْلٍ ومَنَّ ورحمة دون حلول ولا انتقال
وأما الاستعانة بالأعمال فهي أن تُعمَّر هذه الأوقات المذكورة بأنواع الطاعات وإذا عُمّرت بذلك لم يبق بعدها إلا الأوقات التي جعلت للراحات وهي ما نص عزّ وجلّ عليها في كتابه حيث قال يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَعْدِنَكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَتُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحلم مِنكُر ثَلَثَ مَرَّتٍ مِن قَبْلِ صَلوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتِ اَ
فعلى هذا فمفهوم هذا الحديث ما نص عليه السلام عليه في حديث اخر حيث قال روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة ٤ لكنه عليه السلام زاد في الحديث الذي نحن بسبيله تعيين الأوقات التي جعلت للعبادة أي جُعِلت العبادة فيها أفضل من غيرها من سائر الأوقات
وإذا قلنا بهذا ـ وهو أن المطلوب عمارة هذه الأوقات بالطاعات - فهل ما يُعمَّر بها من الأعمال معيَّن أو غير معيَّن احتمل الوجهين معاً
فإن قلنا بالتعيين فهي الصلاة لأنها هي التي تسبق للذهن وإذا قلنا بأنها الصلاة فما الحكمة في تعيينها دون غيرها فنقول - والله أعلم - إنها إنما اختصت بهذه الأوقات وجعلت سبباً للاستعانة لما فيها من التعظيم الله والافتقار إليه والدعاء واللجأ إليه وما فيها من أنواع الخير على ما سيأتي بيانه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله
وإن قلنا بعدم التعيين فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لقوله عليه السلام
1 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ سورة النور من الآية ٥٨
٤ رواه الديلمي ۳۷۸/ برقم ۳۰۰٤ وعزاه الجامع الصغير لأبي داود في مراسيله وروى مسلم عن حنظلة بلفظ
یا حنظلة ساعة وساعة
۱۰
موضعُ الصَّلاة من الدِّين مَوضعُ الرأس من الجسد ۱ وهذا هو الأظهر والله أعلم لأنه قد تُفرَضُ في بعض الأوقات أعمال تكون أفضل من الصلاة بحسب الأحوال وهي كثيرة تتعدد
فعلى ما ذكرناه من هذا التعليل يترتب عليه من الفقه وجهان
أحدهما اغتنام نشاط النفس وخلو الشغل وقد نص عليه السلام على ذلك حيث
قال اغتنم خمساً قبل خمس وعَدَّ منها فراغَك قبل شغلك وصحتك قبل سَقَمِك الثاني اغتنام حسن الزمان واعتداله لأن ذلك مما يعين على العبادة وقد نص عليه
السلام على ذلك حيث قال أبرِدُوا بالصَّلاة ۳
وأما المستعان عليه فهو يحتمل وجوهاً الأول وهو أعمّها صلاح الحال في الدنيا والفلاح في الاخرة وهو بلوغ ما يؤمل من الخير على ما نص عليه العلماء الثاني أن يكون عائداً على التسديد والتقريب الثالث أن يكون عائداً على البشارة وما تتضمن إلى غير ذلك من الوجوه على مقتضى ما يحتمله الحديث على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى
هذا ما تضمنه البحث على هذا الوجه إن كان المراد بالدين الإيمان والإسلام معاً ثم نرجع الآن على ما اشترطنا إلى بيان الوجه الثاني فنقول
الوجه الثاني
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسْرُ قد يريد به الإسلام دون غيره وهي أفعال الدين على ما بيّناه
بيان ذلك أن الخطاب بالحديث إنما كان للمؤمنين والإيمان قد كان حاصلاً وإذا كان المراد به الإسلام فالكلام على بقية ألفاظ الحديث تَضَمَّنه الكلام على الوجه قبله فأغنى عن
إعادته
الوجه الثاني قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به أن الشيء الذي وُعِدتم أنكم تتخلصون به من الأعمال وضُمِنَت لكم به النجاةُ هو توفية ما فُرِض عليكم
۱ جزء من حديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ لا إيمان لِمَنْ لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهور له ولا دين لمن لا صلاة له وموضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي لا تُوغِلوا في المندوبات فيؤول بكم الأمرُ إلى أن تُخِلّوا بالفرائض فيغلبكم الدِّينُ ومثال هذا من يُكثر في طرف من المندوب ويترك شيئاً واجباً عليه من طرف آخر لم يفعله وكذلك أيضاً من يتوسوس في الطهارة حتى يفضي به الأمر إلى إيقاع الخلل فيها وكذلك في سائر التَّعبدات إن تعمّق فيها حتى يُخِلّ بالفرض منها فقد غلبه الدِّين لأن الدين هو الأصل الذي يتقرب به إلى ربه قد أخَلَّ به ولا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه عليه السلام لن يتقرب إليَّ المتقربون
بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم ثم لا يزالُ العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنتُ سَـ الذي يَسمعُ به وبَصَرَه الذي يُبصرُ به ويَدَه التي يَبْطِسُ بها ۱ وفي هذا إشارة إلى التربية بالتدريج في السلوك والترقي ومنع الأخذ بالقوة أولاً في التعبدات من نوافل الليل والنهار وغير ذلك لأن من يأخذ بذلك في بداءة أمره يغلبه الدِّينُ بالضرورة لقلة الرياضة فيما أخذ بسبيله
ومثل هذا ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَقَدَ سليمان بن أبي حَثْمَة ۳ في صلاة الصبح فلما كان من الغد مرّ على الشَّفَّاءِ أم سليمان فقال لها لم أرسليمان في الصبح فقالت إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحَبُّ إليَّ من
أن أقوم ليلة
فانظر كيف فضَّل حضور الصلاة في الجماعة على قيام الليل كله مع أن قيام الليل فيه من المشقة ما هو معلوم لكن لما أن كان ذلك القيام كله من جنس المندوب وال أمره إلى أن أوقع الخلل في فضل من فضائل المفروضات كرهه عمر رضي الله عنه فلو قام من الليل بعضه ونام بعضه وحضر الصلاة في جماعة لكان من الآخذين بالكمال ولم يقع عليه بذلك غلبة في نقص فضيلة ولا غيرها فإذا أخذ المرء أولاً نفسه بالرفق والرياضة في تعبداته حتى يصير له ما أخذ من ذلك عادة كانت العبادة عليه يسيرة لا مشقة عليه فيها حتى يبلغ بها النهاية وهو كأنه لم يزد على نفسه شيئاً كما يروى عن ابن السَّمَاك ۳ رحمه الله وهو من أحد شيوخ الرسالة أنه انتهت به نافلته في دكانه مع بيعه ألف ركعة في اليوم
1 رواه البخاري مرفوعاً في الزقاق ومطلعه من عادى لي وليا فقد اذنته بالحرب سليمان بن أبي حثمة هاجر صغيراً مع أمه الشفاء وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر رضي الله عنه على السوق وهو معدود من كبار التابعين
اسمه عبد بن أحمد الهروي ثم المكي المعروف بابن السماك المالكي توفي سنة ٤٣٤هـ / ١٠٤٣م محدث حافظ صوفي أصله من هراة وسمع ببغداد والبصرة وهراة و سرخس و بلخ و مرو و دمشق و مصر وحدث بخراسان و بغداد وجاور بمكة وبها توفي من مصنفاته تفسير ومستدرك على الصحيحين والسنة والصفات ومناسك الحج ودلائل النبوة وفضائل القران وفضائل مالك وكتاب الجامع وكتاب الدعاء وكتاب شهادة الزور وكتاب العيدين ومعجمان أحدهما فيمن روى عنهم الحديث والثاني فيمن لقيهم ولم يأخذ عنهم
۱۰۷
الوجه الرابع قوله عليه السلام فَسَدَّدوا وقاربوا أي قاربوا الجد ولا تأخذوا الأخذ الكلي الذي تصلون به إلى المشادة فيغلبكم الدين و سددوا أي ليكن جِدُّ كلِّ شخص على ما تقتضيه بِنْيَتُه وطاقته ومزاجه
ومن هذا الباب راح كثير من العباد لأنهم يأخذون أنفسهم أولاً بأن يعاندوا من ليس مثلهم من أهل النهايات فيأخذوا مأخَذهم ويسلكوا مسلكهم فيُقطع بهم في الحال عنهم لأنه قد يكون من أرادوا التشبه به أكثر قوة في بدنه منهم وأعدل مزاجاً وأخذ نفسه أولاً فيما هو بسبيله الآن بالتدريج في السلوك والترقي حتى صار له ما هو بسبيله من التعبد مزاجاً كما حكيناه عن ابن السماك ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۱ - رحمه الله - الإمام في الطريقين - حذارِ حذارِ أهلَ - البدايات أن تَتَشَبَّهوا بأهل النهايات فإن هناك مقامات لم تُحْكِموها فعلى هذا فالشأن الذي يُبلغ به المقصود إن شاء الله ويكون صاحبه من أهل السداد أن يُحكم أولاً الخَمْسَ التي فُرِضت عليه وهي السَّيرُ بواجباتها ومندوباتها والمحافظة عليها فإذا رجع له ذلك مِزاجاً أَخَذَ إذ ذاك بالرفق والسداد على ما أشرنا إليه في النوافل
الوجه الخامس قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي لمن زاد على الفرض ولم يقتصر عليه لأن الفرض قد جاء فيه ما جاء من الوعد الجميل في الكتاب والسنة في غير ما موضع فإن حملنا البشارة هنا على ذلك فهو تحصيل حاصل ونكون قد حملنا ألفاظاً جملةً على معنى واحد وليس ذلك بالمَرْضي عند العلماء وإنما يحمل كل لفظ على فائدة أو فوائد دون غيره من الألفاظ إنْ وُجِدَ لذلك سبيل وكفى في هذا دليلاً قوله تعالى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن
قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ولا ذاك إلا في النفل دون الفرض والبشارة هنا على معنيين الأول هو أنه إذا أخذ بعد الفرض باليسير من النفل فَلْيَسْتَبْشِرْ بالزيادة لمقتضى قوة البشارة حتى يبلغ ما أمل من الأحوال الشريفة والمنازل المنيفة بلا كلفة لأن حقيقة البشارة لا تكون إلا في المستقبل والبشارة بما قد وُعِد تحصيل حاصل وإنما سميت بشارة مجازاً لا حقيقة وإنما البشارة الحقيقية مثل ما تضمنه إخباره عليه السلام لكعب بن مالك ٣ أحد الثلاثة الذين
۱ يمن بن رزق إمام الطريقين أصله من طليطلة له مستدرك على الصحيحين وقضاء مالك وكتاب التوبة حدث في بغداد و خراسان وجاور بمكة وفيها توفي سنة ٣٦٠هـ ۹۷۰م
سورة السجدة من الاية ۱۷
۳ كعب بن مالك أنصاري خزرجي صحابي من أهل المدينة من أكابر الشعراء وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم
شهد العَقَبَة وأحداً والمشاهد كلها إلا تبوك فإنه تخلف عنها وهو أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم
وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَجُبَتْ الآية وهم كعب بن مالك وهلال
•
=
۱۰۸
خُلفوا حيث تيب عليهم فقال عليه السلام أبشر يا كعب بخير يومٍ طَلَعَت عليكَ فيه الشمسُ هذه هي البشارة الحقيقية وهي خَفِيَّة دقيقة لأن ظاهر اللفظ قد يستشكله السامع وقد استشكله بـ العلماء وقال كيف يكون هذا خير يوم طلعت عليه فيه الشمس وقد تقدمه يوم إسلامه وهو خروجه من الكفر إلى الإيمان وهذا القائل قد توهم أن هذا إشكال في الحديث وليس ذلك بإشكال بيان ذلك أنه أعقب يومَ إسلامه بهذا الذنب العظيم الذي استوجب به هَجْرَ النبي صلى الله عليه وسلم له والصحابة فلما تيب عليه هذه التوبة التي علم النبي و أنه لا معصية بعدها أخبره عليه السلام بأن ذلك خيرُ يوم طلعت عليه فيه الشمس لأنه لم يقع منه بعد ذلك معصية ولا مخالفة والتزم الصدق والعبادة حتى قبضه الله إليه على أحسن حال فلو أراد النبي البشارة في ا و الماضي لقال أبشر فقد غفر لك وتيبَ عليك وتحصل بذلك الكفاية ولكن لما أن أراد عليه السلام البشارة في المستقبل أتى بصيغة ما ذكر ولأجل ما فهم الصحابي من هذه البشارة خلع إذ ذاك ثيابه ولم يكن ليملك غيرها فأعطاها في البشارة لعلمه بعظيم ما بُشِّر به
وكل بشارة وردت من الشارع عليه السلام مبهمة فالمراد بها ما ذكرناه من مقتضى هذه البشارة ولهذا قال أهل السلوك فيمن بلغ بعض المنازل فدام عليه بأدبه إنه يترقى إلى ما هو أعلى منه فما دام على هذه الحال لا يزال في ترقّ حتى يبلغ غاية المنازل الرفيعة عملاً منهم على مقتضى البشارة وهي ما ذكرناه
الثاني هو أنه إذا أخذ بتوفية الفرض وما تيسر عليه من النفل فدام على ذلك ولم يزد عمله شيئاً فنفس البقاء على ذلك زيادة وهي البشارة يؤيد هذا قوله عليه السلام حين أخبر عن الأخوَيْنِ اللذين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول بين يديه عليه السلام فقال عليه السلام عن الآخر وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته إنما مَثَلُ الصلاة كمثل نَهَرٍ عَذَبٍ غَمْرِ ٢ بباب أحدِكم يقتحم فيه كلَّ يومٍ خمْسَ مرّات فما تَرَوْن ذلك يُبقي من دَرَيْهِ فإنكم لا تدرونَ ما بَلَغَتْ به صَلاتُه ۳ ولهذا قال أهل السلوك الدوام على الحال فيه زيادة
وترقُ عملاً بالحديث الذي أوردناه
ابن أمية ومرارة بن ربيعة فتاب الله عليهم وعدَرَهم وغفر لهم ونزل القرآن المَثْلُوُّ في شأنهم وكان كعب بن يوم أحدٍ لبس لأمَةَ النبي وكانت صفراء وليس النبي لا لأمنه تمويهاً للأعداء فجُرح كعب بن مالك
مالك
أحَدَ عَشَرَ جرحاً وتوفي كعب سنة ٥٠هـ / ٦٧٠م ۱ متفق عليه ولفظه أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك عَمْر الغَمْر من الماء خلاف الضَّحْل وهو الذي يعلو مَن يَدخله ويغطيه ۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة
۱۰۹
الوجه السادس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والرَّوْحةِ وشيء من الدُّلْجَة استعينوا بالغَدوة أي بصلاة الضحى و الرَّوْحَة أي الصلاة بين الظهر والعصر و الدُّلْجَة أي قيام آخر الليل
فإن قال قائل لم عم عليه السلام الوقتين جميعاً وجعل من الثالث البعض
الله وينام
قيل له إن هذين الوقتين قريبان محدودان وهما معاً جزء من النهار وآخر الليل جزء من الليل لكنه غير محدود وإن كان عليه السلام قد حد الفضل فيه في حديث داود عليه السلام حيث قال أفضلُ الصلاة صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم سُدُسَه ۱ فالحد إنما حصل على الأفضلية وما نحن بسبيله إنما وقع على الإجزاء الذي به تحصل الاستعانة فمن قدر على الأخذ بالأفضل فَبِها ونِعْمَتْ وإلا فقد أخذ بالإجزاء الذي يستعين به وهذا من باب التوسعة لأن ذلك وقت نوم وأعذار وليس النهار كذلك وفي هذا دليل على التحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات إذ إنَّ ذلك مما يُستعان به وما يستعان به لا يترك لأنه إن ترك ما يستعين به خيف عليه ألا يبلغ ما أمل ولهذا اسْتُحِبّ له الابتداء أولاً باليسير أبداً ويعمل عليه ويكون ذلك دأبه لئلا يخلي نفسه من الاستعانة فإن وجد النهاية لم يتركها وإن حدث له ضعف أو شغل لم يترك قدر ما يطلق عليه اسم الاستعانة
وقد نص عليه السلام على هذا المعنى الذي أبديناه في غير هذا الحديث حيث قال لِكلِّ عابد شرَّةٌ ولكل شِرَّة فَتْرَةٌ فطوبى لمن كانت فترته إلى سُنّة والسنة التي هي الفترة هي ما أشار إليها عليه السلام في هذا الحديث من الأخذ بالتعبد في هذه الأوقات اليسيرة فسبحان مَنْ مَنَّ علينا بالخير به وعلى يديه
وفي هذا دليل لأهل السلوك والتربية حيث يستحبون أن تكون البداية أولاً في الليل وفي النهار ركعتين ركعتين ثم يزيد على ذلك ما يشاء وبحسب النشاط لئلا يخلي نفسه من الاستعانة كما تقدم حتى يبلغ بالتدريج ما أمل لأن من أخذ من هذه الأوقات بقدر طاقته من العبادات ترقى إلى ما شاء الله من المراتب السنية ولا يدركه في ذلك تعب فإذا أخذ بذلك كان أبداً في الترقي بالزيادة تاركاً للنقص حتى يبلغ بذلك إلى نهاية ما يقتضيه حال البشرية
وذلك مثل ما حكي عن بعض الفضلاء أنه أتاه أخ له يزوره فوجده يصلي الظهر فجلس ينتظر فراغه من صلاته فلما فرغ من الصلاة قام إلى النفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال
۱ متفق عليه من عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
الشَّرَّة الحِدة والنشاط والحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي وقال حسن صحيح غريب
كذلك إلى صلاة العصر فصلى العصر ثم جلس للذكر فخاف أن يقطع عليه ذِكْرَه فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة المغرب فقام إلى الصلاة فلما فرغ منها قام إلى التنفل فخاف أن يقطع عليه تنفله فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة العشاء فلما فرغ منها قام إلى التنفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال كذلك إلى الصباح فقام إلى صلاة الصبح فلما فرغ منها جلس إلى الذكر فجلس ينتظر فراغه فبينما هو جالس في مصلاه لِذِكْرِه غلبته عيناه قليلاً ثم استيقظ من حينه فجعل يمسح عينيه ويقول أستغفر الله أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فانظر لما صار به من الحال وهو يتنعم بذلك لأنه لولا الحلاوة التي وجدها في العبادة لما جعل هذه السِّنَةَ التي لا تنقض الطهارة ذنباً يستغفر منه فزال عنه التعب والمشقة اللذان يدركان البشر من ذلك ورجع له عوض الحلاوة والتنعم وذلك ببركة الرفق والرياضة في التربية في السلوك
نسأل الله أن يمن علينا بما مَنَّ به عليهم وأن يعيد علينا من بركاتهم
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث
الوجه الثالث
الأول منه قوله عليه السلام إن الدين يُسْر قد يريد به أن ما تديَّنتم به بالنسبة إلى من كان قبلكم يُسر وما كُلّفتم إلا بما تُطيقون لأن الله عزّ وجلّ قد رفع عن هذه الأمة الإصْرَ الذي كان قد جعل على الأمم الماضية فجعل لهم عند الضيق المخرج مثال ذلك ما شرع لنا في التوبة وهو الندم والإقلاع والاستغفار وقد كانت لمن قبلنا بالقتل وكذلك أيضاً النجاسة طهارتها بالغسل ولمن قبلنا بالقطع والمقراض وكذلك أيضاً تَحِلة اليمين بالله شرعت لنا ولم تشرع لمن كان قبلنا وكذلك أيضاً أكل الميتة وكذلك أيضاً لو كلفنا الله عزّ وجلّ بما لا نطيق لكان ذلك سائغاً لأنه الحاكم القاهر لا راد لما قضى ولكن بفضله عزّ وجلّ ومنته عافانا فلم يكلفنا إلا قدر استطاعتنا فقال تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۱ ومن كُلّف قَدْر وُسعه فهو يُسْرُ
عليه لا تعسير
ومثال ذلك أنه عزّ وجلّ عفا عن الخطأ والنسيان وحديث النفس وما استكرهنا عليه وكذلك أيضاً شرع لنا عزّ وجلّ عند العجز عن القيام في الصلاةِ القعود وعند العجز عن القعود الاضطجاع وعند العجز عن التحرك الإيماء وكذلك شرع لنا عزّ وجلّ التيمّمَ عند عدم الماء
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
۱۱۱
سُرَ الصلاة في السفر والفِطرَ فيه إلى غير ذلك وهو كثير موجود في كتب الفروع وقد قال عليه السلام إن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمه ۱
من
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه يريد أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد وترك ما رخص له فيه فقد شادَّ الدين وإذا شادَّ الدين غَلَبه الدين ومثال ذلك شدد على نفسه فترك اليمين المشروعة وحلف بالمشي إلى مكة والطلاق والعتاق وترك التيمم عند العجز عن الطهارة بالماء وأراد القيام في الصلاة مع العجز عنه إلى غير ذلك وهو كثير فيريد الأخذ بالكمال في كل الجهات ويترك الرخص فمن فعل هذا فقد شاء الدين فيغلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه وقد ذم عزّ وجلّ مَن فعل ذلك من الأمم الماضية فقال عز من قائل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاة عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ٢
العزم
عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا قاربوا أي قاربوا أولاً بالجد وقوة على الأخذ بالحزم والحزم هو ترك المحذور والعمل على براءة الذمة والأعلى من المراتب والأفضل من الأحوال فإن وقع لكم عجز أو غفلتم أو وقعتم في شيء مما نُهيتم عن فسددوا أي أصلحوا حالكم بالخروج على المخارج التي جعلت لكم والأخذ بالرخص التي تُصُدِّق بها عليكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ٣
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا فإن ذلك مخلص لكم ومبلغكم إلى رضا مولاكم وحسن العاقبة لكم يؤيد هذا قوله عليه السلام رُبَّ ذَنْبٍ أَدخَلَ صاحبَه الجنة ٤ قال العلماء معناه أن ذلك الذنب كان سبباً لتوبته فتاب توبةً نصوحاً فكان هو السبب الذي أدخله الجنة يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما قيل لبعض الفضلاء حين غَلَب عليه في وقتِ ما خوفٌ من أجل التقصير في حق مولاه ثم تَلمَّح سعة رحمته فخالط ذلك الخوف طمع في سَعَة رحمة مولاه فخوطب بأن قيل له مَن أردناه اصطفيناه فخوَّفناه ورجَيْناه ومَن أبغضناه أَبْعَدْناهُ
والهَيْناهُ
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجة
1 العزائم ج عزيمة وهي فرائض الله التي أوجبها والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن
ابن عمر رضي الله عنهما سورة الأنعام الآية ١٤٠ ۳ سورة النساء من الآية ۹
٤ لم نعرف مصدره
الاستعانة هنا هي أن مَن واظب على الأعمال في الأوقات المذكورة يرزق بها العون على ما أخذ بسبيله من أفعال الطاعات ويسر له ما عسر عليه من أمر دينه ويُزاد قوة في إيمانه فيتبين له قَدْرُ ما لطف به وماذا أريد منه وهذا من أكبر أسباب العون فإن به يسهل العمل وتسمو الهمم إلى
المراتب العلية
ولأجل ما يحدث من هذه المعاني بعمارة تلك الأوقات قال بعض الفضلاء من أئمة التحقيق وأنا أوصيك بدوام النظر في مرآة الفكرة مع الخلوة فهناك يبين لك الحق ومن بان له الحق رُجيَ له اتباعه وكان من أهله فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه
ومما يناسب ما نحن بسبيله من وجه ما قوله عليه السلام وَيْلٌ لمن غَلَبَت آحاده عَشَراتِه ۱ ومعنى ذلك أن الحسناتِ جُعلت بفضل الله عشراً إلى سبعين إلى سبعمائة والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء والسيئة بواحدة ثم بعد هذا الفضل العميم يَغْفُل ابنُ آدمَ المسكين عن نفسه حتى لا يجد لنفسه مَخْرَجاً إما بتغال في الدين وإما بتضييع محاسبة نفسه فيهلك مع الهالكين وهو لم يشعر ولهذا قال عليه السلام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ۳ فيحق لمن غفل عن نفسه وألزمها هذا التغالي المذكور أو غفل عن المحاسبة ذلك الوعيد العظيم أعاذنا الله وإياكم من ذلك بمنّه
فينبغي للعاقل أن يعين نفسه بما أشار الشارع عليه السلام إليه وأن يقيم على نفسه ميزان الشرع ولا يغفل عن محاسبة نفسه ولا يشاد دينه لئلا يهلك بأحد هذه الوجوه ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الرابع
الوجه الرابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إِنَّ الدِّينَ يُسْر قد يُراد به أنه يُسْرِّ على من عَرَفَه لأن مَنْ جَهله عَسُر عليه بمقتضى أدلته لجهله به فيكون هذا مثل قوله تعالى ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۳ وشهادته لنفسه هي ما أظهَرَ في جميع مخلوقاته من آثار قدرته الدالة على وحدانيته وعظمته فيكون الحاصل من هذا التحضيض على علوم الدين بمقتضى الكتاب والسنّة على ما أشرنا إليه قبل الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبَه المشادة هنا هي أن
1 لم نعرف مصدره رواه البيهقي في الزهد وذكره في مناقب
۳ سورة آل عمران من الآية ۱۸
۶
من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير هذين الطريقين وهما الكتاب والسنة إما بعلم العقل أو ما شابهه واقتصر على ذلك فيغلبه الدين إذ ذاك بالضرورة لأنه إذا فعل ذلك عاد عليه مقام الحق مشكلاً ومقام الحقيقة محتملاً فانقلب بصفقة خاسرة خسر الدنيا والآخرة
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا السداد هنا بمعنى سداد الحال يقال سدد فلان حاله إذا أصلحه سدد الله فلاناً أي أصلح الله فلاناً سدد القاضي أي حكم بينهم بالعدل لا يباع إلا على وجه سداد أي بوجه صالح على مقتضى الشريعة وصلاح الحال هنا هو صلاحه في الدين بمعرفته ومعرفة أحكامه والعمل على ذلك واتباعه ويشهد لهذا قوله عليه السلام طَلَبُ العِلمِ فريضة على كلِّ مُسلم ۱ قال العلماء المحققون معناه ما وجب على المرء عمله وجب عليه العلم به لأنه لا يمكن توفية ما أمر به إلا بالعلم بحدوده
وقد اختلفوا فيمن عمل العمل بغير علم فصادف عمله لسان العلم على ثلاثة أقوال فمن قائل يقول بأنّ له الثوابَ على عمله واحتج بأن قال هذا عمل وقع على ما أمر به ومن فعل ما أمر به كان له الثواب على الامتثال ومن قائل يقول بأن عليه الإثم في ذلك واحتج بأن قال إن الله عزّ وجلّ لم يتعبد أحداً بالجهل وإنَّما يجوز له الإقدام على العمل بالعلم به وأما مع الجهل فلا قال الله تعالى فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فلما قدم على العمل بغير علم كان مرتكباً للنهي ومن ارتكب النَّهي أيم ومن قائل يقول بأنه ليس له ثواب وليس عليه عقاب واحتج بأن قال إنه لم يقع بعمله في شيء مما نُهي عنه فلم يكن مأثوماً وأمر بألاّ يُقدِم على العمل إلا بالعلم فلم يفعل ذلك لم يكن له أجر عليه
فإن العجز عن هذا السداد الذي هو صلاح الحال بالعلم كما تقدم فَلْيُؤْخَذْ بما تضمنه قوله عليه السلام قاربوا ومعناه السؤال لأهل العلم كما تقدم لأن الله عزّ وجلّ يقول فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ والنبي يقول شفاء العِيِّ السؤال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالطريق المذكور الذي أبديناه فَلْيَسْتبشر بأن الله يرفعه في الدنيا والآخرة ويرزقه من حيث لا يحتسب إذا كان ذلك الله خالصاً يشهد لهذا قوله عليه السلام تكفّل الله برزق طالب العلم 4 وهو عز
۱ رواه ابن ماجه برقم ٢٢٤ سورة النحل من الاية ٤٣
۳ رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني كما في كشف الخفا رقم ٦٤٦
٤ الرواية المشهورة من طلب العلم تكفل الله عزّ وجلّ برزقه رواه الخطيب البغدادي في تاريخه ۳/ ۱۸۰ وفي =
١١٤
رفع
وجلّ قد تكفل برزق الخلق كلهم لكن فائدة هذه الأخبار البشارة لطالب العلم بأن الله تعالى قد عنه التعب في طلب الرزق والكدّ عليه ويسره له وسهله عليه من غير تعب يدخل عليه في ذلك بلا مَشَقَّةٍ يزيد هذا إيضاحاً قوله عليه السلام إذا ابتدع في الدين بدعةٌ كِيد الدين فعليكم بمعالم الدين واطلبوا من الله الرزق قيل وما معالم الدين قال مجالس الحلال والحرام ۱ الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي أن من عمر هذه الأوقات المنصوص عليها بالتعبد فإن الله عزّ وجلّ يعينه على ما أخذ بسبيله من التعلم ويُفهمه وينوّر بصيرته وهذا قد وجده كل من عمل ذلك بإخلاص وصدق وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ٢
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الخامس
الوجه الخامس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما كُلّفتم به بالنص ولا يمكن فيه التأويل يُسْرٌ وأن أكثر ما كُلّفتم به محتمل للتأويل وقابل له وإذا كان القابل للتأويل المحتمل له هو الأكثر فهو تيسير وتوسعة من المولى على عبيده وقد نشير إلى شيء من ذلك بالنص على مسائل مما تحتمل التأويل ليتنبه بها لما ذكرناه
فمن ذلك حديث بني قُرَيْظَة الحديث المشهور الذي قال فيه عليه السلام للصحابة لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قُرَيْظَة فأدركَهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها له وقال بعضهم بل نصلي فإنه لم يُرِد منا ذلك فذكر ذلك للنبي ا فلم يعنف أحداً منهم ۳ ذلك اختلاف الفقهاء في معنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ فمن قائل يقول به على الإطلاق في الصلاة وفي غيرها ومن قائل يقول مثل الأول لكنه قيَّدها بألا تكون إلا قبل القراءة ومن قائل يقول بأنها لا تكون إلا بعد القراءة
الرحيم
||
ومن
الجامع لاداب الراوي والسامع ۳۸/۱ والقضاعي في مسند الشهاب ٢٤٤/١ و ٣٩١ والديلمي في مسند الفردوس ٧٥/٤ وقال عنه الذهبي في الميزان ٤٨٢/٤ والسلفي في تحقيق الشهاب موضوع
1 لم نعرف مصدره
سورة العنكبوت من الآية ٦٩ ۳ متفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ سورة النحل من الآية ۹۸
١١٥
ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله تعالى ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيْبًا ١
فمن قائل يقول به على العموم ومن قائل يقول به على الخصوص ومن قائل يقول بجواز التيمم به منقولاً كان أو غير منقول ومن قائل يقول بعدم الجواز عند النفل
ومن ذلك أيضاً اختلافهم في قوله تعالى ﴿وَرَبِّبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِسَآبِكُمْ فمن قائل يقول بتحريمها ابتداء ومن قائل يقول بعدم التحريم حتى تكون في حِجْرِه ويكون كفيلاً لها
ومن ذلك اختلافهم في الربا وما العلة فيه فخرج كل واحد منهم على ما أعطاه اجتهاده من التأويل في الاحتمال وكل ما اختلفوا فيه أبداً إنما هو من أجل الاحتمال الذي في الآية أو الحديث وهذا الاختلاف توسعة ورحمة وقد كان بعض من لقيته من الفضلاء الجِلَّة يقول لا يحل أن يُتَدَيَّنَ إلا بالمشهور ولا يُفتى إلا به وتكون فائدة الخلاف في أمر إذا وقع وفات ولم يُمكن تلافيه على المشهور فيُخَرَّج إذ ذاك على قول قائل لأنه أحسن من خرق الإجماع ولَعَمْرِي لقد أحْسَنَ هذا في الفتوى لأن به يستعمل جميع الوجوه فيكون الأخذ أولاً بالكمال في الدين وهو القوة عملاً بقوله عليه السلام المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خيرٌ ۳ فإن تعسر عليه الأخذ بالكمال رجع إلى الخلاف وأخذ بالتيسير فيكون بينه وبين المحارم حاجز كبير لأنه إن تعذر عليه الأخذ بالكمال وجد ما يرجع إليه من غير أن يخرق الإجماع بخلاف من يأخذ أولاً نفسه بالعمل على الرخص لأنه إن تعذر عليه الأمر في وقت ما فلا يجد حيلة إلا الوقوع في المحارم وقد قال عليه السلام إن لكل مَلكِ حِمى ألا وإن حِمَى الله مَحارِمُه فمن حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه ٤
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن من يريد الأخذ بالكمال فيريد أن يعمل في كل مسائله بالإجماع فيغلبه الدين لأجل ما ألزم نفسه لأنه يجد كثيراً من المسائل لا ينعقد عليها إجماع
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدَّدوا وقاربوا السداد هنا على معنيين
الأول أن يكون بمعنى صلاح الحال بالأخذ بما عليه الجمهور والجمهور هم الصحابة
۱ سورة النساء من الآية ٤٣
سورة النساء من الاية ۳
۳ رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ جزء من حديث رواه الستة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
11
والصدر الأول لقوله تعالى ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى ۱ قال العلماء هم الصدر الأول ولقوله عليه السلام خَيْرُ القرونِ قَرْني ثم الذين يلونهم
الثاني أن يكون الآخِذُ بالأظهر من الأدلة وبالوجه الراجح من الوجوه المحتملات في اللفظ الواحد ولا يلتفت إلى الشواذ من الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وإنما الشأن الأخذ بالوسط كما قال الخليفة لمالك رحمه الله حين أراد أن يجمع كتاب المُوَطَّأ فقال له اترك تشديد ابن عمر ورُخَص ابن عباس وألّف بعد ذلك ما شئتَ فقال مالك فخرجت من عنده فقيهاً ويكون معنى التقريب هنا عند العجز عن الأخذ بما أشرنا إليه في السداد لأجل العذر فيُخرج على قول قائل عند العذر ولا يأخذ بطرف التشديد ولا بطرف الترخيص مع عدم العذر ويكفي في هذا ما روي عن عمر رضي الله حين قيل له عن رجل أتى إلى المدينة يطلب غريب التفسير وغريب الحديث فأمر رضي الله عنه بإحضاره وقال له من أنت فقال له عبد الله بن فلان فقال له عمر وأنا عمر بن الخطاب ثم أخذ جريداً من نخل فجعل يضربه بها على رأسه حتى أدماه وهو يقول أنا عمر بن الخطاب فقال له الرجل جزاك الله عني خيراً قد زال ما كان في رأسي ٣ ولا ذاك إلا أنه من يطلب ذلك فالغالب عليه أن يعمل على أحد الطرفين إما بطرف التشديد فيأخذ بالمشادة ويترك السداد وإما بطرف الترخيص فيكون له ذريعة لأن يقع في المحارم ويترك الأخذ بالتقريب
الله عنه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا معنى البشارة هنا هي أن من عمل بما ذكرناه فَلْيستبشر بأن الله يجعل له عند العسر يسراً وعند الضيق مخرجاً ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ٤ وقوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ ٥ وقد حصل له زيادة لتلك البشارة أن
الله عزّ وجلّ قد جعله من المتقين
1 سورة النساء من الآية ۱۱٥
جزء من حديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه خير الناس قرني إلى آخر
الحديث
۳ الرجل المشار إليه اسمه صبيغ بن عسل كان يسأل عن المتشابه وكان سؤاله لعمر رضي الله عنه عن مشكلات القرآن فأمر عمر الناس ألا يجالسوه وضرَبَه حتى أدمى رأسه فقال حَسْبُكَ يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنتُ أجده في رأسي انظر الإصابة ۱۹۱/ ومسند البزار ٤۳/۱ رقم ۹۰ والدارمي والخطيب وابن عساكر في التاريخ ۳۱/ والدارقطني في الأفراد ۰
٤ سورة الطلاق من الآيتين و ۳ 5 سورة الطلاق من الآية ٥
ولأجل الجهل بمعنى هذه البشارة دخل بعض الناس عندما ضاق عليهم شيء من الدنيا في المكروهات والمحرمات ويقولون بأنهم معذورون لأنهم لا يجدون سبباً على زعمهم غير ما هم فيه وهذا من العلامات الدالة على اقتراب الساعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من أشراط الساعة طلب الرزق بالمعاصي ۱ فنعوذ بالله من العمى والضلال
فانظر إلى هذا العمى الكلي والصَّمَم السَّرمدي كأنهم لم يسمعوا قط هذه البشارة ولم يعرفوا مقتضاها وكأنهم لم يروا في الكتاب ولم يسمعوا منه الآيتين المتقدمتي الذكر وكأنهم لم يسمعوا قوله عليه السلام لا يُنَالُ ما عند الله إلا بطاعة الله ٢ وكل هذا يدل على أن من طلب الرزق بغير طاعة فقد طلب الشيء من غير بابه ومن طلب الشيء من غير بابه تعب في طلبه ورجع بصفقة خاسرة
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى حيث كانوا يطلبون الرزق بطاعة ربهم لِيُتنَبَّهَ بذلك لما أردنا بيانه فمن ذلك ما روي عن بعضهم أنه كان ذا عيال وضاق عليه الوقت ولم يقدر على شيء فوقع في باله الأخذ بالطاعة التي هي سبب للرزق فخرج إلى مسجد خرب فنظفه وبقي يتعبد فيه فيخرج غدوة ويخبر أهله أنه يتسبب ثم يروح عشية فيقولون له أين الأجرة فيقول الذي خدمت عنده كريم فاستحييت أن أطالبه حتى يكون هو الذي يعطيني فبقي ذلك أياماً يسيرة ثم أتى ليلة على العادة إلى منزله فلما كان بقربه شم روائح طعام عطرة فتعجب من ذلك لأجل أنه يعلم أن جيرانه في ضعف بحيث لا يقدرون على ذلك فلما أتى منزله فإذا الذي شمّ من ذلك في منزله فتعجب من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم نظر فإذا في بيته طعام وإدام وقماش ودراهم ووجد أهله بكسوة حسنة فسألهم من أين لكم هذا فقالوا له إن الكريم الذي أنت تخدم عنده بعث إليك بما ترى وهو يقول لك لا تقطع الخدمة فقال أجل
فانظر من طلب الشيء من بابه كيف نجح سعيه وظفر بمراده
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي التعرض لنفحات الله تعالى في هذه الأوقات المذكورة وتجد إذ ذاك لطفه بك كثيراً وخيره عليك عميماً يؤيد هذا قوله عليه السلام إذا سألت فاسْأَلِ الله ۳ وقوله عليه
1 لم تعرف مصدره رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي في المدخل وصححه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم ۳ جزء من حديث رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
۱۱۸
السلام تَعرَّضوا لنفحات الله ۱ وقوله عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام يَنزِلُ ربُّنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا في الثُّلُثِ الأخير من الليل فيقول هل من تائب فأتوبَ عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له فكيف يقول عزّ وجلّ هذا ويستغفر أحد إذ ذاك أو يتوب أو يدعو فَيُرَدُّ ذلك محال من طريق قوة الرجاء في فضله سبحانه ومِنتِه
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى في هذا أيضاً ليتبين به المقصود الذي أردنا بيانه فمن ذلك ما روي أن بعض الثوار نزل بحصن فضيّق على أهله حتى هَمّوا بإعطائه ثم قال بعضهم لا تعطوه حتى تستشيروا فلاناً على ما أردتم فعله وكان فلان عندهم رجلاً صالحاً متمسكاً بالخير والسداد فاستشاروه فقال لهم لا يحل لكم أن تملكوا رقابكم لمن يخالف لسان العلم ويسفك الدماء بغير حقها فبلغ ما قال لهم إلى الثائر فأرسل إليه يهدده وهو يقول له أما تعرف بطشي وصِغَرَ سِنّي فأرسل الشيخ إليه الجواب وهو يقول له أما تعرف كِبَرَ سنّي وقيامي له بالليل ودعاي له في الأسحار فلما أن وقف الثائر على الجواب لَحِقَه الرعب وأقلع من حينه ومما يزيد هذه الأوقات شرفاً وترفيعاً وترغيباً في المحافظة عليها قوله تعالى وَاصير نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْفَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيا ۳ فمن رغب في هذه الأوقات وحافظ عليها أعينَ على ما أخذ بسبيله ثم زاده على ذلك بشارة وأي بشارة ترتاح لها نفوس العاملين العارفين وهي ما أخبر عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَانَنهُمْ تَقْوَنهُمْ ﴾ ٤
يا لها من بشارة ارتاحت لها نفوس الموفقين وسكن بها حزن الخائفين وتسابقت لها أقدام السابقين ! منحنا الله منها من فضله ما يليق بفضله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السادس
الوجه السادس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما طلب منكم وهو الإذعانُ
۱ رواه الطبراني والترمذي في النوادر والبيهقي في شعب الإيمان والسيوطي في جمع الجوامع من حديث أنس
رضي الله عنه
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة الكهف من الآية ۸
٤ سورة محمد من الآية ۱۷
۱۱۹
0
والاستسلام يُسْر يشهد لهذا قوله عليه السلام للصحابة حين أنزل عليه ﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ۱ فشَقَّ ذلك عليهم فقال لهم لا تكونوا مثل بني إسرائيل ولكن قولوا آمَنَّا بالله وما أَنْزَل فَآمَنُوا وأَذعَنوا فأنزل الله إذ ذاك ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ٢ فجاءهم هذا الفرح العظيم لاستسلامهم وإذعانهم لأمر ربهم والإذعان والاستسلام يُسْرٌ لا شك فيه لأنه قد عمل بالقلب دون جارحة تتحرك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن مَن لم يرض بالمقدور ولم يقع منه الإذعان والاستسلام لما فُرِض عليه ويرى أن ما كلّفه من باب المشقة فقد شادَّ دينه وإذا شادَّ دينه غلبه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل حين أُمروا بالقتال فأبوا وقالوا لنبيهم فَأَذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَهُنَا فَعِدُونَ ﴾ ٣ فشدد عليهم حين لم يَرْضَوْا ولم يذعنوا لما كُلِّفوا به فابتُلُوا لأجل ذلك بالتيه أربعين سنة حتى مات فيه كبارهم ونشأ فيه صغارهم
يزيد هذا إيضاحاً قوله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَتبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ٤ فَمَن رُزِق الإذعان للمقدور والصبر عند نزوله عَظُمَ أجرُه ولُطف به وإن ضجر وتسخط كان مأثوماً والمقدورُ لم يتغيَّر فشادَّ دينه فغلبه الدِّينُ نعوذ بالله من ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا السَّداد هنا بمعنى صلاح الحال في توطين النفوس للتسليم والانقياد والمقاربة هنا أي إن لم تبلغوا هذا المقام فقاربوا إليه لأن ما قارب الشيء أُعطِي حكمه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من فعل ما ذكرناه ووطَّنَ نفسه على ذلك واستسلم فليستبشر بما تضمنته بقية الاية الموردة إلى آخر السورة وهو قوله عزّ وجلّ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
۱ سورة البقرة من الاية ٢٨٤ سورة البقرة الآية ۸٥ و من ۸٦ ۳ سورة المائدة من الاية ٢٤
٤ سورة البقرة الايات ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧
۱۰
الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ١
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي أن من عَسُر عليه العمل بما ذكرناه من نفسه فليقف بالباب الجليل في هذه الأوقات المعينة ويلزم ذلك يُرزَق العونَ إذ ذاك على النفس ويظفر بالنُّجح ولأجل تضييع هذه الاستعانة غلبت بعض الناس نفوسهم فلم يحصل منهم ما أريد منهم من الإذعان والاستسلام لأجل أنهم وكلوا إلى أنفسهم لكونهم لم يستعينوا بما شُرع لهم الاستعانة به ومثل هذا قوله عليه السلام للصحابة حين أخبر بالفتن فقالوا له ما النجاة من ذلك فقال الجَأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات
وهذه الفتن قد كثرت وتكاثرت والقليل النادر من أخذ بالدواء الذي يعينه على النجاة منها لا جرم أنّ الهالك قد كثر والناجي قد قل لقلة الامتثال لما به أُمِر فبادر أيها المسكين للعمل واترك الكسل قبل وزود الحِمام وتراكمِ المِحَن ويقال لك الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ۳
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السابع
الوجه السابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسْرُ قد يراد به الأخذ بأقرب الوجوه التي اختلف فيها دون تعمّق في أَحَد الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وترك الالتفات والمبادرة إلى الامتثال وإذا كان المراد هذا وهو المبادرة إلى الامتثال وترك الالتفات فهو يسر
لا شك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غلبه أي لا يشدّد أحد على نفسه إلا ويشدّد الله عليه لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل في البقرة التي أُمِروا بذبحها لو أخذوا في امتثال ما به أمروا وذبحوا بعض البقر دون سؤال عن كيفيتها لأجزأت عنهم وكانوا بذلك ممتثلين للأمر ولكنهم ث فسألوا عن صفتها وكيفيتها
۱ سورة البقرة من الآية ٢٨٦
لم نعرف مصدره
۳ مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه
ج 1
فشدد عليهم فيها فطلبوها فلم يجدوها زماناً ثم وجدوها بقرة واحدة عند شخص واحد فطلبوها منه للشراء فأبى عليهم فما زالوا به إلى أن أنعم عليهم بالبيع فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً وفضة قيل مرة وقيل عشراً فشدَّدوا فشدّد عليهم
ولأجل هذا كان النبي الله يكره كثرة السؤال ۱ ويذمّ فاعله خيفة التشديد حتى كان
الصحابة رضي الله عنهم يتمنون أن يقدم على النبي ا غريب يسأله فيسمعون الجواب وهذا المعنى إنما كان الخوف منه في زمن النبي لا لا لا لا ل ل لأن الأحكام كانت إذ ذاك تتجدد في كل وقت وحين فلما انتقل إلى ربه طاهراً مطهراً زال ذلك
لكن بقي في بعض الناس ما يشبه ذلك وهو كثير فمن ذلك الوسواس الذي لبعضهم في شيء من تعبداتهم حتى يُخلوا بلسان العلم فيه فيبقى في تعبده على ضلال وهو يحسب أنه يُحسِن صُنْعاً وقد قال يُمن بنُ رزق - الإمام في الطريقتين - رحمه الله إن الشيطان يأتي لابن آدم فيرغبه في المعاصي هذا بعد عجزه عن أن يوقع له شبهة في عقيدته فإن قدر عليه فهو مقصوده وإن لم يقدر عليه رجع إليه من طريق الوسواس في تعبده حتى يجعله يُخلّ بشيء من لسان العلم فإذا نال ذلك منه قنع به ثم تركه وحَبَّب إليه العبادة ومَدَّ له في الصوت وربما تعرض له بعد ذلك مارِدٌ من الشياطين يريد أن يُغوِيَه فيقول له دَعْه فإنه بعملي يعمل فشاء دينه فغلبه الدين فانقلب بصفقة خاسرة نعوذ بالله من العمى والضلال
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سددوا أي سَدّدوا حالكم باتباع الفروض والسنن وقاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه فإن لم تقدروا فجاهدوا النفوس في الحمل عليه فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن فعلتم ما أُمرتم به كما ذكرناه لكم فأبشروا عند تلك المجاهدة بتيسير سُبل الخير والهداية يشهد لهذا قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٤
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله كره لكم ثلاثاً قيل
وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال
مروي بمعنى الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الأعرابي فيسأل رسول الله إلى آخر الحديث
۳ سورة يونس من الاية ٣٢ ٤ سورة العنكبوت من الاية ٦٩
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي الملازمة على قرع الباب في هذه الأوقات والمحافظة على ذلك عند نزول المحن لأن ذلك هو سبيل النجاة فيأتيكم العونُ من عالم الخَفِيّات يشهد لهذا قوله عليه السلام مَن فُتح له في الدعاء فقد فتحت له أبواب الخيرات۱ وقوله عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ من شَغَله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطِي السائلين
والفتن
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثامن
الوجه الثامن
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به قِصَرَ الأمل لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين فيصير الدِّينُ بسببه يُسراً بيان ذلك أن الأمل إذا قصر قلَّ الحرص وسهل الزهد وخَفَّ العمل وقد جاء هذا نصا منه عليه السلام حيث قال إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسَك بالصَّباح ۳
وقد رُوي أن عيسى عليه السلام مرَّ في سياحته بشيخ كبير وهو يخدم في حائط ٤ له فتعجب عيسى عليه السلام من كبر سنّه وشدّة حرصه على التكسب فلما أن وقع منه التعجب في ذلك راه قد أزال المسحاة من يده وأقبل على العبادة متوجهاً يشتغل بأنواع الخير فبقي على ذلك برهة من الدهر ثم قام إلى الخدمة كما كان أوّلاً فتعجب عيسى عليه السلام من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم أتى الشيخ فسأله ما الموجب في تركك الخدمة وما الموجب في عودك إليها فقال له الشيخ كانت خدمتي أوّلاً لِمَا طُبع عليه البشر من التكسب في هذه الدار لتحصيل ضروراتهم فخطرت لي فكرة في كبر سنّي وأن الموت قد دنا مني فقلت ما لي وللتعب ااتَّعَبُ لغيري فتركت الخدمة وأخذت فيما أنا سائر إليه ثم خطر لي أن قلت ولعل أن يَطُولَ عُمُري فأحتاج إلى الغير ففضلت التكسب على ما كنت أخذتُ بسبيله فعدتُ إلى حالتي الأولى
OFE
وهذه سنة الله تعالى مع أوليائه ما سَهَّل عليهم العمل وقطعوا مفاوز أعمالهم بالشغل بعبادته والإقبال عليه إلا أنه عزّ وجلّ قصّر آمالهم فتيسر عليهم من أجل ذلك ما تعشر على
1 رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وحسنه البغوي في المصابيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً رواه البخاري في التاريخ والبزار في المسند والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأوله كن في الدنيا كأنك غريب
٤ حائط بستان حديقة
غيرهم وقد قال عليه السلام لأسامة حين باع أو اشترى نَسِيئة إلى شهرٍ فقال إن أسامة لطويلُ الأمل ١
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غَلَبه معناه أن من أطال الأمل وقع له الكسلُ إذ ذاك فغلبه الدِّينُ لأجل طول أمله ومن آخر كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يا هذا لا تُدخِل هَمَّ غدِك على يومك فإن عشت فسيأتيك الله برزق جديد وإن متَّ فلا تَشْغَلْ وقتك بما لا تلحقه ومن هذا الباب ضاع كثير من العباد الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سدّدوا أي وطنوا النفس على قضر الأمل لأن ذلك عين السداد وقاربوا أي إن لم تقدروا على الأعلى في هذا السداد فقاربوا إليه ولا تبعدوا عن الأعلى والأخذ بالكمال فتُسبقوا والمسبوق محروم
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا بصلاح دينكم ودنياكم إن قبلتم
ما به قد أشير عليكم وأرشدتم إليه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدلجة الكلام
على الاستعانة هنا كالكلام على الوجه قبله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه التاسع
الوجه التاسع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسر قد يريد به الرضا لأنه معنى من المعاني يبلغ به أعلى المقامات لأنه أعلى درجات السالكين يشهد لذلك قوله عليه السلام لابن عباس يا بني إن قدرت أن تعمل الله باليقين في الرضا فافعل وإلا فالصبر على ما تكره فيه خير
كثير ٢
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبه أي من لم يرض بالمقدور وتسخط شاد دينه فيغلبه الدين ولهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك تحرّ
۱ رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في مسند الشاميين وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد ضعيف قاله العراقي في تخريج الإحياء جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أوله يا غلام إني محدثك كلمات احفظ الله يحفظك رواه الإمام أحمد والبيهقي في الشعب والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك ورواية الشيخ ابن أبي جمرة بالمعنى
المقادير فإن رضيتَ جَرَت وأنت مأجور وإن سخطت جرت وأنت مأزور ۱ فغلبه الدين لأجل
ما ترتب عليه من الوزر عند عدم الرضا
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا سددوا أي خذوا بحقيقة الرضا و قاربوا أي إن لم تطيقوا ذلك فقاربوا إليه والمقاربة إليه هي الصبر كما تقدم من قوله عليه السلام لابن عباس فالصبر على ما تكره فيه خير كثير وفائدة الرضا لا تظهر إلا عند الشدائد وتراكم المحن وأما عند العافية والرخاء فلا لأن كل أحد يرضى بذلك
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالوجه المذكور أو بالوجه بعده فَلْيستبشر بنجح سعيه وظفره بمراده كلّ على قدر رضاه أو صبره ثم يزاد له عند ذلك بشارة أخرى وأي بشارة زيادة على ما احتوى عليه لفظ الحديث وهي ما تضمنه قوله تعالى في كتابه * وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ فإذا كانت الزيادة بحسب الفضل فكيف يكون عظم البشارة
منحنا الله سبحانه منها من فضله ما يليق بفضله
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كما هي في الوجه قبله
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه العاشر
ميلة
الوجه العاشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به اليقين لأنه معنى من المعاني ويُكتسب به أعلى الدرجات والمقامات يشهد لهذا قوله عليه السلام في حق أبي بكر ما فضلكم بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ٣ والشيء الذي كان وقر في صدره هو قوة اليقين فنال أبو بكر رضي الله عنه أعلى المقامات وفَضَل غيره بذلك المعنى الذي وقر في صدره دون تعب في العمل بجارحة وهذا يُسر لا شك فيه
ولأجل هذا حض عليه السلام على تكسبه ليتيسر على أمته حيث قال تعلموا اليقين فإني
۱ مأزور من الوزر وهو الذنب وهي عكس مأجور
سورة النساء من الآية ۱۷۳
۳ قال السخاوي في المقاصد ٣٦٩ رقم ۹۷۰ قال العراقي لم أجده مرفوعاً وهو عند الحكيم الترمذي في نوادر
الأصول من قول بكر بن عبد الله المُزَّني
١٢٥
أتعلمه ۱ وهذا الذي حض عليه هو ما يُؤخذ بالكسب لأن اليقين على ضربين فيضي وكَسْبي فأشار عليه السلام هنا إلى ما للعبد حيلة في تكسبه وكيفية التسبب إلى تعلمه هي التفكر فيما أظهر عزّ وجلّ في عالم الحس من أحكامه وإرادته الجارية مرة على نوع وأخرى على ضده والصورة واحدة وما يظهر للعبد من ترجيح شيء ثم يرجح غيره عليه في وقته
ولأجل النظر إلى هذه الدقائق التي أشرنا إليها قوي إيمان الأولياء والصالحين بزيادة اليقين
حتى قيل لبعضهم بم عرفت الله تعالى فقال بنقضه لعزائمي وكذلك أيضاً يتسبب في قوة اليقين بالنظر في ملكوت السَّماوات والأرض الذي جعله عزّ وجلّ للخليل عليه السلام سبباً لقوة اليقين كما تقدم في الحديث قيل ولهذا قال عليه السلام تَفَكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدَّهر لأنه بالتفكر في مثل ما ذكرنا يحصل به من اليقين في ساعة واحدة ما لا يحصل في عبادة الدهر فيتيسر عليه الدِّين وإن كان صعباً وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بهذه الصفة في كتابه حيث قال إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَأَنقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۳
فانظر لما أن قوي يقينهم بثقتهم بربهم زال عنهم رعب ما أخبروا به وانقلبوا بعد ذلك بالفضل العميم والنعمة الشاملة في الدنيا والآخرة فربحوا الدارين بتلك اللحظة التي فَوَّضوا الأمر فيها إلى ربهم واستندوا إليه بقوة يقينهم
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبه أي من ضَعُف يقينه ولم يأخذ بالسبب الذي يقويه له كما أشرنا إليه فقد شادَّ دينه ومن شادَّ دينه غلبه الدِّين والغلبة هنا هي ما يكون من تسويلات النفس وتسويلات الشيطان وتخويفاته وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ٤
مداری
﴾
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا أي خذوا بالأعلى من اليقين واعملوا عليه وقاربوا أي إن لم تقدروا على الكمال فلا تبخسوا أنفسكم منه فيتعسّر عليكم الدين ومن تعسر عليه دينه باءَ بالخسران والضلال نعوذ بالله من ذلك
۱ تقدم تخريجه في الوجه الأول من هذا الحديث سبق تخريجه في الحديث الأول
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۷۳ والآية ١٧٤
٤ سورة النساء من الاية ۱۰
١٢٦
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا باليقين الفيضي الآتي من الفضل العميم إن أنتم امتثلتم الأمر بما أشير به عليكم فكسبتم من اليقين ما آلَ بكم إلى تكسبه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كالوجه قبله يستعان بالعمل في هذه الأوقات المذكورة ويُلجأ إلى الله فيها لعله بفضله يجود وبفضله أن يلهمنا النظر بالاعتبار في الأشياء التي يتقوّى بها اليقين ويؤيدنا بالتوفيق من عنده ويزيدنا على ذلك
الضرب الآخر هو الذي لا يؤخذ بالكسب وإنما يؤخذ بالفيض فمن تعشر عليه شيء من هذا أو حرم منه البتة أو هو يريد الزيادة على ما حصل له فليقف بالباب في هذه الأوقات ينجح له سعيه ويظفَرُ بمُراده لأن المخبر صادق ومن أحيل عليه كريم وهو لا يخلف الميعاد
6
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الحادي عشر
الوجه الحادي عشر
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرُ قد يريد به ترك ما للنفس من الحظوظ واستسلامها بين يدي مولاها لأن طلبها حظوظها وترك استسلامها هو الحجابُ الأعظم ولأنها ما أشرفت قط على شيء إلا أفسدته إلا من عصمه الله من شرها فقمعها بالاستسلام والانقياد وتَرْكُها
يسير على من يسره الله عليه وقد سئل بعض الفضلاء من السالكين عن كيفية الوصول فقال اترك نفسك وقد وصلت
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي أن من عمل على حظوظ نفسه فبلغها آمالها وترك استسلامها فقد شاد دينه وإذا شاد دينه غَلَبه الدِّين لأنه يُحْرَم بحجاب نفسه ما أُعِدَّ له من الخيرات عند الاستسلام من الألطاف والعون وغير ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فسدّدوا أي اعملوا على تَرْكِ ما للنفس من الحظوظ مرة واحدة وأزيلوها عن ذلك وسلّموها إلى خالقها تَسْعَدوا وقاربوا أي إن لم تقدروا على ذلك وغلبتكم نفوسكم فخذوا في الرياضة والمجاهدات حتى يأتي لكم منها ما قد
أشير به عليكم الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا إن أنتم فعلتم ما ذكر لكم بأن الله خيْرٌ لكم من أنفسكم وأرحم بكم منكم وأنه يبلغكم آمالكم كيف لا وقد قال تعالى في كتابه
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۱ وقال تعالى ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانِ وَجَنَّتٍ هُم فيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۳
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحَةِ وشيء من الدلجة أي استعينوا بهذه الأوقات وحافظوا عليها تعانوا على ما أريد منكم وتفوزوا برضا ربكم عنكم فهل من مشمّر يغتنم حصول زمن الإعانة قبل أن يفوته ثم لا يجد لنفسه على ما فرط فيه
إقالة
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثاني عشر
الوجه الثاني عشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به إذا كان الدين الله خالصاً ويكون به وله فيعمل على التعظيم لحق مولاه فإذا فعل هذا تيسر عليه الدين لأنه يجد إذ ذاك حلاوة الطاعة وتخفّ عليه بَلْ يتغذى بها فيرجع ملكي 4 الباطن بَشَريَّ الظاهر ولهذا قال
بعض الفضلاء من أهل السلوك مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قيل وما نعيمها قال حلاوة الطاعة وقد ندب عزّ وجلّ لذلك في كتابه وحصّ عليه حيث قال ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ٥ ثم جعله عزّ وجلّ متلوا في كل ركعة مبالغةً في الحض على ذلك حتى يكون حالاً فإذا كان الله معينه وهادِيَه حُمِل باللطف والعناية وتُوّج
بالبر والكرامة
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحد إلا غلبه أي من اعتمد في دينه على نفسه ولم يتعلق بالله فيه فقد شاد دينه وإذا شادّ دِينَه غلبه الدِّين بما يظهر له من عيوب نفسه و عجزه عن الخروج عنها ثم يلحقه إذ ذاك أحد وجهين وكل واحد منهما إذا وجد في الشخص علم أنه هالك به إلا أن يتداركه الله باللطف والإقالة
1 سورة الأحزاب من الآية ٤٣ سورة التوبة من الايتين ۱ و سورة النازعات من الآيتين ٤٠ و ٤١
٤ مَلكي نسبة إلى الملك ٥ سورة الفاتحة الآية ٥
أحدهما القنوط من عدم بلوغ ما يؤمل فإذا اتصف بهذه الصفة خيف عليه إذ ذاك لقوله
عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ يقول لو كنتُ معجّلاً عقوبة لعجلتها على القانطين من
رحمتي 1
على
ثانيهما رضاه بما هو عليه من الحال ودوامه عليه فإذا اتصف بهذه الصفة أيضاً خيف عليه لقوله تعالى في كتابه ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قال المفسرون معناه أنهم يصبرون الأفعال التي يعلمون أنها توجب لهم النار فكأن الصبر في الحقيقة على النار وهذا مثل قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۳ ونحن نشاهدهم يأكلون طعاماً طيب المذاق ولكن لما أن كان ذلك الأكل يؤول بهم إلى النار جعله عزّ وجلّ كأنه النار
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقارِبوا سدّدوا أي سددوا ما بينكم وبين أنفسكم وتعلَّقوا بربكم في كل لحظاتكم واستعينوا به في كل أموركم و قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السَّداد فقارِبوا إليه وخذوا أنفسكم بالرياضة في الوصول إليه ولا تَغْتَرُّوا بطول المهلة لئلا يقال لكم ﴿ أَوَلَوْ نُعَمِّرَكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ٤
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن تعلقتم به واستسلمتم إليه فأبشروا أنكم تجدونه حيث تؤملون كيف لا وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنا عند ظن عبدي بي٥
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلجة أي استعينوا بهذه الأوقات واغتنموا العمل والوقوف فيها بباب مولاكم تعانوا على ما أريد منكم ويسهل عليكم ما عَسُر فالحاصل من هذا الوجه لمن امتثله زيادة بشرى على البشرى المتقدمة لأن الإعانة تقتضي البشرى وقد تقدمها بشرى أخرى والبشارات هنا متعددة والمخبر صادق
والمقصود غني كريم يقبل من المُحْسِن ويتجاوز عن المسيء فهل من مشمّر صادق ومثل هذه البشارة ما تضمنه قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ
1 لم نعرف مصدره سورة البقرة من الآية ١٧٥
۳ سورة النساء من الآية ۱۰ و ناراً مجاز مُرْسَل علاقته المستقبلية
٤ سورة فاطر من الاية ۳۷
٥ حديث قدسي متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
88
۱۹
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولم ﴾ ۱ وذلك أن الله عزّ وجلّ لما أن قال للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ فغضب عزّ وجلّ عليهم ففزعوا فطافوا بالعرش أسبوعاً فغفر عزّ وجلّ لهم وأقالهم ثم قال لهم ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به المذنبون من بني آدم أسبوعاً كما طفتم أنتم بالعرش فأغفر لهم وأرحَمَهم كما فعلتُ بكم ففعلوا
فلما جاء الطُّوفان رُفع وبقي أساسه ثم أمر عزّ وجلّ خليله إبراهيم عليه السلام ببنيانه وأمره أن ينادي إليه وقال له عليك بالنداء وعلينا البلاغ فامتثل ما قيل له فأوقع الله صوته لكل من كان سبق في علم الله أنه يحج إليه من ولد آدم في الأرحام والأصلاب فلما أن تعرض صاحب الفيل إلى هدم هذا البيت الذي جعله عزّ وجلّ سبباً لرحمة بني آدم وللمغفرة لهم وأراد أن يحج الناس إلى بيت بناه صاحب الحبشة وكان جيشه لا يطاق فعل الله به ما قد نص في السورة ومتضمن الإخبار بذلك وفائدته أن تعلم عِظم رحمة الله عزّ وجلّ ولطفه بخلقه لأنه عزّ وجل يقول بمتضمن ذلك الإخبار يا أيها المؤمن المذنب انظر إلى أثر قدرتي كيف أهلكتُ من أراد أن يقطع عنك رحمتي مع تمردك عَلَيَّ وأخذك لنعمي لتستعين بها على المعاصي هذا ما أنا لك وأنت على هذا الحال فكيف أكون لك إذا أقبلت عليَّ وامتثلت أمري واتَّبعتَ كتابي وسنة نبيّي أيقدر أحد على ضرّك أو يصل إليك بسوء كيف تكون لو تركتك لنفسك أو تركتُ نصرتك إلى غيري أو أحوجتك إلى غيري أقبل عليّ تجدني بك رحيماً وعليك منعِماً ولك وليا وناصراً أولم تسمع خطابي لك ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ۳ فاستنصر بي أنصرْك وتضرع إلي أرحمك إني أرحم بك منك وأقوى على نصرتك منك
فمن تأمل هذه البشارة ففهمها وعمل عليها وجدها صدقاً حقاً ولقد رأيت بعض الفقراء وكانت سنه فوق المائة سنة يقول منذ رأيت شيخي لم أطلب حاجة من أحد فيقال له في ذلك فيقول إنه أوصاني وقال لي في وصيته اجعل حاجتك في كفكَ فكنتُ كلّما أردت حاجة بسَطتُ يدي إلى الدعاء فدعوتُ الله في قضائها فإن كانت خيرا قضاها لي وإن كانت شرًا أبعدها عني
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث عشر
۱ سورة الفيل الآيات ١ - ٥ سورة البقرة من الاية ۳۰
۳ سورة الروم من الآية ٤٧
3
0
۱۳۰
الوجه الثالث عشر
الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به جميع الوجوه المتقدم ذكرها وما يتشعب منها أو أكثر منها لولا التطويل لذكرنا منها جُمَلاً كلها بأدلتها لكن من نظر وتأمل ما أشرنا إليه على تنويع احتمالاته سهل عليه النظر فيما عداه وبانت له طرق الرشاد وتبين له اليسر على مقتضى احتمالاته ومشادة كل وجه بما يضاده وبشارته بحسبه والاستعانة فيه بحسب مناطه والزيادة في الكل بحسب الفضل العميم
جعلنا الله ممّن هداه لذلك بمنه وأسعده بما إليه هداه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
اليه
حالة
۱۳۱
خاردار
مان
ا چلہ
لولنا 1
حديث وفد عبد القيس
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن وفد عبد القيس لما أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال مَنِ القوم أو من الوفد قالوا ربيعة قال مرحباً بالقوم أو بالوفد غيرَ خَزايا ولا نَدامَى فقالوا يا رسول الله إنَّنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحيّ ال من كفار مُضَر فمُرْنا بأمرٍ فَضْلٍ نُخبِرْ به مَن وَراءنا ونَدخُل به الجنةَ وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تُعطوا من المَغْنَمِ الخُمس ۱ ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدُّبَاءِ والنقير والمزفّت وربما قال المُقيَّر وقال احفظوهن وأخبروا بهنّ مَن وَراءَكم
*
ظاهر الحديث يدل على وجوب الأربعة المأمور بها فيه وترك الأربعة المنهي عنها فيه والحض على ذلك بالحفظ والتبليغ والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله مَن القَوْمُ أو مَنِ الوفد هذا شك من الراوي في أيهما قال عليه السلام هل القوم أو الوفد وفي هذا دليل على صدقهم وتحرزهم في النقل لأنه لما أن وقع له الشك أبدى ما كان عنده
الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة سؤال المقصود للقاصد عن نفسه حتى يعرفه لأنه
عليه السلام سأل عن هذه القبيلة حين قدمت عليه حتى عرفها
۱ لعلها إشارة منه إلى نصرهم على كفار مضر وأخذ الغنائم منهم
الوجه الثالث في هذا من الفقه أن يُنزَلَ كل إنسان منزلته لأن سؤاله عليه السلام إنما كان
لأجل هذا المعنى ولأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال أنزلوا الناس منازلهم ۱ فما نص عليه في هذا الحديث فعله فيما نحن بسبيله فإذا لم يعرف الإنسان القادم عليه لم يتأنَّ له أن يُنزِلَه منزِلَتَه ولهذا كان الخلفاء رضوان الله عليهم إذا جلس أحد بإزائهم وهم في المسجد سألوه ما معك من القرآن ولا ذاك إلا لأن يُنزِلوه منزِلَتَه لأن الفضل كان عندهم بحسب ما يكون عنده من القرآن
الوجه الرابع قوله قالوا ربيعة فيه دليل على ما خَصَّ الله عزّ وجلّ به العرب من الفصاحة والبلاغة لأنه لما أن سأل عليه الصلاة والسلام من هم لم يذكروا له أسماء أنفسهم ولا انتسبوا إلى آبائهم وأجدادهم لأن ذلك يطول الكلام فيه وقلّ أن تتأتى المعرفة بهم عن آخرهم لذلك أضربوا عن ذلك وسمّوا القبيلة التي يحصل بها المقصود دون إطالة كلام إبلاغاً في البيان وإيجازاً في الاختصار
الوجه الخامس فيه دليل على جواز الإخبار بالكل عن البعض لأن من قدم في هذا الوفد لم يكن قبيلة ربيعة كلها وإنما كان بعضها فسموا البعض بالكل وهذا مستعمل في ألسنة العرب كثيراً ما يسمون البعض بالكل والكل بالبعض وهذا من فصيح الكلام
الوجه السادس قوله صلى الله عليه وسلم مرحباً بالقوم أو بالوفد مرحباً أي صادفتم رَحباً وسَعَة وفيه دليل على التأنيس للوارد وذلك بشرط أن يكون ما يأنسون به مطابقاً لحال المتكلم لئلا يدرك الوراد طمع في المورود عليه فيما لا يقدر عليه لأن الرَّحبَ والسَّعة التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام للقادمين عليه كانت عنده حقيقة حِسّاً ومعنى
الوجه السابع فيه دليل على أن من حسن المخاطبة تسمية الوارد حين الكلام معه لأنه عليه السلام قد سمّى هذه القبيلة التي وردت عليه حين خاطبهم حيث قال مرحباً بالقوم أو بالوفد على شكٍّ الراوي في أيهما قال عليه الصلاة والسلام ولأن تسمية القادم زيادة في التأنيس وإدخال سرور عليه وفي إدخال السرور عليه من الثواب ما قد علم ولأنه قد يظن القادم أن الكلام مع غيره لأجل قلة أُنْسِه بالمَحَلّ
الوجه الثامن قوله عليه السلام غير خزايا أي أنتم مسعوفون ۳ في كل مطلوباتكم لأن مَن لم يَخْزَ فقد أجيب وأسْعِف لأن نفي الشيء يوجب ضده
1 أورده مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة رضي الله عنها معلقاً كذا والصواب مُسْعَفون وفي نسخة الأحمدية مسعودون
۱۳۳
الوجه التاسع قوله عليه السلام ولا ندامى هذا إخبار لهم بالمسرة في الآجل لأن
الندامة في الغالب لا تكون إلا في العاقبة لأن حُبَّ الإنسان في الشيء أولاً قد يَخْفى عليه لأجل حبه فيه فائدة ما ترك من أجله فقد يتبين له بعد حصول المراد فائدة ما ترك فيندم عليه أو يسرّ فأخبرهم عليه السلام أولاً بالخير عاجلاً وآجلاً فلا يزال الخير لهم والفرح متصلاً وكذلك هو أبداً كل من قصد جهة من جهات الحق سبحانه حصل له الفرح والفَرَجُ عاجلاً وآجلاً لأن النبي قال مَن ترك شيئاً لله عَوَّضه الله خيراً منه من حيث لا يحتسب ۱ فكل من ترك جهة الله فهو قاصد الأخرى بدلاً منها فالوعد الجميل خير وإنما يكون الندم والحزن والخسران في غير هذه
الجهة المباركة
الوجه العاشر في هذا دليلٌ لأهل الصُّوفة في عملهم على ترك ما سواه وإقبالهم به عليه إذ إن ذلك يُنالُ به حسن الحال في الحال والمآل
الوجه الحادي عشر قولهم يا رسول الله فيه دليل على أنّ هذا الوفد كانوا مؤمنين حين قدومهم لأنه لو كانوا غير مؤمنين حين قدومهم لم يكونوا ليذكروا هذا الاسم وَلَذَكروا غيرَه
من الأسماء
الوجه الثاني عشر فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل العلم والفضل والصلاح والخير وأن يُنادوا بأحب أسمائهم إليهم لأنهم نادوا النبي لا لا لا له بأحب أسمائه إليه وأعلاها وذلك من التأدب منهم معه والاحترام له
الوجه الثالث عشر قولهم إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام هذا الشهر هو رجب الفرد شهر الله الأصم ٢ فيه دليل على تعظيم هذا الشهر وفضله إذ إن الله عزّ وجلّ جعل له حرمة منذ كان في الجاهلية وفي الإسلام
الوجه الرابع عشر فيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ لأن الجاهلية قد عظَّمت هذا الشهر ولم تَدْرِ لماذا عظمته إلا أن ذلك وقع في نفوسها فعظَّمته والمؤمنون عظموه لأجل إعلامهم بحرمته فأبدى القادر ما شاء كيف شاء مرةً بواسطة ومرَّة بغير واسطة
الوجه الخامس عشر فيه دليل على لطف الله تعالى بجميع خلقه ورأفته بهم كانوا مؤمنين أو
1 لم نعرف مصدره سُمِّي بالأصم لأن العرب فيه كانوا لا يتصايحون لحرب
1 lice
١٣٤
کافرین
لأن إلهام الجاهلية لتعظيم هذا الشهر حتى يرفعوا فيه القتال ويسلكوا فيه السبيل حيث شاؤوا لا يعترض أحد أحداً لطف ۱ منه عزّ وجلّ ورحمة بهم في هذه الدار
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن كل من جعل الله فيه سِرًّا من الخير وألهم أحداً إلى تعظيمه وحرمته عادت عليه بركته وإن كان لا يعرف حقه لأن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا الشهر وجعل له حرمة يوم خلق السماوات والأرض فلما ألهم هؤلاء تعظيمه مع كونهم جاهلين بحرمته عادت عليهم البركات التي أشرنا إليها الوجه السابع عشر قولهم بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر أي أن هؤلاء الكفار يقطعون بينهم وبين النبي الله فلا يستطيعون المجيء إليه بسببهم إلا في الشهر الفرد الذي يرتفع فيه القتال وفيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجباً كان أو مندوباً لأنهم ذكروا العذر الذي يمتنعون بسببه من المجيء إليه وبيَّنوه
الوجه الثامن عشر في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم سموا مضر كفاراً فلو كانوا غير مؤمنين لما سمّوهم كفاراً
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن التوفيق تخصيص بالقدرة ولا يؤثر فيه قرب النسب ولا قرب المكان ولا قرب الزمان لأن قبيلة مضر أقربُ فمُنِعوا وقبيلة ربيعة أبعد فأسعِدوا ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله لو كان الظفر بالهياكل والصور ما ظفر بالسعادة بلال الحبشي وحُرِم أبو لَهَبٍ القرشي
منهم
لديهم
الوجه العشرون قولهم فمُرْنا بأمرٍ فَضل أي قطع لا نَسْخَ بعده ولا تأويل وذلك حذراً لئلا يحتاجوا في أثناء السَّنة للسؤال أيضاً والتعليم فلا يجدوا سبيلاً إليه لأجل العذر الذي كان وفيه دليل على طلب الإيجاز في التعليم مع حصول الفائدة فيه وهو من الفقه والتيسير الوجه الحادي والعشرون قولهم نُخبِرْ به من وراءنا فيه دليل على جواز النيابة في العلم الوجه الثاني والعشرون قولهم ونَدخُلْ به الجنة فيه دليل على أنه يُبدأ أولاً في السؤال عن أمر بما هو الآكد والأهم لأنهم سألوا أولاً عن الأمر الذي يدخلون به الجنة وهو الأهم ثم بعد
ذلك سألوا عن غيره
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الأعمال هي الموجبة لدخول الجنة ولا يظن ظان
1 لطف خبر لـ أن مرفوع بالضمة إن سيدنا محمد الله من مضر
4
١٣٥
أن هذا معارض لقوله عليه السلام لن يدخل أحد بعمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله
قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته ۱
﴿
والجمع بينهما أن يقال الحديث الذي نحن بسبيله خطاب للعوام لأنه مقتضى الحكمة وعادة الله تعالى أبداً أنما يخاطبهم بما تقتضيه الحكمة والقرآن بذلك ملان فمن ذلك قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۳ إلى غير ذلك من قوله تعالى بِمَا عَمِلْتُمْ ٤ و بِمَا كُنتُر تَكْسِبُونَ ٥ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ٦ بِمَا أَسْلَفْتُمْ ٧ بِمَا تَفْعَلُونَ ۸ إلى غير ذلك وهو كثير والخطاب في الحديث الآخر لأهل الخصوص وهم المنهمكون في التوحيد والمحققون بالقدرة فلو قيل لمن يتحقق بالقدرة هذا الحديث لأدى بهم الأمر إلى ترك مقتضى الحكمة وترك العمل بمقتضى الحكمة كفر بإجماع وإن اعتمد على القدرة والعمل بمقتضى الحكمة وإن إجلال القدرة إيمان محض ويدخل بذلك في ضمن قوله تعالى لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۹ والنهاية هي الجمع بين مقتضى الحكمة بتصحيح العمل وإجلال القدرة بتفويض الأمر لها ولهذا قال بعض الفضلاء اعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتَوَكَّلْ تَوَكُل من لا يرى خلاصاً إلا بالتوكل ولأجل العمل على هذه الصفة أثنى عزّ وجلّ في كتابه على يعقوب عليه السلام حيث قال ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ ١٠ لأنه جمع بين الحقيقة والشريعة وسأذكر ذلك وأبينه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى
4,
الوجه الرابع والعشرون قوله وسألوه عن الأشربة الأشربة في اللغة تطلق على كل شراب عدا المحرَّم لأن المحرَّم عندهم يسمى بالخمر والأشربة المعهودة عندهم هي ما كان من نقيع التمر ونقيع الزبيب وغير ذلك مما فيه مصلحة لهم وفي سؤالهم عن الأشربة دليل على أنه
۱ رواه البخاري في كتاب الرقاق ومسلم في صفة القيامة والجنة وابن ماجه في الزهد بألفاظ مختلفة جاء في النسخ الأخرى بدلاً من هذا التعليل ما يلي إن الأعمال هي سبب لدخول الجنة ثم إن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة فدخول الجنة برحمة الله تعالى والدرجات بحسب الأعمال
۳ سورة النحل من الآية ۳
٤ سورة التغابن من الآية ٥ سورة الأعراف من الآية ۳۹ ٦ سورة البقرة من الاية ١٤١ ۷ سورة الحاقة من الآية ٢٤ ۸ سورة النمل من الآية ۸۸
۹ سورة يونس من الاية ٢ ۱۰ سورة يوسف من الآية ٦٨
١٣٦
نهي لأنه لو لم يبلغهم في ذلك شيء لما سألوه عنها وفيه زيادة دليل
بلغهم في بعضها تحريم لما قدمناه من أنهم كانوا مؤمنين قبل قدومهم
الوجه الخامس والعشرون قوله فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع فيه دليل على أن الجواب
لا يكون إلا بعد تمام الخطاب لأنه عليه السلام لم يجاوبهم حتى أتموا جميع سؤالهم الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن الفصيح من الكلام الإجمال أولاً ثم التفسير للإجمال بعده لأنه عليه السلام أجمَلَ لهم أولاً ثم بعد ذلك فَسَّر ما أجمل والحكمة في ذلك أنه عند الإخبار بالإجمال يحصل للنفس المعرفة بغاية المذكور ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه فيكون ذلك أوقع في النفس وأعظم في الفائدة الوجه السابع والعشرون أمرهم بالإيمان بالله وحده فيه دليل على أنه يبدأ من الجواب بما هو الأهم والآكد لأنه عليه السلام بدأ أولاً بالأصل الذي هو الإيمان ثم بعد ذلك أجاب
عن الغير
الوجه الثامن والعشرون فيه دليل لقول من يقول بأن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة لأنه عليه السلام لم ينص على الأعمال حتى أثبت الإيمان
الوجه التاسع والعشرون قوله أتدرون ما الإيمان بالله وحده فيه دليل على استفهام المعلم للمتعلم عما يريد إلقاءه إليه لأنه عليه السلام استفهم عن حقيقة فهمهم في الإيمان ثم بعد
ذلك بيَّنه لهم
الوجه الثلاثون قوله قالوا الله ورسوله أعلَمُ فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل الفضل والدين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي الله فردوا الأمر إليه فيه فيما استفهم عنه تأدباً واحتراماً منهم له والحكمة في ردهم الأمر إليه من وجوه الأول التأدب كما تقدم الثاني أن سمعهم منه تحقيق وتثبيت لما كان عندهم الثالث خيفة التوقع لئلا يكون زاد في الأمر شيء أو نقص لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء بالزيادة والنقص وهذا الوجه قد انقطع بانتقال الشارع عليه السلام والوجهان الأولان باقيان لأن علتهما موجودة
الوجه الواحد والثلاثون في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي واحترموه غاية الاحترام وذلك مثل ما التزم الصحابة رضي الله عنهم من التأدب والاحترام حين قال له م ه م ا أي بلد هذا أي شهر هذا أي يوم هذا فقالوا الله ورسوله أعلم ۱ وقد أقروا في هذا اللفظ الله بالوحدانية وله بالرسالة
1 رواه البخاري في الحج ومسلم في القسامة
۱۳۷
الوجه الثاني والثلاثون قوله قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيه دليل لمن يقول بأن أول الواجبات الإيمان دون نظر ولا استدلال لأنه عليه السلام لما أن ذكر لهم الإيمان لم يذكر لهم بعده نظراً ولا استدلالاً
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على جواز الجواب بأكثر مما سئل عنه بل يلزم ذلك إذا كان هو الأصل الذي عليه يتقرر الجواب وبعد صحته يتقرر السؤال لأنهم إنما سألوه عن الأفعال التي توجب لهم الجنة فأجابهم عليه السلام عن الأفعال والاعتقاد وهذا مثل قوله حين سئل عن ماء البحر فقال هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مِيتَتُه ۱ فأجاب بأكثر مما سئل عنه لأن
الحاجة دعت إليه
الوجه الرابع والثلاثون قوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المَغْنَمِ الخَمُسَ فيه دليل على أن الفروع لا تترتب على الأصول إلا بعد تحققها لأنه لم يذكر لهم فروع الإيمان حتى تحقق منهم به وإن كان ما تقدم له من قرائن الحال يقتضي أنهم مؤمنون كما ذكرنا لكن لم يقنع بذلك حتى كان بالمشافهة والتعليم
الوجه الخامس والثلاثون قد اختلف العلماء في ترك النبي ذكر الحج هنا فمن قائل يقول إنما سكت عن الحج لعلم الناس به من كثرة شهرته وهذا ليس بالجيد لأنه يلزم على ذلك ألا يذكر الصلاة من باب أولى لأن الصلاة تتكرر في اليوم خمس مرات وذلك أعظم ما يكون من الشهرة والحج إنما هو مرة في السنة فقد لا يعرف ولا يعهد ولا سيما في أول الإسلام ومن قائل يقول إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض بعد وهذا لا بأس به لكن بقي عليه شيء وهو أن هذا الوفد قد اختلف في قدومه فقيل كان قدومه سنة خمس وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع فعلى القول بأن قدومه سنة خمس أو سبع فهذا التوجيه صحيح لأن الحج لم يكن فُرِضَ بَعْدُ وعلى القول بأن قدومه كان سنة تسع فيبطل التوجيه بذلك مرة واحدة
ويظهر لي في هذا أنه إن كان القدوم سنة خمس أو سبع فالتوجيه ما قاله هذا القائل من أن الحج لم يكن فرض بعد وإن كان قدومه سنة تسع فالتوجيه الذي لاخفاء فيه هو أنه إنما سكت عن لأن الله عزّ وجلّ لم يفرضه إلا مع الاستطاعة وهؤلاء ليس لهم استطاعة لأن العدو قد بينهم وبين البيت وهم كفار مضر فكيف يذكر لهم الحج وهم قد نصوا له أولاً على العلة التي هي موجبة لسقوطه عنهم فيكون تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع في هذه الشريعة السمحة
الحج
حال
۱ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۱۳۸
ثم انظر إلى ما يؤيد هذا ويوضحه وهو أنه لما أن ذكروا له أنهم في المضاربة مع أعدائهم والمضاربة إذا كانت فللغالب الغنيمة فأضرب لهم عمّا لا يجب عليهم وهو الحج لأجل العذر الذي ذكروا له ونص لهم على الخُمس الذي لم ينص لغيرهم عليه لأجل علمه بأنهم محتاجون إلى ذلك لأجل أن الغنيمة في ضمن القتال كما تقدم ۱
الوجه السادس والثلاثون في هذا دليل على أن يخبر كل إنسان بما هو واجب عليه في وقته ولا يلزم غير ذلك لأنه عليه السلام ذكر لهم ما هو الواجب عليهم في وقتهم وترك ما عداه وإن كان يلزمهم بعد ذلك ولأجل هذا قال بعض العلماء في معنى قوله طلب العلم فريضة على كل مسلم قالوا المراد به ما هو واجب عليه في وقته ۳
الوجه السابع والثلاثون لقائل أن يقول قد قال أولاً فأمرهم بأربع ثم أتى في التفسير بخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وإعطاء الخُمُس والجواب أنهم سألوا عن الأعمال الموجبة لدخول الجنة فأمرهم
عليه السلام أولاً بالأصل الذي تترتب عليه الأعمال وهو الإيمان ثم أجابهم بعد ذلك بالأربع فإن قال قائل نعد الإيمان من الأربع ونجعل الآخر زائداً على الأربع قيل له ليس الأمر كذلك لأنه قد علم أنهم مؤمنون بالأدلة التي تقدمت في الحديث على ما بَيَّنَّاه لكن احتاج إلى ذكر الإيمان هنا للمعنى الذي قدمناه وهو ألا يكون فرع إلا عن أصل متحقق فذكره ليقعد هذه القاعدة الشرعية وفيه أيضاً معنى ثانٍ وهو أنه لو كان الزائد الخامس لأبداء الراوي فقال وزادهم على ذلك لأنه قد تحرى فيما هو أقل من هذا في أول الحديث حيث قال مَنِ الوفد أو مَنِ القوم فكيف به في هذا وعادة الصحابة أبداً التحري الكلي والضبط الكلي في نقلهم فلما كان الأمر ظاهراً كما ذكرنا لم يحتج إلى بيان ولا إلى عذر
1 جاء في حاشية نسخة باريس نقلاً من ابن حجر ما يلي قول من قال إن ترك ذكره - يعني الحج - لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي يجب عليهم فعلا وتركاً ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع
أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها
رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه انظر النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ۳ كأن هذا الحديث يشير إلى وجوب إتقان العلوم المستجدة في كل عصر لتبقى الأمة الإسلامية رائدة وسابقة لغيرها ولئلا تكون عالة في هذه المخترعات والاكتشافات الجديدة على غيرها فيسهل استنزاف خيراتها
وثرواتها وخيرة أبنائها
۱۳۹
الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على أن تارك هذه الأفعال المذكورة لا يدخل الجنة وإن
كان مقراً بها لأنهم سألوا عن الأعمال التي بها يدخلون الجنة فنص لهم عليه السلام على هذه الأعمال بعدما قرر لهم الإيمان كما تقدم فالحاصل من هذا أنهم إن لم يعملوا ما نص لهم لم يدخلوا الجنة وإذا لم يدخلوا الجنة دخلوا النار لأنه ليس هناك إلا الداران وبهذا يحتج من يقول بأن التارك لها مع إقراره بها يقتل كفراً وهو القليل والجماعة على أنه يقتل حدا لا كفراً وهو في المشيئة إن شاء عزّ وجلّ عذَّبه وإن شاء غَفَر له وإذا عذبه فالتخليد ليس هناك لاعتقاده الإيمان
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على أنه يُبدأ أولاً بالفرائض ويبدأ من الفرائض بالأوكد فالأوكد لأن الفرائض كثيرة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك ولكنه
قد فضل هذه على غيرها وما فضل على الغير فالمحافظة عليه اكد مع أن المحافظة على الكل واجبة الوجه الأربعون فيه دليل على فضل العلم على غيره من الأعمال لأنه لا يُعلم هذا وأمثاله إلا بالعلم وعدم العلم به سبب لوقوع الخلل فيه وإذا وقع الخلل فيه أو ترك وقع الحرمان من دخول الجنة والهلاك نعوذ بالله من ذلك الوجه الحادي والأربعون فيه دليل على أن أفضل العلوم علم الكتاب والسنة لأنه لا يعرف هذا وأمثاله إلا من الكتاب والسنة وهو المقطوع به والمخلص الوجه الثاني والأربعون قوله ونهاهم عن أربع الحَنْتَم والدُّبّاء والنقير والمزَفّت وربما قال المقيَّر الحنتم اختلف فيه فقيل هو المطلي بالزجاج وقيل هو الخَليّ عن ذلك والدباء هي اليقطين والنقير هو عود النخل كانت العرب تحفر عود النخل وتنبذ فيه والمزفّت هو ما طلي بالزفت وربما قال المقيَّر شك من الراوي في أيهما فقال له الله ولكن المعنى يجمعه مع الأربع وإن كان لم ينص عليه لأن المقيَّر هو ما طُلِي بالقار
الوجه الثالث والأربعون ظاهر هذا النهي يدل على تحريم الانتباذ في هذه الأواني لأن النهي يقتضي التحريم وليس كذلك لقوله عليه السلام حين سئل عنها ثانية فقال انبذوا وكلُّ مسكر حرام فأخبر عليه السلام أن النهي إنما كان خيفة إسراع التخمر فإذا أُمِن مِن ذلك فلا
بأس به
الوجه الرابع والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بسد الذرائع لأنه
إنما نهى عن الانتباذ في هذه الأواني لأن التخمر يسرع فيها
1 كأنه يريد المتفق عليه
رواه مسلم وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة
۶
١٤٠
الوجه الخامس والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله أيضاً في المشهور عنه أن
المرء يخاطب بالإيمان وإن لم تبلغه الدعوة لأن نهيه عليه السلام عن الانتباذ في هذه الأواني إنما هو من أجل التخمر الذي يسرع إليه كما قدمنا وصاحبه لم يشعر به فیشر به جاهلاً به فيكون قد شرب حراماً وهو لم يشعر فيعاقب عليه فنهى عليه السلام عنها لأجل هذا المعنى وإنما أحلها لهم بعد ذلك لأنهم قالوا إن أرضنا لا تحمل الأزقاق ۱ من أجل حيوان عندهم يقطعها لهم فلما أن تبين له هذا العذر منهم ورأى أنهم مضطرون إليها قال انبذوا وكلّ مسكر حرام إيقاظاً لهم وتنبيهاً على تفقدها في كل وقت وحين لئلا يسرع التخمر لها وهم غافلون الوجه السادس والأربعون فيه دليل على فصاحته عليه السلام وإبلاغه في إيجاز الكلام مع إيصال الفائدة بالبيان لأنهم سألوا عن الأشربة وهي كثيرة فلو ذكرها لاحتاج إلى تعدادها كلها ووصفها ولكنه عليه السلام أضرب عن ذلك وأجاب عن الأواني المذكورة لا غير فكأنه عليه السلام يقول الأشربة كلها حلال إلا ما نبذ في هذه الأواني فكان هذا تصديقاً لقوله عليه السلام أوتيت جوامع الكلم
الوجه السابع والأربعون ظاهر هذا الإخبار يدل على أن الأشربة كلها حلال وليس كذلك لنهيه عليه السلام في حديث آخر عن شراب الخليطين مثل التمر والزبيب أو الزبيب والعنب إلى غير ذلك مع أن العلة واحدة في الكل وهي إسراع التخمر فعلى هذا يجب اطراد هذه العلة فحيثما وجدت وقع المنع وحيثما فقدت اطردت الإباحة
الوجه الثامن والأربعون قوله عليه السلام احفظوهن فيه دليل على الأمر بحفظ العلم
والوصية عليه
الوجه التاسع والأربعون قوله عليه السلام وأخبروا بهن مَن وَراءَكم فيه دليل على الحض على نشر العلم وتبيينه وفيه دليل لما قدمناه وهو جواز النيابة في العلم وصلّى الله على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الله عنه
1 الأزقاق ج زِق بكسر الزاي وهو السِّقاء من جلد الحيوان الذي يجز ولا يُنتف رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي ۳ رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه
١٤١
حديث احتساب النفقة على الأهل
عن أبي مسعود البدري۱ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أنفَقَ الرّجُلُ على أهلِهِ يَحْتَسِبُها فهي له صَدَقَة
ظاهر الحديث يدل على أن الإنفاق مع الاحتساب صدقة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إذا أنفق الرجل النفقة هنا هي ما أوجب الله تعالى على الرجل لعياله من الطعام والشراب والكسوة والخدمة والسكنى وغير ذلك من ضروراتهم المعلومة عادة وشرعاً ولذلك قال أنفق ولم يقل أطعم لأن أنفق يعمّ كل ما ذكرناه و أطعم لا يفيد إلا المأكل لا غير
الوجه الثاني قوله عليه السلام على أهله الأهل هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد الزوجة ليس إلا الثاني أن يكون المراد الزوجة وكل ما تلزمه نفقته شرعاً لأن العرب تقول أهل الرجل وهي تريد زوجته وتقول أهل الرجل وهي تريد أهله وأولاده وقد جاء المعنيان في الكتاب وفي الحديث أما الكتاب فقوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَمُ وكان ذلك زوجته وبنيه وقوله تعالى ﴿ فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾ ٣ وأما الحديث فقول أسامة للنبي أهلك يا رسول الله 4 يريد زوجته لا غير والأظهر من هذين الوجهين العموم
لأنه وإن
اسمه عقبة بن عمرو يعرف بـ البدري لأنه سكن أو نزل ماء بِبَدر - في أصح الأقوال - وشهد العقبة
ت ٤١هـ / ٦٦١م
سورة ص من الآية ٤٣ ۳ سورة الأعراف من الآية ٨٣
٤ جزء من حديث الإفك رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
0
١٤٢
كان المراد الزوجة لا غير فغيرها من باب أولى لأن الزوج له الاستمتاع بها في مقابلة النفقة عليها ۱ والنفقة على الأهل ما عداها ليس فيه ذلك وفيه زيادة صلة الرحم
الوجه الثالث قوله عليه السلام يحتسبها الاحتساب هنا هل يشترط فيه إحضار الإيمان أو لا احتمل الوجهين معاً
فإذا كان المراد الإيمان والاحتساب معاً فيكون ترك ذكر الإيمان هنا للعلم به وشهرته ولأنه قد ذكره في غير ما حديث من ذلك قوله عليه السلام من قام رمضان إيماناً واحتساباً إلى غير ذلك فيكون الاحتساب يتضمن الإيمان
وإن كان المراد به الاحتساب دون شرط إحضار الإيمان فيكون لفظ الحديث على ظاهره وهذا أظهر وأرجح والله أعلم بدليل أنه عليه السلام لما أن ذكر هنا الاحتساب وحده جعل ثوابه ثواب الصدقة ولما أن ذكر الإيمان وحده في حديث آخر جعل ثوابه حسنات والحديث هو قوله عليه السلام مَنِ احتَبَس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شِبَعَه ورِيَّهُ ورَوْتَه وبَوْلَه حسنات في ميزانه يوم القيامة ۳ ولما أن ذكر الإيمان والاحتساب معاً جعل ثوابه مغفرة للذنب وهو أعلى الثواب كما تقدم في حديث ليلة القدر
الوجه الرابع هل هذه الصدقة مقصورة في هذا الموضع لا تتعداه أو هي متعدية احتمل الوجهين معاً والظاهر التعدي لأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال ويميط الأذى من الطريق صدقة والكلمة الطيبة صدقة ٤ إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو كثير ولأنه عليه السلام قد جعل لإحضار الإيمان والاحتساب أجراً زائداً وذلك يدل على أنه مقصود بنفسه وإذا كان مقصوداً بنفسه اقتضى تعديه لكل الأعمال واجباً كان أو ندباً ولأنه عليه السلام قد قال أوقع الله أجره على قدر نيته ٥ والنية هي القصد لفعل من
1 إذا كان استمتاع الرجل بزوجته في مقابلة النفقة عليها فاستمتاعها به في مقابل ماذا ونرى أن الاستمتاع حق مشترك على السواء كما قرره المحققون من الفقهاء وليس للزوج حق هجر زوجته الإيلاء منها أكثر من أربعة أشهر وليس المراد تعليق الاستمتاع بشرط الإنفاق فقد يبقى استمتاع الزوج بزوجته من غير إنفاق عليها لفقره المدقع ويبقى ينفق عليها إذا كانت مريضة دون أن يستمتع بها
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصلح ومسلم في الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله
0
كل سلامى من الناس عليه صدقة جزء من حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند والنسائي من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه وأوله ما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء سبعة
١٤٣
الأفعال واجباً كان أو ندباً فهي معنى لا تزيد ولا تنقص وإنما ترتفع وتسمو بانضمام أحد هذين
الوجهين لها أو كليهما وهما الإيمان والاحتساب
الوجه الخامس في هذا دليل لأهل الصوفة حيث يأخذون في تنمية أفعالهم واجباً كان أو ندباً بحسن نياتهم أما الواجب فيزيدون فيه الإيمان والاحتساب وأما المندوب فيزيدون فيه أكثر من ذلك لأنهم ينذرونه أولاً على أنفسهم فيصير واجباً ثم بعد الوجوب يزيدون فيه نية الإيمان والاحتساب وأما المباح فيتخذونه عوناً على طاعة ربهم فيصير مندوباً ثم بعد ذلك يزيدون له الإيمان والاحتساب فترتفع أعمالهم لأجل ذلك وتسمو هممهم ولأجل هذا المعنى كان لهم القدم السابق على غيرهم وإن كانت أفعالهم مع أفعال غيرهم في الظاهر على حد سواء وقد قال عليه السلام إن الله لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولكنْ يَنظُرُ إلى قلوبكم
الوجه السادس قوله عليه السلام فهو له صدقة الصدقة هنا بمعنى الأجر لأنه ليس الفائدة في الصدقة إعطاءها وإنما الفائدة فيها ما يترتب عليها من الأجر وهذا الأجر المنصوص عليه هنا ليس هو ثواب ذلك العمل وحده وإنما هو زيادة الأجر الذي له في النفقة لأن النفقة عليه واجبة ومن فعل الواجب كان مأجوراً لامتثاله الأمر وزيد بحسب ما زاد من إحضار الاحتساب أو الإيمان أو هما معاً أجراً ثانياً
الوجه السابع في هذا دليل على أن إحضار الإيمان والاحتساب مندوب إليهما في الأفعال وليسا واجِبَيْنِ لأنه عليه السلام عَيَّن لفاعلهما الثواب ولم يخبر أنّ على تاركهما عقاباً وهذه الصفة هي للمندوب
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ جعل في الإيمان والاحتساب هذا الثواب المذكور مع أنه ليس فيهما تعب ولا كبير مشقة لأن الجوارح لا تتحرك فيهما ولا تتصرف والجواب أنه إن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث يرد عليه وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى البيان والأظهر من الوجهين أنه معقول المعنى
بيان ذلك أن القلب جارحة بنفسه وإحضار النية فيه بهذه الأوصاف تعب للنفس وزيادة تعب النفس يزيد به الأجر بدليل قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وكل نوع من الأنواع التي تتعب النفس يسمى مجاهدة - وقد تقدم في الحديث قبل - ولأن له أن يفعل ما أمر به على حِدَة واجباً أو مندوباً دون إحضار الإيمان والاحتساب بل له أن يفعل بعض الأفعال دون
۱ رواه مسلم في باب البر والصلة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة العنكبوت من الآية ٦٩
١٤٤
إحضار النية البتة بدليل قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية فقد جعل عليه السلام إحضار النية في العمل من باب الخيرية وإذا كان ذلك في باب الخيرية فإيقاع العمل دونها جائز مجزىء وإلى هذا ذهب أكثر العلماء
لكن هذا ليس على العموم بمقتضى ما يدل عليه صيغة اللفظ وإنما هو في بعض الأعمال دون بعض بحسب ما تقتضيه قواعد الشريعة لأن الأعمال تختلف فمنها ما يكون واجباً ومنها ما يكون مندوباً لا يعمل إلا لله ومنها ما يكون مندوباً وقد يعمل الله وقد يعمل لغير الله أما الواجب فلا بد من إحضار النية فيه لأن الواجبات جعل لها حدود وصفات وأسماء فلا بد من تعيين ذلك بالنية وإلا فالعمل باطل مثال ذلك الصلوات المفروضات لها أسماء وصفات وحدود فلا بد من تعيين الصلاة لتمتاز عن غيرها فيحتاج إلى النية عند الإحرام لهذه العلة وتكون نيته بخمسة شروط على مذهب الشافعي الشرط الأول تعيين الصلاة الثاني اعتقاد وجوبها الثالث العمد إلى أدائها الرابع إحضار الإيمان إذ ذاك الخامس ما قدمناه من اقتران النية بالإحرام
أما عند الإمام مالك رحمه الله فلم يحك عنه في ذلك شيء واختلف أصحابه في ذلك كثيراً فمنهم من شرط فيها مثل شرط الإمام الشافعي رحمه الله منهم من قال إن وقعت بتلك الأوصاف قبل الإحرام بيسير أجزأت ومنهم من قال يكفي في ذلك العمد إلى الصلاة بعينها وزيادة تلك الأوصاف زيادة كمال وهذا هو الأظهر من مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة لأنه لو كان ذلك واجباً وترك الكلام فيه لما صح أن يكون إماماً وقد أجمعوا على أنه إمام واختلف في تعيين الركعات وتعيين الزمان إلى غير ذلك وهو مذكور في كتب الفقه ومثل ذلك أيضاً تَحِلّة اليمين إن أعتق المرء أو تصدق أو صام ولم ينو تحلّة اليمين لم يجزئه عن كفارته وأعاد مرة أخرى وكذلك أيضاً كفارة الظهار ۳ وصدقة المال إلى غير ذلك من سائر الواجبات إن لم يحضر النية لذلك لم تنفعه ويعيد
وأما المندوب الذي لا يعمل إلا الله فهذا هو الذي يدخل في ضمن قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية ففعله دون نية مجزىء وتقديم النية فيه زيادة خير مثال ذلك من قام يتنفل
1 لم نعرف مصدره تَحِلّة اليمين من حلّل اليمين تحليلاً وتحِلّة وتحلاً جعلها حلالاً بكفارة أو بالاستثناء المتصل نحو والله لأفعلن ذلك إلا أن يكون كذا ۳ الظهار هو طلاق الجاهلية ونهى عنه الإسلام يقول الرجل لزوجته أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي أي أنتِ علي
حرام
١٤٥
بركعتين فهو مأجور في إيقاعهما وإن لم يحضر نية لأن هذا الفعل بوضعه لا يكون إلا الله وتقدم النية فيه أفضل كذلك أيضاً إعطاء الصدقة التي ليست بواجبة إذا أعطاها لمن لم يتقدم له به معرفة ولم يكن له عليه حق فبنفس الإعطاء حصل الأجر وإن لم يكن له نية وتقدم النية أفضل وأما المندوب الذي يعمل الله ويعمل لغير الله فهذا لا بد من إحضار النية فيه لأنه مشترك فيحتاج إلى إحضار النية ليخلصه الله مثال ذلك الغسل للجمعة على قول من يقول بأنه سنّة لأنه يشترك فيه التعبد وغيره فقد يغتسل تعبداً وقد يغتسل تبرداً وتنظفاً فيوقع النية ليفرق بين المباح والتعبد
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم جعل في أعمال الباطن هذا الثواب وهو أعظم من الثواب على أعمال الظاهر وجعل إحضار الباطن سبباً في صحة جل أعمال الظاهر
الجواب أنه إن قلنا إن ذلك تَعَبُّد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى بيان والأظهر أن ذلك لحكمة وهي - والله أعلم - أنه لما كان أجل الأشياء من جميع النعم والتعبدات الإيمان ومحله القلب فكل ما كان صادراً عن المحل الذي هو وعاء للإيمان كان أَجلَّ من غيره يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب ۱ فصلاحه أعظم من صلاح غيره وفساده أعظم من فساد غيره لأن الجوارح كلها منقادة إليه
جعلنا الله ممن أصلح منه الظاهر والباطن بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
١٤٦
ياك
حديث مَن يُرِد الله به خيراً يُفَقَّهْهُ فِي الدِّين
البخاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ الدِّينِ وإنَّما العِلْمُ بالتَّعَلُّمِ
في
ظاهر الحديث يدل على تعليق الخير بالفقه وأن العلم لا يُنال إلا بالتعلم والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِد الله به خيراً الإرادة المذكورة هنا هل هي على بابها أي على ما تقتضيه صيغة اللفظ فيكون في المستقبل أو يكون بمعنى الماضي احتمل الوجهين معاً لأن العرب تستعمل المعنيين في كلامها وقد جاء القرآن والحديث بذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله تعالى ﴿ أَتَ أَمْرُ اللَّهِ ۱ وهو يأتي بعد الخطاب وقوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى ابْنَ مَريم والمراد به يوم القيامة فإن كان المراد بصيغة لفظ الحديث هذا المعنى وهو أن يكون للماضي فمعناه ما سبق من حكمته عزّ وجلّ وقدرته
وإن كان المراد به الوجه الثاني - وهو أولى لأن اللفظ يُحمّل على صيغته في المستقبل ويكون بذلك مطابقاً للفعل الصادر من العبد لأن فعل العبد لا يكون إلا بإرادة المولى وقدره قال تعالى في كتابه فَسَنُيَسِرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ٣ فَسَنُيَسَرُهُ لِلْمُسْرَى ٤ وقال تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله
1 سورة النحل من الآية 1 سورة المائدة من الآية ١١٦
۳ سورة الليل من الاية ٧ ٤ سورة الليل من الآية ١٠
١٤٧
4
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد علم من هو الصادق ومن هو الكاذب لكن المراد بهذا العلم العلم الذي يقع عليه الجزاء بمقتضى الحكمة - فإن كان المراد به هذا المعنى فتكون الإرادة في العاقبة
ولأجل احتمال هذين المعنيين لهذه الألفاظ وما شاكلها افترق المؤمنون على طائفتين فطائفة غلب عليها الخوف من السابقة وطائفة غلب عليها الخوف من الخاتمة وإن كان المعنيان
متلازمين لأن السابقة إذا تضمنت الخير أو الشر فالخاتمة في ضمنها داخلة وكذلك بالعكس لكن بينهما فرق ما من طريق المشاهدة وعدمها وهو أن السابقة لا يعلمها أحد إلا الله عزّ وجلّ أو من شاء إطلاعه عليها بالإخبار له وذلك من باب خرق العادة وهي لا تكون إلا للأفراد فلا يقع بالسابقة علم إلا عند معاينة الخاتمة لأنها تدل عليها إذ هي تتضمنها والخاتمة بخلاف السابقة لأنها مشاهَدَة مدرَكة حين يقضي الله بها يعاينها الناس بعضهم من بعض
ويعاينونها من أنفسهم ولهذا قال عليه السلام من مات على خير عمله فارجوا له خيراً ٢ وقد نطق الكتاب والحديث بهما معاً فقال تعالى في السابقة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنا الْحُسْنَى أُوْلَيْكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۳ وقال تعالى في الخاتمة ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ٤ قال العلماء معنى التثبيت في الحياة الدنيا عند الموت والثبات في الآخرة عند سؤال الملكين في القبر وأما الحديث فقوله عليه السلام لأبي هريرة جفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ فاقتصر ٥ على ذلك أو زد فدل على السابقة وقوله عليه السلام إنّما الأعمال بخواتيمها ٦ فدل على الخاتمة
الوجه الثاني قوله خيراً احتمل أن يكون الخير هنا محمولاً على صيغة لفظه فيكون على العموم لأن الصيغة منكرة واحتمل أن يكون معناه الخصوص لأن ذلك سائغ في ألسنة العرب فإن كان المراد به العموم فيكون معناه الخير في الدنيا وفي الآخرة وإن كان المراد به الخصوص فيكون معناه ما قاله بعض العلماء أن المراد بالخير المطلق الجنّة وهذا ليس بالقوي والأول أولى
1 سورة العنكبوت من الآية
رواه الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
۳ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۱
٤ سورة إبراهيم من الآية ٢٧
٥ رواه البخاري في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبري حكاه الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي رواية فاختص من الخصاء وهو تعطيل قوة الذكر عن الجماع والإنجاب
٦ رواه الإمام أحمد في مسنده عن معاوية رضي الله عنه
١٤٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام يفقهه الفقه هو الفهم يقال فقه فلان إذا فهم قال تعالى ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۱ أي لا يفهمون حديثاً والفهم هنا
يحتمل معنيين
الأول أن يكون المراد الفهم في أحكام الله الثاني أن يكون المراد الفهم عن الله
فإن كان المراد الأول فيكون الحديث الآتي بعده مفسراً لهذا المجمل لأنه قال فيه يفقهه في الدين وإذا اجتمع مُطلق ومقيَّد حُمِل المطلق على المقيَّد وهذا الفقه لا يؤخذ إلا بالتعلم على ما أشار إليه عليه السلام في الحديث بعد فيأخذ أولاً في الحفظ والضبط والاجتهاد في مطالعة الكتب الصحاح فإذا فعل هذا كان له الأجر على نفس فعله ذلك إذا كان خالصاً لا يشرك فيه غيره وأجره أجر الناقل للفقه ولذلك قال عليه السلام رُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقَهُ منه وكذلك قوله عليه السلام في حجة الوداع ألا فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبْلُغُه أن يكون أوعى له من بعض مَن سمعه ۳
معه
ثم بعد تحصيل ما أشرنا إليه والعمل به يأتيه إذ ذلك الفقه وهو نور يقذفه الله في قلبه يكون الفهم أو به بقدرة الله عزّ وجل ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب لأن الحفظ مع قلة الفهم قل أن يكون معه علم وقد ذم الله عزّ وجلّ مَن صَدَر منه ذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٤
ولأجل عدم تحصيل هذا الشرط الذي أشرنا إليه الذي هو سبب لحصول هذا الفقه كان كثير ممن يدعي العلم بزعمهم لما حفظوا بعض الكتب وطالعوا بعض الشروحات إذا سمعوا معنى من المعاني لم يروه منقولاً في الكتب التي حفظوها أو طالعوها يقع منهم الإنكار مرة واحدة ويحتجون بأن يقولوا ما سمعنا من قال هذا وإن رأوا في بعض الكتب مسألة وَهَم ٥ قائلها أو صُحُفت في النقل أو أرتجت عليه أخذوها بالقبول ووقع لها التسليم وقالوا هي منقولة
ونسبوها إلى صاحب الكتاب
1 سورة النساء من الآية ۷۸
جزء من حديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما
۳ جزء من خطبة النبي الله في حجة الوداع رواها البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه
٤ سورة الجمعة من الآية ٥ وهم بكسر الهاء في الحساب على وزن وَجِلَ وَوَهم بفتح الهاء في الشيء على وزن وَعَد - وهنا من الثاني
١٤٩
ولا ذاك إلا لعدم النور الذي به يفهمون لأجل أن البساط ۱ الذي عليه يأتي لم يفعلوه مع
أن البساط قد وقع من بعضهم في الظاهر الذي هو النقل كما أشرنا إليه لكن حرموا من أحد وجهين إما أن يكون عملهم لغير الله وإذا كان كذلك فالنور عليهم حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من عمل من هذه الأعمال التي تُراد للآخرة شيئاً يريد به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنّة ورائحة الجنة تُشم على مسيرة خمسمائة سنة وإما أن يدخل عليهم العُجب في نقلهم فيظنوا أن ذلك هو غاية العلم فيحسبوا أنفسهم من العلماء فيحرموا لأجل دعواهم فلو رُزق المسكين معرفة نفسه وأنه إنما يطلق عليه ناقل إن كان نقله على وجهه لرجي له عند الاعتراف بحاله وعجزه بأن الله تعالى يمن عليه بشيء من النور ومن رُزق شيئاً من النور رُجي له التوفيق والزيادة حتى يلحق بأهل الخير العميم المتقدمي الذكر فالحاصل من أحوالهم اليوم أن الكتب رجعت عندهم أسفاراً منقولة الأصول والشروح أسفار محمولة وهذا هو نفس ما ذم الله تعالى في كتابه كما تقدم وقلما يكون مع ذلك توفيق
نعوذ بالله من العمى والضلال
وإن كان المراد بـ الفقه الوجه الثاني وهو الفهم عن الله فيكون هذا الحديث مستقلاً بنفسه والحديث الآتي بعده مستقل بنفسه لأن هذا يُراد به الفهم عن الله والآخر يُراد به الفهم في
أحكام الله عزّ وجلّ وحَمْلُ الحديثين على معنَتَيْنِ أظهَرُ وأفيد من حَمْلِهما على معنى واحد
وقد يجوز أن يكون الحديث الذي نحن بسبيله على معنيين والحديث الآتي بعده مؤكِّدٌ للمعنى الواحد منهما وهو ظاهر بين لأن الفهم في أحكام الله اكد وهذا الفقه هو النور والإلهام وهو مأخوذ من السنة كما قد أشرنا إليه في حديث البيعة
وهذا لا يجده إلا أهل التحقيق والصدق والإخلاص والهدى والنور والحكمة والبرهان فهموا فَفَهِمُوا وأُريدوا فأرادوا أولئك الصفوة الكرام عيون الله من خلقه في أرضه كما قال عمر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه إن الله عيوناً في أرضه من خلقه وإن عَلِيّاً لَمِنْهُمْ ۳ وكان رضي الله عنه يقول نعوذ بالله من معضلة لا يكون فيها عليّ مع أن الخلفاء رضي الله عنهم كلهم عيون في العيون لكن كل واحد منهم يرفع صاحبه تواضعاً في نفسه
۱ البساط - هنا - بمعنى الوسيلة والأداة
مروي بالمعنى وأصله بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له من نصيب رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه والله أعلم
۳ لم نقف على مصدره
10
وتعظيماً لصاحبه لما خصه الله به كذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فكل من فهم عن الله فَهم أحكامه ولا ينعكس اختارهم عزّ وجلّ من خلقه فاختاروه على خلقه وعلى ما سواه فهم به وله بلا مثنوية ۱ ولا التفات
بحرمتهم
نسأل الله بحر متهم عنده أن يمن علينا كما مَنَّ عليهم ولا ربَّ سواه
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن مَن مُنْ عليه بأحد هذين الوجهين فليستبشر بالخير العظيم والفضل العميم إذ إن الشارع عليه السلام قد جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسره إليه وكيف لا تحق لهم البشارة وبهم يُرسِلُ الله الغيثَ ويرفع الجدب ويرحمُ
البلاد والعباد
الوجه الخامس لقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام هنا مَن يُرِد الله به خيراً يُفقهه في الدين وذكر في غيره من سائر الأعمال الثواب وعيَّنه وحدَه ومثل ذلك أيضاً قوله عليه السلام في العلم ما أعمال البِرِّ في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمالُ البِرِّ والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر
والجواب أنه عليه السلام إنما لم يحدد هنا الأجر ولم يعينه إشعاراً منه وتنبيهاً على أن ذلك إذا وجد على حقيقته فليعلم صاحبه بأن السعادة قد حصلت له وليستبشر بأن الله عزّ وجلّ لا يَنكُسُه على عَقِبه ولا يُخيّب مقصده لأن ما عدا هذا العمل من أعمال البر من جهاد وغيره هو محتمل لأن يكون عارية ۳ ومحتمل لأن يكون حقيقة فإن كان حقيقة فيكون له فيه ما وُعِد وإن كان عارية فكأنه لم يكن كما قال عليه السلام إن الرجلَ منكم لَيَعْمَلُ بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبقَ بينه وبينها إلا شبرٌ أو ذراع فَيَسْبِقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ٤
وهذا العمل الخاص إذا مُنَّ به صح ولا يمكن عدم الصحة لأن الإرادة قد سبقت بالخير وإنفاذه وما أراده عزّ وجلّ وحكم به لا ناقض له على ما بيَّناه فهي بشارة عظيمة ونعمة كبيرة وترغيب في هذا العمل الخاص فَليستبشرُ من فَهِم وليلجأ من عَجَز فلعل الكريم الجواد يَمُنُّ بنفحة من نفحات جوده بجوده إنه ولي كريم
1 كأنه يريد هؤلاء الصفوة موحدون الله توحيداً كاملاً يرون كل ما في الوجود يشهد أن الله واحد وموجود وآياته بارزة لِمَن كَانَ لَمُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فهم لا يرون إلا الله ولا يلتفتون إلى ما سواه إنه ملأ
عليهم قلوبهم وعقولهم وسمعهم وبصرهم ووجودهم
سبق تخريجه في الحديث الخامس ۳ العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إليك والمراد هنا غير المخلص
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في خلق الجنين في بطن أمه متفق عليه
0
33
١٥١
الوجه السادس قوله عليه السلام وإنما العلم بالتعلم إنما أتى عليه السلام هنا بـ إنما التي هي للحصر ليبين أن العلم لا يُتَوَصَّل إليه إلا بالتعلم ولا سبيل إلى غير ذلك ومن حاول غير ذلك فقد ضل عن الطريق وإنما أتى عليه السلام بالألف واللام في العلم والتعلم ليبين به أن العلم هو الذي يكون عَلَماً على الخير لأن العلوم كثيرة فأتى بالألف واللام التي هي للعهد لينبه على العِلم الخاص النافع الذي أراده منا
فإن قال قائل قد تكون الألف واللام للجنس
قيل له ذلك لا يسوغ هنا لأن علوم الشرائع من آدم عليه السلام إلى النبي ل ل ا ل كلها من الله تعالى إلى الرسل عليهم السلام إما بواسطة المَلكِ وإما بغير واسطة المَلكِ بحسب ما مشت الحكمة على ما عرف من قواعد الإخبار بالشرائع والمكلَّفون يتلقون ذلك من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فأصله النقل وإذا كان أصله النقل فلا تكون الألف واللام هنا إلا للعهد لأن المراد بالعلم العلم الشرعي وغير العلم الشرعي ليس أصله النقل وإنما أصله الاستنباط والاستنباط أيضاً منه ما يكون جائزاً شرعاً ومنه ما يكون ممنوعاً شرعاً
فلأجل هذه العلة التي أبديناها وهي كثرة العلوم وفيها ما هو ممنوع لم يَسُغْ أن تكون الألف واللام للجنس والمراد بـ العلم المشار إليه هنا قد نص عليه السلام عليه في غير هذا الحديث حيث قال تركت فيكم الثّقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ وما تضمنا من المعاني من علوم الفرائض وغيرها
وقد نص عليه السلام على أشياء جملة وهي تتفرع من الثقلين كما تقدم فمن ذلك قوله عليه السلام تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وهي أول ما يُنسى وقال أيضاً في هذا المعنى بنفسه تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم يُقبض من بعدي حتى إن الاثنين يختلفان في الفريضة فلا يجدان مَن يَفصل بينهما ۳ وكذلك كل ما حضت الشريعة عليه فهو منها
وأما العلم المعرف بالألف واللام فهو ما عرف بالشرع أو بالعادة التي ليس فيها خلل من جهة الشريعة أما الذي يعرف من جهة الشرع فهو كأمره عليه السلام بالتبليغ في حجة الوداع
1 سبق تخريجه في الحديث ۳
رواه ابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه والفرائض هي علم المواريث ۳ رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٥٢
8333
3
كما تقدم وكقوله عليه السلام يسروا ولا تعسروا إشارة إلى الرفق في التعليم وكقوله عليه السلام إنما أنا قاسم والله يعطي ۱ على ما أبينه بعد في الحديث الآتي
وأما ما يعرف بالعادة فهو مثل المؤدب يعلم أولاً الصبيان الهجاء ومعرفة الحروف ثم شيئاً من القرآن ثم شيئاً من اللغة ليفهموا به کتاب ربهم وسنة رسولهم وما أشبه هذا على ما تقتضيه الشريعة من الإجارة على ذلك أو الجعل ۳ عليه على الخلاف في ذلك وما سوى ذلك ممنوع مثل الألفاظ والاصطلاحات التي أحدثت ودلائل الشرع تمنعها وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الأحاديث قبل وقد نص عليه السلام على منع ذلك حيث قال يأتي في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم فخذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون ٤ الوجه السابع في هذا من الفقه أنه لا يكون الفقه إلا بعد معرفة العلم المنقول أو معه على ما قررناه قبل لأنه هو الأصل ولذلك عطف بالواو التي تقتضي التشريك والتسوية بين الشيئين أوزعنا ٥ الله من كليهما أوفر نصيب بمنه
وصلى الله على سيدنا ومَوْلانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه الإجارة الأجرة على العمل
٣ الجُعل والجمال والجعالة ما يجعل على العمل من أجر أو رشوة ٤ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
٥ أوزعنا الله جعل الله لنا قسم لنا
١٥٣
حديث من سلك طريقاً يطلب به علماً
البخاري رضي الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقاً يطلبُ به عِلماً سهل الله له طريقاً إلى الجنّة
ظاهر الحديث يدل على أن من حاول أمراً ليكون له عوناً على طلب العلم سهل الله عليه الوصول إلى الجنة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام من سلك طريقاً السلوك بمعنى الدخول قال تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَفَرَ ۱ أي ما أدخلكم وقال النبي لو سلكوا جُحرَ ضَبْ لَسَلَكتُموه ٢ أي لو دخلوا لدخلتم فإذا كان المراد به الدخول فهل هو مقصور على الدخول في طلب العلم أو يتعدى إلى غيره احتمل الوجهين معاً
والظاهر تعديه لأن ذلك في الشريعة كثير فمن ذلك قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۳ وقوله عليه السلام ينفق على عياله يحتسبها٤ على ما مرّ الكلام عليه وإذا كان متعدياً فيترتب عليه من الفقه أن كل ما كان عوناً على الخير فهو خير وقد وقع النص على ذلك وهو ما جاء في نوم المجاهد أنه عبادة لكونه عوناً له على الجهاد لكن ليس يؤخذ هذا على عمومه وإنما هو بشرطين
الشرط الأول أن يكون الذي يستعان به جائزاً شرعاً ولا يكون حراماً ولا مكروهاً يشهد
1 سورة المدثر الآية ٤٢
متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأوله لتتبعن سنن من قبلكم ۳ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ لا يحكم أحد بين
اثنين وهو غضبان
٤ نص الحديث في البخاري إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة وهو موضوع الحديث الثامن
١٥٤
لهذا قوله عليه السلام للذي طلب منه الوصية وأراد أن يوجز له فيها فقال له لا تقل شيئاً تستعذر عنه في يوم القيامة 1
وقد حكي عن بعض الفضلاء أنه أصابه من العبادة تعب وجوع لقلة ذات اليد ثم فتح عليه في لبن لم يطب له طريقه فامتنع منه فقالت له والدته لما امتنع اشربه وارجُ الله أن يغفر لك فقال لها أرجو الله أن يغفر لي ولا أشربه فانظر كيف امتنع من شربه وإن كان عوناً له على ما كان بصدده لكن لما أن كان فيه كراهيةٌ ما لم يُقدِم عليه وتركه البتة لأن الخسارة التي تعود عليه منه أكثر من الفائدة بل هو عري عن الفائدة لأنه لا يعين على الطاعة إلا الحلال الشرط الثاني أن ينوي به العون على طلب العلم أو على وجه من وجوه الخير على القول بتعدية الحكم وعلى القول الآخر فيكون في طلب العلم ليس إلا لأن المباح لا يؤجر عليه ولا يقربه إلى الجنة حتى ينوي به العون على الطاعة فإذا كان الشيء الذي ينوي به العون على الطاعة من طلب العلم وغيره فرضاً كان أو مندوباً كان له أجر المندوب وزيادة القرب إلى الجنة لأنه عليه السلام أتى بـ الطريق نكرةً والنكرة عامة في أن يكون فرضاً أو ندباً أو مباحاً والرابع ٢ ممنوع على ما بيناه
وهل يتصور هذا في الفرض أعني أن يكون له أجر الفرض وزيادة القرب إلى الجنة إذا اعتقد به العون على طلب العلم فالمشهور من مذاهب الفقهاء منع ذلك لأنهم اختلفوا في فرض وندب إذا اجتمعا بنية واحدة هل تجزىء أم لا على قولين
ومسألتنا من ذلك الباب وعموم لفظ الحديث يقتضي الجواز لكن من أراد أن يخرج عن الخلاف ويعمل بنص الحديث ليعظم له الأجر فينوي في هذا الفرض مثلما ينوي المغتسل يوم الجمعة من الجنابة وللجمعة الذي يريد أن يخرج من الخلاف يقول طهوري هذا الجنابتي وأرجو أن يجزيني عن غُسل جمعتي فيحصل له الخروج عن الخلاف ويكون متبعاً للفظ الحديث عاملاً عليه
الوجه الثاني قوله عليه السلام يطلب به علما الطلب هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد به تحصيل العلم والاشتغال به الثاني أن يكون المراد الاهتمام به والمسارعة إليه يدل على هذا قوله عليه السلام تعلّموا العلم فإن تعلمه الله حسنة وطلبه عبادة ۳ ففرق
1 لم نعرف مصدره والرابع أي القسم الرابع من أقسام المستعان به وقد بين الأقسام الثلاثة قبله فذكر أن منها الفرض والندب والمباح وأما الرابع فهو الحرام ۳ جزء من حديث طويل هذا مطلعه رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثقات وابن عبد البر وقال ليس له إسناد قوي انظر تخريج الحافظ العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين ٢٢/١
100
بين التعلم وطلب العلم وجعل نفس الطلب أعلى من نفس التعلم لأنه عليه السلام شبه الطلب بالعبادة وجعل نفس التعلم إذا كان الله حسنة والحسنة من بعض ما تتضمنه العبادة الوجه الثالث لقائل أن يقول لم كانت الوسيلة هنا أفضل من الشيء المقصود وينبغي أن
يكون بالعكس على ما عرف من قواعد الشريعة والعوائد
والجواب أن الشيء المقصود لم يجعل أخفض رتبة من الوسيلة ولا مثلها لأن الشيء المقصود إنما هو نور يضعه الله في القلوب على ما نقلناه عن العلماء والدرس والنقل والرواية سبب لتحصيل ذلك النور الذي يكون به العلم كما تقدم من قول مالك رحمه الله ليس العلم
بكثرة الرواية
فالحاصل
من
هذا أن الشيئين المذكورين سببان إلى تحصيل النور وأحدهما أشق على النفس وأشد وهو الحث والطلب فجعل له مقام العبادة التي فيها مشقة النفس ومجاهدتها والثاني أخف وهو الدرس والنقل فجعل فيه حسنة وهذا نص صريح من الشارع عليه السلام فيما نقلناه عن العلماء من أن العلم ليس بكثرة الرواية
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ العلم نكرة ولم يأت به مُعَرَّفاً كما أتى به مُعَرَّفاً
في الحديث قبله
والجواب أن قرينة الحال هنا أغنت عن التعريف وهي قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة والتسهيل للجنة لا يكون إلا بالعلوم الشرعية ولما أن كانت العلوم الشرعية متعددة أتى به نكرة من ذلك علم الفرائض والناسخ والمنسوخ وغير ذلك فلمجموع الأمرين أتى به نكرة ـ وهما البساط ۱ ـ وكثرة العلوم
ثم انظر إلى الحديث الذي استدللنا به لما أن أتى به في معرض مدح العلم وما لصاحبه من الخير أتى به معرَّفاً وقيَّده بأن يكون الله ثم عطف بالواو وجميع الخيرات التي ذكرت في الحديث بعد ذلك اللفظ حتى يكون الوصفان شرطاً في الخيرات المذكورة بعد والوصفان هما ما تقدم من أن العلم معرَّفاً يشير به إلى العلم الشرعي ويترك ما عداه وأن يكون الله خالصاً
وبقية الحديث هو قوله عليه السلام وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنازل سُبل أهل الجنة والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح
۱ البساط سبق أن قلنا إن المراد به الوسيلة والأداة
١٥٦
نے
على الأعداء والزَّين عند الأخلاء يرفع الله به قوماً ويجعلهم في الخير قادة وأئمة تُقتَبَس آثارُهم ويُقتَدَى بفعالهم ويُنتَهَى إلى رأيهم تَرغَب الملائكة في خُلّتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصباح الأبصار من الظلمة بالعلم تُبلغ منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يُعدّل بالصيام ومدارسته بالقيام وبه تُوصل الأرحام ويُعرَف الحلال والحرام والعلم إمام العمل والعمل تابعه فَيُلْهَمُه السعداء ويحرمه الأشقياء فكل هذه الخيرات والنعم لا تحصل إلا بعد حصول ذينك الشرطين وصحتهما وحينئذ تكون هذه الخيرات تابعة لهما والحديث أخرجه صاحب الجلية 1 فإن احتج محتج بتضعيفه قيل له قد صحح إسناده الأستاذ السمر قندي
رحمه الله
الوجه الخامس قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة سهل أي قرب ولقائل أن يقول لم جعل ثواب هذا العمل التسهيل ولم يجعل له حسنة ولا غير ذلك كما جعل في الحديث الذي أوردناه
والجواب أنه إن قلنا بأن الحسنة كناية عن الأجر والتسهيل كناية عن تسهيل الطريق له إلى نيل العلم فالحسنة أرفع وإن قلنا بأن التسهيل كناية عن التسهيل إلى الجنة فهو أرفع من الحسنة لأنه لا يُقَرَّبُ أحد إلى الجنة إلا وقد عوفي من النار والمعافاة من النار أفضل من كثير من الحسنات مع دخول النار ولذلك قال عليه السلام لو لم يكن إلا النجاة من النار فقد فاز فوزا عظيماً ۳ فعلى هذا يكون التسهيل أرفع من الحسنة وأفضل الوجه السادس لقائل أن يقول لم لم يقل أدخله الجنة عوض هذا التسهيل كما قال في
أحاديث غير هذا
والجواب أن دخول الجنة هو بالأعمال بفضل الله كما تقدّم وقد قدمنا أن ما هو فيه الآن سبب إلى تحصيل العلم ليس العلم نفسه وليس السبب للعلم كالعلم فلذلك عَدل عن ذكر دخول الجنة وأتى بصيغة التسهيل
1 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء كتاب في عشرة أجزاء ألفه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة ٤٣٠ هـ / ١٠٣٨م حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية
الأستاذ السمر قندي هو الحسن بن أحمد القاسمي إمام زمانه في الحديث استوطن نيسابور له بحر الأسانيد في صحاح المسانيد جمع فيه مئة ألف حديث في ثمانية أجزاء توفي سنة ٤٩١ هـ / ١٠٩٨م ۳ مروي بالمعنى لحديث رواه الإمام أحمد في المسند ۳۱/۵ والترمذي في السنن كتاب الدعوات وفيه فإن تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار
lov
الوجه السابع هذا الثواب المذكور على هذا الفعل احتمل أن يُراد به الآخرة ليس إلا واحتمل
أن يكون ذلك عاماً في الدنيا وفي الآخرة فإن رجعنا إلى صيغة لفظ الحديث فهو للاخرة ليس إلا وإن نظرنا لغيره من الأحاديث فنقول بعمومه في الدنيا وفي الآخرة وهو الأظهر بدليل قوله عليه السلام من خرج إلى المسجد ليعلم خيراً أو ليتعلمه كان في ذمة الله فإن مات أدخله الله الجنة وإن رجع كان كالمجاهد رجع بالأجر والغنيمة 1 فقد نص عليه السلام على مَا لَهُ في الدنيا من الثواب فلا سبيل إلى القول بغيره لكن هذا لا يكون إلا إذا كان العلم المعرف الذي أشار إليه عليه السلام ويكون الله خالصاً وفي تخليصه وحصول حقيقة الفقه الذي أشرنا إليه قبل هو ۳ الشأن فإذا حصل أحدهما أو مجموعهما فقد حصلت حقيقة السعادة لأنه قد قدمنا أن ذلك إذا وجد فهو علامة على أن صاحبه لا يمكر به ولا ينكص على عقبه ومثل هذا ما قاله هر قل وهو الحق الواضح إن الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لم يخرج منها
مَنَّ الله علينا بمجموعهما بِمَنْهِ ويُمْنِهِ
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ الطريق نكرة في الأول والثاني ولم يأتِ به مُعرَّفاً والجواب أن العلوم الشرعية كثيرة كما ذكرنا منها علم القرآن وعلم الحديث إلى غير ذلك من العلوم الشرعية فلما كانت كثيرة كانت طرقها كثيرة مختلفة لأنه ليس ما يتوصل به إلى علم القرآن هو الذي يتوصل به إلى علم الحديث وكذلك العلوم كلها لكل علم اصطلاح يخصه وهو الطريق إليه فلكثرة هذه الطرق أتى بها ۳ نكرة فمن أتى لعلم واحد منها سهل عليه ذلك الطريق الواحد وإن أتى لمجموعها سهلت عليه الطرق كلها وهذا مثل ما أخبر عليه السلام عن الأعمال أن كل صاحب عمل يُدعَى من باب من أبواب الجنة يختص بذلك العمل حتى قال في آخره ويدعى الصائم من باب الرَّيَّان فقال أبو بكر رضي الله عنه ما على كلِّ مَن يُدْعَى من تلك الأبواب كلها فقال عليه السلام وأرجو أن تكون منهم ٤ فكذلك من طلب العلوم الشرعية كلها قرب من كل باب من تلك الأبواب فإن طلب البعض وترك البعض قرُبَ من بعض دون بعض جعلنا الله ممن طلب الكلَّ وسهّل عليه الوصول إلى الكُلِّ ونودي من الكل بمنه وكرمه
لا رب سواه والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لم نعرف مصدره بهذا اللفظ
كذا بزيادة هو
۳ أي بالطريق
٤ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
١٥٨
-11
حديث قيام الأمة المحمدية على الحق إلى يوم القيامة
عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يُرِدِ الله به خيراً يُفَقَّهُهُ
عن معاوية رضي " في الدين وإنّما أنا قاسم والله يُعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرُّهم
مَن خالفهم حتى يأتي أَمرُ الله
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
الحكم الأول تعلق الخير بالفقه في الدين
الثاني أن حقيقة الإعطاء إنما هي الله عزّ وجلّ دون غيره
الثالث إبقاء هذه الأمة على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من
خالفهم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدين الكلام عليه كالكلام
على الحديث قبله لكن هنا زيادة الدين وهو يحتمل وجهين
الأول أن يكون المراد به العلم الذي يقوم به الدين
الثاني أن يكون المراد به التدين
2
فإن كان المراد به الأول فيكون تأكيداً لأحد المحتملات في الحديث قبله وإن كان المراد به الثاني فمعناه أن يفهم المرء ما تديَّن به وحقيقة الحكمة في التدين به وفي أمثاله نوعاً نوعاً فيزداد إذا ذاك إيمانه ويقينه عند فهمه لحسن ما تديَّن به وذلك أن حكمة الحكماء لو جمعت في حكيم واحد ثم رُزق صاحبها التوفيق وقوة اليقين ما كان يرى أن يزيد فيما حُدَّ وشرع ذرة ولا ينقص منه ذرة لما فيه من الحسن واللطف في الحكمة ومن ظهر له هذا المعنى
١٥٩
فقد أعطِي خيراً لم يُعطَ غيرُه مثله قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۱ وإليه أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هو باب العلم لأن النبي قال في حقه أنا مدينة العلم وعلي بابها فقال رضي الله عنه لكل اية ظهر وبطن ولكل حرف حَدٌ ومطلع ٣ فالحَدّ والبطنُ والظَّهرُ يتقارب الناس في ذلك بعضهم فوق بعض درجات والمطلع خصّ الله عزّ وجلّ به الخصوص مِن خلقه وأكرمهم به وهو الحكمة في وضع هذا على هذه الصفة
والأظهر من الوجهين هذا الوجه الذي نحن بسبيله وهو صعب عسير لا يستطيع الوصول إليه إلا مَنْ خالط الإيمانُ قلبه وأبلَجَ اليقين فؤادَه وكان عِلمُه وعَمله الله خالِصاً وأوتي النور والحكمة وأُمِدَّ بالعون والرحمة وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
والألف واللام للعهد لأن المراد به دين الإسلام
الوجه الثاني قوله عليه السلام وإنما أنا قاسم والله يعطي هذا أدل دليل على علوّ منزلته عليه السلام عند ربه وخصوصيته إذ إن هذا الخير العظيم الذي رحم الله به المؤمنين جعله على يديه وقد روي في الأثر أن الله عزّ وجلّ يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الخير وخلقتُ له أهلاً فطوبى لمن خلقتُه للخير وخلقتُ الخير له وأجريتُ الخيرَ على يديه ٤ فالنبي هو أجلّ من أُجرِيَ الخيرُ على يديه
الوجه الثالث لقائل أن يقول لِمَ سَمَّى عليه السلام نفسه المكرمة بهذه الصفة وهي القاسم وحقيقة هذه الصفة إذا تحققت هي إذا كان الإنسان يَقسِم شيئاً محسوساً على أشخاص
معلومين
والجواب أنه عليه السلام إنما وَصَفَ نفسه المكرمة بهذه الصفة للمعنى الذي ذكرنا وهو أن الله عزّ وجلّ قد قسم هذا الخير الذي رحم به المؤمنين على يديه فبين عليه السلام الشريعة بأتم بيان ثم حدَّ الحدود ورغب وحذَّر فقال مَن فعل كذا فعليه كذا على ما جاء في الأحاديث وكذلك القاسم في الشيء المحسوس سواء مَثَل ذلك الفَرَضِيُّ يحقق لكل إنسان قِسْطَهُ فيبين له قَدْرَ مَا لَهُ من الحق وما عليه من اللوازم فهذا من أبدع التمثيل وأفصحه
۱ سورة المائدة من الآية ٥٠
رواه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ المطلع مكان الطلوع أي لكل حرف مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ٤ عزاه المدني في الإتحافات السنية والنبهاني في الفتح الكبير للطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما
تم
ثم انظر إلى الفَرَضِي فإنه ليس عليه أن يبلغ صاحب الحق حقه وإنما يبلغه ويعطيه من بيده
الأمر والنهي والنبي جعل نفسه المكرمة كذلك سواء لأنه أخبر عن نفسه بأنه هو القاسم أخبر بأن المنفّذ لذلك والمعطي إنما هو الله جل جلاله وذلك بقوله والله يعطي فالله عزّ وجلّ هو المعطي وهو المانع لأن الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه وقد نص عزّ وجلّ على هذا المعنى وبيَّنه في كتابه في غير ما موضع فمن ذلك قوله عزّ وجلّ
}
عَلَيْكَ هُدَتْهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ ۱ وقوله تعالى ﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۳ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ ﴾ ٤ إلى غير ذلك وهو كثير وقد ظهر هذا المعنى ورُئي في الوجود حسّياً لأنه عليه السلام بيَّن طريق الهدى على حد واحد ولم يخص بذلك بعض الناس دون بعض فهدى عزّ وجلّ من شاء بفضله إلى التصديق والاتباع وخذل من شاء بعَدْلِهِ فكذَّب وأعرَض وهدى من شاء بحكمته إلى قبول البعض والإعراض عن البعض
الوجه الرابع في هذا دليل على أن للعالم أن يضرب الأمثال في تقرير الأحكام بقدر ما يفهم المخاطب ما أريد منه إذ إنه عليه السلام شبَّه نفسَه المكرَّمة بـ القاسم على ما تقدم ولهذا المعنى قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعبدنا لا بالألفاظ وكذلك قالت ذات النطاقين٥ للمؤدب حين أتته بولدها ليعلّمه القرآن أدبه وأحْسِنُ تأديبه والرحمن علم القرآن فمثل هؤلاء فهموا من هو المعطي وكيف تصريف الحكمة في الأشياء ومن غلب عليه الجهل بهذا المعنى يَنْسُب قلة حفظ الصبي للمؤدب وليس كما يزعم وإنما المانع والمعطي هو الله جل
جلاله في الأشياء كلها دِقّها وجِلَّها ٦ رزقاً كان أو علماً أو عملاً وإنما وظيفة المكلف في ذلك عمل الأسباب امتثالاً للحكمة والتعلق في حصول الفائدة بربه عزّ وجلّ
1 سورة البقرة من الاية ۷ سورة فاطر من الآية ٢٣ ۳ سورة هود من الآيتين ۱۱۸ و ۱۱۹ ٤ سورة الأنعام من الاية ٣٥
0
ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر الصديق صحابية من الفضليات اخر المهاجرين والمهاجرات ت ٧٣هـ / ٦٩٢ م وهي أخت السيدة عائشة لأبيها وأم عبد الله بن الزبير تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عدة أبناء بينهم عبد الله ثم طلقها الزبير فعاشت مع ابنها عبد الله بمكة إلى أن قتل فعميت بعد مقتله للنبي طعاماً حين هاجر إلى المدينة فلم و خبرها مع الحجاج مشهور سميت بذات النطاقين لأنها تجد ما تشده به فشقت نطاقها و شدت به الطعام لها ٥٦ حديثاً
٦ دقها وحلها صغيرها وكبيرها
١٦١
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان الأول أن الأسباب لا تأثير لها بذواتها إلا بحسب ما شاء القادر الثاني أنه لا بد من الأسباب إذ إنها أثر الحكمة وتركها مخالفة وعناد الوجه السادس لقائل أن يقول قد حضت الشريعة وندبت في أعمال البر ومن ذلك ما
نحن بسبيله وقد ذمّت الدنيا وزهدت في أسبابها وذلك كثير ومن ذلك قوله عليه السلام لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ۱ والجواب أنه لما كانت هذه الدار قد قسمت فيها الأرزاق وضمنت بمقتضى الآي والأحاديث أمر الشارع عليه السلام لأجل ذلك بالزهد في التسبب لأنه مقتضى الإيمان لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه يؤمنون بالغيب
والحرص في التسبب عاهة في الإيمان وضعف في التصديق وتعب في تحصيل حاصل والرغبة في التسبب في أعمال البر يقوى به الإيمان ويكون موافقاً ۳ لما به قد أمر ومع ذلك فرزقه قدر له في الدنيا لا بدَّ أن يأتيه حتماً لقوله عليه السلام من بدأ بحظه من آخرته نال من
الذي
آخرته ما أراده ولم يفته من دنياه ما قسم له ٤ والآي والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
والحث ٥ هنا من حقيقة الإيمان وكل ما هو من حقيقة الإيمان أو لازمه كان صاحبه مشكوراً مثوباً ومثل هذا المجتهد إذا اجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ لأنه قد بذل جهده في الأدوات فلما أخطأ لم يضيّع الله عزّ وجلّ له تعبه لأنه لم يترك من جهده شيئاً بمقتضى ما أمر بخلاف العامل بالجهل فإنه لا يُؤجر وإن أصاب الحق على أظهر الوجوه وأولاها
الوجه السابع في هذا دليل على أن الزهد لا يسهل إلا بالتقوى لأنه عليه السلام قال فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ومثل ذلك قوله تعالى وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ٦ والواو فيهما واو الحال ۷ فالأصل هو التقوى فإذا حصل ذلك حالاً أتى إذ ذاك الزهد راغباً
۱ رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين ورواه البيهقي في شعب الإيمان وقال إنه منقطع ولفظه وإن الروح الأمين نفث في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
سورة البقرة من الآية
۳ كذا بالتذكير ٤ لم نعرف مصدره
٥ الحث التحضيض والإعجال ويراد به هنا الرغبة في التسب
٦ سورة البقرة من الاية ۸
۷ هذا يقتضي تقدير أنتم بين الواو والفعل المضارع لأن واو الحال لا تباشره
3
١٦٢
ولأجل هذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر من غيرهم زهداً ورفضاً للتسبب لكثرة تقواهم وقد قال عليه السلام لو توكلتم على الله حَقَّ توكُلِهِ لَرَزقكم كما يرزقُ الطّيرَ تَغدو خماصاً وتَرُوحُ بطاناً ۱ مع أنه قد قال بعض من غلبت عليه شهوة الطلب في معناه إن طيران الطير في الهواء سبب في رزقه فهو تحضيض على التسبب وهذا ليس بشيء وقد أجابه بعض أهل التحقيق بجواب مقنع وهو الحق الذي لا خفاء فيه فقال طيران الطائر كحركة يد المرتعش سواء لا حكم لها
والمجاوب بهذا هو الذي فهم تخصيص الشارع عليه السلام الطير بالذكر من بين سائر الحيوانات من الوحوش والحشرات وغير ذلك لأن الوحوش والحشرات تتبع أسباب معاشها فمن كان منها يرعى تراه أبداً يتبع أرض الخصب ويترك أرض الجَدْب فلا تراها قَطُّ في أرض جَدْبَةٍ ومن كان منها يقتنص تراه أبداً يتبع أثر الصيد بالشمّ حتى يقتنصه فلما كان هؤلاء يشبهون بني ادم في التسبب عَدَل عليه السلام عن ذكرهم وذكر الطير الذي يطير في الهواء وليس في الهواء جهة تُقصد ولا حَبّ يُلتقط ولا شيء يُرعى إلا هواء وضياء ثم يمرح في ذلك ويتردد فيه حتى يؤتى به إلى رزقه أو برزقه إليه فلأجل هذا المعنى خصَّ الطير بالذكر دون غيره من الحيوانات وإن كانت الكل تغدو خماصاً وتروح بطاناً
الوجه الثامن قوله عليه السلام ولن تزال هذه الأمة الأمة هنا هل المراد بها العموم أو الخصوص محتمل للوجهين معاً
فإن كان المراد بها الخصوص فهو ظاهر من وجوه
الأول أن العرب تسمي البعض بالكل والكل بالبعض
الثاني أنه عليه السلام قد أخبر بالفتن التي تكون في آخر الزمان مِن رَفْعِ العِلم وظهور الجهل وظهور الجَوْر إلى غير ذلك مما جاء في أحاديث الفتن وكلها أخبار وما نحن بسبيله خبر والأخبار لا يدخلها نسخ فإذا حملنا الخبر الذي نحن بسبيله على الخصوص صحت الأخبار التي تعارِضُه كلها يؤيد هذا قوله عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين
۱ رواه الإمامِ أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان والخماص جمع خمصان وخمصانة وهو من كان ضامر البطن وخاليه من الطعام من شدة الجوع أو الضعف وعكسه البطان وتغدو تبكر في الذهاب وتروح تعود في المساء أحاديث آخر الزمان من رفع العلم وظهور الجهل والجور كثيرة منها ما رواه البخاري في كتاب الفتن ومسلم في العلم باب رفع العلم والإمام أحمد في ظهور الجور
١٦٣
فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ۱ فهذه الواحدة الباقية في هذا الخبر هي هذه الأمة المنصوص عليها فيما نحن بسبيله فتكون الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين هي هذه الأمة المنصوص عليها
وقد ثبت في بعض الروايات ما هو نص فيما نحن بسبيله فقال فيها لا تزال طائفة من هذه الأمة ومعنى هذا على ما قاله بعض العلماء أنه لا تزال طائفة من أهل العلم قائمين بوظيفة العلم على ما يُرضِي الله وطائفة من أهل الحقيقة كذلك وطائفة من أهل الأعمال الزاكية كذلك وكذلك في كل نوع من أنواع الخير علماً كان أو عملاً أو حالاً لا تزال طائفة من المؤمنين قائمين بذلك الشأن لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله
التي
وإن كان المراد بالأمة المذكورة العموم فوجهه ظاهر أيضاً لأن الأمة الحقيقية هي اتصفت بهذا الوصف المذكور في الحديث وهي المراد بقوله عليه السلام أُمّتي كلها في الجنة ۳ يعني الأمة الحقيقية الماشية على سَنَيْه وسُنّته وما عداهم في حكم المشيئة فمنهم من لا يكون من الأمة أصلاً وهم الذين يبدل بهم ٤ عند الخاتمة نعوذ بالله من ذلك ومنهم من يدخل في ضمن قوله عليه السلام يوم القيامة فسُحقاً فسُحقاً فسُحقاً ٥ فيكون لهم طرف من الإيمان لأنهم يحشرون بعلامة هذه الأمة عليهم
ومنهم من تناله الشفاعة بعدما ينال ما قدّر له من ذلك الأمر العظيم يدل على ذلك قوله
عليه السلام اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ٦
ومنهم من يعذب بأنواع العذاب بحسب اختلاف معاصيهم لأنه روي في غير ما حديث أن
لكل نوع من المعاصي عذاباً يخصه أو ما في معناه
۱ صحيح متواتر انظر الحديث ۳
متفق عليه
۳ رواه البخاري - كتاب الاعتصام - بلفظ كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى الخ
٤ لعله يعني تسوء عاقبتهم والعياذ بالله
0
جاء ذكر هذه الألفاظ في البخاري في حديث الذود عن الحوض وفي الرقاق وفي الأنبياء وفي بعض مواطن التفسير وكذلك في صحيح مسلم في الجنة باب فناء الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه فأقول فسُحقاً ورواية مسلم وفيه فأقول سُحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي وأما اللفظ الثالث فلم يَرِد في كلا
الصحيحين
٦ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رضي الله عنه بلفظ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
١٦٤
الوجه التاسع في هذا دليل على أن من وجدت فيه الصفات المذكورة في هذا الحديث
ومات عليها قطع له بالسعادة حتماً للوعد الجميل ومن كان على غير الصفة المذكورة بقي في المشيئة متوقعاً لما ذكرناه من هذه الأمور الخطيرة
أيقظنا الله من سنةِ الغفلة وحملنا على سبيل الهدى بفضله
الوجه العاشر في الحديث بشارة عظيمة وأي بشارة لمن أراد الخير وصَدَق فيه لأنه عليه السلام قد أخبر أن هذه الأمة لا تزال أبداً على هذا الحال الذي أخبر به إلى يوم القيامة فعلى هذا فخيرهم متعدّ لأنه لو كان غير متعد لانقطعت آثارُهم ولكنهم يخلفون جيلاً جيلاً فمن أراد الخير وصدق فيه يُرجى له أن الله تعالى ييسر له من هذه الطائفة من يدلّه عليه ويُلهمه إليه لأن المخبر صادق والأمر كذلك فيه ولولا هذا الخير لكاد لكثرة ما ظهر من الفساد أن يَقطَع الإنسانُ بأن هذه الطريق قد انقطعت أو يقطع اليأس من نفسه بأنه لا يصل إلى هذه الطريق ولا يجد من يدلّه عليه ولا مَن يرشده إليه
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام قائمة على أمر الله قائمة يحتمل وجهين الأول أن يكون معناه مُوَفِّية لأن العرب تقول فلان قام بالأمر أي وفاه حقه الثاني أن يكون معناه ثابتة على أصولها وقد جاء ذلك في الكتاب وهو قوله تعالى ﴿ قَابِمَةً عَلَى أُصُولِهَا ﴾ ١ أي ثابتة على أصولها ۱
وقوله على أمر الله أي بأمر الله لأن العرب تبدل الحروف بعضها ببعض هذا إذا كان المراد بـ قائمة الوجه الأول وإن كان الثاني فتكون على هنا على بابها و أمر الله هنا هو اتباع ما أمر واجتناب ما نَهى على واجبه ومندوبه ولذلك أتى بلفظ الأمر الذي يحتمل الوجوب والندب وجميع محتملاته على ما هو معروف بين المتكلمين
الوجه الثاني عشر في هذا دليل على ظهور الباطل وكثرته لأنه إذا لم يكن على الحق إلا طائفة واحدة فالباقي على الضلال قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَل ٢ فإذا وجد الحق فما سواه هو الباطل وقد وصف عزّ وجلّ هذه الطائفة في كتابه حيث قال وَقَلِيلٌ مَّا هُم ٣ فإن كنت لبيباً فافزع ٤ عن الأكثر ومِل إلى الأقل تحظ بالسلامة ولهذا
۱ سورة الحشر من الآية ٥ سورة يونس من الآية ٣٢ ۳ سورة ص من الآية ٢٤ ٤ فافزع عن الأكثر انفر وابتعد
*
١٦٥
قال عليه السلام بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء من أمتي قيل يا رسول الله
ومن الغرباء من أمتك قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ۱
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لا يضرهم من خالفهم الضر هنا يحتمل ثلاثة أوجه الأول أن يكون المراد به الأشخاص القائمين بالأمر لا يقدر أحد على ضرهم الثاني أن يكون المراد أن الضر لا يلحق فعلهم ويقبل منهم ولا ينقص لهم من أجورهم شيء إن كانوا مجاورين للمخالفين لهم ومخالطين لهم الثالث أن يكون لا يضرهم ولا يضر عملهم وهذا هو أظهر الوجوه بدليل قوله تعالى ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقوله تعالى لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُه ۳
الوجه الرابع عشر في هذا بشارة عظيمة لمن اتصف بالصفة المذكورة في هذا الحديث إذ إنه لا يخاف الضرر وإن كثر أهله فيكون أبداً مطمئنَّ النفس منشرح الصدر لأن المخبر صادق والمخبر عنه عالم قادر وقد نبه عزّ وجلّ على هذا المعنى وصرّح به في كتابه حيث قال وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كما تقدم والمؤمنون الذين أوجب لهم النصر بمجرد الفضل هم الموصوفون في هذا الحديث ولهذا قال بعض الفضلاء وهو يُمن بن رزق رحمه الله إذا وافقت الشَّريعة ولاحظت الحقيقة فلا تبال وإن خالف رأيك جميعَ الخليقة الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام حتى يأتي أمرُ الله حتى احتملت الوجهين
الأول أن تكون على بابها للغاية الثاني أن تكون بمعنى قرُبَ و أمر الله احتمل وجهين الأول أن يكون المراد به قيام الساعة الثاني أن يكون المراد به الآيات الكبار ونعني بـ الآيات الكبار هنا ما روي أنه بعد ما ينزل عيسى عليه السلام ويُحيي الله به هذا الدين ويعيش ما شاء الله بحسب ما جاء في الأحاديث ويموت ويدفن بين المسلمين ثم يبقى المسلمون بعده يسيراً ثم يقع فيهم الخلل ويكثر فإذا تفاحش ذلك فيهم يرسل الله ريحاً لينةً من تحت العرش تقبض أرواح المؤمنين ثم يرفع القرآن ولا يبقى إذ ذاك إلا الأشرار فيخرج إليهم الشيطان فيغويهم حتى يرجعوا إلى الجاهلية الأولى فإن كان المراد بـ الأمر هذا الوجه فتكون حتى على بابها للغاية وإن كان المراد به الوجه
الأول فتكون حتى بمعنى قرب كما تقدم
۱ رواه الآجري في كتاب فضل العلم بهذا اللفظ ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة المائدة من الآية ١٠٥
١٦٦
الوجه السادس عشر في هذا دليل على أفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم إذ إن الله عزّ وجلّ أبقاها على دينها إلى قيام الساعة من غير أن يدخل عليها في ذلك خلل ولا تتعبد بغير ما شرع لها وغيرها من الأمم ليس كذلك لأنه لم تأتِ قط أمةٌ حتى تنقرض الأخرى
الوجه السابع عشر في هذا دليل على شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عند ربه إذ إن تشريف أمته وتفضيلها يتضمن تشريفه من باب أولى ورفع قذره إذ إن بسببه حصلت لها هذه السعادة العظمى جَعَلَنَا الله من أمته وأسعدنا باتباع سنته إنه ولي كريم
الوجه الثامن عشر في الحديث إشارة لأهل الصوفة وهو أن أمر الله تعالى عندهم عام والمراد به الخصوص أي يختص بكل واحد بحِدَتِهِ دون مشاركة غيره وهو الموت فيكون المراد بسياق الحديث بأن يموتوا على الخير فتنشرح صدورهم للوعد الجميل وينتظرون الموت يفرحون به كالغائب يَقدُمُ على أهله
جعل الله به فَرَحَنا وجعل يومَه خَيْرَ أيامنا بِمَنّه ويُمْنِه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٦٧
حديث سؤال القبر وفتن
عن أسماء أسماء رضي شيء لم أكن أُرِيتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأُوحِيَ إِليَّ أنكم تُفْتَنون في قبوركم - مِثْلَ أو قريباً لا أدري أي ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال يقال ما عِلْمُك بهذا الرجل فأما المؤمنُ أو الموقنُ لا أدري أيهما قالت أسماء فيقول هو محمّد رسولُ الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتَّبعناه هو محمد ثلاثاً فيقال نَمْ صالحاً قد عَلِمْنا إنْ كنتَ لَمُوقِناً به وأما المنافقُ أو المرتابُ لا أدري أتي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعتُ الناس يقولون شيئاً فقلته
الله عنها أن النبي حَمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من
ظاهر الحديث يدل على فتنة القبر وسؤاله والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول حمد الله فيه دليل على أن الأمور المهمة تستفتح بحَمدِ الله لأن هذا الذي استفتح عليه السلام بالحمد فيه كان أمراً مُهما عظيماً وهو أنه عليه السلام كان قد انصرف من صلاة كسوف الشمس ثم أقبل على الناس يَعِظُهم ويُذَكَّرهم وكذلك كانت سُنَّته عليه السلام في كل أمر له بال يستفتحه أولاً بالحمد وكذلك السنّة في خطبة النساء لأنه أمر له بال وقد تقرر ذلك من فعله عليه السلام ومن فعل الصحابة
الوجه الثاني قولها وأثنى عليه فيه دليل على أن الثناء بعد الحمد من السنَّة ومرغب فيه لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك واستقر عمله وعمل الصحابة عليه هذه هي السنة فيما يخصه عليه السلام وأما غيره فلا بُدَّ له من الصلاة عليه لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاء من بعدي ۱ والخلفاء بعده والصحابة عن آخرهم كانوا يصلون عليه بعد
الحمد والثناء على الله عزّ وجلّ
1 سبق تخريجه في الحديث ۱
١٦٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا فيه دليل على أنه عليه السلام لم يكن يرى من الغيب جميعه في الزمانِ المتقدم على هذا الموطن إلا البعض وأنه في هذا الموطن تكملت له الرؤية لتلك الأشياء كلها
ويرد على هذا سؤال وهو أن يُقال ما المراد بقوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه هل المراد به جميعُ الغيوب أو المراد به ما يحتاج به الإخبارُ إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة
والجواب أن لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والظاهر منهما الوجه الأخير وهو أن يكون المراد به ما يحتاج به الإخبار إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة أو ما أكرمه الله بالاطلاع عليه
1,
والأول ممنوع يدل على ذلك الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى ﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله ۱ وأما الحديث فقوله عليه السلام مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم ما تَغِيضُ الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعةُ إلا الله وأنه لا يمكن أن يُحْمَل هذا على جميع الغيوب لأن ذلك يؤدي إلى استواء الخالق والمخلوق وهو مستحيل عقلاً وقد قال عزّ وجلّ في كتابه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۳ والأشياء منها ما قد وقع قبل خَلقِ بني آدم ومنها ما يقع بعد موتهم فكان ذلك مستحيلاً من طريق العقل والنقل الوجه الرابع فيه دليل على أن ما أرِيَ له عليه السلام من الغيوب فله الإخبار به وله ألا يخبر به وله أن يخبر ببعضه ولا يخبر بالبعض بخلاف الوحي فإن عليه أن يخبر به كله لأنه عليه السلام لما أُرِي له هنا ما أري أخبر ببعض ما رأى وهو الجنة والنار وسكت عن الغير ولم يكن ليفعل ذلك في الوحي إلا أن يخبر به كله كما أوحي إليه
والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه قد يكون فيما يُرى أشياء لا يمكن لأحد الاطلاع عليها ولا يقدر على ذلك إلا هو عليه السلام لِمَا أمدَّه الله به من القوة والعون بخلاف الوحي فإنه لا
يكون إلا بقدر ما تقدر الأمة على تلقيه
۱ سورة النمل من الآية ٦٥
رواه الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ سورة الرحمن من الآية ۹
١٦٩
الوجه الخامس فيه دليل على عِظم قدرة الله تعالى إذ إنه عليه السلام رأى في هذه الدار في هذا الزمن اليسير ما لم يره ليلة المعراج في العالم العلوي ومشاهدة الملكوت الوجه السادس فيه دليل على أن القدرة لا تتوقف على ممكن لأنه عليه السلام رأى في
هذا الزمن اليسير أموراً عظاماً ثم عَقَلَها جميعها مع إبقاء أوصاف البشرية عليه الوجه السابع قوله عليه السلام حتى الجنّة والنّار هذا اللفظ محتمل لوجهين الأول أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بأنه عاين كلَّ ما يَلْقَوْن بعد خروجهم من هذه الدار حتى يستقروا في الجنة والنار الثاني أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بعظم ما رأى من أمور الغيب فذكر الجنة والنار تنبيهاً على ذلك لأن الجنة قد رُوي أن سقفها عرش الرحمن والنار في أسفل السافلين تحت البحر الأعظم فإذا رأى هذين الطرفين فمن باب أولى أن يرى ما بينهما
الوجه الثامن فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان
حقيقة إذ إنه عليه السلام عاينهما في هذا المقام
الوجه التاسع فيه دليل على أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هذه الدار وهي في العالم العلوي فوق السبع الطباق وسقفها عرش الرحمن - كما تقدم - محدقةٌ بالسُّور ولها شُرَفات وأبواب إلى غير ذلك مما قد علم من صفتها وعلوّها ورأى النار وهي في أسفل سافلين تحت البحر الأعظم الذي عليه قرار الأرضين - على ما قد علم - ثم مع هذا البعد والكثافة العظمى لم يحجبه شيء من ذلك عن الرؤية والمعاينة
وهي
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تُحصَر بالعقل ولا تجري على قياس لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هنا وعاينها وليلة أسري به لم يرها وإنما رأى سدرة المنتهى وهي ليست في الجنة - على ما سيأتي بيانه في حديث المعراج إن شاء الله - ورأى النهرين اللذين ينبعان من أصلها ويمضيان إلى الجنة - وكل هذا يأتي في حديث المعراج إن شاء الله - فكان هذا أدلَّ دليل على أن القدرة تحجب ما شاءت كان بواسطة أو بغير واسطة وتُبدي ما شاءت كان بحجاب أو بغير حجاب
الوجه الحادي عشر يترتب على فائدة الإخبار بهذا ترك الالتفات للعوائد وتقوية الإيمان وترك الهم والفرح لإصابة شيء أو ذهابه إذا تحقق المرء بعظم القدرة التي هو صادر عنها فينشرح صدر المؤمن إذ ذاك للتعلق بجناب مولاه وعدم الالتفات إلى ما سواه وتكون يده لا تعويل عليها فيما يتصرف فيه من الأشياء إبقاء لأثر الحكمة
۱۷۰
الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام تفتنون في قبوركم تفتنون بمعنى رون قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
١ أي
لا يُخْتَبَرون لكن الاختبار هنا بوجه خاص كما أخبر في باقي الحديث على ما سيأتي بيانه الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن الله عزّ وجلّ قد عافى نبيَّه عليه السلام من فتنة القبر وأكرمه بذلك لأن قوله عليه السلام تُفتَنُون خطاب مواجهة فلم يكن هو عليه السلام داخلاً في الخطاب ولو كان داخلاً مع أمته في ذلك لقال نُفَتَنُ في قبورنا يزيد هذا إيضاحاً وبياناً قوله عليه السلام في باقي الحديث يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل ولا يمكن أن يسأل عن نفسه المكرمة
فإن قال قائل لعل أن تكون له فتنة خاصة به ليست على هذه الصيغة
قيل له لو كانت له فتنة خاصة لذكرها وبينها ليسلي أمته بذلك ويهون عليهم ما هم إليه سائرون كما فعل عليه السلام ذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله عليه السلام لِيُعَزَّى المسلمون في مصابهم المصيبة بي ۳ ومن ذلك قوله عليه السلام لفاطمة حين قالت واگرْباهُ فقال لا كَرْبَ على أبيكِ بعد اليوم ۳
ومن ذلك إخباره عليه السلام عن نفسه المكرمة بأنه يصعق يوم القيامة فيمن يصعق ثم يفيق من تلك الصَّعقة ويكون هو أول من يُفيق فيجد موسى عليه السلام متعلقاً بساق العرش لا يدري ري أَصَعِق فيمن صَعِق ٤ وقام قبله أم لم يصبه شيء إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى فلو كانت له عليه السلام فتنةٌ تخصّه لما ترك ذكرها كما لم يترك ذكر ما أشرنا إليه ولأن في ذكره لذلك لطفاً بأمته وتهويناً عليهم فيما بين أيديهم - كما تقدم - وكان عليه السلام ينظر أبداً ما هو أحسن لهم فيفعله لأنه كان بالمؤمنين رحيماً
الوجه الرابع عشر هذه الفتنة هل هي عامة في الخلق كلهم صغاراً وكباراً أو هي مختصة
1 سورة العنكبوت الآيتان ۱ -
نص الحديث عن سعد بن سهل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيُعَزّي الناس بعضهم بعضاً من بعدي إلى آخر الحديث رواه أبو يعلى في المسند والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان والمسلمون نائب فاعل للفعل المبني للمجهول يعزّى و المصيبة مفعول مطلق للمصدر مُصاب ۳ رواه البخاري في المغازي باب مرض النبي لا الهلال و الإمام أحمد في المسند وابن ماجه والنسائي عن أنس رضي عنه بلفظ لما ثقل رسول الله الله عن العمل لم يتغشاه الكزب فقالت فاطمة واكَرْبَ أبتاه فقال ليس على أبيك كَرْبُ
الله
بعد اليوم الخ ٤ صعقة النبي صلى الله عليه وسلم و رواها البخاري في كتاب الخصومات وفي الأنبياء ورواها مسلم في الفضائل في حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه
۱۷۱
بمن بلغ التكليف دون غيره لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والأظهر من الوجهين العموم لأنه عليه السلام قد صلى على صبي ودعا له بأن يعافيه الله من فتنة القبر فلو لم تكن الفتنة عامة لما صح أن يدعو له بذلك
الوجه الخامس عشر إذا كانت الفتنة عامة هل ۱ هي على حد سواء للصغير والكبير أو تختلف محتمل للوجهين معاً لأن القدرة صالحة لكليهما وأمور الآخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما هي موقوفة على إخبار الشارع عليه السلام ومسألتنا هذه لم يرد فيها نص فيتعين فيها
هي
الإيمان بالفتنة مطلقاً والتعيين فيما نص عليه وعدم التعيين فيما لم ينص عليه وتركه للاحتمال
الوجه السادس عشر فيه دليل على رد الأرواح إلى الأجساد في القبور لأن الفتنة لا تكون إلا للحيّ وأما الميت فلا يتأتى أن يُفتَن لأنه لا يفهم ولا يعقل ولا يُحِس بألم ولا تنعم وهذه الحياة التي في القبر والموتة التي تكون بعدها هي إحدى الحياتين وإحدى الموتتين اللتين أخبر بهما عزّ وجلّ في كتابه حيث قال رَبَّنَا أَمَتَنَا اثنين وأحييتنَا اثْنَتَين على ما قاله بعض العلماء ﴾
الوجه السابع عشر في هذا دليل على عِظم قدرة الله تعالى وأنه لا يعجزها ممكن نحو ما تقدم لأن الحي أبداً مهما أهيل عليه شيء من تراب ينطفىء ويموت وهو الآن يحيا تحت التراب ولا يضُرّه وهذا مما يجب الإيمان به على ما جاء الخَبَر ويُترك الالتفات للكيفية لأنه من جملة الغيوب والله عزّ وجلّ يقول في صفة المؤمنين يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ
الوجه الثامن عشر قوله عليه السلام مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال مثل أو قريباً شك من الراوي الذي روى عن أسماء في أيهما قالت وفيه دليل على تَحَرّيهم في النقل وصدقهم لأنه لما أن أشكل عليه ما قالت أسماء أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به
الوجه التاسع عشر تمثيله عليه السلام فتنة القبر بفتنة المسيح الدجال تحتمل وجهين الأول أن يكون مثل بها لِعَظَمِها إذ إنه ليس في الدنيا فتنة أعظم منها أعاذنا الله منها بمنّه
الثاني أن يكون مثل بها تنبيهاً منه عليه السلام على حال المنافق أو المرتاب في قصر العلة وذلك أن الدجال يَدَّعي الربوبية ويستدل عليها بأشياء منها أنه يُحْيِي وَيُمِيت ومنها أنه يسير لِسَيْره مِثلُ الجنة عن يمينه ومثل النار عن يساره ومنها أن أموال من يأبى عن اتباعه تَتْبَعُهُ إلى غير ذلك مما جاء في عظم فتنته وبعد هذا كله ذاتُه تكذب كلَّ ما اسْتَدَلَّ به لأنه أعور
1 كذا بحذف الفاء قبل هل سورة غافر من الاية ١١
ومركوبه أعور فلم تعطه قدرته أن يحسّن خَلْق نفسه ولا خَلْق مركوبه ثم بعد ذلك يَنْزِل عيسى عليه السلام فيقتله بحربته حتى يُرى دمه في الحربة فلو كان إلها لدفع النقص والهلاك عن نفسه والمنافق أو المرتاب أشبه في هذا المعنى لأنه أظهر الإيمان في الدنيا وتلبس به في الظاهر ولم يكمل ما شرط عليه فيه فإذا احتاج إلى الإيمان واضطر إليه لم ينفعه فأشبَهَ الدجال في علته القاصرة ولحوق الهلاك به
وقد يحتمل أن يكون عليه السلام مثل به تنبيهاً على هذين الوجهين معاً وهو الأظهر والله أعلم لأنه أجمع للفائدة
الوجه العشرون قوله عليه السلام يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل هذا الرجل المراد به ذاتُ النبي ورؤيتها بالعين وفي هذا دليل على عِظَم قدرة الله تعالى إذ الناس يموتون في الزمان الفرد في أقطار الأرض على اختلافها وبعدها وقربها كلهم يراه عليه السلام قريباً لأن لفظ هذا لا تستعمله العرب إلا في القريب
في
الوجه الواحد والعشرون في هذا ردّ على من يقول بأن رؤية ذات النبي في الزمن الفرد أقطار مختلفة على صور مختلفة لا تمكن لأن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله وقد قال عليه السلام من راني في المنام فقد راني حقاً ۱ فمَن يقول بعدم الرؤية فقد كذب هذا الحديث وقد حَصَرَ القدرة التي لا تُحصَر ولا ترجع إلى حد ولا إلى قياس
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل لمن يقول بأن رؤية النبي الله في الزمن الفرد في أقطار مختلفة سائغة ممكنة فدليلهم من طريق النقل ما نحن بسبيله ودليلهم من طريق العقل أنهم جعلوا ذاته السنية كالمراة كل إنسان يرى فيها صورته على ما هي عليه من حسن أو قبح والمراة على حالها من الحسن لم تتبدل
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الإبهام عند الاختبار من الشدة في الامتحان لأنهما عدلا عن ذكر الاسم المعلوم بالإشارة إلى الذات المكرمة وعدلا عن ذكر الإيمان إلى ذكر العلم فكان ذلك إبهاماً على إبهام كل ذلك شدة في الامتحان ولو لم يريدا شدّة الامتحان بذلك لقالا له كيف إيمانك بمحمد هذا فيكون أخفَّ عليه بل فيه شَبَه من تلقين الحُجَّة
نسأل الله أن يلهمنا الحجة عند عِظَم هذا الامتحان
1 رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
جاء في نسخة باريس ما يلي ومنهم من جعلها كالشمس وهو أولى لأنها تُرى من جميع أقطار الدنيا وهي
ني محل واحد
۱۷۳
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل لما قدمناه من أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأن الناس كلهم يرون النبي الله وهم في بطون الثرى ويُسألون عنه والثرى أكثر كثافةً من الجواهر كلها وكلهم يرونه قريباً متدانياً لأن هذا لا تستعمل إلا للقريب المتداني الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على صحة كرامة الأولياء في اطلاعهم على الأشياء البعيدة يرونها رؤية العين قريبة منهم ويخطون الخطوات اليسيرة فيقطعون بها الأرض الطويلة لأن القدرة صالحة لكل ذلك ولهذا قال بعضهم الدنيا خطوة مؤمن ومثل هذا اطلاعهم على القلوب مع كثافة الأبدان
وقد حكي عن بعض الفضلاء منهم في هذا الشأن أنه اجتمع مع بعض إخوانه بموضع وكان في القوم رجل من العوام ليس منهم فاطلع بعض إخوانه على قلب ذلك الرجل فرأى شيئاً منه لا يعجبه فخرج عنهم فخرج إليه هذا السيد المتمكن فقال له ارجع ما رأيتَ فقد راه غيرُك وإن لم يُحمل هذا هنا فأين يُحمَل فرَدَّه من طريق الفتوة ١ الوجه السادس والعشرون فيه تفسير وبيان وإيضاح لأحاديث ومسائل جملة تُشْكِلُ على
بعض الناس عند سماعها
فمن ذلك ما رُوي في الموت أنه يُعرَضُ يوم القيامة على أهل الدارَيْن ويعرفونه ومن ذلك معرفة المؤمنين ربهم عزّ وجلّ يوم القيامة حين يَتَجلَّى لهم ويقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ولم يتقدم لأكثرهم رؤيته عزّ وجلّ ولا معرفته
ومن ذلك ما يتفق لبعض الأولياء من معرفتهم ببعض المسائل الفقهية من غير أن يتقدّم لهم بها علم ثم يجدون ذلك موافقاً للعلم المنقول سواء بسواء إلى غير ذلك مما يشبه هذا المعنى وهذا كله في القدرة مع هذه القاعدة التي تقدم ذكرها لا إشكال فيه لأن القدرة تصنع ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السابع والعشرون قوله فأما المؤمن أو الموقن هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قالت أسماء وفيه دليل على ما تقدم من صدقهم وتحريهم في النقل والمؤمن والموقن صفتان متقاربتان على ما سيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثامن والعشرون قوله فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيناتِ والهُدى فأجبناه واتَّبَعناه وهو محمّد ثلاثاً هذا جواب أجلَّ ما يُمكن من المعرفة والإيمان لأنهم أخبروا
۱ الفتوة ـ هنا - بمعنى المكاشفة القلبية
١٧٤
باسمه عليه السلام وشهدوا له بالرسالة وبالهدى وبالبينات وادعوا أنهم أجابوا لذلك واتبعوا وهذا غاية ما يمكنُ البشر في الفعل والجواب ثم مع هذا الجواب المقنع لم يُقنَع منهم بالجواب مرة واحدة حتى أعادوها ثلاثاً
الوجه التاسع والعشرون يَرِدُ على هذا سؤال وهو أن يقال إعادتهم السؤال ثلاثاً هل هو تعبد أو معقول المعنى والجواب أنه محتمل لهما معاً فإن قلنا بالتعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فهو ظاهر من طريق العقل والنقل
أما العقل فلأن من فعل شيئاً وأتقنه مرة واحدة لم ينسب بفعله ذلك لا إلى صنعة ولا إلى إتقان لأن الواحدة قد تكون بحكم الوفاق والاثنين كذلك محتملان فإذا فعل ذلك ثلاثاً نُسِب إلى حسن الصنعة والإتقان في ذلك الشيء الذي فعل لأنه لا يمكن أن يقع الشيء في الغالب ثلاث مرات حَسَناً إلا عن تدريب به ومعرفة
ومثال ذلك الرامي إن رمى أولاً فأصاب فإنه لا يحسب رامياً إذ إنها قد تكون وفاقاً وكذلك في المرتين فقد تكونان وفاقاً فإن كرر ذلك ثلاثاً عُلم أنه لم يصب إلا لمعرفته وحسن صنعته لأن الثلاثة في الغالب لا تكون وفاقاً
وأما النقل فلأنه عليه السلام كان أبداً يكرر السؤال ثلاثاً في كل أمر ذي بال وهذا أمر له خطر وبَالٌ فكان التكرار فيه ثلاثاً
الوجه الثلاثون في هذا دليل على أن الأحكام في الآخرة جارية على مقتضى الأصول الشرعية
في هذه الدار
الوجه الحادي والثلاثون تكرار هذه الثلاث هل المراد به تكرار الجواب فقط فيكون الملكان عليهما السلام سألاه مرة واحدة وأجاب هو ثلاث مرات أو المراد به تكرار السؤال
والجواب
محتمل لهما معاً لكن ظاهر اللفظ ينص على أن المراد السؤال والجواب معاً لأنه ذكر السؤال والجواب ثم بعد ذلك قال ثلاثاً فدل على أن ما ذكر قبل ذكر الثلاث يُعاد بِرُمَّتِهِ ۱ الوجه الثاني والثلاثون في هذا دليل على أن الحق لا يتبدل وإن امتُحِنَ صاحبه به مراراً
۱ في حاشية نسخة باريس ما يلي قال محشيه قلت أفاد هذا أن الذي تكرر ثلاثاً هو لفظ محمد وظاهره أن السؤال لا يتكرر وكذا الجواب وإنما المكرر هذا اللفظ فقط فقوله ثلاثاً معمول لـ يقول لكنه قيد في قوله هو محمد خلافاً لما
قيده كلام الشارح
۱۷۵
لأنه لَمَّا أن كان هذا المسؤول على الحق وأعيد عليه السؤال ثلاثاً لم ينزع عن الجواب وبقي متمسكاً به لمعرفته وتحققه ولو كان الجواب بالباطل لدهش عند السؤال الثاني أو الثالث ونزع عنه خيفة أن يكون لم يصب الحق فيكون إعادة السؤال لأجل ذلك وقد قال عزّ وجلّ في كتابه وَلَوْ ولو كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فما كان من عند الله فهو حق والحق لا
خلاف فيه ولا يتبدل
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على أن المَيْزَ ۳ خَلَقٌ من خَلقِ الله يعطيه عزّ وجلّ من شاء بمقدمة وبغير مقدمة لأن أكثر هذه الأمة لم يتضلع بالعلوم حتى يعلم ذات النبي و لا الله وصفاته بالعلم وإنما ذلك القليل منهم ثم مع الجهل بصفته وذاته إذا رأوه يقولون هو محمد ويكرر عليهم السؤال ثلاثاً ثم لم ينزعوا عن ذلك ويعرفون أنه الحق وهذا أدل دليل على ما قدمناه من رفع الإشكال في بعض الأحاديث وبعض المسائل وكذلك أيضاً في الآي إذ إن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله لكل ما ورد من ذلك
الوجه الرابع والثلاثون في هذا دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجهل ببعض صفات الباري - عزّ وجلّ - مع اتباع أمره ونهيه لا يضرّ وأن معرفته عزّ وجلّ بالدليل والبرهان مع ترك الاتباع لأمره ونهيه لا تنفع لأن المؤمنين كلهم مَن عَرَف منهم صفة النبي لا الله ولو لمن لم يعرفها إذا رأوه عرفوه أشد المعرفة لأنهم يُسألون عنه ثلاث مرات وهم يجيبون بأنه هو محمّد رسول الله ه و لو لم ينزعوا عن ذلك
6
ومن المنافقين أو المرتابين من راه عليه السلام في الدنيا وعرفه بحقيقة المعرفة ثم عند فائدة المعرفة تنكرت المعرفة عليه وما ذاك إلا لأن المؤمنين كانوا متبعين لسنته والمنافقين لم يتبعوها فعاد عليهم العلم جهلاً فهل من مستيقظ من غفلته مشمّر عن ساق صدقه ليسلكَ
محجة خلاصه
الوجه الخامس والثلاثون قوله فيقال له نَمْ صالحاً النوم حقيقة ويحتمل أن يكون مجازاً
هنا يحتمل أن يكون
فإن كان حقيقة فيكون فيه دليل على أن النفس تبقى في القبر مع الجسد هذا على قول من
١ لم ينزع عن الجواب لم يكفّ أو ظل على جوابه ولم يغيّره
سورة النساء من الاية ۸
۳ الميز التمييز والفرز يقال مازه فرزه ويراد منه النور الذي يعطيه الله تعالى لعبده يعرف فيه رسول الله له
كما يعرفه النائم في رؤيا صالحة
١٧٦
يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمَّتَيْنِ مختَلِفَينِ والذين يقولون بهذا يقولون بأن النائم تقبض روحه وتبقى نفسه في الجسد فإذا أراد عزّ وجلّ أن يميته وهو نائم قبض الذي في الجسد فألحقه بالمقبوض وإن أراد بقاءه ردّ المقبوض إلى الجسد فرجع نَبهان حياً ولا تقبض الروح والنفس معاً إلا عند الانتقال من هذه الدار وعلى هذا حملوا قوله عزّ وجلّ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخـ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ١
فإذا كان المراد بالنوم هذا وهو النوم الحقيقي الذي يعهد في دار الدنيا فيكون فيه دليل على أن الموتة التي في القبر لا يوجد لها ألم كما يوجد في هذه الدار إذ إن النائم لا تعب عليه في نومه بل هو راحة له ورحمة هذا البحث فيه على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لِمُسَمَّيين مختلفين
وأما على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد فليس يكون النوم حقيقة وإنما هو موت فكنيا عنه بالنوم وهي إحدى الموتات المتقدم ذكرها وإنما عدلا عن الحقيقة إلى المجاز ليُحسنا له في العبارة لئلا يلحقه رعب لأن الميت يلحقه التنغيص والتألم عند موته والنائم لا يلحقه تألم ولا تشويش فهذا كناية منهم على أنه لا تعب عليه بعد هذا الوجه السادس والثلاثون الصلاح هنا يحتمل أن يكون مجهولاً لا يُعرف ويحتمل أن يكون معروفاً
أما الاحتمال الأول فهو ظاهر الحديث لأنه أتى بالصلاح منكراً فهو لا يُعْرَف وأما الاحتمال الثاني فقد تؤخذ معرفة الصلاح المذكور هنا من حديث آخر قال فيه إنهما يَفْتَحان له كُوَّةً عند رأسه إلى الجنة وكُوَّةً عند رجليه إلى النار ويرى مقعده من النار الذي عافاه الله منه وأعطاه إلى الكفار ويرى مقعده من الجنة الذي مَنّ الله عليه به ثم يقولان له من هذا عافاك الله يا وَليَّ الله - يعنيان الكُوَّةَ التي إلى النار - ثم يُغلقانها ويقولان له هذا ما وَعَدَك الله يا وَلِيَّ الله - يعنيان ما رأى له في الجنة - ويُبقيان له الكوَّة التي إلى الجنة يدخل عليه مِن عَرْفها ونعيمها إلى القيامة ثم يُفسح له في قبره مدى بَصَره ۳ وكفى بهذا صلاحاً والأحاديث في هذا المعنى
يوم
كثيرة ومتعددة
۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
٢ كذا والصواب منهما والضمير عائد على الملكين المذكورين في الوجه الحادي والثلاثين ۳ مركب من أحاديث عدة رواها مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار ورواها الترمذي في كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى
۱۷۷
الوجه السابع والثلاثون قوله قد علمنا العلم هنا يحتمل أن يكون المراد به علم
الحال الذي يقع عليه الجزاء ويحتمل أن يكون المراد به ما عَلِماه من طريق الغيب فيكونان يعرفان المؤمن والكافر حين يعاينانه والأظهر من هذين الاحتمالين الأول للقرينة التي قارنته وهو سؤالهما ثلاثاً ثم بعد الثلاث يقولان قد علمنا وهذا يدل على أن المراد علم الحال الذي يقع عليه الجزاء وهذا مثل قوله تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد عَلِمَ الصادق والكاذب قبل وقد كتب في اللوح المحفوظ قبل خلقه وعِلْمُ الله تعالى لا يتجدد لكن هذا العلم المراد به العلمُ الذي يقع عليه الجزاء وتنقله الحفظة بالضبط والشهادة على ما قاله العلماء وما نحن بسبيله مثله
الوجه الثامن والثلاثون قوله إن كنت يريدان فيما سلف من دار الدنيا لأنهما لو أرادا في الوقت لقالا إنك
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على جواز الحكم بالشاهد على الغائب لأنهما عرفا من حاله كيف كان في دار الدنيا ويُستَدَلّ بحُسْنِ المقال على حُسْن الحال في الدنيا لأن بحُسن مقاله استدلا على حسنِ حاله في الدنيا لكن هذا لا يمكن إلا إذا قامت قرينة لا يمكن معها التزوير الوجه الأربعون قوله لَمُوقِناً به إنما ذكر الموقن لأن الموقن أعلى من المؤمن فكل موقن مؤمن ولا ينعكس
الوجه الحادي والأربعون في هذا دليل على أن الموقنين محفوظون في الجواب عند السؤال وأنهم يَخْلُصون من الفتنة التي تطرأ عليهم في هذا الموطن وأما المؤمن فسيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثاني والأربعون قوله وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء المنافق والمرتاب متقاربان في المعنى لأن كليهما صاحبه مُظهِرُ للإيمان مُسِرٌّ للكفر وفيه دليل على تحريهم في النقل وصدقهم كما تقدم الوجه الثالث والأربعون قوله فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيه دليل على أن اتباعَ الناس دون علم مهلك لأن السبب المهلك لهذا أن جَعَل دينه تبعاً للناس من غير علم ولا معرفة فالعاقل يأخذ دينه من القواعد الشرعية التي بها الخلاص كما تقدم للناجي قبل الوجه الرابع والأربعون لقائل أن يقول لِمَ ذكر عليه السلام هذا الطرف وهو الهالك
وذكر الطرف الآخر وهو الناجي وسكت عن الطرف الوسط والجواب
۱ سورة العنكبوت من الآية
۱۷۸
أنه إذا وُجِد حُكْمان منوطان بعلتين مختلفتين ثم وُجِدَت تانك العلتان في شيء واحد مجتمعتين فلا بدَّ من أثر الحُكْمين أن يظهر في ذلك الشيء ومثل هذا ما قاله بعض العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالُ ۱ أنهم هم الذين خرجوا إلى الغَزْوِ بغير إذن أبويهم
فاستشهدوا فالشهادة تَمْنَعهم من دخول النار وعقوق الوالدين يمنعهم من دخول الجنة
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما حكي عن بعض الصالحين أنه كان خطيباً بأحد الأمصار بجامعها الأعظم فلما انتقل راه صاحب له في النوم فسأله ما فَعَل بك الملكان في القبر فقال سألاني فأُرْتِجَ عَلَيَّ ٢ فلم أذرِ ما أجاوبهما فبقيت متحيراً ساعة فإذا أنا بشاب حَسَنِ الصورة قد خرج من جانب القبر فلقنني الحُجَّة فلما جاوبتهما وذهبا عني أراد أن ينصرف فتعلقتُ به فقلت له من أنتَ يرحمك الله الذي أغاثني الله بك فقال أنا عملك قلت وما أبطأك عني حتى بقيتُ متحيراً في أمري فقال لي كنتَ تأخذ أجرةَ الخَطابة من السَّلْطنة فقلت والله ما أكلتُ منها شيئاً وإنما كنتُ أتصدَّقُ بها فقال لي لو أكلتها ما أتيتُك ولأَخْذِكَ إياها أُبطأتُ عنك
فتبين بهذا ما ذكرناه من أن العلتين إذا اجتمعتا في الشيء الواحد يظهر حكمهما لأنه لما أخذ بَطَأَ ۳ عنه ولما لم يأكل أتاه بعد البطء فحصل له من أجل الأخذ رجفة ومن أجل عدم الأكل والتصرف إعانة ورحمة وعلى هذا فقس
هما الوجه الخامس والأربعون لما بيَّن حكم الموقن أو المؤمن الكامل الإيمان اللذين متقاربان بقي الإيمان الضعيف الذي هو مختلط فقد يكون بعض الناس تغلب حسناته سيئاته وقد يكون بعضهم بالعكس وقد يكون بعضهم بالسَّوِية ثم يتفاوتون في ذلك بحسب الأحوال والأعمال فأحوالهم بالنظر إلى هذا المعنى كثيرة متعددة فلو ذكره لاحتاج أن يبيّن كل شخص بِحِدَتِهِ كيف تكون فتنته وكيف يكون جوابه وكيف يكون خلاصه أو هلاكه فيَطول الكلام في ذلك أكثر ما يكون بل إنه قد لا يُحْصَرُ لكثرة اختلاف الأحوال فذكر عليه السلام الطرفَينِ وبين حكميْهما اللذين هما محصوران وترك الطريق الوسط لكثرته يُؤخَذُ بالاستقراء وهذا أبدعُ ما يمكن من الاختصار والفصاحة وحسن الإدراك في العبارة إذ إنه ذكر الطرفين وبيّن علتَهما وعلتُهما إذا تؤملت تدل على أحوال الغير
۱ سورة الأعراف من الآية ٤٦
أَرْتِج عَلَيَّ أغلق عَلَيَّ باب النطق أو التفكير من رَبَّجَ الباب أي أغَلَقَه
۳ الصواب بَطُوَ أو أبطأ
۱۷۹
فإن قال قائل إنما ذكر عليه السلام المؤمن على الإطلاق ولم يقيده فلِمَ قيَّدتموه بصفة وهي الكمال
قيل له إنما قيدناه بصفة الكمال لأنه قد سوّى في الإخبار بين الإيمان واليقين واليقين أعلى من الإيمان الكامل على ما تقرر وعُلِم ولا يمكن أن يُسَوَّى في الإخبار بين ناقص وكامل وإنما يُسَوَّى بين صفتين متماثلتين أو متقاربتين وقد تقدم أن الإيمان الكامل يقارب اليقين وقد نص عليه السلام على أن المؤمنَ الناقص الإيمان لا بد له من العذاب في الغالب فكيف يقع له الخلاص هنا وهو بعدُ يُعَذَّب والنص الذي ورد في ذلك ما روي عنه عليه السلام أنه قال الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النارَ وإيمان لا يُخَلَّدُ صاحبه في النار ۱ فالإيمان الذي لا يُدخل صاحبَه النار هو الإيمان الكامل وصاحبه هو الذي يقع منه الجواب عند السؤال بصيغة ما ذكر في الحديث والإيمان الذي لا يخلد صاحبه في النار هو الإيمان الذي يكون معه بعض
المخالفات
الوجه السادس والأربعون يترتب على مجموع هذا الحديث من الفقه وجهان الأول تقوية الإيمان ورسوخ اليقين لكثرة ما فيه من الأدلة على عظم القدرة وعِظَمِ القادر كما تقدم في غير ما موضع قبل هذا الثاني أخذ الأهبة للارتحال والأخذ بطريق الخلاص والعمل على ذلك ما دام المرء
يجد لنفسه مهلة في هذه الدار لكثرة ما فيه من الإخبار والتبيين لطرق الخلاص وغيرها فهل من مُشَمِّرِ لخلاص نفسه قبل حلوله في رَمْسِه لأنه لا ينفع الاعتذار مع تقدم الإنذار وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۱۸۰
حديث أسعد الناس من قال لا إله إلا الله
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال قلتُ يا رسول الله مَنْ أَسعَدُ الناسِ بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ظَنَنْتُ - يا أبا هريرةَ ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك لِمَا رأيتُ من حَرصِكَ على الحديث أسْعَدُ الناس بشفاعتي يومَ القيامة من قال لا إله إلا الله خالِصاً من قلبه أو نفسه
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يَسْعَد بشفاعة النبي ل ا ل ل له يوم القيامة إلا من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على تقديم ذكر المسؤول على المسألة وإذا كانت أسماء المسؤول متعددة فَلْيُذكَر منها أعلاها وأحبّها إلى الشخص إذا كان ذلك الاسم على لسان العلم لأن هذا الصحابي رضي الله عنه لما أن أراد أن يسأل النبي لم يسأله حتى ناداه باسمه ولما كانت أسماؤه عليه السلام متعددة ناداه بأعلاها وأحبّها إليه وهو رسول
الله
الوجه الثاني في هذا دليل على ترك الدعاء والتملُّق عند السؤال لأنه لم يذكر بعد الاسم المعظم إلا حاجته دون دعاء ولا تملُّق
الوجه الثالث فيه دليل على أن حبّ الرسول عليه السلام بالاتباع دون المقال لأن هذا الصحابي رضي الله عنه كثيرُ الحب للرسول صلى الله عليه وسلم - على ما قد تقرر وعُلِم - وكان في الاتباع بحيث لا يُجْهَل ذلك منه لكنه لما نادى النبيَّ لا الهلال و هنا لم يزد على الاسم المعلوم شيئاً والصحابة عن آخرهم مثله في هذا المعنى وهم المهاجرون والأنصار والصفوة المحبّون ثم مع تأكد هذه المحبة لم يأتِ عن واحد منهم أنه أطراه يوماً واحداً ولم يقصروا في تعظيمه وترفيعه على ما قد عُلِم بالضَّرورة من أحوالهم
۱۸۱
الوجه الرابع فيه دليل لأهل الصوفة حيث يستحبون استفتاح الكلام بذكر الحبيب ويقولون
بان استفتاح الكلام بذلك يُنوِّرُ القلب ويهدي إلى الصراط المستقيم ويأتي بالفوائد دوماً لأنه لما أن نادى أولاً بأحب الأسماء إليه أثمر له ذلك تضعيف المسرّة
وبالمسرات يجيء والبشارة على ما سيأتي
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رجله ألم فلم يستطع مدها فاشتكى ذلك إلى الطبيب فقال له الطبيب لا تمدَّ يدَك أو رجلك حتى تنادِي بأحبّ الأسماء إليك فنادى وامُحَمَّداه فامتدَّتْ يَدُه
الوجه الخامس قوله رضي الله عنه مَنْ أسعَدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة فيه دليل على أن مِن أدب العلمِ حُسْنَ السؤال لأنه سأل عن الشفاعة ولم يذكر ما عنده من خبرها وما وقع
له من النظر والتردد حتى اضطر إلى ذكرها
الوجه السادس لقائل أن يقول لمَ قال من أسعد ولم يقل مَن هم أهلُ شفاعتك والجواب أن هؤلاء المشفوع فيهم يوم القيامة أصناف مختلفة فمنهم المؤمنون المذنبون ومنهم الكفار والمنافقون - على ما سيأتي بيانه - والمنافقون في الدَّرْكِ الأسفل من النار والمؤمنون المذنبون يدخلون النار بذنوبهم فمنهم من يخرج منها بعد القصاص بغير شفاعة ومنهم من يخرج بالشفاعة فمن شُفع له ثم عُذِّب لم تحصل له سعادة تامة وإنما حصلت له سعادة خاصة لأنه عوفي في الوقت من بلاء ثم أعقبه بعد ذلك بلاء أشد منه على ما سيأتي بيانه
وشفاعته عليه السلام على ضربين عامة وخاصة فالعامة أذكرها بعد والخاصة هي لأمته المذنبين فإذا شَفَع فيهم أخرجوا من النار وعُفي عنهم وأدخلوا الجنة هذه هي الشفاعة الخاصة والسعادة التامة فلأجل ذلك قال أسعَدُ التي هي من أحد أبنية المبالغة لأنها سعادة لا شقاء بعدها أبداً
الوجه السابع فيه دليل على قوة إيمان الصحابة وفضلهم لأنه لا يَسأل عن المسعود بالشفاعة وغير المسعود إلا من تحقق إيمانه بها وقَوِيَ تصديقه بذلك ولذلك قال عليه السلام ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ۱ وما وقر في صدره رضي الله عنه هو قوة الإيمان واليقين وكذلك الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم إنما فَضَلوا غيرهم بما وقر في صدورهم من ذلك وما خُذِل من خُذِل وارتدّ من ارتد إلا عند ضعف الإيمان
۱ ذكره الغزالي في الإحياء قال العراقي لم أجده مرفوعاً إنما هو عند الحكيم الترمذي من كلام بكر بن عبد الله المزني
والتصديق فيطلب إذ ذاك الكيفية فى أمور الآخرة وفي القدرة فيمرق من الدين كما يمرق السهم
من الرَّمِيَّة وهو المسكين لا يشعر بنفسه ٢ أعاذنا الله من بلائه بمنه
الوجه الثامن فيه دليل على طلب السعادة والاهتمام بها والعمل على أسبابها لأن من عرف طريق السعادة عمل عليها وترك ما عداها فلذلك سأل عنها
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم قال الناس ولم يقل أمتك والجواب أنه إنما عدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس لأن شفاعة النبي ا و على ضربين - كما تقدم - عامة وخاصة فالعامة هي لجميع العالم من الجن والإنس للكافر والمنافق والمؤمن على ما جاء في الحديث الصحيح أن العالم يبقون في المحشر بتلك الأحوال المهلكة - التي قد نُص عليها في غير ما آية وغير ما حديث - والنار قد أحدقت من كل الجهات والشمس قد دنت منهم حتى يكون بينها قدر المِرْوَد الذي تكحل به العين رجل الرّجل على رجل المرأة ورجل المرأة على رجل وبينهم الرجل ثم لا يعرف أحدهما صاحبه
حتى قالت عائشة رضي الله عنها حين سمعت شيئاً من هذا يا رسول الله الرجال ينظرون إلى النساء ۳ قال يا عائشة الأمرُ أشدُّ من أن يُهمَّهُم ذلك ثم يغرقون من شدة ما هم فيه حتى يبلغ عَرَفهم في الأرض سبعين ذراعاً فمنهم من يُلجمه العرق ومنهم من يبلغ أذنيه ومنهم من
يبلغ عنقه ومنهم من يبلغ ثدييه ثم هم كذلك يتفاضلون في ذلك الأمر العظيم بحسب أعمالهم ثم يبقون مع شدة هذه الأهوال التي أشرنا إليها وغيرها على ما قد عُلم من الأحاديث والآي قدر ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا لا يأتيهم خبر من السماء ولا يعرفون ماذا يُراد بهم ثم يلهمهم الله عزّ وجلّ طلب الشفاعة فيأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون له يا ادم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجَدَ لك ملائِكَتَه ألا ترى إلى ما نحن فيه اشفع لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر آدم عليه السلام خطيئَته فيبكي ويقول نَفْسِي نفسِي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
نوح عليه السلام
فيذهبون إلى نوح عليه السلام فيقولون له أنت أول الأنبياء والرسل وقد سمّاك الله عبداً
1 الرَّمِيَّة الصَّيد الذي ترميه
وهو الذي يتساءل ويتشكك - من خلال ضعف إيمانه ـ عن أمور الآخرة وعن قدرة الله تعالى خلافاً لمن كمل
إيمانه أو بلغ اليقين وانقطع تساؤله وانعدم شكه ۳ متفق عليه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها
۱۸۳
شكوراً ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشْفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر نوح عليه السلام خطيئته وهي دعاؤه على قومه فيبكي ويقول نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون له مثل مقالتهم الأولى فيجاوبهم عليه السلام كجوابهم ثم يرسلهم إلى موسى عليه السلام فيكون سؤالهم وجواب موسى عليه السلام
كما كان السؤال والجواب الأول ثم يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيقول لهم مثل الأول
ثم يرسلهم إلى محمّد عليه الصلاة والسلام فيقولون له أنت حَبيبُ الله وصَفوتُه من خَلقه وقد أنزل عليك كتابه الحكيم وقد خصك بالفضل العميم ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرَّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار
فيقول أنا لها فيقوم في الشفاعة فَيَشفَع - على ما جاء في الحديث - فيأمر الله عزّ وجلّ بالفصل بين العباد ويُنصَب الصِّراط على متن جهنم ويوضع الميزان ويقع الحساب فهذه هي الشفاعة العامة التي ينتفع بها كل العالم من الجن والإنس والحشرات فلأجل ذلك عَدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس وأما الشفاعة الخاصة فقد تقدم بيانها ٢
الوجه العاشر في هذا دليل على أن السؤال بالجنس ۳ أفيد من السؤال بالنوع لأنه رضي يعلم أن أسعد الناس بالشفاعة من أمة النبي المؤمنون ثم عدل مع علمه بذلك لذكر الجنس لاحتمال أن يكون ثَمَّ حُكم آخر لا يعرفه فلما أُخبِر بالأمر على ما هو عليه رجع
الله عنه
له ذلك حكماً قطعياً لا احتمال فيه
الوجه الحادي عشر في هذا دليل على أن أمور الاخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس والاجتهاد لأنه رضي ! الله عنه قد علم الشفاعتين اللتين في يوم القيامة وترجّح عنده من هو الأسعد بالشفاعة وغيره إذ ذاك معلوم بالضرورة لكنه لم يلتفت إلى ما ظهر له من مدلول جميعها حتى تلقاه من صاحب الشرع مشافهة وهذا يدل على أن هذا عندهم حكم ثابت لا يسوغ فيه غير
النقل كما تقدم
۱ يريد كجوابهما
أحاديث الشفاعة متواترة وقد رواها أصحاب المسانيد والصحاح والسنن والمعاجم عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
يريد بـ الجنس الألف واللام الداخلتين على كلمة الناس فهما لإرادة الجنس أي جميع عباد الله من المؤمنين وغير المؤمنين ولو كانت الألف واللام للنوع لقصد بهما أمة محمد الله دون غيرها من الأمم
١٨٤
الوجه الثاني عشر لقائل أن يقول لم قيَّد الشفاعة بيوم القيامة وهي مستمرة أبداً على الدوام في الدنيا وفي الآخرة لا يزال عليه السلام يَشفَع ويُشفّع
والجواب أنه إنما قيدها بيوم القيامة لأنه قد عاين هذه الشفاعة التي في الدنيا وعرفها وإن كانت على المشيئة لكنها وقعت كالمقطوع به لأنه عليه السلام لم يشفع قطّ لأحدٍ في هذه الدار إلا أجيبَ وأُسعِفَ فلم يكن ليسأل عن شيء قد عاينه وعرفه لأن السؤال عن ذلك كتحصيل حاصل والصحابة أجلّ من ذلك
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيتُ من حرصك على الحديث ظننت يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون بمعنى علمتُ والأظهر منهما العلم للقرينة التي تقويه في الحديث بعد وهي قوله لِما رأيت من حرصك على الحديث
الوجه الرابع عشر في هذا دليل على أن من السنة إدخال السرور على السائل قبل ردّ الجواب عليه لأنه عليه السلام قدم قوله لقد ظننت على رد الجواب عليه والسرّ الذي في هذا الإخبار من إدخال السرور هو أنه لا يتأتى ما أخبر به حتى يكون كما قال لما رأيتُ من حرصك على الحديث ولا يظهر له عليه السلام منه الحرص على الحديث إلا إذا كان يلتفت إليه على الدوام ويراعي أقواله وأفعاله والتفاتُه عليه السلام لحظة واحدة للشخص كان عند الصحابة أعظم ما يكون من السرور فكيف بها في مرور الليالي والأيام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على استنباط الأحكام بالأظهر من الأدلة لأنه عليه السلام
جعل الظنَّ هنا قطعياً لقوة الدليل الذي ظهر له على ذلك وهو الحرص على الحديث الوجه السادس عشر فيه دليل على أن إتباع المسَرَّةِ بالمسَرَّة أولى وأبلغ في المَسرَّة لأنه عليه السلام لو سكت عند قوله أول منك لكان الصحابي يُسَرّ بذلك فلما زاد له السبب الموجب لذلك وهو من كسبه الذي هو الحرص كان ذاك إدخالَ مُسَرَّةٍ على مَسرَّة ومثل هذا قوله عليه السلام لسيد وفد عبد القيس فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله قال يا رسول الله أتصَنْعه أنا أو شيء جبلني الله عليه قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله
ذلك شيء
الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله ۱
۱ متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ورواه مسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد القيس أبو قبيلة من أسد وسميت القبيلة به وكان موطنها البحرين والأشج لقب غلب عليه وقد لقبه
به رسول الله واسمه المنذر بن عائذ انظر الاستيعاب ص ١٤٤٨
١٨٥
ومثل هذا أيضاً ما وصف عزّ وجلّ في كتابه المؤمنين حين يدخلون الجنة فقال لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١ ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢ ﴿ بِمَا أَسْلَفَتُمْ فِي الْأَيَّامِ ﴾ هو
الخالية ۳ كل ذلك إعظام في إدخال السرور عليهم والزيادة لهم منه
نسأل الله بمنه أن يمن علينا بذلك بكرمه
الوجه السابع عشر فيه دليل على تسمية السائل عند رد الجواب عليه لأنه عليه السلام ناداه باسمه قبل ردّ الجواب عليه والحكمة في ذلك تظهر من وجهين
الأول أن نداءه باسمه أجمعُ لخاطره فيكون ذلك سبباً لتحصيل جميع ما يلقى إليه ومثل ذلك نداؤه عليه السلام لمعاذ بن جبل ثلاث مرات وهو معه على الراحلة ثم بعد الثلاث ألقى إليه ما أراد كل ذلك ليأخذ الأهبة للإلقاء ويصغي لسمع الخطاب
الثاني أن في ندائه باسمه إدخال سرور عليه لأن النداء أبداً إذا وقع من الفاضل إلى المفضول يحصل له به ابتهاج و سرور فكيف به وهو نداء سيّد الأولين والآخرين لتلك السادة المباركين الذين قد ثبت حبهم له بالتواتر وكانوا يتبركون منه بلمحة أو لحظة أو أي نوع كان يؤيد ما ذكرناه من هذا الوجه ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رِجْلَهُ ألَم القصة بكمالها وقد تقدم ذكرها في الحديث قبل هذا ٤
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن من السنة إدخال السرور بكل ممكن يمكن لأنه عليه السلام قد أدخل السرور على هذا السائل في ثلاثة مواضع في هذا الموضع وفي الموضعين المتقدمي الذكر هذا ما فعل واللفظ قليل فكيف به فيما عداه
عنه
الوجه التاسع عشر فيه دليل على تقديم الأولى في حق السائل وإن كان لم يسأل لأنه عليه السلام عَدَل عن الجواب الذي هو عام للسائل ولغيره وذكر قبله ما هو الأولى في
حقه وما يُسر به
الوجه العشرون فيه دليل على جواز الاستدلال على حال المرء بفعله لأنه عليه السلام استدل على حاله بما ظهر له من فعله وهو الحرص والحرص عمل من الأعمال فعلى هذا
۱ سورة النحل من الآية ٣٢ سورة الأعراف من الآية ٤٣
۳ سورة الحاقة من الاية ٢٤
٤ كذا والصحيح أن ذكر حديث عبد الله بن عمر تقدم في هذا الحديث نفسه قبل صفحات
١٨٦
فالاستدلال بالأعمال أولى من الاستدلال بالمقال لأن المقال قد يحتمل التجوّز في الكلام وغيره
والفعل ليس كذلك
الوجه الحادي والعشرون فيه دليل على أن ما يخص الشخص نفسه أكد عليه مما هو مشترك فيه مع غيره لأنه عليه السلام لم يذكر له ما هو له ولغيره إلا بعد ما حصل له ما يخصه في نفسه وهو قوله أوَّل منك بهذا الحديث
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على أن السنَّة في الحكمة لا تُلقى إلا لأهلها وأن الأشياء لا يتعدى بها وقتها لأنه عليه السلام لم يخبر بفضل هذا السيد إلا عند سؤاله عن هذا الحديث الذي قد يغفل عنه كثير من السادة الفضلاء
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن تسمية الحديث حديثاً من الشارع عليه السلام لأنه عليه السلام قد سماه بذلك هنا حيث قال أن لا يسألني هذا الحديث و لما رأيت من حرصك على الحديث فسمى المفرد والجمع باسم الحديث
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على فضل هذا الحديث على سائر الأحاديث لأنه عليه السلام قد أشار إليه بالأفضلية وخصّه من بين الأحاديث بقوله أن لا يسألني عن هذا الحديث
أحد أول منك فلو لم يكن لهذا الحديث مزيّة على غيره من الأحاديث لما جعله أولى به من غيره لأن ذلك مدح للسائل وتعظيم له لأنه أصاب بسؤاله كنزاً عظيماً وكيف لا وقد حصل له فيه من أدلة الإيمان غير ما واحد ـ على ما تقرر قبل وما أذكره بعد - وحصل له فيه من علوم الآخرة أو فرُ نصيب وعلوم الآخرة السؤال عنها نادر من أجل الاشتغال بعلوم الدنيا إذ إن الأعمال مرتبة عليها فلا يمكن تحصيل علوم الآخرة إلا بعد تحصيل علوم الدنيا التي بها التكليف مَنُوط اللهم إلا قدر ۱ ما يتضمَّنُه الإيمان منها فلا بدّ منه
1-
ويكفي في ذلك ما نص عليه جبريل عليه السلام حين أتى ليعلم الدين فسأل عن الإيمان فقال عليه السلام أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ٢ فكان هذا السيّد رضي الله عنه ممن حصل ما يحتاج إليه من علوم دنياه ثم بعد ذلك أخذ العلم الآخر فلذلك حصلت لهم مزيّة بهذا الحديث ولا يحصل بهذا ذمّ لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كان متكسباً لأنهم أيضاً حصلت لهم مزية امتازوا بها وهي معرفتهم بأحكام الله يدل على هذا ما حكي عنهم رضي الله عنهم أن أكثرهم مالاً كان أكثرهم علماً فأصلوا
۱ قَدْرَ مستثنى من علوم الآخرة رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
۱۸۷
رضي
الله عنهم قواعد الأحكام على جملة أنواعها مما يتعلق بالأبدان والذمم والأموال علماً وعملاً ولما تجرَّد هذا السيّد عن كثير من الدنيا حصل معرفة ما أحكمته الحكمة الربانية في أمور الآخرة وبَلَّغه إلينا مثل هذا الحديث وغيره فجزاهم الله عنا جميعاً خيراً
الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على فضل الحديث جملة وأنه أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى من بين سائر العلوم كلها عدا الكتاب العزيز لأنه عليه السلام قد مدح هذا السائل وعَظَّمه وجعله أول من يسأل عن هذا الحديث ولمعرفة ما احتوى عليه من الفوائد ولكونه كان حريصاً على الحديث وكيف لا وقد قال عليه السلام تركت فيكم التقلَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ يريد سُنَّته عليه السلام لأن أهل بيته لا يفعلون إلا ما كان عليه السلام يفعل فليس بعد القرآن إلا الحديث مَن تمسك بهما فقد نجا ومن
خالفهما فقد هَوَى
الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن مدح العمل لصاحبه مندوب إليه لأنه عليه السلام قد مَدَح هذا السيّد لأنه جعله أول من يسأل عن هذا الحديث للعمل الذي صدر منه وهو الحرص وهذا بخلاف مدح الذات لأنه ممنوع والفرق بينهما أن مَدْحَ العمل يزيد صاحبه فيه تغبطاً وحرصاً ومدح الذات يُخاف منه العجبُ والالتفات
الوجه السابع والعشرون فيه دليل على إبداء الدليل من الفاضل إلى المفضول لأنه عليه السلام أفضل الناس وأعلاهم قدراً ثم مع ذلك لما أن ذكر لهذا أنه أول من يسأل عن هذا الحديث أتاه بالدليل على ذلك وهو الحرص الذي كان منه ولم يقتصر على إعطاء الحكم دون دليل عليه الوجه الثامن والعشرون لقائل أن يقول لِمَ خص عليه السلام هذا بالحرص على الحديث ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم كانوا يحرصون على الحديث أعظم الحرص ويعظمونه ويحبونه
والجواب أنهم كلهم كذلك حقاً لكن لهذا السيد زيادة في هذا الشأن على غيره ويتبين ذلك ويتضح بما روي عنه رضي الله عنه أنه قال كان إخواني من الأنصار يشتغلون بإصلاح حوائطهم في بعض الأوقات وإخواني من المهاجرين يشتغلون بالتسبب في الأسواق وأنا التزمت النبي صلى الله عليه وسلم لِمَلْء بطني فوعيتُ ما لم يَعُوا فلهذه الزيادة - وهي الملازمة - حصل له هذا التشريف وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا يتنافسون في هذا وأشباهه مهما كان شيء
۱۸۸
۱ سبق تخريجه في الحديث ٣
من
ما
ட்
ت
الخير تراهم يبادرون إليه ويسارعون فإذا زاد أحدهم ذرّة في وجه من وجوه الخير على غيره نسبت تلك الطريقة إليه وكان هو إمامها وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين
يبين ما قررنا هنا ويوضحه قوله عليه السلام أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها ۱ مع أن الأربعة رضي الله عنهم كانت فيهم تلك الصفات كلها لكن كان كل واحد منهم يفوق صاحبه بشيء ما من تلك الصفة المذكورة فنسبت إليه
الوجه التاسع والعشرون في هذا دليل لأهل الصوفة وأي دليل لأنهم لما أن أربوا على إخوانهم المؤمنين بقطع العلائق والتعلق بالله والاضطرار إليه والتوجه إليه في جلّ أوقاتهم صَفَت بواطنهم فخصوا باسم الصفاء والصفوة مع أن المؤمنين لا بد فيهم من الصَّفاء إذ إن الإيمان يقتضي ذلك لكن لما أن كان لهم زيادة في ذلك الشأن خُصُّوا به دون غيرهم
أعاد الله علينا من بركتهم بمنه ويمنه
الوجه الثلاثون قوله عليه السلام أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه أسعد الناس بشفاعتي الكلام عليه كالكلام على قول السائل من أسعد الناس بشفاعتك وقد تقدم بما فيه كفاية وبقي الكلام هنا على قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه
فأما قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله فهي تحتمل وجهين أيضاً
الأول أن يكون المراد بها العموم الثاني أن يكون المراد بها الخصوص فإن كان المراد بها العموم فهي تحتمل وجهين الأول أن يكون المراد من قال لا إله إلا الله ولو مرة واحدة في عمره الثاني أن يكون المراد من قالها وداوم عليها حتى توفي عليها وإن كان المراد الاحتمال الثاني - وهو الخصوص - فهو مَن يقولها عند الموت
والضرب الثاني من العموم المتقدم يرجع إلى هذا الخاص لأنه وإن قالها على الدوام ثم لم يتلفظ بها ولم يعتقدها عند الموت كان ما قال قبل ذلك هباءً منثوراً وهذا هو أظهر الاحتمالات وأولاها بل لا يسوغ غيره في هذا الموضع بدليل قوله عليه السلام الأعمال بخواتيمها وقوله عليه السلام يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبق بينه وبين الجنة
١ لم نعرف مصدره بهذه الصورة المذكورة رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة بألفاظ أخرى
0
۱۸۹
إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار وإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة۱ وقوله عليه السلام مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وهذا نص في المسألة نفسها فلا يسوغ الجنوح إلى غير ما نص عليه
الوجه الواحد والثلاثون فيه دليل على أن من خالط إيمانه شائبة ما لا يسعد به لأنه عليه السلام شرط فيه الإخلاص والإخلاص يتضمن عدم الشوائب دِقها وجلها
الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل على أن من اعتقد الإيمان دون النطق به لا يسعد به ولا تناله هذه الشفاعة الخاصة لأنه عليه السلام شرط في ذلك التلفظ والشرط إذا عُدِمَ عُدِمَ
المشروط
الوجه الثالث والثلاثون من آمن بالله مخلصاً لكنّه لم يتلفظ بالشهادة لعذرِ كان لَدَيْه يمنعُه من ذلك ثم اختَرَمَتْهُ المنيّة قبل زوال ذلك العذر هل تلحقه الشفاعة أم لا أو يكون من أهل الإعذار هذا موضع بحث ونظر وأرجح ما في ذلك وأظهَرُه أنه يكون من أهل الإعذار لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَنُ بِالإِيمَنِ ۳
الوجه الرابع والثلاثون قوله من قلبه أو نفسه هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قال النبي وكلاهما بمعنى واحد لأن المراد بالنفس ما بَطَن وما بَطَن المراد به القلبُ لأن فيه يستقر الإيمان وهو الأميرُ على الجوارح يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغةٌ في الجسد إذا صَلَحَت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ٤
وفيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم وتحريهم في النقل لأنه لما أن حصل له مع أن اللفظين بمعنى واحد لا يقع في
الشك في أي اللفظين قال عليه السلام أبدى ذلك الإخبار بأحدهما دون الآخر خلل في المعنى ولا في الحكم نسأل الله بمنّه أن يمن علينا بالاقتداء بهم وبِنَبِيّه إنّه ولي كريم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث طويل رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ب الله عنه
۳ سورة النحل من الآية ١٠٦
٤ سبق تخريجه في الحديث ٨
۱۹۰
-١٤-
حديث رفع العلم بقبض العلماء
عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يَقبِضُ العلم انتزاعاً يَنتَزِعُه من العِباد ولكن يَقْبِضُ العلم بقبْضِ العُلماءِ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأضَلُّوا
ظاهر الحديث يدل على أن قبض العلم يكون شيئاً بعد شيء ولا يكون مرة واحدة والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الأعمال خَلْق للرب وكسب للعبد لأنه لا يقبض إلا ما قد أعطى فالقبض بمعنى الاسترجاع وقد صرح عليه السلام بإعطاء الله ذلك لعبيده وبَيَّنَهُ في حديث تقدّم بيانه قال فيه من يُرِد الله به خيرا يُفقَهْهُ في لأن العلماء الدين ۱ فهذا الخلق الله قد ثبت بالنقل وأما الكسب فهو مشاهد مرئي محسوس ينقلون العلوم ويدرسون وهو تكسبهم الوجه الثاني الألف واللام في هذا العلم المذكور يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن تكون للعهد والأظهر من الاحتمالين العهد للقرينة التي أتت في الحديث بعد تبيينه وهو قوله ضَلُّوا ٢ وأَضَلُّوا والضلال المحذور إنما هو فيما عدا العلوم الشرعية لأن العلوم الشرعية هي التي بها الهداية ولا يقال لغيرها من العلوم هداية مطلقة حتى تخصص باللفظ فيقال هداية لكذا وضلال عن كذا والعلم المذكور هنا المراد به الفهم في كتاب الله وسُنّة نبيه عليه
4
r
۱۹۱
السلام
۱ هو الحديث التاسع من هذا الكتاب الرواية فضَلُّوا
الوجه الثالث لقائل أن يقول ظاهر هذا الحديث مُعارِض لما روي عنه عليه السلام في الكتاب العزيز أنه يُرفع جملة واحدة وقيل له يا رسول الله أوليس قد وعيناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا وعلمناه أبناءنا ونساء نا فقال عليه السلام تأتي عليه ليلة يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور ولا في المصاحف منه شيء۱ ثم تلا قوله عزّ وجلّ وَلَيِن شِئنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا
في
والجواب أنه لا تعارض بينهما بدليل ما نقلناه عن الأئمة بأن العلم نور يضعه الله القلوب فيقع بذلك النور الفهمُ في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه السلام وقد نطق الكتاب والحديث بهذا المعنى وبيّنه ۳ أتمّ بيان فأما الكتاب فقوله عَزَّ وجلّ ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ٤ ولا يُفهم معاني القرآن وأحكامه إلا بالنور ومهما فقد النور وقع الضلال
نعوذ بالله من ذلك
ε
وأما الحديث فقوله عليه السلام إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثيرٌ مُعطوه العملُ فيه خيرٌ من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليلٌ مُعطوه كثيرٌ سائلوه والعلم فيه خيرٌ من العمل ٥ فقد جعل عليه السلام أولئك يفهمون وهؤلاء لا يفهمون مع أن هؤلاء أكثرُ حفظاً وأكثرُ ضَبطاً للحروف وأتى بذلك في معرض الذمّ لهؤلاء لكونهم لا يفهمون الأحكام فلم يبق إلا أن يكون النور الذي كان عند أولئك عَدِمه هؤلاء فرجع المساكين مثل بعض من تقدّم من الأمم الماضية نَقَلةٌ وحَمَلةً لأن الله عزّ وجلّ قد وصفهم بذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٦ وها هو اليوم قد كثر هذا الأمر وتفاحش لأن النّقَلَةَ والأسفار قد كثرت والقليل النادر من تجد عنده طرفاً من العلم الذي هو النور فهذا العلم هو الذي يُقبَض شيئاً فشيئاً فما يزال يرتفع
۱ رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود موقوفاً عليه
سورة الإسراء من الآية ۸٦ ۳ يريد وبَيَّناه
٤ سورة النساء من الآية ٨٣
٥ أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف العراقي على الإحياء
۱۷/۱
٦ سورة الجمعة من الآية ٥
۱۹
شيئاً فشيئاً حتى يُرفع المصحف فإذا رُفع المصحف ارتفع معه ذلك الطرف من النور الذي بقي عندهم فيبقون بعد ذلك في الضلالة يتخبطون وعن طريق الحق زاهقون مع أن الأحكام تبقى عندهم مسطورة في الكتب لكن لعدم النور وارتفاع الأصل لا يفهمون تلك الأحكام ففي ابقاء الأصل بشارة ببقاء ذلك النور وإن قل
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ نعت عليه السلام القبض أولاً بالنزع ثم نعته بعد ذلك بصفته التي هي القبض
والجواب أن الانتزاع فيه شدة وغلظة والقبض فيه لين وتسهيل فأخبر عليه السلام بأن شدة الانتزاع لا تكون وإنما يكون قبضاً برفق لا سيما وقد جعله عزّ وجلّ مغطى بحكمة قبض الوعاء وذلك ألطف وأخف لأنه لو كان قبضه بادياً دون حكمة تستره لكان العالم يجد منه خوفاً
ووحشة وهو عزّ وجلّ بعباده رؤوف رحيم لأن العالم إذا مات لم يقطع الناسَ إياسُهم بأن الله عزّ وجلّ يقيم عالماً مقامه فإذا أقيم ذلك العالم مقام الأول انجبرت النفوس ولم يحصل لها علم بمقدار من قبض ومن أقيم فبقيت الآمال في الفضل راجية والعين بما أبدلت قريرة وهذا أبدع ما يكون من اللطف والحكمة
الوجه الخامس إذا قبض العالم ثم أقيم آخرُ مكانه هل يكون مثله فيجبر تلك الخَلَّة وقعت في الإسلام أم لا
التي
ظاهر الحديث يفيد أن لا ويعارضه قوله عليه السلام إذا مات العالِم تُلِمت في الإسلام ثلمة لا يَسدُّها إلا عالم آخر ٢ فظاهر هذا معارض لما نحن بسبيله وليس بينهما تعارض في الحقيقة لأنه إذا مات الأول وقام الثاني فسدّ تلك الثَّلمة فهو معلوم بالضرورة أنه ليس كالأول على حد سواء لأن الثوب المرقع ليس كالصحيح وكلاهما يستُر وإن كان لا بخس ۳ المرقع وهذا موجود حسّاً ولا سيما إذا قلنا بأن العلم - كما قدمناه عن أئمة الدين - نور يضعه الله في القلوب فنقصه معلوم بالضرورة وموجود حسا لأن نور الصحابة رضي الله عنهم ليس كنور
في
۱ الإياس من أيستُ منه ايس يأساً لغة في يئست منه أيأس بأساً ومصدرها واحد والإياس واليأس بمعنى واحد اللسان أيس مروي بالمعنى عن أبي الدرداء مرفوعاً موت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد رواه الطبراني وفيه مجاهيل وعن عائشة رضي الله عنها رفعته موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسد ما اختلف الليل والنهار رواه البزار بإسناد ضعيف ورواه البيهقي في شعب الإيمان من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ٢ / ٢٦٨ بإسناد صحيح ۳ البخس النقص العيب
۱۹۳
التابعين ونور التابعين ليس كنور تابعي التابعين ثم كذلك جيلاً بعد جيل ففي كل جيل يرتفع منه
شيء ويقل
ولأجل هذا المعنى كان العلم أولاً في صدور الرجال ثم انتقل إلى الأوراق والكتب وبقيت مفاتيحه في صدور الرجال ثم الآن كثرت الكتب والأسفار وقلت المفاتيح وإن وجد مفتاح فقلما يكون مستقيماً إلا النادر القليل
ثم رجعت العلوم الشرعية مثل علوم القرآن والحديث كقدَح الراكب وما بقي النظر إلا بعض علوم الفروع وانصرفت الهمم إلى علم الجدل والمنطق وعلم النجوم وعلم الطبائع وما أشبه ذلك فارتكبوا النهي واستقرّت سنَّتُهم الذَّميمة عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تجعلوني كقدح الرَّاكب ٢ وهؤلاء قد اتخذوا القرآن والحديث كذلك ثم يريدون الكلام في دين الله بتلك العلوم الرديئة فمن كان باكياً فليبك على ذهاب العلم وأهله والدين وضعفه فإنا لله
وإنا إليه راجعون
فمنذ انتقل النبي إلى رحمة ربه أخذ العلم في النقص شيئاً بعد شيء إلى هلمّ جرّاً إلى أن يُرفع القرآن وقد نصَّ بعض الصحابة على هذا المعنى وبيّنه حيث قال لم ننفض أيدينا من التراب حين دفنا النبي و إلا ووجدنا النقص في قلوبنا ۳ لكن كان النقص في ذلك الوقت لا يعرفه إلا أهل القلوب وكذلك في القرن الذي بعده وكذلك في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فالعلم إذ ذاك ينقص وهو في الظاهر متوافر متزايد لكثرة العلماء
وكثرة الكتب
والمعنى الخاص الذي أشرنا إليه لا يعرفه إلا من أشرنا إليه وهم أهل القلوب ولذلك قال أسامة بن زيد رضي الله عنه إني لأسمع منكم في اليوم أشياء مراراً لا تبالون بها كنا نَعُدُّها في زمان رسول الله الله من الموبقات أو كما قال ثم بعد القرن الثالث رجع النقص يظهر لسائر الناس ويستبين وها هو اليوم أظهر من الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب
۱ قدح الراكب هو الإناء المعد للشرب وجمعه وجمعه أقداح وقدح الراكب يعلقه الراكب في آخر رحله عند فراغه
من ترحاله ويجعله خلفه
أي لا تؤخروني في الذكر والحديث عزاه السخاوي في القول البديع لعبد بن حميد والبزار في مسنديهما وعبد الرزاق في الجامع وابن أبي عاصم في الصلاة والتيمي في الترغيب والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في
الحلية وغيرهم كثير وكلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف والحديث غريب ۳ لعله معنى لحديث أنس رضي الله عنه قال والله ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نفضنا أيدينا من ترابه حتى أنكرنا قلوبنا رواه البخاري والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي
١٩٤
الوجه السادس لقائل أن يقول هذا الحديث معارض لقوله عليه السلام في الحديث المتقدم لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يَضِرُّهم مَن خالفهم حتى يأتى أمر الله ۱ وأخبر هنا بأن العلم يقبض وإذا قبض العلم بقي الجهل فيقع الضلال كما قد نَصَّ النبي ل عليه والجواب أنه لا تعارض بينهما لأن المراد بالطائفة المذكورة - في الحديث المتقدم ـ أنها تبقى موفية بالحق الذي يلزمها لا تخلّ منه بشيء وأما العلم الذي هـ النور فليس هو عندهم كما كان عند من تقدمهم يؤيد هذا المعنى قوله عليه السلام أنتم في زمان مَن تَرَك عُشْرَ ما أُمِرَ به هلك ويأتي زمان مَن فَعَل عُشْرَ ما أُمِر به نجا ۳ يريد في أعمال البر من المندوبات عدا الفرائض لأن الفرض في أول الزمان وآخره مطلوب على حد سواء وإنما المعتبر هنا الذي عليه وقع النص ما عدا الفرض من أعمال البر لأن الدين مطلوب بفرضه وندبه وادابه ونفله وكان الصدر الأول رضي الله عنهم يحافظون على توفية جميع ذلك وكان النبي يطلب ذلك منهم ويحرضهم عليه مثل ما روي عنه عليه السلام أنه هَمَّ أن يحرق بيوت قوم كانوا لا يشهدون الجماعة وشهود الجماعة على الواحد مندوب وكذلك ما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يطلبون من الناس تسوية الصفوف ۳ وتسوية الصفوف في الصلاة من المندوب فكانوا رضي الله عنهم يحضون على ذلك أكثر الحض ويَحرِصون عليه أكثر الحرص لئلا يقع لهم خلل في شيء من ذلك فيقعون في ترك ما حُدَّ لهم
وأما اليوم فذلك لا يُتَصَوَّر لِمَا حَدَث في الأعمال من البدع والمنكرات وقلَّ أن يتخلص العُشْرُ إلا بالجهد الكبير ونعني بالخلاص هنا أن يقع العملُ على ما حُدَّ وشُرِع دون بدعة ولا منكر ومثال ذلك شهود الجنازة والصلاة عليها أو حضور العرس وما أشبه ذلك قلّ أن يقدر الإنسان أن يفعل شيئاً من ذلك لِمَا كَثر فيه من البِدَع الفاحشة والمناكر المتلفة إلا نادر قليل فليس تركهم للتسعة الأعشار رغبةً عنها ولا زهداً فيها ولو كان كذلك لما نَجَوْا وإنما هو من أجل ما قررناه فالطائفة المذكورة المراد بها ما بيناه هنا من أنها لا تنقص مما يلزمها شيئاً
الوجه السابع يظهر من الحكمة في نقص هذا العلم وجهان
الأول أنه لما كان العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام فمعلوم بالضرورة القطعية أن
1 متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه بلفظ لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس انظر الحديث ۱۱
33
رواه الإمام أحمد والترمذي بسند ضعيف وأوله إنكم في زمان إلخ انظر فيض القدير للمناوي
معنى الحديث رواه مسلم کتاب المساجد
١٩٥
العلماء ليسوا كالأنبياء وذلك موجود مشاهد في عالم الحس لأن الوارث أبداً ليس كالموروث من
كل الجهات وإن كان يرث جميع المال لأن المتوفّى ينفرد بالكفن ومؤنة الدفن وما يحتاج إليه في تجهيزه فقد نقص من المال شيء ما دخل مع الموروث في قبره لا ينتفع الوارث به ولا يستطيع الوصول إليه هذا إذا لم يُوص فإن أوصى فقد أباحت له الشريعة الوصية بالثلث فقال
موتكم
عليه السلام إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم تتصدقون بها عند موتكم فحجزه عن الوارث والحكمة فيما نحن بسبيله من هذا القبيل لأن كل من أنعم عليه بشيء لا بد أن يختص منه
بشيء لا يناله غيره بمقتضى الحكمة
الثاني أن الوعاء له اشتراك ما مع ما أودع فيه فلا بد أن يصحبه منه شيء يدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودَع فيه مثال ذلك أوانٍ مملوءة إحداها زيتاً والأخرى عسلاً والأخرى سمناً إلى غير ذلك من الأشياء فلا بد أن يبقى في الوعاء بقية تدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودع فيه وإن كانت العلوم أنواراً لا ينقص من أعيانها شيء لكن لما أن شاء الحكيم أن يُرفع من أوعيتها شيء منها وقع ظهور النقص في هذا العالم فاتحدت النسبة بمقتضى الحكمة كما أشرنا
ولذلك قال أهل التحقيق عدد الطرق إلى الله عزّ وجلّ على عدد الأنفاس لأنه ليس كل شخص حاله كمثل حال الآخر من كل الجهات وإن وقع الشبه بين الحالتين فلا بد من فرق ما بينهما كما هو مشاهد في عالم الحِسَ فصُوّر الناس في وضع الخلقة على حد واحد وليس في حقيقة الشبه كذلك لأن كل واحد يختص بصفة ما يمتاز بها في النعت عن غيره وإن أشبهه في أكثر الصفات وكذلك جميع الحيوانات على اختلاف أصنافها على حد واحد في صفة وضع الخلقة وليس كذلك في حقيقة الشَّبه فسبحان من أظهر أثر عظم قدرته بجميل وضع حكمته في
جميع بريَّتِهِ
ولأجل هذا المعنى - الذي أشرنا إليه - أحال عزّ وجلّ في كتابه بالنظر إليه ليستدل به على وحدانيته فقال عز من قائل سَنُرِيهِمْ وَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ۳
الوجه الثامن قوله عليه السلام حتى إذا لم يُبْقِ عالِماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا فيه دليل على أن الضلال المخوف لا يقع مهما بقي من الطائفة
1 يريد هو ما
رواه الترمذي بلفظ إن الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم ۳ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٩٦
المذكورة واحد لأن تلك الطائفة هم الذين تمسكوا بالعلم وعملوا به لأنه مهما بقي عالم واحد على الحق لم تضر الضلالة وإن ظهرت لعدم الاجتماع عليها وقد قال عليه السلام لن تجتمع أمتي على ضلالة ۱ وكثير ما بين الظهور والاجتماع لأن الاجتماع هي الحالقة ٢ أعاذنا
الله من ذلك بمنّه
يبين هذا ويوضحه ما روي أن أحد أنبياء بني إسرائيل مرّ على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال يا رب ! كيف أهْلَكْتَهم وكنت أعرف فيهم رجلاً صالحاً فأوحى الله إليه أنه لم يَغَر ۳ لي قطُّ يوماً واحداً فأفاد ذلك أن موافقته لهم على الباطل وإن كان يعرف الحق كانت سبب هلاكهم ولو خالفهم ما هلك ولا هلكوا
الوجه التاسع في هذا المعنى وجه من الحكمة والاعتبار وذلك أنه لما أن جعل عزّ وجل هذه الدار للتغيير والذهاب جعل كل ما فيها بمقتضى الحكمة بتلك النسبة يلحقه النقص والذهاب لأن أجَلّ ما فيها العلم والإيمان وها هما يلحقهما النقص حتى يذهبا فلحقت علة الدار لسكانها
وما فيها
الوجه العاشر في هذا المعنى دليل ترغيب للزهد في هذه الدنيا وتحريض على تركها إذ هي وما فيها للنقص ففي ماذا الرغبة وعلى ماذا التعب
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن بلاء هذه الدار أكثر من خيرها لأنه إذا قلَّ العلم والإيمان وهما عَيْنُ الخير كثر ضدهما وهما الكفر والجهل فهما موجبان للشر بل هما عينه الوجه الثاني عشر يؤخذ من هذا الفقه تأكيد التخلّي عن الالتفات لهذه الدار وما فيها لمن العامة عقل إذ إن خيرَها يَقِلّ وشرَّها يزيد فخيرها نادر و شرها كثير موجود وقد قال علي بن أبي الله عنه لو كانت الآخرة من خَزَف وهي باقية والدنيا من فضة وهي فانية لكان يقتضي الزهد في الدنيا وإن كانت من فضة لِكَوْنها فانيةً والرغبة في الآخرة وإن كانت من خزف لكونها باقية فكيف والأمر بضد ذلك
طالب رضي
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن حقيقة الرئاسة لا تكون إلا بالعلم إذا كان على حقيقته -
1 رواه الإمام أحمد والطبراني والترمذي وابن ماجه والحاكم عن عدد من الصحابة الكرام يريد بـ الاجتماع اتفاق الناس جميعاً على ضلالة دون أن يكون فيهم رجل واحد ينكر تلك الضلالة وذلك ما عبّر عنه المؤلف رضي الله عنه بكلمة الحالقة ويعني بها التي تحلق الدين لا التي تحلق الشعر ۳ لم يَغَر لم تثر نفسه غَيْرة والفعل غار يغار غَيْرة يقال غار الرجل على زوجته أي ثارت نفسه لإبدائها زينتها ومحاسنها لغيره فهو غيران وهي غيرى والجمع غيارى وغير
۱۹۷
وهو أن يكون الله خالصاً على مقتضى الكتاب والسنة - وأن رياسة غير العالم ليست بحقيقة لأنه عليه السلام نَصَّ على أن العالم ما دام بين أظهرِ الناس دام به الخير وأن الجاهل إذا كان مكانه وقع به الضلال والهلاك والعلة في هذا المعنى ظاهرة بادية لأن كل الناس يحتاجون إلى العالم ليرشدهم لطريق ربهم ويبين لهم أمره ونهيه وغير العالم ليس كذلك لأنه قد يحتاج إليه بعض الناس في تلك اللحظة التي رأس بها وقد لا يحتاج إليه وهو الكثير ولهذا المعنى قال عليه السلام نِعمَ الرجلُ العالم إن احتيج إليه نَفَع وإن استغني عنه أغنى نفسه۱ ومعنى الغنى هنا الغنى بالله عزّ وجلّ فهذه هي حقيقة الرئاسة وقد بدا الآن ظهور ما أخبر عنه الصادق عليه السلام رأسوا بغير علم فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وضلّ من اتبعهم فلينتبه الجاهلُ المسكينُ من غفلته وليفق من سكرته وليحذر من هذا الأمر العظيم الذي حلّ به
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أنه لا بد للناس من رؤوس بمقتضى الحكمة لأنه عليه السلام أخبر أن العالم إذا عُدِم لم يبق الناس لأنفسهم كذلك وإنما يتخذون رؤوساً غير ذلك الصنف لتشبههم بهم فيقعون إذ ذاك في الضلال كما أخبر عليه السلام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أن أخذ الأشياء على غير ما أحكمته الشريعة لا يوجد لها فائدة بل تنعكس الفائدة بالضرر لأن العوام لم يتخذوا هؤلاء الجهال رؤوساً إلا لأجل الفائدة التي عهدوها ممن تشبَّهوا بهم وهو الإرشاد لما يصلحهم كما تقدم فلما لم تكن فيهم الشروط التي أحكمتها الشريعة جاءهم إذ ذاك ضد ما أرادوه وهو الضلال
الوجه السادس عشر فيه دليل لمن يقول بأن العالم لا يلزمه التعليم قبل السؤال لأن الفتيا لم تقع حتى وقع السؤال
r
الوجه السابع عشر فيه دليل على أن البهرجة لا تجوز على عالم لأن العوام إنَّما اتَّخذوا هؤلاء الجهَّال رؤوساً لأجل تشبههم بأهل العلم في الكتب مثلاً وفي جنس الكتب والنظر فيها فلما رأى الناس ما جرت العادة به يكون علماً على العلم - وهو النور كما تقدم في وصفه قبل - ظنوهم من الرؤوس حقيقة فصحت البهرجة عليهم ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۳ رحمه الله لِقِلَّةِ العقلاء لم
يُعْرَفِ الحَمْقى
۱ رواه الديلمي في مسند الفردوس ۱۰/۵ وذكر محقق الفردوس عن سلسلة الأحاديث الضعيفة أنه موضوع
لا تجوز لا تنطلي لا تخفى ۳ تقدمت ترجمته في الحديث
۱۹۸
وهذا المعنى بنفسه قد ظهر اليوم في زماننا هذا وكثر وتفاحش قوم يقرؤون النحو والأصول والمنطق وعلم الكلام وعلم الطبائع وما أشبه ذلك ثم يدّعون بها الرئاسة ويريدون أن يفتوا في دين الله بتلك العلوم ويرجع ذلك عندهم بعقولهم الفاسدة حتى إن بعضهم يدعي الاجتهاد على زعمه ويُخطىء من تقدَّم من الفضلاء وأئمة الدين وذلك لقلة فهمه لما قالوا وسوء لأنه لو حسن بهم الظن لعاد عليه من بركتهم بما يفهم من كلامهم
ظنه بهم
فالحذر الحذَرَ من هذه الطائفة الرديئة وقد حذر عليه السلام منها وبينها أتم بيان فقال يأتي في آخر الزمان أقوام يحدّثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ۱ أو كما قال عليه السلام فخُذ ما تعرف ودَع ما تنكر وعليك بِخُوَيصَّةِ نفسِك
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن العامّي وظيفته السؤال والامتثال دون بحث لأنه عليه السلام لم يجعل لهم في الحديث وظيفة إلا السؤال وامتثال ما أشير عليهم في ذلك السؤال وإنما ضلوا إذ إنهم لم يصادفوا الرأس الحقيقي
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن من عمل بفتوى على غير وجهها يلحقه من الإثم مثلما يلحق المفتي بها لأنه عليه السلام قد جعله ضالاً كما جعل ضَلال المفتي له بذلك سواء يؤيد هذا المعنى ويزيده إيضاحاً ما روي عنه عليه السلام في الضد أنه قال العالم والمتعلم شريكان في الأجر ٢
الوجه العشرون فيه دليل على أن الجاهل لا يُعْذَر بجهله عند وقوعه في المحذور لأنه عليه السلام قد جعل العوام الذين لم يصيبوا بفتياهم أهلها ضالين مثل الذين أفتوهم بها مع أنهم المساكين جاهلون بالأمر ليس لهم معرفة بما يميزون الفتيا الصحيحة من السقيمة
فارجع أيها الهائم إلى طريق الرشاد قبل سبق الحرمان بغلق الباب وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
السلعة
۱ رواه الإمام أحمد في المسند ومسلم في المقدمة رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله
۱۹۹
اوهاية
1801
حديث الحساب والعرض
عن عائشة زوج النبي لا أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي لا الله قال مَن حوسِب عُذَّبَ قالت عائشة فقلتُ أوَليس يقولُ الله عزّ وجلّ ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ١ فقال إنّما ذلك العَرْض ولكن من نوقِش الحِساب يَهْلِك
ظاهر الحديث يدل على أن الهلاك مع المناقشة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن حوسب عُذَّب هل هو على عمومه أو على الخصوص فالظاهر أنه خاص لكونه خصصه بعد بالمناقشة وعلى مقتضى الآثار مع اختلافها ينقسم الحساب على أقسام
فمنه عَرْض - كما أخبر في باقي الحديث - وقد جاء ما يبين كيفية هذا العرض في حديث ثانٍ حيث قال إنّ الله عزّ وجلّ يحاسب عبده المؤمنَ سرّاً فيلقي كَنَفَه عليه ويقول يا عبدي فعلت كذا في يوم كذا فعلت كذا في ساعة كذا فلا يمكنه إلا الاعتراف حتى يظن أنه هالك فيقول يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفِرُها لك اليوم اذهبوا بعبدي إلى الجنّة فإذا رأه أهلُ المَحْشَر يقولون طُوبَى لهذا العبد لم يَعْصِ الله قطُّ۳ فهذا بيان العَرْض المجمل هنا
لأنه عَرْضُ ولا عقاب فيه
ومنه نوع آخر وهم الذين لهم وعليهم فيُؤخَذ منهم فيُعطى فيما عليهم فتكون حسناتهم
بالسوية مع سيئاتهم فيبقى لهم الإيمان يدخلون به الجنة وهذا نوع من العَرْض
۱ سورة الانشقاق الآية ٨ كَنَفُ الله رحمته وسَتْرُهُ وحِفْظُه
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه والحديث هنا مروي بالمعنى
۰۰
يشهد لهذا ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي النبي يوماً فقال يا رسول
الله بماذا بُعِثْتَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالعقل قال ومَن لنا بالعقل يا رسول الله قال إن العقل لا حَدَّ له ولكنْ مَن حرَّمَ حرام الله وحلل حلالَه سُمِّي عاقلاً فإن اجتهد سُمّي عابداً فإن اجتهد سُمِّي جواداً فإن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بغير حظ من عقل يدلّ على اتباع ما أَمَرَ الله واجتناب ما نَهى الله فَأُولئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعا 1
وكذلك أيضاً إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال فهذا أيضاً يقع في المغالبة من وجهين أحدهما العجز لقوله إنّ المُنبَيَّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبْقَى لأن البشرية لا تحتمل ذلك الثاني أنه قد يجتمع عليه في وقت أو في جل الأوقات أنواع من الواجبات والمندوبات في زمن فرد ولا يقدر إلا على أحدها فقد وقع في المغالبة لأجل ما أخذ نفسه به وإنما حال الكمال في هذا أن يأخذ نفسه أولاً بما أشرنا إليه ويعمل على متضمن الكلام على بقية الحديث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول لم لم يقل عليه السلام ولن يُشادَّ رجل أو امرأة وقال بدله أحد قيل له ذلك يدل على فصاحته وبلاغته لأن أحداً في اللفظ أقل كلاماً وأكثر فائدة ولأنه يطلق على الذكر والأنثى والقوي والضعيف والحر والعبد والعالم والجاهل والعَلِيّ والدَّني
على اختلاف أحوال العالم
الوجه الثالث قوله صلى الله عليه وسلم فَسدَّدوا وقاربوا احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد
واحتمل أن يكونا لمعنَيَيْنِ
فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى ولم يكن بالدون فهو متوسط بينهما
وإن كانا لمعنيين فيكون المراد بـ سدّدوا الأخذ بالحال الوسط على ما تقدم والحال الوسط هو ما نَصَّ النبي لا اله الا هو عليه في حديث عبد الله بن عَمْرو حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم صُمْ وأفطر وقُمْ ونَمْ وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقًّا ثم عمَّم بعد ذلك فقال وأعطِ
1 لم تعرف مصدر الحديث أما الآية الكريمة فهي في سورة الكهف من الآية ١٠٤ رواه البيهقي في السنن وفي شعب الإيمان قال الزبيدي فيه اضطراب روي موصولاً ومرسلاً ومرفوعاً و موقوفاً والمنبَتْ هو من جهد دابته حتى أعيت والحديث يقال لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربّما يفوته على نفسه
۱۰۱
لكل ذي حق حقه فهذا هو السداد وهو أن يمشي المرء في الأمور كلها على ما فُرِض ونُدِب من
غير تغال ولا تقصير في جهة من الجهات
ويكون المراد بـ قاربوا أي من بلغ منكم إلى حد السداد الذي هو ما ذكرناه ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه لأن ما قرب من الشيء أعطِي حكمه وهذا بشرط ألا يقع بهذا التقريب خَلَل ولا نقص في شيء من الواجبات لأن الواجب إذا كان فيه شيء من ذلك لم يجز وغيره من المندوبات لا يقوم مقامه بل إنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه ويعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز إما لمرض أو غيره فحينئذ يطلق عليه أنه قارب
وقد نص عزّ وجلّ على هاتين الطائفتين معاً في كتابه أعني الطائفة التي أخذت بالسداد والطائفة التي أخذت بالتقريب فقال تعالى في حق الطائفة الأولى ﴿ وَالسَبِقُونَ السَّبِقُونَ أُوْلَيْكَ الْمُقَرَّبُونَ ۱ وقال في حق الطائفة الثانية التي لم تستطع الوصول لذلك المقام لكنهم قاربوا إليه إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلًا كَرِيمًا
وقد نضرب لهذا مثلاً ليكون أسرع للفهم أعني في كيفية السَّداد وفي كيفية التقريب فمثال ذلك أن يأتي الطالب أولاً لطلب العلم ويعمل جهده على أن يكون من العلماء فإن قدر على ذلك فيها ونِعْمَتْ لأنه يكون بذلك في الطائفة التي أخذت بالكمال وهو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلي نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع لأن النبي قال طَلَبُ العِلم فريضة على كل مسلم ۳ فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد
وكذلك أيضاً يأخذ نفسه في التعبد بعد توفية الفرائض وإن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه الله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلي نفسه من طرف منه لإخباره عليه السلام أنه إذا كان يومُ
1 سورة الواقعة الآيتان ۱۰ و ۱۱ سورة النساء من الآية ۳۱
۳ رواه ابن ماجه وقال في الزوائد إسناده ضعيف وقال السيوطي كما نقل محقق مصابيح السنة سئل النووي عن هذا الحديث فقال ضعيف وقال تلميذه المزي هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وقال الشيخ أبو غدة في تحقيق الأجوبة الفاضلة صححه السيوطي ولم يسبق بتصحيحه وعده من المتواتر حيث ذكره في الأزهار النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ٤ جزء من حديث أخرجه البخاري مرفوعاً في الرقاق ومطلعه من عادى لي وَلِيّاً
۱۰
القيامة يُنظر إلى صلاة العبد فإن وَفّى وإلا قال تعالى انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها ۱ وكذلك في جميع الفرائض إذا نقص منها يُنظر في النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيُجبر منها فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يُخاف عليه من عدم التوفية فيستحق العذاب
يدل على ذلك ما روي أن النبي الله ورأى رؤيا في منامه وكان مما رأى فيها رجلٌ يُشْدَخ ۳ رأسه فسأل عنه فقيل له رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة ۳ ومعلوم أن قيام الليل ليس بواجب وكيف يعذَّب على ما ليس بواجب والعذاب لا يقع إلا على ترك الواجب أو وقوع الخلل فيه لكنه وإن كان قيام الليل مندوباً فالعذاب إنما يقع على وقوع الخلل في الواجب بيان ذلك أنه لما لم يكن ليعمل فيه بالنهار فقد أخَلَّ بالواجب وهو لم يعمل المندوب الذي هو قيام الليل من حيث أن يجبر له الفرض به فوقع العذاب على ترك الواجب في الحقيقة وهو في الظاهر عليهما معاً
ثم كذلك أيضاً إن قدر أن يكون من الموقنين بعد توفية الإيمان المجزىء فليفعل فإن عجز
عنه فلا يُخْلي نفسه من طرف منه لقوله عليه السلام تعلموا اليقين فإني أتعلمه وقد حصل بما أشرنا إليه كفاية في ضرب المثال لما أردنا بيانه في التسديد والتقريب فنرجع
الآن إلى الكلام على الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا على ضربين أحدهما معلوم محدود و الثاني معلوم لا حد له
فأما المعلوم المحدود فهو ما يُرجى من قبول الأعمال والثواب عليها لأن الثواب عليها محدود بإخبار الشارع عليه السلام على ما نقل عنه وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ ٤ وقال عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ ﴾ ٥ وأما المعلوم الذي هو غير محدود فهو ما وعد عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ٦ فالزيادة معلومة عند الله تعالى مجهولة عندنا
1 رواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٢ يشدخ يشق
۳ رواه البخاري ومسلم وسيرد شرح له
٤ سورة الزلزلة الايتان ۷ و ۸
٥ سورة الأنبياء من الاية ٤٧ ٦ سورة النساء من الآية ۱۷۳
وفيه دليل على أن البشارة إنما تكون للعاملين لأنه عليه السلام لم يقل أبشروا إلا بعد
ما نص على العمل الذي يوجب البشارة وهو التسديد والتقريب لمن عمل بهما فأتى بالبشارة للعاملين بذلك وهو مثل قوله تعالى في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ۱ فنصَّ عزَّ وجلّ على أن من فعل ما ذكره من الأعمال هو الذي يرجو رحمته عزّ وجلّ وكذلك فيما نحن بسبيله من أخذ بالتسديد والتقريب على نحو ما تقدم فهو الذي يستبشر
ولقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام أبشروا ولم يقل أيقنوا والجواب من وجهين الأول أن الإيقان قطع بالأمر والقطع لا يكون إلا الله وحده وإنما لغيره قوة الرجاء لا غير لأنه ليس للعبيد حق وجوب على الإله وإنما هو من طريق الفضل والمَنّ وما كان من طريق الفضل والمن فلا يطمع فيه إلا بقوة الرجاء لا أنه يكون حتماً وقد قال الله تعالى في كتابه وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ﴾ ٢ فتكون قوة الرجاء في هذا الوعد بحسب ما يرجى من عظيم الفضل اللائق بالجلال والكمال
الثاني أن ذلك سد للذريعة لأنه لو قال أيقنوا لحصل به للضعفاء اغترار وهو عين الهلاك وربما يكون ذلك سبباً للتقصير في العمل مع كونه مهلكاً وهذا بخلاف البشارة لأن البشارة رجاء ونفس الرجاء يشرح الصدر وينشط للعمل وتنتعش به الروح الأبية
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغُدوة والرَّوحَة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا تنقسم ثلاثة أقسام مستعين ومستعان به ومستعان عليه فالمستعين هو المؤمن والمستعان به أصله إعانة بعض لبعض لغرض ما من الأغراض كما روي في الحديث ويعين الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة ۳ أي يحمله له حتى يبلغه للموضع الذي أمل والاستعانة هنا على وجهين استعانة بالزمان واستعانة بالعمل
فأما الاستعانة بالزمان فهي ما في طَرَفَي النهار من اعتدال الهواء ونشاط النفس فيهما وما روي أن العمل فيهما أزكى مما في غيرهما قال عزّ وجلَّ في كتابه خطاباً لنبيه عليه السلام وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ 4 وقال تعالى على لسان
ها
1 سورة البقرة من الآية ۱۸
سورة التوبة من الآية ۱۱۱
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ سورة الكهف من الآية ۸
0
نبيه عليه السلام اذْكُرْني ساعة بعد الصُّبح وساعة بعد العصر أكفك ما بينهما۱ والدلجة أيضاً كذلك لأن الدّلجة هي آخر الليل وآخر الليل هو أبداً للبدن أقوى لأنه قد أخذ راحته من النوم والغذاء وقد ورد فيه من الفضل كثير فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام يَنزِلُ ربُّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا - وفي رواية كلّ ليلة في ثلث الليل الأخير - فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوبَ عليه فإذا كان عزّ وجلّ ينادي هكذا كلَّ ليلة في آخرها فمحال أن يدعو أحد إذ ذاك أو يتوب أو يستغفر فيُرَدّ لأن الله لا يُخلف الميعاد والمراد بالنزول هنا نزولُ طَوْلٍ ومَنَّ ورحمة دون حلول ولا انتقال
وأما الاستعانة بالأعمال فهي أن تُعمَّر هذه الأوقات المذكورة بأنواع الطاعات وإذا عُمّرت بذلك لم يبق بعدها إلا الأوقات التي جعلت للراحات وهي ما نص عزّ وجلّ عليها في كتابه حيث قال يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَعْدِنَكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَتُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحلم مِنكُر ثَلَثَ مَرَّتٍ مِن قَبْلِ صَلوةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتِ اَ
فعلى هذا فمفهوم هذا الحديث ما نص عليه السلام عليه في حديث اخر حيث قال روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة ٤ لكنه عليه السلام زاد في الحديث الذي نحن بسبيله تعيين الأوقات التي جعلت للعبادة أي جُعِلت العبادة فيها أفضل من غيرها من سائر الأوقات
وإذا قلنا بهذا ـ وهو أن المطلوب عمارة هذه الأوقات بالطاعات - فهل ما يُعمَّر بها من الأعمال معيَّن أو غير معيَّن احتمل الوجهين معاً
فإن قلنا بالتعيين فهي الصلاة لأنها هي التي تسبق للذهن وإذا قلنا بأنها الصلاة فما الحكمة في تعيينها دون غيرها فنقول - والله أعلم - إنها إنما اختصت بهذه الأوقات وجعلت سبباً للاستعانة لما فيها من التعظيم الله والافتقار إليه والدعاء واللجأ إليه وما فيها من أنواع الخير على ما سيأتي بيانه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله
وإن قلنا بعدم التعيين فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لقوله عليه السلام
1 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ سورة النور من الآية ٥٨
٤ رواه الديلمي ۳۷۸/ برقم ۳۰۰٤ وعزاه الجامع الصغير لأبي داود في مراسيله وروى مسلم عن حنظلة بلفظ
یا حنظلة ساعة وساعة
۱۰
موضعُ الصَّلاة من الدِّين مَوضعُ الرأس من الجسد ۱ وهذا هو الأظهر والله أعلم لأنه قد تُفرَضُ في بعض الأوقات أعمال تكون أفضل من الصلاة بحسب الأحوال وهي كثيرة تتعدد
فعلى ما ذكرناه من هذا التعليل يترتب عليه من الفقه وجهان
أحدهما اغتنام نشاط النفس وخلو الشغل وقد نص عليه السلام على ذلك حيث
قال اغتنم خمساً قبل خمس وعَدَّ منها فراغَك قبل شغلك وصحتك قبل سَقَمِك الثاني اغتنام حسن الزمان واعتداله لأن ذلك مما يعين على العبادة وقد نص عليه
السلام على ذلك حيث قال أبرِدُوا بالصَّلاة ۳
وأما المستعان عليه فهو يحتمل وجوهاً الأول وهو أعمّها صلاح الحال في الدنيا والفلاح في الاخرة وهو بلوغ ما يؤمل من الخير على ما نص عليه العلماء الثاني أن يكون عائداً على التسديد والتقريب الثالث أن يكون عائداً على البشارة وما تتضمن إلى غير ذلك من الوجوه على مقتضى ما يحتمله الحديث على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى
هذا ما تضمنه البحث على هذا الوجه إن كان المراد بالدين الإيمان والإسلام معاً ثم نرجع الآن على ما اشترطنا إلى بيان الوجه الثاني فنقول
الوجه الثاني
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسْرُ قد يريد به الإسلام دون غيره وهي أفعال الدين على ما بيّناه
بيان ذلك أن الخطاب بالحديث إنما كان للمؤمنين والإيمان قد كان حاصلاً وإذا كان المراد به الإسلام فالكلام على بقية ألفاظ الحديث تَضَمَّنه الكلام على الوجه قبله فأغنى عن
إعادته
الوجه الثاني قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به أن الشيء الذي وُعِدتم أنكم تتخلصون به من الأعمال وضُمِنَت لكم به النجاةُ هو توفية ما فُرِض عليكم
۱ جزء من حديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ لا إيمان لِمَنْ لا أمانة له ولا صلاة لمن لا طهور له ولا دين لمن لا صلاة له وموضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي لا تُوغِلوا في المندوبات فيؤول بكم الأمرُ إلى أن تُخِلّوا بالفرائض فيغلبكم الدِّينُ ومثال هذا من يُكثر في طرف من المندوب ويترك شيئاً واجباً عليه من طرف آخر لم يفعله وكذلك أيضاً من يتوسوس في الطهارة حتى يفضي به الأمر إلى إيقاع الخلل فيها وكذلك في سائر التَّعبدات إن تعمّق فيها حتى يُخِلّ بالفرض منها فقد غلبه الدِّين لأن الدين هو الأصل الذي يتقرب به إلى ربه قد أخَلَّ به ولا يسوغ أن يتقرب بالفرع مع عدم توفية الأصل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه عليه السلام لن يتقرب إليَّ المتقربون
بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم ثم لا يزالُ العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنتُ سَـ الذي يَسمعُ به وبَصَرَه الذي يُبصرُ به ويَدَه التي يَبْطِسُ بها ۱ وفي هذا إشارة إلى التربية بالتدريج في السلوك والترقي ومنع الأخذ بالقوة أولاً في التعبدات من نوافل الليل والنهار وغير ذلك لأن من يأخذ بذلك في بداءة أمره يغلبه الدِّينُ بالضرورة لقلة الرياضة فيما أخذ بسبيله
ومثل هذا ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَقَدَ سليمان بن أبي حَثْمَة ۳ في صلاة الصبح فلما كان من الغد مرّ على الشَّفَّاءِ أم سليمان فقال لها لم أرسليمان في الصبح فقالت إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحَبُّ إليَّ من
أن أقوم ليلة
فانظر كيف فضَّل حضور الصلاة في الجماعة على قيام الليل كله مع أن قيام الليل فيه من المشقة ما هو معلوم لكن لما أن كان ذلك القيام كله من جنس المندوب وال أمره إلى أن أوقع الخلل في فضل من فضائل المفروضات كرهه عمر رضي الله عنه فلو قام من الليل بعضه ونام بعضه وحضر الصلاة في جماعة لكان من الآخذين بالكمال ولم يقع عليه بذلك غلبة في نقص فضيلة ولا غيرها فإذا أخذ المرء أولاً نفسه بالرفق والرياضة في تعبداته حتى يصير له ما أخذ من ذلك عادة كانت العبادة عليه يسيرة لا مشقة عليه فيها حتى يبلغ بها النهاية وهو كأنه لم يزد على نفسه شيئاً كما يروى عن ابن السَّمَاك ۳ رحمه الله وهو من أحد شيوخ الرسالة أنه انتهت به نافلته في دكانه مع بيعه ألف ركعة في اليوم
1 رواه البخاري مرفوعاً في الزقاق ومطلعه من عادى لي وليا فقد اذنته بالحرب سليمان بن أبي حثمة هاجر صغيراً مع أمه الشفاء وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم واستعمله عمر رضي الله عنه على السوق وهو معدود من كبار التابعين
اسمه عبد بن أحمد الهروي ثم المكي المعروف بابن السماك المالكي توفي سنة ٤٣٤هـ / ١٠٤٣م محدث حافظ صوفي أصله من هراة وسمع ببغداد والبصرة وهراة و سرخس و بلخ و مرو و دمشق و مصر وحدث بخراسان و بغداد وجاور بمكة وبها توفي من مصنفاته تفسير ومستدرك على الصحيحين والسنة والصفات ومناسك الحج ودلائل النبوة وفضائل القران وفضائل مالك وكتاب الجامع وكتاب الدعاء وكتاب شهادة الزور وكتاب العيدين ومعجمان أحدهما فيمن روى عنهم الحديث والثاني فيمن لقيهم ولم يأخذ عنهم
۱۰۷
الوجه الرابع قوله عليه السلام فَسَدَّدوا وقاربوا أي قاربوا الجد ولا تأخذوا الأخذ الكلي الذي تصلون به إلى المشادة فيغلبكم الدين و سددوا أي ليكن جِدُّ كلِّ شخص على ما تقتضيه بِنْيَتُه وطاقته ومزاجه
ومن هذا الباب راح كثير من العباد لأنهم يأخذون أنفسهم أولاً بأن يعاندوا من ليس مثلهم من أهل النهايات فيأخذوا مأخَذهم ويسلكوا مسلكهم فيُقطع بهم في الحال عنهم لأنه قد يكون من أرادوا التشبه به أكثر قوة في بدنه منهم وأعدل مزاجاً وأخذ نفسه أولاً فيما هو بسبيله الآن بالتدريج في السلوك والترقي حتى صار له ما هو بسبيله من التعبد مزاجاً كما حكيناه عن ابن السماك ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۱ - رحمه الله - الإمام في الطريقين - حذارِ حذارِ أهلَ - البدايات أن تَتَشَبَّهوا بأهل النهايات فإن هناك مقامات لم تُحْكِموها فعلى هذا فالشأن الذي يُبلغ به المقصود إن شاء الله ويكون صاحبه من أهل السداد أن يُحكم أولاً الخَمْسَ التي فُرِضت عليه وهي السَّيرُ بواجباتها ومندوباتها والمحافظة عليها فإذا رجع له ذلك مِزاجاً أَخَذَ إذ ذاك بالرفق والسداد على ما أشرنا إليه في النوافل
الوجه الخامس قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي لمن زاد على الفرض ولم يقتصر عليه لأن الفرض قد جاء فيه ما جاء من الوعد الجميل في الكتاب والسنة في غير ما موضع فإن حملنا البشارة هنا على ذلك فهو تحصيل حاصل ونكون قد حملنا ألفاظاً جملةً على معنى واحد وليس ذلك بالمَرْضي عند العلماء وإنما يحمل كل لفظ على فائدة أو فوائد دون غيره من الألفاظ إنْ وُجِدَ لذلك سبيل وكفى في هذا دليلاً قوله تعالى ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن
قُرَّةٍ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ولا ذاك إلا في النفل دون الفرض والبشارة هنا على معنيين الأول هو أنه إذا أخذ بعد الفرض باليسير من النفل فَلْيَسْتَبْشِرْ بالزيادة لمقتضى قوة البشارة حتى يبلغ ما أمل من الأحوال الشريفة والمنازل المنيفة بلا كلفة لأن حقيقة البشارة لا تكون إلا في المستقبل والبشارة بما قد وُعِد تحصيل حاصل وإنما سميت بشارة مجازاً لا حقيقة وإنما البشارة الحقيقية مثل ما تضمنه إخباره عليه السلام لكعب بن مالك ٣ أحد الثلاثة الذين
۱ يمن بن رزق إمام الطريقين أصله من طليطلة له مستدرك على الصحيحين وقضاء مالك وكتاب التوبة حدث في بغداد و خراسان وجاور بمكة وفيها توفي سنة ٣٦٠هـ ۹۷۰م
سورة السجدة من الاية ۱۷
۳ كعب بن مالك أنصاري خزرجي صحابي من أهل المدينة من أكابر الشعراء وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم
شهد العَقَبَة وأحداً والمشاهد كلها إلا تبوك فإنه تخلف عنها وهو أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم
وَعَلَى الثَّلَثَةِ الَّذِينَ خُلِفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَجُبَتْ الآية وهم كعب بن مالك وهلال
•
=
۱۰۸
خُلفوا حيث تيب عليهم فقال عليه السلام أبشر يا كعب بخير يومٍ طَلَعَت عليكَ فيه الشمسُ هذه هي البشارة الحقيقية وهي خَفِيَّة دقيقة لأن ظاهر اللفظ قد يستشكله السامع وقد استشكله بـ العلماء وقال كيف يكون هذا خير يوم طلعت عليه فيه الشمس وقد تقدمه يوم إسلامه وهو خروجه من الكفر إلى الإيمان وهذا القائل قد توهم أن هذا إشكال في الحديث وليس ذلك بإشكال بيان ذلك أنه أعقب يومَ إسلامه بهذا الذنب العظيم الذي استوجب به هَجْرَ النبي صلى الله عليه وسلم له والصحابة فلما تيب عليه هذه التوبة التي علم النبي و أنه لا معصية بعدها أخبره عليه السلام بأن ذلك خيرُ يوم طلعت عليه فيه الشمس لأنه لم يقع منه بعد ذلك معصية ولا مخالفة والتزم الصدق والعبادة حتى قبضه الله إليه على أحسن حال فلو أراد النبي البشارة في ا و الماضي لقال أبشر فقد غفر لك وتيبَ عليك وتحصل بذلك الكفاية ولكن لما أن أراد عليه السلام البشارة في المستقبل أتى بصيغة ما ذكر ولأجل ما فهم الصحابي من هذه البشارة خلع إذ ذاك ثيابه ولم يكن ليملك غيرها فأعطاها في البشارة لعلمه بعظيم ما بُشِّر به
وكل بشارة وردت من الشارع عليه السلام مبهمة فالمراد بها ما ذكرناه من مقتضى هذه البشارة ولهذا قال أهل السلوك فيمن بلغ بعض المنازل فدام عليه بأدبه إنه يترقى إلى ما هو أعلى منه فما دام على هذه الحال لا يزال في ترقّ حتى يبلغ غاية المنازل الرفيعة عملاً منهم على مقتضى البشارة وهي ما ذكرناه
الثاني هو أنه إذا أخذ بتوفية الفرض وما تيسر عليه من النفل فدام على ذلك ولم يزد عمله شيئاً فنفس البقاء على ذلك زيادة وهي البشارة يؤيد هذا قوله عليه السلام حين أخبر عن الأخوَيْنِ اللذين مات أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول بين يديه عليه السلام فقال عليه السلام عن الآخر وما يُدريكم ما بَلَغَتْ به صلاته إنما مَثَلُ الصلاة كمثل نَهَرٍ عَذَبٍ غَمْرِ ٢ بباب أحدِكم يقتحم فيه كلَّ يومٍ خمْسَ مرّات فما تَرَوْن ذلك يُبقي من دَرَيْهِ فإنكم لا تدرونَ ما بَلَغَتْ به صَلاتُه ۳ ولهذا قال أهل السلوك الدوام على الحال فيه زيادة
وترقُ عملاً بالحديث الذي أوردناه
ابن أمية ومرارة بن ربيعة فتاب الله عليهم وعدَرَهم وغفر لهم ونزل القرآن المَثْلُوُّ في شأنهم وكان كعب بن يوم أحدٍ لبس لأمَةَ النبي وكانت صفراء وليس النبي لا لأمنه تمويهاً للأعداء فجُرح كعب بن مالك
مالك
أحَدَ عَشَرَ جرحاً وتوفي كعب سنة ٥٠هـ / ٦٧٠م ۱ متفق عليه ولفظه أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك عَمْر الغَمْر من الماء خلاف الضَّحْل وهو الذي يعلو مَن يَدخله ويغطيه ۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد بإسناد حسن وصححه ابن خزيمة
۱۰۹
الوجه السادس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والرَّوْحةِ وشيء من الدُّلْجَة استعينوا بالغَدوة أي بصلاة الضحى و الرَّوْحَة أي الصلاة بين الظهر والعصر و الدُّلْجَة أي قيام آخر الليل
فإن قال قائل لم عم عليه السلام الوقتين جميعاً وجعل من الثالث البعض
الله وينام
قيل له إن هذين الوقتين قريبان محدودان وهما معاً جزء من النهار وآخر الليل جزء من الليل لكنه غير محدود وإن كان عليه السلام قد حد الفضل فيه في حديث داود عليه السلام حيث قال أفضلُ الصلاة صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم سُدُسَه ۱ فالحد إنما حصل على الأفضلية وما نحن بسبيله إنما وقع على الإجزاء الذي به تحصل الاستعانة فمن قدر على الأخذ بالأفضل فَبِها ونِعْمَتْ وإلا فقد أخذ بالإجزاء الذي يستعين به وهذا من باب التوسعة لأن ذلك وقت نوم وأعذار وليس النهار كذلك وفي هذا دليل على التحريض على تعمير هذه الأوقات بأنواع العبادات إذ إنَّ ذلك مما يُستعان به وما يستعان به لا يترك لأنه إن ترك ما يستعين به خيف عليه ألا يبلغ ما أمل ولهذا اسْتُحِبّ له الابتداء أولاً باليسير أبداً ويعمل عليه ويكون ذلك دأبه لئلا يخلي نفسه من الاستعانة فإن وجد النهاية لم يتركها وإن حدث له ضعف أو شغل لم يترك قدر ما يطلق عليه اسم الاستعانة
وقد نص عليه السلام على هذا المعنى الذي أبديناه في غير هذا الحديث حيث قال لِكلِّ عابد شرَّةٌ ولكل شِرَّة فَتْرَةٌ فطوبى لمن كانت فترته إلى سُنّة والسنة التي هي الفترة هي ما أشار إليها عليه السلام في هذا الحديث من الأخذ بالتعبد في هذه الأوقات اليسيرة فسبحان مَنْ مَنَّ علينا بالخير به وعلى يديه
وفي هذا دليل لأهل السلوك والتربية حيث يستحبون أن تكون البداية أولاً في الليل وفي النهار ركعتين ركعتين ثم يزيد على ذلك ما يشاء وبحسب النشاط لئلا يخلي نفسه من الاستعانة كما تقدم حتى يبلغ بالتدريج ما أمل لأن من أخذ من هذه الأوقات بقدر طاقته من العبادات ترقى إلى ما شاء الله من المراتب السنية ولا يدركه في ذلك تعب فإذا أخذ بذلك كان أبداً في الترقي بالزيادة تاركاً للنقص حتى يبلغ بذلك إلى نهاية ما يقتضيه حال البشرية
وذلك مثل ما حكي عن بعض الفضلاء أنه أتاه أخ له يزوره فوجده يصلي الظهر فجلس ينتظر فراغه من صلاته فلما فرغ من الصلاة قام إلى النفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال
۱ متفق عليه من عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
الشَّرَّة الحِدة والنشاط والحديث رواه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي وقال حسن صحيح غريب
كذلك إلى صلاة العصر فصلى العصر ثم جلس للذكر فخاف أن يقطع عليه ذِكْرَه فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة المغرب فقام إلى الصلاة فلما فرغ منها قام إلى التنفل فخاف أن يقطع عليه تنفله فجلس ينتظر فراغه فما زال كذلك إلى صلاة العشاء فلما فرغ منها قام إلى التنفل فجلس ينتظر فراغه من التنفل فما زال كذلك إلى الصباح فقام إلى صلاة الصبح فلما فرغ منها جلس إلى الذكر فجلس ينتظر فراغه فبينما هو جالس في مصلاه لِذِكْرِه غلبته عيناه قليلاً ثم استيقظ من حينه فجعل يمسح عينيه ويقول أستغفر الله أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فانظر لما صار به من الحال وهو يتنعم بذلك لأنه لولا الحلاوة التي وجدها في العبادة لما جعل هذه السِّنَةَ التي لا تنقض الطهارة ذنباً يستغفر منه فزال عنه التعب والمشقة اللذان يدركان البشر من ذلك ورجع له عوض الحلاوة والتنعم وذلك ببركة الرفق والرياضة في التربية في السلوك
نسأل الله أن يمن علينا بما مَنَّ به عليهم وأن يعيد علينا من بركاتهم
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث
الوجه الثالث
الأول منه قوله عليه السلام إن الدين يُسْر قد يريد به أن ما تديَّنتم به بالنسبة إلى من كان قبلكم يُسر وما كُلّفتم إلا بما تُطيقون لأن الله عزّ وجلّ قد رفع عن هذه الأمة الإصْرَ الذي كان قد جعل على الأمم الماضية فجعل لهم عند الضيق المخرج مثال ذلك ما شرع لنا في التوبة وهو الندم والإقلاع والاستغفار وقد كانت لمن قبلنا بالقتل وكذلك أيضاً النجاسة طهارتها بالغسل ولمن قبلنا بالقطع والمقراض وكذلك أيضاً تَحِلة اليمين بالله شرعت لنا ولم تشرع لمن كان قبلنا وكذلك أيضاً أكل الميتة وكذلك أيضاً لو كلفنا الله عزّ وجلّ بما لا نطيق لكان ذلك سائغاً لأنه الحاكم القاهر لا راد لما قضى ولكن بفضله عزّ وجلّ ومنته عافانا فلم يكلفنا إلا قدر استطاعتنا فقال تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۱ ومن كُلّف قَدْر وُسعه فهو يُسْرُ
عليه لا تعسير
ومثال ذلك أنه عزّ وجلّ عفا عن الخطأ والنسيان وحديث النفس وما استكرهنا عليه وكذلك أيضاً شرع لنا عزّ وجلّ عند العجز عن القيام في الصلاةِ القعود وعند العجز عن القعود الاضطجاع وعند العجز عن التحرك الإيماء وكذلك شرع لنا عزّ وجلّ التيمّمَ عند عدم الماء
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
۱۱۱
سُرَ الصلاة في السفر والفِطرَ فيه إلى غير ذلك وهو كثير موجود في كتب الفروع وقد قال عليه السلام إن الله يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمه ۱
من
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غلبه يريد أن من شدد على نفسه بالأخذ بالأشد وترك ما رخص له فيه فقد شادَّ الدين وإذا شادَّ الدين غَلَبه الدين ومثال ذلك شدد على نفسه فترك اليمين المشروعة وحلف بالمشي إلى مكة والطلاق والعتاق وترك التيمم عند العجز عن الطهارة بالماء وأراد القيام في الصلاة مع العجز عنه إلى غير ذلك وهو كثير فيريد الأخذ بالكمال في كل الجهات ويترك الرخص فمن فعل هذا فقد شاء الدين فيغلبه الدين لأجل ما أدخل على نفسه وقد ذم عزّ وجلّ مَن فعل ذلك من الأمم الماضية فقال عز من قائل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاة عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ٢
العزم
عنه
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا قاربوا أي قاربوا أولاً بالجد وقوة على الأخذ بالحزم والحزم هو ترك المحذور والعمل على براءة الذمة والأعلى من المراتب والأفضل من الأحوال فإن وقع لكم عجز أو غفلتم أو وقعتم في شيء مما نُهيتم عن فسددوا أي أصلحوا حالكم بالخروج على المخارج التي جعلت لكم والأخذ بالرخص التي تُصُدِّق بها عليكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ٣
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا فإن ذلك مخلص لكم ومبلغكم إلى رضا مولاكم وحسن العاقبة لكم يؤيد هذا قوله عليه السلام رُبَّ ذَنْبٍ أَدخَلَ صاحبَه الجنة ٤ قال العلماء معناه أن ذلك الذنب كان سبباً لتوبته فتاب توبةً نصوحاً فكان هو السبب الذي أدخله الجنة يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما قيل لبعض الفضلاء حين غَلَب عليه في وقتِ ما خوفٌ من أجل التقصير في حق مولاه ثم تَلمَّح سعة رحمته فخالط ذلك الخوف طمع في سَعَة رحمة مولاه فخوطب بأن قيل له مَن أردناه اصطفيناه فخوَّفناه ورجَيْناه ومَن أبغضناه أَبْعَدْناهُ
والهَيْناهُ
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجة
1 العزائم ج عزيمة وهي فرائض الله التي أوجبها والحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن
ابن عمر رضي الله عنهما سورة الأنعام الآية ١٤٠ ۳ سورة النساء من الآية ۹
٤ لم نعرف مصدره
الاستعانة هنا هي أن مَن واظب على الأعمال في الأوقات المذكورة يرزق بها العون على ما أخذ بسبيله من أفعال الطاعات ويسر له ما عسر عليه من أمر دينه ويُزاد قوة في إيمانه فيتبين له قَدْرُ ما لطف به وماذا أريد منه وهذا من أكبر أسباب العون فإن به يسهل العمل وتسمو الهمم إلى
المراتب العلية
ولأجل ما يحدث من هذه المعاني بعمارة تلك الأوقات قال بعض الفضلاء من أئمة التحقيق وأنا أوصيك بدوام النظر في مرآة الفكرة مع الخلوة فهناك يبين لك الحق ومن بان له الحق رُجيَ له اتباعه وكان من أهله فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه
ومما يناسب ما نحن بسبيله من وجه ما قوله عليه السلام وَيْلٌ لمن غَلَبَت آحاده عَشَراتِه ۱ ومعنى ذلك أن الحسناتِ جُعلت بفضل الله عشراً إلى سبعين إلى سبعمائة والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء والسيئة بواحدة ثم بعد هذا الفضل العميم يَغْفُل ابنُ آدمَ المسكين عن نفسه حتى لا يجد لنفسه مَخْرَجاً إما بتغال في الدين وإما بتضييع محاسبة نفسه فيهلك مع الهالكين وهو لم يشعر ولهذا قال عليه السلام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ۳ فيحق لمن غفل عن نفسه وألزمها هذا التغالي المذكور أو غفل عن المحاسبة ذلك الوعيد العظيم أعاذنا الله وإياكم من ذلك بمنّه
فينبغي للعاقل أن يعين نفسه بما أشار الشارع عليه السلام إليه وأن يقيم على نفسه ميزان الشرع ولا يغفل عن محاسبة نفسه ولا يشاد دينه لئلا يهلك بأحد هذه الوجوه ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الرابع
الوجه الرابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إِنَّ الدِّينَ يُسْر قد يُراد به أنه يُسْرِّ على من عَرَفَه لأن مَنْ جَهله عَسُر عليه بمقتضى أدلته لجهله به فيكون هذا مثل قوله تعالى ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۳ وشهادته لنفسه هي ما أظهَرَ في جميع مخلوقاته من آثار قدرته الدالة على وحدانيته وعظمته فيكون الحاصل من هذا التحضيض على علوم الدين بمقتضى الكتاب والسنّة على ما أشرنا إليه قبل الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبَه المشادة هنا هي أن
1 لم نعرف مصدره رواه البيهقي في الزهد وذكره في مناقب
۳ سورة آل عمران من الآية ۱۸
۶
من أراد أن يأخذ علوم الدين بغير هذين الطريقين وهما الكتاب والسنة إما بعلم العقل أو ما شابهه واقتصر على ذلك فيغلبه الدين إذ ذاك بالضرورة لأنه إذا فعل ذلك عاد عليه مقام الحق مشكلاً ومقام الحقيقة محتملاً فانقلب بصفقة خاسرة خسر الدنيا والآخرة
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا السداد هنا بمعنى سداد الحال يقال سدد فلان حاله إذا أصلحه سدد الله فلاناً أي أصلح الله فلاناً سدد القاضي أي حكم بينهم بالعدل لا يباع إلا على وجه سداد أي بوجه صالح على مقتضى الشريعة وصلاح الحال هنا هو صلاحه في الدين بمعرفته ومعرفة أحكامه والعمل على ذلك واتباعه ويشهد لهذا قوله عليه السلام طَلَبُ العِلمِ فريضة على كلِّ مُسلم ۱ قال العلماء المحققون معناه ما وجب على المرء عمله وجب عليه العلم به لأنه لا يمكن توفية ما أمر به إلا بالعلم بحدوده
وقد اختلفوا فيمن عمل العمل بغير علم فصادف عمله لسان العلم على ثلاثة أقوال فمن قائل يقول بأنّ له الثوابَ على عمله واحتج بأن قال هذا عمل وقع على ما أمر به ومن فعل ما أمر به كان له الثواب على الامتثال ومن قائل يقول بأن عليه الإثم في ذلك واحتج بأن قال إن الله عزّ وجلّ لم يتعبد أحداً بالجهل وإنَّما يجوز له الإقدام على العمل بالعلم به وأما مع الجهل فلا قال الله تعالى فَسَتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فلما قدم على العمل بغير علم كان مرتكباً للنهي ومن ارتكب النَّهي أيم ومن قائل يقول بأنه ليس له ثواب وليس عليه عقاب واحتج بأن قال إنه لم يقع بعمله في شيء مما نُهي عنه فلم يكن مأثوماً وأمر بألاّ يُقدِم على العمل إلا بالعلم فلم يفعل ذلك لم يكن له أجر عليه
فإن العجز عن هذا السداد الذي هو صلاح الحال بالعلم كما تقدم فَلْيُؤْخَذْ بما تضمنه قوله عليه السلام قاربوا ومعناه السؤال لأهل العلم كما تقدم لأن الله عزّ وجلّ يقول فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ والنبي يقول شفاء العِيِّ السؤال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالطريق المذكور الذي أبديناه فَلْيَسْتبشر بأن الله يرفعه في الدنيا والآخرة ويرزقه من حيث لا يحتسب إذا كان ذلك الله خالصاً يشهد لهذا قوله عليه السلام تكفّل الله برزق طالب العلم 4 وهو عز
۱ رواه ابن ماجه برقم ٢٢٤ سورة النحل من الاية ٤٣
۳ رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني كما في كشف الخفا رقم ٦٤٦
٤ الرواية المشهورة من طلب العلم تكفل الله عزّ وجلّ برزقه رواه الخطيب البغدادي في تاريخه ۳/ ۱۸۰ وفي =
١١٤
رفع
وجلّ قد تكفل برزق الخلق كلهم لكن فائدة هذه الأخبار البشارة لطالب العلم بأن الله تعالى قد عنه التعب في طلب الرزق والكدّ عليه ويسره له وسهله عليه من غير تعب يدخل عليه في ذلك بلا مَشَقَّةٍ يزيد هذا إيضاحاً قوله عليه السلام إذا ابتدع في الدين بدعةٌ كِيد الدين فعليكم بمعالم الدين واطلبوا من الله الرزق قيل وما معالم الدين قال مجالس الحلال والحرام ۱ الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي أن من عمر هذه الأوقات المنصوص عليها بالتعبد فإن الله عزّ وجلّ يعينه على ما أخذ بسبيله من التعلم ويُفهمه وينوّر بصيرته وهذا قد وجده كل من عمل ذلك بإخلاص وصدق وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ٢
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الخامس
الوجه الخامس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما كُلّفتم به بالنص ولا يمكن فيه التأويل يُسْرٌ وأن أكثر ما كُلّفتم به محتمل للتأويل وقابل له وإذا كان القابل للتأويل المحتمل له هو الأكثر فهو تيسير وتوسعة من المولى على عبيده وقد نشير إلى شيء من ذلك بالنص على مسائل مما تحتمل التأويل ليتنبه بها لما ذكرناه
فمن ذلك حديث بني قُرَيْظَة الحديث المشهور الذي قال فيه عليه السلام للصحابة لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قُرَيْظَة فأدركَهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها له وقال بعضهم بل نصلي فإنه لم يُرِد منا ذلك فذكر ذلك للنبي ا فلم يعنف أحداً منهم ۳ ذلك اختلاف الفقهاء في معنى قوله تعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ فمن قائل يقول به على الإطلاق في الصلاة وفي غيرها ومن قائل يقول مثل الأول لكنه قيَّدها بألا تكون إلا قبل القراءة ومن قائل يقول بأنها لا تكون إلا بعد القراءة
الرحيم
||
ومن
الجامع لاداب الراوي والسامع ۳۸/۱ والقضاعي في مسند الشهاب ٢٤٤/١ و ٣٩١ والديلمي في مسند الفردوس ٧٥/٤ وقال عنه الذهبي في الميزان ٤٨٢/٤ والسلفي في تحقيق الشهاب موضوع
1 لم نعرف مصدره
سورة العنكبوت من الآية ٦٩ ۳ متفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ سورة النحل من الآية ۹۸
١١٥
ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله تعالى ﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيْبًا ١
فمن قائل يقول به على العموم ومن قائل يقول به على الخصوص ومن قائل يقول بجواز التيمم به منقولاً كان أو غير منقول ومن قائل يقول بعدم الجواز عند النفل
ومن ذلك أيضاً اختلافهم في قوله تعالى ﴿وَرَبِّبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِسَآبِكُمْ فمن قائل يقول بتحريمها ابتداء ومن قائل يقول بعدم التحريم حتى تكون في حِجْرِه ويكون كفيلاً لها
ومن ذلك اختلافهم في الربا وما العلة فيه فخرج كل واحد منهم على ما أعطاه اجتهاده من التأويل في الاحتمال وكل ما اختلفوا فيه أبداً إنما هو من أجل الاحتمال الذي في الآية أو الحديث وهذا الاختلاف توسعة ورحمة وقد كان بعض من لقيته من الفضلاء الجِلَّة يقول لا يحل أن يُتَدَيَّنَ إلا بالمشهور ولا يُفتى إلا به وتكون فائدة الخلاف في أمر إذا وقع وفات ولم يُمكن تلافيه على المشهور فيُخَرَّج إذ ذاك على قول قائل لأنه أحسن من خرق الإجماع ولَعَمْرِي لقد أحْسَنَ هذا في الفتوى لأن به يستعمل جميع الوجوه فيكون الأخذ أولاً بالكمال في الدين وهو القوة عملاً بقوله عليه السلام المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خيرٌ ۳ فإن تعسر عليه الأخذ بالكمال رجع إلى الخلاف وأخذ بالتيسير فيكون بينه وبين المحارم حاجز كبير لأنه إن تعذر عليه الأخذ بالكمال وجد ما يرجع إليه من غير أن يخرق الإجماع بخلاف من يأخذ أولاً نفسه بالعمل على الرخص لأنه إن تعذر عليه الأمر في وقت ما فلا يجد حيلة إلا الوقوع في المحارم وقد قال عليه السلام إن لكل مَلكِ حِمى ألا وإن حِمَى الله مَحارِمُه فمن حام حول الحِمى يوشك أن يقع فيه ٤
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن من يريد الأخذ بالكمال فيريد أن يعمل في كل مسائله بالإجماع فيغلبه الدين لأجل ما ألزم نفسه لأنه يجد كثيراً من المسائل لا ينعقد عليها إجماع
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدَّدوا وقاربوا السداد هنا على معنيين
الأول أن يكون بمعنى صلاح الحال بالأخذ بما عليه الجمهور والجمهور هم الصحابة
۱ سورة النساء من الآية ٤٣
سورة النساء من الاية ۳
۳ رواه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ جزء من حديث رواه الستة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
11
والصدر الأول لقوله تعالى ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى ۱ قال العلماء هم الصدر الأول ولقوله عليه السلام خَيْرُ القرونِ قَرْني ثم الذين يلونهم
الثاني أن يكون الآخِذُ بالأظهر من الأدلة وبالوجه الراجح من الوجوه المحتملات في اللفظ الواحد ولا يلتفت إلى الشواذ من الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وإنما الشأن الأخذ بالوسط كما قال الخليفة لمالك رحمه الله حين أراد أن يجمع كتاب المُوَطَّأ فقال له اترك تشديد ابن عمر ورُخَص ابن عباس وألّف بعد ذلك ما شئتَ فقال مالك فخرجت من عنده فقيهاً ويكون معنى التقريب هنا عند العجز عن الأخذ بما أشرنا إليه في السداد لأجل العذر فيُخرج على قول قائل عند العذر ولا يأخذ بطرف التشديد ولا بطرف الترخيص مع عدم العذر ويكفي في هذا ما روي عن عمر رضي الله حين قيل له عن رجل أتى إلى المدينة يطلب غريب التفسير وغريب الحديث فأمر رضي الله عنه بإحضاره وقال له من أنت فقال له عبد الله بن فلان فقال له عمر وأنا عمر بن الخطاب ثم أخذ جريداً من نخل فجعل يضربه بها على رأسه حتى أدماه وهو يقول أنا عمر بن الخطاب فقال له الرجل جزاك الله عني خيراً قد زال ما كان في رأسي ٣ ولا ذاك إلا أنه من يطلب ذلك فالغالب عليه أن يعمل على أحد الطرفين إما بطرف التشديد فيأخذ بالمشادة ويترك السداد وإما بطرف الترخيص فيكون له ذريعة لأن يقع في المحارم ويترك الأخذ بالتقريب
الله عنه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا معنى البشارة هنا هي أن من عمل بما ذكرناه فَلْيستبشر بأن الله يجعل له عند العسر يسراً وعند الضيق مخرجاً ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ٤ وقوله تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ ٥ وقد حصل له زيادة لتلك البشارة أن
الله عزّ وجلّ قد جعله من المتقين
1 سورة النساء من الآية ۱۱٥
جزء من حديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه خير الناس قرني إلى آخر
الحديث
۳ الرجل المشار إليه اسمه صبيغ بن عسل كان يسأل عن المتشابه وكان سؤاله لعمر رضي الله عنه عن مشكلات القرآن فأمر عمر الناس ألا يجالسوه وضرَبَه حتى أدمى رأسه فقال حَسْبُكَ يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنتُ أجده في رأسي انظر الإصابة ۱۹۱/ ومسند البزار ٤۳/۱ رقم ۹۰ والدارمي والخطيب وابن عساكر في التاريخ ۳۱/ والدارقطني في الأفراد ۰
٤ سورة الطلاق من الآيتين و ۳ 5 سورة الطلاق من الآية ٥
ولأجل الجهل بمعنى هذه البشارة دخل بعض الناس عندما ضاق عليهم شيء من الدنيا في المكروهات والمحرمات ويقولون بأنهم معذورون لأنهم لا يجدون سبباً على زعمهم غير ما هم فيه وهذا من العلامات الدالة على اقتراب الساعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من أشراط الساعة طلب الرزق بالمعاصي ۱ فنعوذ بالله من العمى والضلال
فانظر إلى هذا العمى الكلي والصَّمَم السَّرمدي كأنهم لم يسمعوا قط هذه البشارة ولم يعرفوا مقتضاها وكأنهم لم يروا في الكتاب ولم يسمعوا منه الآيتين المتقدمتي الذكر وكأنهم لم يسمعوا قوله عليه السلام لا يُنَالُ ما عند الله إلا بطاعة الله ٢ وكل هذا يدل على أن من طلب الرزق بغير طاعة فقد طلب الشيء من غير بابه ومن طلب الشيء من غير بابه تعب في طلبه ورجع بصفقة خاسرة
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى حيث كانوا يطلبون الرزق بطاعة ربهم لِيُتنَبَّهَ بذلك لما أردنا بيانه فمن ذلك ما روي عن بعضهم أنه كان ذا عيال وضاق عليه الوقت ولم يقدر على شيء فوقع في باله الأخذ بالطاعة التي هي سبب للرزق فخرج إلى مسجد خرب فنظفه وبقي يتعبد فيه فيخرج غدوة ويخبر أهله أنه يتسبب ثم يروح عشية فيقولون له أين الأجرة فيقول الذي خدمت عنده كريم فاستحييت أن أطالبه حتى يكون هو الذي يعطيني فبقي ذلك أياماً يسيرة ثم أتى ليلة على العادة إلى منزله فلما كان بقربه شم روائح طعام عطرة فتعجب من ذلك لأجل أنه يعلم أن جيرانه في ضعف بحيث لا يقدرون على ذلك فلما أتى منزله فإذا الذي شمّ من ذلك في منزله فتعجب من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم نظر فإذا في بيته طعام وإدام وقماش ودراهم ووجد أهله بكسوة حسنة فسألهم من أين لكم هذا فقالوا له إن الكريم الذي أنت تخدم عنده بعث إليك بما ترى وهو يقول لك لا تقطع الخدمة فقال أجل
فانظر من طلب الشيء من بابه كيف نجح سعيه وظفر بمراده
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلجة الاستعانة هنا هي التعرض لنفحات الله تعالى في هذه الأوقات المذكورة وتجد إذ ذاك لطفه بك كثيراً وخيره عليك عميماً يؤيد هذا قوله عليه السلام إذا سألت فاسْأَلِ الله ۳ وقوله عليه
1 لم تعرف مصدره رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي في المدخل وصححه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم ۳ جزء من حديث رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
۱۱۸
السلام تَعرَّضوا لنفحات الله ۱ وقوله عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام يَنزِلُ ربُّنا كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا في الثُّلُثِ الأخير من الليل فيقول هل من تائب فأتوبَ عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له فكيف يقول عزّ وجلّ هذا ويستغفر أحد إذ ذاك أو يتوب أو يدعو فَيُرَدُّ ذلك محال من طريق قوة الرجاء في فضله سبحانه ومِنتِه
وقد نشير إلى شيء من مآثر من مضى في هذا أيضاً ليتبين به المقصود الذي أردنا بيانه فمن ذلك ما روي أن بعض الثوار نزل بحصن فضيّق على أهله حتى هَمّوا بإعطائه ثم قال بعضهم لا تعطوه حتى تستشيروا فلاناً على ما أردتم فعله وكان فلان عندهم رجلاً صالحاً متمسكاً بالخير والسداد فاستشاروه فقال لهم لا يحل لكم أن تملكوا رقابكم لمن يخالف لسان العلم ويسفك الدماء بغير حقها فبلغ ما قال لهم إلى الثائر فأرسل إليه يهدده وهو يقول له أما تعرف بطشي وصِغَرَ سِنّي فأرسل الشيخ إليه الجواب وهو يقول له أما تعرف كِبَرَ سنّي وقيامي له بالليل ودعاي له في الأسحار فلما أن وقف الثائر على الجواب لَحِقَه الرعب وأقلع من حينه ومما يزيد هذه الأوقات شرفاً وترفيعاً وترغيباً في المحافظة عليها قوله تعالى وَاصير نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْفَدَوْةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيا ۳ فمن رغب في هذه الأوقات وحافظ عليها أعينَ على ما أخذ بسبيله ثم زاده على ذلك بشارة وأي بشارة ترتاح لها نفوس العاملين العارفين وهي ما أخبر عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَانَنهُمْ تَقْوَنهُمْ ﴾ ٤
يا لها من بشارة ارتاحت لها نفوس الموفقين وسكن بها حزن الخائفين وتسابقت لها أقدام السابقين ! منحنا الله منها من فضله ما يليق بفضله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السادس
الوجه السادس
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرِّ قد يراد به أن ما طلب منكم وهو الإذعانُ
۱ رواه الطبراني والترمذي في النوادر والبيهقي في شعب الإيمان والسيوطي في جمع الجوامع من حديث أنس
رضي الله عنه
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة الكهف من الآية ۸
٤ سورة محمد من الآية ۱۷
۱۱۹
0
والاستسلام يُسْر يشهد لهذا قوله عليه السلام للصحابة حين أنزل عليه ﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله ۱ فشَقَّ ذلك عليهم فقال لهم لا تكونوا مثل بني إسرائيل ولكن قولوا آمَنَّا بالله وما أَنْزَل فَآمَنُوا وأَذعَنوا فأنزل الله إذ ذاك ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَتَبِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ٢ فجاءهم هذا الفرح العظيم لاستسلامهم وإذعانهم لأمر ربهم والإذعان والاستسلام يُسْرٌ لا شك فيه لأنه قد عمل بالقلب دون جارحة تتحرك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه معناه أن مَن لم يرض بالمقدور ولم يقع منه الإذعان والاستسلام لما فُرِض عليه ويرى أن ما كلّفه من باب المشقة فقد شادَّ دينه وإذا شادَّ دينه غلبه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل حين أُمروا بالقتال فأبوا وقالوا لنبيهم فَأَذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَهُنَا فَعِدُونَ ﴾ ٣ فشدد عليهم حين لم يَرْضَوْا ولم يذعنوا لما كُلِّفوا به فابتُلُوا لأجل ذلك بالتيه أربعين سنة حتى مات فيه كبارهم ونشأ فيه صغارهم
يزيد هذا إيضاحاً قوله تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَتبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ٤ فَمَن رُزِق الإذعان للمقدور والصبر عند نزوله عَظُمَ أجرُه ولُطف به وإن ضجر وتسخط كان مأثوماً والمقدورُ لم يتغيَّر فشادَّ دينه فغلبه الدِّينُ نعوذ بالله من ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا السَّداد هنا بمعنى صلاح الحال في توطين النفوس للتسليم والانقياد والمقاربة هنا أي إن لم تبلغوا هذا المقام فقاربوا إليه لأن ما قارب الشيء أُعطِي حكمه
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من فعل ما ذكرناه ووطَّنَ نفسه على ذلك واستسلم فليستبشر بما تضمنته بقية الاية الموردة إلى آخر السورة وهو قوله عزّ وجلّ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
۱ سورة البقرة من الاية ٢٨٤ سورة البقرة الآية ۸٥ و من ۸٦ ۳ سورة المائدة من الاية ٢٤
٤ سورة البقرة الايات ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧
۱۰
الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ١
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي أن من عَسُر عليه العمل بما ذكرناه من نفسه فليقف بالباب الجليل في هذه الأوقات المعينة ويلزم ذلك يُرزَق العونَ إذ ذاك على النفس ويظفر بالنُّجح ولأجل تضييع هذه الاستعانة غلبت بعض الناس نفوسهم فلم يحصل منهم ما أريد منهم من الإذعان والاستسلام لأجل أنهم وكلوا إلى أنفسهم لكونهم لم يستعينوا بما شُرع لهم الاستعانة به ومثل هذا قوله عليه السلام للصحابة حين أخبر بالفتن فقالوا له ما النجاة من ذلك فقال الجَأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات
وهذه الفتن قد كثرت وتكاثرت والقليل النادر من أخذ بالدواء الذي يعينه على النجاة منها لا جرم أنّ الهالك قد كثر والناجي قد قل لقلة الامتثال لما به أُمِر فبادر أيها المسكين للعمل واترك الكسل قبل وزود الحِمام وتراكمِ المِحَن ويقال لك الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ۳
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه السابع
الوجه السابع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسْرُ قد يراد به الأخذ بأقرب الوجوه التي اختلف فيها دون تعمّق في أَحَد الطرفين طرف التشديد وطرف الترخيص وترك الالتفات والمبادرة إلى الامتثال وإذا كان المراد هذا وهو المبادرة إلى الامتثال وترك الالتفات فهو يسر
لا شك فيه
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غلبه أي لا يشدّد أحد على نفسه إلا ويشدّد الله عليه لأجل تنطعه أو تسامحه في دينه وذلك مثل ما حكي عن بني إسرائيل في البقرة التي أُمِروا بذبحها لو أخذوا في امتثال ما به أمروا وذبحوا بعض البقر دون سؤال عن كيفيتها لأجزأت عنهم وكانوا بذلك ممتثلين للأمر ولكنهم ث فسألوا عن صفتها وكيفيتها
۱ سورة البقرة من الآية ٢٨٦
لم نعرف مصدره
۳ مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه
ج 1
فشدد عليهم فيها فطلبوها فلم يجدوها زماناً ثم وجدوها بقرة واحدة عند شخص واحد فطلبوها منه للشراء فأبى عليهم فما زالوا به إلى أن أنعم عليهم بالبيع فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً وفضة قيل مرة وقيل عشراً فشدَّدوا فشدّد عليهم
ولأجل هذا كان النبي الله يكره كثرة السؤال ۱ ويذمّ فاعله خيفة التشديد حتى كان
الصحابة رضي الله عنهم يتمنون أن يقدم على النبي ا غريب يسأله فيسمعون الجواب وهذا المعنى إنما كان الخوف منه في زمن النبي لا لا لا لا ل ل لأن الأحكام كانت إذ ذاك تتجدد في كل وقت وحين فلما انتقل إلى ربه طاهراً مطهراً زال ذلك
لكن بقي في بعض الناس ما يشبه ذلك وهو كثير فمن ذلك الوسواس الذي لبعضهم في شيء من تعبداتهم حتى يُخلوا بلسان العلم فيه فيبقى في تعبده على ضلال وهو يحسب أنه يُحسِن صُنْعاً وقد قال يُمن بنُ رزق - الإمام في الطريقتين - رحمه الله إن الشيطان يأتي لابن آدم فيرغبه في المعاصي هذا بعد عجزه عن أن يوقع له شبهة في عقيدته فإن قدر عليه فهو مقصوده وإن لم يقدر عليه رجع إليه من طريق الوسواس في تعبده حتى يجعله يُخلّ بشيء من لسان العلم فإذا نال ذلك منه قنع به ثم تركه وحَبَّب إليه العبادة ومَدَّ له في الصوت وربما تعرض له بعد ذلك مارِدٌ من الشياطين يريد أن يُغوِيَه فيقول له دَعْه فإنه بعملي يعمل فشاء دينه فغلبه الدين فانقلب بصفقة خاسرة نعوذ بالله من العمى والضلال
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سددوا أي سَدّدوا حالكم باتباع الفروض والسنن وقاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السداد فقاربوا إليه فإن لم تقدروا فجاهدوا النفوس في الحمل عليه فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال ۳
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن فعلتم ما أُمرتم به كما ذكرناه لكم فأبشروا عند تلك المجاهدة بتيسير سُبل الخير والهداية يشهد لهذا قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٤
روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله كره لكم ثلاثاً قيل
وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال
مروي بمعنى الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الأعرابي فيسأل رسول الله إلى آخر الحديث
۳ سورة يونس من الاية ٣٢ ٤ سورة العنكبوت من الاية ٦٩
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا هي الملازمة على قرع الباب في هذه الأوقات والمحافظة على ذلك عند نزول المحن لأن ذلك هو سبيل النجاة فيأتيكم العونُ من عالم الخَفِيّات يشهد لهذا قوله عليه السلام مَن فُتح له في الدعاء فقد فتحت له أبواب الخيرات۱ وقوله عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ من شَغَله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطِي السائلين
والفتن
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثامن
الوجه الثامن
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به قِصَرَ الأمل لأن قصر الأمل من الأسباب المعينة على الدين فيصير الدِّينُ بسببه يُسراً بيان ذلك أن الأمل إذا قصر قلَّ الحرص وسهل الزهد وخَفَّ العمل وقد جاء هذا نصا منه عليه السلام حيث قال إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسَك بالصَّباح ۳
وقد رُوي أن عيسى عليه السلام مرَّ في سياحته بشيخ كبير وهو يخدم في حائط ٤ له فتعجب عيسى عليه السلام من كبر سنّه وشدّة حرصه على التكسب فلما أن وقع منه التعجب في ذلك راه قد أزال المسحاة من يده وأقبل على العبادة متوجهاً يشتغل بأنواع الخير فبقي على ذلك برهة من الدهر ثم قام إلى الخدمة كما كان أوّلاً فتعجب عيسى عليه السلام من ذلك أكثر من تعجبه أولاً ثم أتى الشيخ فسأله ما الموجب في تركك الخدمة وما الموجب في عودك إليها فقال له الشيخ كانت خدمتي أوّلاً لِمَا طُبع عليه البشر من التكسب في هذه الدار لتحصيل ضروراتهم فخطرت لي فكرة في كبر سنّي وأن الموت قد دنا مني فقلت ما لي وللتعب ااتَّعَبُ لغيري فتركت الخدمة وأخذت فيما أنا سائر إليه ثم خطر لي أن قلت ولعل أن يَطُولَ عُمُري فأحتاج إلى الغير ففضلت التكسب على ما كنت أخذتُ بسبيله فعدتُ إلى حالتي الأولى
OFE
وهذه سنة الله تعالى مع أوليائه ما سَهَّل عليهم العمل وقطعوا مفاوز أعمالهم بالشغل بعبادته والإقبال عليه إلا أنه عزّ وجلّ قصّر آمالهم فتيسر عليهم من أجل ذلك ما تعشر على
1 رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وحسنه البغوي في المصابيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً رواه البخاري في التاريخ والبزار في المسند والبيهقي في الشعب من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأوله كن في الدنيا كأنك غريب
٤ حائط بستان حديقة
غيرهم وقد قال عليه السلام لأسامة حين باع أو اشترى نَسِيئة إلى شهرٍ فقال إن أسامة لطويلُ الأمل ١
الوجه الثاني منه قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحدٌ إلا غَلَبه معناه أن من أطال الأمل وقع له الكسلُ إذ ذاك فغلبه الدِّينُ لأجل طول أمله ومن آخر كلام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يا هذا لا تُدخِل هَمَّ غدِك على يومك فإن عشت فسيأتيك الله برزق جديد وإن متَّ فلا تَشْغَلْ وقتك بما لا تلحقه ومن هذا الباب ضاع كثير من العباد الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا سدّدوا أي وطنوا النفس على قضر الأمل لأن ذلك عين السداد وقاربوا أي إن لم تقدروا على الأعلى في هذا السداد فقاربوا إليه ولا تبعدوا عن الأعلى والأخذ بالكمال فتُسبقوا والمسبوق محروم
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا بصلاح دينكم ودنياكم إن قبلتم
ما به قد أشير عليكم وأرشدتم إليه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدلجة الكلام
على الاستعانة هنا كالكلام على الوجه قبله
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه التاسع
الوجه التاسع
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّين يُسر قد يريد به الرضا لأنه معنى من المعاني يبلغ به أعلى المقامات لأنه أعلى درجات السالكين يشهد لذلك قوله عليه السلام لابن عباس يا بني إن قدرت أن تعمل الله باليقين في الرضا فافعل وإلا فالصبر على ما تكره فيه خير
كثير ٢
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبه أي من لم يرض بالمقدور وتسخط شاد دينه فيغلبه الدين ولهذا قال بعض الفضلاء من أهل السلوك تحرّ
۱ رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في مسند الشاميين وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد ضعيف قاله العراقي في تخريج الإحياء جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أوله يا غلام إني محدثك كلمات احفظ الله يحفظك رواه الإمام أحمد والبيهقي في الشعب والترمذي في السنن والحاكم في المستدرك ورواية الشيخ ابن أبي جمرة بالمعنى
المقادير فإن رضيتَ جَرَت وأنت مأجور وإن سخطت جرت وأنت مأزور ۱ فغلبه الدين لأجل
ما ترتب عليه من الوزر عند عدم الرضا
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا سددوا أي خذوا بحقيقة الرضا و قاربوا أي إن لم تطيقوا ذلك فقاربوا إليه والمقاربة إليه هي الصبر كما تقدم من قوله عليه السلام لابن عباس فالصبر على ما تكره فيه خير كثير وفائدة الرضا لا تظهر إلا عند الشدائد وتراكم المحن وأما عند العافية والرخاء فلا لأن كل أحد يرضى بذلك
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا هي أن من أخذ بالوجه المذكور أو بالوجه بعده فَلْيستبشر بنجح سعيه وظفره بمراده كلّ على قدر رضاه أو صبره ثم يزاد له عند ذلك بشارة أخرى وأي بشارة زيادة على ما احتوى عليه لفظ الحديث وهي ما تضمنه قوله تعالى في كتابه * وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ فإذا كانت الزيادة بحسب الفضل فكيف يكون عظم البشارة
منحنا الله سبحانه منها من فضله ما يليق بفضله
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كما هي في الوجه قبله
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه العاشر
ميلة
الوجه العاشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به اليقين لأنه معنى من المعاني ويُكتسب به أعلى الدرجات والمقامات يشهد لهذا قوله عليه السلام في حق أبي بكر ما فضلكم بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ٣ والشيء الذي كان وقر في صدره هو قوة اليقين فنال أبو بكر رضي الله عنه أعلى المقامات وفَضَل غيره بذلك المعنى الذي وقر في صدره دون تعب في العمل بجارحة وهذا يُسر لا شك فيه
ولأجل هذا حض عليه السلام على تكسبه ليتيسر على أمته حيث قال تعلموا اليقين فإني
۱ مأزور من الوزر وهو الذنب وهي عكس مأجور
سورة النساء من الآية ۱۷۳
۳ قال السخاوي في المقاصد ٣٦٩ رقم ۹۷۰ قال العراقي لم أجده مرفوعاً وهو عند الحكيم الترمذي في نوادر
الأصول من قول بكر بن عبد الله المُزَّني
١٢٥
أتعلمه ۱ وهذا الذي حض عليه هو ما يُؤخذ بالكسب لأن اليقين على ضربين فيضي وكَسْبي فأشار عليه السلام هنا إلى ما للعبد حيلة في تكسبه وكيفية التسبب إلى تعلمه هي التفكر فيما أظهر عزّ وجلّ في عالم الحس من أحكامه وإرادته الجارية مرة على نوع وأخرى على ضده والصورة واحدة وما يظهر للعبد من ترجيح شيء ثم يرجح غيره عليه في وقته
ولأجل النظر إلى هذه الدقائق التي أشرنا إليها قوي إيمان الأولياء والصالحين بزيادة اليقين
حتى قيل لبعضهم بم عرفت الله تعالى فقال بنقضه لعزائمي وكذلك أيضاً يتسبب في قوة اليقين بالنظر في ملكوت السَّماوات والأرض الذي جعله عزّ وجلّ للخليل عليه السلام سبباً لقوة اليقين كما تقدم في الحديث قيل ولهذا قال عليه السلام تَفَكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدَّهر لأنه بالتفكر في مثل ما ذكرنا يحصل به من اليقين في ساعة واحدة ما لا يحصل في عبادة الدهر فيتيسر عليه الدِّين وإن كان صعباً وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بهذه الصفة في كتابه حيث قال إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأَخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَنا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَأَنقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوهُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۳
فانظر لما أن قوي يقينهم بثقتهم بربهم زال عنهم رعب ما أخبروا به وانقلبوا بعد ذلك بالفضل العميم والنعمة الشاملة في الدنيا والآخرة فربحوا الدارين بتلك اللحظة التي فَوَّضوا الأمر فيها إلى ربهم واستندوا إليه بقوة يقينهم
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَ الدِّينَ أحدٌ إِلا غَلَبه أي من ضَعُف يقينه ولم يأخذ بالسبب الذي يقويه له كما أشرنا إليه فقد شادَّ دينه ومن شادَّ دينه غلبه الدِّين والغلبة هنا هي ما يكون من تسويلات النفس وتسويلات الشيطان وتخويفاته وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ٤
مداری
﴾
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسدّدوا وقاربوا أي خذوا بالأعلى من اليقين واعملوا عليه وقاربوا أي إن لم تقدروا على الكمال فلا تبخسوا أنفسكم منه فيتعسّر عليكم الدين ومن تعسر عليه دينه باءَ بالخسران والضلال نعوذ بالله من ذلك
۱ تقدم تخريجه في الوجه الأول من هذا الحديث سبق تخريجه في الحديث الأول
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۷۳ والآية ١٧٤
٤ سورة النساء من الاية ۱۰
١٢٦
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا باليقين الفيضي الآتي من الفضل العميم إن أنتم امتثلتم الأمر بما أشير به عليكم فكسبتم من اليقين ما آلَ بكم إلى تكسبه
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدلجة الاستعانة هنا كالوجه قبله يستعان بالعمل في هذه الأوقات المذكورة ويُلجأ إلى الله فيها لعله بفضله يجود وبفضله أن يلهمنا النظر بالاعتبار في الأشياء التي يتقوّى بها اليقين ويؤيدنا بالتوفيق من عنده ويزيدنا على ذلك
الضرب الآخر هو الذي لا يؤخذ بالكسب وإنما يؤخذ بالفيض فمن تعشر عليه شيء من هذا أو حرم منه البتة أو هو يريد الزيادة على ما حصل له فليقف بالباب في هذه الأوقات ينجح له سعيه ويظفَرُ بمُراده لأن المخبر صادق ومن أحيل عليه كريم وهو لا يخلف الميعاد
6
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الحادي عشر
الوجه الحادي عشر
الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرُ قد يريد به ترك ما للنفس من الحظوظ واستسلامها بين يدي مولاها لأن طلبها حظوظها وترك استسلامها هو الحجابُ الأعظم ولأنها ما أشرفت قط على شيء إلا أفسدته إلا من عصمه الله من شرها فقمعها بالاستسلام والانقياد وتَرْكُها
يسير على من يسره الله عليه وقد سئل بعض الفضلاء من السالكين عن كيفية الوصول فقال اترك نفسك وقد وصلت
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَه أي أن من عمل على حظوظ نفسه فبلغها آمالها وترك استسلامها فقد شاد دينه وإذا شاد دينه غَلَبه الدِّين لأنه يُحْرَم بحجاب نفسه ما أُعِدَّ له من الخيرات عند الاستسلام من الألطاف والعون وغير ذلك
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فسدّدوا أي اعملوا على تَرْكِ ما للنفس من الحظوظ مرة واحدة وأزيلوها عن ذلك وسلّموها إلى خالقها تَسْعَدوا وقاربوا أي إن لم تقدروا على ذلك وغلبتكم نفوسكم فخذوا في الرياضة والمجاهدات حتى يأتي لكم منها ما قد
أشير به عليكم الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي أبشروا إن أنتم فعلتم ما ذكر لكم بأن الله خيْرٌ لكم من أنفسكم وأرحم بكم منكم وأنه يبلغكم آمالكم كيف لا وقد قال تعالى في كتابه
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۱ وقال تعالى ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانِ وَجَنَّتٍ هُم فيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وقال تعالى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۳
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحَةِ وشيء من الدلجة أي استعينوا بهذه الأوقات وحافظوا عليها تعانوا على ما أريد منكم وتفوزوا برضا ربكم عنكم فهل من مشمّر يغتنم حصول زمن الإعانة قبل أن يفوته ثم لا يجد لنفسه على ما فرط فيه
إقالة
ثم نرجع إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثاني عشر
الوجه الثاني عشر
الوجه الأول منه قوله عليه السلام إنّ الدِّينَ يُسْرٌ قد يريد به إذا كان الدين الله خالصاً ويكون به وله فيعمل على التعظيم لحق مولاه فإذا فعل هذا تيسر عليه الدين لأنه يجد إذ ذاك حلاوة الطاعة وتخفّ عليه بَلْ يتغذى بها فيرجع ملكي 4 الباطن بَشَريَّ الظاهر ولهذا قال
بعض الفضلاء من أهل السلوك مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قيل وما نعيمها قال حلاوة الطاعة وقد ندب عزّ وجلّ لذلك في كتابه وحصّ عليه حيث قال ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ٥ ثم جعله عزّ وجلّ متلوا في كل ركعة مبالغةً في الحض على ذلك حتى يكون حالاً فإذا كان الله معينه وهادِيَه حُمِل باللطف والعناية وتُوّج
بالبر والكرامة
الوجه الثاني قوله عليه السلام ولن يُشادَّ الدِّينَ أحد إلا غلبه أي من اعتمد في دينه على نفسه ولم يتعلق بالله فيه فقد شاد دينه وإذا شادّ دِينَه غلبه الدِّين بما يظهر له من عيوب نفسه و عجزه عن الخروج عنها ثم يلحقه إذ ذاك أحد وجهين وكل واحد منهما إذا وجد في الشخص علم أنه هالك به إلا أن يتداركه الله باللطف والإقالة
1 سورة الأحزاب من الآية ٤٣ سورة التوبة من الايتين ۱ و سورة النازعات من الآيتين ٤٠ و ٤١
٤ مَلكي نسبة إلى الملك ٥ سورة الفاتحة الآية ٥
أحدهما القنوط من عدم بلوغ ما يؤمل فإذا اتصف بهذه الصفة خيف عليه إذ ذاك لقوله
عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ يقول لو كنتُ معجّلاً عقوبة لعجلتها على القانطين من
رحمتي 1
على
ثانيهما رضاه بما هو عليه من الحال ودوامه عليه فإذا اتصف بهذه الصفة أيضاً خيف عليه لقوله تعالى في كتابه ﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ قال المفسرون معناه أنهم يصبرون الأفعال التي يعلمون أنها توجب لهم النار فكأن الصبر في الحقيقة على النار وهذا مثل قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۳ ونحن نشاهدهم يأكلون طعاماً طيب المذاق ولكن لما أن كان ذلك الأكل يؤول بهم إلى النار جعله عزّ وجلّ كأنه النار
الوجه الثالث قوله عليه السلام فسددوا وقارِبوا سدّدوا أي سددوا ما بينكم وبين أنفسكم وتعلَّقوا بربكم في كل لحظاتكم واستعينوا به في كل أموركم و قاربوا أي إن لم تقدروا على هذا السَّداد فقارِبوا إليه وخذوا أنفسكم بالرياضة في الوصول إليه ولا تَغْتَرُّوا بطول المهلة لئلا يقال لكم ﴿ أَوَلَوْ نُعَمِّرَكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ٤
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا أي إن تعلقتم به واستسلمتم إليه فأبشروا أنكم تجدونه حيث تؤملون كيف لا وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنا عند ظن عبدي بي٥
الوجه الخامس قوله عليه السلام واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلجة أي استعينوا بهذه الأوقات واغتنموا العمل والوقوف فيها بباب مولاكم تعانوا على ما أريد منكم ويسهل عليكم ما عَسُر فالحاصل من هذا الوجه لمن امتثله زيادة بشرى على البشرى المتقدمة لأن الإعانة تقتضي البشرى وقد تقدمها بشرى أخرى والبشارات هنا متعددة والمخبر صادق
والمقصود غني كريم يقبل من المُحْسِن ويتجاوز عن المسيء فهل من مشمّر صادق ومثل هذه البشارة ما تضمنه قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ
1 لم نعرف مصدره سورة البقرة من الآية ١٧٥
۳ سورة النساء من الآية ۱۰ و ناراً مجاز مُرْسَل علاقته المستقبلية
٤ سورة فاطر من الاية ۳۷
٥ حديث قدسي متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
88
۱۹
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكولم ﴾ ۱ وذلك أن الله عزّ وجلّ لما أن قال للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ فغضب عزّ وجلّ عليهم ففزعوا فطافوا بالعرش أسبوعاً فغفر عزّ وجلّ لهم وأقالهم ثم قال لهم ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به المذنبون من بني آدم أسبوعاً كما طفتم أنتم بالعرش فأغفر لهم وأرحَمَهم كما فعلتُ بكم ففعلوا
فلما جاء الطُّوفان رُفع وبقي أساسه ثم أمر عزّ وجلّ خليله إبراهيم عليه السلام ببنيانه وأمره أن ينادي إليه وقال له عليك بالنداء وعلينا البلاغ فامتثل ما قيل له فأوقع الله صوته لكل من كان سبق في علم الله أنه يحج إليه من ولد آدم في الأرحام والأصلاب فلما أن تعرض صاحب الفيل إلى هدم هذا البيت الذي جعله عزّ وجلّ سبباً لرحمة بني آدم وللمغفرة لهم وأراد أن يحج الناس إلى بيت بناه صاحب الحبشة وكان جيشه لا يطاق فعل الله به ما قد نص في السورة ومتضمن الإخبار بذلك وفائدته أن تعلم عِظم رحمة الله عزّ وجلّ ولطفه بخلقه لأنه عزّ وجل يقول بمتضمن ذلك الإخبار يا أيها المؤمن المذنب انظر إلى أثر قدرتي كيف أهلكتُ من أراد أن يقطع عنك رحمتي مع تمردك عَلَيَّ وأخذك لنعمي لتستعين بها على المعاصي هذا ما أنا لك وأنت على هذا الحال فكيف أكون لك إذا أقبلت عليَّ وامتثلت أمري واتَّبعتَ كتابي وسنة نبيّي أيقدر أحد على ضرّك أو يصل إليك بسوء كيف تكون لو تركتك لنفسك أو تركتُ نصرتك إلى غيري أو أحوجتك إلى غيري أقبل عليّ تجدني بك رحيماً وعليك منعِماً ولك وليا وناصراً أولم تسمع خطابي لك ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ۳ فاستنصر بي أنصرْك وتضرع إلي أرحمك إني أرحم بك منك وأقوى على نصرتك منك
فمن تأمل هذه البشارة ففهمها وعمل عليها وجدها صدقاً حقاً ولقد رأيت بعض الفقراء وكانت سنه فوق المائة سنة يقول منذ رأيت شيخي لم أطلب حاجة من أحد فيقال له في ذلك فيقول إنه أوصاني وقال لي في وصيته اجعل حاجتك في كفكَ فكنتُ كلّما أردت حاجة بسَطتُ يدي إلى الدعاء فدعوتُ الله في قضائها فإن كانت خيرا قضاها لي وإن كانت شرًا أبعدها عني
ثم نرجع الآن إلى البحث المتقدم والكلام على الوجه الثالث عشر
۱ سورة الفيل الآيات ١ - ٥ سورة البقرة من الاية ۳۰
۳ سورة الروم من الآية ٤٧
3
0
۱۳۰
الوجه الثالث عشر
الأول منه قوله عليه السلام إن الدِّينَ يُسرِّ قد يريد به جميع الوجوه المتقدم ذكرها وما يتشعب منها أو أكثر منها لولا التطويل لذكرنا منها جُمَلاً كلها بأدلتها لكن من نظر وتأمل ما أشرنا إليه على تنويع احتمالاته سهل عليه النظر فيما عداه وبانت له طرق الرشاد وتبين له اليسر على مقتضى احتمالاته ومشادة كل وجه بما يضاده وبشارته بحسبه والاستعانة فيه بحسب مناطه والزيادة في الكل بحسب الفضل العميم
جعلنا الله ممّن هداه لذلك بمنه وأسعده بما إليه هداه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
اليه
حالة
۱۳۱
خاردار
مان
ا چلہ
لولنا 1
حديث وفد عبد القيس
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن وفد عبد القيس لما أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال مَنِ القوم أو من الوفد قالوا ربيعة قال مرحباً بالقوم أو بالوفد غيرَ خَزايا ولا نَدامَى فقالوا يا رسول الله إنَّنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحيّ ال من كفار مُضَر فمُرْنا بأمرٍ فَضْلٍ نُخبِرْ به مَن وَراءنا ونَدخُل به الجنةَ وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده قال أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تُعطوا من المَغْنَمِ الخُمس ۱ ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدُّبَاءِ والنقير والمزفّت وربما قال المُقيَّر وقال احفظوهن وأخبروا بهنّ مَن وَراءَكم
*
ظاهر الحديث يدل على وجوب الأربعة المأمور بها فيه وترك الأربعة المنهي عنها فيه والحض على ذلك بالحفظ والتبليغ والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله مَن القَوْمُ أو مَنِ الوفد هذا شك من الراوي في أيهما قال عليه السلام هل القوم أو الوفد وفي هذا دليل على صدقهم وتحرزهم في النقل لأنه لما أن وقع له الشك أبدى ما كان عنده
الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة سؤال المقصود للقاصد عن نفسه حتى يعرفه لأنه
عليه السلام سأل عن هذه القبيلة حين قدمت عليه حتى عرفها
۱ لعلها إشارة منه إلى نصرهم على كفار مضر وأخذ الغنائم منهم
الوجه الثالث في هذا من الفقه أن يُنزَلَ كل إنسان منزلته لأن سؤاله عليه السلام إنما كان
لأجل هذا المعنى ولأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال أنزلوا الناس منازلهم ۱ فما نص عليه في هذا الحديث فعله فيما نحن بسبيله فإذا لم يعرف الإنسان القادم عليه لم يتأنَّ له أن يُنزِلَه منزِلَتَه ولهذا كان الخلفاء رضوان الله عليهم إذا جلس أحد بإزائهم وهم في المسجد سألوه ما معك من القرآن ولا ذاك إلا لأن يُنزِلوه منزِلَتَه لأن الفضل كان عندهم بحسب ما يكون عنده من القرآن
الوجه الرابع قوله قالوا ربيعة فيه دليل على ما خَصَّ الله عزّ وجلّ به العرب من الفصاحة والبلاغة لأنه لما أن سأل عليه الصلاة والسلام من هم لم يذكروا له أسماء أنفسهم ولا انتسبوا إلى آبائهم وأجدادهم لأن ذلك يطول الكلام فيه وقلّ أن تتأتى المعرفة بهم عن آخرهم لذلك أضربوا عن ذلك وسمّوا القبيلة التي يحصل بها المقصود دون إطالة كلام إبلاغاً في البيان وإيجازاً في الاختصار
الوجه الخامس فيه دليل على جواز الإخبار بالكل عن البعض لأن من قدم في هذا الوفد لم يكن قبيلة ربيعة كلها وإنما كان بعضها فسموا البعض بالكل وهذا مستعمل في ألسنة العرب كثيراً ما يسمون البعض بالكل والكل بالبعض وهذا من فصيح الكلام
الوجه السادس قوله صلى الله عليه وسلم مرحباً بالقوم أو بالوفد مرحباً أي صادفتم رَحباً وسَعَة وفيه دليل على التأنيس للوارد وذلك بشرط أن يكون ما يأنسون به مطابقاً لحال المتكلم لئلا يدرك الوراد طمع في المورود عليه فيما لا يقدر عليه لأن الرَّحبَ والسَّعة التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام للقادمين عليه كانت عنده حقيقة حِسّاً ومعنى
الوجه السابع فيه دليل على أن من حسن المخاطبة تسمية الوارد حين الكلام معه لأنه عليه السلام قد سمّى هذه القبيلة التي وردت عليه حين خاطبهم حيث قال مرحباً بالقوم أو بالوفد على شكٍّ الراوي في أيهما قال عليه الصلاة والسلام ولأن تسمية القادم زيادة في التأنيس وإدخال سرور عليه وفي إدخال السرور عليه من الثواب ما قد علم ولأنه قد يظن القادم أن الكلام مع غيره لأجل قلة أُنْسِه بالمَحَلّ
الوجه الثامن قوله عليه السلام غير خزايا أي أنتم مسعوفون ۳ في كل مطلوباتكم لأن مَن لم يَخْزَ فقد أجيب وأسْعِف لأن نفي الشيء يوجب ضده
1 أورده مسلم في مقدمة صحيحه عن عائشة رضي الله عنها معلقاً كذا والصواب مُسْعَفون وفي نسخة الأحمدية مسعودون
۱۳۳
الوجه التاسع قوله عليه السلام ولا ندامى هذا إخبار لهم بالمسرة في الآجل لأن
الندامة في الغالب لا تكون إلا في العاقبة لأن حُبَّ الإنسان في الشيء أولاً قد يَخْفى عليه لأجل حبه فيه فائدة ما ترك من أجله فقد يتبين له بعد حصول المراد فائدة ما ترك فيندم عليه أو يسرّ فأخبرهم عليه السلام أولاً بالخير عاجلاً وآجلاً فلا يزال الخير لهم والفرح متصلاً وكذلك هو أبداً كل من قصد جهة من جهات الحق سبحانه حصل له الفرح والفَرَجُ عاجلاً وآجلاً لأن النبي قال مَن ترك شيئاً لله عَوَّضه الله خيراً منه من حيث لا يحتسب ۱ فكل من ترك جهة الله فهو قاصد الأخرى بدلاً منها فالوعد الجميل خير وإنما يكون الندم والحزن والخسران في غير هذه
الجهة المباركة
الوجه العاشر في هذا دليلٌ لأهل الصُّوفة في عملهم على ترك ما سواه وإقبالهم به عليه إذ إن ذلك يُنالُ به حسن الحال في الحال والمآل
الوجه الحادي عشر قولهم يا رسول الله فيه دليل على أنّ هذا الوفد كانوا مؤمنين حين قدومهم لأنه لو كانوا غير مؤمنين حين قدومهم لم يكونوا ليذكروا هذا الاسم وَلَذَكروا غيرَه
من الأسماء
الوجه الثاني عشر فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل العلم والفضل والصلاح والخير وأن يُنادوا بأحب أسمائهم إليهم لأنهم نادوا النبي لا لا لا له بأحب أسمائه إليه وأعلاها وذلك من التأدب منهم معه والاحترام له
الوجه الثالث عشر قولهم إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام هذا الشهر هو رجب الفرد شهر الله الأصم ٢ فيه دليل على تعظيم هذا الشهر وفضله إذ إن الله عزّ وجلّ جعل له حرمة منذ كان في الجاهلية وفي الإسلام
الوجه الرابع عشر فيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ لأن الجاهلية قد عظَّمت هذا الشهر ولم تَدْرِ لماذا عظمته إلا أن ذلك وقع في نفوسها فعظَّمته والمؤمنون عظموه لأجل إعلامهم بحرمته فأبدى القادر ما شاء كيف شاء مرةً بواسطة ومرَّة بغير واسطة
الوجه الخامس عشر فيه دليل على لطف الله تعالى بجميع خلقه ورأفته بهم كانوا مؤمنين أو
1 لم نعرف مصدره سُمِّي بالأصم لأن العرب فيه كانوا لا يتصايحون لحرب
1 lice
١٣٤
کافرین
لأن إلهام الجاهلية لتعظيم هذا الشهر حتى يرفعوا فيه القتال ويسلكوا فيه السبيل حيث شاؤوا لا يعترض أحد أحداً لطف ۱ منه عزّ وجلّ ورحمة بهم في هذه الدار
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن كل من جعل الله فيه سِرًّا من الخير وألهم أحداً إلى تعظيمه وحرمته عادت عليه بركته وإن كان لا يعرف حقه لأن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا الشهر وجعل له حرمة يوم خلق السماوات والأرض فلما ألهم هؤلاء تعظيمه مع كونهم جاهلين بحرمته عادت عليهم البركات التي أشرنا إليها الوجه السابع عشر قولهم بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر أي أن هؤلاء الكفار يقطعون بينهم وبين النبي الله فلا يستطيعون المجيء إليه بسببهم إلا في الشهر الفرد الذي يرتفع فيه القتال وفيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجباً كان أو مندوباً لأنهم ذكروا العذر الذي يمتنعون بسببه من المجيء إليه وبيَّنوه
الوجه الثامن عشر في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم سموا مضر كفاراً فلو كانوا غير مؤمنين لما سمّوهم كفاراً
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن التوفيق تخصيص بالقدرة ولا يؤثر فيه قرب النسب ولا قرب المكان ولا قرب الزمان لأن قبيلة مضر أقربُ فمُنِعوا وقبيلة ربيعة أبعد فأسعِدوا ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله لو كان الظفر بالهياكل والصور ما ظفر بالسعادة بلال الحبشي وحُرِم أبو لَهَبٍ القرشي
منهم
لديهم
الوجه العشرون قولهم فمُرْنا بأمرٍ فَضل أي قطع لا نَسْخَ بعده ولا تأويل وذلك حذراً لئلا يحتاجوا في أثناء السَّنة للسؤال أيضاً والتعليم فلا يجدوا سبيلاً إليه لأجل العذر الذي كان وفيه دليل على طلب الإيجاز في التعليم مع حصول الفائدة فيه وهو من الفقه والتيسير الوجه الحادي والعشرون قولهم نُخبِرْ به من وراءنا فيه دليل على جواز النيابة في العلم الوجه الثاني والعشرون قولهم ونَدخُلْ به الجنة فيه دليل على أنه يُبدأ أولاً في السؤال عن أمر بما هو الآكد والأهم لأنهم سألوا أولاً عن الأمر الذي يدخلون به الجنة وهو الأهم ثم بعد
ذلك سألوا عن غيره
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الأعمال هي الموجبة لدخول الجنة ولا يظن ظان
1 لطف خبر لـ أن مرفوع بالضمة إن سيدنا محمد الله من مضر
4
١٣٥
أن هذا معارض لقوله عليه السلام لن يدخل أحد بعمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله
قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته ۱
﴿
والجمع بينهما أن يقال الحديث الذي نحن بسبيله خطاب للعوام لأنه مقتضى الحكمة وعادة الله تعالى أبداً أنما يخاطبهم بما تقتضيه الحكمة والقرآن بذلك ملان فمن ذلك قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۳ إلى غير ذلك من قوله تعالى بِمَا عَمِلْتُمْ ٤ و بِمَا كُنتُر تَكْسِبُونَ ٥ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ٦ بِمَا أَسْلَفْتُمْ ٧ بِمَا تَفْعَلُونَ ۸ إلى غير ذلك وهو كثير والخطاب في الحديث الآخر لأهل الخصوص وهم المنهمكون في التوحيد والمحققون بالقدرة فلو قيل لمن يتحقق بالقدرة هذا الحديث لأدى بهم الأمر إلى ترك مقتضى الحكمة وترك العمل بمقتضى الحكمة كفر بإجماع وإن اعتمد على القدرة والعمل بمقتضى الحكمة وإن إجلال القدرة إيمان محض ويدخل بذلك في ضمن قوله تعالى لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۹ والنهاية هي الجمع بين مقتضى الحكمة بتصحيح العمل وإجلال القدرة بتفويض الأمر لها ولهذا قال بعض الفضلاء اعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتَوَكَّلْ تَوَكُل من لا يرى خلاصاً إلا بالتوكل ولأجل العمل على هذه الصفة أثنى عزّ وجلّ في كتابه على يعقوب عليه السلام حيث قال ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ ١٠ لأنه جمع بين الحقيقة والشريعة وسأذكر ذلك وأبينه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى
4,
الوجه الرابع والعشرون قوله وسألوه عن الأشربة الأشربة في اللغة تطلق على كل شراب عدا المحرَّم لأن المحرَّم عندهم يسمى بالخمر والأشربة المعهودة عندهم هي ما كان من نقيع التمر ونقيع الزبيب وغير ذلك مما فيه مصلحة لهم وفي سؤالهم عن الأشربة دليل على أنه
۱ رواه البخاري في كتاب الرقاق ومسلم في صفة القيامة والجنة وابن ماجه في الزهد بألفاظ مختلفة جاء في النسخ الأخرى بدلاً من هذا التعليل ما يلي إن الأعمال هي سبب لدخول الجنة ثم إن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله فصح أنه لم يدخل الجنة بمجرد العمل وصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة فدخول الجنة برحمة الله تعالى والدرجات بحسب الأعمال
۳ سورة النحل من الآية ۳
٤ سورة التغابن من الآية ٥ سورة الأعراف من الآية ۳۹ ٦ سورة البقرة من الاية ١٤١ ۷ سورة الحاقة من الآية ٢٤ ۸ سورة النمل من الآية ۸۸
۹ سورة يونس من الاية ٢ ۱۰ سورة يوسف من الآية ٦٨
١٣٦
نهي لأنه لو لم يبلغهم في ذلك شيء لما سألوه عنها وفيه زيادة دليل
بلغهم في بعضها تحريم لما قدمناه من أنهم كانوا مؤمنين قبل قدومهم
الوجه الخامس والعشرون قوله فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع فيه دليل على أن الجواب
لا يكون إلا بعد تمام الخطاب لأنه عليه السلام لم يجاوبهم حتى أتموا جميع سؤالهم الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن الفصيح من الكلام الإجمال أولاً ثم التفسير للإجمال بعده لأنه عليه السلام أجمَلَ لهم أولاً ثم بعد ذلك فَسَّر ما أجمل والحكمة في ذلك أنه عند الإخبار بالإجمال يحصل للنفس المعرفة بغاية المذكور ثم تبقى متشوقة إلى معرفة معناه فيكون ذلك أوقع في النفس وأعظم في الفائدة الوجه السابع والعشرون أمرهم بالإيمان بالله وحده فيه دليل على أنه يبدأ من الجواب بما هو الأهم والآكد لأنه عليه السلام بدأ أولاً بالأصل الذي هو الإيمان ثم بعد ذلك أجاب
عن الغير
الوجه الثامن والعشرون فيه دليل لقول من يقول بأن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة لأنه عليه السلام لم ينص على الأعمال حتى أثبت الإيمان
الوجه التاسع والعشرون قوله أتدرون ما الإيمان بالله وحده فيه دليل على استفهام المعلم للمتعلم عما يريد إلقاءه إليه لأنه عليه السلام استفهم عن حقيقة فهمهم في الإيمان ثم بعد
ذلك بيَّنه لهم
الوجه الثلاثون قوله قالوا الله ورسوله أعلَمُ فيه دليل على التأدب والاحترام مع أهل الفضل والدين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي الله فردوا الأمر إليه فيه فيما استفهم عنه تأدباً واحتراماً منهم له والحكمة في ردهم الأمر إليه من وجوه الأول التأدب كما تقدم الثاني أن سمعهم منه تحقيق وتثبيت لما كان عندهم الثالث خيفة التوقع لئلا يكون زاد في الأمر شيء أو نقص لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء بالزيادة والنقص وهذا الوجه قد انقطع بانتقال الشارع عليه السلام والوجهان الأولان باقيان لأن علتهما موجودة
الوجه الواحد والثلاثون في هذا دليل لما قدمناه من أن هذا الوفد كانوا مؤمنين لأنهم التزموا الأدب بين يدي النبي واحترموه غاية الاحترام وذلك مثل ما التزم الصحابة رضي الله عنهم من التأدب والاحترام حين قال له م ه م ا أي بلد هذا أي شهر هذا أي يوم هذا فقالوا الله ورسوله أعلم ۱ وقد أقروا في هذا اللفظ الله بالوحدانية وله بالرسالة
1 رواه البخاري في الحج ومسلم في القسامة
۱۳۷
الوجه الثاني والثلاثون قوله قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيه دليل لمن يقول بأن أول الواجبات الإيمان دون نظر ولا استدلال لأنه عليه السلام لما أن ذكر لهم الإيمان لم يذكر لهم بعده نظراً ولا استدلالاً
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على جواز الجواب بأكثر مما سئل عنه بل يلزم ذلك إذا كان هو الأصل الذي عليه يتقرر الجواب وبعد صحته يتقرر السؤال لأنهم إنما سألوه عن الأفعال التي توجب لهم الجنة فأجابهم عليه السلام عن الأفعال والاعتقاد وهذا مثل قوله حين سئل عن ماء البحر فقال هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مِيتَتُه ۱ فأجاب بأكثر مما سئل عنه لأن
الحاجة دعت إليه
الوجه الرابع والثلاثون قوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المَغْنَمِ الخَمُسَ فيه دليل على أن الفروع لا تترتب على الأصول إلا بعد تحققها لأنه لم يذكر لهم فروع الإيمان حتى تحقق منهم به وإن كان ما تقدم له من قرائن الحال يقتضي أنهم مؤمنون كما ذكرنا لكن لم يقنع بذلك حتى كان بالمشافهة والتعليم
الوجه الخامس والثلاثون قد اختلف العلماء في ترك النبي ذكر الحج هنا فمن قائل يقول إنما سكت عن الحج لعلم الناس به من كثرة شهرته وهذا ليس بالجيد لأنه يلزم على ذلك ألا يذكر الصلاة من باب أولى لأن الصلاة تتكرر في اليوم خمس مرات وذلك أعظم ما يكون من الشهرة والحج إنما هو مرة في السنة فقد لا يعرف ولا يعهد ولا سيما في أول الإسلام ومن قائل يقول إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض بعد وهذا لا بأس به لكن بقي عليه شيء وهو أن هذا الوفد قد اختلف في قدومه فقيل كان قدومه سنة خمس وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع فعلى القول بأن قدومه سنة خمس أو سبع فهذا التوجيه صحيح لأن الحج لم يكن فُرِضَ بَعْدُ وعلى القول بأن قدومه كان سنة تسع فيبطل التوجيه بذلك مرة واحدة
ويظهر لي في هذا أنه إن كان القدوم سنة خمس أو سبع فالتوجيه ما قاله هذا القائل من أن الحج لم يكن فرض بعد وإن كان قدومه سنة تسع فالتوجيه الذي لاخفاء فيه هو أنه إنما سكت عن لأن الله عزّ وجلّ لم يفرضه إلا مع الاستطاعة وهؤلاء ليس لهم استطاعة لأن العدو قد بينهم وبين البيت وهم كفار مضر فكيف يذكر لهم الحج وهم قد نصوا له أولاً على العلة التي هي موجبة لسقوطه عنهم فيكون تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع في هذه الشريعة السمحة
الحج
حال
۱ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۱۳۸
ثم انظر إلى ما يؤيد هذا ويوضحه وهو أنه لما أن ذكروا له أنهم في المضاربة مع أعدائهم والمضاربة إذا كانت فللغالب الغنيمة فأضرب لهم عمّا لا يجب عليهم وهو الحج لأجل العذر الذي ذكروا له ونص لهم على الخُمس الذي لم ينص لغيرهم عليه لأجل علمه بأنهم محتاجون إلى ذلك لأجل أن الغنيمة في ضمن القتال كما تقدم ۱
الوجه السادس والثلاثون في هذا دليل على أن يخبر كل إنسان بما هو واجب عليه في وقته ولا يلزم غير ذلك لأنه عليه السلام ذكر لهم ما هو الواجب عليهم في وقتهم وترك ما عداه وإن كان يلزمهم بعد ذلك ولأجل هذا قال بعض العلماء في معنى قوله طلب العلم فريضة على كل مسلم قالوا المراد به ما هو واجب عليه في وقته ۳
الوجه السابع والثلاثون لقائل أن يقول قد قال أولاً فأمرهم بأربع ثم أتى في التفسير بخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وإعطاء الخُمُس والجواب أنهم سألوا عن الأعمال الموجبة لدخول الجنة فأمرهم
عليه السلام أولاً بالأصل الذي تترتب عليه الأعمال وهو الإيمان ثم أجابهم بعد ذلك بالأربع فإن قال قائل نعد الإيمان من الأربع ونجعل الآخر زائداً على الأربع قيل له ليس الأمر كذلك لأنه قد علم أنهم مؤمنون بالأدلة التي تقدمت في الحديث على ما بَيَّنَّاه لكن احتاج إلى ذكر الإيمان هنا للمعنى الذي قدمناه وهو ألا يكون فرع إلا عن أصل متحقق فذكره ليقعد هذه القاعدة الشرعية وفيه أيضاً معنى ثانٍ وهو أنه لو كان الزائد الخامس لأبداء الراوي فقال وزادهم على ذلك لأنه قد تحرى فيما هو أقل من هذا في أول الحديث حيث قال مَنِ الوفد أو مَنِ القوم فكيف به في هذا وعادة الصحابة أبداً التحري الكلي والضبط الكلي في نقلهم فلما كان الأمر ظاهراً كما ذكرنا لم يحتج إلى بيان ولا إلى عذر
1 جاء في حاشية نسخة باريس نقلاً من ابن حجر ما يلي قول من قال إن ترك ذكره - يعني الحج - لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي يجب عليهم فعلا وتركاً ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع
أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها
رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه انظر النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ۳ كأن هذا الحديث يشير إلى وجوب إتقان العلوم المستجدة في كل عصر لتبقى الأمة الإسلامية رائدة وسابقة لغيرها ولئلا تكون عالة في هذه المخترعات والاكتشافات الجديدة على غيرها فيسهل استنزاف خيراتها
وثرواتها وخيرة أبنائها
۱۳۹
الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على أن تارك هذه الأفعال المذكورة لا يدخل الجنة وإن
كان مقراً بها لأنهم سألوا عن الأعمال التي بها يدخلون الجنة فنص لهم عليه السلام على هذه الأعمال بعدما قرر لهم الإيمان كما تقدم فالحاصل من هذا أنهم إن لم يعملوا ما نص لهم لم يدخلوا الجنة وإذا لم يدخلوا الجنة دخلوا النار لأنه ليس هناك إلا الداران وبهذا يحتج من يقول بأن التارك لها مع إقراره بها يقتل كفراً وهو القليل والجماعة على أنه يقتل حدا لا كفراً وهو في المشيئة إن شاء عزّ وجلّ عذَّبه وإن شاء غَفَر له وإذا عذبه فالتخليد ليس هناك لاعتقاده الإيمان
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على أنه يُبدأ أولاً بالفرائض ويبدأ من الفرائض بالأوكد فالأوكد لأن الفرائض كثيرة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك ولكنه
قد فضل هذه على غيرها وما فضل على الغير فالمحافظة عليه اكد مع أن المحافظة على الكل واجبة الوجه الأربعون فيه دليل على فضل العلم على غيره من الأعمال لأنه لا يُعلم هذا وأمثاله إلا بالعلم وعدم العلم به سبب لوقوع الخلل فيه وإذا وقع الخلل فيه أو ترك وقع الحرمان من دخول الجنة والهلاك نعوذ بالله من ذلك الوجه الحادي والأربعون فيه دليل على أن أفضل العلوم علم الكتاب والسنة لأنه لا يعرف هذا وأمثاله إلا من الكتاب والسنة وهو المقطوع به والمخلص الوجه الثاني والأربعون قوله ونهاهم عن أربع الحَنْتَم والدُّبّاء والنقير والمزَفّت وربما قال المقيَّر الحنتم اختلف فيه فقيل هو المطلي بالزجاج وقيل هو الخَليّ عن ذلك والدباء هي اليقطين والنقير هو عود النخل كانت العرب تحفر عود النخل وتنبذ فيه والمزفّت هو ما طلي بالزفت وربما قال المقيَّر شك من الراوي في أيهما فقال له الله ولكن المعنى يجمعه مع الأربع وإن كان لم ينص عليه لأن المقيَّر هو ما طُلِي بالقار
الوجه الثالث والأربعون ظاهر هذا النهي يدل على تحريم الانتباذ في هذه الأواني لأن النهي يقتضي التحريم وليس كذلك لقوله عليه السلام حين سئل عنها ثانية فقال انبذوا وكلُّ مسكر حرام فأخبر عليه السلام أن النهي إنما كان خيفة إسراع التخمر فإذا أُمِن مِن ذلك فلا
بأس به
الوجه الرابع والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بسد الذرائع لأنه
إنما نهى عن الانتباذ في هذه الأواني لأن التخمر يسرع فيها
1 كأنه يريد المتفق عليه
رواه مسلم وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة
۶
١٤٠
الوجه الخامس والأربعون فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله أيضاً في المشهور عنه أن
المرء يخاطب بالإيمان وإن لم تبلغه الدعوة لأن نهيه عليه السلام عن الانتباذ في هذه الأواني إنما هو من أجل التخمر الذي يسرع إليه كما قدمنا وصاحبه لم يشعر به فیشر به جاهلاً به فيكون قد شرب حراماً وهو لم يشعر فيعاقب عليه فنهى عليه السلام عنها لأجل هذا المعنى وإنما أحلها لهم بعد ذلك لأنهم قالوا إن أرضنا لا تحمل الأزقاق ۱ من أجل حيوان عندهم يقطعها لهم فلما أن تبين له هذا العذر منهم ورأى أنهم مضطرون إليها قال انبذوا وكلّ مسكر حرام إيقاظاً لهم وتنبيهاً على تفقدها في كل وقت وحين لئلا يسرع التخمر لها وهم غافلون الوجه السادس والأربعون فيه دليل على فصاحته عليه السلام وإبلاغه في إيجاز الكلام مع إيصال الفائدة بالبيان لأنهم سألوا عن الأشربة وهي كثيرة فلو ذكرها لاحتاج إلى تعدادها كلها ووصفها ولكنه عليه السلام أضرب عن ذلك وأجاب عن الأواني المذكورة لا غير فكأنه عليه السلام يقول الأشربة كلها حلال إلا ما نبذ في هذه الأواني فكان هذا تصديقاً لقوله عليه السلام أوتيت جوامع الكلم
الوجه السابع والأربعون ظاهر هذا الإخبار يدل على أن الأشربة كلها حلال وليس كذلك لنهيه عليه السلام في حديث آخر عن شراب الخليطين مثل التمر والزبيب أو الزبيب والعنب إلى غير ذلك مع أن العلة واحدة في الكل وهي إسراع التخمر فعلى هذا يجب اطراد هذه العلة فحيثما وجدت وقع المنع وحيثما فقدت اطردت الإباحة
الوجه الثامن والأربعون قوله عليه السلام احفظوهن فيه دليل على الأمر بحفظ العلم
والوصية عليه
الوجه التاسع والأربعون قوله عليه السلام وأخبروا بهن مَن وَراءَكم فيه دليل على الحض على نشر العلم وتبيينه وفيه دليل لما قدمناه وهو جواز النيابة في العلم وصلّى الله على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الله عنه
1 الأزقاق ج زِق بكسر الزاي وهو السِّقاء من جلد الحيوان الذي يجز ولا يُنتف رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي ۳ رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه
١٤١
حديث احتساب النفقة على الأهل
عن أبي مسعود البدري۱ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أنفَقَ الرّجُلُ على أهلِهِ يَحْتَسِبُها فهي له صَدَقَة
ظاهر الحديث يدل على أن الإنفاق مع الاحتساب صدقة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إذا أنفق الرجل النفقة هنا هي ما أوجب الله تعالى على الرجل لعياله من الطعام والشراب والكسوة والخدمة والسكنى وغير ذلك من ضروراتهم المعلومة عادة وشرعاً ولذلك قال أنفق ولم يقل أطعم لأن أنفق يعمّ كل ما ذكرناه و أطعم لا يفيد إلا المأكل لا غير
الوجه الثاني قوله عليه السلام على أهله الأهل هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد الزوجة ليس إلا الثاني أن يكون المراد الزوجة وكل ما تلزمه نفقته شرعاً لأن العرب تقول أهل الرجل وهي تريد زوجته وتقول أهل الرجل وهي تريد أهله وأولاده وقد جاء المعنيان في الكتاب وفي الحديث أما الكتاب فقوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَمُ وكان ذلك زوجته وبنيه وقوله تعالى ﴿ فَأَنجَيْنَهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ﴾ ٣ وأما الحديث فقول أسامة للنبي أهلك يا رسول الله 4 يريد زوجته لا غير والأظهر من هذين الوجهين العموم
لأنه وإن
اسمه عقبة بن عمرو يعرف بـ البدري لأنه سكن أو نزل ماء بِبَدر - في أصح الأقوال - وشهد العقبة
ت ٤١هـ / ٦٦١م
سورة ص من الآية ٤٣ ۳ سورة الأعراف من الآية ٨٣
٤ جزء من حديث الإفك رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
0
١٤٢
كان المراد الزوجة لا غير فغيرها من باب أولى لأن الزوج له الاستمتاع بها في مقابلة النفقة عليها ۱ والنفقة على الأهل ما عداها ليس فيه ذلك وفيه زيادة صلة الرحم
الوجه الثالث قوله عليه السلام يحتسبها الاحتساب هنا هل يشترط فيه إحضار الإيمان أو لا احتمل الوجهين معاً
فإذا كان المراد الإيمان والاحتساب معاً فيكون ترك ذكر الإيمان هنا للعلم به وشهرته ولأنه قد ذكره في غير ما حديث من ذلك قوله عليه السلام من قام رمضان إيماناً واحتساباً إلى غير ذلك فيكون الاحتساب يتضمن الإيمان
وإن كان المراد به الاحتساب دون شرط إحضار الإيمان فيكون لفظ الحديث على ظاهره وهذا أظهر وأرجح والله أعلم بدليل أنه عليه السلام لما أن ذكر هنا الاحتساب وحده جعل ثوابه ثواب الصدقة ولما أن ذكر الإيمان وحده في حديث آخر جعل ثوابه حسنات والحديث هو قوله عليه السلام مَنِ احتَبَس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شِبَعَه ورِيَّهُ ورَوْتَه وبَوْلَه حسنات في ميزانه يوم القيامة ۳ ولما أن ذكر الإيمان والاحتساب معاً جعل ثوابه مغفرة للذنب وهو أعلى الثواب كما تقدم في حديث ليلة القدر
الوجه الرابع هل هذه الصدقة مقصورة في هذا الموضع لا تتعداه أو هي متعدية احتمل الوجهين معاً والظاهر التعدي لأنه عليه السلام قد نص على ذلك في غير هذا الحديث حيث قال ويميط الأذى من الطريق صدقة والكلمة الطيبة صدقة ٤ إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو كثير ولأنه عليه السلام قد جعل لإحضار الإيمان والاحتساب أجراً زائداً وذلك يدل على أنه مقصود بنفسه وإذا كان مقصوداً بنفسه اقتضى تعديه لكل الأعمال واجباً كان أو ندباً ولأنه عليه السلام قد قال أوقع الله أجره على قدر نيته ٥ والنية هي القصد لفعل من
1 إذا كان استمتاع الرجل بزوجته في مقابلة النفقة عليها فاستمتاعها به في مقابل ماذا ونرى أن الاستمتاع حق مشترك على السواء كما قرره المحققون من الفقهاء وليس للزوج حق هجر زوجته الإيلاء منها أكثر من أربعة أشهر وليس المراد تعليق الاستمتاع بشرط الإنفاق فقد يبقى استمتاع الزوج بزوجته من غير إنفاق عليها لفقره المدقع ويبقى ينفق عليها إذا كانت مريضة دون أن يستمتع بها
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ۳ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٤ جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصلح ومسلم في الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله
0
كل سلامى من الناس عليه صدقة جزء من حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند والنسائي من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه وأوله ما تعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء سبعة
١٤٣
الأفعال واجباً كان أو ندباً فهي معنى لا تزيد ولا تنقص وإنما ترتفع وتسمو بانضمام أحد هذين
الوجهين لها أو كليهما وهما الإيمان والاحتساب
الوجه الخامس في هذا دليل لأهل الصوفة حيث يأخذون في تنمية أفعالهم واجباً كان أو ندباً بحسن نياتهم أما الواجب فيزيدون فيه الإيمان والاحتساب وأما المندوب فيزيدون فيه أكثر من ذلك لأنهم ينذرونه أولاً على أنفسهم فيصير واجباً ثم بعد الوجوب يزيدون فيه نية الإيمان والاحتساب وأما المباح فيتخذونه عوناً على طاعة ربهم فيصير مندوباً ثم بعد ذلك يزيدون له الإيمان والاحتساب فترتفع أعمالهم لأجل ذلك وتسمو هممهم ولأجل هذا المعنى كان لهم القدم السابق على غيرهم وإن كانت أفعالهم مع أفعال غيرهم في الظاهر على حد سواء وقد قال عليه السلام إن الله لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولكنْ يَنظُرُ إلى قلوبكم
الوجه السادس قوله عليه السلام فهو له صدقة الصدقة هنا بمعنى الأجر لأنه ليس الفائدة في الصدقة إعطاءها وإنما الفائدة فيها ما يترتب عليها من الأجر وهذا الأجر المنصوص عليه هنا ليس هو ثواب ذلك العمل وحده وإنما هو زيادة الأجر الذي له في النفقة لأن النفقة عليه واجبة ومن فعل الواجب كان مأجوراً لامتثاله الأمر وزيد بحسب ما زاد من إحضار الاحتساب أو الإيمان أو هما معاً أجراً ثانياً
الوجه السابع في هذا دليل على أن إحضار الإيمان والاحتساب مندوب إليهما في الأفعال وليسا واجِبَيْنِ لأنه عليه السلام عَيَّن لفاعلهما الثواب ولم يخبر أنّ على تاركهما عقاباً وهذه الصفة هي للمندوب
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ جعل في الإيمان والاحتساب هذا الثواب المذكور مع أنه ليس فيهما تعب ولا كبير مشقة لأن الجوارح لا تتحرك فيهما ولا تتصرف والجواب أنه إن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث يرد عليه وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى البيان والأظهر من الوجهين أنه معقول المعنى
بيان ذلك أن القلب جارحة بنفسه وإحضار النية فيه بهذه الأوصاف تعب للنفس وزيادة تعب النفس يزيد به الأجر بدليل قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وكل نوع من الأنواع التي تتعب النفس يسمى مجاهدة - وقد تقدم في الحديث قبل - ولأن له أن يفعل ما أمر به على حِدَة واجباً أو مندوباً دون إحضار الإيمان والاحتساب بل له أن يفعل بعض الأفعال دون
۱ رواه مسلم في باب البر والصلة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة العنكبوت من الآية ٦٩
١٤٤
إحضار النية البتة بدليل قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية فقد جعل عليه السلام إحضار النية في العمل من باب الخيرية وإذا كان ذلك في باب الخيرية فإيقاع العمل دونها جائز مجزىء وإلى هذا ذهب أكثر العلماء
لكن هذا ليس على العموم بمقتضى ما يدل عليه صيغة اللفظ وإنما هو في بعض الأعمال دون بعض بحسب ما تقتضيه قواعد الشريعة لأن الأعمال تختلف فمنها ما يكون واجباً ومنها ما يكون مندوباً لا يعمل إلا لله ومنها ما يكون مندوباً وقد يعمل الله وقد يعمل لغير الله أما الواجب فلا بد من إحضار النية فيه لأن الواجبات جعل لها حدود وصفات وأسماء فلا بد من تعيين ذلك بالنية وإلا فالعمل باطل مثال ذلك الصلوات المفروضات لها أسماء وصفات وحدود فلا بد من تعيين الصلاة لتمتاز عن غيرها فيحتاج إلى النية عند الإحرام لهذه العلة وتكون نيته بخمسة شروط على مذهب الشافعي الشرط الأول تعيين الصلاة الثاني اعتقاد وجوبها الثالث العمد إلى أدائها الرابع إحضار الإيمان إذ ذاك الخامس ما قدمناه من اقتران النية بالإحرام
أما عند الإمام مالك رحمه الله فلم يحك عنه في ذلك شيء واختلف أصحابه في ذلك كثيراً فمنهم من شرط فيها مثل شرط الإمام الشافعي رحمه الله منهم من قال إن وقعت بتلك الأوصاف قبل الإحرام بيسير أجزأت ومنهم من قال يكفي في ذلك العمد إلى الصلاة بعينها وزيادة تلك الأوصاف زيادة كمال وهذا هو الأظهر من مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة لأنه لو كان ذلك واجباً وترك الكلام فيه لما صح أن يكون إماماً وقد أجمعوا على أنه إمام واختلف في تعيين الركعات وتعيين الزمان إلى غير ذلك وهو مذكور في كتب الفقه ومثل ذلك أيضاً تَحِلّة اليمين إن أعتق المرء أو تصدق أو صام ولم ينو تحلّة اليمين لم يجزئه عن كفارته وأعاد مرة أخرى وكذلك أيضاً كفارة الظهار ۳ وصدقة المال إلى غير ذلك من سائر الواجبات إن لم يحضر النية لذلك لم تنفعه ويعيد
وأما المندوب الذي لا يعمل إلا الله فهذا هو الذي يدخل في ضمن قوله عليه السلام خير الأعمال ما تقدمته النية ففعله دون نية مجزىء وتقديم النية فيه زيادة خير مثال ذلك من قام يتنفل
1 لم نعرف مصدره تَحِلّة اليمين من حلّل اليمين تحليلاً وتحِلّة وتحلاً جعلها حلالاً بكفارة أو بالاستثناء المتصل نحو والله لأفعلن ذلك إلا أن يكون كذا ۳ الظهار هو طلاق الجاهلية ونهى عنه الإسلام يقول الرجل لزوجته أنتِ عَلَيَّ كظهر أمي أي أنتِ علي
حرام
١٤٥
بركعتين فهو مأجور في إيقاعهما وإن لم يحضر نية لأن هذا الفعل بوضعه لا يكون إلا الله وتقدم النية فيه أفضل كذلك أيضاً إعطاء الصدقة التي ليست بواجبة إذا أعطاها لمن لم يتقدم له به معرفة ولم يكن له عليه حق فبنفس الإعطاء حصل الأجر وإن لم يكن له نية وتقدم النية أفضل وأما المندوب الذي يعمل الله ويعمل لغير الله فهذا لا بد من إحضار النية فيه لأنه مشترك فيحتاج إلى إحضار النية ليخلصه الله مثال ذلك الغسل للجمعة على قول من يقول بأنه سنّة لأنه يشترك فيه التعبد وغيره فقد يغتسل تعبداً وقد يغتسل تبرداً وتنظفاً فيوقع النية ليفرق بين المباح والتعبد
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم جعل في أعمال الباطن هذا الثواب وهو أعظم من الثواب على أعمال الظاهر وجعل إحضار الباطن سبباً في صحة جل أعمال الظاهر
الجواب أنه إن قلنا إن ذلك تَعَبُّد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فحينئذ يحتاج إلى بيان والأظهر أن ذلك لحكمة وهي - والله أعلم - أنه لما كان أجل الأشياء من جميع النعم والتعبدات الإيمان ومحله القلب فكل ما كان صادراً عن المحل الذي هو وعاء للإيمان كان أَجلَّ من غيره يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهي القلب ۱ فصلاحه أعظم من صلاح غيره وفساده أعظم من فساد غيره لأن الجوارح كلها منقادة إليه
جعلنا الله ممن أصلح منه الظاهر والباطن بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
١٤٦
ياك
حديث مَن يُرِد الله به خيراً يُفَقَّهْهُ فِي الدِّين
البخاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ الدِّينِ وإنَّما العِلْمُ بالتَّعَلُّمِ
في
ظاهر الحديث يدل على تعليق الخير بالفقه وأن العلم لا يُنال إلا بالتعلم والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِد الله به خيراً الإرادة المذكورة هنا هل هي على بابها أي على ما تقتضيه صيغة اللفظ فيكون في المستقبل أو يكون بمعنى الماضي احتمل الوجهين معاً لأن العرب تستعمل المعنيين في كلامها وقد جاء القرآن والحديث بذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله تعالى ﴿ أَتَ أَمْرُ اللَّهِ ۱ وهو يأتي بعد الخطاب وقوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى ابْنَ مَريم والمراد به يوم القيامة فإن كان المراد بصيغة لفظ الحديث هذا المعنى وهو أن يكون للماضي فمعناه ما سبق من حكمته عزّ وجلّ وقدرته
وإن كان المراد به الوجه الثاني - وهو أولى لأن اللفظ يُحمّل على صيغته في المستقبل ويكون بذلك مطابقاً للفعل الصادر من العبد لأن فعل العبد لا يكون إلا بإرادة المولى وقدره قال تعالى في كتابه فَسَنُيَسِرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ ٣ فَسَنُيَسَرُهُ لِلْمُسْرَى ٤ وقال تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ الله
1 سورة النحل من الآية 1 سورة المائدة من الآية ١١٦
۳ سورة الليل من الاية ٧ ٤ سورة الليل من الآية ١٠
١٤٧
4
الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد علم من هو الصادق ومن هو الكاذب لكن المراد بهذا العلم العلم الذي يقع عليه الجزاء بمقتضى الحكمة - فإن كان المراد به هذا المعنى فتكون الإرادة في العاقبة
ولأجل احتمال هذين المعنيين لهذه الألفاظ وما شاكلها افترق المؤمنون على طائفتين فطائفة غلب عليها الخوف من السابقة وطائفة غلب عليها الخوف من الخاتمة وإن كان المعنيان
متلازمين لأن السابقة إذا تضمنت الخير أو الشر فالخاتمة في ضمنها داخلة وكذلك بالعكس لكن بينهما فرق ما من طريق المشاهدة وعدمها وهو أن السابقة لا يعلمها أحد إلا الله عزّ وجلّ أو من شاء إطلاعه عليها بالإخبار له وذلك من باب خرق العادة وهي لا تكون إلا للأفراد فلا يقع بالسابقة علم إلا عند معاينة الخاتمة لأنها تدل عليها إذ هي تتضمنها والخاتمة بخلاف السابقة لأنها مشاهَدَة مدرَكة حين يقضي الله بها يعاينها الناس بعضهم من بعض
ويعاينونها من أنفسهم ولهذا قال عليه السلام من مات على خير عمله فارجوا له خيراً ٢ وقد نطق الكتاب والحديث بهما معاً فقال تعالى في السابقة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنا الْحُسْنَى أُوْلَيْكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۳ وقال تعالى في الخاتمة ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ٤ قال العلماء معنى التثبيت في الحياة الدنيا عند الموت والثبات في الآخرة عند سؤال الملكين في القبر وأما الحديث فقوله عليه السلام لأبي هريرة جفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ فاقتصر ٥ على ذلك أو زد فدل على السابقة وقوله عليه السلام إنّما الأعمال بخواتيمها ٦ فدل على الخاتمة
الوجه الثاني قوله خيراً احتمل أن يكون الخير هنا محمولاً على صيغة لفظه فيكون على العموم لأن الصيغة منكرة واحتمل أن يكون معناه الخصوص لأن ذلك سائغ في ألسنة العرب فإن كان المراد به العموم فيكون معناه الخير في الدنيا وفي الآخرة وإن كان المراد به الخصوص فيكون معناه ما قاله بعض العلماء أن المراد بالخير المطلق الجنّة وهذا ليس بالقوي والأول أولى
1 سورة العنكبوت من الآية
رواه الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
۳ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۱
٤ سورة إبراهيم من الآية ٢٧
٥ رواه البخاري في النكاح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبري حكاه الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي رواية فاختص من الخصاء وهو تعطيل قوة الذكر عن الجماع والإنجاب
٦ رواه الإمام أحمد في مسنده عن معاوية رضي الله عنه
١٤٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام يفقهه الفقه هو الفهم يقال فقه فلان إذا فهم قال تعالى ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ۱ أي لا يفهمون حديثاً والفهم هنا
يحتمل معنيين
الأول أن يكون المراد الفهم في أحكام الله الثاني أن يكون المراد الفهم عن الله
فإن كان المراد الأول فيكون الحديث الآتي بعده مفسراً لهذا المجمل لأنه قال فيه يفقهه في الدين وإذا اجتمع مُطلق ومقيَّد حُمِل المطلق على المقيَّد وهذا الفقه لا يؤخذ إلا بالتعلم على ما أشار إليه عليه السلام في الحديث بعد فيأخذ أولاً في الحفظ والضبط والاجتهاد في مطالعة الكتب الصحاح فإذا فعل هذا كان له الأجر على نفس فعله ذلك إذا كان خالصاً لا يشرك فيه غيره وأجره أجر الناقل للفقه ولذلك قال عليه السلام رُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقَهُ منه وكذلك قوله عليه السلام في حجة الوداع ألا فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبْلُغُه أن يكون أوعى له من بعض مَن سمعه ۳
معه
ثم بعد تحصيل ما أشرنا إليه والعمل به يأتيه إذ ذلك الفقه وهو نور يقذفه الله في قلبه يكون الفهم أو به بقدرة الله عزّ وجل ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب لأن الحفظ مع قلة الفهم قل أن يكون معه علم وقد ذم الله عزّ وجلّ مَن صَدَر منه ذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٤
ولأجل عدم تحصيل هذا الشرط الذي أشرنا إليه الذي هو سبب لحصول هذا الفقه كان كثير ممن يدعي العلم بزعمهم لما حفظوا بعض الكتب وطالعوا بعض الشروحات إذا سمعوا معنى من المعاني لم يروه منقولاً في الكتب التي حفظوها أو طالعوها يقع منهم الإنكار مرة واحدة ويحتجون بأن يقولوا ما سمعنا من قال هذا وإن رأوا في بعض الكتب مسألة وَهَم ٥ قائلها أو صُحُفت في النقل أو أرتجت عليه أخذوها بالقبول ووقع لها التسليم وقالوا هي منقولة
ونسبوها إلى صاحب الكتاب
1 سورة النساء من الآية ۷۸
جزء من حديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما
۳ جزء من خطبة النبي الله في حجة الوداع رواها البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه
٤ سورة الجمعة من الآية ٥ وهم بكسر الهاء في الحساب على وزن وَجِلَ وَوَهم بفتح الهاء في الشيء على وزن وَعَد - وهنا من الثاني
١٤٩
ولا ذاك إلا لعدم النور الذي به يفهمون لأجل أن البساط ۱ الذي عليه يأتي لم يفعلوه مع
أن البساط قد وقع من بعضهم في الظاهر الذي هو النقل كما أشرنا إليه لكن حرموا من أحد وجهين إما أن يكون عملهم لغير الله وإذا كان كذلك فالنور عليهم حرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من عمل من هذه الأعمال التي تُراد للآخرة شيئاً يريد به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنّة ورائحة الجنة تُشم على مسيرة خمسمائة سنة وإما أن يدخل عليهم العُجب في نقلهم فيظنوا أن ذلك هو غاية العلم فيحسبوا أنفسهم من العلماء فيحرموا لأجل دعواهم فلو رُزق المسكين معرفة نفسه وأنه إنما يطلق عليه ناقل إن كان نقله على وجهه لرجي له عند الاعتراف بحاله وعجزه بأن الله تعالى يمن عليه بشيء من النور ومن رُزق شيئاً من النور رُجي له التوفيق والزيادة حتى يلحق بأهل الخير العميم المتقدمي الذكر فالحاصل من أحوالهم اليوم أن الكتب رجعت عندهم أسفاراً منقولة الأصول والشروح أسفار محمولة وهذا هو نفس ما ذم الله تعالى في كتابه كما تقدم وقلما يكون مع ذلك توفيق
نعوذ بالله من العمى والضلال
وإن كان المراد بـ الفقه الوجه الثاني وهو الفهم عن الله فيكون هذا الحديث مستقلاً بنفسه والحديث الآتي بعده مستقل بنفسه لأن هذا يُراد به الفهم عن الله والآخر يُراد به الفهم في
أحكام الله عزّ وجلّ وحَمْلُ الحديثين على معنَتَيْنِ أظهَرُ وأفيد من حَمْلِهما على معنى واحد
وقد يجوز أن يكون الحديث الذي نحن بسبيله على معنيين والحديث الآتي بعده مؤكِّدٌ للمعنى الواحد منهما وهو ظاهر بين لأن الفهم في أحكام الله اكد وهذا الفقه هو النور والإلهام وهو مأخوذ من السنة كما قد أشرنا إليه في حديث البيعة
وهذا لا يجده إلا أهل التحقيق والصدق والإخلاص والهدى والنور والحكمة والبرهان فهموا فَفَهِمُوا وأُريدوا فأرادوا أولئك الصفوة الكرام عيون الله من خلقه في أرضه كما قال عمر رضي الله عنه عن علي رضي الله عنه إن الله عيوناً في أرضه من خلقه وإن عَلِيّاً لَمِنْهُمْ ۳ وكان رضي الله عنه يقول نعوذ بالله من معضلة لا يكون فيها عليّ مع أن الخلفاء رضي الله عنهم كلهم عيون في العيون لكن كل واحد منهم يرفع صاحبه تواضعاً في نفسه
۱ البساط - هنا - بمعنى الوسيلة والأداة
مروي بالمعنى وأصله بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له من نصيب رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه والله أعلم
۳ لم نقف على مصدره
10
وتعظيماً لصاحبه لما خصه الله به كذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فكل من فهم عن الله فَهم أحكامه ولا ينعكس اختارهم عزّ وجلّ من خلقه فاختاروه على خلقه وعلى ما سواه فهم به وله بلا مثنوية ۱ ولا التفات
بحرمتهم
نسأل الله بحر متهم عنده أن يمن علينا كما مَنَّ عليهم ولا ربَّ سواه
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن مَن مُنْ عليه بأحد هذين الوجهين فليستبشر بالخير العظيم والفضل العميم إذ إن الشارع عليه السلام قد جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسره إليه وكيف لا تحق لهم البشارة وبهم يُرسِلُ الله الغيثَ ويرفع الجدب ويرحمُ
البلاد والعباد
الوجه الخامس لقائل أن يقول لِمَ قال عليه السلام هنا مَن يُرِد الله به خيراً يُفقهه في الدين وذكر في غيره من سائر الأعمال الثواب وعيَّنه وحدَه ومثل ذلك أيضاً قوله عليه السلام في العلم ما أعمال البِرِّ في الجهاد إلا كبصقة في بحر وما أعمالُ البِرِّ والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر
والجواب أنه عليه السلام إنما لم يحدد هنا الأجر ولم يعينه إشعاراً منه وتنبيهاً على أن ذلك إذا وجد على حقيقته فليعلم صاحبه بأن السعادة قد حصلت له وليستبشر بأن الله عزّ وجلّ لا يَنكُسُه على عَقِبه ولا يُخيّب مقصده لأن ما عدا هذا العمل من أعمال البر من جهاد وغيره هو محتمل لأن يكون عارية ۳ ومحتمل لأن يكون حقيقة فإن كان حقيقة فيكون له فيه ما وُعِد وإن كان عارية فكأنه لم يكن كما قال عليه السلام إن الرجلَ منكم لَيَعْمَلُ بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبقَ بينه وبينها إلا شبرٌ أو ذراع فَيَسْبِقُ عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ٤
وهذا العمل الخاص إذا مُنَّ به صح ولا يمكن عدم الصحة لأن الإرادة قد سبقت بالخير وإنفاذه وما أراده عزّ وجلّ وحكم به لا ناقض له على ما بيَّناه فهي بشارة عظيمة ونعمة كبيرة وترغيب في هذا العمل الخاص فَليستبشرُ من فَهِم وليلجأ من عَجَز فلعل الكريم الجواد يَمُنُّ بنفحة من نفحات جوده بجوده إنه ولي كريم
1 كأنه يريد هؤلاء الصفوة موحدون الله توحيداً كاملاً يرون كل ما في الوجود يشهد أن الله واحد وموجود وآياته بارزة لِمَن كَانَ لَمُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فهم لا يرون إلا الله ولا يلتفتون إلى ما سواه إنه ملأ
عليهم قلوبهم وعقولهم وسمعهم وبصرهم ووجودهم
سبق تخريجه في الحديث الخامس ۳ العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إليك والمراد هنا غير المخلص
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في خلق الجنين في بطن أمه متفق عليه
0
33
١٥١
الوجه السادس قوله عليه السلام وإنما العلم بالتعلم إنما أتى عليه السلام هنا بـ إنما التي هي للحصر ليبين أن العلم لا يُتَوَصَّل إليه إلا بالتعلم ولا سبيل إلى غير ذلك ومن حاول غير ذلك فقد ضل عن الطريق وإنما أتى عليه السلام بالألف واللام في العلم والتعلم ليبين به أن العلم هو الذي يكون عَلَماً على الخير لأن العلوم كثيرة فأتى بالألف واللام التي هي للعهد لينبه على العِلم الخاص النافع الذي أراده منا
فإن قال قائل قد تكون الألف واللام للجنس
قيل له ذلك لا يسوغ هنا لأن علوم الشرائع من آدم عليه السلام إلى النبي ل ل ا ل كلها من الله تعالى إلى الرسل عليهم السلام إما بواسطة المَلكِ وإما بغير واسطة المَلكِ بحسب ما مشت الحكمة على ما عرف من قواعد الإخبار بالشرائع والمكلَّفون يتلقون ذلك من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فأصله النقل وإذا كان أصله النقل فلا تكون الألف واللام هنا إلا للعهد لأن المراد بالعلم العلم الشرعي وغير العلم الشرعي ليس أصله النقل وإنما أصله الاستنباط والاستنباط أيضاً منه ما يكون جائزاً شرعاً ومنه ما يكون ممنوعاً شرعاً
فلأجل هذه العلة التي أبديناها وهي كثرة العلوم وفيها ما هو ممنوع لم يَسُغْ أن تكون الألف واللام للجنس والمراد بـ العلم المشار إليه هنا قد نص عليه السلام عليه في غير هذا الحديث حيث قال تركت فيكم الثّقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ وما تضمنا من المعاني من علوم الفرائض وغيرها
وقد نص عليه السلام على أشياء جملة وهي تتفرع من الثقلين كما تقدم فمن ذلك قوله عليه السلام تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وهي أول ما يُنسى وقال أيضاً في هذا المعنى بنفسه تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم يُقبض من بعدي حتى إن الاثنين يختلفان في الفريضة فلا يجدان مَن يَفصل بينهما ۳ وكذلك كل ما حضت الشريعة عليه فهو منها
وأما العلم المعرف بالألف واللام فهو ما عرف بالشرع أو بالعادة التي ليس فيها خلل من جهة الشريعة أما الذي يعرف من جهة الشرع فهو كأمره عليه السلام بالتبليغ في حجة الوداع
1 سبق تخريجه في الحديث ۳
رواه ابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه والفرائض هي علم المواريث ۳ رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٥٢
8333
3
كما تقدم وكقوله عليه السلام يسروا ولا تعسروا إشارة إلى الرفق في التعليم وكقوله عليه السلام إنما أنا قاسم والله يعطي ۱ على ما أبينه بعد في الحديث الآتي
وأما ما يعرف بالعادة فهو مثل المؤدب يعلم أولاً الصبيان الهجاء ومعرفة الحروف ثم شيئاً من القرآن ثم شيئاً من اللغة ليفهموا به کتاب ربهم وسنة رسولهم وما أشبه هذا على ما تقتضيه الشريعة من الإجارة على ذلك أو الجعل ۳ عليه على الخلاف في ذلك وما سوى ذلك ممنوع مثل الألفاظ والاصطلاحات التي أحدثت ودلائل الشرع تمنعها وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الأحاديث قبل وقد نص عليه السلام على منع ذلك حيث قال يأتي في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم فخذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون ٤ الوجه السابع في هذا من الفقه أنه لا يكون الفقه إلا بعد معرفة العلم المنقول أو معه على ما قررناه قبل لأنه هو الأصل ولذلك عطف بالواو التي تقتضي التشريك والتسوية بين الشيئين أوزعنا ٥ الله من كليهما أوفر نصيب بمنه
وصلى الله على سيدنا ومَوْلانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه الإجارة الأجرة على العمل
٣ الجُعل والجمال والجعالة ما يجعل على العمل من أجر أو رشوة ٤ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
٥ أوزعنا الله جعل الله لنا قسم لنا
١٥٣
حديث من سلك طريقاً يطلب به علماً
البخاري رضي الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من سلك طريقاً يطلبُ به عِلماً سهل الله له طريقاً إلى الجنّة
ظاهر الحديث يدل على أن من حاول أمراً ليكون له عوناً على طلب العلم سهل الله عليه الوصول إلى الجنة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام من سلك طريقاً السلوك بمعنى الدخول قال تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِي سَفَرَ ۱ أي ما أدخلكم وقال النبي لو سلكوا جُحرَ ضَبْ لَسَلَكتُموه ٢ أي لو دخلوا لدخلتم فإذا كان المراد به الدخول فهل هو مقصور على الدخول في طلب العلم أو يتعدى إلى غيره احتمل الوجهين معاً
والظاهر تعديه لأن ذلك في الشريعة كثير فمن ذلك قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۳ وقوله عليه السلام ينفق على عياله يحتسبها٤ على ما مرّ الكلام عليه وإذا كان متعدياً فيترتب عليه من الفقه أن كل ما كان عوناً على الخير فهو خير وقد وقع النص على ذلك وهو ما جاء في نوم المجاهد أنه عبادة لكونه عوناً له على الجهاد لكن ليس يؤخذ هذا على عمومه وإنما هو بشرطين
الشرط الأول أن يكون الذي يستعان به جائزاً شرعاً ولا يكون حراماً ولا مكروهاً يشهد
1 سورة المدثر الآية ٤٢
متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأوله لتتبعن سنن من قبلكم ۳ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ لا يحكم أحد بين
اثنين وهو غضبان
٤ نص الحديث في البخاري إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة وهو موضوع الحديث الثامن
١٥٤
لهذا قوله عليه السلام للذي طلب منه الوصية وأراد أن يوجز له فيها فقال له لا تقل شيئاً تستعذر عنه في يوم القيامة 1
وقد حكي عن بعض الفضلاء أنه أصابه من العبادة تعب وجوع لقلة ذات اليد ثم فتح عليه في لبن لم يطب له طريقه فامتنع منه فقالت له والدته لما امتنع اشربه وارجُ الله أن يغفر لك فقال لها أرجو الله أن يغفر لي ولا أشربه فانظر كيف امتنع من شربه وإن كان عوناً له على ما كان بصدده لكن لما أن كان فيه كراهيةٌ ما لم يُقدِم عليه وتركه البتة لأن الخسارة التي تعود عليه منه أكثر من الفائدة بل هو عري عن الفائدة لأنه لا يعين على الطاعة إلا الحلال الشرط الثاني أن ينوي به العون على طلب العلم أو على وجه من وجوه الخير على القول بتعدية الحكم وعلى القول الآخر فيكون في طلب العلم ليس إلا لأن المباح لا يؤجر عليه ولا يقربه إلى الجنة حتى ينوي به العون على الطاعة فإذا كان الشيء الذي ينوي به العون على الطاعة من طلب العلم وغيره فرضاً كان أو مندوباً كان له أجر المندوب وزيادة القرب إلى الجنة لأنه عليه السلام أتى بـ الطريق نكرةً والنكرة عامة في أن يكون فرضاً أو ندباً أو مباحاً والرابع ٢ ممنوع على ما بيناه
وهل يتصور هذا في الفرض أعني أن يكون له أجر الفرض وزيادة القرب إلى الجنة إذا اعتقد به العون على طلب العلم فالمشهور من مذاهب الفقهاء منع ذلك لأنهم اختلفوا في فرض وندب إذا اجتمعا بنية واحدة هل تجزىء أم لا على قولين
ومسألتنا من ذلك الباب وعموم لفظ الحديث يقتضي الجواز لكن من أراد أن يخرج عن الخلاف ويعمل بنص الحديث ليعظم له الأجر فينوي في هذا الفرض مثلما ينوي المغتسل يوم الجمعة من الجنابة وللجمعة الذي يريد أن يخرج من الخلاف يقول طهوري هذا الجنابتي وأرجو أن يجزيني عن غُسل جمعتي فيحصل له الخروج عن الخلاف ويكون متبعاً للفظ الحديث عاملاً عليه
الوجه الثاني قوله عليه السلام يطلب به علما الطلب هنا يحتمل وجهين الأول أن يكون المراد به تحصيل العلم والاشتغال به الثاني أن يكون المراد الاهتمام به والمسارعة إليه يدل على هذا قوله عليه السلام تعلّموا العلم فإن تعلمه الله حسنة وطلبه عبادة ۳ ففرق
1 لم نعرف مصدره والرابع أي القسم الرابع من أقسام المستعان به وقد بين الأقسام الثلاثة قبله فذكر أن منها الفرض والندب والمباح وأما الرابع فهو الحرام ۳ جزء من حديث طويل هذا مطلعه رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثقات وابن عبد البر وقال ليس له إسناد قوي انظر تخريج الحافظ العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين ٢٢/١
100
بين التعلم وطلب العلم وجعل نفس الطلب أعلى من نفس التعلم لأنه عليه السلام شبه الطلب بالعبادة وجعل نفس التعلم إذا كان الله حسنة والحسنة من بعض ما تتضمنه العبادة الوجه الثالث لقائل أن يقول لم كانت الوسيلة هنا أفضل من الشيء المقصود وينبغي أن
يكون بالعكس على ما عرف من قواعد الشريعة والعوائد
والجواب أن الشيء المقصود لم يجعل أخفض رتبة من الوسيلة ولا مثلها لأن الشيء المقصود إنما هو نور يضعه الله في القلوب على ما نقلناه عن العلماء والدرس والنقل والرواية سبب لتحصيل ذلك النور الذي يكون به العلم كما تقدم من قول مالك رحمه الله ليس العلم
بكثرة الرواية
فالحاصل
من
هذا أن الشيئين المذكورين سببان إلى تحصيل النور وأحدهما أشق على النفس وأشد وهو الحث والطلب فجعل له مقام العبادة التي فيها مشقة النفس ومجاهدتها والثاني أخف وهو الدرس والنقل فجعل فيه حسنة وهذا نص صريح من الشارع عليه السلام فيما نقلناه عن العلماء من أن العلم ليس بكثرة الرواية
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ العلم نكرة ولم يأت به مُعَرَّفاً كما أتى به مُعَرَّفاً
في الحديث قبله
والجواب أن قرينة الحال هنا أغنت عن التعريف وهي قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة والتسهيل للجنة لا يكون إلا بالعلوم الشرعية ولما أن كانت العلوم الشرعية متعددة أتى به نكرة من ذلك علم الفرائض والناسخ والمنسوخ وغير ذلك فلمجموع الأمرين أتى به نكرة ـ وهما البساط ۱ ـ وكثرة العلوم
ثم انظر إلى الحديث الذي استدللنا به لما أن أتى به في معرض مدح العلم وما لصاحبه من الخير أتى به معرَّفاً وقيَّده بأن يكون الله ثم عطف بالواو وجميع الخيرات التي ذكرت في الحديث بعد ذلك اللفظ حتى يكون الوصفان شرطاً في الخيرات المذكورة بعد والوصفان هما ما تقدم من أن العلم معرَّفاً يشير به إلى العلم الشرعي ويترك ما عداه وأن يكون الله خالصاً
وبقية الحديث هو قوله عليه السلام وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنازل سُبل أهل الجنة والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح
۱ البساط سبق أن قلنا إن المراد به الوسيلة والأداة
١٥٦
نے
على الأعداء والزَّين عند الأخلاء يرفع الله به قوماً ويجعلهم في الخير قادة وأئمة تُقتَبَس آثارُهم ويُقتَدَى بفعالهم ويُنتَهَى إلى رأيهم تَرغَب الملائكة في خُلّتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتان في البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصباح الأبصار من الظلمة بالعلم تُبلغ منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يُعدّل بالصيام ومدارسته بالقيام وبه تُوصل الأرحام ويُعرَف الحلال والحرام والعلم إمام العمل والعمل تابعه فَيُلْهَمُه السعداء ويحرمه الأشقياء فكل هذه الخيرات والنعم لا تحصل إلا بعد حصول ذينك الشرطين وصحتهما وحينئذ تكون هذه الخيرات تابعة لهما والحديث أخرجه صاحب الجلية 1 فإن احتج محتج بتضعيفه قيل له قد صحح إسناده الأستاذ السمر قندي
رحمه الله
الوجه الخامس قوله عليه السلام سهل الله له طريقاً إلى الجنة سهل أي قرب ولقائل أن يقول لم جعل ثواب هذا العمل التسهيل ولم يجعل له حسنة ولا غير ذلك كما جعل في الحديث الذي أوردناه
والجواب أنه إن قلنا بأن الحسنة كناية عن الأجر والتسهيل كناية عن تسهيل الطريق له إلى نيل العلم فالحسنة أرفع وإن قلنا بأن التسهيل كناية عن التسهيل إلى الجنة فهو أرفع من الحسنة لأنه لا يُقَرَّبُ أحد إلى الجنة إلا وقد عوفي من النار والمعافاة من النار أفضل من كثير من الحسنات مع دخول النار ولذلك قال عليه السلام لو لم يكن إلا النجاة من النار فقد فاز فوزا عظيماً ۳ فعلى هذا يكون التسهيل أرفع من الحسنة وأفضل الوجه السادس لقائل أن يقول لم لم يقل أدخله الجنة عوض هذا التسهيل كما قال في
أحاديث غير هذا
والجواب أن دخول الجنة هو بالأعمال بفضل الله كما تقدّم وقد قدمنا أن ما هو فيه الآن سبب إلى تحصيل العلم ليس العلم نفسه وليس السبب للعلم كالعلم فلذلك عَدل عن ذكر دخول الجنة وأتى بصيغة التسهيل
1 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء كتاب في عشرة أجزاء ألفه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة ٤٣٠ هـ / ١٠٣٨م حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية
الأستاذ السمر قندي هو الحسن بن أحمد القاسمي إمام زمانه في الحديث استوطن نيسابور له بحر الأسانيد في صحاح المسانيد جمع فيه مئة ألف حديث في ثمانية أجزاء توفي سنة ٤٩١ هـ / ١٠٩٨م ۳ مروي بالمعنى لحديث رواه الإمام أحمد في المسند ۳۱/۵ والترمذي في السنن كتاب الدعوات وفيه فإن تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار
lov
الوجه السابع هذا الثواب المذكور على هذا الفعل احتمل أن يُراد به الآخرة ليس إلا واحتمل
أن يكون ذلك عاماً في الدنيا وفي الآخرة فإن رجعنا إلى صيغة لفظ الحديث فهو للاخرة ليس إلا وإن نظرنا لغيره من الأحاديث فنقول بعمومه في الدنيا وفي الآخرة وهو الأظهر بدليل قوله عليه السلام من خرج إلى المسجد ليعلم خيراً أو ليتعلمه كان في ذمة الله فإن مات أدخله الله الجنة وإن رجع كان كالمجاهد رجع بالأجر والغنيمة 1 فقد نص عليه السلام على مَا لَهُ في الدنيا من الثواب فلا سبيل إلى القول بغيره لكن هذا لا يكون إلا إذا كان العلم المعرف الذي أشار إليه عليه السلام ويكون الله خالصاً وفي تخليصه وحصول حقيقة الفقه الذي أشرنا إليه قبل هو ۳ الشأن فإذا حصل أحدهما أو مجموعهما فقد حصلت حقيقة السعادة لأنه قد قدمنا أن ذلك إذا وجد فهو علامة على أن صاحبه لا يمكر به ولا ينكص على عقبه ومثل هذا ما قاله هر قل وهو الحق الواضح إن الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لم يخرج منها
مَنَّ الله علينا بمجموعهما بِمَنْهِ ويُمْنِهِ
الوجه الثامن لقائل أن يقول لِمَ أتى بـ الطريق نكرة في الأول والثاني ولم يأتِ به مُعرَّفاً والجواب أن العلوم الشرعية كثيرة كما ذكرنا منها علم القرآن وعلم الحديث إلى غير ذلك من العلوم الشرعية فلما كانت كثيرة كانت طرقها كثيرة مختلفة لأنه ليس ما يتوصل به إلى علم القرآن هو الذي يتوصل به إلى علم الحديث وكذلك العلوم كلها لكل علم اصطلاح يخصه وهو الطريق إليه فلكثرة هذه الطرق أتى بها ۳ نكرة فمن أتى لعلم واحد منها سهل عليه ذلك الطريق الواحد وإن أتى لمجموعها سهلت عليه الطرق كلها وهذا مثل ما أخبر عليه السلام عن الأعمال أن كل صاحب عمل يُدعَى من باب من أبواب الجنة يختص بذلك العمل حتى قال في آخره ويدعى الصائم من باب الرَّيَّان فقال أبو بكر رضي الله عنه ما على كلِّ مَن يُدْعَى من تلك الأبواب كلها فقال عليه السلام وأرجو أن تكون منهم ٤ فكذلك من طلب العلوم الشرعية كلها قرب من كل باب من تلك الأبواب فإن طلب البعض وترك البعض قرُبَ من بعض دون بعض جعلنا الله ممن طلب الكلَّ وسهّل عليه الوصول إلى الكُلِّ ونودي من الكل بمنه وكرمه
لا رب سواه والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لم نعرف مصدره بهذا اللفظ
كذا بزيادة هو
۳ أي بالطريق
٤ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
١٥٨
-11
حديث قيام الأمة المحمدية على الحق إلى يوم القيامة
عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يُرِدِ الله به خيراً يُفَقَّهُهُ
عن معاوية رضي " في الدين وإنّما أنا قاسم والله يُعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرُّهم
مَن خالفهم حتى يأتي أَمرُ الله
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
الحكم الأول تعلق الخير بالفقه في الدين
الثاني أن حقيقة الإعطاء إنما هي الله عزّ وجلّ دون غيره
الثالث إبقاء هذه الأمة على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من
خالفهم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدين الكلام عليه كالكلام
على الحديث قبله لكن هنا زيادة الدين وهو يحتمل وجهين
الأول أن يكون المراد به العلم الذي يقوم به الدين
الثاني أن يكون المراد به التدين
2
فإن كان المراد به الأول فيكون تأكيداً لأحد المحتملات في الحديث قبله وإن كان المراد به الثاني فمعناه أن يفهم المرء ما تديَّن به وحقيقة الحكمة في التدين به وفي أمثاله نوعاً نوعاً فيزداد إذا ذاك إيمانه ويقينه عند فهمه لحسن ما تديَّن به وذلك أن حكمة الحكماء لو جمعت في حكيم واحد ثم رُزق صاحبها التوفيق وقوة اليقين ما كان يرى أن يزيد فيما حُدَّ وشرع ذرة ولا ينقص منه ذرة لما فيه من الحسن واللطف في الحكمة ومن ظهر له هذا المعنى
١٥٩
فقد أعطِي خيراً لم يُعطَ غيرُه مثله قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۱ وإليه أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هو باب العلم لأن النبي قال في حقه أنا مدينة العلم وعلي بابها فقال رضي الله عنه لكل اية ظهر وبطن ولكل حرف حَدٌ ومطلع ٣ فالحَدّ والبطنُ والظَّهرُ يتقارب الناس في ذلك بعضهم فوق بعض درجات والمطلع خصّ الله عزّ وجلّ به الخصوص مِن خلقه وأكرمهم به وهو الحكمة في وضع هذا على هذه الصفة
والأظهر من الوجهين هذا الوجه الذي نحن بسبيله وهو صعب عسير لا يستطيع الوصول إليه إلا مَنْ خالط الإيمانُ قلبه وأبلَجَ اليقين فؤادَه وكان عِلمُه وعَمله الله خالِصاً وأوتي النور والحكمة وأُمِدَّ بالعون والرحمة وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
والألف واللام للعهد لأن المراد به دين الإسلام
الوجه الثاني قوله عليه السلام وإنما أنا قاسم والله يعطي هذا أدل دليل على علوّ منزلته عليه السلام عند ربه وخصوصيته إذ إن هذا الخير العظيم الذي رحم الله به المؤمنين جعله على يديه وقد روي في الأثر أن الله عزّ وجلّ يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الخير وخلقتُ له أهلاً فطوبى لمن خلقتُه للخير وخلقتُ الخير له وأجريتُ الخيرَ على يديه ٤ فالنبي هو أجلّ من أُجرِيَ الخيرُ على يديه
الوجه الثالث لقائل أن يقول لِمَ سَمَّى عليه السلام نفسه المكرمة بهذه الصفة وهي القاسم وحقيقة هذه الصفة إذا تحققت هي إذا كان الإنسان يَقسِم شيئاً محسوساً على أشخاص
معلومين
والجواب أنه عليه السلام إنما وَصَفَ نفسه المكرمة بهذه الصفة للمعنى الذي ذكرنا وهو أن الله عزّ وجلّ قد قسم هذا الخير الذي رحم به المؤمنين على يديه فبين عليه السلام الشريعة بأتم بيان ثم حدَّ الحدود ورغب وحذَّر فقال مَن فعل كذا فعليه كذا على ما جاء في الأحاديث وكذلك القاسم في الشيء المحسوس سواء مَثَل ذلك الفَرَضِيُّ يحقق لكل إنسان قِسْطَهُ فيبين له قَدْرَ مَا لَهُ من الحق وما عليه من اللوازم فهذا من أبدع التمثيل وأفصحه
۱ سورة المائدة من الآية ٥٠
رواه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ المطلع مكان الطلوع أي لكل حرف مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ٤ عزاه المدني في الإتحافات السنية والنبهاني في الفتح الكبير للطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما
تم
ثم انظر إلى الفَرَضِي فإنه ليس عليه أن يبلغ صاحب الحق حقه وإنما يبلغه ويعطيه من بيده
الأمر والنهي والنبي جعل نفسه المكرمة كذلك سواء لأنه أخبر عن نفسه بأنه هو القاسم أخبر بأن المنفّذ لذلك والمعطي إنما هو الله جل جلاله وذلك بقوله والله يعطي فالله عزّ وجلّ هو المعطي وهو المانع لأن الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه وقد نص عزّ وجلّ على هذا المعنى وبيَّنه في كتابه في غير ما موضع فمن ذلك قوله عزّ وجلّ
}
عَلَيْكَ هُدَتْهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ ۱ وقوله تعالى ﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ۳ وقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَهِلِينَ ﴾ ٤ إلى غير ذلك وهو كثير وقد ظهر هذا المعنى ورُئي في الوجود حسّياً لأنه عليه السلام بيَّن طريق الهدى على حد واحد ولم يخص بذلك بعض الناس دون بعض فهدى عزّ وجلّ من شاء بفضله إلى التصديق والاتباع وخذل من شاء بعَدْلِهِ فكذَّب وأعرَض وهدى من شاء بحكمته إلى قبول البعض والإعراض عن البعض
الوجه الرابع في هذا دليل على أن للعالم أن يضرب الأمثال في تقرير الأحكام بقدر ما يفهم المخاطب ما أريد منه إذ إنه عليه السلام شبَّه نفسَه المكرَّمة بـ القاسم على ما تقدم ولهذا المعنى قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعبدنا لا بالألفاظ وكذلك قالت ذات النطاقين٥ للمؤدب حين أتته بولدها ليعلّمه القرآن أدبه وأحْسِنُ تأديبه والرحمن علم القرآن فمثل هؤلاء فهموا من هو المعطي وكيف تصريف الحكمة في الأشياء ومن غلب عليه الجهل بهذا المعنى يَنْسُب قلة حفظ الصبي للمؤدب وليس كما يزعم وإنما المانع والمعطي هو الله جل
جلاله في الأشياء كلها دِقّها وجِلَّها ٦ رزقاً كان أو علماً أو عملاً وإنما وظيفة المكلف في ذلك عمل الأسباب امتثالاً للحكمة والتعلق في حصول الفائدة بربه عزّ وجلّ
1 سورة البقرة من الاية ۷ سورة فاطر من الآية ٢٣ ۳ سورة هود من الآيتين ۱۱۸ و ۱۱۹ ٤ سورة الأنعام من الاية ٣٥
0
ذات النطاقين هي أسماء بنت أبي بكر الصديق صحابية من الفضليات اخر المهاجرين والمهاجرات ت ٧٣هـ / ٦٩٢ م وهي أخت السيدة عائشة لأبيها وأم عبد الله بن الزبير تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عدة أبناء بينهم عبد الله ثم طلقها الزبير فعاشت مع ابنها عبد الله بمكة إلى أن قتل فعميت بعد مقتله للنبي طعاماً حين هاجر إلى المدينة فلم و خبرها مع الحجاج مشهور سميت بذات النطاقين لأنها تجد ما تشده به فشقت نطاقها و شدت به الطعام لها ٥٦ حديثاً
٦ دقها وحلها صغيرها وكبيرها
١٦١
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان الأول أن الأسباب لا تأثير لها بذواتها إلا بحسب ما شاء القادر الثاني أنه لا بد من الأسباب إذ إنها أثر الحكمة وتركها مخالفة وعناد الوجه السادس لقائل أن يقول قد حضت الشريعة وندبت في أعمال البر ومن ذلك ما
نحن بسبيله وقد ذمّت الدنيا وزهدت في أسبابها وذلك كثير ومن ذلك قوله عليه السلام لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ۱ والجواب أنه لما كانت هذه الدار قد قسمت فيها الأرزاق وضمنت بمقتضى الآي والأحاديث أمر الشارع عليه السلام لأجل ذلك بالزهد في التسبب لأنه مقتضى الإيمان لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه يؤمنون بالغيب
والحرص في التسبب عاهة في الإيمان وضعف في التصديق وتعب في تحصيل حاصل والرغبة في التسبب في أعمال البر يقوى به الإيمان ويكون موافقاً ۳ لما به قد أمر ومع ذلك فرزقه قدر له في الدنيا لا بدَّ أن يأتيه حتماً لقوله عليه السلام من بدأ بحظه من آخرته نال من
الذي
آخرته ما أراده ولم يفته من دنياه ما قسم له ٤ والآي والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
والحث ٥ هنا من حقيقة الإيمان وكل ما هو من حقيقة الإيمان أو لازمه كان صاحبه مشكوراً مثوباً ومثل هذا المجتهد إذا اجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ لأنه قد بذل جهده في الأدوات فلما أخطأ لم يضيّع الله عزّ وجلّ له تعبه لأنه لم يترك من جهده شيئاً بمقتضى ما أمر بخلاف العامل بالجهل فإنه لا يُؤجر وإن أصاب الحق على أظهر الوجوه وأولاها
الوجه السابع في هذا دليل على أن الزهد لا يسهل إلا بالتقوى لأنه عليه السلام قال فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ومثل ذلك قوله تعالى وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ٦ والواو فيهما واو الحال ۷ فالأصل هو التقوى فإذا حصل ذلك حالاً أتى إذ ذاك الزهد راغباً
۱ رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين ورواه البيهقي في شعب الإيمان وقال إنه منقطع ولفظه وإن الروح الأمين نفث في روعي إن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب
سورة البقرة من الآية
۳ كذا بالتذكير ٤ لم نعرف مصدره
٥ الحث التحضيض والإعجال ويراد به هنا الرغبة في التسب
٦ سورة البقرة من الاية ۸
۷ هذا يقتضي تقدير أنتم بين الواو والفعل المضارع لأن واو الحال لا تباشره
3
١٦٢
ولأجل هذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر من غيرهم زهداً ورفضاً للتسبب لكثرة تقواهم وقد قال عليه السلام لو توكلتم على الله حَقَّ توكُلِهِ لَرَزقكم كما يرزقُ الطّيرَ تَغدو خماصاً وتَرُوحُ بطاناً ۱ مع أنه قد قال بعض من غلبت عليه شهوة الطلب في معناه إن طيران الطير في الهواء سبب في رزقه فهو تحضيض على التسبب وهذا ليس بشيء وقد أجابه بعض أهل التحقيق بجواب مقنع وهو الحق الذي لا خفاء فيه فقال طيران الطائر كحركة يد المرتعش سواء لا حكم لها
والمجاوب بهذا هو الذي فهم تخصيص الشارع عليه السلام الطير بالذكر من بين سائر الحيوانات من الوحوش والحشرات وغير ذلك لأن الوحوش والحشرات تتبع أسباب معاشها فمن كان منها يرعى تراه أبداً يتبع أرض الخصب ويترك أرض الجَدْب فلا تراها قَطُّ في أرض جَدْبَةٍ ومن كان منها يقتنص تراه أبداً يتبع أثر الصيد بالشمّ حتى يقتنصه فلما كان هؤلاء يشبهون بني ادم في التسبب عَدَل عليه السلام عن ذكرهم وذكر الطير الذي يطير في الهواء وليس في الهواء جهة تُقصد ولا حَبّ يُلتقط ولا شيء يُرعى إلا هواء وضياء ثم يمرح في ذلك ويتردد فيه حتى يؤتى به إلى رزقه أو برزقه إليه فلأجل هذا المعنى خصَّ الطير بالذكر دون غيره من الحيوانات وإن كانت الكل تغدو خماصاً وتروح بطاناً
الوجه الثامن قوله عليه السلام ولن تزال هذه الأمة الأمة هنا هل المراد بها العموم أو الخصوص محتمل للوجهين معاً
فإن كان المراد بها الخصوص فهو ظاهر من وجوه
الأول أن العرب تسمي البعض بالكل والكل بالبعض
الثاني أنه عليه السلام قد أخبر بالفتن التي تكون في آخر الزمان مِن رَفْعِ العِلم وظهور الجهل وظهور الجَوْر إلى غير ذلك مما جاء في أحاديث الفتن وكلها أخبار وما نحن بسبيله خبر والأخبار لا يدخلها نسخ فإذا حملنا الخبر الذي نحن بسبيله على الخصوص صحت الأخبار التي تعارِضُه كلها يؤيد هذا قوله عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين
۱ رواه الإمامِ أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان والخماص جمع خمصان وخمصانة وهو من كان ضامر البطن وخاليه من الطعام من شدة الجوع أو الضعف وعكسه البطان وتغدو تبكر في الذهاب وتروح تعود في المساء أحاديث آخر الزمان من رفع العلم وظهور الجهل والجور كثيرة منها ما رواه البخاري في كتاب الفتن ومسلم في العلم باب رفع العلم والإمام أحمد في ظهور الجور
١٦٣
فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ۱ فهذه الواحدة الباقية في هذا الخبر هي هذه الأمة المنصوص عليها فيما نحن بسبيله فتكون الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين هي هذه الأمة المنصوص عليها
وقد ثبت في بعض الروايات ما هو نص فيما نحن بسبيله فقال فيها لا تزال طائفة من هذه الأمة ومعنى هذا على ما قاله بعض العلماء أنه لا تزال طائفة من أهل العلم قائمين بوظيفة العلم على ما يُرضِي الله وطائفة من أهل الحقيقة كذلك وطائفة من أهل الأعمال الزاكية كذلك وكذلك في كل نوع من أنواع الخير علماً كان أو عملاً أو حالاً لا تزال طائفة من المؤمنين قائمين بذلك الشأن لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله
التي
وإن كان المراد بالأمة المذكورة العموم فوجهه ظاهر أيضاً لأن الأمة الحقيقية هي اتصفت بهذا الوصف المذكور في الحديث وهي المراد بقوله عليه السلام أُمّتي كلها في الجنة ۳ يعني الأمة الحقيقية الماشية على سَنَيْه وسُنّته وما عداهم في حكم المشيئة فمنهم من لا يكون من الأمة أصلاً وهم الذين يبدل بهم ٤ عند الخاتمة نعوذ بالله من ذلك ومنهم من يدخل في ضمن قوله عليه السلام يوم القيامة فسُحقاً فسُحقاً فسُحقاً ٥ فيكون لهم طرف من الإيمان لأنهم يحشرون بعلامة هذه الأمة عليهم
ومنهم من تناله الشفاعة بعدما ينال ما قدّر له من ذلك الأمر العظيم يدل على ذلك قوله
عليه السلام اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ٦
ومنهم من يعذب بأنواع العذاب بحسب اختلاف معاصيهم لأنه روي في غير ما حديث أن
لكل نوع من المعاصي عذاباً يخصه أو ما في معناه
۱ صحيح متواتر انظر الحديث ۳
متفق عليه
۳ رواه البخاري - كتاب الاعتصام - بلفظ كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى الخ
٤ لعله يعني تسوء عاقبتهم والعياذ بالله
0
جاء ذكر هذه الألفاظ في البخاري في حديث الذود عن الحوض وفي الرقاق وفي الأنبياء وفي بعض مواطن التفسير وكذلك في صحيح مسلم في الجنة باب فناء الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه فأقول فسُحقاً ورواية مسلم وفيه فأقول سُحقاً سُحقاً لمن بدل بعدي وأما اللفظ الثالث فلم يَرِد في كلا
الصحيحين
٦ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن جابر رضي الله عنه بلفظ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
١٦٤
الوجه التاسع في هذا دليل على أن من وجدت فيه الصفات المذكورة في هذا الحديث
ومات عليها قطع له بالسعادة حتماً للوعد الجميل ومن كان على غير الصفة المذكورة بقي في المشيئة متوقعاً لما ذكرناه من هذه الأمور الخطيرة
أيقظنا الله من سنةِ الغفلة وحملنا على سبيل الهدى بفضله
الوجه العاشر في الحديث بشارة عظيمة وأي بشارة لمن أراد الخير وصَدَق فيه لأنه عليه السلام قد أخبر أن هذه الأمة لا تزال أبداً على هذا الحال الذي أخبر به إلى يوم القيامة فعلى هذا فخيرهم متعدّ لأنه لو كان غير متعد لانقطعت آثارُهم ولكنهم يخلفون جيلاً جيلاً فمن أراد الخير وصدق فيه يُرجى له أن الله تعالى ييسر له من هذه الطائفة من يدلّه عليه ويُلهمه إليه لأن المخبر صادق والأمر كذلك فيه ولولا هذا الخير لكاد لكثرة ما ظهر من الفساد أن يَقطَع الإنسانُ بأن هذه الطريق قد انقطعت أو يقطع اليأس من نفسه بأنه لا يصل إلى هذه الطريق ولا يجد من يدلّه عليه ولا مَن يرشده إليه
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام قائمة على أمر الله قائمة يحتمل وجهين الأول أن يكون معناه مُوَفِّية لأن العرب تقول فلان قام بالأمر أي وفاه حقه الثاني أن يكون معناه ثابتة على أصولها وقد جاء ذلك في الكتاب وهو قوله تعالى ﴿ قَابِمَةً عَلَى أُصُولِهَا ﴾ ١ أي ثابتة على أصولها ۱
وقوله على أمر الله أي بأمر الله لأن العرب تبدل الحروف بعضها ببعض هذا إذا كان المراد بـ قائمة الوجه الأول وإن كان الثاني فتكون على هنا على بابها و أمر الله هنا هو اتباع ما أمر واجتناب ما نَهى على واجبه ومندوبه ولذلك أتى بلفظ الأمر الذي يحتمل الوجوب والندب وجميع محتملاته على ما هو معروف بين المتكلمين
الوجه الثاني عشر في هذا دليل على ظهور الباطل وكثرته لأنه إذا لم يكن على الحق إلا طائفة واحدة فالباقي على الضلال قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَل ٢ فإذا وجد الحق فما سواه هو الباطل وقد وصف عزّ وجلّ هذه الطائفة في كتابه حيث قال وَقَلِيلٌ مَّا هُم ٣ فإن كنت لبيباً فافزع ٤ عن الأكثر ومِل إلى الأقل تحظ بالسلامة ولهذا
۱ سورة الحشر من الآية ٥ سورة يونس من الآية ٣٢ ۳ سورة ص من الآية ٢٤ ٤ فافزع عن الأكثر انفر وابتعد
*
١٦٥
قال عليه السلام بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء من أمتي قيل يا رسول الله
ومن الغرباء من أمتك قال الذين يصلحون إذا فسد الناس ۱
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لا يضرهم من خالفهم الضر هنا يحتمل ثلاثة أوجه الأول أن يكون المراد به الأشخاص القائمين بالأمر لا يقدر أحد على ضرهم الثاني أن يكون المراد أن الضر لا يلحق فعلهم ويقبل منهم ولا ينقص لهم من أجورهم شيء إن كانوا مجاورين للمخالفين لهم ومخالطين لهم الثالث أن يكون لا يضرهم ولا يضر عملهم وهذا هو أظهر الوجوه بدليل قوله تعالى ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقوله تعالى لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُه ۳
الوجه الرابع عشر في هذا بشارة عظيمة لمن اتصف بالصفة المذكورة في هذا الحديث إذ إنه لا يخاف الضرر وإن كثر أهله فيكون أبداً مطمئنَّ النفس منشرح الصدر لأن المخبر صادق والمخبر عنه عالم قادر وقد نبه عزّ وجلّ على هذا المعنى وصرّح به في كتابه حيث قال وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كما تقدم والمؤمنون الذين أوجب لهم النصر بمجرد الفضل هم الموصوفون في هذا الحديث ولهذا قال بعض الفضلاء وهو يُمن بن رزق رحمه الله إذا وافقت الشَّريعة ولاحظت الحقيقة فلا تبال وإن خالف رأيك جميعَ الخليقة الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام حتى يأتي أمرُ الله حتى احتملت الوجهين
الأول أن تكون على بابها للغاية الثاني أن تكون بمعنى قرُبَ و أمر الله احتمل وجهين الأول أن يكون المراد به قيام الساعة الثاني أن يكون المراد به الآيات الكبار ونعني بـ الآيات الكبار هنا ما روي أنه بعد ما ينزل عيسى عليه السلام ويُحيي الله به هذا الدين ويعيش ما شاء الله بحسب ما جاء في الأحاديث ويموت ويدفن بين المسلمين ثم يبقى المسلمون بعده يسيراً ثم يقع فيهم الخلل ويكثر فإذا تفاحش ذلك فيهم يرسل الله ريحاً لينةً من تحت العرش تقبض أرواح المؤمنين ثم يرفع القرآن ولا يبقى إذ ذاك إلا الأشرار فيخرج إليهم الشيطان فيغويهم حتى يرجعوا إلى الجاهلية الأولى فإن كان المراد بـ الأمر هذا الوجه فتكون حتى على بابها للغاية وإن كان المراد به الوجه
الأول فتكون حتى بمعنى قرب كما تقدم
۱ رواه الآجري في كتاب فضل العلم بهذا اللفظ ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة المائدة من الآية ١٠٥
١٦٦
الوجه السادس عشر في هذا دليل على أفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم إذ إن الله عزّ وجلّ أبقاها على دينها إلى قيام الساعة من غير أن يدخل عليها في ذلك خلل ولا تتعبد بغير ما شرع لها وغيرها من الأمم ليس كذلك لأنه لم تأتِ قط أمةٌ حتى تنقرض الأخرى
الوجه السابع عشر في هذا دليل على شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته عند ربه إذ إن تشريف أمته وتفضيلها يتضمن تشريفه من باب أولى ورفع قذره إذ إن بسببه حصلت لها هذه السعادة العظمى جَعَلَنَا الله من أمته وأسعدنا باتباع سنته إنه ولي كريم
الوجه الثامن عشر في الحديث إشارة لأهل الصوفة وهو أن أمر الله تعالى عندهم عام والمراد به الخصوص أي يختص بكل واحد بحِدَتِهِ دون مشاركة غيره وهو الموت فيكون المراد بسياق الحديث بأن يموتوا على الخير فتنشرح صدورهم للوعد الجميل وينتظرون الموت يفرحون به كالغائب يَقدُمُ على أهله
جعل الله به فَرَحَنا وجعل يومَه خَيْرَ أيامنا بِمَنّه ويُمْنِه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٦٧
حديث سؤال القبر وفتن
عن أسماء أسماء رضي شيء لم أكن أُرِيتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأُوحِيَ إِليَّ أنكم تُفْتَنون في قبوركم - مِثْلَ أو قريباً لا أدري أي ذلك قالت أسماء - من فتنة المسيح الدجال يقال ما عِلْمُك بهذا الرجل فأما المؤمنُ أو الموقنُ لا أدري أيهما قالت أسماء فيقول هو محمّد رسولُ الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتَّبعناه هو محمد ثلاثاً فيقال نَمْ صالحاً قد عَلِمْنا إنْ كنتَ لَمُوقِناً به وأما المنافقُ أو المرتابُ لا أدري أتي ذلك قالت أسماء فيقول لا أدري سمعتُ الناس يقولون شيئاً فقلته
الله عنها أن النبي حَمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من
ظاهر الحديث يدل على فتنة القبر وسؤاله والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول حمد الله فيه دليل على أن الأمور المهمة تستفتح بحَمدِ الله لأن هذا الذي استفتح عليه السلام بالحمد فيه كان أمراً مُهما عظيماً وهو أنه عليه السلام كان قد انصرف من صلاة كسوف الشمس ثم أقبل على الناس يَعِظُهم ويُذَكَّرهم وكذلك كانت سُنَّته عليه السلام في كل أمر له بال يستفتحه أولاً بالحمد وكذلك السنّة في خطبة النساء لأنه أمر له بال وقد تقرر ذلك من فعله عليه السلام ومن فعل الصحابة
الوجه الثاني قولها وأثنى عليه فيه دليل على أن الثناء بعد الحمد من السنَّة ومرغب فيه لأنه عليه السلام كان يفعل ذلك واستقر عمله وعمل الصحابة عليه هذه هي السنة فيما يخصه عليه السلام وأما غيره فلا بُدَّ له من الصلاة عليه لقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاء من بعدي ۱ والخلفاء بعده والصحابة عن آخرهم كانوا يصلون عليه بعد
الحمد والثناء على الله عزّ وجلّ
1 سبق تخريجه في الحديث ۱
١٦٨
الوجه الثالث قوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا فيه دليل على أنه عليه السلام لم يكن يرى من الغيب جميعه في الزمانِ المتقدم على هذا الموطن إلا البعض وأنه في هذا الموطن تكملت له الرؤية لتلك الأشياء كلها
ويرد على هذا سؤال وهو أن يُقال ما المراد بقوله عليه السلام ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه هل المراد به جميعُ الغيوب أو المراد به ما يحتاج به الإخبارُ إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة
والجواب أن لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والظاهر منهما الوجه الأخير وهو أن يكون المراد به ما يحتاج به الإخبار إلى أمته وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة أو ما أكرمه الله بالاطلاع عليه
1,
والأول ممنوع يدل على ذلك الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى ﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله ۱ وأما الحديث فقوله عليه السلام مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم ما تَغِيضُ الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعةُ إلا الله وأنه لا يمكن أن يُحْمَل هذا على جميع الغيوب لأن ذلك يؤدي إلى استواء الخالق والمخلوق وهو مستحيل عقلاً وقد قال عزّ وجلّ في كتابه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۳ والأشياء منها ما قد وقع قبل خَلقِ بني آدم ومنها ما يقع بعد موتهم فكان ذلك مستحيلاً من طريق العقل والنقل الوجه الرابع فيه دليل على أن ما أرِيَ له عليه السلام من الغيوب فله الإخبار به وله ألا يخبر به وله أن يخبر ببعضه ولا يخبر بالبعض بخلاف الوحي فإن عليه أن يخبر به كله لأنه عليه السلام لما أُرِي له هنا ما أري أخبر ببعض ما رأى وهو الجنة والنار وسكت عن الغير ولم يكن ليفعل ذلك في الوحي إلا أن يخبر به كله كما أوحي إليه
والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه قد يكون فيما يُرى أشياء لا يمكن لأحد الاطلاع عليها ولا يقدر على ذلك إلا هو عليه السلام لِمَا أمدَّه الله به من القوة والعون بخلاف الوحي فإنه لا
يكون إلا بقدر ما تقدر الأمة على تلقيه
۱ سورة النمل من الآية ٦٥
رواه الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ سورة الرحمن من الآية ۹
١٦٩
الوجه الخامس فيه دليل على عِظم قدرة الله تعالى إذ إنه عليه السلام رأى في هذه الدار في هذا الزمن اليسير ما لم يره ليلة المعراج في العالم العلوي ومشاهدة الملكوت الوجه السادس فيه دليل على أن القدرة لا تتوقف على ممكن لأنه عليه السلام رأى في
هذا الزمن اليسير أموراً عظاماً ثم عَقَلَها جميعها مع إبقاء أوصاف البشرية عليه الوجه السابع قوله عليه السلام حتى الجنّة والنّار هذا اللفظ محتمل لوجهين الأول أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بأنه عاين كلَّ ما يَلْقَوْن بعد خروجهم من هذه الدار حتى يستقروا في الجنة والنار الثاني أن يكون عليه السلام أراد أن يخبرهم بعظم ما رأى من أمور الغيب فذكر الجنة والنار تنبيهاً على ذلك لأن الجنة قد رُوي أن سقفها عرش الرحمن والنار في أسفل السافلين تحت البحر الأعظم فإذا رأى هذين الطرفين فمن باب أولى أن يرى ما بينهما
الوجه الثامن فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان
حقيقة إذ إنه عليه السلام عاينهما في هذا المقام
الوجه التاسع فيه دليل على أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هذه الدار وهي في العالم العلوي فوق السبع الطباق وسقفها عرش الرحمن - كما تقدم - محدقةٌ بالسُّور ولها شُرَفات وأبواب إلى غير ذلك مما قد علم من صفتها وعلوّها ورأى النار وهي في أسفل سافلين تحت البحر الأعظم الذي عليه قرار الأرضين - على ما قد علم - ثم مع هذا البعد والكثافة العظمى لم يحجبه شيء من ذلك عن الرؤية والمعاينة
وهي
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تُحصَر بالعقل ولا تجري على قياس لأنه عليه السلام قد رأى الجنة من هنا وعاينها وليلة أسري به لم يرها وإنما رأى سدرة المنتهى وهي ليست في الجنة - على ما سيأتي بيانه في حديث المعراج إن شاء الله - ورأى النهرين اللذين ينبعان من أصلها ويمضيان إلى الجنة - وكل هذا يأتي في حديث المعراج إن شاء الله - فكان هذا أدلَّ دليل على أن القدرة تحجب ما شاءت كان بواسطة أو بغير واسطة وتُبدي ما شاءت كان بحجاب أو بغير حجاب
الوجه الحادي عشر يترتب على فائدة الإخبار بهذا ترك الالتفات للعوائد وتقوية الإيمان وترك الهم والفرح لإصابة شيء أو ذهابه إذا تحقق المرء بعظم القدرة التي هو صادر عنها فينشرح صدر المؤمن إذ ذاك للتعلق بجناب مولاه وعدم الالتفات إلى ما سواه وتكون يده لا تعويل عليها فيما يتصرف فيه من الأشياء إبقاء لأثر الحكمة
۱۷۰
الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام تفتنون في قبوركم تفتنون بمعنى رون قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
١ أي
لا يُخْتَبَرون لكن الاختبار هنا بوجه خاص كما أخبر في باقي الحديث على ما سيأتي بيانه الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن الله عزّ وجلّ قد عافى نبيَّه عليه السلام من فتنة القبر وأكرمه بذلك لأن قوله عليه السلام تُفتَنُون خطاب مواجهة فلم يكن هو عليه السلام داخلاً في الخطاب ولو كان داخلاً مع أمته في ذلك لقال نُفَتَنُ في قبورنا يزيد هذا إيضاحاً وبياناً قوله عليه السلام في باقي الحديث يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل ولا يمكن أن يسأل عن نفسه المكرمة
فإن قال قائل لعل أن تكون له فتنة خاصة به ليست على هذه الصيغة
قيل له لو كانت له فتنة خاصة لذكرها وبينها ليسلي أمته بذلك ويهون عليهم ما هم إليه سائرون كما فعل عليه السلام ذلك في غير ما موضع فمن ذلك قوله عليه السلام لِيُعَزَّى المسلمون في مصابهم المصيبة بي ۳ ومن ذلك قوله عليه السلام لفاطمة حين قالت واگرْباهُ فقال لا كَرْبَ على أبيكِ بعد اليوم ۳
ومن ذلك إخباره عليه السلام عن نفسه المكرمة بأنه يصعق يوم القيامة فيمن يصعق ثم يفيق من تلك الصَّعقة ويكون هو أول من يُفيق فيجد موسى عليه السلام متعلقاً بساق العرش لا يدري ري أَصَعِق فيمن صَعِق ٤ وقام قبله أم لم يصبه شيء إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى فلو كانت له عليه السلام فتنةٌ تخصّه لما ترك ذكرها كما لم يترك ذكر ما أشرنا إليه ولأن في ذكره لذلك لطفاً بأمته وتهويناً عليهم فيما بين أيديهم - كما تقدم - وكان عليه السلام ينظر أبداً ما هو أحسن لهم فيفعله لأنه كان بالمؤمنين رحيماً
الوجه الرابع عشر هذه الفتنة هل هي عامة في الخلق كلهم صغاراً وكباراً أو هي مختصة
1 سورة العنكبوت الآيتان ۱ -
نص الحديث عن سعد بن سهل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيُعَزّي الناس بعضهم بعضاً من بعدي إلى آخر الحديث رواه أبو يعلى في المسند والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان والمسلمون نائب فاعل للفعل المبني للمجهول يعزّى و المصيبة مفعول مطلق للمصدر مُصاب ۳ رواه البخاري في المغازي باب مرض النبي لا الهلال و الإمام أحمد في المسند وابن ماجه والنسائي عن أنس رضي عنه بلفظ لما ثقل رسول الله الله عن العمل لم يتغشاه الكزب فقالت فاطمة واكَرْبَ أبتاه فقال ليس على أبيك كَرْبُ
الله
بعد اليوم الخ ٤ صعقة النبي صلى الله عليه وسلم و رواها البخاري في كتاب الخصومات وفي الأنبياء ورواها مسلم في الفضائل في حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه
۱۷۱
بمن بلغ التكليف دون غيره لفظ الحديث محتمل للوجهين معاً والأظهر من الوجهين العموم لأنه عليه السلام قد صلى على صبي ودعا له بأن يعافيه الله من فتنة القبر فلو لم تكن الفتنة عامة لما صح أن يدعو له بذلك
الوجه الخامس عشر إذا كانت الفتنة عامة هل ۱ هي على حد سواء للصغير والكبير أو تختلف محتمل للوجهين معاً لأن القدرة صالحة لكليهما وأمور الآخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما هي موقوفة على إخبار الشارع عليه السلام ومسألتنا هذه لم يرد فيها نص فيتعين فيها
هي
الإيمان بالفتنة مطلقاً والتعيين فيما نص عليه وعدم التعيين فيما لم ينص عليه وتركه للاحتمال
الوجه السادس عشر فيه دليل على رد الأرواح إلى الأجساد في القبور لأن الفتنة لا تكون إلا للحيّ وأما الميت فلا يتأتى أن يُفتَن لأنه لا يفهم ولا يعقل ولا يُحِس بألم ولا تنعم وهذه الحياة التي في القبر والموتة التي تكون بعدها هي إحدى الحياتين وإحدى الموتتين اللتين أخبر بهما عزّ وجلّ في كتابه حيث قال رَبَّنَا أَمَتَنَا اثنين وأحييتنَا اثْنَتَين على ما قاله بعض العلماء ﴾
الوجه السابع عشر في هذا دليل على عِظم قدرة الله تعالى وأنه لا يعجزها ممكن نحو ما تقدم لأن الحي أبداً مهما أهيل عليه شيء من تراب ينطفىء ويموت وهو الآن يحيا تحت التراب ولا يضُرّه وهذا مما يجب الإيمان به على ما جاء الخَبَر ويُترك الالتفات للكيفية لأنه من جملة الغيوب والله عزّ وجلّ يقول في صفة المؤمنين يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ
الوجه الثامن عشر قوله عليه السلام مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدجال مثل أو قريباً شك من الراوي الذي روى عن أسماء في أيهما قالت وفيه دليل على تَحَرّيهم في النقل وصدقهم لأنه لما أن أشكل عليه ما قالت أسماء أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به
الوجه التاسع عشر تمثيله عليه السلام فتنة القبر بفتنة المسيح الدجال تحتمل وجهين الأول أن يكون مثل بها لِعَظَمِها إذ إنه ليس في الدنيا فتنة أعظم منها أعاذنا الله منها بمنّه
الثاني أن يكون مثل بها تنبيهاً منه عليه السلام على حال المنافق أو المرتاب في قصر العلة وذلك أن الدجال يَدَّعي الربوبية ويستدل عليها بأشياء منها أنه يُحْيِي وَيُمِيت ومنها أنه يسير لِسَيْره مِثلُ الجنة عن يمينه ومثل النار عن يساره ومنها أن أموال من يأبى عن اتباعه تَتْبَعُهُ إلى غير ذلك مما جاء في عظم فتنته وبعد هذا كله ذاتُه تكذب كلَّ ما اسْتَدَلَّ به لأنه أعور
1 كذا بحذف الفاء قبل هل سورة غافر من الاية ١١
ومركوبه أعور فلم تعطه قدرته أن يحسّن خَلْق نفسه ولا خَلْق مركوبه ثم بعد ذلك يَنْزِل عيسى عليه السلام فيقتله بحربته حتى يُرى دمه في الحربة فلو كان إلها لدفع النقص والهلاك عن نفسه والمنافق أو المرتاب أشبه في هذا المعنى لأنه أظهر الإيمان في الدنيا وتلبس به في الظاهر ولم يكمل ما شرط عليه فيه فإذا احتاج إلى الإيمان واضطر إليه لم ينفعه فأشبَهَ الدجال في علته القاصرة ولحوق الهلاك به
وقد يحتمل أن يكون عليه السلام مثل به تنبيهاً على هذين الوجهين معاً وهو الأظهر والله أعلم لأنه أجمع للفائدة
الوجه العشرون قوله عليه السلام يقال ما عِلْمُكَ بهذا الرجل هذا الرجل المراد به ذاتُ النبي ورؤيتها بالعين وفي هذا دليل على عِظَم قدرة الله تعالى إذ الناس يموتون في الزمان الفرد في أقطار الأرض على اختلافها وبعدها وقربها كلهم يراه عليه السلام قريباً لأن لفظ هذا لا تستعمله العرب إلا في القريب
في
الوجه الواحد والعشرون في هذا ردّ على من يقول بأن رؤية ذات النبي في الزمن الفرد أقطار مختلفة على صور مختلفة لا تمكن لأن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله وقد قال عليه السلام من راني في المنام فقد راني حقاً ۱ فمَن يقول بعدم الرؤية فقد كذب هذا الحديث وقد حَصَرَ القدرة التي لا تُحصَر ولا ترجع إلى حد ولا إلى قياس
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل لمن يقول بأن رؤية النبي الله في الزمن الفرد في أقطار مختلفة سائغة ممكنة فدليلهم من طريق النقل ما نحن بسبيله ودليلهم من طريق العقل أنهم جعلوا ذاته السنية كالمراة كل إنسان يرى فيها صورته على ما هي عليه من حسن أو قبح والمراة على حالها من الحسن لم تتبدل
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الإبهام عند الاختبار من الشدة في الامتحان لأنهما عدلا عن ذكر الاسم المعلوم بالإشارة إلى الذات المكرمة وعدلا عن ذكر الإيمان إلى ذكر العلم فكان ذلك إبهاماً على إبهام كل ذلك شدة في الامتحان ولو لم يريدا شدّة الامتحان بذلك لقالا له كيف إيمانك بمحمد هذا فيكون أخفَّ عليه بل فيه شَبَه من تلقين الحُجَّة
نسأل الله أن يلهمنا الحجة عند عِظَم هذا الامتحان
1 رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر
جاء في نسخة باريس ما يلي ومنهم من جعلها كالشمس وهو أولى لأنها تُرى من جميع أقطار الدنيا وهي
ني محل واحد
۱۷۳
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل لما قدمناه من أن الجواهر لا تَحجُب بذواتها لأن الناس كلهم يرون النبي الله وهم في بطون الثرى ويُسألون عنه والثرى أكثر كثافةً من الجواهر كلها وكلهم يرونه قريباً متدانياً لأن هذا لا تستعمل إلا للقريب المتداني الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على صحة كرامة الأولياء في اطلاعهم على الأشياء البعيدة يرونها رؤية العين قريبة منهم ويخطون الخطوات اليسيرة فيقطعون بها الأرض الطويلة لأن القدرة صالحة لكل ذلك ولهذا قال بعضهم الدنيا خطوة مؤمن ومثل هذا اطلاعهم على القلوب مع كثافة الأبدان
وقد حكي عن بعض الفضلاء منهم في هذا الشأن أنه اجتمع مع بعض إخوانه بموضع وكان في القوم رجل من العوام ليس منهم فاطلع بعض إخوانه على قلب ذلك الرجل فرأى شيئاً منه لا يعجبه فخرج عنهم فخرج إليه هذا السيد المتمكن فقال له ارجع ما رأيتَ فقد راه غيرُك وإن لم يُحمل هذا هنا فأين يُحمَل فرَدَّه من طريق الفتوة ١ الوجه السادس والعشرون فيه تفسير وبيان وإيضاح لأحاديث ومسائل جملة تُشْكِلُ على
بعض الناس عند سماعها
فمن ذلك ما رُوي في الموت أنه يُعرَضُ يوم القيامة على أهل الدارَيْن ويعرفونه ومن ذلك معرفة المؤمنين ربهم عزّ وجلّ يوم القيامة حين يَتَجلَّى لهم ويقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ولم يتقدم لأكثرهم رؤيته عزّ وجلّ ولا معرفته
ومن ذلك ما يتفق لبعض الأولياء من معرفتهم ببعض المسائل الفقهية من غير أن يتقدّم لهم بها علم ثم يجدون ذلك موافقاً للعلم المنقول سواء بسواء إلى غير ذلك مما يشبه هذا المعنى وهذا كله في القدرة مع هذه القاعدة التي تقدم ذكرها لا إشكال فيه لأن القدرة تصنع ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السابع والعشرون قوله فأما المؤمن أو الموقن هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قالت أسماء وفيه دليل على ما تقدم من صدقهم وتحريهم في النقل والمؤمن والموقن صفتان متقاربتان على ما سيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثامن والعشرون قوله فيقول هو محمّد رسول الله جاءنا بالبيناتِ والهُدى فأجبناه واتَّبَعناه وهو محمّد ثلاثاً هذا جواب أجلَّ ما يُمكن من المعرفة والإيمان لأنهم أخبروا
۱ الفتوة ـ هنا - بمعنى المكاشفة القلبية
١٧٤
باسمه عليه السلام وشهدوا له بالرسالة وبالهدى وبالبينات وادعوا أنهم أجابوا لذلك واتبعوا وهذا غاية ما يمكنُ البشر في الفعل والجواب ثم مع هذا الجواب المقنع لم يُقنَع منهم بالجواب مرة واحدة حتى أعادوها ثلاثاً
الوجه التاسع والعشرون يَرِدُ على هذا سؤال وهو أن يقال إعادتهم السؤال ثلاثاً هل هو تعبد أو معقول المعنى والجواب أنه محتمل لهما معاً فإن قلنا بالتعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فهو ظاهر من طريق العقل والنقل
أما العقل فلأن من فعل شيئاً وأتقنه مرة واحدة لم ينسب بفعله ذلك لا إلى صنعة ولا إلى إتقان لأن الواحدة قد تكون بحكم الوفاق والاثنين كذلك محتملان فإذا فعل ذلك ثلاثاً نُسِب إلى حسن الصنعة والإتقان في ذلك الشيء الذي فعل لأنه لا يمكن أن يقع الشيء في الغالب ثلاث مرات حَسَناً إلا عن تدريب به ومعرفة
ومثال ذلك الرامي إن رمى أولاً فأصاب فإنه لا يحسب رامياً إذ إنها قد تكون وفاقاً وكذلك في المرتين فقد تكونان وفاقاً فإن كرر ذلك ثلاثاً عُلم أنه لم يصب إلا لمعرفته وحسن صنعته لأن الثلاثة في الغالب لا تكون وفاقاً
وأما النقل فلأنه عليه السلام كان أبداً يكرر السؤال ثلاثاً في كل أمر ذي بال وهذا أمر له خطر وبَالٌ فكان التكرار فيه ثلاثاً
الوجه الثلاثون في هذا دليل على أن الأحكام في الآخرة جارية على مقتضى الأصول الشرعية
في هذه الدار
الوجه الحادي والثلاثون تكرار هذه الثلاث هل المراد به تكرار الجواب فقط فيكون الملكان عليهما السلام سألاه مرة واحدة وأجاب هو ثلاث مرات أو المراد به تكرار السؤال
والجواب
محتمل لهما معاً لكن ظاهر اللفظ ينص على أن المراد السؤال والجواب معاً لأنه ذكر السؤال والجواب ثم بعد ذلك قال ثلاثاً فدل على أن ما ذكر قبل ذكر الثلاث يُعاد بِرُمَّتِهِ ۱ الوجه الثاني والثلاثون في هذا دليل على أن الحق لا يتبدل وإن امتُحِنَ صاحبه به مراراً
۱ في حاشية نسخة باريس ما يلي قال محشيه قلت أفاد هذا أن الذي تكرر ثلاثاً هو لفظ محمد وظاهره أن السؤال لا يتكرر وكذا الجواب وإنما المكرر هذا اللفظ فقط فقوله ثلاثاً معمول لـ يقول لكنه قيد في قوله هو محمد خلافاً لما
قيده كلام الشارح
۱۷۵
لأنه لَمَّا أن كان هذا المسؤول على الحق وأعيد عليه السؤال ثلاثاً لم ينزع عن الجواب وبقي متمسكاً به لمعرفته وتحققه ولو كان الجواب بالباطل لدهش عند السؤال الثاني أو الثالث ونزع عنه خيفة أن يكون لم يصب الحق فيكون إعادة السؤال لأجل ذلك وقد قال عزّ وجلّ في كتابه وَلَوْ ولو كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فما كان من عند الله فهو حق والحق لا
خلاف فيه ولا يتبدل
الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على أن المَيْزَ ۳ خَلَقٌ من خَلقِ الله يعطيه عزّ وجلّ من شاء بمقدمة وبغير مقدمة لأن أكثر هذه الأمة لم يتضلع بالعلوم حتى يعلم ذات النبي و لا الله وصفاته بالعلم وإنما ذلك القليل منهم ثم مع الجهل بصفته وذاته إذا رأوه يقولون هو محمد ويكرر عليهم السؤال ثلاثاً ثم لم ينزعوا عن ذلك ويعرفون أنه الحق وهذا أدل دليل على ما قدمناه من رفع الإشكال في بعض الأحاديث وبعض المسائل وكذلك أيضاً في الآي إذ إن القدرة صالحة بمقتضى ما نحن بسبيله لكل ما ورد من ذلك
الوجه الرابع والثلاثون في هذا دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الجهل ببعض صفات الباري - عزّ وجلّ - مع اتباع أمره ونهيه لا يضرّ وأن معرفته عزّ وجلّ بالدليل والبرهان مع ترك الاتباع لأمره ونهيه لا تنفع لأن المؤمنين كلهم مَن عَرَف منهم صفة النبي لا الله ولو لمن لم يعرفها إذا رأوه عرفوه أشد المعرفة لأنهم يُسألون عنه ثلاث مرات وهم يجيبون بأنه هو محمّد رسول الله ه و لو لم ينزعوا عن ذلك
6
ومن المنافقين أو المرتابين من راه عليه السلام في الدنيا وعرفه بحقيقة المعرفة ثم عند فائدة المعرفة تنكرت المعرفة عليه وما ذاك إلا لأن المؤمنين كانوا متبعين لسنته والمنافقين لم يتبعوها فعاد عليهم العلم جهلاً فهل من مستيقظ من غفلته مشمّر عن ساق صدقه ليسلكَ
محجة خلاصه
الوجه الخامس والثلاثون قوله فيقال له نَمْ صالحاً النوم حقيقة ويحتمل أن يكون مجازاً
هنا يحتمل أن يكون
فإن كان حقيقة فيكون فيه دليل على أن النفس تبقى في القبر مع الجسد هذا على قول من
١ لم ينزع عن الجواب لم يكفّ أو ظل على جوابه ولم يغيّره
سورة النساء من الاية ۸
۳ الميز التمييز والفرز يقال مازه فرزه ويراد منه النور الذي يعطيه الله تعالى لعبده يعرف فيه رسول الله له
كما يعرفه النائم في رؤيا صالحة
١٧٦
يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمَّتَيْنِ مختَلِفَينِ والذين يقولون بهذا يقولون بأن النائم تقبض روحه وتبقى نفسه في الجسد فإذا أراد عزّ وجلّ أن يميته وهو نائم قبض الذي في الجسد فألحقه بالمقبوض وإن أراد بقاءه ردّ المقبوض إلى الجسد فرجع نَبهان حياً ولا تقبض الروح والنفس معاً إلا عند الانتقال من هذه الدار وعلى هذا حملوا قوله عزّ وجلّ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخـ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ١
فإذا كان المراد بالنوم هذا وهو النوم الحقيقي الذي يعهد في دار الدنيا فيكون فيه دليل على أن الموتة التي في القبر لا يوجد لها ألم كما يوجد في هذه الدار إذ إن النائم لا تعب عليه في نومه بل هو راحة له ورحمة هذا البحث فيه على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لِمُسَمَّيين مختلفين
وأما على قول من يقول بأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد فليس يكون النوم حقيقة وإنما هو موت فكنيا عنه بالنوم وهي إحدى الموتات المتقدم ذكرها وإنما عدلا عن الحقيقة إلى المجاز ليُحسنا له في العبارة لئلا يلحقه رعب لأن الميت يلحقه التنغيص والتألم عند موته والنائم لا يلحقه تألم ولا تشويش فهذا كناية منهم على أنه لا تعب عليه بعد هذا الوجه السادس والثلاثون الصلاح هنا يحتمل أن يكون مجهولاً لا يُعرف ويحتمل أن يكون معروفاً
أما الاحتمال الأول فهو ظاهر الحديث لأنه أتى بالصلاح منكراً فهو لا يُعْرَف وأما الاحتمال الثاني فقد تؤخذ معرفة الصلاح المذكور هنا من حديث آخر قال فيه إنهما يَفْتَحان له كُوَّةً عند رأسه إلى الجنة وكُوَّةً عند رجليه إلى النار ويرى مقعده من النار الذي عافاه الله منه وأعطاه إلى الكفار ويرى مقعده من الجنة الذي مَنّ الله عليه به ثم يقولان له من هذا عافاك الله يا وَليَّ الله - يعنيان الكُوَّةَ التي إلى النار - ثم يُغلقانها ويقولان له هذا ما وَعَدَك الله يا وَلِيَّ الله - يعنيان ما رأى له في الجنة - ويُبقيان له الكوَّة التي إلى الجنة يدخل عليه مِن عَرْفها ونعيمها إلى القيامة ثم يُفسح له في قبره مدى بَصَره ۳ وكفى بهذا صلاحاً والأحاديث في هذا المعنى
يوم
كثيرة ومتعددة
۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
٢ كذا والصواب منهما والضمير عائد على الملكين المذكورين في الوجه الحادي والثلاثين ۳ مركب من أحاديث عدة رواها مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار ورواها الترمذي في كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى
۱۷۷
الوجه السابع والثلاثون قوله قد علمنا العلم هنا يحتمل أن يكون المراد به علم
الحال الذي يقع عليه الجزاء ويحتمل أن يكون المراد به ما عَلِماه من طريق الغيب فيكونان يعرفان المؤمن والكافر حين يعاينانه والأظهر من هذين الاحتمالين الأول للقرينة التي قارنته وهو سؤالهما ثلاثاً ثم بعد الثلاث يقولان قد علمنا وهذا يدل على أن المراد علم الحال الذي يقع عليه الجزاء وهذا مثل قوله تعالى ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ١ وهو عزّ وجلّ قد عَلِمَ الصادق والكاذب قبل وقد كتب في اللوح المحفوظ قبل خلقه وعِلْمُ الله تعالى لا يتجدد لكن هذا العلم المراد به العلمُ الذي يقع عليه الجزاء وتنقله الحفظة بالضبط والشهادة على ما قاله العلماء وما نحن بسبيله مثله
الوجه الثامن والثلاثون قوله إن كنت يريدان فيما سلف من دار الدنيا لأنهما لو أرادا في الوقت لقالا إنك
الوجه التاسع والثلاثون في هذا دليل على جواز الحكم بالشاهد على الغائب لأنهما عرفا من حاله كيف كان في دار الدنيا ويُستَدَلّ بحُسْنِ المقال على حُسْن الحال في الدنيا لأن بحُسن مقاله استدلا على حسنِ حاله في الدنيا لكن هذا لا يمكن إلا إذا قامت قرينة لا يمكن معها التزوير الوجه الأربعون قوله لَمُوقِناً به إنما ذكر الموقن لأن الموقن أعلى من المؤمن فكل موقن مؤمن ولا ينعكس
الوجه الحادي والأربعون في هذا دليل على أن الموقنين محفوظون في الجواب عند السؤال وأنهم يَخْلُصون من الفتنة التي تطرأ عليهم في هذا الموطن وأما المؤمن فسيأتي بيانه في باقي الحديث إن شاء الله
الوجه الثاني والأربعون قوله وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أي ذلك قالت أسماء المنافق والمرتاب متقاربان في المعنى لأن كليهما صاحبه مُظهِرُ للإيمان مُسِرٌّ للكفر وفيه دليل على تحريهم في النقل وصدقهم كما تقدم الوجه الثالث والأربعون قوله فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيه دليل على أن اتباعَ الناس دون علم مهلك لأن السبب المهلك لهذا أن جَعَل دينه تبعاً للناس من غير علم ولا معرفة فالعاقل يأخذ دينه من القواعد الشرعية التي بها الخلاص كما تقدم للناجي قبل الوجه الرابع والأربعون لقائل أن يقول لِمَ ذكر عليه السلام هذا الطرف وهو الهالك
وذكر الطرف الآخر وهو الناجي وسكت عن الطرف الوسط والجواب
۱ سورة العنكبوت من الآية
۱۷۸
أنه إذا وُجِد حُكْمان منوطان بعلتين مختلفتين ثم وُجِدَت تانك العلتان في شيء واحد مجتمعتين فلا بدَّ من أثر الحُكْمين أن يظهر في ذلك الشيء ومثل هذا ما قاله بعض العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالُ ۱ أنهم هم الذين خرجوا إلى الغَزْوِ بغير إذن أبويهم
فاستشهدوا فالشهادة تَمْنَعهم من دخول النار وعقوق الوالدين يمنعهم من دخول الجنة
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما حكي عن بعض الصالحين أنه كان خطيباً بأحد الأمصار بجامعها الأعظم فلما انتقل راه صاحب له في النوم فسأله ما فَعَل بك الملكان في القبر فقال سألاني فأُرْتِجَ عَلَيَّ ٢ فلم أذرِ ما أجاوبهما فبقيت متحيراً ساعة فإذا أنا بشاب حَسَنِ الصورة قد خرج من جانب القبر فلقنني الحُجَّة فلما جاوبتهما وذهبا عني أراد أن ينصرف فتعلقتُ به فقلت له من أنتَ يرحمك الله الذي أغاثني الله بك فقال أنا عملك قلت وما أبطأك عني حتى بقيتُ متحيراً في أمري فقال لي كنتَ تأخذ أجرةَ الخَطابة من السَّلْطنة فقلت والله ما أكلتُ منها شيئاً وإنما كنتُ أتصدَّقُ بها فقال لي لو أكلتها ما أتيتُك ولأَخْذِكَ إياها أُبطأتُ عنك
فتبين بهذا ما ذكرناه من أن العلتين إذا اجتمعتا في الشيء الواحد يظهر حكمهما لأنه لما أخذ بَطَأَ ۳ عنه ولما لم يأكل أتاه بعد البطء فحصل له من أجل الأخذ رجفة ومن أجل عدم الأكل والتصرف إعانة ورحمة وعلى هذا فقس
هما الوجه الخامس والأربعون لما بيَّن حكم الموقن أو المؤمن الكامل الإيمان اللذين متقاربان بقي الإيمان الضعيف الذي هو مختلط فقد يكون بعض الناس تغلب حسناته سيئاته وقد يكون بعضهم بالعكس وقد يكون بعضهم بالسَّوِية ثم يتفاوتون في ذلك بحسب الأحوال والأعمال فأحوالهم بالنظر إلى هذا المعنى كثيرة متعددة فلو ذكره لاحتاج أن يبيّن كل شخص بِحِدَتِهِ كيف تكون فتنته وكيف يكون جوابه وكيف يكون خلاصه أو هلاكه فيَطول الكلام في ذلك أكثر ما يكون بل إنه قد لا يُحْصَرُ لكثرة اختلاف الأحوال فذكر عليه السلام الطرفَينِ وبين حكميْهما اللذين هما محصوران وترك الطريق الوسط لكثرته يُؤخَذُ بالاستقراء وهذا أبدعُ ما يمكن من الاختصار والفصاحة وحسن الإدراك في العبارة إذ إنه ذكر الطرفين وبيّن علتَهما وعلتُهما إذا تؤملت تدل على أحوال الغير
۱ سورة الأعراف من الآية ٤٦
أَرْتِج عَلَيَّ أغلق عَلَيَّ باب النطق أو التفكير من رَبَّجَ الباب أي أغَلَقَه
۳ الصواب بَطُوَ أو أبطأ
۱۷۹
فإن قال قائل إنما ذكر عليه السلام المؤمن على الإطلاق ولم يقيده فلِمَ قيَّدتموه بصفة وهي الكمال
قيل له إنما قيدناه بصفة الكمال لأنه قد سوّى في الإخبار بين الإيمان واليقين واليقين أعلى من الإيمان الكامل على ما تقرر وعُلِم ولا يمكن أن يُسَوَّى في الإخبار بين ناقص وكامل وإنما يُسَوَّى بين صفتين متماثلتين أو متقاربتين وقد تقدم أن الإيمان الكامل يقارب اليقين وقد نص عليه السلام على أن المؤمنَ الناقص الإيمان لا بد له من العذاب في الغالب فكيف يقع له الخلاص هنا وهو بعدُ يُعَذَّب والنص الذي ورد في ذلك ما روي عنه عليه السلام أنه قال الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النارَ وإيمان لا يُخَلَّدُ صاحبه في النار ۱ فالإيمان الذي لا يُدخل صاحبَه النار هو الإيمان الكامل وصاحبه هو الذي يقع منه الجواب عند السؤال بصيغة ما ذكر في الحديث والإيمان الذي لا يخلد صاحبه في النار هو الإيمان الذي يكون معه بعض
المخالفات
الوجه السادس والأربعون يترتب على مجموع هذا الحديث من الفقه وجهان الأول تقوية الإيمان ورسوخ اليقين لكثرة ما فيه من الأدلة على عظم القدرة وعِظَمِ القادر كما تقدم في غير ما موضع قبل هذا الثاني أخذ الأهبة للارتحال والأخذ بطريق الخلاص والعمل على ذلك ما دام المرء
يجد لنفسه مهلة في هذه الدار لكثرة ما فيه من الإخبار والتبيين لطرق الخلاص وغيرها فهل من مُشَمِّرِ لخلاص نفسه قبل حلوله في رَمْسِه لأنه لا ينفع الاعتذار مع تقدم الإنذار وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۱۸۰
حديث أسعد الناس من قال لا إله إلا الله
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قال قلتُ يا رسول الله مَنْ أَسعَدُ الناسِ بشفاعتك يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد ظَنَنْتُ - يا أبا هريرةَ ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك لِمَا رأيتُ من حَرصِكَ على الحديث أسْعَدُ الناس بشفاعتي يومَ القيامة من قال لا إله إلا الله خالِصاً من قلبه أو نفسه
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يَسْعَد بشفاعة النبي ل ا ل ل له يوم القيامة إلا من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على تقديم ذكر المسؤول على المسألة وإذا كانت أسماء المسؤول متعددة فَلْيُذكَر منها أعلاها وأحبّها إلى الشخص إذا كان ذلك الاسم على لسان العلم لأن هذا الصحابي رضي الله عنه لما أن أراد أن يسأل النبي لم يسأله حتى ناداه باسمه ولما كانت أسماؤه عليه السلام متعددة ناداه بأعلاها وأحبّها إليه وهو رسول
الله
الوجه الثاني في هذا دليل على ترك الدعاء والتملُّق عند السؤال لأنه لم يذكر بعد الاسم المعظم إلا حاجته دون دعاء ولا تملُّق
الوجه الثالث فيه دليل على أن حبّ الرسول عليه السلام بالاتباع دون المقال لأن هذا الصحابي رضي الله عنه كثيرُ الحب للرسول صلى الله عليه وسلم - على ما قد تقرر وعُلِم - وكان في الاتباع بحيث لا يُجْهَل ذلك منه لكنه لما نادى النبيَّ لا الهلال و هنا لم يزد على الاسم المعلوم شيئاً والصحابة عن آخرهم مثله في هذا المعنى وهم المهاجرون والأنصار والصفوة المحبّون ثم مع تأكد هذه المحبة لم يأتِ عن واحد منهم أنه أطراه يوماً واحداً ولم يقصروا في تعظيمه وترفيعه على ما قد عُلِم بالضَّرورة من أحوالهم
۱۸۱
الوجه الرابع فيه دليل لأهل الصوفة حيث يستحبون استفتاح الكلام بذكر الحبيب ويقولون
بان استفتاح الكلام بذلك يُنوِّرُ القلب ويهدي إلى الصراط المستقيم ويأتي بالفوائد دوماً لأنه لما أن نادى أولاً بأحب الأسماء إليه أثمر له ذلك تضعيف المسرّة
وبالمسرات يجيء والبشارة على ما سيأتي
يزيد هذا إيضاحاً وبياناً ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رجله ألم فلم يستطع مدها فاشتكى ذلك إلى الطبيب فقال له الطبيب لا تمدَّ يدَك أو رجلك حتى تنادِي بأحبّ الأسماء إليك فنادى وامُحَمَّداه فامتدَّتْ يَدُه
الوجه الخامس قوله رضي الله عنه مَنْ أسعَدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة فيه دليل على أن مِن أدب العلمِ حُسْنَ السؤال لأنه سأل عن الشفاعة ولم يذكر ما عنده من خبرها وما وقع
له من النظر والتردد حتى اضطر إلى ذكرها
الوجه السادس لقائل أن يقول لمَ قال من أسعد ولم يقل مَن هم أهلُ شفاعتك والجواب أن هؤلاء المشفوع فيهم يوم القيامة أصناف مختلفة فمنهم المؤمنون المذنبون ومنهم الكفار والمنافقون - على ما سيأتي بيانه - والمنافقون في الدَّرْكِ الأسفل من النار والمؤمنون المذنبون يدخلون النار بذنوبهم فمنهم من يخرج منها بعد القصاص بغير شفاعة ومنهم من يخرج بالشفاعة فمن شُفع له ثم عُذِّب لم تحصل له سعادة تامة وإنما حصلت له سعادة خاصة لأنه عوفي في الوقت من بلاء ثم أعقبه بعد ذلك بلاء أشد منه على ما سيأتي بيانه
وشفاعته عليه السلام على ضربين عامة وخاصة فالعامة أذكرها بعد والخاصة هي لأمته المذنبين فإذا شَفَع فيهم أخرجوا من النار وعُفي عنهم وأدخلوا الجنة هذه هي الشفاعة الخاصة والسعادة التامة فلأجل ذلك قال أسعَدُ التي هي من أحد أبنية المبالغة لأنها سعادة لا شقاء بعدها أبداً
الوجه السابع فيه دليل على قوة إيمان الصحابة وفضلهم لأنه لا يَسأل عن المسعود بالشفاعة وغير المسعود إلا من تحقق إيمانه بها وقَوِيَ تصديقه بذلك ولذلك قال عليه السلام ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وَقرَ في صدره ۱ وما وقر في صدره رضي الله عنه هو قوة الإيمان واليقين وكذلك الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم إنما فَضَلوا غيرهم بما وقر في صدورهم من ذلك وما خُذِل من خُذِل وارتدّ من ارتد إلا عند ضعف الإيمان
۱ ذكره الغزالي في الإحياء قال العراقي لم أجده مرفوعاً إنما هو عند الحكيم الترمذي من كلام بكر بن عبد الله المزني
والتصديق فيطلب إذ ذاك الكيفية فى أمور الآخرة وفي القدرة فيمرق من الدين كما يمرق السهم
من الرَّمِيَّة وهو المسكين لا يشعر بنفسه ٢ أعاذنا الله من بلائه بمنه
الوجه الثامن فيه دليل على طلب السعادة والاهتمام بها والعمل على أسبابها لأن من عرف طريق السعادة عمل عليها وترك ما عداها فلذلك سأل عنها
الوجه التاسع لقائل أن يقول لم قال الناس ولم يقل أمتك والجواب أنه إنما عدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس لأن شفاعة النبي ا و على ضربين - كما تقدم - عامة وخاصة فالعامة هي لجميع العالم من الجن والإنس للكافر والمنافق والمؤمن على ما جاء في الحديث الصحيح أن العالم يبقون في المحشر بتلك الأحوال المهلكة - التي قد نُص عليها في غير ما آية وغير ما حديث - والنار قد أحدقت من كل الجهات والشمس قد دنت منهم حتى يكون بينها قدر المِرْوَد الذي تكحل به العين رجل الرّجل على رجل المرأة ورجل المرأة على رجل وبينهم الرجل ثم لا يعرف أحدهما صاحبه
حتى قالت عائشة رضي الله عنها حين سمعت شيئاً من هذا يا رسول الله الرجال ينظرون إلى النساء ۳ قال يا عائشة الأمرُ أشدُّ من أن يُهمَّهُم ذلك ثم يغرقون من شدة ما هم فيه حتى يبلغ عَرَفهم في الأرض سبعين ذراعاً فمنهم من يُلجمه العرق ومنهم من يبلغ أذنيه ومنهم من
يبلغ عنقه ومنهم من يبلغ ثدييه ثم هم كذلك يتفاضلون في ذلك الأمر العظيم بحسب أعمالهم ثم يبقون مع شدة هذه الأهوال التي أشرنا إليها وغيرها على ما قد عُلم من الأحاديث والآي قدر ثلاثمائة سنة من أيام الدنيا لا يأتيهم خبر من السماء ولا يعرفون ماذا يُراد بهم ثم يلهمهم الله عزّ وجلّ طلب الشفاعة فيأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون له يا ادم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجَدَ لك ملائِكَتَه ألا ترى إلى ما نحن فيه اشفع لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر آدم عليه السلام خطيئَته فيبكي ويقول نَفْسِي نفسِي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
نوح عليه السلام
فيذهبون إلى نوح عليه السلام فيقولون له أنت أول الأنبياء والرسل وقد سمّاك الله عبداً
1 الرَّمِيَّة الصَّيد الذي ترميه
وهو الذي يتساءل ويتشكك - من خلال ضعف إيمانه ـ عن أمور الآخرة وعن قدرة الله تعالى خلافاً لمن كمل
إيمانه أو بلغ اليقين وانقطع تساؤله وانعدم شكه ۳ متفق عليه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها
۱۸۳
شكوراً ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشْفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار فيذكر نوح عليه السلام خطيئته وهي دعاؤه على قومه فيبكي ويقول نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون له مثل مقالتهم الأولى فيجاوبهم عليه السلام كجوابهم ثم يرسلهم إلى موسى عليه السلام فيكون سؤالهم وجواب موسى عليه السلام
كما كان السؤال والجواب الأول ثم يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيقول لهم مثل الأول
ثم يرسلهم إلى محمّد عليه الصلاة والسلام فيقولون له أنت حَبيبُ الله وصَفوتُه من خَلقه وقد أنزل عليك كتابه الحكيم وقد خصك بالفضل العميم ألا ترى إلى ما نحن فيه اِشفَعْ لنا إلى ربنا فمن كان من أهل الجنة مرَّ إلى الجنة ومن كان من أهل النار مرّ إلى النار
فيقول أنا لها فيقوم في الشفاعة فَيَشفَع - على ما جاء في الحديث - فيأمر الله عزّ وجلّ بالفصل بين العباد ويُنصَب الصِّراط على متن جهنم ويوضع الميزان ويقع الحساب فهذه هي الشفاعة العامة التي ينتفع بها كل العالم من الجن والإنس والحشرات فلأجل ذلك عَدل عن ذكر الأمة إلى ذكر الناس وأما الشفاعة الخاصة فقد تقدم بيانها ٢
الوجه العاشر في هذا دليل على أن السؤال بالجنس ۳ أفيد من السؤال بالنوع لأنه رضي يعلم أن أسعد الناس بالشفاعة من أمة النبي المؤمنون ثم عدل مع علمه بذلك لذكر الجنس لاحتمال أن يكون ثَمَّ حُكم آخر لا يعرفه فلما أُخبِر بالأمر على ما هو عليه رجع
الله عنه
له ذلك حكماً قطعياً لا احتمال فيه
الوجه الحادي عشر في هذا دليل على أن أمور الاخرة لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس والاجتهاد لأنه رضي ! الله عنه قد علم الشفاعتين اللتين في يوم القيامة وترجّح عنده من هو الأسعد بالشفاعة وغيره إذ ذاك معلوم بالضرورة لكنه لم يلتفت إلى ما ظهر له من مدلول جميعها حتى تلقاه من صاحب الشرع مشافهة وهذا يدل على أن هذا عندهم حكم ثابت لا يسوغ فيه غير
النقل كما تقدم
۱ يريد كجوابهما
أحاديث الشفاعة متواترة وقد رواها أصحاب المسانيد والصحاح والسنن والمعاجم عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
يريد بـ الجنس الألف واللام الداخلتين على كلمة الناس فهما لإرادة الجنس أي جميع عباد الله من المؤمنين وغير المؤمنين ولو كانت الألف واللام للنوع لقصد بهما أمة محمد الله دون غيرها من الأمم
١٨٤
الوجه الثاني عشر لقائل أن يقول لم قيَّد الشفاعة بيوم القيامة وهي مستمرة أبداً على الدوام في الدنيا وفي الآخرة لا يزال عليه السلام يَشفَع ويُشفّع
والجواب أنه إنما قيدها بيوم القيامة لأنه قد عاين هذه الشفاعة التي في الدنيا وعرفها وإن كانت على المشيئة لكنها وقعت كالمقطوع به لأنه عليه السلام لم يشفع قطّ لأحدٍ في هذه الدار إلا أجيبَ وأُسعِفَ فلم يكن ليسأل عن شيء قد عاينه وعرفه لأن السؤال عن ذلك كتحصيل حاصل والصحابة أجلّ من ذلك
الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام لقد ظننتُ يا أبا هريرةَ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك لما رأيتُ من حرصك على الحديث ظننت يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون بمعنى علمتُ والأظهر منهما العلم للقرينة التي تقويه في الحديث بعد وهي قوله لِما رأيت من حرصك على الحديث
الوجه الرابع عشر في هذا دليل على أن من السنة إدخال السرور على السائل قبل ردّ الجواب عليه لأنه عليه السلام قدم قوله لقد ظننت على رد الجواب عليه والسرّ الذي في هذا الإخبار من إدخال السرور هو أنه لا يتأتى ما أخبر به حتى يكون كما قال لما رأيتُ من حرصك على الحديث ولا يظهر له عليه السلام منه الحرص على الحديث إلا إذا كان يلتفت إليه على الدوام ويراعي أقواله وأفعاله والتفاتُه عليه السلام لحظة واحدة للشخص كان عند الصحابة أعظم ما يكون من السرور فكيف بها في مرور الليالي والأيام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على استنباط الأحكام بالأظهر من الأدلة لأنه عليه السلام
جعل الظنَّ هنا قطعياً لقوة الدليل الذي ظهر له على ذلك وهو الحرص على الحديث الوجه السادس عشر فيه دليل على أن إتباع المسَرَّةِ بالمسَرَّة أولى وأبلغ في المَسرَّة لأنه عليه السلام لو سكت عند قوله أول منك لكان الصحابي يُسَرّ بذلك فلما زاد له السبب الموجب لذلك وهو من كسبه الذي هو الحرص كان ذاك إدخالَ مُسَرَّةٍ على مَسرَّة ومثل هذا قوله عليه السلام لسيد وفد عبد القيس فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله قال يا رسول الله أتصَنْعه أنا أو شيء جبلني الله عليه قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله
ذلك شيء
الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله ۱
۱ متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ورواه مسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد القيس أبو قبيلة من أسد وسميت القبيلة به وكان موطنها البحرين والأشج لقب غلب عليه وقد لقبه
به رسول الله واسمه المنذر بن عائذ انظر الاستيعاب ص ١٤٤٨
١٨٥
ومثل هذا أيضاً ما وصف عزّ وجلّ في كتابه المؤمنين حين يدخلون الجنة فقال لهم ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ١ ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٢ ﴿ بِمَا أَسْلَفَتُمْ فِي الْأَيَّامِ ﴾ هو
الخالية ۳ كل ذلك إعظام في إدخال السرور عليهم والزيادة لهم منه
نسأل الله بمنه أن يمن علينا بذلك بكرمه
الوجه السابع عشر فيه دليل على تسمية السائل عند رد الجواب عليه لأنه عليه السلام ناداه باسمه قبل ردّ الجواب عليه والحكمة في ذلك تظهر من وجهين
الأول أن نداءه باسمه أجمعُ لخاطره فيكون ذلك سبباً لتحصيل جميع ما يلقى إليه ومثل ذلك نداؤه عليه السلام لمعاذ بن جبل ثلاث مرات وهو معه على الراحلة ثم بعد الثلاث ألقى إليه ما أراد كل ذلك ليأخذ الأهبة للإلقاء ويصغي لسمع الخطاب
الثاني أن في ندائه باسمه إدخال سرور عليه لأن النداء أبداً إذا وقع من الفاضل إلى المفضول يحصل له به ابتهاج و سرور فكيف به وهو نداء سيّد الأولين والآخرين لتلك السادة المباركين الذين قد ثبت حبهم له بالتواتر وكانوا يتبركون منه بلمحة أو لحظة أو أي نوع كان يؤيد ما ذكرناه من هذا الوجه ما روي عن عبد الله بن عمر أنه أصاب يده أو رِجْلَهُ ألَم القصة بكمالها وقد تقدم ذكرها في الحديث قبل هذا ٤
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن من السنة إدخال السرور بكل ممكن يمكن لأنه عليه السلام قد أدخل السرور على هذا السائل في ثلاثة مواضع في هذا الموضع وفي الموضعين المتقدمي الذكر هذا ما فعل واللفظ قليل فكيف به فيما عداه
عنه
الوجه التاسع عشر فيه دليل على تقديم الأولى في حق السائل وإن كان لم يسأل لأنه عليه السلام عَدَل عن الجواب الذي هو عام للسائل ولغيره وذكر قبله ما هو الأولى في
حقه وما يُسر به
الوجه العشرون فيه دليل على جواز الاستدلال على حال المرء بفعله لأنه عليه السلام استدل على حاله بما ظهر له من فعله وهو الحرص والحرص عمل من الأعمال فعلى هذا
۱ سورة النحل من الآية ٣٢ سورة الأعراف من الآية ٤٣
۳ سورة الحاقة من الاية ٢٤
٤ كذا والصحيح أن ذكر حديث عبد الله بن عمر تقدم في هذا الحديث نفسه قبل صفحات
١٨٦
فالاستدلال بالأعمال أولى من الاستدلال بالمقال لأن المقال قد يحتمل التجوّز في الكلام وغيره
والفعل ليس كذلك
الوجه الحادي والعشرون فيه دليل على أن ما يخص الشخص نفسه أكد عليه مما هو مشترك فيه مع غيره لأنه عليه السلام لم يذكر له ما هو له ولغيره إلا بعد ما حصل له ما يخصه في نفسه وهو قوله أوَّل منك بهذا الحديث
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على أن السنَّة في الحكمة لا تُلقى إلا لأهلها وأن الأشياء لا يتعدى بها وقتها لأنه عليه السلام لم يخبر بفضل هذا السيد إلا عند سؤاله عن هذا الحديث الذي قد يغفل عنه كثير من السادة الفضلاء
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن تسمية الحديث حديثاً من الشارع عليه السلام لأنه عليه السلام قد سماه بذلك هنا حيث قال أن لا يسألني هذا الحديث و لما رأيت من حرصك على الحديث فسمى المفرد والجمع باسم الحديث
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على فضل هذا الحديث على سائر الأحاديث لأنه عليه السلام قد أشار إليه بالأفضلية وخصّه من بين الأحاديث بقوله أن لا يسألني عن هذا الحديث
أحد أول منك فلو لم يكن لهذا الحديث مزيّة على غيره من الأحاديث لما جعله أولى به من غيره لأن ذلك مدح للسائل وتعظيم له لأنه أصاب بسؤاله كنزاً عظيماً وكيف لا وقد حصل له فيه من أدلة الإيمان غير ما واحد ـ على ما تقرر قبل وما أذكره بعد - وحصل له فيه من علوم الآخرة أو فرُ نصيب وعلوم الآخرة السؤال عنها نادر من أجل الاشتغال بعلوم الدنيا إذ إن الأعمال مرتبة عليها فلا يمكن تحصيل علوم الآخرة إلا بعد تحصيل علوم الدنيا التي بها التكليف مَنُوط اللهم إلا قدر ۱ ما يتضمَّنُه الإيمان منها فلا بدّ منه
1-
ويكفي في ذلك ما نص عليه جبريل عليه السلام حين أتى ليعلم الدين فسأل عن الإيمان فقال عليه السلام أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ٢ فكان هذا السيّد رضي الله عنه ممن حصل ما يحتاج إليه من علوم دنياه ثم بعد ذلك أخذ العلم الآخر فلذلك حصلت لهم مزيّة بهذا الحديث ولا يحصل بهذا ذمّ لغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كان متكسباً لأنهم أيضاً حصلت لهم مزية امتازوا بها وهي معرفتهم بأحكام الله يدل على هذا ما حكي عنهم رضي الله عنهم أن أكثرهم مالاً كان أكثرهم علماً فأصلوا
۱ قَدْرَ مستثنى من علوم الآخرة رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه
۱۸۷
رضي
الله عنهم قواعد الأحكام على جملة أنواعها مما يتعلق بالأبدان والذمم والأموال علماً وعملاً ولما تجرَّد هذا السيّد عن كثير من الدنيا حصل معرفة ما أحكمته الحكمة الربانية في أمور الآخرة وبَلَّغه إلينا مثل هذا الحديث وغيره فجزاهم الله عنا جميعاً خيراً
الوجه الخامس والعشرون فيه دليل على فضل الحديث جملة وأنه أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى من بين سائر العلوم كلها عدا الكتاب العزيز لأنه عليه السلام قد مدح هذا السائل وعَظَّمه وجعله أول من يسأل عن هذا الحديث ولمعرفة ما احتوى عليه من الفوائد ولكونه كان حريصاً على الحديث وكيف لا وقد قال عليه السلام تركت فيكم التقلَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ۱ يريد سُنَّته عليه السلام لأن أهل بيته لا يفعلون إلا ما كان عليه السلام يفعل فليس بعد القرآن إلا الحديث مَن تمسك بهما فقد نجا ومن
خالفهما فقد هَوَى
الوجه السادس والعشرون فيه دليل على أن مدح العمل لصاحبه مندوب إليه لأنه عليه السلام قد مَدَح هذا السيّد لأنه جعله أول من يسأل عن هذا الحديث للعمل الذي صدر منه وهو الحرص وهذا بخلاف مدح الذات لأنه ممنوع والفرق بينهما أن مَدْحَ العمل يزيد صاحبه فيه تغبطاً وحرصاً ومدح الذات يُخاف منه العجبُ والالتفات
الوجه السابع والعشرون فيه دليل على إبداء الدليل من الفاضل إلى المفضول لأنه عليه السلام أفضل الناس وأعلاهم قدراً ثم مع ذلك لما أن ذكر لهذا أنه أول من يسأل عن هذا الحديث أتاه بالدليل على ذلك وهو الحرص الذي كان منه ولم يقتصر على إعطاء الحكم دون دليل عليه الوجه الثامن والعشرون لقائل أن يقول لِمَ خص عليه السلام هذا بالحرص على الحديث ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم عن آخرهم كانوا يحرصون على الحديث أعظم الحرص ويعظمونه ويحبونه
والجواب أنهم كلهم كذلك حقاً لكن لهذا السيد زيادة في هذا الشأن على غيره ويتبين ذلك ويتضح بما روي عنه رضي الله عنه أنه قال كان إخواني من الأنصار يشتغلون بإصلاح حوائطهم في بعض الأوقات وإخواني من المهاجرين يشتغلون بالتسبب في الأسواق وأنا التزمت النبي صلى الله عليه وسلم لِمَلْء بطني فوعيتُ ما لم يَعُوا فلهذه الزيادة - وهي الملازمة - حصل له هذا التشريف وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كلهم كانوا يتنافسون في هذا وأشباهه مهما كان شيء
۱۸۸
۱ سبق تخريجه في الحديث ٣
من
ما
ட்
ت
الخير تراهم يبادرون إليه ويسارعون فإذا زاد أحدهم ذرّة في وجه من وجوه الخير على غيره نسبت تلك الطريقة إليه وكان هو إمامها وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين
يبين ما قررنا هنا ويوضحه قوله عليه السلام أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها ۱ مع أن الأربعة رضي الله عنهم كانت فيهم تلك الصفات كلها لكن كان كل واحد منهم يفوق صاحبه بشيء ما من تلك الصفة المذكورة فنسبت إليه
الوجه التاسع والعشرون في هذا دليل لأهل الصوفة وأي دليل لأنهم لما أن أربوا على إخوانهم المؤمنين بقطع العلائق والتعلق بالله والاضطرار إليه والتوجه إليه في جلّ أوقاتهم صَفَت بواطنهم فخصوا باسم الصفاء والصفوة مع أن المؤمنين لا بد فيهم من الصَّفاء إذ إن الإيمان يقتضي ذلك لكن لما أن كان لهم زيادة في ذلك الشأن خُصُّوا به دون غيرهم
أعاد الله علينا من بركتهم بمنه ويمنه
الوجه الثلاثون قوله عليه السلام أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه أسعد الناس بشفاعتي الكلام عليه كالكلام على قول السائل من أسعد الناس بشفاعتك وقد تقدم بما فيه كفاية وبقي الكلام هنا على قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه
فأما قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله فهي تحتمل وجهين أيضاً
الأول أن يكون المراد بها العموم الثاني أن يكون المراد بها الخصوص فإن كان المراد بها العموم فهي تحتمل وجهين الأول أن يكون المراد من قال لا إله إلا الله ولو مرة واحدة في عمره الثاني أن يكون المراد من قالها وداوم عليها حتى توفي عليها وإن كان المراد الاحتمال الثاني - وهو الخصوص - فهو مَن يقولها عند الموت
والضرب الثاني من العموم المتقدم يرجع إلى هذا الخاص لأنه وإن قالها على الدوام ثم لم يتلفظ بها ولم يعتقدها عند الموت كان ما قال قبل ذلك هباءً منثوراً وهذا هو أظهر الاحتمالات وأولاها بل لا يسوغ غيره في هذا الموضع بدليل قوله عليه السلام الأعمال بخواتيمها وقوله عليه السلام يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة حتى إذا لم يبق بينه وبين الجنة
١ لم نعرف مصدره بهذه الصورة المذكورة رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة بألفاظ أخرى
0
۱۸۹
إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار وإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة۱ وقوله عليه السلام مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وهذا نص في المسألة نفسها فلا يسوغ الجنوح إلى غير ما نص عليه
الوجه الواحد والثلاثون فيه دليل على أن من خالط إيمانه شائبة ما لا يسعد به لأنه عليه السلام شرط فيه الإخلاص والإخلاص يتضمن عدم الشوائب دِقها وجلها
الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل على أن من اعتقد الإيمان دون النطق به لا يسعد به ولا تناله هذه الشفاعة الخاصة لأنه عليه السلام شرط في ذلك التلفظ والشرط إذا عُدِمَ عُدِمَ
المشروط
الوجه الثالث والثلاثون من آمن بالله مخلصاً لكنّه لم يتلفظ بالشهادة لعذرِ كان لَدَيْه يمنعُه من ذلك ثم اختَرَمَتْهُ المنيّة قبل زوال ذلك العذر هل تلحقه الشفاعة أم لا أو يكون من أهل الإعذار هذا موضع بحث ونظر وأرجح ما في ذلك وأظهَرُه أنه يكون من أهل الإعذار لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَنُ بِالإِيمَنِ ۳
الوجه الرابع والثلاثون قوله من قلبه أو نفسه هذا شكٍّ من الراوي في أيهما قال النبي وكلاهما بمعنى واحد لأن المراد بالنفس ما بَطَن وما بَطَن المراد به القلبُ لأن فيه يستقر الإيمان وهو الأميرُ على الجوارح يؤيد هذا قوله عليه السلام مُضغةٌ في الجسد إذا صَلَحَت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ٤
وفيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم وتحريهم في النقل لأنه لما أن حصل له مع أن اللفظين بمعنى واحد لا يقع في
الشك في أي اللفظين قال عليه السلام أبدى ذلك الإخبار بأحدهما دون الآخر خلل في المعنى ولا في الحكم نسأل الله بمنّه أن يمن علينا بالاقتداء بهم وبِنَبِيّه إنّه ولي كريم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث طويل رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ب الله عنه
۳ سورة النحل من الآية ١٠٦
٤ سبق تخريجه في الحديث ٨
۱۹۰
-١٤-
حديث رفع العلم بقبض العلماء
عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يَقبِضُ العلم انتزاعاً يَنتَزِعُه من العِباد ولكن يَقْبِضُ العلم بقبْضِ العُلماءِ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأضَلُّوا
ظاهر الحديث يدل على أن قبض العلم يكون شيئاً بعد شيء ولا يكون مرة واحدة والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فيه دليل لأهل السنة حيث يقولون بأن الأعمال خَلْق للرب وكسب للعبد لأنه لا يقبض إلا ما قد أعطى فالقبض بمعنى الاسترجاع وقد صرح عليه السلام بإعطاء الله ذلك لعبيده وبَيَّنَهُ في حديث تقدّم بيانه قال فيه من يُرِد الله به خيرا يُفقَهْهُ في لأن العلماء الدين ۱ فهذا الخلق الله قد ثبت بالنقل وأما الكسب فهو مشاهد مرئي محسوس ينقلون العلوم ويدرسون وهو تكسبهم الوجه الثاني الألف واللام في هذا العلم المذكور يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن تكون للعهد والأظهر من الاحتمالين العهد للقرينة التي أتت في الحديث بعد تبيينه وهو قوله ضَلُّوا ٢ وأَضَلُّوا والضلال المحذور إنما هو فيما عدا العلوم الشرعية لأن العلوم الشرعية هي التي بها الهداية ولا يقال لغيرها من العلوم هداية مطلقة حتى تخصص باللفظ فيقال هداية لكذا وضلال عن كذا والعلم المذكور هنا المراد به الفهم في كتاب الله وسُنّة نبيه عليه
4
r
۱۹۱
السلام
۱ هو الحديث التاسع من هذا الكتاب الرواية فضَلُّوا
الوجه الثالث لقائل أن يقول ظاهر هذا الحديث مُعارِض لما روي عنه عليه السلام في الكتاب العزيز أنه يُرفع جملة واحدة وقيل له يا رسول الله أوليس قد وعيناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا وعلمناه أبناءنا ونساء نا فقال عليه السلام تأتي عليه ليلة يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور ولا في المصاحف منه شيء۱ ثم تلا قوله عزّ وجلّ وَلَيِن شِئنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا
في
والجواب أنه لا تعارض بينهما بدليل ما نقلناه عن الأئمة بأن العلم نور يضعه الله القلوب فيقع بذلك النور الفهمُ في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه السلام وقد نطق الكتاب والحديث بهذا المعنى وبيّنه ۳ أتمّ بيان فأما الكتاب فقوله عَزَّ وجلّ ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ٤ ولا يُفهم معاني القرآن وأحكامه إلا بالنور ومهما فقد النور وقع الضلال
نعوذ بالله من ذلك
ε
وأما الحديث فقوله عليه السلام إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثيرٌ مُعطوه العملُ فيه خيرٌ من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليلٌ مُعطوه كثيرٌ سائلوه والعلم فيه خيرٌ من العمل ٥ فقد جعل عليه السلام أولئك يفهمون وهؤلاء لا يفهمون مع أن هؤلاء أكثرُ حفظاً وأكثرُ ضَبطاً للحروف وأتى بذلك في معرض الذمّ لهؤلاء لكونهم لا يفهمون الأحكام فلم يبق إلا أن يكون النور الذي كان عند أولئك عَدِمه هؤلاء فرجع المساكين مثل بعض من تقدّم من الأمم الماضية نَقَلةٌ وحَمَلةً لأن الله عزّ وجلّ قد وصفهم بذلك في كتابه حيث قال كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ٦ وها هو اليوم قد كثر هذا الأمر وتفاحش لأن النّقَلَةَ والأسفار قد كثرت والقليل النادر من تجد عنده طرفاً من العلم الذي هو النور فهذا العلم هو الذي يُقبَض شيئاً فشيئاً فما يزال يرتفع
۱ رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود موقوفاً عليه
سورة الإسراء من الآية ۸٦ ۳ يريد وبَيَّناه
٤ سورة النساء من الآية ٨٣
٥ أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف العراقي على الإحياء
۱۷/۱
٦ سورة الجمعة من الآية ٥
۱۹
شيئاً فشيئاً حتى يُرفع المصحف فإذا رُفع المصحف ارتفع معه ذلك الطرف من النور الذي بقي عندهم فيبقون بعد ذلك في الضلالة يتخبطون وعن طريق الحق زاهقون مع أن الأحكام تبقى عندهم مسطورة في الكتب لكن لعدم النور وارتفاع الأصل لا يفهمون تلك الأحكام ففي ابقاء الأصل بشارة ببقاء ذلك النور وإن قل
الوجه الرابع لقائل أن يقول لِمَ نعت عليه السلام القبض أولاً بالنزع ثم نعته بعد ذلك بصفته التي هي القبض
والجواب أن الانتزاع فيه شدة وغلظة والقبض فيه لين وتسهيل فأخبر عليه السلام بأن شدة الانتزاع لا تكون وإنما يكون قبضاً برفق لا سيما وقد جعله عزّ وجلّ مغطى بحكمة قبض الوعاء وذلك ألطف وأخف لأنه لو كان قبضه بادياً دون حكمة تستره لكان العالم يجد منه خوفاً
ووحشة وهو عزّ وجلّ بعباده رؤوف رحيم لأن العالم إذا مات لم يقطع الناسَ إياسُهم بأن الله عزّ وجلّ يقيم عالماً مقامه فإذا أقيم ذلك العالم مقام الأول انجبرت النفوس ولم يحصل لها علم بمقدار من قبض ومن أقيم فبقيت الآمال في الفضل راجية والعين بما أبدلت قريرة وهذا أبدع ما يكون من اللطف والحكمة
الوجه الخامس إذا قبض العالم ثم أقيم آخرُ مكانه هل يكون مثله فيجبر تلك الخَلَّة وقعت في الإسلام أم لا
التي
ظاهر الحديث يفيد أن لا ويعارضه قوله عليه السلام إذا مات العالِم تُلِمت في الإسلام ثلمة لا يَسدُّها إلا عالم آخر ٢ فظاهر هذا معارض لما نحن بسبيله وليس بينهما تعارض في الحقيقة لأنه إذا مات الأول وقام الثاني فسدّ تلك الثَّلمة فهو معلوم بالضرورة أنه ليس كالأول على حد سواء لأن الثوب المرقع ليس كالصحيح وكلاهما يستُر وإن كان لا بخس ۳ المرقع وهذا موجود حسّاً ولا سيما إذا قلنا بأن العلم - كما قدمناه عن أئمة الدين - نور يضعه الله في القلوب فنقصه معلوم بالضرورة وموجود حسا لأن نور الصحابة رضي الله عنهم ليس كنور
في
۱ الإياس من أيستُ منه ايس يأساً لغة في يئست منه أيأس بأساً ومصدرها واحد والإياس واليأس بمعنى واحد اللسان أيس مروي بالمعنى عن أبي الدرداء مرفوعاً موت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد رواه الطبراني وفيه مجاهيل وعن عائشة رضي الله عنها رفعته موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسد ما اختلف الليل والنهار رواه البزار بإسناد ضعيف ورواه البيهقي في شعب الإيمان من كلام ابن مسعود رضي الله عنه ٢ / ٢٦٨ بإسناد صحيح ۳ البخس النقص العيب
۱۹۳
التابعين ونور التابعين ليس كنور تابعي التابعين ثم كذلك جيلاً بعد جيل ففي كل جيل يرتفع منه
شيء ويقل
ولأجل هذا المعنى كان العلم أولاً في صدور الرجال ثم انتقل إلى الأوراق والكتب وبقيت مفاتيحه في صدور الرجال ثم الآن كثرت الكتب والأسفار وقلت المفاتيح وإن وجد مفتاح فقلما يكون مستقيماً إلا النادر القليل
ثم رجعت العلوم الشرعية مثل علوم القرآن والحديث كقدَح الراكب وما بقي النظر إلا بعض علوم الفروع وانصرفت الهمم إلى علم الجدل والمنطق وعلم النجوم وعلم الطبائع وما أشبه ذلك فارتكبوا النهي واستقرّت سنَّتُهم الذَّميمة عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تجعلوني كقدح الرَّاكب ٢ وهؤلاء قد اتخذوا القرآن والحديث كذلك ثم يريدون الكلام في دين الله بتلك العلوم الرديئة فمن كان باكياً فليبك على ذهاب العلم وأهله والدين وضعفه فإنا لله
وإنا إليه راجعون
فمنذ انتقل النبي إلى رحمة ربه أخذ العلم في النقص شيئاً بعد شيء إلى هلمّ جرّاً إلى أن يُرفع القرآن وقد نصَّ بعض الصحابة على هذا المعنى وبيّنه حيث قال لم ننفض أيدينا من التراب حين دفنا النبي و إلا ووجدنا النقص في قلوبنا ۳ لكن كان النقص في ذلك الوقت لا يعرفه إلا أهل القلوب وكذلك في القرن الذي بعده وكذلك في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فالعلم إذ ذاك ينقص وهو في الظاهر متوافر متزايد لكثرة العلماء
وكثرة الكتب
والمعنى الخاص الذي أشرنا إليه لا يعرفه إلا من أشرنا إليه وهم أهل القلوب ولذلك قال أسامة بن زيد رضي الله عنه إني لأسمع منكم في اليوم أشياء مراراً لا تبالون بها كنا نَعُدُّها في زمان رسول الله الله من الموبقات أو كما قال ثم بعد القرن الثالث رجع النقص يظهر لسائر الناس ويستبين وها هو اليوم أظهر من الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب
۱ قدح الراكب هو الإناء المعد للشرب وجمعه وجمعه أقداح وقدح الراكب يعلقه الراكب في آخر رحله عند فراغه
من ترحاله ويجعله خلفه
أي لا تؤخروني في الذكر والحديث عزاه السخاوي في القول البديع لعبد بن حميد والبزار في مسنديهما وعبد الرزاق في الجامع وابن أبي عاصم في الصلاة والتيمي في الترغيب والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في
الحلية وغيرهم كثير وكلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف والحديث غريب ۳ لعله معنى لحديث أنس رضي الله عنه قال والله ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نفضنا أيدينا من ترابه حتى أنكرنا قلوبنا رواه البخاري والإمام أحمد والدارمي وابن ماجه والنسائي
١٩٤
الوجه السادس لقائل أن يقول هذا الحديث معارض لقوله عليه السلام في الحديث المتقدم لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يَضِرُّهم مَن خالفهم حتى يأتى أمر الله ۱ وأخبر هنا بأن العلم يقبض وإذا قبض العلم بقي الجهل فيقع الضلال كما قد نَصَّ النبي ل عليه والجواب أنه لا تعارض بينهما لأن المراد بالطائفة المذكورة - في الحديث المتقدم ـ أنها تبقى موفية بالحق الذي يلزمها لا تخلّ منه بشيء وأما العلم الذي هـ النور فليس هو عندهم كما كان عند من تقدمهم يؤيد هذا المعنى قوله عليه السلام أنتم في زمان مَن تَرَك عُشْرَ ما أُمِرَ به هلك ويأتي زمان مَن فَعَل عُشْرَ ما أُمِر به نجا ۳ يريد في أعمال البر من المندوبات عدا الفرائض لأن الفرض في أول الزمان وآخره مطلوب على حد سواء وإنما المعتبر هنا الذي عليه وقع النص ما عدا الفرض من أعمال البر لأن الدين مطلوب بفرضه وندبه وادابه ونفله وكان الصدر الأول رضي الله عنهم يحافظون على توفية جميع ذلك وكان النبي يطلب ذلك منهم ويحرضهم عليه مثل ما روي عنه عليه السلام أنه هَمَّ أن يحرق بيوت قوم كانوا لا يشهدون الجماعة وشهود الجماعة على الواحد مندوب وكذلك ما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يطلبون من الناس تسوية الصفوف ۳ وتسوية الصفوف في الصلاة من المندوب فكانوا رضي الله عنهم يحضون على ذلك أكثر الحض ويَحرِصون عليه أكثر الحرص لئلا يقع لهم خلل في شيء من ذلك فيقعون في ترك ما حُدَّ لهم
وأما اليوم فذلك لا يُتَصَوَّر لِمَا حَدَث في الأعمال من البدع والمنكرات وقلَّ أن يتخلص العُشْرُ إلا بالجهد الكبير ونعني بالخلاص هنا أن يقع العملُ على ما حُدَّ وشُرِع دون بدعة ولا منكر ومثال ذلك شهود الجنازة والصلاة عليها أو حضور العرس وما أشبه ذلك قلّ أن يقدر الإنسان أن يفعل شيئاً من ذلك لِمَا كَثر فيه من البِدَع الفاحشة والمناكر المتلفة إلا نادر قليل فليس تركهم للتسعة الأعشار رغبةً عنها ولا زهداً فيها ولو كان كذلك لما نَجَوْا وإنما هو من أجل ما قررناه فالطائفة المذكورة المراد بها ما بيناه هنا من أنها لا تنقص مما يلزمها شيئاً
الوجه السابع يظهر من الحكمة في نقص هذا العلم وجهان
الأول أنه لما كان العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام فمعلوم بالضرورة القطعية أن
1 متفق عليه من حديث معاوية رضي الله عنه بلفظ لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس انظر الحديث ۱۱
33
رواه الإمام أحمد والترمذي بسند ضعيف وأوله إنكم في زمان إلخ انظر فيض القدير للمناوي
معنى الحديث رواه مسلم کتاب المساجد
١٩٥
العلماء ليسوا كالأنبياء وذلك موجود مشاهد في عالم الحس لأن الوارث أبداً ليس كالموروث من
كل الجهات وإن كان يرث جميع المال لأن المتوفّى ينفرد بالكفن ومؤنة الدفن وما يحتاج إليه في تجهيزه فقد نقص من المال شيء ما دخل مع الموروث في قبره لا ينتفع الوارث به ولا يستطيع الوصول إليه هذا إذا لم يُوص فإن أوصى فقد أباحت له الشريعة الوصية بالثلث فقال
موتكم
عليه السلام إن الله تصدّق عليكم بثلث أموالكم تتصدقون بها عند موتكم فحجزه عن الوارث والحكمة فيما نحن بسبيله من هذا القبيل لأن كل من أنعم عليه بشيء لا بد أن يختص منه
بشيء لا يناله غيره بمقتضى الحكمة
الثاني أن الوعاء له اشتراك ما مع ما أودع فيه فلا بد أن يصحبه منه شيء يدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودَع فيه مثال ذلك أوانٍ مملوءة إحداها زيتاً والأخرى عسلاً والأخرى سمناً إلى غير ذلك من الأشياء فلا بد أن يبقى في الوعاء بقية تدل على ما كان فيه وذلك الشيء الباقي في الوعاء نقص من الشيء المودع فيه وإن كانت العلوم أنواراً لا ينقص من أعيانها شيء لكن لما أن شاء الحكيم أن يُرفع من أوعيتها شيء منها وقع ظهور النقص في هذا العالم فاتحدت النسبة بمقتضى الحكمة كما أشرنا
ولذلك قال أهل التحقيق عدد الطرق إلى الله عزّ وجلّ على عدد الأنفاس لأنه ليس كل شخص حاله كمثل حال الآخر من كل الجهات وإن وقع الشبه بين الحالتين فلا بد من فرق ما بينهما كما هو مشاهد في عالم الحِسَ فصُوّر الناس في وضع الخلقة على حد واحد وليس في حقيقة الشبه كذلك لأن كل واحد يختص بصفة ما يمتاز بها في النعت عن غيره وإن أشبهه في أكثر الصفات وكذلك جميع الحيوانات على اختلاف أصنافها على حد واحد في صفة وضع الخلقة وليس كذلك في حقيقة الشَّبه فسبحان من أظهر أثر عظم قدرته بجميل وضع حكمته في
جميع بريَّتِهِ
ولأجل هذا المعنى - الذي أشرنا إليه - أحال عزّ وجلّ في كتابه بالنظر إليه ليستدل به على وحدانيته فقال عز من قائل سَنُرِيهِمْ وَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ۳
الوجه الثامن قوله عليه السلام حتى إذا لم يُبْقِ عالِماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا
فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا فيه دليل على أن الضلال المخوف لا يقع مهما بقي من الطائفة
1 يريد هو ما
رواه الترمذي بلفظ إن الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم ۳ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٩٦
المذكورة واحد لأن تلك الطائفة هم الذين تمسكوا بالعلم وعملوا به لأنه مهما بقي عالم واحد على الحق لم تضر الضلالة وإن ظهرت لعدم الاجتماع عليها وقد قال عليه السلام لن تجتمع أمتي على ضلالة ۱ وكثير ما بين الظهور والاجتماع لأن الاجتماع هي الحالقة ٢ أعاذنا
الله من ذلك بمنّه
يبين هذا ويوضحه ما روي أن أحد أنبياء بني إسرائيل مرّ على قرية وقد أهلكها الله تعالى فقال يا رب ! كيف أهْلَكْتَهم وكنت أعرف فيهم رجلاً صالحاً فأوحى الله إليه أنه لم يَغَر ۳ لي قطُّ يوماً واحداً فأفاد ذلك أن موافقته لهم على الباطل وإن كان يعرف الحق كانت سبب هلاكهم ولو خالفهم ما هلك ولا هلكوا
الوجه التاسع في هذا المعنى وجه من الحكمة والاعتبار وذلك أنه لما أن جعل عزّ وجل هذه الدار للتغيير والذهاب جعل كل ما فيها بمقتضى الحكمة بتلك النسبة يلحقه النقص والذهاب لأن أجَلّ ما فيها العلم والإيمان وها هما يلحقهما النقص حتى يذهبا فلحقت علة الدار لسكانها
وما فيها
الوجه العاشر في هذا المعنى دليل ترغيب للزهد في هذه الدنيا وتحريض على تركها إذ هي وما فيها للنقص ففي ماذا الرغبة وعلى ماذا التعب
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن بلاء هذه الدار أكثر من خيرها لأنه إذا قلَّ العلم والإيمان وهما عَيْنُ الخير كثر ضدهما وهما الكفر والجهل فهما موجبان للشر بل هما عينه الوجه الثاني عشر يؤخذ من هذا الفقه تأكيد التخلّي عن الالتفات لهذه الدار وما فيها لمن العامة عقل إذ إن خيرَها يَقِلّ وشرَّها يزيد فخيرها نادر و شرها كثير موجود وقد قال علي بن أبي الله عنه لو كانت الآخرة من خَزَف وهي باقية والدنيا من فضة وهي فانية لكان يقتضي الزهد في الدنيا وإن كانت من فضة لِكَوْنها فانيةً والرغبة في الآخرة وإن كانت من خزف لكونها باقية فكيف والأمر بضد ذلك
طالب رضي
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن حقيقة الرئاسة لا تكون إلا بالعلم إذا كان على حقيقته -
1 رواه الإمام أحمد والطبراني والترمذي وابن ماجه والحاكم عن عدد من الصحابة الكرام يريد بـ الاجتماع اتفاق الناس جميعاً على ضلالة دون أن يكون فيهم رجل واحد ينكر تلك الضلالة وذلك ما عبّر عنه المؤلف رضي الله عنه بكلمة الحالقة ويعني بها التي تحلق الدين لا التي تحلق الشعر ۳ لم يَغَر لم تثر نفسه غَيْرة والفعل غار يغار غَيْرة يقال غار الرجل على زوجته أي ثارت نفسه لإبدائها زينتها ومحاسنها لغيره فهو غيران وهي غيرى والجمع غيارى وغير
۱۹۷
وهو أن يكون الله خالصاً على مقتضى الكتاب والسنة - وأن رياسة غير العالم ليست بحقيقة لأنه عليه السلام نَصَّ على أن العالم ما دام بين أظهرِ الناس دام به الخير وأن الجاهل إذا كان مكانه وقع به الضلال والهلاك والعلة في هذا المعنى ظاهرة بادية لأن كل الناس يحتاجون إلى العالم ليرشدهم لطريق ربهم ويبين لهم أمره ونهيه وغير العالم ليس كذلك لأنه قد يحتاج إليه بعض الناس في تلك اللحظة التي رأس بها وقد لا يحتاج إليه وهو الكثير ولهذا المعنى قال عليه السلام نِعمَ الرجلُ العالم إن احتيج إليه نَفَع وإن استغني عنه أغنى نفسه۱ ومعنى الغنى هنا الغنى بالله عزّ وجلّ فهذه هي حقيقة الرئاسة وقد بدا الآن ظهور ما أخبر عنه الصادق عليه السلام رأسوا بغير علم فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وضلّ من اتبعهم فلينتبه الجاهلُ المسكينُ من غفلته وليفق من سكرته وليحذر من هذا الأمر العظيم الذي حلّ به
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أنه لا بد للناس من رؤوس بمقتضى الحكمة لأنه عليه السلام أخبر أن العالم إذا عُدِم لم يبق الناس لأنفسهم كذلك وإنما يتخذون رؤوساً غير ذلك الصنف لتشبههم بهم فيقعون إذ ذاك في الضلال كما أخبر عليه السلام
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أن أخذ الأشياء على غير ما أحكمته الشريعة لا يوجد لها فائدة بل تنعكس الفائدة بالضرر لأن العوام لم يتخذوا هؤلاء الجهال رؤوساً إلا لأجل الفائدة التي عهدوها ممن تشبَّهوا بهم وهو الإرشاد لما يصلحهم كما تقدم فلما لم تكن فيهم الشروط التي أحكمتها الشريعة جاءهم إذ ذاك ضد ما أرادوه وهو الضلال
الوجه السادس عشر فيه دليل لمن يقول بأن العالم لا يلزمه التعليم قبل السؤال لأن الفتيا لم تقع حتى وقع السؤال
r
الوجه السابع عشر فيه دليل على أن البهرجة لا تجوز على عالم لأن العوام إنَّما اتَّخذوا هؤلاء الجهَّال رؤوساً لأجل تشبههم بأهل العلم في الكتب مثلاً وفي جنس الكتب والنظر فيها فلما رأى الناس ما جرت العادة به يكون علماً على العلم - وهو النور كما تقدم في وصفه قبل - ظنوهم من الرؤوس حقيقة فصحت البهرجة عليهم ولهذا قال يُمْنُ بن رزق ۳ رحمه الله لِقِلَّةِ العقلاء لم
يُعْرَفِ الحَمْقى
۱ رواه الديلمي في مسند الفردوس ۱۰/۵ وذكر محقق الفردوس عن سلسلة الأحاديث الضعيفة أنه موضوع
لا تجوز لا تنطلي لا تخفى ۳ تقدمت ترجمته في الحديث
۱۹۸
وهذا المعنى بنفسه قد ظهر اليوم في زماننا هذا وكثر وتفاحش قوم يقرؤون النحو والأصول والمنطق وعلم الكلام وعلم الطبائع وما أشبه ذلك ثم يدّعون بها الرئاسة ويريدون أن يفتوا في دين الله بتلك العلوم ويرجع ذلك عندهم بعقولهم الفاسدة حتى إن بعضهم يدعي الاجتهاد على زعمه ويُخطىء من تقدَّم من الفضلاء وأئمة الدين وذلك لقلة فهمه لما قالوا وسوء لأنه لو حسن بهم الظن لعاد عليه من بركتهم بما يفهم من كلامهم
ظنه بهم
فالحذر الحذَرَ من هذه الطائفة الرديئة وقد حذر عليه السلام منها وبينها أتم بيان فقال يأتي في آخر الزمان أقوام يحدّثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم ۱ أو كما قال عليه السلام فخُذ ما تعرف ودَع ما تنكر وعليك بِخُوَيصَّةِ نفسِك
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أن العامّي وظيفته السؤال والامتثال دون بحث لأنه عليه السلام لم يجعل لهم في الحديث وظيفة إلا السؤال وامتثال ما أشير عليهم في ذلك السؤال وإنما ضلوا إذ إنهم لم يصادفوا الرأس الحقيقي
الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن من عمل بفتوى على غير وجهها يلحقه من الإثم مثلما يلحق المفتي بها لأنه عليه السلام قد جعله ضالاً كما جعل ضَلال المفتي له بذلك سواء يؤيد هذا المعنى ويزيده إيضاحاً ما روي عنه عليه السلام في الضد أنه قال العالم والمتعلم شريكان في الأجر ٢
الوجه العشرون فيه دليل على أن الجاهل لا يُعْذَر بجهله عند وقوعه في المحذور لأنه عليه السلام قد جعل العوام الذين لم يصيبوا بفتياهم أهلها ضالين مثل الذين أفتوهم بها مع أنهم المساكين جاهلون بالأمر ليس لهم معرفة بما يميزون الفتيا الصحيحة من السقيمة
فارجع أيها الهائم إلى طريق الرشاد قبل سبق الحرمان بغلق الباب وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
السلعة
۱ رواه الإمام أحمد في المسند ومسلم في المقدمة رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله
۱۹۹
اوهاية
1801
حديث الحساب والعرض
عن عائشة زوج النبي لا أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي لا الله قال مَن حوسِب عُذَّبَ قالت عائشة فقلتُ أوَليس يقولُ الله عزّ وجلّ ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ١ فقال إنّما ذلك العَرْض ولكن من نوقِش الحِساب يَهْلِك
ظاهر الحديث يدل على أن الهلاك مع المناقشة والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام مَن حوسب عُذَّب هل هو على عمومه أو على الخصوص فالظاهر أنه خاص لكونه خصصه بعد بالمناقشة وعلى مقتضى الآثار مع اختلافها ينقسم الحساب على أقسام
فمنه عَرْض - كما أخبر في باقي الحديث - وقد جاء ما يبين كيفية هذا العرض في حديث ثانٍ حيث قال إنّ الله عزّ وجلّ يحاسب عبده المؤمنَ سرّاً فيلقي كَنَفَه عليه ويقول يا عبدي فعلت كذا في يوم كذا فعلت كذا في ساعة كذا فلا يمكنه إلا الاعتراف حتى يظن أنه هالك فيقول يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفِرُها لك اليوم اذهبوا بعبدي إلى الجنّة فإذا رأه أهلُ المَحْشَر يقولون طُوبَى لهذا العبد لم يَعْصِ الله قطُّ۳ فهذا بيان العَرْض المجمل هنا
لأنه عَرْضُ ولا عقاب فيه
ومنه نوع آخر وهم الذين لهم وعليهم فيُؤخَذ منهم فيُعطى فيما عليهم فتكون حسناتهم
بالسوية مع سيئاتهم فيبقى لهم الإيمان يدخلون به الجنة وهذا نوع من العَرْض
۱ سورة الانشقاق الآية ٨ كَنَفُ الله رحمته وسَتْرُهُ وحِفْظُه
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه والحديث هنا مروي بالمعنى
۰۰
يشهد لهذا ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي النبي يوماً فقال يا رسول
الله بماذا بُعِثْتَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت بالعقل قال ومَن لنا بالعقل يا رسول الله قال إن العقل لا حَدَّ له ولكنْ مَن حرَّمَ حرام الله وحلل حلالَه سُمِّي عاقلاً فإن اجتهد سُمّي عابداً فإن اجتهد سُمِّي جواداً فإن اجتهد في العبادة وسمح في نوائب المعروف بغير حظ من عقل يدلّ على اتباع ما أَمَرَ الله واجتناب ما نَهى الله فَأُولئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعا 1
وكذلك أيضاً إن طالب نفسه بتوفية العبادات من كل الجهات إلى حد الكمال فهذا أيضاً يقع في المغالبة من وجهين أحدهما العجز لقوله إنّ المُنبَيَّ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبْقَى لأن البشرية لا تحتمل ذلك الثاني أنه قد يجتمع عليه في وقت أو في جل الأوقات أنواع من الواجبات والمندوبات في زمن فرد ولا يقدر إلا على أحدها فقد وقع في المغالبة لأجل ما أخذ نفسه به وإنما حال الكمال في هذا أن يأخذ نفسه أولاً بما أشرنا إليه ويعمل على متضمن الكلام على بقية الحديث على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
ولقائل أن يقول لم لم يقل عليه السلام ولن يُشادَّ رجل أو امرأة وقال بدله أحد قيل له ذلك يدل على فصاحته وبلاغته لأن أحداً في اللفظ أقل كلاماً وأكثر فائدة ولأنه يطلق على الذكر والأنثى والقوي والضعيف والحر والعبد والعالم والجاهل والعَلِيّ والدَّني
على اختلاف أحوال العالم
الوجه الثالث قوله صلى الله عليه وسلم فَسدَّدوا وقاربوا احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد
واحتمل أن يكونا لمعنَيَيْنِ
فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الأخذ بالحال الوسط لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى ولم يكن بالدون فهو متوسط بينهما
وإن كانا لمعنيين فيكون المراد بـ سدّدوا الأخذ بالحال الوسط على ما تقدم والحال الوسط هو ما نَصَّ النبي لا اله الا هو عليه في حديث عبد الله بن عَمْرو حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم صُمْ وأفطر وقُمْ ونَمْ وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقًّا ثم عمَّم بعد ذلك فقال وأعطِ
1 لم تعرف مصدر الحديث أما الآية الكريمة فهي في سورة الكهف من الآية ١٠٤ رواه البيهقي في السنن وفي شعب الإيمان قال الزبيدي فيه اضطراب روي موصولاً ومرسلاً ومرفوعاً و موقوفاً والمنبَتْ هو من جهد دابته حتى أعيت والحديث يقال لمن يبالغ في طلب الشيء ويفرط حتى ربّما يفوته على نفسه
۱۰۱
لكل ذي حق حقه فهذا هو السداد وهو أن يمشي المرء في الأمور كلها على ما فُرِض ونُدِب من
غير تغال ولا تقصير في جهة من الجهات
ويكون المراد بـ قاربوا أي من بلغ منكم إلى حد السداد الذي هو ما ذكرناه ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه لأن ما قرب من الشيء أعطِي حكمه وهذا بشرط ألا يقع بهذا التقريب خَلَل ولا نقص في شيء من الواجبات لأن الواجب إذا كان فيه شيء من ذلك لم يجز وغيره من المندوبات لا يقوم مقامه بل إنه لا يطلق عليه أنه قارب إلى السداد إلا بعد توفية الواجبات من كل الجهات ثم يأخذ من المندوب بعد ذلك ما يستطيع عليه ويعجز عن الوصول إلى حد السداد المذكور لعجز إما لمرض أو غيره فحينئذ يطلق عليه أنه قارب
وقد نص عزّ وجلّ على هاتين الطائفتين معاً في كتابه أعني الطائفة التي أخذت بالسداد والطائفة التي أخذت بالتقريب فقال تعالى في حق الطائفة الأولى ﴿ وَالسَبِقُونَ السَّبِقُونَ أُوْلَيْكَ الْمُقَرَّبُونَ ۱ وقال في حق الطائفة الثانية التي لم تستطع الوصول لذلك المقام لكنهم قاربوا إليه إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْ خَلًا كَرِيمًا
وقد نضرب لهذا مثلاً ليكون أسرع للفهم أعني في كيفية السَّداد وفي كيفية التقريب فمثال ذلك أن يأتي الطالب أولاً لطلب العلم ويعمل جهده على أن يكون من العلماء فإن قدر على ذلك فيها ونِعْمَتْ لأنه يكون بذلك في الطائفة التي أخذت بالكمال وهو السداد فإن عجز عن ذلك فلا يخلي نفسه من طرف منه بحسب ما استطاع لأن النبي قال طَلَبُ العِلم فريضة على كل مسلم ۳ فيكون قد أخذ بالتقريب حين عجز عن التسديد
وكذلك أيضاً يأخذ نفسه في التعبد بعد توفية الفرائض وإن قدر أن يكون من العابدين فليفعل لأن الله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه الله لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها فإن عجز أن يكون من العابدين فلا يخلي نفسه من طرف منه لإخباره عليه السلام أنه إذا كان يومُ
1 سورة الواقعة الآيتان ۱۰ و ۱۱ سورة النساء من الآية ۳۱
۳ رواه ابن ماجه وقال في الزوائد إسناده ضعيف وقال السيوطي كما نقل محقق مصابيح السنة سئل النووي عن هذا الحديث فقال ضعيف وقال تلميذه المزي هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وقال الشيخ أبو غدة في تحقيق الأجوبة الفاضلة صححه السيوطي ولم يسبق بتصحيحه وعده من المتواتر حيث ذكره في الأزهار النظم المتناثر ٢٧/٢٦ ٤ جزء من حديث أخرجه البخاري مرفوعاً في الرقاق ومطلعه من عادى لي وَلِيّاً
۱۰
القيامة يُنظر إلى صلاة العبد فإن وَفّى وإلا قال تعالى انظروا إن كان له نافلة فأكملوها له منها ۱ وكذلك في جميع الفرائض إذا نقص منها يُنظر في النفل الذي هو من جنس ذلك الفرض الذي نقص فيُجبر منها فالمقتصر على الفرض التارك للأخذ بالتقريب الذي أشرنا إليه هنا يُخاف عليه من عدم التوفية فيستحق العذاب
يدل على ذلك ما روي أن النبي الله ورأى رؤيا في منامه وكان مما رأى فيها رجلٌ يُشْدَخ ۳ رأسه فسأل عنه فقيل له رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة ۳ ومعلوم أن قيام الليل ليس بواجب وكيف يعذَّب على ما ليس بواجب والعذاب لا يقع إلا على ترك الواجب أو وقوع الخلل فيه لكنه وإن كان قيام الليل مندوباً فالعذاب إنما يقع على وقوع الخلل في الواجب بيان ذلك أنه لما لم يكن ليعمل فيه بالنهار فقد أخَلَّ بالواجب وهو لم يعمل المندوب الذي هو قيام الليل من حيث أن يجبر له الفرض به فوقع العذاب على ترك الواجب في الحقيقة وهو في الظاهر عليهما معاً
ثم كذلك أيضاً إن قدر أن يكون من الموقنين بعد توفية الإيمان المجزىء فليفعل فإن عجز
عنه فلا يُخْلي نفسه من طرف منه لقوله عليه السلام تعلموا اليقين فإني أتعلمه وقد حصل بما أشرنا إليه كفاية في ضرب المثال لما أردنا بيانه في التسديد والتقريب فنرجع
الآن إلى الكلام على الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام وأبشروا البشارة هنا على ضربين أحدهما معلوم محدود و الثاني معلوم لا حد له
فأما المعلوم المحدود فهو ما يُرجى من قبول الأعمال والثواب عليها لأن الثواب عليها محدود بإخبار الشارع عليه السلام على ما نقل عنه وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ ﴾ ٤ وقال عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حَسِبِينَ ﴾ ٥ وأما المعلوم الذي هو غير محدود فهو ما وعد عزّ وجلّ في كتابه حيث قال ﴿ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ٦ فالزيادة معلومة عند الله تعالى مجهولة عندنا
1 رواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٢ يشدخ يشق
۳ رواه البخاري ومسلم وسيرد شرح له
٤ سورة الزلزلة الايت