Go Back





حديث ثواب من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له
كل يوم مائة مرّة
عَن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَن قال لا إله إلا الله وَحدَهُ لا شريكَ لهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحمدُ وَهُوَ على كُلِّ شَيءٍ قدير في كُلِّ يَوم مائةَ مَرَّةٍ كانَت لَهُ عَدلَ عَشْرِ رقابٍ وَكُتِبَ له مائةُ حَسنةٍ وَمُحِيَتْ عَنهُ مائَةُ سَيِّئَةٍ وكانَت لَهُ حِرزاً مِنَ الشَّيْطانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي وَلَم يأتِ أحد بأفضل ممَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٍ عَمِلَ أَكثَرَ مِن ذلكَ

*
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإخبار بأن من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كان له هذا الأجر العظيم وهو ثواب عتق عشر رقاب ومائة حسنة زائدة على ذلك ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك والحكم الاخر الإخبار بأن ذلك أرفع الأعمال ولا شيء من الأعمال أرفع منه إلا الزيادة على ذلك العدد والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال ما الحكمة بأن جعل هذا الثواب محدوداً بهذا العدد هل يمكن له فهم أو هو مما لا يفهم له معنى ومنها الكلام على قوله حتى يمسي ما هو حدّ المساء هنا ومنها لم فُضِّلَ هذا العمل على كل الأعمال من حج وجهاد وصوم وصدقة وغير ذلك من أفعال الخير وهل من قال بعض العدد مثل النصف أو أقل أو أكثر هل يكون له من الثواب بتلك النسبة أم لا
فأما الجواب على قولنا ما الحكمة بأن جعل هذا الأجر العظيم منوطاً بهذا العدد المسمَّى وهي المائة مرة فإن قلنا تعبداً فلا بحث وإن قلنا له وجه من الحكمة فما هو فنقول والله أعلم إنه لما أخبرنا الصادق لا لا لا ل لنا أن الله عزّ وجلّ جعل الرحمة في مائة جزء فأخرج منها إلى الدنيا واحدة وادَّخَر بفضله التسعة والتسعين للمؤمنين في الآخرة فمن جملة الرحمات بالمؤمنين في تلك الدار النجاة من النار ودخول الجنة والتنعم بها وبما فيها فإنه من عُوفِيَ من النار أدخل
۱۱۰۱

الجنة لا محالة لقوله عليه الصلاة والسلام ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ۱ ومن جملة ما من الله عليهم في هذه الدار أن عوفوا من الشيطان لأنهم إذا عوفوا من الشيطان فقد دخلوا في ضمن قوله تعالى ﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ فجعلهم من أهل الخصوص وهم
أرفع الناس
وقد أخبر الصادق له الا وهو أن الحسنة بعشر أمثالها فإذا قالها مائة مرة كانت له بألف فبكل مائة التي هي مبلغ عدد أجزاء الرحمة المتقدم ذكرها وجب له بالفضل ما تضمنته تلك الأجزاء على ما تقدم من البحث وهو النجاة من النار والنجاة من النار من لازمها دخول الجنة كما قدمنا وذلك ما انتهت بالمؤمنين جميع تلك الأجزاء التي قسمت عليها الرحمة - أعني في الدنيا والآخرة - منتهاه دخول الجنة وعبّر عليه الصلاة والسلام عن ذلك يعتق الرقبة لأنه قد أخبر أنه من أعتق رقبة أعتقه الله بها من النار بكل عضو منها عضواً عن معتقها وزاده من فضله محو المائة سيئة وزيادة مائة حسنة وعصمه يومه ذلك من الشيطان ۳ لأنه عزّ وجلّ يقول وهو أصدق القائلين وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ٤ بعدما أخبر بالتضعيف في الأجور أخبر أنه يزيدهم من فضله والكل
من فضله من الله علينا به بفضله
وأما حدّ المساء هنا فهو محتمل أن يريد به آخر وقت المساء وهو مغيب الشمس واحتمل أن يريد به أول وقت المساء وهو زوال الشمس لأن العرب تسمي من زوال الشمس إلى غروبها مساء وقد تسمي الكلّ بالبعض والبعض بالكل لكن قد جاء في حديث آخر ما يدل أنه إلى آخر المساء وهو غروب الشمس لأنه عليه الصلاة والسلام قال وإن قالها في ليلة لم يضره الشيطان حتى يصبح ٥ ولا يقال أصبح إلا بعد أن يطلع الفجر فكما يكون في الليل إلى آخره فكذلك يكون في اليوم إلى اخره وهو غروب الشمس
ويعطي ذلك أيضاً قوة الكلام لأنه جاء عن طريق المن والإفضال وما هو على هذا الوجه لا
۱ رواه البيهقي في شعب الإيمان رقم / ٣٦٠/٧/١٠٥٨١ في ضمن حديث طويل سورة الإسراء من الاية ٦٥
۳ رواه البخاري في كفارات الأيمان ومسلم في كتاب العتق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيما روياه وزاده من فضله محو المائة سيئة إلى آخره
٤
وردت هذه الآية في عدة مواطن من القرآن الكريم وهي سورة النساء ۱۷۳ وسورة النور ۳۸ وسورة فاطر ۳۰ وسورة الشورى ٢٦
٥ جاء في البخاري في كتاب الوكالة عن أبي هريرة رضي الله عنه إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح
۱۱۰

يكون إلا على أكمل ما ينطلق عليه اللفظ ولوجه آخر وهو إذا كان الحدّ من جنس المحدود دخل فيما حد كما تقول بعتك هذا الثوب من الطرف إلى الطرف فالطرفان داخلان في البيع
يعني
وأما قولنا لم فضل هذا العمل على ما عداه من أعمال البر من صوم وصلاة وحج وغير ذلك من أفعال البر لأنه الا و قد نفى بقوله لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك أكثر من المائة مرة عدداً فنفيه الفضيلة عما سواه أثبت الفضيلة له فالجواب أن اللفظ عام ومعناه الخصوص فتكون في النوافل لا غير لقوله الا الله إخبارا عن ربه عزّ وجلّ لن يتقرب إليّ المتقربون بأحب من أداء ما افترضت عليهم ثم لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه ۱ وقوله في الصلاة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ٢ وجعلها فرقاً بين الكفر والإيمان والآي والأحاديث في ذلك كثيرة والإجماع منعقد على ألا شيء من أفعال البر أفضل من الفرائض
فيخصص عموم اللفظ بما ذكرناه وبقي هذا خاصاً بأنه أفضل المندوبات وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج إلى البحث في علة تفضيل هذا الذكر الخاص على جميع المندوبات من أنواع أفعال البر فتقول والله الموفق
ونفي
لما كان أعلى الواجبات واكدها قول لا إله إلا الله والإقرار له سبحانه وتعالى بالوحدانية الضد والند والشريك والصاحبة وجميع النقائص ووصفه بجميع أوصاف الكمال والجلال على ما يليق بجلاله تبارك وتعالى علوّاً كبيراً وجاءت جميع المفروضات كلها تابعة لها بعد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ۳ معناه على الحد الذي طلب منهم فيها كما تقدم وصفه فلما كانت في الفرائض لم يأت أحد بأفضل منها فكذلك هي في المندوبات لا يأتي أحد بأفضل منها لأن هذه الصيغة المذكورة في الحديث تضمنت ما أشرنا إليه من أوصاف الكمال لجلاله سبحانه ونفي ضدّها وتكرارها مائة مرة تأكيد على تأكيد وتأكيد وصف الجلال زيادة جلال وإن كان جلاله سبحانه لا نهاية له لكن هذا بحسب ما نعرفه من جهة التخاطب بيننا وبذلك تعبدنا فبان ما قاله الصادق لا لا اله الا انه لم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا من
۱ رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث قدسي أوله من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب رواه الإمامان مالك وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عبادة رضي الله عنه وأوله خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة ۳ حديث متواتر رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه وكثيرين من الصحابة رضي الله
عنهم
۱۱۰۳

جاء بزيادة على العدد المذكور فإنه زيادة في التأكيد وما هو زيادة في التأكيد فهو زيادة في الترفيع
وأما قولنا من قال بعض العدد هل يكون له بنسبة ذلك من الأجر المذكور فاعلم أن الأجور في الأعمال والعقاب على الذنوب لا تؤخذ بالعقل ولا بالتقدير لأنها ليست لعلة عقلية ولا عليَّة كما قدمنا أول الكتاب فكل ما ليس فعله لعلة فلا يدخله تقدير ولا يحكم عليه بالقياس وإنما هو متوقف على الشارع فعند تحديده عليه الصلاة والسلام ينظر هل تفهم الحكمة فيه أم لا فإن فهمناها بدليل شرعي شكرنا الله على ذلك وإلا قلنا تعبداً لا يعقل له معنى وهنا وقفت العقول وحارت الأذهان وذلت الرقاب وإن كان قد جاء في الأحاديث من قالها أقل من هذا العدد فله أجر أقل من هذا فمنها قوله عليه الصلاة والسلام فيمن قالها مرة واحدة كان له أجر عتق رقبة وكتبت له عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيئات وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي أو كما قال عليه الصلاة والسلام فصح باختلاف الأحاديث أن ذلك لا يؤخذ بالتقدير ولا بالعقل لأنه قد جعل في الواحدة عتق رقبة واحدة وفي المائة عتق عشر رقاب فلا نسبة لها من جهة العقل ولا من جهة القياس بل هو فضله عزّ وجلّ يؤتيه من يشاء كيف يشاء جل جلاله
وفيه دليل على تفضيل أهل الصوفة يؤخذ ذلك من جعل هذا الأجر العظيم لمن قال هذا القول مائة مرة فكيف بمن قالها يومه كله هكذا لا يفتر إلا عند أداء فرضه أو ضرورة البشرية فإن طريقهم مبني على دوام الذكر والحضور ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنِ ﴾ ۱ وهم في ذلك متبعون لسنة سيدنا لأنه جاء في وصف حاله عليه الصلاة والسلام أنه كان طويل الصمت كثير الذكر وعلى هذا بنوا طريقهم وقد قال الله ما عمل ادمي من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله
وهذا الذكر الذي يبلغ به العبد هذا الحال إنما هو بعد أداء الفرض لأن ما نحن بسبيله هو من باب المندوب وجميع المندوب لا يقوم بفريضة واحدة فكيف بالمتعددة ولذلك لم يأخذ القوم في مثل هذه المندوبات حتى أكملوا فروضهم التي هي الأصل في الدين وحينئذ أخذوا فيما ذكرنا وقد وقع بعض الناس في العكس بالسوء فسمعوا مثل هذا الحديث وشبهه فأكثروا من المندوبات وضيعوا كثيرا من الواجبات فصاروا كما قال صاحب الأنوار ۳ ردّوا الأصول
۱ سورة السجدة من الآية ١٧
هو أمَّا محيي الدين بن عربي رحمه الله أو أبو عبد الرحمن الصقلي - معاصر ابن أبي جمرة - أو رزين العبدري ـ

فروعاً والفروع أصولاً ومعناه أنهم حافظوا على المندوبات كما حافظ أهل التوفيق على الواجبات وزهدوا في الواجبات وتعلقوا في ذلك برجاء فضل الله تعالى وقد قال جلّ جلاله إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوَلَيْكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ﴾ ١ وقال عزّ وجلّ نَى عِبَادِى أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيرُ ﴾ فنسأله جلّ جلاله التوفيق إلى أداء فرضه والاجتهاد في أعمال ما ندبنا إليه وقبول ذلك والسعادة به بمنّه لا ربَّ
سواه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ۱۸ سورة الحجر من الايتان ٤٩ و ٥٠
1105

- ١٨٤
حديث كراهية صيام الدهر
عَن عبد الله بن عمرو ۱ رضي الله عَنهُما قال أخبِرَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقول والله لأَصُومَنَّ النَّهارَ وَلأَقومَنَّ اللَّيلَ ما عِشتُ فَقالَ رَسولُ الله أنتَ الَّذِي تَقولُ والله لأصومَنَّ النَّهارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ ما عِشتُ قُلتُ قَد قُلتُهُ قالَ إِنَّكَ لا تَستَطيعُ ذلكَ فَصُمْ وأفطِرْ وَقُمْ وَنَمْ وصُمْ مِنَ الشهرِ ثلاثةَ أَيَّامٍ فإنَّ الحَسنَةَ بِعَشر أمثالها وذلكَ مِثلُ صِيام الدهر فقُلتُ إِنِّي أُطِيقُ أَفضَلَ مِن ذلك قالَ فَصُم يوْماً وأَفطِرْ يَومَينِ فَقُلتُ إِنِّي أُطيقُ أفضَلَ مِن ذلكَ قَالَ فَصُمْ يوماً وأفطِرْ يوماً وَذلِكَ صِيامُ داودَ وهُوَ أعدَلُ الصِّيامِ قُلتُ إنِّي أُطيقُ أَفضَلَ مِن ذلِكَ يا رَسُولَ الله قالَ لا أَفضَلَ من ذَلِكَ ٢

ظاهر الحديث إخباره بأن أفضل صوم التطوع أن يصام يوم ويُفطر يوم وإخباره بأنه كان صوم داود عليه الصلاة والسلام والكلام عليه من وجوه منها أنه لا يجوز الحكم إلا على الأمر الذي لا يحتمل التأويل يؤخذ ذلك من أنه لما أخبر بما قاله عبدالله أنه يصوم النهار ويقوم الليل ما عاش لم يخبره عليه الصلاة والسلام بعدم طاقته على ذلك ولا بما هو الأفضل في الصوم إلا حتى ٣ استفسره بأن قال له أنت الذي تقول والله لأصومن النهار ولأقومنّ الليل ما عشتُ فلما اعترف له عبد الله بذلك حينئذ أخبره بما هو
الأفضل
۳
وفيه دليل على أن من السنّة إيصال أخبار الرعية إلى راعيها يؤخذ ذلك من كون سيدنا الله
١١٠٦
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦١ راجع الحديث ٦١
۳ كذا بإقحام إلا قبل حتى

أخير بمقالة عبد الله فلولا ما أصبح ذلك عنده معلوماً ما قال له رسول الله ل لذلك ويترتب عليه من الفقه أن يستعمل ذلك في كل من له رعاية على أحد صغيراً كان أو كبيراً
وفيه دليل على جواز اليمين على ما يريد المرء أن يفعله من المندوبات يؤخذ ذلك من قول عبد الله والله لأصومن النهار فلما بلغ ذلك سيّدنا لم يعنفه على ذلك وسكت عن كونه حلف وسكوته عليه الصلاة والسلام دال على جوازه
وفيه دليل على جواز الذكر بين الإخوان بأنواع العبادات وأن يبدي الشخص لهم ما وقع عزمه على فعله من أي أنواع العبادات شاء يؤخذ ذلك من ذكر عبدالله ذلك حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبره ولم يقل له في ذلك شيئاً فدل على جوازه
وفيه من الفائدة أن ذكر ما عزم المرء عليه من أفعال البر بين إخوانه هو من باب التذكير بالخير والتعاون عليه لأنه عند ذكره العزم على ذلك قد تنبعث نفوس الغير إلى مثل ذلك أو إلى ما يقرب منه فيدخل في قوله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ۱ إلا أنه بشرط أن يكون الإخوان يُعلم منهم ذلك لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان ذلك شأنهم أجمعين
وفيه دليل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وعدم تملقهم في الكلام وقصدهم الفائدة لا غير يؤخذ ذلك من أنه لما سأل سيدنا الا الله عبد الله بأن قال له أنت الذي تقول لم يزده في الجواب على أن قال له قد قلته بلا زيادة من اعتذار ولا تملق وقوله صلى الله عليه وسلم إنك لا تستطيع ذلك
وهنا بحث هل هذا خاص بعبد الله لما يعلم هل الله لا من حاله أو هذا لجنس البشر احتمل الوجهين معاً والأظهر - والله أعلم - أنه لجنس البشر لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث غيره إن المُنبَتْ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظهراً أبقى ۳ ولقوله عليه الصلاة والسلام عن معاذ بن جبل لصاحبه هو أفقه منك وقد تقدم ذكره في غير ما موضع من الكتاب
وفيه دليل على أن الأمر بما فيه راحة النفوس إذا كان عوناً على الطاعة يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام أفطرْ ونم فإنهما عون على القيام والصيام
۱ سورة المائدة من الآية ٢ العطف على المصدر المؤول من أنه
۳ أول الحديث إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبَتَ إلخ رواه البيهقي في شعب الإيمان وفيه اضطراب روي موصولاً ومرسَلاً ومرفوعاً وموقوفاً ورجح البخاري إرساله
١١٠٧

وفيه دليل على أن صوم يوم تطوعاً بعشرة أيام يؤخذ ذلك من قوله صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر
وفيه دليل على ضرب المثال بممكن لا يقع ليعلم بذلك المثال فائدة يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام وذلك مثل صيام الدهر ومن المعلوم قطعاً أن من الدهر ما لا يجوز صومه مثل أيام الأعياد وأيام التشريق ومنه ما لا يصام تطوعاً أصلا وهو رمضان وما يترتب من طريق النذر والكفارات الواجبات شرعاً هي مثل الفرض لا يمكن صومها تطوعاً وقد أطلق عليه الصلاة والسلام على الجميع الدهر في المثال فيكون التقدير فيه أن يتأتى صومه أو ما عدا ما فرض من صومه فلا بد فيه من ضمير يخصص عمومه وفيه دليل على أن السنّة في الراعي أن يحمل رعيته على الأرفق في الأمور يؤخذ ذلك من أن
سيدنا لم يأمره أولاً بالأقل من الصوم لأنه أرفق ويقدر عليه القوي والضعيف
وفيه دليل على جواز مراجعة المسترعي راعيه بطلب الزيادة في المجاهدة إذا علم من نفسه أهلية لذلك يؤخذ ذلك من قول عبد الله إني أطيق أفضل من ذلك إلا أنه يكون بأدب كما فعل هذا السيّد لأنه لم يزد أن أخبر عن نفسه أنه يطيق أفضل من ذلك ولم يقل إني أفعل أكثر مما قلت وإنما أخبر بما يطيقه وبقي ينظر بماذا يؤمر ويترتب عليه من الفقه أن يكون في سائر الأمور يخبر راعيه بما هو الأصلح له بحسب حاله حتى يرى بماذا يأمره راعيه
وفيه دليل على أن الدين مطلوب بفرضه وندبه يؤخذ ذلك من أن النبي ل لا والله لقد أمر عبد الله
بالصوم من كل شهر ثلاثة أيام ثم درّجه إلى الشطر فكفى بذلك دليلا على طلبه
وفيه دليل على المنع من التغالي في الدين يؤخذ ذلك من منعه هل ما زاد على الأفضل ـ وهو صوم شطر الدهر - بقوله عليه الصلاة والسلام لا أفضل من ذلك فأجاز له ما كان أقل من الشطر لكونه ادعى الأهلية في ذلك ولما بلغ الأفضل وادعى أن فيه الأهلية للزيادة على ذلك منعه عليه الصلاة والسلام بقوله لا أفضل من ذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا إذا سمعوا منه صلى الله عليه وسلم لا أفضل لا يزيدون على ذلك شيئاً وإنما كان قصدهم الأفضل في الأعمال فقام قوله عليه الصلاة والسلام لا أفضل مقام المنع من ذلك
وفيه دليل على أنه إذا تقعدت القاعدة الشرعية وعُلِمت فلا يحتاج إلى تكرارها يؤخذ ذلك من أنه لما أخبر النبي الله وبحلف عبد الله أنه يقوم الليل ويصوم النهار أخبره الا الله بفعل الأفضل وهو ضد ما حلف عليه ولم يقل له كَفَرْ عن يمينك لأن هذه القاعدة عندهم قد ثبتت فلم يحتج
إلى أن يذكر له ذلك
۱۱۰۸

وفيه دليل على أن الفضيلة في الأعمال بحسب ما جعلها الشارع لا بحسب العقل
يؤخذ ذلك من قول عبد الله لما قال له النبي الا الله ولا صام يوماً وأفطر يوما قال له إني أطيق أفضل من ذلك لما تقدم له أن الزيادة على الثلاثة أفضل فرأى أن الزيادة على الشطر أفضل فأخبر الشارع بأن تلك الزيادة نقص لا فضلة فيها بقوله عليه الصلاة والسلام لا أفضل من ذلك فذهب هنا ما قاسه عبد الله
وفيه دليل على أن عظم الأجر في العبادات ليس بكثرة التعب يؤخذ ذلك من كون عبدالله ظن زيادة المجاهدة - وهي زيادة الصوم على شطر الزمان - أفضل فمنع هلال الهلال و ذلك بقوله لا أفضل من
ذلك
وفيه دليل على أن الحكم لاستصحاب الحال حتى يَرِدَ ناسخ من الشارع يؤخذ ذلك من أن عبدالله لما رأى الزيادة على الثلاثة أفضل استصحب ذلك الحكم حتى جاوز شطر الزمان فمنع الشارع عليه الصلاة والسلام ذلك ونسخه بقوله لا أفضل من ذلك
وفيه دليل لمن يقول إنّ شرعَ مَنْ قَبْلَنا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ عليه ناسخ يؤخذ ذلك من قوله وذلك صيام داود عليه الصلاة والسلام
وفيه دليل على فضل السنة واتساعها حتى يدخل فيها القوي والضعيف يؤخذ ذلك من

تدريج سيدنا صوم التطوع من العشر في الزمان - الذي هو ثلاثة أيام في الشهر ـ إلى النصف منه الصوم وهو صوم يوم وإفطار يوم وما بين هذين الحدين توسعة كبرى يتسع فيها جميع الناس على اختلاف
أحوالهم
وفيه دليل على التسوية بين أيام الشهر بلا فضيلة بينها يؤخذ ذلك من قوله ثلاثة أيام من كل شهر بغير تعيين وجعل الأجر فيها سواء
وفيه دليل على أن تفريقها - أعني أيام الصوم في الشهر - أو تتابعها في الأجر سواء يؤخذ ذلك من قوله ثلاثة أيام من كل شهر ولم يذكر فيها تتابعاً ولا تفريقاً فدل على أن الأمر في ذلك
ستیان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
119

11691
حديث أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه السلام
عَن عَبدِ الله بنِ عَمرو رضيَ الله عَنهُما قالَ قالَ لي رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ الصِّيامِ إلى الله عزَّ وجَلَّ صِيامُ داودَ عليهِ السَّلام كانَ يَصومُ يَوماً ويُفطِرُ يَوماً وأَحَبُّ الصَّلاةِ إلى الله صَلاةُ داوُدَ كان ينامُ نِصفَ اللَّيلِ ويقومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ
*
ظاهر الحديث يدل على حكمتين أحدهما الإخبار بأن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه الصلاة والسلام والآخر الإخبار بأن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه الصلاة والسلام أيضاً وتبيين صفتها والكلام عليه من وجوه
أحب
منها أن يقال ما معنى قوله أحب وما معنى الحكمة في ذلك حتى كانت هذه الصفة
ومنها تعارض صومه وه و لهذه الصفة لأنه صح عن عنه الا الله و أنه كان يصوم حتى يقال إنه لا يفطر ويفطر حتى يقال إنه لا يصوم وما استكمل شهراً بالصوم قط إلا رمضان ۱ وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أن من أدام الصومَ ضُيّقت عليه النارُ ۳ وكيف الجمع بين هذه الأحاديث وهل يكون ذلك تعارضاً أم لا
أما قوله صلى الله عليه وسلم أحب الصيام إلى الله فقد تقدم الكلام على هذه اللفظة في غير ما حديث وهي كناية عن فضيلة العمل وكثرة الثواب عليه فإن الحب الذي هو الولوع في الشيء في حق الله سبحانه مستحيل فإن هذا من صفات المحدثات والحق سبحانه وتعالى منزه عنها وإنما يعني بالحب ما يصدر عن الكرام إذا أحبوا الشيء وأعجبهم عن كثرة إحسانهم وإفضالهم على فاعله من هنا يكون
۱ عزاه ابن الربيع في تيسير الوصول ۳۸/ إلى الستة عن السيدة عائشة رضي الله عنها وتتمة الحديث وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان لم نقف على مصدره بهذا اللفظ
۱۱۱۰

الشبه لا غير وفيه تحقيق لما قدمناه في الحديث قبل من أن الأجور على الأعمال ليست موقوفة
على كثرة التعب والمشاق وإنما هي بحسب ما تفضل به المولى سبحانه
وأما قولنا هل تفهم الحكمة في تفضيل هذه على غيرها وإن كثر التعب فيها فقد نص الكتاب العزيز على معنى العلة في ذلك وهو قوله عزّ وجلّ ﴿ مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۱ وقال الله تعالى وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَناً فيفهم أن الحكمة الربانية قد أحكمت أنه لا بد لكل دعوى من
هاتین
الآيتين علمنا ما الحكمة في ذلك وهي حقيقة تبينها فلو كان الدين والقرب من الله سبحانه وتعالى بمجرد الدعوى ادعاه الناس كلهم فلما جعلت المجاهدات في العبادات جاءت مبينة لحقيقة تلك الدعاوى فمن جاهد وصبر كان ذلك تحقيقاً لما ادعاه وحصل له الفوز العظيم والأجر الكبير يدل على ذلك قوله تعالى الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ۳ فاقتضت صفة الرحمة الرفق بفضله عزّ وجلّ بعبيده بقوله عزّ وجلّ ﴿ مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَا بِكُمْ ﴾ ٤
فما كان من المجاهدات فوق ما يطيقه وضع خلق البشرية منعه عزّ وجل بعدم الثواب الجزيل عليه وجعل المجاهدة التي تتحملها البشرية بوضع خَلْقِها ولا كبير مشقة عليها أفضلها لأنه عزّ وجلّ غنيّ عنهم فيما تعبدهم به فما كلفهم منها إلا بقدر ما تصح لهم الدعوى بالانقياد لما أمروا به ولذلك قال تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ٥ وقد قال جلّ جلاله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ٦ رحمة منه عزّ وجلّ بعباده ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخبير ٧ ۷
وأما كيف الجمع بين تلك الأحاديث وهل هو تعارض أم لا أما الذي جاء عنه من أنه كان يصوم حتى يقال إنه لا يفطر ويفطر حتى يقال إنه لا يصوم فظاهره التعارض وإذا حققت النظر فيه فليس بتعارض بل فعله إشارة إلى التوسعة وابقى الفضيلة على الحد الذي أخبر عن
۱ سورة النساء من الاية ١٤٧ سورة العنكبوت من الآية ٦٩ ۳ سورة العنكبوت الايتان ١ و ٢ ٤ سورة النساء من الآية ١٤٧ ٥ سورة البقرة من الاية ٤٥ ٦ سورة البقرة من الاية ۸٦
۷ سورة الملك الآية ١٤
۱۱۱۱

صوم داود عليه الصلاة والسلام ويكون معنى صومه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم حتى يقال إنه لا يفطر ويفطر حتى يقال إنه لا يصوم فوصل الصوم بعضه ببعض ووصل الأكل بعضه ببعض ويكون يحفظ عدد الأيام في الصوم والأكل أن تكون سواء بسواء ولذلك نعتت عائشة رضي الله عنها الأكل والصوم بنعت واحد وهو قولها حتى نقول إنه لا يصوم وحتى نقول إنه لا يفطر فيكون صومه عليه الصلاة والسلام شطر الدهر وفطره شطر الدهر فكان عليه الصلاة والسلام يراعي في ذلك فقه الحال أيهما راه رجح فعله فجاء فعله عليه الصلاة والسلام مع فعل داود عليه الصلاة والسلام سواء في مشاطرة الدهر في الصوم وزاد الله في
ذلك فوائد
منها التوسعة على أمته لأنه كثيراً من الناس لا يمكنهم صوم يوم وفطر آخر فمنهم مَنْ عَدِم القدرة ومنهم من به ضرورة لا يتأتى معها ذلك فإن الضرورات كثيرة وأحوال الناس مختلفة فكان يفوت لبعض الناس الذين لهم همة في الدين تلك الفضيلة
ومنها اغتنام نشاط النفس في العمل وهو فقه الحال لأنه إذا رأى الشخص من نفسه نشاطاً في العبادة يحتاج أن يغتنمه أو خلوا من شغل فيغتنمه أيضاً أو عوناً ما على تلك العبادة من وجه ما فيغتنمه أيضاً أو صحة في البدن ولذلك قال الله اغتنم خمساً قبل خمس فراغك قبل
شغلك وصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك ۱
ومنها أن يلحق في ذلك أصحاب الأعذار بغيرهم حتى لا تفوتهم تلك الفضيلة مثال ذلك الحائض لو كان هلال الهلال يصوم مثل داود عليه الصلاة والسلام ما قدرت حائض ممن لها همة في الدين تبلغ ذلك أبداً وعلى ما أشرنا من فعله عليه الصلاة والسلام تقدر على ذلك فإن أيام حيضها وهو شطر الدهر وهو خمسة عشر يوماً في الشهر فتكون تصوم أيام طهرها وهو نصف الدهر وتفطر أيام حيضها وهو شطر الدهر أيضاً
وفيه فوائد أكثر من هذا لمن تأمله لأنه عليه الصلاة والسلام جاء بالتيسير في الأمور كلها فالحديثان مفترقان في الظاهر مجتمعان في المعنى فلا تعارض بينهما
وأما قوله عليه الصلاة والسلام من أدام الصوم ضيّقت عليه النار احتمل أن يكون معناه من أدامه على الوجه الأفضل حتى توفي على ذلك فيكون معناه المحافظة على دوام تلك العبادة حتى يموت وهو على ذلك الحال فذلك الشخص الذي تضيق عليه النار أي أنه لا يدخلها
۱ رواه الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه الإمام أحمد في الزهد عن عمرو بن
میمون مرسلا
۱۱۱

واحتمل أن يكون من أدام الصوم على ظاهره ويكون ثوابه أن تضيق عليه النار ولا يلزم
من كونه تضيق النار عليه أن يكون أفضل من الذي يصوم يوماً ويفطر يوماً بل يكون الذي يصوم يوماً ويفطر يوماً أرفع منه وأعظم أجراً إلا أنه عليه الصلاة والسلام قد وصفه بصفة لم يصف بها هذا وهو قوله أحب ويكون مثل هذا كما قال عليه الصلاة والسلام يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب وهم الذين لا يَسْتَرْقون ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون ۱ هذا هو
ثوابهم
وقد يكون من يسترقي أعلى منهم مثل الشهداء قد جاء أنهم يشفعون وكذلك جاء في العلماء العاملين أنهم يشفعون ومَنْ منزلته أن يشفع في غيره أعلى ممن يدخل الجنة بغير حساب فإن خيره مقصور على نفسه والآخر خيره متعد فدل على علو منزلته أن يشفع وقد جاء أن من هذه الأمة من يشفع في مثل ربيعة ومضر ۳ وهذا من أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام فلا تعارض أيضاً وإنما ذكرنا هذين الحديثين لأنه وقع لجملة ممن ينتسب إلى أهل العلم إشكال فأردنا إزالة ذلك وفيما بيناه كفاية في إزالته بفضل الله تعالى
وفيه دليل على حسن الدعاء إلى الخير يؤخذ ذلك من إخباره بخير الوجوه في الصوم وفي الصلاة بالليل ولم يقل لهم بعزيمة افعلوا كذا وساقه في طريق الإخبار عَمَّنْ تقدم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فجاء إرشاده عليه السلام في هذا الحديث بذكر أحوال من تقدم من الأنبياء عليهم السلام مثل القصص في القرآن وقد قال علماؤنا إن كانت القصة تدل على عمل خير فقد طلب منك بالضمن وإن كانت تدل على ترك شر فقد طلب منك تركه بالضمن أيضاً ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في صفته عليه السلام كان خلقه القرآن ٤ أي أنه كان يمشي في جميع شأنه كله على ما دل عليه القرآن وعلى أسلوبه
وفيه دليل على أن كل ما تقدم من الشرائع الصوم والصلاة مشروعان فيه
وفيه دليل على التأسي بمن تقدم من الأنبياء عليهم السلام يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام

۱ رواه البخاري عن ابن عباس ومسلم عن أبي هريرة وعمران بن الحصين رضي الله عنهم ويَسْتَرْقون يطلبون من غيرهم أن يَرْقِيَهم ويتطيرون يتفاءلون أو يتشاءمون بالطير وبغيره من الأشياء والأيام والأصوات وسواها ٢ أخرج ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه عن النبي لا لا لا لو قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ليل ۳ رواه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائد مسند أبيه والحاكم في المستدرك وصححه وفي الباب عن أبي أمامة أنه سمع النبي لا الهلال يقول ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيَّين ربيعة ومضر فقال يا رسول الله وما ربيعة ومضر قال إنما أقول ما أقول ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن السيدة عائشة رضي الله عنها
33 3
۱۱۱۳

وأحب الصلاة إلى الله بيّن أنها الصفة التي كان يفعلها داود عليه السلام وكذلك الصوم ويقويه قوله تعالى حين ذكر الأنبياء ثم قال فَيَهُدَتْهُمُ اقْتَدِهُ ﴾ ۱ أي طريقهم اتبع
وهنا بحث لِمَ كانت هذه الصلاة التي صفتها أن ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه هي أفضل من غيرها فنقول والله الموفق لما كان المطلوب من العبادة الحضور فيها ومن المستحب فيها الاشتغال بها عند غفلة الناس وفي الأزمنة التي اتخذها الناس للراحة غالباً فكان قيامه بعد نصف الليل الأول فذلك الوقت أشد ما يكون الناس فيه من الغفلة والنوم غالباً فكان التلبس بالعبادة في ذلك الوقت مما يستحب ولأنه أيضاً الوقت الذي يتجلى الحق سبحانه فيه بفضله ويقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوبَ عليه لأن العلماء قد اختلفوا متى يكون ذلك هل في الثلث الوسط من الليل أو الثلث الأخير منه فإذا كان القيام بعد نصف الليل الأول فقد أخذ من ثلث الليل المتوسط نصفه وأخذ من الثلث الاخر نصفه فحصل له الفضل في الزمان فكانت صلاته أحب ويترتب على هذا من الفقه أنه إذا كان عمل الشخص بوفاق بين العلماء فهو أفضل من الذي
فيه الخلاف
ونومه السدس الآخر لأن يزول عنه تعب العبادة وتجم النفس وينشط لصلاة الصبح فإن الحضور في الصلاة لا يكون غالباً إلا مع نشاط النفس وعدم تعبها ولذلك كان سيدنا يقول في أذان بلال وكان أذانه قبل الفجر إن أذان بلال يوقظ النائم وينوم القائم ۳ لأن من كان في تعبده مثل داود عليه السلام فذلك وقت نومه ومن غلبه النوم أو كان له عذر فلم يبق له لتأخير التهجد وقت فذلك وقت قيامه لورده وإلا فاته فضل قيام الليل
وردك حافظ عليه ولا تكسل وفضل قيام الليل فلا تجهل وبماء استغفار أسحاره ذا غسل وسخ ذنوب قد أثقلت محمل وناد بالهادي من يثرب وقل فليس على المضطر سؤال من مفضل وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأنعام من الآية ٩٠

حديث قدسي رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ومطلعه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول من يدعوني فأستجيب له إلخ ۳ رواه النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ إن بلالا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم وليرجع قائمكم ومعنى ليرجع قائمكم القائم هو الذي يصلي صلاة الليل ورجوعه عن صلاته إذا سمع
الأذان
1114

هذا الصحابي رضي الله عنه لما سأل سيدنا أن يخبره عن أول مسجد وضع أولاً فلما يعلم من حسن مقاصد الصحابة رضوان الله عليهم وتعظيمهم لشعائر الله فإنه لم يكن سؤاله عن ذلك إلا ليحترمه أكثر من غيره فجاوبه الله عن أول مسجد وزاده بأن أخبره بهذا الخبر العظيم وهو جعل الأرض لنا مسجداً وطهوراً
وفيه دليل على أن للعالم أن يجاوب بأكثر مما سئل عنه يؤخذ ذلك من كون السائل سأل عن
أي المساجد وضع أولاً فجاوبه الا الله على ذلك وزاده الإخبار بجعل الأرض مسجداً وطهوراً وفيه دليل على أن من فصيح الكلام الاختصار في الألفاظ بشرط ألا يخلّ بالمعنى يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل والمقصود حيثما أدركك وقت الصلاة فإن الصلاة فعل للمصلي فكيف يدركه فعله هذا مستحيل فلما لم يكن أن يكون في هذا الأمر التباس اختصره ولِعِلْمِهِ أيضاً بأن المخاطب فهم عنه وإلا كان يزيده فيه بياناً

وفيه دليل على المحافظة على أوقات الصلوات يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام حيثما أدركتك الصلاة فصل أي لا تؤخرها فدل هذا بضمنه على المحافظة على الصلاة ودلّ أيضاً على التحضيض على المعرفة بأوقات الصلوات لأنه من اللازم أنه لا يعلم وقتها حتى يكون له
بذلك علم

وفيه دليل على ما خص الله عزّ وجلّ به سيّدنا من الفصاحة يؤخذ ذلك من كونه لفظة منه عليه السلام تحتوي على أحكام عديدة مثل ما نحن بسبيله من هذا الحديث وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١١١٦

حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد
عَن أبي هريرة رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَم يَتكلَّم في المهدِ إلا ثلاثَة عيسى وَكانَ في بني إسرائيل رَجُل يُقال لَهُ جُرَيْج كانَ يُصلِّي فَجاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقالَ أُجِيبُها أو أَصَلِّي فَقالَت اللَّهُمَّ لا تُمِنْهُ حتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المومِساتِ وَكانَ جُريج في صومعتِهِ فَتعرَّضت لَهُ امرأة فكلمته فأبى فأتت راعِياً فأمكَنَتْهُ مِن نَفْسِها فَولَدت غُلاماً فقالت مِنْ جُريج فأتَوهُ فَكَسروا صَومَعتهُ وأنزَلوه وَسبُّوه فَتوضأ وَصلَّى ثُمَّ أتى الغُلامَ فقالَ مَن أبوكَ يا غُلامُ فَقالَ الرَّاعي فَقالوا أنبني لك صومعتك من ذهب قال لا إلا
من طين
وكانت امرأة تُرضِعُ ابناً لَها من بني إسرائيل فمرَّ بها رجل راكب ذو شارَةٍ فقالت اللَّهُمَّ اجعل ابني مِثلَه فتركَ ثديها وأقبل على الراكب فقالَ اللَّهُمَّ لا تجعلني مِثلَهُ ثُمَّ أقبلَ على ثديها يَمَصُّهُ قالَ أبو هريرةَ كأنّي أنظُرُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ أصبعه ثُمَّ مرَّ بأمَةٍ فقالت اللَّهُمَّ لا تجعل ابني مِثل هذه فترك ثديها فقالَ اللَّهُمَّ اجعلني مِثلها فقالَت لَه وَلِمَ ذلِكَ قالَ الرَّاكِبُ جَبَّار من الجبابرة وهذه الأمة يقولون سَرقتِ زنيتِ وَلَم
تفعل
وجوه
ظاهر الحديث الإخبار بكلام أولئك الثلاثة في المهد فيمن تقدم من الأمم والكلام عليه من
منها أن فيه دليلاً على أن أفضل العبادات برّ الوالدين يؤخذ ذلك من كون جريج ما شغله عن إجابة أمه إلا شغله بالعبادة ومع ذلك عوقب بذلك الهوان
۱۱۱۷

وفيه دليل على إجابة دعاء الوالدين يؤخذ ذلك من ابتلائه بما دعت عليه أمه لما لم يجبها وفيه دليل على أن صاحب الخدمة إن جرى منه أمر يرفق به ولا يكون عقابه مثل غيره يؤخذ ذلك من كون أم جريج لم ينطلق على لسانها الدعاء بالعقاب إلا برؤية وجوه المومسات ولولا اللطف به لنطقت في الدعاء بوقوع الفاحشة أو سلب الإيمان أو الضرب أو القتل إلى غير ذلك وفيه دليل على أن صاحب الصدق في معاملته مع الله تعالى إن ابتلي يُلطف به ويُجعَل عاقبته
خيراً يؤخذ ذلك من كون المولود نطق ببراءته وفيه دليل على إجابة مولانا سبحانه وتعالى المضطر إذا دعاه يؤخذ ذلك من أنه لما اضطر جريج إليه عزّ وجلّ في تبرئته مما رُمي به أنطق عزّ وجلّ له المولود بما يدل على ذلك وفيه دليل على أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن وإن جرت عليه لا تزيده إلا ترفيعاً وخيراً يؤخذ ذلك من أنه لما تعرضت تلك المرأة إلى جريج والنساء أكبر الفتن على الرجال وقد قال ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء ۱ عصم منها ثم ادعت عليه حتى هدت صومعته لم يضره ذلك وجعل الله عزّ وجلّ له خير مخرج حتى رغبوا أن يبنوا له صومعته من ذهب وما ذاك إلا لما كبر قدره عندهم
وفيه دليل على أن النساء في بني إسرائيل كنّ يُصَدَّقن فيما يَدّعِين على الرجال من الوطء ويلحق به الولد بغير بينة ولولا ذلك ما كان يحتاج إلى تبرئته لكلام الطفل فإنه لو كان في شريعتنا حُدَّت له ثمانين حَدَّ الفِرْية ولم تُصَدَّق عليه وقد جاء عن بني إسرائيل أن ذلك كان من شأنهم حتى إن الباغية منهم إذا حملت ادعت به على من شاءت ممن تعرف وتُلحِق به الولد وتقول له يا فلان كان بيني وبينك كذا وكذا في اليوم الفلاني ومنك هذا المولود فيقبل قولَها ويُلحقه بنسبه
وفيه دليل على أن صاحب الصدق مع مولاه عند الضرورة يطلب النصر من مولاه بخرق العادة بصدق وإدلال على فضله تعالى وأن الله عزّ وجلّ يفعل معه ذلك يؤخذ ذلك من إتيان جريج بعد الركعتين الصبي يسأله مَنْ أبوه فأنطق الله عزّ وجلّ له المولود لكونه قصَدَه موقِناً بقوة الرجاء في فضله تعالى وقد أوحى الله عزّ وجلّ في الزبور لداود عليه السلام قل لبني إسرائيل من ذا الذي سألني فلم أعطه وفيه دليل على أن صاحب الصدق مع الله تعالى عند النوازل لا يجزع ولا يفزع بل يَقوى
۱ متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه - والرواية بدون كلمة هي
۱۱۱۸

١
يقينه لثقته بمولاه عزّ وجلّ يؤخذ ذلك من كون جريج لمّا فُعِل به ما فُعِل لم يَهُلْه ۱ قولهم ولا فعلهم وقرع باب مولاه وهو يجرّ ذيول فخر قوة رجائه في كشف ما به ابتلاه فأسرع عزّ وجلّ له بلطفه الجميل بنطق الطفل بكشف غمته أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولذلك قال موسى عليه السلام حين قال له قومه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ۳ لقوة رجائه في مولاه ففلق له عزّ وجلّ من حينه البحر تصديقاً لدعواه لأنه جلّ ثناؤه يقول وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ ٤ أي كافيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ٥
وفيه دليل على أن حقيقة النصر في جميع الأمور إنما هي بفضل الله عزّ وجلّ لا تتوقف على سبب حكمةٍ ولا غيرها فتارة تكون مغطاة بأثر الحكمة وتارة تكون بيد القدرة بارزة لا مغطاة بحكمة كمثل ما نحن بسبيله في قصة عيسى عليه السلام ومن ذكر معه في الحديث فجاء النصر لأم عيسى عليه السلام ولجريج بإبراز قدرة القادر لا غير
وفيه دليل على أن خرق العادة تكون للأنبياء عليهم السلام في ذلك ولغيرهم وقد تقدم الكلام على الفرق بينهما في ذلك يؤخذ ذلك مما جرى لعيسى عليه السلام من خرق العادة وهو من الأنبياء والرسل وخرق العادة التي جرت لجريج وجرت للمرأة التي ليست من الأنبياء ولا من العباد أعني أن خرق العادة كانت على صفة واحدة لكنها في حق الأنبياء تسمى معجزة وفي حق الأولياء كرامة
وفيه دليل على أن من أدب السنّة الكناية عن الأمور الفاحشة يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم أتته
امرأة فكلّمته فأبى والمعنى طلبت منه إيقاع الفاحشة فكان ي ل ل ا ل له عن ذلك بقوله فكلّمته وفيه دليل على أن من أدب السنة إظهار أهل الخير وإن كانوا قد ماتوا والستر على أهل المخالفات يؤخذ ذلك من كونه سمى العابد باسمه لتشتهر فضيلته ولم يذكر اسم المرأة ستراً عليها فحاله يصدق مقاله لأن من مقاله عليه الصلاة والسلام المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ٦ كل منا يريد أن تُستر عليه زَلاته ويحب أن يكون قدوة لأهل الخير وقد نص
1 لم يهله لم يفزعه من هاله يَهوله متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعبارة فليظن بي ما شاء جاءت في متن حديث رواه الإمام أحمد
والطبراني في الكبير
۳ سورة الشعراء الآيتان ٦١ و ٦٢
٤
0
سورة الطلاق من الآية ٣ سورة النساء من الآية ٨٧
٦ متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
۱۱۱۹

الكتاب العزيز على ذلك بقوله عزّ وجلّ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۱ ولا يكون إماماً يُؤْتَم به في الخير حتى يكون مشهوراً به فكذلك فعله هل الله لا يهمنا أشهر صاحب الخير ستر على صاحب الشر وكذلك في قوله فأتت راعياً ولم يسمه باسمه من أجل الستر عليه
ويترتب على ذلك من الفقه أنه إذا علمت من أحد فَعَلَ شراً أن تخبر عن ذلك الفعل ولا تسمّي صاحبه وأن ذلك ليس بغيبة وقد ذكر ذلك بعض العلماء إلا أن يكون صاحب بدعة فيتعين عليك شهرته لأن ذلك من باب النصح للمسلمين
وفيه دليل على أن صاحب المعاصي لا حرمة له يؤخذ ذلك من أنه لما نسبت المرأة الفاحشة إلى جريج لم يبقَ له عندهم حرمة وهدموا صومعته وسبّوه
وفيه دليل على أن المؤمن عند المحن الصلاةُ جُنَّته ٢ يؤخذ ذلك من أنه لما فعلوا به ما فعلوا لم يجاوبهم وتوضأ وأقبل يصلي فألهم لطريق الخلاص وقد قيل إن الصلاة كهف
المؤمن
وفيه دليل على أن أبناء الدنيا وقوفهم مع الخيال الظاهر وأن أصحاب الاطلاع وقوفهم مع حقيقة الباطن يؤخذ ذلك من أن أم الصبي التي كانت ترضعه لما رأت صاحب الشارة تمنت أن يكون ابنها مثله ولما مُنَّ على الطفل بمعرفة الباطن استعاذ منه كما أخبر سبحانه عن قارون بقوله فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِي قَدْرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلَا يُلَقَّتْهَا إِلَّا الصَّبِرُونَ 3
وفيه دليل على أن نفوس أهل الدنيا تعاف سوء الحال فيها و أن أهل الاطلاع والتحقيق لا يبالون بذلك إذا كانت السريرة حسنة يؤخذ ذلك من كون أم الولد لما رأت سوء حال الأمة استعاذت بالله من أن يكون لولدها مثل حالها ولما أعطي الصبي الاطلاع على حسن حال باطنها أن يكون مثلها وكذلك قصة يوسف عليه السلام مع أخيه لما اجتمع معه فقال له نجلس معك ولا نقدر أن نفارقك فقال له لا يمكن ذلك حتى تصبر بأن تقر على نفسك في الظاهر باسم السرقة فهان عليه قبح ما نسب إليه في الظاهر لحسن ما أمله في الباطن فجُعِل الصُّواعُ 4 في
۱ سورة الفرقان من الآية ٧٤
جُنَّتُه سترته يقال الصوم جُنّة أي وقاية من الشهوات ۳ سورة القصص الآيتان ۷۹ ۸۰
٤ الصواع المكيال أو الإناء يشرب به ويجمع على صيعان
۱۱۰

حمله وكان من شأنهم ما قصَّهُ الله عزّ وجلّ في التنزيل وقد قيل في حبك خلعت عذاري
فلا أبالي ما أرتكب فيه من الأخطار
وفيه دليل على أن البشرية طبعت على إيثار الأولاد بالخير على نفوسها يؤخذ ذلك من أن المرأة ما طلبت الخير إلا لابنها ولا طلبت دفع الشر إلا عنه ولم تبال بنفسها وفيه دليل على أن من السنة التشبه بأهل الخير يؤخذ ذلك من كون سيدنا لما أخبر عن رجوع المولود يمص ثدي أمه أخذ الا الله ويمص أصبعه تشبهاً به لأنه من أهل الخير بدليل أن الله تعالى قد أطلعه مع صغره على حقيقة غيب ذينك الشخصين وأنطقه به واختار لنفسه ما هو الأقرب إلى الله تعالى و تشبه له الله بذلك الطفل لكون حاله يدل على أنه من أهل الخير إرشاداً لنا إلى ذلك وقد قيل إن التشبه بالكرام فلاح ۱
وفيه دليل على فضل أهل الصوفة يؤخذ ذلك من أنهم اثروا جانب الحق ولم يبالوا بظواهر الأمور وما لاقوا في ذات الله تعالى كمثل صهيب وبلال ۳ مع كونهم مسرورين بذلك وكما أخبر مولانا سبحانه عن امرأة فرعون ٤ وقد قيل طريق الخير فارتكب وتشبه بأهلها ولا تعدل عن ذلك فتهلك فطريق القوم خير كله والتشبه بالكرام فلاح كله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ هذا عجز من بيت
فَتَشَبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فَلاحُ صهيب الرومي ابن سنان بن مالك من بني النمر بن قاسط صحابي أبوه من أشراف الجاهلية ولاه كسرى على الأبلة البصرة وكانت منازل قومه في أرض الموصل على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل وبها ولد صهيب فأغارت الروم على ناحيتهم فسبوا صهيباً وهو صغير فنشأ بينهم واشتراه منهم أحد بني كلب وقدم به مكة فابتاعه عبدالله بن جدعان ثم أعتقه فأقام بمكة يحترف التجارة إلى أن ظهر الإسلام فأسلم فلما أزمع المسلمون الهجرة إلى المدينة وأراد أن يهاجر معهم منعه مشركو قريش وقالوا جئتنا صعلوكاً حقيراً فلما كثر مالك هممت بالرحيل فقال أرأيتم إن تركت مالي تخلون سبيلي قالوا نعم فجعل لهم ماله أجمع فبلغ ذلك فقال ربح صهيب ربح صهيب وشهد بدرا واحدا والمشاهد كلها وروى ۳۰۷ أحاديث وتوفي بالمدينة سنة ۳۸ هـ وفي الحديث أنا سابق العرب وصهيب سابق الروم وسلمان سابق فارس وبلال سابق
النبي
الحبشة
۳ تقدمت ترجمة بلال في الحديث ۳۷ ٤ يشير إلى قوله تعالى ﴿ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْنَا فِي الْجَنَّةِ وَنَجْنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجْنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ سورة التحريم الآية ١١
۱۱۱

<-14A
حديث من أمر عند موته بحرق جسده خشية الله تعالى

3 12
عَن حذيفة ١ رضي الله عَنهُ قالَ سَمعتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ إِنَّ رَجُلاً حضَرَهُ الموتُ فلمَّا يَئِسَ مِن الحياةِ أوصى أهلَهُ إذا أنا مِتُّ فاجمَعُوا لي حَطباً كَثيراً وَأَوقِدُوا فيهِ ناراً حَتَّى إذا أَكَلَت لَحمي وخَلَصَتْ إلى عَظمي فامتحَشتُ فَخُذوها فاطحنوها انظُروا يَوماً راحاً فاذْرُوهُ في اليَمَ فَفَعَلُوا فَجَمَعهُ الله تعالى فَقالَ لَهُ لِمَ فَعلت ذلك قالَ مِن خَشِيتِكَ فَغَفَر اللَّه لَهُ
ظاهر الحديث يدل على أن الخشية الله من موجبات المغفرة والكلام عليه من وجوه منها أن يقال كيف فعل هذا بنفسه ما فعل وظن أن ذلك منج له من الله عزّ وجلّ فإن كان هذا الشخص غير مؤمن فليس تناله الرحمة وقد نالها وإن كان مؤمناً فكيف يجتمع هذا الفعل مع الإيمان وقد جاء في رواية أخرى لئن قدر الله عليَّ لَيعذِّبني عذاباً شديداً
فالجواب عن ذلك أما أن يكون غير مؤمن فلا لأن الحديث يدل على إيمانه لأنه أيقن بالحساب وأن السيئات يعاقب عليها وهذه علامة المؤمن وأما كونه فعل ذلك بنفسه فلعله كان
وكان عمر رضي
۱ حذيفة بن اليمان صحابي من الولاة الشجعان كان صاحب سرّ النبي في المنافقين لم يعلمهم أحد غيره الله عنه إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر وإلا لم يصل عليه وولاه عمر على المدائن بفارس فأقام فيها وأصلح بلادها وهاجم نهاوند سنة ٢٢ فصالحه أهلها على جزية وغزا الدينور وماه سندان فافتتحهما عنوة كما غزا همذان والري وافتتحهما واستقدمه عمر إلى المدينة فراه على الحال التي خرج بها فعانقه وسُرّ عفته ثم أعاده إلى المدائن له في كتب الحديث ٢٢٥ حديثاً قتل أبوه في أحد خطأ على يد المسلمين فوهب لهم دمه وكان حذيفة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن ن يقع فيه وكان أعلم الناس بالفتن حتى قيام الساعة توفي بالمدائن سنة ٣٦هـ بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعين
ليلة
امتحشت احترقت احتراقاً تاماً
۱۱

في شريعتهم جائزاً ومثله لمن أراد التوبة مثل ما فعل بنو إسرائيل الذين لم تُقبل توبتهم حتى قَتَلوا
أنفسهم
واحتمل أن يكون ذلك جهلاً منه ببعض الصفات وقد قال العلماء إن الجهل ببعض الصفات لا يُخرج صاحبَه عن الإيمان وقد يكون ذلك عن حال خوفِ غلب عليه حتى أخرجه عن حال التمييز - وهو أظهرها والله أعلم - لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سماه سيدنا الله الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل من أجل أن يوم إسلامه أظهر الله تعالى الإسلام وعُبد الله جهراً كان إذا ورد عليه الخوف يأتي بابَ حُذَيْفَةَ في جوف الليل ويقول ناشدتك الله أنا ممّن عدني النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين فيقول حذيفة والله ما أنتَ منهم فيقول له إنك عندي لصادق
ولكن عملي يشبه عملهم
فيرجع إلى بيته فيبكي على نفسه حتى يصبح وربما التزم من ذلك الفراش حتى يعوده أصحابه وهو ممن شهد له سيدنا الله بالجنة لكن عند الخوف وقوّته كان لا يلهم لشيء من ذلك ويخاف على نفسه أشد الأشياء وهو النفاق واخر الحديث يصدّق ذلك لكونه حين سأله جلّ جلاله لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب فصدق الله تعالى مقالته وغفر له
وفيه دليل لأهل الأحوال الذين يقولون الحال حامل لا محمول لأن صاحبه لا يبقى له معه اختيار ولذلك قال الو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاستويا ۱ فمن أحد وجوهه أنه بأيهما اتصف المؤمن بلغ مثل ما بلغ به صاحب القسم الآخر وقد قيل لبعض الفقراء في بعض أحواله إن جئتنا بالخوف أمناك وإن جئتنا بالرجاء بلغناك ويحتمل أن يكون المراد بقوله لئن قدر الله عليّ بمعنى لئن ضيق الله علي بإقامة عدله سبحانه وتعالى فيكون مثل قوله تعالى ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ معناه أن لن نضيق عليه وكذلك قوله تعالى فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ﴾ ۳ أي ضيق عليه وهذا هو الظاهر والله عزّ وجلّ أعلم
وفيه دليل على عظيم قدرة الله تعالى يؤخذ ذلك من جمع ذلك الشخص بعدما فعل بنفسه مثل ذلك الأمر وأظن أنه قد جاء من طريق اخر أن جمعه كان في مثل لمحة الطرف فسبحان من لا تعجز قدرته عن شيء أراده
۱ ليس بحديث وإنما رواه أبو نعيم في الحلية ۰۸/ من كلام مطرف بلفظ لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لوجدا سواء لا يزيد أحدهما على صاحبه ورواه عنه البيهقي في شعب الإيمان ۱/ رقم ١٠٢٤ و ١٠٢٥
سورة الأنبياء من الاية ۸۷ ۳ سورة الفجر من الآية ١٦
۱۱۳

وفيه دليل على جواز تسمية الشيء بما قرب منه يؤخذ ذلك من قوله حضره الموت ولم يعن بذلك إلا قرب ذلك بالعلامات الدالة عليه لأن عند حضوره الذي هو وقوعه لا يمكن ذلك الوقت وصية ولا غير ذلك
وقوله يوماً راح أي كثير الريح وقوله في اليم أي في البحر وقد جاء من طريق آخر فنصفه في اليم ونصفه في البر
وفيه دليل على فضل هذه الأمة يؤخذ ذلك من كونها اطلعت على أخبار من قبلها مثل هذا و أمثاله ولم يطلع أحد على أخبارها لأنها آخر الأمم
ومن فوائد ما يترتب على الإخبار بهذا الحديث أن تعلم قدر ما منّ الله تعالى علينا به من قبول التوبة في مثل هذا الوقت الذي فعل هذا الشخص هذا الأمر العظيم فيه بنفسه من تلك الوصية لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغر غر ۱ أي تبلغ الروح إلى الحلقوم وهو عند معاينة ملك
الموت
مَنّ الله علينا بشكرها من نعمة ومَنْ علينا بقبول التوبة قبل الغرغرة بفضله وقد قيل داوِ بِمَراهِم التوبةِ جُرحَ ذنبك فبُرؤُها أسرعُ من طرفة العين واحتَلْ في جميع أسبابها فلعل ميسر الأمور بفضله يُيَسِّرُها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم وابن حبان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
١١٢٤

-144-
حديث الوفاء ببيعة الأمراء
عَن أبي هُرَيرةَ رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ الله قال كانت بنو إسرائيل تَسوسُهُم ۱ صلى الله عليه وسلم الأنبياء كُلَّما هَلَكَ نَبِي خَلَفَهُ نَبي وإنَّهُ لا نَبِيَّ بعدي وسيكونُ خُلَفَاءُ فَيَكثُرونَ قالوا فَما
تأمُرُنا قالَ فُوا بيعَةَ الأَوَّلِ فالأوَّلِ أعطوهُم حَقَّهُم فإِنَّ الله سائِلُهُم عَمَّا استرعاهم

ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول الإخبار بكثرة أنبياء بني إسرائيل وأنهم كانوا يسوسون بني إسرائيل كلما هلك نبي خَلَفه نبي والثاني الإخبار بأنه اول و آخر الأنبياء ولا نبي بعده والثالث الإخبار بكثرة الخلفاء والأمر بحفظ بيعة الأول والوفاء لهم بحقوقهم وترك الحقوق التي عليهم الله حتى يسألهم عنها والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى تسوسهم وأي شيء هو المقصود من الإخبار بأن بني إسرائيل
كانت الأنبياء عليهم السلام تسوسهم فأما معنى تسوسهم أي تهديهم إلى طريق النجاة وتلطف بهم في الحمل عليها كما يسوس الرائض الدابة ويحملها على الطريق الحسنة ويعلمها الخُلُق الجميل
وأما الحكمة في الإخبار بهذا فهي إشارة إلى أنكم بعدي ليس لكم من يسوسكم فلا تغفلوا عن سياسة أنفسكم وحافظوا على ما هُدِيتم إليه وقد جاء هذا المعنى مبيناً في أحاديث كثيرة فمنها قوله عليه الصلاة والسلام تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي ٢ معناه أن هذين يقومان لكم مقام الأنبياء لبني إسرائيل وقوله عليه السلام في
۱ ساس الحاكم الناس تولى قيادتهم ورئاستهم وتدبير أمورهم العامة ومنه اشتقت كلمة السياسة أما سياسة الأنبياء فهي بمعنى الحكمة في الإدارة ضمن شرع الله ويختلف مضمون لفظ السياسة اليوم عن مضمون الحكمة المراد منه أصلا رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني في الصغير ولفظه في الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني تارك فيكم ما إن
١١٢٥

حديث آخر علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ۱ معناه أن علماء هذه الأمة تسوسهم وترشدهم إلى طريق الحق كما كانت أنبياء بني إسرائيل من هذا الوجه يكون الشبه بينهم لا أن أحداً من بني آدم تكون درجته مثل درجة نبي من الأنبياء عليهم السلام فإن الأنبياء عليهم السلام أرفع الناس درجة وأعلاهم منزلة
وفيه دليل على حسن طريقة الأنبياء عليهم السلام إذ جبل الكل على حسن اللطف بقومهم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام عن بني إسرائيل إن جميع أنبيائهم كانوا يسوسونهم والسياسة لا يمكن توفيتها إلا ممن قد طبع على أحسن الخلق
وفيه دليل على قطع الوحي من الأرض وتكذيب من ادعى من ذلك شيئاً بعد وفاته يؤخذ ذلك من قوله لا نبي بعدي
وفيه دليل على فضل علماء أمة محمد الله الله يؤخذ ذلك من الحديث الذي استدللنا به وهو قوله عليه الصلاة والسلام علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل فالدليل منه على فضل علماء أمته عليه السلام أن جعلهم في الهدى والسياسة لأمته كأنبياء بني إسرائيل لبني إسرائيل وفيه دليل على تقديم أكد الحقين إذا تعارضا يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام أعطوهم حقوقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم معناه لا تمنعوهم أنتم حقوقهم لـ لكونهم يمنعونكم حقوقكم فأعطوهم ما لهم من الحقوق واتركوا أنتم حقوقكم فإن الله ينصفكم منهم لما تعارض حق الملك وحق المسترعي كان حق المَلِك اكد لأنه يترتب عليه حق متعد قدم على المسترعي لأن الخير فيه مقصور عليه وهو لا يفوته إما أن يأخذه في هذه الدار وإما أن
حق
يأخذه في الدار الأخرى فقدم الأهم وهذه قاعدة مطردة إذا تعارض أمران قدم أيهما أنفع وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى لا يغادر من حقوق عباده صغيراً ولا كبيراً يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام فإن الله سائلهم عما استرعاهم يدخل تحت ذلك الدِّق والجِلّ
تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ولفظ الثقلين عند الإمام أحمد ومسلم 1 ليس بحديث نص على ذلك السخاوي وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة والفتني في تذكرة الموضوعات وعلي القاري في الأسرار المرفوعة والعجلوني في كشف الخفا والشوكاني في الفوائد المجموعة والسيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة
رواه الطبراني والبغوي عن أبي قيلة بلفظ لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم فاعبدوا ربكم وأقيموا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا ولاة أمركم ثم ادخلوا جنة ربكم
١١٢٦

ومما يقوي ذلك قوله عزّ وجلّ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَسَةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَنَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
1
حَسِبين أي لا يغادر ذرّة ولا أقل ولا أكثر منها
وفيه دليل على أن كل من له حق يوفى له يوم القيامة وإن لم يكن هو يعلمه لأن كثيراً من الناس لا يعلم قدر الحق الذي له على الخليقة فإذا كان الله سبحانه وتعالى يحاسبه عما استرعاه فلا شك أنه يوفي لصاحب الحق حقه وإن لم يكن يعلم صاحب الحق به
وفيه دليل على عظيم قدرة الله وأنه سبحانه ليس كمثله شيء يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بأنه عزّ وجلّ يسأل جميع الخلفاء عن كل ما استرعاهم عليه واحداً واحداً وكم على كل خليفة من العالمين تَداخَلُ الحقوق بعضها على بعض فيما أخذوا فيه ! هذا في الخلفاء ليس إلا وفيما بين الناس أيضاً ويكون الفراغ من الحساب العظيم وهذه المناقشة العظيمة في قدر ما يفعل صلاة واحدة من المفروضات وقد جاء قدر ركعتي الفجر ولذلك كان سيّدنا الله يخففهما رجاء في تخفيف الحساب على أمته ۳ هذا لا تقدره العقول ولا تحيط به الأفهام ولا يمكن أن يكون هذا من صفة من يُحَدّ أو يُكَيَّف ٣ فإن هذا لا يدخل تحت هذه الحدود ولا تحت حدّ محدود تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً
۳
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يرون تبرئة ذممهم ولا يعبأون بما لهم لعلمهم بأنه عزّ وجلّ لا يغادر من حقهم شيئاً فأراحوا أنفسهم من أجل التصديق بهذا الخبر ومثله فاستراحوا وأفلحوا وفيه دليل على تقديم أمر الدين على غيره يؤخذ ذلك من تقديم حق الراعي على حق رعيته
لأن حق الراعي به صلاح الدين لأنه قال لها الله لا إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ٤ وفيه دليل على أن تأخير الحق لا ينقصه يؤخذ ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام فإن الله سائلهم عما استرعاهم فالتأخير لم يبطله إذا كان الله سائلاً عنه
۱ سورة الأنبياء من الآية ٤٧

ورد في هذا المعنى أحاديث عدة منها أن النبي ل لا لو كان يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح وفي رواية كان يصلي ركعتي الفجر فيخففهما حتى أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أخرجه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها
۳ من أسس العقيدة الصحيحة أن الله تعالى ليس بعرَض ولا جسم ولا جوهر ولا مصور ولا محدود ولا معدود ولا متبعض ولا متجزىء ولا متركب ولا متناه ولا يوصف بالماهية ولا بالكيفية ولا يتمكن في
مكان ولا يجري عليه زمان ولا يشبهه شيء إلخ
٤ هذا القول مشهور من قول عثمان رضي الله عنه
۱۱۷

وفيه إشارة من طريق القوم الذين يقولون بتحمل الأذى وإدخال السرور يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أعطوهم حقوقهم ولا سرور أعظم من إعطاء الحقوق لأهلها وحمل الأذى ولأن حمل الأذى أشد على النفس من أن يكون لك حق وعليك حق فتعطي ما عليك وتَترُك ما لَكَ لا تطلبه فهذا عدم النصرة لها وهو غاية التسليم والمجاهدة وهو أعلى أحوال القوم وأما ذكر حق الراعي وحق المسترعي ما هو فقد ذكرناه أولاً في حديث البيعة وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۱۸

<-19
حديث عيوب أهل الكتاب واتباع هذه الأمة لها
عَن أبي سعيد ١ رضي الله عَنهُ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذينَ من قَبلِكُم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ حَتَّى لَو سَلكوا جُحْرَ ضَبٌ لَسَلَكتمُوه قُلنا يا رسول الله اليَهُودُ
والنَّصارى قال فمن
* * *
ظاهر الحديث يدل على اتباع هذه الأمة سنَنَ اليهود والنصارى والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى اتباعهم وفيم يكون الشبه من سننهم هل على العموم أو في بعضها وإن كان في بعضها فما هو وما معنى شبراً بشبر وذراعاً بذراع
فأما الجواب عن الأول فقد يكون سننهم بمعنى طريقهم لأن السنة بمعنى الطريقة كقوله تعالى سُنَتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۳ أي الطريقة التي عادته عزّ وجلّ لا يخلفها لهم
ولا فيهم
وأما الجواب عن سنن من قبلكم هل على العموم في جميع طرقهم أو على الخصوص احتمل لكن الظاهر العموم بدليل الحديث نفسه بقوله عليه السلام حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٌ لسلكتموه وأما من خارج فقد جاءت أحاديث كثيرة تبين ذلك فإن من طريق من تقدم اختلافهم كما أخبر بذلك لعل الله في أمته وهو قوله الله افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ٤
۱ تقدمت ترجمته في الحديثين ٤٨ و ٨٥
السَّنَن الطريقة والمثال ۳ سورة غافر من الآية ٨٥
٤ حدیث متواتر رواه أصحاب السنن عن عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم وتتمة الحديث قالوا من هي
يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي
۱۱۹

ومنها أنهم بدلوا الأحكام وقد أخبر بذلك في أمته حيث قال ويعود الحكم مَعْرَما وقال عليه السلام تُحَل عُرى الإسلام عُروة عُروة كلّما حلّوا عروة تشبثوا بالتي تليها
فأول عروة يحلّونها الأحكام وآخر عروة يحلونها الصلاة ۱ وقال ومنها التحاسد بينهم وقد أخبر بذلك كلم عن أمته بقوله عليه السلام يأتي في آخر الزمان أقوام أصدقاء العلانية أعداء السريرة وما كان فيهم من نقص الكيل والربا وعمل قوم لوط والكذب والمناكر - فقد ظهرت في هذه الأمة - وما كان من التكالب على الدنيا والفساد في الأرض ـ فقد ظهرت أيضاً - وما كان فيهم من الارتداد بعد الهدى قد أخبر الله هو أنه سيكون في هذه الأمة وهو قوله عليه السلام عند ذكر الفتن يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا ٣ ولو لم يكن فيهم إلا ردة الدجال لكانت كافية وهي واقعة حقاً
وكل ما كان فيهم مما يشبه هذا إذا تَتَبَّعْتَها تراها قد ظهرت وقد أخبر عنها الصادق فهي ستظهر لا محالة أعاذنا الله من الجميع بجاهه عند الله الله وما كان من المسخ فيهم فقد أخبر الصادق أنه في هذه الأمة إلا أنه في القلوب فببركته الا الله وأنه ستر على أمته تشوه الصورة الظاهرة وبقي في القلوب كما أخبر به عليه السلام فترى الشخص صورته باقية وهو قد مسخ قلبه صورة كلب وهم الشرط والجنادرة ٤ وشبههم تراهم طول يومهم يروّعون الناس ويعيطون في وجوههم ومنهم من يمسخ قلبه صورة خنزير وهم أهل القذارة والبلادة
فهكذا تتبع بنظرك صفة كل شخص في خلقه تستدل بذلك على مسخ قلبه ما هو وقد يبقى متحيراً لا مسخ في قلبه إلا أن قلبه قد مات وقد أخبر بذلك الصادق بأنه يأتي زمان يموت فيه قلب المرء كما يموت بدنه ٥ أو كما قال عليه السلام لأن القلب إذا لم تبق فيه تلك الحرارة الغريزية حتى يفقه مصالحه فهو ميت وقد يكون موته حقيقياً والله أعلم والقدرة صالحة أن يكون
۱ رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان والحاكم ولفظه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنقضَنَّ عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم واخرهن
الصلاة
رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ولفظه في المسند عن معاذ رضي الله عنه يكون في اخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة فقيل يا رسول الله فكيف يكون ذلك قال ذلك برغبة بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض ۳ رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ومطلعه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل يصبح الرجل مؤمناً إلخ
٤ الجنادرة عسكر الأرياف ٥ رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف
۱۱۳۰

الأوصاف وإن كان المخاطب ليس فيه من ذلك الفعل شيء يؤخذ ذلك من خطابه ل لهؤلاء السادة وهم بالقطع ليس فيهم من هذه الأوصاف التي ظهرت بعدهم ولا من التي لم تظهر لنا بعدهم فلما كان اسم الأمة يقع عليهم خاطبهم بذلك من أجل متضمن الاسم وفيه دليل على أن حسن الكلام والاختصار في اللفظ إذا فهم المعنى يؤخذ ذلك من جوابه لهم حين قالوا اليهود والنصارى قال فمن ولم يزد على ذلك شيئاً لأنهم فهموا بهذه الإشارة أنه عليه الصلاة والسلام لم يرد غيرهم واختصر بهما طوال الكلام والتطويل وفي ذلك من الحسن كل بديع
وفيه دليل على التحذير عن حال المجاهرين بالمناكر وليس ذكرهم بذلك على هذا الوجه بعينه يؤخذ ذلك من تحذيره عليه السلام عن عيوب أهل الكتاب وفيهم من المسلمين المتبعين بمقتضى شرعهم كثير فلما أظهروا المناكر لم يكن ذكرهم بها والتحذير عنها غيبة ومما يؤيد ذلك ويقويه قوله عليه السلام لا غِيبة في فاسق ۱
وفيه دليل على كثرة شين المعاصي يؤخذ ذلك من سوء الثناء عليهم وتحذيره عنهم وعن طريقتهم بعد موتهم فشؤم المعصية أورثت سوء الثناء كما أن بركة الطاعة أورثت حسن الثناء في الحياة وبعد الموت ولذلك قيل إن أهل الخير وإن ماتوا أحياءٌ بين الأنام فإن ذِكرَهم بحسن الثناء إحياء لتلك الرَّمَم يحبهم قلبي والدعاء لهم في كل حين حسن وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الأحاديث الواردة في هذا الموضوع عدة منها من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له أخرجه ابن عدي وأبو الشيخ في كتاب ثواب الأعمال من حديث أنس رضي الله عنه بسند ضعيف ومنها أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس أخرجه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده دون قوله حتى يعرفه الناس ورواه بهذه الزيادة ابن أبي الدنيا في الصمت وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وقال الحسن ثلاثة لا غيبة لهم صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر يبدو أن ما أورده المؤلف ابن أبي جمرة رضي الله عنه لا أصل له ذكر ذلك صاحب المقاصد عن العقيلي
۱۱۳

1191-
حديث النهي عن دخول بلد بها طاعون وعن الفرار منه
عَن أَسامَةَ رضي الله عَنهُ قالَ قالَ الطَّاعونُ رِجس أُرسِلَ على طائِفَة من بني إسرائيل - أو على مَن كان قبلكُم - فإذا سمِعتُم بِهِ بأرض فَلا تَقدَمُوا عَليهِ وإذا وَقَعَ بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فِراراً منه

ظاهر الحديث الإخبار أن الطاعون رِجْسٌ أُرسل على طائفة من بني إسرائيل ثم بعد ذلك يدل على حكمين أحدهما من سمع أن الطاعون بأرض فلا يدخُلْها والآخر النَّهي لمن كان بأرض ووقع الطاعون بها فلا يخرج فراراً منه والكلام عليه من وجوه
ومنها قوله على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم الشك هنا من الراوي في أيهما قال
سيدنا وهذا دال على تحريهم في النقل وصدقهم
قوله رجس أي عذاب وهنا بحث في قوله عليه السلام فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه هل هو تعبد لا يعقل له معنى أو له وجه من الحكمة يعقل أما قوله فلا تقدموا عليه فوجه الحكمة فيه قد نبه الكتاب العزيز عليه بقوله تعالى ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۱ فإن الدخول إلى موضع النقم يعرض للهلكة فليجزع من ذلك وليتأدب بأدب الحكمة وهذا تنبيه منه من أجل أن يأتي أحد ويستعمل هنا متضمن قوله تعالى قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا فمنع عليه السلام أن يعارض هنا متضمن الحكمة - وهو الفرار من المهالك - بالقدر فإنه من باب التجربة والعبودية لا تجرب الموالية ومثل ذلك قال عيسى عليه السلام حين لقيه اللعين وهو في سياحته على قنة جبل فقال له اللعين تَرَدَّ من
۱۱۳۳
۱ سورة البقرة من الآية ١٩٥ سورة التوبة من الاية ٥١

قُنَّة هذا الجبل وما عليك لأنك تقول لن يصيبك إلا ما كتب الله لك فقال له عيسى عليه
السلام إن المولى يجرب عبده وليس العبد يجرب مولاه
ويترتب على هذا من الفقه التزام الأدب مع الربوبية واستعمال الحكمة حيث أمر بها خلافاً للقدرية واستعمال القدر حيث أمر به وفي هذا دليل لأهل السنة فإن هذه طريقتهم والجبرية ولا يعارضنا أحوال القوم الذي عملوا على ألا يلتفتوا في مواضع المهالك إلى شيء من الأشياء ونجوا منها ولم تضرهم فإن الانفصال عنه أنهم لم يفعلوا ذلك إلا بغلبة الحال الذي ورد عليهم حتى لم يروا في الوجود إلا صاحب الوجود والحال حامل لا محمول ولهم في ذلك الاقتداء بسيدنا الا الله حيث قال عليه السلام فِرّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد ۱ ثم أكل ل ل ل ل لهم مع المجزوم في صحفة واحدة وقال بسم الله قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ٢
فالأمر الأول سنته الله والفعل بعده طريقته الله فمن كان له حال صادق فهو متبع له عليه السلام في طريقته ومن لم يكن له حال صادق فليتبع سنته عليه السلام ولا يدخل في اتباعه في حاله لأنه عري عن الوصف الذي هو شرط فيها فيكون ممن ألقى بيده إلى التهلكة لأنه أتى الشيء من غير وجهه ألا ترى إلى قوله عزّ وجلّ وَتَزَوَّدُوا ثم قال فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ۳ فإذا كان معك خير الزاد فسر حيث شئت وإن لم يكن معك منه شيء يكفيك فلا تتحرك إلا بالزاد المحسوس المبلغ على العادة في ذلك وإلا كنت عاصياً
وفيه دليل على الأخذ بسد الذريعة التي تدل عليه قواعد الشريعة في غير ما موضع ويترتب عليه من الفقه أنك إذا أردت أن تقدم على موضع أن تسأل أولاً عن أخباره حتى تعلم على ماذا تقدم هل يجوز لك الإقدام عليه أم لا لأنه قد يكون بالقرب منه من حيث أن يكون بينك وبينه الميل أو الميلان فتسمع بمثل الطاعون فلا يجوز لك دخوله وقد يكون لك في الرجوع مفسدة في حالك أو دينك فتقع بين محذورين ويكون سبب ذلك تفريطك في السؤال عن ذلك الموضع والمفرط نادم
وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا النهي يقصر على الطاعون ليس إلا أو يتعدى ذلك بالعلة - وهي حيث يعلم موضع ضرر لا يقدم عليه لا سيما إذا كان متحققاً أو يكون غالباً في الدين فالنظر
۱ رواه البخاري في الطب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله لا عدوى ولا طيرة رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان ولفظ الحديث عن جابر رضي الله عنه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فقال كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه
۳ سورة البقرة من الآية ۱۹۷
1134

يعطي تعديه من أجل وجود العلة كما عدوا بذلك أحكاماً كثيرة ويقويه قوله تعالى ﴿ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۱ وهو لفظ عام
TA
وأما الحكمة في قوله عليه السلام وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه فهو إعلام بأن القدر إذا نفذ لا ينفع أثر الحكمة فيه ولا يرده فإن الله عزّ وجلّ يقول وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مقدورًا ٢ أي أنه لا يُرَدُّ وهو نافذ لا محالة فكما أمرنا قبلاً ألا تعارض الحكمة بالقدر - كما تقدم الكلام عليه - أرشدنا هنا إلى ألا نعارض القدر بأثر الحكمة وأن نلتزم الأدب في الطريقين والتسليم لما اختاره من له الخلق والأمر سبحانه وتعالى ولذلك قال لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ۳ معناه التزموا في كل وقت الأدب فيما أقمتم فيه بحسب ما شرع لكم
وفي هذا دليل لطريق القوم الذين يقولون اشغل وقتك بما وجب عليك فيه أو ندبت إليه ولا تلتفت إلى ما قبل ولا إلى ما بعد تفز بربح الدارين أي بخيرهما

وفيه وجه اخر من طريق النظر والتحقيق وهو أنه إذا أرسل ذلك العذاب على تلك البقعة التي كان الناس بها فالمقصود بالعذاب أولئك الناس لا البقعة نفسها فمن كان قد نفذ حكم الله تعالى فيه بإصابة ذلك البلاء فأينما فَرَّ فأمر الله لا يفارقه حيث كان فهروبه زيادة في التعب وإن كان ممن لم يقدر عليه بشيء من ذلك فيحصل في قعوده إذا كان صابراً محتسباً أجر شهيد ـ كما ذكر في الحديث بعد هذا - وراحة بدنه وهو الله و ام المؤمنين من الرحيم فلما علم ما أشرنا إليه أرشدهم إلى ما فيه نفعهم وهو قعودهم حيث كانوا
وفيه دليل على تحقيق نصحه عليه الصلاة والسلام ورفقه بأمته يؤخذ ذلك من قوله فراراً منه حتى يبقى الناس على تصرفهم الذي كانوا عليه قبل هذه النازلة بحسب ما يقتضيه ما عهدوا من عادتهم في مصالحهم وتصرفاتهم في ذلك بقدر ما يظهر لهم فيه فإنه لو لم يرد النهي بهذه الصفة لكان الناس إذا وقع لهم ذلك الأمر زادتهم الشدة لمنعهم من تصرفهم في منافعهم على
عادتهم قبل
وفيه دليل لمذهب مالك في الذي يكون له مال تجب فيه الزكاة فيتصرف فيه قبل الحول
1 سورة البقرة من الآية ١٩٥ سورة الأحزاب من الاية ۳۸
۳ رواه البخاري ومسلم في الجهاد من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه

تصرفاً ينقله به عن الحالة التي تجب فيه الزكاة إن كان ذلك التصرف خوفاً من الزكاة لا ينفعه وتؤخذ منه الزكاة وإن كان لمصلحة في ماله سقطت عنه الزكاة مثاله أن يكون له نصاب من المال فإذا قرب الحول اشترى به عَرَضاً أو حيواناً مما تسقط الزكاة به عنه فإن كان فعل ذلك هروباً من الزكاة أخذت منه الزكاة ما يقتضيه حال وقته من تأخير الزكاة أو غير ذلك على حسب ما هو مذكور في كتب الفروع وفيه دليل على أن الأصل في الأعمال بحسب النية فيها يؤخذ ذلك من كون الخروج الذي ليس بنية الهروب مما نزل لم يُنْهَ عنه والذي هو بنية الهروب نهى عنه ويؤيد ذلك قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات 1

٣
وبقي هنا بحث وهو أنه عليه السلام قد نهانا أن نتسبب في دفع ما قدر بالخروج وأمرنا بالتسبب في دفع البلاء بأسباب الطاعات وهو قوله ادفعوا البلاء بالصدقة وقوله جلّ جلاله ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ۳ فدل أنهم لو تسبّبوا بالدعاء والضراعة عند نزول البلاء لرفع عنهم والجمع بينهما قوله عليه السلام لا يُنال ما عند الله إلا بطاعة الله ٤ وما عند الله للعبيد إما خير يطلبونه منه أو شر يدفعه عنهم فلا ينال واحد منهما إلا بطاعته عزّ وجلّ فإن التسبب في ذلك بغيرهما لا ينفع ويؤيد ذلك قوله تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥ أي إن أردتم الخير والسلامة من الشر ففروا إليّ والفرار إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو بامتثال
أمره واجتناب نهيه
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
0
۱ متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه
رواه الطبراني وأبو نعيم والبغدادي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة وأعدوا للبلاء الدعاء
۳ سورة الأنعام من الآية ٤٣
٤ رواه الشافعي في كتاب الرسالة فقرة ۰٦ وقد حقق الشيخ أحمد شاكر ما يتعلق بالحديث سنداً ومتناً وانتهى إلى
صحته على شرط الشيخين ٥ سورة الذاريات الاية ٥٠
١١٣٦

حديث من مكث ببلده ولم يفر من الطاعون فله أجر شهيد
عَن عائشة رضي الله عنها قالت سَألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعَونِ فأخبرني أَنَّهُ عذاب يَبْعَثُهُ الله على مَن يَشاءُ وأنَّ الله عزّ وجَلَّ جَعَلَهُ رَحمة للمؤمنين لَيسَ مِن َأحَدٍ يَقعُ الطَّاعونُ فَيَمْكُتُ في بَلَدِهِ صابراً مُحتسِباً يَعلمُ أنَّهُ لا يُصِيبُهُ إلا ما كَتَبَ الله لَهُ إلا كانَ لَهُ مِثلُ أجر شَهيد

ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول أن الطاعون عذاب يصيب الله به من يشاء الثاني أنه رحمة للمؤمنين وإن كان في نفسه بلاء لكن بما يترتب عليه للمؤمن من الرحمة إذا أرسل عليه عاد الأمر رحمة لأن الحكم للعاقبة ولذلك قيل إذا كان يوم القيامة يؤتى بأكثر الناس بلاء في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة فيقال له هل رأيت بؤساً قط فيقول لم أرَ بؤساً قط ١ ولذلك لما نظر أهل العقول والسلوك إلى عواقب الأمور هانت عليهم أنفسهم وحلا لَهُم ما حملوه من التعب والمجاهدات عرفوا فصبروا فربحوا هَنَّاهُم من أعطاهم وألحق في الخير العاجل مناهم وحباهم وأدناهم لا رب سواه والوجه الثالث الإخبار بأنه ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى قوله صابراً محتسباً فمعناه أن يوطّن نفسه على ذلك البلاء إن لحقه نه شيء ومعنى محتسباً يحتسب نفسه على الله تعالى ومع ذلك يكون موقناً بأنه لا يصيبه من ذلك إلا ما كتب عليه وإن كان لم يكتب عليه منه شيء فلا يصيبه منه شيء
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيُقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة
قط فيقول لا والله ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط
۱۱۳۷

الأمة ليس من أجل ذنب وقع منه يؤخذ ذلك من قوله يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ ۱ لا عن شيء ﴾ يوجب إرساله عليه بل بتخصيص المخصص له بذلك فيدخل به في قوله إن من أمتي من يساق إلى الجنة بسلاسل وهم أهل المصائب في الدنيا من الله علينا بدار كرامته بلا محنة
بفضله
وفيه إرشاد إلى التأدب مع القدرة وهو ألا يحكم عليها بتفضيل العباد عندها من أجل ما يرى عليهم من النعمة ولا لتحقير العباد عندها بما يرى عليهم من النقمة يؤخذ ذلك من جعل هذا البلاء العظيم رحمة فمن باب أولى ما هو أقل منه وقد أثنى الله عزّ وجلّ على أهل البلاء وعلى أهل النعماء إذا أو فى كل واحد منهما بما أمر به فقال في أهل البلاء و وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إذا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَجِعُونَ أَوَلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَتبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ۳ وقال عزّ وجلّ في أهل النعماء لين شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ ٤ وقال أَعْمَلُوا عَالَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ٥ وذم عزّ وجلّ من رجّح الحالة الحسنة عنده من أجل إظهار نعمائه وذم ضدها بقوله تعالى ﴿فَأَمَّا الْإِنسَنُ إِذَا مَا ابْنَلَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْنَلَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَنَنِ ﴾
وفيه دليل على أن كثرة الأجور في الأعمال إنما هي بقدرة قوة اليقين والإيمان يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام أول الحديث جعله رحمة ثم قال في آخره صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد فالزيادة التي بين الدرجتين إنما هي من أجل قوة الإيمان الذي وصل به إلى أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له يشهد لذلك قوله عليه السلام ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره ۷
وهنا بحث وهو أن يُقال لم قال مثل أجر شهيد ولم يقل له شهادة فإن الشهادة ما
1 سورة يونس من الاية ۱۰۷
رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ عجب ربنا من قوم يقادون إلى
الجنة بالسلاسل ۳ سورة البقرة الآيات ١٥٥ - ١٥٦ ٤ سورة إبراهيم من الآية ٧
٥ سورة سبأ من الاية ۱۳ ٦ سورة الفجر الآيتان ١٥ و ١٦
V
قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر من قول أبي بكر عبد الله المزنى ولم أجده مرفوعاً أي ليس بحديث وإنما هو للمزني
۱۱۳۹

أعظم قدرها إلا من أجل ما نال صاحبها من الأجر أو الشهادة أمر آخر زوائد على الأجر فظاهر الأمر أن الشهادة شيئان كثرة الأجر وأمور أخر روائد على ذلك منها أنهم لا يحاسبون وإنما يقومون من قبورهم إلى قصورهم ومنها أنهم يشفعون في غيرهم وأشياء من أنواع الإكرام عديدة وقد جاء أن الطاعون شهادة ۱ إلا أنه إذا وقع بشخص وهو على الحالة المتقدم ذكرها من الصبر والاحتساب فيكون الجمع بينهما بأنه من صَبَر واحتسب ولم يصبه منه شيء كان له مثل أجر شهيد فإن أصابه منه شيء وهو صابر محتسب كان شهيداً ـ والله أعلم - كما جاء أنه من طلب الشهادة من الله تعالى صادقاً ولم يُقضَ له بها أنه يكون له أجر شهيد فليس وقوع الحال كتمنيه
بينهما درجة
وهنا بحث وهو أن يقال في قوله له مثل أجر شهيد هل ذلك تفضل من المولى سبحانه وتعالى على العبيد لا يعقل له معنى من الحكمة أو بينهما مناسبة من جهة الحكمة أما بالنسبة التي بينهما من أجل الحكمة فظاهرة وهي أن الذي يخرج للجهاد إنما فعل فعلا شأنه إذهاب النفوس والسلامة فيه إنما هي بالقدرة لا يغلبها غالب وهو يخرج لذلك الأمر صابراً محتسباً موقناً أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عليه فأشبه الذي يجلس في بلده بعد وقوع الطاعون محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له فإن الطاعون أمر معه الموت لمن أصابه لا محالة ولا ينجو منه إلا بالقدرة التي ليس لها مثال فالشبه واقع والأجر في الوجهين جميعاً بمجرد الفضل لكن لا تنظر حكمة الحكيم الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ إلا بعد وقوع الفعل وإثبات الحكم فيه منه وإلا فالقياس
هناك ممنوع
وهنا دليل على أن الحق في الأمور الطريق الوسط حال بين حالين وأصله التأدب وعدم الاعتراض يؤخذ ذلك مما تقدم في هذا الحديث وغيره فتارة يؤمر بالنظر والتدبّر وحمل الأمور على ما جرت به العادة غالباً وتارة يؤمر بالتسليم وعدم الالتفات إلى شيء من الأشياء إلا لمجرد التسليم والعبودية المحضة فالذين أرادوا أن يحملوا الأمر على طريق واحد ويتسلطوا بعقولهم عليها في غاية الحمق والجهل لأنه من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى كذلك حكمته ليس مثلها حكمة حكيم ولا نسبة بينهما لكن لشأن ما أخذ به أهل السنة وهو الوقوف مع الأمر والنهي على ما هو بلا اعتراض ولا زيادة ولا نقص وهو الذي يعطيه طريق العقل لمن حققه جعلنا الله منهم بلا محنة بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ الطاعون شهادة لكل مسلم سورة الشورى من الآية ١١
1140

حديث تحريم الشفاعة في حد من حدود الله تعالى
عَن عائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قُريشاً أهَمَّهُم شَأنُ المرأةِ المخزومِيَّةِ الَّتي سَرَقَت فقالوا مَن يُكلِّم فيها رَسولَ الله فقالوا وَمَن يَجْتَرِىءُ عَلَيه إِلا أَسامَةُ بنُ زَيدٍ ۱ حِبُّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَه أَسامَةُ فَقالَ رَسُولُ الله أَتَشفَعُ في حد من حُدودِ الله عزَّ وجَلَّ ثُمَّ قامَ فاختطَب ۳ ثُمَّ قالَ إنَّما أهلَكَ الَّذينَ مِن قَبْلِكُم أَنَّهُم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشَّريف تَرَكوه وإذا سَرَقَ فيهِم الضعيفُ أقامُوا عليهِ الحَدَّ وايمُ الله ٤ لَو أَنَّ فاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَها
ظاهر الحديث يدل على منع الشفاعة في حد من حدود الله تعالى والكلام عليه من وجوه منها أنه ينبغي أن يختار في الشفاعة من له إدلال على الذي يشفع عنده وحرمة يؤخذ ذلك من قولهم من يكلم فيها رسول الله فلم يرجحوا إلا مَنْ كان أكثرهم إدلالاً عليه وله عنده حرمة وهو أسامة بن زيد لأنه كان ابن مولاه عليه السلام وبالقطع أن أبا بكر وعمر وجميع الخلفاء وأعمامه عليه السلام أرفع عنده من أسامة بن زيد وأكثر حرمة لكن الإدلال له خصوصية
أخرى
وفيه دليل على أن الخديم أكثر إدلالاً على مخدومه من غيره وله حرمة الخدمة أيضاً
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦٨ حِبّ رسول الله المحب والمحبوب
۳ اختطب خطب خُطبة ٤ أيم الله أي يمين الله
1141

ولذلك كان أهل الصوفة أكثر إدلالاً لدوام خدمتهم وكثرة وقوفهم بالباب ومن هناك الربح الحقيقي
وقد روي عن بعضهم أنه كل ليلة كان يأتي باب الملك الذي كان في بلده مقيماً وكان من عادة ذلك الملك أن كل من يخدم له في وجه من وجوه مصالحه و ضرورياته يأتي بابه ويدفع له خازنه أجرته يوماً بيوم كل على قدر عمله فكان ذلك السيد يأتي خازن الملك كل ليلة مع أولئك الخدم فيقول له أعطني أجرتي فيقول له الخازن لو خدمت كنت تأخذ كما يأخذ من خدم فيقول له فما يأخذ الأجرة إلا من يخدم فيقول بذلك أُمِرتُ فيقول لنفسه اسمعي مَن يخدم يأخذ لا يخدم لا يأخذ فإن خدمتِ أخذتِ وإلا يأخذ غيرُكِ ولا تأخذي أنتِ شيئاً فكان يؤدب نفسه كل ليلة بهذا ويحملها على دوام الخدمة وفهموا فَفَهِموا وعُرِّفوا فعَرَفوا
ومن
وفيه دليل على أن ترك الحدود سبب للهلاك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه
وفيه دليل على أنه لا يكون المأمور مطيعاً لأمره حتى يوفي جميع ما به أمر وإن ترك البعض وفعل البعض سمّي عاصياً واستحق العقاب يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام أن من كان قبلنا كانوا يقيمون بعض الحدود فإنهم إذا سرق عندهم الضعيف أقاموا عليه الحَدّ فتراهم فعلوا بعض ما به أمروا فلما لم يقيموه على الغني أسقطوا بعضه فوقع العقاب عليهم فأهلكوا وفيه دليل على أن الحدود على جميع الناس كلهم على حد سواء يؤخذ ذلك من قوله عليه
السلام وايم الله لو أن فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها
وفيه دليل على فضل فاطمة على غيرها من أهل البيت يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يذكر اسمها في التمثيل إلا على وجه الترفيع ولو كان فيهم رضي الله عنهم أرفع لَذكَرهُ يشهد لذلك قوله عليه السلام في حقها فاطمةُ بَضعَةٌ مني ۱ وهذا لم يخص به غيرها
وفيه دليل على أن القدر جاء على الرفيع والوضيع يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام أخبر عمن كان قبلنا أن ذلك كان فيهم الشريف والضعيف وهذا أيضاً متعارف إلى هَلُمَّ جَرّاً أن المعاصي يجري القدر بها على من شاء من رفيع ووضيع
وفيه دليل على أن وجوب الحكم في الشيء يسقطه عن ضده يؤخذ ذلك من أن الهلاك فيمن تقدم كان بتركهم الحدود فبتوفيتها تكون النجاة وقد جاء ذلك صريحاً في الكتاب والسنّة أما
۱ رواه البخاري وغيره عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه وتمام الحديث فمن أغضبها أغضبني
١١٤٢

1,
الكتاب فقوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَنَةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ والآي في هذا كثيرة وأما السنة فقوله له لأن يقام حد من حدود الله تعالى في بقعة خير لهم من أن تمطر عليهم السماء ثلاثين يوما ٢ ومن طريق آخر أربعين يوماً والآثار فيه كثيرة أيضاً
وفيه دليل على هيبة النبي الا الله و عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكثرة حيائهم منه يؤخذ ذلك من قولهم ومن يجترى عليه وقد روي عنهم رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتمنون أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقدرون على ذلك مع كثرة تواضعه الا الله لهم ورحمته بهم حتى كانوا يتمنون أن يجيء من البادية من يسأله فيسمعون جوابه عليه السلام للسائل ۳
وفي هذا دليل على قوة إيمانهم وكثرة تقواهم رضي الله عنهم لأن الله عزّ وجلّ يقول وَمَن يُعَظِّمْ شَعَبَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ٤ وأي شعائر أعظم من إكرامه صلى الله عليه وسلم وترفيعه

وفيه دليل على جواز القسم من السيد لمن هو دونه تأكيداً في التصديق وإن كان صادقاً في نفسه فإنه لا يقطع بالصدق في قسمه إلا من هو صادق في قوله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
وفيه دليل على أن حكاية حال المعصية إن كانت تقع ممن ليس لها أهلاً ويسمى باسمه أن ذلك ليس بنقص فيه ولا يلحقه منه شؤم ولا معرة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها فلو كان في ذلك شيء مما ذكرنا أو مما يشبهه لم يقله في أحد من الخلق فكيف في هذه السيدة التي قال عليه السلام في فضلها يَريبُني ما رَابَها ٥ وفيه دليل على أن تعليقك فعلاً يؤلم شخصاً بشرط أن يقع منه موجب له ليس بقبيح ولا فيه
۱ سورة المائدة من الآية ٦٦ رواه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ لحد يقام في الأرض إلخ وفي رواية له أخرى إقامة حد يُعمل به في الأرض خير لأهل الأرض إلخ
۳ رواه مسلم في الإيمان رقم ۱ عن أنس رضي الله عنه وأوله نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية إلخ
٤ سورة الحج من الاية ۳ ٥ رواه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه بلفظ فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها
١١٤٣

تغيير للنفوس يؤخذ ذلك من قوله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها لأن قطع اليد مما يؤلم لكن لما جعل الشرط فيه وقوع شيء من الشخص يوجبه له ـ وهي السرقة ـ لم يضره ذلك ولا يشوش عليه وإنما التشويش بالحقيقة هي المخالفة إذا وقعت ولذلك قال لا تبكين لوقوع ذنبك وإنما يبكيك موجبه وعليه فاندم
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١١٤٤

-198-
حديث عاقبة مَنْ يجر ثوبه خيلاء
عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ رَسولَ الله الله قال بينَما رَجُل يَجُرُّ إزارَهُ مِنَ الخيلاء خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجلجَلُ في الأرضِ إلى يَومِ القِيامةِ
ظاهر الحديث الإخبار بخسف الذي جر إزاره خيلاء وأنه في جوف الأرض لا يستقر له قرار
إلى يوم القيامة والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما الفائدة لنا بالإخبار بحاله الجواب عليه فيه وجوه
ومنها التحذير عن ارتكاب هذا الأمر الخطر
ومنها بيان فضل هذه الأمة على من تقدم يؤخذ ذلك من أن من تقدم كانوا إذا وقعوا في الذنوب لم يؤخر لهم عقاب مثلما فعل بهذا والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وكانوا إذا أذنب أحد منهم ذنباً أصبح على باب داره تسمية الذنب الذي فعله وما هو المخرج منه وهذا خزي عظيم وقد مَنَّ الله بفضله على هذه الأمة ببركة نبيها الا الله و أن عافاهم من هاتين الخصلتين أما الكتاب فما وقع منه في هذه الأمة شيء وأما الخسف فعوفوا منه إلا القليل من بعض المتمردين في بعض الأزمان وذلك نصرة للدين وقد قال لا اله الاهلي في شأن الإزار خيلاء من جرَّ إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ۱
وفيه دليل على عظيم قدرة الله تعالى وأنها لا تجري على قياس يؤخذ ذلك من كون الذي خسف به لا يستقر له قرار إلى يوم القيامة وهذا الزمان وطوله في مقدار الأرض وهو خمسمائة
عام
۱ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما

وفيه دليل على حسن طريق القوم ۱ يؤخذ ذلك من أن كِبْرَ نَفْس هذا الشقي هو الذي رمى به
إلى هذا الأمر العظيم وأهل الطريق قد عملوا على ذلها وهوانِهَا لأن ضد المذموم هو المشكور فلما ذم الله تعالى كبر النفس وجعل من أجل ذلك لصاحب الخيلاء هذا العقاب الأليم فضد ذلك محمود عنده وقد نص الشارع الله على ذلك بقوله أوحي إليَّ أن تواضعوا ولا يفخر بعضكم على بعض ٢ وقال عليه السلام المؤمن هين لين ۳ وقال عليه السلام ألا أخبركم بمن تحرم النار عليه تحرم النار على كل قريب هين سهل 4 والأخبار في هذا كثيرة
وفي هذا دليل على أن هذا الذنب من أكبر الذنوب يؤخذ ذلك من أنه إذا كان يُفعل به هذا الأمر العظيم حتى إلى القيامة كيف يكون حاله يوم القيامة ذلك ما لا تقدره العقول من
o
يوم
شدته ولا تتوهمه الأذهان وقد قيل
استغن بالفقر تكن لبيبـ وبالتواضع ارتفع تكن حسيبا وبالتقوى تزود تكن حبيبا وبالله است استعن تكن نه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
بنه ب
1 يريد المتصوفة
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عياض بن حمار بلفظ إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على
أحد
۳ رواه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه وتمامه حتى تخاله من اللين أحمق ٤ رواه أصحاب السنن الأربع عن جابر رضي الله عنه
ة كذا
١١٤٦

حديث اختياره صلى الله عليه وسلم أيسر الأمور
عَن عائشة رَضِيَ الله عَنها قالت ما خُيْر رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَينَ أمرين إلا اختار أيْسَرَهُما مَا لَم يكن إثماً فإن كانَ إثما كانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ
* *
ظاهر الحديث أخذه عليه السلام بأيسر الأمرين إذا خير بينهما وبعده عليه السلام من
الإثم وهل هذا التخيير على عمومه أعني تفضيله عليه السلام الأيسر من الأمرين أم لا والجواب أن أخذه عليه السلام الأيسر من الأمرين إذا خُيّرَ على العموم موجود بما استقرىء من سنته عليه السلام ويحتاج إلى تقسيم لأنه لا يخلو أن يكون ما يخير فيه من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فإن كان من أمور الدنيا فاللفظ على عمومه فما خير بين شيئين من أمور الدنيا إلا أخذ أيسرهما وكفى في ذلك أن خُيّر الله أن يكون مَلِكاً نبياً ويكون له مثل جبال تهامة فضة وذهباً تسير معه حيث سار أو يكون نبياً عبداً فاختار عليه السلام أن يكون نبياً عبداً فقال أجوع يوماً فأضرع وأشبع يوماً فأشكر ۱
۱ مركب من حديثين الأول رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى لال محمد سفة من دقيق ولا كف من سويق فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هذة من السماء أفزعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله القيامة أن تقوم قال كلا ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض وأمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة فعلت فإن شئت نبياً مَلِكاً وإن شئت نبياً عبداً فأشار إليه جبريل أن تواضع فقال بل نبياً عبداً ثلاثاً وفي الباب ما رواه البزار وأبو يعلى وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل فقال له جبريل هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة فلما نزل قال يا محمد أرسلني إليك ربك أملكاً أجعلك أم عبداً رسولاً قال له جبريل تواضع لربك يا محمد فقال رسول الله بل عبداً رسولاً والثاني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي الله قال عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً قلت لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً أو قال ثلاثاً أو نحو هذا فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك رواه الترمذي وحسنه
114

وفي هذا إشارة إلى طريق القوم الذين يقولون الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك معناه عندهم إذا لم تقطعه بالعمل قطعك بالتسويف والاشتغال بتعمير الوقت وترك الالتفات إلى الماضي والمستقبل فائدته ربح الدنيا والآخرة من الله علينا بفضله

وأما قولنا كيف يُخَيَّر النبي الا الله بين الإثم وغيره ۱ فقد تقدم أن ذلك جهل من المخيرِ له أن ذلك إثم كما فعل صاحب الخمر الذي أهداه للنبي اله الا الله بعد ما حرمت الخمر فلطف به في المراجعة ثم أمر بها فأهرقت وأشياء من هذا النوع عديدة ٢ وفي هذا النوع منه ما يدل على حسن خلقه وتواضعه ولأجل هذا النوع وما كان فيه لا لا لا لها أثنى الحق سبحانه على حسن خلقه فقال عز وجل وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۳ وقد قيل فيه من عظم الله خُلُقه كيف يحصي ﴿
ثناءه

مداحه
وفيه دليل على حسن فهم هذه السيدة لأنها فهمت مع صغر سنها من حقيقة طريقته عليه السلام ما فهم أبوها على كبر سنه ورفعته في قوة إيمانه وصدقه حتى قال عنه ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره 4 فبحسن أصلها نجح فرع فهمها
وفيه من
الفقه أن كلام المرء عنوان على عقله وأفعاله دالة على تحقيق حاله ولذلك قال علي رضي الله عنه حين قيل له في كم تعلم حال الشخص فقال إن تكلم فمن حينه وإن صَمَتَ فمن يومه فمن اشتغل بتخليص صحة حسن حاله حسن فعله ومقاله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 كذا ولم يرد قبلُ شيء من هذا
رواه مسلم والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما
۳ سورة القلم من الاية ٤
٤ ليس بحديث
١١٤٩

1191
حديث معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بشاة جابر وصاع شعيره
عَن جابر ۱ بنِ عَبدِ الله رضي الله عَنهُما قالَ لَمَّا حُفِرَ الخندق رأيتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم خَمْصا ٢ فانكَفَيْتُ إلى امرأتي فَقُلتُ هَل عِندَكِ شَيءٌ فإنّي رأيتُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم خَمْصاً شديداً فأخرجَتْ إلى جراباً ۳ فيه صاع ٤ مِن شَعيرٍ ولَنا بُهَيْمَة داجِنٌ فَذبحتها وَطَحَنتُ الشَّعير فَفَزِعتُ إلى عَناقِي وَقَطْعتُها في بُرْمَتِها ٥ ثُمَّ وَلَّيْتُ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقالت لا تفضحني بِرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وبِمَن مَعَهُ فَجِئْتُهُ فَسارَرْتُهُ فَقُلتُ يا رَسُولَ الله ذَبحنا بُهَيْمةً لَنا يا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك

فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع شورا ٦ فحيَّ هلاً بكم ۷ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُنزِلُن بُرْمَتكم ولا تَخبِزُنَّ عَجينَتَكم حتى أجيء فجئتُ وجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقدُمُ الناس حتى جئت امرأتي فقالت بِكَ وبِكَ فقلت قد فعلتُ الذي قلت فأخرجتُ له عجيناً فبصق فيه وبارك ثُمَّ عمد إلى بُرمَتنا فبصق فيها وبارَكَ ثم قال ادعي خابزة فلتخبز معكِ واقدحي ۸ مِن بُرمَتكم ولا تُنزِلوها وهم ألف فأقسِمُ بالله الأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإنَّ برمتنا لَتَغِطُ ۹ كما هي وإنَّ عجيننا ليخبزُ كما هو
۱ تقدمت ترجمته في الحديثين ٥٣ و ۱۱۳
الخمص للبطن خلوه من الطعام وضموره من الجوع
۳ الجراب وعاء يحفظ فيه الزاد
٤ الصاع مكيال يختلف بحسب البلدان والمذاهب ٥ البرمة القدر من الحجارة أو القدر مطلقاً
٦ السور طعام الضيافة
۷ أي أقبلوا أهلاً بكم
۸ اقدحي اغرفي
۹ تغط تغلي فيسمع غطيطها وغليانها
١١٥٠

ظاهر الحديث يدل على تحقيق بركة النبي وعظم معجزته الذي أطعم عليه السلام من صاع شعير وداجن ألفاً حتى شبعوا وانصرفوا وبقي اللحم كما كان لم ينقص منه شيء والعجين
كذلك والكلام عليه من وجوه
منها كثرة تواضعه عليه السلام يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام كان يعمل في الخندق معهم بيده الكريمة كأنه واحد منهم
ومنها أن من السنة التحصن من العدو بكل ممكن يؤخذ ذلك من حفرهم الخندق احتياطاً ليحصنوا به المدينة من أن يغلب العدو عليهم فيكون معهم بما يتحصنون منه ويؤخذ منه جبر الخاصة على ما فيه منفعة العامة كما أجبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على حفر الخندق وبقي أهل المدينة لم يخدموا فيه معهم والمنفعة فيه لجميع من في المدينة من الصحابة
وغيرهم
وفيه دليل على أن من السنة التشمير للثياب لمن يخدم يؤخذ ذلك من أن جابراً راه عليه السلام خمص البطن ولولا التشمير ما رأى منه ذلك وفيه دليل على أن كشف البطن من ذوي الهيئات ليس بمكروه يؤخذ ذلك من رؤية جابر بطنه
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يرون بالمجاهدة لأن البطن لا يكون خمصاً إلا بها وفيه دليل على ما طبعه الله عليه الا الله ومن كمال الخلقة والقوة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام كان خمصاً شديداً وهو مع ذلك يخدم في أشق الأشياء وهو حفر الخندق وفيه دليل على أن عمل الأسباب لا يخل بمنصب أهل الفضل يؤخذ ذلك من خدمته في
الخندق
وفيه دليل على عظيم صبره و و و وسعة صدره المبارك يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام المجاهدة مع الخدمة مع تبليغ ما أمر به ومع دوام العبادة فبالليل قائم يصلي حتى تورمت قدماه وبالنهار في الخدمة مع شدة المجاهدة ومع توفية التبليغ وحسن المسايسة لهم ولا يكون ذلك إلا مع الصبر العظيم والحمل الرباني
وفيه دليل على ما كان الصحابة عليه رضوان الله عليهم من تقليل حطام الدنيا يؤخذ ذلك من كون جابر لم يعرف لنفسه شيئاً حتى سأل عياله هل عندها شيء أم لا فلم يجد إلاصاعاً من
شعير
١١٥١

وفيه دليل على عظيم فضلهم رضوان الله عليهم وكثرة إيثارهم يؤخذ ذلك من كونهم لم
يكن لهم غير ذلك الصاع من الشعير والداجن فخرجوا عنه ولم يبق لهم شيء غيره فهم كما قال عزّ وجلّ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ١
وفيه دليل على كثرة حبهم الرسول الله يؤخذ ذلك من كونهم اثروه بكل ما ملكوا من لا الطعام الذي به يقوم حالهم ورضاهم بحمل المجاهدة بدلاً منه
وفيه دليل على أن حبهم له عليه السلام تساوى فيه الرجال والنساء يؤخذ ذلك من إخبار جابر امرأته حين سألها هل عندك شيء وأخبرها بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم و وكونه خمصاً شديداً فلولا ما علم أنها مؤثرة لجنابه عليه السلام كما هو ما أخبرها بذلك فلو كان غير ذلك لكانت تخفي عنه ما عندها أو بعضه لكي تؤثر به أولادها لأن ذلك لسان العلم لقوله الله ابدأ بمَن تَعُول فأعلمها بالحال من أجل ألا تخفي عنه شيئاً فهم رضي الله عنهم فهموا قول مولانا جلّ جلاله النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۳ اتخذوها حالاً فبذلك حصل لهم السبق
وقوله بهيمة داجن الداجن هي التي تربى في البيت
وفيه دليل على تنافسهم في الخدمة يؤخذ ذلك من قوله ففزعت إلى عناقي فدل ذلك على بذل كل واحد منهما جهده في الشغل الذي أخذ فيه
وفيه دليل على أن متاع البيت يضاف إلى المرأة لأنها هي المتصرفة فيه وإن كان ملكاً لصاحبه كما تقول سرج الدابة وليس لها فيه ملك فلما كان لا يستعمل إلا لها أضيف ملكه إليها يؤخذ ذلك من قوله فقطعتها في برمتها
وقوله ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ثم هنا دالة على التمهل وطول الزمان وإنها هي من القسم الذي يدل على الانتقال من حالة إلى حالة أخرى ليس بينهما شيء اخر وقد تقدم الكلام على تقسيمها قبل في الأحاديث
وفيه دليل على أن السنة أن يعمل في الأمور على جري العادة وإن كان الذي تعامله ممن له خرق العادات يؤخذ ذلك من قولها لا تفضحني برسول الله الله ومن معه لأن الجمع الذي كان
۱ سورة الحشر من الآية ۹
رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما وأوله المسألة كدوح في وجه صاحبها يوم القيامة فمن شاء فليستبق على وجهه وأهون المسألة مسألة ذي الرحم تسأله في حاجة وخير المسألة المسألة عن
ظهر غنى وابدأ بمن تعول ۳ سورة الأحزاب من الآية ٦
١١٥٢

معه كثير وطعامهم يسير والعادة الجارية أن الطعام اليسير ليس فيه كفاية للجمع الكثير وبالقطع أن سيدنا هل هو صاحب المعجزات وخرق العادات
وفيه دليل على أن من السنة أن تخبر من تضيفه بمقدار ما أعددت له يؤخذ ذلك من إخبار جابر لرسول الله لها بمقدار طعامه الذي أعد له وهو قوله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت ۱ صاعاً من
شعير كان عندنا
وفيه دليل على جواز مناجاة الواحد دون الجماعة يؤخذ ذلك من قوله فَسارَرْتُه أي تكلمت
معه سراً
وفيه دليل على أن من الأدب عدم الحصر عند إعلام ذوي الفضل بمقدار الشيء الذي أباح لهم التصرف فيه هل يكون تصرفهم فيه على جري العادة أو على خرقها يؤخذ ذلك من قوله لما أعلمه بقدر الطعام فقال له فتعال أنت ونفر معك والنفر يكون قليلاً ويكون كثيراً فتأدَّب معه بعدم حصر عدد الذين يمشون معه
وفيه دليل على أدب الصحابة رضي الله عنهم وعلو قدمهم في التوحيد يؤخذ ذلك من قولة جابر رضي الله عنه وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا ولم يدع فيه الملكية كأنه يقول بلسان الحال إن القدرة أمسكت عندنا صاعاً من شعير وقد طحناه فامش أنت ومن شئتَ معك ومثل ذلك في البهيمة قال رضي الله عنه بهيمة لنا أي مضافة في عرف التخاطب لنا وهي في الحقيقة لك فتصرف كيف شئت
وهنا بحث وهو الذي كان ذبح البهيمة فقال ذبحنا والمرأة هي التي طحنت فلما كان له الملك عليها ولا تفعل شيئاً إلا بإذنه جاز أن يقول طحنت كما يُقال ضرب السلطان فلانا وهو لم يتول الفعل بيده بل كان ذلك بأمره والعرب تضيف الشيء بعضه إلى بعض بأدنى نسبة ما لكن هذا هو حالهم ليس الذي يعامله يقول ما عاملتك إلا رجاء فيما أجرى الله لك من المعجزات وخرق العادات ٣ ليس هذا من الأدب بل هو من جملة التحكم على القدرة ولا يقع
في ذلك إلا كل جاهل
۳
وفيه دليل على جواز إضافة الصانع إلى صنعته يؤخذ ذلك من قوله ل و يا أهل الخندق
فأضافهم إلى الخندق لكونهم هم الذين صنعوه
۱ لفظ الحديث وطحنّا كذا ولفظ الحديث وطحنا
۳ كذا وفي الكلام اضطراب
١١٥٣

وفيه دليل على جواز رفع صوت ذوي الفضل بين إخوانهم وأصحابهم ليخبر جميعهم بالذي
يريد يؤخذ ذلك من قوله فصاح النبي يا الله يا أهل الخندق وهم كما أخبر آخر الحديث ألف وفيه دليل على أن صاحب المنزلة الرفيعة تحمله الثقة بمولاه عند الضرورة على أن يعمل على ما عوّده سيده من خرق العادة له ينجده حيث أمل املا يؤخذ ذلك من أنه لما رأى النبي يا الله قلة طعام جابر وانكسار خاطره في كونه أخبره سراً من أجل أن الطعام لا يكفي من كان هناك من كثرة الجمع عمل على جبر خاطره ثقة من مولاه أن يخرق له العادة في تكثير الطعام حتى يجبر قلب جابر ويدخل السرور على جميع أهل الخندق بأكلهم معه الا الله فصاح بالجميع وأخبرهم بتقليل الطعام بصيغة لفظه وإدلال حاله يخبر بتكثيره فصدقه بالمقال والحال لأنه كنى عن الطعام بالسؤر والسؤر من الطعام والشراب هو ما بقي منه في الإناء وصدقه في الحال لأنهم شبعوا وبقي الطعام على حاله وتلك حقيقة الكثرة في الطعام ومن هنا أخذ أهل المعاملات مع الله على طريق السنّة إذا كانوا عند الضرورة تخرق لهم العادات ببركة نبيهم لأنهم يقولون كل كرامة للولي فإنها معجزة من معجزات نبيه لأن بحسن اتباعه له عادت عليه تلك البركة وذكروا رضي الله عنهم أنه من أجرى الله تعالى له خرق عادة في شيء من الأشياء أن تلك لسان العلم في حقه ولا ينبغي له أن يعدل عن ذلك وقد قال له من رزق من باب فليلتزمه ۱ فالتزامه ذلك الحال من أدب العبودية
وفيه دليل على الإجابة للدعوة للطعام إذا كان ابتغاء وجه الله تعالى يؤخذ ذلك من إجابة
سیدنا جابراً لأنه ما يكون للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يراد به وجه الله
وفيه دليل على فصاحته وعذوبة لفظه يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم فحيَّ هلا بكم لما فيها من و لوله
البلاغة والاختصار
وقوله عليه السلام لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء هنا إشارة بأن أوائل الأمور هي أنجح في إظهار البركة مثلما فعل عليه السلام في عين تبوك الذي أوصى ألا يتناول أحد منها شيئاً حتى يأتي فلما سبق ذلك الشخصان ولم يعلما بمقالته انتهرهما وسبهما لأنهما عدلا عن مقتضى الحكمة ثم إن بركته عليه السلام عادت عليه وفيه دليل على أن من السنة أن السيد يقدم قومه يؤخذ ذلك من قوله يَقدُم الناس فيا له من
۱ رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ من رزق من باب فليلزمه وفي الباب عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ إذا فتح لأحدكم رزق من باب فليلزمه
1154

سيد ويا لهم من ناس فيا ليت وجنتي تراب لأقدامه وأقدامهم لعل ذا سقمي يشفى بحسيس آثارهم
وفيه دليل على أن من حسن الصحبة إخبار العيال بما جرى وجواز عتب العيال بعلها لكن ذلك يكون بأدب دون سب لأنه يفضي إلى التواد وحسن الصحبة وذلك من الإيمان يؤخذ ذلك من قوله فجئت امرأتي فقالت يك ويك معناه فأخبرتها بمجيء النبي وأهل الخندق معه فعاتبته على ذلك بقولها بِكَ وبِكَ لأن هذا كناية عن العتب ولم يقل صيغة اللفظ الذي به عاتبته وهذا من حسن سجاياهم
وفيه دليل على جواز استعطاف الرجل عياله يؤخذ ذلك من قوله قد فعلتُ الذي قلتِ يعني لم أخالفك فيما به أشرتِ وإنما هذا أمر آخر من النبي الله لو فرضيت هي آخراً كما رضي هو أولاً من وعلما أن الخبر حق كما ظهر آخراً وهو شبعهم جميعاً وبقي الفضل بعد ذلك
وفيه دليل على طهارة البصاق يؤخذ ذلك من كونه بصق في الطعام ولولا طهارته ما
فعل هو ذلك
وفيه دليل على بركة كل ما كان منه عليه السلام من خارجه وفضله لأنه لولا علمه عليه السلام ببركة ذلك البصاق ما فعل
وقوله وبارك أي دعا بالبركة فجاءت البركة في ذلك الطعام من وجهين من بصاقه عليه السلام ودعائه وقد كانت واحدة منهما تكفي لكن جمع الخير وتعداده أرفع وفيه من الفقه أنه مهما أمكن الأخذ بالزيادة في الخير لا يقتصر على البعض وفعل عليه السلام في العجين مثلما فعل في البرمة وفيه دليل على جواز المشاركة في أفعال البر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ادعي خابزة
فلتخبز معك لأن تصرفها في هذا العجين وخبزها له من أكبر أفعال البر وفيه دليل على جواز التعاون في إطعام الجمع الكثير لأنه مما يتيسر له به المعروف يؤخذ
ذلك من قوله عليه السلام ادعي خابزة
وفيه دليل على جواز القسم عند الإخبار فإنه تأكيد للصدق يؤخذ ذلك من قوله أقسم بالله وفيه دليل على أن مَنْ صدق الله تعالى في المعاملة ربح في الحال والمآل يؤخذ ذلك من قوله لأكلوا حتى تركوه يعني فضل لهم الطعام ولم يقدروا على أكله وزيادة على ذلك بقوله وإن برمتنا لتغط أي تغلي كما كانت مملوءة لحماً
١١٥٥

وقوله وإن عجيننا ليخبز كما هو أي لم ينقص من العجين شيء لما خرج أولاً عن كل ما ملكه من الطعام لله تعالى ربح الآخرة إذ أكل طعامه سيّد الأولين والآخرين وجميع أهل الخندق ولم يكن ذلك في قدرته وربح الدنيا أي بقي له طعامه كما كان وزيادة ما فضل لهم وما حوى
ذلك الطعام من زيادة البركة في نفسه لما خالطه من بصاق النبي الا الله ودعائه فتلك تجارة رابحة وفيه دليل لأهل الصوفة لأنهم يقولون بإيثار جميع ما يملكون وهذا يقويه قوله عزّ وجلّ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۱ فلما آثروا أوثروا من جاد فعلى نفسه بالخير جاد من بخل فعلى نفسه بالخير بخل فبأي الوصفين عاملت فعليك منه عائد وأنت له حامل وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة ال عمران من الآية ۹
110

-144-
حديث تحريم التفاضل في البيع والشراء
عَن أبي سعيد الخدري وأبي هريرةَ رضي الله عَنهُما أَنَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رَجُلاً على خَيْبَرَ فَجاءَهُ بِتَمرٍ جَنِيبٍ ۱ فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ُأكُلُّ تَمرِ خَيبرَ هَكذا قالَ لاَ والله يا رَسُولَ الله إنَّا لنأخُذُ الصَّاعَ مِن هَذا بالصَّاعَينِ وَبالثَّلاثةِ فَقالَ لا تَفعَل َبعِ الجمعَ بالدَّرَاهِم ثُمَّ ابْنَع بِالدَّرَاهِمِ جنيباً
ظاهر الحديث يدل على منع التفاضل بين النوعين من التمر والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل هذا خاص بالتمر أو هو في كل مطعوم إذا كان من جنس واحد والجواب أنه في كل مطعوم إذا كان من جنس واحد لأن العلة التي في التمر إذا اختلفت أجناسه موجودة في غيره من المطعوم إذا كان من جنس واحد لأن الاسم يجمعه فالتفاضل فيها ممنوع مثل الزبيب أحمره وأسوده وجيده ورديئه الاسم يجمعهما فلا يمكن التفاضل بين أجناسه وكذلك غيره من المطعومات إذا كان من جنس واحد لوجود العلة فيه
وفيه دليل على أن الشيء الفاسد إذا وقع ولم يعرف صاحبه لا يفسخ يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام فيما يستقبل أن قال له لا تفعل ولم يأمره برده لأنه قد جمعه من مواضع مختلفة واختلف الجميع وبقي الاحتمال في أنه لا يعرف ما صنع به فما فيه الفساد لا يتناول عليه السلام منه شيئاً والظاهر تفريقه على المساكين وقد قال عليه السلام للسعدين ٢ حين باعا آنية من فضة من المغنم مثلاً بمثلين رُدًا فقد أربيتما ۳ لأن صاحبهما كان معروفاً فالفسخُ ممكن فأمرهما

۱ تمر جنيب نوع جيد من التمر السعدان إذا أطلق هذا اللفظ في الحديث فالمراد بهما سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وحيث أن سعد بن معاذ مات قبل فتح خيبر فلعل المراد سعد بن أبي وقاص والله أعلم ۳ رواه الإمام مالك مرسلا في البيوع عن يحيى بن سعيد وأوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين يوم خيبر أن يبيعا انية من المغنم إلخ
١١٥٧

وفيه دليل على أن من وظيفة الأمر أن يسأل عماله عن تصرفهم حتى يعلم كيف هو وكذلك
يلزم كل من استناب أحداً يتصرف له في شيء حتى يعلم ببراءة ذمته يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حين أتوه بالتمر أكل تمر خيبر هكذا فلولا ما سأل عليه السلام حين أتوه بالتمر ما كان يعلم بهذا الفساد الذي وقع وفيه دليل على أن أكل الطيب لا يقدح في الزهد يؤخذ ذلك من أن سيدنا م لا الهلال والزهد البرية وهذا عامله قد ساق له الطيب من التمر ولم ينهه عن ذلك وإنما نهاه عن الربا وزاد ذلك تأكيداً أعني في جواز أكله - أن قال له عليه السلام بع الجمع بالدراهم ثم ابتغ بالدراهم جنيبا

فأمره بشراء الطيب
وفيه دليل على أن من السنة حسن التعليم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لعامله لا
تفعل ولم ينتهره
وفيه دليل على أن تنفيذ الحكم لا يكون إلا بعد تحقيق موجبه يؤخذ ذلك من سؤاله عليه السلام لعامله قبل نهيه بقوله أكُلّ تمر خيبر هكذا وهو الله يعلم أن تمر خيبر ليس على صفة واحدة فلم يقتنع بعلمه في تمر خيبر حتى سأل من أجل الاحتمال لعل العامل باع ذلك على وجه يجوز واشترى هذا أو غير ذلك من الاحتمالات
وفيه دليل على أن رؤية ما يعرف على صفة لا تعرفها توجب السؤال عن
يؤخذ ذلك من أن سيدنا الله لما رأى التمر على خلاف ما يعرف سأل
وفيه دليل على أن حسن السؤال من السنة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أكُلّ تمر خيبر
هكذا فهذا اختصار في اللفظ وغاية في حقيقة كشف الأمر
وفيه دليل على جواز القسم في دَرْج الكلام وهو الذي يسميه بعض العلماء لغو اليمين يؤخذ ذلك من قوله لا والله يا رسول الله ولم ينكر عليه الله ذلك
وفيه دليل على أن ذكر اسم العالم عند رد الجواب عمّا سأل من الإكرام له يؤخذ ذلك من قوله لا والله يا رسول الله فقد حصل بقوله لا والله رد الجواب وما بقي ذكر اسمه عليه السلام إلا إعظاماً له وتبركاً به
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

1191
حديث زواجه صلى الله عليه وسلم بميمونة رضي الله عنها
عَن ابن عباس رضي الله عَنهُما قال تزوج النبي صلى الله عليه وسلم مَيمونَةٌ ١ وَهُو مُحرِم وَبَنى نَزَّوجَ النَّبِيُّ بِها وَهُوَ حَلال ومَاتَتْ بِسَرِفَ ٢
ظاهر الحديث يدل على جواز نكاح المُحرم وليس الأمر على ظاهره لأنه نهى عن نكاح المُحرِم وإنما ذكر أهل العلم في هذا الحديث أن النبي وكل - وهو حلال - من يعقد نكاحه معها رضي الله عنها فإنها كانت خرجت برسم الحج قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم وكان توكيل النبي لمن يعقد نكاحه معها وهو بالمدينة قبل خروجه للحج أيضاً فخرج من وكله على ذلك وعقد النكاح بعد إحرام النبي الله فالذي رأى ذلك روى ما رأى ولم يكن عنده علم بالتوكيل في
ذلك

وهذا ليس يقدح في الرواية لأنه روى ما رأى كما فعل في إحرامه فبعض الناس روی أنه عليه السلام أحرم من المسجد وبعضهم روى أنه أحرم حين استوت به راحلته وبعضهم روى أنه أحرم حين توسط البيداء فشق ذلك على بعض السادة وقال حَجة واحدة واختلف الناس في ذلك فقال ابن عباس وهو راوي هذا الحديث أنا أزيل لكم هذا الإشكال كنت معه عليه السلام فأحرم من المسجد فمن كان هناك روى ما سمع ثم خرج وخرجت معه فلما استوى على راحلته لَبَّى فمن كان هناك روى ما سمع ثم مشى ومشيت معه فلما توسط البيداء والناس أمامه وخلفه ويمينه ويساره مدَّ البصر لبّى فمن كان هناك روى ما سمع فالكل قالوا حقاً
۱ ميمونة بنت الحارث الهلالية اخر امرأة تزوجها رسول الله الا الله و اواخر من مات من زوجاته كان اسمها بَرّة فسماها ميمونة بايعت بمكة قبل الهجرة وكانت زوجة أبي رهم بن عبد العزى العامري ومات عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ٧ للهجرة وروت عنه ٧٦ حديثاً وعاشت ثمانين سنة وتوفيت بسَرِف وهو الموضع الذي كان فيه زواجها بالنبي يا اقرب مكة ودفنت به سنة ٥١ هـ الأعلام ۳۰/۸ سَرِف مكان يبعد عن مكة المكرمة حوالي خمسة عشر كيلومتراً في الطريق الذاهب إلى المدينة المنورة
١١٥٩

وفيه دليل على أن الشاهد إنما يشهد بما رأى أو علم ولا يلزمه علم ما خفي من الأمر يؤخذ ذلك من كون الصحابي روى ما رأى ولم يكن له علم بما بطن من الأمر كما ذكرنا يؤيد هذا قوله تعالى وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَفِظِينَ ﴾
وهنا بحث وهو أن يقال ما الفائدة من إخباره بأنها ماتت بِسَرِف وهو موضع بين مكة والمدينة فهو إيضاح حال ليكون تصديقاً لما به أخبر فإنه أخبر بزواجها ودخول الرسول عليه السلام بها وهو حلال وموتها بعد ذلك بسَرِف فمن يعرف هذه الجزئيات فهو صادق فيما أخبر
به
ويترتب عليه من الفقه أنه ينبغي للمخبر بالأشياء أن يأتي من الدلائل على تصديقه بما أمكنه فإن ذلك دال على تحرزه في النقل والإخبار وأدفع لتهمة المعترض السيّىء الظن وفيه دليل على جواز الزواج في السفر والدخول بالأهل فيه يؤخذ ذلك من إخباره أنه عليه السلام دخل بها وهو حلال وذلك كله في سفره عليه السلام بالحج ورجوعه منه قبل دخول
المدينة
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة يوسف من الاية ۸۱
11

-144-
حديث طاعة الأمير لا تكون إلا في معروف شرعاً
عَن عَليَّ بن أبي طالب ١ كَرَّمَ الله وَجهَهُ قالَ بَعثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيةٌ واستعمل رَجُلاً مِنَ الأنصار وأمرَهُم أن يُطيعوهُ فَغَضب فقالَ َألَيسَ أمْرَكُمُ النَّبِيُّ الله أن تُطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا حَطباً فَجَمَعوا فقالَ أوقدوا ناراً فأوقدوها فقالَ ادخلوها فَهَمُّوا وجَعلَ بَعضُهم يُمسِكُ بَعضاً ويقولونَ فَررنا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النارِ فما زالوا حَتى خمدت النَّارُ فَسكنَ غَضبهُ فَبلغَ النَّبي يا الله فقالَ لَو دخلوها ما خَرجوا مِنها إلى يَومِ القِيامَة الطَّاعةُ في المَعروفِ
ظاهر الحديث يدل على أن لا طاعة للأمير على من أُمَّرَ عليه إلا فيما فيه طاعة والكلام عليه
من وجوه
منها أن من السنة ألا تخرج سرية حتى يكون عليها أمير يؤخذ ذلك من قوله واستعمل رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه
وفيه دليل على أنه لا تتم الإمْرَةُ لمن أمَّره الإمام حتى يفصح لمن أمره عليهم بالطاعة له يؤخذ ذلك من قوله وأمرهم أن يطيعوه
وفيه دليل على جواز الكلام للأمير والأمير في حال الغضب لكن لا ينفذ المأمور به إلا ما وافق لسان العلم ويدع ما عدا ذلك يؤخذ ذلك من أن أمير هذه السرية تكلم في حين غضبه بأشياء فبلغ جميع ذلك للنبي فمنع منها ما خالف لسان العلم وسكت عن الباقي وسكوته عليه السلام دال على جوازه فإن كلام الأمير ذكر فيه ما هو حق وهو قوله أليس أمركم النبي الا الله أن تطيعوني وهذا قول حق فما ضره الغضب ثم أمر بشيء من قبيل الجائز وهو جمع الحطب ووقد النار والجائز لا يؤثر فيه الغضب لأنه باق على حاله من الجواز ثم أمرهم بدخول النار وهو ممنوع شرعاً فهذا هو الذي منع النبي الله له من جميع قوله وهو ممنوع في كل حال
١١٦١
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ۸

وفيه دليل على أن الغضب يغطي على ذوي الأحلام بعض الحق في بعض الأمور لأن هذا
الأمير الذي أمره النبي على السرية لم يؤمره حتى كان فيه دين زائد وفضل ولولا ما لحقه من الغضب ما لحقه ما أمر جمعاً من المسلمين أن يحرقوا أنفسهم ولذلك قال إذا غضبتَ فاسكت ۱ لأن كل متكلم في حال الغضب - وإن قال حقاً ـ فلا بد له من شيء ما يقع فيه وقد جاء من طريق آخر أن الغضب من الشيطان فمن أصابه فليتوضأ فإنه يذهب عنه

وقد روي مثل هذا عن معاوية رضي الله عنه حين قال له بعض الناس وهو على المنبر أعط الناس عطاياهم فإن المال ليس من كسبك ولا من كسب أبيك ولا من غَزْل أمك فقال على رِسْلِكم فنزل ودخل منزله فخرج وعليه أثر الماء فقال أما بعد فإنه لما قال الرجل مقالته أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وذكر الحديث الذي ذكرناه آنفاً وقد زال عني الغضب وصدق الرجل ليس المال من كسبي ولا من كسب أبي ولا من غزل أمي وإذا كان
الغد فائتوني لأخذ عطاياكم ۳

ولأهل الطريق في مثل هذا السبقُ العظيم فمما ذكر عن بعضهم أنه كان له غلام وعمل الغلام على أن يُغضبه فبقي يروم ذلك زماناً مهما عمل شيئاً يوجب الغضب عليه حلم عنه وعفا فلما كان يوماً قال له ائتني بالدابة مسرعاً لضرورة لي فأبطأ عليه فمشى بنفسه إلى حيث كانت الدابة فإذا بالغلام قد عرقبها ٤ وهي ملقاة بالأرض والغلام قاعد ينظر إليها فسأله من فعل هذا قال له أنا قال له وما حملك على هذا قال أردت أن أغضبك فإنك منذ اشتريتني أروم ذلك منك وما قدرت عليه فقال له إني إن شاء الله أغضب من أغواك اذهب فأنت حر لوجه الله
وفيه دليل على أن المنجي من النار هو الإيمان يؤخذ ذلك من قولهم فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم منان
۱ رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ إذا غضب أحدكم فليسكت رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عطية العوفي بلفظ إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ
۳ رواه أبو نعيم في الحلية ٤/ ۱۳۰ وابن عساكر في تاريخ دمشق ٢٥ و ٥١ كما في مختصره لابن منظور من طريق أبي مسلم الخولاني عن معاوية أنه خطب الناس وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة فقال له أبو مسلم يا معاوية إن هذا المال ليس بمالك ولا مال أبيك فأشار معاوية إلى الناس أن امكثوا ونزل فاغتسل ثم رجع فقال أيها الناس إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا مال أبي ولا مال أمي وصدق أبو مسلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الغضب من الشيطان والشيطان من النار والماء يطفىء النار فإذا غضب فليغتسل اغدوا على عطائكم على بركة الله عز وجل ٤ عرقبها قطع عرقوبها والمراد رجلها
١١٦٢

النار فإن الفرار إلى النبي الفرار إلى الله تعالى والله عزّ وجلّ يقول فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ ١
والفرار إليه سبحانه هو اتباع أمره واجتناب نهيه
وفيه دليل على أن الطاعة للأمير لا تنفع صاحبها إلا إذا كانت موافقة للسان العلم وإلا فهي معصية يؤخذ ذلك من أن بعض أهل تلك السرية أرادوا أن يدخلوا النار اتباعاً لأمر أميرهم يقصدون بذلك القربة إلى الله سبحانه ثم أخبر رسول الله الا الله ولما بلغه الأمر أنهم لو دخلوها ما خرجوا منها فدل ذلك أنها أن لو كانت لكانت من الكبائر
وفيه دليل على أن من السنة رد أخيك المسلم عما يضره بالقوة إذا لم يقبل منك بالقول يؤخذ ذلك من كون الذين أرادوا أن يدخلوا النار ولم يسمعوا من قول إخوانهم فررنا إلى النبي ال من النار حبسوهم بالقهر حتى خمدت النار يقوي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما فنصر الظالم أن ترده عن الظلم بأي وجه قدرت
وفيه دليل على أن أهل الفضل ليس المعصوم منهم إلا من شاء الله تعالى يؤخذ ذلك من أن فضل أولئك الناس كلهم لا شك فيه وقد غلط بعضهم بأن ظن أن دخول تلك النار اتباعاً لأمر أميرهم طاعة ولم يكن كذلك
وفيه دليل على أن الجمع من هذه الأمة لا يجتمعون على غلط يؤخذ ذلك من كون تلك السرية انقسموا قسمين منهم من هان عليه دخول النار فظنه طاعة ومنهم من لم يظهر له ذلك فكان خلافهم سبباً لرحمة الجميع
وفيه دليل لمن يقول اختلاف العلماء رحمة وقد قال لن تجتمع أمتي على ضلالة ۳ وفيه دليل على أن من كان صادقاً مع الله تعالى لا يقع إلا في خير وإن قصد شراً أو أراده فإن الله يصرفه عنه يؤخذ ذلك من أنه لما كان الذين أرادوا أن يدخلوا النار وظنوا أنه طاعة الله تعالى فيصدقهم مع الله جعل الله إخوانهم حبسوهم عن ذلك حتى نجوا من هذا الأمر العظيم ومن كلام أهل التحقيق من صدق الله وَقَاهُ الله ومن توكل على الله كفاه الله وهداه جعلنا الله منهم بمنّه لا
رب سواه
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الذاريات من الآية ٥٠
رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه وتمامه قيل كيف أنصره ظالماً قال تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره
۳ روي من عدة طرق منها عن ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي في الفتن بلفظ لا يجمع الله أمتي أو قال هذه الأمة على الضلالة أبداً ويد الله على الجماعة وللحديث طرق أخرى في كتب الحديث
١١٦٣

-14-
حديث أول مسجد وضع للصلاة
عَن أبي ذَرَّ ١ رضي الله عَنهُ قالَ قلتُ يا رسول الله أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوْلاً قال المسجد الحرام قلتُ ثمَّ أَيُّ قال المَسجد الأقصى قُلتُ كَم كان بَينهما قالَ أربعونَ ثُمَّ َقالَ حَيثُما أدرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلَّ والأرضُ لكَ مَسجِد
*
ظاهر الحديث الإخبار بثلاثة أحكام الواحد منها أن المسجد الحرام أول مسجد وضع للصلاة والثاني أن المسجد الأقصى وضع بعده وبينهما أربعون والثالث جعلت الأرض لنا مسجداً وطهوراً وحيثما أدركتنا الصلاة نصلي والكلام عليه من وجوه
منها الدليل على فضل سيدنا الا الله وأمته على من تقدم يؤخذ ذلك من تيسير العبادة عليهم بأن جعلت لهم الأرض مسجداً وطهوراً ولم يكن ذلك لمن تقدم
ومنها أن يقال ما معنى قوله مسجد وما معنى طهورا فأما معنى طهوراً فقد جاء في حديث آخر منصوصاً عليه وهو قوله ل ه وترابها طهوراً وهو الذي منّ الله به علينا من إبدال الوضوء بالتيمم بجميع أنواع الأرض عند عدم الماء أو العجز عن استعماله وأما معنى مسجداً أي موضع إيقاع الصلاة لأن كل موضع يُصَلَّى فيه فهو مسجد أي موضع للسجود وكانت الأمم قبل لا يفعلون الصلاة إلا في المواضع التي بنيت لها
وفيه دليل على أن تخصيص الأشياء ليست بالاستحقاق وإنما هي بحسب ما جرت حكمة الحكيم يؤخذ ذلك من أن الصلاة قبل هذه الأمة لم يكونوا يُوقعونها إلا في مواضع مخصوصة وجعلت جميع الأرض لهذه الأمة محلاً لفعلها فيه
وفيه دليل علي أن حسن النية في السؤال تعقب زيادة خير على ما قصده يؤخذ ذلك من كون
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ١٠٠
١١١٥

حسياً أو يكون معنوياً فإنه إذا لم ينتفع بقلبه في النوع الذي أريد منه وتوالت عليه الشهوات حتى لا يرى إلا هي فذلك موت لأن الفائدة التي في حياة القلب معدومة عنده ولذلك شبه الذاكر لربه بالحيّ والغافل بالميت
واحتمل أن يكون موته حسياً كيف شاء القادر سبحانه وتعالى كما يَيْبَسُ عضو من أعضاء
1
الشخص مثل يده أو رجله أو غيرهما من الجوارح وباقي بدنه صحيح والقدرة صالحة ومن سَنَن مَنْ قبلنا أنهم بدلوا بعض كتبهم كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم بقوله تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۱ وقد أخبر عزّ وجلّ عن هذه الأمة بمثل هذا في قوله تعالى فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۳ والآي والأحاديث في هذا كثيرة فتكون فائدة الإخبار بهذا الحديث التحرز عن مثل هذا نصحاً منه واختصاراً في اللفظ وإبلاغاً في الإنذار لأن الآي والأحاديث في هذا كثيرة - كما قدمنا - وكثير من الناس لا يعرفها وإن عرفها فلا يقدر أن يُحصِيَها فجاء هذا الحديث من أبدع البلاغة في الإنذار والتحذير عن كل ما تضمنته الآي والأحاديث فجزاه الله عنا أفضل ما جازى نبياً عن أمته وجعلنا من صالحي أمته بمنه
وأما قوله عليه السلام شبراً بشبر وذراعاً بذراع فمعناه أنكم لا تتركون منها شيئاً إلا فعلتموه زيادة بيان كما ذكرناه انفاً وكذلك قوله عليه السلام حتى لو سَلَكوا جُحْرَ ضَبٌ مبالغة
في الاتباع
وفيه دليل على الإخبار بالعام والمراد به الخاص يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام التَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الذين من قبلكم وهو عام ولم يرد ممن قبلنا إلا قوماً مخصوصين وهم اليهود والنصارى وفيه دليل على مراجعة العالم إذا بقي في كلامه على السامع احتمال يؤخذ ذلك من قول عنهم له الا الله له اليهود والنصاری سؤال استرشاد و تثبت فإن حسن السؤال
الصحابة رضي الله عنهم نصف العلم فاستفهموا لزوال الاحتمال
وفيه دليل على جواز مخاطبة البعض بلفظ الكل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لتتبعن سنن الذين من قبلكم وهو عليه السلام يخاطب الحاضرين - وهم البعض من أمته - وخطابه عليه السلام لجميع الأمة
وفيه دليل على جواز أن يضاف للشخص ما يفعله من هو مشترك معه في وصف ما من
۱ سورة النساء من الآية ٤٦ سورة ال عمران من الآية
۱۱۳۱

وقد جاء عنه الله أنه أتي يوماً بثوب يلبسه فطالت كماه على يديه الكريمتين فأخذ يقطعهما
فلم يجد في الوقت إلا سكيناً فجمعهما وقطعهما بالسكين ولم يكلف أحداً أن يأتيه بمقص وبقي دور الأكمام داخلات وخارجات وربما تساقطت الخيوط من بعضهما ولم يعدلها بعد ولا عمل لها عطفاً حتى تقطع الثوب وهو على ذلك الحال ۱

وأما أمر الآخرة فما كان يختار فيه فيما يخصه عليه السلام إلا الأرفع والأقرب إلى الله تعالى كما فعل عليه السلام في تعبده الذي قام فيه حتى تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله تفعل ذلك والله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً وإذا كان الأمر في حق أمته أخذ عليه السلام لهم ما هو الأيسر والأقرب رحمة بهم كما فعل في قيام رمضان حين كثر الناس فقاموا معه فجعل يتخلف ثم قال لهم إنما تخلفت لئلا يكتب عليكم فلا تطيقون ۳ أو كما قال عليه السلام وكما فعل عليه السلام معهم في شأن الوصال الذي كان ينهاهم عنه ويواصل عليه السلام حتى كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار من شدة الجوع والمجاهدة فقيل له تنهانا عن الوصال وأنت تفعله فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني 4 وكان عليه السلام يقول لهم اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا والأحاديث في هذا الشأن كثيرة فعلى هذا فيكون عاماً فيما كان من أمور الدنيا ويكون خاصاً فيما كان من أمور الآخرة
وقد يحتمل أن يكون عاماً في أمور الآخرة بوجه ما وهو مثل أن يخيّر بين عملين أحدهما يكون في الوقت الوصول إليه قريب والذي الوصول إليه أبعد يكون أرفع فيختار الأيسر اغتناماً منه عليه السلام للطاعة والمبادرة للخدمة وخوف الفوت أنه لا يدرك الذي هو أرفع فإن أدركه لم يتركه كما كان أبو بكر رضي الله عنه يفعل في وتره يقدمه أول الليل وقد صح من السنة أن الأفضل في الوتر آخر الليل ٦ فكان أبو بكر رضي الله عنه فهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي أشرنا إليه فعمل عليه فأقره النبي على ذلك وقال له أخذت بالحزم وهي المبادرة
V
1 لم نقف على مصدره
متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ۳ متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها
٤ رواه البخاري في الصوم ومسلم في الصيام عن عبد الله بن عمر وعند البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنهم
أجمعين
5 رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن السيدة عائشة رضي الله عنها وفيه يا أيها الناس خذوا ـ وفي رواية اكلفوا - من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ
٦ رواه البخاري في الوتر ومسلم في صلاة المسافرين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ۷ رواه الإمام مالك في صلاة الليل وأبو داود عن أبي قتادة رضي الله عنه بلفظ مختلف
١١٤٨

حديث ثواب قارىء القرآن الحافظ له والمتدبر لمعانيه
عَن عائِشَةَ رضيَ الله عَنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ مَثَلُ الَّذي يَقرأُ القُرآنَ وَهُوَ حافظ له معَ السَّفَرَة ۱ الكرام ومَثَلُ الَّذي يَقرأُ القُرآنَ وَهُوَ يَتَعاهَدُهُ وَهُوَ عَليهِ شَدِيد فَلَهُ أَجْرانِ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أن الذي يقرأ القرآن ويعمل به هو مع الملائكة
و الثاني أن الذي يتعاهده بالتلاوة وهو عليه شديد له أجران والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى قوله مع الملائكة - وهم السَّفَرة كما أخبر عزّ وجلّ عنهم بقوله ۳ - وتبيين الأجر الذي لقارىء القرآن ومنه تبيين تضعيفه
﴿
تعالى بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامِ بَرَدة لأنه لا يتبين التضعيف إلا بعد معرفة الأصل
فمعنى قوله عليه السلام مع السفرة الكرام الذين أشرنا إليهم - وهم الملائكة - لأنه يحصل له الأمن في الدنيا والآخرة أما في الآخرة فيدل على ذلك قوله تعالى ﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَيْكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ٤ وأما في الدنيا فيدل على ذلك قوله تعالى يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَولُكُمْ عَلَى بَعَرَة تُجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إلى قوله تعالى نَصْرُ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ٥ ومن الحديث قوله مِنَ
۱ السَّفَرة ج سافر الملائكة الذين يحصون الأعمال يتعاهده يردده محافظة عليه
۳ سورة عبس الايتان ١٥ - ١٦ ٤ سورة فصلت من الآية ۳۰ والآية ۳۱ ٥ سورة الصف الايات ۱۰ - ۱۳
وتمام الآيات يَأْتِهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُكُمْ عَلَى تعرف تجيكُر مَنْ عَذَابٍ أَلِيم تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُر خير لكوان كُنتُمْ لَعَلَمُونَ بغير لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَيْهَا الْأَنْهَرُ وَمَسَكِنَ طَيِّبَةٌ فِي جَنَّتِ يفقر
١١٦٤

اختلفتم فقوموا عنه فإن حمل هذا الأمر الثاني على الوجوب فيكون مأثوماً وإن حملناه على الندب فيكون مكروهاً وهو أضعف الوجوه والظاهر في الموضع عدم الإثم وذلك راجع إلى ما نفصله بعد إن شاء الله تعالى فنقول هل ذلك النهي يتناول من قصد ذلك ومن لم يقصده أعني أنه يقرأ وهو يقصد التفكر في شيء آخر والذي لم يقصده هو الذي يدخل بنية القراءة ثم يطرأ على قلبه الغفلة والخروج إلى الفكرة في شيء آخر يستدرجه العدو في ذلك أو النفس
أما الذي يدخل بنية أنه يقرأ ويتفكر في شيء آخر فلا شك أن ذلك مكروه من الفعل مثاله إذا كان إنسان يكلمك فتدير ظهرك إليه وهو يخاطبك فهذه تلك الحالة وليس هذا من الأدب هي ويخاف عليه من العقاب وأما الذي يدخل بنية الأدب في التلاوة وتعرض له الغفلة أو الفكرة فلا يخلو إما أن يدفع ذلك أو يتمادى معه فإن دفعه فيرجى أنه لا يضره لقول الله سبحانه وتعالى إذَا مَسَّهُمْ طَبِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ ۱ وقد قال أهل التوفيق إنما نحن مكلفون بدفع الخواطر السيئة بألا تقع

ويؤيد ما قالوه قول سيدنا الا الله وحين قال له الصحابة رضي الله عنهم إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال أوجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان وكأنه يقصد في دفع ذلك الشيء وتعاظم أن يتكلم به فإن تمادى مع تلك الخواطر فلا يخلو أن يكون تماديه بغفلة ونسيان أو تعمد فإن كان بغفلة ونسيان فيرجع عند استفاقته لذلك ويرجى أن لا شيء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ٣ وإن كان تماديه بالقصد والذكر فهو الذي دخل بالنية المتقدمة سواء
ومما يشبه ذلك الذي يكون يعمل شغلا وهو يقرأ فإن كان قلبه مجتمعاً على القراءة فلا يضره عمل ذلك الشغل لأن يده فيه عارية وقلبه مشغول بعبادته وذلك بشرط أن يكون الشغل مما ليس فيه قذارة ولا نجاسة ويكون المحل طاهراً ولا يكون فيه لغط ولا شيء مكروه وإن كان قلبه متعلقاً بالشغل فممنوع له القراءة والمنع على أحد الوجوه المتقدم ذكرها
وأما حدّ تألف القلب المجزىء في ذلك فأقله أن تسمع بقلبك ما تتلوه بلسانك كأنك تسمع لغيرك يقرأ عليك وأعلاه أن تتفكر في معناه حتى تفهم ما أنت تتلوه ويكسوك من كل معنى يرد
۱ سورة الأعراف من الآية ۰۱
رواه مسلم في الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً
۳ أخرج ابن ماجه عن ابن عباس يرفعه إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وصححه ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين أما ما شهر على الألسنة كما أورده المؤلف رحمه الله فلم تورده كتب الحديث بهذا اللفظ
۱۱۸۰

عليه السلام في الذي حفظ القرآن كأنما أُدرجت النبوة بين كتفيه ۱ والأنبياء عليهم السلام
لهم خير الدنيا والآخرة
والفرق بين حفظه والمحافظة عليه لأن حفظه يحصل بالدرس وقد يحفظه البرّ والفاجر وقد قال من علامة الساعة أن يُفتح للناس في حفظ القرآن يحفظه البَرّ والفاجر يجادلون به المؤمنينَ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أو كما قال عليه السلام والمحافظة عليه التي هي العمل به لا تكون إلا للخصوص من المؤمنين أولئك حزب الله وهم المفلحون الذين هم مع الملائكة السفرة الكرام لأن المحافظة على الشيء الاعتناء به وعمله على ما يجب لقوله تعالى حَفِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى ۳
وفيه دليل لمن يقول إن الملائكة أرفع من بني ادم الصالحين يؤخذ ذلك من كون أعلى ما رفعت درجة هذا أن جُعِل مع الملائكة
وأما الكلام على أجر من قرأ القرآن بلا شدة عليه فقد جاء أن له بكل حرف عشر حسنات لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف 4 وقد جاء أن من قرأ القرآن قائماً في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة وإن كان قاعداً خمسون وإن كان في غير صلاة على طهارة خمس وعشرون وإن كان على غير طهارة عشر حسنات٥ وقد جاء أن من قرأ القرآن وهو يعلم لِمَ رُفِعَ ولم نُصِبَ كان له بكل حرف سبعمائة حسنة ٦ فعلى هذه الاثار إذا تعاهده على وجه من هذه الوجوه وهو عليه شديد كان له ضعفان من ذلك
الأجر المسمى
وفي مقتضى هذه الأخبار دليل على أنه ليس في جميع النوافل أرفع من قراءة القرآن إلا أنه يجب أن تكون القراءة كما ذكر بعد في الكتاب وهو قوله عليه السلام اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه
عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرُ مِنَ اللَّهِ وَفَتح فَرِبُ وَكَثِيرِ الْمُؤْمِنِينَ

۱ رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ذكره المنذري في الترغيب والترهيب من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله قال من قرأ القران فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه ولا ينبغي لصاحب
القرآن أن يجد مع من وجد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري وأوله لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال إلخ
۳ سورة البقرة من الاية ۳۸
٤ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب عن ابن مسعود رضي الله عنه
٥ لم نقف على مصدره ٦ لم نقف على مصدره

قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه ۱ ويكون خالصاً الله عزّ وجلّ لا من أجل أجرة تؤخذ عليه ولا
أن يجعل صنعة يتوصل به إلى شيء من حطام الدنيا
وإن كان بعض الوجوه في أخذ الأجرة عليه خلاف فجواز أخذ الأجر ليس هو من هذا الباب لأن هذا باب تعبد وذلك باب ما يجوز من أنواع التكسبات وما لا يجوز فلا يجتمعان لأن الله عزّ وجلّ يقول في أنواع التعبد ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ والإخلاص أن يكون الله عزّ وجلّ لا يخالطه غيره وقد جاء أن يوم القيامة يقول الله سبحانه وتعالى للذي خلط في عمله مع الله غيره أنا أغنى الشركاء اذهب فخذ الأجر من غيري ۳ وقد قال بعض أهل المعاملات مع الله تعالى بالصدق والإخلاص إن قراءة القرآن بالتدبر والحضور حياة النفوس وإنه عز الأرواح فمن فهم هام ومن حرم تاه وظن أنه يحسن صنعاً
أحيا الله أرواحنا به وجعلنا من حزبه بمنّه وكرمه امين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن جندب رضي الله عنه
سورة البينة من الآية ٥ ۳ رواه مسلم في كتاب الزهد
11

حديث فضل آخر سورة البقرة في التهجد
عَنِ ابنِ مسعودٍ رَضي الله عنه قالَ قالَ النَّبِيُّ مَن قرأَ بالآيَتَينِ مِن آخرِ سُورَةِ البقرةِ في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ
ظاهر الحديث يدل على أن من قام في ليلة بالآيتين من آخر سورة البقرة أجزأتاه عن قيام الليل وصح له اسم التهجد والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هي بنفسها تجزىء لمعنى فيها خاص أو هل هي على طريق التمثيل أنه من قام بآيتين يكون طولهما كهاتين كفتاه وإن كانتا أقل لم تكفياه أو هل معنى الكلام أن من قام بهما أو بآيات تحوي من المعاني مثل ما حوتا كان في ذلك كفاية وإن كان أقل من ذلك لم يُجْزِهِ فالجواب اللفظ نفسه محتمل لكن من خارج يقع التخصيص
منها أنه قد جاء لعنه الله و أنه قال من قام بالآيتين من آخر آل عمران كفتاه ۱ أو كما قال عليه السلام وقد قال عزّ وجلّ ﴿ وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَدْ بِهِ ولم يخص آية دون آية وقد كان قيامه لم يخص أيضاً آيات دون آيات بل ما من شيء من الكتاب العزيز إلا قد قام عليه السلام به وقد كان يتنفل بعض مرار في قيامه بقراءة هاتين الآيتين ثم يتنفل بعدهما بما شاء ثم مراراً يقوم ويقرأ غيرهما ولا يقرؤهما
فلما كان قيام الليل من المستحسن والمستحب فيه طول القيام وكذلك كان الغالب من فعله كما جاء من رواية عائشة رضي الله عنها قالت كان يقوم بأربع لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم بأربع فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ۳ فجاء هذا الحديث تبييناً بمقدار الطول المجزىء في
1 لم نقف على مصدره سورة الإسراء من الآية ۷۹
۳ رواه البخاري في التهجد ومسلم في صلاة المسافرين عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ما كان يزيد في رمضان =
١١٦٧

القيام وما زاد على ذلك يكون زيادة في الخير واتباعاً لفعله له و جاء التمثيل بهاتين الايتين والتي في اخر ال عمران على طريق التمثيل لكن هاتان الآيتان أقصر من الآيتين اللتين في آخر
1
آل عمران
فإن كان هذا الحديث هو المتقدم فيكون ذكر التي في سورة البقرة تحقيقاً ونحن لا نعلم المتقدم منهما فإن أخذنا بالأحوط فنعمل على الحديث الذي في اخر سورة ال عمران وتكون التي في آخر سورة البقرة على الرجاء وإن أخذنا بأحد الوجوه التي ذكرها الفقهاء عند تعارض الأدلة وعملنا على التي في آخر آل عمران قلنا وجه من الفقه والوجوه التي ذكرها الفقهاء عند تعارض الأدلة هي أربعة ۳ وقد ذكرناها فيما تقدم من الكتاب وفيه دليل على أن قيام الليل مطلوب شرعاً وبقي البحث على أي وجه هو هل على الوجوب أو على الندب قد اختلف العلماء في ذلك فالجمهور أنه على الندب ونص الكتاب ينبيء بهذا وهو قوله تعالى نَافِلَةً لَكَ ﴾ ٤ ومنهم من قال هو على الوجوب وأقل ما يجزىء
ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن
عيني تنامان ولا ينام قلبي 1 كذا والصواب واللتين
ظاهر الأحاديث هنا متعارض بين القيام بايتين من اخر البقرة أو من اخر ال عمران فأيهما نرجح وقد أخذ المؤلف بالأحوط وجمع بين الدليلين لم يهمل أياً منهما وهو غير الطريقة المشار إليها لدى علماء الأصول فيقرأ بكل منهما في ليلة ومن الناس الضعفاء من أخذ بالقصيرتين ومنهم الأقوياء من يأخذ بالطويلتين من البقرة وال عمران ويكون ذلك حسب الأحوال
۳ قال الأصوليون المرجّحات في الأدلة عند تعارضها أربعة
۱ - الاستحسان في معارضة القياس كالاستئجار على الطاعات في مقابل الاثار والنصوص المانعة من ذلك كقوله تعالى قُل لَّا أَسْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا وذلك خشية اندثار الشعائر وكبيع السلم وهو بيع المعدوم وأصل المعدوم منهي عن بيعه وهذا قوة الأثر
- قوة الإثبات لأحد القياسين على آخر كصوم رمضان فهو متعيّن شرعاً فلا حاجة للنية وهو أقوى من أن صومه فرض فيحتاج إلى النية ٣ - كثرة الأصول كعدم تكرار مسح الرأس في الوضوء وهذا يشهد له أصول كثيرة مثل مسح الوجه واليدين في التيمم ومسح الجبيرة ومسح الخف إذ كلها لا تكرار فيها ٤ - العدم حجة للعدم في العلة على قاعدة أن العلة طرداً وعكساً أرجح من طرد دون عكس كقولنا إنه مسح فلا يسنّ تكراره فهو أرجح من قولهم إنه ركن فيسن تثليثه لأن ما قلنا ينعكس بما ليس يمسح كغسل الوجه يثلث لأنه ليس مسحاً بخلاف قولهم إنه ركن فيسن تثليثه لأنه لا ينعكس فإن المضمضة تتكرر
ولیست برکن

٤ سورة الإسراء من الآية ۷۹ وتمام الآية ﴿ وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا
١١٦٨

فيه قدر فواق ناقة ۱ وهو - والله أعلم - يدل عليه هذا الحديث بطريق ما لأن مالكاً رضي الله عنه يقول كل ما يكون فرضاً فلا بد أن يكون محدوداً بالكتاب أو بالسنة وما ليس بمحدود بكتاب ولا بسنة فليس بفرض وهذه السنة في هذين الحديثين قد جاءت في قيام الليل وإذا تأملت هذا الحديث تجده قدر فواق الناقة التي قد حدها الذي جعلها فرضاً وهو قدر ما يقام بهاتين الآيتين وفيه دليل على حسن تعليمه يؤخذ ذلك من تحديده عليه السلام بهاتين الآيتين وكثير من الآي في الطول مثلهما فخصصهما بالتحديد لما فيهما من معنى الدعاء وفي ذكره إياهما إرشاد منه إلى سنته ومن سنته عليه السلام في تهجده إذا مرَّ باية رحمة بكى وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ وإذا مر بآية تنزيه الله سبحانه سبّح ٢ وقد جاء عنه أنه قال من قرأ بالآيتين من آخر سورة الله البقرة فإذا ختم السورة فليقل آمين ۳ فيحصل له بركة الدعاء قطعاً لأن كل مؤمن داع وفيه دليل على أن أجلّ الأحوال في الصلاة قوة الإيمان يؤخذ ذلك من تحديده عليه السلام بهاتين الآيتين وبالتي في آخر آل عمران لأن قراءة إحداهما فيها لمن تدبّرهما قوة في الإيمان وقد قدمنا كيف كان حاله عليه السلام في قيامه أنه كان يكسوه من كل أي يقرأها حال يناسب معنى تلك الآي وكذلك ينبغي أن تكون تلاوة القرآن وألا يكون تاليه كالحمار يحمل أسفاراً
وفيه دليل على الإرشاد في القيام إلى الاستكانة والخضوع والافتقار يؤخذ ذلك من تحديده عليه السلام بهذه الآية لأن تدبرها يوجب الخضوع الله تعالى والافتقار إليه لأنه إذا تذكر القارىء ذنوبه أوجبت له الذلة والمسكنة وإذا طلب المغفرة منها أوجب له ذلك صدق اللجأ إلى مولاه الكريم والافتقار إليه
وفيه دليل على أن من أجلّ صفات المصلِّي حسن ظنه بمولاه يؤخذ ذلك من أن من طلب النصر على عدوه إنما يكون بصدقه مع الله وحسن ظنه به والله عزّ وجلّ يقول على لسان نبيه عليه السلام أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء رواه الشيخان
۱ فواق الناقة الوقت بين الحلبتين أو ما يعود فيجتمع من اللبن بعد ذهابه برضاع أو حِلاب رواه مسلم في صلاة المسافرين باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل ورواه النسائي وأبو داود ولفظه في النسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال قمت مع رسول الله لا ل ل ل ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ
يمر باية
۳ رواه أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة ﴿ وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال امين
5 3
٤ يريد وباللتين

١١٦٩

وفيه دليل على أن المرغب فيه في القراءة عند القيام التدبر وإن قلت وهو خير من كثرة
القراءة بلا تدبر يؤخذ ذلك من تحديده عليه السلام بهذه الآية لأنها بنفس تلاوتها يفهم معناها فيحصل للقارىء بها تلاوة وتدبر ومعرفة بمعنى الآية لأن فائدة التدبر هو أن يعرف معنى ما يتلوه من الآي وهاتان بنفس التلاوة يحصل الفهم بمعناهما فيكون التالي لهما في تهجده على أكمل الأحوال وهو التلاوة مع الفهم وفيه دليل على ما أعطى الله سبحانه له عليه السلام من البلاغة وحسن الإدراك يؤخذ ذلك من تمثيله عليه السلام بهاتين الآيتين اللتين جمعتا جملاً من المعاني الحسان كما أبديناه بتوفيق الله تعالى وإذا تأملت وجدت أكثر وأبدع فإن عجائبه لا تنقضي وفيما أبديناه دليل على أن الفهم في كتابه عزّ وجلّ وسنة نبيه عليه السلام لا ينال إلا بالفضل وأن طالب ذلك من غير هذا الوجه متعن كما أشار بقوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ﴾ ۱ فأرشدنا عزّ وجلّ إلى عمل البساط لذلك والتهيؤ له باستعمال التقوى وأن التعليم إنما هو منه عزّ وجلّ وما هو منه فطريقه الفضل لأنه سبحانه لا حق عليه واجب
وفيه دليل لأهل المعاملات مع الله تعالى لأنهم ما جعلوا طريقهم في كل الأشياء إلا بتقواه عزّ وجلّ والوقوف ببابه مَنَّ الله علينا بما به مَنْ عليهم في الدارين بفضله وكرمه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة البقرة من الآية ۸
۱۱۷۰

نفت ۱
حديث جواز التَّحَصَّن بالقرآن عند النوم
عَن عائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ كانَ إذا أوى إلى فِراشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمعَ كفّيه ثمَّ فيهما فقرأ فيهما قُل هو الله أَحَد ٢ وقُل أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ ۳ وقُل أَعوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ٤ ثُمَّ يَمسَحُ بهما ما استطاع من جسده يبتدىء بهما على رَأْسِهِ ووَجهِهِ ومَا أَقبَلَ مِن جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذلكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

ظاهر الحديث أن من سنته التحصن من الآفات عند النوم بقراءة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ والمُعَوَّذَتَيْنِ ٥ مع مسه بريقه المبارك يفعل ذلك ثلاث مرات والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما الحكمة في فعله عليه السلام هذا هل هو تعبد لا يعقل له معنى أو هو معقول المعنى فإن قلنا غير معقول المعنى فنقول هذه سنته عليه السلام ولا يعقل لها معنى وإن قلنا إنه معقول المعنى - وهو الأظهر - فما الحكمة فنقول احتملت - والله أعلم - وجوهاً
منها أن يكون عليه السلام تعوّذ من الشيطان وإن كانت ذاته المباركة محروسة من الشيطان فيكون ذلك على طريق التعليم لنا والإرشاد إذ ذاته المباركة محروسة من الشيطان وهو يفعل هذا فكيف بالغير فيكون من قبيل التأكيد كما فعل عليه السلام في تأكيده على التوبة والاستغفار بقوله عليه السلام إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة وأتوب إليه في اليوم مائة
۱ نفث نفخ مع قليل من الريق قل هو الله أحد أي سورة الإخلاص كاملة ۳ قل أعوذ برب الفلق أي سورة الفلق كاملة ٤ قل أعوذ برب الناس أي سورة الناس كاملة ٥ المعوذتان سورتا الفلق والناس
۱۱۷۱

۱
مرة ويحتمل أن يكون على وجه التبرك بكتاب الله عزّ وجلّ لأنه قد جاء أنه من قرأ سورة من
كتاب الله عند نومه باتت تحرسه
ويترتب عليه من الفقه في حقنا التحصّن بآيات الله تعالى وكتابه من كل سوء يتوقع ومما يقوي هذا ما روي مع عنها في يوم الأحزاب أنه كان تحصنه بقوله تعالى ﴿ شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَيْكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَابِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۳ والدعاء المذكور
بعدها وهو ما روي عن الشافعي ۳ عن مالك ٤ عن نافع ٥ عن ابن عمر أن رسول الله هل قرأ يوم صلى الله عليه وسلم
الأحزاب شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَيْكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَابِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ وقال وأنا أشهد بما شَهِدَ الله به وشهدت به ملائكته وأستودِعُ الله هذه الشهادة
لتكون وديعة لي عند الله يؤديها إليَّ يوم القيامة
اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظيم ركنك وعظمة طهارتك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرقُ بخير اللهم أنتَ غيائي بك أستغيث وأنت ملاذي بك ألوذ وأنت عياذي بكَ أعوذُ يا من ذلّت له رقاب الجبابرة وخضعت له أعناق الفراعنة أعوذ بك من خزيك ومن كَشفِ سِترك ونسيان ذكرك وانصرافي عن شكركَ أنا في حِرْزِكَ ليلي ونهاري ونومي وقراري وظَعْني وأسفاري وحَياتي ومماتي ذِكرُك شعاري وثَناؤكَ دِثارِي لا إله إلا أنتَ سبحانك اللهم وبِحَمدِكَ تشريفاً لعظمتك وتكريماً لسُبُحات وجهِكَ أَجِرْني من خِزيِكَ ومن
1 رواه البخاري في الدعوات والترمذي في تفسير القران عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة ال عمران الآية ۱۸
۳ الشافعي محمد بن إدريس الهاشمي القرشي المطلبي أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة ولد بغزة سنة ١٥٠ هـ وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة ۱۹۹ وتوفي بها سنة ٢٠٤ كان أعلم الناس بالشعر والأدب والفقه والقراءات له تصانيف كثيرة منها الأم والمسند وأحكام القرآن والسنن والرسالة واختلاف الحديث والسبق والرمي وفضائل قريش وأدب القاضي والمواريث الأعلام ٦ ٢٥٠ ٤ مالك ابن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبدالله إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة مولده ووفاته في المدينة كان صلباً في دينه بعيداً عن الأمراء والملوك وشي به إلى جعفر عم المنصور فضربه سياطاً انخلعت لها كتفه وجه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه فقال العلم يؤتى قصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار فقال مالك يا أمير المؤمنين من إجلال رسول الله إجلال العلم فجلس بين يديه فحدثه ومن تصانيفه الموطأ ورسالة في الوعظ والرد على القدرية وكتاب في النجوم وتفسير غريب القران وسواها توفي في المدينة المنورة سنة ۱۷۹ هـ الأعلام ۱۸/۶ ٥ نافع ابن جبير من قريش من كبار رواة الحديث تابعي ثقة من أهل المدينة كان فصيحاً عظيم النخوة المنطق يفخم كلامه وفيه تيه وكان ممن يؤخذ عنه ويفتى بفتواه توفي سنة ٩٩ هـ الأعلام ۳۱٦/۸
۱۱۷

شر عبادِك واضرِبْ عَليَّ سُرادِقاتِ حفظك وأدخِلْني في حفظ عِنايتِكَ وجُدْ علَيَّ بخير منكَ يا
أرحم الراحمين
وأما حكاية الشافعي في تحصنه بهذه الآية المذكورة مع الدعاء بعدها مما خافه فإن الخليفة وجه إليه مغضباً عليه ليوقع به نكالاً فلما جاءه الرسولُ توضأ وخرج وهو يحرك شفتيه فلما دخل على الخليفة أجلَسَه إلى جنبه وأحسن له في القول ودفع له جملة مال فخرج من عنده بخير خروج فأتبعه الرسول الذي وجه إليه فقال له ناشدتك الله ما كنت تقول حين كنتَ تحرك شفتيك فأزال الله به غيظ الخليفة وأبدَلَه رضى وإحساناً فذكر له هذا الدعاء الذي رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الأحزاب شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو م إلى تمامه واحتمل أنه لما كان سبب نزولها شفاء له عليه السلام من السحر الذي سحره اليهود وشفي بها استصحب عليه السلام الحكم تأدباً مع أثر حكمة الله تعالى وقد قال من رزق من باب فليلزمه وهو عليه السلام ما يرشد لشيء إلا وهو أشد الناس حرصاً على عمله ويترتب على ذلك من الفقه لنا أن يلتزم الشخص الأشياء المنجية من الأسواء التي هي على مقتضى الكتاب والحكمة وإن كان في الوقت مُعافى في نفسه فإنه لا يأمن ما في الغيب فلا يا مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ ۱
وفيه دليل على أن اتخاذ الفراش لا ينفي الزهد وهو من السنة لأنه عليه السلام أزهد الناس وقد اتخذ الفراش ولأنه مما إليه حاجة البشر
وفيه دليل على أن النوم وما تدعو إليه الضرورة ذلك كله للآخرة لأنه عون عليها يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام كل ليلة لا بد له من النوم في فراشه وإنما الشأن في كيفية الفراش كيف يكون
وفيه دليل على أن بقدر رفع المنزلة يكون الخوف يؤخذ ذلك من دوامه على ذلك كل ليلة مع كونه عليه السلام معافی محفوظاً مبشرا بخير الدنيا والآخرة لكن مع علوّ منزلته عليه السلام كانت شدة خوفه وقد صرح عليه السلام بهذا حيث قال إني لأخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي ٢ وقد قال تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَواْ ۳ وهو عليه السلام أعظم
العلماء بالله
1 سورة الأعراف من الآية ۹۹
لفظه والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي رواه مسلم وأبو داود عن السيدة عائشة رضي الله
عنها ۳ سورة فاطر من الآية ۸
۱۱۷۳

وكذلك كان عليّ رضي الله عنه الذي قال عليه السلام في حقه أنا مدينة العلم وعلي بابها ۱ إذا كان وقت الأمن والعافية رئي عليه أثر الحزن والخوف وإذا كان وقت الشدائد والمخاوف رئي عليه أثر السرور والاستبشار فقالوا له في ذلك فقال الدنيا لا تبقى على حال ما من شدة إلا وبعدها فَرَج وما من فَرْحة إلا أتبعثها تَرْحة فهذا مقام العلماء حقاً أن يكون حالهم على مقتضى ما دلت عليه الآي والآثار وفيه دليل على أن طمأنينته عليه السلام إنما كانت بالله يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام ذلك عند دخول الفراش وحينئذ يأتيه النوم لأن النوم لا يجتمع مع الخوف لأن الخوف مذهب له فإذا تلا كتاب الله تعالى ومَسَح بأثره ذلك الجسد المبارك ذهب عنه ذلك الخوف الشديد واطمأنت تلك النفس المباركة فأتاه النوم وقد قال عزّ وجلّ ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَنُ الْقُلُوبُ ولا تطمئن بذكر الله إلا القلوب الخائفة منه عزّ وجلّ وأما غير هؤلاء فإنما تكون طمأنينة قلوبهم بحسب عاداتهم مثل الملوك ما تطمئن قلوبهم إلا بحسن جيوشهم وكثرتها والتجار بكثرة مالهم وتدبيرهم وأهل كل نوع بما جرت به عادتهم في ذلك وأهل التقوى إنما يكون اطمئنان قلوبهم بذكر مولاهم وسيدنا الله يرأسهم وأصلهم
وفيه دليل على دوام حالته عليه السلام متردداً بين الخوف والرجاء يؤخذ ذلك من دوامه عليه السلام على ذلك كل ليلة وهي حالة أولها يدل على الخوف وآخرها يدل على الرجاء وأما كونه عليه السلام يفعل ذلك ثلاثاً فذلك دالّ على أنه ليس على طريق الرّقي ولا التداوي بدليل ما جاء عنه عليه السلام في الآثار أن الأشياء التي كان عليه السلام يفعلها على طريق التداوي والرقي يعيدها سبعاً والتي يفعلها لغير هذين الوجهين يكون له بها اعتناء أو تكون في ذاتها لها
بال يعيدها ثلاثاً
واحتمل أن يكون فعله عليه السلام ذلك عند النوم لما أن كان النوم الموتة الصغرى فجاء هذا النوع من الإبلاغ في التعبدات والاستكثار من أثر بركة الله تعالى حتى إنه بعد ما يتعبد يأوي إلى الفراش حيث تكون الراحة بجري العادة غالباً يجعل فيه تعبداً ما ولذلك التعبد أثر يُبقي على بشرية بدنه المبارك بعد النوم وهو أثر ذلك التمسح بذكر الله تعالى والريق المبارك وفيه وجه من التشبه بالموت الحقيقي كما أن الميت يُطَهَّر حتى يكون قدومه على مولاه بأثر عبادة على بدنه
۱ رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في السنة عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ أنا دار الحكمة وعلي بابها وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه العلائي وابن حجر
سورة الرعد من الاية ۸
114

كذلك في هذا وجعلها وتراً كما هو غسل الميت وتراً وقد جاء أن الذي ينام على طهارة أن روحه
تسجد بين يدي مولاه ۱ فكيف إذا كان مع الطهارة هذه الزيادة
وفيه دليل على حب سينا في التعبدات يؤخذ ذلك من كثرة اشتغاله عليه السلام بها على أنواع مختلفة وهي لم تفرض عليه مثل هذا وما أشبهه وإذا تأملت وتتبعت أثره تجده كذلك لأن من أحب شيئاً أكثر منه
وفيه دليل على فضل ما جاء به عليه السلام يؤخذ ذلك من كونه ما من شيء من أوصاف البشرية إلا ظهرت عليه حتى تحقق عليه ذلك ومع ذلك الصفاتُ المَلَكِية قد تحلّى بها أتمّ تحل
منها دوام العبادات وتنوعها مثل ما نحن بسبيله من هذا الحديث ومع ذلك لم يكن عليه السلام يتحرك حركة إلا بذكر الله عزّ وجلّ ولا أكل ولا شرب ولا جامع ولا لَبِس ثوباً إلا بذكر الله تعالى عند ذلك كله ويجد للطاعة حلاوة ويتنعم بها وقد صرح عليه السلام بهذا المعنى بقوله عليه السلام وجُعِلت قرة عيني في الصلاة ۳ وبقوله عليه السلام أرِحْنا بها يا بلال ۳ وقد وصفه واصفه حيث قال كان كثير الذكْرِ طويل الفكرة لا يضحك إلا تبسّماً فهذه أوصاف ملكية اجتمعت فيه وله الكمال في أوصاف البشرية ما من خصلة محمودة من أوصاف البشرية إلا وله عليه السلام فيها التقدم وكذلك التحلي بالأوصاف الملكية و وجعلنا بحرمته من صالحي أمته
بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ في هذا المعنى روى ابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي الا الله قال من بات طاهراً بات في شعاره ملك فلا يستيقظ إلا قال الملك اللهم اغفر لعبدك فلان فإنه بات طاهرا قطعة من حديث رواه الإمام أحمد والنسائي وأوله حُبّب إليّ من دنياكم ثا
۳
ثلاث
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من الصحابة قال ليتني صليت فاسترحت فكأنهم عابوا عليه ذلك فقال سمعت رسول الله له يقول يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها
۱۱۷٥

حديث جواز قراءة القرآن للراكب على الدابة
عَن عَبدِ الله ۱ بنِ مُغَفَّلٍ رضيَ الله عَنهُ قالَ رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ على ناقته - أو
و
جمَلِهِ - وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ وَهُوَ يَقرأ سُورَةَ الفَتحِ أو مِن سُورَةِ الفَتح قراءَةً لَيْنْةٌ وَهُوَ يُرجعُ ٢
*
ظاهر الحديث يدل على جواز قراءة القران للراكب وهو يسير والكلام عليه من وجوه منها قوله على ناقته أو جمله شك من الراوي وفيه دليل على صدقهم وتحريهم في النقل وكذلك قوله سورة الفتح أو من سورة الفتح
وقوله قراءة لينة أي فيها ترسل وتطويل وهي أحسن أنواع التلاوة وهي النوع الذي يمكن معه التدبر وقد جاء في صفة قراءته لو شئت أن تعد حروفها لعددتها وهي حالة تدل على الا الله الوقار والهيبة لما هو يتلو
وأما قوله يرجع فقيل الترجيع ترديد القراءة وقيل هو تقارب ضروب الحركات في الصوت وفي صحيح البخاري كيف كان ترجيعه فقال أ ثلاث مرات وهذا إنما حصل منه لأنه كان راكباً فجعلت الناقة تحركه فيحصل هذا من صوته وقد جاء في حديث اخر أنه كان لا يرجع قيل لعله لم يكن راكباً فلم يلجأ إلى الترجيع وليس ذلك كترجيع الغناء وقد قال
۱ عبدالله بن مغفل من أهل بيعة الرضوان وقال إني لممن رفع أغصان الشجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة وبنى بها دارا قرب المسجد وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر رضي الله عنه إلى البصرة يفقهون الناس روي له عن رسول الله ٤٣ حديثاً منها في البخاري ومسلم روى عنه الحسن البصري وغيره توفي بالبصرة سنة
٦٠ هـ
يُرَجُع يعيد القراءة
١١٧٦

عليه السلام زيّنوا القرآن بأصواتكم 1 ذكر فيه غير واحد من العلماء أن معناه زيّنوا أصواتكم بالقرآن والمعنى اشغلوا أصواتكم بالقرآن واجهروا بقراءته واتخذوه شعاراً وزينة وليس ذلك على تطريب الصوت
وقال آخرون لا حاجة إلى القلب وإنما معنى الحديث الحث على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا ۳ فكأن الزينة للمرتل لا للقرآن كما يقال ويل للشعر من رواة السوء فهو راجع إلى الراوي لا إلى الشعر فهو حث على ما يزين من الترتيل والتدبر ومراعاة الإعراب
وقيل أراد بالقرآن القراءة أي زينوا قراءتكم بأصواتكم وقوله عليه السلام ليس منا من لم يتغَنَّ بالقرآن ۳ قيل في ذلك معان فمن جملة معانيه أنه يجعله هجيراه وتسلية نفسه وذكر لسانه على كل حالاته كما كانت العرب تفعل ذلك في الشعر والحداء في قطع مسافاتها وحروبها فيجد القارىء من الأنس وانشراح النفس بتلاوة القرآن كما يجده أهل الغناء بغنائهم
ولا يفهم من ترجيعه عليه السلام أن يكون كترجيع الغناء الا انه قد نهى عن ذلك بقوله اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العِشقِ ولحون أهل الكتاب وسيأتي بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيعَ الغناء والنَّوح لا يجاوز حناجرهم مفتونةٌ قلُوبُهم وقلوبُ الذين يعجبهم شأنهم 4 واللحون جمع لحن وهو التطريب وترجيع الصوت وهذه القراءة المنهي عنها لا يمكن معها فهم ولا تدبر وهي منافية للخشوع وهذه الصفة ليست المقصودة من
التلاوة
وفيه دليل على إظهار التعبد وهي السنة يؤخذ ذلك من قراءته عليه السلام وهو يسير على ناقته لأنه لما كان شأنه دوام التعبد وجاءته ضرورة السير لم يترك القراءة التي كان عليه السلام يفعلها سرّاً لأنه في النوافل أفضل ففعله الآن جهراً أفضلُ من أجل تقعيد هذه القاعدة
الشرعية
ويترتب عليه من الفقه لأهل الأعمال أن المندوب كله الأفضل فيه الإخفاء ما لم يكن
1 رواه الطيالسي في مسنده والإمام أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والدارمي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن البراء رضي الله عنه سورة المزمل من الآية ٤
۳ رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم عن سعد رضي الله عنه وأبو داود عن أبي لبابة بن عبد المنذر وصححه الحاكم عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ٤ رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن حذيفة رضي الله عنه
۱۱۷۷

بموضع لا يمكن فيه الإخفاء كالجهاد وتدريس العلم وما أشبه ذلك فإذا لم يقدر على الإخفاء فيه
فإظهاره هو الأولى لأنه إن لم يمكن إظهاره آل الأمر إلى الترك
وفيه دليل على أن الجهر في التلاوة أولى من طريق الأفضلية يؤخذ ذلك من كونه جهر
بها في هذا الموضع
وفيه دليل على أنه إذا تعارض في العبادة أمران أخذ بالأعلى يؤخذ ذلك من أنه لما تعارض هنا لسيدنا صلى الله عليه وسلم فضلُ الجهر بالقراءة وفضلُ إخفاء العبادة اثر الجهر في التلاوة على إخفاء العبادة

وينبغي عند الإظهار أن يزيل عن قلبه حبَّ الميل إلى المدح لأن ذلك هو الداء العضال
وقد نص أهل التوفيق على أن طلب المدح مفتاح فقر الأبد أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه أمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۱۷۸

حديث الأمر بحضور القلب عند قراءة القرآن
جُندب بنِ عَبدِ الله ۱ رضي الله عَنهُما قالَ قالَ النبي اقرؤوا القُرآنَ ما
ائتلفت عَليهِ قُلُوبُكُم فإذا اختلَفتُم فَقومُوا عَنهُ
*
ظاهر الحديث يدل على ألا يقرأ القرآن إلا بجمع القلب على قراءته وإذا كان القلب مخالفاً لما أنت تتلوه فلا تَتْلُه والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا الأمر هنا على الوجوب أو على الندب وما حد ائتلاف القلب
المجزىء في ذلك وهل هذا أيضاً عام فيما هو قراءة القرآن فيه واجب أو مندوب أو لا فأما قولنا هل الأمر على الوجوب أو الندب فاللفظ محتمل لكن أقل ما يكون ندباً وفيه دليل على أن الإعظام لجناب الربوبية هو أرفع العبادات يؤخذ ذلك من طلبه عليه السلام حضور القلب عند التلاوة واجتماعه على ذلك وهذه حالة الإعظام والإجلال وقد نص عليه السلام على ذلك بقوله إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه فعلى هذا الحديث فيكون الأمر هنا على الوجوب
فيترتب عليه من الفقه أن الأجور التي جاءت لمن يتلو الكتاب العزيز أنها لا تصح إلا لمن
يتلوه على هذه الصفة
ويبقى البحث هل من يتلوه على غير هذه الصفة يكون مأثوماً أو لا لقوله عليه السلام فإذا
۱ جُندب بن عبد الله البَجَلي من بجيلة له صحبة ومات بعد الستين روى عنه الحسن البصري وله ٤٣ حديثاً اتفق الشيخان على سبعة وانفرد مسلم بخمسة سكن الكوفة ثم تحول إلى البصرة قدمها مع عبد الله بن الزبير وخرج عنه الأربعة أصحاب السنن عزاه العراقي في تخريج الإحياء إلى محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرش مرسلا بلفظ لا يقبل الله من عبد عملا حتى يشهد قلبه مع بدنه
۱۱۷۹

عليك حال يناسبه تأسياً بالنبي الا الله في تهجده كان إذا مرت به آية رحمة سأل وإذا مرت به آية عذاب استعاذ وإذا مرت به آية تنزيه سبَّح وإذا مر به مَثَل تدَبَّرَ واعْتَبَرَ فمن كل آية يتلوها تصدر عليه السلام حال يناسبها
عنه
وأما قولنا هل هذا على عمومه فيما هو قراءة القرآن فيه واجب أو مندوب كالصلاة الواجبة مثلا وصلاة النافلة أو التلاوة في غير صلاة فالاحتمال واقع لكن الأظهر أنه في صلاة الفرض أشدّ لا سيما مع الحديث الذي أخرجه أبو داود وهو أنه الله صلى صلاة وأسقط من قراءة السورة التي قرأ فيها بعض آيات فلما سلم سأله بعض الصحابة هل أسقطت من هذه السورة شيئاً قال لا أعلم ثم آخر كذلك فأما في الثاني أو الثالث قال هنا أبي قال نعم قال هُوَ لَها فجثا بين يديه فسأله هل أسقطتُ من هذه السورة شيئاً فقال نعم آية كذا وكذا فقال له لم لا فتحتَ علي قال ظننت أنها نسخت فقال لها أيقرأ كتاب الله بين أظهركم ولا تعلمون ما قرىء وما لم يقرأ هكذا كان بنو إسرائيل حتى أزال الله الخشية من قلوبهم إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ۱ أو كما قال
وقد قال ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها أو كما قال عليه السلام فيكون المعنى هنا - والله أعلم - كما قال مالك رضي الله عنه حين سئل عن الركعتين بعد الطواف أفرض هي أم لا فقال هي من جنس الطواف فإن كان فرضاً فهي فرض وإن كان ندباً فهي
ندب
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يجعلون الحرمة أكد أحوالهم حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه دخل المسجد وقعد فَوَجِعَته رجله فجاء أن يمدها ثم قبضها واستغفر الله تعالى فقال له بعض أصحابه يا سيدنا ليس في هذا شيء فقال لك ليس فيه شيء وأما أنا فلا يمكنني ذلك أخاف على نفسي من العقاب وكان بعضهم بإحدى رجليه أثر فإذا نظر إليه يبكي ويستغفر فسئل عن ذلك فقال كان خُرّاج له بها فغلبني شدة الوجع حتى رَقَيْتها فشُفيت من حيني فجعلها من جملة الذنوب كونه لم يصبر ويرض بجري القضاء فتلك الحرمة والاحترام أو جبت لهم الحرمة والإكرام فَهنَّاهُم منْ أعطاهم ولحقنا بفضله بأعلاهم لا رب سواه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه أبو داود رقم ۹۰۷ وصححه ابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه الهيثمي في موارد الظمآن رقم
۳۸۰
قال العراقي في تخريج الإحياء لم أجده مرفوعاً
۱۱۸۱

1401
حديث الخوف من الوقوع في الزنى
عَن أبي هريرَةَ رضي الله عَنهُ قالَ قلتُ يا رَسولَ الله إنِّي رَجُلٌ شَابٌ وإنِّي أخافُ على نَفسي العَنَت ۱ ولا أجِدُ ما أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلتُ مِثلَ ذلك فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلتُ مِثلَ ذلِكَ فَقالِ النَّبِيُّ لا الله يا أبا هُرَيْرَةَ جَفَّ القَلمُ بِما أنتَ لاقٍ فاختَصِ على ذلك أو ذَرْ
*
ظاهر الحديث يدل على نفوذ الذي جف به القلم ولا تنفع معه حيلة من الحيل والكلام عليه من وجوه
منها أن من السنة شكوى الشخص ما به وما يتوقعه من الأذى لمن يرجو بركته يؤخذ ذلك من شكوى أبي هريرة ما يخافه على نفسه من العنت إلى النبي ل لا لا لا ومنها أن للمسترعى عليه أن يشكو ما به إلى راعيه
وفيه دليل على أن النكاح لا يتعين إلا عند القدرة على الصَّداق يؤخذ ذلك من قوله ولا أجد ما أتزوج به
وفيه دليل على أن سكوت ذوي الفضل عن الجواب دليل على عدم نجح ما قصده فيما شكاه لهم فإن اجتزأ السائل بذلك السكوت في أول مرة أو في الثانية وإلا جاوبه المسؤول في الثالثة ولا يترك جوابه في الثالثة فإنه من قبيل الازدراء بالسائل وهذا ممنوع أن يزدري أحد بأخيه المسلم يؤخذ ذلك من شكوى أبي هريرة إلى النبي ثلاثاً فسكت عنه عليه السلام في الأولى
1 العنت الخطأ والزنى ومنه قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ المسترعى عليه أي من كان من الرعية

۱۱۸

والثانية وجاوبه في الثالثة لأن من خلقه عليه السلام الحياء وهو من شعب الإيمان فلما لم يكن له عنده مما سأل مخرج أعرض عنه في الأولى لعله يقنعه ذلك وكذلك في الثانية فلما بلغ الثالثة جاوبه من أجل تقرير الحكم وجاء الأحياء في الدين عند الضرورة

وفيه دليل على أن من الأدب أن يقدم طالب الحاجة عذره قبل طلب الحاجة يؤخذ ذلك من ذكر أبي هريرة عذره أولاً وهو قوله إني رجل شاب والشاب هو أشد في شهوة النكاح من غيره ولذلك جاء تعجب ربك من الشاب ليست له صبوة لقوة الدواعي عليه في ذلك وهنا بحث وهو أن يُقال لم أمر عليه السلام أبا هريرة بالتوكل والاستسلام للقدر وأمر غيره بعمل السبب في هذا الشأن نفسه حين أمر عليه السلام بالصوم لمن لم يطق النكاح وقال هو له وجاء والجمع بينهما هو أنه طبيب الدين يعطي لكل إنسان ما يصلح له كما يفعل طبيب الأبدان فهو عليه السلام يأمر بالصوم للذين شهوتهم مردية فيفيدهم الصوم ولما كان الغالب على أبي هريرة الصوم لأنه كان من أهل الصُّفّة وقد كان كما أخبر عن نفسه أنه يُغشى عليه من الجوع ولا يعرف أحد ما به وهذه الحال أشد ما تكون من المجاهدة في الصوم ولم تزل عنه تلك الشهوة الباعثة أمره بالتوكل خالصاً
ويترتب على هذا من الفقه أنه مهما أمكن المكلَّفَ عمل شيء من الأسباب الذي هو أثر الحكمة بشرط أن يكون على لسان العلم فلا يتوكل إلا بعد عملها ولا يتوكل ويترك أثر الحكمة فإنه مخالف للحكمة الشرعية وإذا لم يقدر على شيء من أثر الحكمة فليتوكل على مولاه وليوطن نفسه على الرضى بما جرت به الأقلام ولا يتعب نفسه في أن يعمل شيئاً من الأسباب ولا بد ويرى أن ذلك منج له مما يخافه أو مبلغ له لما يرجوه فإن ذلك مخالف للسنة نعوذ بالله من ذلك وهذا القسم هو الذي أهلك كثيراً من الناس
وفيه دليل على أن أقوى الأسباب أو أكثرها إذا لم يكن بموافقة القدر لا ينفع يؤخذ ذلك من قوله فاختص على ذلك أو ذر لأن أقوى الأسباب في منع النفس من أن يقع الشخص في العنت - الذي هو الزنى - أن يقطع الجارحة التي بها تقع الفاحشة لأن الفحل من البهائم إذا خصي لا يمكن له نكاح ثم مع ذلك لا يمنعه من وقوع ما قدر عليه من ذلك
وفي هذا تسلية عظيمة للعاجزين عن الأسباب فيما يرجون نيله أو يخافون وقوعه وقوة في الإيمان بأن الله على كل شيء قدير وأن الأمور تجري بمقتضى إرادته بأسباب وبغير أسباب كيف شاء لا تتوقف إرادته على شيء بلزوم يلزمه فعله أو تركه بل إرادته تنفذ كيف شاء وفيه دليل على أن ما جبل عليه طبع المكلف ليس بعذر له في ترك ما أمر بتركه أو فعل ما أمر
۱۱۸۳

بفعله ۱ يؤخذ ذلك من أن أبا هريرة شكا ما طبعت عليه البشرية في حين شبيبتها عسى يكون له في ذلك عذر فلم يعذر فيه لأنه أخبر أن ما قدر عليه يلحقه فإن قدر عليه الوقوع فيما نهي عنه وجب عليه الحد الذي حد له نعوذ بالله من شر ما جبلنا عليه بمنه وكرمه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسلم
۱ كذا والصواب في ترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه
١١٨٤

عَن
حديث جواز التحلل من الحج لعذر
١
عائِشَةَ رضي الله عَنها قالت دَخَلَ رَسُولُ الله على ضُباعةَ بِنتِ الزُّبَيْرِ
فَقالَ لَها لَعَلَّكِ أردتِ الحج قالت والله لا أجدني إلا وَجِعَةٌ فقالَ لَها حُجِّي واشترِطي وقُولي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيثُ حَبستَني وَكانَت تَحتَ المقداد بن الأَسْوَدِ

*
ظاهر الحديث أن المرض عذر يجوز للحاج أن يتحلل من إحرامه حيث أصابه ولا شيء عليه وفيه حجة لمن يقول بذلك من العلماء فإن العلماء اختلفوا في معنى قوله عزّ وجلّ فَإنّ أخصِرْتُمْ فقال بعضهم لا يكون الحصر الذي يكون عذراً إلا أن يكون بعدو كما فعل سيدنا حين منعه أهل مكة الدخول وصالحوه على أن يدخلها العام القابل ومنهم من قال إن الحصر يكون بالعدوّ والمرض لا غير وله في هذا الحديث الذي نحن بسبيله حجة ومنهم من قال العذر أي عذر كان عدواً أو مرضاً أو غير ذلك من جميع الأعذار فهو حصر لكن حصل الاتفاق على أن العدوّ حضر وبقي الخلاف بينهم فيما عدا ذلك وكذلك اتفقوا أيضاً أنه إن كان صَرورة لم يحجّ فعليه حجة الإسلام
الله
وهنا بحث وهو أنه لا يخلو هذا الحديث أن يكون بعد هذه الآية أو قبلها فإن كان الحديث
۱ ضُباعة بنت الزبير والزبير هو أحد أبناء عبد المطلب وهو أحد أعمام رسول الله وبنته ضباعة هي بنت عم النبي عليه السلام روى عن ضباعة ابن عباس وجابر وأنس وعائشة وروت حديث أن النبي لا لا لا لا لا أنها أكل كتفاً ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ
عمر
أما الزبير بفتح الزاي المشددة فيهودي قتله الزبير بن العوام في قريظة وابنه عبد الرحمن أسلم وله حديث العسيلة ومرت ترجمته في الحديث ۱۱٥ من هذا الكتاب وأما الزبير بن العوام فأحد المبشرين بالجنة وأمه صفية بنت عبد المطلب وهو أحد الستة الذي سماهم ع رضي الله عنه للشورى وهو ابن عمته سورة البقرة من الآية ١٩٦

قبل الآية فتكون الآية ناسخة للحديث على مذهب الجمهور لأن الناس قد اختلفوا في هذه الآية هل نزلت بعد أمر النبي و أصحابه أن يفسخوا الحج في العمرة كما أمر الله سبحانه وتعالى في وادي العقيق حين قال عليه السلام أتاني الليلة آت من ربي وقال لي صَلِّ في هذا الوادي المبارك ۱ على قولين وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن إتمام الحج هو أن يُفسخ في عُمرة ونهى عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإن كان الحديث جاء من طريق أنه دخل عليها وهي تبكي فمن أجل ذلك سألها

وفيه دليل على جواز الحكم على الشخص بقرينة الحال يؤخذ ذلك من سؤاله الا الله لها لِمَا ظهر له من حالها لِمَ كان بكاؤها لفواتها الحج من أجل ما لحقها من كونها وجعة أو غير ذلك ليتحقق ما ظهر له من حالها
همتهم
وفيه دليل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يؤخذ ذلك من أنهم ما كانت إلا الدين عليه كان بكاؤهم وبه كان فرحهم ويقوّي ذلك لقوله إن المؤمن تسرّه حسناته وتسوءه سيئاته أو كما قال عليه السلام فهم كانوا أكثر الناس بعد نبيهم عليه السلام إيماناً وكذلك كان فرحهم بالإيمان وحزنهم على ما فاتهم منه مع العذر فما بالك بغير العذر والأمر اليوم على الضد سواء ما نجد الفرح إلا بزيادة الدنيا ولا الهم إلا على نقصها في الغالب إلا أهل التوفيق وقليل ما هم فإنا لله وإنا إليه راجعون على ضعف الدين
وفيه دليل على أن مساق اليمين في دَرْج الكلام لا شيء فيه إذا كان باراً في يمينه يؤخذ ذلك من قولها والله لا أجدني إلا وجعة وأقرها النبي ا ا ا ا ل له على ذلك ولم يقل لها في ذلك شيئاً وفيه دليل على أن ما يكون من الأشياء بغير واسطة أثر الحكمة ينسب إلى الله سبحانه وتعالى يؤخذ ذلك من قوله الله قولي اللهم مَحِلّي حيث حبستَني فلما كان حبسها بالمرض وليس لأحد فيه من أثر الحكمة شيء - وهو التسبب ـ نسب الحبس به إلى الله تبارك وتعالى
وفيه دليل على أن من فصيح كلام العرب تسمية بعض الشيء بالكل يؤخذ ذلك من قول سيدنا صلى الله عليه وسلم حجي واشترطي ولم يعين عليه السلام بـ حجي إلا أحرمي بالحج فسمَّى الإحرام - وهو ركن من أركان الحج وجزء منه ـ حَجّاً
وهنا بحث وهو أن يُقال ما فائدة إخبار الراوي عنها أنها كانت تحت المقداد
۱ رواه الإمام البخاري وهو موضوع الحديث ۷۷ في هذا الكتاب
رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي والضياء عن أبي أمامة مرفوعاً بلفظ إذا سرتك حسنتك وساءتك
سيئتك فأنت مؤمن
١١٨٦

والجواب أن فيه من الفقه أن المرأة لا تشاور زوجها في الحج لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حجي واشترطي ولم يأمرها بأن تشاور زوجها فدل ذلك على أنه ليس له أن يمنعها من الحج ولذلك نص العلماء على أنه ليس للزوج أن يمنع زوجته من الحج إذا كانت صرورة وفي منعها من التطوع
خلاف
ولأهل الصوفة أسوة في الصحابة رضي الله عنهم لأن ما فرحهم إلا بالدين ولا همهم إلا على ما فاتهم منه وقيل من كان فرحه لحسن دينه ففرحه في الدارين لا ينقضي ومن كان فرحه للدنيا فعن قريب يعود الفرح هماً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱۱۸۷

حديث كراهيته له أن يأتي الرجل أهله طروقاً
عَن جابرِ بنِ عَبْدِ الله رضي الله عَنهُما قال كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يكرَهُ أَن يَأْتِيَ الرَّجُلُ أهلَهُ طروقاً ١

ظاهر الحديث يدل على كراهية النبي يا يا الله أن يأتي الرجل أهله على غفلة وهم لا يعلمون بمجيئه وذلك إذا كان في سفر والكلام عليه من وجوه
ومنها أن يُقال هل هذه الكراهية لحكمة تُعلم أو لا ومن فعل ما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون على بابه من أن فاعل المكروه لا شيء عليه والتارك له مأجور أم لا وهل يتعدى ذلك إذا فهمنا
العلة أم لا
۳
فأما الجواب على قولنا ما الحكمة فيه فقد بيَّنها الا الله في غير هذا الحديث فقال حتى تمتشط الشَّعثَةُ وتَسْتَحِدَّ المُغْيِبَة لأنه لا ينظر لكل ما يكون فيه صلاح وتوادد ٣ بين أمته فيرشدهم إليه فلما كانت غيبة الرجل عن أهله توجب لهن ترك التزين في الغالب من عاداتهن والطيب لبعض النسوة إذا لم يفعلن منه شيئاً يبدو منهن ما لا يعجب الزوج وربما يكون من أجلها الفراق بينهما أو تقع في النفوس كراهية وربما تسوء العشرة بينهما من أجل ذلك فأرشد هلال الهلال إلى لو ما فيه ستر العيوب وسبب إلى التوادد وحسن العِشرة التي هي من الإيمان
وهنا بحث وهو أن زينة المرأة لزوجها لا تكون إلا بما هو على لسان العلم من التطيب بالطيب المشروع لهن وبحسن الثياب على قدر حالهن من جِدَة أو غيرها ولا يكون بتغيير خلق الله
۱ الطُّروق الإتيان ليلاً
الشَّعِثة المتلبدة الشعر من عدم التسريح والتمشيط وتستحدُّ تحلق الشعر الزائد في جسمها والمغيبة من أغيبت المرأة إذا غاب عنها زوجها فهي مُغيب ومُغيبة
۳ كذا بإظهار ما حقه الإدغام
۱۱۸۸

تعالى ولا بمكروه ولا بتدليس فإن ذلك كله ممنوع شرعاً ومن حاول أمراً بمعصبة فهو أبعد له
مما يرجوه وأقرب إليه مما يكرهه
وأما قولنا هل على من فعل ذلك المكروه شيء فقد روي أن بعض من كان في زمانه
تلك الكراهية أنه لما قفل من بعض أسفاره حمله الشوق إلى أهله أن أتاهم طروقاً فوجد مع وسمع
عياله غيره قد خلفه فيهم واشتهرت قصتهم وافتضحوا في المدينة قال العلماء هذا عِقاب له لمخالفته السنّة - أعاذنا الله من مخالفتها بمنّه - ولا عقاب أشدّ مما جرى على هذا المذكور مع العذر فكيف حال من يفعله دون عذر
وأما قولنا هل يتعدى الحكم فهذه العلة التي ذكرناها حيث وجدنا وجهاً من الوجوه يكون فيه سبب إلى التوادد وحسن العشرة أو ستر العيوب ولا يكون فيه مخالفاً العلم ندبنا إلى فعله ومن هذا الباب نص الفقهاء على ألا يدخل الرجل بيته حتى يتنحنح أو يتكلم أو يعمل حركة ما ينبيء بها أهله أنه داخل عليهم من أجل أن تكون على حال لا تريد أن يراها زوجها عليها ومما يقوي ذلك أنه جاء بعض الصحابة فقال النبي أسْتَأذِنُ على أمي قال نعم فقال يا رسول الله وأنا أخدمها فقال له أتحب أن تراها عُريانة قال لا قال فاستأذن عليها إذا ۱ ومن طريق النظر أن البشرية لها ضرورات وبعضها لا يحب أحد أن يطلع عليه وهو فيها وفيه دليل على ستر العيوب كيفما كانت يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام كره دخول الرجل على أهله طروقاً وقد جعل بين الزوجين من المكاشفة ما بينهما واطلاع بعضهم على جميع جزئیات صاحبه باطنة وظاهرة ما لا خفاء فيه على أحد حتى إنه لا يمكن أن يخفى عليه من عيوب صاحبه في الغالب شيء فكيف به في الغير فذلك من باب أحرى فالشأن أن يكون المرء شأنه ستر عيوبه في الدنيا والآخرة ومن الحمق أن يسترها في الدنيا ويفضح نفسه في الآخرة وقد قال طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ٢ فإن شُغلَه بعيبه هو اهتمامه بزواله وتغطيته في الدنيا والآخرة وطوبى شجرة في الجنة من أحسن شجرها

وفيه دليل لأهل السلوك الذين يقولون إنما الصديق الذي يهدي إليك عيوبك أي ينتهك عليها فتصلحها ومثل ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يكتب لعماله رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا فكتب إليه بعض عماله أنه بلغني أنك لبست ثوبين وأكلت
۱ رواه الإمام مالك في الاستئذان وإسناده منقطع رواه الديلمي عن أنس رضي الله عنه وتمامه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة
فلم يعدل عنها إلى البدعة
۱۱۸۹

بإدامين فقال له أما ما كان من الثوبين فلبرد أصابني وأما الإدامان فكانا خلاً وزيتاً ولا أعود وجزاك الله خيراً
فذوو الهمم السنيّة والفحولية العَلِية نسجوا على منوالهم واستنوا بسنتهم وأخو التخثيث ۱ القوم وازع ولا بِرَبْعِه من حسيس ومن قائل كن معنا بتهذيب نفسك ورُضُها
ما عنده من
حال
على طريق القوم وعليه فحاسبها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ التحثيث الإسراع إلى النوم والاستغراق فيه
۱۱۹۰

حديت جواز الشفاعة
عَن ابْنِ عَبّاسٍ رَضي الله عَنهُما أن زَوجَ بَرَيرَةَ كَانَ عَبداً يُقال لَهُ مُغيث كأني أَنظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلفها يبكي ودُموعُه تَسيلُ على لِحيتِهِ فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم للعباس يا عباس ألا تَعجَبُ مِن حُبِّ مُغِيثٍ بَريرةَ وَمَن بُغضِ بَريرةَ مُغيثاً فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم لَو راجعتِيهِ ۱ قالت يا رَسُولَ الله أتأمُرُني قالَ إنما أشفَعُ قالت فَلا حاجة لي فـ
ظاهر الحديث يدل على إعذاره الله ل لذوي الابتلاء وشفاعته لهم والكلام عليه من وجوه منها جواز شفاعة الحاكم لمن تحت ايالته ۳ والمشفوع عنده بالخيار في قبول الشفاعة وردها لعذر يكون به بخلاف الحكم فإنه ليس له فيه اختيار على أي حال كان يؤخذ ذلك من قولها أتأمرني فقال لها ا ا ا ل ل ل ل إنما أشفع فلم تقبل الشفاعة لما كان بها من عذر شدة بغضها له و لعلمها بشفقة النبي على الجميع على حدّ سواء
وفيه إشارة إلى أن الشافع بنفس الشفاعة يحصل له الأجر وليس من شرط ذلك قضاء الحاجة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما أشفع فقوة الكلام تعطي أنه ما كان قصده عليه أما السلام إلا نفس الشفاعة لا غير وقد بيّن ذلك الكتاب العزيز والسنة الواضحة بالتصريح الكتاب فقوله تعالى ﴿ مَن يَشْفَع شَفَعَةٌ حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۳ ولم يشترط فيها قبول
الشفاعة وأما السنة فقوله الله اشفعوا تُؤجَروا ويخلق الله على لسان نبيه ما شاء ٤
1 كذا بزيادة ياء بعد تاء الخطاب كما في ابن ماجه خلافاً لما في البخاري وهي لغة لبعض العرب آلَ المَلِكُ رعيته إيالاً وإيالة ساسهم وآل على القوم وَلِيَهُم
۳ سورة النساء من الآية ٨٥ ٤ متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه وفيه بدل ويخلق ويقضي
۱۱۹۱

وفيه أيضاً دليل على أن يشفع الفاضل عند المفضول يؤخذ ذلك من أن سيدنا صلى الله عليه وسلم هو الفاضل وقد شفع عليه السلام عند أمَةٍ مُعتَقَة
وفيه دليل على أن من حُسن الصحبة تنبية صاحبك على أن يعتبر في آيات الله تعالى وأحكامه ليحصل له من قوة الإيمان ما حصل لك يؤخذ ذلك من قوله الله ي عباس ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً
وفيه دليل على أن نظره كله كان بحضور وفكرة يؤخذ ذلك من تنبيهه عليه السلام للعباس على ما كان من بريرة ومغيث وفيه دليل على أن ما خالف العادة من أي الوجوه كان فإنها اية ينبغي التعجب منها والاعتبار فيها يؤخذ ذلك من أنه لما كان العرف بين الناس أن من أحب شخصاً وأكثر من خدمته فإن نفسه تميل إليه وقد يكون من أجل ذلك الحب له وقد قال له الله جبلت القلوب على حب من أحسَنَ إليها والإحسان عام من وجوه فقد يكون بالمحسوس من حطام الدنيا وقد يكون بالتخدم أو حسن الكلام أو ما يكون به إدخال سرور ما على النفس فإنها بذلك تميل إلى فاعله وقد تميل بمجرد المدح لها فلما كان حب مغيث بريرة وتخدمه لها وبكاؤه عليها ومشيه خلفها وذلك كله مما تستمال به النفوس لا تزيد فيه بذلك إلا بغضاً كان موضعاً للتعجب والاعتبار في قدرة الله تعالى
ولذلك قال بعض أهل التوفيق إذا كانت حسناتي سيئاتي فبماذا أتقرب ومن هنا اعتبر أهل التوفيق وخافوا مع ما هم عليه من حسن الحال أن يقال لهم لا أقبل منكم شيئاً أعاذنا الله
من ذلك بمنه وكرمه
وفيه دليل على حسن أدب جميعهم أحراراً وعبيداً يؤخذ ذلك من حسن جوابها في مراجعته عليه السلام بأن أبدت عذرها بقولها فلا حاجة لي فيه ولم تفصح برد الشفاعة بعد أن سألت هل ذلك أمر أم لا
ويترتب عليه أن من حسن الأدب التماس العذر إلى أهل الفضل ولا ترد لهم شفاعة مواجهة بل يكون بدل ذلك تبيين العذر المانع لقبول شفاعتهم
وفيه دليل على أن كثرة الحب تذهب الحياء من الغير ولا يرى إلا ما هو فيه يؤخذ ذلك من حال مغيث كونه يمشي خلف بريرة ودموعه تسيل ولا يخفى ذلك على من هناك ولا ممن ينظر إليه
۱ رواه ابن عدي وأبو نعيم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً وصحح البيهقي وقفه
۱۱۹

لما غلب على قلبه من كثرة حبها وبهذه الطريقة - أعني كثرة الحب للشيء - تميز أهل الدنيا والآخرة فلما أن كان أهل الدنيا قد غلب على قلوبهم حبها - لم ينفعهم ما تلي عليهم من الآيات والمواعظ ولا ما جاءهم من البلايا فيها كل ذلك قد تعامَوْا عنه ولم يروا سوء ما هم بسبيله أعاذنا الله من ذلك بمنّه ولما أن كان أهل الآخرة قد حصل لهم من المعرفة بها وحبهم لمولاهم ما حصل لهم لم يروا من الدنيا شيئاً وإن كانوا فيها ومع أهلها
ومما يذكر عن بعض سادات أهل السلوك أنه كان ماراً مع أصحابه على بعض الجبانات ونسوة ينحن على ميتهن فترك أصحابه ودخل معهن فتعجب أصحابه وتركوه وانحرفوا عنه حتى راحت النسوة وبقي هو في حاله في ذلك الموضع فأتاه أصحابه وجعلوا يعتبونه على ما وقع منه فقال لهم ما رأيت مما تقولون شيئاً وإنما رأيت قوماً يبكون على ذنوبهم فدخلت أبكي معهم على ذنوبي وخلفوني وراحوا فتعجب القوم من غلبة حال الخوف عليه حتى لم يبق له ميز إلا ما
كان فيه
ولذلك يروي عن رابعة العدوية في قولها فيما غلب عليها من حب مولاها
أُحِبك حبّينِ حبَّ الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حبُّ الهـو فشغلي بِذِكْرِكَ عمَّن سواكا وأما الذي أنتَ أهل له فكَشْفُكَ لي الحُجْبَ حتى أراكا
وقد قال الله احبك الشيء يعمي ويصم ۱ لكن شتّان ما بين الحبّين وقد قال بعض أهل التوفيق في الترجيح بين الأشياء المحبوبات من سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً فكل ما سوى مولاه مفقود وهو سبحانه الواحد الموجود في كل حال جعلنا الله من أهل محبته في الدارين بفضله امين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي الدرداء ورواه الخرائطي في اعتلال القلوب عن أبي
برزة وابن عساكر عن عبد الله بن أنيس
۱۱۹۳

حدیث جواز ادخار قوت السنة
عَن عُمر بن الخطاب رضي الله عَنهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم كَان يبيعُ نَحْلَ بَني النضير صلى الله عليه وسلم ١ ويَحبِسُ لأهلِهِ قُوتَ سَنَتِهِم
ظاهر الحديث يدل على جواز ادخار قوت العيال سَنة والكلام عليه من وجوه
منها أن ادخار قوت العيال سنة لا يخرج فاعله عن طريق الزهد لأن سيدنا رأس الزاهدين وسيدهم وكان عليه السلام يعطي لعياله قوت سَنة بسنة ولأن إعطاء قوت العيال هو من باب إعطاء الحقوق التي عليه
وفيه دليل على أن معاملة الغير - وإن كانوا أقرب الأقرباء - إنما تكون بمقتضى الحكمة إذا قدر عليها يؤخذ ذلك من فعله ل لا ل ا ل لأنه لما أن فتح الله عليه بنخل بني النضير وأجرى الله حكمته أن النخل لا يستغل إلا مرة في السنة كان إذا جاء وقت غلتها يعمل في حق الغير وإن كانوا أقرب الناس إليه وهم عياله على مقتضى الحكمة فكان عليه السلام يعطيهن نفقتهن إلى مثلها من قابل فذلك سنة وكان عليه السلام يعطي لكل واحدة منهن ثمانين وَسْقا ٢ من تمر وعشرين وَسْقاً من شعير وكان عليه السلام في خاصة نفسه المكرمة لا يدخر شيئاً وكنّ رضي الله عنهن يقدمن منها لآخرتهن الأكثر وقبل نخل بني النضير كان هو وهنّ جميعاً صلوات الله عليهم أجمعين على حسب ما يفتح الله تعالى لهن فكن يؤثرن بما يفتح الله عليهن حتى إنه قد
۱ بنو النضير قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريظة نزولاً بظاهر المدينة في حدائق واطام لهم وكانت غزاة النبي الله لبني النضير في سنة أربع للهجرة ففتح حصونهم وأخذ أموالهم وجعلها خالصة له لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فكان يزرع في أرضهم تحت النخيل فيجعل من ذلك قوت أهله وأزواجه لسنة وما فضل جعله في الكراع والسلاح وكان رسول الله الله و أخرج بني النضير على أن لهم ما حملت إبلهم
إلا الحلقة والالة والحلقة هي الدروع
الوسق مكيلة بقدر ستين صاعاً

ذكر عنه أنه أتى له بكبش ففرقه وما حبس لعياله إلا رأسه فقالت له إحداهن ذهب الكبش كله إلا الرأس فقال عليه السلام مجاوباً لها بل بقي كله إلا الرأس هو الذي ذهب أو كما ورد ويترتب على هذا من الفقه أنه لا يحمل الراعي من له عليه رعاية على الزهد بالجبر ولا بأن يحبس له من حقه شيئاً لعله يزهد بل يوفي له حقوقه ويندبه بعد إلى الزهد ويرغبه فيه في خاصة نفسه يحملها في ذلك على ما يختاره
وفيه دليل على أن الزهد ليس من شرطه خروج المال عن اليد وإنما الزهد خروج المال عن القلب وألا يتعلق به وأن يصرفه فيما يرضي به ربه يؤخذ ذلك من مسك سيدنا نخل بني النضير ولم يخرج عنها حتى مات وبقيت بعده وكان تصرفه فيها كلها على ما يرضي ربه ويقربه إليه وقد زاد ذلك بياناً لقوله عليه السلام في حديث غير هذا ليس الزهد بتحريم الحلال وإنما الزهد بأن تقطع الإياس مما في أيدي الناس ۱ أو كما قال عليه السلام فتكون بما في يد الله أوثق مما في يدك وقد قالت السادة رب تارك وهو اخذ ورب اخذ وهو تارك لأن مدار الأمر على ما تحويه القلوب ولذلك قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم
يخرص
۳
وفيه دليل على أن التصرف أيضاً في مصالح المال لا ينافي الزهد يؤخذ ذلك من بيعه صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير لأن البيع من جملة التصرف في المال وقد كان عليه السلام يبعث من عليهم وينظر فيما يصلحه وقد قال بعض أهل المعاملات المحققون إن أعلى المراتب الذي يشارك الناسَ في الظاهر على لسان العلم ويكون فيما بينه وبين مولاه على حالة الكمال من حسن الزهد والخدمة المَرْضِية فإن الخروج عن العادة الجارية بين الناس هو من الضعف في الحال لأن المخالطة خيرُها متعد وهو في ذلك متبع للسنة وهي أعلى الطرق ولكن بشرط أن يقدر على ذلك فإن وجد ضعفاً فالهرب بالكلية أو يكون لا يجد كيف يمشي في ذلك على لسان العلم فالهرَبَ الهرب ويبقى كما أخبر سيدنا حين أخبر عن الفتن فقال له بعض الحاضرين ما تأمرني به إن أدركني ذلك الزمان قال تلزم إمام المسلمين وجماعتهم قال فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة قال تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت 4 على ذلك أو كما قال عليه السلام
۱ رواه الترمذي في الزهد وابن ماجه في الزهد في الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثف مما في يدي الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ يَخْرُص يقدّر ما عليه من الثمر
٤ رواه البخاري عن حذيفة رضي
عنه ومطلعه كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن =
۱۱۹۵

وفيه دليل على أن ما زاد على ادخار قوت السنة للعيال فليس من التوكل ويكون ذلك من باب الادخار يؤخذ ذلك من كونه لم يجىء عنه عليه السلام في هذا الحديث ولا في غيره أنه زاد عياله على قوت السنة شيئاً
1
وفيه دليل على أن اتخاذ العيال لا يخرج عن الزهد بل هم عون على الطاعة إذا كن من أهل التوفيق يؤخذ ذلك من اتخاذه عليه السلام العيال وقد زاد ذلك بياناً بقوله عليه السلام النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وقد كان عمر رضي الله عنه يقول إني لأتزوج النساء وما لي إليهن حاجة رجاء أن يخرج الله من صلبي من يَكثُرُ به محمد الأمم يوم القيامة لكن بشرط أن يقدر على القيام بحقهن وإلا فلا يجوز له ذلك ووظيفته التعفف والصبر والصوم والصون حتى يلطف الله تعالى به وتكون نيته أنه إن قدر على الزواج أنه يتزوج اتباعاً لسنة نبيه فيكون مأجوراً على نيته
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
=
الشر مخافة أن يدركني إلخ
۱ رواه أبو يعلى في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى ولفظه عند أبي يعلى من أحب فطرتي فليستنّ بسنتي ومن
سنتي النكاح وفي رواية الشيخين من رغب عن سنتي فليس مني
١١٩٦

حديث جواز عمل الرجل في البيت مع أهله ومحافظته
١
الصلوات
على
عَنِ الأسودِ بن يَزِيدَ ۱ رضي الله عَنهُ قالَ سَألتُ عَائِشَةَ ما كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ في البيتِ فقالت كانَ في مهنة أهلِه فإذا سَمِعَ الأذانَ خَرجَ
وجوه

ظاهر الحديث يدل على دوام محافظة النبي على أوقات الصلوات والكلام عليه من
منها أن في هذا دليلاً على أن خلقه عليه السلام وسيرته على مقتضى القرآن لأن الله عزّ وجل يقول إِنَّ الصَّلَوَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَبًا مَّوْقُونَ ٢ أي ملزومة بذلك الوقت فلا يؤخرها عنه فكان حاله عليه السلام بمقتضى هذا الحديث كذلك
وفيه دليل على أن الضرورات مع أوقات الصلوات لا يلتفت إليها وإنما يشتغل بالصلاة يؤخذ ذلك من قولها كان في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج أي اشتغل إذ ذاك بالخروج فلم يلتفت عليه السلام إلى شغل ولا غيره
وفيه دليل على حسن خلقه عليه السلام وتواضعه يؤخذ ذلك من أشغاله عليه السلام بنفسه الكريمة في بيته بمهنة أهله
۱ الأسود بن يَزِيدَ النخعي تابعي كوفي فقيه من الحفاظ كان عالم أهل الكوفة في عصره رأى أبا بكر وعمر وروى عن علي وعائشة وابن مسعود ومعاذ قال أحمد بن حنبل هو ثقة سافر ثمانين حجة وعمرة لم يجمع بينهما وكان له ولد اسمه عبدالرحمن فعل في حجه وعمرته مثلما فعل أبوه ولمدة ثمانين سنة أيضاً وكان كل من الأب والولد يصلي في اليوم الواحد سبعمائة ركعة واستسقى معاوية بيزيد أبي الأسود فسقوا توفي سنة ٧٥ هـ الأعلام شذرات الذهب تهذيب النووي
سورة النساء من الاية ١٠٣
۱۱۹۷

وفيه دليل على أن من السنة التواضع مع الأهل والتصرف لهن ومعهن في الأشياء الممتهنة وإن حقر قدرها فإن في ذلك تطييباً لنفوسهن
وفيه دليل على جواز السؤال عن بواطن أحوال أهل الفضل لمن يعلمها لأن يقتدى في ذلك بهم يؤخذ ذلك من سؤال الأسود بن يزيد عائشة رضي الله عنها عما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فجاوبته ولم تنكر عليه
وفيه دليل على فقه عائشة رضي الله عنها ونبلها يؤخذ ذلك من حسن جوابها بأن قالت كان في مهنة أهله لأن هذا اللفظ يعم جميع أنواع ما تحتاج البشرية إليه مما يحسن قوله ومما يستباح ذكره فأبدعت في حسن الجواب وفيه دليل على أن من عَرَف من أحوال بواطن أهل الفضل شيئاً ويسأل عن ذلك يخبر به لأنه من الدين إلا أنه يحتاج إلى أدب ومعرفة في الجواب كمثل هذه السيدة حتى تحصل الفائدة للسائل ولا يكون فيما يذكره إلا ما إن لو كان الشخص حاضراً لم يكره ذلك
وفيه دليل على ما فضل الله تعالى به سیدنا ام من القوة في الدين وسعة الصدر لذلك وجملة
ذلك اشتغالهم بمهمات أهله ولأن ذلك حق لازم وأداء الحقوق مما يقرب إلى الله تعالى
وفيه دليل على أن ما زاد على المهم الضروري هو دنيا يؤخذ ذلك من عدم اشتغاله بذلك لأن الاشتغال بالشيء ترك لضده وفي رواية مهنته فإن قلنا معناهما واحد فالزيادة على ما قررناه من الأحكام وإن قلنا معنى مهنة الأشياء المتحقر قدرها عادة فيكون فيه زيادة على كثرة تواضعه على الدوام يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام إذا خرج إما لصلاة كما أخبرت هنا أو لما يصلح لأصحابه ولأمته على ما تقرر من نقل أحواله عليه السلام فإنه لم يجىء عليه السلام أنه خرج سدى ولا فعل شيئاً عبثاً فكان عليه السلام في بيته حيث يستريح الناس مشغولاً بمهنة أهل بيته كما أخبرت هنا وبالليل في التهجد فهذه مجاهدة دائمة لا يحملها وضع البشرية إلا بمادة ربانية
عنه
وفي هذا دليل لأهل الطريق الذين جعلوا طريقهم دوام المجاهدة وأن لا فتره لا باطنة ولا ظاهرة فنِعْمَ ما به اقتدوا فسمعوا وسمعنا ففهموا ما عنه عجزنا فأحسنوا فيما قالوا وفعلوا فمن أجل هذا فضلوا علينا
مَنَّ الله علينا بما مَنَّ عليهم امين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۱۹۸

حديث الأمر بذكر اسم الله تعالى على الطعام والأكل مما يلي الآكل
عَن أَنَسٍ رَضي الله عَنهُ قال النبي صلى الله عليه وسلم اذكروا اسم الله وَلْيَأْكُلْ كُلّ رَجُلٍ مِمّا يليه
ظاهر الحديث الأمر بذكر الله تعالى عند الأكل والأمر أيضاً بأن يأكل كل رجل مما يليه والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذان الأمران على حد سواء في الوجوب أو الندب أم لا ومنها قوله اسم الله هل هو اسم مخصوص أو أي اسم ذكر من أسماء الله عزّ وجلّ أجزأه وهل من شرط الاسم أن يكون متصلا بالأكل أم لا وقوله الله مما يليه هل في كل الأطعمة فيكون الأمر عاماً في جميع أنواع الأطعمة أم لا وإذا كانت أطعمة مختلفة هل يجزىء فيها تسمية واحدة أو لكل
طعام تسمية وهل هذا الأمر يتناول الرجال دون غيرهم أو هو للرجال وغيرهم على حد سواء فأما قولنا هل الأمران على حد سواء في الوجوب أو الندب فليسا على حد سواء في الطلب لأن التسمية على الطعام عند الأكل سُنّة والأمر بأن يأكل مما يليه مندوب إليه والتسمية على الطعام مما شرع في هذه الأمة المحمدية بمقتضى هذا الحديث وأحاديث كثيرة وهو من السُنَّة الإبراهيمية وقد قال عزّ وجلّ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمُ ۱ وذكر عن الخليل أنه جاءه مَلَكان على صورة ضيوف يختبرانه بمَ اتَّخذه الله خليلاً فقدّم إليهما الطعام فتوقفا عن أكله فقال لهما كلا فقالا لا نأكل إلا بالثمن فقال ثمنه أن تسمّيا الله تعالى عند ابتدائه وتحمداه عند فراغه فنظر أحدهما إلى الآخر وقال يحق أن يتخذ خليلا وقد قال سيدنا الا الله وبعدما أمر بالتسمية عند
1 سورة الحج من الآية ۷۸
۱۱۹۹

الأكل والشرب فيمن لم يسمّ أكل الشيطان معه وشرب ۱ قال تعالى ﴿وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ
٢
قَرِينَا فَسَاءَ قَرِينًا
وأما قولنا هل هذا الاسم الذي يذكر على الطعام أو الشراب هو اسم مخصوص أو أي اسم ذكر من أسمائه سبحانه أجزأ ظاهر اللفظ لا يعطي تخصيصاً فأي اسم ذكر من أسمائه سبحانه أجزأ وأما الذي جرى الاستعمال به فذلك بسم الله ومن زاد الرحمن الرحيم فهذه جملة أسماء فقد أتى بما أمر به وزيادة والزيادة من الخير خير ولم أر أحدا ينكر ذلك إلا عند الذبح لأنك تذكر الرحمة وتذيق البهيمة العذاب وليس ذلك من خُلُق الإيمان لأن الله عزّ وجلّ يقول الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لَا تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۳
ولا تعتقد أيضاً أن ذكر الرحمن الرحيم في التسمية على الطعام مما أمرت به فتزيد في الدين ما ليس فيه وهو لا يجوز فإن زدتها تبركاً فلا بأس لأنه لولا رحمته عزّ وجلّ ما أطعمك وسقاك ولاسيما مع المخالفة لأمره وارتكاب نهيه فما بقي ما به مَنَّ عليك من ذلك إلا من طريق الرحمة والفضل والتزامها أيضاً بدعة وإنما الشأن إن أردت اتباع السنة أن تقول كما جاء عنه الله أنه كان عند الأكل يقول بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وحينئذ تأكل فتحصل لك بركة الاسم الأعظم وبركة السنة المحمدية
٤
وأما هل من شرط التسمية أن تكون متصلة بالأكل أم لا فظاهر الحديث يعطي ذلك لأنه أتى بالواو التي لا تعطي رتبة والنقل من سلف إلى خلف على أن العمل على اتصالها إلا إن كان نسياناً فلا يؤاخذ به لقوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان إلا أنه قد أحكمت السنة في الذي ينسى التسمية عند أول أكله وشربه إذا ذكر أن يقول عند ذلك بسم الله أوله واخره فإنه قد روي أن
1 رواه الإمام أحمد والترمذي في الشمائل ولفظه عن أبي أيوب رضي الله عنه قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقرب طعاماً فلم أرَ طعاماً كان أعظم بركة منه أول ما أكلنا ولا أقل بركة في اخره فقلنا يا رسول الله كيف هذا قال إنا ذكرنا اسم الله حين أكلنا ثم قعد من أكل ولم يسم الله تعالى فأكل الشيطان معه وروى أبو داود أن رجلاً كان يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال الله أوله واخره فضحك النبي صلى الله عليه وسلم م م م قال فما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه صححه الحاكم وحسنه
المنذري في الترغيب
سورة النساء من الاية ۳۸ ۳ سورة الصف الايتان و ۳

بسم
٤ أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ومن سقاه الله لبناً فليقل اللهم بارك فيه وزدنا منه
۱۰