Go Back





شخصاً أكل بحضرة النبي ونسي التسمية فلما ذُكِّر قال - كما قدمنا فتبسم النبي وقال رأيت الشيطان أكل معه أولاً فلما قال بسم الله أوله وآخره قاء الشيطان كل ما أكل
نوع کا
وأما عليه السلام وأما قوله عليه السلام وليأكل كل رجل مما يليه هل هو في كل طعام أي كان فظاهر اللفظ يقتضي العموم لكن قد قال العلماء إن ذلك في الثريد وما أشبهه لأنه كله سواء وأما إذا كان الطعام على غير ذلك وفيه أنواع مختلفة فلك أن تجيل يدك حيث تريد لكن بأدب مع الإخوان لأن الأدب من السنة وأما إن كان الطعام يابساً مثل التمر والفواكه فَلَكَ الخيار أن تأخذه من حيث شئت وإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون على صفة واحدة أم لا فإن كان على صفة واحدة فحكمه حكم الثريد تأكل مما يليك لا غير وإن كان فيه اختلاف فلك أن تجيل يدك فيه إلا أنه بأدب وقد جاء أنه قدم له لا الهلال والحلم فيه دبّاء ۱ فجعل عليه السلام يتبع الدباء في
القصعة ٢
وأما قولنا إن كان الطعام يختلف به أي يؤتى بطعام بعد طعام هل يجزىء فيه تسمية واحدة أم لا فلا يخلو أن تكون تعاينه وتعلمه ويكون الأكل متصلاً بعضه ببعض أو لا فإن كنت تعاينه وتعلمه والأكل متصل فتسمية واحدة تجزىء ما لم تعين نوعاً واحداً من ذلك تفرده من غيره كما تفعل عند رميك على الطير إذا كانوا ۳ جماعة أو الظباء وإن عينت الجميع فأي شيء أخذت منها تتناوله تسميتك وإن قصدت واحداً بعينه وأخذت غيره لم تتناوله التسمية
وقد نص الفقهاء أنك إذا دخلت حديقة وفيها أنواع من الثمار ونويت عند دخولك أن تأكل من كل ثمرة لقيت وسميت بهذه النية أجزأتك التسمية عن كل ما تأكل في تلك الحديقة في وقتك ذلك وإن كانت أشجارها متباعدة بعضاً عن بعض وذلك يقتضي تعيين الأكل أيضاً وإن أنت لم تسم عند دخولك إلا على الثمرة التي لقيت ولم تعين غيرها فتؤمر إذا انتقلت إلى غيرها أن تسمي
عليها
وأما قولنا هل هذا الأمر خاص بالرجال لا غير أو الرجال مواجهون بالخطاب وهو متناول الكل فالجواب أن تقول ليس في الدين تخصيص لبعض دون بعض بل اشتراك الكل في جميع
۱ الدباء اليقطين ويسمى في بلاد الشام القرع رواه البخاري في البيوع باب ذكر الخياط وفي الأطعمة باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه وباب القديد ورواه مسلم في الأشربة من حديث أنس رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله له الطعام صنعه فذهبت معه إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله له خبزا من شعير ومرقاً فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت النبي الله يتتبع الدباء حوالي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ
۳ كذا بضمير العقلاء
۱۰۱

الأوامر إلا ما دل دليل على تخصيصه ولا دليل هنا على التخصيص فهو عام في الكل وفي هذا
الحديث وأشباهه دليل على بذل جهدهم لا لا لايف في النصح والتعليم
ويترتب على ذلك من الفقه فيما يخصنا أن من علامة السعادة للشخص أن يكون معتنياً بمعرفة السنة في جميع تصرفه والذي يكون كذلك هو دائماً في عبادة في كل حركاته وسكناته وهذا هو طريق أهل الفضل حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه بقي سنين لم يأكل البطيخ فقيل له في ذلك فقال لم يبلغني كيف السنّة في أكله فلا اكله حتى أعلم كيف ذلك وكيف لا والله سبحانه يقول في حقه ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ۱ والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن ﴾ تكون عامة في كل الأشياء جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة ال عمران من الآية ۳۱
۱۰

حديث ما خصت به العجوة من المنفع

عَن عامِرٍ بن سَعْدٍ ١ عَن أبيه رضي الله عَنهُم قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن تَصبَّحَ كُلَّ يَومٍ بِسَبع تمراتٍ عَجْوَةٍ لَم يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمَّ ولا سِحر
ظاهر الحديث يدل على أن من أكل كل يوم سبع تمرات عجوة لا يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه العجوة من أي بقعة كانت سواء أو هي من بقعة معيّنة وهل تكون في حين طراوتها أو أي وقت أكلت كانت طريّة أو مدخرة وهل يحتاج في أكلها إلى نيّة أم لا وهل تعرف الحكمة في كونها خصت بالنفع في هذين الشيئين أم لا وهل هذا عام في المؤمن والكافر والطائع والعاصي أو ذلك خاص بالمؤمنين لا غير

فأما قولنا هل تلك العجوة تكون من بقعة مخصوصة أم لا فالجواب أنه قد جاء حديثان أحدهما أنها من المدينة والآخر أنها من العوالي ٢ فإن حملنا هذا الحديث المطلق الذي نحن بسبيله على هذين الحديثين فتكون من عجوة العوالي أو المدينة وإن قلنا إن لكل حديث حكماً تكون مطلقة من حيث كانت نفعت فيجيء النفع إذا كانت من العوالي أو المدينة بلا شك
ويبقى النظر إذا كانت من غيرها
۱ عامر بن سعد بن أبي وقاص
مدني تابعي سمع أباه وعثمان وابن عمر وأسامة وأبا هريرة وعائشة وكان ثقة بالاتفاق توفي بالمدينة سنة ١٠٣هـ والده كان أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة في الشورى لخلافة عمر رضي الله عنه العوالي هي اليوم حي من أحياء المدينة المنورة

وأما قولنا هل يكون أكلها عند جناها أو أي وقت أكلت احتمل والظاهر أي وقت كانت
لأن الاسم يتناولها
وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أو لا فكل ما كان متلقَّى من الرسول صلى الله عليه وسلم فالأصل فيه النية ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۱ لأن المؤمن إذا أخذ ما أمر به موقناً بذلك وجد الفائدة كما وعد وزيادة وإذا أخذه بغير نية فقد يبطىء الأمر عليه قليلا فيقع له تردد فيحصل في بحر التلف ومما روي مثل هذا أن النبي خرج مرة إلى غزوة من غزواته فأمر الصحابة رضي الله عنهم بالتزود فتزود بعضهم وعجز البعض ولم يجدوا ما يشترون به فأمر لا ل ل له أن يأخذوا رواحلهم ويخرجوا معه فخرجوا فلما بلغوا إلى أحد الأودية - وهو كثير الحنظل - أمرهم أن يمتاروا منه فكلهم فعلوا ما أمرهم به إلا شخصاً واحداً فقال في نفسه وما جاء بنا إلا إلى الحنظل وما عسى أن أفعل به فلم يأخذ منه إلا خمس حبّات ورجعوا إلى المدينة
وكان للشخص الذي لم يأخذ غير خمس حبات غلام تركه بالمدينة في ضروراته فلما سمع برجوعهم إلى المدينة خرج لأن يُعين سيده فوجد الناس محمّلة رواحلهم وليس لسيده حمل فسأله عن ذلك فقال له ما جرى فقال له الغلام أمرَكَ وبقي عندك شك وكيف وقع ذلك وما أخذت منه شيئاً قال ما أخذت إلا خمس حبّات وقد ذهب عني بعضها في الطريق فقال هاتها فأعطاه إياها فأكل الغلام منها فإذا هي مثل الشهد سواء فقال كُلْ تَرَ ما حُرِمت فأكل فوجد مثل ما وجد الغلام فندم نَدامة الكُسَعِيّ ٢

والحديث الثالث حين جاء بعض الصحابة فشكا للنبي لو أن أخاه به بطن ۳ فأمره أن يسقيه عسلاً فسقاه ثم رجع إلى النبي الله يشكو إليه ثانية فأمره أن يسقيه عسلاً كذلك في الثالثة
۱ سورة الإسراء من الاية ۸
الكُسَعِي هو غامد بن الحارث الكسعي اتخذ قوساً وخمسة أسهم وكمن في مكان مظلم للحُمُر الوحشية فمرّ منها قطيع فرمى السهم الأول فنفذ في العير حتى صدم الجبل فأورى نارا فظن أن سهمه أخطأ الوحش فرمى ثانية وثالثة حتى نفدت سهامه الخمسة وهو يظن في كل رمية أنه أخطأ صيده فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات فلما أصبح نظر فإذا الحُمُر مطرحة مُصَرّعة وأسهمه بالدم مضرّجة لم تخطى هدفها وصيدها فندم وقطع
إبهامه وأنشد
۳ أي إسهال
ة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطع إذا لقطعت خمس
ـنَ لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي
١٢٠٤

أو الرابعة فقال له عليه السلام صدق الله وكذبَ بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاه فشفي أخوه ۱ وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونها تنفع لهذين الشيئين فالجواب أنه لا طريق لنا
إلى ذلك بل الله يختص من يشاء بما يشاء من جماد ونبات وحيوان إلى غير ذلك من جميع خلقه فمنها ما يعلم من طريق التجربة مثل صنعة الطب وقد تخيب وتصيب ومنها ما هو من طريق إخبار الرسل صلوات الله عليهم وهذا لا يخيب أصلاً لكن الغالب على الناس أنهم قد ركنت أنفسهم إلى قول الأطباء بلا تأويل وقد عاينوا منهم في الغالب عدم النجح وهذا الذي لا شك فيه لأنه من طريق الرحمة للعباد لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً العلمين ۳ فقليل منهم من يقبله وذلك علامة الحرمان فنسأل الله العافية وبعضهم يتأول ويقول هو حق لكن لا نعرف التأويل في كيفية العمل وهذا حَيْد عن الصواب لأنه لو كان في أحد الأشياء التي أخبر بها وجه من وجوه الكيفية في عمله ما ترك عليه السلام بيانه إلا أخبر به قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ٤

وأما قولنا هل ذلك خاص بالمؤمنين أو عام في المؤمن والكافر صيغة اللفظ تعطي العموم وأما ما قدمناه من قوله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ٥
فيعطي الخصوص
وفيه دليل على أن السحر حق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم
ولا سحر
وفيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تدركها العقول يؤخذ ذلك من كون السحر عن الشخص لا يراه ثم يصل إليه منه ضرر حتى يجد ذلك الضرر في بدنه محسوساً ومما يزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ٦
منفصلاً
ايق
1 أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه جاء رجل إلى النبي الهلال فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقاً ثلاث مرات فقال رسول
له صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ
الله
أي السم والسحر سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷

0
سورة التوبة من الآية ٦٥
سورة الإسراء من الآية ۸
3
٦ سورة البقرة من الآية ۱۰
١٢٠٥

وبقي بحث في قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر هل يكون معناه
العموم أو الخصوص فمعنى العموم أن الذي استصبح بالعجوة لا يضره سم إن شربه في ذلك اليوم ولا سحر إن سحر فيه ولا سم تقدم شربه على ذلك اليوم ولا سحر تقدم على ذلك اليوم عمله فتكون تلك العجوة توقف عنه ضرر ذلك السم الذي تقدم شربه في ذلك اليوم وكذلك السحر أيضاً وتحميه عن ضرر ما يفعل فيهما في هذا اليوم ومعنى الخصوص أن كل سم أو سحر يكون في ذلك اليوم بعد أكله تلك العجوة لا يضره احتمل الوجهين معاً لكن الأظهر الخصوص من طريق أنه أقل المحتملات فهذا مقطوع به
ومن طريق النظر إلى أن هذا ورد من طريق الرحمة من الله تعالى ببركة هذا النبي العظيم الا الله فيكون الأظهر العموم لأنا نرى الترياق الكبير الذي هو من تأليف الأطباء الذي طريقه التجربة يدفع من السموم ما قد حصل منها في البدن وما يأتي بعده فكيف بما هو طريقه طريق الرحمة والتفضل

إلا أنه لا بد في ذلك من قوة يقين ونية حسنة كما ذكر عن عمرو بن العاص ۱ أنه جاءه رسول من العدو وبيده قارورة فلما دخل عليه سأله عن تلك القارورة التي هي بيده فقال له سم ساعة فقال وما عسى أن تفعل به فقال له إني رسول لقومي لم يوجهوني قط في أمر إلا جئتهم بما يحبون وهم قد وجهوني إليك فخفت منك ألا تُسْعِفْني فيما طلبوا فجئت بهذا السم فإن لم تستعفني بما طلبوا أشربه فأموت ولا أرجع إليهم بما يكرهون فقال له ناولني إياه فأعطاه القارورة وقال رحمه الله بسم الله قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا وشرب ذلك السم فعرق من حينه ساعة ثم أفاق وما به بأس فرجع الرسول من حينه إلى قومه وقال لهم أسلموا عن آخركم فإن هذا رجل لا طاقة لكم به شرب سم ساعة فلم يضره
فلتسميته بتحقيق النية ظهر ذلك الخير عليه وكذلك كل من قصد الله تعالى صادقاً وجده حيث أمله وزيادة لأنه يقول جل جلاله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن ﴿ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۳ ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ٤ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ﴾ ٥
۱ وتنسب هذه الحادثة إلى خالد بن الوليد في كتب أخرى والله أعلم
سورة ال عمران من الآية ١٦٠ ال
۳ سورة المائدة من الآية ٢٣ ٤ سورة الطلاق من الآية ٣ ٥ سورة النساء من الآية ۱
١٢٠٦

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۱ لكن من عينُ يقينه خُفَاشِي لا يستطيع أن يبصر شمس الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ من غذّى قلبه بالحرام لا يبصر إلا ظلاماً في ظلام ظُلُمَتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ۳ أعاذنا الله من الحرمان ومن كسب الآثام بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ۸۷ سورة المطففين من الاية ١٤
۳ سورة النور من الاية ٤٠
۱۰۷

حديث الأمر بلعق اليد من أثر الطعام قبل غسلها
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال إِذا أَكَلَ أحَدُكُم طَعاماً فَلا يمسَحْ
يده حتى يلعقها أو يُلعِقها
* *
ظاهر الحديث النهي عن أن يمسح أحد يده إذا أكل طعاماً حتى يلعقها أو يعطي غيره يلعقها والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل هذا من كل الطعام وهل هذا لعلة مفهومة أو تعبد لا غير وهل ذلك خاص بالمسح أو عام في المسح والغسل وقوله يُلعِقها هل يكون ذلك من جنسه لا غير أو من جنسه وخلاف جنسه إن أمكنه ذلك وفي المسح كيف يكون وفيم يكون
فأما قولنا هل من كل طعام فليس على عمومه لأن من الأطعمة ما لا يتعلق بيد الأكل منه
شيء وما لا يتعلق منه شيء ولا يحتاج إلى مسح فلا يحتاج إلى أن يُلعق وأما قولنا هل هو تعبد أو لعلة معقولة اللفظ لا يفهم منه ذلك لكن قوة الكلام تعطي أنه لعلة مفهومة وهي حرمة الطعام والتعظيم لنعم الله تعالى لأنه لا الله و قد شدّد في هذا الباب ـ أعني تعظيم نعم الله تعالى واحترامها - كثيراً وقد ورد أن ترك ذلك سبب إلى زوالها وقلّما أزال الله تعالى نعمته من قوم فردّها إليهم وقد كان لا لا اله إذا أكل في أهله وشبعوا تركوا القصعة حتى يأتي من
يَلعَقُها
وقد حكى أبو هريرة أنه كان يوماً به جوع شدید فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أراك شديد خُلوف الفم فقال نعم فأمره عليه السلام أن يأتي معه إلى منزله فلما دخل أخرج له قصعة ليس فيها إلا لَعْقُها قال فقلت في نفسي وماذا تعني هذه فلَعِقْتُها وشبعت أو كما قال ولقي وهو صائم لبابة خبز في قذر فغسلها وأمر بلالاً أن يرفعها له حتى يفطر وقال عليه السلام إن القصعة تستغفر للاعقها ۱ أو كما قال والأحاديث في هذا النوع كثيرة
۱ رواه الترمذي في الأطعمة من حديث نبيشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له =
۱۰۸

وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يفرغون من الأكل ويغسلون أيديهم ثم يشربونه تعظيماً لنعم الله وتبركاً بآثار شيء أكل عوناً على طاعة الله تعالى
وأما قولنا هل ذلك خاص بالمسح أو عام فيه وفي الغسل الجواب أنه إذا كان في المسح الذي ينتقل الطعام الذي تعلّق باليد إلى الشيء الممسوح فيه فكيف بالماء الذي يُذهِب عين الطعام فهو من باب أولى
وفيه دليل على أن السنّة المسح من الطعام وإنما الغَسل من فعل الأعاجم أعني إذا كانت اليد نظيفة فالغسل إذ ذاك من فعلهم وإن كان قد جاء أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويُصح البصر ۱ فيكون الجمع بين هذين الحديثين بأحد وجهين أحدهما أن يكون اللَّممَ الغسل لموجب له فقبل الطعام تكون اليد غير نظيفة والذي بعده يكون الطعام مما فيه دسم كثير لا يزيله المسح أو رائحة يكون فيها تأذَّ وذلك مكروه أن يصلّى به أو يكون فعله ذلك غِباً لا يتخذه دائماً فإنه مخالف للسنة أو يكون الغسل لعدم الشيء الذي يمسح فيه والشأن أن يخرج من التشبه بأهل الكتاب الذي قد نهينا عن التشبه بهم
وأما قولنا هل يلعقها من جنسه أو من خلاف جنسه إذا أمكن ذلك فإذا فهمنا العلة كما قدمنا - وهي من أجل حرمة الطعام - فكل من يجوز لنا أن نعطيه طعاماً يأكله ويأتي منه اللعق على وجه جاز لنا ذلك ما عدا أهل الملل
وأما قولنا فيم يكون المسح وكيف يكون أما فيم ففي كل شيء طاهر لا حرمة له وأعني بقولي لا حرمة له تحرزاً من الخبز والكتاب وما أشبه ذلك أو مال الغير فإن مسحك فيه ممنوع إلا بإذن مالكه وقد جاء أنهم كانوا يمسحون تحت أقدامهم وأما الكيفية فأن يكون الفعل
برفق بحسب حالة الشيء الممسوح فيه وإنما ذكر الرفق فيه لقوله ما كان الرفق في شيء إلا زانه حتى يكون في فعلك أثر من السنة لأن الشأن في هذا
جعلنا الله من أهلها بفضله لا رب سواه امين

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
=
القصعة ورواية المؤلف إن القصعة لتستغفر اللاعقها رواها رزين في جامعه بلفظ إن انية الطعام لتستغفر للذي
يلعقها ويغسلها
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية موسى الشهاب من رواية موسى الرضا عن ابائه وذكره العراقي مع جملة أحاديث فقال إنها ضعيفة
عزاه في الفتح الكبير إلى عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله عنه
۱۰۹

- ٢١٤ -
حديث كراهية الأكل في أواني الكفار وجواز أكل ما صيد بالكلب

المُعْلَم وغيره
عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ قُلتُ يا نَبِيَّ الله إِنَّا بِأَرضِ قَومٍ أهلِ كتاب أفنأكُلُ في آنيتهم وبأرض صَيد أصيدُ بِقَوسي وَبكَلبي المُعلَّم فما يَصلُحُ لي قالَ أَمَّا مَا ذَكرتَ مِن آنيَةِ أهل الكتابِ فإن وجدتُم غَيرَها فَلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وَكُلوا فيها ومَا صِدتَ بِقوسِكَ فَذَكرتَ اسم الله عَليهِ فَكُلْ وَما صِدْتَ بِكَلبِكَ غَيْرِ المُعلَّم فأدرَكتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول جواز الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إذا لم يوجد غيرها والثاني جواز أكل ما صدته بقوسك أو بكلبك المعلم إذا ذكرت اسم الله تعالى أدركت ذكاته أو لم تدركها والثالث ما صدته بكلبك غير المعلم فلا تأكل منه إلا ما أدركت ذكاته والكلام عليه من وجوه
منها التنزه عن استعمال أواني أهل الكتاب مع وجود غيرها
ومنها أنه إذا لم تجد غيرها جاز استعمالها بعد غسلها بالماء يؤخذ ذلك من أنه لم يبح له الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إلا عند الضرورة وهو عدم غيرها وأهل الضرورات لهم حكم خاص بهم وقد اختلف العلماء في الانية المتنجسة ما عدا الزجاج فإنه لا يداخله مما جعل فيه شيء فالغسل يطهره وما عداه من الأواني التي قد يختلط ما جعل فيها ببعض أجزائها مثل
1 أبو ثعلبة الخشني صحابي أحد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة وأحد الذين شهدوا فتح خيبر روى عن النبي عدة أحاديث وتوفي سنة ٧٥هـ
ذكاته ذبحه الشرعي

آنية الخشب والحنتم وما أشبههما على ثلاثة أقوال قول بأنها لا تطهر وبأنها تطهر وبالتفرقة بأن يطول مكث الإناء في الماء الزمان الطويل فتطهر وإن كان قليلا فلا تطهر
وفيه دليل على أن الحكم في الأمور للغالب عليها يؤخذ ذلك من أنه لما كان الغالب من أحوال أهل الكتاب أن النجاسة تحل في أوانيهم أعطوا حكم النجاسة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها
ويلحق بهذا في الحكم أهل البطالة وتحمل ثيابهم على النجاسة لأنها الغالبة عليهم في كثرة أحوالهم وقد عد الفقهاء هذه العلة في ثياب شارب الخمر أنه لا يصلي بها حتى تُغسل ومنها وجوب التسمية على الصيد يؤخذ ذلك من تكرارها في كل من أنواع الاصطياد وإفصاحه عليه السلام في جميع الأنواع بقوله وذكرت اسم الله

ومنها قوله بقوسي وأباح له عليه السلام أكل ما صاد به إذا ذكر اسم الله عليه أدرك ذكاته أو لم يدرك وهل هذا خاص بالقوس دون غيره من السلاح أو يُحمل جميعُ السلاح عليه فإن قلنا يتعدى الحكم بوجود العلة فجميع السلاح المُحَدَّة التي تفري وتنهر الدم يجوز ذلك بها مثل الرمح والسيف والسكين وما أشبه ذلك وقد نص على جواز ذلك أهل الفقه في كتبهم على ما هو هناك مذكور
كذلك نقول في قوله عليه السلام وما صدتَ بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاتَه فَكُلْ يتعدى الحكم إلى غير الكلب المعلم من جميع الحيوانات التي تفترس أنه إذا كانت غير معلمة وصيد بها فالحكم فيها كالحكم في الذي صيد بالكلب غير المعلم كذلك ما صيد بالآلة التي ليست بمُحَدَّة مثل الحجر والعصا وما أشبه ذلك إذا صيد بها ما يُدرك ذكاته من ذلك أكل وإلا لم يُؤكل منه
شيء
وفيه دليل على أن الحكم إذا نيط بعلة فعُدِمت ارتفع الحكم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في الكلب غير المعلم أنه لا يُؤكل ما صيد به إلا إن أدرك ذكاتُه فدل على أن التعليم في الجارح يُبيح ما صيد به وإن لم تُدرك ذكاته
وفيه دليل على أن من أحسن جوابك للسائل أن تعيد صيغة لفظه فيما سألك عنه وتجاوبه على كل نوع على حدة يؤخذ ذلك من تكرار سيدنا الا الله بلفظ ما سأله السائل عنه وجاوبه على كل نوع منها على حِدَته بقوله عليه السلام أما ما ذكرت من انية أهل الكتاب إلى آخر الحديث
1 الحتم الخزف الأسود والجرة الخضراء
0
۱۱۱

وفيه دليل على أن ما لم يتحقق نجاسته يكره استعماله من غير ضرورة ويجوز عند استعماله الضرورة بلا كراهية يؤخذ ذلك من كون سيدنا اله الا لمنع الأكل في آنية أهل الكتاب مع وجود غيرها لأن تلك الآنية التي أُكل فيها ليست النجاسة متحققة فيها بل هي مظنونة فمنع عليه السلام استعمالها مع وجود غيرها وأباحه عند الضرورة وهو عدم غيرها وفي هذا الوجه دليل لأهل الصوفة لأنهم يظنون في أنفسهم كل مكر وخديعة فلا يستعملون ما تشير به عليهم شيئاً إلا إن كان موافقاً للكتاب والسنة بعد ما يلجؤون في ذلك إلى أن نفسه رغبته في مولاهم خوفاً أن يكون تحت ذلك مكرٌ من وجه ما كما ذكر عن بعضهم الجهاد ووحدت ذلك عليه فقال لها هذا عندي محال أن يكون هذا منك على وجهه لأن الجهاد من أقرب القُرَب ما أفعل ذلك حتى أسأل الله تعالى في أمرك فسأل مولاه سبحانه أن يُطلِعَه على ما أبطنته فقيل له في النوم إنها قد سَئِمت من القيام والصيام فأرادت أن تموت في الجهاد لكي تستريح من التعب ويبقى لها حسن الثناء بعد الموت فقال لها ما لي جهاد إلا فيك ولا أزال أقتلك بالقيام والصيام حتى تموتي لأنهم سمعوا فيها قول مولاهم حيث قال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۱
فمن رحمته عزّ وجلّ بهم أن ألهمهم مخالفتها وتهمتهم لها إلا حيث جاء الأمر بالنظر إليها في وجه ما فنظرهم لها في ذلك الوجه ليس لها وإنما هو من أجل الأمر بذلك فَمِنْ أَتمَّ الشجاعة والرجولة مقاتلة العدو ومن أدب الجهاد قتال من يليك من الأعداء وأقربهم إليك نفسك وهواك ففيهما فجاهد إن كنت ذا بأس وشطارة وإلا فوصف الخنوثة بك أولى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة يوسف من الآية ٥٣

15101
حديث جواز أكل لحم الخيل
ن أسماء ۱ رَضِيَ الله عَنها قالَت ذَبحنا عَلى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً وَنَحْنُ
بالمدينة فأكلناه
ظاهر الحديث يدل على جواز أكل لحم الخيل بغير كراهية والكلام عليه من وجوه منها أن السنة في ذكاة الخيل هو الذبح لا النحر يؤخذ ذلك من قولها ذبحنا وقد جاءت رواية نحرنا فعلى هذا يجوز أكله بالذبح ويجوز بالنحر ٢
وقولها ونحن بالمدينة فيه دليل على أن ذلك كان لغير ضرورة يؤخذ ذلك من قولها فأكلناه أن ذكاته ما كانت لعلة بالفرس إنما كانت لمجرد الأكل لا غير وفي هذا دليل للشافعي رحمه الله في إجازته أكل لحوم الخيل مطلقاً والدليل معه في ذلك وأن الإمام مالك رحمه الله فلم يقع منه مخالفة للحديث فإنه لم يحرمه وإنما كرهه وذكر سبب ذلك وبيان كراهيته إلى أنها ما تستعمل ولا فائدتها غالباً إلا للجهاد فإذا كثر استعمال أكلها كان سبباً إلى قتلها وقتلها يؤول إلى نقص من الإرهاب للعدو
وفيه وجه آخر لأن أكل لحمه - على ما قيل - يقسي القلب وما يقسي القلب ينافي أوصاف أهل الإيمان فجاءت كراهيته من باب سد الذريعة التي هي أصل مذهبه ووجه آخر أن أكله في زمان النبي كان قليلاً وإن كان جائزاً فإنه لم يأت فيه إلا هذا الحديث وحديث خيبر لا غير فيما أعلم فدل على قلة استعماله فعمل هو في ذلك على العمل
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ١٠٥ النحر نحر الصدر أعلاه ونحر البعير طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر الذبح قطع الحلقوم من باطن عند النَّصِيل وهو موضع الذبح من الحلق فالنحر يكون أقرب إلى الصدر والذبح أقرب إلى
الحلق

بأن كرهه حتى يكون استعماله قليلاً كما كان في زمن النبي الا الله فجاء فيه متبعاً للسنة بطريقة
حسنة
وفي قولها نحن بالمدينة فائدة أخرى وهي أن ذلك كان بعد تمكن الإسلام وظهوره وفرض الفرائض وتحديد حدود الشريعة لأنه ما فرض من الفرائض بمكة إلا الصلاة لا غير وجميع الفروض إنما كانت بالمدينة فيما أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
نال
١٢١٤

مله
للقتل
لهشة ريا
حديث النهي عن قتل الحيوان صَبراً
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما أَنَّهُ سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يَنهى أن تُصَبَّرَ ۱ بِهِيمَة أو غَيْرُها
ظاهر الحديث يدل على منع الحيوان كله عاقلاً كان أو غير عاقل من أن يُصبر للقتل
والكلام عليه من وجوه
منها أن من السنة الرفق بجميع الحيوان عاقلا أو غير عاقل

وفيه دليل على رحمة الله تعالى بعبيده على اختلاف أجناسهم وأنواعهم يؤخذ ذلك من نهيه عن أن تصبر بهيمة للقتل أو غيرها ومما يقوي ذلك أنه جاء من قتل عصفورا عبثاً جاء العصفور يوم القيامة مستجيراً يقول يا رب سل هذا لِمَ قتلني عَبَنا ٢ وفي هذين الحديثين دليل على قهر الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لم يترك لأحد التصرف في شيء من الأشياء دقت أو جلت إلا وقد حد له كيفية التصرف فيه وأنه يحاسبه عليه دق أوجل جماداً كان أو غير جماد عاقلا أو غير عاقل وفيه دليل على عظيم عدل المولى سبحانه يؤخذ ذلك من اقتصاصه عزّ وجلّ للعصفور على دقته من العاقل الكبير إن قتله لغير منفعة أو صبره للقتل
وفيه دليل على عظيم إحاطته عزّ وجلّ بجميع مخلوقاته يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لا
1 القتل صَبراً أو التصبير حبس الإنسان أو الحيوان حتى يموت أو تثبيته وضربه حتى يموت أو تعذيبه حتى يموت ومن القتل صبراً ألوان العذاب الوحشي في السجون حيث ينتهي المعذبون بالموت رواه الإمام أحمد والنسائي والبغوي في معجمه وابن قانع وابن حبان والطبري والضياء في المختارة عن الشريد بن سويد بألفاظ مختلفة

تخفى عنه مثل هذه على دقتها ويحصيها ويعاقب عليها مصداقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حسین ۱
وفيه دليل على أن صفاته عزّ وجلّ ليس كمثلها شيء يؤخذ ذلك من كون صفة الانتقام مع صفة الرحمة معاً وفي فعل واحد لأن القتل دال على صفة الانتقام ثم في نفس فعل القتل الرحمة وهو منعه أن يصبر حيوان عاقلاً كان أو غير عاقل للقتل فرفق به في نفس العذاب والانتقام وقد قال إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ٢ وصفة المحدّث إذا وقع منه انتقام لا يرحم ولو قدر على أكثر لفعل فبان ۳ بمقتضى أحكامه سبحانه وتعالى بوحيه أو على لسان رسوله لأنه ما يحكم إلا عن الله كان بواسطة الملك بالوحي أو من تلقاء نفسه بما يلهمه الله عزّ وجلّ إليه فالكل من الله
وفي هذا دليل على أن صفاته جلّ جلاله ليس كمثلها شيء فإنه ليس كمثله شيء سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ٤ فسبحان من تبدَّى بالدليل لذوي البصائر واحتجب بعظيم قدرته مع إيضاح دلائله عن أهل الجهالة والشقاوة جعلنا الله ممن عرفه به ودله به عليه وتغمّده في الدارين برحمته بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأنبياء من الآية ٤٧
رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأوله إن الله كتب الإحسان على كل شيء وتتمة الحديث وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وَليُحِدَّ أحدكم شَفرتَه وليُرِح ذبيحته
۳ أي ظهر الدليل على رحمة الله وعدله وإحاطته
٤ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٢١٦

حديث تحريم أكل لحم الحُمُرِ الأهلية وجواز أكل لحم الخيل

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ
الحمر ورخص في لحوم الخيل

الله عَنهُما قالَ نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية والرخصة في لحوم الخيل والكلام عليه من وجوه
منها أن ترخيصه عليه السلام في لحوم الخيل يوم خيبر إنما كان من أجل الضرورة لأنه جاء من طريق آخر في هذا الحديث أنهم رضي الله عنهم لم ينحروا الخيل يوم خيبر إلا من أجل المجاعة التي لحقتهم
وفيه دليل لمالك كما قدمناه في الحديث قبل أنه وافق السنة في كراهية أكل لحوم الخيل
لأن لفظة رخص عند العذر تقتضي المنع أو الكراهية عند عدم العذر
وهنا بحث وهو أن يقال هل تحريمه لا لا لا لحوم الحمر وترخيصه في لحوم الخيل تَعَبُّد لا
يُعقل له من جهة الحكمة معنى أو تعقل الحكمة في ذلك
فأما قولنا هل تعقل الحكمة في ذلك فقال بعض العلماء إن الحكمة في تحريم الحمر الأهلية هو أن الحمر ليس في الحيوانات أبلد منها فأكل لحمها يكتسب من ذلك فلإشفاقه عليه السلام على أمته منعهم من كل ما عليهم فيه ضرر في الدنيا والآخرة كما حرم مولانا سبحانه الميتة وأحلّها بعد ثلاث ۱ فذكر بعض العلماء من الحكمة في ذلك أن الميتة فيها سُمِّيّة كثيرة فمنعنا من أكلها لأجل الضرر الذي يعود علينا من سُمّها فإذا بقي المرء ثلاثاً اشتدت سُمّيته في بدنه حتى عادت أشدّ من سُمّ الميتة فأبيح له إذا ذاك أكلها لعدم الضرر لأكلها بل يحصل له بها قوى ومنافع في إبقاء رمقه رحمة من الله تعالى بعبيده
1 أي بعد ثلاثة أيام بلياليها مع الجوع الشديد وعدم وجود ما يؤكل سواها

وفيه دليل على أنه إذا اجتمع ضرران أخذ أخفّهما يؤخذ ذلك من أنه لما كانت لحوم الحمر تكسب البلادة ولحوم الخيل تُكسب القساوة كما ذكرنا في الحديث قبل رخص في لحم الخيل
التي هي أقل ضرراً

وفي قوله يوم خيبر وجهان الواحد أنه دال على تثبته في النقل لأن ذكر الموطنين اللذين جرت بهما النازلة دال على حقيقة العلم بما أخبر به والوجه الآخر وهو كون القضية موطن مشهور بجمع كبير قد يرويه غيره فيحصل فيه تصديق له والتواتر في الحديث يزيده قوة

لأنه ينقله من كونه خبر احاد إلى التواتر وهو أعلى درجة

في
وينبغي من جهة الفقه أن يُعَدّى الحكم فحيثما قدر المرء أن يزيد إخباره على ما أخبر به قرينة حال تصدق مقالته في ذلك فعل وفيما ذكرناه دليل على لطف الله تعالى بعبيده فيما أحل لهم وفيما حرم عليهم
وفيه دليل على أنه عزّ وجلّ لا يحل ولا يحرم إلا عن حكمة وفائدة لنا عَقَلها مَن عَقَلها
وجَهلها مَن جَهلها
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن جميع خلقه وعن تعبداتهم إذ كل ذلك عائد بالنفع عليهم وهو الغني المستغني ولذلك تنعم أهل العقول والمعاملات بكل حكم يصدر عن الله تعالى لعلمهم بأن ذلك رحمة منه عزّ وجلّ إليهم لم يشكوا في ذلك فرجع لهم بقوة يقينهم التنعم بالنعماء والبلاء على حد سواء
وكذلك روي عن بعضهم أنه قال لا أبالي على أي حالة أصبحت وأمسيت إنما هي حالة شكر أو صبر وكلاهما رحمة من الله تعالى هؤلاء فهموا قوله عزّ وجلّ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لقوم يُوقِنُونَ ۳ وقول رسول الله لا والله ما يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيراً له ٤ فمن عرف عف و استراح ومن جهل تكالب وما نجح ومن طلب العز بالجهل وقع الهوان به وما عزّ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ يقصد بالموطنين المدينة وخيبر كما ذكر ذلك في الحديث ۱۵ وفي هذا الحديث المتواتر هو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أول الإسناد إلى اخره والاحاد عكس المتواتر نقله واحد عن واحد والعلماء يفرقون في وجوب العمل أو عدم وجوبه بين المتواتر وخبر الاحاد ۳ سورة المائدة من الآية ٥٠ ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه بلفظ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر وكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له
۱۱۸

حديث النهي عن أكل لحوم كل ذي ناب من السباع
عَن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيّ ١ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَكل كُلِّ ذي ناب
مِنَ السَّباع
*
ظاهر الحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي تحريم أو نهي كراهية
اختلف العلماء في ذلك فمذهب الشافعي رضي الله عنه ومن تبعه أنه نهي تحريم ومذهب مالك رحمه الله ومن تبعه أنه نهي كراهية
وهل نهيه لعلة أو تعبد الظاهر أنه لعلة لأنه لو كان تعبداً لم يكن العلماء ليختلفوا فيه

وبقي البحث في العلة فنقول والله أعلم لكونها تأكل الجيف فإنها إذا افترست فالذي تفترسه جيفة لأنه غير مذكَّى فيكون شأنها مثل البقر والإبل الجلالة التي تأكل العَذِرَةَ وقد اختلف العلماء أيضاً في أكل لحمها والحالة هذه فكرهه مالك ومن تبعه وأما رجيعها ۳ فهو نجس على المعروف وكذلك رجيع الطير المفترس نجس بلا خلاف ذكر فيه وهنا علة صوفية وهي لعزة نفسه وضرره ذلّ حتى لم يصلح أن يكون قوتاً للمؤمنين ويترتب عليه من طريق النظر من أعزّ نفسه فذلك ذل لها ومن ذلها ۳ فقد أعزها ومما يقوي هذا البحث ما جاء عنه ما من أحد من بني آدم إلا برأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع رفع
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٠٢١٤ الرَّجيع هو الجِرّة التي تجترها الإبل والغنم والبقر - وهي حيوانات مجترة - أي تخرجها من معدتها إلى فمها وهذا هو الاجترار كما أن للرجيع معنى آخر وهو الروث وليس مراداً هنا
۳ كذا يريد أذلها
۱۱۹

الملك رأسه بتلك الحَكَمة وقال له ارتفع رَفَعك الله وإن ارتفع ضرب الملك رأسه بتلك الحَكمة وقال له اتَّضِع وضَعَك الله ۱ أو كما قال عليه السلام فعلى هذا الوجه ظاهر الحكمة في جميع الحيوانات طلب التواضع بينهم وعدم ضرر بعضهم لبعض وهم داخلون تحت عموم قوله تعالى أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَى و ٢

وفيه إشارة لمن فهم لعلّه يتصف بصفة من صفات أهل الخير لأن يدخل في طريقهم
ويكتب معهم يؤخذ ذلك من عموم قوله عليه السلام كل ذي ناب من السباع فيدخل تحت ذلك الأسد والهرة والفأرة وما بينهما ومنهم ٣ القوي والضعيف

فكذلك أنت اجعل في نفسك شبهاً ما بالمُوَفِّقين لعل تلك البركة تشملك معهم مثل ما إذا نودي بإحضار التجار جيء بأصحاب الآلاف وجيء بصاحب الدينار الواحد فإن لم تكن من أصحاب الآلاف فكن صاحب الدينار الواحد لعل الواحد بفضله إذا خلع عليهم خلع القرب والرضا يخلع عليك معهم واحذر أن تتشبه بصفة من صفات أهل الشر فتكتب معهم فيلحقك وبالهم وقد جاء من تشبه بقوم فهو منهم 4 فكيف من عمل ببعض أعمالهم وقد قال تشبه بالقوم فإن التشبه بالكرام فلاح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحَكَمَة الأداة أو السلسلة التي ترتبط بالرأس ليُشدّ بها بإحكام والحديث رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما من ادمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع قيل للملك ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حَكَمَتَه
سورة الأنعام من الآية ۳۸
۳ كذا بضمير جماعة العقلاء
٤ رواه أبو داود عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن حذيفة رضي الله عنهم
۱۰

حديث جواز الانتفاع بجلود الميتة
الله عَنهُما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّئَةٍ فَقالَ
عَن عبدِ الله بنِ عَبَّاسِ عَبَّاسٍ رَضي اسْتَمَعْتُم بإهابها قالُوا إنَّها مَيِّئَة فَقالَ إِنَّما حَرُمَ أَكلُها
ظاهر الحديث يدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة والكلام عليه من وجوه
منها في كيفية الانتفاع به هل ذلك عام في جميع وجوه الانتفاع أو انتفاع خاص فالعموم في الانتفاع من كل الوجوه ممنوع لأن من جملة الانتفاع بيعه وأكل ثمنه ولم يجيزوه ومنها الصلاة عليه وفيه ولم يجيزوه ومنها جعل الطعام فيه ولم يجيزوه لأنه يعود فعله لأكل الميتة فإن الطعام إذا جعل فيه تنجس به وإنما يكون انتفاعاً خاصاً من حيث لا تلحق منه نجاسة في شيء من الأشياء ولا مخالطة في طعام بوجه من الوجوه
وفيه دليل على تحريم أكل الميتة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم أكلها وفيه دليل على أن ألفاظ العموم إذا ورد الأمر بها تحمل على عمومها ولا تخصص إلا بمخصص من الشارع عليه السلام يؤخذ ذلك من أنه لما أن حرمت علينا الميتة فماتت تلك الشاة التي راها سيدنا استعمل أصحابها عموم الأمر بالعموم فرموها بإهابها وصوفها وكل أجزائها فخصص عموم الأمر بقوله عليه السلام إنما حرم أكلها
أكلها
وفيه دليل على أن عموم القرآن يخصص بالسنة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم
وفيه دليل على جواز مراجعة الآمر إذا أمر ولم يفهم السامع ما قصد بالأمر وبقي عليه في

بعضه التباس يؤخذ ذلك من قولهم بعدما قال لهم الله هلا انتفعتم بإها بها إنها ميتة كأنهم
۱ كذا ورواية الحديث اسْتَمْتَعْتُم بدون هلا

يقولون يا رسول الله تأمرنا بالانتفاع بإهابها وقد حرمتها علينا بأمر الله لك وهذه الشاة ميتة فكيف يكون ذلك
وفيما ذكرنا من معنى مراجعتهم دليل على حسن اختصارهم في الخطاب وبلاغتهم في
المعنى يؤخذ ذلك من كونهم جمعوا تلك الألفاظ فكلها في متضمن قولهم إنها ميتة وفيه دليل على أن الصفقة إذا خالطها حلال وحرام فإن كل واحد منهما يعطى حكمه لأن العلماء اختلفوا في صفقة إذا اختلط فيها حلال وحرام فمنهم من قال إنها كلها حرام ومنهم من قال إنها كلها حلال ومنهم من قال إن قدر ما فيها من الحرام حرام وقدر ما فيها من حلال حلال لأن الخلطة لا تنقل حكماً من الأحكام إلا في الخليطين في الماشية على خلاف أيضاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هلا انتفعتم ۱ بإهابها وقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فجعل للحم حكماً وهو التحريم وللجلد حكماً وهو التحليل والشاة واحدة
وفيه دليل على أن الأحكام الشرعية لا يكون تقريرها إلا بعد نفي كل المحتملات يؤخذ ذلك من جوابهم الرسول الله بعد رؤيته الشاة الميتة ولا يخفى حالها على أحد أنها ميتة فكيف على من كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه لكن من أجل استقرار الحكم بطريق الاحتمال أن يكون قوله عليه السلام هلا انتفعتم بإهابها من طريق الاستفهام لهم كيف معرفتهم بحكم الله تعالى في الميتة جاوبوه بقولهم إنها ميتة لينظروا ما قصده بتلك
المخاطبة
وفيه دليل على أن من النبل أن يكون جواب المرء عما سئل عنه على قدر ما يعلم فيه لا يتعانى خلاف ذلك بزيادة أو نقص يؤخذ ذلك من جوابهم لسيدنا و بما سبق لهم من العلم في أمر الميتة لا غير
وهنا بحث وهو أن يقال هل أمره و ب الانتفاع بإهابها يطهره أو هو باق على نجاسته لفظ الحديث لا يفهم منه شيء من هذا لكن من حديث غيره يفهم أنه باق على نجاسته وهو قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر فإذا لم يدبغ فهو باق على نجاسته
وبحث ثان وهو أن يقال هل لنا أن نعدي الحكم بالانتفاع بغير ذلك من أجزائها لقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فيما عدا الأكل أم لا
۱ كذا
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما

1 20

فالجواب على البحث هل يجوز لنا الانتفاع بباقي أجزائها مثل الإهاب أم لا فأمره له
بالانتفاع بإهابها لا يتعدى الانتفاع من أجل ذلك إلى غيره من أجزائها لأحد وجهين الأول منهما لأن الحظر والإباحة والتحريم والتحليل لا يكون إلا على نحو ما نص عليه لا يتعدى ذلك بالقياس إلا في المواضع التي لا لا لا لا لا لا هو الحكم بعلة نصاً منه عليه السلام أو مشاراً إليها على نحو ما تكلم الفقهاء في أنواع العلة الشرعية وتعداد أنواعها على ما هو مذكور في كتبهم وما لا يفهم له علة فيقتصر الحكم فيه على ما نطق و الله به في مثل هذا الموضع وما
أشبهه
والوجه الآخر لأن هذا المنه الا الله الرخصة لأمته والرخص لا يقاس عليها ولا يتعدى محلها ونص بعض الفقهاء أنه إذا كان للمرء ميتة وله علج أو كلب لصيد أو ما يجوز اقتناؤه أنه لا يعطيه الميتة ولا يأمر العلج بأكلها فإن ذلك من جملة أنواع الانتفاع بها وإنما يمرر العلج أو الكلب على موضع الجيفة فإن هما تصرَّفا فيها من تلقاء أنفسهما فلا بأس وإلا فلا يرشدهما إلى ذلك ولا يأمرهما به
وأما الجواب على البحث الذي معنا هل نقيس على الإهاب غيره من أنواع النجاسات أم لا فالجواب عليه كالجواب على البحث قبل وأيضاً فلا قائل بذلك من الفقهاء وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث الأمر بطرح الطعام المتنجس
عَن مَيمونة ١ رَضي الله عنها أنَّ فارَةً وَقَعت في سَمْنٍ فَمَاتَت فَسُئِل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنها فَقالَ أَلقُوها وَما حَولَها وَكُلُوهُ
**
ظاهر الحديث يدل على تنجيس الموضع الذي ماتت فيه الفأرة من السمن وطرحه معها والكلام عليه من وجوه

منها أن يقال هل يتعدى الحكم في كل الأطعمة وفي كل الميتات من جميع الحيوان وكذلك ما عداهم من جميع النجاسات وهل يكون حكم الجامد من الطعام كحكم المائع وهل يكون طول مقام الشيء النجس من جيفة أو غيرها في الطعام الذي وقعت فيه بالسواء من قرب الزمان في ذلك أو بعده وهل يجوز الانتفاع به فيما دون الأكل وهل يمكن تطهير ما وقعت فيه من طعام أم لا
أما قولنا هل يتعدى الحكم إلى جميع الطعام ما عدا السمن أم لا فقد عَدَّى ذلك الفقهاء لوجود العلة وهي تنجيس موضع حلول الميتة ولا فرق أن يكون سمناً أو غيره إذا كان طعاماً جامدا فإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون ماء أو غيره فإن كان ماءً فلا يخلو أن يكون جارياً أو راكداً وتفصيل هذا في كتب الفروع وأما إن كان طعاماً مائعاً فهو نجس
وأما قولنا هل ذلك في كل الميتات في أي نوع كانت من الحيوانات فالجواب أنه لا فرق بين موت الفأرة في ذلك أو غيرها من جميع الحيوان الذي له نفس سائلة ولايؤكل إلا بذكاة لوجود العلة فيه وهي كونه جيفة وأما ما عدا الميتة من أي نوع كانت - كما ذكرنا قبل من أنواع
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ۱۹۸
٢ كذا بضمير جماعة العقلاء
١٢٢٤

النجاسات - فلا فرق بينها وبين الميتة إذا كانت جامدة باردة في جميع أحكامها فإن كانت سائلة باردة أو حارة فتنويع الحكم فيها في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل حكم الجامد من الطعام الذي وقعت فيه الميتة كحكم المائع فالجواب أنه ليس حكم الجامد كالمائع فإن المائع من حين وقوع الميتة فيه أو الشيء النجس يتنجس جميعه فيطرح جميعه ما عدا الماء فيه تقسيم كما هو في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل طول مكث الميتة سواء مع قربه أو بعده فقد اختلف العلماء في ذلك وليس في الحديث من أين يستدل عليه بل هي نظرية فمن العلماء من جعل الحكم واحداً ومنهم من قال إذا طال مكثها في الطعام طرح جميعه ومنهم من فرق في ذلك بحسب الأزمنة فإن كان زمان الحر طرحت وجميع الطعام وإن كان زمان البرد طرحت وما حولها ومنهم من فرّق بين كبر الإناء الذي وقعت فيه من صغره وفي طول الزمان الذي يطلق عليه هذا الحكم مع صغر الدابة وكبرها وذلك كله مستوعب في كتب الفقه وهذا البحث في الطعام الجامد وأما المائع فكما تقدم الكلام فيه وحكم النجاسة كما ذكرنا في الميتة سواء
وأما قولنا هل يجوز الانتفاع بالشيء الذي وقعت فيه الميتة أو الشيء النجس من الطعام فظاهر الحديث محتمل لكن الأظهر عدم الانتفاع - والله أعلم - وفي ذلك بين العلماء خلاف وهذه
أيضاً نظرية
وأما قولنا هل يصح تطهير ما وقعت فيه الميتة من الطعام فالجواب أنه لا يخلو أن يكون دهناً أو غيره فإن كان دهناً ففي تطهيره بين العلماء خلاف وهي مسألة نظرية أيضاً وما عدا الدهن من الطعام الجامد فلا يخلو أن يكون مطبوخاً أو مملحاً أو على غير هذين النوعين فللعلماء فيه ثلاثة أقوال بتطهيره وعدمه
والثالث هو أن يكون قد استوى في توفية طبخه ونضجه في الملح ولم يقبل زيادة في ذلك فإن كان استوى فإنه يغسل ويؤكل فإنما تنجس ظاهره ولم تدخل النجاسة باطنه وإن كان لم يستو نضجه فلا يتطهر ويطرح فإن النجاسة دخلت باطنه لأنه يجذب من الخارج إلى الباطن والذين قالوا بغسله وتطهيره يقولون إنه يغسل أولاً بماء حار ثم ثانية ببارد ثم ثالثة بحار ثم ببارد فإن كان على غير هذه الصفة فلا يطهر وأما ما عدا هذين النوعين فكما هو مذكور في كتب الفقه وفيه دليل على ألا يتصرف إلا بعلم يؤخذ ذلك من كونهم لم يتصرفوا في السمن ولا في نزع الفأرة منه إلا بعدما سألوا رسول الله الله وهو عليه السلام الأصل وقد اختلف العلماء فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أو مأثوماً على ثلاثة أقوال وقد ذكرناها في أول الكتاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٢٥

حديث بيان وقت ذبح الأضحية
عَنِ البراء ۱ بن عازب رضي الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بِهِ في يَومِنا هَذا أن نُصلّي ثُمَّ نَرجِعَ فَتَنحرَ مَن فَعلَهُ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا وَمَن ذَبَح قَبلُ فإنَّما هُوَ لَحم قَدَّمَهُ لأهله لَيسَ مِنَ النُّسُكِ في شيءٍ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة في يوم الأضحى تقديم الصلاة قبل الذبح ومن ذبح قبل الصلاة فإنه لحم ليس بنسك والكلام عليه من وجوه
منها التأكيد في صلاة العيد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي فجعلها عليه السلام مفتاح الأعمال في ذلك اليوم وهل هي فرض أو سنة قولان للعلماء في ذلك
ومنها التأكيد في شأن الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعد ما قال نصلي ثم نرجع فنتحر ثم زادها عليه السلام تأكيداً بقوله من فعله فقد أصاب سنتنا وقد اختلف العلماء هل هي فرض أو سنة على قولين والذي قال منهم بأنها سنة هي عنده من اكد السنن ويزيد ذلك تأكيداً قوله عليه السلام في حديث غيره ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أعظم من إراقة
دم
وفيه دليل على أن النية وإن كانت حسنة والعمل الذي يعمل بها لا يصحان إلا إذا كانا
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦٦ و ۹
رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ما عمل ادمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً
١٢٢٦

موافقين للسان العلم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد ۱ وقوله عليه السلام إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل يا رسول الله وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة فتخليصه من الرياء أن يكون لله خالصاً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ ۳ وتخليصه من البدعة أن يكون على نحو ما أمر به لقوله تعالى قل إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤
وفيه دليل على أن اتباع الصحابة رضي الله عنهم هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام لم يترك لهم شيئاً من الأعمال إلا بيَّنَهُ لهم وحملهم فيه على سنته الواضحة مثل هذا الحديث وما يشبهه
ومما يؤيد هذا قوله أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ٥ وقد قال العلماء رضي الله عنهم مثل يمن بن رزق وغيره وأنا أوصيك باتباع السنة في عملك واكد من ذلك اتباع السلف فإنهم أعرف بالسنة منا وقد قال مالك رضي الله عنه إذا كان حديثان ووجدنا الخلفاء أو الصحابة عملوا بأحدهما دل على أن الآخر منسوخ وإن لم يعرف النسخ وإذا كان للحديث معنيان وعملوا بأحدهما دل على أن ذلك هو الحكم في ذلك الحديث وأنه الظاهر من ذينك الوجهين 4 وفيه دليل على جواز أكل اللحم في يوم العيد ما عدا لحم الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإنما هو لحم قدّمه لأهله فأجازه عليه السلام ولم يمنعه
وفيه دليل على أن نفس الأضحية عبادة يؤخذ ذلك من تسميتها نسكاً بقوله عليه السلام ليس من النسك في شيء في الذي ذبح قبل الصلاة فدل على أن الذي ذبح بعد الصلاة هو نسك والنسك هو ما يتعبد به
وفيه دليل على أن مخالف السنة في تعبده لا يكون له فيه من الأجر شيء وقد جاء أن النفقة
۱ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى روى البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي الله قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وفي رواية لابن النجار عن عائشة أن يحكمه
۳ سورة البينة الآية ٥ ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
٥ رواه البزار وابن عدي وابن عبد البر في كتاب بيان العلم والدارقطني في غرائب مالك وقال اللكنوي في تحفة الأخبار طرق روايته ضعيفة ولا يلزم وصفها بكونه موضوعاً مما لا دليل عليه نعم يرتقي إلى درجة الحسن
بأسانيده المتنوعة

على العيال مما يؤجر عليها وهي من جميع ما يُتنسَّك به أي يتعبد به وقد قال إذا أنفق الرجل على عياله يحتسبها فإنها صدقة ۱ وفي هذا الموطن لمنع و أن يكون في هذه الشاة التي ذبحت قبل الصلاة نسبة من التعبد بالكلية
فإن اعترض معترض وقال إنما على الله الله هنا بقوله ليس من النسك في شيء فإنما عنى
بذلك الأضحية وبقي الأجر في النفقة على ما هو عليه فالجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه ولو أرادة و ذلك لكان يقول ليس من الأضحية في شيء لأنه أخص الأسماء بها فإن هذا الاسم لا يشرك به مع غيرها ولفظه النسك يدخل في متضمن الأضحية وغيرها من وجوه القرب المتعبد بها فرضاً كانت أو ندباً وهو لا لا اله الذي أعطي الحِكَمَ وجَمْعَ الكلام فكيف يترك ما هو نص ويأخذ ما هو محتمل إلا بحكمة أخرى وهي ما أشرنا إليه
والوجه الآخر أن إطعامه اليوم عياله هذا اللحم على مخالفه السنة وقد تقدم قولنا إن العمل إذا خالف السنة لا يقبل
ولوجه ثالث فإن معنى الحديث جاء على معنى التأكيد على اتباع السنة في هذا اليوم وبيان الكيفية في ذلك فمخالفه لا يكون له من الأجر شيء
وفيه دليل على جواز تأخير الذبح في يوم النحر عن وقت الصلاة يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع لأنه عليه السلام أتى بـثم التي تقتضي المهلة
وفيه دليل على استغناء المولى سبحانه عن عبادة العابدين ويؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ شرع بمقتضى هذا الحديث ذبح الأضحية وهي مما للنفس فيها شهوة وراحة لأنك تأكل وتدخر وأنت في الصدقة منها بالخيار إن تصدقت أجرت أجراً آخر وإن لم تتصدق لم تأثم وثبت لك أجر الأضحية بنفس الذبح والأكل زيادة راحة لك
وفيه دليل على عظيم لطفه عزّ وجلّ بعبيده ورحمته لهم يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ أمرهم بذبح الأضحية كما تقدم الكلام فيه وجعلها في هذا اليوم من أعظم القرب إليه ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام فإن دماءها وشعرها وقرونها وأظلافها وبولها ورجيعها في ميزان حسناتكم يوم القيامة وقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وفيه دليل عظيم على ما أعطي الله من حسن البلاغة يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام في
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه

الحديث الواحد والحكم الواحد بين النحر والذبح لأنه لو ذكر هو أحد الوجهين إما النحر وإما الذبح لكان دليلا على ترجيحه على الآخر فلما ذكرهما معاً على جوازهما بحسن عبارة واختصار صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله ومنه وكرمه آمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۹

مَكَّةَ وَهِيَ
حديث جواز تأخير الطواف في الحج لعذر
عَن عائشةَ رَضِيَ الله عَنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَليها وَحَاضَت بِسَرِفَ ۱ قَبلَ أَن تَدخُلَ وَهِيَ تَبكي فَقال ما لكِ أنَفِست قالت نَعَم قالَ إِنَّ هذا أمر كَتَبَهُ الله على بناتِ آدم فاقضي ما يقضي الحاج غَيرَ أن لا تطوفي بالبَيتِ فَلمَّا كُنَّا بِمنى أُتيتُ بِلَحمِ فَقُلتُ ما هذا قالوا ضَحَّى رَسُولُ الله عَن أزواجه بالبقرِ
بقر
ظاهر الحديث يدل على أن الحائض تفعل جميع أفعال الحج كلها إلا الطواف بالبيت فإنها لا تفعله إلا بعد أن تطهر والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً على أن الطهارة في أركان الحج كلها كبرى كانت أو صغرى ليست بفرض إلا الطواف بالبيت فلا يجوز إلا بطهارة وهي واجبة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا كانت بالحَدَث الأكبر تفعله فمن باب أحرى بغيره
وفيه دليل على فضل هذه السيدة يؤخذ ذلك من بكائها خيفة أن يفوتها الحج وذلك بعذر رباني لا كسب لها فيه فلولا ما كان همها كله في الدين ما كانت تبكي على هذا وهي فيه عند الله معذورة وكذلك كان شأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما كانت همتهم إلا في حسن دينهم وكذلك شأن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ولذلك قال لا لا طوبى لمن جعل همه هماً واحداً ۳ أو كما قال عليه السلام وهو هَمّ الدِّين
۱ سَرِف مكان قريب من مكة المكرمة على بعد عدة كيلومترات ويقع في طريق الذاهب إلى المدينة المنورة نَفَست المرأة ولدت أو حاضَت ۳ رواه الحاكم والبيهقي وصححه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ من جعل الهم همّاً واحداً كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك

وفيه دليل على أن يحكم على الشخص بما يعلم من حاله يؤخذ ذلك من كون سيدنا لما يعلم من دين هذه السيدة لما راها تبكي علم أنه من أجل الدين ولا شيء في الوقت يمكن أن يُبكيها إلا النفاس فاستفسرها على ما ظنه منها بقوله عليه السلام لعلك نَفِسْتِ ۱
وفيه دليل على أن حال الشخص وإن علم ما هو فلا يحكم عليه بالقطع وفيما يظن به حتى يستفسر عن ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملك نفستِ بعدما ظن ذلك لما يعلم
منها
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن المنتهي في السلوك يكون حاله مع مولاه مثل الصبي مع أمه كل شيء را به بكى عليها لا يعرف غيرها وذلك دأبه معها يؤخذ ذلك من أنها لما جاءها ما أهمها من أمرها بكت على مولاها ولم تذكر من ذلك للنبي شيئاً حتى سألها وفيه دليل على بركتها وبركة بيتها كما قال أسيد بن الحضير ۳ عند نزول اية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل بكم شيء إلا جعل الله فيه للمسلمين فَرَجاً ومخرجاً أو كما قال فلما أهمها ما جاءها جعل الله فيه للمسلمين فرَجاً بأن سن ا للمسلمين أن المرأة إذا حاضت لا
يتعذر عليها من أفعال حجها شيء إلا الطواف بالبيت ثم لا يفوتها لأنها إذا طهرت فعلته بعد
وفيه دليل لأهل الصوفة لأنهم يقولون من بكى صادقاً شفعت فيه دموعه يؤخذ ذلك مما جاءها إثر بكائها من الفرج لها وللمؤمنين مما تقرر في حكم الحائض في هذا الحديث وقد قال بعض أهل الطريق في هذا المعنى
بالباب يبكون والبكاء إذا كان خَلِيّاً من النفاق
نفع
تَشفَع فيهم دموعُهم وإذا شُفع دمعُ المتيمين شَفَع
فبينما هم حيارى من اليأس والطمع سكارى من شراب الخوف والجزع إذ بزغ لهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع وألبسوا من ملابس الأنس والبسط خلع رَقمُ العَلَمِ الأيمنِ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى ۳ ورَقمِ العَلَمِ الأيسر لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ ٤ وفيه دليل على تصبّر المصاب بحرمان القدر يؤخذ ذلك من القول له له له لها هذا أمر كتبه الله على بنات آدم تعزية لها لما أصابها من الحزن على ما توقعت فواته من أمر حجها
1 كذا والرواية انفست تقدمت ترجمته في الحديث ۱۱۹ ۳ سورة الأنبياء من الاية ۱۰۱ ٤ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۳
۱۳۱

وفيه دليل على جواز الأضحية عن أهل الرجل يؤخذ ذلك من قولهم ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر
وفيه دليل على جواز الأضحية بالبقر وإن كان غيرها أفضل منها في الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي ضحى بها عن أزواجه صلوات الله عليه ورضي عنهن وفي قولها حين أُتِيَ لها باللحلم ما هذا أن السنة ألا يأخذ أحد شيئاً ولا يأكله حتى يسأل عنه فظاهر هذا الحديث يدل على جواز الأضحية بمنى وليس الأمر على ظاهره بل هو محمول عند العلماء على الهدي وإنما ذكر الراوي الأضحية لكونها نسكاً لأنه ليس بمنى أضحية وإنما سنتهم الهدي وسنة غيرهم الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي الله وضحى هناك عن أزواجه
بالبقر
وهنا بحث كيف ضحى رسول الله له بالبقر وهناك أفضل فعلى مذهب مالك رحمه الله ومن تبعه الضأن أفضل وعلى مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه الإبل أفضل فترك الأفضل من الوجهين معاً والجواب - والله أعلم - أنه ضحى بالبقر عنهنّ صلوات الله عليهم أجمعين لوجوه منها
أن يكن هنَّ أنفسهن قد أهدين عن أنفسهن فيكون ذلك خيراً لهنَّ لكونه قد أهدى عن نفسه المكرمة في تلك الحجة بمائة من الإبل فكثر لهن خير الآخرة كما كثر لنفسه المكرمة واحتمل أن يكون لا اله الا انه فعل ذلك عمّن مات منهنّ قبل الحج
واحتمل أن يكون الا الله و أراد تقرير الحكم بأن الأضحية بالبقر جائزة وأن غيرها في الأضحية أفضل وبين ذلك بفعله لأنه أثبت في الحكم ولذلك لم يفعله عن نفسه المكرمة من أجل أن يكون دليلاً على الأفضلية لأنه كان و لا الهلال في خاصة نفسه المكرمة لا يفعل إلا الأفضل
واحتمل أن يكون قصد بذلك التوسعة على أمته من أجل أن يكون من ليس له إلا البقر فإذا ضحى بها فقد وافق السنة وقد يكون جاهلاً فيضحي بمنى لا يعلم أن سنتهم الهَدْي وهو الغالب اليوم على الناس فيكون قد وافق السنة واحتمل مجموع ما تأولناه والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث وصيته له لأمته
عَن أبي بكرة رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِن الزَّمانَ قَدِ استدارَ كَهِيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهراً مِنها أربعَةٌ حُرُم ثَلاثٌ مُتواليات ذو القعدة وذو الحِجَّة وَالمُحَرَّم وَرجبُ مُضَرَ الَّذي بينَ جُمادى وَشَعبان أَيُّ شَهرٍ هَذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أَعلَمُ فَسكتَ حَتَّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغيرِ اسمِهِ قالَ أَلَيسَ ذَا الحِجَّة قلنا بلى قالَ أي بلد هذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَت حَتّى ظَنَنا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ أيُّ اسمِهِ قَالَ أَلَيسَ البَلْدَةَ قُلنا بلى قالَ فأَيُّ يَوم هَذا قلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَتَ حَتّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغير اسمِهِ قالَ أليس يوم النحر قلنا بلى
قال فإنَّ دماءَكُم وأموالكم - قال محمد ۳ وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يَضرِب بعضُكم رقابَ بعض ألا لِيُبلّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبلُغُهُ أن يكون أوعى له من بعض مَن سَمِعه ثم قال ألا هل بلغتُ
مرتين

ظاهر الحديث يدل على تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض
والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه - أعني التحريم - أم لا فأما أن يكون على العموم من لا
كل الجهات فلا بدليل الكتاب والسنة
1 أبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث تقدمت ترجمته في الحديث ٤٥
هو محمد بن سيرين أحد رجال سند هذا الحديث كما ذكر ابن حجر في فتح الباري ۷۱۱/۷
۱۳۳

أما الكتاب فقوله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِم ﴾ ١ فلا يذكر أحد من المسلمين أخاه المسلم بسوء إلا من ظلم ظلامة فله أن يذكر السوء الذي فُعِل معه لكن بقدر ما عدا عليه فإنه إن زاد على ذلك عاد ظالماً ثانياً والله عزّ وجلّ يقول ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ وأما السنة فقد قال له لا غيبة في فاسق ۳ ولها شروط منها أن يكون متظاهراً بفسقه أن يشهر عنه فلا غيبة فيه إذ ذاك ومن العلماء من قال إنما يكون ذلك أن تذكر حال فسقه عند من يقدر أن يغيّره عليه أو تستعين عليه في ذلك أو تحذره منه فأما إن كان لغير هذه الوجوه فممنوع وتأولوا الحديث بأن قالوا معناه ولا تغتب فاسقاً
يحب
وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ٤ فإذا أخذ واحد منها بحقه فلا يتناوله التحريم وقد قال لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ٥ فإن كان عن طيب نفس منه فلا يتناوله التحريم والآي والأحاديث في هذا كثيرة فما بقي أن يكون التحريم إلا خاصاً فهو إذا لم يكن عليه حق من وجه من الوجوه
يا هذا قد ثَبَتَتْ لك حُرمَة فإن أفقت زادت لك الحرمة حرمة أخرى وهي قوله عزّ وجلّ من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة وأنا أسرع إلى نصر عبدي المؤمن ٦ وزادها تأكيداً بقوله

تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ۷ فإن أَتْبَعتَ النفس هواها أذهبتَ ما لَكَ من الحرمة وعاد مكانها محنة أعاذنا الله من ذلك بمنه وقد ورد رُبَّ مُكرِم لنفسه وهو لها مُهين ومُهينٍ النفسه وهو لها مكرم وقد جاء عن النبي لا لا لا لا لا أنه كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار من شدة الجوع والمجاهدة ثم يقول ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ۸
1 سورة النساء من الآية ١٤٨
سورة البقرة من الآية ١٩٤
۳ لا أصل له بهذا اللفظ قاله في المقاصد عن العقيلي
٤ متواتر عن أنس وأبي هريرة وغيرهما
٥ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن يثربي بلفظ لا يحل لامرىء من مال أخيه شيء إلا بطيب
نفس منه
٦ رواه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ۱۰/۸ و ٤٧٧ و ٤٤٠/٩ وابن الجوزي في العلل المتناهية وابن عدي في الكامل في الضعفاء ۵/ ۱۹۳۹ والألباني في السلسلة الصحيحة ١٦٤٠ بلفظ بارزني بدلاً من اذنني ۷ سورة الروم من الآية ٤٧
^
قطعة
من
حديث رواه ابن سعد في الطبقات والبيهقي في الشعب عن أبي البجير ومطلعه أصاب يوماً النبي صلى الله عليه وسلم
١٢٣٤

وفيه دليل على أن تسمية الشهور وعددها هو بمقتضى الحكم الرباني لا عرفي ولا لغوي يؤخذ ذلك من قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض إلى قوله وشعبان
و معنى قوله قد استدار أي استقر الأمر فيه ورجع مثل ما كان يوم خلق السموات والأرض لأن العرب كانوا يحجون في كل عام شهراً ثم ينقلونه إلى شهر ثان ففرض الحج وكان الحج في تلك السنة على ما ذكرنا من عادتهم في ذي القعدة فأقام الحج بالناس في تلك السنة أبو بكر رضي الله عنه بأمر النبي الا الله فلما كان في سنة عشرة من الهجرة - وهي التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - دار الحج على عادتهم إلى ذي الحجة وهو الشهر الذي جعل الله فيه الحج يوم خلق السماوات والأرض وفيه حَجّ إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام فلذلك قال عليه السلام قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أي على وضعه الذي اقتضته الحكمة الربانية عند خلق السماوات والأرض
وفيه دليل على أن دوران الأشهر يسمى زماناً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الزمان قد استدار وهي الأشهر كما ذكرنا وقوله عليه السلام حُرُم أي جعل لها حرمة ليست لغيرها وفائدة الإخبار لنا بتلك الحرمة أن نحترمها بتعميرها بالطاعات وترك المخالفات يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَح

وهنا بحث وهو أن يقال ما الحكمة في أن جعلت على هذا الوضع مفرقة تفريقاً مختلفاً في الموضع وجعلت في آخر السنة أكثر من أول السنة هل هذان البحثان تعبّد لا يعقل لهما معنى أولهما معنى معقول من جهة الحكمة فإن قلنا تعبد فلا بحث وما ندبنا إلا للبحث والاعتبار وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم في البحث الأول وهو كون رمضان لم يسم بهذه التسمية وفيه من الخير العظيم ما هو فيه بحيث لا يخفى وما جاء فيه من الأجر قد عرف ولو لم يكن فيه إلا قوله من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما بينه وما بين رمضان ۳ وكون أول ليلة منه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين ٤
T

جوع فوضع على بطنه حجراً ثم قال ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة إلخ
۱ سورة التوبة من الآية ٣٦ ٢ أي تسمية الأشهر الحرم
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس في الحديث غفر له ما بينه وبين رمضان ٤ رواه الشيخان بلفظ إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار إلخ وفيه وصفدت
الشياطين
١٢٣٥

وذلك أن الفرق بينهم 1 حرمة رمضان من أجل العمل الخاص به وهو الصوم وحرمة هؤلاء منة من الله تعالى وتفضل بغير شيء يوجب ذلك والله عزّ وجلّ يتفضل على من يشاء من عباده حيواناً كان أو جماداً بسبب أو بغير سبب لحكمة أو غيرها لا يعلمها إلا هو عزّ وجلّ لكن إن اتبعتها بمقتضى أدلة الشرع تجدها رحمة لنا وتفضلاً علينا لأنك تجد كل شيء فضّله المولى سبحانه من الزمان والمكان والقول والجماد أو أي شيء كان من جميع المخلوقات تجد الفائدة في ذلك تعود علينا وهو الغني المستغني ومما يؤكد هذا قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي و الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢

ومنها ما جاء بتضعيف الأجر بنص الشارع عليه السلام في الأعمال التي في الأزمنة المعظمة والأمكنة المحترمة والجمادات المباركة فالنص في كل واحد منها مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يشهد يوم القيامة لمن يستلمه ۳ ومثل صوم يوم عاشوراء يكفر السنة 4 إلى غير ذلك إذا تتبعته تجد الخير كله في ذلك بفضل الله علينا جعلنا الله ممن سعد بذلك في الدارين عنه
وأما الجواب عن البحث الثاني فهو كونه عزّ وجلّ وضعها على هذا الوضع فأما من طريق حكمة النظام فإن الأفخر من الأشياء يُزَيَّن به أولُ النظام ووسطه وآخره فلما نظمت القدرة درَرَ الأشهر في سلك الاجتماع جعلت استفتاح النظام بشهر حرام ووسطه بشهر حرام - وهو رجب ثم ثالثهما في مناظرة الحسن شهر رمضان وفصل بينهما بدرَّة شهر شعبان الذي فيه فهم سيدنا نظم القدرة في الأشهر فزاد وسطها حسناً بترفيع شعبان بكثرة الصوم فيه لقول عائشة رضي عنها ما رأيت رسول الله الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ولا رأيت أكثر صوماً منه في شعبان ٥ حتى أضيف الشهر إليه عليه السلام فقيل شهر نبيكم شعبان فجاءت حرمته
الله
محمدية وسط حرمتين ربانيتين شعبان شهر محمّد عليه السلام ورجب ورمضان شهران ربانیان فحسن النظام واستنار وكذلك كانت سابقة الإرادة فيه ولم يظهر لنا إلا عند بروزها في الوجود وفي ذلك دلالة على علو قدره الا الله لأنه ما نجد شيئاً رفعته القدرة إلا ومن جنسه ما رفعته السنة المحمدية حتى يكون له عليه السلام خصوص في أبرع حال من جميع الترفيعات وختم اخر نظام السنة بشهرين حرامين
1 أي بين رمضان والأشهر الحرم والصواب بينها
سورة الجاثية الآية ١٣
۳ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه الحاكم وصححه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية ٥ رواه الشيخان وللحديث ألفاظ وروايات كثيرة
١٢٣٦

وفي تفضيل آخر السنة بأن كان فيه شهران حرامان وجوه من الحكمة منها أن الختام له أبداً
علم زائد بمقتضى الحكمة الربانية قال تعالى ختَمُهُ مِسْكَ ۱ وقال عليه السلام الأعمال بخواتمها ٢ فإذا حسنت الخاتمة حسن الكل وزاد حسناً على حسن وإن كان الكل حسناً فزيادة حسن الآخر إبلاغ في الحسن وإشارة الترفيعه لما أن كان عليه السلام خاتم الأنبياء - وهو سيدهم - جعل نظام الأشياء على شبه نظام أشخاص الأنبياء عليهم السلام ترتيباً متناسباً حكمة عظيمة أبدع فيما أحكم وأحكم فيما أبدع
وفيه إشارة إلى اللطف منه جلّ جلاله بعباده لأنه من غفل أو كان له عذر في السنة كلها جعل له في اخرها تكثير في عدد ذوي الحرمة لعله يحصل له حرمة فيا الله ما أحسن نظمه سبحانه وأكثر فضله وأتم على من غفل عن نعمته !
وفي قوله أي شهر وأي بلد وأي يوم وجوه من الفقه والأدب والحكمة فمنها أن اجتماع من له حرمة تأكيد في الحرمة وأنه لا تسقط حرمة أحد حرمة غيره يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام بعد ما ۳ بين تأكيد حرمة الدماء وما ذكر معها فدل على تأكيد حرمة اجتماع حرمة الشهر والبلد واليوم فأبقى لكل ذي حرمة حرمته في الزمن الفرد
من
وفيه من الأدب أن السيد إذا سأل أو العالم إذا سأل عما قد علم يُرَدّ الأمر في ذلك إليه لأنه لا يسأل عن ذلك عبثاً وإنما يسأل لحكمة لا يعلمها المسؤول يؤخذ ذلك من قول الصحابة الله عنهم الله ورسوله أعلم وهم عالمون بما سألهم عنه فظهرت بعدُ الحكمةُ التي أجلها سألهم عن ذلك - وهي تأكيد الحرمة - بخلاف ما إذا سأل عن شيء يجهله كثير من الناس فمن النبل إصابة المقصود والإفصاح به مثل قوله أي شيء من الشجر يشبه المؤمن فوقع الناس في شجر البادية قال عبد الله بن عمر فوقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة فقلت بعد ذلك لأبي وقع في نفسي أنها النخلة فقال عمر وَدِدتُ لو قلتها ٤ لأن المقصود من هذا الاختبار جودة الخواطر وحدة القرائح فإذا جاوب بما يصلح في ذلك سرّ به السائل ومن أجل ذلك قال عمر لابنه تلك المقالة لأنه إذا قال ما يعجب رسول الله الا الله النعمة الكبرى وقد يحصل له منه دعوة حسنة فيزداد الخير خيراً
فهي
۱ سورة المطففين من الآية ٦
رواه البخاري عن سهل بن سعد ضمن حديث فيه قصة ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ الله عنها بلفظ إنما الأعمال بالخواتيم
۳ ما زائدة ٤ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
۱۳۷

وفيه من الحكمة أن يمثل ما لا يعرف قدره بما يعرف قدره حتى يحصل للسامع معرفة الفائدة التي قصد أن يفهمها يؤخذ ذلك من أنه لما أراد سيدنا الله أن يخبرهم عن عظيم حرمة الدماء والأموال والأعراض مثل ذلك لهم بجمع حرمة هذه الثلاثة أشياء التي كانوا يعرفون حرمتها وفيه من الفقه أن الأشياء إذا كان الحكم واحداً - وإن كثرت - أن من الفصاحة جمعها بتعدادها وأسمائها ويذكر الحكم مفرداً لأنها - وإن كثرت - كالشيء الواحد يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام تلك المحرمات الثلاث وفي سكوته عليه السلام بعد قولهم الله ورسوله أعلم استدعاء لجلب القلوب لما يلقى إليها بعد ودلالة على الوقار وهو من الشيم المحمودة وفي ذكره عليه السلام هذه المواطن - وهو عليه السلام قد بينها في غير ما حديث - دلالة على عظيم الأجر فيها لمن احترمها وعظم الوزر على فاعل شيء من المحظور فيها
وفيه دليل على وجوب تبليغ العلم ونشره يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ألا ليبلغ الشاهد الغائب ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام طلب العلم فرض على كل مسلم ۱ وقوله عليه السلام إن الله لما أخذ العهد على الجهال أن يتعلموا أخذ العهد على العلماء أن يعلموا أو كما قال عليه السلام وقد قال الله إذا ظهرت الفتن وشتم أصحابي فمن كان عنده علم فكتمه فهو صلى الله عليه وسلم كجاحد ما أنزل الله على محمّد وقال الله تعالى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ ۳ وهذا العلم الذي هو واجب نقله وتعليمه هو علم الكتاب والسنة اللذين هما الثقلان الذي أخبر الصادق بقوله لن تضلوا ما تمسكتم بهما 4 والآي والأحاديث في هذا كثيرة لمن تتبعها وفهمها وفيه دليل على أن الخير في السلف الأول كثير وأنه في الآخر قليل وقد عاد أقل من القليل فإنا لله وإنا إليه راجعون يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه فجعل الرجاء في البعض مِمّن يبلغه في الواعي له وذلك هو الخير
۱ رواه ابن عدي والبيهقي وابن عبد البر وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الديلمي عن معاذ رضي الله عنه بلفظ إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه إن لم يفعل فعليه لعنة الله
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۸۷

قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد والترمذي والطبراني في الصغير ولفظه في المسند إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدًا عليّ الحوض وفي رواية زيد بن أرقم زيادة وهي فانظروا كيف تخلفوني فيهما وفسَّر ابن الأثير في النهاية كلمة الثقلين فقال سمّاها ثقلين لأن الأخد منهما والعمل بهما ثقيل وسمّاهما بذلك إعظاماً لشأنهما ولهذه اللفظة معنى اخر وهو الإنس والجن
۱۳۸

كما جعل عدم الخير الذي هو ترك الوعي في الأقل ممّن سمعه وجعل عليه السلام تفضيل من يوعاه ۱ في الأجر - وإن بَعُدَ - على بعض من سمعه ولم يَوْعَه - هما ولم يَوْعَه ٢ - هم الأقل
بالوعي
وفيه دليل على أنه ليس الفائدة في العلم نفسه وإنما الفائدة في العمل به الذي كَنَى لأن العلماء قالوا معنى أوعى له أي أعمل به ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام
اتقوا العالم الفاسق والعابد الجاهل فإنهما مضلة للمضلين أو كما قال عليه السلام وفي قوله لوله لوله اللهم اشهد مرتين هنا بحث لم جعلها مرتين ولم يجعلها ثلاثاً على عادته في الأمور التي لها بال وما الحكمة في قوله اشهَدُ فإنما جعلها اثنتين ولم يجعلها أكثر فإنه نحا بها منحى الشهادة بأن قطع بحقوق قد تكون بشاهدين فهذه شهادتان
وأما الحكمة في قوله ذلك وهو يعلم أنه شاهد ويعلم بذلك لوجوه منها الفائدة في الإعذار والإنذار ومنها مواقفه حكمة الكتاب العزيز فإن الله عزّ وجلّ يقول فيه ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ ۳ لأن إعلامه عزّ وجلّ بأنه يعلم إنه لرسوله
شهادة له برسالته أو تحقيق لها فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَشْهَد له بالتبليغ كما يَشهَد له بالرسالة وفيه دليل على أن من رفع له قدر فهو في امتثال الأوامر أشد من غيره رداً على بعض الذين يدعون الأحوال ويقولون قد سقطت عنهم الأعمال لأنهم في الحضرة وهذا هذيان وخبال عارض في الدماغ يؤخذ ذلك من توفيته عليه السلام في الإبلاغ والإنذار وهنا إشارة وهي إذا كان هذا السيد لالا لال قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر وطبع على الرحمة والشفقة حتى إنه عليه السلام في المواضع المهولة يُقدِّم حقَّ أمته على نفسه المكرّمة لعظم ما طبع ل عليهم من الرحمة وجاء عليه السلام في هذا الموطن الذي هو موطن الوداع أجمل لهم في الإنذار والتبيين ما قد صرح لهم في جميع مدة صحبته لهم ثم بعد ذلك رجع إلى ٤ النظر فيما به يخلّص نفسه المكرّمة مما كلفه الله تعالى به بقوله عليه السلام ألا هل بلغت لأن معناه أني لم أترك شيئاً مما أمرتني به إلا بلغته مفسراً ومجملاً فما ٥ بالك بالكثير الأثقال منا كيف يشتغل بغيره عن خلاص نفسه لا سيما مع كبر السن وقُربِ الحِمام
1 كذا وفي العبارة اضطراب وكلمة يو عاه يريد يعيه
كذا يريد ولم يَعِهِ
۳ سورة المنافقون من الاية ١
٤ هنا خبر كان

٥ هنا جواب إذا
۱۳۹

وفي هذا دليل على فضل أهل الطريق الذين عملوا في أمر الدنيا على الإغضاء والتجاوز عن الإخوان وفي الدين على الشح عليه والاهتمام حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه شكا له أهله الجوع فقال لهم لأن أموت وأدخل الجنة وأنتم جياع خير عندي من أن أترككم شباعاً وأدخل النار وقال بعضهم على دينك فَشُح كما يشح صاحب الدرهم على در همه
وفي قوله وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إرشاد إلى تحقيق الإيمان والتحضيض على توفية جميع الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك فجمع عليه السلام في إجماله في هذا اللفظ اليسير كل ما جاء به وشرحه في الزمان الطويل فسبحان من أيّده بالفصاحة وحسن اختصار الكلام والإبلاغ في توفية بديع المعاني مع بديع الاختصار وقد قال أهل البلاغة في الكلام إن البليغ يطوّل ليُبين ويختَصِرُ ليُحفَظ وقد أتى لا الهلال في هذين الوجهين بأتم مراد وأحسن مساق ولا يعرف ذلك إلا من عرف سُنّته وتتبَّعَها
وفيه إشارة إلى التخويف والترهيب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فيسألكم عن أعمالكم فإذا كان الحاكم العدل يسأل المقصّر المسكين فأي تهديد أكبر منه لمن عقل وهو عزّ وجلّ يقول في محكم التنزيل ﴿ وَكَفَى بِنَا حَسِبين ۱ وقال تعالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ

ومن أكبر ٣ الدلالة على أن كلامه عليه السلام بتأييد من الله تعالى وإلهام منه وقد قال ذلك جماعة من العلماء في معنى قوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَبِّكَ اللهُ ٤ فقالوا معنى أراه أي ألهمه فهو وحي إلهام فالجميع من عند الله تعالى إما وحي بواسطة الملك وإما وحي
إلهام
يشهد لذلك أنك إذا تأملت كلامه تجده حذو الكتاب العزيز ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ٥ مثل كلامه عليه السلام الذي نبهنا عليه آنفاً كيف هو صيغته صيغة الإخبار وضمنه أكبر التهديد كقول الله جلّ جلاله فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ٦ ظاهره الإباحة وفي ضمنه عظيم التخويف والتهديد
۱ سورة الأنبياء من الآية ٤٧
سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨
۳ المبتدأ الذي يتعلق به الجار والمجرور مفقود
٤ سورة النساء من الآية ۱۰۵
٥ سورة النساء من الاية ۸ ٦ سورة الملك من الاية ١٥
١٢٤٠

يؤخذ ذلك من أنه عزّ وجلّ قال في كتابه العزيز وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۱ وقال عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ إلى غير ذلك من الأحكام الذي بينها عزّ وجلّ لنا كيف نتصرف بها في المشي وغيره بمتضمن قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ۳ أباح عزّ وجلّ لنا المشي في مناكبها بعد التبيين والتعليم حتى لا يبقى لأحد حجة ثم ختم الآية بقوله تعالى وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ٤ فيعرفكم كيف كان مشيكم فيعرفكم كيف كان مشيكم من حسن أو قبيح فإنه أخبرك بقوله تعالى وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ٥ وبقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَولِ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ٦ وبقوله عزّ وجلّ وَقَالَ قَرِيتُهُ هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ ۷ أي كل ما كتبته عليك حاضر فانظر لم نغادر منه شيئاً فحسبك حالك إن عنيت به فالأمر والله عظيم

وقوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضُكم رقاب بعض هنا بحث هل يكون على ظاهره فيكون حسيّاً أو يكون معنوياً أو المجموع احتمل والأظهر - والله أعلم - أنه المجموع فإنه مناسب لوضع الحديث لأنه أجمل ما قد فسّره وبيّنه فهماً بيناً فالمحسوس منه على ظاهره مثل قوله عليه السلام حتى يكون بعضكم يسبي بعضاً وبعضكم يقتل بعضا ۸ وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يعرف المقتول قُتِلَ ولا القاتل قتل ۹ أو كما قال والأحاديث فيه كثيرة متنوعة
وأما في المعنى فمثل قوله عليه السلام قطعتم ظهر الرجل ۱۰ حين مدحوه في وجهه
۱ سورة الإسراء من الاية ٣٧ ۳۷
سورة لقمان من الآية ۱۸ ۳ سورة الأنعام من الاية ۳۸ ٤ سورة الملك من الآية ١٥ ٥ سورة يونس من الاية ٦١ ٦ سورة ق الاية ۱۸ ۷ سورة ق الاية ۳
۸
قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد ومسلم في الفتن وأشراط الساعة والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه وأوله إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وفي اخر الحديث وإن ربي قال لي يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا سوى من أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ۹ رواه مسلم في الفتن عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار ۱۰ رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله لو سمع رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل
١٢٤١

ومثل قوله عليه السلام لا يسب الرجل أباه قالوا وكيف يسب الرجل أباه فقال يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ۱ وأي قطع عنق أكبر من العقوق وهذا النوع أيضاً في الآثار كثيرة وأنواعه متعددة
بمنه
و معنى قوله عليه السلام ضلالاً خارجين عن الطريقة المحمدية جعلنا الله من خير أهلها
وفيه دليل على أن الرجوع إلى الضلالة في حياته عليه السلام مستحيل يؤخذ ذلك من قوله بعدي ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام في حديث الشفاعة حين يقال له إنهم قد بدلوا بعدك فيقول فَسُحقاً فَسُحْقاً فَسُحْقا ٢ عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه
نفسك بالعلم فزينها إن كنت عاملا وإن خالفته قد شنتها به عاجلاً واجلا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
رواه البخاري في الرقاق ومسلم في الفضائل عن سهل بن سعد رضي الله عنه ولفظه أنا فَرَطكم على الحوض من وَرَد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليَردَن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فيقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي وفي الباب عدة روايات عن
عدد من الصحابة
١٢٤٢

- ٢٢٤
ث جواز الشرب قائماً
عَن عَلي رضي الله عَنهُ أنَّهُ أُتي على باب الرَّحَبةِ ١ بِماءٍ فَشَربَ قائِماً فَقَالَ إِنَّ ناساً يكره أحَدُهُم أن يَشربَ وَهُوَ قائِم وإني رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَما رَأَيْتُمُونِي فَعلتُ
ظاهر الحديث يدل على جواز الشرب قائماً والكلام عليه من وجوه منها أنه ينبغي للعالم إذا رأى شيئاً ينكره الناس - وهو جائز في السنة ـ أن يبين ذلك ويوضحه بالفعل والقول يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه ما هو نص الحديث
وفيه دليل على أن عليه أن يبالغ في التعليم ما أمكنه يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه وقوله لأنه لم يكتف إلا بمجموعهما وذلك هو الغاية في التعليم ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم عند ظهور البدع أن يعلّم قبل أن يُسأل لأن علياً رضي الله عنه فعل ذلك قبل أن يسأل وهو أحد الخلفاء الذين قال الله في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء بعدي عضوا عليها بالنواجذ ٢ أو كما قال عليه السلام
وفيه دليل على اتباعه رضي الله عنه في التعليم سنة رسول الله يؤخذ ذلك من قوله إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ولم يسمّ أحداً وكذلك كانت عادة رسول الله لا اله إذا قيل له
۱ الرَّحَبَة المكان المتّسع والرحبة المقصودة رَحَبَة الكوفة بدليل الحديث الذي رواه البخاري عن النزال بن سبرة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه - وذكر رأسه ورجليه - ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن النبي لا الهلال و صنع مثلما صنعت ويسمي ياقوت في معجم البلدان هذه هلال الرحبة باسم رحبة خنيس قطعة من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي ومطلعه وَعَظنا رسول الله له و موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون إلخ
الله عنه
١٢٤٣

عن أحد شيئاً لا يعجبه يقول ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ۱ ولا يسمّي أحداً وهذه العادة اليوم قد كثرت في الناس - أعني من أنهم يكرهون الشرب قائماً - حتى إن بعضهم يتغالى في ذلك ويجعله من قبيل المحرم وهذا مخالف لسنة النبي الهلال الهلال وفيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كان شأنهم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله يؤخذ ذلك من قول علي رضي الله عنه وإني رأيت النبي الهلال وفعلا كما رأيتموني فعلت صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عنه عليه السلام في ذلك قولاً

وفيه دليل على أنه مهما كان من الشارع ع الله في شيء فعلاً أو قولاً فلا مجال للعقل والرأي أن ينظر أو يجتهد وليس له وظيفة إلا أن يتبع فقط لأنه لو كان الشأن عندهم غير ذلك ما فعل عليّ رضي الله عنه ما نص في الحديث عندما بلغه قول من ظهر له كراهية الشرب قائماً ومما يؤيد هذا ما فعله معاذ بن جبل ۳ مع معاوية ۳ بالشام حين قال معاذ قال رسول الله قال معاوية الرأي عندي كيت وكيت فقال معاذ من يجيرني من معاوية أقول قال رسول الله وهو يقول رأيي والله لا أقيم معك في بلد فخرج وأتى عمر بن الخطاب رضي عنه فكتب عمر إلى معاوية أن يقف عندما قال له معاذ وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه عزّ وجل يقول ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤

الله
والاتباعية ينبغي أن تكون عامة في الأقوال والأفعال وقد مضى على ذلك أئمة الدين و مصابيح الهدى غير أنهم اختلفوا هل هذا واجب أو مندوب أو ما دل الدليل عليه على كل قضية قضية بقرينة فمنها واجب ومنها مندوب ولم يقل أحد منهم بالمخالفة أصلا لا في فعل
ولا في قول
۱ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها ومطلعه كان النبي الله إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول إلخ تقدمت ترجمته في الحديثين ٤٣ و ١٣٧
۳ معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية في الشام وأحد دهاة العرب كان فصيحاً حليماً وقوراً ولد بمكة وأسلم يوم فتحها وتعلم الكتابة والحساب فجعله الرسول الا الله في كتابه للوحي فتح أيام الصديق مدينة صيداء وعرقة وبيروت وولاه عمر على الأردن ثم على دمشق وفي أيام عثمان جمع له إمرة الشام كلها وعزله أحد عظماء الإسلام وهو علي فور توليه الخلافة وحدثت بينهما حروب له في كتب الحديث ۱۳۰ حديثاً بلغت فتوحاته المحيط الأطلسي وفتحت مصر في أيامه وكثير من جزائر يونان والدردنيل وحاصر القسطنطينية برا وبحرا وهو أول من جعل دمشق مقر الخلافة وقد دعا له رسول الله الله فقال اللهم مكن به ومكن له في الأرض أو ما في معناه ومما يشرفه أنه أحد كتبة الوحي وهو الميزان في حب الصحابة ومفتاح الصحابة سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله لا اله الاخير ما من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على محبته ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
١٢٤٤

ولكثرة ملاحظة أهل السلوك هذا الشأن سادوا على غيرهم وبلغوا المنازل المنيفة وقد ذكر
عن بعضهم أنه طرقه خوف من واقعةٍ وقعت في الوجود بعدما امتثل فيها السنة فقيل له في إحدى مخاطباته على عاداتهم التي عوّدهم مولاهم أتفزع ونحن قد أعطيناك علم الأمان قال وما علم الأمان قيل له قد هديناك إلى اتباع السنة فهناك سَكَنَ ما كان وجده من الخوف ولم يلق في تلك النازلة إلا كل خير ونعمة فالشأن لمن أريد به الخير الصدق مع الله تعالى واتباع السنة المحمدية جعلنا الله من أهل هذا الشأن في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٤٥

حديث النهي عن الشرب من فم السقاء
عَن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ لا عَنِ الشَّرِبِ مِن فَمِ السَّمَاءِ وَالقِربةِ
وَأَن يَمنعَ الرَّجُلُ جَارَهُ أَن يَعْرِزَ خَشبَةٌ فِي جِدارِهِ
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما المنع من أن يشرب أحد من فم السقاء والقربة والثاني أن يمنع ۱ أحد جاره أن يغرز خشبة في جداره والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل منعه عليه السلام عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام على أي وجه كان أو لا وهل النهي نهي كراهية أو تحريم وهل ذلك معقول المعنى أو لا وهل يتعدى منعه إلى غير السقاء والقربة أو لا وهل إباحة الجدار للجار لغرز الخشبة هو على الوجوب أو الندب وهل ذلك على كل حال أو في بعض الأحوال دون بعض
أما قولنا عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام أو لا ظاهر اللفظ محتمل لكن الناس اختلفوا في تأويله فمنهم من جعله عاماً على أي وجه كان ومنهم من قال إنه إذا جعل فم السقاء والقربة موضوعاً في الأرض كأنه القصعة وتناول منه الشرب فليست تلك الصفة بمنهي عنها وإنما النهي أن يصب الماء في حلقه ولا ينظر ما فيه ولا يقدر أن يقطع الشرب وأما قولنا هل النهي على الكراهية أو التحريم احتمل لكن إذا كانت العلة معقولة المعنى
فيكون بحسب مقتضى العلة فإن لم تعرف العلة فحينئذ يبقى الأمر فيه محتملاً الوجهين ويبقى فيه بحث آخر هل النهي يدل على فساد المنهي عنه فالذي يشرب يشرب حراماً وإن قلنا إن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه يكون متشابهاً هل هو حرام أو مكروه موضع خلاف ويبقى فعله ذلك على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراماً فيكون آثماً وإما أن يكون
مكروهاً فيكون غير آثم
1 أي المنع من أن يمنع
١٢٤٦

وأما قولنا هل ذلك معقول المعنى أو لا ظاهر اللفظ لا يتحقق منه شيء من ذلك لكن قد
قال بعض الناس إن ذلك معقول وهو خيفة أن يكون في الوعاء حيوان فينزل مع الماء في جوفه وقد وقع للناس من ذلك وقائع فتعبوا بها كثيراً منها أنه قد ذكر أن رجلاً شرب الماء كذلك
وكان في الماء ثعبان صغير فابتلعه مع الماء فحصل له منه ضرر كثير وقد يكون أيضاً في علق فيبلعه فيتأذى وقد يكون الماء ينصب بمرة فيكون سبباً لقطع العروق الضعاف التي بإزاء القلب فيكون منها موته ومن أجل ذلك أحكمت السنة أن يكون شرب الماء مصاً ولا يكون عبّاً من أجل الخوف على العروق بإزاء القلب فهنا من باب أحرى
وقال آخرون من أجل ما يتعلق بالسِّقاء والقربة من رائحة الفم وقد يكون في بعض أفواه الناس بخر فيعلق بالقربة والسِّقاء منه شيء فيعافه الغير وقيل من أجل أن بعض الناس لا تتحمّل نفسه الشرب من فضل غيره ويتشوش لذلك عند الشرب وقد قيل إن ذلك قد يعود بالفساد على الوعاء فيكسر فيكون من باب إضاعة المال وهو منهي عنه نهي تحريم
وبحسب هذه التعليلات تعرف النهي على أي وجه هو لكن الذي يعطيه الفقه أن أمراً يكون فيه التعليل على مثل هذا الخلاف تركه أولى لأنه لا يبعد أن يكون لمجموع ما ذكر فيكون يجتمع فيه التحريم على وجه والكراهية على وجه والشأن الأخذ بسد الذريعة التي تدل عليها قواعد الشريعة وقد روي عن الإمام مالك رحمه الله ومن تبعه أن مذهبه في الأمور المحتملة الأخذ بالأشد إبراء للذمة
وأما السقاء فهو الوعاء الصغير من الجلد والقربة الوعاء الكبير منه
وأما قولنا هل يتعدى الحكم إلى غيرهما فإن قلنا بعدم التعليل فلا يتعدى ويكون مقصوراً على السقاء والقربة لا غير وإن قلنا بالتعليل - وهو الأظهر والله أعلم - فحيث وجدت العلة طردنا الحكم على أحد محتملاته
وأما قولنا هل إباحة الجدار للجار أن يغرز الخشبة فيه على الوجوب أو الندب فجمهور العلماء أنه على الندب لأنه قد روي عن راوي الحديث - وهو أبو هريرة رضي الله عنه ـ أنه كان يقول ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فدل بقوله هذا أنه فهم من النبي إما الوجوب أو التأكيد في الندب لعظم حق الجار على جاره لأنه قال اللي ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ۱ والآثار في الجار كثيرة في تأكيد حقه والإحسان إليه
وكف الأذى عنه وإدخال السرور عليه وأما قولنا هل ذلك على كل حال أو لا فلا يمكن أن يكون على كل حال لأن الشارع عل الله
1 رواه أصحاب الصحاح وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
١٢٤٧

قد قال لا ضرر ولا ضرار ۱ فإن كان في غرز الخشبة ضرر على صاحب الحائط فلا يجب عليه ذلك ولا يندب فالشارع صلوات الله علیه وسلامه قد منع أن يفعل الشخص بملكه شيئاً يضره بجاره فكيف يفعل في مال جاره ما فيه ضرر به هذا لا يعقل وإنما يكون ذلك على أحد محتملاته إذا لم يكن على صاحب الجدار في ذلك كبير ضرر لأنه من جملة الرفق له وقد ورد ما معناه لا يمنع أحدكم جاره رفده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك والشافعي عنه عن يحيى المازني مرسلاً وعبد الرزاق والإمام أحمد وابن ماجه والطبراني عن
ابن عباس رضي الله عنهما
١٢٤٨

حديث عدم الاتكال على الأعمال والاجتهاد فيها
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ قال سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ لَن يُدخِلَ أحَداً عَملُهُ الجَنَّةَ قالوا وَلَا أنتَ يا رَسُولَ الله قالَ وَلَا أنا إلا أن يَتَغَمَّدني الله بفضله ورحمته فَسَددوا وقارِبوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ َأحَدُكُمُ المَوتَ إمّا مُحسناً فَلَعَلَّهُ أن يزدادَ خَيراً وإما مُسيئاً
فَلعله أن يَستَعتِبَ
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله والكلام عليه من وجوه اعلم ـ وفقنا الله وإياك - أن الناس اختلفوا في معنى تأويل هذا الحديث على وجوه عديدة فمنها قول بعضهم إن الإيمان عَرَض والعَرَض من شأنه أنه لا يبقى زمانين فإبقاؤه عليك حتى يتوفاك الله عليه من فضله عزّ وجلّ
ومنها قول آخرين وهو أنه عزّ وجلّ الذي وفقك إلى الأعمال وتفضل عليك بقبولها لقوله تعالى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۱ وقيل لولا تجاوزه عزّ وجلّ عنا ما قدر أحد على الخلاص لقوله تعالى إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلًا كَرِيمًا
وتأويلات كثيرة لكن الذي يعطيه تقسيم البحث أن نقول قوله صلى الله عليه وسلم عمله هل هو على العموم في جميع الأعمال القلبية والبدنية أو هو خاص بالبدنية
فإن كان خاصاً بالبدنية فكيف الجمع بينه وبين الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف
۱ سورة النور من الاية ۱ سورة النساء الآية ٣١
١٢٤٩

دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام في الصيام إن في الجنة باباً يسمّى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام عن العافين عن الناس ينصب لهم لواء أخضر يوم القيامة فيتبعونه حتى يدخلوا الجنة أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام في الذين لا يسترقون ولا يتطيرون أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ۳ إلى غير ذلك وقول الله عزّ وجلّ في كتابه بما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ٤ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ إلى غير ذلك من الآي وهي كثيرة ٤ ﴿ وإن كان المعني به العموم في الأعمال القلبية والبدنية فكيف الجمع بينه وبين قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ٦ ثم أخبره أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم وقول جبريل عليه السلام للنبي من مات من أُمتك لا يُشرِك بالله شيئاً دخل الجنة ۷ وقول الله عزّ وجلّ للمؤمنين فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۸ والآي والأحاديث في هذا كثيرة والإيمان عمل من أعمال القلوب وهو أجلها فالجواب عنه أنه إن كان على الخصوص - وهو أن يعني به أعمال الأبدان - فلا تعارض بين هذا الحديث ولا ما ذكر من الأحاديث والآي ولا غيرها مما يشبهها لأن الأعمال لا تُقبَل ولا تَنفَع

تفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الأحاديث الواردة في العافين عن الناس كثيرة منها ما رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دماً فازدحموا على باب الجنة فقيل من هؤلاء قيل الشهداء كانوا أحياء مرزوقين ثم نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم مَنْ أجره على الله فليدخل الجنة قال ومن أجره على الله قال العافون عن الناس ثم نادى الثالثة ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوها بغير حساب وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه من حديث طويل مطلعه بينا رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما الله
أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي إلخ
۳ متفق عليه ٤ سورة الحاقة من الاية ٢٤
5 سورة البقرة من الآية ١٣٤ و ١٤١ و ٢٦٧
٦ رواه الشيخان عن معاذ رضي الله عنه
۷ رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم ٩٤ باب الترغيب في الصدقة وفي الإيمان رقم ١٥٤ وهو حديث طويل منه

أتاني جبريل فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاث مرات ثم قال رغم أنف أبي ذر
۸ سورة البقرة من الآية ٦٢
١٢٥٠

إلا بشرط الإيمان واتباع السنة المحمدية ولأن الكفار مكلفون بفروع الشريعة على أحد القولين ولو فعلوها لم تنفعهم ولا يرون الجنة ولا يشمّون عَرْفها وقد قال الله عزّ وجلّ في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَيذٍ خَشِمَةً عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةٌ ۱ فعلى هذا التأويل يكون للحديث فوائد
من الفقه
منها أنه حجة لأهل السنة على المعتزلة الذين يقولون إنهم بأعمالهم يدخلون الجنة ويكفرون من وقع في معصية ويوجبون له الخلود في النار ومنها زوال رعونة نفوس العابدين الذين تشمخ نفوسهم وتغتر بما وفقوا إليه من الطاعة
والخدمة
ومنها الحض على تحقيق الإيمان ويزيد ذلك بياناً أن الحق سبحانه حض على الإيمان أكثر من غيره من الأعمال بقوله تعالى فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ولا يلزم من هذا الزهد في الأعمال لأن تركها بريد الكفر وقد قال جُعِلت الصلاة فرقاً بين الإيمان والكفر ۳ ولأن ترك الأعمال أيضاً نقص في الإيمان يشهد لذلك قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يختلس الخُلسَة حين يختلسها وهو مؤمن ٤ لأن حقيقة التصديق توجب اتباع الأمر واجتناب النهي وبذل الجهد في ذلك مع اتقاء خوف لقاء المولى سبحانه وتعالى وهل يحصل له قبول أم لا يشهد لذلك قوله تعالى في صفتهم المباركة وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَهُ أنهم إلَى رَهِم رَجِعُونَ أَوَلَيْكَ يُسَرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ ﴾ ٥
وهنا بحث في الفرق بين خوف عوام المؤمنين وخوف الخواص اعلم - وفقنا الله وإياك - أن خوف عوام المؤمنين ورجاءَهم وعبادتهم كل ذلك له حد ونهاية وأما خوف الخواص ورجاؤهم وعبادتهم فليس له حد ولا نهاية بيان ذلك
أما خوف العوام فإنهم يخافون العقاب على المخالفة ونهاية خوفهم من دخول النار وخوف ما فيها من الآلام والأمور العظام أعاذنا الله منها بنور وجهه الكريم وأما رجاؤهم ففيما وُعِدوا من حسن الثواب وجزيل العطاء بحسب الوعد الجميل ونهايته دخول دار كرامته عزّ
۱ سورة الغاشية الآيات ٢ - ٤ سورة البقرة من الآية ۱۳
۳ أصل الحديث بين الرجل والكفر ترك الصلاة رواه مسلم
٤ رواه البخاري في باب المظالم ومسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي
٥ سورة المؤمنون من الآية ٦٠ و ٦١
١٢٥١

وجلّ والتنعم بما أُعِدّ لهم فيها وعبادتهم حَدُّها التزام توفية ما جعل لهم في ذلك ونهايتها ذ

ارتقابهم القدرة على ذلك والاستراحة إلى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ١ وأما خوف الخواص فإنه لا حَدَّ له لأنهم يخافون عدله عزّ وجلّ وعظمته جلّ جلاله ولا حد لما يخافون ولذلك إذا طرق لأحدهم طارقُ الخوف إن لم يتداركه بتنسم الفضل والرحمة وإلا تفطرت كَبِده ومات وقد روي أن جملة منهم ماتوا كذلك ومما يذكر عن بعضهم أنه كان فتح قبره في بيته وكان تعبده على شفير قبره فدخل عليه يوماً بعض الوعاظ يزورُه فلما دخل عليه ناداه الأولاد والعيال من وراء الستر ناشدناك الله لا تقتله فلما دخل عنده قال له عِظني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله ألا أفعل فقال لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فيها شيء من التخويف فوقع مغشياً عليه فأعاد الأولاد الرغبة على الواعظ مثل الأول فلما أفاق قال له زدني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله فقال له لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فاضطرب مثل الحية ووقع في قبره ميتاً فقال الأولاد قَتَلْتَهُ قتلَك الله وعنهم مثل
هذا كثير
وأما رجاؤهم فهم يرجون محض فضله عزّ وجلّ بفضله فما يرجون لا حد له ويحصل لهم بذلك من شدة البسط وقوة الرجاء واليقين ما يُفتتون به الجبال ومن الإدلال على فضل مولاهم يتصرفون به في الوجود كيف يختارون ومع ذلك محافظتهم على الأمر والنهي ما لا يقدر غيرهم
عليه
ومما يُروى عن بعضهم أنه أتى بئراً بالدلو والحبل فأدلى الدلو فلم تبلغ إلى الماء فرفع الماءَ طرفه إلى السماء وقال وَعِزَّتِكَ لئن لم تسقني لأغضَبَنَّ فإذا به قد أدلى دلوه ثانية فبلغ فاستقى وشرب قال راويه فلما رأيت ذلك منه ناشدته الله أن يسقيني فضله فناولنيه فإذا هو سويق بسگر فاتبعته وقلت له يا سيدي قد مَنَّ الله عليك بمثل هذا الحال وأنت تسيء الأدب في مخاطبة الربوبية وتقول إن لم تسقني غضبتُ فتبسم وقال يا بطال على مَن أغضَبُ كنتُ أغضَبُ على نفسي فلا أشرب ماءً حتى ألقاه وطلبته مستعيناً به على ذلك فلا حدَّ لعبادتهم ولا لهم فترة غير أنهم يُفرّقون بين الأوقات من أجل الأوامر لا غير فعبادتهم دائمة لا فترة فيها ولا
التفات
0
١٢٥٢
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
كذا بإقحام وإلا

ومما روي عن بعضهم أنه أتاه بعض الإخوان يزوره فوجده يصلي فقال في نفسه لا أقطع عليه أتركه حتى يفرغ من صلاته فبقي ينتظره لأن يفرغ حتى أذن الظهر فصلى الظهر وبقي يتنقل حتى أذن العصر فصلى العصر ثم قعد يذكر حتى أذن المغرب فصلى المغرب ثم بقي يتنفّل حتى أذن للعشاء فصلى العشاء وبقي يتنفّل حتى طلع الفجر فصلى الصبح ثم قعد يذكر حتى كان وقت الضحى الأولى فقام فصلى ثم قعد يذكر والزائر في ذلك كله يقول في نفـ نفسه لا لا أقطع عليه حتى يفرغ هو من تلقاء نفسه فلما قعد يذكر وهو ينتظر الضحى الأعلى جرت سِنَةٌ على عينه وهو قاعد لم يتحرك لها فمسح النوم من عينه وقال أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فقال الزائر في نفسه لا يحل لي الكلام مع مثل هذا وتركه وانصرف ومثل هذا عنهم كثير
والفائدة أن تنظر من أي الأصناف أنت وما حالك أمِنَ العوام أو الخواص وهل بينك وبين
أحدهم نسبة أم لا وإلا فتدارك نفسك قبل ذهابها وأغلق الباب فالأمر والله قريب وقد يكون للحديث بحث ثان وهو أن الأحاديث التي أتت بمقتضى الأعمال وما لفاعلها وما على تاركها فذلك مقتضى الحكمة والتكليف ويكون هذا يدل على مقتضى التوحيد والتخصيص
الله
يشهد لذلك ما روي عنه الله أنه خرج يوماً ويداه الكريمتان مقبوضتان فقال للصحابة رضي عنهم أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم فقال في هذه أسماء أهل الجنة وأسماء
ابائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ثم قال أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم قال في هذه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة قالوا يا رسول الله ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خُلق له ۱ أو كما قال عليه السلام فحصل التخصيص لأهل الدارين بمقتضى الإرادة الربانية لا بموجب الأعمال البدنية
لكن بقي للحكمة معنى لطيف وهو أن الأعمال دالة على المآل كما هو العنوان دالّ على
۱ رواه الإمام أحمد والترمذي في القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ولفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ا و ف ي ي ي يليه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا قال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وليس في الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له وهذه العبارة جزء من حديث اخر رواه البخاري في القدر عن عمران بن حصين وفيه قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له
١٢٥٣

صاحب الكتاب يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فَسَنيَسرُهُ لِيُسْرَى فَسَنُيَتِرُ لِلْمُسْرَى ۱ وقول زيد الخير لرسول الله لتخبرني يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريده وما علامته فيمن لا يريده فقال كيف أصبحت يا زيد قال أصبحتُ أحبُّ الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرتُ إليه وإن فاتنى حزنتُ عليه وحننتُ إليه قال رسول الله تلك علامة الله فيمن يريده ولو أرادك لغيرها لهياك لها أو كما قال عليه السلام
فلذلك جاء شبه الأعمال البدنية مع سابقة الإرادة الربانية لمن تفطن واعتبر كما أخبر سبحانه عن يوم بدر بقوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَورِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَفٍ مِّنَ الْمَلَيْكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ الله فجعل نزول الملائكة اطمئناناً لقلوبنا لما يعلم من ضعفنا فأخبر أن حقيقة النصر من عنده سبحانه فكذلك الأعمال الصالحة فيها للنفوس الضعاف طمأنينة وحقيقة دخول الجنة بفضل الله تعالى
والركون أيضاً إلى الأعمال كيوم حنين وقد قال عزّ وجلّ فيه ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنَ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كُمْ كَثَرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ ۳ فكذلك إذا عولت على أعمالك الصالحة لم تقدر بها على شيء من الخلاص وإن كثرت إلا أن تغمدك الله عزّ وجلّ بالفضل والرحمة يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العابد من بني إسرائيل صاحب الرمانة - وقد تقدمت حكايته قبل في غير هذا الحديث
يا هذا اعمل فأصحاب التوفيق إذا رأوا أنفسهم قد وفقوا إلى شيء من أفعال الخير يستبشرون ويشكرون الله على ذلك ولا يغترون ويرغبون الله في أسباب السعادة الدالة عليها من فضله لقوله تعالى ﴿وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ فهو أهل الفضل والإنعام
ويكون من فوائد هذا الحديث على هذا الوجه أنه حجة على أهل الغفلة والجهل ممن انتسب إلى العلم وممن انتسب أيضاً إلى طريق الصوفية لأنهم يفرقون بين الشريعة وطريقتهم وبين الحقيقة وطريقتهم وكل طائفة منهما تدعي تفصيل طريقتها وليس الأمر كذلك لأن الذي أخبر بالشريعة وبينها لنا أخبر بالحقيقة وبيّنها لنا أيضاً
۱ سورة الليل ٧ و ١٠
سورة ال عمران الآية ۱٥ و من الآية ١٢٦
۳ سورة التوبة من الآية ٢٥
٤ النساء من الآية ٣٢
١٢٥٤

وكفى في ذلك ما كان يفعل في نفسه المكرمة لأنه كان إذا خرج إلى جهاد أو حجّ أخذ الأهبة لذلك على مقتضى الشريعة وإذا رجع قال ایبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصَرَ عبدَه وهَزَم الأحزاب وحده ۱ وهذا هو الحق والحقيقة فتراه عليه السلام جمع في العمل الواحد الشريعة والحقيقة لأن المطلوب الجمع بينهما ومن هنا زَلّ مَن زَلَّ وقد قال بعض السادة في الجمع بين ذلك أن تعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتفوَّضَ الأمر وتتوكَّل تَوَكُلَ من لا يرى خلاصاً إلا بمجرد الفضل لا غير أو كما قال ولقد أحسن فيما به جمع
وفيه دليل على أنه ليس أحد من العباد يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها يؤخذ ذلك من قوله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته فإذا كان عليه السلام الذي هو خير البشر وصاحب الشفاعة والمقام المحمود لا يقدر على ذلك فالغير من باب أحرى وأولى لأن صاحب كل مقام يطلب بتوفيته بحسب ما رفع له في مقامه
يشهد لذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا صلى الله عليه وسلم أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أثنيت على نفسك وإخباره عليه السلام عن قول الملائكة يوم القيامة وهي في العبادة لا تفتر سَبوحٌ قُدُّوسٌ ما عَبَدْناكَ حقّ عبادتك وإذا تأملت ذلك من طريق النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا عزّ وجل بشكر النعم التي أنْعَمَ عَجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفها كما أخبر جلّ جلاله وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۳ فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات وهي من جملة النعم الواحدة منها نعجز عن شكرها أن لو اشتغلنا بها وذلك أن الأنفاس اثنا عشر ألف نَفَس داخل ومثله خارج في اليوم الواحد فأنعم علينا بأن تدخل بغير كلفة وتخرج بغير مشقة مع اليقظة والنوم فهذه واحدة من جملة نعم عديدة في البدن عجزنا عن شكرها وكثير من الناس ما يعرفونها فوقع العجز حقيقة
ومن وجه آخر وهو أن العالم كله محدّث فكيف يقدر محدث على توفية حق القديم الأزلي هذا عن طريق العقل مستحيل فما بقي إلا ما أخبر به الصادق له الا الله وهو التغمد بالفضل والرحمة فبقي البحث على الفرق بين الروايتين
۱ رواه البخاري في الدعوات وفي الحج والجهاد والمغازي ورواه مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وأوله أن رسول الله لو كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر الله على كل شَرَف من الأرض إلخ
رواه مسلم في الصلاة عن عائشة رضي الله عنها
۳ سورة إبراهيم من الآية ٣٤
١٢٥٥

فأما معنى قوله بفضله ورحمته فهو بيّن لا خفاء فيه وهما صفتان بأيهما عامل عزّ وجلّ عبده فقد سعد سعادة أبدية وأما قوله بفضل رحمته احتمل وجوهاً منها أن تكون إشارته عليه السلام لما أخبر عن مولانا سبحانه أنه قسم الرحمة على مائة جزء أخرج منها في الدنيا جزءاً واحداً منها يتراحم الخلق كلهم حتى الفرس ترفع حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه وادخر تسعة وتسعين جزءاً إلى يوم القيامة فجعل عليه السلام نفسه المكرمة من جملة المؤمنين تواضعاً الله تعالى
واحتمل أن يشير عليه السلام إلى عجزه عن توفية حقوق الرحمة التي رحمه الحق بها حتى يكملها له سبحانه بفضله فيكون له سبباً إلى دخول الجنة مثل ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه من نعمه سبحانه عليه بقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَشَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَابِلًا فَأَغْنَى ۱ إلى آخر السورة ومثل قوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فكأنه عليه السلام يقول وأنا عاجز عن التوفية بالحقوق التي تجب الله تعالى عليّ بمقتضى الشكر والتعظيم فلم يبق بما أرجو دخول الجنة
إلا برحمة أخرى فاضلة على هذه - أي زائدة على هذا - يكفر بها عن التقصير ويدخلني بها الجنة واحتمل أن تكون إشارته عليه السلام إلى الزيادة التي زاده الله تعالى بعدما أكرمه بما ذكره وهو قوله جلّ جلاله لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ۳ لأن من غُفِر له قد أُدخِل الجنة لا محالة ولا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي أخبر مولانا سبحانه أنه بفضله غفرها للنبي أنها من قبيل ما نقع نحن فيها - معاذ الله - لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر بالإجماع ومن الصغائر التي فيها رذائل وأما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء والأكثر منهم على أنهم معصومون من الصغائر كما عصموا من الكبائر - وهو الحق - لأن رتبتهم جليلة
وإنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر ووضع البشرية وإن رفع قدرها - حيث رفع - فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز للكل كل على قدر حاله وبقيت المنة لله تعالى على الكل والتجاوز بمجرد الفضل والرحمة لا حق لأحد عليه
33
۱ سورة الضحى الايات ٦ و ۸ سورة النساء من الآية ۱۱۳ ۳ سورة الفتح من الاية ٢
١٢٥٦

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلْإِيمَنِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ١
ومع

ذلك يعترفون
وفيما ذكرنا حجة لأهل الطريق الذين قد أجهدوا أنفسهم في الخدمة بعظم التقصير ويخافون أكثر مما يخاف أصحاب الكبائر وقد ذكر عن بعضهم أنه اشتهت نفسه تمراً فبقي يدافعها أياماً عديدة إلى أن ظهر له يوماً شراؤه فلما أخذ من البائع وولى وإذا ۳ بريح شديدة وبرق ورعد فرمى التمر من حجره ووبخ نفسه وقال لها أهلكت الناس بخطيئتك وخرج هارباً إلى الله تعالى
ومما يزيد ذلك بياناً قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَواْ ۳ فإنه بقَدْر العلم به عزّ وجلّ يكون الخوف منه ولا أحد أعلم بالله من رسله وسيدنا صلوات الله عليه وسلم وعليهم أجمعين القدوة فيهم فيخاف مثل هذا الخوف له عليه السلام لما به مَنَّ عليه من المزية وقد قال أنا أخشاكم الله وأعلم بما أتقي ٤ أو كما قال عليه السلام واحتمل أن يكون عليه السلام أراد مجموع الوجوه كلها وزيادة لأنه معدن الفصاحة
والبلاغة
وفيه دليل على أن ألفاظ العموم يدخلها التخصيص بمقتضى اللسان العربي يؤخذ ذلك من قولهم ولا أنت لأن قوله لن يدخل أحداً عمله الجنة فقوله أحداً لفظ عام فلو لم يكن ذلك معروفاً من لسانهم ما استفسروه حتى يزيل لهم ذلك المحتمل المتوقع
ومن أحكام الحديث النهي عن أن يتمنى أحد الموت على أي حالة كان من خير أو شر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُم الموتَ إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب وقد كان من دعائه عليه السلام اللهم أحيني ما كانت الحياة زيادة لي من كل خير وأمتني ما كان الممات راحة لي من كل شر ٥ أو كما قال عليه السلام
1 سورة الحجرات من الاية ١٧
الصواب فإذا ۳ سورة فاطر من الآية ۸
٤ قطعة من حديث رواه مسلم في الصيام رقم ۱۱۰۹ باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب بلفظ والله
0
إني لأرجو أن أكون أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي
رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربع عن أنس رضي الله عنه بلفظ لا يَتَمَنَّينَّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وفي الباب ذاته ما رواه مسلم رقم ۷۰ في الذكر والدعاء باب التعوذ من شر العمل ضمن حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي اخره عبارة واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شرّ
١٢٥٧

رضي
وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا النهي على عمومه أو لا احتمل لكن قد جاء إن وقعت الفتن فبطن الأرض خير للمؤمن من ظهرها ۱ وقد جاء عن علي رضي الله عنه أن الفتنة لما طالت قال اللهم إن قومي قد ملوني ومَلِلْتهم فاقبضني إليك غير مقصر ومثل ذلك عن عمر الله عنه أنه قال اللهم إن رعيتي قد انتشرت وكَبِر سني فاقبضني إليك غير مفرّط والجمع بين ذلك أنه مهما كان الرجاء في شيء من الخير أو الخوف من شيء من الشر رغب في الأسباب التي يتوصل بها إلى الخير أو دفع الشر وإبقاء حياة المؤمن من أكبر الأسباب التي يرجى بها ذلك وقد قال بقية عمر المؤمن لا ثَمَنَ لها يصلح فيه ما فَسَد أو كما قال عليه السلام فإذا كان وقت الفتن خيف على الإيمان في الغالب فبطن الأرض إذ ذاك خير للمؤمن فإنه يقبض على الإيمان وهي النعمة العظمى - منّ الله بها علينا بفضله - وقد قال صلى الله عليه وسلم في الفتن يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا أو كما قال عليه السلام فإذا جاءه شيء يخاف به زوال الإيمان فالموت إذ ذاك مع الإيمان خير من الحياة التي يخاف معها زوال الإيمان
وأما قول الخليفتين رضي الله عنهما فإنما طلبا الموت خيفة النقص وأن يكون رجوعهما إلى مولاهما على أكمل الحالات سلكا به ما قدمناه من قوله عليه السلام وأمِثْنِي ما كان الممات خيراً لي غير أن العبارة اختلفت والمعنى واحد فلا تعارض بينهما
يسر
3
وأما قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فقد تقدم الكلام على ذلك في حديث إن الدين
وفيه دليل على قوة رجاء المؤمنين في الله تعالى على أي حالة كانوا يؤخذ ذلك من قولهم الله إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب أي يعتب نفسه على ما وقع منه ويندم ويتوب لأن الاستغفار لا يكون إلا بعد الندم والندم كما قال توبة ٤
1 رواه الترمذي في الفتن وفي سنده ضعف ولفظه إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعَرَض من الدنيا
قليل
۳ رقم الحديث ٦
٤ رواه البخاري في التاريخ وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله
١٢٥٨

وفيه دليل لطريق القوم لأنهم يقولون ارجع إلى مولاك على أي حال كنت تجده بك
رحيماً وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومولاك موضع شكواك ومما جاء في مثل هذا ما روي في قصة يونس عليه السلام حين كان في بطن الحوت أن الله عزّ وجلّ أسمعه صوت قارون وهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة لا قرار له فيها وأسمع عزّ وجلّ لقارون صوت ذي النون عليه السلام فسأل 1 الملائكة الموكلين بعذابه أن يمهلوه حتى يخاطبه فأذنوا له في ذلك فناداه فاستجاب له فسأله عن قصته فأخبره بها فقال له ارجع إلى مولاك ففي أول قدم ترجع إليه تجده فقال له ذو النون عليه السلام وَلِمَ لمْ ترجع أنت إليه فقال له إن توبتي وكلت إلى ابن خالتي موسى يقبلها فهناك قال ذو النون لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ ٢ فأخرجه الله عزّ وجلّ إلى البر بفضله ورحمته ولذلك قال بعضهم تقواك تقواك عمدة في رجاك ورجاك رجاك عمدة في تقـواك فإن خليت منها فمولاك مولاك ثم مولاك
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ الضمير يعود على ذي النون سورة الأنبياء من الاية ۸۷
١٢٥٩

ديث الشفاء في ثلاث
عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَفَعَ رَسُولُ الله الشَّفاء في ثَلاثة شَربةِ عَسَلٍ وَشَرطةِ مِحْجَمٍ وَكيَّةِ نار وأنهى أُمتي عَن الكَيِّ رَفَعَ الحديثَ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره بأن الله سبحانه جعل الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكيّة نار والحكم الثاني انه هيه لا عن الكي بالنار والكلام عليه من نه ل ا ل ا
وجوه
منها أن يقال هل الشفاء في هذه الثلاثة المذكورة هو على العموم للمؤمن وغيره أو لا وهل الشفاء أيضاً يكون هنا عاماً من كل الأمراض أو في مرض خاص وهل يحتاج في ذلك إلى نية عند استعماله أم لا يحتاج وهل ينهيه الا الله ع ع ع ع الكي نهي كراهية أو تحريم وهل يعرف أيضاً
لذلك حكمة أم لا فالجواب عن قولنا هل هو على العموم في المؤمن والكافر أو لا ظاهره محتمل لكن قد جاء من طريق شفاء أمتي في ثلاث فإن حملنا عموم لفظ هذا على التخصيص بهذه الطريقة التي أوردناها فيكون خاصاً بأمته وإن تركناها كلّ على مقتضاه فيكون العموم في هذا أظهر وتكون الطريقة الأخرى تدل على أن هذا الخير باق ولأمته
وأما قولنا هل يكون ذلك شفاء من كل داء أو هو من أدواء مخصوصة فاللفظ محتمل لكن الأظهر العموم لأنه من طريق الرحمة والمنّ وما هو من هذا الباب فالعموم أظهر فيه وقد تكلم ناس في هذه الأحاديث وعللوا الفائدة فيها بأن جعلوها بنظرهم راجعة إلى التجربة وما يقول فيها أهل الطب فإذا رجعنا إلى بحثهم إلى التجربة وقول الأطباء فلم يبق لقول الصادق
١٢٦٠

فائدة أصلاً وهذا لا خفاء في غلط قائله والله عزّ وجلّ يقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً
1,
لِلْعَالَمِينَ ١ وقال تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى
فإذا صدقنا قول أهل التجربة وأهل الطب - وكلاهما تقدير وظن غالب ـ فيجب من باب أولى تصديق الصادق الله الله الذي يخبر عن جاعل الأشياء كيف شاء واخترعها بقدرته وحكمته فالتوفيق لا ينال إلا من طريق النعم علينا
ومما يبين أنه على العموم ما اتفق لبعض العلماء بغرب الأندلس كان من رواة الحديث عاملاً به متبعاً للسنة والسنن وكان الناس يجدون برأيه في كل ما يشير به عليهم بركة حتى شهر بذلك فكان الناس يقصدونه من الأماكن البعيدة في أخذ رأيه في المعضلات التي تصيبهم وكان في بعض الحصن بعض الفلاحين وكان له رأس بقر وكان يعيش به فسُرِقَ فلحقه منه كرب عظيم فقيل له ما لك إلا الفقيه الذي في رأيه البركة هو يجبره عليك فأتاه فأخبره بحاله وهو يبكي ويضرع إليه ويتوسل إليه بكل ما يمكنه عساه يجبر عليه رأس بقره فقال له اذهب فاحتجم
ترج ليحتجم وعادتهم في البلاد أن المزينين يسترون حوانيتهم بمناديل من صوف أو كتان فرفع ذلك المنديل لأن يدخل فإذا برأس بقره في داخل الحانوت والحانوت خالية فأخذه ثم رجع إلى الفقيه يخبره بحاله فلما أخبره قال له الحاضرون أي نسبة في قولك احتجم حتى يكون سبباً في جبر رأس البقر فإنك لما أمرته بذلك تعجبنا من بعد النسبة التي بين حاله وما أمرته به ولم نقدر أن نكلمك ثم نجح فيما أمرته به أفدنا بذلك
فقال لهم لما رأيته قد أصيب وحاله يقتضي الخوف عليه من شدة كربه ورأيته لا يقبل عذراً إن قيل له فتداركت قوله صلى الله عليه وسلم شفاء أمتي في ثلاثة شرطة محجم فأخذت الحديث على عمومه فأمرته بما أخبر به الصادق لا لا لا اله الذي لا ينطق عن الهوى فبركة السنة هي التي شفته أو
كما جرى
وحدثني بهذا بعض مشايخي من رواة الحديث وكان له العلم والدين المتين وكان من البلد الذي كان فيه ذلك الفقيه وجرت هذه فيه
وأما قولنا هل يحتاج إلى نية عند استعماله فكل ما هو من طريق النبوة فالنية أصل فيه وقد
۱ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷ سورة النجم الآية 3
١٢٦١

يؤثر لمن لم تكن له نية إذا أخذه على وجه التداوي مثلما يأخذ الدواء الذي يعطيه الطبيب فإن ذلك
المقدار من النية فيه مجزىء
وأما الذي يأخذه على طريق التجربة أو الشك فلا يزيد بذلك إلا شدة بدليل قول الله سبحانه وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ ١ وكل من لم يصدق ما قاله الصادق الله و أو شك فيه فقد ظلم نفسه فلا يزيد ما يستعمل من الكتاب والسنة إلا خساراً ورضي الله عن ابن عباس كان إذا رمدت عينه يتلو قول الله عزّ وجلّ في العسل فِيهِ شِفَاءُ لِلنَّاسِ ويكتحل به فيبرأ من حينه وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا طلع له نبت تلا الآية وطلاه بالعسل فيبرأ أيضاً فمثل هؤلاء السادة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين عرفوا الكتاب أيضاً والسنة وما به من علينا من ذلك
وأما قولنا هل لنهايه الا الله عن الكي نهي تحريم أو كراهية احتمل والأظهر أنه على الكراهة ومما يدل على ذلك أن بعض الصحابة كانت الملائكة تسلم عليه فأخذه مرض فقيل له ليس يبريك منه إلا الكي فاكتوى فلم تسلم عليه الملائكة حتى تاب وأقلع عن الكي فرجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت قبل وقد جاء أن النبي الا الله و على بعض الصحابة في أكحله ۳ لكنه لا نعلم هل كان كيه لذلك الصحابي بعد هذا الحديث فيكون فعله عليه السلام ناسخاً لقوله أو يكون قبل الحديث فيكون فعله منسوخاً بقوله فإذا احتمل الأمرين بقي موضع خلاف
وفعل هذا الصحابي الذي كانت الملائكة تسلم عليه كان كيه بعد وفاة النبي فبان أن النهي عندهم كان هو المشهور فيه الكراهية لأنه روي عنه رضي الله عنه أنه قال اكتوينا فما أفلحنا فلولا أن النهي كان معلوماً عندهم بعد موته وتأوله هو أنه على طريق الكراهية واكتوى فظهر له شؤم ما أراد ولما تاب من الكي وأقلع عنه حينئذ رجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت وفيما جرى لهذا الصحابي دليل على أنه لا تعجل العقوبة إلا للمحبوب لكي يرجع وأما غيره فقد يؤخر إملاء لقول مولانا سبحانه إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَا ٤

وأما قولنا هل نعرف النهايه اه اه لو لعل له أم لا أما أن يفعل ولا شيئاً لغير حكمة فمستحيل وأما
ما هي فتحتمل - والله أعلم - وجوهاً
۱ سورة الإسراء الاية ۸ سورة النحل من الآية ٦٩
۳ رواه مسلم في السلام باب لكل داء دواء وأبو داود في الطب عن جابر رضي الله عنه أن أبي بن كعب رمي يوم
الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله
٤ سورة ال عمران من الاية ۱۷۸
١٢٦٢

منها أن الجاهلية وأهل الكتاب يفعلون ذلك وهو عليه السلام قد نهى عن التشبه بهم
فيكون لأجل ذلك واحتمل أن يكون لما جعلها الله تعالى للعذاب والنقم اتبع عليه السلام فيها حكمة الحكيم وأعطاها ما هو الغالب من شأنها واحتمل أن يكون عليه السلام كره ذلك من طريق الفأل فهذه سنته عليه السلام يعجبه الفأل الحسن كما فعل عليه السلام حين قال من يحلب هذه الشاة فقام رجل ليحلبها فسأله عن اسمه فلما أخبره لم يعجبه ذلك الاسم فقال له اجلس ثم لثان ثم لثالث فلما أعجبه اسمه قال له احلب ۱ فكره هنا أن يكون شفاء أحد أمته بالنار من أجل الفأل ولا يكون لها في لحم مؤمن نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة و احتمل مجموع ما ذكرناه وزيادة لأنه عليه السلام معدن الحكم والخير
وبقي سؤال وهو أن يقال كيف يخبر عن شيء أن فيه شفاء ثم ينهى عنه
فالجواب اعلم - وفقنا الله وإياك - أنه كان عليه السلام الصادق المشفق على أمته الرحيم بهم كما جاء في التنزيل فأعلمنا بما جعل الله تعالى فيها من الشفاء ونهانا عن استعمالها لما في ذلك من المضار علينا لأنا بنفس نهيه عليه السلام عن ذلك علمنا أنه قد اجتمع فيها الأمران الشفاء والمضار فغلب لا اله الله الذي هو الأصلح في حقنا - وهو النهي كما أخبر الحق سبحانه في شأن الخمر أن فيها منافع للناس ثم حرمها لما فيها من المضار في العقول والأديان

وفيه من الفقه أن دفع المضار أكد من تحصيل النفع يؤخذ ذلك من أنه لما كان في الكي النفـ
الله
والضرّ غلب عليه السلام دفع الضر فنهى عنه وهذا المعنى هو الذي فهمه حذيفة رضي عنه حيث قال كان الناس يسألون رسول الله الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن

يدركني ٢
وفيه دليل لأهل الزهد وهو أنه لما كان في الدنيا الوجهان غلبوا الضر فيها فدفعوه بالزهد فيها فنجوا وربحوا الدارين وعاد الضرر على أهلها فتعبوا في الدارين معاً
وفيه من الفقه أنه إذا كان شيء يكون فيه خير وشر ولا يقدر على دفع ذلك الشر الذي فيه يترك خيره من أجل شره ومن أجل هذا الباب كان أطباء الأبدان لما أن كانت عندهم المحمودة فيها السم القاتل وفيها النفع لإذهاب الأخلاط وقدروا على أن يحجبوا ضررها عن الأبدان بالحجب المعلومة في مقتضى صنعتهم استعملوها بتلك الحجب ولا يستعملها أحد وحدها إلا قتلته وكذلك أيضاً أطباء الأديان لما كانت النفس وما تشير إليه غالباً سمّاً قاتلاً في الدين لم

رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يكره من الأسماء رواه البخاري في الفتن ومسلم في الإمارة
١٢٦٣

يستعملوها إلا بحجاب الشريعة فإنهم لا انفكاك لهم عنها فلم تضرهم مع ذلك وانتفعوا بها وربحوا عليها الدارين جميعاً والذين استعملوها بغير حجب الشريعة قتلتهم وخسروا بها الدارين معاً أعاذنا الله من ذلك ولذلك قيل إذا كنت متقياً فشر نفسك أولاً فاتقه فإن عوفيت منها فلا
شرّ بعدها تتقيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٤

ITA-
حديث نفع الحبة السوداء
عَن أبي هُرِيرَةَ رَضي الله عَنهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ في الحبَّةِ السَّوداء شفاء مِن كُلِّ داء إلا السَّامَ قالَ ابنُ شهاب ۱ وَالسَّامُ المَوتُ وَالحِبَّةُ السَّوداءُ الشُّونِيزُ
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ جعل في الحبة السوداء ـ التي هي الشونيز - شفاء من كل داء إلا الموت والكلام عليه من وجوه
وهي كما تقدم في الحديث قبله من التوجيهات في الشفاء والانفصال عنها كالانفصال عن تلك غير أن هنا زيادة في التوجيه وهي أن عادة العرب إذا أكدت الشيء بالمصدر أو استثنت من العام بعضه دل على أن ما بقي حقيقة في العموم لا يحتمل التخصيص وقد قال الله هنا إنها ۳ شفاء من كل داء فهذا لفظ عام وقد يحتمل التخصيص فلما استثنى منه البعض قوله عليه السلام إلا السام دل على أنه شفاء عام لا يحتمل التخصيص
وقد قال بعض العلماء في هذا الحديث ما قدمنا ذكره في الحديث قبل أنه يرجع في ذلك لما يقوله الأطباء وهذا غلط محض والجواب عنه مثل الجواب في الحديث قبل وقد قال أهل صنعة الطب إن الحبة السوداء تنفع عندهم لسبعة عشر داء بالتجربة
وقد ذكر لي بعض مشايخي في الحديث والفقه - وكان قد جمع الله له الحديث والفقه والعمل بهما والتقوى - أن شيخه - رحم الله جميعهم وإيانا بفضله - كان له صاحب وكان من الزاهدين
۱ هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء تابعي من أهل المدينة توفي سنة ١٢٤هـ / ٧٤٢م كذا والصواب واستنت كما هو نص الحديث وتأكيد الشيء بالمصدر جعل الخبر عنه أو صفته أو حاله أو ما يسند إليه مصدراً والشفاء هنا مصدر وهو مبتدأ جعل كائناً في الحبة السوداء
۳ كذا أيضاً خلافاً لنص الحديث
١٢٦٥

المباركين وكان يحضر مجلسه كل يوم فلما قرأ هذا الحديث وتكلم الشيخ عليه بنحو ما أشرنا إليه في الحديث قبله جاء يوم ولم يأت ذلك الزاهد مجلس الشيخ فلما أتاه بعد سأله ما حبسك عنا فقال له إن عيني رمدت فأوجعتني فأخذت الشونيز فمضغته وألقيته داخلها فزادت وجعاً فقلت مخاطباً لها أوجعي أو طيري فما أخبر الشيخ إلا عن النبي ا ا ا ا ولا يقول له إلا حقاً فبرئتُ من ليلتي وما بقي لي فيها شيء من الأشياء المؤلمة ولا أثر منها فقال الشيخ للفقهاء مثل نية هذا هي النية المباركة التي تظهر فيها فائدة الحديث ولو استعمله أحد منكم مع الشك الذي في نياتكم لطارت عينه
وفي
هذه الحكاية دليل على ما قلناه في الحديث قبله أن الأمور التي تتلقى من الشارع الفائدة في استعمالها إنما تكون بحسن النية وإن لم يكن هناك حسن نية خيف على الشخص من زيادة الضرر وقد بينا الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى والله الموفق للخير بفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٦
بولتا

حديث لا عدوى ولا طِيَرَةَ ولا هامَةَ ولا صَفَر
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا عَدْوَى وَلاَ طِيرَةَ وَلاَ صلى الله عليه وسلم هامَةَ وَلَا صَفَرَ وَفِرَّ مِنَ المجدومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما نفي هذه الأربعة وهي العدوى والطَّيَرة والهامة والصفر والثاني الأمر بالفرار من المجذوم كما يُفر من الأسد والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معناها وما الحكمة في نفيه عليه السلام ذلك وهل أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم وجوب أو ندب
أما قولنا ما معناها فإن تلك الأربعة أشياء كانت من عمل الجاهلية فمعنى العدوى وعندهم إذا كان عندهم الجمل به داء يُخرِجونه من بين الجمال ويزعمون أن ذلك الداء هو الذي يعدوه إلى غيره أي ينتقل منه إلى غيره وقد سئل عن ذلك سيدنا الله فقالوا يا رسول الله الإبل تكون مثل الظباء حتى يدخل بينهما الأجرب فيعدوها فقال رسول الله فمن أعلى الأول فنفى بقوله فمن أعدى الأول ما كانوا يعتقدون من ذلك وبيّن أن حقيقة إصابة الخير والضر على اختلاف أنواعهما في جميع الحيوان عاقلة وغير عاقلة إنما هو بقدرة الله تعالى ومشيئته لا تأثير لشيء من الأشياء في ذلك
وأما الطَّيَرَة فإنه كان من عادتهم من أصابه منهم ضرّ من شيء من الأشياء أو بسببه كان يتطير به أو يكرهه وينسب ما جاءه مما لم يعجبه أنه من ذلك وقد يكرهه وقد أخبر الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَن لَّمْ تَنتَهُوا لَتَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَا عَذَاب
1 أي يبلغها الجرب ويصل إليها ورواية البخاري فتجرب
١٢٦٧

أَلِيرُ ۱ فجاءهم الجواب ﴿ طَرُكُم مَّعَ

وبال الشخص من سوء حاله كما قال سبحانه طَرُكُم مَّعَكُمْ
أن يصيب أحداً من أحد وبال وإنما
وأما قوله ولا هامة فإن العرب كانوا يقولون إن المقتول إذا قُتِل ولم يؤخذ بثأره يخرج من رأسه طائر يصيح حتى يؤخذ بثأره وقيل يخرج من عظامه إذا بليت فكذب له ما ادعوه من ذلك بقوله ولا هامة أي ليس ما يقولون من ذلك حقاً وفي هذا دليل على تكذيب كلّ من يدعي في خلق من خلق الله تعالى أنه متولّد عن شيء برأيه أو بكلام غيره مِمَّنْ تقدمه ويحكم على القدرة برأيه أو باستنباط حكمة يدعيها إن ذلك كله كذب وليس لعلم ذلك طريق من طريق الحكمة بالجملة الكافية إلا من طريق إخبار رسول الله ويبطل بهذا علم الفلاسفة والطبائعيين وأهل
صنعة الفلك لأن ذلك كله برأيهم ليس فيه من الشرع مستند ولا يحل تصديقهم فيما يزعمونه وأما قوله ولا صفر فإن العرب ينقلون صَفَر لرأس كل سنتين من شهر إلى شهر وكذلك المحرَّم وكذلك الحج فنهى بقوله ولا صفر حكم الجاهلية في ذلك وأقر الأمر على ما جعله الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كما ذكر عزّ وجلّ في كتابه مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم ۳
ويترتب على ذلك من الفقه أن لا حكم في الأشياء وأسمائها ووضعها إلا لله تعالى ولرسوله إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَمَا بَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَنَ ٤
وقيل إنه دود في البطن يقتل من أصابه فأزال بقوله هذا ما كانوا يتوهمونه من ذلك حتى يعلموا أن الميت إنما يموت بأجَلِه ولا يلتفت لعادة الجاهلية في ذلك
ويترتب على هذا من الفقه أنه لا يعمل من الأسباب إلا الذي جاءت به السنة لاتباع الأمر أو ما كانت جارية وأبقتها السنة مثلما كان يعجبه الله الفأل الحسن وقد كان ذلك من فعلهم في الجاهلية فأقرته السنة ومثل القسامة ٥ وعقل العاقلة ٦ وما أشبه ذلك
1 سورة يس الآية ١٨ سورة يس من الآية ۱۹ ۳ سورة التوبة من الآية ٣٦
٤ سورة النجم من الاية ۳
٥ القسامة قسم أو يمين يحلفها خمسون من أهل الحيّ يختارهم أهل القتيل المجهول قاتله في هذا الحي أنهم
ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا فتبرأ ذمتهم ٦ العاقلة العشيرة تتحمل عن القاتل خطاً لا عمداً ولا صلحاً ـ دِينَهُ يفترض فيهم الإهمال لشأنه حتى ارتكب جريمته فهي مسؤولية جماعية مادية وتدل على الروح التضامنية للجماعة والدية مائة ناقة أو عشرة الاف =
١٢٦٨

وفيه دليل على أن الأصل في الدين أن لا تأثير في الوجود لشيء بذاته وإنما التأثير للقدرة
نفسها أو ما جعلته القدرة بمقتضى الحكمة وغير ذلك محال ولذلك قال أهل العلم إن بروز القدرة إلينا في الأشياء على ضربين منها ما هي مغطاة بيد الحكمة ومنها ما هي بارزة بذاتها لا
تغطية عليها
وأما قولنا ما الحكمة في نفيه عليه السلام تلك الأربعة أشياء فلوجوه منها أن التأثير في الأشياء كلها للقدرة كما تقدم وغير ذلك محال لأن هذا من حقيقة الإيمان ومنها نفي التغيير الذي قد يعلق في النفوس من تلك العوائد لمن فعلها ولذلك قال إذا تطيَّرت فامض أي لا
ترجع
عليه
عما كانت عليه نيتك قبل فإن ذلك التطير لا يمنع شيئاً ولا يجلبه ومنها شفقته السلام على أمته ليريحهم من التعب الذي يلحقهم بالتقيد بتلك العوائد المذمومة ولا فائدة لهم فيها ومنها إبقاء التوادد بين المؤمنين

يؤيد هذا المعنى الذي أشرنا إليه قوله عليه السلام في الشؤم إن كان ففي الدار والمرأة
والفرس ٢ فإن هذه الثلاث مما يمكن الانفصال عنها وليس على أحد في ذلك كبير مشقة ولم يحقق عليه السلام الشؤم فيها وإنما قال عليه السلام إن كان - على زعمكم - ففي هذه الثلاث ونفاه أن يكون في ابن أو أخ أو صاحب أو قريب من الأقرباء أو في شيء من الأطعمة أو فيما يتمول من الأشياء سوى ما ذكر حتى تبقى نفوس القرابة والأصحاب مجتمعة لا يجد أحد بأحد تغيّراً وكذلك فيما فتح الله تعالى عليه من جميع المتمولات

وترى اليوم يتطير بعض الناس ببعض اخر أو ببعض أبنائهم أو أصحابهم ويقولون ما
حدث لفلان إلا حين ولد له فلان ويكره ذلك الابن من بين بنيه ويوافقهم على ما زعموا وكذلك في الأصحاب ومن يلقونه يقولون ما حرمت اليوم إلا من كوني لقيت فلاناً وقد شاع هذا في
درهم أو ألف دينار وكانت هذه الأنواع الثلاثة متعادلة القيمة والعقل تحمل الدية بهذا الشكل المشترك 1 كذا بإظهار ما حقه الإدغام قال بعض العلماء إن السيدة عائشة رضي الله عنها استدركت على الصحابة بعض أحاديث ومنها هذا الحديث وقالت قال رسول الله قالت اليهود إن يكون الشؤم ففي ثلاث إلى اخر الحديث وفريق اخر وهو جماعة المحدثين قالوا حديث إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس رواه البخاري في الطب باب الطيرة وباب لا عدوى وفي البيوع باب شراء الإبل وفي الجهاد باب ما يذكر من شؤم الفرس وفي النكاح باب ما ينفى من شؤم المرأة ورواه مسلم في السلام باب الطيرة والفأل والجمع بين رأي بعض العلماء والمحدثين يكون بحمل إنكار السيدة عائشة على ابن عمر وأبي هريرة على قضايا ووقائع خاصة لا على العموم والاختلاف هنا ليس من باب تعارض الأخبار بل من باب الزيادة المفيدة في الحكم فتقبل باتفاق ولاسيما أن الترمذي نقل عن السيدة عائشة رواية فيها موافقة الجماعة فعلى هذا فروايتها مع الجماعة أولى من روايتها على الانفراد كما رجحوا ذلك في مواضع
١٢٦٩

الناس كثيراً وهذا مخالف لسنة الرسول له الا الله ولما نص عليه في هذا الحديث وهو جاهلية محضة وكفى بهذا شؤماً لأن الشؤم كله والشر كله مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بين العلماء الشؤم الذي في تلك الثلاث فقالوا شؤم المرأة سوء خلقها وشؤم الدار سوء جارها وشؤم الفرس ألا يجاهد عليه في سبيل الله وأما جوابه للمرأة التي أتت تشكو له حالها بدارها حيث قالت أتيتها والعدد كثير والمال ا وافر فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة ۱ فليس فيه تحقيق الشؤمها وإنما قال ذلك ترويحاً لخاطرها كأنه عليه السلام يقول ليس يلحقك منها شيء إذا رحلت عنها وتبقى هي مما نسبت أنتِ إليها ذميمة عندك لا تلتفتي إليها
وهنا تنبيه على الشؤم الذي قد تحقق بالكتاب والسنة لكل من لا يرجع عنه وهو الذنوب والمعاصي فإن شؤمهما لا يفقد في الدارين حساً ومعنى وهذا الشؤم الذي قد نفته الشريعة تعلقت به النفوس إلا القلائل وهم أقل التوفيق قاتل الله أخا الجهالة على نفسه ما أعداه وعن الحق ما
أعماه !
وما أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم هل هو على الندب أو الوجوب أو من طريق الشفقة احتمل والأظهر أنه من طريق الشفقة بدليلين أحدهما من فعله عليه السلام وهو أنه روي عنه أنه أكل مع المجذوم في صحفة واحدة وقال بسم الله لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ٢ فلو كان الفرار منه واجباً أو مندوباً كان عليه السلام أول من يفعله والدليل الآخر أنه قد ذكر من طريق الطب أن تلك الروائح التي لهم تحدث في الأبدان خللاً وتتألم النفوس أيضاً منها ومن شفقته عليه السلام على أمته كل ما فيه لهم ضرر في أي وجه كان ينهاهم عنه وكل خير في أي نوع كان يدلهم عليه فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته
وأما قوله عليه السلام كما تفر من الأسد فهو مبالغة في الهرب منه لأن العادة في فرار الناس من الأسد أنهم يكونون منه في البعد بحيث لا يشمون له رائحة ولا يلحقهم منه نفس وهم يشتدون في الهرب فهو غاية في الهرب ويمكن الجمع بينه وبين فعله عليه السلام وقوله أن قوله
۱ رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يتقى من الشؤم وإسناده منقطع قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن عبد البر إنه محفوظ عن أنس وغيره ولكن الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أنس أن السائل رجل وعند مالك امرأة فيجمع بينهما بأن كلا من الرجل والمرأة سأل عن ذلك ليس في نص الحديث أن رسول الله الا الله و قال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن جابر بلفظ أخذ النبي الله بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فقال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه
۱۷۰

هو المشروع لنا من أجل ضعفنا فمن فعله فقد أصاب السنّة وهي أثر الحكمة الربانية وفعله عليه السلام هو حقيقة الإيمان والتوحيد لأن الأشياء كلها ما جعل الله تعالى لها تأثيراً إلا بمقتضى جریان حکمته سبحانه وسنته في خلقه وما لم يجعل له ذلك فلا تأثير له وما الكل إلا بقدرته عزّ وجل وإرادته
يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ۱ فمن كانت له

قوة يقين وصدق إيمان فله أن يتبعه عليه السلام في فعله ولا يضره شيء وهو في فعله متبع للسنة ومن كان يقينه ضعيفاً فله أن يتبع أمره عليه السلام في الفرار ولا يجوز له مع الضعف أن يتبع في الفعل لأنه عري عن شروطه وقد يدخل بفعله ذلك تحت قوله تعالى وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ ٢
ويترتب على هذا من الفقه أن الأمور التي يكون فيها توقع ضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها أن الضعفاء لا ينبغي لهم أن يقربوها وأن أصحاب اليقين والصدق مع الله تعالى في ذلك بالخيار إن شاؤوا أخذوا بأحد الوجهين الفعل أو الترك لأنهم لهم أسباب ذلك متمكنة وقد ذكر عن بعض السياحين أنه كان له رفيق في طريقه فمرا على مغارة وهي ضيقة العبور وإذا بها أسد فقال لصديقه مُرٌ ولا تبال فقال له صديقه السنة واسعة إني لا أمر عليه ومرّ عليه أنت ففعل فتقدم ومرّ عليه فلم يضره ورجع صديقه عن ذلك الموضع إلى موضع ثانٍ لكونه لم يجد في الوقت من اليقين ما وجد صاحبه فعمل كل منهما على ما اقتضاه حاله وهذا هو الشأن وفي قوله له عند الأكل مع المجذوم لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ۳ دليل على أن مقتضى الحكمة الربانية أن يصيبه من المجذوم أذى لمن يدنو منه وفي أمره عليه السلام بالفرار دليل على أن الحكم يعطى للغالب يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بالقرار على العموم لأن الغالب من الناس هو الضعيف فجاء الأمر بحسب ذلك تنبيه وإذا أمرنا بالهرب من جذام الأبدان فمن باب أولى الهرب من جذام الأديان وهم أصحاب البدع والشَّيَع لأن المرض في قلوبهم والسم الباطن أشد سرياناً من الظاهر ومن أجل هذا روي عن بعض علماء السنة أنه كان في زمانه بدعيّ فجاءه يوماً يرغب منه أن يقرأ عليه آية من كتاب الله تعالى فحلف ألا يفعل وأخرجه من عنده فقيل له في ذلك فقال لم يأت بتلك الآية إلا
۱ سورة البقرة من الاية ۱۰ سورة البقرة من الآية ۱۹٥ ۳ سورة التوبة من الآية ٥١
۱۷۱

وقد دبّر معها مكيدة في الدين فالهرب من أهل الزيغ والزلل سبيل النجاة وقد نبه على ذلك بقوله الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من الجليس السوء ۱ أو كما قال عليه السلام وقال بعضهم في هذا المعنى يقاس المرء بالمرء إذا هو ماشاه وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر

حديث الأمر باتخاذ السترة للمصلي
عَن أبي جُحَيفَة رضي الله عنهُ قالَ رَأيتُ بلالاً جاءَ بعَنَزَة ٢ فَركَزَها ثُمَّ أَقامَ الصَّلاةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في حُلَّةٍ مشَمِّراً فَصَلَّى رَكمَتينِ إِلى العَنَزَةِ وَرَأيتُ النَّاسَ والدَّوابِّ يَمُرُونَ بَينَ يَديهِ مِن وَراء العَنَزَةِ
ظاهر الحديث يدل على أن العنزة سترة للمصلّي وأن المارّ خلفها لا شيء عليه ولا على المصلي والكلام عليه من وجوه
منها في صفة العنزة وهل يجزىء في سترة المصلي غير تلك الصفة
فأما صفتها فقد ذكر العلماء أنها مثل مؤخَّرة الرَّحل طولاً وغلظاً وقد جاء عنه الله حين سُئِل عن سترة المصلي فقال قدر مؤخرة الرحل ومنهم من حَدّها بما يقرب من ذلك وهو أن يكون طولها ذراعاً وغلظها غلظ الرمح وبقي الخلاف بينهم فيما لم يكن على تلك الصفة مثل ستر العورة بالثوب وما أشبهه فمن لحظ تلك الصفة التي كان ل و فعل قال لا يجزى غيرها ومن عَلَّل وقال ما جعلت السترة إلا من أجل عدم التشويش أجاز ذلك ولذلك اختلفوا في الخط في الأرض هل يجزىء عن السترة أم لا على قولين وفيه دليل على جواز الصلاة بالتشمير يؤخذ ذلك من قوله مشمراً إلا أنه نص الفقهاء ألا يكون ذلك التشمير من أجل الصلاة فإذاكان لضرورة ما فله أن يصلي به على حالته
الجمعة
وهو
1 أبو جحيفة وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة السوائي ويقال له وهب الخير صحابي توفي وهو مراهق وسكن الكوفة وولي بيت المال والشرطة لعلي رضي الله عنه وكان يقوم تحت منبره يوم آخر من مات بالكوفة من الصحابة سنة ٦٤ هـ
العَنَزَة أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زُج كرج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير
۱۷۳

وفيه دليل على أن السنة في السفر التشمير يؤخذ ذلك من أن هذه الصفة لم ترو عنه الا الله إلا
في السفر
وفيه دليل على أن إقامة الصلاة لا تكون إلا بعد ما يُفرغ من كل ما تحتاج الصلاة إليه والتهيئة لذلك يؤخذ ذلك من أن بلالاً لم يُقِم الصلاة إلا بعد ما فرغ من ركز العَنزة
وفيه دليل على أن وقت الشروع في أمور الصلاة من الإقامة وما يقرب منها لا يُشتغل بشيء وإن قل يؤخذ ذلك من كون بلال فرغ من ركز العنزة وهو شيء يسير جداً وحينئذ أخذ في الإقامة وبلال لا يفعل ذلك إلا بأمر النبي علي
ويترتب عليه من الفقه خلو القلب عند التلبس بالعبادة من كل شيء وإن قل يؤيد هذا قوله
تعالى ﴿فَإِذَا فَرَغَتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ﴾ ١
من
وفيه إشارة إلى أن المسافر يُقدم في سفره ما يحتاج إليه من ضروراته لدينه بحسب ما يعرف طريقه ويدفع ذلك في رحله يؤخذ ذلك من حمله لا اله الله العنزة في رحله ولأجل هذا قال العلماء ينبغي للمرء أن يكون له في بيته تراب طاهر أو حجر معدّ للتيمم من أجل أن يطرقه بالليل مرض لا يمكنه معه الطهارة بالماء فإذا كان عنده أحد الأشياء التي يجوز التيمم بها يتيمم لئلا تتعطل عليه فريضة وإلا كان مفرّطاً في دينه
وفيه دليل على أن القَصْر في السفر أفضل يؤخذ ذلك من قوله صلَّى ركعتين لأن العلماء اختلفوا في القصر في السفر فمن قائل بالوجوب ومن قائل بضده إلا لعذر ومن قائل بجوازه والذين قالوا بجوازه اختلفوا أيضاً أيهما أفضل هل القصر أو ضده بحسب ما ذكر في كتب
الفروع
وفيه دليل على أن من السنّة حُسْنَ الزِّي في الصلاة يؤخذ ذلك من قوله في حلة والحلّة عندهم هي أحسن الزي لأنها ثوبان تستر الجسد كله
وفيه دليل لمن تأول السترة وعللها بأنها لزوال التشويش يؤخذ ذلك من قوله ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه من وراء العنزة فإنه لا شيء للخاطر أشد تشويشاً من مرور الناس والدواب بين يديه
وبقي بحث وهو أن يقال هل جَعَلُ العنزة على ذلك القدر الذي تقدم ذكره تعبّد لا يعقل له
۱ سورة الشرح الايتان ۷ و ۸
١٢٧٤

عنى أو هو مما يعقل له معنى فإن قلنا لا يعقل معناه فلا بحث ووجب الاتباع لا غير وإن قلنا له معنى - وهو الأظهر - فما هو فنقول والله أعلم
لما كانت الصلاة لها تلك الحرمة العظيمة - كما تقدم ذكره في حديث الإسراء - وكانت قبلُ في الأمم الخالية لا يُوقعونها إلا في المواضع التي نُصبت لها وقد أمر الله عزّ وجلّ برفع تلك المواضع إكراماً للصلاة التي تُوقع فيها بقوله عزّ وجلّ و فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ ۱ ثم إن الله عزّ وجلّ مما خص به سيدنا أن جعلت له الأرض له مسجدا وطهورا أي في كل موضع منها يجوز إيقاع الصلاة فيه - كما تقدم في الحديث قبل بقوله عليه السلام حيثما أدركتك الصلاة فصل - وقال عليه السلام في شأن المارّ بين يدي المصلي الأن يقف أربعين خريفاً خيرٌ من أن يَمُرَّ بين يَدَيْهِ ۳ فبحلول وقت أداء الصلاة صارت جميع الأرض مستحقة للمصلي يوقع صلاته حيث شاء منها وبقيت حقوق الناس منها في المرور وغيره متعذرة ممنوعة حتى يفرغ هذا من صلاته فأحكمت السنة بجعل العنزة تحديداً للبقعة التي اختارها المصلي لوقوع صلاته وبقي ما عداها من الأرض لجميع الناس لا حَجْرَ عليهم في تصرفهم فيها من مرور وغيره فجاء قوله لا ضرر ولا ضرار ٤ فبقيت حرمة الصلاة على ما هي عليه وبقي الناس على ما لهم في الأرض من المنافع لم يضيّق عليهم لأن الدين - كما تقدّم - يُسر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الذي يمر بين السترة والمصلي إنه شيطان ٥ لكونه خالف حدود الشريعة وبهذا التعليل يصح ما جاء من جواز أن يكون الخط في الأرض سترة فإن البقعة تتحدد به وتنحاز من غيرها وتكون العنزة أفضل من الخط لأنها أكثر فائدة في حق المارّ فإن المارّ قد لا يرى الخط ويمر بين السترة وبين المصلي فيقع في الإثم والعنزة بذلك القدر لا تخفى على أحد ولهذه الفائدة - والله أعلم - جُعِلت في الارتفاع قدر مؤخّرة الرحل لأن ذلك القدر من الارتفاع لا يخفى على أحد
وفيه دليل على أن سيدنا لا يفعل من الأمور كلها إلا الأرفع والأفضل يؤخذ ذلك من أنه
1 سورة النور من الآية ۳٦ رواه ابن أبي شيبة عن أبي ذر رضي الله عنه ۳ رواه الإمام مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي جهم رضي الله عنه بلفظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خريفاً خيرا من أن يمرّ بين يديه ٤ رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس والبيهقي عن عبادة بن الصامت وأبو نعيم والطبراني عن ثعلبة ابن
مالك القرظي رضي الله عنهم ه رواه ابن خزيمة والطحاوي وأبو عوانة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه مرتين فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان
۱۷۰

لما كانت العنزة فيها زيادة الفائدة التي ذكرنا كان يحملها في رحله وعلى هذا التوجيه الذي ذكرناه تتبين فائدة قوله عليه السلام سترة الإمام سترةُ مَنْ خَلْفَه ۱ لأن بها تحيزت البقعة التي للصلاة أولاً ويكون آخرها بقدر ما تبلغ إليه صفوفهم فتنبَّة إلى هذا النوع من أنواع الصلاة ولا يكون بينها تعارض إن شاء الله تعالى وغيره من التعليل قد ينكسر في بعضها وقد قيل الفقه بالفهم فانتبه لا برواية وإن عَلَت
اللهم واجعل ما أنعمت به علينا في هذا الحديث الجليل مما أظهرته على يد محمد نبينا الكريم من باهر قدرتك وما أبديته لنا من أنوار حكمتك فيما تعبدت به عبادك المؤمنين نوراً في قلوبنا وتقوية في إيماننا وثلجاً في يقيننا وتزكية في أعمالنا وبلغنا بها الزلفى وحسن المآب
إنك أنت الكريم الوهاب
وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الطبراني في الأوسط عن أنس وعبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً
١٢٧٦

حديث تحريم لبس الحرير

عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَرْعاً شَديداً كالكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنبغي هَذا
۱ رَضي الله عَنهُ قالَ أَهدي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّوجُ حَريرِ
للمُتَّقِينَ
ظاهر الحديث يدل على كراهية لباس الحرير للمتقين والكلام عليه من وجوه منها هل يجوز لغير المتقين وهل تلك الكراهة كراهة تنزيه أو تحريم
أما قولنا هل يجوز لغير المتقين إذا عرفنا حقيقة هذا الاسم حينئذ نتكلم في غيره وما يلزمه من هذا الحديث أما التقي فهو اسم يعم جميع المسلمين لكن الناس فيه على درجات ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه و لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۳ فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى أي وقى نفسه من الخلود في النار فإن اتقى ثانية ومنع نفسه من المعاصي فقداتقى حَد أي وقى نفسه من دخول النار فإن رسول الله الله يقول الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النار وإيمان لا يخلّد صاحبه في النار فالإيمان الذي لا يخلّد صاحبه في النار هو الإيمان مع المعاصي والذي اتقى التقى الثالث هو في درجة الإحسان لأنه اتقى بالله ما سواه فلم ير في الوجود سوى الواحد الأحد كما قال ع ل أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ٤

۱ عقبة بن عامر الجهني أمير معاوية على مصر صحابي فقيه فصیح شاعر قارىء كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم وشهد صفين مع معاوية رضي الله عنه وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد من جمع القرآن له ٥٥ حديثاً توفي بمصر سنة ٥٨هـ
الفروج قباء شق من خلفه ۳ سورة المائدة من الاية ۹۳

قطعة
من حديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن عمر رضي الله عنه وأوله بينما نحن جلوس =
۱۷۷

وهذا مقام الخصوص وبقي عدا المؤمنين - وهم الكفار - فمن قال إنهم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يبيحه لهم ومن قال إنهم ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة أجاز لهم لبسه
ذلك
وأما قولنا هل الكراهية على التحريم أو التنزيه لفظ الحديث محتمل لكن قد جاءت القرائن من خارج تدل على التحريم لأنه قد جاء عنه لا اله الا هو أنه قال في الحرير إنه حرام على ذكور أمني ۱ والآثار في هذا النوع كثيرة فقد ثبت تحريمه بالسنة على ذكور هذه الأمة لا خلاف في بين العلماء وإنما الخلاف بينهم هل يستعمل عند الضرورة ويقدّم على غيره أو لا مثل ما إذا لم يكن لشخص إلا ثوبان أحدهما نجس والآخر حرير فمنهم من قال يصلي في الحرير ومنهم من قال يصلي في النجس وكذلك لباسه في الحرب فمنهم من منعه - وهو مالك والجمهور ومنهم من أجاز ذلك بشروط وهو الشافعي ومن تبعه
والشروط التي ذكرت عنه أن يكون لابسه عادماً لما يتقي به عن نفسه من الات الحرب مثل الدرع وما يشبهه من عدة الحرب ويكون ثوب الحرير خشناً لأنه يرد عنه الأذى وأما أن يكون لبسه للزينة في حرب أو غيره فهذا لا يجوز وما اتخذه بعض الناس اليوم من لبسه في الحَضَر والسفَر على وجه الزينة فحرام بالإجماع لا يجوز ولابسه عاص وصلاته مختلف فيها هل تصح أو لا تصح والغالب عدم صحتها وسواء كان اللباس منه كبيراً مثل القباء وما يشبهه أو يسيراً مثل الكوفية وما يشبهها فالباب واحد
وفيه دليل على جواز الهدية وقبولها يؤخذ ذلك من قوله أهدي الرسول الله الله لكن الهدية على ثلاثة أوجه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هدية لوجه صاحبك فلك وجه صاحبك وهدية للثواب فلك ما أردت وهدية لوجه الله تعالى فتلك التي ثوابها على الله أو كما قال
وبقي في الهدية تقسيم اخر قسمه العلماء لا يخلو صاحب الهدية أن يكون كسبه حراماً أو حلالاً أو مختلطاً فإن كان حراماً فلا تحلّ وإن كان حلالاً فجائزة بلا خلاف وإن كانت ممّن كَسْبُه مختلط فأربعة أقوال بالجواز وبعدمه وبالكراهة وبالتفرقة إن كان الحلال الغالب على كسبه فجائزة وإن كان الحرام الغالب فممنوعة هذا إذا خَلَت الهدية أن تكون رشوة فإنها إذا كانت على هذا الوجه فحرام وذلك هو السُّخت بعينه
عند رسول الله لا ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر
الخ
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أن النبي لا لا الله قال إن هذين حرام على
ذكور أمتي حلال لإناثهم يعني الذهب والحرير
۱۷۸

وبقيت علة التحريم هل هي معقولة المعنى أو هي تعبد فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن
قلنا معقولة المعنى فما هي فنقول والله أعلم إن العلة فيه كالعلة في التختم بالذهب واستعمال أواني الفضة والذهب وهي أنه لما كان الحرير لباس المؤمنين في الجنة منعه كما قال في أواني الذهب والفضة إنها أواني أهل الجنة وقال فيها في حديث آخر عن الكفار هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة 1
كذلك يخرج الجواب على الحرير مثل الأواني سواء بسواء في كون مولانا سبحانه أنعم على المؤمنين بدار كرامته وجعل لباسهم فيها الحرير وانيتهم فيها الفضة والذهب ثم أنعم على الكفار أنه أعطاهم نصيباً من ذلك في هذه الدار وشاركهم في ذلك طائفة من المؤمنين وهم النسوة وما يلحق لأزواجهن من التمتع بتلك الزينة منهن تحقيقاً لصفة الرحمة حتى تعم جميع عباده سبحانه يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ ٢
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن عبادة عباده وأنه لا تضره معصية العاصين لأنه سبحانه قد أنعم على الكفار وهم على ما هم عليه من كفرهم وهو أعظم المعاصي فقد أَناَلَهُم عَزَّ وجلّ طَرَفاً من الرحمة في هذه الدار فلو كان يناله تعالى منها ضرر لم يكن يرحمهم في هذه الدار ولا في تلك الدار ولم يكن أيضاً يلحق المؤمنين عذابٌ ولا الام في هذه الدار ولا في تلك الدار فسبحان من تنزه وتعالى وتقدس واستغنى عن عبادة العابدين

وبقي بحث وهو ما الحكمة في أن أبيح لبس الحرير للنسوة وهنَّ في جميع أمور الدين شقائق الرجال فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم لها وجوه منها أنه لما علم الله من ضعفهن وقلة صبرهن عنه لأن النفوس كثيراً ما تتعلق به فلطف عزّ وجلّ بهن في إباحة لبسه أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٣ ووجه آخر وهو آن زينتهن به ليس في الغالب لهن بل هي لأزواجهن وتزين الزوجة لزوجها من جملة حُسْنِ التَّبعل وحسن التبعل من الإيمان فلما عَرِي لبسهن له عن حظوظ النفوس وكان لبسه لهن مما يُعين على أوصاف الإيمان - وهو حُسن التبعل - أبيح لهن ذلك واحتمل أن تكون إباحته لهن من طريق اللطف بالرجال لأنه لو حُرِموه جميعاً لكان مستباً
1 أخرجه الشيخان والبيهقي في الشعب عن حذيفة رضي الله عنها وأوله لا تشربوا في انية الذهب والفضة
سورة الأعراف من الآية ٣٢ ۳ سورة الملك من الاية ١٤
۱۷۹

للجميع للوقوع في الحرام لأنهم يرون الكفار يتنعمون بلباسه وهم قد مُنعوا منه بأجمعهم فما كان يثبت هنا إلا القليل منهم ومما يؤيد هذا التفسير قوله تعالى ﴿ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِحَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِم أَبْوَبا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِتُونَ وَزُخْرُفًا ۱ فلكرامة الإيمان وأهله منع الله عزّ وجلّ الكفار مما ذكر في كتابه ولكرامة الإيمان وأهله أباح للمؤمنات ما أباح لهن من لبس الحرير
إشارة صوفية هي أنه لما كان لبس الحرير من أعلى الملابس وبلبسه تبلغ النفوس أعلى حظها في جنس اللباس حُرِّم على الذكور الذين فيهم الفحولية وأبيح للأنوثية دل بهذا على أن من فيه فحولية في الهمة يبتعد عن جميع ملذوذات الدنيا على اختلاف أنواعها ولا يعرّج عليها وإن كان بعضها مباحاً أيضاً على لسان العلم ويزهد في جميعها إلا بقدر ما فيها عَوْن على الدِّين وكذلك كل ما كان للنفس فيه حظ لا يعرج عليه وإن كان بعضه مباحاً أيضاً على لسان العلم إلا بقدر ما فيه عون على الدين
في مثل هذا كان تنافسهم حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه كان مجاوراً بمكة وكانت بيده صنعة يرد فيها في اليوم جملة دراهم فلا يعمل من تلك الصنعة التي يعرفها ولا يشتري لنفسه شيئاً يقتات به إلا حتى ٢ يرى محتاجاً فيرهن شملة كانت له فيما يحتاج في تلك الصنعة فيعمل يومه ذلك ثم
يفدي شملته آخر النهار ويكون أكله تابعاً لذلك المحتاج الذي راه

الله
ومما يقوي حسن فهمهم قول عمر رضي الله عنه حين تكلم معه بعض الصحابة رضي عن جميعهم بأن يحسّن لنفسه في أكله ويطيبه فإن في عافيته وصحته منفعة للمسلمين فجاوبهم بأن قال لهم كان لي صاحبان ۳ وقد ماتا فأنا أشاركهما فيما كانا عليه من العيش الغليظ لعلي أشاركهما في عيشهما الرغيد أتريدون أن أكون ممن قال عزّ وجلّ في حقهم أَذْهَبْتُم طَيْبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْنَعْتُم بِهَا ٤ فتعس من ادعى الفحولية وهمته أدنى حالة من الأنوثية ويهرج بلسان العلم وهو لا يعلمه من علينا بعلو الهمة والمساعدة على ذلك بمنه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزخرف ٣٣ - ٣٥
كذا بزيادة إلا قبل حتى ۳ يريد محمد ا ا ل للهو و أبا بكر رضي الله عنه ٤ سورة الأحقاف من الاية ۰
۱۸۰

حديث النهي عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَسُولُ الله لَعَنَ الله المُتَشبِّهِينَ مِنَ الرّجالِ بالنِّساء والمتَشبَهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرّجال
ظاهر الحديث الدعاء منه باللعنة على من تشبه من الرجال بالنساء وعلى من تشبه من النساء بالرجال والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى اللعنة وهل هذا التشبه مطلقاً في كل الوجوه أو على شيء مخصوص وهل هذا الدعاء من النوع الذي هو مخوف أو ضده وهل هذه اللعنة لحكمة نعلمها أو تعبد ليس إلا وهل الواقع في هذا تكون التوبة ترفع عنه ما لحقه من ذلك أو لا
به
أما قولنا ما معناها فإن اللعنة في اللغة هي البعد قال الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَأَذَنَ مُؤَذِّنٌ بينهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ ﴾ ۱ أي أن الله أبعدهم فمن أبعده الله تعالى فهو أخسر الناس فإن لعنة الله لا غاية لها أعاذنا الله من ذلك بحرمة نبيه الا الله فهذا في الزجر والنهي أكبر من الحدود التي جعلت في المعاصي لأن تلك الحدود كفارة لهم لما وقعوا فيه وهذا البعد لم يجعل لصاحبه مخرج على لسان الشارع عليه السلام وقد وقع من كثير من الناس التهاون بذلك وقعوا فيه ولا يحسبونه شيئاً نعوذ بالله من الحرمان وأما قولنا هل هو مطلق من كل الوجوه أو هو من وجه ما أما ظاهر اللفظ فمحتمل وأما الذي قد تقرر مما فهم من قواعد الشريعة خلَفاً عن سلف فهو في زِيّ اللباس وبعض الصفات والحركات وما أشبه ذلك وأما التشبه بهم في أمور الخير وطلب العلوم والسلوك في درجات التوفيق فمرغب فيه وقد عاد اليوم عند بعض الناس - وإن كانوا من الذين يشار إليهم - الأمر
1 سورة الأعراف من الآية ٤٤
۱۸۱

بالعكس فإنهم يمنعون النسوة من تَعَلَّم العلم ويرونه من باب المذموم لهم ويتشبه النساء بالرجال في زيهم ويرونه من قبيل النبل والكيس فإنا لله وإنا إليه راجعون على الخلل الذي وقع في الدين بوضع الأمور على ضد ما وضعها الشارع عليه السلام وكثرة التهاون في ذلك
وأما قولنا هل هذا الدعاء مما هو مخوف أو ضده وهو المرجو خيره لقوله صلى الله عليه وسلم إني عهدتُ عند ربي عهداً أيُّما بَشَرٍ عهداً أيُّما بَشَرِ لعنته من أمتي أو سببته أن يجعلها عليه رحمة١ أو كما قال عليه السلام اعلم - وفقنا الله وإياك - أن دعاءه لله على أحدٍ من أمته أو سبه إياه أو لعنته له على ضربين منها ما هو على طريق الزجر والنهي عن شيء في الدين وما هو في معناهما فإن ذلك من النوع المَخُوف من لحوق الوبال من أجله فإن المنع بذلك أشدّ من الحدود كما بينا أول الكلام وما كان من ذلك على وجه الغيظ والحرج فذلك الذي ظاهره مخوف وهو رحمة في الحقيقة وقد نص على ذلك لأنه قال يا رب إني بَشَر يلحقني ما يلحق البشر من الغيظ فأيّما أحدٍ من أمتي سَبَبتُه أو لعنته فاجعله له رحمة وهذا الدعاء هنا من قبيل الزجر والردع فهو مخوف وأي مخوف
وأما قولنا هل هذا الزجر لحكمة نعلمها أو تعبد فالحكمة في ذلك ظاهرة لا خفاء بها وهي إخراج الشيء عن الصفة التي وضعتها عليه حكمة الحكيم كما قال عليه السلام لعن الله الواشِمَةَ والمستوشِمَة والواصِلَة والمستوصلة ۳ وعُلَّل هذا بتغيير خَلْق الله تعالى فهناك تغيير خلقةٍ وهنا تغيير صفةٍ فالعلة واحدة لأن تينك الطريقتين المذمومتين تضمنتا وجوهاً من وجوه الضلالات فمنها إخراج صفته بجهله عما رتبه مَن له الأمر سبحانه ومنها التشبه بصفة الخلق والاختراع لأن الله عزّ وجلّ قد خلق أشياء وجعل لها صوراً وصفات فمن غير منهما صورة أو صفة على خلاف ما وضعت عليه فقد نازع الجليل القادر في قدرته واختراعه وفيه أيضاً
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأيما مؤمن أنا اذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وسيَرِدُ لهذا الحديث رواية أخرى بعد سطور معدودات
٢ أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إنما محمد يغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فأيما مؤمن اذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته إلى اخر الحديث ۳ أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة

إظهار سوء الأدب حقيقة لأن أدب العبودية موافقة الموالية في كل الأشياء التي شاءتها على أي نوع شاءتها وأشياء من هذا النوع عديدة إذا تأملتها وفيما ذكرنا منها كفاية
وأما قولنا هل توبة الواقع في شيء من ذلك رافعة لما قد لحقه من الوعيد أو لا فإن جعلناه من جملة المعاصي ليس إلا فيدخل تحت قوله ل التوبةُ تَجُبّ ما قبلها ۱ وإن قلنا إن دعاءه عليه السلام يُلحق الواقع في ذلك الذنب أمراً زائداً من الخسارة والحرمان لأن دعاءه عليه السلام مستجاب فبقي الأمر محتملاً أن يذهب ذلك بالتوبة كما يذهب الذنب أو ذلك أمر قد وقع بالشخص لا يرتفع عنه ذلك الحرمان وإن تاب الأمر محتمل وليس لنا دليل قطعي على
أحد الوجهين
ويترتب على هذا من الفقه أن الوقوع في الكبائر التي لها حدود وعقاب معلوم خير من الوقوع في هذه وأمثالها أعاذنا الله من الجميع بفضله لأن التوبة والحدود في تلك أيهما جاء بعدها كان كفارة لها وهذه محتملة أن يكون لها مخرج أو لا مخرج لفاعلها فالهرب إن كنت حازماً والعفاف العفاف تكن ناجياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ الحديث بلفظ الإسلام يَجُبّ ما كان قبله أخرجه ابن عساكر عن خالد بن الوليد وابن سعد عن الزبير بن العوام
رضي الله عنهما
۱۸۳

حديث النهي عن الوصل والوشم
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَعَنَ الله الواصِلَةَ وَالمُسْتَوصِلةَ
والواشِمَة والمُستَوشِمَةَ
*
ظاهر الحديث لعنته الله لهذه الأربعة المذكورة في الحديث والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى تلك الأفعال التي لعن النبي له من فعل منها واحدة وما معنى اللعنة فقد تقدم في الحديث قبلُ معناها وهل هذا النوع من الدعاء المَخُوف أو لا فقد تقدم الكلام عليه أيضاً في الحديث قبل وكذلك في التوبة منها قد تقدم الكلام عليه في الحديث قبل وما معنى العلة في لعنه ال الاول من فعل واحدة من هذه الأربعة
فأما قولنا ما معناها فإن الواصلة التي تَصِل شعرَها بشَعْرِ اخَرَ ليس من شعرها وألحق العلماء بها من وصلت شعرها بأي شيء وصلته من صوف أو حرير أو غير ذلك والمستوصلة هي التي تفعل ذلك بغيرها والواشمة هي التي تَشِم شيئاً من جسدها وكانت عادتهن يغرزن الموضع الذي يُرِدن أن يعملنه شامة بالحديد حتى يَدْمَى الموضعُ ثم يُحشَى بالكحل الأسود فيبقى ذلك الأثر يشبه الشامة التي هي مخلوقة والمستوشمة هي التي تفعل ذلك بغيرها
ويترتب عليه من الفقه أن مرتكب المحرّم والذي يعينه على ذلك في الإثم سواء يشهد لذلك
قوله صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر لعن الله شاربها وحاملها وبائعها وشاهدها وعاصرها ۱ وأما قولنا ما معنى العلة في ذلك فقد اختلف العلماء فيها فمنهم من قال إن ذلك لما فيه من التدليس وهذا ضعيف لأنه يخصص عموم اللفظ بغير دليل ومنهم من قال لتغيير خلقة الله تعالى وهو الظاهر فإنه قد جاء في حديث غير هذا حين ذكر عليه السلام الفالجة والمتفلجة قال
1 أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه واكل ثمنها
١٢٨٤

فيه المغيّرات لخلق الله تعالى ١ ويحمل على هذا النهي كل ما أشبه ذلك مما يفعله النسوة من تغيير ديباجتهن بالحُمرة وما معناها
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر ما هو أقل من هذا وهو أنه خطب وأمر النسوة ألا يخضبن أطراف أصابعهن بالحناء دون باقي أيديهن وقال من كانت خاضبة فلْتَخْضِب إلى هنا وأشار إلى تحت الكوعين فإذا كان نَهي عمر رضي الله عنه عن مثل هذا فما بالك بالغير من أفعالهن التي أشد من ذلك وقد تعددت حتى لا تكاد تحصى عِدَّةَ وبعض من ينسب إلى العلم في الوقت هي يجعل ذلك من قبيل الزينة الجائزة شرعاً فإنا الله وإنا إليه راجعون على ذهاب العلم وأهله ويحتج
بما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر أن يصح عن عمر أن يجعل ما ذكرنا عنه من الوشم وهذا لا حجة فيه لأن مالكاً ما أنكر على عمر مقالته ولو أنكرها ما صح أن يكون إماماً وإنما أنكر أن يعتقد معتقد أن ما نهى عنه عمر إلا أنه من الوشم الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ونهي عمر رضي الله عنه عن ذلك إنما هو لمعان منها أنه أشبه الوشم ولما أشبهه أعطاه حكمه وما قاله عمر وجب علينا اتباعه لقوله الله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهْدِبَينَمن بيِّنَمن بعدي ۳ وهو رضي الله عنه وعنهم أجمعين منهم
وطريق آخر وهو أن ذلك لم يكن في زمان رسول الله وإنما كان شأنهن أن يخضبن إلى حيث أشار رضي الله عنه فنهاهن من أجل مخالفة السنة وقد يكون نهيه من أجلهما معاً شبهه بالوشم واقتصاره على أطراف الأصابع وفي كل مخالفة لسنته عليه السلام

وقد قيل إنما أنكر مالك الرواية أن تصح لا الحكم لأن الإمام مالك كان أكثر الناس احتراماً لمن تقدمه من السلف فكيف بالخلفاء ولو لم يكن لمالك شاهد على ذلك إلا مسألة البناء في الرعاف أنه قال القياس والفقه يقتضي قطع الصلاة ولكن اتباع السلف أولى٥ وبذلك ساد على غيره وكذلك سنة الله تعالى بعده في خلقه ما وقع من أحد احترام السلف والاقتداء بهم إلا رفع الله تعالى قدره على أبناء وقته وجنسه جعلنا الله منهم بمنه وفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 كأنه يريد الحديث لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي
يريد أنه
الله عنه
۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض رضي الله عنه ومطلعه وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون الخ
٤ يعني القياس في الحكم الشرعي ٥ حذف جواب لو والتقدير لما كان له سيادة
١٢٨٥

حديث حق الله على عباده
عَن معاذِ بنِ جَبلٍ رَضي الله عنهُ قالَ بَينما أنا رَديفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسَ بَيني وَبَينَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحلِ فَقالَ يا مُعَاذُ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا معاد قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْك ثم سار ساعةً ثمَّ قال يا مُعَاذُ قلتُ لَبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ قالَ هل تدري ما حَقُّ الله على عِبادِهِ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ الله على عبادِهِ أَن يَعْبُدُوهُ ولا يُشركوا بِهِ شَيْئاً ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا مَعَاذُ بنَ جَبلٍ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ قال هَل تَدري ما حَقُّ العبادِ على الله إِذا فَعَلُوهُ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ العبادِ على الله ألا يُعذِّبَهُم
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإعلام بحق الله تعالى على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً والآخر الإخبار أيضاً أن حق عباده سبحانه إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما الفرق بين حقه جل جلاله وحق العباد فالجواب أما حقه سبحانه فهو واجب بوجوه منها لذاته الجليلة ومنها لأمره عزّ وجلّ بذلك ومنها لِما لَهُ عزّ وجلّ علينا من النعم والإحسان التي لا يحصى عددها
وأما حق العباد عليه عزّ وجلّ إذا فعلوا ذلك فحق تفضل منه عليهم لا وجوب عليه لازم فإنه جلّ جلاله لا حق لأحدٍ عليه لازم هذا مذهب أهل السنة والذي تعطيه الأدلة الشرعية والعقلية خلافاً للقدرية التي هي مجوس هذه الأمة لأنهم يقولون بزعمهم إن على الله حقاً واجباً أن من عبده ألا يعذبه وكيف يكون لعبد على مولاه حق لازم وهو كله له هذا ينفيه العقل
وقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن بشر العاصين وحذر الطائعين
١٢٨٦

قال إلهي وكيف أفعل ذلك قال بشِّرِ العاصين أن رحمتي وَسِعَت كلّ شيء وحذر الطائعين إن أقمت عليهم عدلي هَلكوا من ذا الذي يطيق عدله وكيف يكون لأحد خلاص إذا أقيم عليه عدله ثم كيف يكون للطائع حق وجوب عليه سبحانه وتوفيقه سبحانه عزّ وجلّ إياه للطاعة نعمة عليه تستوجب الشكر عليها بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلإِيمَنِ إن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ ١ والمحروم أعمى البصيرة لا يرى إلا من حيث حرمانه
خلفه
وفيه دليل على تواضعه عليه السلام وحسن سيرته مع أصحابه يؤخذ ذلك من إرداف معاذ
وفيه دليل على جواز ركوب اثنين وأكثر على الدابة إذا طاقت ذلك يؤخذ ذلك من ركوب معاذ خلفه عليه السلام وقد جاء أنه الركب و وجعل الحسن والحسين معه أحدهما أمامه والآخر
خلفه
وفيه ردّ على من يكره ذلك ويعيبه على أهل المناصب والحجة عليه فعل خير البرية صلى الله
عليه وسلم
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه أرفع ما نودي به يؤخذ ذلك من قوله يا معاذ ولو كان النداء بغير الاسم أرفع لكان يفعله نعم إن الكنى إذا كانت على الوجه المشروع جائزة وبين الجائز والأرفع فرق بين
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه قبل إلقائك العلم إليه من أدب العلم وإن لم يكن معكما ثالث وفي ندائك إياه قبلُ من الفائدة إحضار ذهنه إليك ليعي ما تلقيه إليه لأن الأذهان قد تطرقها فكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كل ما يلقى إليها وفي تكراره عليه السلام نداءه ثلاثاً تأكيد في حضور ذهنه وإشعار بأن الذي يلقى إليه له بال لأنه عليه السلام كانت سنته أن كل شيء له بال أعاده ثلاثاً ويؤخذ من إبطائه عليه السلام بين النداءين أنّ من السنة إلقاء العلوم بالوقار
والتؤدة
وهنا بحث وهو لم زاد في الثالثة ابن جَبَل
فالجواب إنما هي إشارة إلى أن هذه الثالثة اخر النداء فاسمع ما يُلقى إليك لأن زيادة ابن جبل هو الكمال في التعريف وإذا كمل الشيء فقد تمّ ويزيد ذلك المعنى بياناً قوله عليه السلام آخر الحديث يا معاذ بن جبل وهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه فإن نداءه
۱ سورة الحجرات من الآية ١٧
۱۸۷

عليه السلام له آخر واحدة فناداه بأكمل المعرفة وفيما أبديناه دليل على ما أعطاه عزّ وجلّ من الفصاحة والإعجاز في كلامه عليه السلام الذي لا تقدر أن ترى فيه زيادة إلا ولها فوائد جمة وجواب معاذ له بقوله لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيكَ من الجواب الخاص به بدلیل أنه لم يكن الصحابة يفعلون ذلك بينهم ولا هو الا هل هو فعل ذلك معهم فدل على أن ذلك من الخاص به عليه السلام وقد نص العلماء على جواب الرجل لمن ناداه بقوله لبيك أنه من السَّفه لأن هذه لفظة جعلت من جملة شعائر الحج وكل ما جعل من شعائر الدين فينبغي توقيره وتعظيمه فإن الله تعالى يقول ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وقد صار بعض الناس اليوم يجاوبون بها بعضهم بعضاً ويجعلون ذلك من الأدب والنبل وما ذاك إلا لقلة التقوى وعدم معرفة السنة هيهات كيف يتأدب من لا يعرف الأدب
وفي قول معاذ الله ورسوله أعلم دليل على أن من أدب العلم أن يُرَدّ العلم إلى أهله وفي قول سيدنا هل تدري ما حق الله على عباده دليل على أن إلقاء العالم المسائل على تلامذته وحينئذ يبيّن لهم ذلك لأن في ذلك من الفائدة إحضار الذهن لقبول العلم وفي تعليمه معاذاً من غير سؤال منه له لا دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلم دون أن يُسأل لأن هذه مسألة اختلاف بين العلماء وفي فصله عليه السلام بالمشي ساعة بين المسائل دليل على أن النجح في تحصيل العلوم التفرقة بين المسائل وفي ذلك دليل من الحكمة أن المسألة إذا تباعدت عن الأخرى يبقى الخاطر معمراً بالأولى حتى ترسخ فيه ثم تأتي الثانية كذلك والتي بعدها كذلك إلى غاية ما تنتهي الأحكام وقد أخبرني بعض مشايخي ـ وكان ممن أجمع على فضله - أنه حين اشتغاله على شيخه كان بعض الطلبة الذين كانوا يشتغلون معه على الشيخ وكان فيه خير وكان يشتغل بالسبب أنه إذا حضر المجلس ووعى مسألة واحدة قام وخرج إلى دكانه فأقلق ذلك بعض الطلبة فسألوه عن ذلك فقال إذا وعيت مسألة واحدة بقيت يومي في الدكان أرددها على خاطري فتثبت لي وإذا سمعت منه عدةً كل واحدة تنسيني صاحبتها فبلغوا خبره إلى الشيخ فأعجبه ذلك وقال للغير ممن تكلموا حاسبوا أنفسكم على كثرة سماعكم للمسائل على مسألة واحدة في اليوم فلم يقدروا
على ذلك
فسبحان من وفق أهل السعادة إلى اتباع السنة في الفعل وإن جهلوها بالعلم لأن توفيق هذا
۱ سورة الحج من الاية ٨٢
۱۸۸

المبارك الذي ذكرنا هداية من الحق ليس إلا وقد نص أهل التوفيق على أن قلة العمل مع الدوام
خير من كثرته مع الانقطاع وقد قال ل ل ل ا ل أحب العمل إلى الله أَدْوَمُه وإنْ قَلّ ١
والكلام على قوله لا له أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قد تقدم الكلام عليه في حديث البيعة أول الكتاب بما فيه شفاء
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ أحب العمل الخ ورواه الشيخان عن السيدة عائشة
رضي الله عنها بلفظ أحب الأعمال الخ
۱۸۹

٢٣٥ -
حديث النهي عن سب الأبوين وما يؤول إلى سبهما
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما قال قالَ النَّبيُّ إِنَّ مِن أكبر الكبائر أن يَلعَنَ الرَّجُلُ والِدَيهِ قيلَ َيا رَسُولَ الله وكيف يَلْعَنُ الرَّجُلُ والديه قالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ فَيَسب أباه وأمَّهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أن لعن الوالدين من أكبر الكبائر والعمل بِسَد الذريعة وفي ذلك

دليل لمذهب مالك رحمه الله في قوله بسد الذرائع يؤخذ ذلك من أنه جعل ما هو ذريعة لِسَب الأبوين سَباً لهما والكلام عليه من وجوه
منهما أن في هذا دليلا على عظم حق الأبوين إذ القول الذي هو ممكن أن يترتب عليه سبهما جعله الشارع من أكبر الكبائر فكيف بغير ذلك لأنه إذا سب الرجل أبا الرجل من الجائز أن يسبّ هو أباه ويقول له خلاف ذلك أو يفعل به بدل القول فعلاً مؤلماً لكن لما جرت العادة في الغالب أنه لا يَرُدّ إلا بالمثل حَكَمَ الشارع بالغالب وفي ذلك دليل على أن تقعيد الأحكام إنما هو على الغالب من جري العادة والمحتمل النادر لا ينظر إليه
وفيه دليل على أن كل ما يكون محتملاً أن ينتج منه شرّ لا يفعل خيفة من وقوع الشر وهو أيضاً من باب الحزم في الأمور
وفيه دليل على أن الأحكام والمخاطبات إنما تكون على العادة الجارية بين الناس
وفيه دليل على جواز مراجعة المفضول للفاضل فيما يقوله الفاضل ويشترط في ذلك الأدب يؤخذ ذلك من قول الصحابة وكيف يلعن الرجل أباه ۱ وأما الدليل على حسن الأدب في السؤال فيؤخذ من صفة لفظهم لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا لا يكون وإنما سألوا عن الكيفية كيف تكون على طريق الاستفهام فهذا هو عين الأدب في المراجعة
1 كذا ونص الحديث وكيف يلعن الرجل والديه
۱۹۰

L
وفيه دليل على أن من راجع فيما لا يعرف لا عتب عليه إذا كان على سبيل الاستفادة يؤخذ
ذلك من كونه لم يعتبهم على ذلك وبيّن لهم الكيفية بحسن عبارة
عُصِيَ
وقوله أكبر الكبائر فيه دليل على تفاوت الكبائر بعضها على بعض وفيه دليل على أن من أكبر أفعال الخير معرفة السنة يؤخذ ذلك من أن من لم يعرفها يجهل مثل هذا فيقع في أكبر الكبائر وهو لا يعلم وقد اعتاد بعض الجهال اليوم بِمُمَازَحتهم فيما بينهم أن يلعن بعضهم أبا بعض ويعدونه مباسطة فنعوذ بالله من الجهل والضلال ولذلك قيل ما الله بأشدَّ من الجهل وهو الحق فإن الجاهل لا يزال يقع في المهلكات وهو لا يعلم وهنا تنبيه على أن الأصل يفضل الفرع بالوضع وإن فضله الفرع بحسن الصفات قيل له لا تنس فضيلة سَبقه عليك لأنه لما كان الأب أصلاً للابن جعل له عليه هذا الحق العظيم فإن فَضَله الابن بصفة الإيمان - وهي أفضل الصفات - قيل له ﴿ وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تَشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۱ للفضيلة التي سبقاك بها
وكذلك يتعدى الحكم لمن كان السبب في هدايتك إلى مولاك وقد جاء مولاك ثم مولاك من علمك اية من كتاب الله يا هذا قد ملكك بعظم إحسانه إليك وإن كان في الطبع عروبية أشد مما ملك السيد رقبة عبده بالمال فإن الأحرار يملكون بالإحسان أكثر وأشد من تملك العبيد بالدرهم والدينار وكما ذكروا ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا فإذا كانت الطبائع رذيلة أبَقَ من قيد الإحسان أشدَّ من إباق العبد القِنّ لحا الله الهجين لا مروءة ولا دين
ومن هذا الباب يترتب عظم حق سيدنا الا الله ولأنه السبب الموصل لكل خير مَنَّ الله به علينا في الدنيا والآخرة وهنا زيادة لأن هذا الأصل لا يفضله فرع أبداً لا بوصف صفة ولا بمعنى فهو الأصل في جميع الخير وله فيه السبق حِسَّاً ومعنى ولذلك ذكر الله عزّ وجلّ في محكم التنزيل النَّبِيُّ أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ٢ فإنه ليس فضيلة من كان أصلاً لخروجك إلى الوجود كمن جعل أصلاً إلى إنقاذك من الجحيم وأثمر ثمر اتباعك له خلودك في النعيم
فانظر بفطن العقول كيف تتسلسل فضيلة الأصول في إنعام موجد الوجود واذكر آلاء الله وأيقظ سنة فهمك لعلها توافق عروبية في طبعك فتبادر إلى مراجعة خدمة مولاك لعل شَيْنَ إباقك عنه يزيله بيد عفوه عنك فالمؤمن توّاب جعلنا الله ممن سبقت له بالخير سابقة فراجع مولاك قبل الأخذ على غرّة والجأ إليه فإنه لا ربّ سواه
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة لقمان من الآية ١٥
سورة الأحزاب من الآية ٦
۱۹۱

حديث ثواب صلة الأرحام
عَن أبي هريرةَ رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ حتى إذا فرغَ من خلقه قالتِ الرَّحِمُ هذا مقام العائذ بكَ مِن القطيعة قالَ نَعَمْ أمَا تَرَضَيْنَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ وأقطعَ مَن قَطعَكِ قالت بَلَى يا رب قالَ فَهُوَ لَكِ
ظاهر الحديث الإخبار بعظم ما جعل الله تعالى للرَّحِم من الحق وأن وَضلَها من أكبر أفعال البِر وأن قطعها من أكبر المعاصي والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى قوله أصِلُ مَن وَصَلكِ وأقطَعُ مَن قَطَعَكِ ومنها الكلام على كيفية وصلها وما هو قطعها
فأما قولنا ما معنى قوله أَصِل مَن وصَلَك فهو كناية عن عظم الإحسان فإن أعظم ما يعطي المحبوب لحبيبه الوصال وهو القرب منه ومساعدته في مرضاته وهذه الأمور في حق مولانا سبحانه مستحيلة أن تكون على ما نعرف من صفات المحدث الفاني بل هي كناية عن قدر
الإحسان منه لعبده وعظمه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام صلة الرحم تزيد في العمر فهذا الوصال في هذه الدار زائد على ما أعد له في الآخرة من الخير والإحسان وكقوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ فمعنى قوله يحبهم كناية عن عظم إحسانه عزّ وجلّ لمن أحبه من عباده لأن ملكاً من ملوك الدنيا إذا أحب أحداً أغناه ورفعه على جميع أهل وقته فكذلك فعل مولانا سبحانه بمن يحبّه يحسن إليه غاية الإحسان ويرفعه في الدنيا والآخرة المنزلة العليا
۱ رواه القضاعي عن ابن مسعود رضي الله عنه وتتمة الحديث وصدقة السر تطفىء غضب الرب سورة المائدة من الآية ٥٤

۱۹

وأما قولنا ما معنى وأقطع من قطَعَك فهو كناية عن شدة الحرمان والعذاب لأن القطع ضد الوصل فكما عبّر عن عظم الأجر بالوصل عبّر عن عظم البلاء بالقطع أعاذنا الله من البلاء
بمنه
وأما كيفية الوصل للرحم فهو على ضروب مختلفة منه ما يكون ببذل المال ومنه ما يكون ببذل العون على ما يحتاجون إليه أعني أهل رَحِمه ومنه ما يكون بالزيارة لهم ومنه ما يكون بالدعاء لهم ومنه ما يكون بإكرامهم والبشاشة لهم ومنه ما يكون بدفع المضار عنهم والمعنى الجامع له إيصال ما أمكنك من الخير إليهم على قدر طاقتك بنية القربة إلى الله تعالى إلا أن ذلك بشروط ذكرها العلماء وهي أن يكونوا على الاستقامة وإلا فمقاطعتهم من أجل الله هو إيصالهم بشرط أن تبذل جهدك في وعظهم وزجرهم والإنكار عليهم لا لأنه إذا قيل لك في الأجنبي الذي هو أخوك في الإسلام أنصره ظالماً أو مظلوماً كما تقدم ذكره وهو ردّه عن الظلم فالأقرب من باب أولى فبعد ذلك يكون الهجران لهم وتُعْلِمُهُمْ أن هجرانك لهم إنما هو من أجل تخلفهم عن الحق فإذا استقاموا وصلتهم قدر طاقتك في ذلك لكن يبقى عليك من صلتهم عند المقاطعة الدعاء لهم بظهر الغيب أن يصلح الله حالهم ويُجِيرَهم بفضله

وأما مقاطعتهم فهي على ضربين إما كلية أو بعضية فالكلية هي أن تمنعهم جميع ما في وُسْعِك من الإحسان إليهم على نحو ما أشرنا إليه قبل قاصداً لذلك أو تكون معاداتهم لِحَظ نفس أو إبعادهم عنك لمثل ذلك وأما البعض فهو مثل أن تفعل معهم بعض الأشياء وتحرمهم بعضاً مع قدرتك عليها وقصدك ذلك فكلاهما محذور ويُخاف من وبالها لكن الواحد الذي هو الكلّي أشد أعاذنا الله منهما
وفيه بحوث منها هل الألف واللام في الخلق للجنس أو للعهد فإن كانت للجنس فمتى كانت وإن كانت للعهد فمتى كان احتمل أن تكون للجنس وهو عند فراغه - جل جلاله - من جميع المخلوقات على اختلافها وبقي الاحتمال في أي وقت كان ذلك هل عند الفراغ من ظهورها في اللوح المحفوظ بالكتب وهي بَعْدُ لم يظهر منها في عالم الوجود إلا اللوح والقلم لا غير واحتمل أن يكون ذلك عند الفراغ من خلق السموات والأرض وإيحائه عزّ وجلّ في كل سماء أمْرَها القدرة صالحة لهما معاً والعرب تسمي البعض باسم الكل والكل باسم البعض وأما أن يكون على حقيقة ظاهرة - وهو أن تبرز جميع المخلوقات في عالم الحس والمشاهدة
۱ يعني إذا كانوا على الاستقامة
۱۹۳

فلا يمكن لأن من المخلوقات ما لم يبرز بعد في عالم الوجود والحس ونحن نعلم أنه لا بد أن يظهر ويكون قطعاً لازماً مثل الدابة التي تخرج عند قرب الساعة وهي في علم الله لم تبرز ولا ظهرت ومثل من بقي من تناسل جميع الحيوان ومثل الأمور التي هي عند قرب الساعة وقد أخبر بها الصادق وهي لم تظهر بعد وأشياء عديدة إذا تتبعتها وجدتها

وإن كانت للعهد وهي عند فراغه سبحانه من خلق بني ادم فمتى كان احتمل أن يكون عند فراغه جل جلاله من خلق أرواحهم لأنه قد جاء أن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام واحتمل أن يكون عند فراغه من خلق الأشباح والأرواح وهو يوم سأل سبحانه ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ١ وهو يوم إخراجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر وأخذ عليهم العهد لأنها إحدى الحياتين في قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا أَمَتَنا اثنتين وأحييتنا اثْنَتَيْنِ على أحد الأقاويل ويترتب عليه من الفقه أن نعرف أن الألف واللام في الرحم هل هي للعموم أو للخصوص فإن كانت للخصوص فهل هي للثقلين من الجن والإنس ليس إلا احتمل الوجوه كلها لكن إن كانت الألف واللام للعهد فتكون صلة الرحم تحتمل وجهين أحدهما أن تكون للجن والإنس لأنهما المكلَّفان أو أن تكون خاصة ببني آدم ويكون الفقه أن صلة الرحم خاصة ببني آدم وأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن الأمر عام في بني ادم وهم منهم
ويترتب عليه من الفقه إن كانت للجنس أن صلة الرحم عامة في كل الحيوان من جن وإنس وطير ويقويه عموم قوله تعالى ﴿ وَلَا طَبِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ ۳ وقد كانت العرب تلحظ ذلك في الخيل وينسبون الحسن والأصالة من الطريقين كما يفعل بنو ادم ويذكرون ذلك عند الشدائد لتثبت على حرية نسلها ويتنافسون في أثمانها من أجل ذلك
وهنا بحث ثان وهو هل كلام الرحم للحق جل جلاله بلسان المقال أو بلسان الحال إن كان بلسان المقال هل كان ذلك بعدما بثها في جوهر ووضع فيها الحياة والعقل أو هي على حالها الكلام على هذا مثل كلام العلماء على كلام الجمادات وهي على ثلاثة وجوه لأن منهم من قال إن كلام الجماد بلسان حاله بما أظهر الله فيه من أثر قدرته ومنهم من قال إنه خلق لهم حياة وعقلا وحينئذ تكلموا ومنهم من قال إنهم تكلموا وهم على حالهم - وهو الأظهر - وإن
كانت القدرة صالحة للوجوه الثلاثة
۱ سورة الأعراف من الآية ۱۷ سورة غافر من الاية ۱۱ ۳ سورة الأنعام من الآية ۳۸
١٢٩٤

لكن الوجهين فيهما تخصيص لعموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل شرعي وحصر لقدرة القادر التي لا يحصرها شيء لأن قدرته عزّ وجلّ صفة من صفاته فكما ذاته الجليلة لا تنحصر بوجه من الوجوه فكذاك كل صفاته لا تنحصر منها صفة من الصفات بوجه من الوجوه لأن
الصفة لا تفارق الموصوف وقد تقدم الكلام على ذلك أول الكتاب بما فيه شفاء بفضل الله تعالى ومنها أن فيه دليلا على أن الاستعاذة بالله من أجل الوسائل إلى الله وأنجحها يؤخذ ذلك من قول الرَّحِم هذا مقام العائذ بك فأسعفت في الحال بما رَضِيَت به ومما يقوي هذا الوجه ما جاء في شأن العدو الذي قيل له وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِك وجعل له أنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه وجعل لنا النصرة والغلبة عليه بالاستعاذة بالله عزّ وجلّ ولم يجعل بغير ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه العزيز ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ وقول مريم عليها السلام حين أتاها روح الله الأمين إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيَّا ﴾ ٤ ﴿ وقول سيدنا أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبِكَ منك لا أُحصي ثناء عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك ٥

وفيه إشارة عجيبة من طريق حسن المجانسة في الكلام وهي أنه لما كانت صلة الرحم حقيقتها التواد بين الأقارب والتعاطف جُعِلت الصيغة التي تدل على الجزاء عليها من جنس ما هو المعروف في التخاطب بين المحبين والمحبوبين وهي الوصل والمقاطعة
وفي قوله إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه دليل على صفتين عظيمتين من صفات الحق سبحانه وهما القدرة والحكمة فأما الدال منهما على القدرة فبالإخبار بأنه عزّ الخلق وأي دليل على القدرة أعظم من اختراع الخلق على غير مثال تقدم ولا
جميع
وجلّ خالق مُعِينٍ ولا وزير وَزِير
وأما الدال على الحكمة منه فقوله عليه السلام حتى إذا فرغ من خلقه لأن حتى لانتهاء الغاية فتعطي قوة الكلام أن من له غاية فله بداية وما بين الغاية والبداية اقتضته الحكمة الربانية لا لعجز من القدرة فإن مِن قدرته جلّ جلاله خَلْقَ جميع الخلق وهو كما أخبر عزّ وجلّ بقوله
1 يعني الأول والثاني سورة الإسراء من الآية ٦٤ ۳ سورة الأعراف من الاية ۰۰ ٤ سورة مريم من الآية ۱۸
٥ رواه الترمذي وأبو داود والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
١٢٩٥

وَمَا مَسَّنَا مِن تُغُوبٍ ۱ لا يمكن أن يكون في قدرته عجز عن شيء من الأشياء بل ما كان في بعض المخلوقات من تأخر أو غير ذلك فلحكمة اقتضتها حكمة من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وقد تقدم في أول الكتاب من هذا بيان شاف بفضل الله ورحمته
وفيه دليل لقول من قال إن رأيك بحسب ما قدر لك يؤخذ ذلك من أنه لما قامت الرحم مقام العائذ بالله تعالى من القطيعة وسبق في علم الله سبحانه أن يكون من عباده واصل لها وقاطع لها أيضاً أرضاها بأن جعل عندها رضى بأن يصل الله من يصلها ويقطع من يقطعها فقبلت ذلك ورضيت به بدلاً من الذي طلبته لأنها طلبت أن لا قطيعة لها فلو قال لها الحق جل جلاله لك ذلك أي لا تقطعي لم يكن أحد يقطعها
وفيه دليل لتحقيق قوله ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يُستجاب له وإما أن يُدَّخر له وإما أن يُكفّر عنه ۳ لأنه عزّ وجلّ عوّض الرحم عما طلبته ما هو خير لها
منه ورضیت به
وفيه دليل على أن جميع المخلوقات بيد الله سبحانه يصرفها كيف يشاء كما قال صلى الله عليه وسلم ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ٤ أي بين أمرين من أمر الرحمن مثل الرضى وضده والعزم على الشيء وتركه والرغبة والزهد وما يضادهما من الأشياء يقلب القلب من طرف إلى ضده في لمحة البصر ولذلك كان من دعائه ل له يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ٥ ولهذا المعنى كان أهل التوفيق والمعرفة بالله تعالى أشد الناس خوفاً على أنفسهم مع كانوا عليه من الخير التام حتى إنه يروى عن بعضهم أنه كان كلما استيقظ من نومه يجر يده على وجهه ثم ينظر إلى حواسه ثم يحمد الله تعالى ويشكره ويتشهد ويعلن بها فقيل له في ذلك
فقال

1 سورة ق من الاية ۳۸ سورة الشورى من الآية ۱۱
۳ رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث غريب ولفظه ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يؤخر له في الآخرة وإما أن يكفر عن ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي ٤ أخرجه ابن عساكر وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها وتتمته إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ٥ رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني وكثيرون بألفاظ مختلفة منها قلبي ومنها قلوبنا ومنها ثبتنا ومنها ثبت قلوبنا الخ
١٢٩٦

أما جَرُّ يدي على وجهي فمخافة أن يُطمس عليه كما أخبر عزّ وجلّ وخبره الحق مِّن قَبْلِ
أَن نَّطْمِسَ وُجُوهَا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ۱ وأما نظري إلى حواسي فخيفة العاهة التي هي متوقعة على الإنسان وأما إعلاني بالشهادة فاختبار لنعمة الإيمان و لا اله الا الله ولا ينام الرجل النومة فيُسْلَب عنه الإيمان ويبقى أثره ثم ينام النومة فيُقبَضُ أثرها ۳ أو كما قال عليه السلام فإذا رأيتُ نعمة الإيمان ونعمة الحواس باقية سالمة حمدت الله وشكرته على إبقائه تلك النعمة بفضله
جعلنا الله ممَّن أتمها علينا وجميع نعمه في الدارين بفضله ورحمته آمين آمين يا ربَّ
العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ٤٧
رواه البخاري في كتاب الفتن عن حذيفة رضي الله عنه ومطلعه ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظلِ أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه منتبرا وليس فيه شيء إلى آخر الحديث
۱۹۷

حديث ثواب عائل البنات
عَن عائشةَ رَضي الله عنها قالت جاءَتني امرأة وَمَعها ابْنَتَانِ تَسألني فَلَم تَجِد عِندي غَيْرَ تَمرةٍ واحِدَةٍ فأعطَيْتُها فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ثُمَّ قامَت فَخَرجَتْ فَدخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فَقالَ مَن بُلِيَ مِن هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيء فَأَحسَنَ إلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتراً مِنَ النَّارِ
ظاهر الحديث إخبار الصادق الا الله أنه من آتاه الله شيئاً من البنات فأحسن إليهنّ كنّ له ستراً من النار أي وقاية تقيه من النار والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى الإحسان وهل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط وهل يحتاج في ذلك إلى نية أم لا وهل ذلك على طول عمرهن وإن كبِرْن أو ذلك عند صغر سنهن وإن
كان فما حَدّه
فأما قولنا ما معنى الإحسان إليهن فهو ما زاد على القدر الواجب الذي لهن وهو بين من لفظ الحديث فإنه لما كانت المرأة معها ابنتان يسألن السيدة عائشة رضي الله عنها فلم يجدن عندها إلا تلك التمرة الواحدة التي أعطتهن إياها وكان من الواجب أن يقسِمْنَها أثلاثاً فلما جادت الأم بثلثها عليهما فقد زادتهما على حقهما وتلك الزيادة هي الإحسان الذي أشار إليه رسول الله بأن من فعله معهنّ كان له ستراً من النار وهو يتعدى في كل الوجوه التي فيها معاملتهن فمن زادهنَّ في كل وجه منها شيئاً على حقهن كان محسناً لهن ومن فعل معهن معروفاً في نوع ليس لهن فيه حق فالباب واحد
وأما قولنا هل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط فما من وجه من وجوه البر إلا وله شروط فمنها ما هي ظاهرة يستوي في معرفتها الناس كافة ومنها ما لا يعلمها إلا الخواص من أرباب العلم
فأما معنى قولنا هل ذلك على عمومه أي إذا وقع منه إحسان إليهن على أي وجه كان
۱۹۸

ر
على لسان العلم أو غير ذلك أو يكون قد أساء إليهن أو يكون قد ترتب لهن حق عنده فأما ما خالف لسان العلم فلا ينطلق عليه اسم إحسان شرعاً وكذلك إذا ترتب لهن قبله حق فلا يقال له محسن بل ذلك من الحق الذي قد ترتب لهن قِبَلَه وتقع بينه وبينهن المحاسبة والمحاكمة في الدار الآخرة وكذلك إن كان قد أساء إليهن من وجه آخر فليس على عمومه ولا يسمّى محسناً إلا بعد توفية الحقوق من كل الجهات وعدم الإساءة ويكون فعله ذلك على لسان العلم وحينئذ يكون محسناً
وأما شروطه فهو أن يكون إحسانه إليهن ليس فيه ضرر للغير بعد القيد المتقدم ذكره من لسان العلم وما ذكر معه
وأما هل تحتاج ذلك إلى نية أم لا فالنية شرط في جميع الأعمال لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ۱ إلا مواضع قد تقرر الحكم فيها أنها لا تحتاج إلى نية أعني أن الفعل يجزىء بغير نية ويؤجر عليه وهو مثل ما يفعله المرء بغيره من الطهارة وشبهها ومثل زوال النجاسة من الثوب والبدن وما أشبه ذلك
وأما قولنا هل ذلك مع طول عمرهن أو ذلك في زمان صغر سنهن أما الإحسان إليهن فليس يتقيَّد بصغر سنهن ولا كِبَرِهن بل حقوقهن مع صغر السن على سبيل الوجوب فمنها لزوم النفقة والكسوة والكفالة فهذا وما هو من نوعه يُسقطه كبرهن إذا تزوجن على ما هو المعلوم من عرف الشرع في ذلك وإن كبرن فلا يخرجن عن البُنُوَّة أبداً فهن في كل وقت محل للإحسان وهن أيضاً محتاجات إلى ذلك وإن كن على أي وجه كنَّ من اليسار وضده ولكثرة شروط هذا الإحسان كان بعض من ينسب إلى الخير - وله البنات والعيلة - بعد إحسانه إليهن يقول والله ما أدري هل أتخلص منكن في الآخرة أم لا ثم يدعو الله سبحانه أن يجعلهن له رحمة بفضله وفيه دليل على جواز السؤال يؤخذ ذلك من قولها جاءتني امرأة ومعها ابنتان تسألني فلو
لم يكن جائزاً شرعاً لأنكرت ذلك عليها وفيه دليل على فضل بيت النبوة وكثرة سخائهم يؤخذ ذلك من كونها لم يكن عندها إلا تلك التمرة الواحدة وجادت بها
وفيه دليل على جواز ذكر المعروف الذي نفعله إذا لم يكن على وجه المَن والافتخار فإن ذلك مفسد له يؤخذ ذلك من ذكر عائشة رضي الله عنها المعروف الذي فعلته مع المرأة للنبي
صلى الله عليه وسلم
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۱۹۹

وفيه دليل على استحسان فعل المعروف وإن قَلَّ يؤخذ ذلك من بذلها تلك التمرة الواحدة
ولم تَسْتَقِلها وقد ذكر عنها أنه جاء سائل إلى الباب وكان عندها عنب فأعطت منه حبة واحدة لشخص يخرجها له فرأت منه أنه استقلها فقالت كم في تلك الحبَّة من ذرات تريد بذلك قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ ﴾ ۱ وقد نبه بعض العلماء على أن من مكايد الشيطان إذا رآك تعطي الكثير يَعِدُك بالفقر حتى يكسلك عن البذل وإن رآك تعطي اليسير يزهدك فيه ويحقره في عينك حتى يحرمك البذل في اليسير والكثير
وفيه دليل على أن أعلى المعروف جهد المقل ولا يلزمه غير ذلك من طريق الندب يؤخذ ذلك من تلك السيدة لم تزد على بذل ما كان عندها مع قلته شيئاً وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
حين أخبرته ولو كان بقي عليها من طريق الإحسان لشيء النبهها العاليه ل لا ل عند إخبارها له بذلك وفيه دليل لأهل الصوفة الذين أصل طريقهم الإيثار وحمل الضيم فيما يخصهم لأن هذه الصفة هي التي أعجبت السيدة عائشة رضي الله عنها من تلك المرأة حتى أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرر عليه هذا الأصل العظيم ولذلك قيل فيهم ما أحسنهم في جودهم حتى بنفوسهم جادوا ثم جادوا وجدوا حتى وصلوا وسادوا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزلزلة الآية ٧
١٣٠

شخصاً أكل بحضرة النبي ونسي التسمية فلما ذُكِّر قال - كما قدمنا فتبسم النبي وقال رأيت الشيطان أكل معه أولاً فلما قال بسم الله أوله وآخره قاء الشيطان كل ما أكل
نوع کا
وأما عليه السلام وأما قوله عليه السلام وليأكل كل رجل مما يليه هل هو في كل طعام أي كان فظاهر اللفظ يقتضي العموم لكن قد قال العلماء إن ذلك في الثريد وما أشبهه لأنه كله سواء وأما إذا كان الطعام على غير ذلك وفيه أنواع مختلفة فلك أن تجيل يدك حيث تريد لكن بأدب مع الإخوان لأن الأدب من السنة وأما إن كان الطعام يابساً مثل التمر والفواكه فَلَكَ الخيار أن تأخذه من حيث شئت وإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون على صفة واحدة أم لا فإن كان على صفة واحدة فحكمه حكم الثريد تأكل مما يليك لا غير وإن كان فيه اختلاف فلك أن تجيل يدك فيه إلا أنه بأدب وقد جاء أنه قدم له لا الهلال والحلم فيه دبّاء ۱ فجعل عليه السلام يتبع الدباء في
القصعة ٢
وأما قولنا إن كان الطعام يختلف به أي يؤتى بطعام بعد طعام هل يجزىء فيه تسمية واحدة أم لا فلا يخلو أن تكون تعاينه وتعلمه ويكون الأكل متصلاً بعضه ببعض أو لا فإن كنت تعاينه وتعلمه والأكل متصل فتسمية واحدة تجزىء ما لم تعين نوعاً واحداً من ذلك تفرده من غيره كما تفعل عند رميك على الطير إذا كانوا ۳ جماعة أو الظباء وإن عينت الجميع فأي شيء أخذت منها تتناوله تسميتك وإن قصدت واحداً بعينه وأخذت غيره لم تتناوله التسمية
وقد نص الفقهاء أنك إذا دخلت حديقة وفيها أنواع من الثمار ونويت عند دخولك أن تأكل من كل ثمرة لقيت وسميت بهذه النية أجزأتك التسمية عن كل ما تأكل في تلك الحديقة في وقتك ذلك وإن كانت أشجارها متباعدة بعضاً عن بعض وذلك يقتضي تعيين الأكل أيضاً وإن أنت لم تسم عند دخولك إلا على الثمرة التي لقيت ولم تعين غيرها فتؤمر إذا انتقلت إلى غيرها أن تسمي
عليها
وأما قولنا هل هذا الأمر خاص بالرجال لا غير أو الرجال مواجهون بالخطاب وهو متناول الكل فالجواب أن تقول ليس في الدين تخصيص لبعض دون بعض بل اشتراك الكل في جميع
۱ الدباء اليقطين ويسمى في بلاد الشام القرع رواه البخاري في البيوع باب ذكر الخياط وفي الأطعمة باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه وباب القديد ورواه مسلم في الأشربة من حديث أنس رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله له الطعام صنعه فذهبت معه إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله له خبزا من شعير ومرقاً فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت النبي الله يتتبع الدباء حوالي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ
۳ كذا بضمير العقلاء
۱۰۱

الأوامر إلا ما دل دليل على تخصيصه ولا دليل هنا على التخصيص فهو عام في الكل وفي هذا
الحديث وأشباهه دليل على بذل جهدهم لا لا لايف في النصح والتعليم
ويترتب على ذلك من الفقه فيما يخصنا أن من علامة السعادة للشخص أن يكون معتنياً بمعرفة السنة في جميع تصرفه والذي يكون كذلك هو دائماً في عبادة في كل حركاته وسكناته وهذا هو طريق أهل الفضل حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه بقي سنين لم يأكل البطيخ فقيل له في ذلك فقال لم يبلغني كيف السنّة في أكله فلا اكله حتى أعلم كيف ذلك وكيف لا والله سبحانه يقول في حقه ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ۱ والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن ﴾ تكون عامة في كل الأشياء جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة ال عمران من الآية ۳۱
۱۰

حديث ما خصت به العجوة من المنفع

عَن عامِرٍ بن سَعْدٍ ١ عَن أبيه رضي الله عَنهُم قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن تَصبَّحَ كُلَّ يَومٍ بِسَبع تمراتٍ عَجْوَةٍ لَم يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمَّ ولا سِحر
ظاهر الحديث يدل على أن من أكل كل يوم سبع تمرات عجوة لا يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه العجوة من أي بقعة كانت سواء أو هي من بقعة معيّنة وهل تكون في حين طراوتها أو أي وقت أكلت كانت طريّة أو مدخرة وهل يحتاج في أكلها إلى نيّة أم لا وهل تعرف الحكمة في كونها خصت بالنفع في هذين الشيئين أم لا وهل هذا عام في المؤمن والكافر والطائع والعاصي أو ذلك خاص بالمؤمنين لا غير

فأما قولنا هل تلك العجوة تكون من بقعة مخصوصة أم لا فالجواب أنه قد جاء حديثان أحدهما أنها من المدينة والآخر أنها من العوالي ٢ فإن حملنا هذا الحديث المطلق الذي نحن بسبيله على هذين الحديثين فتكون من عجوة العوالي أو المدينة وإن قلنا إن لكل حديث حكماً تكون مطلقة من حيث كانت نفعت فيجيء النفع إذا كانت من العوالي أو المدينة بلا شك
ويبقى النظر إذا كانت من غيرها
۱ عامر بن سعد بن أبي وقاص
مدني تابعي سمع أباه وعثمان وابن عمر وأسامة وأبا هريرة وعائشة وكان ثقة بالاتفاق توفي بالمدينة سنة ١٠٣هـ والده كان أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة في الشورى لخلافة عمر رضي الله عنه العوالي هي اليوم حي من أحياء المدينة المنورة

وأما قولنا هل يكون أكلها عند جناها أو أي وقت أكلت احتمل والظاهر أي وقت كانت
لأن الاسم يتناولها
وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أو لا فكل ما كان متلقَّى من الرسول صلى الله عليه وسلم فالأصل فيه النية ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۱ لأن المؤمن إذا أخذ ما أمر به موقناً بذلك وجد الفائدة كما وعد وزيادة وإذا أخذه بغير نية فقد يبطىء الأمر عليه قليلا فيقع له تردد فيحصل في بحر التلف ومما روي مثل هذا أن النبي خرج مرة إلى غزوة من غزواته فأمر الصحابة رضي الله عنهم بالتزود فتزود بعضهم وعجز البعض ولم يجدوا ما يشترون به فأمر لا ل ل له أن يأخذوا رواحلهم ويخرجوا معه فخرجوا فلما بلغوا إلى أحد الأودية - وهو كثير الحنظل - أمرهم أن يمتاروا منه فكلهم فعلوا ما أمرهم به إلا شخصاً واحداً فقال في نفسه وما جاء بنا إلا إلى الحنظل وما عسى أن أفعل به فلم يأخذ منه إلا خمس حبّات ورجعوا إلى المدينة
وكان للشخص الذي لم يأخذ غير خمس حبات غلام تركه بالمدينة في ضروراته فلما سمع برجوعهم إلى المدينة خرج لأن يُعين سيده فوجد الناس محمّلة رواحلهم وليس لسيده حمل فسأله عن ذلك فقال له ما جرى فقال له الغلام أمرَكَ وبقي عندك شك وكيف وقع ذلك وما أخذت منه شيئاً قال ما أخذت إلا خمس حبّات وقد ذهب عني بعضها في الطريق فقال هاتها فأعطاه إياها فأكل الغلام منها فإذا هي مثل الشهد سواء فقال كُلْ تَرَ ما حُرِمت فأكل فوجد مثل ما وجد الغلام فندم نَدامة الكُسَعِيّ ٢

والحديث الثالث حين جاء بعض الصحابة فشكا للنبي لو أن أخاه به بطن ۳ فأمره أن يسقيه عسلاً فسقاه ثم رجع إلى النبي الله يشكو إليه ثانية فأمره أن يسقيه عسلاً كذلك في الثالثة
۱ سورة الإسراء من الاية ۸
الكُسَعِي هو غامد بن الحارث الكسعي اتخذ قوساً وخمسة أسهم وكمن في مكان مظلم للحُمُر الوحشية فمرّ منها قطيع فرمى السهم الأول فنفذ في العير حتى صدم الجبل فأورى نارا فظن أن سهمه أخطأ الوحش فرمى ثانية وثالثة حتى نفدت سهامه الخمسة وهو يظن في كل رمية أنه أخطأ صيده فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات فلما أصبح نظر فإذا الحُمُر مطرحة مُصَرّعة وأسهمه بالدم مضرّجة لم تخطى هدفها وصيدها فندم وقطع
إبهامه وأنشد
۳ أي إسهال
ة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطع إذا لقطعت خمس
ـنَ لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي
١٢٠٤

أو الرابعة فقال له عليه السلام صدق الله وكذبَ بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاه فشفي أخوه ۱ وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونها تنفع لهذين الشيئين فالجواب أنه لا طريق لنا
إلى ذلك بل الله يختص من يشاء بما يشاء من جماد ونبات وحيوان إلى غير ذلك من جميع خلقه فمنها ما يعلم من طريق التجربة مثل صنعة الطب وقد تخيب وتصيب ومنها ما هو من طريق إخبار الرسل صلوات الله عليهم وهذا لا يخيب أصلاً لكن الغالب على الناس أنهم قد ركنت أنفسهم إلى قول الأطباء بلا تأويل وقد عاينوا منهم في الغالب عدم النجح وهذا الذي لا شك فيه لأنه من طريق الرحمة للعباد لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً العلمين ۳ فقليل منهم من يقبله وذلك علامة الحرمان فنسأل الله العافية وبعضهم يتأول ويقول هو حق لكن لا نعرف التأويل في كيفية العمل وهذا حَيْد عن الصواب لأنه لو كان في أحد الأشياء التي أخبر بها وجه من وجوه الكيفية في عمله ما ترك عليه السلام بيانه إلا أخبر به قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ٤

وأما قولنا هل ذلك خاص بالمؤمنين أو عام في المؤمن والكافر صيغة اللفظ تعطي العموم وأما ما قدمناه من قوله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ٥
فيعطي الخصوص
وفيه دليل على أن السحر حق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم
ولا سحر
وفيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تدركها العقول يؤخذ ذلك من كون السحر عن الشخص لا يراه ثم يصل إليه منه ضرر حتى يجد ذلك الضرر في بدنه محسوساً ومما يزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ٦
منفصلاً
ايق
1 أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه جاء رجل إلى النبي الهلال فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقاً ثلاث مرات فقال رسول
له صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ
الله
أي السم والسحر سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷

0
سورة التوبة من الآية ٦٥
سورة الإسراء من الآية ۸
3
٦ سورة البقرة من الآية ۱۰
١٢٠٥

وبقي بحث في قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر هل يكون معناه
العموم أو الخصوص فمعنى العموم أن الذي استصبح بالعجوة لا يضره سم إن شربه في ذلك اليوم ولا سحر إن سحر فيه ولا سم تقدم شربه على ذلك اليوم ولا سحر تقدم على ذلك اليوم عمله فتكون تلك العجوة توقف عنه ضرر ذلك السم الذي تقدم شربه في ذلك اليوم وكذلك السحر أيضاً وتحميه عن ضرر ما يفعل فيهما في هذا اليوم ومعنى الخصوص أن كل سم أو سحر يكون في ذلك اليوم بعد أكله تلك العجوة لا يضره احتمل الوجهين معاً لكن الأظهر الخصوص من طريق أنه أقل المحتملات فهذا مقطوع به
ومن طريق النظر إلى أن هذا ورد من طريق الرحمة من الله تعالى ببركة هذا النبي العظيم الا الله فيكون الأظهر العموم لأنا نرى الترياق الكبير الذي هو من تأليف الأطباء الذي طريقه التجربة يدفع من السموم ما قد حصل منها في البدن وما يأتي بعده فكيف بما هو طريقه طريق الرحمة والتفضل

إلا أنه لا بد في ذلك من قوة يقين ونية حسنة كما ذكر عن عمرو بن العاص ۱ أنه جاءه رسول من العدو وبيده قارورة فلما دخل عليه سأله عن تلك القارورة التي هي بيده فقال له سم ساعة فقال وما عسى أن تفعل به فقال له إني رسول لقومي لم يوجهوني قط في أمر إلا جئتهم بما يحبون وهم قد وجهوني إليك فخفت منك ألا تُسْعِفْني فيما طلبوا فجئت بهذا السم فإن لم تستعفني بما طلبوا أشربه فأموت ولا أرجع إليهم بما يكرهون فقال له ناولني إياه فأعطاه القارورة وقال رحمه الله بسم الله قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا وشرب ذلك السم فعرق من حينه ساعة ثم أفاق وما به بأس فرجع الرسول من حينه إلى قومه وقال لهم أسلموا عن آخركم فإن هذا رجل لا طاقة لكم به شرب سم ساعة فلم يضره
فلتسميته بتحقيق النية ظهر ذلك الخير عليه وكذلك كل من قصد الله تعالى صادقاً وجده حيث أمله وزيادة لأنه يقول جل جلاله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن ﴿ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۳ ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ٤ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ﴾ ٥
۱ وتنسب هذه الحادثة إلى خالد بن الوليد في كتب أخرى والله أعلم
سورة ال عمران من الآية ١٦٠ ال
۳ سورة المائدة من الآية ٢٣ ٤ سورة الطلاق من الآية ٣ ٥ سورة النساء من الآية ۱
١٢٠٦

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۱ لكن من عينُ يقينه خُفَاشِي لا يستطيع أن يبصر شمس الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ من غذّى قلبه بالحرام لا يبصر إلا ظلاماً في ظلام ظُلُمَتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ۳ أعاذنا الله من الحرمان ومن كسب الآثام بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ۸۷ سورة المطففين من الاية ١٤
۳ سورة النور من الاية ٤٠
۱۰۷

حديث الأمر بلعق اليد من أثر الطعام قبل غسلها
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال إِذا أَكَلَ أحَدُكُم طَعاماً فَلا يمسَحْ
يده حتى يلعقها أو يُلعِقها
* *
ظاهر الحديث النهي عن أن يمسح أحد يده إذا أكل طعاماً حتى يلعقها أو يعطي غيره يلعقها والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل هذا من كل الطعام وهل هذا لعلة مفهومة أو تعبد لا غير وهل ذلك خاص بالمسح أو عام في المسح والغسل وقوله يُلعِقها هل يكون ذلك من جنسه لا غير أو من جنسه وخلاف جنسه إن أمكنه ذلك وفي المسح كيف يكون وفيم يكون
فأما قولنا هل من كل طعام فليس على عمومه لأن من الأطعمة ما لا يتعلق بيد الأكل منه
شيء وما لا يتعلق منه شيء ولا يحتاج إلى مسح فلا يحتاج إلى أن يُلعق وأما قولنا هل هو تعبد أو لعلة معقولة اللفظ لا يفهم منه ذلك لكن قوة الكلام تعطي أنه لعلة مفهومة وهي حرمة الطعام والتعظيم لنعم الله تعالى لأنه لا الله و قد شدّد في هذا الباب ـ أعني تعظيم نعم الله تعالى واحترامها - كثيراً وقد ورد أن ترك ذلك سبب إلى زوالها وقلّما أزال الله تعالى نعمته من قوم فردّها إليهم وقد كان لا لا اله إذا أكل في أهله وشبعوا تركوا القصعة حتى يأتي من
يَلعَقُها
وقد حكى أبو هريرة أنه كان يوماً به جوع شدید فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أراك شديد خُلوف الفم فقال نعم فأمره عليه السلام أن يأتي معه إلى منزله فلما دخل أخرج له قصعة ليس فيها إلا لَعْقُها قال فقلت في نفسي وماذا تعني هذه فلَعِقْتُها وشبعت أو كما قال ولقي وهو صائم لبابة خبز في قذر فغسلها وأمر بلالاً أن يرفعها له حتى يفطر وقال عليه السلام إن القصعة تستغفر للاعقها ۱ أو كما قال والأحاديث في هذا النوع كثيرة
۱ رواه الترمذي في الأطعمة من حديث نبيشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له =
۱۰۸

وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يفرغون من الأكل ويغسلون أيديهم ثم يشربونه تعظيماً لنعم الله وتبركاً بآثار شيء أكل عوناً على طاعة الله تعالى
وأما قولنا هل ذلك خاص بالمسح أو عام فيه وفي الغسل الجواب أنه إذا كان في المسح الذي ينتقل الطعام الذي تعلّق باليد إلى الشيء الممسوح فيه فكيف بالماء الذي يُذهِب عين الطعام فهو من باب أولى
وفيه دليل على أن السنّة المسح من الطعام وإنما الغَسل من فعل الأعاجم أعني إذا كانت اليد نظيفة فالغسل إذ ذاك من فعلهم وإن كان قد جاء أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويُصح البصر ۱ فيكون الجمع بين هذين الحديثين بأحد وجهين أحدهما أن يكون اللَّممَ الغسل لموجب له فقبل الطعام تكون اليد غير نظيفة والذي بعده يكون الطعام مما فيه دسم كثير لا يزيله المسح أو رائحة يكون فيها تأذَّ وذلك مكروه أن يصلّى به أو يكون فعله ذلك غِباً لا يتخذه دائماً فإنه مخالف للسنة أو يكون الغسل لعدم الشيء الذي يمسح فيه والشأن أن يخرج من التشبه بأهل الكتاب الذي قد نهينا عن التشبه بهم
وأما قولنا هل يلعقها من جنسه أو من خلاف جنسه إذا أمكن ذلك فإذا فهمنا العلة كما قدمنا - وهي من أجل حرمة الطعام - فكل من يجوز لنا أن نعطيه طعاماً يأكله ويأتي منه اللعق على وجه جاز لنا ذلك ما عدا أهل الملل
وأما قولنا فيم يكون المسح وكيف يكون أما فيم ففي كل شيء طاهر لا حرمة له وأعني بقولي لا حرمة له تحرزاً من الخبز والكتاب وما أشبه ذلك أو مال الغير فإن مسحك فيه ممنوع إلا بإذن مالكه وقد جاء أنهم كانوا يمسحون تحت أقدامهم وأما الكيفية فأن يكون الفعل
برفق بحسب حالة الشيء الممسوح فيه وإنما ذكر الرفق فيه لقوله ما كان الرفق في شيء إلا زانه حتى يكون في فعلك أثر من السنة لأن الشأن في هذا
جعلنا الله من أهلها بفضله لا رب سواه امين

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
=
القصعة ورواية المؤلف إن القصعة لتستغفر اللاعقها رواها رزين في جامعه بلفظ إن انية الطعام لتستغفر للذي
يلعقها ويغسلها
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية موسى الشهاب من رواية موسى الرضا عن ابائه وذكره العراقي مع جملة أحاديث فقال إنها ضعيفة
عزاه في الفتح الكبير إلى عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله عنه
۱۰۹

- ٢١٤ -
حديث كراهية الأكل في أواني الكفار وجواز أكل ما صيد بالكلب

المُعْلَم وغيره
عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ قُلتُ يا نَبِيَّ الله إِنَّا بِأَرضِ قَومٍ أهلِ كتاب أفنأكُلُ في آنيتهم وبأرض صَيد أصيدُ بِقَوسي وَبكَلبي المُعلَّم فما يَصلُحُ لي قالَ أَمَّا مَا ذَكرتَ مِن آنيَةِ أهل الكتابِ فإن وجدتُم غَيرَها فَلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وَكُلوا فيها ومَا صِدتَ بِقوسِكَ فَذَكرتَ اسم الله عَليهِ فَكُلْ وَما صِدْتَ بِكَلبِكَ غَيْرِ المُعلَّم فأدرَكتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول جواز الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إذا لم يوجد غيرها والثاني جواز أكل ما صدته بقوسك أو بكلبك المعلم إذا ذكرت اسم الله تعالى أدركت ذكاته أو لم تدركها والثالث ما صدته بكلبك غير المعلم فلا تأكل منه إلا ما أدركت ذكاته والكلام عليه من وجوه
منها التنزه عن استعمال أواني أهل الكتاب مع وجود غيرها
ومنها أنه إذا لم تجد غيرها جاز استعمالها بعد غسلها بالماء يؤخذ ذلك من أنه لم يبح له الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إلا عند الضرورة وهو عدم غيرها وأهل الضرورات لهم حكم خاص بهم وقد اختلف العلماء في الانية المتنجسة ما عدا الزجاج فإنه لا يداخله مما جعل فيه شيء فالغسل يطهره وما عداه من الأواني التي قد يختلط ما جعل فيها ببعض أجزائها مثل
1 أبو ثعلبة الخشني صحابي أحد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة وأحد الذين شهدوا فتح خيبر روى عن النبي عدة أحاديث وتوفي سنة ٧٥هـ
ذكاته ذبحه الشرعي

آنية الخشب والحنتم وما أشبههما على ثلاثة أقوال قول بأنها لا تطهر وبأنها تطهر وبالتفرقة بأن يطول مكث الإناء في الماء الزمان الطويل فتطهر وإن كان قليلا فلا تطهر
وفيه دليل على أن الحكم في الأمور للغالب عليها يؤخذ ذلك من أنه لما كان الغالب من أحوال أهل الكتاب أن النجاسة تحل في أوانيهم أعطوا حكم النجاسة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها
ويلحق بهذا في الحكم أهل البطالة وتحمل ثيابهم على النجاسة لأنها الغالبة عليهم في كثرة أحوالهم وقد عد الفقهاء هذه العلة في ثياب شارب الخمر أنه لا يصلي بها حتى تُغسل ومنها وجوب التسمية على الصيد يؤخذ ذلك من تكرارها في كل من أنواع الاصطياد وإفصاحه عليه السلام في جميع الأنواع بقوله وذكرت اسم الله

ومنها قوله بقوسي وأباح له عليه السلام أكل ما صاد به إذا ذكر اسم الله عليه أدرك ذكاته أو لم يدرك وهل هذا خاص بالقوس دون غيره من السلاح أو يُحمل جميعُ السلاح عليه فإن قلنا يتعدى الحكم بوجود العلة فجميع السلاح المُحَدَّة التي تفري وتنهر الدم يجوز ذلك بها مثل الرمح والسيف والسكين وما أشبه ذلك وقد نص على جواز ذلك أهل الفقه في كتبهم على ما هو هناك مذكور
كذلك نقول في قوله عليه السلام وما صدتَ بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاتَه فَكُلْ يتعدى الحكم إلى غير الكلب المعلم من جميع الحيوانات التي تفترس أنه إذا كانت غير معلمة وصيد بها فالحكم فيها كالحكم في الذي صيد بالكلب غير المعلم كذلك ما صيد بالآلة التي ليست بمُحَدَّة مثل الحجر والعصا وما أشبه ذلك إذا صيد بها ما يُدرك ذكاته من ذلك أكل وإلا لم يُؤكل منه
شيء
وفيه دليل على أن الحكم إذا نيط بعلة فعُدِمت ارتفع الحكم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في الكلب غير المعلم أنه لا يُؤكل ما صيد به إلا إن أدرك ذكاتُه فدل على أن التعليم في الجارح يُبيح ما صيد به وإن لم تُدرك ذكاته
وفيه دليل على أن من أحسن جوابك للسائل أن تعيد صيغة لفظه فيما سألك عنه وتجاوبه على كل نوع على حدة يؤخذ ذلك من تكرار سيدنا الا الله بلفظ ما سأله السائل عنه وجاوبه على كل نوع منها على حِدَته بقوله عليه السلام أما ما ذكرت من انية أهل الكتاب إلى آخر الحديث
1 الحتم الخزف الأسود والجرة الخضراء
0
۱۱۱

وفيه دليل على أن ما لم يتحقق نجاسته يكره استعماله من غير ضرورة ويجوز عند استعماله الضرورة بلا كراهية يؤخذ ذلك من كون سيدنا اله الا لمنع الأكل في آنية أهل الكتاب مع وجود غيرها لأن تلك الآنية التي أُكل فيها ليست النجاسة متحققة فيها بل هي مظنونة فمنع عليه السلام استعمالها مع وجود غيرها وأباحه عند الضرورة وهو عدم غيرها وفي هذا الوجه دليل لأهل الصوفة لأنهم يظنون في أنفسهم كل مكر وخديعة فلا يستعملون ما تشير به عليهم شيئاً إلا إن كان موافقاً للكتاب والسنة بعد ما يلجؤون في ذلك إلى أن نفسه رغبته في مولاهم خوفاً أن يكون تحت ذلك مكرٌ من وجه ما كما ذكر عن بعضهم الجهاد ووحدت ذلك عليه فقال لها هذا عندي محال أن يكون هذا منك على وجهه لأن الجهاد من أقرب القُرَب ما أفعل ذلك حتى أسأل الله تعالى في أمرك فسأل مولاه سبحانه أن يُطلِعَه على ما أبطنته فقيل له في النوم إنها قد سَئِمت من القيام والصيام فأرادت أن تموت في الجهاد لكي تستريح من التعب ويبقى لها حسن الثناء بعد الموت فقال لها ما لي جهاد إلا فيك ولا أزال أقتلك بالقيام والصيام حتى تموتي لأنهم سمعوا فيها قول مولاهم حيث قال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۱
فمن رحمته عزّ وجلّ بهم أن ألهمهم مخالفتها وتهمتهم لها إلا حيث جاء الأمر بالنظر إليها في وجه ما فنظرهم لها في ذلك الوجه ليس لها وإنما هو من أجل الأمر بذلك فَمِنْ أَتمَّ الشجاعة والرجولة مقاتلة العدو ومن أدب الجهاد قتال من يليك من الأعداء وأقربهم إليك نفسك وهواك ففيهما فجاهد إن كنت ذا بأس وشطارة وإلا فوصف الخنوثة بك أولى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة يوسف من الآية ٥٣

15101
حديث جواز أكل لحم الخيل
ن أسماء ۱ رَضِيَ الله عَنها قالَت ذَبحنا عَلى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً وَنَحْنُ
بالمدينة فأكلناه
ظاهر الحديث يدل على جواز أكل لحم الخيل بغير كراهية والكلام عليه من وجوه منها أن السنة في ذكاة الخيل هو الذبح لا النحر يؤخذ ذلك من قولها ذبحنا وقد جاءت رواية نحرنا فعلى هذا يجوز أكله بالذبح ويجوز بالنحر ٢
وقولها ونحن بالمدينة فيه دليل على أن ذلك كان لغير ضرورة يؤخذ ذلك من قولها فأكلناه أن ذكاته ما كانت لعلة بالفرس إنما كانت لمجرد الأكل لا غير وفي هذا دليل للشافعي رحمه الله في إجازته أكل لحوم الخيل مطلقاً والدليل معه في ذلك وأن الإمام مالك رحمه الله فلم يقع منه مخالفة للحديث فإنه لم يحرمه وإنما كرهه وذكر سبب ذلك وبيان كراهيته إلى أنها ما تستعمل ولا فائدتها غالباً إلا للجهاد فإذا كثر استعمال أكلها كان سبباً إلى قتلها وقتلها يؤول إلى نقص من الإرهاب للعدو
وفيه وجه آخر لأن أكل لحمه - على ما قيل - يقسي القلب وما يقسي القلب ينافي أوصاف أهل الإيمان فجاءت كراهيته من باب سد الذريعة التي هي أصل مذهبه ووجه آخر أن أكله في زمان النبي كان قليلاً وإن كان جائزاً فإنه لم يأت فيه إلا هذا الحديث وحديث خيبر لا غير فيما أعلم فدل على قلة استعماله فعمل هو في ذلك على العمل
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ١٠٥ النحر نحر الصدر أعلاه ونحر البعير طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر الذبح قطع الحلقوم من باطن عند النَّصِيل وهو موضع الذبح من الحلق فالنحر يكون أقرب إلى الصدر والذبح أقرب إلى
الحلق

بأن كرهه حتى يكون استعماله قليلاً كما كان في زمن النبي الا الله فجاء فيه متبعاً للسنة بطريقة
حسنة
وفي قولها نحن بالمدينة فائدة أخرى وهي أن ذلك كان بعد تمكن الإسلام وظهوره وفرض الفرائض وتحديد حدود الشريعة لأنه ما فرض من الفرائض بمكة إلا الصلاة لا غير وجميع الفروض إنما كانت بالمدينة فيما أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
نال
١٢١٤

مله
للقتل
لهشة ريا
حديث النهي عن قتل الحيوان صَبراً
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما أَنَّهُ سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يَنهى أن تُصَبَّرَ ۱ بِهِيمَة أو غَيْرُها
ظاهر الحديث يدل على منع الحيوان كله عاقلاً كان أو غير عاقل من أن يُصبر للقتل
والكلام عليه من وجوه
منها أن من السنة الرفق بجميع الحيوان عاقلا أو غير عاقل

وفيه دليل على رحمة الله تعالى بعبيده على اختلاف أجناسهم وأنواعهم يؤخذ ذلك من نهيه عن أن تصبر بهيمة للقتل أو غيرها ومما يقوي ذلك أنه جاء من قتل عصفورا عبثاً جاء العصفور يوم القيامة مستجيراً يقول يا رب سل هذا لِمَ قتلني عَبَنا ٢ وفي هذين الحديثين دليل على قهر الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لم يترك لأحد التصرف في شيء من الأشياء دقت أو جلت إلا وقد حد له كيفية التصرف فيه وأنه يحاسبه عليه دق أوجل جماداً كان أو غير جماد عاقلا أو غير عاقل وفيه دليل على عظيم عدل المولى سبحانه يؤخذ ذلك من اقتصاصه عزّ وجلّ للعصفور على دقته من العاقل الكبير إن قتله لغير منفعة أو صبره للقتل
وفيه دليل على عظيم إحاطته عزّ وجلّ بجميع مخلوقاته يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لا
1 القتل صَبراً أو التصبير حبس الإنسان أو الحيوان حتى يموت أو تثبيته وضربه حتى يموت أو تعذيبه حتى يموت ومن القتل صبراً ألوان العذاب الوحشي في السجون حيث ينتهي المعذبون بالموت رواه الإمام أحمد والنسائي والبغوي في معجمه وابن قانع وابن حبان والطبري والضياء في المختارة عن الشريد بن سويد بألفاظ مختلفة

تخفى عنه مثل هذه على دقتها ويحصيها ويعاقب عليها مصداقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حسین ۱
وفيه دليل على أن صفاته عزّ وجلّ ليس كمثلها شيء يؤخذ ذلك من كون صفة الانتقام مع صفة الرحمة معاً وفي فعل واحد لأن القتل دال على صفة الانتقام ثم في نفس فعل القتل الرحمة وهو منعه أن يصبر حيوان عاقلاً كان أو غير عاقل للقتل فرفق به في نفس العذاب والانتقام وقد قال إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ٢ وصفة المحدّث إذا وقع منه انتقام لا يرحم ولو قدر على أكثر لفعل فبان ۳ بمقتضى أحكامه سبحانه وتعالى بوحيه أو على لسان رسوله لأنه ما يحكم إلا عن الله كان بواسطة الملك بالوحي أو من تلقاء نفسه بما يلهمه الله عزّ وجلّ إليه فالكل من الله
وفي هذا دليل على أن صفاته جلّ جلاله ليس كمثلها شيء فإنه ليس كمثله شيء سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ٤ فسبحان من تبدَّى بالدليل لذوي البصائر واحتجب بعظيم قدرته مع إيضاح دلائله عن أهل الجهالة والشقاوة جعلنا الله ممن عرفه به ودله به عليه وتغمّده في الدارين برحمته بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأنبياء من الآية ٤٧
رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأوله إن الله كتب الإحسان على كل شيء وتتمة الحديث وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وَليُحِدَّ أحدكم شَفرتَه وليُرِح ذبيحته
۳ أي ظهر الدليل على رحمة الله وعدله وإحاطته
٤ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٢١٦

حديث تحريم أكل لحم الحُمُرِ الأهلية وجواز أكل لحم الخيل

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ
الحمر ورخص في لحوم الخيل

الله عَنهُما قالَ نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية والرخصة في لحوم الخيل والكلام عليه من وجوه
منها أن ترخيصه عليه السلام في لحوم الخيل يوم خيبر إنما كان من أجل الضرورة لأنه جاء من طريق آخر في هذا الحديث أنهم رضي الله عنهم لم ينحروا الخيل يوم خيبر إلا من أجل المجاعة التي لحقتهم
وفيه دليل لمالك كما قدمناه في الحديث قبل أنه وافق السنة في كراهية أكل لحوم الخيل
لأن لفظة رخص عند العذر تقتضي المنع أو الكراهية عند عدم العذر
وهنا بحث وهو أن يقال هل تحريمه لا لا لا لحوم الحمر وترخيصه في لحوم الخيل تَعَبُّد لا
يُعقل له من جهة الحكمة معنى أو تعقل الحكمة في ذلك
فأما قولنا هل تعقل الحكمة في ذلك فقال بعض العلماء إن الحكمة في تحريم الحمر الأهلية هو أن الحمر ليس في الحيوانات أبلد منها فأكل لحمها يكتسب من ذلك فلإشفاقه عليه السلام على أمته منعهم من كل ما عليهم فيه ضرر في الدنيا والآخرة كما حرم مولانا سبحانه الميتة وأحلّها بعد ثلاث ۱ فذكر بعض العلماء من الحكمة في ذلك أن الميتة فيها سُمِّيّة كثيرة فمنعنا من أكلها لأجل الضرر الذي يعود علينا من سُمّها فإذا بقي المرء ثلاثاً اشتدت سُمّيته في بدنه حتى عادت أشدّ من سُمّ الميتة فأبيح له إذا ذاك أكلها لعدم الضرر لأكلها بل يحصل له بها قوى ومنافع في إبقاء رمقه رحمة من الله تعالى بعبيده
1 أي بعد ثلاثة أيام بلياليها مع الجوع الشديد وعدم وجود ما يؤكل سواها

وفيه دليل على أنه إذا اجتمع ضرران أخذ أخفّهما يؤخذ ذلك من أنه لما كانت لحوم الحمر تكسب البلادة ولحوم الخيل تُكسب القساوة كما ذكرنا في الحديث قبل رخص في لحم الخيل
التي هي أقل ضرراً

وفي قوله يوم خيبر وجهان الواحد أنه دال على تثبته في النقل لأن ذكر الموطنين اللذين جرت بهما النازلة دال على حقيقة العلم بما أخبر به والوجه الآخر وهو كون القضية موطن مشهور بجمع كبير قد يرويه غيره فيحصل فيه تصديق له والتواتر في الحديث يزيده قوة

لأنه ينقله من كونه خبر احاد إلى التواتر وهو أعلى درجة

في
وينبغي من جهة الفقه أن يُعَدّى الحكم فحيثما قدر المرء أن يزيد إخباره على ما أخبر به قرينة حال تصدق مقالته في ذلك فعل وفيما ذكرناه دليل على لطف الله تعالى بعبيده فيما أحل لهم وفيما حرم عليهم
وفيه دليل على أنه عزّ وجلّ لا يحل ولا يحرم إلا عن حكمة وفائدة لنا عَقَلها مَن عَقَلها
وجَهلها مَن جَهلها
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن جميع خلقه وعن تعبداتهم إذ كل ذلك عائد بالنفع عليهم وهو الغني المستغني ولذلك تنعم أهل العقول والمعاملات بكل حكم يصدر عن الله تعالى لعلمهم بأن ذلك رحمة منه عزّ وجلّ إليهم لم يشكوا في ذلك فرجع لهم بقوة يقينهم التنعم بالنعماء والبلاء على حد سواء
وكذلك روي عن بعضهم أنه قال لا أبالي على أي حالة أصبحت وأمسيت إنما هي حالة شكر أو صبر وكلاهما رحمة من الله تعالى هؤلاء فهموا قوله عزّ وجلّ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لقوم يُوقِنُونَ ۳ وقول رسول الله لا والله ما يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيراً له ٤ فمن عرف عف و استراح ومن جهل تكالب وما نجح ومن طلب العز بالجهل وقع الهوان به وما عزّ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ يقصد بالموطنين المدينة وخيبر كما ذكر ذلك في الحديث ۱۵ وفي هذا الحديث المتواتر هو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أول الإسناد إلى اخره والاحاد عكس المتواتر نقله واحد عن واحد والعلماء يفرقون في وجوب العمل أو عدم وجوبه بين المتواتر وخبر الاحاد ۳ سورة المائدة من الآية ٥٠ ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه بلفظ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر وكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له
۱۱۸

حديث النهي عن أكل لحوم كل ذي ناب من السباع
عَن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيّ ١ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَكل كُلِّ ذي ناب
مِنَ السَّباع
*
ظاهر الحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي تحريم أو نهي كراهية
اختلف العلماء في ذلك فمذهب الشافعي رضي الله عنه ومن تبعه أنه نهي تحريم ومذهب مالك رحمه الله ومن تبعه أنه نهي كراهية
وهل نهيه لعلة أو تعبد الظاهر أنه لعلة لأنه لو كان تعبداً لم يكن العلماء ليختلفوا فيه

وبقي البحث في العلة فنقول والله أعلم لكونها تأكل الجيف فإنها إذا افترست فالذي تفترسه جيفة لأنه غير مذكَّى فيكون شأنها مثل البقر والإبل الجلالة التي تأكل العَذِرَةَ وقد اختلف العلماء أيضاً في أكل لحمها والحالة هذه فكرهه مالك ومن تبعه وأما رجيعها ۳ فهو نجس على المعروف وكذلك رجيع الطير المفترس نجس بلا خلاف ذكر فيه وهنا علة صوفية وهي لعزة نفسه وضرره ذلّ حتى لم يصلح أن يكون قوتاً للمؤمنين ويترتب عليه من طريق النظر من أعزّ نفسه فذلك ذل لها ومن ذلها ۳ فقد أعزها ومما يقوي هذا البحث ما جاء عنه ما من أحد من بني آدم إلا برأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع رفع
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٠٢١٤ الرَّجيع هو الجِرّة التي تجترها الإبل والغنم والبقر - وهي حيوانات مجترة - أي تخرجها من معدتها إلى فمها وهذا هو الاجترار كما أن للرجيع معنى آخر وهو الروث وليس مراداً هنا
۳ كذا يريد أذلها
۱۱۹

الملك رأسه بتلك الحَكَمة وقال له ارتفع رَفَعك الله وإن ارتفع ضرب الملك رأسه بتلك الحَكمة وقال له اتَّضِع وضَعَك الله ۱ أو كما قال عليه السلام فعلى هذا الوجه ظاهر الحكمة في جميع الحيوانات طلب التواضع بينهم وعدم ضرر بعضهم لبعض وهم داخلون تحت عموم قوله تعالى أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَى و ٢

وفيه إشارة لمن فهم لعلّه يتصف بصفة من صفات أهل الخير لأن يدخل في طريقهم
ويكتب معهم يؤخذ ذلك من عموم قوله عليه السلام كل ذي ناب من السباع فيدخل تحت ذلك الأسد والهرة والفأرة وما بينهما ومنهم ٣ القوي والضعيف

فكذلك أنت اجعل في نفسك شبهاً ما بالمُوَفِّقين لعل تلك البركة تشملك معهم مثل ما إذا نودي بإحضار التجار جيء بأصحاب الآلاف وجيء بصاحب الدينار الواحد فإن لم تكن من أصحاب الآلاف فكن صاحب الدينار الواحد لعل الواحد بفضله إذا خلع عليهم خلع القرب والرضا يخلع عليك معهم واحذر أن تتشبه بصفة من صفات أهل الشر فتكتب معهم فيلحقك وبالهم وقد جاء من تشبه بقوم فهو منهم 4 فكيف من عمل ببعض أعمالهم وقد قال تشبه بالقوم فإن التشبه بالكرام فلاح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحَكَمَة الأداة أو السلسلة التي ترتبط بالرأس ليُشدّ بها بإحكام والحديث رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما من ادمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع قيل للملك ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حَكَمَتَه
سورة الأنعام من الآية ۳۸
۳ كذا بضمير جماعة العقلاء
٤ رواه أبو داود عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن حذيفة رضي الله عنهم
۱۰

حديث جواز الانتفاع بجلود الميتة
الله عَنهُما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّئَةٍ فَقالَ
عَن عبدِ الله بنِ عَبَّاسِ عَبَّاسٍ رَضي اسْتَمَعْتُم بإهابها قالُوا إنَّها مَيِّئَة فَقالَ إِنَّما حَرُمَ أَكلُها
ظاهر الحديث يدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة والكلام عليه من وجوه
منها في كيفية الانتفاع به هل ذلك عام في جميع وجوه الانتفاع أو انتفاع خاص فالعموم في الانتفاع من كل الوجوه ممنوع لأن من جملة الانتفاع بيعه وأكل ثمنه ولم يجيزوه ومنها الصلاة عليه وفيه ولم يجيزوه ومنها جعل الطعام فيه ولم يجيزوه لأنه يعود فعله لأكل الميتة فإن الطعام إذا جعل فيه تنجس به وإنما يكون انتفاعاً خاصاً من حيث لا تلحق منه نجاسة في شيء من الأشياء ولا مخالطة في طعام بوجه من الوجوه
وفيه دليل على تحريم أكل الميتة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم أكلها وفيه دليل على أن ألفاظ العموم إذا ورد الأمر بها تحمل على عمومها ولا تخصص إلا بمخصص من الشارع عليه السلام يؤخذ ذلك من أنه لما أن حرمت علينا الميتة فماتت تلك الشاة التي راها سيدنا استعمل أصحابها عموم الأمر بالعموم فرموها بإهابها وصوفها وكل أجزائها فخصص عموم الأمر بقوله عليه السلام إنما حرم أكلها
أكلها
وفيه دليل على أن عموم القرآن يخصص بالسنة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم
وفيه دليل على جواز مراجعة الآمر إذا أمر ولم يفهم السامع ما قصد بالأمر وبقي عليه في

بعضه التباس يؤخذ ذلك من قولهم بعدما قال لهم الله هلا انتفعتم بإها بها إنها ميتة كأنهم
۱ كذا ورواية الحديث اسْتَمْتَعْتُم بدون هلا

يقولون يا رسول الله تأمرنا بالانتفاع بإهابها وقد حرمتها علينا بأمر الله لك وهذه الشاة ميتة فكيف يكون ذلك
وفيما ذكرنا من معنى مراجعتهم دليل على حسن اختصارهم في الخطاب وبلاغتهم في
المعنى يؤخذ ذلك من كونهم جمعوا تلك الألفاظ فكلها في متضمن قولهم إنها ميتة وفيه دليل على أن الصفقة إذا خالطها حلال وحرام فإن كل واحد منهما يعطى حكمه لأن العلماء اختلفوا في صفقة إذا اختلط فيها حلال وحرام فمنهم من قال إنها كلها حرام ومنهم من قال إنها كلها حلال ومنهم من قال إن قدر ما فيها من الحرام حرام وقدر ما فيها من حلال حلال لأن الخلطة لا تنقل حكماً من الأحكام إلا في الخليطين في الماشية على خلاف أيضاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هلا انتفعتم ۱ بإهابها وقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فجعل للحم حكماً وهو التحريم وللجلد حكماً وهو التحليل والشاة واحدة
وفيه دليل على أن الأحكام الشرعية لا يكون تقريرها إلا بعد نفي كل المحتملات يؤخذ ذلك من جوابهم الرسول الله بعد رؤيته الشاة الميتة ولا يخفى حالها على أحد أنها ميتة فكيف على من كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه لكن من أجل استقرار الحكم بطريق الاحتمال أن يكون قوله عليه السلام هلا انتفعتم بإهابها من طريق الاستفهام لهم كيف معرفتهم بحكم الله تعالى في الميتة جاوبوه بقولهم إنها ميتة لينظروا ما قصده بتلك
المخاطبة
وفيه دليل على أن من النبل أن يكون جواب المرء عما سئل عنه على قدر ما يعلم فيه لا يتعانى خلاف ذلك بزيادة أو نقص يؤخذ ذلك من جوابهم لسيدنا و بما سبق لهم من العلم في أمر الميتة لا غير
وهنا بحث وهو أن يقال هل أمره و ب الانتفاع بإهابها يطهره أو هو باق على نجاسته لفظ الحديث لا يفهم منه شيء من هذا لكن من حديث غيره يفهم أنه باق على نجاسته وهو قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر فإذا لم يدبغ فهو باق على نجاسته
وبحث ثان وهو أن يقال هل لنا أن نعدي الحكم بالانتفاع بغير ذلك من أجزائها لقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فيما عدا الأكل أم لا
۱ كذا
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما

1 20

فالجواب على البحث هل يجوز لنا الانتفاع بباقي أجزائها مثل الإهاب أم لا فأمره له
بالانتفاع بإهابها لا يتعدى الانتفاع من أجل ذلك إلى غيره من أجزائها لأحد وجهين الأول منهما لأن الحظر والإباحة والتحريم والتحليل لا يكون إلا على نحو ما نص عليه لا يتعدى ذلك بالقياس إلا في المواضع التي لا لا لا لا لا لا هو الحكم بعلة نصاً منه عليه السلام أو مشاراً إليها على نحو ما تكلم الفقهاء في أنواع العلة الشرعية وتعداد أنواعها على ما هو مذكور في كتبهم وما لا يفهم له علة فيقتصر الحكم فيه على ما نطق و الله به في مثل هذا الموضع وما
أشبهه
والوجه الآخر لأن هذا المنه الا الله الرخصة لأمته والرخص لا يقاس عليها ولا يتعدى محلها ونص بعض الفقهاء أنه إذا كان للمرء ميتة وله علج أو كلب لصيد أو ما يجوز اقتناؤه أنه لا يعطيه الميتة ولا يأمر العلج بأكلها فإن ذلك من جملة أنواع الانتفاع بها وإنما يمرر العلج أو الكلب على موضع الجيفة فإن هما تصرَّفا فيها من تلقاء أنفسهما فلا بأس وإلا فلا يرشدهما إلى ذلك ولا يأمرهما به
وأما الجواب على البحث الذي معنا هل نقيس على الإهاب غيره من أنواع النجاسات أم لا فالجواب عليه كالجواب على البحث قبل وأيضاً فلا قائل بذلك من الفقهاء وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث الأمر بطرح الطعام المتنجس
عَن مَيمونة ١ رَضي الله عنها أنَّ فارَةً وَقَعت في سَمْنٍ فَمَاتَت فَسُئِل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنها فَقالَ أَلقُوها وَما حَولَها وَكُلُوهُ
**
ظاهر الحديث يدل على تنجيس الموضع الذي ماتت فيه الفأرة من السمن وطرحه معها والكلام عليه من وجوه

منها أن يقال هل يتعدى الحكم في كل الأطعمة وفي كل الميتات من جميع الحيوان وكذلك ما عداهم من جميع النجاسات وهل يكون حكم الجامد من الطعام كحكم المائع وهل يكون طول مقام الشيء النجس من جيفة أو غيرها في الطعام الذي وقعت فيه بالسواء من قرب الزمان في ذلك أو بعده وهل يجوز الانتفاع به فيما دون الأكل وهل يمكن تطهير ما وقعت فيه من طعام أم لا
أما قولنا هل يتعدى الحكم إلى جميع الطعام ما عدا السمن أم لا فقد عَدَّى ذلك الفقهاء لوجود العلة وهي تنجيس موضع حلول الميتة ولا فرق أن يكون سمناً أو غيره إذا كان طعاماً جامدا فإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون ماء أو غيره فإن كان ماءً فلا يخلو أن يكون جارياً أو راكداً وتفصيل هذا في كتب الفروع وأما إن كان طعاماً مائعاً فهو نجس
وأما قولنا هل ذلك في كل الميتات في أي نوع كانت من الحيوانات فالجواب أنه لا فرق بين موت الفأرة في ذلك أو غيرها من جميع الحيوان الذي له نفس سائلة ولايؤكل إلا بذكاة لوجود العلة فيه وهي كونه جيفة وأما ما عدا الميتة من أي نوع كانت - كما ذكرنا قبل من أنواع
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ۱۹۸
٢ كذا بضمير جماعة العقلاء
١٢٢٤

النجاسات - فلا فرق بينها وبين الميتة إذا كانت جامدة باردة في جميع أحكامها فإن كانت سائلة باردة أو حارة فتنويع الحكم فيها في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل حكم الجامد من الطعام الذي وقعت فيه الميتة كحكم المائع فالجواب أنه ليس حكم الجامد كالمائع فإن المائع من حين وقوع الميتة فيه أو الشيء النجس يتنجس جميعه فيطرح جميعه ما عدا الماء فيه تقسيم كما هو في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل طول مكث الميتة سواء مع قربه أو بعده فقد اختلف العلماء في ذلك وليس في الحديث من أين يستدل عليه بل هي نظرية فمن العلماء من جعل الحكم واحداً ومنهم من قال إذا طال مكثها في الطعام طرح جميعه ومنهم من فرق في ذلك بحسب الأزمنة فإن كان زمان الحر طرحت وجميع الطعام وإن كان زمان البرد طرحت وما حولها ومنهم من فرّق بين كبر الإناء الذي وقعت فيه من صغره وفي طول الزمان الذي يطلق عليه هذا الحكم مع صغر الدابة وكبرها وذلك كله مستوعب في كتب الفقه وهذا البحث في الطعام الجامد وأما المائع فكما تقدم الكلام فيه وحكم النجاسة كما ذكرنا في الميتة سواء
وأما قولنا هل يجوز الانتفاع بالشيء الذي وقعت فيه الميتة أو الشيء النجس من الطعام فظاهر الحديث محتمل لكن الأظهر عدم الانتفاع - والله أعلم - وفي ذلك بين العلماء خلاف وهذه
أيضاً نظرية
وأما قولنا هل يصح تطهير ما وقعت فيه الميتة من الطعام فالجواب أنه لا يخلو أن يكون دهناً أو غيره فإن كان دهناً ففي تطهيره بين العلماء خلاف وهي مسألة نظرية أيضاً وما عدا الدهن من الطعام الجامد فلا يخلو أن يكون مطبوخاً أو مملحاً أو على غير هذين النوعين فللعلماء فيه ثلاثة أقوال بتطهيره وعدمه
والثالث هو أن يكون قد استوى في توفية طبخه ونضجه في الملح ولم يقبل زيادة في ذلك فإن كان استوى فإنه يغسل ويؤكل فإنما تنجس ظاهره ولم تدخل النجاسة باطنه وإن كان لم يستو نضجه فلا يتطهر ويطرح فإن النجاسة دخلت باطنه لأنه يجذب من الخارج إلى الباطن والذين قالوا بغسله وتطهيره يقولون إنه يغسل أولاً بماء حار ثم ثانية ببارد ثم ثالثة بحار ثم ببارد فإن كان على غير هذه الصفة فلا يطهر وأما ما عدا هذين النوعين فكما هو مذكور في كتب الفقه وفيه دليل على ألا يتصرف إلا بعلم يؤخذ ذلك من كونهم لم يتصرفوا في السمن ولا في نزع الفأرة منه إلا بعدما سألوا رسول الله الله وهو عليه السلام الأصل وقد اختلف العلماء فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أو مأثوماً على ثلاثة أقوال وقد ذكرناها في أول الكتاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٢٥

حديث بيان وقت ذبح الأضحية
عَنِ البراء ۱ بن عازب رضي الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بِهِ في يَومِنا هَذا أن نُصلّي ثُمَّ نَرجِعَ فَتَنحرَ مَن فَعلَهُ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا وَمَن ذَبَح قَبلُ فإنَّما هُوَ لَحم قَدَّمَهُ لأهله لَيسَ مِنَ النُّسُكِ في شيءٍ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة في يوم الأضحى تقديم الصلاة قبل الذبح ومن ذبح قبل الصلاة فإنه لحم ليس بنسك والكلام عليه من وجوه
منها التأكيد في صلاة العيد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي فجعلها عليه السلام مفتاح الأعمال في ذلك اليوم وهل هي فرض أو سنة قولان للعلماء في ذلك
ومنها التأكيد في شأن الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعد ما قال نصلي ثم نرجع فنتحر ثم زادها عليه السلام تأكيداً بقوله من فعله فقد أصاب سنتنا وقد اختلف العلماء هل هي فرض أو سنة على قولين والذي قال منهم بأنها سنة هي عنده من اكد السنن ويزيد ذلك تأكيداً قوله عليه السلام في حديث غيره ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أعظم من إراقة
دم
وفيه دليل على أن النية وإن كانت حسنة والعمل الذي يعمل بها لا يصحان إلا إذا كانا
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦٦ و ۹
رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ما عمل ادمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً
١٢٢٦

موافقين للسان العلم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد ۱ وقوله عليه السلام إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل يا رسول الله وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة فتخليصه من الرياء أن يكون لله خالصاً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ ۳ وتخليصه من البدعة أن يكون على نحو ما أمر به لقوله تعالى قل إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤
وفيه دليل على أن اتباع الصحابة رضي الله عنهم هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام لم يترك لهم شيئاً من الأعمال إلا بيَّنَهُ لهم وحملهم فيه على سنته الواضحة مثل هذا الحديث وما يشبهه
ومما يؤيد هذا قوله أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ٥ وقد قال العلماء رضي الله عنهم مثل يمن بن رزق وغيره وأنا أوصيك باتباع السنة في عملك واكد من ذلك اتباع السلف فإنهم أعرف بالسنة منا وقد قال مالك رضي الله عنه إذا كان حديثان ووجدنا الخلفاء أو الصحابة عملوا بأحدهما دل على أن الآخر منسوخ وإن لم يعرف النسخ وإذا كان للحديث معنيان وعملوا بأحدهما دل على أن ذلك هو الحكم في ذلك الحديث وأنه الظاهر من ذينك الوجهين 4 وفيه دليل على جواز أكل اللحم في يوم العيد ما عدا لحم الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإنما هو لحم قدّمه لأهله فأجازه عليه السلام ولم يمنعه
وفيه دليل على أن نفس الأضحية عبادة يؤخذ ذلك من تسميتها نسكاً بقوله عليه السلام ليس من النسك في شيء في الذي ذبح قبل الصلاة فدل على أن الذي ذبح بعد الصلاة هو نسك والنسك هو ما يتعبد به
وفيه دليل على أن مخالف السنة في تعبده لا يكون له فيه من الأجر شيء وقد جاء أن النفقة
۱ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى روى البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي الله قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وفي رواية لابن النجار عن عائشة أن يحكمه
۳ سورة البينة الآية ٥ ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
٥ رواه البزار وابن عدي وابن عبد البر في كتاب بيان العلم والدارقطني في غرائب مالك وقال اللكنوي في تحفة الأخبار طرق روايته ضعيفة ولا يلزم وصفها بكونه موضوعاً مما لا دليل عليه نعم يرتقي إلى درجة الحسن
بأسانيده المتنوعة

على العيال مما يؤجر عليها وهي من جميع ما يُتنسَّك به أي يتعبد به وقد قال إذا أنفق الرجل على عياله يحتسبها فإنها صدقة ۱ وفي هذا الموطن لمنع و أن يكون في هذه الشاة التي ذبحت قبل الصلاة نسبة من التعبد بالكلية
فإن اعترض معترض وقال إنما على الله الله هنا بقوله ليس من النسك في شيء فإنما عنى
بذلك الأضحية وبقي الأجر في النفقة على ما هو عليه فالجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه ولو أرادة و ذلك لكان يقول ليس من الأضحية في شيء لأنه أخص الأسماء بها فإن هذا الاسم لا يشرك به مع غيرها ولفظه النسك يدخل في متضمن الأضحية وغيرها من وجوه القرب المتعبد بها فرضاً كانت أو ندباً وهو لا لا اله الذي أعطي الحِكَمَ وجَمْعَ الكلام فكيف يترك ما هو نص ويأخذ ما هو محتمل إلا بحكمة أخرى وهي ما أشرنا إليه
والوجه الآخر أن إطعامه اليوم عياله هذا اللحم على مخالفه السنة وقد تقدم قولنا إن العمل إذا خالف السنة لا يقبل
ولوجه ثالث فإن معنى الحديث جاء على معنى التأكيد على اتباع السنة في هذا اليوم وبيان الكيفية في ذلك فمخالفه لا يكون له من الأجر شيء
وفيه دليل على جواز تأخير الذبح في يوم النحر عن وقت الصلاة يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع لأنه عليه السلام أتى بـثم التي تقتضي المهلة
وفيه دليل على استغناء المولى سبحانه عن عبادة العابدين ويؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ شرع بمقتضى هذا الحديث ذبح الأضحية وهي مما للنفس فيها شهوة وراحة لأنك تأكل وتدخر وأنت في الصدقة منها بالخيار إن تصدقت أجرت أجراً آخر وإن لم تتصدق لم تأثم وثبت لك أجر الأضحية بنفس الذبح والأكل زيادة راحة لك
وفيه دليل على عظيم لطفه عزّ وجلّ بعبيده ورحمته لهم يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ أمرهم بذبح الأضحية كما تقدم الكلام فيه وجعلها في هذا اليوم من أعظم القرب إليه ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام فإن دماءها وشعرها وقرونها وأظلافها وبولها ورجيعها في ميزان حسناتكم يوم القيامة وقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وفيه دليل عظيم على ما أعطي الله من حسن البلاغة يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام في
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه

الحديث الواحد والحكم الواحد بين النحر والذبح لأنه لو ذكر هو أحد الوجهين إما النحر وإما الذبح لكان دليلا على ترجيحه على الآخر فلما ذكرهما معاً على جوازهما بحسن عبارة واختصار صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله ومنه وكرمه آمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۹

مَكَّةَ وَهِيَ
حديث جواز تأخير الطواف في الحج لعذر
عَن عائشةَ رَضِيَ الله عَنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَليها وَحَاضَت بِسَرِفَ ۱ قَبلَ أَن تَدخُلَ وَهِيَ تَبكي فَقال ما لكِ أنَفِست قالت نَعَم قالَ إِنَّ هذا أمر كَتَبَهُ الله على بناتِ آدم فاقضي ما يقضي الحاج غَيرَ أن لا تطوفي بالبَيتِ فَلمَّا كُنَّا بِمنى أُتيتُ بِلَحمِ فَقُلتُ ما هذا قالوا ضَحَّى رَسُولُ الله عَن أزواجه بالبقرِ
بقر
ظاهر الحديث يدل على أن الحائض تفعل جميع أفعال الحج كلها إلا الطواف بالبيت فإنها لا تفعله إلا بعد أن تطهر والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً على أن الطهارة في أركان الحج كلها كبرى كانت أو صغرى ليست بفرض إلا الطواف بالبيت فلا يجوز إلا بطهارة وهي واجبة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا كانت بالحَدَث الأكبر تفعله فمن باب أحرى بغيره
وفيه دليل على فضل هذه السيدة يؤخذ ذلك من بكائها خيفة أن يفوتها الحج وذلك بعذر رباني لا كسب لها فيه فلولا ما كان همها كله في الدين ما كانت تبكي على هذا وهي فيه عند الله معذورة وكذلك كان شأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما كانت همتهم إلا في حسن دينهم وكذلك شأن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ولذلك قال لا لا طوبى لمن جعل همه هماً واحداً ۳ أو كما قال عليه السلام وهو هَمّ الدِّين
۱ سَرِف مكان قريب من مكة المكرمة على بعد عدة كيلومترات ويقع في طريق الذاهب إلى المدينة المنورة نَفَست المرأة ولدت أو حاضَت ۳ رواه الحاكم والبيهقي وصححه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ من جعل الهم همّاً واحداً كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك

وفيه دليل على أن يحكم على الشخص بما يعلم من حاله يؤخذ ذلك من كون سيدنا لما يعلم من دين هذه السيدة لما راها تبكي علم أنه من أجل الدين ولا شيء في الوقت يمكن أن يُبكيها إلا النفاس فاستفسرها على ما ظنه منها بقوله عليه السلام لعلك نَفِسْتِ ۱
وفيه دليل على أن حال الشخص وإن علم ما هو فلا يحكم عليه بالقطع وفيما يظن به حتى يستفسر عن ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملك نفستِ بعدما ظن ذلك لما يعلم
منها
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن المنتهي في السلوك يكون حاله مع مولاه مثل الصبي مع أمه كل شيء را به بكى عليها لا يعرف غيرها وذلك دأبه معها يؤخذ ذلك من أنها لما جاءها ما أهمها من أمرها بكت على مولاها ولم تذكر من ذلك للنبي شيئاً حتى سألها وفيه دليل على بركتها وبركة بيتها كما قال أسيد بن الحضير ۳ عند نزول اية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل بكم شيء إلا جعل الله فيه للمسلمين فَرَجاً ومخرجاً أو كما قال فلما أهمها ما جاءها جعل الله فيه للمسلمين فرَجاً بأن سن ا للمسلمين أن المرأة إذا حاضت لا
يتعذر عليها من أفعال حجها شيء إلا الطواف بالبيت ثم لا يفوتها لأنها إذا طهرت فعلته بعد
وفيه دليل لأهل الصوفة لأنهم يقولون من بكى صادقاً شفعت فيه دموعه يؤخذ ذلك مما جاءها إثر بكائها من الفرج لها وللمؤمنين مما تقرر في حكم الحائض في هذا الحديث وقد قال بعض أهل الطريق في هذا المعنى
بالباب يبكون والبكاء إذا كان خَلِيّاً من النفاق
نفع
تَشفَع فيهم دموعُهم وإذا شُفع دمعُ المتيمين شَفَع
فبينما هم حيارى من اليأس والطمع سكارى من شراب الخوف والجزع إذ بزغ لهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع وألبسوا من ملابس الأنس والبسط خلع رَقمُ العَلَمِ الأيمنِ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى ۳ ورَقمِ العَلَمِ الأيسر لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ ٤ وفيه دليل على تصبّر المصاب بحرمان القدر يؤخذ ذلك من القول له له له لها هذا أمر كتبه الله على بنات آدم تعزية لها لما أصابها من الحزن على ما توقعت فواته من أمر حجها
1 كذا والرواية انفست تقدمت ترجمته في الحديث ۱۱۹ ۳ سورة الأنبياء من الاية ۱۰۱ ٤ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۳
۱۳۱

وفيه دليل على جواز الأضحية عن أهل الرجل يؤخذ ذلك من قولهم ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر
وفيه دليل على جواز الأضحية بالبقر وإن كان غيرها أفضل منها في الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي ضحى بها عن أزواجه صلوات الله عليه ورضي عنهن وفي قولها حين أُتِيَ لها باللحلم ما هذا أن السنة ألا يأخذ أحد شيئاً ولا يأكله حتى يسأل عنه فظاهر هذا الحديث يدل على جواز الأضحية بمنى وليس الأمر على ظاهره بل هو محمول عند العلماء على الهدي وإنما ذكر الراوي الأضحية لكونها نسكاً لأنه ليس بمنى أضحية وإنما سنتهم الهدي وسنة غيرهم الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي الله وضحى هناك عن أزواجه
بالبقر
وهنا بحث كيف ضحى رسول الله له بالبقر وهناك أفضل فعلى مذهب مالك رحمه الله ومن تبعه الضأن أفضل وعلى مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه الإبل أفضل فترك الأفضل من الوجهين معاً والجواب - والله أعلم - أنه ضحى بالبقر عنهنّ صلوات الله عليهم أجمعين لوجوه منها
أن يكن هنَّ أنفسهن قد أهدين عن أنفسهن فيكون ذلك خيراً لهنَّ لكونه قد أهدى عن نفسه المكرمة في تلك الحجة بمائة من الإبل فكثر لهن خير الآخرة كما كثر لنفسه المكرمة واحتمل أن يكون لا اله الا انه فعل ذلك عمّن مات منهنّ قبل الحج
واحتمل أن يكون الا الله و أراد تقرير الحكم بأن الأضحية بالبقر جائزة وأن غيرها في الأضحية أفضل وبين ذلك بفعله لأنه أثبت في الحكم ولذلك لم يفعله عن نفسه المكرمة من أجل أن يكون دليلاً على الأفضلية لأنه كان و لا الهلال في خاصة نفسه المكرمة لا يفعل إلا الأفضل
واحتمل أن يكون قصد بذلك التوسعة على أمته من أجل أن يكون من ليس له إلا البقر فإذا ضحى بها فقد وافق السنة وقد يكون جاهلاً فيضحي بمنى لا يعلم أن سنتهم الهَدْي وهو الغالب اليوم على الناس فيكون قد وافق السنة واحتمل مجموع ما تأولناه والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث وصيته له لأمته
عَن أبي بكرة رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِن الزَّمانَ قَدِ استدارَ كَهِيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهراً مِنها أربعَةٌ حُرُم ثَلاثٌ مُتواليات ذو القعدة وذو الحِجَّة وَالمُحَرَّم وَرجبُ مُضَرَ الَّذي بينَ جُمادى وَشَعبان أَيُّ شَهرٍ هَذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أَعلَمُ فَسكتَ حَتَّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغيرِ اسمِهِ قالَ أَلَيسَ ذَا الحِجَّة قلنا بلى قالَ أي بلد هذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَت حَتّى ظَنَنا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ أيُّ اسمِهِ قَالَ أَلَيسَ البَلْدَةَ قُلنا بلى قالَ فأَيُّ يَوم هَذا قلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَتَ حَتّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغير اسمِهِ قالَ أليس يوم النحر قلنا بلى
قال فإنَّ دماءَكُم وأموالكم - قال محمد ۳ وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يَضرِب بعضُكم رقابَ بعض ألا لِيُبلّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبلُغُهُ أن يكون أوعى له من بعض مَن سَمِعه ثم قال ألا هل بلغتُ
مرتين

ظاهر الحديث يدل على تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض
والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه - أعني التحريم - أم لا فأما أن يكون على العموم من لا
كل الجهات فلا بدليل الكتاب والسنة
1 أبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث تقدمت ترجمته في الحديث ٤٥
هو محمد بن سيرين أحد رجال سند هذا الحديث كما ذكر ابن حجر في فتح الباري ۷۱۱/۷
۱۳۳

أما الكتاب فقوله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِم ﴾ ١ فلا يذكر أحد من المسلمين أخاه المسلم بسوء إلا من ظلم ظلامة فله أن يذكر السوء الذي فُعِل معه لكن بقدر ما عدا عليه فإنه إن زاد على ذلك عاد ظالماً ثانياً والله عزّ وجلّ يقول ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ وأما السنة فقد قال له لا غيبة في فاسق ۳ ولها شروط منها أن يكون متظاهراً بفسقه أن يشهر عنه فلا غيبة فيه إذ ذاك ومن العلماء من قال إنما يكون ذلك أن تذكر حال فسقه عند من يقدر أن يغيّره عليه أو تستعين عليه في ذلك أو تحذره منه فأما إن كان لغير هذه الوجوه فممنوع وتأولوا الحديث بأن قالوا معناه ولا تغتب فاسقاً
يحب
وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ٤ فإذا أخذ واحد منها بحقه فلا يتناوله التحريم وقد قال لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ٥ فإن كان عن طيب نفس منه فلا يتناوله التحريم والآي والأحاديث في هذا كثيرة فما بقي أن يكون التحريم إلا خاصاً فهو إذا لم يكن عليه حق من وجه من الوجوه
يا هذا قد ثَبَتَتْ لك حُرمَة فإن أفقت زادت لك الحرمة حرمة أخرى وهي قوله عزّ وجلّ من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة وأنا أسرع إلى نصر عبدي المؤمن ٦ وزادها تأكيداً بقوله

تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ۷ فإن أَتْبَعتَ النفس هواها أذهبتَ ما لَكَ من الحرمة وعاد مكانها محنة أعاذنا الله من ذلك بمنه وقد ورد رُبَّ مُكرِم لنفسه وهو لها مُهين ومُهينٍ النفسه وهو لها مكرم وقد جاء عن النبي لا لا لا لا لا أنه كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار من شدة الجوع والمجاهدة ثم يقول ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ۸
1 سورة النساء من الآية ١٤٨
سورة البقرة من الآية ١٩٤
۳ لا أصل له بهذا اللفظ قاله في المقاصد عن العقيلي
٤ متواتر عن أنس وأبي هريرة وغيرهما
٥ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن يثربي بلفظ لا يحل لامرىء من مال أخيه شيء إلا بطيب
نفس منه
٦ رواه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ۱۰/۸ و ٤٧٧ و ٤٤٠/٩ وابن الجوزي في العلل المتناهية وابن عدي في الكامل في الضعفاء ۵/ ۱۹۳۹ والألباني في السلسلة الصحيحة ١٦٤٠ بلفظ بارزني بدلاً من اذنني ۷ سورة الروم من الآية ٤٧
^
قطعة
من
حديث رواه ابن سعد في الطبقات والبيهقي في الشعب عن أبي البجير ومطلعه أصاب يوماً النبي صلى الله عليه وسلم
١٢٣٤

وفيه دليل على أن تسمية الشهور وعددها هو بمقتضى الحكم الرباني لا عرفي ولا لغوي يؤخذ ذلك من قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض إلى قوله وشعبان
و معنى قوله قد استدار أي استقر الأمر فيه ورجع مثل ما كان يوم خلق السموات والأرض لأن العرب كانوا يحجون في كل عام شهراً ثم ينقلونه إلى شهر ثان ففرض الحج وكان الحج في تلك السنة على ما ذكرنا من عادتهم في ذي القعدة فأقام الحج بالناس في تلك السنة أبو بكر رضي الله عنه بأمر النبي الا الله فلما كان في سنة عشرة من الهجرة - وهي التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - دار الحج على عادتهم إلى ذي الحجة وهو الشهر الذي جعل الله فيه الحج يوم خلق السماوات والأرض وفيه حَجّ إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام فلذلك قال عليه السلام قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أي على وضعه الذي اقتضته الحكمة الربانية عند خلق السماوات والأرض
وفيه دليل على أن دوران الأشهر يسمى زماناً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الزمان قد استدار وهي الأشهر كما ذكرنا وقوله عليه السلام حُرُم أي جعل لها حرمة ليست لغيرها وفائدة الإخبار لنا بتلك الحرمة أن نحترمها بتعميرها بالطاعات وترك المخالفات يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَح

وهنا بحث وهو أن يقال ما الحكمة في أن جعلت على هذا الوضع مفرقة تفريقاً مختلفاً في الموضع وجعلت في آخر السنة أكثر من أول السنة هل هذان البحثان تعبّد لا يعقل لهما معنى أولهما معنى معقول من جهة الحكمة فإن قلنا تعبد فلا بحث وما ندبنا إلا للبحث والاعتبار وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم في البحث الأول وهو كون رمضان لم يسم بهذه التسمية وفيه من الخير العظيم ما هو فيه بحيث لا يخفى وما جاء فيه من الأجر قد عرف ولو لم يكن فيه إلا قوله من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما بينه وما بين رمضان ۳ وكون أول ليلة منه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين ٤
T

جوع فوضع على بطنه حجراً ثم قال ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة إلخ
۱ سورة التوبة من الآية ٣٦ ٢ أي تسمية الأشهر الحرم
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس في الحديث غفر له ما بينه وبين رمضان ٤ رواه الشيخان بلفظ إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار إلخ وفيه وصفدت
الشياطين
١٢٣٥

وذلك أن الفرق بينهم 1 حرمة رمضان من أجل العمل الخاص به وهو الصوم وحرمة هؤلاء منة من الله تعالى وتفضل بغير شيء يوجب ذلك والله عزّ وجلّ يتفضل على من يشاء من عباده حيواناً كان أو جماداً بسبب أو بغير سبب لحكمة أو غيرها لا يعلمها إلا هو عزّ وجلّ لكن إن اتبعتها بمقتضى أدلة الشرع تجدها رحمة لنا وتفضلاً علينا لأنك تجد كل شيء فضّله المولى سبحانه من الزمان والمكان والقول والجماد أو أي شيء كان من جميع المخلوقات تجد الفائدة في ذلك تعود علينا وهو الغني المستغني ومما يؤكد هذا قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي و الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢

ومنها ما جاء بتضعيف الأجر بنص الشارع عليه السلام في الأعمال التي في الأزمنة المعظمة والأمكنة المحترمة والجمادات المباركة فالنص في كل واحد منها مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يشهد يوم القيامة لمن يستلمه ۳ ومثل صوم يوم عاشوراء يكفر السنة 4 إلى غير ذلك إذا تتبعته تجد الخير كله في ذلك بفضل الله علينا جعلنا الله ممن سعد بذلك في الدارين عنه
وأما الجواب عن البحث الثاني فهو كونه عزّ وجلّ وضعها على هذا الوضع فأما من طريق حكمة النظام فإن الأفخر من الأشياء يُزَيَّن به أولُ النظام ووسطه وآخره فلما نظمت القدرة درَرَ الأشهر في سلك الاجتماع جعلت استفتاح النظام بشهر حرام ووسطه بشهر حرام - وهو رجب ثم ثالثهما في مناظرة الحسن شهر رمضان وفصل بينهما بدرَّة شهر شعبان الذي فيه فهم سيدنا نظم القدرة في الأشهر فزاد وسطها حسناً بترفيع شعبان بكثرة الصوم فيه لقول عائشة رضي عنها ما رأيت رسول الله الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ولا رأيت أكثر صوماً منه في شعبان ٥ حتى أضيف الشهر إليه عليه السلام فقيل شهر نبيكم شعبان فجاءت حرمته
الله
محمدية وسط حرمتين ربانيتين شعبان شهر محمّد عليه السلام ورجب ورمضان شهران ربانیان فحسن النظام واستنار وكذلك كانت سابقة الإرادة فيه ولم يظهر لنا إلا عند بروزها في الوجود وفي ذلك دلالة على علو قدره الا الله لأنه ما نجد شيئاً رفعته القدرة إلا ومن جنسه ما رفعته السنة المحمدية حتى يكون له عليه السلام خصوص في أبرع حال من جميع الترفيعات وختم اخر نظام السنة بشهرين حرامين
1 أي بين رمضان والأشهر الحرم والصواب بينها
سورة الجاثية الآية ١٣
۳ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه الحاكم وصححه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية ٥ رواه الشيخان وللحديث ألفاظ وروايات كثيرة
١٢٣٦

وفي تفضيل آخر السنة بأن كان فيه شهران حرامان وجوه من الحكمة منها أن الختام له أبداً
علم زائد بمقتضى الحكمة الربانية قال تعالى ختَمُهُ مِسْكَ ۱ وقال عليه السلام الأعمال بخواتمها ٢ فإذا حسنت الخاتمة حسن الكل وزاد حسناً على حسن وإن كان الكل حسناً فزيادة حسن الآخر إبلاغ في الحسن وإشارة الترفيعه لما أن كان عليه السلام خاتم الأنبياء - وهو سيدهم - جعل نظام الأشياء على شبه نظام أشخاص الأنبياء عليهم السلام ترتيباً متناسباً حكمة عظيمة أبدع فيما أحكم وأحكم فيما أبدع
وفيه إشارة إلى اللطف منه جلّ جلاله بعباده لأنه من غفل أو كان له عذر في السنة كلها جعل له في اخرها تكثير في عدد ذوي الحرمة لعله يحصل له حرمة فيا الله ما أحسن نظمه سبحانه وأكثر فضله وأتم على من غفل عن نعمته !
وفي قوله أي شهر وأي بلد وأي يوم وجوه من الفقه والأدب والحكمة فمنها أن اجتماع من له حرمة تأكيد في الحرمة وأنه لا تسقط حرمة أحد حرمة غيره يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام بعد ما ۳ بين تأكيد حرمة الدماء وما ذكر معها فدل على تأكيد حرمة اجتماع حرمة الشهر والبلد واليوم فأبقى لكل ذي حرمة حرمته في الزمن الفرد
من
وفيه من الأدب أن السيد إذا سأل أو العالم إذا سأل عما قد علم يُرَدّ الأمر في ذلك إليه لأنه لا يسأل عن ذلك عبثاً وإنما يسأل لحكمة لا يعلمها المسؤول يؤخذ ذلك من قول الصحابة الله عنهم الله ورسوله أعلم وهم عالمون بما سألهم عنه فظهرت بعدُ الحكمةُ التي أجلها سألهم عن ذلك - وهي تأكيد الحرمة - بخلاف ما إذا سأل عن شيء يجهله كثير من الناس فمن النبل إصابة المقصود والإفصاح به مثل قوله أي شيء من الشجر يشبه المؤمن فوقع الناس في شجر البادية قال عبد الله بن عمر فوقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة فقلت بعد ذلك لأبي وقع في نفسي أنها النخلة فقال عمر وَدِدتُ لو قلتها ٤ لأن المقصود من هذا الاختبار جودة الخواطر وحدة القرائح فإذا جاوب بما يصلح في ذلك سرّ به السائل ومن أجل ذلك قال عمر لابنه تلك المقالة لأنه إذا قال ما يعجب رسول الله الا الله النعمة الكبرى وقد يحصل له منه دعوة حسنة فيزداد الخير خيراً
فهي
۱ سورة المطففين من الآية ٦
رواه البخاري عن سهل بن سعد ضمن حديث فيه قصة ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ الله عنها بلفظ إنما الأعمال بالخواتيم
۳ ما زائدة ٤ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
۱۳۷

وفيه من الحكمة أن يمثل ما لا يعرف قدره بما يعرف قدره حتى يحصل للسامع معرفة الفائدة التي قصد أن يفهمها يؤخذ ذلك من أنه لما أراد سيدنا الله أن يخبرهم عن عظيم حرمة الدماء والأموال والأعراض مثل ذلك لهم بجمع حرمة هذه الثلاثة أشياء التي كانوا يعرفون حرمتها وفيه من الفقه أن الأشياء إذا كان الحكم واحداً - وإن كثرت - أن من الفصاحة جمعها بتعدادها وأسمائها ويذكر الحكم مفرداً لأنها - وإن كثرت - كالشيء الواحد يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام تلك المحرمات الثلاث وفي سكوته عليه السلام بعد قولهم الله ورسوله أعلم استدعاء لجلب القلوب لما يلقى إليها بعد ودلالة على الوقار وهو من الشيم المحمودة وفي ذكره عليه السلام هذه المواطن - وهو عليه السلام قد بينها في غير ما حديث - دلالة على عظيم الأجر فيها لمن احترمها وعظم الوزر على فاعل شيء من المحظور فيها
وفيه دليل على وجوب تبليغ العلم ونشره يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ألا ليبلغ الشاهد الغائب ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام طلب العلم فرض على كل مسلم ۱ وقوله عليه السلام إن الله لما أخذ العهد على الجهال أن يتعلموا أخذ العهد على العلماء أن يعلموا أو كما قال عليه السلام وقد قال الله إذا ظهرت الفتن وشتم أصحابي فمن كان عنده علم فكتمه فهو صلى الله عليه وسلم كجاحد ما أنزل الله على محمّد وقال الله تعالى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ ۳ وهذا العلم الذي هو واجب نقله وتعليمه هو علم الكتاب والسنة اللذين هما الثقلان الذي أخبر الصادق بقوله لن تضلوا ما تمسكتم بهما 4 والآي والأحاديث في هذا كثيرة لمن تتبعها وفهمها وفيه دليل على أن الخير في السلف الأول كثير وأنه في الآخر قليل وقد عاد أقل من القليل فإنا لله وإنا إليه راجعون يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه فجعل الرجاء في البعض مِمّن يبلغه في الواعي له وذلك هو الخير
۱ رواه ابن عدي والبيهقي وابن عبد البر وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الديلمي عن معاذ رضي الله عنه بلفظ إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه إن لم يفعل فعليه لعنة الله
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۸۷

قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد والترمذي والطبراني في الصغير ولفظه في المسند إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدًا عليّ الحوض وفي رواية زيد بن أرقم زيادة وهي فانظروا كيف تخلفوني فيهما وفسَّر ابن الأثير في النهاية كلمة الثقلين فقال سمّاها ثقلين لأن الأخد منهما والعمل بهما ثقيل وسمّاهما بذلك إعظاماً لشأنهما ولهذه اللفظة معنى اخر وهو الإنس والجن
۱۳۸

كما جعل عدم الخير الذي هو ترك الوعي في الأقل ممّن سمعه وجعل عليه السلام تفضيل من يوعاه ۱ في الأجر - وإن بَعُدَ - على بعض من سمعه ولم يَوْعَه - هما ولم يَوْعَه ٢ - هم الأقل
بالوعي
وفيه دليل على أنه ليس الفائدة في العلم نفسه وإنما الفائدة في العمل به الذي كَنَى لأن العلماء قالوا معنى أوعى له أي أعمل به ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام
اتقوا العالم الفاسق والعابد الجاهل فإنهما مضلة للمضلين أو كما قال عليه السلام وفي قوله لوله لوله اللهم اشهد مرتين هنا بحث لم جعلها مرتين ولم يجعلها ثلاثاً على عادته في الأمور التي لها بال وما الحكمة في قوله اشهَدُ فإنما جعلها اثنتين ولم يجعلها أكثر فإنه نحا بها منحى الشهادة بأن قطع بحقوق قد تكون بشاهدين فهذه شهادتان
وأما الحكمة في قوله ذلك وهو يعلم أنه شاهد ويعلم بذلك لوجوه منها الفائدة في الإعذار والإنذار ومنها مواقفه حكمة الكتاب العزيز فإن الله عزّ وجلّ يقول فيه ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ ۳ لأن إعلامه عزّ وجلّ بأنه يعلم إنه لرسوله
شهادة له برسالته أو تحقيق لها فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَشْهَد له بالتبليغ كما يَشهَد له بالرسالة وفيه دليل على أن من رفع له قدر فهو في امتثال الأوامر أشد من غيره رداً على بعض الذين يدعون الأحوال ويقولون قد سقطت عنهم الأعمال لأنهم في الحضرة وهذا هذيان وخبال عارض في الدماغ يؤخذ ذلك من توفيته عليه السلام في الإبلاغ والإنذار وهنا إشارة وهي إذا كان هذا السيد لالا لال قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر وطبع على الرحمة والشفقة حتى إنه عليه السلام في المواضع المهولة يُقدِّم حقَّ أمته على نفسه المكرّمة لعظم ما طبع ل عليهم من الرحمة وجاء عليه السلام في هذا الموطن الذي هو موطن الوداع أجمل لهم في الإنذار والتبيين ما قد صرح لهم في جميع مدة صحبته لهم ثم بعد ذلك رجع إلى ٤ النظر فيما به يخلّص نفسه المكرّمة مما كلفه الله تعالى به بقوله عليه السلام ألا هل بلغت لأن معناه أني لم أترك شيئاً مما أمرتني به إلا بلغته مفسراً ومجملاً فما ٥ بالك بالكثير الأثقال منا كيف يشتغل بغيره عن خلاص نفسه لا سيما مع كبر السن وقُربِ الحِمام
1 كذا وفي العبارة اضطراب وكلمة يو عاه يريد يعيه
كذا يريد ولم يَعِهِ
۳ سورة المنافقون من الاية ١
٤ هنا خبر كان

٥ هنا جواب إذا
۱۳۹

وفي هذا دليل على فضل أهل الطريق الذين عملوا في أمر الدنيا على الإغضاء والتجاوز عن الإخوان وفي الدين على الشح عليه والاهتمام حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه شكا له أهله الجوع فقال لهم لأن أموت وأدخل الجنة وأنتم جياع خير عندي من أن أترككم شباعاً وأدخل النار وقال بعضهم على دينك فَشُح كما يشح صاحب الدرهم على در همه
وفي قوله وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إرشاد إلى تحقيق الإيمان والتحضيض على توفية جميع الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك فجمع عليه السلام في إجماله في هذا اللفظ اليسير كل ما جاء به وشرحه في الزمان الطويل فسبحان من أيّده بالفصاحة وحسن اختصار الكلام والإبلاغ في توفية بديع المعاني مع بديع الاختصار وقد قال أهل البلاغة في الكلام إن البليغ يطوّل ليُبين ويختَصِرُ ليُحفَظ وقد أتى لا الهلال في هذين الوجهين بأتم مراد وأحسن مساق ولا يعرف ذلك إلا من عرف سُنّته وتتبَّعَها
وفيه إشارة إلى التخويف والترهيب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فيسألكم عن أعمالكم فإذا كان الحاكم العدل يسأل المقصّر المسكين فأي تهديد أكبر منه لمن عقل وهو عزّ وجلّ يقول في محكم التنزيل ﴿ وَكَفَى بِنَا حَسِبين ۱ وقال تعالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ

ومن أكبر ٣ الدلالة على أن كلامه عليه السلام بتأييد من الله تعالى وإلهام منه وقد قال ذلك جماعة من العلماء في معنى قوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَبِّكَ اللهُ ٤ فقالوا معنى أراه أي ألهمه فهو وحي إلهام فالجميع من عند الله تعالى إما وحي بواسطة الملك وإما وحي
إلهام
يشهد لذلك أنك إذا تأملت كلامه تجده حذو الكتاب العزيز ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ٥ مثل كلامه عليه السلام الذي نبهنا عليه آنفاً كيف هو صيغته صيغة الإخبار وضمنه أكبر التهديد كقول الله جلّ جلاله فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ٦ ظاهره الإباحة وفي ضمنه عظيم التخويف والتهديد
۱ سورة الأنبياء من الآية ٤٧
سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨
۳ المبتدأ الذي يتعلق به الجار والمجرور مفقود
٤ سورة النساء من الآية ۱۰۵
٥ سورة النساء من الاية ۸ ٦ سورة الملك من الاية ١٥
١٢٤٠

يؤخذ ذلك من أنه عزّ وجلّ قال في كتابه العزيز وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۱ وقال عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ إلى غير ذلك من الأحكام الذي بينها عزّ وجلّ لنا كيف نتصرف بها في المشي وغيره بمتضمن قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ۳ أباح عزّ وجلّ لنا المشي في مناكبها بعد التبيين والتعليم حتى لا يبقى لأحد حجة ثم ختم الآية بقوله تعالى وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ٤ فيعرفكم كيف كان مشيكم فيعرفكم كيف كان مشيكم من حسن أو قبيح فإنه أخبرك بقوله تعالى وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ٥ وبقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَولِ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ٦ وبقوله عزّ وجلّ وَقَالَ قَرِيتُهُ هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ ۷ أي كل ما كتبته عليك حاضر فانظر لم نغادر منه شيئاً فحسبك حالك إن عنيت به فالأمر والله عظيم

وقوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضُكم رقاب بعض هنا بحث هل يكون على ظاهره فيكون حسيّاً أو يكون معنوياً أو المجموع احتمل والأظهر - والله أعلم - أنه المجموع فإنه مناسب لوضع الحديث لأنه أجمل ما قد فسّره وبيّنه فهماً بيناً فالمحسوس منه على ظاهره مثل قوله عليه السلام حتى يكون بعضكم يسبي بعضاً وبعضكم يقتل بعضا ۸ وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يعرف المقتول قُتِلَ ولا القاتل قتل ۹ أو كما قال والأحاديث فيه كثيرة متنوعة
وأما في المعنى فمثل قوله عليه السلام قطعتم ظهر الرجل ۱۰ حين مدحوه في وجهه
۱ سورة الإسراء من الاية ٣٧ ۳۷
سورة لقمان من الآية ۱۸ ۳ سورة الأنعام من الاية ۳۸ ٤ سورة الملك من الآية ١٥ ٥ سورة يونس من الاية ٦١ ٦ سورة ق الاية ۱۸ ۷ سورة ق الاية ۳
۸
قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد ومسلم في الفتن وأشراط الساعة والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه وأوله إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وفي اخر الحديث وإن ربي قال لي يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا سوى من أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ۹ رواه مسلم في الفتن عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار ۱۰ رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله لو سمع رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل
١٢٤١

ومثل قوله عليه السلام لا يسب الرجل أباه قالوا وكيف يسب الرجل أباه فقال يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ۱ وأي قطع عنق أكبر من العقوق وهذا النوع أيضاً في الآثار كثيرة وأنواعه متعددة
بمنه
و معنى قوله عليه السلام ضلالاً خارجين عن الطريقة المحمدية جعلنا الله من خير أهلها
وفيه دليل على أن الرجوع إلى الضلالة في حياته عليه السلام مستحيل يؤخذ ذلك من قوله بعدي ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام في حديث الشفاعة حين يقال له إنهم قد بدلوا بعدك فيقول فَسُحقاً فَسُحْقاً فَسُحْقا ٢ عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه
نفسك بالعلم فزينها إن كنت عاملا وإن خالفته قد شنتها به عاجلاً واجلا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
رواه البخاري في الرقاق ومسلم في الفضائل عن سهل بن سعد رضي الله عنه ولفظه أنا فَرَطكم على الحوض من وَرَد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليَردَن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فيقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي وفي الباب عدة روايات عن
عدد من الصحابة
١٢٤٢

- ٢٢٤
ث جواز الشرب قائماً
عَن عَلي رضي الله عَنهُ أنَّهُ أُتي على باب الرَّحَبةِ ١ بِماءٍ فَشَربَ قائِماً فَقَالَ إِنَّ ناساً يكره أحَدُهُم أن يَشربَ وَهُوَ قائِم وإني رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَما رَأَيْتُمُونِي فَعلتُ
ظاهر الحديث يدل على جواز الشرب قائماً والكلام عليه من وجوه منها أنه ينبغي للعالم إذا رأى شيئاً ينكره الناس - وهو جائز في السنة ـ أن يبين ذلك ويوضحه بالفعل والقول يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه ما هو نص الحديث
وفيه دليل على أن عليه أن يبالغ في التعليم ما أمكنه يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه وقوله لأنه لم يكتف إلا بمجموعهما وذلك هو الغاية في التعليم ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم عند ظهور البدع أن يعلّم قبل أن يُسأل لأن علياً رضي الله عنه فعل ذلك قبل أن يسأل وهو أحد الخلفاء الذين قال الله في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء بعدي عضوا عليها بالنواجذ ٢ أو كما قال عليه السلام
وفيه دليل على اتباعه رضي الله عنه في التعليم سنة رسول الله يؤخذ ذلك من قوله إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ولم يسمّ أحداً وكذلك كانت عادة رسول الله لا اله إذا قيل له
۱ الرَّحَبَة المكان المتّسع والرحبة المقصودة رَحَبَة الكوفة بدليل الحديث الذي رواه البخاري عن النزال بن سبرة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه - وذكر رأسه ورجليه - ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن النبي لا الهلال و صنع مثلما صنعت ويسمي ياقوت في معجم البلدان هذه هلال الرحبة باسم رحبة خنيس قطعة من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي ومطلعه وَعَظنا رسول الله له و موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون إلخ
الله عنه
١٢٤٣

عن أحد شيئاً لا يعجبه يقول ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ۱ ولا يسمّي أحداً وهذه العادة اليوم قد كثرت في الناس - أعني من أنهم يكرهون الشرب قائماً - حتى إن بعضهم يتغالى في ذلك ويجعله من قبيل المحرم وهذا مخالف لسنة النبي الهلال الهلال وفيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كان شأنهم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله يؤخذ ذلك من قول علي رضي الله عنه وإني رأيت النبي الهلال وفعلا كما رأيتموني فعلت صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عنه عليه السلام في ذلك قولاً

وفيه دليل على أنه مهما كان من الشارع ع الله في شيء فعلاً أو قولاً فلا مجال للعقل والرأي أن ينظر أو يجتهد وليس له وظيفة إلا أن يتبع فقط لأنه لو كان الشأن عندهم غير ذلك ما فعل عليّ رضي الله عنه ما نص في الحديث عندما بلغه قول من ظهر له كراهية الشرب قائماً ومما يؤيد هذا ما فعله معاذ بن جبل ۳ مع معاوية ۳ بالشام حين قال معاذ قال رسول الله قال معاوية الرأي عندي كيت وكيت فقال معاذ من يجيرني من معاوية أقول قال رسول الله وهو يقول رأيي والله لا أقيم معك في بلد فخرج وأتى عمر بن الخطاب رضي عنه فكتب عمر إلى معاوية أن يقف عندما قال له معاذ وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه عزّ وجل يقول ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤

الله
والاتباعية ينبغي أن تكون عامة في الأقوال والأفعال وقد مضى على ذلك أئمة الدين و مصابيح الهدى غير أنهم اختلفوا هل هذا واجب أو مندوب أو ما دل الدليل عليه على كل قضية قضية بقرينة فمنها واجب ومنها مندوب ولم يقل أحد منهم بالمخالفة أصلا لا في فعل
ولا في قول
۱ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها ومطلعه كان النبي الله إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول إلخ تقدمت ترجمته في الحديثين ٤٣ و ١٣٧
۳ معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية في الشام وأحد دهاة العرب كان فصيحاً حليماً وقوراً ولد بمكة وأسلم يوم فتحها وتعلم الكتابة والحساب فجعله الرسول الا الله في كتابه للوحي فتح أيام الصديق مدينة صيداء وعرقة وبيروت وولاه عمر على الأردن ثم على دمشق وفي أيام عثمان جمع له إمرة الشام كلها وعزله أحد عظماء الإسلام وهو علي فور توليه الخلافة وحدثت بينهما حروب له في كتب الحديث ۱۳۰ حديثاً بلغت فتوحاته المحيط الأطلسي وفتحت مصر في أيامه وكثير من جزائر يونان والدردنيل وحاصر القسطنطينية برا وبحرا وهو أول من جعل دمشق مقر الخلافة وقد دعا له رسول الله الله فقال اللهم مكن به ومكن له في الأرض أو ما في معناه ومما يشرفه أنه أحد كتبة الوحي وهو الميزان في حب الصحابة ومفتاح الصحابة سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله لا اله الاخير ما من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على محبته ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
١٢٤٤

ولكثرة ملاحظة أهل السلوك هذا الشأن سادوا على غيرهم وبلغوا المنازل المنيفة وقد ذكر
عن بعضهم أنه طرقه خوف من واقعةٍ وقعت في الوجود بعدما امتثل فيها السنة فقيل له في إحدى مخاطباته على عاداتهم التي عوّدهم مولاهم أتفزع ونحن قد أعطيناك علم الأمان قال وما علم الأمان قيل له قد هديناك إلى اتباع السنة فهناك سَكَنَ ما كان وجده من الخوف ولم يلق في تلك النازلة إلا كل خير ونعمة فالشأن لمن أريد به الخير الصدق مع الله تعالى واتباع السنة المحمدية جعلنا الله من أهل هذا الشأن في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٤٥

حديث النهي عن الشرب من فم السقاء
عَن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ لا عَنِ الشَّرِبِ مِن فَمِ السَّمَاءِ وَالقِربةِ
وَأَن يَمنعَ الرَّجُلُ جَارَهُ أَن يَعْرِزَ خَشبَةٌ فِي جِدارِهِ
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما المنع من أن يشرب أحد من فم السقاء والقربة والثاني أن يمنع ۱ أحد جاره أن يغرز خشبة في جداره والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل منعه عليه السلام عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام على أي وجه كان أو لا وهل النهي نهي كراهية أو تحريم وهل ذلك معقول المعنى أو لا وهل يتعدى منعه إلى غير السقاء والقربة أو لا وهل إباحة الجدار للجار لغرز الخشبة هو على الوجوب أو الندب وهل ذلك على كل حال أو في بعض الأحوال دون بعض
أما قولنا عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام أو لا ظاهر اللفظ محتمل لكن الناس اختلفوا في تأويله فمنهم من جعله عاماً على أي وجه كان ومنهم من قال إنه إذا جعل فم السقاء والقربة موضوعاً في الأرض كأنه القصعة وتناول منه الشرب فليست تلك الصفة بمنهي عنها وإنما النهي أن يصب الماء في حلقه ولا ينظر ما فيه ولا يقدر أن يقطع الشرب وأما قولنا هل النهي على الكراهية أو التحريم احتمل لكن إذا كانت العلة معقولة المعنى
فيكون بحسب مقتضى العلة فإن لم تعرف العلة فحينئذ يبقى الأمر فيه محتملاً الوجهين ويبقى فيه بحث آخر هل النهي يدل على فساد المنهي عنه فالذي يشرب يشرب حراماً وإن قلنا إن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه يكون متشابهاً هل هو حرام أو مكروه موضع خلاف ويبقى فعله ذلك على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراماً فيكون آثماً وإما أن يكون
مكروهاً فيكون غير آثم
1 أي المنع من أن يمنع
١٢٤٦

وأما قولنا هل ذلك معقول المعنى أو لا ظاهر اللفظ لا يتحقق منه شيء من ذلك لكن قد
قال بعض الناس إن ذلك معقول وهو خيفة أن يكون في الوعاء حيوان فينزل مع الماء في جوفه وقد وقع للناس من ذلك وقائع فتعبوا بها كثيراً منها أنه قد ذكر أن رجلاً شرب الماء كذلك
وكان في الماء ثعبان صغير فابتلعه مع الماء فحصل له منه ضرر كثير وقد يكون أيضاً في علق فيبلعه فيتأذى وقد يكون الماء ينصب بمرة فيكون سبباً لقطع العروق الضعاف التي بإزاء القلب فيكون منها موته ومن أجل ذلك أحكمت السنة أن يكون شرب الماء مصاً ولا يكون عبّاً من أجل الخوف على العروق بإزاء القلب فهنا من باب أحرى
وقال آخرون من أجل ما يتعلق بالسِّقاء والقربة من رائحة الفم وقد يكون في بعض أفواه الناس بخر فيعلق بالقربة والسِّقاء منه شيء فيعافه الغير وقيل من أجل أن بعض الناس لا تتحمّل نفسه الشرب من فضل غيره ويتشوش لذلك عند الشرب وقد قيل إن ذلك قد يعود بالفساد على الوعاء فيكسر فيكون من باب إضاعة المال وهو منهي عنه نهي تحريم
وبحسب هذه التعليلات تعرف النهي على أي وجه هو لكن الذي يعطيه الفقه أن أمراً يكون فيه التعليل على مثل هذا الخلاف تركه أولى لأنه لا يبعد أن يكون لمجموع ما ذكر فيكون يجتمع فيه التحريم على وجه والكراهية على وجه والشأن الأخذ بسد الذريعة التي تدل عليها قواعد الشريعة وقد روي عن الإمام مالك رحمه الله ومن تبعه أن مذهبه في الأمور المحتملة الأخذ بالأشد إبراء للذمة
وأما السقاء فهو الوعاء الصغير من الجلد والقربة الوعاء الكبير منه
وأما قولنا هل يتعدى الحكم إلى غيرهما فإن قلنا بعدم التعليل فلا يتعدى ويكون مقصوراً على السقاء والقربة لا غير وإن قلنا بالتعليل - وهو الأظهر والله أعلم - فحيث وجدت العلة طردنا الحكم على أحد محتملاته
وأما قولنا هل إباحة الجدار للجار أن يغرز الخشبة فيه على الوجوب أو الندب فجمهور العلماء أنه على الندب لأنه قد روي عن راوي الحديث - وهو أبو هريرة رضي الله عنه ـ أنه كان يقول ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فدل بقوله هذا أنه فهم من النبي إما الوجوب أو التأكيد في الندب لعظم حق الجار على جاره لأنه قال اللي ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ۱ والآثار في الجار كثيرة في تأكيد حقه والإحسان إليه
وكف الأذى عنه وإدخال السرور عليه وأما قولنا هل ذلك على كل حال أو لا فلا يمكن أن يكون على كل حال لأن الشارع عل الله
1 رواه أصحاب الصحاح وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
١٢٤٧

قد قال لا ضرر ولا ضرار ۱ فإن كان في غرز الخشبة ضرر على صاحب الحائط فلا يجب عليه ذلك ولا يندب فالشارع صلوات الله علیه وسلامه قد منع أن يفعل الشخص بملكه شيئاً يضره بجاره فكيف يفعل في مال جاره ما فيه ضرر به هذا لا يعقل وإنما يكون ذلك على أحد محتملاته إذا لم يكن على صاحب الجدار في ذلك كبير ضرر لأنه من جملة الرفق له وقد ورد ما معناه لا يمنع أحدكم جاره رفده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك والشافعي عنه عن يحيى المازني مرسلاً وعبد الرزاق والإمام أحمد وابن ماجه والطبراني عن
ابن عباس رضي الله عنهما
١٢٤٨

حديث عدم الاتكال على الأعمال والاجتهاد فيها
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ قال سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ لَن يُدخِلَ أحَداً عَملُهُ الجَنَّةَ قالوا وَلَا أنتَ يا رَسُولَ الله قالَ وَلَا أنا إلا أن يَتَغَمَّدني الله بفضله ورحمته فَسَددوا وقارِبوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ َأحَدُكُمُ المَوتَ إمّا مُحسناً فَلَعَلَّهُ أن يزدادَ خَيراً وإما مُسيئاً
فَلعله أن يَستَعتِبَ
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله والكلام عليه من وجوه اعلم ـ وفقنا الله وإياك - أن الناس اختلفوا في معنى تأويل هذا الحديث على وجوه عديدة فمنها قول بعضهم إن الإيمان عَرَض والعَرَض من شأنه أنه لا يبقى زمانين فإبقاؤه عليك حتى يتوفاك الله عليه من فضله عزّ وجلّ
ومنها قول آخرين وهو أنه عزّ وجلّ الذي وفقك إلى الأعمال وتفضل عليك بقبولها لقوله تعالى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۱ وقيل لولا تجاوزه عزّ وجلّ عنا ما قدر أحد على الخلاص لقوله تعالى إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلًا كَرِيمًا
وتأويلات كثيرة لكن الذي يعطيه تقسيم البحث أن نقول قوله صلى الله عليه وسلم عمله هل هو على العموم في جميع الأعمال القلبية والبدنية أو هو خاص بالبدنية
فإن كان خاصاً بالبدنية فكيف الجمع بينه وبين الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف
۱ سورة النور من الاية ۱ سورة النساء الآية ٣١
١٢٤٩

دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام في الصيام إن في الجنة باباً يسمّى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام عن العافين عن الناس ينصب لهم لواء أخضر يوم القيامة فيتبعونه حتى يدخلوا الجنة أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام في الذين لا يسترقون ولا يتطيرون أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ۳ إلى غير ذلك وقول الله عزّ وجلّ في كتابه بما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ٤ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ إلى غير ذلك من الآي وهي كثيرة ٤ ﴿ وإن كان المعني به العموم في الأعمال القلبية والبدنية فكيف الجمع بينه وبين قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ٦ ثم أخبره أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم وقول جبريل عليه السلام للنبي من مات من أُمتك لا يُشرِك بالله شيئاً دخل الجنة ۷ وقول الله عزّ وجلّ للمؤمنين فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۸ والآي والأحاديث في هذا كثيرة والإيمان عمل من أعمال القلوب وهو أجلها فالجواب عنه أنه إن كان على الخصوص - وهو أن يعني به أعمال الأبدان - فلا تعارض بين هذا الحديث ولا ما ذكر من الأحاديث والآي ولا غيرها مما يشبهها لأن الأعمال لا تُقبَل ولا تَنفَع

تفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الأحاديث الواردة في العافين عن الناس كثيرة منها ما رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دماً فازدحموا على باب الجنة فقيل من هؤلاء قيل الشهداء كانوا أحياء مرزوقين ثم نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم مَنْ أجره على الله فليدخل الجنة قال ومن أجره على الله قال العافون عن الناس ثم نادى الثالثة ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوها بغير حساب وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه من حديث طويل مطلعه بينا رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما الله
أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي إلخ
۳ متفق عليه ٤ سورة الحاقة من الاية ٢٤
5 سورة البقرة من الآية ١٣٤ و ١٤١ و ٢٦٧
٦ رواه الشيخان عن معاذ رضي الله عنه
۷ رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم ٩٤ باب الترغيب في الصدقة وفي الإيمان رقم ١٥٤ وهو حديث طويل منه

أتاني جبريل فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاث مرات ثم قال رغم أنف أبي ذر
۸ سورة البقرة من الآية ٦٢
١٢٥٠

إلا بشرط الإيمان واتباع السنة المحمدية ولأن الكفار مكلفون بفروع الشريعة على أحد القولين ولو فعلوها لم تنفعهم ولا يرون الجنة ولا يشمّون عَرْفها وقد قال الله عزّ وجلّ في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَيذٍ خَشِمَةً عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةٌ ۱ فعلى هذا التأويل يكون للحديث فوائد
من الفقه
منها أنه حجة لأهل السنة على المعتزلة الذين يقولون إنهم بأعمالهم يدخلون الجنة ويكفرون من وقع في معصية ويوجبون له الخلود في النار ومنها زوال رعونة نفوس العابدين الذين تشمخ نفوسهم وتغتر بما وفقوا إليه من الطاعة
والخدمة
ومنها الحض على تحقيق الإيمان ويزيد ذلك بياناً أن الحق سبحانه حض على الإيمان أكثر من غيره من الأعمال بقوله تعالى فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ولا يلزم من هذا الزهد في الأعمال لأن تركها بريد الكفر وقد قال جُعِلت الصلاة فرقاً بين الإيمان والكفر ۳ ولأن ترك الأعمال أيضاً نقص في الإيمان يشهد لذلك قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يختلس الخُلسَة حين يختلسها وهو مؤمن ٤ لأن حقيقة التصديق توجب اتباع الأمر واجتناب النهي وبذل الجهد في ذلك مع اتقاء خوف لقاء المولى سبحانه وتعالى وهل يحصل له قبول أم لا يشهد لذلك قوله تعالى في صفتهم المباركة وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَهُ أنهم إلَى رَهِم رَجِعُونَ أَوَلَيْكَ يُسَرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ ﴾ ٥
وهنا بحث في الفرق بين خوف عوام المؤمنين وخوف الخواص اعلم - وفقنا الله وإياك - أن خوف عوام المؤمنين ورجاءَهم وعبادتهم كل ذلك له حد ونهاية وأما خوف الخواص ورجاؤهم وعبادتهم فليس له حد ولا نهاية بيان ذلك
أما خوف العوام فإنهم يخافون العقاب على المخالفة ونهاية خوفهم من دخول النار وخوف ما فيها من الآلام والأمور العظام أعاذنا الله منها بنور وجهه الكريم وأما رجاؤهم ففيما وُعِدوا من حسن الثواب وجزيل العطاء بحسب الوعد الجميل ونهايته دخول دار كرامته عزّ
۱ سورة الغاشية الآيات ٢ - ٤ سورة البقرة من الآية ۱۳
۳ أصل الحديث بين الرجل والكفر ترك الصلاة رواه مسلم
٤ رواه البخاري في باب المظالم ومسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي
٥ سورة المؤمنون من الآية ٦٠ و ٦١
١٢٥١

وجلّ والتنعم بما أُعِدّ لهم فيها وعبادتهم حَدُّها التزام توفية ما جعل لهم في ذلك ونهايتها ذ

ارتقابهم القدرة على ذلك والاستراحة إلى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ١ وأما خوف الخواص فإنه لا حَدَّ له لأنهم يخافون عدله عزّ وجلّ وعظمته جلّ جلاله ولا حد لما يخافون ولذلك إذا طرق لأحدهم طارقُ الخوف إن لم يتداركه بتنسم الفضل والرحمة وإلا تفطرت كَبِده ومات وقد روي أن جملة منهم ماتوا كذلك ومما يذكر عن بعضهم أنه كان فتح قبره في بيته وكان تعبده على شفير قبره فدخل عليه يوماً بعض الوعاظ يزورُه فلما دخل عليه ناداه الأولاد والعيال من وراء الستر ناشدناك الله لا تقتله فلما دخل عنده قال له عِظني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله ألا أفعل فقال لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فيها شيء من التخويف فوقع مغشياً عليه فأعاد الأولاد الرغبة على الواعظ مثل الأول فلما أفاق قال له زدني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله فقال له لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فاضطرب مثل الحية ووقع في قبره ميتاً فقال الأولاد قَتَلْتَهُ قتلَك الله وعنهم مثل
هذا كثير
وأما رجاؤهم فهم يرجون محض فضله عزّ وجلّ بفضله فما يرجون لا حد له ويحصل لهم بذلك من شدة البسط وقوة الرجاء واليقين ما يُفتتون به الجبال ومن الإدلال على فضل مولاهم يتصرفون به في الوجود كيف يختارون ومع ذلك محافظتهم على الأمر والنهي ما لا يقدر غيرهم
عليه
ومما يُروى عن بعضهم أنه أتى بئراً بالدلو والحبل فأدلى الدلو فلم تبلغ إلى الماء فرفع الماءَ طرفه إلى السماء وقال وَعِزَّتِكَ لئن لم تسقني لأغضَبَنَّ فإذا به قد أدلى دلوه ثانية فبلغ فاستقى وشرب قال راويه فلما رأيت ذلك منه ناشدته الله أن يسقيني فضله فناولنيه فإذا هو سويق بسگر فاتبعته وقلت له يا سيدي قد مَنَّ الله عليك بمثل هذا الحال وأنت تسيء الأدب في مخاطبة الربوبية وتقول إن لم تسقني غضبتُ فتبسم وقال يا بطال على مَن أغضَبُ كنتُ أغضَبُ على نفسي فلا أشرب ماءً حتى ألقاه وطلبته مستعيناً به على ذلك فلا حدَّ لعبادتهم ولا لهم فترة غير أنهم يُفرّقون بين الأوقات من أجل الأوامر لا غير فعبادتهم دائمة لا فترة فيها ولا
التفات
0
١٢٥٢
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
كذا بإقحام وإلا

ومما روي عن بعضهم أنه أتاه بعض الإخوان يزوره فوجده يصلي فقال في نفسه لا أقطع عليه أتركه حتى يفرغ من صلاته فبقي ينتظره لأن يفرغ حتى أذن الظهر فصلى الظهر وبقي يتنقل حتى أذن العصر فصلى العصر ثم قعد يذكر حتى أذن المغرب فصلى المغرب ثم بقي يتنفّل حتى أذن للعشاء فصلى العشاء وبقي يتنفّل حتى طلع الفجر فصلى الصبح ثم قعد يذكر حتى كان وقت الضحى الأولى فقام فصلى ثم قعد يذكر والزائر في ذلك كله يقول في نفـ نفسه لا لا أقطع عليه حتى يفرغ هو من تلقاء نفسه فلما قعد يذكر وهو ينتظر الضحى الأعلى جرت سِنَةٌ على عينه وهو قاعد لم يتحرك لها فمسح النوم من عينه وقال أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فقال الزائر في نفسه لا يحل لي الكلام مع مثل هذا وتركه وانصرف ومثل هذا عنهم كثير
والفائدة أن تنظر من أي الأصناف أنت وما حالك أمِنَ العوام أو الخواص وهل بينك وبين
أحدهم نسبة أم لا وإلا فتدارك نفسك قبل ذهابها وأغلق الباب فالأمر والله قريب وقد يكون للحديث بحث ثان وهو أن الأحاديث التي أتت بمقتضى الأعمال وما لفاعلها وما على تاركها فذلك مقتضى الحكمة والتكليف ويكون هذا يدل على مقتضى التوحيد والتخصيص
الله
يشهد لذلك ما روي عنه الله أنه خرج يوماً ويداه الكريمتان مقبوضتان فقال للصحابة رضي عنهم أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم فقال في هذه أسماء أهل الجنة وأسماء
ابائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ثم قال أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم قال في هذه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة قالوا يا رسول الله ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خُلق له ۱ أو كما قال عليه السلام فحصل التخصيص لأهل الدارين بمقتضى الإرادة الربانية لا بموجب الأعمال البدنية
لكن بقي للحكمة معنى لطيف وهو أن الأعمال دالة على المآل كما هو العنوان دالّ على
۱ رواه الإمام أحمد والترمذي في القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ولفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ا و ف ي ي ي يليه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا قال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وليس في الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له وهذه العبارة جزء من حديث اخر رواه البخاري في القدر عن عمران بن حصين وفيه قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له
١٢٥٣

صاحب الكتاب يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فَسَنيَسرُهُ لِيُسْرَى فَسَنُيَتِرُ لِلْمُسْرَى ۱ وقول زيد الخير لرسول الله لتخبرني يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريده وما علامته فيمن لا يريده فقال كيف أصبحت يا زيد قال أصبحتُ أحبُّ الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرتُ إليه وإن فاتنى حزنتُ عليه وحننتُ إليه قال رسول الله تلك علامة الله فيمن يريده ولو أرادك لغيرها لهياك لها أو كما قال عليه السلام
فلذلك جاء شبه الأعمال البدنية مع سابقة الإرادة الربانية لمن تفطن واعتبر كما أخبر سبحانه عن يوم بدر بقوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَورِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَفٍ مِّنَ الْمَلَيْكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ الله فجعل نزول الملائكة اطمئناناً لقلوبنا لما يعلم من ضعفنا فأخبر أن حقيقة النصر من عنده سبحانه فكذلك الأعمال الصالحة فيها للنفوس الضعاف طمأنينة وحقيقة دخول الجنة بفضل الله تعالى
والركون أيضاً إلى الأعمال كيوم حنين وقد قال عزّ وجلّ فيه ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنَ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كُمْ كَثَرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ ۳ فكذلك إذا عولت على أعمالك الصالحة لم تقدر بها على شيء من الخلاص وإن كثرت إلا أن تغمدك الله عزّ وجلّ بالفضل والرحمة يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العابد من بني إسرائيل صاحب الرمانة - وقد تقدمت حكايته قبل في غير هذا الحديث
يا هذا اعمل فأصحاب التوفيق إذا رأوا أنفسهم قد وفقوا إلى شيء من أفعال الخير يستبشرون ويشكرون الله على ذلك ولا يغترون ويرغبون الله في أسباب السعادة الدالة عليها من فضله لقوله تعالى ﴿وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ فهو أهل الفضل والإنعام
ويكون من فوائد هذا الحديث على هذا الوجه أنه حجة على أهل الغفلة والجهل ممن انتسب إلى العلم وممن انتسب أيضاً إلى طريق الصوفية لأنهم يفرقون بين الشريعة وطريقتهم وبين الحقيقة وطريقتهم وكل طائفة منهما تدعي تفصيل طريقتها وليس الأمر كذلك لأن الذي أخبر بالشريعة وبينها لنا أخبر بالحقيقة وبيّنها لنا أيضاً
۱ سورة الليل ٧ و ١٠
سورة ال عمران الآية ۱٥ و من الآية ١٢٦
۳ سورة التوبة من الآية ٢٥
٤ النساء من الآية ٣٢
١٢٥٤

وكفى في ذلك ما كان يفعل في نفسه المكرمة لأنه كان إذا خرج إلى جهاد أو حجّ أخذ الأهبة لذلك على مقتضى الشريعة وإذا رجع قال ایبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصَرَ عبدَه وهَزَم الأحزاب وحده ۱ وهذا هو الحق والحقيقة فتراه عليه السلام جمع في العمل الواحد الشريعة والحقيقة لأن المطلوب الجمع بينهما ومن هنا زَلّ مَن زَلَّ وقد قال بعض السادة في الجمع بين ذلك أن تعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتفوَّضَ الأمر وتتوكَّل تَوَكُلَ من لا يرى خلاصاً إلا بمجرد الفضل لا غير أو كما قال ولقد أحسن فيما به جمع
وفيه دليل على أنه ليس أحد من العباد يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها يؤخذ ذلك من قوله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته فإذا كان عليه السلام الذي هو خير البشر وصاحب الشفاعة والمقام المحمود لا يقدر على ذلك فالغير من باب أحرى وأولى لأن صاحب كل مقام يطلب بتوفيته بحسب ما رفع له في مقامه
يشهد لذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا صلى الله عليه وسلم أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أثنيت على نفسك وإخباره عليه السلام عن قول الملائكة يوم القيامة وهي في العبادة لا تفتر سَبوحٌ قُدُّوسٌ ما عَبَدْناكَ حقّ عبادتك وإذا تأملت ذلك من طريق النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا عزّ وجل بشكر النعم التي أنْعَمَ عَجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفها كما أخبر جلّ جلاله وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۳ فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات وهي من جملة النعم الواحدة منها نعجز عن شكرها أن لو اشتغلنا بها وذلك أن الأنفاس اثنا عشر ألف نَفَس داخل ومثله خارج في اليوم الواحد فأنعم علينا بأن تدخل بغير كلفة وتخرج بغير مشقة مع اليقظة والنوم فهذه واحدة من جملة نعم عديدة في البدن عجزنا عن شكرها وكثير من الناس ما يعرفونها فوقع العجز حقيقة
ومن وجه آخر وهو أن العالم كله محدّث فكيف يقدر محدث على توفية حق القديم الأزلي هذا عن طريق العقل مستحيل فما بقي إلا ما أخبر به الصادق له الا الله وهو التغمد بالفضل والرحمة فبقي البحث على الفرق بين الروايتين
۱ رواه البخاري في الدعوات وفي الحج والجهاد والمغازي ورواه مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وأوله أن رسول الله لو كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر الله على كل شَرَف من الأرض إلخ
رواه مسلم في الصلاة عن عائشة رضي الله عنها
۳ سورة إبراهيم من الآية ٣٤
١٢٥٥

فأما معنى قوله بفضله ورحمته فهو بيّن لا خفاء فيه وهما صفتان بأيهما عامل عزّ وجلّ عبده فقد سعد سعادة أبدية وأما قوله بفضل رحمته احتمل وجوهاً منها أن تكون إشارته عليه السلام لما أخبر عن مولانا سبحانه أنه قسم الرحمة على مائة جزء أخرج منها في الدنيا جزءاً واحداً منها يتراحم الخلق كلهم حتى الفرس ترفع حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه وادخر تسعة وتسعين جزءاً إلى يوم القيامة فجعل عليه السلام نفسه المكرمة من جملة المؤمنين تواضعاً الله تعالى
واحتمل أن يشير عليه السلام إلى عجزه عن توفية حقوق الرحمة التي رحمه الحق بها حتى يكملها له سبحانه بفضله فيكون له سبباً إلى دخول الجنة مثل ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه من نعمه سبحانه عليه بقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَشَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَابِلًا فَأَغْنَى ۱ إلى آخر السورة ومثل قوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فكأنه عليه السلام يقول وأنا عاجز عن التوفية بالحقوق التي تجب الله تعالى عليّ بمقتضى الشكر والتعظيم فلم يبق بما أرجو دخول الجنة
إلا برحمة أخرى فاضلة على هذه - أي زائدة على هذا - يكفر بها عن التقصير ويدخلني بها الجنة واحتمل أن تكون إشارته عليه السلام إلى الزيادة التي زاده الله تعالى بعدما أكرمه بما ذكره وهو قوله جلّ جلاله لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ۳ لأن من غُفِر له قد أُدخِل الجنة لا محالة ولا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي أخبر مولانا سبحانه أنه بفضله غفرها للنبي أنها من قبيل ما نقع نحن فيها - معاذ الله - لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر بالإجماع ومن الصغائر التي فيها رذائل وأما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء والأكثر منهم على أنهم معصومون من الصغائر كما عصموا من الكبائر - وهو الحق - لأن رتبتهم جليلة
وإنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر ووضع البشرية وإن رفع قدرها - حيث رفع - فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز للكل كل على قدر حاله وبقيت المنة لله تعالى على الكل والتجاوز بمجرد الفضل والرحمة لا حق لأحد عليه
33
۱ سورة الضحى الايات ٦ و ۸ سورة النساء من الآية ۱۱۳ ۳ سورة الفتح من الاية ٢
١٢٥٦

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلْإِيمَنِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ١
ومع

ذلك يعترفون
وفيما ذكرنا حجة لأهل الطريق الذين قد أجهدوا أنفسهم في الخدمة بعظم التقصير ويخافون أكثر مما يخاف أصحاب الكبائر وقد ذكر عن بعضهم أنه اشتهت نفسه تمراً فبقي يدافعها أياماً عديدة إلى أن ظهر له يوماً شراؤه فلما أخذ من البائع وولى وإذا ۳ بريح شديدة وبرق ورعد فرمى التمر من حجره ووبخ نفسه وقال لها أهلكت الناس بخطيئتك وخرج هارباً إلى الله تعالى
ومما يزيد ذلك بياناً قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَواْ ۳ فإنه بقَدْر العلم به عزّ وجلّ يكون الخوف منه ولا أحد أعلم بالله من رسله وسيدنا صلوات الله عليه وسلم وعليهم أجمعين القدوة فيهم فيخاف مثل هذا الخوف له عليه السلام لما به مَنَّ عليه من المزية وقد قال أنا أخشاكم الله وأعلم بما أتقي ٤ أو كما قال عليه السلام واحتمل أن يكون عليه السلام أراد مجموع الوجوه كلها وزيادة لأنه معدن الفصاحة
والبلاغة
وفيه دليل على أن ألفاظ العموم يدخلها التخصيص بمقتضى اللسان العربي يؤخذ ذلك من قولهم ولا أنت لأن قوله لن يدخل أحداً عمله الجنة فقوله أحداً لفظ عام فلو لم يكن ذلك معروفاً من لسانهم ما استفسروه حتى يزيل لهم ذلك المحتمل المتوقع
ومن أحكام الحديث النهي عن أن يتمنى أحد الموت على أي حالة كان من خير أو شر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُم الموتَ إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب وقد كان من دعائه عليه السلام اللهم أحيني ما كانت الحياة زيادة لي من كل خير وأمتني ما كان الممات راحة لي من كل شر ٥ أو كما قال عليه السلام
1 سورة الحجرات من الاية ١٧
الصواب فإذا ۳ سورة فاطر من الآية ۸
٤ قطعة من حديث رواه مسلم في الصيام رقم ۱۱۰۹ باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب بلفظ والله
0
إني لأرجو أن أكون أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي
رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربع عن أنس رضي الله عنه بلفظ لا يَتَمَنَّينَّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وفي الباب ذاته ما رواه مسلم رقم ۷۰ في الذكر والدعاء باب التعوذ من شر العمل ضمن حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي اخره عبارة واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شرّ
١٢٥٧

رضي
وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا النهي على عمومه أو لا احتمل لكن قد جاء إن وقعت الفتن فبطن الأرض خير للمؤمن من ظهرها ۱ وقد جاء عن علي رضي الله عنه أن الفتنة لما طالت قال اللهم إن قومي قد ملوني ومَلِلْتهم فاقبضني إليك غير مقصر ومثل ذلك عن عمر الله عنه أنه قال اللهم إن رعيتي قد انتشرت وكَبِر سني فاقبضني إليك غير مفرّط والجمع بين ذلك أنه مهما كان الرجاء في شيء من الخير أو الخوف من شيء من الشر رغب في الأسباب التي يتوصل بها إلى الخير أو دفع الشر وإبقاء حياة المؤمن من أكبر الأسباب التي يرجى بها ذلك وقد قال بقية عمر المؤمن لا ثَمَنَ لها يصلح فيه ما فَسَد أو كما قال عليه السلام فإذا كان وقت الفتن خيف على الإيمان في الغالب فبطن الأرض إذ ذاك خير للمؤمن فإنه يقبض على الإيمان وهي النعمة العظمى - منّ الله بها علينا بفضله - وقد قال صلى الله عليه وسلم في الفتن يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا أو كما قال عليه السلام فإذا جاءه شيء يخاف به زوال الإيمان فالموت إذ ذاك مع الإيمان خير من الحياة التي يخاف معها زوال الإيمان
وأما قول الخليفتين رضي الله عنهما فإنما طلبا الموت خيفة النقص وأن يكون رجوعهما إلى مولاهما على أكمل الحالات سلكا به ما قدمناه من قوله عليه السلام وأمِثْنِي ما كان الممات خيراً لي غير أن العبارة اختلفت والمعنى واحد فلا تعارض بينهما
يسر
3
وأما قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فقد تقدم الكلام على ذلك في حديث إن الدين
وفيه دليل على قوة رجاء المؤمنين في الله تعالى على أي حالة كانوا يؤخذ ذلك من قولهم الله إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب أي يعتب نفسه على ما وقع منه ويندم ويتوب لأن الاستغفار لا يكون إلا بعد الندم والندم كما قال توبة ٤
1 رواه الترمذي في الفتن وفي سنده ضعف ولفظه إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعَرَض من الدنيا
قليل
۳ رقم الحديث ٦
٤ رواه البخاري في التاريخ وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله
١٢٥٨

وفيه دليل لطريق القوم لأنهم يقولون ارجع إلى مولاك على أي حال كنت تجده بك
رحيماً وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومولاك موضع شكواك ومما جاء في مثل هذا ما روي في قصة يونس عليه السلام حين كان في بطن الحوت أن الله عزّ وجلّ أسمعه صوت قارون وهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة لا قرار له فيها وأسمع عزّ وجلّ لقارون صوت ذي النون عليه السلام فسأل 1 الملائكة الموكلين بعذابه أن يمهلوه حتى يخاطبه فأذنوا له في ذلك فناداه فاستجاب له فسأله عن قصته فأخبره بها فقال له ارجع إلى مولاك ففي أول قدم ترجع إليه تجده فقال له ذو النون عليه السلام وَلِمَ لمْ ترجع أنت إليه فقال له إن توبتي وكلت إلى ابن خالتي موسى يقبلها فهناك قال ذو النون لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ ٢ فأخرجه الله عزّ وجلّ إلى البر بفضله ورحمته ولذلك قال بعضهم تقواك تقواك عمدة في رجاك ورجاك رجاك عمدة في تقـواك فإن خليت منها فمولاك مولاك ثم مولاك
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ الضمير يعود على ذي النون سورة الأنبياء من الاية ۸۷
١٢٥٩

ديث الشفاء في ثلاث
عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَفَعَ رَسُولُ الله الشَّفاء في ثَلاثة شَربةِ عَسَلٍ وَشَرطةِ مِحْجَمٍ وَكيَّةِ نار وأنهى أُمتي عَن الكَيِّ رَفَعَ الحديثَ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره بأن الله سبحانه جعل الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكيّة نار والحكم الثاني انه هيه لا عن الكي بالنار والكلام عليه من نه ل ا ل ا
وجوه
منها أن يقال هل الشفاء في هذه الثلاثة المذكورة هو على العموم للمؤمن وغيره أو لا وهل الشفاء أيضاً يكون هنا عاماً من كل الأمراض أو في مرض خاص وهل يحتاج في ذلك إلى نية عند استعماله أم لا يحتاج وهل ينهيه الا الله ع ع ع ع الكي نهي كراهية أو تحريم وهل يعرف أيضاً
لذلك حكمة أم لا فالجواب عن قولنا هل هو على العموم في المؤمن والكافر أو لا ظاهره محتمل لكن قد جاء من طريق شفاء أمتي في ثلاث فإن حملنا عموم لفظ هذا على التخصيص بهذه الطريقة التي أوردناها فيكون خاصاً بأمته وإن تركناها كلّ على مقتضاه فيكون العموم في هذا أظهر وتكون الطريقة الأخرى تدل على أن هذا الخير باق ولأمته
وأما قولنا هل يكون ذلك شفاء من كل داء أو هو من أدواء مخصوصة فاللفظ محتمل لكن الأظهر العموم لأنه من طريق الرحمة والمنّ وما هو من هذا الباب فالعموم أظهر فيه وقد تكلم ناس في هذه الأحاديث وعللوا الفائدة فيها بأن جعلوها بنظرهم راجعة إلى التجربة وما يقول فيها أهل الطب فإذا رجعنا إلى بحثهم إلى التجربة وقول الأطباء فلم يبق لقول الصادق
١٢٦٠

فائدة أصلاً وهذا لا خفاء في غلط قائله والله عزّ وجلّ يقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً
1,
لِلْعَالَمِينَ ١ وقال تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى
فإذا صدقنا قول أهل التجربة وأهل الطب - وكلاهما تقدير وظن غالب ـ فيجب من باب أولى تصديق الصادق الله الله الذي يخبر عن جاعل الأشياء كيف شاء واخترعها بقدرته وحكمته فالتوفيق لا ينال إلا من طريق النعم علينا
ومما يبين أنه على العموم ما اتفق لبعض العلماء بغرب الأندلس كان من رواة الحديث عاملاً به متبعاً للسنة والسنن وكان الناس يجدون برأيه في كل ما يشير به عليهم بركة حتى شهر بذلك فكان الناس يقصدونه من الأماكن البعيدة في أخذ رأيه في المعضلات التي تصيبهم وكان في بعض الحصن بعض الفلاحين وكان له رأس بقر وكان يعيش به فسُرِقَ فلحقه منه كرب عظيم فقيل له ما لك إلا الفقيه الذي في رأيه البركة هو يجبره عليك فأتاه فأخبره بحاله وهو يبكي ويضرع إليه ويتوسل إليه بكل ما يمكنه عساه يجبر عليه رأس بقره فقال له اذهب فاحتجم
ترج ليحتجم وعادتهم في البلاد أن المزينين يسترون حوانيتهم بمناديل من صوف أو كتان فرفع ذلك المنديل لأن يدخل فإذا برأس بقره في داخل الحانوت والحانوت خالية فأخذه ثم رجع إلى الفقيه يخبره بحاله فلما أخبره قال له الحاضرون أي نسبة في قولك احتجم حتى يكون سبباً في جبر رأس البقر فإنك لما أمرته بذلك تعجبنا من بعد النسبة التي بين حاله وما أمرته به ولم نقدر أن نكلمك ثم نجح فيما أمرته به أفدنا بذلك
فقال لهم لما رأيته قد أصيب وحاله يقتضي الخوف عليه من شدة كربه ورأيته لا يقبل عذراً إن قيل له فتداركت قوله صلى الله عليه وسلم شفاء أمتي في ثلاثة شرطة محجم فأخذت الحديث على عمومه فأمرته بما أخبر به الصادق لا لا لا اله الذي لا ينطق عن الهوى فبركة السنة هي التي شفته أو
كما جرى
وحدثني بهذا بعض مشايخي من رواة الحديث وكان له العلم والدين المتين وكان من البلد الذي كان فيه ذلك الفقيه وجرت هذه فيه
وأما قولنا هل يحتاج إلى نية عند استعماله فكل ما هو من طريق النبوة فالنية أصل فيه وقد
۱ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷ سورة النجم الآية 3
١٢٦١

يؤثر لمن لم تكن له نية إذا أخذه على وجه التداوي مثلما يأخذ الدواء الذي يعطيه الطبيب فإن ذلك
المقدار من النية فيه مجزىء
وأما الذي يأخذه على طريق التجربة أو الشك فلا يزيد بذلك إلا شدة بدليل قول الله سبحانه وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ ١ وكل من لم يصدق ما قاله الصادق الله و أو شك فيه فقد ظلم نفسه فلا يزيد ما يستعمل من الكتاب والسنة إلا خساراً ورضي الله عن ابن عباس كان إذا رمدت عينه يتلو قول الله عزّ وجلّ في العسل فِيهِ شِفَاءُ لِلنَّاسِ ويكتحل به فيبرأ من حينه وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا طلع له نبت تلا الآية وطلاه بالعسل فيبرأ أيضاً فمثل هؤلاء السادة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين عرفوا الكتاب أيضاً والسنة وما به من علينا من ذلك
وأما قولنا هل لنهايه الا الله عن الكي نهي تحريم أو كراهية احتمل والأظهر أنه على الكراهة ومما يدل على ذلك أن بعض الصحابة كانت الملائكة تسلم عليه فأخذه مرض فقيل له ليس يبريك منه إلا الكي فاكتوى فلم تسلم عليه الملائكة حتى تاب وأقلع عن الكي فرجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت قبل وقد جاء أن النبي الا الله و على بعض الصحابة في أكحله ۳ لكنه لا نعلم هل كان كيه لذلك الصحابي بعد هذا الحديث فيكون فعله عليه السلام ناسخاً لقوله أو يكون قبل الحديث فيكون فعله منسوخاً بقوله فإذا احتمل الأمرين بقي موضع خلاف
وفعل هذا الصحابي الذي كانت الملائكة تسلم عليه كان كيه بعد وفاة النبي فبان أن النهي عندهم كان هو المشهور فيه الكراهية لأنه روي عنه رضي الله عنه أنه قال اكتوينا فما أفلحنا فلولا أن النهي كان معلوماً عندهم بعد موته وتأوله هو أنه على طريق الكراهية واكتوى فظهر له شؤم ما أراد ولما تاب من الكي وأقلع عنه حينئذ رجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت وفيما جرى لهذا الصحابي دليل على أنه لا تعجل العقوبة إلا للمحبوب لكي يرجع وأما غيره فقد يؤخر إملاء لقول مولانا سبحانه إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَا ٤

وأما قولنا هل نعرف النهايه اه اه لو لعل له أم لا أما أن يفعل ولا شيئاً لغير حكمة فمستحيل وأما
ما هي فتحتمل - والله أعلم - وجوهاً
۱ سورة الإسراء الاية ۸ سورة النحل من الآية ٦٩
۳ رواه مسلم في السلام باب لكل داء دواء وأبو داود في الطب عن جابر رضي الله عنه أن أبي بن كعب رمي يوم
الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله
٤ سورة ال عمران من الاية ۱۷۸
١٢٦٢

منها أن الجاهلية وأهل الكتاب يفعلون ذلك وهو عليه السلام قد نهى عن التشبه بهم
فيكون لأجل ذلك واحتمل أن يكون لما جعلها الله تعالى للعذاب والنقم اتبع عليه السلام فيها حكمة الحكيم وأعطاها ما هو الغالب من شأنها واحتمل أن يكون عليه السلام كره ذلك من طريق الفأل فهذه سنته عليه السلام يعجبه الفأل الحسن كما فعل عليه السلام حين قال من يحلب هذه الشاة فقام رجل ليحلبها فسأله عن اسمه فلما أخبره لم يعجبه ذلك الاسم فقال له اجلس ثم لثان ثم لثالث فلما أعجبه اسمه قال له احلب ۱ فكره هنا أن يكون شفاء أحد أمته بالنار من أجل الفأل ولا يكون لها في لحم مؤمن نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة و احتمل مجموع ما ذكرناه وزيادة لأنه عليه السلام معدن الحكم والخير
وبقي سؤال وهو أن يقال كيف يخبر عن شيء أن فيه شفاء ثم ينهى عنه
فالجواب اعلم - وفقنا الله وإياك - أنه كان عليه السلام الصادق المشفق على أمته الرحيم بهم كما جاء في التنزيل فأعلمنا بما جعل الله تعالى فيها من الشفاء ونهانا عن استعمالها لما في ذلك من المضار علينا لأنا بنفس نهيه عليه السلام عن ذلك علمنا أنه قد اجتمع فيها الأمران الشفاء والمضار فغلب لا اله الله الذي هو الأصلح في حقنا - وهو النهي كما أخبر الحق سبحانه في شأن الخمر أن فيها منافع للناس ثم حرمها لما فيها من المضار في العقول والأديان

وفيه من الفقه أن دفع المضار أكد من تحصيل النفع يؤخذ ذلك من أنه لما كان في الكي النفـ
الله
والضرّ غلب عليه السلام دفع الضر فنهى عنه وهذا المعنى هو الذي فهمه حذيفة رضي عنه حيث قال كان الناس يسألون رسول الله الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن

يدركني ٢
وفيه دليل لأهل الزهد وهو أنه لما كان في الدنيا الوجهان غلبوا الضر فيها فدفعوه بالزهد فيها فنجوا وربحوا الدارين وعاد الضرر على أهلها فتعبوا في الدارين معاً
وفيه من الفقه أنه إذا كان شيء يكون فيه خير وشر ولا يقدر على دفع ذلك الشر الذي فيه يترك خيره من أجل شره ومن أجل هذا الباب كان أطباء الأبدان لما أن كانت عندهم المحمودة فيها السم القاتل وفيها النفع لإذهاب الأخلاط وقدروا على أن يحجبوا ضررها عن الأبدان بالحجب المعلومة في مقتضى صنعتهم استعملوها بتلك الحجب ولا يستعملها أحد وحدها إلا قتلته وكذلك أيضاً أطباء الأديان لما كانت النفس وما تشير إليه غالباً سمّاً قاتلاً في الدين لم

رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يكره من الأسماء رواه البخاري في الفتن ومسلم في الإمارة
١٢٦٣

يستعملوها إلا بحجاب الشريعة فإنهم لا انفكاك لهم عنها فلم تضرهم مع ذلك وانتفعوا بها وربحوا عليها الدارين جميعاً والذين استعملوها بغير حجب الشريعة قتلتهم وخسروا بها الدارين معاً أعاذنا الله من ذلك ولذلك قيل إذا كنت متقياً فشر نفسك أولاً فاتقه فإن عوفيت منها فلا
شرّ بعدها تتقيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٤

ITA-
حديث نفع الحبة السوداء
عَن أبي هُرِيرَةَ رَضي الله عَنهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ في الحبَّةِ السَّوداء شفاء مِن كُلِّ داء إلا السَّامَ قالَ ابنُ شهاب ۱ وَالسَّامُ المَوتُ وَالحِبَّةُ السَّوداءُ الشُّونِيزُ
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ جعل في الحبة السوداء ـ التي هي الشونيز - شفاء من كل داء إلا الموت والكلام عليه من وجوه
وهي كما تقدم في الحديث قبله من التوجيهات في الشفاء والانفصال عنها كالانفصال عن تلك غير أن هنا زيادة في التوجيه وهي أن عادة العرب إذا أكدت الشيء بالمصدر أو استثنت من العام بعضه دل على أن ما بقي حقيقة في العموم لا يحتمل التخصيص وقد قال الله هنا إنها ۳ شفاء من كل داء فهذا لفظ عام وقد يحتمل التخصيص فلما استثنى منه البعض قوله عليه السلام إلا السام دل على أنه شفاء عام لا يحتمل التخصيص
وقد قال بعض العلماء في هذا الحديث ما قدمنا ذكره في الحديث قبل أنه يرجع في ذلك لما يقوله الأطباء وهذا غلط محض والجواب عنه مثل الجواب في الحديث قبل وقد قال أهل صنعة الطب إن الحبة السوداء تنفع عندهم لسبعة عشر داء بالتجربة
وقد ذكر لي بعض مشايخي في الحديث والفقه - وكان قد جمع الله له الحديث والفقه والعمل بهما والتقوى - أن شيخه - رحم الله جميعهم وإيانا بفضله - كان له صاحب وكان من الزاهدين
۱ هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء تابعي من أهل المدينة توفي سنة ١٢٤هـ / ٧٤٢م كذا والصواب واستنت كما هو نص الحديث وتأكيد الشيء بالمصدر جعل الخبر عنه أو صفته أو حاله أو ما يسند إليه مصدراً والشفاء هنا مصدر وهو مبتدأ جعل كائناً في الحبة السوداء
۳ كذا أيضاً خلافاً لنص الحديث
١٢٦٥

المباركين وكان يحضر مجلسه كل يوم فلما قرأ هذا الحديث وتكلم الشيخ عليه بنحو ما أشرنا إليه في الحديث قبله جاء يوم ولم يأت ذلك الزاهد مجلس الشيخ فلما أتاه بعد سأله ما حبسك عنا فقال له إن عيني رمدت فأوجعتني فأخذت الشونيز فمضغته وألقيته داخلها فزادت وجعاً فقلت مخاطباً لها أوجعي أو طيري فما أخبر الشيخ إلا عن النبي ا ا ا ا ولا يقول له إلا حقاً فبرئتُ من ليلتي وما بقي لي فيها شيء من الأشياء المؤلمة ولا أثر منها فقال الشيخ للفقهاء مثل نية هذا هي النية المباركة التي تظهر فيها فائدة الحديث ولو استعمله أحد منكم مع الشك الذي في نياتكم لطارت عينه
وفي
هذه الحكاية دليل على ما قلناه في الحديث قبله أن الأمور التي تتلقى من الشارع الفائدة في استعمالها إنما تكون بحسن النية وإن لم يكن هناك حسن نية خيف على الشخص من زيادة الضرر وقد بينا الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى والله الموفق للخير بفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٦
بولتا

حديث لا عدوى ولا طِيَرَةَ ولا هامَةَ ولا صَفَر
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا عَدْوَى وَلاَ طِيرَةَ وَلاَ صلى الله عليه وسلم هامَةَ وَلَا صَفَرَ وَفِرَّ مِنَ المجدومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما نفي هذه الأربعة وهي العدوى والطَّيَرة والهامة والصفر والثاني الأمر بالفرار من المجذوم كما يُفر من الأسد والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معناها وما الحكمة في نفيه عليه السلام ذلك وهل أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم وجوب أو ندب
أما قولنا ما معناها فإن تلك الأربعة أشياء كانت من عمل الجاهلية فمعنى العدوى وعندهم إذا كان عندهم الجمل به داء يُخرِجونه من بين الجمال ويزعمون أن ذلك الداء هو الذي يعدوه إلى غيره أي ينتقل منه إلى غيره وقد سئل عن ذلك سيدنا الله فقالوا يا رسول الله الإبل تكون مثل الظباء حتى يدخل بينهما الأجرب فيعدوها فقال رسول الله فمن أعلى الأول فنفى بقوله فمن أعدى الأول ما كانوا يعتقدون من ذلك وبيّن أن حقيقة إصابة الخير والضر على اختلاف أنواعهما في جميع الحيوان عاقلة وغير عاقلة إنما هو بقدرة الله تعالى ومشيئته لا تأثير لشيء من الأشياء في ذلك
وأما الطَّيَرَة فإنه كان من عادتهم من أصابه منهم ضرّ من شيء من الأشياء أو بسببه كان يتطير به أو يكرهه وينسب ما جاءه مما لم يعجبه أنه من ذلك وقد يكرهه وقد أخبر الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَن لَّمْ تَنتَهُوا لَتَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَا عَذَاب
1 أي يبلغها الجرب ويصل إليها ورواية البخاري فتجرب
١٢٦٧

أَلِيرُ ۱ فجاءهم الجواب ﴿ طَرُكُم مَّعَ

وبال الشخص من سوء حاله كما قال سبحانه طَرُكُم مَّعَكُمْ
أن يصيب أحداً من أحد وبال وإنما
وأما قوله ولا هامة فإن العرب كانوا يقولون إن المقتول إذا قُتِل ولم يؤخذ بثأره يخرج من رأسه طائر يصيح حتى يؤخذ بثأره وقيل يخرج من عظامه إذا بليت فكذب له ما ادعوه من ذلك بقوله ولا هامة أي ليس ما يقولون من ذلك حقاً وفي هذا دليل على تكذيب كلّ من يدعي في خلق من خلق الله تعالى أنه متولّد عن شيء برأيه أو بكلام غيره مِمَّنْ تقدمه ويحكم على القدرة برأيه أو باستنباط حكمة يدعيها إن ذلك كله كذب وليس لعلم ذلك طريق من طريق الحكمة بالجملة الكافية إلا من طريق إخبار رسول الله ويبطل بهذا علم الفلاسفة والطبائعيين وأهل
صنعة الفلك لأن ذلك كله برأيهم ليس فيه من الشرع مستند ولا يحل تصديقهم فيما يزعمونه وأما قوله ولا صفر فإن العرب ينقلون صَفَر لرأس كل سنتين من شهر إلى شهر وكذلك المحرَّم وكذلك الحج فنهى بقوله ولا صفر حكم الجاهلية في ذلك وأقر الأمر على ما جعله الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كما ذكر عزّ وجلّ في كتابه مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم ۳
ويترتب على ذلك من الفقه أن لا حكم في الأشياء وأسمائها ووضعها إلا لله تعالى ولرسوله إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَمَا بَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَنَ ٤
وقيل إنه دود في البطن يقتل من أصابه فأزال بقوله هذا ما كانوا يتوهمونه من ذلك حتى يعلموا أن الميت إنما يموت بأجَلِه ولا يلتفت لعادة الجاهلية في ذلك
ويترتب على هذا من الفقه أنه لا يعمل من الأسباب إلا الذي جاءت به السنة لاتباع الأمر أو ما كانت جارية وأبقتها السنة مثلما كان يعجبه الله الفأل الحسن وقد كان ذلك من فعلهم في الجاهلية فأقرته السنة ومثل القسامة ٥ وعقل العاقلة ٦ وما أشبه ذلك
1 سورة يس الآية ١٨ سورة يس من الآية ۱۹ ۳ سورة التوبة من الآية ٣٦
٤ سورة النجم من الاية ۳
٥ القسامة قسم أو يمين يحلفها خمسون من أهل الحيّ يختارهم أهل القتيل المجهول قاتله في هذا الحي أنهم
ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا فتبرأ ذمتهم ٦ العاقلة العشيرة تتحمل عن القاتل خطاً لا عمداً ولا صلحاً ـ دِينَهُ يفترض فيهم الإهمال لشأنه حتى ارتكب جريمته فهي مسؤولية جماعية مادية وتدل على الروح التضامنية للجماعة والدية مائة ناقة أو عشرة الاف =
١٢٦٨

وفيه دليل على أن الأصل في الدين أن لا تأثير في الوجود لشيء بذاته وإنما التأثير للقدرة
نفسها أو ما جعلته القدرة بمقتضى الحكمة وغير ذلك محال ولذلك قال أهل العلم إن بروز القدرة إلينا في الأشياء على ضربين منها ما هي مغطاة بيد الحكمة ومنها ما هي بارزة بذاتها لا
تغطية عليها
وأما قولنا ما الحكمة في نفيه عليه السلام تلك الأربعة أشياء فلوجوه منها أن التأثير في الأشياء كلها للقدرة كما تقدم وغير ذلك محال لأن هذا من حقيقة الإيمان ومنها نفي التغيير الذي قد يعلق في النفوس من تلك العوائد لمن فعلها ولذلك قال إذا تطيَّرت فامض أي لا
ترجع
عليه
عما كانت عليه نيتك قبل فإن ذلك التطير لا يمنع شيئاً ولا يجلبه ومنها شفقته السلام على أمته ليريحهم من التعب الذي يلحقهم بالتقيد بتلك العوائد المذمومة ولا فائدة لهم فيها ومنها إبقاء التوادد بين المؤمنين

يؤيد هذا المعنى الذي أشرنا إليه قوله عليه السلام في الشؤم إن كان ففي الدار والمرأة
والفرس ٢ فإن هذه الثلاث مما يمكن الانفصال عنها وليس على أحد في ذلك كبير مشقة ولم يحقق عليه السلام الشؤم فيها وإنما قال عليه السلام إن كان - على زعمكم - ففي هذه الثلاث ونفاه أن يكون في ابن أو أخ أو صاحب أو قريب من الأقرباء أو في شيء من الأطعمة أو فيما يتمول من الأشياء سوى ما ذكر حتى تبقى نفوس القرابة والأصحاب مجتمعة لا يجد أحد بأحد تغيّراً وكذلك فيما فتح الله تعالى عليه من جميع المتمولات

وترى اليوم يتطير بعض الناس ببعض اخر أو ببعض أبنائهم أو أصحابهم ويقولون ما
حدث لفلان إلا حين ولد له فلان ويكره ذلك الابن من بين بنيه ويوافقهم على ما زعموا وكذلك في الأصحاب ومن يلقونه يقولون ما حرمت اليوم إلا من كوني لقيت فلاناً وقد شاع هذا في
درهم أو ألف دينار وكانت هذه الأنواع الثلاثة متعادلة القيمة والعقل تحمل الدية بهذا الشكل المشترك 1 كذا بإظهار ما حقه الإدغام قال بعض العلماء إن السيدة عائشة رضي الله عنها استدركت على الصحابة بعض أحاديث ومنها هذا الحديث وقالت قال رسول الله قالت اليهود إن يكون الشؤم ففي ثلاث إلى اخر الحديث وفريق اخر وهو جماعة المحدثين قالوا حديث إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس رواه البخاري في الطب باب الطيرة وباب لا عدوى وفي البيوع باب شراء الإبل وفي الجهاد باب ما يذكر من شؤم الفرس وفي النكاح باب ما ينفى من شؤم المرأة ورواه مسلم في السلام باب الطيرة والفأل والجمع بين رأي بعض العلماء والمحدثين يكون بحمل إنكار السيدة عائشة على ابن عمر وأبي هريرة على قضايا ووقائع خاصة لا على العموم والاختلاف هنا ليس من باب تعارض الأخبار بل من باب الزيادة المفيدة في الحكم فتقبل باتفاق ولاسيما أن الترمذي نقل عن السيدة عائشة رواية فيها موافقة الجماعة فعلى هذا فروايتها مع الجماعة أولى من روايتها على الانفراد كما رجحوا ذلك في مواضع
١٢٦٩

الناس كثيراً وهذا مخالف لسنة الرسول له الا الله ولما نص عليه في هذا الحديث وهو جاهلية محضة وكفى بهذا شؤماً لأن الشؤم كله والشر كله مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بين العلماء الشؤم الذي في تلك الثلاث فقالوا شؤم المرأة سوء خلقها وشؤم الدار سوء جارها وشؤم الفرس ألا يجاهد عليه في سبيل الله وأما جوابه للمرأة التي أتت تشكو له حالها بدارها حيث قالت أتيتها والعدد كثير والمال ا وافر فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة ۱ فليس فيه تحقيق الشؤمها وإنما قال ذلك ترويحاً لخاطرها كأنه عليه السلام يقول ليس يلحقك منها شيء إذا رحلت عنها وتبقى هي مما نسبت أنتِ إليها ذميمة عندك لا تلتفتي إليها
وهنا تنبيه على الشؤم الذي قد تحقق بالكتاب والسنة لكل من لا يرجع عنه وهو الذنوب والمعاصي فإن شؤمهما لا يفقد في الدارين حساً ومعنى وهذا الشؤم الذي قد نفته الشريعة تعلقت به النفوس إلا القلائل وهم أقل التوفيق قاتل الله أخا الجهالة على نفسه ما أعداه وعن الحق ما
أعماه !
وما أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم هل هو على الندب أو الوجوب أو من طريق الشفقة احتمل والأظهر أنه من طريق الشفقة بدليلين أحدهما من فعله عليه السلام وهو أنه روي عنه أنه أكل مع المجذوم في صحفة واحدة وقال بسم الله لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ٢ فلو كان الفرار منه واجباً أو مندوباً كان عليه السلام أول من يفعله والدليل الآخر أنه قد ذكر من طريق الطب أن تلك الروائح التي لهم تحدث في الأبدان خللاً وتتألم النفوس أيضاً منها ومن شفقته عليه السلام على أمته كل ما فيه لهم ضرر في أي وجه كان ينهاهم عنه وكل خير في أي نوع كان يدلهم عليه فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته
وأما قوله عليه السلام كما تفر من الأسد فهو مبالغة في الهرب منه لأن العادة في فرار الناس من الأسد أنهم يكونون منه في البعد بحيث لا يشمون له رائحة ولا يلحقهم منه نفس وهم يشتدون في الهرب فهو غاية في الهرب ويمكن الجمع بينه وبين فعله عليه السلام وقوله أن قوله
۱ رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يتقى من الشؤم وإسناده منقطع قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن عبد البر إنه محفوظ عن أنس وغيره ولكن الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أنس أن السائل رجل وعند مالك امرأة فيجمع بينهما بأن كلا من الرجل والمرأة سأل عن ذلك ليس في نص الحديث أن رسول الله الا الله و قال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن جابر بلفظ أخذ النبي الله بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فقال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه
۱۷۰

هو المشروع لنا من أجل ضعفنا فمن فعله فقد أصاب السنّة وهي أثر الحكمة الربانية وفعله عليه السلام هو حقيقة الإيمان والتوحيد لأن الأشياء كلها ما جعل الله تعالى لها تأثيراً إلا بمقتضى جریان حکمته سبحانه وسنته في خلقه وما لم يجعل له ذلك فلا تأثير له وما الكل إلا بقدرته عزّ وجل وإرادته
يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ۱ فمن كانت له

قوة يقين وصدق إيمان فله أن يتبعه عليه السلام في فعله ولا يضره شيء وهو في فعله متبع للسنة ومن كان يقينه ضعيفاً فله أن يتبع أمره عليه السلام في الفرار ولا يجوز له مع الضعف أن يتبع في الفعل لأنه عري عن شروطه وقد يدخل بفعله ذلك تحت قوله تعالى وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ ٢
ويترتب على هذا من الفقه أن الأمور التي يكون فيها توقع ضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها أن الضعفاء لا ينبغي لهم أن يقربوها وأن أصحاب اليقين والصدق مع الله تعالى في ذلك بالخيار إن شاؤوا أخذوا بأحد الوجهين الفعل أو الترك لأنهم لهم أسباب ذلك متمكنة وقد ذكر عن بعض السياحين أنه كان له رفيق في طريقه فمرا على مغارة وهي ضيقة العبور وإذا بها أسد فقال لصديقه مُرٌ ولا تبال فقال له صديقه السنة واسعة إني لا أمر عليه ومرّ عليه أنت ففعل فتقدم ومرّ عليه فلم يضره ورجع صديقه عن ذلك الموضع إلى موضع ثانٍ لكونه لم يجد في الوقت من اليقين ما وجد صاحبه فعمل كل منهما على ما اقتضاه حاله وهذا هو الشأن وفي قوله له عند الأكل مع المجذوم لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ۳ دليل على أن مقتضى الحكمة الربانية أن يصيبه من المجذوم أذى لمن يدنو منه وفي أمره عليه السلام بالفرار دليل على أن الحكم يعطى للغالب يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بالقرار على العموم لأن الغالب من الناس هو الضعيف فجاء الأمر بحسب ذلك تنبيه وإذا أمرنا بالهرب من جذام الأبدان فمن باب أولى الهرب من جذام الأديان وهم أصحاب البدع والشَّيَع لأن المرض في قلوبهم والسم الباطن أشد سرياناً من الظاهر ومن أجل هذا روي عن بعض علماء السنة أنه كان في زمانه بدعيّ فجاءه يوماً يرغب منه أن يقرأ عليه آية من كتاب الله تعالى فحلف ألا يفعل وأخرجه من عنده فقيل له في ذلك فقال لم يأت بتلك الآية إلا
۱ سورة البقرة من الاية ۱۰ سورة البقرة من الآية ۱۹٥ ۳ سورة التوبة من الآية ٥١
۱۷۱

وقد دبّر معها مكيدة في الدين فالهرب من أهل الزيغ والزلل سبيل النجاة وقد نبه على ذلك بقوله الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من الجليس السوء ۱ أو كما قال عليه السلام وقال بعضهم في هذا المعنى يقاس المرء بالمرء إذا هو ماشاه وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر

حديث الأمر باتخاذ السترة للمصلي
عَن أبي جُحَيفَة رضي الله عنهُ قالَ رَأيتُ بلالاً جاءَ بعَنَزَة ٢ فَركَزَها ثُمَّ أَقامَ الصَّلاةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في حُلَّةٍ مشَمِّراً فَصَلَّى رَكمَتينِ إِلى العَنَزَةِ وَرَأيتُ النَّاسَ والدَّوابِّ يَمُرُونَ بَينَ يَديهِ مِن وَراء العَنَزَةِ
ظاهر الحديث يدل على أن العنزة سترة للمصلّي وأن المارّ خلفها لا شيء عليه ولا على المصلي والكلام عليه من وجوه
منها في صفة العنزة وهل يجزىء في سترة المصلي غير تلك الصفة
فأما صفتها فقد ذكر العلماء أنها مثل مؤخَّرة الرَّحل طولاً وغلظاً وقد جاء عنه الله حين سُئِل عن سترة المصلي فقال قدر مؤخرة الرحل ومنهم من حَدّها بما يقرب من ذلك وهو أن يكون طولها ذراعاً وغلظها غلظ الرمح وبقي الخلاف بينهم فيما لم يكن على تلك الصفة مثل ستر العورة بالثوب وما أشبهه فمن لحظ تلك الصفة التي كان ل و فعل قال لا يجزى غيرها ومن عَلَّل وقال ما جعلت السترة إلا من أجل عدم التشويش أجاز ذلك ولذلك اختلفوا في الخط في الأرض هل يجزىء عن السترة أم لا على قولين وفيه دليل على جواز الصلاة بالتشمير يؤخذ ذلك من قوله مشمراً إلا أنه نص الفقهاء ألا يكون ذلك التشمير من أجل الصلاة فإذاكان لضرورة ما فله أن يصلي به على حالته
الجمعة
وهو
1 أبو جحيفة وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة السوائي ويقال له وهب الخير صحابي توفي وهو مراهق وسكن الكوفة وولي بيت المال والشرطة لعلي رضي الله عنه وكان يقوم تحت منبره يوم آخر من مات بالكوفة من الصحابة سنة ٦٤ هـ
العَنَزَة أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زُج كرج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير
۱۷۳

وفيه دليل على أن السنة في السفر التشمير يؤخذ ذلك من أن هذه الصفة لم ترو عنه الا الله إلا
في السفر
وفيه دليل على أن إقامة الصلاة لا تكون إلا بعد ما يُفرغ من كل ما تحتاج الصلاة إليه والتهيئة لذلك يؤخذ ذلك من أن بلالاً لم يُقِم الصلاة إلا بعد ما فرغ من ركز العَنزة
وفيه دليل على أن وقت الشروع في أمور الصلاة من الإقامة وما يقرب منها لا يُشتغل بشيء وإن قل يؤخذ ذلك من كون بلال فرغ من ركز العنزة وهو شيء يسير جداً وحينئذ أخذ في الإقامة وبلال لا يفعل ذلك إلا بأمر النبي علي
ويترتب عليه من الفقه خلو القلب عند التلبس بالعبادة من كل شيء وإن قل يؤيد هذا قوله
تعالى ﴿فَإِذَا فَرَغَتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ﴾ ١
من
وفيه إشارة إلى أن المسافر يُقدم في سفره ما يحتاج إليه من ضروراته لدينه بحسب ما يعرف طريقه ويدفع ذلك في رحله يؤخذ ذلك من حمله لا اله الله العنزة في رحله ولأجل هذا قال العلماء ينبغي للمرء أن يكون له في بيته تراب طاهر أو حجر معدّ للتيمم من أجل أن يطرقه بالليل مرض لا يمكنه معه الطهارة بالماء فإذا كان عنده أحد الأشياء التي يجوز التيمم بها يتيمم لئلا تتعطل عليه فريضة وإلا كان مفرّطاً في دينه
وفيه دليل على أن القَصْر في السفر أفضل يؤخذ ذلك من قوله صلَّى ركعتين لأن العلماء اختلفوا في القصر في السفر فمن قائل بالوجوب ومن قائل بضده إلا لعذر ومن قائل بجوازه والذين قالوا بجوازه اختلفوا أيضاً أيهما أفضل هل القصر أو ضده بحسب ما ذكر في كتب
الفروع
وفيه دليل على أن من السنّة حُسْنَ الزِّي في الصلاة يؤخذ ذلك من قوله في حلة والحلّة عندهم هي أحسن الزي لأنها ثوبان تستر الجسد كله
وفيه دليل لمن تأول السترة وعللها بأنها لزوال التشويش يؤخذ ذلك من قوله ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه من وراء العنزة فإنه لا شيء للخاطر أشد تشويشاً من مرور الناس والدواب بين يديه
وبقي بحث وهو أن يقال هل جَعَلُ العنزة على ذلك القدر الذي تقدم ذكره تعبّد لا يعقل له
۱ سورة الشرح الايتان ۷ و ۸
١٢٧٤

عنى أو هو مما يعقل له معنى فإن قلنا لا يعقل معناه فلا بحث ووجب الاتباع لا غير وإن قلنا له معنى - وهو الأظهر - فما هو فنقول والله أعلم
لما كانت الصلاة لها تلك الحرمة العظيمة - كما تقدم ذكره في حديث الإسراء - وكانت قبلُ في الأمم الخالية لا يُوقعونها إلا في المواضع التي نُصبت لها وقد أمر الله عزّ وجلّ برفع تلك المواضع إكراماً للصلاة التي تُوقع فيها بقوله عزّ وجلّ و فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ ۱ ثم إن الله عزّ وجلّ مما خص به سيدنا أن جعلت له الأرض له مسجدا وطهورا أي في كل موضع منها يجوز إيقاع الصلاة فيه - كما تقدم في الحديث قبل بقوله عليه السلام حيثما أدركتك الصلاة فصل - وقال عليه السلام في شأن المارّ بين يدي المصلي الأن يقف أربعين خريفاً خيرٌ من أن يَمُرَّ بين يَدَيْهِ ۳ فبحلول وقت أداء الصلاة صارت جميع الأرض مستحقة للمصلي يوقع صلاته حيث شاء منها وبقيت حقوق الناس منها في المرور وغيره متعذرة ممنوعة حتى يفرغ هذا من صلاته فأحكمت السنة بجعل العنزة تحديداً للبقعة التي اختارها المصلي لوقوع صلاته وبقي ما عداها من الأرض لجميع الناس لا حَجْرَ عليهم في تصرفهم فيها من مرور وغيره فجاء قوله لا ضرر ولا ضرار ٤ فبقيت حرمة الصلاة على ما هي عليه وبقي الناس على ما لهم في الأرض من المنافع لم يضيّق عليهم لأن الدين - كما تقدّم - يُسر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الذي يمر بين السترة والمصلي إنه شيطان ٥ لكونه خالف حدود الشريعة وبهذا التعليل يصح ما جاء من جواز أن يكون الخط في الأرض سترة فإن البقعة تتحدد به وتنحاز من غيرها وتكون العنزة أفضل من الخط لأنها أكثر فائدة في حق المارّ فإن المارّ قد لا يرى الخط ويمر بين السترة وبين المصلي فيقع في الإثم والعنزة بذلك القدر لا تخفى على أحد ولهذه الفائدة - والله أعلم - جُعِلت في الارتفاع قدر مؤخّرة الرحل لأن ذلك القدر من الارتفاع لا يخفى على أحد
وفيه دليل على أن سيدنا لا يفعل من الأمور كلها إلا الأرفع والأفضل يؤخذ ذلك من أنه
1 سورة النور من الآية ۳٦ رواه ابن أبي شيبة عن أبي ذر رضي الله عنه ۳ رواه الإمام مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي جهم رضي الله عنه بلفظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خريفاً خيرا من أن يمرّ بين يديه ٤ رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس والبيهقي عن عبادة بن الصامت وأبو نعيم والطبراني عن ثعلبة ابن
مالك القرظي رضي الله عنهم ه رواه ابن خزيمة والطحاوي وأبو عوانة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه مرتين فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان
۱۷۰

لما كانت العنزة فيها زيادة الفائدة التي ذكرنا كان يحملها في رحله وعلى هذا التوجيه الذي ذكرناه تتبين فائدة قوله عليه السلام سترة الإمام سترةُ مَنْ خَلْفَه ۱ لأن بها تحيزت البقعة التي للصلاة أولاً ويكون آخرها بقدر ما تبلغ إليه صفوفهم فتنبَّة إلى هذا النوع من أنواع الصلاة ولا يكون بينها تعارض إن شاء الله تعالى وغيره من التعليل قد ينكسر في بعضها وقد قيل الفقه بالفهم فانتبه لا برواية وإن عَلَت
اللهم واجعل ما أنعمت به علينا في هذا الحديث الجليل مما أظهرته على يد محمد نبينا الكريم من باهر قدرتك وما أبديته لنا من أنوار حكمتك فيما تعبدت به عبادك المؤمنين نوراً في قلوبنا وتقوية في إيماننا وثلجاً في يقيننا وتزكية في أعمالنا وبلغنا بها الزلفى وحسن المآب
إنك أنت الكريم الوهاب
وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الطبراني في الأوسط عن أنس وعبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً
١٢٧٦

حديث تحريم لبس الحرير

عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَرْعاً شَديداً كالكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنبغي هَذا
۱ رَضي الله عَنهُ قالَ أَهدي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّوجُ حَريرِ
للمُتَّقِينَ
ظاهر الحديث يدل على كراهية لباس الحرير للمتقين والكلام عليه من وجوه منها هل يجوز لغير المتقين وهل تلك الكراهة كراهة تنزيه أو تحريم
أما قولنا هل يجوز لغير المتقين إذا عرفنا حقيقة هذا الاسم حينئذ نتكلم في غيره وما يلزمه من هذا الحديث أما التقي فهو اسم يعم جميع المسلمين لكن الناس فيه على درجات ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه و لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۳ فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى أي وقى نفسه من الخلود في النار فإن اتقى ثانية ومنع نفسه من المعاصي فقداتقى حَد أي وقى نفسه من دخول النار فإن رسول الله الله يقول الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النار وإيمان لا يخلّد صاحبه في النار فالإيمان الذي لا يخلّد صاحبه في النار هو الإيمان مع المعاصي والذي اتقى التقى الثالث هو في درجة الإحسان لأنه اتقى بالله ما سواه فلم ير في الوجود سوى الواحد الأحد كما قال ع ل أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ٤

۱ عقبة بن عامر الجهني أمير معاوية على مصر صحابي فقيه فصیح شاعر قارىء كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم وشهد صفين مع معاوية رضي الله عنه وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد من جمع القرآن له ٥٥ حديثاً توفي بمصر سنة ٥٨هـ
الفروج قباء شق من خلفه ۳ سورة المائدة من الاية ۹۳

قطعة
من حديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن عمر رضي الله عنه وأوله بينما نحن جلوس =
۱۷۷

وهذا مقام الخصوص وبقي عدا المؤمنين - وهم الكفار - فمن قال إنهم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يبيحه لهم ومن قال إنهم ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة أجاز لهم لبسه
ذلك
وأما قولنا هل الكراهية على التحريم أو التنزيه لفظ الحديث محتمل لكن قد جاءت القرائن من خارج تدل على التحريم لأنه قد جاء عنه لا اله الا هو أنه قال في الحرير إنه حرام على ذكور أمني ۱ والآثار في هذا النوع كثيرة فقد ثبت تحريمه بالسنة على ذكور هذه الأمة لا خلاف في بين العلماء وإنما الخلاف بينهم هل يستعمل عند الضرورة ويقدّم على غيره أو لا مثل ما إذا لم يكن لشخص إلا ثوبان أحدهما نجس والآخر حرير فمنهم من قال يصلي في الحرير ومنهم من قال يصلي في النجس وكذلك لباسه في الحرب فمنهم من منعه - وهو مالك والجمهور ومنهم من أجاز ذلك بشروط وهو الشافعي ومن تبعه
والشروط التي ذكرت عنه أن يكون لابسه عادماً لما يتقي به عن نفسه من الات الحرب مثل الدرع وما يشبهه من عدة الحرب ويكون ثوب الحرير خشناً لأنه يرد عنه الأذى وأما أن يكون لبسه للزينة في حرب أو غيره فهذا لا يجوز وما اتخذه بعض الناس اليوم من لبسه في الحَضَر والسفَر على وجه الزينة فحرام بالإجماع لا يجوز ولابسه عاص وصلاته مختلف فيها هل تصح أو لا تصح والغالب عدم صحتها وسواء كان اللباس منه كبيراً مثل القباء وما يشبهه أو يسيراً مثل الكوفية وما يشبهها فالباب واحد
وفيه دليل على جواز الهدية وقبولها يؤخذ ذلك من قوله أهدي الرسول الله الله لكن الهدية على ثلاثة أوجه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هدية لوجه صاحبك فلك وجه صاحبك وهدية للثواب فلك ما أردت وهدية لوجه الله تعالى فتلك التي ثوابها على الله أو كما قال
وبقي في الهدية تقسيم اخر قسمه العلماء لا يخلو صاحب الهدية أن يكون كسبه حراماً أو حلالاً أو مختلطاً فإن كان حراماً فلا تحلّ وإن كان حلالاً فجائزة بلا خلاف وإن كانت ممّن كَسْبُه مختلط فأربعة أقوال بالجواز وبعدمه وبالكراهة وبالتفرقة إن كان الحلال الغالب على كسبه فجائزة وإن كان الحرام الغالب فممنوعة هذا إذا خَلَت الهدية أن تكون رشوة فإنها إذا كانت على هذا الوجه فحرام وذلك هو السُّخت بعينه
عند رسول الله لا ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر
الخ
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أن النبي لا لا الله قال إن هذين حرام على
ذكور أمتي حلال لإناثهم يعني الذهب والحرير
۱۷۸

وبقيت علة التحريم هل هي معقولة المعنى أو هي تعبد فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن
قلنا معقولة المعنى فما هي فنقول والله أعلم إن العلة فيه كالعلة في التختم بالذهب واستعمال أواني الفضة والذهب وهي أنه لما كان الحرير لباس المؤمنين في الجنة منعه كما قال في أواني الذهب والفضة إنها أواني أهل الجنة وقال فيها في حديث آخر عن الكفار هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة 1
كذلك يخرج الجواب على الحرير مثل الأواني سواء بسواء في كون مولانا سبحانه أنعم على المؤمنين بدار كرامته وجعل لباسهم فيها الحرير وانيتهم فيها الفضة والذهب ثم أنعم على الكفار أنه أعطاهم نصيباً من ذلك في هذه الدار وشاركهم في ذلك طائفة من المؤمنين وهم النسوة وما يلحق لأزواجهن من التمتع بتلك الزينة منهن تحقيقاً لصفة الرحمة حتى تعم جميع عباده سبحانه يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ ٢
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن عبادة عباده وأنه لا تضره معصية العاصين لأنه سبحانه قد أنعم على الكفار وهم على ما هم عليه من كفرهم وهو أعظم المعاصي فقد أَناَلَهُم عَزَّ وجلّ طَرَفاً من الرحمة في هذه الدار فلو كان يناله تعالى منها ضرر لم يكن يرحمهم في هذه الدار ولا في تلك الدار ولم يكن أيضاً يلحق المؤمنين عذابٌ ولا الام في هذه الدار ولا في تلك الدار فسبحان من تنزه وتعالى وتقدس واستغنى عن عبادة العابدين

وبقي بحث وهو ما الحكمة في أن أبيح لبس الحرير للنسوة وهنَّ في جميع أمور الدين شقائق الرجال فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم لها وجوه منها أنه لما علم الله من ضعفهن وقلة صبرهن عنه لأن النفوس كثيراً ما تتعلق به فلطف عزّ وجلّ بهن في إباحة لبسه أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٣ ووجه آخر وهو آن زينتهن به ليس في الغالب لهن بل هي لأزواجهن وتزين الزوجة لزوجها من جملة حُسْنِ التَّبعل وحسن التبعل من الإيمان فلما عَرِي لبسهن له عن حظوظ النفوس وكان لبسه لهن مما يُعين على أوصاف الإيمان - وهو حُسن التبعل - أبيح لهن ذلك واحتمل أن تكون إباحته لهن من طريق اللطف بالرجال لأنه لو حُرِموه جميعاً لكان مستباً
1 أخرجه الشيخان والبيهقي في الشعب عن حذيفة رضي الله عنها وأوله لا تشربوا في انية الذهب والفضة
سورة الأعراف من الآية ٣٢ ۳ سورة الملك من الاية ١٤
۱۷۹

للجميع للوقوع في الحرام لأنهم يرون الكفار يتنعمون بلباسه وهم قد مُنعوا منه بأجمعهم فما كان يثبت هنا إلا القليل منهم ومما يؤيد هذا التفسير قوله تعالى ﴿ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِحَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِم أَبْوَبا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِتُونَ وَزُخْرُفًا ۱ فلكرامة الإيمان وأهله منع الله عزّ وجلّ الكفار مما ذكر في كتابه ولكرامة الإيمان وأهله أباح للمؤمنات ما أباح لهن من لبس الحرير
إشارة صوفية هي أنه لما كان لبس الحرير من أعلى الملابس وبلبسه تبلغ النفوس أعلى حظها في جنس اللباس حُرِّم على الذكور الذين فيهم الفحولية وأبيح للأنوثية دل بهذا على أن من فيه فحولية في الهمة يبتعد عن جميع ملذوذات الدنيا على اختلاف أنواعها ولا يعرّج عليها وإن كان بعضها مباحاً أيضاً على لسان العلم ويزهد في جميعها إلا بقدر ما فيها عَوْن على الدِّين وكذلك كل ما كان للنفس فيه حظ لا يعرج عليه وإن كان بعضه مباحاً أيضاً على لسان العلم إلا بقدر ما فيه عون على الدين
في مثل هذا كان تنافسهم حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه كان مجاوراً بمكة وكانت بيده صنعة يرد فيها في اليوم جملة دراهم فلا يعمل من تلك الصنعة التي يعرفها ولا يشتري لنفسه شيئاً يقتات به إلا حتى ٢ يرى محتاجاً فيرهن شملة كانت له فيما يحتاج في تلك الصنعة فيعمل يومه ذلك ثم
يفدي شملته آخر النهار ويكون أكله تابعاً لذلك المحتاج الذي راه

الله
ومما يقوي حسن فهمهم قول عمر رضي الله عنه حين تكلم معه بعض الصحابة رضي عن جميعهم بأن يحسّن لنفسه في أكله ويطيبه فإن في عافيته وصحته منفعة للمسلمين فجاوبهم بأن قال لهم كان لي صاحبان ۳ وقد ماتا فأنا أشاركهما فيما كانا عليه من العيش الغليظ لعلي أشاركهما في عيشهما الرغيد أتريدون أن أكون ممن قال عزّ وجلّ في حقهم أَذْهَبْتُم طَيْبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْنَعْتُم بِهَا ٤ فتعس من ادعى الفحولية وهمته أدنى حالة من الأنوثية ويهرج بلسان العلم وهو لا يعلمه من علينا بعلو الهمة والمساعدة على ذلك بمنه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزخرف ٣٣ - ٣٥
كذا بزيادة إلا قبل حتى ۳ يريد محمد ا ا ل للهو و أبا بكر رضي الله عنه ٤ سورة الأحقاف من الاية ۰
۱۸۰

حديث النهي عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَسُولُ الله لَعَنَ الله المُتَشبِّهِينَ مِنَ الرّجالِ بالنِّساء والمتَشبَهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرّجال
ظاهر الحديث الدعاء منه باللعنة على من تشبه من الرجال بالنساء وعلى من تشبه من النساء بالرجال والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى اللعنة وهل هذا التشبه مطلقاً في كل الوجوه أو على شيء مخصوص وهل هذا الدعاء من النوع الذي هو مخوف أو ضده وهل هذه اللعنة لحكمة نعلمها أو تعبد ليس إلا وهل الواقع في هذا تكون التوبة ترفع عنه ما لحقه من ذلك أو لا
به
أما قولنا ما معناها فإن اللعنة في اللغة هي البعد قال الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَأَذَنَ مُؤَذِّنٌ بينهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ ﴾ ۱ أي أن الله أبعدهم فمن أبعده الله تعالى فهو أخسر الناس فإن لعنة الله لا غاية لها أعاذنا الله من ذلك بحرمة نبيه الا الله فهذا في الزجر والنهي أكبر من الحدود التي جعلت في المعاصي لأن تلك الحدود كفارة لهم لما وقعوا فيه وهذا البعد لم يجعل لصاحبه مخرج على لسان الشارع عليه السلام وقد وقع من كثير من الناس التهاون بذلك وقعوا فيه ولا يحسبونه شيئاً نعوذ بالله من الحرمان وأما قولنا هل هو مطلق من كل الوجوه أو هو من وجه ما أما ظاهر اللفظ فمحتمل وأما الذي قد تقرر مما فهم من قواعد الشريعة خلَفاً عن سلف فهو في زِيّ اللباس وبعض الصفات والحركات وما أشبه ذلك وأما التشبه بهم في أمور الخير وطلب العلوم والسلوك في درجات التوفيق فمرغب فيه وقد عاد اليوم عند بعض الناس - وإن كانوا من الذين يشار إليهم - الأمر
1 سورة الأعراف من الآية ٤٤
۱۸۱

بالعكس فإنهم يمنعون النسوة من تَعَلَّم العلم ويرونه من باب المذموم لهم ويتشبه النساء بالرجال في زيهم ويرونه من قبيل النبل والكيس فإنا لله وإنا إليه راجعون على الخلل الذي وقع في الدين بوضع الأمور على ضد ما وضعها الشارع عليه السلام وكثرة التهاون في ذلك
وأما قولنا هل هذا الدعاء مما هو مخوف أو ضده وهو المرجو خيره لقوله صلى الله عليه وسلم إني عهدتُ عند ربي عهداً أيُّما بَشَرٍ عهداً أيُّما بَشَرِ لعنته من أمتي أو سببته أن يجعلها عليه رحمة١ أو كما قال عليه السلام اعلم - وفقنا الله وإياك - أن دعاءه لله على أحدٍ من أمته أو سبه إياه أو لعنته له على ضربين منها ما هو على طريق الزجر والنهي عن شيء في الدين وما هو في معناهما فإن ذلك من النوع المَخُوف من لحوق الوبال من أجله فإن المنع بذلك أشدّ من الحدود كما بينا أول الكلام وما كان من ذلك على وجه الغيظ والحرج فذلك الذي ظاهره مخوف وهو رحمة في الحقيقة وقد نص على ذلك لأنه قال يا رب إني بَشَر يلحقني ما يلحق البشر من الغيظ فأيّما أحدٍ من أمتي سَبَبتُه أو لعنته فاجعله له رحمة وهذا الدعاء هنا من قبيل الزجر والردع فهو مخوف وأي مخوف
وأما قولنا هل هذا الزجر لحكمة نعلمها أو تعبد فالحكمة في ذلك ظاهرة لا خفاء بها وهي إخراج الشيء عن الصفة التي وضعتها عليه حكمة الحكيم كما قال عليه السلام لعن الله الواشِمَةَ والمستوشِمَة والواصِلَة والمستوصلة ۳ وعُلَّل هذا بتغيير خَلْق الله تعالى فهناك تغيير خلقةٍ وهنا تغيير صفةٍ فالعلة واحدة لأن تينك الطريقتين المذمومتين تضمنتا وجوهاً من وجوه الضلالات فمنها إخراج صفته بجهله عما رتبه مَن له الأمر سبحانه ومنها التشبه بصفة الخلق والاختراع لأن الله عزّ وجلّ قد خلق أشياء وجعل لها صوراً وصفات فمن غير منهما صورة أو صفة على خلاف ما وضعت عليه فقد نازع الجليل القادر في قدرته واختراعه وفيه أيضاً
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأيما مؤمن أنا اذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وسيَرِدُ لهذا الحديث رواية أخرى بعد سطور معدودات
٢ أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إنما محمد يغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فأيما مؤمن اذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته إلى اخر الحديث ۳ أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة

إظهار سوء الأدب حقيقة لأن أدب العبودية موافقة الموالية في كل الأشياء التي شاءتها على أي نوع شاءتها وأشياء من هذا النوع عديدة إذا تأملتها وفيما ذكرنا منها كفاية
وأما قولنا هل توبة الواقع في شيء من ذلك رافعة لما قد لحقه من الوعيد أو لا فإن جعلناه من جملة المعاصي ليس إلا فيدخل تحت قوله ل التوبةُ تَجُبّ ما قبلها ۱ وإن قلنا إن دعاءه عليه السلام يُلحق الواقع في ذلك الذنب أمراً زائداً من الخسارة والحرمان لأن دعاءه عليه السلام مستجاب فبقي الأمر محتملاً أن يذهب ذلك بالتوبة كما يذهب الذنب أو ذلك أمر قد وقع بالشخص لا يرتفع عنه ذلك الحرمان وإن تاب الأمر محتمل وليس لنا دليل قطعي على
أحد الوجهين
ويترتب على هذا من الفقه أن الوقوع في الكبائر التي لها حدود وعقاب معلوم خير من الوقوع في هذه وأمثالها أعاذنا الله من الجميع بفضله لأن التوبة والحدود في تلك أيهما جاء بعدها كان كفارة لها وهذه محتملة أن يكون لها مخرج أو لا مخرج لفاعلها فالهرب إن كنت حازماً والعفاف العفاف تكن ناجياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ الحديث بلفظ الإسلام يَجُبّ ما كان قبله أخرجه ابن عساكر عن خالد بن الوليد وابن سعد عن الزبير بن العوام
رضي الله عنهما
۱۸۳

حديث النهي عن الوصل والوشم
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَعَنَ الله الواصِلَةَ وَالمُسْتَوصِلةَ
والواشِمَة والمُستَوشِمَةَ
*
ظاهر الحديث لعنته الله لهذه الأربعة المذكورة في الحديث والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى تلك الأفعال التي لعن النبي له من فعل منها واحدة وما معنى اللعنة فقد تقدم في الحديث قبلُ معناها وهل هذا النوع من الدعاء المَخُوف أو لا فقد تقدم الكلام عليه أيضاً في الحديث قبل وكذلك في التوبة منها قد تقدم الكلام عليه في الحديث قبل وما معنى العلة في لعنه ال الاول من فعل واحدة من هذه الأربعة
فأما قولنا ما معناها فإن الواصلة التي تَصِل شعرَها بشَعْرِ اخَرَ ليس من شعرها وألحق العلماء بها من وصلت شعرها بأي شيء وصلته من صوف أو حرير أو غير ذلك والمستوصلة هي التي تفعل ذلك بغيرها والواشمة هي التي تَشِم شيئاً من جسدها وكانت عادتهن يغرزن الموضع الذي يُرِدن أن يعملنه شامة بالحديد حتى يَدْمَى الموضعُ ثم يُحشَى بالكحل الأسود فيبقى ذلك الأثر يشبه الشامة التي هي مخلوقة والمستوشمة هي التي تفعل ذلك بغيرها
ويترتب عليه من الفقه أن مرتكب المحرّم والذي يعينه على ذلك في الإثم سواء يشهد لذلك
قوله صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر لعن الله شاربها وحاملها وبائعها وشاهدها وعاصرها ۱ وأما قولنا ما معنى العلة في ذلك فقد اختلف العلماء فيها فمنهم من قال إن ذلك لما فيه من التدليس وهذا ضعيف لأنه يخصص عموم اللفظ بغير دليل ومنهم من قال لتغيير خلقة الله تعالى وهو الظاهر فإنه قد جاء في حديث غير هذا حين ذكر عليه السلام الفالجة والمتفلجة قال
1 أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه واكل ثمنها
١٢٨٤

فيه المغيّرات لخلق الله تعالى ١ ويحمل على هذا النهي كل ما أشبه ذلك مما يفعله النسوة من تغيير ديباجتهن بالحُمرة وما معناها
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر ما هو أقل من هذا وهو أنه خطب وأمر النسوة ألا يخضبن أطراف أصابعهن بالحناء دون باقي أيديهن وقال من كانت خاضبة فلْتَخْضِب إلى هنا وأشار إلى تحت الكوعين فإذا كان نَهي عمر رضي الله عنه عن مثل هذا فما بالك بالغير من أفعالهن التي أشد من ذلك وقد تعددت حتى لا تكاد تحصى عِدَّةَ وبعض من ينسب إلى العلم في الوقت هي يجعل ذلك من قبيل الزينة الجائزة شرعاً فإنا الله وإنا إليه راجعون على ذهاب العلم وأهله ويحتج
بما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر أن يصح عن عمر أن يجعل ما ذكرنا عنه من الوشم وهذا لا حجة فيه لأن مالكاً ما أنكر على عمر مقالته ولو أنكرها ما صح أن يكون إماماً وإنما أنكر أن يعتقد معتقد أن ما نهى عنه عمر إلا أنه من الوشم الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ونهي عمر رضي الله عنه عن ذلك إنما هو لمعان منها أنه أشبه الوشم ولما أشبهه أعطاه حكمه وما قاله عمر وجب علينا اتباعه لقوله الله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهْدِبَينَمن بيِّنَمن بعدي ۳ وهو رضي الله عنه وعنهم أجمعين منهم
وطريق آخر وهو أن ذلك لم يكن في زمان رسول الله وإنما كان شأنهن أن يخضبن إلى حيث أشار رضي الله عنه فنهاهن من أجل مخالفة السنة وقد يكون نهيه من أجلهما معاً شبهه بالوشم واقتصاره على أطراف الأصابع وفي كل مخالفة لسنته عليه السلام

وقد قيل إنما أنكر مالك الرواية أن تصح لا الحكم لأن الإمام مالك كان أكثر الناس احتراماً لمن تقدمه من السلف فكيف بالخلفاء ولو لم يكن لمالك شاهد على ذلك إلا مسألة البناء في الرعاف أنه قال القياس والفقه يقتضي قطع الصلاة ولكن اتباع السلف أولى٥ وبذلك ساد على غيره وكذلك سنة الله تعالى بعده في خلقه ما وقع من أحد احترام السلف والاقتداء بهم إلا رفع الله تعالى قدره على أبناء وقته وجنسه جعلنا الله منهم بمنه وفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 كأنه يريد الحديث لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي
يريد أنه
الله عنه
۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض رضي الله عنه ومطلعه وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون الخ
٤ يعني القياس في الحكم الشرعي ٥ حذف جواب لو والتقدير لما كان له سيادة
١٢٨٥

حديث حق الله على عباده
عَن معاذِ بنِ جَبلٍ رَضي الله عنهُ قالَ بَينما أنا رَديفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسَ بَيني وَبَينَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحلِ فَقالَ يا مُعَاذُ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا معاد قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْك ثم سار ساعةً ثمَّ قال يا مُعَاذُ قلتُ لَبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ قالَ هل تدري ما حَقُّ الله على عِبادِهِ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ الله على عبادِهِ أَن يَعْبُدُوهُ ولا يُشركوا بِهِ شَيْئاً ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا مَعَاذُ بنَ جَبلٍ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ قال هَل تَدري ما حَقُّ العبادِ على الله إِذا فَعَلُوهُ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ العبادِ على الله ألا يُعذِّبَهُم
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإعلام بحق الله تعالى على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً والآخر الإخبار أيضاً أن حق عباده سبحانه إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما الفرق بين حقه جل جلاله وحق العباد فالجواب أما حقه سبحانه فهو واجب بوجوه منها لذاته الجليلة ومنها لأمره عزّ وجلّ بذلك ومنها لِما لَهُ عزّ وجلّ علينا من النعم والإحسان التي لا يحصى عددها
وأما حق العباد عليه عزّ وجلّ إذا فعلوا ذلك فحق تفضل منه عليهم لا وجوب عليه لازم فإنه جلّ جلاله لا حق لأحدٍ عليه لازم هذا مذهب أهل السنة والذي تعطيه الأدلة الشرعية والعقلية خلافاً للقدرية التي هي مجوس هذه الأمة لأنهم يقولون بزعمهم إن على الله حقاً واجباً أن من عبده ألا يعذبه وكيف يكون لعبد على مولاه حق لازم وهو كله له هذا ينفيه العقل
وقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن بشر العاصين وحذر الطائعين
١٢٨٦

قال إلهي وكيف أفعل ذلك قال بشِّرِ العاصين أن رحمتي وَسِعَت كلّ شيء وحذر الطائعين إن أقمت عليهم عدلي هَلكوا من ذا الذي يطيق عدله وكيف يكون لأحد خلاص إذا أقيم عليه عدله ثم كيف يكون للطائع حق وجوب عليه سبحانه وتوفيقه سبحانه عزّ وجلّ إياه للطاعة نعمة عليه تستوجب الشكر عليها بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلإِيمَنِ إن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ ١ والمحروم أعمى البصيرة لا يرى إلا من حيث حرمانه
خلفه
وفيه دليل على تواضعه عليه السلام وحسن سيرته مع أصحابه يؤخذ ذلك من إرداف معاذ
وفيه دليل على جواز ركوب اثنين وأكثر على الدابة إذا طاقت ذلك يؤخذ ذلك من ركوب معاذ خلفه عليه السلام وقد جاء أنه الركب و وجعل الحسن والحسين معه أحدهما أمامه والآخر
خلفه
وفيه ردّ على من يكره ذلك ويعيبه على أهل المناصب والحجة عليه فعل خير البرية صلى الله
عليه وسلم
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه أرفع ما نودي به يؤخذ ذلك من قوله يا معاذ ولو كان النداء بغير الاسم أرفع لكان يفعله نعم إن الكنى إذا كانت على الوجه المشروع جائزة وبين الجائز والأرفع فرق بين
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه قبل إلقائك العلم إليه من أدب العلم وإن لم يكن معكما ثالث وفي ندائك إياه قبلُ من الفائدة إحضار ذهنه إليك ليعي ما تلقيه إليه لأن الأذهان قد تطرقها فكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كل ما يلقى إليها وفي تكراره عليه السلام نداءه ثلاثاً تأكيد في حضور ذهنه وإشعار بأن الذي يلقى إليه له بال لأنه عليه السلام كانت سنته أن كل شيء له بال أعاده ثلاثاً ويؤخذ من إبطائه عليه السلام بين النداءين أنّ من السنة إلقاء العلوم بالوقار
والتؤدة
وهنا بحث وهو لم زاد في الثالثة ابن جَبَل
فالجواب إنما هي إشارة إلى أن هذه الثالثة اخر النداء فاسمع ما يُلقى إليك لأن زيادة ابن جبل هو الكمال في التعريف وإذا كمل الشيء فقد تمّ ويزيد ذلك المعنى بياناً قوله عليه السلام آخر الحديث يا معاذ بن جبل وهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه فإن نداءه
۱ سورة الحجرات من الآية ١٧
۱۸۷

عليه السلام له آخر واحدة فناداه بأكمل المعرفة وفيما أبديناه دليل على ما أعطاه عزّ وجلّ من الفصاحة والإعجاز في كلامه عليه السلام الذي لا تقدر أن ترى فيه زيادة إلا ولها فوائد جمة وجواب معاذ له بقوله لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيكَ من الجواب الخاص به بدلیل أنه لم يكن الصحابة يفعلون ذلك بينهم ولا هو الا هل هو فعل ذلك معهم فدل على أن ذلك من الخاص به عليه السلام وقد نص العلماء على جواب الرجل لمن ناداه بقوله لبيك أنه من السَّفه لأن هذه لفظة جعلت من جملة شعائر الحج وكل ما جعل من شعائر الدين فينبغي توقيره وتعظيمه فإن الله تعالى يقول ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وقد صار بعض الناس اليوم يجاوبون بها بعضهم بعضاً ويجعلون ذلك من الأدب والنبل وما ذاك إلا لقلة التقوى وعدم معرفة السنة هيهات كيف يتأدب من لا يعرف الأدب
وفي قول معاذ الله ورسوله أعلم دليل على أن من أدب العلم أن يُرَدّ العلم إلى أهله وفي قول سيدنا هل تدري ما حق الله على عباده دليل على أن إلقاء العالم المسائل على تلامذته وحينئذ يبيّن لهم ذلك لأن في ذلك من الفائدة إحضار الذهن لقبول العلم وفي تعليمه معاذاً من غير سؤال منه له لا دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلم دون أن يُسأل لأن هذه مسألة اختلاف بين العلماء وفي فصله عليه السلام بالمشي ساعة بين المسائل دليل على أن النجح في تحصيل العلوم التفرقة بين المسائل وفي ذلك دليل من الحكمة أن المسألة إذا تباعدت عن الأخرى يبقى الخاطر معمراً بالأولى حتى ترسخ فيه ثم تأتي الثانية كذلك والتي بعدها كذلك إلى غاية ما تنتهي الأحكام وقد أخبرني بعض مشايخي ـ وكان ممن أجمع على فضله - أنه حين اشتغاله على شيخه كان بعض الطلبة الذين كانوا يشتغلون معه على الشيخ وكان فيه خير وكان يشتغل بالسبب أنه إذا حضر المجلس ووعى مسألة واحدة قام وخرج إلى دكانه فأقلق ذلك بعض الطلبة فسألوه عن ذلك فقال إذا وعيت مسألة واحدة بقيت يومي في الدكان أرددها على خاطري فتثبت لي وإذا سمعت منه عدةً كل واحدة تنسيني صاحبتها فبلغوا خبره إلى الشيخ فأعجبه ذلك وقال للغير ممن تكلموا حاسبوا أنفسكم على كثرة سماعكم للمسائل على مسألة واحدة في اليوم فلم يقدروا
على ذلك
فسبحان من وفق أهل السعادة إلى اتباع السنة في الفعل وإن جهلوها بالعلم لأن توفيق هذا
۱ سورة الحج من الاية ٨٢
۱۸۸

المبارك الذي ذكرنا هداية من الحق ليس إلا وقد نص أهل التوفيق على أن قلة العمل مع الدوام
خير من كثرته مع الانقطاع وقد قال ل ل ل ا ل أحب العمل إلى الله أَدْوَمُه وإنْ قَلّ ١
والكلام على قوله لا له أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قد تقدم الكلام عليه في حديث البيعة أول الكتاب بما فيه شفاء
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ أحب العمل الخ ورواه الشيخان عن السيدة عائشة
رضي الله عنها بلفظ أحب الأعمال الخ
۱۸۹

٢٣٥ -
حديث النهي عن سب الأبوين وما يؤول إلى سبهما
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما قال قالَ النَّبيُّ إِنَّ مِن أكبر الكبائر أن يَلعَنَ الرَّجُلُ والِدَيهِ قيلَ َيا رَسُولَ الله وكيف يَلْعَنُ الرَّجُلُ والديه قالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ فَيَسب أباه وأمَّهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أن لعن الوالدين من أكبر الكبائر والعمل بِسَد الذريعة وفي ذلك

دليل لمذهب مالك رحمه الله في قوله بسد الذرائع يؤخذ ذلك من أنه جعل ما هو ذريعة لِسَب الأبوين سَباً لهما والكلام عليه من وجوه
منهما أن في هذا دليلا على عظم حق الأبوين إذ القول الذي هو ممكن أن يترتب عليه سبهما جعله الشارع من أكبر الكبائر فكيف بغير ذلك لأنه إذا سب الرجل أبا الرجل من الجائز أن يسبّ هو أباه ويقول له خلاف ذلك أو يفعل به بدل القول فعلاً مؤلماً لكن لما جرت العادة في الغالب أنه لا يَرُدّ إلا بالمثل حَكَمَ الشارع بالغالب وفي ذلك دليل على أن تقعيد الأحكام إنما هو على الغالب من جري العادة والمحتمل النادر لا ينظر إليه
وفيه دليل على أن كل ما يكون محتملاً أن ينتج منه شرّ لا يفعل خيفة من وقوع الشر وهو أيضاً من باب الحزم في الأمور
وفيه دليل على أن الأحكام والمخاطبات إنما تكون على العادة الجارية بين الناس
وفيه دليل على جواز مراجعة المفضول للفاضل فيما يقوله الفاضل ويشترط في ذلك الأدب يؤخذ ذلك من قول الصحابة وكيف يلعن الرجل أباه ۱ وأما الدليل على حسن الأدب في السؤال فيؤخذ من صفة لفظهم لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا لا يكون وإنما سألوا عن الكيفية كيف تكون على طريق الاستفهام فهذا هو عين الأدب في المراجعة
1 كذا ونص الحديث وكيف يلعن الرجل والديه
۱۹۰

L
وفيه دليل على أن من راجع فيما لا يعرف لا عتب عليه إذا كان على سبيل الاستفادة يؤخذ
ذلك من كونه لم يعتبهم على ذلك وبيّن لهم الكيفية بحسن عبارة
عُصِيَ
وقوله أكبر الكبائر فيه دليل على تفاوت الكبائر بعضها على بعض وفيه دليل على أن من أكبر أفعال الخير معرفة السنة يؤخذ ذلك من أن من لم يعرفها يجهل مثل هذا فيقع في أكبر الكبائر وهو لا يعلم وقد اعتاد بعض الجهال اليوم بِمُمَازَحتهم فيما بينهم أن يلعن بعضهم أبا بعض ويعدونه مباسطة فنعوذ بالله من الجهل والضلال ولذلك قيل ما الله بأشدَّ من الجهل وهو الحق فإن الجاهل لا يزال يقع في المهلكات وهو لا يعلم وهنا تنبيه على أن الأصل يفضل الفرع بالوضع وإن فضله الفرع بحسن الصفات قيل له لا تنس فضيلة سَبقه عليك لأنه لما كان الأب أصلاً للابن جعل له عليه هذا الحق العظيم فإن فَضَله الابن بصفة الإيمان - وهي أفضل الصفات - قيل له ﴿ وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تَشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۱ للفضيلة التي سبقاك بها
وكذلك يتعدى الحكم لمن كان السبب في هدايتك إلى مولاك وقد جاء مولاك ثم مولاك من علمك اية من كتاب الله يا هذا قد ملكك بعظم إحسانه إليك وإن كان في الطبع عروبية أشد مما ملك السيد رقبة عبده بالمال فإن الأحرار يملكون بالإحسان أكثر وأشد من تملك العبيد بالدرهم والدينار وكما ذكروا ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا فإذا كانت الطبائع رذيلة أبَقَ من قيد الإحسان أشدَّ من إباق العبد القِنّ لحا الله الهجين لا مروءة ولا دين
ومن هذا الباب يترتب عظم حق سيدنا الا الله ولأنه السبب الموصل لكل خير مَنَّ الله به علينا في الدنيا والآخرة وهنا زيادة لأن هذا الأصل لا يفضله فرع أبداً لا بوصف صفة ولا بمعنى فهو الأصل في جميع الخير وله فيه السبق حِسَّاً ومعنى ولذلك ذكر الله عزّ وجلّ في محكم التنزيل النَّبِيُّ أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ٢ فإنه ليس فضيلة من كان أصلاً لخروجك إلى الوجود كمن جعل أصلاً إلى إنقاذك من الجحيم وأثمر ثمر اتباعك له خلودك في النعيم
فانظر بفطن العقول كيف تتسلسل فضيلة الأصول في إنعام موجد الوجود واذكر آلاء الله وأيقظ سنة فهمك لعلها توافق عروبية في طبعك فتبادر إلى مراجعة خدمة مولاك لعل شَيْنَ إباقك عنه يزيله بيد عفوه عنك فالمؤمن توّاب جعلنا الله ممن سبقت له بالخير سابقة فراجع مولاك قبل الأخذ على غرّة والجأ إليه فإنه لا ربّ سواه
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة لقمان من الآية ١٥
سورة الأحزاب من الآية ٦
۱۹۱

حديث ثواب صلة الأرحام
عَن أبي هريرةَ رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ حتى إذا فرغَ من خلقه قالتِ الرَّحِمُ هذا مقام العائذ بكَ مِن القطيعة قالَ نَعَمْ أمَا تَرَضَيْنَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ وأقطعَ مَن قَطعَكِ قالت بَلَى يا رب قالَ فَهُوَ لَكِ
ظاهر الحديث الإخبار بعظم ما جعل الله تعالى للرَّحِم من الحق وأن وَضلَها من أكبر أفعال البِر وأن قطعها من أكبر المعاصي والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى قوله أصِلُ مَن وَصَلكِ وأقطَعُ مَن قَطَعَكِ ومنها الكلام على كيفية وصلها وما هو قطعها
فأما قولنا ما معنى قوله أَصِل مَن وصَلَك فهو كناية عن عظم الإحسان فإن أعظم ما يعطي المحبوب لحبيبه الوصال وهو القرب منه ومساعدته في مرضاته وهذه الأمور في حق مولانا سبحانه مستحيلة أن تكون على ما نعرف من صفات المحدث الفاني بل هي كناية عن قدر
الإحسان منه لعبده وعظمه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام صلة الرحم تزيد في العمر فهذا الوصال في هذه الدار زائد على ما أعد له في الآخرة من الخير والإحسان وكقوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ فمعنى قوله يحبهم كناية عن عظم إحسانه عزّ وجلّ لمن أحبه من عباده لأن ملكاً من ملوك الدنيا إذا أحب أحداً أغناه ورفعه على جميع أهل وقته فكذلك فعل مولانا سبحانه بمن يحبّه يحسن إليه غاية الإحسان ويرفعه في الدنيا والآخرة المنزلة العليا
۱ رواه القضاعي عن ابن مسعود رضي الله عنه وتتمة الحديث وصدقة السر تطفىء غضب الرب سورة المائدة من الآية ٥٤

۱۹

وأما قولنا ما معنى وأقطع من قطَعَك فهو كناية عن شدة الحرمان والعذاب لأن القطع ضد الوصل فكما عبّر عن عظم الأجر بالوصل عبّر عن عظم البلاء بالقطع أعاذنا الله من البلاء
بمنه
وأما كيفية الوصل للرحم فهو على ضروب مختلفة منه ما يكون ببذل المال ومنه ما يكون ببذل العون على ما يحتاجون إليه أعني أهل رَحِمه ومنه ما يكون بالزيارة لهم ومنه ما يكون بالدعاء لهم ومنه ما يكون بإكرامهم والبشاشة لهم ومنه ما يكون بدفع المضار عنهم والمعنى الجامع له إيصال ما أمكنك من الخير إليهم على قدر طاقتك بنية القربة إلى الله تعالى إلا أن ذلك بشروط ذكرها العلماء وهي أن يكونوا على الاستقامة وإلا فمقاطعتهم من أجل الله هو إيصالهم بشرط أن تبذل جهدك في وعظهم وزجرهم والإنكار عليهم لا لأنه إذا قيل لك في الأجنبي الذي هو أخوك في الإسلام أنصره ظالماً أو مظلوماً كما تقدم ذكره وهو ردّه عن الظلم فالأقرب من باب أولى فبعد ذلك يكون الهجران لهم وتُعْلِمُهُمْ أن هجرانك لهم إنما هو من أجل تخلفهم عن الحق فإذا استقاموا وصلتهم قدر طاقتك في ذلك لكن يبقى عليك من صلتهم عند المقاطعة الدعاء لهم بظهر الغيب أن يصلح الله حالهم ويُجِيرَهم بفضله

وأما مقاطعتهم فهي على ضربين إما كلية أو بعضية فالكلية هي أن تمنعهم جميع ما في وُسْعِك من الإحسان إليهم على نحو ما أشرنا إليه قبل قاصداً لذلك أو تكون معاداتهم لِحَظ نفس أو إبعادهم عنك لمثل ذلك وأما البعض فهو مثل أن تفعل معهم بعض الأشياء وتحرمهم بعضاً مع قدرتك عليها وقصدك ذلك فكلاهما محذور ويُخاف من وبالها لكن الواحد الذي هو الكلّي أشد أعاذنا الله منهما
وفيه بحوث منها هل الألف واللام في الخلق للجنس أو للعهد فإن كانت للجنس فمتى كانت وإن كانت للعهد فمتى كان احتمل أن تكون للجنس وهو عند فراغه - جل جلاله - من جميع المخلوقات على اختلافها وبقي الاحتمال في أي وقت كان ذلك هل عند الفراغ من ظهورها في اللوح المحفوظ بالكتب وهي بَعْدُ لم يظهر منها في عالم الوجود إلا اللوح والقلم لا غير واحتمل أن يكون ذلك عند الفراغ من خلق السموات والأرض وإيحائه عزّ وجلّ في كل سماء أمْرَها القدرة صالحة لهما معاً والعرب تسمي البعض باسم الكل والكل باسم البعض وأما أن يكون على حقيقة ظاهرة - وهو أن تبرز جميع المخلوقات في عالم الحس والمشاهدة
۱ يعني إذا كانوا على الاستقامة
۱۹۳

فلا يمكن لأن من المخلوقات ما لم يبرز بعد في عالم الوجود والحس ونحن نعلم أنه لا بد أن يظهر ويكون قطعاً لازماً مثل الدابة التي تخرج عند قرب الساعة وهي في علم الله لم تبرز ولا ظهرت ومثل من بقي من تناسل جميع الحيوان ومثل الأمور التي هي عند قرب الساعة وقد أخبر بها الصادق وهي لم تظهر بعد وأشياء عديدة إذا تتبعتها وجدتها

وإن كانت للعهد وهي عند فراغه سبحانه من خلق بني ادم فمتى كان احتمل أن يكون عند فراغه جل جلاله من خلق أرواحهم لأنه قد جاء أن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام واحتمل أن يكون عند فراغه من خلق الأشباح والأرواح وهو يوم سأل سبحانه ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ١ وهو يوم إخراجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر وأخذ عليهم العهد لأنها إحدى الحياتين في قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا أَمَتَنا اثنتين وأحييتنا اثْنَتَيْنِ على أحد الأقاويل ويترتب عليه من الفقه أن نعرف أن الألف واللام في الرحم هل هي للعموم أو للخصوص فإن كانت للخصوص فهل هي للثقلين من الجن والإنس ليس إلا احتمل الوجوه كلها لكن إن كانت الألف واللام للعهد فتكون صلة الرحم تحتمل وجهين أحدهما أن تكون للجن والإنس لأنهما المكلَّفان أو أن تكون خاصة ببني آدم ويكون الفقه أن صلة الرحم خاصة ببني آدم وأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن الأمر عام في بني ادم وهم منهم
ويترتب عليه من الفقه إن كانت للجنس أن صلة الرحم عامة في كل الحيوان من جن وإنس وطير ويقويه عموم قوله تعالى ﴿ وَلَا طَبِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ ۳ وقد كانت العرب تلحظ ذلك في الخيل وينسبون الحسن والأصالة من الطريقين كما يفعل بنو ادم ويذكرون ذلك عند الشدائد لتثبت على حرية نسلها ويتنافسون في أثمانها من أجل ذلك
وهنا بحث ثان وهو هل كلام الرحم للحق جل جلاله بلسان المقال أو بلسان الحال إن كان بلسان المقال هل كان ذلك بعدما بثها في جوهر ووضع فيها الحياة والعقل أو هي على حالها الكلام على هذا مثل كلام العلماء على كلام الجمادات وهي على ثلاثة وجوه لأن منهم من قال إن كلام الجماد بلسان حاله بما أظهر الله فيه من أثر قدرته ومنهم من قال إنه خلق لهم حياة وعقلا وحينئذ تكلموا ومنهم من قال إنهم تكلموا وهم على حالهم - وهو الأظهر - وإن
كانت القدرة صالحة للوجوه الثلاثة
۱ سورة الأعراف من الآية ۱۷ سورة غافر من الاية ۱۱ ۳ سورة الأنعام من الآية ۳۸
١٢٩٤

لكن الوجهين فيهما تخصيص لعموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل شرعي وحصر لقدرة القادر التي لا يحصرها شيء لأن قدرته عزّ وجلّ صفة من صفاته فكما ذاته الجليلة لا تنحصر بوجه من الوجوه فكذاك كل صفاته لا تنحصر منها صفة من الصفات بوجه من الوجوه لأن
الصفة لا تفارق الموصوف وقد تقدم الكلام على ذلك أول الكتاب بما فيه شفاء بفضل الله تعالى ومنها أن فيه دليلا على أن الاستعاذة بالله من أجل الوسائل إلى الله وأنجحها يؤخذ ذلك من قول الرَّحِم هذا مقام العائذ بك فأسعفت في الحال بما رَضِيَت به ومما يقوي هذا الوجه ما جاء في شأن العدو الذي قيل له وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِك وجعل له أنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه وجعل لنا النصرة والغلبة عليه بالاستعاذة بالله عزّ وجلّ ولم يجعل بغير ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه العزيز ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ وقول مريم عليها السلام حين أتاها روح الله الأمين إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيَّا ﴾ ٤ ﴿ وقول سيدنا أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبِكَ منك لا أُحصي ثناء عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك ٥

وفيه إشارة عجيبة من طريق حسن المجانسة في الكلام وهي أنه لما كانت صلة الرحم حقيقتها التواد بين الأقارب والتعاطف جُعِلت الصيغة التي تدل على الجزاء عليها من جنس ما هو المعروف في التخاطب بين المحبين والمحبوبين وهي الوصل والمقاطعة
وفي قوله إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه دليل على صفتين عظيمتين من صفات الحق سبحانه وهما القدرة والحكمة فأما الدال منهما على القدرة فبالإخبار بأنه عزّ الخلق وأي دليل على القدرة أعظم من اختراع الخلق على غير مثال تقدم ولا
جميع
وجلّ خالق مُعِينٍ ولا وزير وَزِير
وأما الدال على الحكمة منه فقوله عليه السلام حتى إذا فرغ من خلقه لأن حتى لانتهاء الغاية فتعطي قوة الكلام أن من له غاية فله بداية وما بين الغاية والبداية اقتضته الحكمة الربانية لا لعجز من القدرة فإن مِن قدرته جلّ جلاله خَلْقَ جميع الخلق وهو كما أخبر عزّ وجلّ بقوله
1 يعني الأول والثاني سورة الإسراء من الآية ٦٤ ۳ سورة الأعراف من الاية ۰۰ ٤ سورة مريم من الآية ۱۸
٥ رواه الترمذي وأبو داود والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
١٢٩٥

وَمَا مَسَّنَا مِن تُغُوبٍ ۱ لا يمكن أن يكون في قدرته عجز عن شيء من الأشياء بل ما كان في بعض المخلوقات من تأخر أو غير ذلك فلحكمة اقتضتها حكمة من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وقد تقدم في أول الكتاب من هذا بيان شاف بفضل الله ورحمته
وفيه دليل لقول من قال إن رأيك بحسب ما قدر لك يؤخذ ذلك من أنه لما قامت الرحم مقام العائذ بالله تعالى من القطيعة وسبق في علم الله سبحانه أن يكون من عباده واصل لها وقاطع لها أيضاً أرضاها بأن جعل عندها رضى بأن يصل الله من يصلها ويقطع من يقطعها فقبلت ذلك ورضيت به بدلاً من الذي طلبته لأنها طلبت أن لا قطيعة لها فلو قال لها الحق جل جلاله لك ذلك أي لا تقطعي لم يكن أحد يقطعها
وفيه دليل لتحقيق قوله ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يُستجاب له وإما أن يُدَّخر له وإما أن يُكفّر عنه ۳ لأنه عزّ وجلّ عوّض الرحم عما طلبته ما هو خير لها
منه ورضیت به
وفيه دليل على أن جميع المخلوقات بيد الله سبحانه يصرفها كيف يشاء كما قال صلى الله عليه وسلم ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ٤ أي بين أمرين من أمر الرحمن مثل الرضى وضده والعزم على الشيء وتركه والرغبة والزهد وما يضادهما من الأشياء يقلب القلب من طرف إلى ضده في لمحة البصر ولذلك كان من دعائه ل له يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ٥ ولهذا المعنى كان أهل التوفيق والمعرفة بالله تعالى أشد الناس خوفاً على أنفسهم مع كانوا عليه من الخير التام حتى إنه يروى عن بعضهم أنه كان كلما استيقظ من نومه يجر يده على وجهه ثم ينظر إلى حواسه ثم يحمد الله تعالى ويشكره ويتشهد ويعلن بها فقيل له في ذلك
فقال

1 سورة ق من الاية ۳۸ سورة الشورى من الآية ۱۱
۳ رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث غريب ولفظه ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يؤخر له في الآخرة وإما أن يكفر عن ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي ٤ أخرجه ابن عساكر وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها وتتمته إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ٥ رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني وكثيرون بألفاظ مختلفة منها قلبي ومنها قلوبنا ومنها ثبتنا ومنها ثبت قلوبنا الخ
١٢٩٦

أما جَرُّ يدي على وجهي فمخافة أن يُطمس عليه كما أخبر عزّ وجلّ وخبره الحق مِّن قَبْلِ
أَن نَّطْمِسَ وُجُوهَا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ۱ وأما نظري إلى حواسي فخيفة العاهة التي هي متوقعة على الإنسان وأما إعلاني بالشهادة فاختبار لنعمة الإيمان و لا اله الا الله ولا ينام الرجل النومة فيُسْلَب عنه الإيمان ويبقى أثره ثم ينام النومة فيُقبَضُ أثرها ۳ أو كما قال عليه السلام فإذا رأيتُ نعمة الإيمان ونعمة الحواس باقية سالمة حمدت الله وشكرته على إبقائه تلك النعمة بفضله
جعلنا الله ممَّن أتمها علينا وجميع نعمه في الدارين بفضله ورحمته آمين آمين يا ربَّ
العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ٤٧
رواه البخاري في كتاب الفتن عن حذيفة رضي الله عنه ومطلعه ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظلِ أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه منتبرا وليس فيه شيء إلى آخر الحديث
۱۹۷

حديث ثواب عائل البنات
عَن عائشةَ رَضي الله عنها قالت جاءَتني امرأة وَمَعها ابْنَتَانِ تَسألني فَلَم تَجِد عِندي غَيْرَ تَمرةٍ واحِدَةٍ فأعطَيْتُها فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ثُمَّ قامَت فَخَرجَتْ فَدخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فَقالَ مَن بُلِيَ مِن هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيء فَأَحسَنَ إلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتراً مِنَ النَّارِ
ظاهر الحديث إخبار الصادق الا الله أنه من آتاه الله شيئاً من البنات فأحسن إليهنّ كنّ له ستراً من النار أي وقاية تقيه من النار والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى الإحسان وهل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط وهل يحتاج في ذلك إلى نية أم لا وهل ذلك على طول عمرهن وإن كبِرْن أو ذلك عند صغر سنهن وإن
كان فما حَدّه
فأما قولنا ما معنى الإحسان إليهن فهو ما زاد على القدر الواجب الذي لهن وهو بين من لفظ الحديث فإنه لما كانت المرأة معها ابنتان يسألن السيدة عائشة رضي الله عنها فلم يجدن عندها إلا تلك التمرة الواحدة التي أعطتهن إياها وكان من الواجب أن يقسِمْنَها أثلاثاً فلما جادت الأم بثلثها عليهما فقد زادتهما على حقهما وتلك الزيادة هي الإحسان الذي أشار إليه رسول الله بأن من فعله معهنّ كان له ستراً من النار وهو يتعدى في كل الوجوه التي فيها معاملتهن فمن زادهنَّ في كل وجه منها شيئاً على حقهن كان محسناً لهن ومن فعل معهن معروفاً في نوع ليس لهن فيه حق فالباب واحد
وأما قولنا هل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط فما من وجه من وجوه البر إلا وله شروط فمنها ما هي ظاهرة يستوي في معرفتها الناس كافة ومنها ما لا يعلمها إلا الخواص من أرباب العلم
فأما معنى قولنا هل ذلك على عمومه أي إذا وقع منه إحسان إليهن على أي وجه كان
۱۹۸

ر
على لسان العلم أو غير ذلك أو يكون قد أساء إليهن أو يكون قد ترتب لهن حق عنده فأما ما خالف لسان العلم فلا ينطلق عليه اسم إحسان شرعاً وكذلك إذا ترتب لهن قبله حق فلا يقال له محسن بل ذلك من الحق الذي قد ترتب لهن قِبَلَه وتقع بينه وبينهن المحاسبة والمحاكمة في الدار الآخرة وكذلك إن كان قد أساء إليهن من وجه آخر فليس على عمومه ولا يسمّى محسناً إلا بعد توفية الحقوق من كل الجهات وعدم الإساءة ويكون فعله ذلك على لسان العلم وحينئذ يكون محسناً
وأما شروطه فهو أن يكون إحسانه إليهن ليس فيه ضرر للغير بعد القيد المتقدم ذكره من لسان العلم وما ذكر معه
وأما هل تحتاج ذلك إلى نية أم لا فالنية شرط في جميع الأعمال لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ۱ إلا مواضع قد تقرر الحكم فيها أنها لا تحتاج إلى نية أعني أن الفعل يجزىء بغير نية ويؤجر عليه وهو مثل ما يفعله المرء بغيره من الطهارة وشبهها ومثل زوال النجاسة من الثوب والبدن وما أشبه ذلك
وأما قولنا هل ذلك مع طول عمرهن أو ذلك في زمان صغر سنهن أما الإحسان إليهن فليس يتقيَّد بصغر سنهن ولا كِبَرِهن بل حقوقهن مع صغر السن على سبيل الوجوب فمنها لزوم النفقة والكسوة والكفالة فهذا وما هو من نوعه يُسقطه كبرهن إذا تزوجن على ما هو المعلوم من عرف الشرع في ذلك وإن كبرن فلا يخرجن عن البُنُوَّة أبداً فهن في كل وقت محل للإحسان وهن أيضاً محتاجات إلى ذلك وإن كن على أي وجه كنَّ من اليسار وضده ولكثرة شروط هذا الإحسان كان بعض من ينسب إلى الخير - وله البنات والعيلة - بعد إحسانه إليهن يقول والله ما أدري هل أتخلص منكن في الآخرة أم لا ثم يدعو الله سبحانه أن يجعلهن له رحمة بفضله وفيه دليل على جواز السؤال يؤخذ ذلك من قولها جاءتني امرأة ومعها ابنتان تسألني فلو
لم يكن جائزاً شرعاً لأنكرت ذلك عليها وفيه دليل على فضل بيت النبوة وكثرة سخائهم يؤخذ ذلك من كونها لم يكن عندها إلا تلك التمرة الواحدة وجادت بها
وفيه دليل على جواز ذكر المعروف الذي نفعله إذا لم يكن على وجه المَن والافتخار فإن ذلك مفسد له يؤخذ ذلك من ذكر عائشة رضي الله عنها المعروف الذي فعلته مع المرأة للنبي
صلى الله عليه وسلم
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۱۹۹

وفيه دليل على استحسان فعل المعروف وإن قَلَّ يؤخذ ذلك من بذلها تلك التمرة الواحدة
ولم تَسْتَقِلها وقد ذكر عنها أنه جاء سائل إلى الباب وكان عندها عنب فأعطت منه حبة واحدة لشخص يخرجها له فرأت منه أنه استقلها فقالت كم في تلك الحبَّة من ذرات تريد بذلك قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ ﴾ ۱ وقد نبه بعض العلماء على أن من مكايد الشيطان إذا رآك تعطي الكثير يَعِدُك بالفقر حتى يكسلك عن البذل وإن رآك تعطي اليسير يزهدك فيه ويحقره في عينك حتى يحرمك البذل في اليسير والكثير
وفيه دليل على أن أعلى المعروف جهد المقل ولا يلزمه غير ذلك من طريق الندب يؤخذ ذلك من تلك السيدة لم تزد على بذل ما كان عندها مع قلته شيئاً وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
حين أخبرته ولو كان بقي عليها من طريق الإحسان لشيء النبهها العاليه ل لا ل عند إخبارها له بذلك وفيه دليل لأهل الصوفة الذين أصل طريقهم الإيثار وحمل الضيم فيما يخصهم لأن هذه الصفة هي التي أعجبت السيدة عائشة رضي الله عنها من تلك المرأة حتى أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرر عليه هذا الأصل العظيم ولذلك قيل فيهم ما أحسنهم في جودهم حتى بنفوسهم جادوا ثم جادوا وجدوا حتى وصلوا وسادوا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزلزلة الآية ٧
١٣٠

شخصاً أكل بحضرة النبي ونسي التسمية فلما ذُكِّر قال - كما قدمنا فتبسم النبي وقال رأيت الشيطان أكل معه أولاً فلما قال بسم الله أوله وآخره قاء الشيطان كل ما أكل
نوع کا
وأما عليه السلام وأما قوله عليه السلام وليأكل كل رجل مما يليه هل هو في كل طعام أي كان فظاهر اللفظ يقتضي العموم لكن قد قال العلماء إن ذلك في الثريد وما أشبهه لأنه كله سواء وأما إذا كان الطعام على غير ذلك وفيه أنواع مختلفة فلك أن تجيل يدك حيث تريد لكن بأدب مع الإخوان لأن الأدب من السنة وأما إن كان الطعام يابساً مثل التمر والفواكه فَلَكَ الخيار أن تأخذه من حيث شئت وإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون على صفة واحدة أم لا فإن كان على صفة واحدة فحكمه حكم الثريد تأكل مما يليك لا غير وإن كان فيه اختلاف فلك أن تجيل يدك فيه إلا أنه بأدب وقد جاء أنه قدم له لا الهلال والحلم فيه دبّاء ۱ فجعل عليه السلام يتبع الدباء في
القصعة ٢
وأما قولنا إن كان الطعام يختلف به أي يؤتى بطعام بعد طعام هل يجزىء فيه تسمية واحدة أم لا فلا يخلو أن تكون تعاينه وتعلمه ويكون الأكل متصلاً بعضه ببعض أو لا فإن كنت تعاينه وتعلمه والأكل متصل فتسمية واحدة تجزىء ما لم تعين نوعاً واحداً من ذلك تفرده من غيره كما تفعل عند رميك على الطير إذا كانوا ۳ جماعة أو الظباء وإن عينت الجميع فأي شيء أخذت منها تتناوله تسميتك وإن قصدت واحداً بعينه وأخذت غيره لم تتناوله التسمية
وقد نص الفقهاء أنك إذا دخلت حديقة وفيها أنواع من الثمار ونويت عند دخولك أن تأكل من كل ثمرة لقيت وسميت بهذه النية أجزأتك التسمية عن كل ما تأكل في تلك الحديقة في وقتك ذلك وإن كانت أشجارها متباعدة بعضاً عن بعض وذلك يقتضي تعيين الأكل أيضاً وإن أنت لم تسم عند دخولك إلا على الثمرة التي لقيت ولم تعين غيرها فتؤمر إذا انتقلت إلى غيرها أن تسمي
عليها
وأما قولنا هل هذا الأمر خاص بالرجال لا غير أو الرجال مواجهون بالخطاب وهو متناول الكل فالجواب أن تقول ليس في الدين تخصيص لبعض دون بعض بل اشتراك الكل في جميع
۱ الدباء اليقطين ويسمى في بلاد الشام القرع رواه البخاري في البيوع باب ذكر الخياط وفي الأطعمة باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه وباب القديد ورواه مسلم في الأشربة من حديث أنس رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله له الطعام صنعه فذهبت معه إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله له خبزا من شعير ومرقاً فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت النبي الله يتتبع الدباء حوالي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ
۳ كذا بضمير العقلاء
۱۰۱

الأوامر إلا ما دل دليل على تخصيصه ولا دليل هنا على التخصيص فهو عام في الكل وفي هذا
الحديث وأشباهه دليل على بذل جهدهم لا لا لايف في النصح والتعليم
ويترتب على ذلك من الفقه فيما يخصنا أن من علامة السعادة للشخص أن يكون معتنياً بمعرفة السنة في جميع تصرفه والذي يكون كذلك هو دائماً في عبادة في كل حركاته وسكناته وهذا هو طريق أهل الفضل حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه بقي سنين لم يأكل البطيخ فقيل له في ذلك فقال لم يبلغني كيف السنّة في أكله فلا اكله حتى أعلم كيف ذلك وكيف لا والله سبحانه يقول في حقه ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ۱ والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن ﴾ تكون عامة في كل الأشياء جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة ال عمران من الآية ۳۱
۱۰

حديث ما خصت به العجوة من المنفع

عَن عامِرٍ بن سَعْدٍ ١ عَن أبيه رضي الله عَنهُم قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن تَصبَّحَ كُلَّ يَومٍ بِسَبع تمراتٍ عَجْوَةٍ لَم يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمَّ ولا سِحر
ظاهر الحديث يدل على أن من أكل كل يوم سبع تمرات عجوة لا يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه العجوة من أي بقعة كانت سواء أو هي من بقعة معيّنة وهل تكون في حين طراوتها أو أي وقت أكلت كانت طريّة أو مدخرة وهل يحتاج في أكلها إلى نيّة أم لا وهل تعرف الحكمة في كونها خصت بالنفع في هذين الشيئين أم لا وهل هذا عام في المؤمن والكافر والطائع والعاصي أو ذلك خاص بالمؤمنين لا غير

فأما قولنا هل تلك العجوة تكون من بقعة مخصوصة أم لا فالجواب أنه قد جاء حديثان أحدهما أنها من المدينة والآخر أنها من العوالي ٢ فإن حملنا هذا الحديث المطلق الذي نحن بسبيله على هذين الحديثين فتكون من عجوة العوالي أو المدينة وإن قلنا إن لكل حديث حكماً تكون مطلقة من حيث كانت نفعت فيجيء النفع إذا كانت من العوالي أو المدينة بلا شك
ويبقى النظر إذا كانت من غيرها
۱ عامر بن سعد بن أبي وقاص
مدني تابعي سمع أباه وعثمان وابن عمر وأسامة وأبا هريرة وعائشة وكان ثقة بالاتفاق توفي بالمدينة سنة ١٠٣هـ والده كان أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة في الشورى لخلافة عمر رضي الله عنه العوالي هي اليوم حي من أحياء المدينة المنورة

وأما قولنا هل يكون أكلها عند جناها أو أي وقت أكلت احتمل والظاهر أي وقت كانت
لأن الاسم يتناولها
وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أو لا فكل ما كان متلقَّى من الرسول صلى الله عليه وسلم فالأصل فيه النية ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۱ لأن المؤمن إذا أخذ ما أمر به موقناً بذلك وجد الفائدة كما وعد وزيادة وإذا أخذه بغير نية فقد يبطىء الأمر عليه قليلا فيقع له تردد فيحصل في بحر التلف ومما روي مثل هذا أن النبي خرج مرة إلى غزوة من غزواته فأمر الصحابة رضي الله عنهم بالتزود فتزود بعضهم وعجز البعض ولم يجدوا ما يشترون به فأمر لا ل ل له أن يأخذوا رواحلهم ويخرجوا معه فخرجوا فلما بلغوا إلى أحد الأودية - وهو كثير الحنظل - أمرهم أن يمتاروا منه فكلهم فعلوا ما أمرهم به إلا شخصاً واحداً فقال في نفسه وما جاء بنا إلا إلى الحنظل وما عسى أن أفعل به فلم يأخذ منه إلا خمس حبّات ورجعوا إلى المدينة
وكان للشخص الذي لم يأخذ غير خمس حبات غلام تركه بالمدينة في ضروراته فلما سمع برجوعهم إلى المدينة خرج لأن يُعين سيده فوجد الناس محمّلة رواحلهم وليس لسيده حمل فسأله عن ذلك فقال له ما جرى فقال له الغلام أمرَكَ وبقي عندك شك وكيف وقع ذلك وما أخذت منه شيئاً قال ما أخذت إلا خمس حبّات وقد ذهب عني بعضها في الطريق فقال هاتها فأعطاه إياها فأكل الغلام منها فإذا هي مثل الشهد سواء فقال كُلْ تَرَ ما حُرِمت فأكل فوجد مثل ما وجد الغلام فندم نَدامة الكُسَعِيّ ٢

والحديث الثالث حين جاء بعض الصحابة فشكا للنبي لو أن أخاه به بطن ۳ فأمره أن يسقيه عسلاً فسقاه ثم رجع إلى النبي الله يشكو إليه ثانية فأمره أن يسقيه عسلاً كذلك في الثالثة
۱ سورة الإسراء من الاية ۸
الكُسَعِي هو غامد بن الحارث الكسعي اتخذ قوساً وخمسة أسهم وكمن في مكان مظلم للحُمُر الوحشية فمرّ منها قطيع فرمى السهم الأول فنفذ في العير حتى صدم الجبل فأورى نارا فظن أن سهمه أخطأ الوحش فرمى ثانية وثالثة حتى نفدت سهامه الخمسة وهو يظن في كل رمية أنه أخطأ صيده فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات فلما أصبح نظر فإذا الحُمُر مطرحة مُصَرّعة وأسهمه بالدم مضرّجة لم تخطى هدفها وصيدها فندم وقطع
إبهامه وأنشد
۳ أي إسهال
ة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطع إذا لقطعت خمس
ـنَ لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي
١٢٠٤

أو الرابعة فقال له عليه السلام صدق الله وكذبَ بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاه فشفي أخوه ۱ وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونها تنفع لهذين الشيئين فالجواب أنه لا طريق لنا
إلى ذلك بل الله يختص من يشاء بما يشاء من جماد ونبات وحيوان إلى غير ذلك من جميع خلقه فمنها ما يعلم من طريق التجربة مثل صنعة الطب وقد تخيب وتصيب ومنها ما هو من طريق إخبار الرسل صلوات الله عليهم وهذا لا يخيب أصلاً لكن الغالب على الناس أنهم قد ركنت أنفسهم إلى قول الأطباء بلا تأويل وقد عاينوا منهم في الغالب عدم النجح وهذا الذي لا شك فيه لأنه من طريق الرحمة للعباد لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً العلمين ۳ فقليل منهم من يقبله وذلك علامة الحرمان فنسأل الله العافية وبعضهم يتأول ويقول هو حق لكن لا نعرف التأويل في كيفية العمل وهذا حَيْد عن الصواب لأنه لو كان في أحد الأشياء التي أخبر بها وجه من وجوه الكيفية في عمله ما ترك عليه السلام بيانه إلا أخبر به قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ٤

وأما قولنا هل ذلك خاص بالمؤمنين أو عام في المؤمن والكافر صيغة اللفظ تعطي العموم وأما ما قدمناه من قوله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ٥
فيعطي الخصوص
وفيه دليل على أن السحر حق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم
ولا سحر
وفيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تدركها العقول يؤخذ ذلك من كون السحر عن الشخص لا يراه ثم يصل إليه منه ضرر حتى يجد ذلك الضرر في بدنه محسوساً ومما يزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ٦
منفصلاً
ايق
1 أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه جاء رجل إلى النبي الهلال فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقاً ثلاث مرات فقال رسول
له صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ
الله
أي السم والسحر سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷

0
سورة التوبة من الآية ٦٥
سورة الإسراء من الآية ۸
3
٦ سورة البقرة من الآية ۱۰
١٢٠٥

وبقي بحث في قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر هل يكون معناه
العموم أو الخصوص فمعنى العموم أن الذي استصبح بالعجوة لا يضره سم إن شربه في ذلك اليوم ولا سحر إن سحر فيه ولا سم تقدم شربه على ذلك اليوم ولا سحر تقدم على ذلك اليوم عمله فتكون تلك العجوة توقف عنه ضرر ذلك السم الذي تقدم شربه في ذلك اليوم وكذلك السحر أيضاً وتحميه عن ضرر ما يفعل فيهما في هذا اليوم ومعنى الخصوص أن كل سم أو سحر يكون في ذلك اليوم بعد أكله تلك العجوة لا يضره احتمل الوجهين معاً لكن الأظهر الخصوص من طريق أنه أقل المحتملات فهذا مقطوع به
ومن طريق النظر إلى أن هذا ورد من طريق الرحمة من الله تعالى ببركة هذا النبي العظيم الا الله فيكون الأظهر العموم لأنا نرى الترياق الكبير الذي هو من تأليف الأطباء الذي طريقه التجربة يدفع من السموم ما قد حصل منها في البدن وما يأتي بعده فكيف بما هو طريقه طريق الرحمة والتفضل

إلا أنه لا بد في ذلك من قوة يقين ونية حسنة كما ذكر عن عمرو بن العاص ۱ أنه جاءه رسول من العدو وبيده قارورة فلما دخل عليه سأله عن تلك القارورة التي هي بيده فقال له سم ساعة فقال وما عسى أن تفعل به فقال له إني رسول لقومي لم يوجهوني قط في أمر إلا جئتهم بما يحبون وهم قد وجهوني إليك فخفت منك ألا تُسْعِفْني فيما طلبوا فجئت بهذا السم فإن لم تستعفني بما طلبوا أشربه فأموت ولا أرجع إليهم بما يكرهون فقال له ناولني إياه فأعطاه القارورة وقال رحمه الله بسم الله قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا وشرب ذلك السم فعرق من حينه ساعة ثم أفاق وما به بأس فرجع الرسول من حينه إلى قومه وقال لهم أسلموا عن آخركم فإن هذا رجل لا طاقة لكم به شرب سم ساعة فلم يضره
فلتسميته بتحقيق النية ظهر ذلك الخير عليه وكذلك كل من قصد الله تعالى صادقاً وجده حيث أمله وزيادة لأنه يقول جل جلاله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن ﴿ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۳ ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ٤ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ﴾ ٥
۱ وتنسب هذه الحادثة إلى خالد بن الوليد في كتب أخرى والله أعلم
سورة ال عمران من الآية ١٦٠ ال
۳ سورة المائدة من الآية ٢٣ ٤ سورة الطلاق من الآية ٣ ٥ سورة النساء من الآية ۱
١٢٠٦

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۱ لكن من عينُ يقينه خُفَاشِي لا يستطيع أن يبصر شمس الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ من غذّى قلبه بالحرام لا يبصر إلا ظلاماً في ظلام ظُلُمَتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ۳ أعاذنا الله من الحرمان ومن كسب الآثام بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ۸۷ سورة المطففين من الاية ١٤
۳ سورة النور من الاية ٤٠
۱۰۷

حديث الأمر بلعق اليد من أثر الطعام قبل غسلها
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال إِذا أَكَلَ أحَدُكُم طَعاماً فَلا يمسَحْ
يده حتى يلعقها أو يُلعِقها
* *
ظاهر الحديث النهي عن أن يمسح أحد يده إذا أكل طعاماً حتى يلعقها أو يعطي غيره يلعقها والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل هذا من كل الطعام وهل هذا لعلة مفهومة أو تعبد لا غير وهل ذلك خاص بالمسح أو عام في المسح والغسل وقوله يُلعِقها هل يكون ذلك من جنسه لا غير أو من جنسه وخلاف جنسه إن أمكنه ذلك وفي المسح كيف يكون وفيم يكون
فأما قولنا هل من كل طعام فليس على عمومه لأن من الأطعمة ما لا يتعلق بيد الأكل منه
شيء وما لا يتعلق منه شيء ولا يحتاج إلى مسح فلا يحتاج إلى أن يُلعق وأما قولنا هل هو تعبد أو لعلة معقولة اللفظ لا يفهم منه ذلك لكن قوة الكلام تعطي أنه لعلة مفهومة وهي حرمة الطعام والتعظيم لنعم الله تعالى لأنه لا الله و قد شدّد في هذا الباب ـ أعني تعظيم نعم الله تعالى واحترامها - كثيراً وقد ورد أن ترك ذلك سبب إلى زوالها وقلّما أزال الله تعالى نعمته من قوم فردّها إليهم وقد كان لا لا اله إذا أكل في أهله وشبعوا تركوا القصعة حتى يأتي من
يَلعَقُها
وقد حكى أبو هريرة أنه كان يوماً به جوع شدید فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أراك شديد خُلوف الفم فقال نعم فأمره عليه السلام أن يأتي معه إلى منزله فلما دخل أخرج له قصعة ليس فيها إلا لَعْقُها قال فقلت في نفسي وماذا تعني هذه فلَعِقْتُها وشبعت أو كما قال ولقي وهو صائم لبابة خبز في قذر فغسلها وأمر بلالاً أن يرفعها له حتى يفطر وقال عليه السلام إن القصعة تستغفر للاعقها ۱ أو كما قال والأحاديث في هذا النوع كثيرة
۱ رواه الترمذي في الأطعمة من حديث نبيشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له =
۱۰۸

وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يفرغون من الأكل ويغسلون أيديهم ثم يشربونه تعظيماً لنعم الله وتبركاً بآثار شيء أكل عوناً على طاعة الله تعالى
وأما قولنا هل ذلك خاص بالمسح أو عام فيه وفي الغسل الجواب أنه إذا كان في المسح الذي ينتقل الطعام الذي تعلّق باليد إلى الشيء الممسوح فيه فكيف بالماء الذي يُذهِب عين الطعام فهو من باب أولى
وفيه دليل على أن السنّة المسح من الطعام وإنما الغَسل من فعل الأعاجم أعني إذا كانت اليد نظيفة فالغسل إذ ذاك من فعلهم وإن كان قد جاء أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويُصح البصر ۱ فيكون الجمع بين هذين الحديثين بأحد وجهين أحدهما أن يكون اللَّممَ الغسل لموجب له فقبل الطعام تكون اليد غير نظيفة والذي بعده يكون الطعام مما فيه دسم كثير لا يزيله المسح أو رائحة يكون فيها تأذَّ وذلك مكروه أن يصلّى به أو يكون فعله ذلك غِباً لا يتخذه دائماً فإنه مخالف للسنة أو يكون الغسل لعدم الشيء الذي يمسح فيه والشأن أن يخرج من التشبه بأهل الكتاب الذي قد نهينا عن التشبه بهم
وأما قولنا هل يلعقها من جنسه أو من خلاف جنسه إذا أمكن ذلك فإذا فهمنا العلة كما قدمنا - وهي من أجل حرمة الطعام - فكل من يجوز لنا أن نعطيه طعاماً يأكله ويأتي منه اللعق على وجه جاز لنا ذلك ما عدا أهل الملل
وأما قولنا فيم يكون المسح وكيف يكون أما فيم ففي كل شيء طاهر لا حرمة له وأعني بقولي لا حرمة له تحرزاً من الخبز والكتاب وما أشبه ذلك أو مال الغير فإن مسحك فيه ممنوع إلا بإذن مالكه وقد جاء أنهم كانوا يمسحون تحت أقدامهم وأما الكيفية فأن يكون الفعل
برفق بحسب حالة الشيء الممسوح فيه وإنما ذكر الرفق فيه لقوله ما كان الرفق في شيء إلا زانه حتى يكون في فعلك أثر من السنة لأن الشأن في هذا
جعلنا الله من أهلها بفضله لا رب سواه امين

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
=
القصعة ورواية المؤلف إن القصعة لتستغفر اللاعقها رواها رزين في جامعه بلفظ إن انية الطعام لتستغفر للذي
يلعقها ويغسلها
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية موسى الشهاب من رواية موسى الرضا عن ابائه وذكره العراقي مع جملة أحاديث فقال إنها ضعيفة
عزاه في الفتح الكبير إلى عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله عنه
۱۰۹

- ٢١٤ -
حديث كراهية الأكل في أواني الكفار وجواز أكل ما صيد بالكلب

المُعْلَم وغيره
عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ قُلتُ يا نَبِيَّ الله إِنَّا بِأَرضِ قَومٍ أهلِ كتاب أفنأكُلُ في آنيتهم وبأرض صَيد أصيدُ بِقَوسي وَبكَلبي المُعلَّم فما يَصلُحُ لي قالَ أَمَّا مَا ذَكرتَ مِن آنيَةِ أهل الكتابِ فإن وجدتُم غَيرَها فَلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وَكُلوا فيها ومَا صِدتَ بِقوسِكَ فَذَكرتَ اسم الله عَليهِ فَكُلْ وَما صِدْتَ بِكَلبِكَ غَيْرِ المُعلَّم فأدرَكتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول جواز الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إذا لم يوجد غيرها والثاني جواز أكل ما صدته بقوسك أو بكلبك المعلم إذا ذكرت اسم الله تعالى أدركت ذكاته أو لم تدركها والثالث ما صدته بكلبك غير المعلم فلا تأكل منه إلا ما أدركت ذكاته والكلام عليه من وجوه
منها التنزه عن استعمال أواني أهل الكتاب مع وجود غيرها
ومنها أنه إذا لم تجد غيرها جاز استعمالها بعد غسلها بالماء يؤخذ ذلك من أنه لم يبح له الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إلا عند الضرورة وهو عدم غيرها وأهل الضرورات لهم حكم خاص بهم وقد اختلف العلماء في الانية المتنجسة ما عدا الزجاج فإنه لا يداخله مما جعل فيه شيء فالغسل يطهره وما عداه من الأواني التي قد يختلط ما جعل فيها ببعض أجزائها مثل
1 أبو ثعلبة الخشني صحابي أحد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة وأحد الذين شهدوا فتح خيبر روى عن النبي عدة أحاديث وتوفي سنة ٧٥هـ
ذكاته ذبحه الشرعي

آنية الخشب والحنتم وما أشبههما على ثلاثة أقوال قول بأنها لا تطهر وبأنها تطهر وبالتفرقة بأن يطول مكث الإناء في الماء الزمان الطويل فتطهر وإن كان قليلا فلا تطهر
وفيه دليل على أن الحكم في الأمور للغالب عليها يؤخذ ذلك من أنه لما كان الغالب من أحوال أهل الكتاب أن النجاسة تحل في أوانيهم أعطوا حكم النجاسة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها
ويلحق بهذا في الحكم أهل البطالة وتحمل ثيابهم على النجاسة لأنها الغالبة عليهم في كثرة أحوالهم وقد عد الفقهاء هذه العلة في ثياب شارب الخمر أنه لا يصلي بها حتى تُغسل ومنها وجوب التسمية على الصيد يؤخذ ذلك من تكرارها في كل من أنواع الاصطياد وإفصاحه عليه السلام في جميع الأنواع بقوله وذكرت اسم الله

ومنها قوله بقوسي وأباح له عليه السلام أكل ما صاد به إذا ذكر اسم الله عليه أدرك ذكاته أو لم يدرك وهل هذا خاص بالقوس دون غيره من السلاح أو يُحمل جميعُ السلاح عليه فإن قلنا يتعدى الحكم بوجود العلة فجميع السلاح المُحَدَّة التي تفري وتنهر الدم يجوز ذلك بها مثل الرمح والسيف والسكين وما أشبه ذلك وقد نص على جواز ذلك أهل الفقه في كتبهم على ما هو هناك مذكور
كذلك نقول في قوله عليه السلام وما صدتَ بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاتَه فَكُلْ يتعدى الحكم إلى غير الكلب المعلم من جميع الحيوانات التي تفترس أنه إذا كانت غير معلمة وصيد بها فالحكم فيها كالحكم في الذي صيد بالكلب غير المعلم كذلك ما صيد بالآلة التي ليست بمُحَدَّة مثل الحجر والعصا وما أشبه ذلك إذا صيد بها ما يُدرك ذكاته من ذلك أكل وإلا لم يُؤكل منه
شيء
وفيه دليل على أن الحكم إذا نيط بعلة فعُدِمت ارتفع الحكم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في الكلب غير المعلم أنه لا يُؤكل ما صيد به إلا إن أدرك ذكاتُه فدل على أن التعليم في الجارح يُبيح ما صيد به وإن لم تُدرك ذكاته
وفيه دليل على أن من أحسن جوابك للسائل أن تعيد صيغة لفظه فيما سألك عنه وتجاوبه على كل نوع على حدة يؤخذ ذلك من تكرار سيدنا الا الله بلفظ ما سأله السائل عنه وجاوبه على كل نوع منها على حِدَته بقوله عليه السلام أما ما ذكرت من انية أهل الكتاب إلى آخر الحديث
1 الحتم الخزف الأسود والجرة الخضراء
0
۱۱۱

وفيه دليل على أن ما لم يتحقق نجاسته يكره استعماله من غير ضرورة ويجوز عند استعماله الضرورة بلا كراهية يؤخذ ذلك من كون سيدنا اله الا لمنع الأكل في آنية أهل الكتاب مع وجود غيرها لأن تلك الآنية التي أُكل فيها ليست النجاسة متحققة فيها بل هي مظنونة فمنع عليه السلام استعمالها مع وجود غيرها وأباحه عند الضرورة وهو عدم غيرها وفي هذا الوجه دليل لأهل الصوفة لأنهم يظنون في أنفسهم كل مكر وخديعة فلا يستعملون ما تشير به عليهم شيئاً إلا إن كان موافقاً للكتاب والسنة بعد ما يلجؤون في ذلك إلى أن نفسه رغبته في مولاهم خوفاً أن يكون تحت ذلك مكرٌ من وجه ما كما ذكر عن بعضهم الجهاد ووحدت ذلك عليه فقال لها هذا عندي محال أن يكون هذا منك على وجهه لأن الجهاد من أقرب القُرَب ما أفعل ذلك حتى أسأل الله تعالى في أمرك فسأل مولاه سبحانه أن يُطلِعَه على ما أبطنته فقيل له في النوم إنها قد سَئِمت من القيام والصيام فأرادت أن تموت في الجهاد لكي تستريح من التعب ويبقى لها حسن الثناء بعد الموت فقال لها ما لي جهاد إلا فيك ولا أزال أقتلك بالقيام والصيام حتى تموتي لأنهم سمعوا فيها قول مولاهم حيث قال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۱
فمن رحمته عزّ وجلّ بهم أن ألهمهم مخالفتها وتهمتهم لها إلا حيث جاء الأمر بالنظر إليها في وجه ما فنظرهم لها في ذلك الوجه ليس لها وإنما هو من أجل الأمر بذلك فَمِنْ أَتمَّ الشجاعة والرجولة مقاتلة العدو ومن أدب الجهاد قتال من يليك من الأعداء وأقربهم إليك نفسك وهواك ففيهما فجاهد إن كنت ذا بأس وشطارة وإلا فوصف الخنوثة بك أولى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة يوسف من الآية ٥٣

15101
حديث جواز أكل لحم الخيل
ن أسماء ۱ رَضِيَ الله عَنها قالَت ذَبحنا عَلى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً وَنَحْنُ
بالمدينة فأكلناه
ظاهر الحديث يدل على جواز أكل لحم الخيل بغير كراهية والكلام عليه من وجوه منها أن السنة في ذكاة الخيل هو الذبح لا النحر يؤخذ ذلك من قولها ذبحنا وقد جاءت رواية نحرنا فعلى هذا يجوز أكله بالذبح ويجوز بالنحر ٢
وقولها ونحن بالمدينة فيه دليل على أن ذلك كان لغير ضرورة يؤخذ ذلك من قولها فأكلناه أن ذكاته ما كانت لعلة بالفرس إنما كانت لمجرد الأكل لا غير وفي هذا دليل للشافعي رحمه الله في إجازته أكل لحوم الخيل مطلقاً والدليل معه في ذلك وأن الإمام مالك رحمه الله فلم يقع منه مخالفة للحديث فإنه لم يحرمه وإنما كرهه وذكر سبب ذلك وبيان كراهيته إلى أنها ما تستعمل ولا فائدتها غالباً إلا للجهاد فإذا كثر استعمال أكلها كان سبباً إلى قتلها وقتلها يؤول إلى نقص من الإرهاب للعدو
وفيه وجه آخر لأن أكل لحمه - على ما قيل - يقسي القلب وما يقسي القلب ينافي أوصاف أهل الإيمان فجاءت كراهيته من باب سد الذريعة التي هي أصل مذهبه ووجه آخر أن أكله في زمان النبي كان قليلاً وإن كان جائزاً فإنه لم يأت فيه إلا هذا الحديث وحديث خيبر لا غير فيما أعلم فدل على قلة استعماله فعمل هو في ذلك على العمل
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ١٠٥ النحر نحر الصدر أعلاه ونحر البعير طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر الذبح قطع الحلقوم من باطن عند النَّصِيل وهو موضع الذبح من الحلق فالنحر يكون أقرب إلى الصدر والذبح أقرب إلى
الحلق

بأن كرهه حتى يكون استعماله قليلاً كما كان في زمن النبي الا الله فجاء فيه متبعاً للسنة بطريقة
حسنة
وفي قولها نحن بالمدينة فائدة أخرى وهي أن ذلك كان بعد تمكن الإسلام وظهوره وفرض الفرائض وتحديد حدود الشريعة لأنه ما فرض من الفرائض بمكة إلا الصلاة لا غير وجميع الفروض إنما كانت بالمدينة فيما أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
نال
١٢١٤

مله
للقتل
لهشة ريا
حديث النهي عن قتل الحيوان صَبراً
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما أَنَّهُ سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يَنهى أن تُصَبَّرَ ۱ بِهِيمَة أو غَيْرُها
ظاهر الحديث يدل على منع الحيوان كله عاقلاً كان أو غير عاقل من أن يُصبر للقتل
والكلام عليه من وجوه
منها أن من السنة الرفق بجميع الحيوان عاقلا أو غير عاقل

وفيه دليل على رحمة الله تعالى بعبيده على اختلاف أجناسهم وأنواعهم يؤخذ ذلك من نهيه عن أن تصبر بهيمة للقتل أو غيرها ومما يقوي ذلك أنه جاء من قتل عصفورا عبثاً جاء العصفور يوم القيامة مستجيراً يقول يا رب سل هذا لِمَ قتلني عَبَنا ٢ وفي هذين الحديثين دليل على قهر الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لم يترك لأحد التصرف في شيء من الأشياء دقت أو جلت إلا وقد حد له كيفية التصرف فيه وأنه يحاسبه عليه دق أوجل جماداً كان أو غير جماد عاقلا أو غير عاقل وفيه دليل على عظيم عدل المولى سبحانه يؤخذ ذلك من اقتصاصه عزّ وجلّ للعصفور على دقته من العاقل الكبير إن قتله لغير منفعة أو صبره للقتل
وفيه دليل على عظيم إحاطته عزّ وجلّ بجميع مخلوقاته يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لا
1 القتل صَبراً أو التصبير حبس الإنسان أو الحيوان حتى يموت أو تثبيته وضربه حتى يموت أو تعذيبه حتى يموت ومن القتل صبراً ألوان العذاب الوحشي في السجون حيث ينتهي المعذبون بالموت رواه الإمام أحمد والنسائي والبغوي في معجمه وابن قانع وابن حبان والطبري والضياء في المختارة عن الشريد بن سويد بألفاظ مختلفة

تخفى عنه مثل هذه على دقتها ويحصيها ويعاقب عليها مصداقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حسین ۱
وفيه دليل على أن صفاته عزّ وجلّ ليس كمثلها شيء يؤخذ ذلك من كون صفة الانتقام مع صفة الرحمة معاً وفي فعل واحد لأن القتل دال على صفة الانتقام ثم في نفس فعل القتل الرحمة وهو منعه أن يصبر حيوان عاقلاً كان أو غير عاقل للقتل فرفق به في نفس العذاب والانتقام وقد قال إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ٢ وصفة المحدّث إذا وقع منه انتقام لا يرحم ولو قدر على أكثر لفعل فبان ۳ بمقتضى أحكامه سبحانه وتعالى بوحيه أو على لسان رسوله لأنه ما يحكم إلا عن الله كان بواسطة الملك بالوحي أو من تلقاء نفسه بما يلهمه الله عزّ وجلّ إليه فالكل من الله
وفي هذا دليل على أن صفاته جلّ جلاله ليس كمثلها شيء فإنه ليس كمثله شيء سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ٤ فسبحان من تبدَّى بالدليل لذوي البصائر واحتجب بعظيم قدرته مع إيضاح دلائله عن أهل الجهالة والشقاوة جعلنا الله ممن عرفه به ودله به عليه وتغمّده في الدارين برحمته بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأنبياء من الآية ٤٧
رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأوله إن الله كتب الإحسان على كل شيء وتتمة الحديث وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وَليُحِدَّ أحدكم شَفرتَه وليُرِح ذبيحته
۳ أي ظهر الدليل على رحمة الله وعدله وإحاطته
٤ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٢١٦

حديث تحريم أكل لحم الحُمُرِ الأهلية وجواز أكل لحم الخيل

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ
الحمر ورخص في لحوم الخيل

الله عَنهُما قالَ نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية والرخصة في لحوم الخيل والكلام عليه من وجوه
منها أن ترخيصه عليه السلام في لحوم الخيل يوم خيبر إنما كان من أجل الضرورة لأنه جاء من طريق آخر في هذا الحديث أنهم رضي الله عنهم لم ينحروا الخيل يوم خيبر إلا من أجل المجاعة التي لحقتهم
وفيه دليل لمالك كما قدمناه في الحديث قبل أنه وافق السنة في كراهية أكل لحوم الخيل
لأن لفظة رخص عند العذر تقتضي المنع أو الكراهية عند عدم العذر
وهنا بحث وهو أن يقال هل تحريمه لا لا لا لحوم الحمر وترخيصه في لحوم الخيل تَعَبُّد لا
يُعقل له من جهة الحكمة معنى أو تعقل الحكمة في ذلك
فأما قولنا هل تعقل الحكمة في ذلك فقال بعض العلماء إن الحكمة في تحريم الحمر الأهلية هو أن الحمر ليس في الحيوانات أبلد منها فأكل لحمها يكتسب من ذلك فلإشفاقه عليه السلام على أمته منعهم من كل ما عليهم فيه ضرر في الدنيا والآخرة كما حرم مولانا سبحانه الميتة وأحلّها بعد ثلاث ۱ فذكر بعض العلماء من الحكمة في ذلك أن الميتة فيها سُمِّيّة كثيرة فمنعنا من أكلها لأجل الضرر الذي يعود علينا من سُمّها فإذا بقي المرء ثلاثاً اشتدت سُمّيته في بدنه حتى عادت أشدّ من سُمّ الميتة فأبيح له إذا ذاك أكلها لعدم الضرر لأكلها بل يحصل له بها قوى ومنافع في إبقاء رمقه رحمة من الله تعالى بعبيده
1 أي بعد ثلاثة أيام بلياليها مع الجوع الشديد وعدم وجود ما يؤكل سواها

وفيه دليل على أنه إذا اجتمع ضرران أخذ أخفّهما يؤخذ ذلك من أنه لما كانت لحوم الحمر تكسب البلادة ولحوم الخيل تُكسب القساوة كما ذكرنا في الحديث قبل رخص في لحم الخيل
التي هي أقل ضرراً

وفي قوله يوم خيبر وجهان الواحد أنه دال على تثبته في النقل لأن ذكر الموطنين اللذين جرت بهما النازلة دال على حقيقة العلم بما أخبر به والوجه الآخر وهو كون القضية موطن مشهور بجمع كبير قد يرويه غيره فيحصل فيه تصديق له والتواتر في الحديث يزيده قوة

لأنه ينقله من كونه خبر احاد إلى التواتر وهو أعلى درجة

في
وينبغي من جهة الفقه أن يُعَدّى الحكم فحيثما قدر المرء أن يزيد إخباره على ما أخبر به قرينة حال تصدق مقالته في ذلك فعل وفيما ذكرناه دليل على لطف الله تعالى بعبيده فيما أحل لهم وفيما حرم عليهم
وفيه دليل على أنه عزّ وجلّ لا يحل ولا يحرم إلا عن حكمة وفائدة لنا عَقَلها مَن عَقَلها
وجَهلها مَن جَهلها
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن جميع خلقه وعن تعبداتهم إذ كل ذلك عائد بالنفع عليهم وهو الغني المستغني ولذلك تنعم أهل العقول والمعاملات بكل حكم يصدر عن الله تعالى لعلمهم بأن ذلك رحمة منه عزّ وجلّ إليهم لم يشكوا في ذلك فرجع لهم بقوة يقينهم التنعم بالنعماء والبلاء على حد سواء
وكذلك روي عن بعضهم أنه قال لا أبالي على أي حالة أصبحت وأمسيت إنما هي حالة شكر أو صبر وكلاهما رحمة من الله تعالى هؤلاء فهموا قوله عزّ وجلّ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لقوم يُوقِنُونَ ۳ وقول رسول الله لا والله ما يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيراً له ٤ فمن عرف عف و استراح ومن جهل تكالب وما نجح ومن طلب العز بالجهل وقع الهوان به وما عزّ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ يقصد بالموطنين المدينة وخيبر كما ذكر ذلك في الحديث ۱۵ وفي هذا الحديث المتواتر هو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أول الإسناد إلى اخره والاحاد عكس المتواتر نقله واحد عن واحد والعلماء يفرقون في وجوب العمل أو عدم وجوبه بين المتواتر وخبر الاحاد ۳ سورة المائدة من الآية ٥٠ ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه بلفظ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر وكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له
۱۱۸

حديث النهي عن أكل لحوم كل ذي ناب من السباع
عَن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيّ ١ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَكل كُلِّ ذي ناب
مِنَ السَّباع
*
ظاهر الحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي تحريم أو نهي كراهية
اختلف العلماء في ذلك فمذهب الشافعي رضي الله عنه ومن تبعه أنه نهي تحريم ومذهب مالك رحمه الله ومن تبعه أنه نهي كراهية
وهل نهيه لعلة أو تعبد الظاهر أنه لعلة لأنه لو كان تعبداً لم يكن العلماء ليختلفوا فيه

وبقي البحث في العلة فنقول والله أعلم لكونها تأكل الجيف فإنها إذا افترست فالذي تفترسه جيفة لأنه غير مذكَّى فيكون شأنها مثل البقر والإبل الجلالة التي تأكل العَذِرَةَ وقد اختلف العلماء أيضاً في أكل لحمها والحالة هذه فكرهه مالك ومن تبعه وأما رجيعها ۳ فهو نجس على المعروف وكذلك رجيع الطير المفترس نجس بلا خلاف ذكر فيه وهنا علة صوفية وهي لعزة نفسه وضرره ذلّ حتى لم يصلح أن يكون قوتاً للمؤمنين ويترتب عليه من طريق النظر من أعزّ نفسه فذلك ذل لها ومن ذلها ۳ فقد أعزها ومما يقوي هذا البحث ما جاء عنه ما من أحد من بني آدم إلا برأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع رفع
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٠٢١٤ الرَّجيع هو الجِرّة التي تجترها الإبل والغنم والبقر - وهي حيوانات مجترة - أي تخرجها من معدتها إلى فمها وهذا هو الاجترار كما أن للرجيع معنى آخر وهو الروث وليس مراداً هنا
۳ كذا يريد أذلها
۱۱۹

الملك رأسه بتلك الحَكَمة وقال له ارتفع رَفَعك الله وإن ارتفع ضرب الملك رأسه بتلك الحَكمة وقال له اتَّضِع وضَعَك الله ۱ أو كما قال عليه السلام فعلى هذا الوجه ظاهر الحكمة في جميع الحيوانات طلب التواضع بينهم وعدم ضرر بعضهم لبعض وهم داخلون تحت عموم قوله تعالى أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَى و ٢

وفيه إشارة لمن فهم لعلّه يتصف بصفة من صفات أهل الخير لأن يدخل في طريقهم
ويكتب معهم يؤخذ ذلك من عموم قوله عليه السلام كل ذي ناب من السباع فيدخل تحت ذلك الأسد والهرة والفأرة وما بينهما ومنهم ٣ القوي والضعيف

فكذلك أنت اجعل في نفسك شبهاً ما بالمُوَفِّقين لعل تلك البركة تشملك معهم مثل ما إذا نودي بإحضار التجار جيء بأصحاب الآلاف وجيء بصاحب الدينار الواحد فإن لم تكن من أصحاب الآلاف فكن صاحب الدينار الواحد لعل الواحد بفضله إذا خلع عليهم خلع القرب والرضا يخلع عليك معهم واحذر أن تتشبه بصفة من صفات أهل الشر فتكتب معهم فيلحقك وبالهم وقد جاء من تشبه بقوم فهو منهم 4 فكيف من عمل ببعض أعمالهم وقد قال تشبه بالقوم فإن التشبه بالكرام فلاح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحَكَمَة الأداة أو السلسلة التي ترتبط بالرأس ليُشدّ بها بإحكام والحديث رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما من ادمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع قيل للملك ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حَكَمَتَه
سورة الأنعام من الآية ۳۸
۳ كذا بضمير جماعة العقلاء
٤ رواه أبو داود عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن حذيفة رضي الله عنهم
۱۰

حديث جواز الانتفاع بجلود الميتة
الله عَنهُما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّئَةٍ فَقالَ
عَن عبدِ الله بنِ عَبَّاسِ عَبَّاسٍ رَضي اسْتَمَعْتُم بإهابها قالُوا إنَّها مَيِّئَة فَقالَ إِنَّما حَرُمَ أَكلُها
ظاهر الحديث يدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة والكلام عليه من وجوه
منها في كيفية الانتفاع به هل ذلك عام في جميع وجوه الانتفاع أو انتفاع خاص فالعموم في الانتفاع من كل الوجوه ممنوع لأن من جملة الانتفاع بيعه وأكل ثمنه ولم يجيزوه ومنها الصلاة عليه وفيه ولم يجيزوه ومنها جعل الطعام فيه ولم يجيزوه لأنه يعود فعله لأكل الميتة فإن الطعام إذا جعل فيه تنجس به وإنما يكون انتفاعاً خاصاً من حيث لا تلحق منه نجاسة في شيء من الأشياء ولا مخالطة في طعام بوجه من الوجوه
وفيه دليل على تحريم أكل الميتة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم أكلها وفيه دليل على أن ألفاظ العموم إذا ورد الأمر بها تحمل على عمومها ولا تخصص إلا بمخصص من الشارع عليه السلام يؤخذ ذلك من أنه لما أن حرمت علينا الميتة فماتت تلك الشاة التي راها سيدنا استعمل أصحابها عموم الأمر بالعموم فرموها بإهابها وصوفها وكل أجزائها فخصص عموم الأمر بقوله عليه السلام إنما حرم أكلها
أكلها
وفيه دليل على أن عموم القرآن يخصص بالسنة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم
وفيه دليل على جواز مراجعة الآمر إذا أمر ولم يفهم السامع ما قصد بالأمر وبقي عليه في

بعضه التباس يؤخذ ذلك من قولهم بعدما قال لهم الله هلا انتفعتم بإها بها إنها ميتة كأنهم
۱ كذا ورواية الحديث اسْتَمْتَعْتُم بدون هلا

يقولون يا رسول الله تأمرنا بالانتفاع بإهابها وقد حرمتها علينا بأمر الله لك وهذه الشاة ميتة فكيف يكون ذلك
وفيما ذكرنا من معنى مراجعتهم دليل على حسن اختصارهم في الخطاب وبلاغتهم في
المعنى يؤخذ ذلك من كونهم جمعوا تلك الألفاظ فكلها في متضمن قولهم إنها ميتة وفيه دليل على أن الصفقة إذا خالطها حلال وحرام فإن كل واحد منهما يعطى حكمه لأن العلماء اختلفوا في صفقة إذا اختلط فيها حلال وحرام فمنهم من قال إنها كلها حرام ومنهم من قال إنها كلها حلال ومنهم من قال إن قدر ما فيها من الحرام حرام وقدر ما فيها من حلال حلال لأن الخلطة لا تنقل حكماً من الأحكام إلا في الخليطين في الماشية على خلاف أيضاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هلا انتفعتم ۱ بإهابها وقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فجعل للحم حكماً وهو التحريم وللجلد حكماً وهو التحليل والشاة واحدة
وفيه دليل على أن الأحكام الشرعية لا يكون تقريرها إلا بعد نفي كل المحتملات يؤخذ ذلك من جوابهم الرسول الله بعد رؤيته الشاة الميتة ولا يخفى حالها على أحد أنها ميتة فكيف على من كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه لكن من أجل استقرار الحكم بطريق الاحتمال أن يكون قوله عليه السلام هلا انتفعتم بإهابها من طريق الاستفهام لهم كيف معرفتهم بحكم الله تعالى في الميتة جاوبوه بقولهم إنها ميتة لينظروا ما قصده بتلك
المخاطبة
وفيه دليل على أن من النبل أن يكون جواب المرء عما سئل عنه على قدر ما يعلم فيه لا يتعانى خلاف ذلك بزيادة أو نقص يؤخذ ذلك من جوابهم لسيدنا و بما سبق لهم من العلم في أمر الميتة لا غير
وهنا بحث وهو أن يقال هل أمره و ب الانتفاع بإهابها يطهره أو هو باق على نجاسته لفظ الحديث لا يفهم منه شيء من هذا لكن من حديث غيره يفهم أنه باق على نجاسته وهو قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر فإذا لم يدبغ فهو باق على نجاسته
وبحث ثان وهو أن يقال هل لنا أن نعدي الحكم بالانتفاع بغير ذلك من أجزائها لقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فيما عدا الأكل أم لا
۱ كذا
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما

1 20

فالجواب على البحث هل يجوز لنا الانتفاع بباقي أجزائها مثل الإهاب أم لا فأمره له
بالانتفاع بإهابها لا يتعدى الانتفاع من أجل ذلك إلى غيره من أجزائها لأحد وجهين الأول منهما لأن الحظر والإباحة والتحريم والتحليل لا يكون إلا على نحو ما نص عليه لا يتعدى ذلك بالقياس إلا في المواضع التي لا لا لا لا لا لا هو الحكم بعلة نصاً منه عليه السلام أو مشاراً إليها على نحو ما تكلم الفقهاء في أنواع العلة الشرعية وتعداد أنواعها على ما هو مذكور في كتبهم وما لا يفهم له علة فيقتصر الحكم فيه على ما نطق و الله به في مثل هذا الموضع وما
أشبهه
والوجه الآخر لأن هذا المنه الا الله الرخصة لأمته والرخص لا يقاس عليها ولا يتعدى محلها ونص بعض الفقهاء أنه إذا كان للمرء ميتة وله علج أو كلب لصيد أو ما يجوز اقتناؤه أنه لا يعطيه الميتة ولا يأمر العلج بأكلها فإن ذلك من جملة أنواع الانتفاع بها وإنما يمرر العلج أو الكلب على موضع الجيفة فإن هما تصرَّفا فيها من تلقاء أنفسهما فلا بأس وإلا فلا يرشدهما إلى ذلك ولا يأمرهما به
وأما الجواب على البحث الذي معنا هل نقيس على الإهاب غيره من أنواع النجاسات أم لا فالجواب عليه كالجواب على البحث قبل وأيضاً فلا قائل بذلك من الفقهاء وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث الأمر بطرح الطعام المتنجس
عَن مَيمونة ١ رَضي الله عنها أنَّ فارَةً وَقَعت في سَمْنٍ فَمَاتَت فَسُئِل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنها فَقالَ أَلقُوها وَما حَولَها وَكُلُوهُ
**
ظاهر الحديث يدل على تنجيس الموضع الذي ماتت فيه الفأرة من السمن وطرحه معها والكلام عليه من وجوه

منها أن يقال هل يتعدى الحكم في كل الأطعمة وفي كل الميتات من جميع الحيوان وكذلك ما عداهم من جميع النجاسات وهل يكون حكم الجامد من الطعام كحكم المائع وهل يكون طول مقام الشيء النجس من جيفة أو غيرها في الطعام الذي وقعت فيه بالسواء من قرب الزمان في ذلك أو بعده وهل يجوز الانتفاع به فيما دون الأكل وهل يمكن تطهير ما وقعت فيه من طعام أم لا
أما قولنا هل يتعدى الحكم إلى جميع الطعام ما عدا السمن أم لا فقد عَدَّى ذلك الفقهاء لوجود العلة وهي تنجيس موضع حلول الميتة ولا فرق أن يكون سمناً أو غيره إذا كان طعاماً جامدا فإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون ماء أو غيره فإن كان ماءً فلا يخلو أن يكون جارياً أو راكداً وتفصيل هذا في كتب الفروع وأما إن كان طعاماً مائعاً فهو نجس
وأما قولنا هل ذلك في كل الميتات في أي نوع كانت من الحيوانات فالجواب أنه لا فرق بين موت الفأرة في ذلك أو غيرها من جميع الحيوان الذي له نفس سائلة ولايؤكل إلا بذكاة لوجود العلة فيه وهي كونه جيفة وأما ما عدا الميتة من أي نوع كانت - كما ذكرنا قبل من أنواع
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ۱۹۸
٢ كذا بضمير جماعة العقلاء
١٢٢٤

النجاسات - فلا فرق بينها وبين الميتة إذا كانت جامدة باردة في جميع أحكامها فإن كانت سائلة باردة أو حارة فتنويع الحكم فيها في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل حكم الجامد من الطعام الذي وقعت فيه الميتة كحكم المائع فالجواب أنه ليس حكم الجامد كالمائع فإن المائع من حين وقوع الميتة فيه أو الشيء النجس يتنجس جميعه فيطرح جميعه ما عدا الماء فيه تقسيم كما هو في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل طول مكث الميتة سواء مع قربه أو بعده فقد اختلف العلماء في ذلك وليس في الحديث من أين يستدل عليه بل هي نظرية فمن العلماء من جعل الحكم واحداً ومنهم من قال إذا طال مكثها في الطعام طرح جميعه ومنهم من فرق في ذلك بحسب الأزمنة فإن كان زمان الحر طرحت وجميع الطعام وإن كان زمان البرد طرحت وما حولها ومنهم من فرّق بين كبر الإناء الذي وقعت فيه من صغره وفي طول الزمان الذي يطلق عليه هذا الحكم مع صغر الدابة وكبرها وذلك كله مستوعب في كتب الفقه وهذا البحث في الطعام الجامد وأما المائع فكما تقدم الكلام فيه وحكم النجاسة كما ذكرنا في الميتة سواء
وأما قولنا هل يجوز الانتفاع بالشيء الذي وقعت فيه الميتة أو الشيء النجس من الطعام فظاهر الحديث محتمل لكن الأظهر عدم الانتفاع - والله أعلم - وفي ذلك بين العلماء خلاف وهذه
أيضاً نظرية
وأما قولنا هل يصح تطهير ما وقعت فيه الميتة من الطعام فالجواب أنه لا يخلو أن يكون دهناً أو غيره فإن كان دهناً ففي تطهيره بين العلماء خلاف وهي مسألة نظرية أيضاً وما عدا الدهن من الطعام الجامد فلا يخلو أن يكون مطبوخاً أو مملحاً أو على غير هذين النوعين فللعلماء فيه ثلاثة أقوال بتطهيره وعدمه
والثالث هو أن يكون قد استوى في توفية طبخه ونضجه في الملح ولم يقبل زيادة في ذلك فإن كان استوى فإنه يغسل ويؤكل فإنما تنجس ظاهره ولم تدخل النجاسة باطنه وإن كان لم يستو نضجه فلا يتطهر ويطرح فإن النجاسة دخلت باطنه لأنه يجذب من الخارج إلى الباطن والذين قالوا بغسله وتطهيره يقولون إنه يغسل أولاً بماء حار ثم ثانية ببارد ثم ثالثة بحار ثم ببارد فإن كان على غير هذه الصفة فلا يطهر وأما ما عدا هذين النوعين فكما هو مذكور في كتب الفقه وفيه دليل على ألا يتصرف إلا بعلم يؤخذ ذلك من كونهم لم يتصرفوا في السمن ولا في نزع الفأرة منه إلا بعدما سألوا رسول الله الله وهو عليه السلام الأصل وقد اختلف العلماء فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أو مأثوماً على ثلاثة أقوال وقد ذكرناها في أول الكتاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٢٥

حديث بيان وقت ذبح الأضحية
عَنِ البراء ۱ بن عازب رضي الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بِهِ في يَومِنا هَذا أن نُصلّي ثُمَّ نَرجِعَ فَتَنحرَ مَن فَعلَهُ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا وَمَن ذَبَح قَبلُ فإنَّما هُوَ لَحم قَدَّمَهُ لأهله لَيسَ مِنَ النُّسُكِ في شيءٍ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة في يوم الأضحى تقديم الصلاة قبل الذبح ومن ذبح قبل الصلاة فإنه لحم ليس بنسك والكلام عليه من وجوه
منها التأكيد في صلاة العيد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي فجعلها عليه السلام مفتاح الأعمال في ذلك اليوم وهل هي فرض أو سنة قولان للعلماء في ذلك
ومنها التأكيد في شأن الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعد ما قال نصلي ثم نرجع فنتحر ثم زادها عليه السلام تأكيداً بقوله من فعله فقد أصاب سنتنا وقد اختلف العلماء هل هي فرض أو سنة على قولين والذي قال منهم بأنها سنة هي عنده من اكد السنن ويزيد ذلك تأكيداً قوله عليه السلام في حديث غيره ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أعظم من إراقة
دم
وفيه دليل على أن النية وإن كانت حسنة والعمل الذي يعمل بها لا يصحان إلا إذا كانا
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦٦ و ۹
رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ما عمل ادمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً
١٢٢٦

موافقين للسان العلم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد ۱ وقوله عليه السلام إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل يا رسول الله وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة فتخليصه من الرياء أن يكون لله خالصاً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ ۳ وتخليصه من البدعة أن يكون على نحو ما أمر به لقوله تعالى قل إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤
وفيه دليل على أن اتباع الصحابة رضي الله عنهم هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام لم يترك لهم شيئاً من الأعمال إلا بيَّنَهُ لهم وحملهم فيه على سنته الواضحة مثل هذا الحديث وما يشبهه
ومما يؤيد هذا قوله أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ٥ وقد قال العلماء رضي الله عنهم مثل يمن بن رزق وغيره وأنا أوصيك باتباع السنة في عملك واكد من ذلك اتباع السلف فإنهم أعرف بالسنة منا وقد قال مالك رضي الله عنه إذا كان حديثان ووجدنا الخلفاء أو الصحابة عملوا بأحدهما دل على أن الآخر منسوخ وإن لم يعرف النسخ وإذا كان للحديث معنيان وعملوا بأحدهما دل على أن ذلك هو الحكم في ذلك الحديث وأنه الظاهر من ذينك الوجهين 4 وفيه دليل على جواز أكل اللحم في يوم العيد ما عدا لحم الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإنما هو لحم قدّمه لأهله فأجازه عليه السلام ولم يمنعه
وفيه دليل على أن نفس الأضحية عبادة يؤخذ ذلك من تسميتها نسكاً بقوله عليه السلام ليس من النسك في شيء في الذي ذبح قبل الصلاة فدل على أن الذي ذبح بعد الصلاة هو نسك والنسك هو ما يتعبد به
وفيه دليل على أن مخالف السنة في تعبده لا يكون له فيه من الأجر شيء وقد جاء أن النفقة
۱ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى روى البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي الله قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وفي رواية لابن النجار عن عائشة أن يحكمه
۳ سورة البينة الآية ٥ ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
٥ رواه البزار وابن عدي وابن عبد البر في كتاب بيان العلم والدارقطني في غرائب مالك وقال اللكنوي في تحفة الأخبار طرق روايته ضعيفة ولا يلزم وصفها بكونه موضوعاً مما لا دليل عليه نعم يرتقي إلى درجة الحسن
بأسانيده المتنوعة

على العيال مما يؤجر عليها وهي من جميع ما يُتنسَّك به أي يتعبد به وقد قال إذا أنفق الرجل على عياله يحتسبها فإنها صدقة ۱ وفي هذا الموطن لمنع و أن يكون في هذه الشاة التي ذبحت قبل الصلاة نسبة من التعبد بالكلية
فإن اعترض معترض وقال إنما على الله الله هنا بقوله ليس من النسك في شيء فإنما عنى
بذلك الأضحية وبقي الأجر في النفقة على ما هو عليه فالجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه ولو أرادة و ذلك لكان يقول ليس من الأضحية في شيء لأنه أخص الأسماء بها فإن هذا الاسم لا يشرك به مع غيرها ولفظه النسك يدخل في متضمن الأضحية وغيرها من وجوه القرب المتعبد بها فرضاً كانت أو ندباً وهو لا لا اله الذي أعطي الحِكَمَ وجَمْعَ الكلام فكيف يترك ما هو نص ويأخذ ما هو محتمل إلا بحكمة أخرى وهي ما أشرنا إليه
والوجه الآخر أن إطعامه اليوم عياله هذا اللحم على مخالفه السنة وقد تقدم قولنا إن العمل إذا خالف السنة لا يقبل
ولوجه ثالث فإن معنى الحديث جاء على معنى التأكيد على اتباع السنة في هذا اليوم وبيان الكيفية في ذلك فمخالفه لا يكون له من الأجر شيء
وفيه دليل على جواز تأخير الذبح في يوم النحر عن وقت الصلاة يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع لأنه عليه السلام أتى بـثم التي تقتضي المهلة
وفيه دليل على استغناء المولى سبحانه عن عبادة العابدين ويؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ شرع بمقتضى هذا الحديث ذبح الأضحية وهي مما للنفس فيها شهوة وراحة لأنك تأكل وتدخر وأنت في الصدقة منها بالخيار إن تصدقت أجرت أجراً آخر وإن لم تتصدق لم تأثم وثبت لك أجر الأضحية بنفس الذبح والأكل زيادة راحة لك
وفيه دليل على عظيم لطفه عزّ وجلّ بعبيده ورحمته لهم يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ أمرهم بذبح الأضحية كما تقدم الكلام فيه وجعلها في هذا اليوم من أعظم القرب إليه ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام فإن دماءها وشعرها وقرونها وأظلافها وبولها ورجيعها في ميزان حسناتكم يوم القيامة وقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وفيه دليل عظيم على ما أعطي الله من حسن البلاغة يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام في
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه

الحديث الواحد والحكم الواحد بين النحر والذبح لأنه لو ذكر هو أحد الوجهين إما النحر وإما الذبح لكان دليلا على ترجيحه على الآخر فلما ذكرهما معاً على جوازهما بحسن عبارة واختصار صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله ومنه وكرمه آمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۹

مَكَّةَ وَهِيَ
حديث جواز تأخير الطواف في الحج لعذر
عَن عائشةَ رَضِيَ الله عَنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَليها وَحَاضَت بِسَرِفَ ۱ قَبلَ أَن تَدخُلَ وَهِيَ تَبكي فَقال ما لكِ أنَفِست قالت نَعَم قالَ إِنَّ هذا أمر كَتَبَهُ الله على بناتِ آدم فاقضي ما يقضي الحاج غَيرَ أن لا تطوفي بالبَيتِ فَلمَّا كُنَّا بِمنى أُتيتُ بِلَحمِ فَقُلتُ ما هذا قالوا ضَحَّى رَسُولُ الله عَن أزواجه بالبقرِ
بقر
ظاهر الحديث يدل على أن الحائض تفعل جميع أفعال الحج كلها إلا الطواف بالبيت فإنها لا تفعله إلا بعد أن تطهر والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً على أن الطهارة في أركان الحج كلها كبرى كانت أو صغرى ليست بفرض إلا الطواف بالبيت فلا يجوز إلا بطهارة وهي واجبة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا كانت بالحَدَث الأكبر تفعله فمن باب أحرى بغيره
وفيه دليل على فضل هذه السيدة يؤخذ ذلك من بكائها خيفة أن يفوتها الحج وذلك بعذر رباني لا كسب لها فيه فلولا ما كان همها كله في الدين ما كانت تبكي على هذا وهي فيه عند الله معذورة وكذلك كان شأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما كانت همتهم إلا في حسن دينهم وكذلك شأن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ولذلك قال لا لا طوبى لمن جعل همه هماً واحداً ۳ أو كما قال عليه السلام وهو هَمّ الدِّين
۱ سَرِف مكان قريب من مكة المكرمة على بعد عدة كيلومترات ويقع في طريق الذاهب إلى المدينة المنورة نَفَست المرأة ولدت أو حاضَت ۳ رواه الحاكم والبيهقي وصححه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ من جعل الهم همّاً واحداً كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك

وفيه دليل على أن يحكم على الشخص بما يعلم من حاله يؤخذ ذلك من كون سيدنا لما يعلم من دين هذه السيدة لما راها تبكي علم أنه من أجل الدين ولا شيء في الوقت يمكن أن يُبكيها إلا النفاس فاستفسرها على ما ظنه منها بقوله عليه السلام لعلك نَفِسْتِ ۱
وفيه دليل على أن حال الشخص وإن علم ما هو فلا يحكم عليه بالقطع وفيما يظن به حتى يستفسر عن ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملك نفستِ بعدما ظن ذلك لما يعلم
منها
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن المنتهي في السلوك يكون حاله مع مولاه مثل الصبي مع أمه كل شيء را به بكى عليها لا يعرف غيرها وذلك دأبه معها يؤخذ ذلك من أنها لما جاءها ما أهمها من أمرها بكت على مولاها ولم تذكر من ذلك للنبي شيئاً حتى سألها وفيه دليل على بركتها وبركة بيتها كما قال أسيد بن الحضير ۳ عند نزول اية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل بكم شيء إلا جعل الله فيه للمسلمين فَرَجاً ومخرجاً أو كما قال فلما أهمها ما جاءها جعل الله فيه للمسلمين فرَجاً بأن سن ا للمسلمين أن المرأة إذا حاضت لا
يتعذر عليها من أفعال حجها شيء إلا الطواف بالبيت ثم لا يفوتها لأنها إذا طهرت فعلته بعد
وفيه دليل لأهل الصوفة لأنهم يقولون من بكى صادقاً شفعت فيه دموعه يؤخذ ذلك مما جاءها إثر بكائها من الفرج لها وللمؤمنين مما تقرر في حكم الحائض في هذا الحديث وقد قال بعض أهل الطريق في هذا المعنى
بالباب يبكون والبكاء إذا كان خَلِيّاً من النفاق
نفع
تَشفَع فيهم دموعُهم وإذا شُفع دمعُ المتيمين شَفَع
فبينما هم حيارى من اليأس والطمع سكارى من شراب الخوف والجزع إذ بزغ لهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع وألبسوا من ملابس الأنس والبسط خلع رَقمُ العَلَمِ الأيمنِ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى ۳ ورَقمِ العَلَمِ الأيسر لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ ٤ وفيه دليل على تصبّر المصاب بحرمان القدر يؤخذ ذلك من القول له له له لها هذا أمر كتبه الله على بنات آدم تعزية لها لما أصابها من الحزن على ما توقعت فواته من أمر حجها
1 كذا والرواية انفست تقدمت ترجمته في الحديث ۱۱۹ ۳ سورة الأنبياء من الاية ۱۰۱ ٤ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۳
۱۳۱

وفيه دليل على جواز الأضحية عن أهل الرجل يؤخذ ذلك من قولهم ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر
وفيه دليل على جواز الأضحية بالبقر وإن كان غيرها أفضل منها في الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي ضحى بها عن أزواجه صلوات الله عليه ورضي عنهن وفي قولها حين أُتِيَ لها باللحلم ما هذا أن السنة ألا يأخذ أحد شيئاً ولا يأكله حتى يسأل عنه فظاهر هذا الحديث يدل على جواز الأضحية بمنى وليس الأمر على ظاهره بل هو محمول عند العلماء على الهدي وإنما ذكر الراوي الأضحية لكونها نسكاً لأنه ليس بمنى أضحية وإنما سنتهم الهدي وسنة غيرهم الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي الله وضحى هناك عن أزواجه
بالبقر
وهنا بحث كيف ضحى رسول الله له بالبقر وهناك أفضل فعلى مذهب مالك رحمه الله ومن تبعه الضأن أفضل وعلى مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه الإبل أفضل فترك الأفضل من الوجهين معاً والجواب - والله أعلم - أنه ضحى بالبقر عنهنّ صلوات الله عليهم أجمعين لوجوه منها
أن يكن هنَّ أنفسهن قد أهدين عن أنفسهن فيكون ذلك خيراً لهنَّ لكونه قد أهدى عن نفسه المكرمة في تلك الحجة بمائة من الإبل فكثر لهن خير الآخرة كما كثر لنفسه المكرمة واحتمل أن يكون لا اله الا انه فعل ذلك عمّن مات منهنّ قبل الحج
واحتمل أن يكون الا الله و أراد تقرير الحكم بأن الأضحية بالبقر جائزة وأن غيرها في الأضحية أفضل وبين ذلك بفعله لأنه أثبت في الحكم ولذلك لم يفعله عن نفسه المكرمة من أجل أن يكون دليلاً على الأفضلية لأنه كان و لا الهلال في خاصة نفسه المكرمة لا يفعل إلا الأفضل
واحتمل أن يكون قصد بذلك التوسعة على أمته من أجل أن يكون من ليس له إلا البقر فإذا ضحى بها فقد وافق السنة وقد يكون جاهلاً فيضحي بمنى لا يعلم أن سنتهم الهَدْي وهو الغالب اليوم على الناس فيكون قد وافق السنة واحتمل مجموع ما تأولناه والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث وصيته له لأمته
عَن أبي بكرة رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِن الزَّمانَ قَدِ استدارَ كَهِيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهراً مِنها أربعَةٌ حُرُم ثَلاثٌ مُتواليات ذو القعدة وذو الحِجَّة وَالمُحَرَّم وَرجبُ مُضَرَ الَّذي بينَ جُمادى وَشَعبان أَيُّ شَهرٍ هَذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أَعلَمُ فَسكتَ حَتَّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغيرِ اسمِهِ قالَ أَلَيسَ ذَا الحِجَّة قلنا بلى قالَ أي بلد هذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَت حَتّى ظَنَنا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ أيُّ اسمِهِ قَالَ أَلَيسَ البَلْدَةَ قُلنا بلى قالَ فأَيُّ يَوم هَذا قلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَتَ حَتّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغير اسمِهِ قالَ أليس يوم النحر قلنا بلى
قال فإنَّ دماءَكُم وأموالكم - قال محمد ۳ وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يَضرِب بعضُكم رقابَ بعض ألا لِيُبلّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبلُغُهُ أن يكون أوعى له من بعض مَن سَمِعه ثم قال ألا هل بلغتُ
مرتين

ظاهر الحديث يدل على تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض
والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه - أعني التحريم - أم لا فأما أن يكون على العموم من لا
كل الجهات فلا بدليل الكتاب والسنة
1 أبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث تقدمت ترجمته في الحديث ٤٥
هو محمد بن سيرين أحد رجال سند هذا الحديث كما ذكر ابن حجر في فتح الباري ۷۱۱/۷
۱۳۳

أما الكتاب فقوله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِم ﴾ ١ فلا يذكر أحد من المسلمين أخاه المسلم بسوء إلا من ظلم ظلامة فله أن يذكر السوء الذي فُعِل معه لكن بقدر ما عدا عليه فإنه إن زاد على ذلك عاد ظالماً ثانياً والله عزّ وجلّ يقول ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ وأما السنة فقد قال له لا غيبة في فاسق ۳ ولها شروط منها أن يكون متظاهراً بفسقه أن يشهر عنه فلا غيبة فيه إذ ذاك ومن العلماء من قال إنما يكون ذلك أن تذكر حال فسقه عند من يقدر أن يغيّره عليه أو تستعين عليه في ذلك أو تحذره منه فأما إن كان لغير هذه الوجوه فممنوع وتأولوا الحديث بأن قالوا معناه ولا تغتب فاسقاً
يحب
وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ٤ فإذا أخذ واحد منها بحقه فلا يتناوله التحريم وقد قال لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ٥ فإن كان عن طيب نفس منه فلا يتناوله التحريم والآي والأحاديث في هذا كثيرة فما بقي أن يكون التحريم إلا خاصاً فهو إذا لم يكن عليه حق من وجه من الوجوه
يا هذا قد ثَبَتَتْ لك حُرمَة فإن أفقت زادت لك الحرمة حرمة أخرى وهي قوله عزّ وجلّ من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة وأنا أسرع إلى نصر عبدي المؤمن ٦ وزادها تأكيداً بقوله

تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ۷ فإن أَتْبَعتَ النفس هواها أذهبتَ ما لَكَ من الحرمة وعاد مكانها محنة أعاذنا الله من ذلك بمنه وقد ورد رُبَّ مُكرِم لنفسه وهو لها مُهين ومُهينٍ النفسه وهو لها مكرم وقد جاء عن النبي لا لا لا لا لا أنه كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار من شدة الجوع والمجاهدة ثم يقول ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ۸
1 سورة النساء من الآية ١٤٨
سورة البقرة من الآية ١٩٤
۳ لا أصل له بهذا اللفظ قاله في المقاصد عن العقيلي
٤ متواتر عن أنس وأبي هريرة وغيرهما
٥ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن يثربي بلفظ لا يحل لامرىء من مال أخيه شيء إلا بطيب
نفس منه
٦ رواه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ۱۰/۸ و ٤٧٧ و ٤٤٠/٩ وابن الجوزي في العلل المتناهية وابن عدي في الكامل في الضعفاء ۵/ ۱۹۳۹ والألباني في السلسلة الصحيحة ١٦٤٠ بلفظ بارزني بدلاً من اذنني ۷ سورة الروم من الآية ٤٧
^
قطعة
من
حديث رواه ابن سعد في الطبقات والبيهقي في الشعب عن أبي البجير ومطلعه أصاب يوماً النبي صلى الله عليه وسلم
١٢٣٤

وفيه دليل على أن تسمية الشهور وعددها هو بمقتضى الحكم الرباني لا عرفي ولا لغوي يؤخذ ذلك من قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض إلى قوله وشعبان
و معنى قوله قد استدار أي استقر الأمر فيه ورجع مثل ما كان يوم خلق السموات والأرض لأن العرب كانوا يحجون في كل عام شهراً ثم ينقلونه إلى شهر ثان ففرض الحج وكان الحج في تلك السنة على ما ذكرنا من عادتهم في ذي القعدة فأقام الحج بالناس في تلك السنة أبو بكر رضي الله عنه بأمر النبي الا الله فلما كان في سنة عشرة من الهجرة - وهي التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - دار الحج على عادتهم إلى ذي الحجة وهو الشهر الذي جعل الله فيه الحج يوم خلق السماوات والأرض وفيه حَجّ إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام فلذلك قال عليه السلام قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أي على وضعه الذي اقتضته الحكمة الربانية عند خلق السماوات والأرض
وفيه دليل على أن دوران الأشهر يسمى زماناً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الزمان قد استدار وهي الأشهر كما ذكرنا وقوله عليه السلام حُرُم أي جعل لها حرمة ليست لغيرها وفائدة الإخبار لنا بتلك الحرمة أن نحترمها بتعميرها بالطاعات وترك المخالفات يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَح

وهنا بحث وهو أن يقال ما الحكمة في أن جعلت على هذا الوضع مفرقة تفريقاً مختلفاً في الموضع وجعلت في آخر السنة أكثر من أول السنة هل هذان البحثان تعبّد لا يعقل لهما معنى أولهما معنى معقول من جهة الحكمة فإن قلنا تعبد فلا بحث وما ندبنا إلا للبحث والاعتبار وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم في البحث الأول وهو كون رمضان لم يسم بهذه التسمية وفيه من الخير العظيم ما هو فيه بحيث لا يخفى وما جاء فيه من الأجر قد عرف ولو لم يكن فيه إلا قوله من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما بينه وما بين رمضان ۳ وكون أول ليلة منه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين ٤
T

جوع فوضع على بطنه حجراً ثم قال ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة إلخ
۱ سورة التوبة من الآية ٣٦ ٢ أي تسمية الأشهر الحرم
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس في الحديث غفر له ما بينه وبين رمضان ٤ رواه الشيخان بلفظ إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار إلخ وفيه وصفدت
الشياطين
١٢٣٥

وذلك أن الفرق بينهم 1 حرمة رمضان من أجل العمل الخاص به وهو الصوم وحرمة هؤلاء منة من الله تعالى وتفضل بغير شيء يوجب ذلك والله عزّ وجلّ يتفضل على من يشاء من عباده حيواناً كان أو جماداً بسبب أو بغير سبب لحكمة أو غيرها لا يعلمها إلا هو عزّ وجلّ لكن إن اتبعتها بمقتضى أدلة الشرع تجدها رحمة لنا وتفضلاً علينا لأنك تجد كل شيء فضّله المولى سبحانه من الزمان والمكان والقول والجماد أو أي شيء كان من جميع المخلوقات تجد الفائدة في ذلك تعود علينا وهو الغني المستغني ومما يؤكد هذا قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي و الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢

ومنها ما جاء بتضعيف الأجر بنص الشارع عليه السلام في الأعمال التي في الأزمنة المعظمة والأمكنة المحترمة والجمادات المباركة فالنص في كل واحد منها مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يشهد يوم القيامة لمن يستلمه ۳ ومثل صوم يوم عاشوراء يكفر السنة 4 إلى غير ذلك إذا تتبعته تجد الخير كله في ذلك بفضل الله علينا جعلنا الله ممن سعد بذلك في الدارين عنه
وأما الجواب عن البحث الثاني فهو كونه عزّ وجلّ وضعها على هذا الوضع فأما من طريق حكمة النظام فإن الأفخر من الأشياء يُزَيَّن به أولُ النظام ووسطه وآخره فلما نظمت القدرة درَرَ الأشهر في سلك الاجتماع جعلت استفتاح النظام بشهر حرام ووسطه بشهر حرام - وهو رجب ثم ثالثهما في مناظرة الحسن شهر رمضان وفصل بينهما بدرَّة شهر شعبان الذي فيه فهم سيدنا نظم القدرة في الأشهر فزاد وسطها حسناً بترفيع شعبان بكثرة الصوم فيه لقول عائشة رضي عنها ما رأيت رسول الله الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ولا رأيت أكثر صوماً منه في شعبان ٥ حتى أضيف الشهر إليه عليه السلام فقيل شهر نبيكم شعبان فجاءت حرمته
الله
محمدية وسط حرمتين ربانيتين شعبان شهر محمّد عليه السلام ورجب ورمضان شهران ربانیان فحسن النظام واستنار وكذلك كانت سابقة الإرادة فيه ولم يظهر لنا إلا عند بروزها في الوجود وفي ذلك دلالة على علو قدره الا الله لأنه ما نجد شيئاً رفعته القدرة إلا ومن جنسه ما رفعته السنة المحمدية حتى يكون له عليه السلام خصوص في أبرع حال من جميع الترفيعات وختم اخر نظام السنة بشهرين حرامين
1 أي بين رمضان والأشهر الحرم والصواب بينها
سورة الجاثية الآية ١٣
۳ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه الحاكم وصححه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية ٥ رواه الشيخان وللحديث ألفاظ وروايات كثيرة
١٢٣٦

وفي تفضيل آخر السنة بأن كان فيه شهران حرامان وجوه من الحكمة منها أن الختام له أبداً
علم زائد بمقتضى الحكمة الربانية قال تعالى ختَمُهُ مِسْكَ ۱ وقال عليه السلام الأعمال بخواتمها ٢ فإذا حسنت الخاتمة حسن الكل وزاد حسناً على حسن وإن كان الكل حسناً فزيادة حسن الآخر إبلاغ في الحسن وإشارة الترفيعه لما أن كان عليه السلام خاتم الأنبياء - وهو سيدهم - جعل نظام الأشياء على شبه نظام أشخاص الأنبياء عليهم السلام ترتيباً متناسباً حكمة عظيمة أبدع فيما أحكم وأحكم فيما أبدع
وفيه إشارة إلى اللطف منه جلّ جلاله بعباده لأنه من غفل أو كان له عذر في السنة كلها جعل له في اخرها تكثير في عدد ذوي الحرمة لعله يحصل له حرمة فيا الله ما أحسن نظمه سبحانه وأكثر فضله وأتم على من غفل عن نعمته !
وفي قوله أي شهر وأي بلد وأي يوم وجوه من الفقه والأدب والحكمة فمنها أن اجتماع من له حرمة تأكيد في الحرمة وأنه لا تسقط حرمة أحد حرمة غيره يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام بعد ما ۳ بين تأكيد حرمة الدماء وما ذكر معها فدل على تأكيد حرمة اجتماع حرمة الشهر والبلد واليوم فأبقى لكل ذي حرمة حرمته في الزمن الفرد
من
وفيه من الأدب أن السيد إذا سأل أو العالم إذا سأل عما قد علم يُرَدّ الأمر في ذلك إليه لأنه لا يسأل عن ذلك عبثاً وإنما يسأل لحكمة لا يعلمها المسؤول يؤخذ ذلك من قول الصحابة الله عنهم الله ورسوله أعلم وهم عالمون بما سألهم عنه فظهرت بعدُ الحكمةُ التي أجلها سألهم عن ذلك - وهي تأكيد الحرمة - بخلاف ما إذا سأل عن شيء يجهله كثير من الناس فمن النبل إصابة المقصود والإفصاح به مثل قوله أي شيء من الشجر يشبه المؤمن فوقع الناس في شجر البادية قال عبد الله بن عمر فوقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة فقلت بعد ذلك لأبي وقع في نفسي أنها النخلة فقال عمر وَدِدتُ لو قلتها ٤ لأن المقصود من هذا الاختبار جودة الخواطر وحدة القرائح فإذا جاوب بما يصلح في ذلك سرّ به السائل ومن أجل ذلك قال عمر لابنه تلك المقالة لأنه إذا قال ما يعجب رسول الله الا الله النعمة الكبرى وقد يحصل له منه دعوة حسنة فيزداد الخير خيراً
فهي
۱ سورة المطففين من الآية ٦
رواه البخاري عن سهل بن سعد ضمن حديث فيه قصة ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ الله عنها بلفظ إنما الأعمال بالخواتيم
۳ ما زائدة ٤ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
۱۳۷

وفيه من الحكمة أن يمثل ما لا يعرف قدره بما يعرف قدره حتى يحصل للسامع معرفة الفائدة التي قصد أن يفهمها يؤخذ ذلك من أنه لما أراد سيدنا الله أن يخبرهم عن عظيم حرمة الدماء والأموال والأعراض مثل ذلك لهم بجمع حرمة هذه الثلاثة أشياء التي كانوا يعرفون حرمتها وفيه من الفقه أن الأشياء إذا كان الحكم واحداً - وإن كثرت - أن من الفصاحة جمعها بتعدادها وأسمائها ويذكر الحكم مفرداً لأنها - وإن كثرت - كالشيء الواحد يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام تلك المحرمات الثلاث وفي سكوته عليه السلام بعد قولهم الله ورسوله أعلم استدعاء لجلب القلوب لما يلقى إليها بعد ودلالة على الوقار وهو من الشيم المحمودة وفي ذكره عليه السلام هذه المواطن - وهو عليه السلام قد بينها في غير ما حديث - دلالة على عظيم الأجر فيها لمن احترمها وعظم الوزر على فاعل شيء من المحظور فيها
وفيه دليل على وجوب تبليغ العلم ونشره يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ألا ليبلغ الشاهد الغائب ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام طلب العلم فرض على كل مسلم ۱ وقوله عليه السلام إن الله لما أخذ العهد على الجهال أن يتعلموا أخذ العهد على العلماء أن يعلموا أو كما قال عليه السلام وقد قال الله إذا ظهرت الفتن وشتم أصحابي فمن كان عنده علم فكتمه فهو صلى الله عليه وسلم كجاحد ما أنزل الله على محمّد وقال الله تعالى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ ۳ وهذا العلم الذي هو واجب نقله وتعليمه هو علم الكتاب والسنة اللذين هما الثقلان الذي أخبر الصادق بقوله لن تضلوا ما تمسكتم بهما 4 والآي والأحاديث في هذا كثيرة لمن تتبعها وفهمها وفيه دليل على أن الخير في السلف الأول كثير وأنه في الآخر قليل وقد عاد أقل من القليل فإنا لله وإنا إليه راجعون يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه فجعل الرجاء في البعض مِمّن يبلغه في الواعي له وذلك هو الخير
۱ رواه ابن عدي والبيهقي وابن عبد البر وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الديلمي عن معاذ رضي الله عنه بلفظ إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه إن لم يفعل فعليه لعنة الله
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۸۷

قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد والترمذي والطبراني في الصغير ولفظه في المسند إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدًا عليّ الحوض وفي رواية زيد بن أرقم زيادة وهي فانظروا كيف تخلفوني فيهما وفسَّر ابن الأثير في النهاية كلمة الثقلين فقال سمّاها ثقلين لأن الأخد منهما والعمل بهما ثقيل وسمّاهما بذلك إعظاماً لشأنهما ولهذه اللفظة معنى اخر وهو الإنس والجن
۱۳۸

كما جعل عدم الخير الذي هو ترك الوعي في الأقل ممّن سمعه وجعل عليه السلام تفضيل من يوعاه ۱ في الأجر - وإن بَعُدَ - على بعض من سمعه ولم يَوْعَه - هما ولم يَوْعَه ٢ - هم الأقل
بالوعي
وفيه دليل على أنه ليس الفائدة في العلم نفسه وإنما الفائدة في العمل به الذي كَنَى لأن العلماء قالوا معنى أوعى له أي أعمل به ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام
اتقوا العالم الفاسق والعابد الجاهل فإنهما مضلة للمضلين أو كما قال عليه السلام وفي قوله لوله لوله اللهم اشهد مرتين هنا بحث لم جعلها مرتين ولم يجعلها ثلاثاً على عادته في الأمور التي لها بال وما الحكمة في قوله اشهَدُ فإنما جعلها اثنتين ولم يجعلها أكثر فإنه نحا بها منحى الشهادة بأن قطع بحقوق قد تكون بشاهدين فهذه شهادتان
وأما الحكمة في قوله ذلك وهو يعلم أنه شاهد ويعلم بذلك لوجوه منها الفائدة في الإعذار والإنذار ومنها مواقفه حكمة الكتاب العزيز فإن الله عزّ وجلّ يقول فيه ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ ۳ لأن إعلامه عزّ وجلّ بأنه يعلم إنه لرسوله
شهادة له برسالته أو تحقيق لها فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَشْهَد له بالتبليغ كما يَشهَد له بالرسالة وفيه دليل على أن من رفع له قدر فهو في امتثال الأوامر أشد من غيره رداً على بعض الذين يدعون الأحوال ويقولون قد سقطت عنهم الأعمال لأنهم في الحضرة وهذا هذيان وخبال عارض في الدماغ يؤخذ ذلك من توفيته عليه السلام في الإبلاغ والإنذار وهنا إشارة وهي إذا كان هذا السيد لالا لال قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر وطبع على الرحمة والشفقة حتى إنه عليه السلام في المواضع المهولة يُقدِّم حقَّ أمته على نفسه المكرّمة لعظم ما طبع ل عليهم من الرحمة وجاء عليه السلام في هذا الموطن الذي هو موطن الوداع أجمل لهم في الإنذار والتبيين ما قد صرح لهم في جميع مدة صحبته لهم ثم بعد ذلك رجع إلى ٤ النظر فيما به يخلّص نفسه المكرّمة مما كلفه الله تعالى به بقوله عليه السلام ألا هل بلغت لأن معناه أني لم أترك شيئاً مما أمرتني به إلا بلغته مفسراً ومجملاً فما ٥ بالك بالكثير الأثقال منا كيف يشتغل بغيره عن خلاص نفسه لا سيما مع كبر السن وقُربِ الحِمام
1 كذا وفي العبارة اضطراب وكلمة يو عاه يريد يعيه
كذا يريد ولم يَعِهِ
۳ سورة المنافقون من الاية ١
٤ هنا خبر كان

٥ هنا جواب إذا
۱۳۹

وفي هذا دليل على فضل أهل الطريق الذين عملوا في أمر الدنيا على الإغضاء والتجاوز عن الإخوان وفي الدين على الشح عليه والاهتمام حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه شكا له أهله الجوع فقال لهم لأن أموت وأدخل الجنة وأنتم جياع خير عندي من أن أترككم شباعاً وأدخل النار وقال بعضهم على دينك فَشُح كما يشح صاحب الدرهم على در همه
وفي قوله وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إرشاد إلى تحقيق الإيمان والتحضيض على توفية جميع الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك فجمع عليه السلام في إجماله في هذا اللفظ اليسير كل ما جاء به وشرحه في الزمان الطويل فسبحان من أيّده بالفصاحة وحسن اختصار الكلام والإبلاغ في توفية بديع المعاني مع بديع الاختصار وقد قال أهل البلاغة في الكلام إن البليغ يطوّل ليُبين ويختَصِرُ ليُحفَظ وقد أتى لا الهلال في هذين الوجهين بأتم مراد وأحسن مساق ولا يعرف ذلك إلا من عرف سُنّته وتتبَّعَها
وفيه إشارة إلى التخويف والترهيب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فيسألكم عن أعمالكم فإذا كان الحاكم العدل يسأل المقصّر المسكين فأي تهديد أكبر منه لمن عقل وهو عزّ وجلّ يقول في محكم التنزيل ﴿ وَكَفَى بِنَا حَسِبين ۱ وقال تعالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ

ومن أكبر ٣ الدلالة على أن كلامه عليه السلام بتأييد من الله تعالى وإلهام منه وقد قال ذلك جماعة من العلماء في معنى قوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَبِّكَ اللهُ ٤ فقالوا معنى أراه أي ألهمه فهو وحي إلهام فالجميع من عند الله تعالى إما وحي بواسطة الملك وإما وحي
إلهام
يشهد لذلك أنك إذا تأملت كلامه تجده حذو الكتاب العزيز ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ٥ مثل كلامه عليه السلام الذي نبهنا عليه آنفاً كيف هو صيغته صيغة الإخبار وضمنه أكبر التهديد كقول الله جلّ جلاله فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ٦ ظاهره الإباحة وفي ضمنه عظيم التخويف والتهديد
۱ سورة الأنبياء من الآية ٤٧
سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨
۳ المبتدأ الذي يتعلق به الجار والمجرور مفقود
٤ سورة النساء من الآية ۱۰۵
٥ سورة النساء من الاية ۸ ٦ سورة الملك من الاية ١٥
١٢٤٠

يؤخذ ذلك من أنه عزّ وجلّ قال في كتابه العزيز وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۱ وقال عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ إلى غير ذلك من الأحكام الذي بينها عزّ وجلّ لنا كيف نتصرف بها في المشي وغيره بمتضمن قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ۳ أباح عزّ وجلّ لنا المشي في مناكبها بعد التبيين والتعليم حتى لا يبقى لأحد حجة ثم ختم الآية بقوله تعالى وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ٤ فيعرفكم كيف كان مشيكم فيعرفكم كيف كان مشيكم من حسن أو قبيح فإنه أخبرك بقوله تعالى وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ٥ وبقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَولِ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ٦ وبقوله عزّ وجلّ وَقَالَ قَرِيتُهُ هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ ۷ أي كل ما كتبته عليك حاضر فانظر لم نغادر منه شيئاً فحسبك حالك إن عنيت به فالأمر والله عظيم

وقوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضُكم رقاب بعض هنا بحث هل يكون على ظاهره فيكون حسيّاً أو يكون معنوياً أو المجموع احتمل والأظهر - والله أعلم - أنه المجموع فإنه مناسب لوضع الحديث لأنه أجمل ما قد فسّره وبيّنه فهماً بيناً فالمحسوس منه على ظاهره مثل قوله عليه السلام حتى يكون بعضكم يسبي بعضاً وبعضكم يقتل بعضا ۸ وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يعرف المقتول قُتِلَ ولا القاتل قتل ۹ أو كما قال والأحاديث فيه كثيرة متنوعة
وأما في المعنى فمثل قوله عليه السلام قطعتم ظهر الرجل ۱۰ حين مدحوه في وجهه
۱ سورة الإسراء من الاية ٣٧ ۳۷
سورة لقمان من الآية ۱۸ ۳ سورة الأنعام من الاية ۳۸ ٤ سورة الملك من الآية ١٥ ٥ سورة يونس من الاية ٦١ ٦ سورة ق الاية ۱۸ ۷ سورة ق الاية ۳
۸
قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد ومسلم في الفتن وأشراط الساعة والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه وأوله إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وفي اخر الحديث وإن ربي قال لي يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا سوى من أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ۹ رواه مسلم في الفتن عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار ۱۰ رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله لو سمع رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل
١٢٤١

ومثل قوله عليه السلام لا يسب الرجل أباه قالوا وكيف يسب الرجل أباه فقال يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ۱ وأي قطع عنق أكبر من العقوق وهذا النوع أيضاً في الآثار كثيرة وأنواعه متعددة
بمنه
و معنى قوله عليه السلام ضلالاً خارجين عن الطريقة المحمدية جعلنا الله من خير أهلها
وفيه دليل على أن الرجوع إلى الضلالة في حياته عليه السلام مستحيل يؤخذ ذلك من قوله بعدي ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام في حديث الشفاعة حين يقال له إنهم قد بدلوا بعدك فيقول فَسُحقاً فَسُحْقاً فَسُحْقا ٢ عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه
نفسك بالعلم فزينها إن كنت عاملا وإن خالفته قد شنتها به عاجلاً واجلا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
رواه البخاري في الرقاق ومسلم في الفضائل عن سهل بن سعد رضي الله عنه ولفظه أنا فَرَطكم على الحوض من وَرَد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليَردَن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فيقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي وفي الباب عدة روايات عن
عدد من الصحابة
١٢٤٢

- ٢٢٤
ث جواز الشرب قائماً
عَن عَلي رضي الله عَنهُ أنَّهُ أُتي على باب الرَّحَبةِ ١ بِماءٍ فَشَربَ قائِماً فَقَالَ إِنَّ ناساً يكره أحَدُهُم أن يَشربَ وَهُوَ قائِم وإني رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَما رَأَيْتُمُونِي فَعلتُ
ظاهر الحديث يدل على جواز الشرب قائماً والكلام عليه من وجوه منها أنه ينبغي للعالم إذا رأى شيئاً ينكره الناس - وهو جائز في السنة ـ أن يبين ذلك ويوضحه بالفعل والقول يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه ما هو نص الحديث
وفيه دليل على أن عليه أن يبالغ في التعليم ما أمكنه يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه وقوله لأنه لم يكتف إلا بمجموعهما وذلك هو الغاية في التعليم ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم عند ظهور البدع أن يعلّم قبل أن يُسأل لأن علياً رضي الله عنه فعل ذلك قبل أن يسأل وهو أحد الخلفاء الذين قال الله في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء بعدي عضوا عليها بالنواجذ ٢ أو كما قال عليه السلام
وفيه دليل على اتباعه رضي الله عنه في التعليم سنة رسول الله يؤخذ ذلك من قوله إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ولم يسمّ أحداً وكذلك كانت عادة رسول الله لا اله إذا قيل له
۱ الرَّحَبَة المكان المتّسع والرحبة المقصودة رَحَبَة الكوفة بدليل الحديث الذي رواه البخاري عن النزال بن سبرة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه - وذكر رأسه ورجليه - ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن النبي لا الهلال و صنع مثلما صنعت ويسمي ياقوت في معجم البلدان هذه هلال الرحبة باسم رحبة خنيس قطعة من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي ومطلعه وَعَظنا رسول الله له و موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون إلخ
الله عنه
١٢٤٣

عن أحد شيئاً لا يعجبه يقول ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ۱ ولا يسمّي أحداً وهذه العادة اليوم قد كثرت في الناس - أعني من أنهم يكرهون الشرب قائماً - حتى إن بعضهم يتغالى في ذلك ويجعله من قبيل المحرم وهذا مخالف لسنة النبي الهلال الهلال وفيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كان شأنهم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله يؤخذ ذلك من قول علي رضي الله عنه وإني رأيت النبي الهلال وفعلا كما رأيتموني فعلت صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عنه عليه السلام في ذلك قولاً

وفيه دليل على أنه مهما كان من الشارع ع الله في شيء فعلاً أو قولاً فلا مجال للعقل والرأي أن ينظر أو يجتهد وليس له وظيفة إلا أن يتبع فقط لأنه لو كان الشأن عندهم غير ذلك ما فعل عليّ رضي الله عنه ما نص في الحديث عندما بلغه قول من ظهر له كراهية الشرب قائماً ومما يؤيد هذا ما فعله معاذ بن جبل ۳ مع معاوية ۳ بالشام حين قال معاذ قال رسول الله قال معاوية الرأي عندي كيت وكيت فقال معاذ من يجيرني من معاوية أقول قال رسول الله وهو يقول رأيي والله لا أقيم معك في بلد فخرج وأتى عمر بن الخطاب رضي عنه فكتب عمر إلى معاوية أن يقف عندما قال له معاذ وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه عزّ وجل يقول ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤

الله
والاتباعية ينبغي أن تكون عامة في الأقوال والأفعال وقد مضى على ذلك أئمة الدين و مصابيح الهدى غير أنهم اختلفوا هل هذا واجب أو مندوب أو ما دل الدليل عليه على كل قضية قضية بقرينة فمنها واجب ومنها مندوب ولم يقل أحد منهم بالمخالفة أصلا لا في فعل
ولا في قول
۱ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها ومطلعه كان النبي الله إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول إلخ تقدمت ترجمته في الحديثين ٤٣ و ١٣٧
۳ معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية في الشام وأحد دهاة العرب كان فصيحاً حليماً وقوراً ولد بمكة وأسلم يوم فتحها وتعلم الكتابة والحساب فجعله الرسول الا الله في كتابه للوحي فتح أيام الصديق مدينة صيداء وعرقة وبيروت وولاه عمر على الأردن ثم على دمشق وفي أيام عثمان جمع له إمرة الشام كلها وعزله أحد عظماء الإسلام وهو علي فور توليه الخلافة وحدثت بينهما حروب له في كتب الحديث ۱۳۰ حديثاً بلغت فتوحاته المحيط الأطلسي وفتحت مصر في أيامه وكثير من جزائر يونان والدردنيل وحاصر القسطنطينية برا وبحرا وهو أول من جعل دمشق مقر الخلافة وقد دعا له رسول الله الله فقال اللهم مكن به ومكن له في الأرض أو ما في معناه ومما يشرفه أنه أحد كتبة الوحي وهو الميزان في حب الصحابة ومفتاح الصحابة سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله لا اله الاخير ما من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على محبته ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
١٢٤٤

ولكثرة ملاحظة أهل السلوك هذا الشأن سادوا على غيرهم وبلغوا المنازل المنيفة وقد ذكر
عن بعضهم أنه طرقه خوف من واقعةٍ وقعت في الوجود بعدما امتثل فيها السنة فقيل له في إحدى مخاطباته على عاداتهم التي عوّدهم مولاهم أتفزع ونحن قد أعطيناك علم الأمان قال وما علم الأمان قيل له قد هديناك إلى اتباع السنة فهناك سَكَنَ ما كان وجده من الخوف ولم يلق في تلك النازلة إلا كل خير ونعمة فالشأن لمن أريد به الخير الصدق مع الله تعالى واتباع السنة المحمدية جعلنا الله من أهل هذا الشأن في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٤٥

حديث النهي عن الشرب من فم السقاء
عَن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ لا عَنِ الشَّرِبِ مِن فَمِ السَّمَاءِ وَالقِربةِ
وَأَن يَمنعَ الرَّجُلُ جَارَهُ أَن يَعْرِزَ خَشبَةٌ فِي جِدارِهِ
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما المنع من أن يشرب أحد من فم السقاء والقربة والثاني أن يمنع ۱ أحد جاره أن يغرز خشبة في جداره والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل منعه عليه السلام عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام على أي وجه كان أو لا وهل النهي نهي كراهية أو تحريم وهل ذلك معقول المعنى أو لا وهل يتعدى منعه إلى غير السقاء والقربة أو لا وهل إباحة الجدار للجار لغرز الخشبة هو على الوجوب أو الندب وهل ذلك على كل حال أو في بعض الأحوال دون بعض
أما قولنا عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام أو لا ظاهر اللفظ محتمل لكن الناس اختلفوا في تأويله فمنهم من جعله عاماً على أي وجه كان ومنهم من قال إنه إذا جعل فم السقاء والقربة موضوعاً في الأرض كأنه القصعة وتناول منه الشرب فليست تلك الصفة بمنهي عنها وإنما النهي أن يصب الماء في حلقه ولا ينظر ما فيه ولا يقدر أن يقطع الشرب وأما قولنا هل النهي على الكراهية أو التحريم احتمل لكن إذا كانت العلة معقولة المعنى
فيكون بحسب مقتضى العلة فإن لم تعرف العلة فحينئذ يبقى الأمر فيه محتملاً الوجهين ويبقى فيه بحث آخر هل النهي يدل على فساد المنهي عنه فالذي يشرب يشرب حراماً وإن قلنا إن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه يكون متشابهاً هل هو حرام أو مكروه موضع خلاف ويبقى فعله ذلك على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراماً فيكون آثماً وإما أن يكون
مكروهاً فيكون غير آثم
1 أي المنع من أن يمنع
١٢٤٦

وأما قولنا هل ذلك معقول المعنى أو لا ظاهر اللفظ لا يتحقق منه شيء من ذلك لكن قد
قال بعض الناس إن ذلك معقول وهو خيفة أن يكون في الوعاء حيوان فينزل مع الماء في جوفه وقد وقع للناس من ذلك وقائع فتعبوا بها كثيراً منها أنه قد ذكر أن رجلاً شرب الماء كذلك
وكان في الماء ثعبان صغير فابتلعه مع الماء فحصل له منه ضرر كثير وقد يكون أيضاً في علق فيبلعه فيتأذى وقد يكون الماء ينصب بمرة فيكون سبباً لقطع العروق الضعاف التي بإزاء القلب فيكون منها موته ومن أجل ذلك أحكمت السنة أن يكون شرب الماء مصاً ولا يكون عبّاً من أجل الخوف على العروق بإزاء القلب فهنا من باب أحرى
وقال آخرون من أجل ما يتعلق بالسِّقاء والقربة من رائحة الفم وقد يكون في بعض أفواه الناس بخر فيعلق بالقربة والسِّقاء منه شيء فيعافه الغير وقيل من أجل أن بعض الناس لا تتحمّل نفسه الشرب من فضل غيره ويتشوش لذلك عند الشرب وقد قيل إن ذلك قد يعود بالفساد على الوعاء فيكسر فيكون من باب إضاعة المال وهو منهي عنه نهي تحريم
وبحسب هذه التعليلات تعرف النهي على أي وجه هو لكن الذي يعطيه الفقه أن أمراً يكون فيه التعليل على مثل هذا الخلاف تركه أولى لأنه لا يبعد أن يكون لمجموع ما ذكر فيكون يجتمع فيه التحريم على وجه والكراهية على وجه والشأن الأخذ بسد الذريعة التي تدل عليها قواعد الشريعة وقد روي عن الإمام مالك رحمه الله ومن تبعه أن مذهبه في الأمور المحتملة الأخذ بالأشد إبراء للذمة
وأما السقاء فهو الوعاء الصغير من الجلد والقربة الوعاء الكبير منه
وأما قولنا هل يتعدى الحكم إلى غيرهما فإن قلنا بعدم التعليل فلا يتعدى ويكون مقصوراً على السقاء والقربة لا غير وإن قلنا بالتعليل - وهو الأظهر والله أعلم - فحيث وجدت العلة طردنا الحكم على أحد محتملاته
وأما قولنا هل إباحة الجدار للجار أن يغرز الخشبة فيه على الوجوب أو الندب فجمهور العلماء أنه على الندب لأنه قد روي عن راوي الحديث - وهو أبو هريرة رضي الله عنه ـ أنه كان يقول ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فدل بقوله هذا أنه فهم من النبي إما الوجوب أو التأكيد في الندب لعظم حق الجار على جاره لأنه قال اللي ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ۱ والآثار في الجار كثيرة في تأكيد حقه والإحسان إليه
وكف الأذى عنه وإدخال السرور عليه وأما قولنا هل ذلك على كل حال أو لا فلا يمكن أن يكون على كل حال لأن الشارع عل الله
1 رواه أصحاب الصحاح وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
١٢٤٧

قد قال لا ضرر ولا ضرار ۱ فإن كان في غرز الخشبة ضرر على صاحب الحائط فلا يجب عليه ذلك ولا يندب فالشارع صلوات الله علیه وسلامه قد منع أن يفعل الشخص بملكه شيئاً يضره بجاره فكيف يفعل في مال جاره ما فيه ضرر به هذا لا يعقل وإنما يكون ذلك على أحد محتملاته إذا لم يكن على صاحب الجدار في ذلك كبير ضرر لأنه من جملة الرفق له وقد ورد ما معناه لا يمنع أحدكم جاره رفده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك والشافعي عنه عن يحيى المازني مرسلاً وعبد الرزاق والإمام أحمد وابن ماجه والطبراني عن
ابن عباس رضي الله عنهما
١٢٤٨

حديث عدم الاتكال على الأعمال والاجتهاد فيها
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ قال سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ لَن يُدخِلَ أحَداً عَملُهُ الجَنَّةَ قالوا وَلَا أنتَ يا رَسُولَ الله قالَ وَلَا أنا إلا أن يَتَغَمَّدني الله بفضله ورحمته فَسَددوا وقارِبوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ َأحَدُكُمُ المَوتَ إمّا مُحسناً فَلَعَلَّهُ أن يزدادَ خَيراً وإما مُسيئاً
فَلعله أن يَستَعتِبَ
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله والكلام عليه من وجوه اعلم ـ وفقنا الله وإياك - أن الناس اختلفوا في معنى تأويل هذا الحديث على وجوه عديدة فمنها قول بعضهم إن الإيمان عَرَض والعَرَض من شأنه أنه لا يبقى زمانين فإبقاؤه عليك حتى يتوفاك الله عليه من فضله عزّ وجلّ
ومنها قول آخرين وهو أنه عزّ وجلّ الذي وفقك إلى الأعمال وتفضل عليك بقبولها لقوله تعالى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۱ وقيل لولا تجاوزه عزّ وجلّ عنا ما قدر أحد على الخلاص لقوله تعالى إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلًا كَرِيمًا
وتأويلات كثيرة لكن الذي يعطيه تقسيم البحث أن نقول قوله صلى الله عليه وسلم عمله هل هو على العموم في جميع الأعمال القلبية والبدنية أو هو خاص بالبدنية
فإن كان خاصاً بالبدنية فكيف الجمع بينه وبين الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف
۱ سورة النور من الاية ۱ سورة النساء الآية ٣١
١٢٤٩

دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام في الصيام إن في الجنة باباً يسمّى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام عن العافين عن الناس ينصب لهم لواء أخضر يوم القيامة فيتبعونه حتى يدخلوا الجنة أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام في الذين لا يسترقون ولا يتطيرون أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ۳ إلى غير ذلك وقول الله عزّ وجلّ في كتابه بما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ٤ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ إلى غير ذلك من الآي وهي كثيرة ٤ ﴿ وإن كان المعني به العموم في الأعمال القلبية والبدنية فكيف الجمع بينه وبين قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ٦ ثم أخبره أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم وقول جبريل عليه السلام للنبي من مات من أُمتك لا يُشرِك بالله شيئاً دخل الجنة ۷ وقول الله عزّ وجلّ للمؤمنين فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۸ والآي والأحاديث في هذا كثيرة والإيمان عمل من أعمال القلوب وهو أجلها فالجواب عنه أنه إن كان على الخصوص - وهو أن يعني به أعمال الأبدان - فلا تعارض بين هذا الحديث ولا ما ذكر من الأحاديث والآي ولا غيرها مما يشبهها لأن الأعمال لا تُقبَل ولا تَنفَع

تفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الأحاديث الواردة في العافين عن الناس كثيرة منها ما رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دماً فازدحموا على باب الجنة فقيل من هؤلاء قيل الشهداء كانوا أحياء مرزوقين ثم نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم مَنْ أجره على الله فليدخل الجنة قال ومن أجره على الله قال العافون عن الناس ثم نادى الثالثة ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوها بغير حساب وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه من حديث طويل مطلعه بينا رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما الله
أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي إلخ
۳ متفق عليه ٤ سورة الحاقة من الاية ٢٤
5 سورة البقرة من الآية ١٣٤ و ١٤١ و ٢٦٧
٦ رواه الشيخان عن معاذ رضي الله عنه
۷ رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم ٩٤ باب الترغيب في الصدقة وفي الإيمان رقم ١٥٤ وهو حديث طويل منه

أتاني جبريل فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاث مرات ثم قال رغم أنف أبي ذر
۸ سورة البقرة من الآية ٦٢
١٢٥٠

إلا بشرط الإيمان واتباع السنة المحمدية ولأن الكفار مكلفون بفروع الشريعة على أحد القولين ولو فعلوها لم تنفعهم ولا يرون الجنة ولا يشمّون عَرْفها وقد قال الله عزّ وجلّ في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَيذٍ خَشِمَةً عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةٌ ۱ فعلى هذا التأويل يكون للحديث فوائد
من الفقه
منها أنه حجة لأهل السنة على المعتزلة الذين يقولون إنهم بأعمالهم يدخلون الجنة ويكفرون من وقع في معصية ويوجبون له الخلود في النار ومنها زوال رعونة نفوس العابدين الذين تشمخ نفوسهم وتغتر بما وفقوا إليه من الطاعة
والخدمة
ومنها الحض على تحقيق الإيمان ويزيد ذلك بياناً أن الحق سبحانه حض على الإيمان أكثر من غيره من الأعمال بقوله تعالى فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ولا يلزم من هذا الزهد في الأعمال لأن تركها بريد الكفر وقد قال جُعِلت الصلاة فرقاً بين الإيمان والكفر ۳ ولأن ترك الأعمال أيضاً نقص في الإيمان يشهد لذلك قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يختلس الخُلسَة حين يختلسها وهو مؤمن ٤ لأن حقيقة التصديق توجب اتباع الأمر واجتناب النهي وبذل الجهد في ذلك مع اتقاء خوف لقاء المولى سبحانه وتعالى وهل يحصل له قبول أم لا يشهد لذلك قوله تعالى في صفتهم المباركة وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَهُ أنهم إلَى رَهِم رَجِعُونَ أَوَلَيْكَ يُسَرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ ﴾ ٥
وهنا بحث في الفرق بين خوف عوام المؤمنين وخوف الخواص اعلم - وفقنا الله وإياك - أن خوف عوام المؤمنين ورجاءَهم وعبادتهم كل ذلك له حد ونهاية وأما خوف الخواص ورجاؤهم وعبادتهم فليس له حد ولا نهاية بيان ذلك
أما خوف العوام فإنهم يخافون العقاب على المخالفة ونهاية خوفهم من دخول النار وخوف ما فيها من الآلام والأمور العظام أعاذنا الله منها بنور وجهه الكريم وأما رجاؤهم ففيما وُعِدوا من حسن الثواب وجزيل العطاء بحسب الوعد الجميل ونهايته دخول دار كرامته عزّ
۱ سورة الغاشية الآيات ٢ - ٤ سورة البقرة من الآية ۱۳
۳ أصل الحديث بين الرجل والكفر ترك الصلاة رواه مسلم
٤ رواه البخاري في باب المظالم ومسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي
٥ سورة المؤمنون من الآية ٦٠ و ٦١
١٢٥١

وجلّ والتنعم بما أُعِدّ لهم فيها وعبادتهم حَدُّها التزام توفية ما جعل لهم في ذلك ونهايتها ذ

ارتقابهم القدرة على ذلك والاستراحة إلى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ١ وأما خوف الخواص فإنه لا حَدَّ له لأنهم يخافون عدله عزّ وجلّ وعظمته جلّ جلاله ولا حد لما يخافون ولذلك إذا طرق لأحدهم طارقُ الخوف إن لم يتداركه بتنسم الفضل والرحمة وإلا تفطرت كَبِده ومات وقد روي أن جملة منهم ماتوا كذلك ومما يذكر عن بعضهم أنه كان فتح قبره في بيته وكان تعبده على شفير قبره فدخل عليه يوماً بعض الوعاظ يزورُه فلما دخل عليه ناداه الأولاد والعيال من وراء الستر ناشدناك الله لا تقتله فلما دخل عنده قال له عِظني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله ألا أفعل فقال لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فيها شيء من التخويف فوقع مغشياً عليه فأعاد الأولاد الرغبة على الواعظ مثل الأول فلما أفاق قال له زدني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله فقال له لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فاضطرب مثل الحية ووقع في قبره ميتاً فقال الأولاد قَتَلْتَهُ قتلَك الله وعنهم مثل
هذا كثير
وأما رجاؤهم فهم يرجون محض فضله عزّ وجلّ بفضله فما يرجون لا حد له ويحصل لهم بذلك من شدة البسط وقوة الرجاء واليقين ما يُفتتون به الجبال ومن الإدلال على فضل مولاهم يتصرفون به في الوجود كيف يختارون ومع ذلك محافظتهم على الأمر والنهي ما لا يقدر غيرهم
عليه
ومما يُروى عن بعضهم أنه أتى بئراً بالدلو والحبل فأدلى الدلو فلم تبلغ إلى الماء فرفع الماءَ طرفه إلى السماء وقال وَعِزَّتِكَ لئن لم تسقني لأغضَبَنَّ فإذا به قد أدلى دلوه ثانية فبلغ فاستقى وشرب قال راويه فلما رأيت ذلك منه ناشدته الله أن يسقيني فضله فناولنيه فإذا هو سويق بسگر فاتبعته وقلت له يا سيدي قد مَنَّ الله عليك بمثل هذا الحال وأنت تسيء الأدب في مخاطبة الربوبية وتقول إن لم تسقني غضبتُ فتبسم وقال يا بطال على مَن أغضَبُ كنتُ أغضَبُ على نفسي فلا أشرب ماءً حتى ألقاه وطلبته مستعيناً به على ذلك فلا حدَّ لعبادتهم ولا لهم فترة غير أنهم يُفرّقون بين الأوقات من أجل الأوامر لا غير فعبادتهم دائمة لا فترة فيها ولا
التفات
0
١٢٥٢
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
كذا بإقحام وإلا

ومما روي عن بعضهم أنه أتاه بعض الإخوان يزوره فوجده يصلي فقال في نفسه لا أقطع عليه أتركه حتى يفرغ من صلاته فبقي ينتظره لأن يفرغ حتى أذن الظهر فصلى الظهر وبقي يتنقل حتى أذن العصر فصلى العصر ثم قعد يذكر حتى أذن المغرب فصلى المغرب ثم بقي يتنفّل حتى أذن للعشاء فصلى العشاء وبقي يتنفّل حتى طلع الفجر فصلى الصبح ثم قعد يذكر حتى كان وقت الضحى الأولى فقام فصلى ثم قعد يذكر والزائر في ذلك كله يقول في نفـ نفسه لا لا أقطع عليه حتى يفرغ هو من تلقاء نفسه فلما قعد يذكر وهو ينتظر الضحى الأعلى جرت سِنَةٌ على عينه وهو قاعد لم يتحرك لها فمسح النوم من عينه وقال أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فقال الزائر في نفسه لا يحل لي الكلام مع مثل هذا وتركه وانصرف ومثل هذا عنهم كثير
والفائدة أن تنظر من أي الأصناف أنت وما حالك أمِنَ العوام أو الخواص وهل بينك وبين
أحدهم نسبة أم لا وإلا فتدارك نفسك قبل ذهابها وأغلق الباب فالأمر والله قريب وقد يكون للحديث بحث ثان وهو أن الأحاديث التي أتت بمقتضى الأعمال وما لفاعلها وما على تاركها فذلك مقتضى الحكمة والتكليف ويكون هذا يدل على مقتضى التوحيد والتخصيص
الله
يشهد لذلك ما روي عنه الله أنه خرج يوماً ويداه الكريمتان مقبوضتان فقال للصحابة رضي عنهم أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم فقال في هذه أسماء أهل الجنة وأسماء
ابائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة ثم قال أتدرون ما في هذه قالوا الله ورسوله أعلم قال في هذه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأجدادهم وقبائلهم إلى يوم القيامة قالوا يا رسول الله ففيم العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خُلق له ۱ أو كما قال عليه السلام فحصل التخصيص لأهل الدارين بمقتضى الإرادة الربانية لا بموجب الأعمال البدنية
لكن بقي للحكمة معنى لطيف وهو أن الأعمال دالة على المآل كما هو العنوان دالّ على
۱ رواه الإمام أحمد والترمذي في القدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ولفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ا و ف ي ي ي يليه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على اخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا قال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وليس في الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له وهذه العبارة جزء من حديث اخر رواه البخاري في القدر عن عمران بن حصين وفيه قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قال ففيم يعمل العاملون قال كل ميسر لما خلق له
١٢٥٣

صاحب الكتاب يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فَسَنيَسرُهُ لِيُسْرَى فَسَنُيَتِرُ لِلْمُسْرَى ۱ وقول زيد الخير لرسول الله لتخبرني يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريده وما علامته فيمن لا يريده فقال كيف أصبحت يا زيد قال أصبحتُ أحبُّ الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرتُ إليه وإن فاتنى حزنتُ عليه وحننتُ إليه قال رسول الله تلك علامة الله فيمن يريده ولو أرادك لغيرها لهياك لها أو كما قال عليه السلام
فلذلك جاء شبه الأعمال البدنية مع سابقة الإرادة الربانية لمن تفطن واعتبر كما أخبر سبحانه عن يوم بدر بقوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَورِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَفٍ مِّنَ الْمَلَيْكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ الله فجعل نزول الملائكة اطمئناناً لقلوبنا لما يعلم من ضعفنا فأخبر أن حقيقة النصر من عنده سبحانه فكذلك الأعمال الصالحة فيها للنفوس الضعاف طمأنينة وحقيقة دخول الجنة بفضل الله تعالى
والركون أيضاً إلى الأعمال كيوم حنين وقد قال عزّ وجلّ فيه ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنَ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كُمْ كَثَرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ ۳ فكذلك إذا عولت على أعمالك الصالحة لم تقدر بها على شيء من الخلاص وإن كثرت إلا أن تغمدك الله عزّ وجلّ بالفضل والرحمة يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في العابد من بني إسرائيل صاحب الرمانة - وقد تقدمت حكايته قبل في غير هذا الحديث
يا هذا اعمل فأصحاب التوفيق إذا رأوا أنفسهم قد وفقوا إلى شيء من أفعال الخير يستبشرون ويشكرون الله على ذلك ولا يغترون ويرغبون الله في أسباب السعادة الدالة عليها من فضله لقوله تعالى ﴿وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ فهو أهل الفضل والإنعام
ويكون من فوائد هذا الحديث على هذا الوجه أنه حجة على أهل الغفلة والجهل ممن انتسب إلى العلم وممن انتسب أيضاً إلى طريق الصوفية لأنهم يفرقون بين الشريعة وطريقتهم وبين الحقيقة وطريقتهم وكل طائفة منهما تدعي تفصيل طريقتها وليس الأمر كذلك لأن الذي أخبر بالشريعة وبينها لنا أخبر بالحقيقة وبيّنها لنا أيضاً
۱ سورة الليل ٧ و ١٠
سورة ال عمران الآية ۱٥ و من الآية ١٢٦
۳ سورة التوبة من الآية ٢٥
٤ النساء من الآية ٣٢
١٢٥٤

وكفى في ذلك ما كان يفعل في نفسه المكرمة لأنه كان إذا خرج إلى جهاد أو حجّ أخذ الأهبة لذلك على مقتضى الشريعة وإذا رجع قال ایبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصَرَ عبدَه وهَزَم الأحزاب وحده ۱ وهذا هو الحق والحقيقة فتراه عليه السلام جمع في العمل الواحد الشريعة والحقيقة لأن المطلوب الجمع بينهما ومن هنا زَلّ مَن زَلَّ وقد قال بعض السادة في الجمع بين ذلك أن تعمل عمل من لا يرى خلاصاً إلا بالعمل وتفوَّضَ الأمر وتتوكَّل تَوَكُلَ من لا يرى خلاصاً إلا بمجرد الفضل لا غير أو كما قال ولقد أحسن فيما به جمع
وفيه دليل على أنه ليس أحد من العباد يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها يؤخذ ذلك من قوله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته فإذا كان عليه السلام الذي هو خير البشر وصاحب الشفاعة والمقام المحمود لا يقدر على ذلك فالغير من باب أحرى وأولى لأن صاحب كل مقام يطلب بتوفيته بحسب ما رفع له في مقامه
يشهد لذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا صلى الله عليه وسلم أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أثنيت على نفسك وإخباره عليه السلام عن قول الملائكة يوم القيامة وهي في العبادة لا تفتر سَبوحٌ قُدُّوسٌ ما عَبَدْناكَ حقّ عبادتك وإذا تأملت ذلك من طريق النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا عزّ وجل بشكر النعم التي أنْعَمَ عَجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفها كما أخبر جلّ جلاله وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۳ فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات وهي من جملة النعم الواحدة منها نعجز عن شكرها أن لو اشتغلنا بها وذلك أن الأنفاس اثنا عشر ألف نَفَس داخل ومثله خارج في اليوم الواحد فأنعم علينا بأن تدخل بغير كلفة وتخرج بغير مشقة مع اليقظة والنوم فهذه واحدة من جملة نعم عديدة في البدن عجزنا عن شكرها وكثير من الناس ما يعرفونها فوقع العجز حقيقة
ومن وجه آخر وهو أن العالم كله محدّث فكيف يقدر محدث على توفية حق القديم الأزلي هذا عن طريق العقل مستحيل فما بقي إلا ما أخبر به الصادق له الا الله وهو التغمد بالفضل والرحمة فبقي البحث على الفرق بين الروايتين
۱ رواه البخاري في الدعوات وفي الحج والجهاد والمغازي ورواه مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وأوله أن رسول الله لو كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر الله على كل شَرَف من الأرض إلخ
رواه مسلم في الصلاة عن عائشة رضي الله عنها
۳ سورة إبراهيم من الآية ٣٤
١٢٥٥

فأما معنى قوله بفضله ورحمته فهو بيّن لا خفاء فيه وهما صفتان بأيهما عامل عزّ وجلّ عبده فقد سعد سعادة أبدية وأما قوله بفضل رحمته احتمل وجوهاً منها أن تكون إشارته عليه السلام لما أخبر عن مولانا سبحانه أنه قسم الرحمة على مائة جزء أخرج منها في الدنيا جزءاً واحداً منها يتراحم الخلق كلهم حتى الفرس ترفع حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه وادخر تسعة وتسعين جزءاً إلى يوم القيامة فجعل عليه السلام نفسه المكرمة من جملة المؤمنين تواضعاً الله تعالى
واحتمل أن يشير عليه السلام إلى عجزه عن توفية حقوق الرحمة التي رحمه الحق بها حتى يكملها له سبحانه بفضله فيكون له سبباً إلى دخول الجنة مثل ما ذكره سبحانه وتعالى في كتابه من نعمه سبحانه عليه بقوله تعالى ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَشَاوَى وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَابِلًا فَأَغْنَى ۱ إلى آخر السورة ومثل قوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا فكأنه عليه السلام يقول وأنا عاجز عن التوفية بالحقوق التي تجب الله تعالى عليّ بمقتضى الشكر والتعظيم فلم يبق بما أرجو دخول الجنة
إلا برحمة أخرى فاضلة على هذه - أي زائدة على هذا - يكفر بها عن التقصير ويدخلني بها الجنة واحتمل أن تكون إشارته عليه السلام إلى الزيادة التي زاده الله تعالى بعدما أكرمه بما ذكره وهو قوله جلّ جلاله لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ ۳ لأن من غُفِر له قد أُدخِل الجنة لا محالة ولا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي أخبر مولانا سبحانه أنه بفضله غفرها للنبي أنها من قبيل ما نقع نحن فيها - معاذ الله - لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكبائر بالإجماع ومن الصغائر التي فيها رذائل وأما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء والأكثر منهم على أنهم معصومون من الصغائر كما عصموا من الكبائر - وهو الحق - لأن رتبتهم جليلة
وإنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر ووضع البشرية وإن رفع قدرها - حيث رفع - فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز للكل كل على قدر حاله وبقيت المنة لله تعالى على الكل والتجاوز بمجرد الفضل والرحمة لا حق لأحد عليه
33
۱ سورة الضحى الايات ٦ و ۸ سورة النساء من الآية ۱۱۳ ۳ سورة الفتح من الاية ٢
١٢٥٦

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلْإِيمَنِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ١
ومع

ذلك يعترفون
وفيما ذكرنا حجة لأهل الطريق الذين قد أجهدوا أنفسهم في الخدمة بعظم التقصير ويخافون أكثر مما يخاف أصحاب الكبائر وقد ذكر عن بعضهم أنه اشتهت نفسه تمراً فبقي يدافعها أياماً عديدة إلى أن ظهر له يوماً شراؤه فلما أخذ من البائع وولى وإذا ۳ بريح شديدة وبرق ورعد فرمى التمر من حجره ووبخ نفسه وقال لها أهلكت الناس بخطيئتك وخرج هارباً إلى الله تعالى
ومما يزيد ذلك بياناً قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَواْ ۳ فإنه بقَدْر العلم به عزّ وجلّ يكون الخوف منه ولا أحد أعلم بالله من رسله وسيدنا صلوات الله عليه وسلم وعليهم أجمعين القدوة فيهم فيخاف مثل هذا الخوف له عليه السلام لما به مَنَّ عليه من المزية وقد قال أنا أخشاكم الله وأعلم بما أتقي ٤ أو كما قال عليه السلام واحتمل أن يكون عليه السلام أراد مجموع الوجوه كلها وزيادة لأنه معدن الفصاحة
والبلاغة
وفيه دليل على أن ألفاظ العموم يدخلها التخصيص بمقتضى اللسان العربي يؤخذ ذلك من قولهم ولا أنت لأن قوله لن يدخل أحداً عمله الجنة فقوله أحداً لفظ عام فلو لم يكن ذلك معروفاً من لسانهم ما استفسروه حتى يزيل لهم ذلك المحتمل المتوقع
ومن أحكام الحديث النهي عن أن يتمنى أحد الموت على أي حالة كان من خير أو شر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُم الموتَ إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب وقد كان من دعائه عليه السلام اللهم أحيني ما كانت الحياة زيادة لي من كل خير وأمتني ما كان الممات راحة لي من كل شر ٥ أو كما قال عليه السلام
1 سورة الحجرات من الاية ١٧
الصواب فإذا ۳ سورة فاطر من الآية ۸
٤ قطعة من حديث رواه مسلم في الصيام رقم ۱۱۰۹ باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب بلفظ والله
0
إني لأرجو أن أكون أخشاكم الله وأعلمكم بما أتقي
رواه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربع عن أنس رضي الله عنه بلفظ لا يَتَمَنَّينَّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وفي الباب ذاته ما رواه مسلم رقم ۷۰ في الذكر والدعاء باب التعوذ من شر العمل ضمن حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي اخره عبارة واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شرّ
١٢٥٧

رضي
وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا النهي على عمومه أو لا احتمل لكن قد جاء إن وقعت الفتن فبطن الأرض خير للمؤمن من ظهرها ۱ وقد جاء عن علي رضي الله عنه أن الفتنة لما طالت قال اللهم إن قومي قد ملوني ومَلِلْتهم فاقبضني إليك غير مقصر ومثل ذلك عن عمر الله عنه أنه قال اللهم إن رعيتي قد انتشرت وكَبِر سني فاقبضني إليك غير مفرّط والجمع بين ذلك أنه مهما كان الرجاء في شيء من الخير أو الخوف من شيء من الشر رغب في الأسباب التي يتوصل بها إلى الخير أو دفع الشر وإبقاء حياة المؤمن من أكبر الأسباب التي يرجى بها ذلك وقد قال بقية عمر المؤمن لا ثَمَنَ لها يصلح فيه ما فَسَد أو كما قال عليه السلام فإذا كان وقت الفتن خيف على الإيمان في الغالب فبطن الأرض إذ ذاك خير للمؤمن فإنه يقبض على الإيمان وهي النعمة العظمى - منّ الله بها علينا بفضله - وقد قال صلى الله عليه وسلم في الفتن يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا أو كما قال عليه السلام فإذا جاءه شيء يخاف به زوال الإيمان فالموت إذ ذاك مع الإيمان خير من الحياة التي يخاف معها زوال الإيمان
وأما قول الخليفتين رضي الله عنهما فإنما طلبا الموت خيفة النقص وأن يكون رجوعهما إلى مولاهما على أكمل الحالات سلكا به ما قدمناه من قوله عليه السلام وأمِثْنِي ما كان الممات خيراً لي غير أن العبارة اختلفت والمعنى واحد فلا تعارض بينهما
يسر
3
وأما قوله عليه السلام فسددوا وقاربوا فقد تقدم الكلام على ذلك في حديث إن الدين
وفيه دليل على قوة رجاء المؤمنين في الله تعالى على أي حالة كانوا يؤخذ ذلك من قولهم الله إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يَسْتَعْتِب أي يعتب نفسه على ما وقع منه ويندم ويتوب لأن الاستغفار لا يكون إلا بعد الندم والندم كما قال توبة ٤
1 رواه الترمذي في الفتن وفي سنده ضعف ولفظه إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعَرَض من الدنيا
قليل
۳ رقم الحديث ٦
٤ رواه البخاري في التاريخ وابن ماجه وصححه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله
١٢٥٨

وفيه دليل لطريق القوم لأنهم يقولون ارجع إلى مولاك على أي حال كنت تجده بك
رحيماً وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومولاك موضع شكواك ومما جاء في مثل هذا ما روي في قصة يونس عليه السلام حين كان في بطن الحوت أن الله عزّ وجلّ أسمعه صوت قارون وهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة لا قرار له فيها وأسمع عزّ وجلّ لقارون صوت ذي النون عليه السلام فسأل 1 الملائكة الموكلين بعذابه أن يمهلوه حتى يخاطبه فأذنوا له في ذلك فناداه فاستجاب له فسأله عن قصته فأخبره بها فقال له ارجع إلى مولاك ففي أول قدم ترجع إليه تجده فقال له ذو النون عليه السلام وَلِمَ لمْ ترجع أنت إليه فقال له إن توبتي وكلت إلى ابن خالتي موسى يقبلها فهناك قال ذو النون لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ ٢ فأخرجه الله عزّ وجلّ إلى البر بفضله ورحمته ولذلك قال بعضهم تقواك تقواك عمدة في رجاك ورجاك رجاك عمدة في تقـواك فإن خليت منها فمولاك مولاك ثم مولاك
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ الضمير يعود على ذي النون سورة الأنبياء من الاية ۸۷
١٢٥٩

ديث الشفاء في ثلاث
عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَفَعَ رَسُولُ الله الشَّفاء في ثَلاثة شَربةِ عَسَلٍ وَشَرطةِ مِحْجَمٍ وَكيَّةِ نار وأنهى أُمتي عَن الكَيِّ رَفَعَ الحديثَ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره بأن الله سبحانه جعل الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكيّة نار والحكم الثاني انه هيه لا عن الكي بالنار والكلام عليه من نه ل ا ل ا
وجوه
منها أن يقال هل الشفاء في هذه الثلاثة المذكورة هو على العموم للمؤمن وغيره أو لا وهل الشفاء أيضاً يكون هنا عاماً من كل الأمراض أو في مرض خاص وهل يحتاج في ذلك إلى نية عند استعماله أم لا يحتاج وهل ينهيه الا الله ع ع ع ع الكي نهي كراهية أو تحريم وهل يعرف أيضاً
لذلك حكمة أم لا فالجواب عن قولنا هل هو على العموم في المؤمن والكافر أو لا ظاهره محتمل لكن قد جاء من طريق شفاء أمتي في ثلاث فإن حملنا عموم لفظ هذا على التخصيص بهذه الطريقة التي أوردناها فيكون خاصاً بأمته وإن تركناها كلّ على مقتضاه فيكون العموم في هذا أظهر وتكون الطريقة الأخرى تدل على أن هذا الخير باق ولأمته
وأما قولنا هل يكون ذلك شفاء من كل داء أو هو من أدواء مخصوصة فاللفظ محتمل لكن الأظهر العموم لأنه من طريق الرحمة والمنّ وما هو من هذا الباب فالعموم أظهر فيه وقد تكلم ناس في هذه الأحاديث وعللوا الفائدة فيها بأن جعلوها بنظرهم راجعة إلى التجربة وما يقول فيها أهل الطب فإذا رجعنا إلى بحثهم إلى التجربة وقول الأطباء فلم يبق لقول الصادق
١٢٦٠

فائدة أصلاً وهذا لا خفاء في غلط قائله والله عزّ وجلّ يقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً
1,
لِلْعَالَمِينَ ١ وقال تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى
فإذا صدقنا قول أهل التجربة وأهل الطب - وكلاهما تقدير وظن غالب ـ فيجب من باب أولى تصديق الصادق الله الله الذي يخبر عن جاعل الأشياء كيف شاء واخترعها بقدرته وحكمته فالتوفيق لا ينال إلا من طريق النعم علينا
ومما يبين أنه على العموم ما اتفق لبعض العلماء بغرب الأندلس كان من رواة الحديث عاملاً به متبعاً للسنة والسنن وكان الناس يجدون برأيه في كل ما يشير به عليهم بركة حتى شهر بذلك فكان الناس يقصدونه من الأماكن البعيدة في أخذ رأيه في المعضلات التي تصيبهم وكان في بعض الحصن بعض الفلاحين وكان له رأس بقر وكان يعيش به فسُرِقَ فلحقه منه كرب عظيم فقيل له ما لك إلا الفقيه الذي في رأيه البركة هو يجبره عليك فأتاه فأخبره بحاله وهو يبكي ويضرع إليه ويتوسل إليه بكل ما يمكنه عساه يجبر عليه رأس بقره فقال له اذهب فاحتجم
ترج ليحتجم وعادتهم في البلاد أن المزينين يسترون حوانيتهم بمناديل من صوف أو كتان فرفع ذلك المنديل لأن يدخل فإذا برأس بقره في داخل الحانوت والحانوت خالية فأخذه ثم رجع إلى الفقيه يخبره بحاله فلما أخبره قال له الحاضرون أي نسبة في قولك احتجم حتى يكون سبباً في جبر رأس البقر فإنك لما أمرته بذلك تعجبنا من بعد النسبة التي بين حاله وما أمرته به ولم نقدر أن نكلمك ثم نجح فيما أمرته به أفدنا بذلك
فقال لهم لما رأيته قد أصيب وحاله يقتضي الخوف عليه من شدة كربه ورأيته لا يقبل عذراً إن قيل له فتداركت قوله صلى الله عليه وسلم شفاء أمتي في ثلاثة شرطة محجم فأخذت الحديث على عمومه فأمرته بما أخبر به الصادق لا لا لا اله الذي لا ينطق عن الهوى فبركة السنة هي التي شفته أو
كما جرى
وحدثني بهذا بعض مشايخي من رواة الحديث وكان له العلم والدين المتين وكان من البلد الذي كان فيه ذلك الفقيه وجرت هذه فيه
وأما قولنا هل يحتاج إلى نية عند استعماله فكل ما هو من طريق النبوة فالنية أصل فيه وقد
۱ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷ سورة النجم الآية 3
١٢٦١

يؤثر لمن لم تكن له نية إذا أخذه على وجه التداوي مثلما يأخذ الدواء الذي يعطيه الطبيب فإن ذلك
المقدار من النية فيه مجزىء
وأما الذي يأخذه على طريق التجربة أو الشك فلا يزيد بذلك إلا شدة بدليل قول الله سبحانه وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ ١ وكل من لم يصدق ما قاله الصادق الله و أو شك فيه فقد ظلم نفسه فلا يزيد ما يستعمل من الكتاب والسنة إلا خساراً ورضي الله عن ابن عباس كان إذا رمدت عينه يتلو قول الله عزّ وجلّ في العسل فِيهِ شِفَاءُ لِلنَّاسِ ويكتحل به فيبرأ من حينه وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا طلع له نبت تلا الآية وطلاه بالعسل فيبرأ أيضاً فمثل هؤلاء السادة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين عرفوا الكتاب أيضاً والسنة وما به من علينا من ذلك
وأما قولنا هل لنهايه الا الله عن الكي نهي تحريم أو كراهية احتمل والأظهر أنه على الكراهة ومما يدل على ذلك أن بعض الصحابة كانت الملائكة تسلم عليه فأخذه مرض فقيل له ليس يبريك منه إلا الكي فاكتوى فلم تسلم عليه الملائكة حتى تاب وأقلع عن الكي فرجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت قبل وقد جاء أن النبي الا الله و على بعض الصحابة في أكحله ۳ لكنه لا نعلم هل كان كيه لذلك الصحابي بعد هذا الحديث فيكون فعله عليه السلام ناسخاً لقوله أو يكون قبل الحديث فيكون فعله منسوخاً بقوله فإذا احتمل الأمرين بقي موضع خلاف
وفعل هذا الصحابي الذي كانت الملائكة تسلم عليه كان كيه بعد وفاة النبي فبان أن النهي عندهم كان هو المشهور فيه الكراهية لأنه روي عنه رضي الله عنه أنه قال اكتوينا فما أفلحنا فلولا أن النهي كان معلوماً عندهم بعد موته وتأوله هو أنه على طريق الكراهية واكتوى فظهر له شؤم ما أراد ولما تاب من الكي وأقلع عنه حينئذ رجعت الملائكة تسلم عليه كما كانت وفيما جرى لهذا الصحابي دليل على أنه لا تعجل العقوبة إلا للمحبوب لكي يرجع وأما غيره فقد يؤخر إملاء لقول مولانا سبحانه إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَا ٤

وأما قولنا هل نعرف النهايه اه اه لو لعل له أم لا أما أن يفعل ولا شيئاً لغير حكمة فمستحيل وأما
ما هي فتحتمل - والله أعلم - وجوهاً
۱ سورة الإسراء الاية ۸ سورة النحل من الآية ٦٩
۳ رواه مسلم في السلام باب لكل داء دواء وأبو داود في الطب عن جابر رضي الله عنه أن أبي بن كعب رمي يوم
الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله
٤ سورة ال عمران من الاية ۱۷۸
١٢٦٢

منها أن الجاهلية وأهل الكتاب يفعلون ذلك وهو عليه السلام قد نهى عن التشبه بهم
فيكون لأجل ذلك واحتمل أن يكون لما جعلها الله تعالى للعذاب والنقم اتبع عليه السلام فيها حكمة الحكيم وأعطاها ما هو الغالب من شأنها واحتمل أن يكون عليه السلام كره ذلك من طريق الفأل فهذه سنته عليه السلام يعجبه الفأل الحسن كما فعل عليه السلام حين قال من يحلب هذه الشاة فقام رجل ليحلبها فسأله عن اسمه فلما أخبره لم يعجبه ذلك الاسم فقال له اجلس ثم لثان ثم لثالث فلما أعجبه اسمه قال له احلب ۱ فكره هنا أن يكون شفاء أحد أمته بالنار من أجل الفأل ولا يكون لها في لحم مؤمن نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة و احتمل مجموع ما ذكرناه وزيادة لأنه عليه السلام معدن الحكم والخير
وبقي سؤال وهو أن يقال كيف يخبر عن شيء أن فيه شفاء ثم ينهى عنه
فالجواب اعلم - وفقنا الله وإياك - أنه كان عليه السلام الصادق المشفق على أمته الرحيم بهم كما جاء في التنزيل فأعلمنا بما جعل الله تعالى فيها من الشفاء ونهانا عن استعمالها لما في ذلك من المضار علينا لأنا بنفس نهيه عليه السلام عن ذلك علمنا أنه قد اجتمع فيها الأمران الشفاء والمضار فغلب لا اله الله الذي هو الأصلح في حقنا - وهو النهي كما أخبر الحق سبحانه في شأن الخمر أن فيها منافع للناس ثم حرمها لما فيها من المضار في العقول والأديان

وفيه من الفقه أن دفع المضار أكد من تحصيل النفع يؤخذ ذلك من أنه لما كان في الكي النفـ
الله
والضرّ غلب عليه السلام دفع الضر فنهى عنه وهذا المعنى هو الذي فهمه حذيفة رضي عنه حيث قال كان الناس يسألون رسول الله الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن

يدركني ٢
وفيه دليل لأهل الزهد وهو أنه لما كان في الدنيا الوجهان غلبوا الضر فيها فدفعوه بالزهد فيها فنجوا وربحوا الدارين وعاد الضرر على أهلها فتعبوا في الدارين معاً
وفيه من الفقه أنه إذا كان شيء يكون فيه خير وشر ولا يقدر على دفع ذلك الشر الذي فيه يترك خيره من أجل شره ومن أجل هذا الباب كان أطباء الأبدان لما أن كانت عندهم المحمودة فيها السم القاتل وفيها النفع لإذهاب الأخلاط وقدروا على أن يحجبوا ضررها عن الأبدان بالحجب المعلومة في مقتضى صنعتهم استعملوها بتلك الحجب ولا يستعملها أحد وحدها إلا قتلته وكذلك أيضاً أطباء الأديان لما كانت النفس وما تشير إليه غالباً سمّاً قاتلاً في الدين لم

رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يكره من الأسماء رواه البخاري في الفتن ومسلم في الإمارة
١٢٦٣

يستعملوها إلا بحجاب الشريعة فإنهم لا انفكاك لهم عنها فلم تضرهم مع ذلك وانتفعوا بها وربحوا عليها الدارين جميعاً والذين استعملوها بغير حجب الشريعة قتلتهم وخسروا بها الدارين معاً أعاذنا الله من ذلك ولذلك قيل إذا كنت متقياً فشر نفسك أولاً فاتقه فإن عوفيت منها فلا
شرّ بعدها تتقيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٤

ITA-
حديث نفع الحبة السوداء
عَن أبي هُرِيرَةَ رَضي الله عَنهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ في الحبَّةِ السَّوداء شفاء مِن كُلِّ داء إلا السَّامَ قالَ ابنُ شهاب ۱ وَالسَّامُ المَوتُ وَالحِبَّةُ السَّوداءُ الشُّونِيزُ
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ جعل في الحبة السوداء ـ التي هي الشونيز - شفاء من كل داء إلا الموت والكلام عليه من وجوه
وهي كما تقدم في الحديث قبله من التوجيهات في الشفاء والانفصال عنها كالانفصال عن تلك غير أن هنا زيادة في التوجيه وهي أن عادة العرب إذا أكدت الشيء بالمصدر أو استثنت من العام بعضه دل على أن ما بقي حقيقة في العموم لا يحتمل التخصيص وقد قال الله هنا إنها ۳ شفاء من كل داء فهذا لفظ عام وقد يحتمل التخصيص فلما استثنى منه البعض قوله عليه السلام إلا السام دل على أنه شفاء عام لا يحتمل التخصيص
وقد قال بعض العلماء في هذا الحديث ما قدمنا ذكره في الحديث قبل أنه يرجع في ذلك لما يقوله الأطباء وهذا غلط محض والجواب عنه مثل الجواب في الحديث قبل وقد قال أهل صنعة الطب إن الحبة السوداء تنفع عندهم لسبعة عشر داء بالتجربة
وقد ذكر لي بعض مشايخي في الحديث والفقه - وكان قد جمع الله له الحديث والفقه والعمل بهما والتقوى - أن شيخه - رحم الله جميعهم وإيانا بفضله - كان له صاحب وكان من الزاهدين
۱ هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء تابعي من أهل المدينة توفي سنة ١٢٤هـ / ٧٤٢م كذا والصواب واستنت كما هو نص الحديث وتأكيد الشيء بالمصدر جعل الخبر عنه أو صفته أو حاله أو ما يسند إليه مصدراً والشفاء هنا مصدر وهو مبتدأ جعل كائناً في الحبة السوداء
۳ كذا أيضاً خلافاً لنص الحديث
١٢٦٥

المباركين وكان يحضر مجلسه كل يوم فلما قرأ هذا الحديث وتكلم الشيخ عليه بنحو ما أشرنا إليه في الحديث قبله جاء يوم ولم يأت ذلك الزاهد مجلس الشيخ فلما أتاه بعد سأله ما حبسك عنا فقال له إن عيني رمدت فأوجعتني فأخذت الشونيز فمضغته وألقيته داخلها فزادت وجعاً فقلت مخاطباً لها أوجعي أو طيري فما أخبر الشيخ إلا عن النبي ا ا ا ا ولا يقول له إلا حقاً فبرئتُ من ليلتي وما بقي لي فيها شيء من الأشياء المؤلمة ولا أثر منها فقال الشيخ للفقهاء مثل نية هذا هي النية المباركة التي تظهر فيها فائدة الحديث ولو استعمله أحد منكم مع الشك الذي في نياتكم لطارت عينه
وفي
هذه الحكاية دليل على ما قلناه في الحديث قبله أن الأمور التي تتلقى من الشارع الفائدة في استعمالها إنما تكون بحسن النية وإن لم يكن هناك حسن نية خيف على الشخص من زيادة الضرر وقد بينا الدليل على ذلك من كتاب الله تعالى والله الموفق للخير بفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٦٦
بولتا

حديث لا عدوى ولا طِيَرَةَ ولا هامَةَ ولا صَفَر
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا عَدْوَى وَلاَ طِيرَةَ وَلاَ صلى الله عليه وسلم هامَةَ وَلَا صَفَرَ وَفِرَّ مِنَ المجدومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما نفي هذه الأربعة وهي العدوى والطَّيَرة والهامة والصفر والثاني الأمر بالفرار من المجذوم كما يُفر من الأسد والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معناها وما الحكمة في نفيه عليه السلام ذلك وهل أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم وجوب أو ندب
أما قولنا ما معناها فإن تلك الأربعة أشياء كانت من عمل الجاهلية فمعنى العدوى وعندهم إذا كان عندهم الجمل به داء يُخرِجونه من بين الجمال ويزعمون أن ذلك الداء هو الذي يعدوه إلى غيره أي ينتقل منه إلى غيره وقد سئل عن ذلك سيدنا الله فقالوا يا رسول الله الإبل تكون مثل الظباء حتى يدخل بينهما الأجرب فيعدوها فقال رسول الله فمن أعلى الأول فنفى بقوله فمن أعدى الأول ما كانوا يعتقدون من ذلك وبيّن أن حقيقة إصابة الخير والضر على اختلاف أنواعهما في جميع الحيوان عاقلة وغير عاقلة إنما هو بقدرة الله تعالى ومشيئته لا تأثير لشيء من الأشياء في ذلك
وأما الطَّيَرَة فإنه كان من عادتهم من أصابه منهم ضرّ من شيء من الأشياء أو بسببه كان يتطير به أو يكرهه وينسب ما جاءه مما لم يعجبه أنه من ذلك وقد يكرهه وقد أخبر الله عزّ وجلّ بذلك في كتابه حيث قال قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَن لَّمْ تَنتَهُوا لَتَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَا عَذَاب
1 أي يبلغها الجرب ويصل إليها ورواية البخاري فتجرب
١٢٦٧

أَلِيرُ ۱ فجاءهم الجواب ﴿ طَرُكُم مَّعَ

وبال الشخص من سوء حاله كما قال سبحانه طَرُكُم مَّعَكُمْ
أن يصيب أحداً من أحد وبال وإنما
وأما قوله ولا هامة فإن العرب كانوا يقولون إن المقتول إذا قُتِل ولم يؤخذ بثأره يخرج من رأسه طائر يصيح حتى يؤخذ بثأره وقيل يخرج من عظامه إذا بليت فكذب له ما ادعوه من ذلك بقوله ولا هامة أي ليس ما يقولون من ذلك حقاً وفي هذا دليل على تكذيب كلّ من يدعي في خلق من خلق الله تعالى أنه متولّد عن شيء برأيه أو بكلام غيره مِمَّنْ تقدمه ويحكم على القدرة برأيه أو باستنباط حكمة يدعيها إن ذلك كله كذب وليس لعلم ذلك طريق من طريق الحكمة بالجملة الكافية إلا من طريق إخبار رسول الله ويبطل بهذا علم الفلاسفة والطبائعيين وأهل
صنعة الفلك لأن ذلك كله برأيهم ليس فيه من الشرع مستند ولا يحل تصديقهم فيما يزعمونه وأما قوله ولا صفر فإن العرب ينقلون صَفَر لرأس كل سنتين من شهر إلى شهر وكذلك المحرَّم وكذلك الحج فنهى بقوله ولا صفر حكم الجاهلية في ذلك وأقر الأمر على ما جعله الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كما ذكر عزّ وجلّ في كتابه مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدين القيم ۳
ويترتب على ذلك من الفقه أن لا حكم في الأشياء وأسمائها ووضعها إلا لله تعالى ولرسوله إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءُ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَمَا بَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَنَ ٤
وقيل إنه دود في البطن يقتل من أصابه فأزال بقوله هذا ما كانوا يتوهمونه من ذلك حتى يعلموا أن الميت إنما يموت بأجَلِه ولا يلتفت لعادة الجاهلية في ذلك
ويترتب على هذا من الفقه أنه لا يعمل من الأسباب إلا الذي جاءت به السنة لاتباع الأمر أو ما كانت جارية وأبقتها السنة مثلما كان يعجبه الله الفأل الحسن وقد كان ذلك من فعلهم في الجاهلية فأقرته السنة ومثل القسامة ٥ وعقل العاقلة ٦ وما أشبه ذلك
1 سورة يس الآية ١٨ سورة يس من الآية ۱۹ ۳ سورة التوبة من الآية ٣٦
٤ سورة النجم من الاية ۳
٥ القسامة قسم أو يمين يحلفها خمسون من أهل الحيّ يختارهم أهل القتيل المجهول قاتله في هذا الحي أنهم
ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا فتبرأ ذمتهم ٦ العاقلة العشيرة تتحمل عن القاتل خطاً لا عمداً ولا صلحاً ـ دِينَهُ يفترض فيهم الإهمال لشأنه حتى ارتكب جريمته فهي مسؤولية جماعية مادية وتدل على الروح التضامنية للجماعة والدية مائة ناقة أو عشرة الاف =
١٢٦٨

وفيه دليل على أن الأصل في الدين أن لا تأثير في الوجود لشيء بذاته وإنما التأثير للقدرة
نفسها أو ما جعلته القدرة بمقتضى الحكمة وغير ذلك محال ولذلك قال أهل العلم إن بروز القدرة إلينا في الأشياء على ضربين منها ما هي مغطاة بيد الحكمة ومنها ما هي بارزة بذاتها لا
تغطية عليها
وأما قولنا ما الحكمة في نفيه عليه السلام تلك الأربعة أشياء فلوجوه منها أن التأثير في الأشياء كلها للقدرة كما تقدم وغير ذلك محال لأن هذا من حقيقة الإيمان ومنها نفي التغيير الذي قد يعلق في النفوس من تلك العوائد لمن فعلها ولذلك قال إذا تطيَّرت فامض أي لا
ترجع
عليه
عما كانت عليه نيتك قبل فإن ذلك التطير لا يمنع شيئاً ولا يجلبه ومنها شفقته السلام على أمته ليريحهم من التعب الذي يلحقهم بالتقيد بتلك العوائد المذمومة ولا فائدة لهم فيها ومنها إبقاء التوادد بين المؤمنين

يؤيد هذا المعنى الذي أشرنا إليه قوله عليه السلام في الشؤم إن كان ففي الدار والمرأة
والفرس ٢ فإن هذه الثلاث مما يمكن الانفصال عنها وليس على أحد في ذلك كبير مشقة ولم يحقق عليه السلام الشؤم فيها وإنما قال عليه السلام إن كان - على زعمكم - ففي هذه الثلاث ونفاه أن يكون في ابن أو أخ أو صاحب أو قريب من الأقرباء أو في شيء من الأطعمة أو فيما يتمول من الأشياء سوى ما ذكر حتى تبقى نفوس القرابة والأصحاب مجتمعة لا يجد أحد بأحد تغيّراً وكذلك فيما فتح الله تعالى عليه من جميع المتمولات

وترى اليوم يتطير بعض الناس ببعض اخر أو ببعض أبنائهم أو أصحابهم ويقولون ما
حدث لفلان إلا حين ولد له فلان ويكره ذلك الابن من بين بنيه ويوافقهم على ما زعموا وكذلك في الأصحاب ومن يلقونه يقولون ما حرمت اليوم إلا من كوني لقيت فلاناً وقد شاع هذا في
درهم أو ألف دينار وكانت هذه الأنواع الثلاثة متعادلة القيمة والعقل تحمل الدية بهذا الشكل المشترك 1 كذا بإظهار ما حقه الإدغام قال بعض العلماء إن السيدة عائشة رضي الله عنها استدركت على الصحابة بعض أحاديث ومنها هذا الحديث وقالت قال رسول الله قالت اليهود إن يكون الشؤم ففي ثلاث إلى اخر الحديث وفريق اخر وهو جماعة المحدثين قالوا حديث إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس رواه البخاري في الطب باب الطيرة وباب لا عدوى وفي البيوع باب شراء الإبل وفي الجهاد باب ما يذكر من شؤم الفرس وفي النكاح باب ما ينفى من شؤم المرأة ورواه مسلم في السلام باب الطيرة والفأل والجمع بين رأي بعض العلماء والمحدثين يكون بحمل إنكار السيدة عائشة على ابن عمر وأبي هريرة على قضايا ووقائع خاصة لا على العموم والاختلاف هنا ليس من باب تعارض الأخبار بل من باب الزيادة المفيدة في الحكم فتقبل باتفاق ولاسيما أن الترمذي نقل عن السيدة عائشة رواية فيها موافقة الجماعة فعلى هذا فروايتها مع الجماعة أولى من روايتها على الانفراد كما رجحوا ذلك في مواضع
١٢٦٩

الناس كثيراً وهذا مخالف لسنة الرسول له الا الله ولما نص عليه في هذا الحديث وهو جاهلية محضة وكفى بهذا شؤماً لأن الشؤم كله والشر كله مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بين العلماء الشؤم الذي في تلك الثلاث فقالوا شؤم المرأة سوء خلقها وشؤم الدار سوء جارها وشؤم الفرس ألا يجاهد عليه في سبيل الله وأما جوابه للمرأة التي أتت تشكو له حالها بدارها حيث قالت أتيتها والعدد كثير والمال ا وافر فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة ۱ فليس فيه تحقيق الشؤمها وإنما قال ذلك ترويحاً لخاطرها كأنه عليه السلام يقول ليس يلحقك منها شيء إذا رحلت عنها وتبقى هي مما نسبت أنتِ إليها ذميمة عندك لا تلتفتي إليها
وهنا تنبيه على الشؤم الذي قد تحقق بالكتاب والسنة لكل من لا يرجع عنه وهو الذنوب والمعاصي فإن شؤمهما لا يفقد في الدارين حساً ومعنى وهذا الشؤم الذي قد نفته الشريعة تعلقت به النفوس إلا القلائل وهم أقل التوفيق قاتل الله أخا الجهالة على نفسه ما أعداه وعن الحق ما
أعماه !
وما أمره عليه السلام بالفرار من المجذوم هل هو على الندب أو الوجوب أو من طريق الشفقة احتمل والأظهر أنه من طريق الشفقة بدليلين أحدهما من فعله عليه السلام وهو أنه روي عنه أنه أكل مع المجذوم في صحفة واحدة وقال بسم الله لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ٢ فلو كان الفرار منه واجباً أو مندوباً كان عليه السلام أول من يفعله والدليل الآخر أنه قد ذكر من طريق الطب أن تلك الروائح التي لهم تحدث في الأبدان خللاً وتتألم النفوس أيضاً منها ومن شفقته عليه السلام على أمته كل ما فيه لهم ضرر في أي وجه كان ينهاهم عنه وكل خير في أي نوع كان يدلهم عليه فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته
وأما قوله عليه السلام كما تفر من الأسد فهو مبالغة في الهرب منه لأن العادة في فرار الناس من الأسد أنهم يكونون منه في البعد بحيث لا يشمون له رائحة ولا يلحقهم منه نفس وهم يشتدون في الهرب فهو غاية في الهرب ويمكن الجمع بينه وبين فعله عليه السلام وقوله أن قوله
۱ رواه الإمام مالك في الموطأ في الاستئذان باب ما يتقى من الشؤم وإسناده منقطع قال الزرقاني في شرح الموطأ قال ابن عبد البر إنه محفوظ عن أنس وغيره ولكن الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أنس أن السائل رجل وعند مالك امرأة فيجمع بينهما بأن كلا من الرجل والمرأة سأل عن ذلك ليس في نص الحديث أن رسول الله الا الله و قال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن جابر بلفظ أخذ النبي الله بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة فقال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه
۱۷۰

هو المشروع لنا من أجل ضعفنا فمن فعله فقد أصاب السنّة وهي أثر الحكمة الربانية وفعله عليه السلام هو حقيقة الإيمان والتوحيد لأن الأشياء كلها ما جعل الله تعالى لها تأثيراً إلا بمقتضى جریان حکمته سبحانه وسنته في خلقه وما لم يجعل له ذلك فلا تأثير له وما الكل إلا بقدرته عزّ وجل وإرادته
يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ۱ فمن كانت له

قوة يقين وصدق إيمان فله أن يتبعه عليه السلام في فعله ولا يضره شيء وهو في فعله متبع للسنة ومن كان يقينه ضعيفاً فله أن يتبع أمره عليه السلام في الفرار ولا يجوز له مع الضعف أن يتبع في الفعل لأنه عري عن شروطه وقد يدخل بفعله ذلك تحت قوله تعالى وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ ٢
ويترتب على هذا من الفقه أن الأمور التي يكون فيها توقع ضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها أن الضعفاء لا ينبغي لهم أن يقربوها وأن أصحاب اليقين والصدق مع الله تعالى في ذلك بالخيار إن شاؤوا أخذوا بأحد الوجهين الفعل أو الترك لأنهم لهم أسباب ذلك متمكنة وقد ذكر عن بعض السياحين أنه كان له رفيق في طريقه فمرا على مغارة وهي ضيقة العبور وإذا بها أسد فقال لصديقه مُرٌ ولا تبال فقال له صديقه السنة واسعة إني لا أمر عليه ومرّ عليه أنت ففعل فتقدم ومرّ عليه فلم يضره ورجع صديقه عن ذلك الموضع إلى موضع ثانٍ لكونه لم يجد في الوقت من اليقين ما وجد صاحبه فعمل كل منهما على ما اقتضاه حاله وهذا هو الشأن وفي قوله له عند الأكل مع المجذوم لن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ۳ دليل على أن مقتضى الحكمة الربانية أن يصيبه من المجذوم أذى لمن يدنو منه وفي أمره عليه السلام بالفرار دليل على أن الحكم يعطى للغالب يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بالقرار على العموم لأن الغالب من الناس هو الضعيف فجاء الأمر بحسب ذلك تنبيه وإذا أمرنا بالهرب من جذام الأبدان فمن باب أولى الهرب من جذام الأديان وهم أصحاب البدع والشَّيَع لأن المرض في قلوبهم والسم الباطن أشد سرياناً من الظاهر ومن أجل هذا روي عن بعض علماء السنة أنه كان في زمانه بدعيّ فجاءه يوماً يرغب منه أن يقرأ عليه آية من كتاب الله تعالى فحلف ألا يفعل وأخرجه من عنده فقيل له في ذلك فقال لم يأت بتلك الآية إلا
۱ سورة البقرة من الاية ۱۰ سورة البقرة من الآية ۱۹٥ ۳ سورة التوبة من الآية ٥١
۱۷۱

وقد دبّر معها مكيدة في الدين فالهرب من أهل الزيغ والزلل سبيل النجاة وقد نبه على ذلك بقوله الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من الجليس السوء ۱ أو كما قال عليه السلام وقال بعضهم في هذا المعنى يقاس المرء بالمرء إذا هو ماشاه وللشيء من الشيء مقاييس وأشباه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير خير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشر

حديث الأمر باتخاذ السترة للمصلي
عَن أبي جُحَيفَة رضي الله عنهُ قالَ رَأيتُ بلالاً جاءَ بعَنَزَة ٢ فَركَزَها ثُمَّ أَقامَ الصَّلاةَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في حُلَّةٍ مشَمِّراً فَصَلَّى رَكمَتينِ إِلى العَنَزَةِ وَرَأيتُ النَّاسَ والدَّوابِّ يَمُرُونَ بَينَ يَديهِ مِن وَراء العَنَزَةِ
ظاهر الحديث يدل على أن العنزة سترة للمصلّي وأن المارّ خلفها لا شيء عليه ولا على المصلي والكلام عليه من وجوه
منها في صفة العنزة وهل يجزىء في سترة المصلي غير تلك الصفة
فأما صفتها فقد ذكر العلماء أنها مثل مؤخَّرة الرَّحل طولاً وغلظاً وقد جاء عنه الله حين سُئِل عن سترة المصلي فقال قدر مؤخرة الرحل ومنهم من حَدّها بما يقرب من ذلك وهو أن يكون طولها ذراعاً وغلظها غلظ الرمح وبقي الخلاف بينهم فيما لم يكن على تلك الصفة مثل ستر العورة بالثوب وما أشبهه فمن لحظ تلك الصفة التي كان ل و فعل قال لا يجزى غيرها ومن عَلَّل وقال ما جعلت السترة إلا من أجل عدم التشويش أجاز ذلك ولذلك اختلفوا في الخط في الأرض هل يجزىء عن السترة أم لا على قولين وفيه دليل على جواز الصلاة بالتشمير يؤخذ ذلك من قوله مشمراً إلا أنه نص الفقهاء ألا يكون ذلك التشمير من أجل الصلاة فإذاكان لضرورة ما فله أن يصلي به على حالته
الجمعة
وهو
1 أبو جحيفة وهب بن عبد الله بن مسلم بن جنادة السوائي ويقال له وهب الخير صحابي توفي وهو مراهق وسكن الكوفة وولي بيت المال والشرطة لعلي رضي الله عنه وكان يقوم تحت منبره يوم آخر من مات بالكوفة من الصحابة سنة ٦٤ هـ
العَنَزَة أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زُج كرج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير
۱۷۳

وفيه دليل على أن السنة في السفر التشمير يؤخذ ذلك من أن هذه الصفة لم ترو عنه الا الله إلا
في السفر
وفيه دليل على أن إقامة الصلاة لا تكون إلا بعد ما يُفرغ من كل ما تحتاج الصلاة إليه والتهيئة لذلك يؤخذ ذلك من أن بلالاً لم يُقِم الصلاة إلا بعد ما فرغ من ركز العَنزة
وفيه دليل على أن وقت الشروع في أمور الصلاة من الإقامة وما يقرب منها لا يُشتغل بشيء وإن قل يؤخذ ذلك من كون بلال فرغ من ركز العنزة وهو شيء يسير جداً وحينئذ أخذ في الإقامة وبلال لا يفعل ذلك إلا بأمر النبي علي
ويترتب عليه من الفقه خلو القلب عند التلبس بالعبادة من كل شيء وإن قل يؤيد هذا قوله
تعالى ﴿فَإِذَا فَرَغَتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ﴾ ١
من
وفيه إشارة إلى أن المسافر يُقدم في سفره ما يحتاج إليه من ضروراته لدينه بحسب ما يعرف طريقه ويدفع ذلك في رحله يؤخذ ذلك من حمله لا اله الله العنزة في رحله ولأجل هذا قال العلماء ينبغي للمرء أن يكون له في بيته تراب طاهر أو حجر معدّ للتيمم من أجل أن يطرقه بالليل مرض لا يمكنه معه الطهارة بالماء فإذا كان عنده أحد الأشياء التي يجوز التيمم بها يتيمم لئلا تتعطل عليه فريضة وإلا كان مفرّطاً في دينه
وفيه دليل على أن القَصْر في السفر أفضل يؤخذ ذلك من قوله صلَّى ركعتين لأن العلماء اختلفوا في القصر في السفر فمن قائل بالوجوب ومن قائل بضده إلا لعذر ومن قائل بجوازه والذين قالوا بجوازه اختلفوا أيضاً أيهما أفضل هل القصر أو ضده بحسب ما ذكر في كتب
الفروع
وفيه دليل على أن من السنّة حُسْنَ الزِّي في الصلاة يؤخذ ذلك من قوله في حلة والحلّة عندهم هي أحسن الزي لأنها ثوبان تستر الجسد كله
وفيه دليل لمن تأول السترة وعللها بأنها لزوال التشويش يؤخذ ذلك من قوله ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه من وراء العنزة فإنه لا شيء للخاطر أشد تشويشاً من مرور الناس والدواب بين يديه
وبقي بحث وهو أن يقال هل جَعَلُ العنزة على ذلك القدر الذي تقدم ذكره تعبّد لا يعقل له
۱ سورة الشرح الايتان ۷ و ۸
١٢٧٤

عنى أو هو مما يعقل له معنى فإن قلنا لا يعقل معناه فلا بحث ووجب الاتباع لا غير وإن قلنا له معنى - وهو الأظهر - فما هو فنقول والله أعلم
لما كانت الصلاة لها تلك الحرمة العظيمة - كما تقدم ذكره في حديث الإسراء - وكانت قبلُ في الأمم الخالية لا يُوقعونها إلا في المواضع التي نُصبت لها وقد أمر الله عزّ وجلّ برفع تلك المواضع إكراماً للصلاة التي تُوقع فيها بقوله عزّ وجلّ و فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ ۱ ثم إن الله عزّ وجلّ مما خص به سيدنا أن جعلت له الأرض له مسجدا وطهورا أي في كل موضع منها يجوز إيقاع الصلاة فيه - كما تقدم في الحديث قبل بقوله عليه السلام حيثما أدركتك الصلاة فصل - وقال عليه السلام في شأن المارّ بين يدي المصلي الأن يقف أربعين خريفاً خيرٌ من أن يَمُرَّ بين يَدَيْهِ ۳ فبحلول وقت أداء الصلاة صارت جميع الأرض مستحقة للمصلي يوقع صلاته حيث شاء منها وبقيت حقوق الناس منها في المرور وغيره متعذرة ممنوعة حتى يفرغ هذا من صلاته فأحكمت السنة بجعل العنزة تحديداً للبقعة التي اختارها المصلي لوقوع صلاته وبقي ما عداها من الأرض لجميع الناس لا حَجْرَ عليهم في تصرفهم فيها من مرور وغيره فجاء قوله لا ضرر ولا ضرار ٤ فبقيت حرمة الصلاة على ما هي عليه وبقي الناس على ما لهم في الأرض من المنافع لم يضيّق عليهم لأن الدين - كما تقدّم - يُسر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الذي يمر بين السترة والمصلي إنه شيطان ٥ لكونه خالف حدود الشريعة وبهذا التعليل يصح ما جاء من جواز أن يكون الخط في الأرض سترة فإن البقعة تتحدد به وتنحاز من غيرها وتكون العنزة أفضل من الخط لأنها أكثر فائدة في حق المارّ فإن المارّ قد لا يرى الخط ويمر بين السترة وبين المصلي فيقع في الإثم والعنزة بذلك القدر لا تخفى على أحد ولهذه الفائدة - والله أعلم - جُعِلت في الارتفاع قدر مؤخّرة الرحل لأن ذلك القدر من الارتفاع لا يخفى على أحد
وفيه دليل على أن سيدنا لا يفعل من الأمور كلها إلا الأرفع والأفضل يؤخذ ذلك من أنه
1 سورة النور من الآية ۳٦ رواه ابن أبي شيبة عن أبي ذر رضي الله عنه ۳ رواه الإمام مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي جهم رضي الله عنه بلفظ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خريفاً خيرا من أن يمرّ بين يديه ٤ رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس والبيهقي عن عبادة بن الصامت وأبو نعيم والطبراني عن ثعلبة ابن
مالك القرظي رضي الله عنهم ه رواه ابن خزيمة والطحاوي وأبو عوانة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي فليمنعه مرتين فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان
۱۷۰

لما كانت العنزة فيها زيادة الفائدة التي ذكرنا كان يحملها في رحله وعلى هذا التوجيه الذي ذكرناه تتبين فائدة قوله عليه السلام سترة الإمام سترةُ مَنْ خَلْفَه ۱ لأن بها تحيزت البقعة التي للصلاة أولاً ويكون آخرها بقدر ما تبلغ إليه صفوفهم فتنبَّة إلى هذا النوع من أنواع الصلاة ولا يكون بينها تعارض إن شاء الله تعالى وغيره من التعليل قد ينكسر في بعضها وقد قيل الفقه بالفهم فانتبه لا برواية وإن عَلَت
اللهم واجعل ما أنعمت به علينا في هذا الحديث الجليل مما أظهرته على يد محمد نبينا الكريم من باهر قدرتك وما أبديته لنا من أنوار حكمتك فيما تعبدت به عبادك المؤمنين نوراً في قلوبنا وتقوية في إيماننا وثلجاً في يقيننا وتزكية في أعمالنا وبلغنا بها الزلفى وحسن المآب
إنك أنت الكريم الوهاب
وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الطبراني في الأوسط عن أنس وعبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً
١٢٧٦

حديث تحريم لبس الحرير

عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ فَلَبِسَهُ ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ثُمَّ انصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَرْعاً شَديداً كالكَارِهِ لَهُ ثُمَّ قَالَ لاَ يَنبغي هَذا
۱ رَضي الله عَنهُ قالَ أَهدي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَّوجُ حَريرِ
للمُتَّقِينَ
ظاهر الحديث يدل على كراهية لباس الحرير للمتقين والكلام عليه من وجوه منها هل يجوز لغير المتقين وهل تلك الكراهة كراهة تنزيه أو تحريم
أما قولنا هل يجوز لغير المتقين إذا عرفنا حقيقة هذا الاسم حينئذ نتكلم في غيره وما يلزمه من هذا الحديث أما التقي فهو اسم يعم جميع المسلمين لكن الناس فيه على درجات ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه و لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۳ فكل من دخل في الإسلام فقد اتقى أي وقى نفسه من الخلود في النار فإن اتقى ثانية ومنع نفسه من المعاصي فقداتقى حَد أي وقى نفسه من دخول النار فإن رسول الله الله يقول الإيمان إيمانان إيمان لا يُدخل صاحبَه النار وإيمان لا يخلّد صاحبه في النار فالإيمان الذي لا يخلّد صاحبه في النار هو الإيمان مع المعاصي والذي اتقى التقى الثالث هو في درجة الإحسان لأنه اتقى بالله ما سواه فلم ير في الوجود سوى الواحد الأحد كما قال ع ل أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ٤

۱ عقبة بن عامر الجهني أمير معاوية على مصر صحابي فقيه فصیح شاعر قارىء كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم وشهد صفين مع معاوية رضي الله عنه وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد من جمع القرآن له ٥٥ حديثاً توفي بمصر سنة ٥٨هـ
الفروج قباء شق من خلفه ۳ سورة المائدة من الاية ۹۳

قطعة
من حديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن عمر رضي الله عنه وأوله بينما نحن جلوس =
۱۷۷

وهذا مقام الخصوص وبقي عدا المؤمنين - وهم الكفار - فمن قال إنهم مخاطبون بفروع الشريعة فلا يبيحه لهم ومن قال إنهم ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة أجاز لهم لبسه
ذلك
وأما قولنا هل الكراهية على التحريم أو التنزيه لفظ الحديث محتمل لكن قد جاءت القرائن من خارج تدل على التحريم لأنه قد جاء عنه لا اله الا هو أنه قال في الحرير إنه حرام على ذكور أمني ۱ والآثار في هذا النوع كثيرة فقد ثبت تحريمه بالسنة على ذكور هذه الأمة لا خلاف في بين العلماء وإنما الخلاف بينهم هل يستعمل عند الضرورة ويقدّم على غيره أو لا مثل ما إذا لم يكن لشخص إلا ثوبان أحدهما نجس والآخر حرير فمنهم من قال يصلي في الحرير ومنهم من قال يصلي في النجس وكذلك لباسه في الحرب فمنهم من منعه - وهو مالك والجمهور ومنهم من أجاز ذلك بشروط وهو الشافعي ومن تبعه
والشروط التي ذكرت عنه أن يكون لابسه عادماً لما يتقي به عن نفسه من الات الحرب مثل الدرع وما يشبهه من عدة الحرب ويكون ثوب الحرير خشناً لأنه يرد عنه الأذى وأما أن يكون لبسه للزينة في حرب أو غيره فهذا لا يجوز وما اتخذه بعض الناس اليوم من لبسه في الحَضَر والسفَر على وجه الزينة فحرام بالإجماع لا يجوز ولابسه عاص وصلاته مختلف فيها هل تصح أو لا تصح والغالب عدم صحتها وسواء كان اللباس منه كبيراً مثل القباء وما يشبهه أو يسيراً مثل الكوفية وما يشبهها فالباب واحد
وفيه دليل على جواز الهدية وقبولها يؤخذ ذلك من قوله أهدي الرسول الله الله لكن الهدية على ثلاثة أوجه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هدية لوجه صاحبك فلك وجه صاحبك وهدية للثواب فلك ما أردت وهدية لوجه الله تعالى فتلك التي ثوابها على الله أو كما قال
وبقي في الهدية تقسيم اخر قسمه العلماء لا يخلو صاحب الهدية أن يكون كسبه حراماً أو حلالاً أو مختلطاً فإن كان حراماً فلا تحلّ وإن كان حلالاً فجائزة بلا خلاف وإن كانت ممّن كَسْبُه مختلط فأربعة أقوال بالجواز وبعدمه وبالكراهة وبالتفرقة إن كان الحلال الغالب على كسبه فجائزة وإن كان الحرام الغالب فممنوعة هذا إذا خَلَت الهدية أن تكون رشوة فإنها إذا كانت على هذا الوجه فحرام وذلك هو السُّخت بعينه
عند رسول الله لا ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر
الخ
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أن النبي لا لا الله قال إن هذين حرام على
ذكور أمتي حلال لإناثهم يعني الذهب والحرير
۱۷۸

وبقيت علة التحريم هل هي معقولة المعنى أو هي تعبد فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن
قلنا معقولة المعنى فما هي فنقول والله أعلم إن العلة فيه كالعلة في التختم بالذهب واستعمال أواني الفضة والذهب وهي أنه لما كان الحرير لباس المؤمنين في الجنة منعه كما قال في أواني الذهب والفضة إنها أواني أهل الجنة وقال فيها في حديث آخر عن الكفار هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة 1
كذلك يخرج الجواب على الحرير مثل الأواني سواء بسواء في كون مولانا سبحانه أنعم على المؤمنين بدار كرامته وجعل لباسهم فيها الحرير وانيتهم فيها الفضة والذهب ثم أنعم على الكفار أنه أعطاهم نصيباً من ذلك في هذه الدار وشاركهم في ذلك طائفة من المؤمنين وهم النسوة وما يلحق لأزواجهن من التمتع بتلك الزينة منهن تحقيقاً لصفة الرحمة حتى تعم جميع عباده سبحانه يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ ٢
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن عبادة عباده وأنه لا تضره معصية العاصين لأنه سبحانه قد أنعم على الكفار وهم على ما هم عليه من كفرهم وهو أعظم المعاصي فقد أَناَلَهُم عَزَّ وجلّ طَرَفاً من الرحمة في هذه الدار فلو كان يناله تعالى منها ضرر لم يكن يرحمهم في هذه الدار ولا في تلك الدار ولم يكن أيضاً يلحق المؤمنين عذابٌ ولا الام في هذه الدار ولا في تلك الدار فسبحان من تنزه وتعالى وتقدس واستغنى عن عبادة العابدين

وبقي بحث وهو ما الحكمة في أن أبيح لبس الحرير للنسوة وهنَّ في جميع أمور الدين شقائق الرجال فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم لها وجوه منها أنه لما علم الله من ضعفهن وقلة صبرهن عنه لأن النفوس كثيراً ما تتعلق به فلطف عزّ وجلّ بهن في إباحة لبسه أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٣ ووجه آخر وهو آن زينتهن به ليس في الغالب لهن بل هي لأزواجهن وتزين الزوجة لزوجها من جملة حُسْنِ التَّبعل وحسن التبعل من الإيمان فلما عَرِي لبسهن له عن حظوظ النفوس وكان لبسه لهن مما يُعين على أوصاف الإيمان - وهو حُسن التبعل - أبيح لهن ذلك واحتمل أن تكون إباحته لهن من طريق اللطف بالرجال لأنه لو حُرِموه جميعاً لكان مستباً
1 أخرجه الشيخان والبيهقي في الشعب عن حذيفة رضي الله عنها وأوله لا تشربوا في انية الذهب والفضة
سورة الأعراف من الآية ٣٢ ۳ سورة الملك من الاية ١٤
۱۷۹

للجميع للوقوع في الحرام لأنهم يرون الكفار يتنعمون بلباسه وهم قد مُنعوا منه بأجمعهم فما كان يثبت هنا إلا القليل منهم ومما يؤيد هذا التفسير قوله تعالى ﴿ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفًا مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِحَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِم أَبْوَبا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِتُونَ وَزُخْرُفًا ۱ فلكرامة الإيمان وأهله منع الله عزّ وجلّ الكفار مما ذكر في كتابه ولكرامة الإيمان وأهله أباح للمؤمنات ما أباح لهن من لبس الحرير
إشارة صوفية هي أنه لما كان لبس الحرير من أعلى الملابس وبلبسه تبلغ النفوس أعلى حظها في جنس اللباس حُرِّم على الذكور الذين فيهم الفحولية وأبيح للأنوثية دل بهذا على أن من فيه فحولية في الهمة يبتعد عن جميع ملذوذات الدنيا على اختلاف أنواعها ولا يعرّج عليها وإن كان بعضها مباحاً أيضاً على لسان العلم ويزهد في جميعها إلا بقدر ما فيها عَوْن على الدِّين وكذلك كل ما كان للنفس فيه حظ لا يعرج عليه وإن كان بعضه مباحاً أيضاً على لسان العلم إلا بقدر ما فيه عون على الدين
في مثل هذا كان تنافسهم حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه كان مجاوراً بمكة وكانت بيده صنعة يرد فيها في اليوم جملة دراهم فلا يعمل من تلك الصنعة التي يعرفها ولا يشتري لنفسه شيئاً يقتات به إلا حتى ٢ يرى محتاجاً فيرهن شملة كانت له فيما يحتاج في تلك الصنعة فيعمل يومه ذلك ثم
يفدي شملته آخر النهار ويكون أكله تابعاً لذلك المحتاج الذي راه

الله
ومما يقوي حسن فهمهم قول عمر رضي الله عنه حين تكلم معه بعض الصحابة رضي عن جميعهم بأن يحسّن لنفسه في أكله ويطيبه فإن في عافيته وصحته منفعة للمسلمين فجاوبهم بأن قال لهم كان لي صاحبان ۳ وقد ماتا فأنا أشاركهما فيما كانا عليه من العيش الغليظ لعلي أشاركهما في عيشهما الرغيد أتريدون أن أكون ممن قال عزّ وجلّ في حقهم أَذْهَبْتُم طَيْبَتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْنَعْتُم بِهَا ٤ فتعس من ادعى الفحولية وهمته أدنى حالة من الأنوثية ويهرج بلسان العلم وهو لا يعلمه من علينا بعلو الهمة والمساعدة على ذلك بمنه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزخرف ٣٣ - ٣٥
كذا بزيادة إلا قبل حتى ۳ يريد محمد ا ا ل للهو و أبا بكر رضي الله عنه ٤ سورة الأحقاف من الاية ۰
۱۸۰

حديث النهي عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضي الله عَنهُما قالَ قالَ رَسُولُ الله لَعَنَ الله المُتَشبِّهِينَ مِنَ الرّجالِ بالنِّساء والمتَشبَهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرّجال
ظاهر الحديث الدعاء منه باللعنة على من تشبه من الرجال بالنساء وعلى من تشبه من النساء بالرجال والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى اللعنة وهل هذا التشبه مطلقاً في كل الوجوه أو على شيء مخصوص وهل هذا الدعاء من النوع الذي هو مخوف أو ضده وهل هذه اللعنة لحكمة نعلمها أو تعبد ليس إلا وهل الواقع في هذا تكون التوبة ترفع عنه ما لحقه من ذلك أو لا
به
أما قولنا ما معناها فإن اللعنة في اللغة هي البعد قال الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ فَأَذَنَ مُؤَذِّنٌ بينهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ ﴾ ۱ أي أن الله أبعدهم فمن أبعده الله تعالى فهو أخسر الناس فإن لعنة الله لا غاية لها أعاذنا الله من ذلك بحرمة نبيه الا الله فهذا في الزجر والنهي أكبر من الحدود التي جعلت في المعاصي لأن تلك الحدود كفارة لهم لما وقعوا فيه وهذا البعد لم يجعل لصاحبه مخرج على لسان الشارع عليه السلام وقد وقع من كثير من الناس التهاون بذلك وقعوا فيه ولا يحسبونه شيئاً نعوذ بالله من الحرمان وأما قولنا هل هو مطلق من كل الوجوه أو هو من وجه ما أما ظاهر اللفظ فمحتمل وأما الذي قد تقرر مما فهم من قواعد الشريعة خلَفاً عن سلف فهو في زِيّ اللباس وبعض الصفات والحركات وما أشبه ذلك وأما التشبه بهم في أمور الخير وطلب العلوم والسلوك في درجات التوفيق فمرغب فيه وقد عاد اليوم عند بعض الناس - وإن كانوا من الذين يشار إليهم - الأمر
1 سورة الأعراف من الآية ٤٤
۱۸۱

بالعكس فإنهم يمنعون النسوة من تَعَلَّم العلم ويرونه من باب المذموم لهم ويتشبه النساء بالرجال في زيهم ويرونه من قبيل النبل والكيس فإنا لله وإنا إليه راجعون على الخلل الذي وقع في الدين بوضع الأمور على ضد ما وضعها الشارع عليه السلام وكثرة التهاون في ذلك
وأما قولنا هل هذا الدعاء مما هو مخوف أو ضده وهو المرجو خيره لقوله صلى الله عليه وسلم إني عهدتُ عند ربي عهداً أيُّما بَشَرٍ عهداً أيُّما بَشَرِ لعنته من أمتي أو سببته أن يجعلها عليه رحمة١ أو كما قال عليه السلام اعلم - وفقنا الله وإياك - أن دعاءه لله على أحدٍ من أمته أو سبه إياه أو لعنته له على ضربين منها ما هو على طريق الزجر والنهي عن شيء في الدين وما هو في معناهما فإن ذلك من النوع المَخُوف من لحوق الوبال من أجله فإن المنع بذلك أشدّ من الحدود كما بينا أول الكلام وما كان من ذلك على وجه الغيظ والحرج فذلك الذي ظاهره مخوف وهو رحمة في الحقيقة وقد نص على ذلك لأنه قال يا رب إني بَشَر يلحقني ما يلحق البشر من الغيظ فأيّما أحدٍ من أمتي سَبَبتُه أو لعنته فاجعله له رحمة وهذا الدعاء هنا من قبيل الزجر والردع فهو مخوف وأي مخوف
وأما قولنا هل هذا الزجر لحكمة نعلمها أو تعبد فالحكمة في ذلك ظاهرة لا خفاء بها وهي إخراج الشيء عن الصفة التي وضعتها عليه حكمة الحكيم كما قال عليه السلام لعن الله الواشِمَةَ والمستوشِمَة والواصِلَة والمستوصلة ۳ وعُلَّل هذا بتغيير خَلْق الله تعالى فهناك تغيير خلقةٍ وهنا تغيير صفةٍ فالعلة واحدة لأن تينك الطريقتين المذمومتين تضمنتا وجوهاً من وجوه الضلالات فمنها إخراج صفته بجهله عما رتبه مَن له الأمر سبحانه ومنها التشبه بصفة الخلق والاختراع لأن الله عزّ وجلّ قد خلق أشياء وجعل لها صوراً وصفات فمن غير منهما صورة أو صفة على خلاف ما وضعت عليه فقد نازع الجليل القادر في قدرته واختراعه وفيه أيضاً
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر فأيما مؤمن أنا اذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وسيَرِدُ لهذا الحديث رواية أخرى بعد سطور معدودات
٢ أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللهم إنما محمد يغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فأيما مؤمن اذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته إلى اخر الحديث ۳ أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة

إظهار سوء الأدب حقيقة لأن أدب العبودية موافقة الموالية في كل الأشياء التي شاءتها على أي نوع شاءتها وأشياء من هذا النوع عديدة إذا تأملتها وفيما ذكرنا منها كفاية
وأما قولنا هل توبة الواقع في شيء من ذلك رافعة لما قد لحقه من الوعيد أو لا فإن جعلناه من جملة المعاصي ليس إلا فيدخل تحت قوله ل التوبةُ تَجُبّ ما قبلها ۱ وإن قلنا إن دعاءه عليه السلام يُلحق الواقع في ذلك الذنب أمراً زائداً من الخسارة والحرمان لأن دعاءه عليه السلام مستجاب فبقي الأمر محتملاً أن يذهب ذلك بالتوبة كما يذهب الذنب أو ذلك أمر قد وقع بالشخص لا يرتفع عنه ذلك الحرمان وإن تاب الأمر محتمل وليس لنا دليل قطعي على
أحد الوجهين
ويترتب على هذا من الفقه أن الوقوع في الكبائر التي لها حدود وعقاب معلوم خير من الوقوع في هذه وأمثالها أعاذنا الله من الجميع بفضله لأن التوبة والحدود في تلك أيهما جاء بعدها كان كفارة لها وهذه محتملة أن يكون لها مخرج أو لا مخرج لفاعلها فالهرب إن كنت حازماً والعفاف العفاف تكن ناجياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ الحديث بلفظ الإسلام يَجُبّ ما كان قبله أخرجه ابن عساكر عن خالد بن الوليد وابن سعد عن الزبير بن العوام
رضي الله عنهما
۱۸۳

حديث النهي عن الوصل والوشم
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَعَنَ الله الواصِلَةَ وَالمُسْتَوصِلةَ
والواشِمَة والمُستَوشِمَةَ
*
ظاهر الحديث لعنته الله لهذه الأربعة المذكورة في الحديث والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى تلك الأفعال التي لعن النبي له من فعل منها واحدة وما معنى اللعنة فقد تقدم في الحديث قبلُ معناها وهل هذا النوع من الدعاء المَخُوف أو لا فقد تقدم الكلام عليه أيضاً في الحديث قبل وكذلك في التوبة منها قد تقدم الكلام عليه في الحديث قبل وما معنى العلة في لعنه ال الاول من فعل واحدة من هذه الأربعة
فأما قولنا ما معناها فإن الواصلة التي تَصِل شعرَها بشَعْرِ اخَرَ ليس من شعرها وألحق العلماء بها من وصلت شعرها بأي شيء وصلته من صوف أو حرير أو غير ذلك والمستوصلة هي التي تفعل ذلك بغيرها والواشمة هي التي تَشِم شيئاً من جسدها وكانت عادتهن يغرزن الموضع الذي يُرِدن أن يعملنه شامة بالحديد حتى يَدْمَى الموضعُ ثم يُحشَى بالكحل الأسود فيبقى ذلك الأثر يشبه الشامة التي هي مخلوقة والمستوشمة هي التي تفعل ذلك بغيرها
ويترتب عليه من الفقه أن مرتكب المحرّم والذي يعينه على ذلك في الإثم سواء يشهد لذلك
قوله صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر لعن الله شاربها وحاملها وبائعها وشاهدها وعاصرها ۱ وأما قولنا ما معنى العلة في ذلك فقد اختلف العلماء فيها فمنهم من قال إن ذلك لما فيه من التدليس وهذا ضعيف لأنه يخصص عموم اللفظ بغير دليل ومنهم من قال لتغيير خلقة الله تعالى وهو الظاهر فإنه قد جاء في حديث غير هذا حين ذكر عليه السلام الفالجة والمتفلجة قال
1 أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه واكل ثمنها
١٢٨٤

فيه المغيّرات لخلق الله تعالى ١ ويحمل على هذا النهي كل ما أشبه ذلك مما يفعله النسوة من تغيير ديباجتهن بالحُمرة وما معناها
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر ما هو أقل من هذا وهو أنه خطب وأمر النسوة ألا يخضبن أطراف أصابعهن بالحناء دون باقي أيديهن وقال من كانت خاضبة فلْتَخْضِب إلى هنا وأشار إلى تحت الكوعين فإذا كان نَهي عمر رضي الله عنه عن مثل هذا فما بالك بالغير من أفعالهن التي أشد من ذلك وقد تعددت حتى لا تكاد تحصى عِدَّةَ وبعض من ينسب إلى العلم في الوقت هي يجعل ذلك من قبيل الزينة الجائزة شرعاً فإنا الله وإنا إليه راجعون على ذهاب العلم وأهله ويحتج
بما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر أن يصح عن عمر أن يجعل ما ذكرنا عنه من الوشم وهذا لا حجة فيه لأن مالكاً ما أنكر على عمر مقالته ولو أنكرها ما صح أن يكون إماماً وإنما أنكر أن يعتقد معتقد أن ما نهى عنه عمر إلا أنه من الوشم الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ونهي عمر رضي الله عنه عن ذلك إنما هو لمعان منها أنه أشبه الوشم ولما أشبهه أعطاه حكمه وما قاله عمر وجب علينا اتباعه لقوله الله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المَهْدِبَينَمن بيِّنَمن بعدي ۳ وهو رضي الله عنه وعنهم أجمعين منهم
وطريق آخر وهو أن ذلك لم يكن في زمان رسول الله وإنما كان شأنهن أن يخضبن إلى حيث أشار رضي الله عنه فنهاهن من أجل مخالفة السنة وقد يكون نهيه من أجلهما معاً شبهه بالوشم واقتصاره على أطراف الأصابع وفي كل مخالفة لسنته عليه السلام

وقد قيل إنما أنكر مالك الرواية أن تصح لا الحكم لأن الإمام مالك كان أكثر الناس احتراماً لمن تقدمه من السلف فكيف بالخلفاء ولو لم يكن لمالك شاهد على ذلك إلا مسألة البناء في الرعاف أنه قال القياس والفقه يقتضي قطع الصلاة ولكن اتباع السلف أولى٥ وبذلك ساد على غيره وكذلك سنة الله تعالى بعده في خلقه ما وقع من أحد احترام السلف والاقتداء بهم إلا رفع الله تعالى قدره على أبناء وقته وجنسه جعلنا الله منهم بمنه وفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 كأنه يريد الحديث لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي
يريد أنه
الله عنه
۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض رضي الله عنه ومطلعه وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون الخ
٤ يعني القياس في الحكم الشرعي ٥ حذف جواب لو والتقدير لما كان له سيادة
١٢٨٥

حديث حق الله على عباده
عَن معاذِ بنِ جَبلٍ رَضي الله عنهُ قالَ بَينما أنا رَديفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيسَ بَيني وَبَينَهُ إِلا آخِرَةُ الرَّحلِ فَقالَ يا مُعَاذُ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا معاد قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْك ثم سار ساعةً ثمَّ قال يا مُعَاذُ قلتُ لَبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ قالَ هل تدري ما حَقُّ الله على عِبادِهِ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ الله على عبادِهِ أَن يَعْبُدُوهُ ولا يُشركوا بِهِ شَيْئاً ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قالَ يا مَعَاذُ بنَ جَبلٍ قُلتُ لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله وَسَعْدَيْكَ قال هَل تَدري ما حَقُّ العبادِ على الله إِذا فَعَلُوهُ قُلتُ الله وَرَسُولُهُ أَعلَم قالَ حَقُّ العبادِ على الله ألا يُعذِّبَهُم
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإعلام بحق الله تعالى على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً والآخر الإخبار أيضاً أن حق عباده سبحانه إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما الفرق بين حقه جل جلاله وحق العباد فالجواب أما حقه سبحانه فهو واجب بوجوه منها لذاته الجليلة ومنها لأمره عزّ وجلّ بذلك ومنها لِما لَهُ عزّ وجلّ علينا من النعم والإحسان التي لا يحصى عددها
وأما حق العباد عليه عزّ وجلّ إذا فعلوا ذلك فحق تفضل منه عليهم لا وجوب عليه لازم فإنه جلّ جلاله لا حق لأحدٍ عليه لازم هذا مذهب أهل السنة والذي تعطيه الأدلة الشرعية والعقلية خلافاً للقدرية التي هي مجوس هذه الأمة لأنهم يقولون بزعمهم إن على الله حقاً واجباً أن من عبده ألا يعذبه وكيف يكون لعبد على مولاه حق لازم وهو كله له هذا ينفيه العقل
وقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن بشر العاصين وحذر الطائعين
١٢٨٦

قال إلهي وكيف أفعل ذلك قال بشِّرِ العاصين أن رحمتي وَسِعَت كلّ شيء وحذر الطائعين إن أقمت عليهم عدلي هَلكوا من ذا الذي يطيق عدله وكيف يكون لأحد خلاص إذا أقيم عليه عدله ثم كيف يكون للطائع حق وجوب عليه سبحانه وتوفيقه سبحانه عزّ وجلّ إياه للطاعة نعمة عليه تستوجب الشكر عليها بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَتَكُمْ لِلإِيمَنِ إن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ ١ والمحروم أعمى البصيرة لا يرى إلا من حيث حرمانه
خلفه
وفيه دليل على تواضعه عليه السلام وحسن سيرته مع أصحابه يؤخذ ذلك من إرداف معاذ
وفيه دليل على جواز ركوب اثنين وأكثر على الدابة إذا طاقت ذلك يؤخذ ذلك من ركوب معاذ خلفه عليه السلام وقد جاء أنه الركب و وجعل الحسن والحسين معه أحدهما أمامه والآخر
خلفه
وفيه ردّ على من يكره ذلك ويعيبه على أهل المناصب والحجة عليه فعل خير البرية صلى الله
عليه وسلم
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه أرفع ما نودي به يؤخذ ذلك من قوله يا معاذ ولو كان النداء بغير الاسم أرفع لكان يفعله نعم إن الكنى إذا كانت على الوجه المشروع جائزة وبين الجائز والأرفع فرق بين
وفيه دليل على أن نداء الشخص باسمه قبل إلقائك العلم إليه من أدب العلم وإن لم يكن معكما ثالث وفي ندائك إياه قبلُ من الفائدة إحضار ذهنه إليك ليعي ما تلقيه إليه لأن الأذهان قد تطرقها فكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كل ما يلقى إليها وفي تكراره عليه السلام نداءه ثلاثاً تأكيد في حضور ذهنه وإشعار بأن الذي يلقى إليه له بال لأنه عليه السلام كانت سنته أن كل شيء له بال أعاده ثلاثاً ويؤخذ من إبطائه عليه السلام بين النداءين أنّ من السنة إلقاء العلوم بالوقار
والتؤدة
وهنا بحث وهو لم زاد في الثالثة ابن جَبَل
فالجواب إنما هي إشارة إلى أن هذه الثالثة اخر النداء فاسمع ما يُلقى إليك لأن زيادة ابن جبل هو الكمال في التعريف وإذا كمل الشيء فقد تمّ ويزيد ذلك المعنى بياناً قوله عليه السلام آخر الحديث يا معاذ بن جبل وهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه فإن نداءه
۱ سورة الحجرات من الآية ١٧
۱۸۷

عليه السلام له آخر واحدة فناداه بأكمل المعرفة وفيما أبديناه دليل على ما أعطاه عزّ وجلّ من الفصاحة والإعجاز في كلامه عليه السلام الذي لا تقدر أن ترى فيه زيادة إلا ولها فوائد جمة وجواب معاذ له بقوله لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيكَ من الجواب الخاص به بدلیل أنه لم يكن الصحابة يفعلون ذلك بينهم ولا هو الا هل هو فعل ذلك معهم فدل على أن ذلك من الخاص به عليه السلام وقد نص العلماء على جواب الرجل لمن ناداه بقوله لبيك أنه من السَّفه لأن هذه لفظة جعلت من جملة شعائر الحج وكل ما جعل من شعائر الدين فينبغي توقيره وتعظيمه فإن الله تعالى يقول ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وقد صار بعض الناس اليوم يجاوبون بها بعضهم بعضاً ويجعلون ذلك من الأدب والنبل وما ذاك إلا لقلة التقوى وعدم معرفة السنة هيهات كيف يتأدب من لا يعرف الأدب
وفي قول معاذ الله ورسوله أعلم دليل على أن من أدب العلم أن يُرَدّ العلم إلى أهله وفي قول سيدنا هل تدري ما حق الله على عباده دليل على أن إلقاء العالم المسائل على تلامذته وحينئذ يبيّن لهم ذلك لأن في ذلك من الفائدة إحضار الذهن لقبول العلم وفي تعليمه معاذاً من غير سؤال منه له لا دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلم دون أن يُسأل لأن هذه مسألة اختلاف بين العلماء وفي فصله عليه السلام بالمشي ساعة بين المسائل دليل على أن النجح في تحصيل العلوم التفرقة بين المسائل وفي ذلك دليل من الحكمة أن المسألة إذا تباعدت عن الأخرى يبقى الخاطر معمراً بالأولى حتى ترسخ فيه ثم تأتي الثانية كذلك والتي بعدها كذلك إلى غاية ما تنتهي الأحكام وقد أخبرني بعض مشايخي ـ وكان ممن أجمع على فضله - أنه حين اشتغاله على شيخه كان بعض الطلبة الذين كانوا يشتغلون معه على الشيخ وكان فيه خير وكان يشتغل بالسبب أنه إذا حضر المجلس ووعى مسألة واحدة قام وخرج إلى دكانه فأقلق ذلك بعض الطلبة فسألوه عن ذلك فقال إذا وعيت مسألة واحدة بقيت يومي في الدكان أرددها على خاطري فتثبت لي وإذا سمعت منه عدةً كل واحدة تنسيني صاحبتها فبلغوا خبره إلى الشيخ فأعجبه ذلك وقال للغير ممن تكلموا حاسبوا أنفسكم على كثرة سماعكم للمسائل على مسألة واحدة في اليوم فلم يقدروا
على ذلك
فسبحان من وفق أهل السعادة إلى اتباع السنة في الفعل وإن جهلوها بالعلم لأن توفيق هذا
۱ سورة الحج من الاية ٨٢
۱۸۸

المبارك الذي ذكرنا هداية من الحق ليس إلا وقد نص أهل التوفيق على أن قلة العمل مع الدوام
خير من كثرته مع الانقطاع وقد قال ل ل ل ا ل أحب العمل إلى الله أَدْوَمُه وإنْ قَلّ ١
والكلام على قوله لا له أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا قد تقدم الكلام عليه في حديث البيعة أول الكتاب بما فيه شفاء
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ أحب العمل الخ ورواه الشيخان عن السيدة عائشة
رضي الله عنها بلفظ أحب الأعمال الخ
۱۸۹

٢٣٥ -
حديث النهي عن سب الأبوين وما يؤول إلى سبهما
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما قال قالَ النَّبيُّ إِنَّ مِن أكبر الكبائر أن يَلعَنَ الرَّجُلُ والِدَيهِ قيلَ َيا رَسُولَ الله وكيف يَلْعَنُ الرَّجُلُ والديه قالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ فَيَسب أباه وأمَّهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أن لعن الوالدين من أكبر الكبائر والعمل بِسَد الذريعة وفي ذلك

دليل لمذهب مالك رحمه الله في قوله بسد الذرائع يؤخذ ذلك من أنه جعل ما هو ذريعة لِسَب الأبوين سَباً لهما والكلام عليه من وجوه
منهما أن في هذا دليلا على عظم حق الأبوين إذ القول الذي هو ممكن أن يترتب عليه سبهما جعله الشارع من أكبر الكبائر فكيف بغير ذلك لأنه إذا سب الرجل أبا الرجل من الجائز أن يسبّ هو أباه ويقول له خلاف ذلك أو يفعل به بدل القول فعلاً مؤلماً لكن لما جرت العادة في الغالب أنه لا يَرُدّ إلا بالمثل حَكَمَ الشارع بالغالب وفي ذلك دليل على أن تقعيد الأحكام إنما هو على الغالب من جري العادة والمحتمل النادر لا ينظر إليه
وفيه دليل على أن كل ما يكون محتملاً أن ينتج منه شرّ لا يفعل خيفة من وقوع الشر وهو أيضاً من باب الحزم في الأمور
وفيه دليل على أن الأحكام والمخاطبات إنما تكون على العادة الجارية بين الناس
وفيه دليل على جواز مراجعة المفضول للفاضل فيما يقوله الفاضل ويشترط في ذلك الأدب يؤخذ ذلك من قول الصحابة وكيف يلعن الرجل أباه ۱ وأما الدليل على حسن الأدب في السؤال فيؤخذ من صفة لفظهم لأنهم رضي الله عنهم لم يقولوا لا يكون وإنما سألوا عن الكيفية كيف تكون على طريق الاستفهام فهذا هو عين الأدب في المراجعة
1 كذا ونص الحديث وكيف يلعن الرجل والديه
۱۹۰

L
وفيه دليل على أن من راجع فيما لا يعرف لا عتب عليه إذا كان على سبيل الاستفادة يؤخذ
ذلك من كونه لم يعتبهم على ذلك وبيّن لهم الكيفية بحسن عبارة
عُصِيَ
وقوله أكبر الكبائر فيه دليل على تفاوت الكبائر بعضها على بعض وفيه دليل على أن من أكبر أفعال الخير معرفة السنة يؤخذ ذلك من أن من لم يعرفها يجهل مثل هذا فيقع في أكبر الكبائر وهو لا يعلم وقد اعتاد بعض الجهال اليوم بِمُمَازَحتهم فيما بينهم أن يلعن بعضهم أبا بعض ويعدونه مباسطة فنعوذ بالله من الجهل والضلال ولذلك قيل ما الله بأشدَّ من الجهل وهو الحق فإن الجاهل لا يزال يقع في المهلكات وهو لا يعلم وهنا تنبيه على أن الأصل يفضل الفرع بالوضع وإن فضله الفرع بحسن الصفات قيل له لا تنس فضيلة سَبقه عليك لأنه لما كان الأب أصلاً للابن جعل له عليه هذا الحق العظيم فإن فَضَله الابن بصفة الإيمان - وهي أفضل الصفات - قيل له ﴿ وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تَشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۱ للفضيلة التي سبقاك بها
وكذلك يتعدى الحكم لمن كان السبب في هدايتك إلى مولاك وقد جاء مولاك ثم مولاك من علمك اية من كتاب الله يا هذا قد ملكك بعظم إحسانه إليك وإن كان في الطبع عروبية أشد مما ملك السيد رقبة عبده بالمال فإن الأحرار يملكون بالإحسان أكثر وأشد من تملك العبيد بالدرهم والدينار وكما ذكروا ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا فإذا كانت الطبائع رذيلة أبَقَ من قيد الإحسان أشدَّ من إباق العبد القِنّ لحا الله الهجين لا مروءة ولا دين
ومن هذا الباب يترتب عظم حق سيدنا الا الله ولأنه السبب الموصل لكل خير مَنَّ الله به علينا في الدنيا والآخرة وهنا زيادة لأن هذا الأصل لا يفضله فرع أبداً لا بوصف صفة ولا بمعنى فهو الأصل في جميع الخير وله فيه السبق حِسَّاً ومعنى ولذلك ذكر الله عزّ وجلّ في محكم التنزيل النَّبِيُّ أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ٢ فإنه ليس فضيلة من كان أصلاً لخروجك إلى الوجود كمن جعل أصلاً إلى إنقاذك من الجحيم وأثمر ثمر اتباعك له خلودك في النعيم
فانظر بفطن العقول كيف تتسلسل فضيلة الأصول في إنعام موجد الوجود واذكر آلاء الله وأيقظ سنة فهمك لعلها توافق عروبية في طبعك فتبادر إلى مراجعة خدمة مولاك لعل شَيْنَ إباقك عنه يزيله بيد عفوه عنك فالمؤمن توّاب جعلنا الله ممن سبقت له بالخير سابقة فراجع مولاك قبل الأخذ على غرّة والجأ إليه فإنه لا ربّ سواه
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة لقمان من الآية ١٥
سورة الأحزاب من الآية ٦
۱۹۱

حديث ثواب صلة الأرحام
عَن أبي هريرةَ رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ حتى إذا فرغَ من خلقه قالتِ الرَّحِمُ هذا مقام العائذ بكَ مِن القطيعة قالَ نَعَمْ أمَا تَرَضَيْنَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ وأقطعَ مَن قَطعَكِ قالت بَلَى يا رب قالَ فَهُوَ لَكِ
ظاهر الحديث الإخبار بعظم ما جعل الله تعالى للرَّحِم من الحق وأن وَضلَها من أكبر أفعال البِر وأن قطعها من أكبر المعاصي والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما معنى قوله أصِلُ مَن وَصَلكِ وأقطَعُ مَن قَطَعَكِ ومنها الكلام على كيفية وصلها وما هو قطعها
فأما قولنا ما معنى قوله أَصِل مَن وصَلَك فهو كناية عن عظم الإحسان فإن أعظم ما يعطي المحبوب لحبيبه الوصال وهو القرب منه ومساعدته في مرضاته وهذه الأمور في حق مولانا سبحانه مستحيلة أن تكون على ما نعرف من صفات المحدث الفاني بل هي كناية عن قدر
الإحسان منه لعبده وعظمه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام صلة الرحم تزيد في العمر فهذا الوصال في هذه الدار زائد على ما أعد له في الآخرة من الخير والإحسان وكقوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ فمعنى قوله يحبهم كناية عن عظم إحسانه عزّ وجلّ لمن أحبه من عباده لأن ملكاً من ملوك الدنيا إذا أحب أحداً أغناه ورفعه على جميع أهل وقته فكذلك فعل مولانا سبحانه بمن يحبّه يحسن إليه غاية الإحسان ويرفعه في الدنيا والآخرة المنزلة العليا
۱ رواه القضاعي عن ابن مسعود رضي الله عنه وتتمة الحديث وصدقة السر تطفىء غضب الرب سورة المائدة من الآية ٥٤

۱۹

وأما قولنا ما معنى وأقطع من قطَعَك فهو كناية عن شدة الحرمان والعذاب لأن القطع ضد الوصل فكما عبّر عن عظم الأجر بالوصل عبّر عن عظم البلاء بالقطع أعاذنا الله من البلاء
بمنه
وأما كيفية الوصل للرحم فهو على ضروب مختلفة منه ما يكون ببذل المال ومنه ما يكون ببذل العون على ما يحتاجون إليه أعني أهل رَحِمه ومنه ما يكون بالزيارة لهم ومنه ما يكون بالدعاء لهم ومنه ما يكون بإكرامهم والبشاشة لهم ومنه ما يكون بدفع المضار عنهم والمعنى الجامع له إيصال ما أمكنك من الخير إليهم على قدر طاقتك بنية القربة إلى الله تعالى إلا أن ذلك بشروط ذكرها العلماء وهي أن يكونوا على الاستقامة وإلا فمقاطعتهم من أجل الله هو إيصالهم بشرط أن تبذل جهدك في وعظهم وزجرهم والإنكار عليهم لا لأنه إذا قيل لك في الأجنبي الذي هو أخوك في الإسلام أنصره ظالماً أو مظلوماً كما تقدم ذكره وهو ردّه عن الظلم فالأقرب من باب أولى فبعد ذلك يكون الهجران لهم وتُعْلِمُهُمْ أن هجرانك لهم إنما هو من أجل تخلفهم عن الحق فإذا استقاموا وصلتهم قدر طاقتك في ذلك لكن يبقى عليك من صلتهم عند المقاطعة الدعاء لهم بظهر الغيب أن يصلح الله حالهم ويُجِيرَهم بفضله

وأما مقاطعتهم فهي على ضربين إما كلية أو بعضية فالكلية هي أن تمنعهم جميع ما في وُسْعِك من الإحسان إليهم على نحو ما أشرنا إليه قبل قاصداً لذلك أو تكون معاداتهم لِحَظ نفس أو إبعادهم عنك لمثل ذلك وأما البعض فهو مثل أن تفعل معهم بعض الأشياء وتحرمهم بعضاً مع قدرتك عليها وقصدك ذلك فكلاهما محذور ويُخاف من وبالها لكن الواحد الذي هو الكلّي أشد أعاذنا الله منهما
وفيه بحوث منها هل الألف واللام في الخلق للجنس أو للعهد فإن كانت للجنس فمتى كانت وإن كانت للعهد فمتى كان احتمل أن تكون للجنس وهو عند فراغه - جل جلاله - من جميع المخلوقات على اختلافها وبقي الاحتمال في أي وقت كان ذلك هل عند الفراغ من ظهورها في اللوح المحفوظ بالكتب وهي بَعْدُ لم يظهر منها في عالم الوجود إلا اللوح والقلم لا غير واحتمل أن يكون ذلك عند الفراغ من خلق السموات والأرض وإيحائه عزّ وجلّ في كل سماء أمْرَها القدرة صالحة لهما معاً والعرب تسمي البعض باسم الكل والكل باسم البعض وأما أن يكون على حقيقة ظاهرة - وهو أن تبرز جميع المخلوقات في عالم الحس والمشاهدة
۱ يعني إذا كانوا على الاستقامة
۱۹۳

فلا يمكن لأن من المخلوقات ما لم يبرز بعد في عالم الوجود والحس ونحن نعلم أنه لا بد أن يظهر ويكون قطعاً لازماً مثل الدابة التي تخرج عند قرب الساعة وهي في علم الله لم تبرز ولا ظهرت ومثل من بقي من تناسل جميع الحيوان ومثل الأمور التي هي عند قرب الساعة وقد أخبر بها الصادق وهي لم تظهر بعد وأشياء عديدة إذا تتبعتها وجدتها

وإن كانت للعهد وهي عند فراغه سبحانه من خلق بني ادم فمتى كان احتمل أن يكون عند فراغه جل جلاله من خلق أرواحهم لأنه قد جاء أن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأشباح بألفي عام واحتمل أن يكون عند فراغه من خلق الأشباح والأرواح وهو يوم سأل سبحانه ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ١ وهو يوم إخراجهم من صلب آدم عليه السلام مثل الذر وأخذ عليهم العهد لأنها إحدى الحياتين في قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا أَمَتَنا اثنتين وأحييتنا اثْنَتَيْنِ على أحد الأقاويل ويترتب عليه من الفقه أن نعرف أن الألف واللام في الرحم هل هي للعموم أو للخصوص فإن كانت للخصوص فهل هي للثقلين من الجن والإنس ليس إلا احتمل الوجوه كلها لكن إن كانت الألف واللام للعهد فتكون صلة الرحم تحتمل وجهين أحدهما أن تكون للجن والإنس لأنهما المكلَّفان أو أن تكون خاصة ببني آدم ويكون الفقه أن صلة الرحم خاصة ببني آدم وأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن الأمر عام في بني ادم وهم منهم
ويترتب عليه من الفقه إن كانت للجنس أن صلة الرحم عامة في كل الحيوان من جن وإنس وطير ويقويه عموم قوله تعالى ﴿ وَلَا طَبِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ ۳ وقد كانت العرب تلحظ ذلك في الخيل وينسبون الحسن والأصالة من الطريقين كما يفعل بنو ادم ويذكرون ذلك عند الشدائد لتثبت على حرية نسلها ويتنافسون في أثمانها من أجل ذلك
وهنا بحث ثان وهو هل كلام الرحم للحق جل جلاله بلسان المقال أو بلسان الحال إن كان بلسان المقال هل كان ذلك بعدما بثها في جوهر ووضع فيها الحياة والعقل أو هي على حالها الكلام على هذا مثل كلام العلماء على كلام الجمادات وهي على ثلاثة وجوه لأن منهم من قال إن كلام الجماد بلسان حاله بما أظهر الله فيه من أثر قدرته ومنهم من قال إنه خلق لهم حياة وعقلا وحينئذ تكلموا ومنهم من قال إنهم تكلموا وهم على حالهم - وهو الأظهر - وإن
كانت القدرة صالحة للوجوه الثلاثة
۱ سورة الأعراف من الآية ۱۷ سورة غافر من الاية ۱۱ ۳ سورة الأنعام من الآية ۳۸
١٢٩٤

لكن الوجهين فيهما تخصيص لعموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل شرعي وحصر لقدرة القادر التي لا يحصرها شيء لأن قدرته عزّ وجلّ صفة من صفاته فكما ذاته الجليلة لا تنحصر بوجه من الوجوه فكذاك كل صفاته لا تنحصر منها صفة من الصفات بوجه من الوجوه لأن
الصفة لا تفارق الموصوف وقد تقدم الكلام على ذلك أول الكتاب بما فيه شفاء بفضل الله تعالى ومنها أن فيه دليلا على أن الاستعاذة بالله من أجل الوسائل إلى الله وأنجحها يؤخذ ذلك من قول الرَّحِم هذا مقام العائذ بك فأسعفت في الحال بما رَضِيَت به ومما يقوي هذا الوجه ما جاء في شأن العدو الذي قيل له وَأَجلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِك وجعل له أنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه وجعل لنا النصرة والغلبة عليه بالاستعاذة بالله عزّ وجلّ ولم يجعل بغير ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه العزيز ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ وقول مريم عليها السلام حين أتاها روح الله الأمين إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيَّا ﴾ ٤ ﴿ وقول سيدنا أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبِكَ منك لا أُحصي ثناء عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك ٥

وفيه إشارة عجيبة من طريق حسن المجانسة في الكلام وهي أنه لما كانت صلة الرحم حقيقتها التواد بين الأقارب والتعاطف جُعِلت الصيغة التي تدل على الجزاء عليها من جنس ما هو المعروف في التخاطب بين المحبين والمحبوبين وهي الوصل والمقاطعة
وفي قوله إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه دليل على صفتين عظيمتين من صفات الحق سبحانه وهما القدرة والحكمة فأما الدال منهما على القدرة فبالإخبار بأنه عزّ الخلق وأي دليل على القدرة أعظم من اختراع الخلق على غير مثال تقدم ولا
جميع
وجلّ خالق مُعِينٍ ولا وزير وَزِير
وأما الدال على الحكمة منه فقوله عليه السلام حتى إذا فرغ من خلقه لأن حتى لانتهاء الغاية فتعطي قوة الكلام أن من له غاية فله بداية وما بين الغاية والبداية اقتضته الحكمة الربانية لا لعجز من القدرة فإن مِن قدرته جلّ جلاله خَلْقَ جميع الخلق وهو كما أخبر عزّ وجلّ بقوله
1 يعني الأول والثاني سورة الإسراء من الآية ٦٤ ۳ سورة الأعراف من الاية ۰۰ ٤ سورة مريم من الآية ۱۸
٥ رواه الترمذي وأبو داود والنسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
١٢٩٥

وَمَا مَسَّنَا مِن تُغُوبٍ ۱ لا يمكن أن يكون في قدرته عجز عن شيء من الأشياء بل ما كان في بعض المخلوقات من تأخر أو غير ذلك فلحكمة اقتضتها حكمة من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وقد تقدم في أول الكتاب من هذا بيان شاف بفضل الله ورحمته
وفيه دليل لقول من قال إن رأيك بحسب ما قدر لك يؤخذ ذلك من أنه لما قامت الرحم مقام العائذ بالله تعالى من القطيعة وسبق في علم الله سبحانه أن يكون من عباده واصل لها وقاطع لها أيضاً أرضاها بأن جعل عندها رضى بأن يصل الله من يصلها ويقطع من يقطعها فقبلت ذلك ورضيت به بدلاً من الذي طلبته لأنها طلبت أن لا قطيعة لها فلو قال لها الحق جل جلاله لك ذلك أي لا تقطعي لم يكن أحد يقطعها
وفيه دليل لتحقيق قوله ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث إما أن يُستجاب له وإما أن يُدَّخر له وإما أن يُكفّر عنه ۳ لأنه عزّ وجلّ عوّض الرحم عما طلبته ما هو خير لها
منه ورضیت به
وفيه دليل على أن جميع المخلوقات بيد الله سبحانه يصرفها كيف يشاء كما قال صلى الله عليه وسلم ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ٤ أي بين أمرين من أمر الرحمن مثل الرضى وضده والعزم على الشيء وتركه والرغبة والزهد وما يضادهما من الأشياء يقلب القلب من طرف إلى ضده في لمحة البصر ولذلك كان من دعائه ل له يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ٥ ولهذا المعنى كان أهل التوفيق والمعرفة بالله تعالى أشد الناس خوفاً على أنفسهم مع كانوا عليه من الخير التام حتى إنه يروى عن بعضهم أنه كان كلما استيقظ من نومه يجر يده على وجهه ثم ينظر إلى حواسه ثم يحمد الله تعالى ويشكره ويتشهد ويعلن بها فقيل له في ذلك
فقال

1 سورة ق من الاية ۳۸ سورة الشورى من الآية ۱۱
۳ رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث غريب ولفظه ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يؤخر له في الآخرة وإما أن يكفر عن ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا يا رسول الله وكيف يستعجل قال يقول دعوت ربي فما استجاب لي ٤ أخرجه ابن عساكر وابن النجار عن عائشة رضي الله عنها وتتمته إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ٥ رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني وكثيرون بألفاظ مختلفة منها قلبي ومنها قلوبنا ومنها ثبتنا ومنها ثبت قلوبنا الخ
١٢٩٦

أما جَرُّ يدي على وجهي فمخافة أن يُطمس عليه كما أخبر عزّ وجلّ وخبره الحق مِّن قَبْلِ
أَن نَّطْمِسَ وُجُوهَا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ۱ وأما نظري إلى حواسي فخيفة العاهة التي هي متوقعة على الإنسان وأما إعلاني بالشهادة فاختبار لنعمة الإيمان و لا اله الا الله ولا ينام الرجل النومة فيُسْلَب عنه الإيمان ويبقى أثره ثم ينام النومة فيُقبَضُ أثرها ۳ أو كما قال عليه السلام فإذا رأيتُ نعمة الإيمان ونعمة الحواس باقية سالمة حمدت الله وشكرته على إبقائه تلك النعمة بفضله
جعلنا الله ممَّن أتمها علينا وجميع نعمه في الدارين بفضله ورحمته آمين آمين يا ربَّ
العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ٤٧
رواه البخاري في كتاب الفتن عن حذيفة رضي الله عنه ومطلعه ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظلِ أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه منتبرا وليس فيه شيء إلى آخر الحديث
۱۹۷

حديث ثواب عائل البنات
عَن عائشةَ رَضي الله عنها قالت جاءَتني امرأة وَمَعها ابْنَتَانِ تَسألني فَلَم تَجِد عِندي غَيْرَ تَمرةٍ واحِدَةٍ فأعطَيْتُها فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ثُمَّ قامَت فَخَرجَتْ فَدخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فَقالَ مَن بُلِيَ مِن هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيء فَأَحسَنَ إلَيهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتراً مِنَ النَّارِ
ظاهر الحديث إخبار الصادق الا الله أنه من آتاه الله شيئاً من البنات فأحسن إليهنّ كنّ له ستراً من النار أي وقاية تقيه من النار والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى الإحسان وهل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط وهل يحتاج في ذلك إلى نية أم لا وهل ذلك على طول عمرهن وإن كبِرْن أو ذلك عند صغر سنهن وإن
كان فما حَدّه
فأما قولنا ما معنى الإحسان إليهن فهو ما زاد على القدر الواجب الذي لهن وهو بين من لفظ الحديث فإنه لما كانت المرأة معها ابنتان يسألن السيدة عائشة رضي الله عنها فلم يجدن عندها إلا تلك التمرة الواحدة التي أعطتهن إياها وكان من الواجب أن يقسِمْنَها أثلاثاً فلما جادت الأم بثلثها عليهما فقد زادتهما على حقهما وتلك الزيادة هي الإحسان الذي أشار إليه رسول الله بأن من فعله معهنّ كان له ستراً من النار وهو يتعدى في كل الوجوه التي فيها معاملتهن فمن زادهنَّ في كل وجه منها شيئاً على حقهن كان محسناً لهن ومن فعل معهن معروفاً في نوع ليس لهن فيه حق فالباب واحد
وأما قولنا هل ذلك على عمومه بلا شروط أو له شروط فما من وجه من وجوه البر إلا وله شروط فمنها ما هي ظاهرة يستوي في معرفتها الناس كافة ومنها ما لا يعلمها إلا الخواص من أرباب العلم
فأما معنى قولنا هل ذلك على عمومه أي إذا وقع منه إحسان إليهن على أي وجه كان
۱۹۸

ر
على لسان العلم أو غير ذلك أو يكون قد أساء إليهن أو يكون قد ترتب لهن حق عنده فأما ما خالف لسان العلم فلا ينطلق عليه اسم إحسان شرعاً وكذلك إذا ترتب لهن قبله حق فلا يقال له محسن بل ذلك من الحق الذي قد ترتب لهن قِبَلَه وتقع بينه وبينهن المحاسبة والمحاكمة في الدار الآخرة وكذلك إن كان قد أساء إليهن من وجه آخر فليس على عمومه ولا يسمّى محسناً إلا بعد توفية الحقوق من كل الجهات وعدم الإساءة ويكون فعله ذلك على لسان العلم وحينئذ يكون محسناً
وأما شروطه فهو أن يكون إحسانه إليهن ليس فيه ضرر للغير بعد القيد المتقدم ذكره من لسان العلم وما ذكر معه
وأما هل تحتاج ذلك إلى نية أم لا فالنية شرط في جميع الأعمال لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ۱ إلا مواضع قد تقرر الحكم فيها أنها لا تحتاج إلى نية أعني أن الفعل يجزىء بغير نية ويؤجر عليه وهو مثل ما يفعله المرء بغيره من الطهارة وشبهها ومثل زوال النجاسة من الثوب والبدن وما أشبه ذلك
وأما قولنا هل ذلك مع طول عمرهن أو ذلك في زمان صغر سنهن أما الإحسان إليهن فليس يتقيَّد بصغر سنهن ولا كِبَرِهن بل حقوقهن مع صغر السن على سبيل الوجوب فمنها لزوم النفقة والكسوة والكفالة فهذا وما هو من نوعه يُسقطه كبرهن إذا تزوجن على ما هو المعلوم من عرف الشرع في ذلك وإن كبرن فلا يخرجن عن البُنُوَّة أبداً فهن في كل وقت محل للإحسان وهن أيضاً محتاجات إلى ذلك وإن كن على أي وجه كنَّ من اليسار وضده ولكثرة شروط هذا الإحسان كان بعض من ينسب إلى الخير - وله البنات والعيلة - بعد إحسانه إليهن يقول والله ما أدري هل أتخلص منكن في الآخرة أم لا ثم يدعو الله سبحانه أن يجعلهن له رحمة بفضله وفيه دليل على جواز السؤال يؤخذ ذلك من قولها جاءتني امرأة ومعها ابنتان تسألني فلو
لم يكن جائزاً شرعاً لأنكرت ذلك عليها وفيه دليل على فضل بيت النبوة وكثرة سخائهم يؤخذ ذلك من كونها لم يكن عندها إلا تلك التمرة الواحدة وجادت بها
وفيه دليل على جواز ذكر المعروف الذي نفعله إذا لم يكن على وجه المَن والافتخار فإن ذلك مفسد له يؤخذ ذلك من ذكر عائشة رضي الله عنها المعروف الذي فعلته مع المرأة للنبي
صلى الله عليه وسلم
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۱۹۹

وفيه دليل على استحسان فعل المعروف وإن قَلَّ يؤخذ ذلك من بذلها تلك التمرة الواحدة
ولم تَسْتَقِلها وقد ذكر عنها أنه جاء سائل إلى الباب وكان عندها عنب فأعطت منه حبة واحدة لشخص يخرجها له فرأت منه أنه استقلها فقالت كم في تلك الحبَّة من ذرات تريد بذلك قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ ﴾ ۱ وقد نبه بعض العلماء على أن من مكايد الشيطان إذا رآك تعطي الكثير يَعِدُك بالفقر حتى يكسلك عن البذل وإن رآك تعطي اليسير يزهدك فيه ويحقره في عينك حتى يحرمك البذل في اليسير والكثير
وفيه دليل على أن أعلى المعروف جهد المقل ولا يلزمه غير ذلك من طريق الندب يؤخذ ذلك من تلك السيدة لم تزد على بذل ما كان عندها مع قلته شيئاً وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
حين أخبرته ولو كان بقي عليها من طريق الإحسان لشيء النبهها العاليه ل لا ل عند إخبارها له بذلك وفيه دليل لأهل الصوفة الذين أصل طريقهم الإيثار وحمل الضيم فيما يخصهم لأن هذه الصفة هي التي أعجبت السيدة عائشة رضي الله عنها من تلك المرأة حتى أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرر عليه هذا الأصل العظيم ولذلك قيل فيهم ما أحسنهم في جودهم حتى بنفوسهم جادوا ثم جادوا وجدوا حتى وصلوا وسادوا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزلزلة الآية ٧
١٣٠

شخصاً أكل بحضرة النبي ونسي التسمية فلما ذُكِّر قال - كما قدمنا فتبسم النبي وقال رأيت الشيطان أكل معه أولاً فلما قال بسم الله أوله وآخره قاء الشيطان كل ما أكل
نوع کا
وأما عليه السلام وأما قوله عليه السلام وليأكل كل رجل مما يليه هل هو في كل طعام أي كان فظاهر اللفظ يقتضي العموم لكن قد قال العلماء إن ذلك في الثريد وما أشبهه لأنه كله سواء وأما إذا كان الطعام على غير ذلك وفيه أنواع مختلفة فلك أن تجيل يدك حيث تريد لكن بأدب مع الإخوان لأن الأدب من السنة وأما إن كان الطعام يابساً مثل التمر والفواكه فَلَكَ الخيار أن تأخذه من حيث شئت وإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون على صفة واحدة أم لا فإن كان على صفة واحدة فحكمه حكم الثريد تأكل مما يليك لا غير وإن كان فيه اختلاف فلك أن تجيل يدك فيه إلا أنه بأدب وقد جاء أنه قدم له لا الهلال والحلم فيه دبّاء ۱ فجعل عليه السلام يتبع الدباء في
القصعة ٢
وأما قولنا إن كان الطعام يختلف به أي يؤتى بطعام بعد طعام هل يجزىء فيه تسمية واحدة أم لا فلا يخلو أن تكون تعاينه وتعلمه ويكون الأكل متصلاً بعضه ببعض أو لا فإن كنت تعاينه وتعلمه والأكل متصل فتسمية واحدة تجزىء ما لم تعين نوعاً واحداً من ذلك تفرده من غيره كما تفعل عند رميك على الطير إذا كانوا ۳ جماعة أو الظباء وإن عينت الجميع فأي شيء أخذت منها تتناوله تسميتك وإن قصدت واحداً بعينه وأخذت غيره لم تتناوله التسمية
وقد نص الفقهاء أنك إذا دخلت حديقة وفيها أنواع من الثمار ونويت عند دخولك أن تأكل من كل ثمرة لقيت وسميت بهذه النية أجزأتك التسمية عن كل ما تأكل في تلك الحديقة في وقتك ذلك وإن كانت أشجارها متباعدة بعضاً عن بعض وذلك يقتضي تعيين الأكل أيضاً وإن أنت لم تسم عند دخولك إلا على الثمرة التي لقيت ولم تعين غيرها فتؤمر إذا انتقلت إلى غيرها أن تسمي
عليها
وأما قولنا هل هذا الأمر خاص بالرجال لا غير أو الرجال مواجهون بالخطاب وهو متناول الكل فالجواب أن تقول ليس في الدين تخصيص لبعض دون بعض بل اشتراك الكل في جميع
۱ الدباء اليقطين ويسمى في بلاد الشام القرع رواه البخاري في البيوع باب ذكر الخياط وفي الأطعمة باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه وباب القديد ورواه مسلم في الأشربة من حديث أنس رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله له الطعام صنعه فذهبت معه إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله له خبزا من شعير ومرقاً فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت النبي الله يتتبع الدباء حوالي القصعة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ
۳ كذا بضمير العقلاء
۱۰۱

الأوامر إلا ما دل دليل على تخصيصه ولا دليل هنا على التخصيص فهو عام في الكل وفي هذا
الحديث وأشباهه دليل على بذل جهدهم لا لا لايف في النصح والتعليم
ويترتب على ذلك من الفقه فيما يخصنا أن من علامة السعادة للشخص أن يكون معتنياً بمعرفة السنة في جميع تصرفه والذي يكون كذلك هو دائماً في عبادة في كل حركاته وسكناته وهذا هو طريق أهل الفضل حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه بقي سنين لم يأكل البطيخ فقيل له في ذلك فقال لم يبلغني كيف السنّة في أكله فلا اكله حتى أعلم كيف ذلك وكيف لا والله سبحانه يقول في حقه ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ۱ والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن ﴾ تكون عامة في كل الأشياء جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة ال عمران من الآية ۳۱
۱۰

حديث ما خصت به العجوة من المنفع

عَن عامِرٍ بن سَعْدٍ ١ عَن أبيه رضي الله عَنهُم قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن تَصبَّحَ كُلَّ يَومٍ بِسَبع تمراتٍ عَجْوَةٍ لَم يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمَّ ولا سِحر
ظاهر الحديث يدل على أن من أكل كل يوم سبع تمرات عجوة لا يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه العجوة من أي بقعة كانت سواء أو هي من بقعة معيّنة وهل تكون في حين طراوتها أو أي وقت أكلت كانت طريّة أو مدخرة وهل يحتاج في أكلها إلى نيّة أم لا وهل تعرف الحكمة في كونها خصت بالنفع في هذين الشيئين أم لا وهل هذا عام في المؤمن والكافر والطائع والعاصي أو ذلك خاص بالمؤمنين لا غير

فأما قولنا هل تلك العجوة تكون من بقعة مخصوصة أم لا فالجواب أنه قد جاء حديثان أحدهما أنها من المدينة والآخر أنها من العوالي ٢ فإن حملنا هذا الحديث المطلق الذي نحن بسبيله على هذين الحديثين فتكون من عجوة العوالي أو المدينة وإن قلنا إن لكل حديث حكماً تكون مطلقة من حيث كانت نفعت فيجيء النفع إذا كانت من العوالي أو المدينة بلا شك
ويبقى النظر إذا كانت من غيرها
۱ عامر بن سعد بن أبي وقاص
مدني تابعي سمع أباه وعثمان وابن عمر وأسامة وأبا هريرة وعائشة وكان ثقة بالاتفاق توفي بالمدينة سنة ١٠٣هـ والده كان أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة في الشورى لخلافة عمر رضي الله عنه العوالي هي اليوم حي من أحياء المدينة المنورة

وأما قولنا هل يكون أكلها عند جناها أو أي وقت أكلت احتمل والظاهر أي وقت كانت
لأن الاسم يتناولها
وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أو لا فكل ما كان متلقَّى من الرسول صلى الله عليه وسلم فالأصل فيه النية ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنين وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۱ لأن المؤمن إذا أخذ ما أمر به موقناً بذلك وجد الفائدة كما وعد وزيادة وإذا أخذه بغير نية فقد يبطىء الأمر عليه قليلا فيقع له تردد فيحصل في بحر التلف ومما روي مثل هذا أن النبي خرج مرة إلى غزوة من غزواته فأمر الصحابة رضي الله عنهم بالتزود فتزود بعضهم وعجز البعض ولم يجدوا ما يشترون به فأمر لا ل ل له أن يأخذوا رواحلهم ويخرجوا معه فخرجوا فلما بلغوا إلى أحد الأودية - وهو كثير الحنظل - أمرهم أن يمتاروا منه فكلهم فعلوا ما أمرهم به إلا شخصاً واحداً فقال في نفسه وما جاء بنا إلا إلى الحنظل وما عسى أن أفعل به فلم يأخذ منه إلا خمس حبّات ورجعوا إلى المدينة
وكان للشخص الذي لم يأخذ غير خمس حبات غلام تركه بالمدينة في ضروراته فلما سمع برجوعهم إلى المدينة خرج لأن يُعين سيده فوجد الناس محمّلة رواحلهم وليس لسيده حمل فسأله عن ذلك فقال له ما جرى فقال له الغلام أمرَكَ وبقي عندك شك وكيف وقع ذلك وما أخذت منه شيئاً قال ما أخذت إلا خمس حبّات وقد ذهب عني بعضها في الطريق فقال هاتها فأعطاه إياها فأكل الغلام منها فإذا هي مثل الشهد سواء فقال كُلْ تَرَ ما حُرِمت فأكل فوجد مثل ما وجد الغلام فندم نَدامة الكُسَعِيّ ٢

والحديث الثالث حين جاء بعض الصحابة فشكا للنبي لو أن أخاه به بطن ۳ فأمره أن يسقيه عسلاً فسقاه ثم رجع إلى النبي الله يشكو إليه ثانية فأمره أن يسقيه عسلاً كذلك في الثالثة
۱ سورة الإسراء من الاية ۸
الكُسَعِي هو غامد بن الحارث الكسعي اتخذ قوساً وخمسة أسهم وكمن في مكان مظلم للحُمُر الوحشية فمرّ منها قطيع فرمى السهم الأول فنفذ في العير حتى صدم الجبل فأورى نارا فظن أن سهمه أخطأ الوحش فرمى ثانية وثالثة حتى نفدت سهامه الخمسة وهو يظن في كل رمية أنه أخطأ صيده فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات فلما أصبح نظر فإذا الحُمُر مطرحة مُصَرّعة وأسهمه بالدم مضرّجة لم تخطى هدفها وصيدها فندم وقطع
إبهامه وأنشد
۳ أي إسهال
ة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطع إذا لقطعت خمس
ـنَ لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي
١٢٠٤

أو الرابعة فقال له عليه السلام صدق الله وكذبَ بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاه فشفي أخوه ۱ وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونها تنفع لهذين الشيئين فالجواب أنه لا طريق لنا
إلى ذلك بل الله يختص من يشاء بما يشاء من جماد ونبات وحيوان إلى غير ذلك من جميع خلقه فمنها ما يعلم من طريق التجربة مثل صنعة الطب وقد تخيب وتصيب ومنها ما هو من طريق إخبار الرسل صلوات الله عليهم وهذا لا يخيب أصلاً لكن الغالب على الناس أنهم قد ركنت أنفسهم إلى قول الأطباء بلا تأويل وقد عاينوا منهم في الغالب عدم النجح وهذا الذي لا شك فيه لأنه من طريق الرحمة للعباد لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً العلمين ۳ فقليل منهم من يقبله وذلك علامة الحرمان فنسأل الله العافية وبعضهم يتأول ويقول هو حق لكن لا نعرف التأويل في كيفية العمل وهذا حَيْد عن الصواب لأنه لو كان في أحد الأشياء التي أخبر بها وجه من وجوه الكيفية في عمله ما ترك عليه السلام بيانه إلا أخبر به قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ ٤

وأما قولنا هل ذلك خاص بالمؤمنين أو عام في المؤمن والكافر صيغة اللفظ تعطي العموم وأما ما قدمناه من قوله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ٥
فيعطي الخصوص
وفيه دليل على أن السحر حق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم
ولا سحر
وفيه دليل على عظم قدرة الله تعالى وأنها لا تدركها العقول يؤخذ ذلك من كون السحر عن الشخص لا يراه ثم يصل إليه منه ضرر حتى يجد ذلك الضرر في بدنه محسوساً ومما يزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ٦
منفصلاً
ايق
1 أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه جاء رجل إلى النبي الهلال فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقاً ثلاث مرات فقال رسول
له صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ
الله
أي السم والسحر سورة الأنبياء من الآية ۱۰۷

0
سورة التوبة من الآية ٦٥
سورة الإسراء من الآية ۸
3
٦ سورة البقرة من الآية ۱۰
١٢٠٥

وبقي بحث في قوله عليه السلام لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر هل يكون معناه
العموم أو الخصوص فمعنى العموم أن الذي استصبح بالعجوة لا يضره سم إن شربه في ذلك اليوم ولا سحر إن سحر فيه ولا سم تقدم شربه على ذلك اليوم ولا سحر تقدم على ذلك اليوم عمله فتكون تلك العجوة توقف عنه ضرر ذلك السم الذي تقدم شربه في ذلك اليوم وكذلك السحر أيضاً وتحميه عن ضرر ما يفعل فيهما في هذا اليوم ومعنى الخصوص أن كل سم أو سحر يكون في ذلك اليوم بعد أكله تلك العجوة لا يضره احتمل الوجهين معاً لكن الأظهر الخصوص من طريق أنه أقل المحتملات فهذا مقطوع به
ومن طريق النظر إلى أن هذا ورد من طريق الرحمة من الله تعالى ببركة هذا النبي العظيم الا الله فيكون الأظهر العموم لأنا نرى الترياق الكبير الذي هو من تأليف الأطباء الذي طريقه التجربة يدفع من السموم ما قد حصل منها في البدن وما يأتي بعده فكيف بما هو طريقه طريق الرحمة والتفضل

إلا أنه لا بد في ذلك من قوة يقين ونية حسنة كما ذكر عن عمرو بن العاص ۱ أنه جاءه رسول من العدو وبيده قارورة فلما دخل عليه سأله عن تلك القارورة التي هي بيده فقال له سم ساعة فقال وما عسى أن تفعل به فقال له إني رسول لقومي لم يوجهوني قط في أمر إلا جئتهم بما يحبون وهم قد وجهوني إليك فخفت منك ألا تُسْعِفْني فيما طلبوا فجئت بهذا السم فإن لم تستعفني بما طلبوا أشربه فأموت ولا أرجع إليهم بما يكرهون فقال له ناولني إياه فأعطاه القارورة وقال رحمه الله بسم الله قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا وشرب ذلك السم فعرق من حينه ساعة ثم أفاق وما به بأس فرجع الرسول من حينه إلى قومه وقال لهم أسلموا عن آخركم فإن هذا رجل لا طاقة لكم به شرب سم ساعة فلم يضره
فلتسميته بتحقيق النية ظهر ذلك الخير عليه وكذلك كل من قصد الله تعالى صادقاً وجده حيث أمله وزيادة لأنه يقول جل جلاله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن ﴿ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۳ ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ٤ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ﴾ ٥
۱ وتنسب هذه الحادثة إلى خالد بن الوليد في كتب أخرى والله أعلم
سورة ال عمران من الآية ١٦٠ ال
۳ سورة المائدة من الآية ٢٣ ٤ سورة الطلاق من الآية ٣ ٥ سورة النساء من الآية ۱
١٢٠٦

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۱ لكن من عينُ يقينه خُفَاشِي لا يستطيع أن يبصر شمس الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ من غذّى قلبه بالحرام لا يبصر إلا ظلاماً في ظلام ظُلُمَتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ۳ أعاذنا الله من الحرمان ومن كسب الآثام بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ۸۷ سورة المطففين من الاية ١٤
۳ سورة النور من الاية ٤٠
۱۰۷

حديث الأمر بلعق اليد من أثر الطعام قبل غسلها
عَنِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال إِذا أَكَلَ أحَدُكُم طَعاماً فَلا يمسَحْ
يده حتى يلعقها أو يُلعِقها
* *
ظاهر الحديث النهي عن أن يمسح أحد يده إذا أكل طعاماً حتى يلعقها أو يعطي غيره يلعقها والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل هذا من كل الطعام وهل هذا لعلة مفهومة أو تعبد لا غير وهل ذلك خاص بالمسح أو عام في المسح والغسل وقوله يُلعِقها هل يكون ذلك من جنسه لا غير أو من جنسه وخلاف جنسه إن أمكنه ذلك وفي المسح كيف يكون وفيم يكون
فأما قولنا هل من كل طعام فليس على عمومه لأن من الأطعمة ما لا يتعلق بيد الأكل منه
شيء وما لا يتعلق منه شيء ولا يحتاج إلى مسح فلا يحتاج إلى أن يُلعق وأما قولنا هل هو تعبد أو لعلة معقولة اللفظ لا يفهم منه ذلك لكن قوة الكلام تعطي أنه لعلة مفهومة وهي حرمة الطعام والتعظيم لنعم الله تعالى لأنه لا الله و قد شدّد في هذا الباب ـ أعني تعظيم نعم الله تعالى واحترامها - كثيراً وقد ورد أن ترك ذلك سبب إلى زوالها وقلّما أزال الله تعالى نعمته من قوم فردّها إليهم وقد كان لا لا اله إذا أكل في أهله وشبعوا تركوا القصعة حتى يأتي من
يَلعَقُها
وقد حكى أبو هريرة أنه كان يوماً به جوع شدید فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أراك شديد خُلوف الفم فقال نعم فأمره عليه السلام أن يأتي معه إلى منزله فلما دخل أخرج له قصعة ليس فيها إلا لَعْقُها قال فقلت في نفسي وماذا تعني هذه فلَعِقْتُها وشبعت أو كما قال ولقي وهو صائم لبابة خبز في قذر فغسلها وأمر بلالاً أن يرفعها له حتى يفطر وقال عليه السلام إن القصعة تستغفر للاعقها ۱ أو كما قال والأحاديث في هذا النوع كثيرة
۱ رواه الترمذي في الأطعمة من حديث نبيشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له =
۱۰۸

وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يفرغون من الأكل ويغسلون أيديهم ثم يشربونه تعظيماً لنعم الله وتبركاً بآثار شيء أكل عوناً على طاعة الله تعالى
وأما قولنا هل ذلك خاص بالمسح أو عام فيه وفي الغسل الجواب أنه إذا كان في المسح الذي ينتقل الطعام الذي تعلّق باليد إلى الشيء الممسوح فيه فكيف بالماء الذي يُذهِب عين الطعام فهو من باب أولى
وفيه دليل على أن السنّة المسح من الطعام وإنما الغَسل من فعل الأعاجم أعني إذا كانت اليد نظيفة فالغسل إذ ذاك من فعلهم وإن كان قد جاء أن الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم ويُصح البصر ۱ فيكون الجمع بين هذين الحديثين بأحد وجهين أحدهما أن يكون اللَّممَ الغسل لموجب له فقبل الطعام تكون اليد غير نظيفة والذي بعده يكون الطعام مما فيه دسم كثير لا يزيله المسح أو رائحة يكون فيها تأذَّ وذلك مكروه أن يصلّى به أو يكون فعله ذلك غِباً لا يتخذه دائماً فإنه مخالف للسنة أو يكون الغسل لعدم الشيء الذي يمسح فيه والشأن أن يخرج من التشبه بأهل الكتاب الذي قد نهينا عن التشبه بهم
وأما قولنا هل يلعقها من جنسه أو من خلاف جنسه إذا أمكن ذلك فإذا فهمنا العلة كما قدمنا - وهي من أجل حرمة الطعام - فكل من يجوز لنا أن نعطيه طعاماً يأكله ويأتي منه اللعق على وجه جاز لنا ذلك ما عدا أهل الملل
وأما قولنا فيم يكون المسح وكيف يكون أما فيم ففي كل شيء طاهر لا حرمة له وأعني بقولي لا حرمة له تحرزاً من الخبز والكتاب وما أشبه ذلك أو مال الغير فإن مسحك فيه ممنوع إلا بإذن مالكه وقد جاء أنهم كانوا يمسحون تحت أقدامهم وأما الكيفية فأن يكون الفعل
برفق بحسب حالة الشيء الممسوح فيه وإنما ذكر الرفق فيه لقوله ما كان الرفق في شيء إلا زانه حتى يكون في فعلك أثر من السنة لأن الشأن في هذا
جعلنا الله من أهلها بفضله لا رب سواه امين

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
=
القصعة ورواية المؤلف إن القصعة لتستغفر اللاعقها رواها رزين في جامعه بلفظ إن انية الطعام لتستغفر للذي
يلعقها ويغسلها
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه القضاعي في مسند الشهاب من رواية موسى الشهاب من رواية موسى الرضا عن ابائه وذكره العراقي مع جملة أحاديث فقال إنها ضعيفة
عزاه في الفتح الكبير إلى عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله عنه
۱۰۹

- ٢١٤ -
حديث كراهية الأكل في أواني الكفار وجواز أكل ما صيد بالكلب

المُعْلَم وغيره
عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيّ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ قُلتُ يا نَبِيَّ الله إِنَّا بِأَرضِ قَومٍ أهلِ كتاب أفنأكُلُ في آنيتهم وبأرض صَيد أصيدُ بِقَوسي وَبكَلبي المُعلَّم فما يَصلُحُ لي قالَ أَمَّا مَا ذَكرتَ مِن آنيَةِ أهل الكتابِ فإن وجدتُم غَيرَها فَلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وَكُلوا فيها ومَا صِدتَ بِقوسِكَ فَذَكرتَ اسم الله عَليهِ فَكُلْ وَما صِدْتَ بِكَلبِكَ غَيْرِ المُعلَّم فأدرَكتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول جواز الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إذا لم يوجد غيرها والثاني جواز أكل ما صدته بقوسك أو بكلبك المعلم إذا ذكرت اسم الله تعالى أدركت ذكاته أو لم تدركها والثالث ما صدته بكلبك غير المعلم فلا تأكل منه إلا ما أدركت ذكاته والكلام عليه من وجوه
منها التنزه عن استعمال أواني أهل الكتاب مع وجود غيرها
ومنها أنه إذا لم تجد غيرها جاز استعمالها بعد غسلها بالماء يؤخذ ذلك من أنه لم يبح له الأكل في آنية أهل الكتاب بعد الغسل إلا عند الضرورة وهو عدم غيرها وأهل الضرورات لهم حكم خاص بهم وقد اختلف العلماء في الانية المتنجسة ما عدا الزجاج فإنه لا يداخله مما جعل فيه شيء فالغسل يطهره وما عداه من الأواني التي قد يختلط ما جعل فيها ببعض أجزائها مثل
1 أبو ثعلبة الخشني صحابي أحد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة وأحد الذين شهدوا فتح خيبر روى عن النبي عدة أحاديث وتوفي سنة ٧٥هـ
ذكاته ذبحه الشرعي

آنية الخشب والحنتم وما أشبههما على ثلاثة أقوال قول بأنها لا تطهر وبأنها تطهر وبالتفرقة بأن يطول مكث الإناء في الماء الزمان الطويل فتطهر وإن كان قليلا فلا تطهر
وفيه دليل على أن الحكم في الأمور للغالب عليها يؤخذ ذلك من أنه لما كان الغالب من أحوال أهل الكتاب أن النجاسة تحل في أوانيهم أعطوا حكم النجاسة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها
ويلحق بهذا في الحكم أهل البطالة وتحمل ثيابهم على النجاسة لأنها الغالبة عليهم في كثرة أحوالهم وقد عد الفقهاء هذه العلة في ثياب شارب الخمر أنه لا يصلي بها حتى تُغسل ومنها وجوب التسمية على الصيد يؤخذ ذلك من تكرارها في كل من أنواع الاصطياد وإفصاحه عليه السلام في جميع الأنواع بقوله وذكرت اسم الله

ومنها قوله بقوسي وأباح له عليه السلام أكل ما صاد به إذا ذكر اسم الله عليه أدرك ذكاته أو لم يدرك وهل هذا خاص بالقوس دون غيره من السلاح أو يُحمل جميعُ السلاح عليه فإن قلنا يتعدى الحكم بوجود العلة فجميع السلاح المُحَدَّة التي تفري وتنهر الدم يجوز ذلك بها مثل الرمح والسيف والسكين وما أشبه ذلك وقد نص على جواز ذلك أهل الفقه في كتبهم على ما هو هناك مذكور
كذلك نقول في قوله عليه السلام وما صدتَ بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاتَه فَكُلْ يتعدى الحكم إلى غير الكلب المعلم من جميع الحيوانات التي تفترس أنه إذا كانت غير معلمة وصيد بها فالحكم فيها كالحكم في الذي صيد بالكلب غير المعلم كذلك ما صيد بالآلة التي ليست بمُحَدَّة مثل الحجر والعصا وما أشبه ذلك إذا صيد بها ما يُدرك ذكاته من ذلك أكل وإلا لم يُؤكل منه
شيء
وفيه دليل على أن الحكم إذا نيط بعلة فعُدِمت ارتفع الحكم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في الكلب غير المعلم أنه لا يُؤكل ما صيد به إلا إن أدرك ذكاتُه فدل على أن التعليم في الجارح يُبيح ما صيد به وإن لم تُدرك ذكاته
وفيه دليل على أن من أحسن جوابك للسائل أن تعيد صيغة لفظه فيما سألك عنه وتجاوبه على كل نوع على حدة يؤخذ ذلك من تكرار سيدنا الا الله بلفظ ما سأله السائل عنه وجاوبه على كل نوع منها على حِدَته بقوله عليه السلام أما ما ذكرت من انية أهل الكتاب إلى آخر الحديث
1 الحتم الخزف الأسود والجرة الخضراء
0
۱۱۱

وفيه دليل على أن ما لم يتحقق نجاسته يكره استعماله من غير ضرورة ويجوز عند استعماله الضرورة بلا كراهية يؤخذ ذلك من كون سيدنا اله الا لمنع الأكل في آنية أهل الكتاب مع وجود غيرها لأن تلك الآنية التي أُكل فيها ليست النجاسة متحققة فيها بل هي مظنونة فمنع عليه السلام استعمالها مع وجود غيرها وأباحه عند الضرورة وهو عدم غيرها وفي هذا الوجه دليل لأهل الصوفة لأنهم يظنون في أنفسهم كل مكر وخديعة فلا يستعملون ما تشير به عليهم شيئاً إلا إن كان موافقاً للكتاب والسنة بعد ما يلجؤون في ذلك إلى أن نفسه رغبته في مولاهم خوفاً أن يكون تحت ذلك مكرٌ من وجه ما كما ذكر عن بعضهم الجهاد ووحدت ذلك عليه فقال لها هذا عندي محال أن يكون هذا منك على وجهه لأن الجهاد من أقرب القُرَب ما أفعل ذلك حتى أسأل الله تعالى في أمرك فسأل مولاه سبحانه أن يُطلِعَه على ما أبطنته فقيل له في النوم إنها قد سَئِمت من القيام والصيام فأرادت أن تموت في الجهاد لكي تستريح من التعب ويبقى لها حسن الثناء بعد الموت فقال لها ما لي جهاد إلا فيك ولا أزال أقتلك بالقيام والصيام حتى تموتي لأنهم سمعوا فيها قول مولاهم حيث قال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۱
فمن رحمته عزّ وجلّ بهم أن ألهمهم مخالفتها وتهمتهم لها إلا حيث جاء الأمر بالنظر إليها في وجه ما فنظرهم لها في ذلك الوجه ليس لها وإنما هو من أجل الأمر بذلك فَمِنْ أَتمَّ الشجاعة والرجولة مقاتلة العدو ومن أدب الجهاد قتال من يليك من الأعداء وأقربهم إليك نفسك وهواك ففيهما فجاهد إن كنت ذا بأس وشطارة وإلا فوصف الخنوثة بك أولى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة يوسف من الآية ٥٣

15101
حديث جواز أكل لحم الخيل
ن أسماء ۱ رَضِيَ الله عَنها قالَت ذَبحنا عَلى عَهدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً وَنَحْنُ
بالمدينة فأكلناه
ظاهر الحديث يدل على جواز أكل لحم الخيل بغير كراهية والكلام عليه من وجوه منها أن السنة في ذكاة الخيل هو الذبح لا النحر يؤخذ ذلك من قولها ذبحنا وقد جاءت رواية نحرنا فعلى هذا يجوز أكله بالذبح ويجوز بالنحر ٢
وقولها ونحن بالمدينة فيه دليل على أن ذلك كان لغير ضرورة يؤخذ ذلك من قولها فأكلناه أن ذكاته ما كانت لعلة بالفرس إنما كانت لمجرد الأكل لا غير وفي هذا دليل للشافعي رحمه الله في إجازته أكل لحوم الخيل مطلقاً والدليل معه في ذلك وأن الإمام مالك رحمه الله فلم يقع منه مخالفة للحديث فإنه لم يحرمه وإنما كرهه وذكر سبب ذلك وبيان كراهيته إلى أنها ما تستعمل ولا فائدتها غالباً إلا للجهاد فإذا كثر استعمال أكلها كان سبباً إلى قتلها وقتلها يؤول إلى نقص من الإرهاب للعدو
وفيه وجه آخر لأن أكل لحمه - على ما قيل - يقسي القلب وما يقسي القلب ينافي أوصاف أهل الإيمان فجاءت كراهيته من باب سد الذريعة التي هي أصل مذهبه ووجه آخر أن أكله في زمان النبي كان قليلاً وإن كان جائزاً فإنه لم يأت فيه إلا هذا الحديث وحديث خيبر لا غير فيما أعلم فدل على قلة استعماله فعمل هو في ذلك على العمل
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ١٠٥ النحر نحر الصدر أعلاه ونحر البعير طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر الذبح قطع الحلقوم من باطن عند النَّصِيل وهو موضع الذبح من الحلق فالنحر يكون أقرب إلى الصدر والذبح أقرب إلى
الحلق

بأن كرهه حتى يكون استعماله قليلاً كما كان في زمن النبي الا الله فجاء فيه متبعاً للسنة بطريقة
حسنة
وفي قولها نحن بالمدينة فائدة أخرى وهي أن ذلك كان بعد تمكن الإسلام وظهوره وفرض الفرائض وتحديد حدود الشريعة لأنه ما فرض من الفرائض بمكة إلا الصلاة لا غير وجميع الفروض إنما كانت بالمدينة فيما أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
نال
١٢١٤

مله
للقتل
لهشة ريا
حديث النهي عن قتل الحيوان صَبراً
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما أَنَّهُ سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يَنهى أن تُصَبَّرَ ۱ بِهِيمَة أو غَيْرُها
ظاهر الحديث يدل على منع الحيوان كله عاقلاً كان أو غير عاقل من أن يُصبر للقتل
والكلام عليه من وجوه
منها أن من السنة الرفق بجميع الحيوان عاقلا أو غير عاقل

وفيه دليل على رحمة الله تعالى بعبيده على اختلاف أجناسهم وأنواعهم يؤخذ ذلك من نهيه عن أن تصبر بهيمة للقتل أو غيرها ومما يقوي ذلك أنه جاء من قتل عصفورا عبثاً جاء العصفور يوم القيامة مستجيراً يقول يا رب سل هذا لِمَ قتلني عَبَنا ٢ وفي هذين الحديثين دليل على قهر الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لم يترك لأحد التصرف في شيء من الأشياء دقت أو جلت إلا وقد حد له كيفية التصرف فيه وأنه يحاسبه عليه دق أوجل جماداً كان أو غير جماد عاقلا أو غير عاقل وفيه دليل على عظيم عدل المولى سبحانه يؤخذ ذلك من اقتصاصه عزّ وجلّ للعصفور على دقته من العاقل الكبير إن قتله لغير منفعة أو صبره للقتل
وفيه دليل على عظيم إحاطته عزّ وجلّ بجميع مخلوقاته يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ لا
1 القتل صَبراً أو التصبير حبس الإنسان أو الحيوان حتى يموت أو تثبيته وضربه حتى يموت أو تعذيبه حتى يموت ومن القتل صبراً ألوان العذاب الوحشي في السجون حيث ينتهي المعذبون بالموت رواه الإمام أحمد والنسائي والبغوي في معجمه وابن قانع وابن حبان والطبري والضياء في المختارة عن الشريد بن سويد بألفاظ مختلفة

تخفى عنه مثل هذه على دقتها ويحصيها ويعاقب عليها مصداقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَفَى بِنَا حسین ۱
وفيه دليل على أن صفاته عزّ وجلّ ليس كمثلها شيء يؤخذ ذلك من كون صفة الانتقام مع صفة الرحمة معاً وفي فعل واحد لأن القتل دال على صفة الانتقام ثم في نفس فعل القتل الرحمة وهو منعه أن يصبر حيوان عاقلاً كان أو غير عاقل للقتل فرفق به في نفس العذاب والانتقام وقد قال إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ٢ وصفة المحدّث إذا وقع منه انتقام لا يرحم ولو قدر على أكثر لفعل فبان ۳ بمقتضى أحكامه سبحانه وتعالى بوحيه أو على لسان رسوله لأنه ما يحكم إلا عن الله كان بواسطة الملك بالوحي أو من تلقاء نفسه بما يلهمه الله عزّ وجلّ إليه فالكل من الله
وفي هذا دليل على أن صفاته جلّ جلاله ليس كمثلها شيء فإنه ليس كمثله شيء سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ٤ فسبحان من تبدَّى بالدليل لذوي البصائر واحتجب بعظيم قدرته مع إيضاح دلائله عن أهل الجهالة والشقاوة جعلنا الله ممن عرفه به ودله به عليه وتغمّده في الدارين برحمته بمنه وكرمه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأنبياء من الآية ٤٧
رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأوله إن الله كتب الإحسان على كل شيء وتتمة الحديث وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وَليُحِدَّ أحدكم شَفرتَه وليُرِح ذبيحته
۳ أي ظهر الدليل على رحمة الله وعدله وإحاطته
٤ سورة فصلت من الآية ٥٣
١٢١٦

حديث تحريم أكل لحم الحُمُرِ الأهلية وجواز أكل لحم الخيل

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ
الحمر ورخص في لحوم الخيل

الله عَنهُما قالَ نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم لحوم الحمر الأهلية والرخصة في لحوم الخيل والكلام عليه من وجوه
منها أن ترخيصه عليه السلام في لحوم الخيل يوم خيبر إنما كان من أجل الضرورة لأنه جاء من طريق آخر في هذا الحديث أنهم رضي الله عنهم لم ينحروا الخيل يوم خيبر إلا من أجل المجاعة التي لحقتهم
وفيه دليل لمالك كما قدمناه في الحديث قبل أنه وافق السنة في كراهية أكل لحوم الخيل
لأن لفظة رخص عند العذر تقتضي المنع أو الكراهية عند عدم العذر
وهنا بحث وهو أن يقال هل تحريمه لا لا لا لحوم الحمر وترخيصه في لحوم الخيل تَعَبُّد لا
يُعقل له من جهة الحكمة معنى أو تعقل الحكمة في ذلك
فأما قولنا هل تعقل الحكمة في ذلك فقال بعض العلماء إن الحكمة في تحريم الحمر الأهلية هو أن الحمر ليس في الحيوانات أبلد منها فأكل لحمها يكتسب من ذلك فلإشفاقه عليه السلام على أمته منعهم من كل ما عليهم فيه ضرر في الدنيا والآخرة كما حرم مولانا سبحانه الميتة وأحلّها بعد ثلاث ۱ فذكر بعض العلماء من الحكمة في ذلك أن الميتة فيها سُمِّيّة كثيرة فمنعنا من أكلها لأجل الضرر الذي يعود علينا من سُمّها فإذا بقي المرء ثلاثاً اشتدت سُمّيته في بدنه حتى عادت أشدّ من سُمّ الميتة فأبيح له إذا ذاك أكلها لعدم الضرر لأكلها بل يحصل له بها قوى ومنافع في إبقاء رمقه رحمة من الله تعالى بعبيده
1 أي بعد ثلاثة أيام بلياليها مع الجوع الشديد وعدم وجود ما يؤكل سواها

وفيه دليل على أنه إذا اجتمع ضرران أخذ أخفّهما يؤخذ ذلك من أنه لما كانت لحوم الحمر تكسب البلادة ولحوم الخيل تُكسب القساوة كما ذكرنا في الحديث قبل رخص في لحم الخيل
التي هي أقل ضرراً

وفي قوله يوم خيبر وجهان الواحد أنه دال على تثبته في النقل لأن ذكر الموطنين اللذين جرت بهما النازلة دال على حقيقة العلم بما أخبر به والوجه الآخر وهو كون القضية موطن مشهور بجمع كبير قد يرويه غيره فيحصل فيه تصديق له والتواتر في الحديث يزيده قوة

لأنه ينقله من كونه خبر احاد إلى التواتر وهو أعلى درجة

في
وينبغي من جهة الفقه أن يُعَدّى الحكم فحيثما قدر المرء أن يزيد إخباره على ما أخبر به قرينة حال تصدق مقالته في ذلك فعل وفيما ذكرناه دليل على لطف الله تعالى بعبيده فيما أحل لهم وفيما حرم عليهم
وفيه دليل على أنه عزّ وجلّ لا يحل ولا يحرم إلا عن حكمة وفائدة لنا عَقَلها مَن عَقَلها
وجَهلها مَن جَهلها
وفيه دليل على استغنائه عزّ وجلّ عن جميع خلقه وعن تعبداتهم إذ كل ذلك عائد بالنفع عليهم وهو الغني المستغني ولذلك تنعم أهل العقول والمعاملات بكل حكم يصدر عن الله تعالى لعلمهم بأن ذلك رحمة منه عزّ وجلّ إليهم لم يشكوا في ذلك فرجع لهم بقوة يقينهم التنعم بالنعماء والبلاء على حد سواء
وكذلك روي عن بعضهم أنه قال لا أبالي على أي حالة أصبحت وأمسيت إنما هي حالة شكر أو صبر وكلاهما رحمة من الله تعالى هؤلاء فهموا قوله عزّ وجلّ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لقوم يُوقِنُونَ ۳ وقول رسول الله لا والله ما يقضي الله المؤمن قضاء إلا كان خيراً له ٤ فمن عرف عف و استراح ومن جهل تكالب وما نجح ومن طلب العز بالجهل وقع الهوان به وما عزّ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ يقصد بالموطنين المدينة وخيبر كما ذكر ذلك في الحديث ۱۵ وفي هذا الحديث المتواتر هو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أول الإسناد إلى اخره والاحاد عكس المتواتر نقله واحد عن واحد والعلماء يفرقون في وجوب العمل أو عدم وجوبه بين المتواتر وخبر الاحاد ۳ سورة المائدة من الآية ٥٠ ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه بلفظ عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر وكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له
۱۱۸

حديث النهي عن أكل لحوم كل ذي ناب من السباع
عَن أبي ثعلبةَ الخُشَنِيّ ١ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن أَكل كُلِّ ذي ناب
مِنَ السَّباع
*
ظاهر الحديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي تحريم أو نهي كراهية
اختلف العلماء في ذلك فمذهب الشافعي رضي الله عنه ومن تبعه أنه نهي تحريم ومذهب مالك رحمه الله ومن تبعه أنه نهي كراهية
وهل نهيه لعلة أو تعبد الظاهر أنه لعلة لأنه لو كان تعبداً لم يكن العلماء ليختلفوا فيه

وبقي البحث في العلة فنقول والله أعلم لكونها تأكل الجيف فإنها إذا افترست فالذي تفترسه جيفة لأنه غير مذكَّى فيكون شأنها مثل البقر والإبل الجلالة التي تأكل العَذِرَةَ وقد اختلف العلماء أيضاً في أكل لحمها والحالة هذه فكرهه مالك ومن تبعه وأما رجيعها ۳ فهو نجس على المعروف وكذلك رجيع الطير المفترس نجس بلا خلاف ذكر فيه وهنا علة صوفية وهي لعزة نفسه وضرره ذلّ حتى لم يصلح أن يكون قوتاً للمؤمنين ويترتب عليه من طريق النظر من أعزّ نفسه فذلك ذل لها ومن ذلها ۳ فقد أعزها ومما يقوي هذا البحث ما جاء عنه ما من أحد من بني آدم إلا برأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع رفع
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٠٢١٤ الرَّجيع هو الجِرّة التي تجترها الإبل والغنم والبقر - وهي حيوانات مجترة - أي تخرجها من معدتها إلى فمها وهذا هو الاجترار كما أن للرجيع معنى آخر وهو الروث وليس مراداً هنا
۳ كذا يريد أذلها
۱۱۹

الملك رأسه بتلك الحَكَمة وقال له ارتفع رَفَعك الله وإن ارتفع ضرب الملك رأسه بتلك الحَكمة وقال له اتَّضِع وضَعَك الله ۱ أو كما قال عليه السلام فعلى هذا الوجه ظاهر الحكمة في جميع الحيوانات طلب التواضع بينهم وعدم ضرر بعضهم لبعض وهم داخلون تحت عموم قوله تعالى أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَى و ٢

وفيه إشارة لمن فهم لعلّه يتصف بصفة من صفات أهل الخير لأن يدخل في طريقهم
ويكتب معهم يؤخذ ذلك من عموم قوله عليه السلام كل ذي ناب من السباع فيدخل تحت ذلك الأسد والهرة والفأرة وما بينهما ومنهم ٣ القوي والضعيف

فكذلك أنت اجعل في نفسك شبهاً ما بالمُوَفِّقين لعل تلك البركة تشملك معهم مثل ما إذا نودي بإحضار التجار جيء بأصحاب الآلاف وجيء بصاحب الدينار الواحد فإن لم تكن من أصحاب الآلاف فكن صاحب الدينار الواحد لعل الواحد بفضله إذا خلع عليهم خلع القرب والرضا يخلع عليك معهم واحذر أن تتشبه بصفة من صفات أهل الشر فتكتب معهم فيلحقك وبالهم وقد جاء من تشبه بقوم فهو منهم 4 فكيف من عمل ببعض أعمالهم وقد قال تشبه بالقوم فإن التشبه بالكرام فلاح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحَكَمَة الأداة أو السلسلة التي ترتبط بالرأس ليُشدّ بها بإحكام والحديث رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما من ادمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلَك فإن تواضع قيل للملك ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حَكَمَتَه
سورة الأنعام من الآية ۳۸
۳ كذا بضمير جماعة العقلاء
٤ رواه أبو داود عن ابن عمر والطبراني في الأوسط عن حذيفة رضي الله عنهم
۱۰

حديث جواز الانتفاع بجلود الميتة
الله عَنهُما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشاةٍ مَيِّئَةٍ فَقالَ
عَن عبدِ الله بنِ عَبَّاسِ عَبَّاسٍ رَضي اسْتَمَعْتُم بإهابها قالُوا إنَّها مَيِّئَة فَقالَ إِنَّما حَرُمَ أَكلُها
ظاهر الحديث يدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة والكلام عليه من وجوه
منها في كيفية الانتفاع به هل ذلك عام في جميع وجوه الانتفاع أو انتفاع خاص فالعموم في الانتفاع من كل الوجوه ممنوع لأن من جملة الانتفاع بيعه وأكل ثمنه ولم يجيزوه ومنها الصلاة عليه وفيه ولم يجيزوه ومنها جعل الطعام فيه ولم يجيزوه لأنه يعود فعله لأكل الميتة فإن الطعام إذا جعل فيه تنجس به وإنما يكون انتفاعاً خاصاً من حيث لا تلحق منه نجاسة في شيء من الأشياء ولا مخالطة في طعام بوجه من الوجوه
وفيه دليل على تحريم أكل الميتة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم أكلها وفيه دليل على أن ألفاظ العموم إذا ورد الأمر بها تحمل على عمومها ولا تخصص إلا بمخصص من الشارع عليه السلام يؤخذ ذلك من أنه لما أن حرمت علينا الميتة فماتت تلك الشاة التي راها سيدنا استعمل أصحابها عموم الأمر بالعموم فرموها بإهابها وصوفها وكل أجزائها فخصص عموم الأمر بقوله عليه السلام إنما حرم أكلها
أكلها
وفيه دليل على أن عموم القرآن يخصص بالسنة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إنما حرم
وفيه دليل على جواز مراجعة الآمر إذا أمر ولم يفهم السامع ما قصد بالأمر وبقي عليه في

بعضه التباس يؤخذ ذلك من قولهم بعدما قال لهم الله هلا انتفعتم بإها بها إنها ميتة كأنهم
۱ كذا ورواية الحديث اسْتَمْتَعْتُم بدون هلا

يقولون يا رسول الله تأمرنا بالانتفاع بإهابها وقد حرمتها علينا بأمر الله لك وهذه الشاة ميتة فكيف يكون ذلك
وفيما ذكرنا من معنى مراجعتهم دليل على حسن اختصارهم في الخطاب وبلاغتهم في
المعنى يؤخذ ذلك من كونهم جمعوا تلك الألفاظ فكلها في متضمن قولهم إنها ميتة وفيه دليل على أن الصفقة إذا خالطها حلال وحرام فإن كل واحد منهما يعطى حكمه لأن العلماء اختلفوا في صفقة إذا اختلط فيها حلال وحرام فمنهم من قال إنها كلها حرام ومنهم من قال إنها كلها حلال ومنهم من قال إن قدر ما فيها من الحرام حرام وقدر ما فيها من حلال حلال لأن الخلطة لا تنقل حكماً من الأحكام إلا في الخليطين في الماشية على خلاف أيضاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هلا انتفعتم ۱ بإهابها وقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فجعل للحم حكماً وهو التحريم وللجلد حكماً وهو التحليل والشاة واحدة
وفيه دليل على أن الأحكام الشرعية لا يكون تقريرها إلا بعد نفي كل المحتملات يؤخذ ذلك من جوابهم الرسول الله بعد رؤيته الشاة الميتة ولا يخفى حالها على أحد أنها ميتة فكيف على من كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه لكن من أجل استقرار الحكم بطريق الاحتمال أن يكون قوله عليه السلام هلا انتفعتم بإهابها من طريق الاستفهام لهم كيف معرفتهم بحكم الله تعالى في الميتة جاوبوه بقولهم إنها ميتة لينظروا ما قصده بتلك
المخاطبة
وفيه دليل على أن من النبل أن يكون جواب المرء عما سئل عنه على قدر ما يعلم فيه لا يتعانى خلاف ذلك بزيادة أو نقص يؤخذ ذلك من جوابهم لسيدنا و بما سبق لهم من العلم في أمر الميتة لا غير
وهنا بحث وهو أن يقال هل أمره و ب الانتفاع بإهابها يطهره أو هو باق على نجاسته لفظ الحديث لا يفهم منه شيء من هذا لكن من حديث غيره يفهم أنه باق على نجاسته وهو قوله عليه السلام أيما إهاب دبغ فقد طهر فإذا لم يدبغ فهو باق على نجاسته
وبحث ثان وهو أن يقال هل لنا أن نعدي الحكم بالانتفاع بغير ذلك من أجزائها لقوله عليه السلام إنما حرم أكلها فيما عدا الأكل أم لا
۱ كذا
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما

1 20

فالجواب على البحث هل يجوز لنا الانتفاع بباقي أجزائها مثل الإهاب أم لا فأمره له
بالانتفاع بإهابها لا يتعدى الانتفاع من أجل ذلك إلى غيره من أجزائها لأحد وجهين الأول منهما لأن الحظر والإباحة والتحريم والتحليل لا يكون إلا على نحو ما نص عليه لا يتعدى ذلك بالقياس إلا في المواضع التي لا لا لا لا لا لا هو الحكم بعلة نصاً منه عليه السلام أو مشاراً إليها على نحو ما تكلم الفقهاء في أنواع العلة الشرعية وتعداد أنواعها على ما هو مذكور في كتبهم وما لا يفهم له علة فيقتصر الحكم فيه على ما نطق و الله به في مثل هذا الموضع وما
أشبهه
والوجه الآخر لأن هذا المنه الا الله الرخصة لأمته والرخص لا يقاس عليها ولا يتعدى محلها ونص بعض الفقهاء أنه إذا كان للمرء ميتة وله علج أو كلب لصيد أو ما يجوز اقتناؤه أنه لا يعطيه الميتة ولا يأمر العلج بأكلها فإن ذلك من جملة أنواع الانتفاع بها وإنما يمرر العلج أو الكلب على موضع الجيفة فإن هما تصرَّفا فيها من تلقاء أنفسهما فلا بأس وإلا فلا يرشدهما إلى ذلك ولا يأمرهما به
وأما الجواب على البحث الذي معنا هل نقيس على الإهاب غيره من أنواع النجاسات أم لا فالجواب عليه كالجواب على البحث قبل وأيضاً فلا قائل بذلك من الفقهاء وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث الأمر بطرح الطعام المتنجس
عَن مَيمونة ١ رَضي الله عنها أنَّ فارَةً وَقَعت في سَمْنٍ فَمَاتَت فَسُئِل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنها فَقالَ أَلقُوها وَما حَولَها وَكُلُوهُ
**
ظاهر الحديث يدل على تنجيس الموضع الذي ماتت فيه الفأرة من السمن وطرحه معها والكلام عليه من وجوه

منها أن يقال هل يتعدى الحكم في كل الأطعمة وفي كل الميتات من جميع الحيوان وكذلك ما عداهم من جميع النجاسات وهل يكون حكم الجامد من الطعام كحكم المائع وهل يكون طول مقام الشيء النجس من جيفة أو غيرها في الطعام الذي وقعت فيه بالسواء من قرب الزمان في ذلك أو بعده وهل يجوز الانتفاع به فيما دون الأكل وهل يمكن تطهير ما وقعت فيه من طعام أم لا
أما قولنا هل يتعدى الحكم إلى جميع الطعام ما عدا السمن أم لا فقد عَدَّى ذلك الفقهاء لوجود العلة وهي تنجيس موضع حلول الميتة ولا فرق أن يكون سمناً أو غيره إذا كان طعاماً جامدا فإن كان مائعاً فلا يخلو أن يكون ماء أو غيره فإن كان ماءً فلا يخلو أن يكون جارياً أو راكداً وتفصيل هذا في كتب الفروع وأما إن كان طعاماً مائعاً فهو نجس
وأما قولنا هل ذلك في كل الميتات في أي نوع كانت من الحيوانات فالجواب أنه لا فرق بين موت الفأرة في ذلك أو غيرها من جميع الحيوان الذي له نفس سائلة ولايؤكل إلا بذكاة لوجود العلة فيه وهي كونه جيفة وأما ما عدا الميتة من أي نوع كانت - كما ذكرنا قبل من أنواع
۱ تقدمت ترجمتها في الحديث ۱۹۸
٢ كذا بضمير جماعة العقلاء
١٢٢٤

النجاسات - فلا فرق بينها وبين الميتة إذا كانت جامدة باردة في جميع أحكامها فإن كانت سائلة باردة أو حارة فتنويع الحكم فيها في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل حكم الجامد من الطعام الذي وقعت فيه الميتة كحكم المائع فالجواب أنه ليس حكم الجامد كالمائع فإن المائع من حين وقوع الميتة فيه أو الشيء النجس يتنجس جميعه فيطرح جميعه ما عدا الماء فيه تقسيم كما هو في كتب الفروع أيضاً
وأما قولنا هل طول مكث الميتة سواء مع قربه أو بعده فقد اختلف العلماء في ذلك وليس في الحديث من أين يستدل عليه بل هي نظرية فمن العلماء من جعل الحكم واحداً ومنهم من قال إذا طال مكثها في الطعام طرح جميعه ومنهم من فرق في ذلك بحسب الأزمنة فإن كان زمان الحر طرحت وجميع الطعام وإن كان زمان البرد طرحت وما حولها ومنهم من فرّق بين كبر الإناء الذي وقعت فيه من صغره وفي طول الزمان الذي يطلق عليه هذا الحكم مع صغر الدابة وكبرها وذلك كله مستوعب في كتب الفقه وهذا البحث في الطعام الجامد وأما المائع فكما تقدم الكلام فيه وحكم النجاسة كما ذكرنا في الميتة سواء
وأما قولنا هل يجوز الانتفاع بالشيء الذي وقعت فيه الميتة أو الشيء النجس من الطعام فظاهر الحديث محتمل لكن الأظهر عدم الانتفاع - والله أعلم - وفي ذلك بين العلماء خلاف وهذه
أيضاً نظرية
وأما قولنا هل يصح تطهير ما وقعت فيه الميتة من الطعام فالجواب أنه لا يخلو أن يكون دهناً أو غيره فإن كان دهناً ففي تطهيره بين العلماء خلاف وهي مسألة نظرية أيضاً وما عدا الدهن من الطعام الجامد فلا يخلو أن يكون مطبوخاً أو مملحاً أو على غير هذين النوعين فللعلماء فيه ثلاثة أقوال بتطهيره وعدمه
والثالث هو أن يكون قد استوى في توفية طبخه ونضجه في الملح ولم يقبل زيادة في ذلك فإن كان استوى فإنه يغسل ويؤكل فإنما تنجس ظاهره ولم تدخل النجاسة باطنه وإن كان لم يستو نضجه فلا يتطهر ويطرح فإن النجاسة دخلت باطنه لأنه يجذب من الخارج إلى الباطن والذين قالوا بغسله وتطهيره يقولون إنه يغسل أولاً بماء حار ثم ثانية ببارد ثم ثالثة بحار ثم ببارد فإن كان على غير هذه الصفة فلا يطهر وأما ما عدا هذين النوعين فكما هو مذكور في كتب الفقه وفيه دليل على ألا يتصرف إلا بعلم يؤخذ ذلك من كونهم لم يتصرفوا في السمن ولا في نزع الفأرة منه إلا بعدما سألوا رسول الله الله وهو عليه السلام الأصل وقد اختلف العلماء فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أو مأثوماً على ثلاثة أقوال وقد ذكرناها في أول الكتاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٢٥

حديث بيان وقت ذبح الأضحية
عَنِ البراء ۱ بن عازب رضي الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَوَّلَ ما نَبدَأُ بِهِ في يَومِنا هَذا أن نُصلّي ثُمَّ نَرجِعَ فَتَنحرَ مَن فَعلَهُ فَقَد أَصابَ سُنَّتنا وَمَن ذَبَح قَبلُ فإنَّما هُوَ لَحم قَدَّمَهُ لأهله لَيسَ مِنَ النُّسُكِ في شيءٍ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة في يوم الأضحى تقديم الصلاة قبل الذبح ومن ذبح قبل الصلاة فإنه لحم ليس بنسك والكلام عليه من وجوه
منها التأكيد في صلاة العيد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي فجعلها عليه السلام مفتاح الأعمال في ذلك اليوم وهل هي فرض أو سنة قولان للعلماء في ذلك
ومنها التأكيد في شأن الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعد ما قال نصلي ثم نرجع فنتحر ثم زادها عليه السلام تأكيداً بقوله من فعله فقد أصاب سنتنا وقد اختلف العلماء هل هي فرض أو سنة على قولين والذي قال منهم بأنها سنة هي عنده من اكد السنن ويزيد ذلك تأكيداً قوله عليه السلام في حديث غيره ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أعظم من إراقة
دم
وفيه دليل على أن النية وإن كانت حسنة والعمل الذي يعمل بها لا يصحان إلا إذا كانا
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٦٦ و ۹
رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ما عمل ادمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً
١٢٢٦

موافقين للسان العلم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد ۱ وقوله عليه السلام إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل يا رسول الله وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة فتخليصه من الرياء أن يكون لله خالصاً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ له الدِّينَ ۳ وتخليصه من البدعة أن يكون على نحو ما أمر به لقوله تعالى قل إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤
وفيه دليل على أن اتباع الصحابة رضي الله عنهم هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام لم يترك لهم شيئاً من الأعمال إلا بيَّنَهُ لهم وحملهم فيه على سنته الواضحة مثل هذا الحديث وما يشبهه
ومما يؤيد هذا قوله أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ٥ وقد قال العلماء رضي الله عنهم مثل يمن بن رزق وغيره وأنا أوصيك باتباع السنة في عملك واكد من ذلك اتباع السلف فإنهم أعرف بالسنة منا وقد قال مالك رضي الله عنه إذا كان حديثان ووجدنا الخلفاء أو الصحابة عملوا بأحدهما دل على أن الآخر منسوخ وإن لم يعرف النسخ وإذا كان للحديث معنيان وعملوا بأحدهما دل على أن ذلك هو الحكم في ذلك الحديث وأنه الظاهر من ذينك الوجهين 4 وفيه دليل على جواز أكل اللحم في يوم العيد ما عدا لحم الأضحية يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإنما هو لحم قدّمه لأهله فأجازه عليه السلام ولم يمنعه
وفيه دليل على أن نفس الأضحية عبادة يؤخذ ذلك من تسميتها نسكاً بقوله عليه السلام ليس من النسك في شيء في الذي ذبح قبل الصلاة فدل على أن الذي ذبح بعد الصلاة هو نسك والنسك هو ما يتعبد به
وفيه دليل على أن مخالف السنة في تعبده لا يكون له فيه من الأجر شيء وقد جاء أن النفقة
۱ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى روى البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي الله قال إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه وفي رواية لابن النجار عن عائشة أن يحكمه
۳ سورة البينة الآية ٥ ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
٥ رواه البزار وابن عدي وابن عبد البر في كتاب بيان العلم والدارقطني في غرائب مالك وقال اللكنوي في تحفة الأخبار طرق روايته ضعيفة ولا يلزم وصفها بكونه موضوعاً مما لا دليل عليه نعم يرتقي إلى درجة الحسن
بأسانيده المتنوعة

على العيال مما يؤجر عليها وهي من جميع ما يُتنسَّك به أي يتعبد به وقد قال إذا أنفق الرجل على عياله يحتسبها فإنها صدقة ۱ وفي هذا الموطن لمنع و أن يكون في هذه الشاة التي ذبحت قبل الصلاة نسبة من التعبد بالكلية
فإن اعترض معترض وقال إنما على الله الله هنا بقوله ليس من النسك في شيء فإنما عنى
بذلك الأضحية وبقي الأجر في النفقة على ما هو عليه فالجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه ولو أرادة و ذلك لكان يقول ليس من الأضحية في شيء لأنه أخص الأسماء بها فإن هذا الاسم لا يشرك به مع غيرها ولفظه النسك يدخل في متضمن الأضحية وغيرها من وجوه القرب المتعبد بها فرضاً كانت أو ندباً وهو لا لا اله الذي أعطي الحِكَمَ وجَمْعَ الكلام فكيف يترك ما هو نص ويأخذ ما هو محتمل إلا بحكمة أخرى وهي ما أشرنا إليه
والوجه الآخر أن إطعامه اليوم عياله هذا اللحم على مخالفه السنة وقد تقدم قولنا إن العمل إذا خالف السنة لا يقبل
ولوجه ثالث فإن معنى الحديث جاء على معنى التأكيد على اتباع السنة في هذا اليوم وبيان الكيفية في ذلك فمخالفه لا يكون له من الأجر شيء
وفيه دليل على جواز تأخير الذبح في يوم النحر عن وقت الصلاة يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع لأنه عليه السلام أتى بـثم التي تقتضي المهلة
وفيه دليل على استغناء المولى سبحانه عن عبادة العابدين ويؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ شرع بمقتضى هذا الحديث ذبح الأضحية وهي مما للنفس فيها شهوة وراحة لأنك تأكل وتدخر وأنت في الصدقة منها بالخيار إن تصدقت أجرت أجراً آخر وإن لم تتصدق لم تأثم وثبت لك أجر الأضحية بنفس الذبح والأكل زيادة راحة لك
وفيه دليل على عظيم لطفه عزّ وجلّ بعبيده ورحمته لهم يؤخذ ذلك من كونه عزّ وجلّ أمرهم بذبح الأضحية كما تقدم الكلام فيه وجعلها في هذا اليوم من أعظم القرب إليه ويزيد ذلك بياناً قوله عليه السلام فإن دماءها وشعرها وقرونها وأظلافها وبولها ورجيعها في ميزان حسناتكم يوم القيامة وقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وفيه دليل عظيم على ما أعطي الله من حسن البلاغة يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام في
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه

الحديث الواحد والحكم الواحد بين النحر والذبح لأنه لو ذكر هو أحد الوجهين إما النحر وإما الذبح لكان دليلا على ترجيحه على الآخر فلما ذكرهما معاً على جوازهما بحسن عبارة واختصار صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله ومنه وكرمه آمين
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۹

مَكَّةَ وَهِيَ
حديث جواز تأخير الطواف في الحج لعذر
عَن عائشةَ رَضِيَ الله عَنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخلَ عَليها وَحَاضَت بِسَرِفَ ۱ قَبلَ أَن تَدخُلَ وَهِيَ تَبكي فَقال ما لكِ أنَفِست قالت نَعَم قالَ إِنَّ هذا أمر كَتَبَهُ الله على بناتِ آدم فاقضي ما يقضي الحاج غَيرَ أن لا تطوفي بالبَيتِ فَلمَّا كُنَّا بِمنى أُتيتُ بِلَحمِ فَقُلتُ ما هذا قالوا ضَحَّى رَسُولُ الله عَن أزواجه بالبقرِ
بقر
ظاهر الحديث يدل على أن الحائض تفعل جميع أفعال الحج كلها إلا الطواف بالبيت فإنها لا تفعله إلا بعد أن تطهر والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً على أن الطهارة في أركان الحج كلها كبرى كانت أو صغرى ليست بفرض إلا الطواف بالبيت فلا يجوز إلا بطهارة وهي واجبة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا كانت بالحَدَث الأكبر تفعله فمن باب أحرى بغيره
وفيه دليل على فضل هذه السيدة يؤخذ ذلك من بكائها خيفة أن يفوتها الحج وذلك بعذر رباني لا كسب لها فيه فلولا ما كان همها كله في الدين ما كانت تبكي على هذا وهي فيه عند الله معذورة وكذلك كان شأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ما كانت همتهم إلا في حسن دينهم وكذلك شأن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ولذلك قال لا لا طوبى لمن جعل همه هماً واحداً ۳ أو كما قال عليه السلام وهو هَمّ الدِّين
۱ سَرِف مكان قريب من مكة المكرمة على بعد عدة كيلومترات ويقع في طريق الذاهب إلى المدينة المنورة نَفَست المرأة ولدت أو حاضَت ۳ رواه الحاكم والبيهقي وصححه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ من جعل الهم همّاً واحداً كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك

وفيه دليل على أن يحكم على الشخص بما يعلم من حاله يؤخذ ذلك من كون سيدنا لما يعلم من دين هذه السيدة لما راها تبكي علم أنه من أجل الدين ولا شيء في الوقت يمكن أن يُبكيها إلا النفاس فاستفسرها على ما ظنه منها بقوله عليه السلام لعلك نَفِسْتِ ۱
وفيه دليل على أن حال الشخص وإن علم ما هو فلا يحكم عليه بالقطع وفيما يظن به حتى يستفسر عن ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملك نفستِ بعدما ظن ذلك لما يعلم
منها
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن المنتهي في السلوك يكون حاله مع مولاه مثل الصبي مع أمه كل شيء را به بكى عليها لا يعرف غيرها وذلك دأبه معها يؤخذ ذلك من أنها لما جاءها ما أهمها من أمرها بكت على مولاها ولم تذكر من ذلك للنبي شيئاً حتى سألها وفيه دليل على بركتها وبركة بيتها كما قال أسيد بن الحضير ۳ عند نزول اية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل بكم شيء إلا جعل الله فيه للمسلمين فَرَجاً ومخرجاً أو كما قال فلما أهمها ما جاءها جعل الله فيه للمسلمين فرَجاً بأن سن ا للمسلمين أن المرأة إذا حاضت لا
يتعذر عليها من أفعال حجها شيء إلا الطواف بالبيت ثم لا يفوتها لأنها إذا طهرت فعلته بعد
وفيه دليل لأهل الصوفة لأنهم يقولون من بكى صادقاً شفعت فيه دموعه يؤخذ ذلك مما جاءها إثر بكائها من الفرج لها وللمؤمنين مما تقرر في حكم الحائض في هذا الحديث وقد قال بعض أهل الطريق في هذا المعنى
بالباب يبكون والبكاء إذا كان خَلِيّاً من النفاق
نفع
تَشفَع فيهم دموعُهم وإذا شُفع دمعُ المتيمين شَفَع
فبينما هم حيارى من اليأس والطمع سكارى من شراب الخوف والجزع إذ بزغ لهم قمر السعادة من فلك الإرادة في جوانب قلوبهم ولمع وألبسوا من ملابس الأنس والبسط خلع رَقمُ العَلَمِ الأيمنِ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى ۳ ورَقمِ العَلَمِ الأيسر لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ ٤ وفيه دليل على تصبّر المصاب بحرمان القدر يؤخذ ذلك من القول له له له لها هذا أمر كتبه الله على بنات آدم تعزية لها لما أصابها من الحزن على ما توقعت فواته من أمر حجها
1 كذا والرواية انفست تقدمت ترجمته في الحديث ۱۱۹ ۳ سورة الأنبياء من الاية ۱۰۱ ٤ سورة الأنبياء من الآية ۱۰۳
۱۳۱

وفيه دليل على جواز الأضحية عن أهل الرجل يؤخذ ذلك من قولهم ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر
وفيه دليل على جواز الأضحية بالبقر وإن كان غيرها أفضل منها في الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي ضحى بها عن أزواجه صلوات الله عليه ورضي عنهن وفي قولها حين أُتِيَ لها باللحلم ما هذا أن السنة ألا يأخذ أحد شيئاً ولا يأكله حتى يسأل عنه فظاهر هذا الحديث يدل على جواز الأضحية بمنى وليس الأمر على ظاهره بل هو محمول عند العلماء على الهدي وإنما ذكر الراوي الأضحية لكونها نسكاً لأنه ليس بمنى أضحية وإنما سنتهم الهدي وسنة غيرهم الأضحية يؤخذ ذلك من كون النبي الله وضحى هناك عن أزواجه
بالبقر
وهنا بحث كيف ضحى رسول الله له بالبقر وهناك أفضل فعلى مذهب مالك رحمه الله ومن تبعه الضأن أفضل وعلى مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه الإبل أفضل فترك الأفضل من الوجهين معاً والجواب - والله أعلم - أنه ضحى بالبقر عنهنّ صلوات الله عليهم أجمعين لوجوه منها
أن يكن هنَّ أنفسهن قد أهدين عن أنفسهن فيكون ذلك خيراً لهنَّ لكونه قد أهدى عن نفسه المكرمة في تلك الحجة بمائة من الإبل فكثر لهن خير الآخرة كما كثر لنفسه المكرمة واحتمل أن يكون لا اله الا انه فعل ذلك عمّن مات منهنّ قبل الحج
واحتمل أن يكون الا الله و أراد تقرير الحكم بأن الأضحية بالبقر جائزة وأن غيرها في الأضحية أفضل وبين ذلك بفعله لأنه أثبت في الحكم ولذلك لم يفعله عن نفسه المكرمة من أجل أن يكون دليلاً على الأفضلية لأنه كان و لا الهلال في خاصة نفسه المكرمة لا يفعل إلا الأفضل
واحتمل أن يكون قصد بذلك التوسعة على أمته من أجل أن يكون من ليس له إلا البقر فإذا ضحى بها فقد وافق السنة وقد يكون جاهلاً فيضحي بمنى لا يعلم أن سنتهم الهَدْي وهو الغالب اليوم على الناس فيكون قد وافق السنة واحتمل مجموع ما تأولناه والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

حديث وصيته له لأمته
عَن أبي بكرة رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال إِن الزَّمانَ قَدِ استدارَ كَهِيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ وَالأَرضَ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهراً مِنها أربعَةٌ حُرُم ثَلاثٌ مُتواليات ذو القعدة وذو الحِجَّة وَالمُحَرَّم وَرجبُ مُضَرَ الَّذي بينَ جُمادى وَشَعبان أَيُّ شَهرٍ هَذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أَعلَمُ فَسكتَ حَتَّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغيرِ اسمِهِ قالَ أَلَيسَ ذَا الحِجَّة قلنا بلى قالَ أي بلد هذا قُلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَت حَتّى ظَنَنا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ أيُّ اسمِهِ قَالَ أَلَيسَ البَلْدَةَ قُلنا بلى قالَ فأَيُّ يَوم هَذا قلنا الله وَرَسُولُهُ أعلَمُ فَسَكَتَ حَتّى ظَننا أنَّهُ سَيُسمِّيهِ بِغير اسمِهِ قالَ أليس يوم النحر قلنا بلى
قال فإنَّ دماءَكُم وأموالكم - قال محمد ۳ وأحسبه قال وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يَضرِب بعضُكم رقابَ بعض ألا لِيُبلّغ الشاهدُ الغائب فلعل بعض من يَبلُغُهُ أن يكون أوعى له من بعض مَن سَمِعه ثم قال ألا هل بلغتُ
مرتين

ظاهر الحديث يدل على تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض
والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه - أعني التحريم - أم لا فأما أن يكون على العموم من لا
كل الجهات فلا بدليل الكتاب والسنة
1 أبو بكرة اسمه نفيع بن الحارث تقدمت ترجمته في الحديث ٤٥
هو محمد بن سيرين أحد رجال سند هذا الحديث كما ذكر ابن حجر في فتح الباري ۷۱۱/۷
۱۳۳

أما الكتاب فقوله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهَرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِم ﴾ ١ فلا يذكر أحد من المسلمين أخاه المسلم بسوء إلا من ظلم ظلامة فله أن يذكر السوء الذي فُعِل معه لكن بقدر ما عدا عليه فإنه إن زاد على ذلك عاد ظالماً ثانياً والله عزّ وجلّ يقول ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا أَعْتَدَى عَلَيْكُمْ وأما السنة فقد قال له لا غيبة في فاسق ۳ ولها شروط منها أن يكون متظاهراً بفسقه أن يشهر عنه فلا غيبة فيه إذ ذاك ومن العلماء من قال إنما يكون ذلك أن تذكر حال فسقه عند من يقدر أن يغيّره عليه أو تستعين عليه في ذلك أو تحذره منه فأما إن كان لغير هذه الوجوه فممنوع وتأولوا الحديث بأن قالوا معناه ولا تغتب فاسقاً
يحب
وقد قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ٤ فإذا أخذ واحد منها بحقه فلا يتناوله التحريم وقد قال لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ٥ فإن كان عن طيب نفس منه فلا يتناوله التحريم والآي والأحاديث في هذا كثيرة فما بقي أن يكون التحريم إلا خاصاً فهو إذا لم يكن عليه حق من وجه من الوجوه
يا هذا قد ثَبَتَتْ لك حُرمَة فإن أفقت زادت لك الحرمة حرمة أخرى وهي قوله عزّ وجلّ من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة وأنا أسرع إلى نصر عبدي المؤمن ٦ وزادها تأكيداً بقوله

تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ۷ فإن أَتْبَعتَ النفس هواها أذهبتَ ما لَكَ من الحرمة وعاد مكانها محنة أعاذنا الله من ذلك بمنه وقد ورد رُبَّ مُكرِم لنفسه وهو لها مُهين ومُهينٍ النفسه وهو لها مكرم وقد جاء عن النبي لا لا لا لا لا أنه كان يربط على بطنه ثلاثة أحجار من شدة الجوع والمجاهدة ثم يقول ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ۸
1 سورة النساء من الآية ١٤٨
سورة البقرة من الآية ١٩٤
۳ لا أصل له بهذا اللفظ قاله في المقاصد عن العقيلي
٤ متواتر عن أنس وأبي هريرة وغيرهما
٥ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن يثربي بلفظ لا يحل لامرىء من مال أخيه شيء إلا بطيب
نفس منه
٦ رواه الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ۱۰/۸ و ٤٧٧ و ٤٤٠/٩ وابن الجوزي في العلل المتناهية وابن عدي في الكامل في الضعفاء ۵/ ۱۹۳۹ والألباني في السلسلة الصحيحة ١٦٤٠ بلفظ بارزني بدلاً من اذنني ۷ سورة الروم من الآية ٤٧
^
قطعة
من
حديث رواه ابن سعد في الطبقات والبيهقي في الشعب عن أبي البجير ومطلعه أصاب يوماً النبي صلى الله عليه وسلم
١٢٣٤

وفيه دليل على أن تسمية الشهور وعددها هو بمقتضى الحكم الرباني لا عرفي ولا لغوي يؤخذ ذلك من قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض إلى قوله وشعبان
و معنى قوله قد استدار أي استقر الأمر فيه ورجع مثل ما كان يوم خلق السموات والأرض لأن العرب كانوا يحجون في كل عام شهراً ثم ينقلونه إلى شهر ثان ففرض الحج وكان الحج في تلك السنة على ما ذكرنا من عادتهم في ذي القعدة فأقام الحج بالناس في تلك السنة أبو بكر رضي الله عنه بأمر النبي الا الله فلما كان في سنة عشرة من الهجرة - وهي التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم - دار الحج على عادتهم إلى ذي الحجة وهو الشهر الذي جعل الله فيه الحج يوم خلق السماوات والأرض وفيه حَجّ إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام فلذلك قال عليه السلام قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أي على وضعه الذي اقتضته الحكمة الربانية عند خلق السماوات والأرض
وفيه دليل على أن دوران الأشهر يسمى زماناً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الزمان قد استدار وهي الأشهر كما ذكرنا وقوله عليه السلام حُرُم أي جعل لها حرمة ليست لغيرها وفائدة الإخبار لنا بتلك الحرمة أن نحترمها بتعميرها بالطاعات وترك المخالفات يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه فلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَح

وهنا بحث وهو أن يقال ما الحكمة في أن جعلت على هذا الوضع مفرقة تفريقاً مختلفاً في الموضع وجعلت في آخر السنة أكثر من أول السنة هل هذان البحثان تعبّد لا يعقل لهما معنى أولهما معنى معقول من جهة الحكمة فإن قلنا تعبد فلا بحث وما ندبنا إلا للبحث والاعتبار وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم في البحث الأول وهو كون رمضان لم يسم بهذه التسمية وفيه من الخير العظيم ما هو فيه بحيث لا يخفى وما جاء فيه من الأجر قد عرف ولو لم يكن فيه إلا قوله من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما بينه وما بين رمضان ۳ وكون أول ليلة منه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين ٤
T

جوع فوضع على بطنه حجراً ثم قال ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة إلخ
۱ سورة التوبة من الآية ٣٦ ٢ أي تسمية الأشهر الحرم
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس في الحديث غفر له ما بينه وبين رمضان ٤ رواه الشيخان بلفظ إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار إلخ وفيه وصفدت
الشياطين
١٢٣٥

وذلك أن الفرق بينهم 1 حرمة رمضان من أجل العمل الخاص به وهو الصوم وحرمة هؤلاء منة من الله تعالى وتفضل بغير شيء يوجب ذلك والله عزّ وجلّ يتفضل على من يشاء من عباده حيواناً كان أو جماداً بسبب أو بغير سبب لحكمة أو غيرها لا يعلمها إلا هو عزّ وجلّ لكن إن اتبعتها بمقتضى أدلة الشرع تجدها رحمة لنا وتفضلاً علينا لأنك تجد كل شيء فضّله المولى سبحانه من الزمان والمكان والقول والجماد أو أي شيء كان من جميع المخلوقات تجد الفائدة في ذلك تعود علينا وهو الغني المستغني ومما يؤكد هذا قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي و الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢

ومنها ما جاء بتضعيف الأجر بنص الشارع عليه السلام في الأعمال التي في الأزمنة المعظمة والأمكنة المحترمة والجمادات المباركة فالنص في كل واحد منها مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحجر الأسود إنه يمين الله في الأرض يشهد يوم القيامة لمن يستلمه ۳ ومثل صوم يوم عاشوراء يكفر السنة 4 إلى غير ذلك إذا تتبعته تجد الخير كله في ذلك بفضل الله علينا جعلنا الله ممن سعد بذلك في الدارين عنه
وأما الجواب عن البحث الثاني فهو كونه عزّ وجلّ وضعها على هذا الوضع فأما من طريق حكمة النظام فإن الأفخر من الأشياء يُزَيَّن به أولُ النظام ووسطه وآخره فلما نظمت القدرة درَرَ الأشهر في سلك الاجتماع جعلت استفتاح النظام بشهر حرام ووسطه بشهر حرام - وهو رجب ثم ثالثهما في مناظرة الحسن شهر رمضان وفصل بينهما بدرَّة شهر شعبان الذي فيه فهم سيدنا نظم القدرة في الأشهر فزاد وسطها حسناً بترفيع شعبان بكثرة الصوم فيه لقول عائشة رضي عنها ما رأيت رسول الله الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ولا رأيت أكثر صوماً منه في شعبان ٥ حتى أضيف الشهر إليه عليه السلام فقيل شهر نبيكم شعبان فجاءت حرمته
الله
محمدية وسط حرمتين ربانيتين شعبان شهر محمّد عليه السلام ورجب ورمضان شهران ربانیان فحسن النظام واستنار وكذلك كانت سابقة الإرادة فيه ولم يظهر لنا إلا عند بروزها في الوجود وفي ذلك دلالة على علو قدره الا الله لأنه ما نجد شيئاً رفعته القدرة إلا ومن جنسه ما رفعته السنة المحمدية حتى يكون له عليه السلام خصوص في أبرع حال من جميع الترفيعات وختم اخر نظام السنة بشهرين حرامين
1 أي بين رمضان والأشهر الحرم والصواب بينها
سورة الجاثية الآية ١٣
۳ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه الحاكم وصححه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما
٤ رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله الله سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال يكفر السنة الماضية ٥ رواه الشيخان وللحديث ألفاظ وروايات كثيرة
١٢٣٦

وفي تفضيل آخر السنة بأن كان فيه شهران حرامان وجوه من الحكمة منها أن الختام له أبداً
علم زائد بمقتضى الحكمة الربانية قال تعالى ختَمُهُ مِسْكَ ۱ وقال عليه السلام الأعمال بخواتمها ٢ فإذا حسنت الخاتمة حسن الكل وزاد حسناً على حسن وإن كان الكل حسناً فزيادة حسن الآخر إبلاغ في الحسن وإشارة الترفيعه لما أن كان عليه السلام خاتم الأنبياء - وهو سيدهم - جعل نظام الأشياء على شبه نظام أشخاص الأنبياء عليهم السلام ترتيباً متناسباً حكمة عظيمة أبدع فيما أحكم وأحكم فيما أبدع
وفيه إشارة إلى اللطف منه جلّ جلاله بعباده لأنه من غفل أو كان له عذر في السنة كلها جعل له في اخرها تكثير في عدد ذوي الحرمة لعله يحصل له حرمة فيا الله ما أحسن نظمه سبحانه وأكثر فضله وأتم على من غفل عن نعمته !
وفي قوله أي شهر وأي بلد وأي يوم وجوه من الفقه والأدب والحكمة فمنها أن اجتماع من له حرمة تأكيد في الحرمة وأنه لا تسقط حرمة أحد حرمة غيره يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام بعد ما ۳ بين تأكيد حرمة الدماء وما ذكر معها فدل على تأكيد حرمة اجتماع حرمة الشهر والبلد واليوم فأبقى لكل ذي حرمة حرمته في الزمن الفرد
من
وفيه من الأدب أن السيد إذا سأل أو العالم إذا سأل عما قد علم يُرَدّ الأمر في ذلك إليه لأنه لا يسأل عن ذلك عبثاً وإنما يسأل لحكمة لا يعلمها المسؤول يؤخذ ذلك من قول الصحابة الله عنهم الله ورسوله أعلم وهم عالمون بما سألهم عنه فظهرت بعدُ الحكمةُ التي أجلها سألهم عن ذلك - وهي تأكيد الحرمة - بخلاف ما إذا سأل عن شيء يجهله كثير من الناس فمن النبل إصابة المقصود والإفصاح به مثل قوله أي شيء من الشجر يشبه المؤمن فوقع الناس في شجر البادية قال عبد الله بن عمر فوقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النخلة فقلت بعد ذلك لأبي وقع في نفسي أنها النخلة فقال عمر وَدِدتُ لو قلتها ٤ لأن المقصود من هذا الاختبار جودة الخواطر وحدة القرائح فإذا جاوب بما يصلح في ذلك سرّ به السائل ومن أجل ذلك قال عمر لابنه تلك المقالة لأنه إذا قال ما يعجب رسول الله الا الله النعمة الكبرى وقد يحصل له منه دعوة حسنة فيزداد الخير خيراً
فهي
۱ سورة المطففين من الآية ٦
رواه البخاري عن سهل بن سعد ضمن حديث فيه قصة ورواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ الله عنها بلفظ إنما الأعمال بالخواتيم
۳ ما زائدة ٤ متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
۱۳۷

وفيه من الحكمة أن يمثل ما لا يعرف قدره بما يعرف قدره حتى يحصل للسامع معرفة الفائدة التي قصد أن يفهمها يؤخذ ذلك من أنه لما أراد سيدنا الله أن يخبرهم عن عظيم حرمة الدماء والأموال والأعراض مثل ذلك لهم بجمع حرمة هذه الثلاثة أشياء التي كانوا يعرفون حرمتها وفيه من الفقه أن الأشياء إذا كان الحكم واحداً - وإن كثرت - أن من الفصاحة جمعها بتعدادها وأسمائها ويذكر الحكم مفرداً لأنها - وإن كثرت - كالشيء الواحد يؤخذ ذلك من جمعه عليه السلام تلك المحرمات الثلاث وفي سكوته عليه السلام بعد قولهم الله ورسوله أعلم استدعاء لجلب القلوب لما يلقى إليها بعد ودلالة على الوقار وهو من الشيم المحمودة وفي ذكره عليه السلام هذه المواطن - وهو عليه السلام قد بينها في غير ما حديث - دلالة على عظيم الأجر فيها لمن احترمها وعظم الوزر على فاعل شيء من المحظور فيها
وفيه دليل على وجوب تبليغ العلم ونشره يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ألا ليبلغ الشاهد الغائب ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام طلب العلم فرض على كل مسلم ۱ وقوله عليه السلام إن الله لما أخذ العهد على الجهال أن يتعلموا أخذ العهد على العلماء أن يعلموا أو كما قال عليه السلام وقد قال الله إذا ظهرت الفتن وشتم أصحابي فمن كان عنده علم فكتمه فهو صلى الله عليه وسلم كجاحد ما أنزل الله على محمّد وقال الله تعالى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ ۳ وهذا العلم الذي هو واجب نقله وتعليمه هو علم الكتاب والسنة اللذين هما الثقلان الذي أخبر الصادق بقوله لن تضلوا ما تمسكتم بهما 4 والآي والأحاديث في هذا كثيرة لمن تتبعها وفهمها وفيه دليل على أن الخير في السلف الأول كثير وأنه في الآخر قليل وقد عاد أقل من القليل فإنا لله وإنا إليه راجعون يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه فجعل الرجاء في البعض مِمّن يبلغه في الواعي له وذلك هو الخير
۱ رواه ابن عدي والبيهقي وابن عبد البر وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الديلمي عن معاذ رضي الله عنه بلفظ إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه إن لم يفعل فعليه لعنة الله
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۸۷

قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد والترمذي والطبراني في الصغير ولفظه في المسند إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يَرِدًا عليّ الحوض وفي رواية زيد بن أرقم زيادة وهي فانظروا كيف تخلفوني فيهما وفسَّر ابن الأثير في النهاية كلمة الثقلين فقال سمّاها ثقلين لأن الأخد منهما والعمل بهما ثقيل وسمّاهما بذلك إعظاماً لشأنهما ولهذه اللفظة معنى اخر وهو الإنس والجن
۱۳۸

كما جعل عدم الخير الذي هو ترك الوعي في الأقل ممّن سمعه وجعل عليه السلام تفضيل من يوعاه ۱ في الأجر - وإن بَعُدَ - على بعض من سمعه ولم يَوْعَه - هما ولم يَوْعَه ٢ - هم الأقل
بالوعي
وفيه دليل على أنه ليس الفائدة في العلم نفسه وإنما الفائدة في العمل به الذي كَنَى لأن العلماء قالوا معنى أوعى له أي أعمل به ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام
اتقوا العالم الفاسق والعابد الجاهل فإنهما مضلة للمضلين أو كما قال عليه السلام وفي قوله لوله لوله اللهم اشهد مرتين هنا بحث لم جعلها مرتين ولم يجعلها ثلاثاً على عادته في الأمور التي لها بال وما الحكمة في قوله اشهَدُ فإنما جعلها اثنتين ولم يجعلها أكثر فإنه نحا بها منحى الشهادة بأن قطع بحقوق قد تكون بشاهدين فهذه شهادتان
وأما الحكمة في قوله ذلك وهو يعلم أنه شاهد ويعلم بذلك لوجوه منها الفائدة في الإعذار والإنذار ومنها مواقفه حكمة الكتاب العزيز فإن الله عزّ وجلّ يقول فيه ﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ ۳ لأن إعلامه عزّ وجلّ بأنه يعلم إنه لرسوله
شهادة له برسالته أو تحقيق لها فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَشْهَد له بالتبليغ كما يَشهَد له بالرسالة وفيه دليل على أن من رفع له قدر فهو في امتثال الأوامر أشد من غيره رداً على بعض الذين يدعون الأحوال ويقولون قد سقطت عنهم الأعمال لأنهم في الحضرة وهذا هذيان وخبال عارض في الدماغ يؤخذ ذلك من توفيته عليه السلام في الإبلاغ والإنذار وهنا إشارة وهي إذا كان هذا السيد لالا لال قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر وطبع على الرحمة والشفقة حتى إنه عليه السلام في المواضع المهولة يُقدِّم حقَّ أمته على نفسه المكرّمة لعظم ما طبع ل عليهم من الرحمة وجاء عليه السلام في هذا الموطن الذي هو موطن الوداع أجمل لهم في الإنذار والتبيين ما قد صرح لهم في جميع مدة صحبته لهم ثم بعد ذلك رجع إلى ٤ النظر فيما به يخلّص نفسه المكرّمة مما كلفه الله تعالى به بقوله عليه السلام ألا هل بلغت لأن معناه أني لم أترك شيئاً مما أمرتني به إلا بلغته مفسراً ومجملاً فما ٥ بالك بالكثير الأثقال منا كيف يشتغل بغيره عن خلاص نفسه لا سيما مع كبر السن وقُربِ الحِمام
1 كذا وفي العبارة اضطراب وكلمة يو عاه يريد يعيه
كذا يريد ولم يَعِهِ
۳ سورة المنافقون من الاية ١
٤ هنا خبر كان

٥ هنا جواب إذا
۱۳۹

وفي هذا دليل على فضل أهل الطريق الذين عملوا في أمر الدنيا على الإغضاء والتجاوز عن الإخوان وفي الدين على الشح عليه والاهتمام حتى إنه ذكر عن بعضهم أنه شكا له أهله الجوع فقال لهم لأن أموت وأدخل الجنة وأنتم جياع خير عندي من أن أترككم شباعاً وأدخل النار وقال بعضهم على دينك فَشُح كما يشح صاحب الدرهم على در همه
وفي قوله وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم إرشاد إلى تحقيق الإيمان والتحضيض على توفية جميع الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك فجمع عليه السلام في إجماله في هذا اللفظ اليسير كل ما جاء به وشرحه في الزمان الطويل فسبحان من أيّده بالفصاحة وحسن اختصار الكلام والإبلاغ في توفية بديع المعاني مع بديع الاختصار وقد قال أهل البلاغة في الكلام إن البليغ يطوّل ليُبين ويختَصِرُ ليُحفَظ وقد أتى لا الهلال في هذين الوجهين بأتم مراد وأحسن مساق ولا يعرف ذلك إلا من عرف سُنّته وتتبَّعَها
وفيه إشارة إلى التخويف والترهيب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فيسألكم عن أعمالكم فإذا كان الحاكم العدل يسأل المقصّر المسكين فأي تهديد أكبر منه لمن عقل وهو عزّ وجلّ يقول في محكم التنزيل ﴿ وَكَفَى بِنَا حَسِبين ۱ وقال تعالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَمُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ

ومن أكبر ٣ الدلالة على أن كلامه عليه السلام بتأييد من الله تعالى وإلهام منه وقد قال ذلك جماعة من العلماء في معنى قوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَبِّكَ اللهُ ٤ فقالوا معنى أراه أي ألهمه فهو وحي إلهام فالجميع من عند الله تعالى إما وحي بواسطة الملك وإما وحي
إلهام
يشهد لذلك أنك إذا تأملت كلامه تجده حذو الكتاب العزيز ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ٥ مثل كلامه عليه السلام الذي نبهنا عليه آنفاً كيف هو صيغته صيغة الإخبار وضمنه أكبر التهديد كقول الله جلّ جلاله فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ٦ ظاهره الإباحة وفي ضمنه عظيم التخويف والتهديد
۱ سورة الأنبياء من الآية ٤٧
سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨
۳ المبتدأ الذي يتعلق به الجار والمجرور مفقود
٤ سورة النساء من الآية ۱۰۵
٥ سورة النساء من الاية ۸ ٦ سورة الملك من الاية ١٥
١٢٤٠

يؤخذ ذلك من أنه عزّ وجلّ قال في كتابه العزيز وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۱ وقال عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ إلى غير ذلك من الأحكام الذي بينها عزّ وجلّ لنا كيف نتصرف بها في المشي وغيره بمتضمن قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ۳ أباح عزّ وجلّ لنا المشي في مناكبها بعد التبيين والتعليم حتى لا يبقى لأحد حجة ثم ختم الآية بقوله تعالى وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ٤ فيعرفكم كيف كان مشيكم فيعرفكم كيف كان مشيكم من حسن أو قبيح فإنه أخبرك بقوله تعالى وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ٥ وبقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَولِ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ٦ وبقوله عزّ وجلّ وَقَالَ قَرِيتُهُ هَذَا مَا لَدَى عَتِيدٌ ۷ أي كل ما كتبته عليك حاضر فانظر لم نغادر منه شيئاً فحسبك حالك إن عنيت به فالأمر والله عظيم

وقوله عليه السلام لا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضُكم رقاب بعض هنا بحث هل يكون على ظاهره فيكون حسيّاً أو يكون معنوياً أو المجموع احتمل والأظهر - والله أعلم - أنه المجموع فإنه مناسب لوضع الحديث لأنه أجمل ما قد فسّره وبيّنه فهماً بيناً فالمحسوس منه على ظاهره مثل قوله عليه السلام حتى يكون بعضكم يسبي بعضاً وبعضكم يقتل بعضا ۸ وقد قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يعرف المقتول قُتِلَ ولا القاتل قتل ۹ أو كما قال والأحاديث فيه كثيرة متنوعة
وأما في المعنى فمثل قوله عليه السلام قطعتم ظهر الرجل ۱۰ حين مدحوه في وجهه
۱ سورة الإسراء من الاية ٣٧ ۳۷
سورة لقمان من الآية ۱۸ ۳ سورة الأنعام من الاية ۳۸ ٤ سورة الملك من الآية ١٥ ٥ سورة يونس من الاية ٦١ ٦ سورة ق الاية ۱۸ ۷ سورة ق الاية ۳
۸
قطعة من حديث طويل رواه الإمام أحمد ومسلم في الفتن وأشراط الساعة والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه وأوله إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وفي اخر الحديث وإن ربي قال لي يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا سوى من أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ۹ رواه مسلم في الفتن عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار ۱۰ رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله لو سمع رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل
١٢٤١

ومثل قوله عليه السلام لا يسب الرجل أباه قالوا وكيف يسب الرجل أباه فقال يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ۱ وأي قطع عنق أكبر من العقوق وهذا النوع أيضاً في الآثار كثيرة وأنواعه متعددة
بمنه
و معنى قوله عليه السلام ضلالاً خارجين عن الطريقة المحمدية جعلنا الله من خير أهلها
وفيه دليل على أن الرجوع إلى الضلالة في حياته عليه السلام مستحيل يؤخذ ذلك من قوله بعدي ومما يقوي ذلك قوله عليه السلام في حديث الشفاعة حين يقال له إنهم قد بدلوا بعدك فيقول فَسُحقاً فَسُحْقاً فَسُحْقا ٢ عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه
نفسك بالعلم فزينها إن كنت عاملا وإن خالفته قد شنتها به عاجلاً واجلا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
رواه البخاري في الرقاق ومسلم في الفضائل عن سهل بن سعد رضي الله عنه ولفظه أنا فَرَطكم على الحوض من وَرَد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا وليَردَن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فيقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي وفي الباب عدة روايات عن
عدد من الصحابة
١٢٤٢

- ٢٢٤
ث جواز الشرب قائماً
عَن عَلي رضي الله عَنهُ أنَّهُ أُتي على باب الرَّحَبةِ ١ بِماءٍ فَشَربَ قائِماً فَقَالَ إِنَّ ناساً يكره أحَدُهُم أن يَشربَ وَهُوَ قائِم وإني رأيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَما رَأَيْتُمُونِي فَعلتُ
ظاهر الحديث يدل على جواز الشرب قائماً والكلام عليه من وجوه منها أنه ينبغي للعالم إذا رأى شيئاً ينكره الناس - وهو جائز في السنة ـ أن يبين ذلك ويوضحه بالفعل والقول يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه ما هو نص الحديث
وفيه دليل على أن عليه أن يبالغ في التعليم ما أمكنه يؤخذ ذلك من فعل علي رضي الله عنه وقوله لأنه لم يكتف إلا بمجموعهما وذلك هو الغاية في التعليم ويؤخذ منه أنه ينبغي للعالم عند ظهور البدع أن يعلّم قبل أن يُسأل لأن علياً رضي الله عنه فعل ذلك قبل أن يسأل وهو أحد الخلفاء الذين قال الله في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء بعدي عضوا عليها بالنواجذ ٢ أو كما قال عليه السلام
وفيه دليل على اتباعه رضي الله عنه في التعليم سنة رسول الله يؤخذ ذلك من قوله إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ولم يسمّ أحداً وكذلك كانت عادة رسول الله لا اله إذا قيل له
۱ الرَّحَبَة المكان المتّسع والرحبة المقصودة رَحَبَة الكوفة بدليل الحديث الذي رواه البخاري عن النزال بن سبرة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه - وذكر رأسه ورجليه - ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن النبي لا الهلال و صنع مثلما صنعت ويسمي ياقوت في معجم البلدان هذه هلال الرحبة باسم رحبة خنيس قطعة من حديث رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي ومطلعه وَعَظنا رسول الله له و موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون إلخ
الله عنه
١٢٤٣

عن أحد شيئاً لا يعجبه يقول ما بال أقوام يقولون كذا أو يفعلون كذا ۱ ولا يسمّي أحداً وهذه العادة اليوم قد كثرت في الناس - أعني من أنهم يكرهون الشرب قائماً - حتى إن بعضهم يتغالى في ذلك ويجعله من قبيل المحرم وهذا مخالف لسنة النبي الهلال الهلال وفيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كان شأنهم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله يؤخذ ذلك من قول علي رضي الله عنه وإني رأيت النبي الهلال وفعلا كما رأيتموني فعلت صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عنه عليه السلام في ذلك قولاً

وفيه دليل على أنه مهما كان من الشارع ع الله في شيء فعلاً أو قولاً فلا مجال للعقل والرأي أن ينظر أو يجتهد وليس له وظيفة إلا أن يتبع فقط لأنه لو كان الشأن عندهم غير ذلك ما فعل عليّ رضي الله عنه ما نص في الحديث عندما بلغه قول من ظهر له كراهية الشرب قائماً ومما يؤيد هذا ما فعله معاذ بن جبل ۳ مع معاوية ۳ بالشام حين قال معاذ قال رسول الله قال معاوية الرأي عندي كيت وكيت فقال معاذ من يجيرني من معاوية أقول قال رسول الله وهو يقول رأيي والله لا أقيم معك في بلد فخرج وأتى عمر بن الخطاب رضي عنه فكتب عمر إلى معاوية أن يقف عندما قال له معاذ وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه عزّ وجل يقول ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ٤

الله
والاتباعية ينبغي أن تكون عامة في الأقوال والأفعال وقد مضى على ذلك أئمة الدين و مصابيح الهدى غير أنهم اختلفوا هل هذا واجب أو مندوب أو ما دل الدليل عليه على كل قضية قضية بقرينة فمنها واجب ومنها مندوب ولم يقل أحد منهم بالمخالفة أصلا لا في فعل
ولا في قول
۱ رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها ومطلعه كان النبي الله إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بال فلان يقول إلخ تقدمت ترجمته في الحديثين ٤٣ و ١٣٧
۳ معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية في الشام وأحد دهاة العرب كان فصيحاً حليماً وقوراً ولد بمكة وأسلم يوم فتحها وتعلم الكتابة والحساب فجعله الرسول الا الله في كتابه للوحي فتح أيام الصديق مدينة صيداء وعرقة وبيروت وولاه عمر على الأردن ثم على دمشق وفي أيام عثمان جمع له إمرة الشام كلها وعزله أحد عظماء الإسلام وهو علي فور توليه الخلافة وحدثت بينهما حروب له في كتب الحديث ۱۳۰ حديثاً بلغت فتوحاته المحيط الأطلسي وفتحت مصر في أيامه وكثير من جزائر يونان والدردنيل وحاصر القسطنطينية برا وبحرا وهو أول من جعل دمشق مقر الخلافة وقد دعا له رسول الله الله فقال اللهم مكن به ومكن له في الأرض أو ما في معناه ومما يشرفه أنه أحد كتبة الوحي وهو الميزان في حب الصحابة ومفتاح الصحابة سئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله لا اله الاخير ما من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على محبته ٤ سورة ال عمران من الاية ۳۱
١٢٤٤

ولكثرة ملاحظة أهل السلوك هذا الشأن سادوا على غيرهم وبلغوا المنازل المنيفة وقد ذكر
عن بعضهم أنه طرقه خوف من واقعةٍ وقعت في الوجود بعدما امتثل فيها السنة فقيل له في إحدى مخاطباته على عاداتهم التي عوّدهم مولاهم أتفزع ونحن قد أعطيناك علم الأمان قال وما علم الأمان قيل له قد هديناك إلى اتباع السنة فهناك سَكَنَ ما كان وجده من الخوف ولم يلق في تلك النازلة إلا كل خير ونعمة فالشأن لمن أريد به الخير الصدق مع الله تعالى واتباع السنة المحمدية جعلنا الله من أهل هذا الشأن في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٢٤٥

حديث النهي عن الشرب من فم السقاء
عَن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ نَهَى النَّبِيُّ لا عَنِ الشَّرِبِ مِن فَمِ السَّمَاءِ وَالقِربةِ
وَأَن يَمنعَ الرَّجُلُ جَارَهُ أَن يَعْرِزَ خَشبَةٌ فِي جِدارِهِ
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما المنع من أن يشرب أحد من فم السقاء والقربة والثاني أن يمنع ۱ أحد جاره أن يغرز خشبة في جداره والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل منعه عليه السلام عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام على أي وجه كان أو لا وهل النهي نهي كراهية أو تحريم وهل ذلك معقول المعنى أو لا وهل يتعدى منعه إلى غير السقاء والقربة أو لا وهل إباحة الجدار للجار لغرز الخشبة هو على الوجوب أو الندب وهل ذلك على كل حال أو في بعض الأحوال دون بعض
أما قولنا عن الشرب من فم السقاء والقربة هل هو عام أو لا ظاهر اللفظ محتمل لكن الناس اختلفوا في تأويله فمنهم من جعله عاماً على أي وجه كان ومنهم من قال إنه إذا جعل فم السقاء والقربة موضوعاً في الأرض كأنه القصعة وتناول منه الشرب فليست تلك الصفة بمنهي عنها وإنما النهي أن يصب الماء في حلقه ولا ينظر ما فيه ولا يقدر أن يقطع الشرب وأما قولنا هل النهي على الكراهية أو التحريم احتمل لكن إذا كانت العلة معقولة المعنى
فيكون بحسب مقتضى العلة فإن لم تعرف العلة فحينئذ يبقى الأمر فيه محتملاً الوجهين ويبقى فيه بحث آخر هل النهي يدل على فساد المنهي عنه فالذي يشرب يشرب حراماً وإن قلنا إن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه يكون متشابهاً هل هو حرام أو مكروه موضع خلاف ويبقى فعله ذلك على أحد الاحتمالين إما أن يكون حراماً فيكون آثماً وإما أن يكون
مكروهاً فيكون غير آثم
1 أي المنع من أن يمنع
١٢٤٦

وأما قولنا هل ذلك معقول المعنى أو لا ظاهر اللفظ لا يتحقق منه شيء من ذلك لكن قد
قال بعض الناس إن ذلك معقول وهو خيفة أن يكون في الوعاء حيوان فينزل مع الماء في جوفه وقد وقع للناس من ذلك وقائع فتعبوا بها كثيراً منها أنه قد ذكر أن رجلاً شرب الماء كذلك
وكان في الماء ثعبان صغير فابتلعه مع الماء فحصل له منه ضرر كثير وقد يكون أيضاً في علق فيبلعه فيتأذى وقد يكون الماء ينصب بمرة فيكون سبباً لقطع العروق الضعاف التي بإزاء القلب فيكون منها موته ومن أجل ذلك أحكمت السنة أن يكون شرب الماء مصاً ولا يكون عبّاً من أجل الخوف على العروق بإزاء القلب فهنا من باب أحرى
وقال آخرون من أجل ما يتعلق بالسِّقاء والقربة من رائحة الفم وقد يكون في بعض أفواه الناس بخر فيعلق بالقربة والسِّقاء منه شيء فيعافه الغير وقيل من أجل أن بعض الناس لا تتحمّل نفسه الشرب من فضل غيره ويتشوش لذلك عند الشرب وقد قيل إن ذلك قد يعود بالفساد على الوعاء فيكسر فيكون من باب إضاعة المال وهو منهي عنه نهي تحريم
وبحسب هذه التعليلات تعرف النهي على أي وجه هو لكن الذي يعطيه الفقه أن أمراً يكون فيه التعليل على مثل هذا الخلاف تركه أولى لأنه لا يبعد أن يكون لمجموع ما ذكر فيكون يجتمع فيه التحريم على وجه والكراهية على وجه والشأن الأخذ بسد الذريعة التي تدل عليها قواعد الشريعة وقد روي عن الإمام مالك رحمه الله ومن تبعه أن مذهبه في الأمور المحتملة الأخذ بالأشد إبراء للذمة
وأما السقاء فهو الوعاء الصغير من الجلد والقربة الوعاء الكبير منه
وأما قولنا هل يتعدى الحكم إلى غيرهما فإن قلنا بعدم التعليل فلا يتعدى ويكون مقصوراً على السقاء والقربة لا غير وإن قلنا بالتعليل - وهو الأظهر والله أعلم - فحيث وجدت العلة طردنا الحكم على أحد محتملاته
وأما قولنا هل إباحة الجدار للجار أن يغرز الخشبة فيه على الوجوب أو الندب فجمهور العلماء أنه على الندب لأنه قد روي عن راوي الحديث - وهو أبو هريرة رضي الله عنه ـ أنه كان يقول ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فدل بقوله هذا أنه فهم من النبي إما الوجوب أو التأكيد في الندب لعظم حق الجار على جاره لأنه قال اللي ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ۱ والآثار في الجار كثيرة في تأكيد حقه والإحسان إليه
وكف الأذى عنه وإدخال السرور عليه وأما قولنا هل ذلك على كل حال أو لا فلا يمكن أن يكون على كل حال لأن الشارع عل الله
1 رواه أصحاب الصحاح وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله عنها
١٢٤٧

قد قال لا ضرر ولا ضرار ۱ فإن كان في غرز الخشبة ضرر على صاحب الحائط فلا يجب عليه ذلك ولا يندب فالشارع صلوات الله علیه وسلامه قد منع أن يفعل الشخص بملكه شيئاً يضره بجاره فكيف يفعل في مال جاره ما فيه ضرر به هذا لا يعقل وإنما يكون ذلك على أحد محتملاته إذا لم يكن على صاحب الجدار في ذلك كبير ضرر لأنه من جملة الرفق له وقد ورد ما معناه لا يمنع أحدكم جاره رفده وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك والشافعي عنه عن يحيى المازني مرسلاً وعبد الرزاق والإمام أحمد وابن ماجه والطبراني عن
ابن عباس رضي الله عنهما
١٢٤٨

حديث عدم الاتكال على الأعمال والاجتهاد فيها
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ قال سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ لَن يُدخِلَ أحَداً عَملُهُ الجَنَّةَ قالوا وَلَا أنتَ يا رَسُولَ الله قالَ وَلَا أنا إلا أن يَتَغَمَّدني الله بفضله ورحمته فَسَددوا وقارِبوا ولا يَتَمَنَّيَنَّ َأحَدُكُمُ المَوتَ إمّا مُحسناً فَلَعَلَّهُ أن يزدادَ خَيراً وإما مُسيئاً
فَلعله أن يَستَعتِبَ
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله والكلام عليه من وجوه اعلم ـ وفقنا الله وإياك - أن الناس اختلفوا في معنى تأويل هذا الحديث على وجوه عديدة فمنها قول بعضهم إن الإيمان عَرَض والعَرَض من شأنه أنه لا يبقى زمانين فإبقاؤه عليك حتى يتوفاك الله عليه من فضله عزّ وجلّ
ومنها قول آخرين وهو أنه عزّ وجلّ الذي وفقك إلى الأعمال وتفضل عليك بقبولها لقوله تعالى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۱ وقيل لولا تجاوزه عزّ وجلّ عنا ما قدر أحد على الخلاص لقوله تعالى إن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلًا كَرِيمًا
وتأويلات كثيرة لكن الذي يعطيه تقسيم البحث أن نقول قوله صلى الله عليه وسلم عمله هل هو على العموم في جميع الأعمال القلبية والبدنية أو هو خاص بالبدنية
فإن كان خاصاً بالبدنية فكيف الجمع بينه وبين الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف
۱ سورة النور من الاية ۱ سورة النساء الآية ٣١
١٢٤٩

دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام في الصيام إن في الجنة باباً يسمّى الريان لا يدخل منه إلا الصائمون إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في الأعمال وكيف دخول أصحابها الجنة مثل قوله عليه السلام عن العافين عن الناس ينصب لهم لواء أخضر يوم القيامة فيتبعونه حتى يدخلوا الجنة أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام في الذين لا يسترقون ولا يتطيرون أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ۳ إلى غير ذلك وقول الله عزّ وجلّ في كتابه بما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ٤ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ إلى غير ذلك من الآي وهي كثيرة ٤ ﴿ وإن كان المعني به العموم في الأعمال القلبية والبدنية فكيف الجمع بينه وبين قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله ٦ ثم أخبره أن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم وقول جبريل عليه السلام للنبي من مات من أُمتك لا يُشرِك بالله شيئاً دخل الجنة ۷ وقول الله عزّ وجلّ للمؤمنين فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۸ والآي والأحاديث في هذا كثيرة والإيمان عمل من أعمال القلوب وهو أجلها فالجواب عنه أنه إن كان على الخصوص - وهو أن يعني به أعمال الأبدان - فلا تعارض بين هذا الحديث ولا ما ذكر من الأحاديث والآي ولا غيرها مما يشبهها لأن الأعمال لا تُقبَل ولا تَنفَع

تفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الأحاديث الواردة في العافين عن الناس كثيرة منها ما رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دماً فازدحموا على باب الجنة فقيل من هؤلاء قيل الشهداء كانوا أحياء مرزوقين ثم نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم مَنْ أجره على الله فليدخل الجنة قال ومن أجره على الله قال العافون عن الناس ثم نادى الثالثة ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوها بغير حساب وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه من حديث طويل مطلعه بينا رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما الله
أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي إلخ
۳ متفق عليه ٤ سورة الحاقة من الاية ٢٤
5 سورة البقرة من الآية ١٣٤ و ١٤١ و ٢٦٧
٦ رواه الشيخان عن معاذ رضي الله عنه
۷ رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم ٩٤ باب الترغيب في الصدقة وفي الإيمان رقم ١٥٤ وهو حديث طويل منه

أتاني جبريل فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاث مرات ثم قال رغم أنف أبي ذر
۸ سورة البقرة من الآية ٦٢
١٢٥٠

إلا بشرط الإيمان واتباع السنة المحمدية ولأن الكفار مكلفون بفروع الشريعة على أحد القولين ولو فعلوها لم تنفعهم ولا يرون الجنة ولا يشمّون عَرْفها وقد قال الله عزّ وجلّ في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَيذٍ خَشِمَةً عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةٌ ۱ فعلى هذا التأويل يكون للحديث فوائد
من الفقه
منها أنه حجة لأهل السنة على المعتزلة الذين يقولون إنهم بأعمالهم يدخلون الجنة ويكفرون من وقع في معصية ويوجبون له الخلود في النار ومنها زوال رعونة نفوس العابدين الذين تشمخ نفوسهم وتغتر بما وفقوا إليه من الطاعة
والخدمة
ومنها الحض على تحقيق الإيمان ويزيد ذلك بياناً أن الحق سبحانه حض على الإيمان أكثر من غيره من الأعمال بقوله تعالى فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ولا يلزم من هذا الزهد في الأعمال لأن تركها بريد الكفر وقد قال جُعِلت الصلاة فرقاً بين الإيمان والكفر ۳ ولأن ترك الأعمال أيضاً نقص في الإيمان يشهد لذلك قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يختلس الخُلسَة حين يختلسها وهو مؤمن ٤ لأن حقيقة التصديق توجب اتباع الأمر واجتناب النهي وبذل الجهد في ذلك مع اتقاء خوف لقاء المولى سبحانه وتعالى وهل يحصل له قبول أم لا يشهد لذلك قوله تعالى في صفتهم المباركة وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَهُ أنهم إلَى رَهِم رَجِعُونَ أَوَلَيْكَ يُسَرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ ﴾ ٥
وهنا بحث في الفرق بين خوف عوام المؤمنين وخوف الخواص اعلم - وفقنا الله وإياك - أن خوف عوام المؤمنين ورجاءَهم وعبادتهم كل ذلك له حد ونهاية وأما خوف الخواص ورجاؤهم وعبادتهم فليس له حد ولا نهاية بيان ذلك
أما خوف العوام فإنهم يخافون العقاب على المخالفة ونهاية خوفهم من دخول النار وخوف ما فيها من الآلام والأمور العظام أعاذنا الله منها بنور وجهه الكريم وأما رجاؤهم ففيما وُعِدوا من حسن الثواب وجزيل العطاء بحسب الوعد الجميل ونهايته دخول دار كرامته عزّ
۱ سورة الغاشية الآيات ٢ - ٤ سورة البقرة من الآية ۱۳
۳ أصل الحديث بين الرجل والكفر ترك الصلاة رواه مسلم
٤ رواه البخاري في باب المظالم ومسلم في الإيمان من حديث أبي هريرة رضي
٥ سورة المؤمنون من الآية ٦٠ و ٦١
١٢٥١

وجلّ والتنعم بما أُعِدّ لهم فيها وعبادتهم حَدُّها التزام توفية ما جعل لهم في ذلك ونهايتها ذ

ارتقابهم القدرة على ذلك والاستراحة إلى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ١ وأما خوف الخواص فإنه لا حَدَّ له لأنهم يخافون عدله عزّ وجلّ وعظمته جلّ جلاله ولا حد لما يخافون ولذلك إذا طرق لأحدهم طارقُ الخوف إن لم يتداركه بتنسم الفضل والرحمة وإلا تفطرت كَبِده ومات وقد روي أن جملة منهم ماتوا كذلك ومما يذكر عن بعضهم أنه كان فتح قبره في بيته وكان تعبده على شفير قبره فدخل عليه يوماً بعض الوعاظ يزورُه فلما دخل عليه ناداه الأولاد والعيال من وراء الستر ناشدناك الله لا تقتله فلما دخل عنده قال له عِظني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله ألا أفعل فقال لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فيها شيء من التخويف فوقع مغشياً عليه فأعاد الأولاد الرغبة على الواعظ مثل الأول فلما أفاق قال له زدني قال له إن الأولاد قد ناشدوني الله فقال له لا بد من ذلك فتلا عليه آية من كتاب الله تعالى فاضطرب مثل الحية ووقع في قبره ميتاً فقال الأولاد قَتَلْتَهُ قتلَك الله وعنهم مثل
هذا كثير
وأما رجاؤهم فهم يرجون محض فضله عزّ وجلّ بفضله فما يرجون لا حد له ويحصل لهم بذلك من شدة البسط وقوة الرجاء واليقين ما يُفتتون به الجبال ومن الإدلال على فضل مولاهم يتصرفون به في الوجود كيف يختارون ومع ذلك محافظتهم على الأمر والنهي ما لا يقدر غيرهم
عليه
ومما يُروى عن بعضهم أنه أتى بئراً بالدلو والحبل فأدلى الدلو فلم تبلغ إلى الماء فرفع الماءَ طرفه إلى السماء وقال وَعِزَّتِكَ لئن لم تسقني لأغضَبَنَّ فإذا به قد أدلى دلوه ثانية فبلغ فاستقى وشرب قال راويه فلما رأيت ذلك منه ناشدته الله أن يسقيني فضله فناولنيه فإذا هو سويق بسگر فاتبعته وقلت له يا سيدي قد مَنَّ الله عليك بمثل هذا الحال وأنت تسيء الأدب في مخاطبة الربوبية وتقول إن لم تسقني غضبتُ فتبسم وقال يا بطال على مَن أغضَبُ كنتُ أغضَبُ على نفسي فلا أشرب ماءً حتى ألقاه وطلبته مستعيناً به على ذلك فلا حدَّ لعبادتهم ولا لهم فترة غير أنهم يُفرّقون بين الأوقات من أجل الأوامر لا غير فعبادتهم دائمة لا فترة فيها ولا
التفات
0
١٢٥٢
1 سورة البقرة من الآية ٢٨٦
كذا بإقحام وإلا

ومما روي عن بعضهم أنه أتاه بعض الإخوان يزوره فوجده يصلي فقال في نفسه لا أقطع عليه أتركه حتى يفرغ من صلاته فبقي ينتظره لأن يفرغ حتى أذن الظهر فصلى الظهر وبقي يتنقل حتى أذن العصر فصلى العصر ثم قعد يذكر حتى أذن المغرب فصلى المغرب ثم بقي يتنفّل حتى أذن للعشاء فصلى العشاء وبقي يتنفّل حتى طلع الفجر فصلى الصبح ثم قعد يذكر حتى كان وقت الضحى الأولى فقام فصلى ثم قعد يذكر والزائر في ذلك كله يقول في نفـ نفسه لا لا أقطع عليه حتى يفرغ هو من تلقاء نفسه فلما قعد يذكر وهو ينتظر الضحى الأعلى جرت سِنَةٌ على عينه وهو قاعد لم يتحرك لها فمسح النوم من عينه وقال أعوذ بالله من عين لا تشبع من النوم فقال الزائر في نفسه لا يحل لي الكلام مع مثل هذا وتركه وانصرف ومثل هذا عنهم كثير
والفائدة أن تنظر من أي الأصناف أنت وما حالك أمِنَ العوام أو الخواص وهل بينك وبين
أحدهم نسبة أم لا وإلا فتدارك نفسك قبل ذهابها وأغلق الباب فالأمر والله قريب وقد يكون للحديث بحث ثان وهو أن الأحاديث التي أتت بمقتضى الأعمال وما لفاعلها وما على تاركها فذلك مقتضى الحكمة والتكليف ويكون هذا يدل على مقتضى التوحيد والتخصيص