حديث أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها
عَن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عَنهُ قالَ َقدِمَ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌّ فإذا امرأَة مِنَ السَّنِي تَحلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقي إذ وَجَدت صَبيًا في السَّبي فأَخَذتهُ فأَلصقتهُ بِبَطنِها وَأرْضَعَتْهُ فَقالَ لَنَا النَّبِيُّ أَتَروْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلدَها فِي النَّارِ قُلنا لاَ وَهِيَ تَقدِرُ أَلا تَطْرَحَهُ فَقالَ الله أرحَمُ بِعِبادِهِ مِن هَذِهِ بِوَلَدِهَا
ظاهر الحديث الإخبار بقدر عظيم رحمة الله تعالى بعباده بمشاهدة ذلك المثال والكلام
عليه من وجوه
جميع
منها قوله بعباده هل هو عموم للمؤمن والكافر والحيوانات على اختلافها وغيرها من المخلوقات أو ذلك خاص بالمؤمنين فيكون اللفظ عاماً ومعناه الخصوص لفظ العباد يقتضي العموم وقرينه الحال - وهو ذكره طرحها لولدها في النار - إشارة إلى تخصيص المؤمنين وتطييب قلوب السامعين منهم أن مولاهم الذي مَنّ عليهم بالإيمان به لا يعذبهم بناره وقد جاء هذا المعنى صريحاً في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله جلّ جلاله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوْةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِنَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الْأُتِيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ إصْرَهُمْ وَالْأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ امَنُوا بِهِ وَعَذَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوْلَبِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ١ فثبت للمؤمنين الذين هم بتلك الأوصاف المذكورة وأما السنة فبالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم ما حق
۱ سورة الأعراف ١٥٦ و ١٥٧
۱۳۰۱
الله على عباده وما حق العباد على الله ثم ذكر أن حق العباد على الله إذا عبدوه لا يشركون به
شيئاً ألا يعذبهم ۱ واحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون معنى المثال الإخبار بأن رحمة الله تعالى لا يشبهها شيء لمن سبقت له فيها نسبة من أي العباد كان حيواناً أو غير حيوان وأنها لا يضر معها شيء وبقي العلم بتحقيق من سبعق له فيها نصيب ولذلك قال الفضلاء رِضَى الله عنهم لا سَخَطَ بعدَه أبداً يعنون من سبق له في الأزل رضاءٌ فلا يضره مع السابقة شيء ولذلك قالوا كم من صديق في القبا وكم من عدو في العبا نظراً إلى السابقة بماذا سبقت
وقد سأل بعض أهل الشيع بعض أهل السنة فقال إن الرحيم من حقيقته ألا يعذب أحداً من عباده فكيف يعذب عباده بالنار وهو الرحمن الرحيم فجاوبه السني بأن قال إن الله سبحانه أسماء عديدة منها المنتقم وكل أسمائه عزّ وجلّ حقيقة لا مجاز فيها ولا بد لكل اسم أن يظهر ما يدل عليه في عالم الوجود والخلق فمَن خَصّه بالرحمة فلا يعذبه ومن خصّه بالانتقام فلا يرحمه ومن حكمته عزّ وجلّ أن يخصص من عباده من شاء بما شاء على مقتضى كل اسم وصفة وقد قال جل جلاله نَبِيَّ عِبَادِى أَنِي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأليم فبهت الشيعي وكأنه ألقم حجراً
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو لأهل القلوب وهو أن يكون معنى الحديث الحثّ على التعلق بالله تعالى والزهد في غيره لأن العباد من شأنهم طلب الحوائج وطلب الخيرات والاستعاذة من المكروهات والتسبب في ذلك وطلب بعضهم من بعض المساعدة على ذلك والعادة بينهم أنهم لا يقصدون في الحوائج ولا تتعلق امالهم إلا بمن فيه رحمة وإحسان فأخبرهم الصادق و أن رحمة المولى سبحانه بعباده على العموم أكثر من رحمة هذه المرأة بولدها - التي قد جرت العادة المألوفة من النساء على أولادهن - ببون عظيم
فمن يرد طلب خير أو دفع ضر أو أي حاجة أرادها فليقصد من رحمته أعظم من رحمة هذه بولدها فهو أنجح له في حاجته وأيسر له فيما يؤمله ولذلك قيل من كان قاصداً فليقصد مولاه
فهو سبب إلى رحماه وقال بعضهم هَبْني أتيتُ بلا معنى ولا سبب
أليس أنت إلى معروفك السَّببُ
۱ جزء من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه سورة الحجر ٤٩ و ٥٠
۱۳۰
وفيه دليل على جواز النظر إلى النساء اللاتي يُسبَين قبل القسم يؤخذ من نظره إلى هذه المرأة وإرشاده للصحابة رضي الله عنهم إلى نظرها
وفيه دليل على جواز ضرب المثال بما يعقل ويدرك بالحواس تشبيهاً بما لا يعقل ولا يدرك بالحواس لتحصل فائدة المعرفة بالشيء من وجه ما وإن كان لا يحيط المثال به من كل الجهات يؤخذ ذلك من ضربه لله المثال على عظم رحمة الله تعالى التي لا تصل إليها الأفكار ولا العقول برحمة هذه المرأة على ولدها ومنه بعينه يستدل على أن صفاته سبحانه لا تشبه صفات المحدثات وإن شاركتها في التسمية يؤخذ ذلك من قوله الله أرحم بعباده من هذه بولدها والزيادة غير محدودة فلا شبه بينهما ولا اشتراك إلا في التسمية ليس إلا
وفيه دليل على ترجيح أخف الضررين يؤخذ ذلك من كونه ترك هذه المرأة تُشرِك أطفال السبي في الرضاعة وربما إذا كبروا يتناكحون وهم إخوة من الرضاعة وهذا لا يجوز فلما كان هذا الوجه محتملاً أن يكون وألا يكون وسَدَّ رَمَقهم في الوقت مما الحاجة إليه أكيدة تركها تفعل ما هو الأرجح وبهذا يستدل أيضاً على أن الضرورة لها حكم على حِدَة لأنه لولا ضرورة الأطفال في الوقت إلى الرضاع ما تركها لا لا لا لا تفعل ذلك من أجل العلة المتقدم ذكرها وهذا البحث هو على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وفيه دليل وهو أقوى في البحث وهو أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة لأن أطفال الكفار في الدين مثل ابائهم وإن ملكهم المسلمون فلو كانوا مخاطبين بفروع الشريعة لكان سيّدنا يقول للصحابة في ذلك شيئاً لأنه عليه السلام المشرع وسكوته عند الحاجة إلى البيان لا يجوز ويترتب عليه من الفقه أن أولاد الكفار إذا ملكوا وهم دون البلوغ أن يُحكم لهم بالكفر وإن أسلموا إلا أن يكون إسلامهم بعد بلوغهم وقد نص الفقهاء على أن من سُبِي منهم دون البلوغ وأجبر على الإسلام أو أسلم من تلقاء نفسه ثم مات قبل البلوغ أنه لا يدفن مع المسلمين ولا يصلى عليه فإن حكمه حكم الكفار إلا خلافاً شاذاً لا يعوّل عليه هذا هو الغالب على الظن وفيه إشارة لطريق المحبين يؤخذ ذلك من حال المرأة المذكورة في الحديث لما كان حب ابنها قد شغف فؤادَها بذلت نفسها في أشق الأشياء عليها فيما يشبهه في السنّ فكيف حالها لو أنها وجدت ابنها لأن كثرة الرضاع والحَلْب تُضعِف النِسَاء وكثير منهن إذا كان ابنها قوي الرضاع يُهلكها ولا تقدر على إرضاعه وهذه بكثرة وَجْدِها على ابنها قد عَمّت بالرضاع كل مولود لَقِيَتْ لشبهه بابنها كما أخبر عن قيس ليلى حيث قال ۱
1 البيت ليس في ديوان قيس هذا وهو مجهول القائل انظر الجمل للزجاجي ص ١٨٢ وعيون الأخبار ٤ ٣٤ =
=
أحبّ لحبها السُّودَان حتّـ حتّى
أحبُّ الحُبّها سودَ الكلاب
كذلك المحب لا يبالي ما لقي في حبّ محبوبه
ومثل ذلك ما أخبر مولانا جل جلاله في كتابه العزيز في قصة يوسف عليه السلام مع أخيه بنيامين حين اجتمعا فقال بنيامين ليوسف عليهما السلام لا أفارقك أصلاً فقال له يوسف عليه السلام لا يمكن ذلك إلا بعد أن تقرَّ على نفسك بالسّرقة فرضي بإلقاء الوصف الذميم على اليد السالمة من العار والخيانة بغية الإقامة مع الحبيب فقال تعالى ﴿ فَلَمَّا جَهَزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَنَ مُؤَذِّنُ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حَمَلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمُ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنَفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَرِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ۱ هان عليه وصف الخيانة لتوفية رفع الملامة وخلوه بالحبيب دون مشوش ولا ﴾ رقيب هذا في حق مخلوق فان فكيف في حب خالق باق
هانت والله عليهم النفوس فبذلوها في حب مولاها فوصل عزّ وجلّ حبلهم بحبله وأدناهم وسقاهم فأحياهم أهانوها فرفعوها وأذلوها فأعزوها وأفردوها فجمعوها وحرموها فأسعدوها وقطعوا العلائق فأمنوا البوائق وحادوا عما سواه فلم يجدوا إلا إياه ومن قول بعضهم تفردت عن الأكوان بحبه وكذلك عبد الفرد لايزال فرداً فَمُناهم هَنَاهُمْ برضى مولاهم يا طوباهم حين لقاهم مولاهم فيا من أسعد محياهم بحرمتهم إلا ما أوردتنا مواردهم يا كريم يا
وهاب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
وشرح المفصل ٩ ٤٧ وتهذيب الألفاظ ص ٤٦٥ وتهذيب إصلاح المنطق ص ٢٢٦
۱ سورة يوسف ٧٠ - ٧٦
١٣٠٤
حديث رحمة الله تعالى لجميع المخلوقات
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ جَعَلَ الله الرَّحمةَ مائَةَ جُزءٍ فأمْسَكَ عِندَهُ نِسعَةً وَتَسعينَ جُزءاً وأنزَل في الأرضِ جُزءاً واحِداً فَمِن ذَلِكَ الجُزءِ يَتَراحَمُ الخَلْقُ حَتَّى تَرفعَ الفَرسُ حافِرَها عَن وَلَدِها خَشيَةَ أن تُصيبَهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل ما في الأرض من رحمة في قلوب جميع الخلق جزء من مائة جزء مِمّا أَعَدَّ الله لعباده من الرحمة وأن باقي المائة - وذلك تسعة وتسعون جزءاً ـ مؤخرة عنده عزّ وجلّ لهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى جعل الرحمة في مائة جزء وما معنى أمسك عنده ولمن ذلك الإمساك هل لجميع الخلق أو لعبيد مخصوصين ولم خص ذكر الفرس من بين سائر الحيوانات وما الفائدة لنا في الإخبار بذلك وهل لنا طريق إلى معرفة كيفية إنزال ذلك الجزء أم لا وهل لفظ الخلق يكون عموماً في الحيوان وغير الحيوان أو يكون خاصاً بالحيوان لا غير وقوله وأنزل في الأرض جزءا هل يعني بـ الأرض الجنس أو النوع وهذه هي الأرض التي نحن عليها فأما قولنا ما معنى جعل الرحمة في مائة جزء احتمل وجهين أحدهما أنه سبحانه لما من على خلقه برحمة معينة جعلها لهم في مائة وعاء فأهبط منها وعاءً واحداً إلى الأرض كما أخبر عليه السلام في الحديث وبقي الباقي عنده عزّ وجلّ واحتمل أن تكون الفاء ۱ زائدة ويكون معنى الإخبار أن الرحمة التي منّ بها على خلقه سبحانه قسمها مائة جزء فأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً لأن العرب كثيراً ما تزيد الحروف في أول الكلام - وهو من فصيحه - وأبقى التسعة
والتسعين جزءاً عنده
1 يعني في قوله فأمسك
۱۳۰۰
وأما قولنا ما معنى أمسكها عنده أي أنه لم يشأ سبحانه نزولها إلى هذه الدار وأمسكها للدار الأخرى وهناك يكون الإنعام بإيصالها لمن كتبها له
وأما قولنا لمن ذلك الإمساك هل لجميع الخلق أو لعبيد معينين منهم أما من الحديث فليس فيه مايدل على ذلك لكن قد أفصح الكتاب والسنّة بذلك فأما الكتاب فآيات عديدة منها
قوله عز وجل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَجهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأُمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أَوَلَيْكَ هُمُ الْوَرِثُونَ ﴾ ١ ومنها قوله تعالى ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِنَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمَرَ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْنُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنْهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوَلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وأما السنة فالأخبار فيها كثيرة منها الإخبار بأمر الساعة كيف يُحشَر جميع الخلق فيقال بعد الحساب للكل ما عدا الثقلين الجن والإنس كونوا تراباً فيعودون تراباً والثقلان قسمان إما شقي ففي النار وإما سعيد ففي الجنة فمن كان في النار أو صار تراباً لم يبق له في تلك الرحمة نصيب وبقيت موفورة لأهل دار الكرامة وهم المؤمنون من الثقلين الجن والإنس جعلنا الله من أهل دار السعادة بمنّه
وأما قولنا ما الحكمة في كونه خص الفرس بالمثال دون غيره من الحيوان فنقول والله أعلم لوجوه منها أنه أشد الحيوان الذي نعاين من حركته وحركة أولاده وأكبره لأن غيره الذي هو أكبر منه مثل الأسد والفيل لا نعاين ذلك منهم لقلة مخالطتنا لهم ۳ كما ضرب عزّ وجلّ المثل بقوله تعالى أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَّهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتَنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيچ ٤ ولم يقل إلى الكرسي أو إلى
۱ سورة المؤمنون ۱ - ۱۰ سورة الأعراف ١٥٦ و ١٥٧
۳ كذا بضمير العاقلين
٤ سورة ق ٦ و ٧
١٣٠٦
العرش اللذين هما أعظم المخلوقات وإنما أحالنا عزّ وجلّ على الذي نلحق إليه بحواس أبصارنا
ومنها لما جعل في الفرس من الخفة والسرعة في تنقلها فكونها مع ذلك الذي طبعت عليه
من سرعة الحركة من أجل الرحمة التي قسم لها منها ذلك الجزء اللطيف ترفع حافرها عن ابنها ومنها أن الخيل تحمل من التعب بالكرّ والفرّ وكثرة الجري والجهد في ذلك حتى يلحقها من التعب ما لا يلحق غيرها من الحيوان ثم مع ذلك يشتد احتياج ابنها إليها فلما قسم لها من تلك الرحمة تؤثر الشفقة على ابنها على راحة نفسها حتى ترفع حافرها عنه خيفة أن تصيبه وتعاين ذلك كله منها ما لا تعاينه من غيرها ولا سيما العرب وهم في هذا أكثرُ الناس مباشرة ويخبرون عن الخيل بأشياء عجيبة منها ما ذكر عن ذي القرنين حين أراد أن يدخل الظلمة التي عارضته حين خرج يطلب عين الحياة وكيف يتأتى له دخول تلك الظلمة وكيف الخروج منها فأشار عليه الذين يعرفون فوائد الخيل بأن قالوا خذ الإناث من الخيل التي لها بطن واحد فإنها أقوى أبصاراً وأشدّ واحبس أولادها في أول الظلمة حيث النور ثم خض بها في تلك الظلمة حيث شئتَ فإذا أردتَ الرجوع فاقلب رؤوسها فإنها ترجع إلى أولادها في أسرع وقت ففعل ذلك فجاء الأمر كما
أخبروه
وأما قولنا ما الفائدة في الإخبار لنا بذلك فلفوائد منها الإخبار بأن الرحمة في تلك الدار أكثر وأعظم من البلاء لأنه عليه السلام قد أخبر عن النار في الأحاديث قبل أنها فضلت على نارنا هذه وهي جميع نار الدنيا بتسعة وتسعين جزءاً والرحمة المذكورة في تلك الدار بتسعة وتسعين جزءاً من مثل جميع كل رحمة في هذه الدار إذا جمعت ثم مع ذلك هي خاصة كلها للمؤمنين ويقوي هذا التأويل قوله جل جلاله على لسان نبيه عليه السلام إن رحمتي غلبت ۱ لأن أثر الخير الذي هو دال على الرحمة أكثر من المحن الدالة على الغضب فلو لم يكن إلا هذه لكانت فائدة عظمى ويستدل منها أن رحمته جلّ جلاله التي هي صفة ذاته الجليلة ليست تُحَدُّ ولا تكيف لأن تحديد هذه الموهبة - وهي أصل الخير والإحسان - لا تقدر العقول على حصرها فكيف بالتي هي الدالة عليها وبهذا علمنا أن الذات الجليلة ليست بمحدودة ومنها إدخال السرور على نفوس المؤمنين لأن النفس من عادتها أنه لا يكمل فرحها بالخير إلا إذا كان
غضبي
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي
۱۳۰۷
محدوداً فأخبرهم عليه السلام بذلك الحَدّ العظيم ليكمل فرحها بما وهب لها لعلها تجده
عند احتياجها إليه
وفيه تحضيض على الإيمان والقوة فيه لأن المؤمن إذا علم قدر داره التي قراره فيها وكيفية الخير الذي له فيها قوي إيمانه فكان ذلك عوناً له على الزهد في هذه الدار والرغبة في تلك الدار ومما يقوي هذا قوله الا الله المَوْضِعُ سَوْط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ۱ وهذا منه عليه السلام إخبار بتفاوت النسبة بين الدارين وترغيب في تلك وتزهيد في هذه الفانية
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون إن نعيم تلك الدار وضده محسوسان مدركان وهو الحق الذي لا خفاء فيه وتقتضيه أدلة الكتاب والسنة يؤخذ ذلك من هذا الحديث من قوله عليه السلام حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها فإن رفع الحافر شيء محسوس لا شك في ذلك ومن أجل ذلك وقع التمثيل به
وأما قولنا هل لنا طريق إلى معرفة كيفية إنزال ذلك الجزء إلى الأرض فاعلم أن اتصال تصرف قدرة القادر جل جلاله في المقدورات وكيفية التصرف ليس للعقول فيه مجال إلا بالتصديق والتسليم وقد تقدم أول الكتاب في هذا النوع ما فيه كفاية بفضل الله تعالى
وأما قولنا لفظ الخلق هل يكون عاماً في جميع الخلق حيواناً أو غير حيوان اللفظ محتمل للوجهين معاً والذي يعطيه الدليل من خارج أنه عموم في الحيوان وغيره لأن قد جاء أن يوم القيامة تُسأل الشاةُ القرناء لم نطحت الجمَّاء والعودُ لِمَ خَدَش العود والحجر لم لامس الحجر فلو لم يجعل بينهم ۳ رحمة لما حوسب على تركها وقد جاء أن الأرض تضم المؤمن إذا جعل في قبره ضمة رحمة وتقول له ما أحَبَّ منك حين كنتَ تَمشي على ظهري ! فكيف اليوم وأنت في بطني والكافر بضد ذلك ومن جهة عظم القدرة العموم أولى ليظهر بذلك تفاوت النسبة بين حالة هذه الدار والدار الآخرة وهو أولى وأظهر
ومما يقوي أنها عموم في جميع الخلق قوله تعالى ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءِ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ٤ ولا تكون الخشية إلا
۱ رواه الإمام أحمد والهيثمي في مجمع الزوائد ٤١٥/١٠
٢ أخرجه الإمام أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد والترمذي والطبراني في الكبير عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء نطحتها
۳ كذا بضمير العاقلين ٤ سورة البقرة من الاية ٧٤
۱۳۰۸
حيث جعلت الرحمة وقد قال عزّ وجلّ في الحيوان العاقل ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ﴾ ١ والعلماء بالله هم أكثر الناس رحمة وأكثرهم حناناً وشفقة ولا تكون الخشية إلا حيث تكون الرحمة وقد قال العلماء كلُّ ما رأيتَ من جبل انهد أو حجر انشق فإنما هو من خشية
الله تعالى
وبقى هنا للحكمة الربانية أثر عجيب في قسمة تلك الرحمة فقد تكون قسمة بعض الجماد منها أبرك وأكثر مما قسم للحيوان العاقل المخاطب فيكون الحجر على صلابته والجبل على قوته يتفتتان وينهدان ويسيلان من الخشية وتكون هذه الجارحة الصنوبرية - على صغرها ولينها - لا تتأثر لشيء من أثر قدرة القادر الجليل وهذا من أعظم العجائب لمن فهم ولذلك جاء التوبيخ بها في الكتاب العزيز ولكن المحروم أطرش كم ذا يضرب في حديد بارد! تعب بلا فائدة وقوله صلى الله عليه وسلم أنزل في الأرض هل المراد هذه الأرض الواحدة التي نحن عليها أو جنس الأرض فيكون نزوله في الأرضين السبع اللفظ محتمل لكن يقوّي أنه للكل من خارج ما قاله
بعض العلماء إن الأرض الرابعة عُمارها الجن وهم أحد الثقلين المكلّفَيْنِ وبينهم تراحم وتواد صالحهم وضده وقد قيل عرش إبليس في الرابعة وذكر أنه في السابعة هو وجنوده وإن كانوا على ما هم عليه من الضلال فبينهم تراحم وتواد وهو أيضاً من جهة عظم القدرة وتفاوت النسبة بين الدارين كما تقدم أولى وأظهر
وبقي في الحديث بحث لطيف وهو ما يعني بهذه الرحمة هل كل رحمة وجدناها بين العالم كانت من أجل الله أو من أجل حب وولوع أو جوار أو دوام مصاحبة أو للإحسان والألفة أو أي نوع كانت هي من تلك الرحمة أو ما هي منها إلا ما كان الله ليس إلا احتمل الوجهين معاً والأظهر أنها عامة بأي نوع وجدت فهي من تلك الرحمة الواحدة المنزلة ويقوّي هذا الوجه قوله حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وإنما ترفع الفرس حافرها عن ولدها لما
جعل لها من حب ولدها هذا نجده في الحيوان غير العاقل من باب وفي العاقل أحرى ويترتب على هذا الوجه من الفقه وجوه منها اتساع الرجاء في عظم الرحمات المدخرة وعظم التباين في النسبة بين الدارين وأن الرحمة التي في تلك الدار خير كلها وما يصدر عنها كذلك وأن الرحمة التي في هذه الدار بنسبة الدار مختلطة بحسب ما تصدر عنه وإليه فما كان منها الله وعن الله فهي خير كلها وما كان في الضد منها فهي في الضد في الأحكام كلها وما كان منها في
المباح فهي من نوعه
۱ سورة فاطر من الآية ۸
۱۳۰۹
ويقوّي هذا التوجيه قوله تعالى ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذَكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ۱ فمنع عزّ وجلّ من الرحمة٢ أن تكون في غير ما يرضي الله فإن وقعت فليست برحمة مرحوم فاعلها بل هي رحمة معاقب صاحبها وعلى هذا فَتَبَصَّرْ تجد الأمر كما وجهناه
وفي الحديث الذي بعده ما يقوي هذا المعنى بحسب ما يفتح الله تعالى في تبيين ذلك ولهذه الإشارة جعل أهل التوفيق كل حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم مع القريب والبعيد الله وبالله ومما علمه بعض من نسب إليهم من الدعاء في بعض مرائيه أن قيل له يكون من دعائك اللهم اجعل جميع تصرفي فيما يرضيك ابتغاء مرضاتك جعلنا الله ممن مَنّ عليه بذلك حتى يتوفانا عليه بفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النور من الآية ٢
أي بعض الرحمة
۱۳۱۰
ITE I
حديث مَثَل توادَ المؤمنين وتراحمهم مثلُ الجَسَد
عَنِ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ ١ رضي الله عَنهُما يَقولُ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرى المؤمنينَ في تَراحُمِهم وتَوادهم وتعاطفهم كَمَثَلِ الجَسدِ إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد لَهُ بالسَّهَرِ وَالحُمَّى
ظاهر الحديث يدل على أن المؤمنين كلهم وإن تباينوا أو تباعدوا كالجَسَد الواحد كلما أصيب أحدهم بشيء أصاب الجميع منه نسبة والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه تقوية للتوجيه الذي وجهناه آخر الكلام على الحديث قبله لأنه عليه السلام جعل تواد المؤمنين وتراحمهم مخالفاً لتوادّ غيرهم وتراحمهم ومنها هل التراحم والتواد والتعاطف ألفاظ مترادفة والمعنى واحد أو لكل لفظ معنى خاص وهل هذا للمؤمن الكامل الإيمان أو لكل من دخل تحت هذا الاسم وما الحكمة بأن مثل الإيمان بالجسد والمؤمنين بالأعضاء منه
مختلفة
فأما قولنا هل الثلاثة الألفاظ بمعنى واحد أو لمعان فنقول والله أعلم بل هي لمعان
فقوله في تراحمهم معناه أن الرحمة التي جُعِلت في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض من أجل أخوة الإيمان هذا لا لِوُلوع ولا لإحسان ولا لشيء خلاف الإيمان هذا هو أصلها وقد تتزايد للوجوه الموجبة لرحمته عزّ وجلّ كما جاء في حق الجار أن له بنفس الجوار حقاً فإن كان مؤمناً كان له حقان فإن كان قريباً كان له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق الإيمان وحق القرابة وكذلك إن كان صهراً من الأصهار زاده حقاً رابعاً فكذلك الرحمة التي بين المؤمنين
۱ مرت ترجمته في الحديث ۱۰۳
۱۳۱۱
تتضاعف بحسب الموجبات للرحمة مثلما فعل سيدنا الا الله وحين رُفع له ابنُ ابنته ونفس الصبي
تتقعقع كأنها شَن ۱ ففاضت عيناه عليه السلام فقال سعد يا رسول الله ما هذا قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده إنما من عباده الرحماء لما اجتمع له صلى الله عليه وسلم رحمة الإيمان وما رأى من صغر الصبي ومن شدة معالجة الموت وما بينهما من النسب حتى سالت
يرحم
تلك الدمعة المباركة لتضاعف الرحمة عنده
الله
و توادهم كناية عن التواصل بينهم واستعمالهم أسبابه وأصله أيضاً الإيمان وقد يتضاعف لموجباته مثل التهادي لقوله عليه السلام تهادوا تحابوا ۳ والتزاور والجوار والمشاركة عند الضرورة وكل ما يتولد عنه ودّ ما فالأصل فيه تواد الإيمان ويتضاعف بحَسَب موجباته بين
الناس
وأما التعاطف فهو تقوية بعضهم لبعض كما يعطف طرف الثوب عليه ليقويه وهو من باب قوله عزّ وجلّ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ٤ فإن أصل الإيمان هو الذي عطف قلوب بعضهم على بعض كما قال جلّ جلاله في كتابه لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَفتَ بَيْنَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ ٥ وكقصة موسى عليه السلام حين وجد الإسرائيلي مع القبطي فاستنصر الإسرائيلي بموسى عليه السلام من أجل حَمِيّة الإيمان بينهما فوكز موسى عليه السلام القبطي من أجل تواد الإسرائيلي فكان من قصتهما ما أخبر عزّ وجلّ في كتابه وقد يتزايد التعاطف بينهم أيضاً لموجباته وأصله الإيمان كقصة موسى عليه السلام لما رأى ضعف الإسرائيلي وتعدي القبطي عليه وظلمه وقلة أنصار الإسرائيلي تأكد التعاطف عند موسى عليه السلام حتى أخذ بالضربة الواحدة روح القبطي ٦
وأما قولنا هل هذه الأوصاف للمؤمن الكامل الإيمان أو لكل من دخل تحت هذا الاسم فقد بان لك بضرب المثل بسيدنا الله وبموسى عليه السلام أن ذلك من أوصاف الإيمان الكامل
۱ تتقعقع تحدث صوتاً عند التحريك أو التحرك الشَنُ القِربة الخلق الصغيرة ٢ أخرجه الإمامان مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان عن أسامة بن زيد رضي الله
عنه
۳ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤ سورة المائدة من الاية ٥ سورة الأنفال من الاية ٦٣ ٦ التفصيل في سورة القصص
۱۳۱
ولا يطلق الشارع لفظ الإيمان إلا على كماله ولذلك بين عليه السلام أوصاف المؤمنين ليعرف كل أحد قسمته أين هي وكفى به على نفسه حسيباً ولا يغتر بإطراء بعض الناس له فإن المخير صادق والناقد بصير وإليه المرجع والمصير
وأما قولنا ما الحكمة بأن شبه عليه السلام الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء فذلك من أبدع ما يكون في التشبيه لأنه لما كان الإيمان أصلاً وله فروع - وهي جميع التكليفات على نحو ما جاءت به الشريعة المحمدية - فإذا نقص من التكليفات شيء أو دخل في بعضها شين شان ذلك الشينُ الأصل الذي هو الإيمان لأنه يقتضي بوضعه الانقياد والامتثال فكذلك الجسد وهو واحد مثل أصل الشجرة وأعضاؤه هم المؤمنون لأنهم قد تفرقوا مثل فروع الشجرة فإذا كان شين ما في أحد الفروع شان ذلك الأصل وإذا ضرب أحد في غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها وتداعت لتلك الضربة كلها بالتحرك والاضطراب وكذلك الجسد إذا ضربت يد القَدَر عضواً منه مما يؤلمه تداعت له سائر الأعضاء كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على ما أعطى الله عزّ وجلّ لسيدنا الله من الفصاحة والبلاغة
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله الذي يقول إن الإيمان يزيد وينقص يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام حين بين صفات الإيمان الكامل والكمال ضده النقص والنقص ليس على حد واحد فبانت الزيادة والنقص وفي هذه الأوصاف دليل لطريق أهل السلوك لأنهم يطالبون أنفسهم بتوفية أوصاف الإيمان في أنفسهم ومع غيرهم وقد ذكر عن بعضهم أنه جاءه بعض إخوانه يطلب منه سلفاً فلما أخرج له ذلك السلف خرج وهو باك فقال أخوه ما أبكاك قال له تفريطي في حقك حيث جئت تطلب مني السلف واستغفر الله مما جرى منه هكذا فَكُنْ وإلا فالأصل
معلول
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۳۱۳
- ٢٤١ -
حديث ثواب من زرع زرعاً
عَن أَنَسٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال ما مِن مُسلمٍ غَرسَ غَرساً فَأَكلَ مِنهُ إنسان
أو دابَّة إلا كانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل من غرس من المسلمين غرساً فكل من أكل منه شيئاً من جميع بني آدم أو من جميع الدواب له في ذلك الشيء الذي أكل أجر صدقة والكلام عليه من وجوه منها أن يقال هل المراد بالغرس كل ما ينبت ويؤكل منه أكان له أصل ثابت مثل التمر والرمان وما أشبههما أو ما ليس له أصل ثابت مثل القمح والشعير والبطيخ والقثاء وما أشبهها أو المراد الذي ليس له أصل ثابت لا غير وهل يعني بـ المسلم الجنس أو المسلم الكامل الإيمان وهل يكون الغرس على أي وجه كان أو يكون على وجه مخصوص وهل يحتاج إلى نية في غرسه أم لا وهل يكون الأكل على أي وجه كان بحقه مثل الشراء منه وغير ذلك أو بوجه مخصوص وكذلك الدواب بأي وجه أكلته وهل جميع الدواب في ذلك سواء ما يتملك منها وما لم يتملك وهل يلحق الطير بالدواب أم لا وهل يشترط في الغرس دوام ملك الغارس عليه حين الأكل منه أم لا وهل يُعلم قدر تلك الصدقة أو ليس لنا طريق يعرف به وما الحكمة في الإخبار بذلك وما يترتب عليه من الفقه
أما قولنا هل المراد بالغرس ما له أصل ثابت وما ليس له أصل أو ما له أصل ثابت ليس إلا إن نظرنا بحسب اصطلاح الناس في الغراسة فلا يطلقونها إلا على كل ما له أصل ثابت وأما ما ليس له أصل ثابت فإنهم يطلقون عليه زراعة وإن نظرنا إلى اللغة فكل ما يبذر في الأرض وينبت ينطلق عليه اسم غراسة مثل ما جاء في وصف الجنة غرسها الرحمن بيده أي بيد قدرته
1 أخرجه الحاكم عن أنس رضي الله عنه بلفظ خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون
١٣١٤
وقال إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل وما إتقانه قال يخلصه من الرياء
والبدعة ۱ فكل شيء خالف لسان العلم فلا يكون عامله فيه مأجوراً فإذا خالف هذا الغارس في غرسه لسان العلم أليس يكون فعله أيماً
وأما قولنا هل يحتاج في غرسه ذلك إلى نية أم لا ظاهر الحديث لا يعطي ذلك بل هو من طريق الإفضال لكن من وُفِّقَ في ذلك إلى حسن النية كانت له زيادة في أجره لقوله صلى الله عليه وسلم خير الأعمال ما تقدمته النية كما أن النية السوء إذا تقدمته أفْسَدَتْه مثل أن ينوي بذلك الغرس ضرراً للغير أو فَخْراً أو مباهاة أو ما يشبه هذه النيات المبطلة للأعمال على حسب ما تقرر ذلك بلسان
العلم
وأما قولنا هل يكون ذلك الأكل منه على أي وجه كان بحق أو بغير حق فقد تقرر من الشرع أن كل ما أُخِذ من مال أحد بأي وجه أُخِذ بأكل أو غيره بغير حق فإن المأخوذ منه مأجور فيكون الإخبار هنا - لو كان على هذا المعنى - تأكيداً لا غير والمعروف من طريق الأحاديث أنه لا يأتي منها حديث إلا لزيادة فائدة بل لفوائد جمة مثلما قال عليه السلام إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة ۳
وقد تقرر بالشرع أن كل ما فعله الآدمي مما هو عليه واجب أنه فيه مأجور فلما كانت النية بالاحتساب في ذلك الواجب تزيده بذلك خيراً أخبر به عليه السلام ولما كان الزرع والغرس مما هو مباح لنا على لسان العلم وكان فيه خيرٌ متعد للحيوان العاقل وغيره تفضل المولى جلّ جلاله علينا بأن جعل لنا بذلك الخير المتعدي وإن كنا لم نقصده أن يُجعَل فيه أجر كان ذلك الأكل بحق أو بغير حق ولتلك الفائدة أخبر الصادق الله الله بذلك في هذا الحديث وجعله خاصاً
بالمؤمنين
وأما قولنا هل الدواب في ذلك الأكل سواء كانت مما يتملك أو لا يتملك لفظ الحديث يعطي العموم والعلة المتقدم ذكرها - وهي الخير المتعدي - تقويه وأما قولنا هل الطير تلحق بالدواب أو لا فإن نظرنا إلى العلة المذكورة فلا فرق بين الطير وغيره بل الطير يكون في ذلك اكد لأن منه جُلّ معاشه وإن نظرنا إلى لفظ الحديث فليس ينطلق على الطير إلا إن جعلنا من باب التنبيه بالأكثر على الأقل لأن الدواب أكثر من الطير وإن قلنا إن
۱ رواه البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه يريد أفليس حذف الفاء
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه
١٣١٦
الطير وإن كان يطير فهو أيضاً مما يدب على الأرض فلا يخرج من عموم الحديث لأن كل ما يطير
يدب ولا ينعكس وهو الأظهر - والله أعلم - أن يكون عاماً في الطير وغيره للوجوه المذكورة وهل يشترط دوام الملك على ذلك الغرس عند الأكل أم لا احتمل والأظهر أن دوام الملك وعدم دوامه في ذلك سواء وله نظائر في الشرع عديدة منها قوله عليه السلام إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك ۱ لأنهما يعطيان ما لا يملكان ويكون لهما الأجر مثل صاحب الأصل لأنهما كانا سبباً في الخير الذي هو الإنفاق فكيف من هو سبب في أصل الخير وظهوره وهي الغراسة من باب أولى ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ل الدال على الخير كفاعله فإذا كان الذي يدل على الخير مثل فاعله وهو لم يفعل شيئاً فكيف بمن كان فيه أصلا ولهذه الفائدة وما تقدم ذكره وما بعد أخبر بذلك الصادق الأمين ويدور فيه البحث الأول وعموم لفظ الحديث يعطي ذلك ولا يخصص لفظه عليه السلام بغير معارض لأن هذا ممنوع وقد جاءت رواية إلى يوم القيامة
وأما قولنا هل لنا طريق إلى معرفة مقدار الأجر فلفظ الصدقة يكفي في ذلك لأن الصدقة يكون الأجر فيها بقدر كبرها وصغرها وهذا مثلها فقد يكون الأكل منه كثيراً أو قليلا بل بقي هنا من جهة قوة الطمع في فضل الله تعالى
وفي عموم الحديث بحث وهو هل يكون ما يأكل هو وأهله داخلاً في عموم لفظ إنسان أَوْ لا لأنه وإياهم ناس فيرجى ذلك من فضل الله تعالى لعموم اللفظ ومما يؤيد ما تقدم من البحث ما خرجه مسلم لا يغرس رجل مسلم غرساً ولا زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو شيء إلا كان له فيه أجر ۳ وفي حديث ثان إلى يوم القيامة أو كما قال عليه السلام
وأما قولنا ما الحكمة في أنه أخبرنا بهذا وما يترتب عليه من الفقه ففيه وجوه منها المعرفة بعظم مزية قدر المؤمن على غيره لكونه يؤجر على أشياء لا يؤجر عليها غيره وهو لم يقصد بذلك قربة ومنها الترغيب في المشي في التصرف على لسان العلم لأنه لا يكون هذا الخير وما أشبهه إلا لمن كان تصرفه على لسان العلم كما تقدم البحث فيه ومنها الحض على التزام طريق المفلحين ليكون له الخير في هذا وأمثاله ومنها الإرشاد إلى ترك النيات المفسدة لهذا
۱ قطعة من حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها رواه البزار عن ابن مسعود والطبراني عن سهل بن سعد وابن مسعود رضي الله عنهما ۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله عنه بلفظ ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة أو سبع أو دابة إلا كان له به صدقة
۱۳۱۷
الخير والترغيب في النيات المنمية له لأنه إذا علم أنه يثاب عليه ينميه بحسن النية فيه كما هي
عادة أهل التوفيق والاتباع السلف الخير
ويترتب عليه من الفقه أن عمل الأسباب التي اقتضتها الحكمة الربانية في عمارة هذه الدار إذا كانت على وجهها لا تنافي العبادة وفيها أجر وقربة إلى الله تعالى ومنها أنها لا تنافي طريق الزهد ويتلخص من هذا أن الزهد والرغبة أمر قلبي وقد جاء ما بين هذا أيضاً عنه حين قال ليس الزهد بتحريم الحلال وإنما الزهد بأن تقطع الإياس مما في أيدي الناس وأن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك ۱ أو كما قال عليه السلام
وفيه من الفقه الحصّ على العلم بالسنة ليعلم المرء ما له من الخير فيرغب فيه فإن مثل هذا وما أشبهه لا يعرف إلا من السنة ليس له طريق غير ذلك لا عقل ولا قياس وليعلم المرء أيضاً أن ما له من الخير يصل إليه ولو لم يعلم به وكذلك ضدّه فيحفظ نفسه من الشر وقد جاء هذا نصاً منه حيث قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها أهله لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً وإنه ليتكلم بالكلمة من الخير لا يبالي بها يرفع بها سبعون درجة في الجنة ٢ أو
كما قال عليه السلام وفي الحديث وأمثاله ما يقوي أهل السلوك والخدمة لأنهم يقولون لم يبق لأهل الفلاح في تَصَرُّفِهِمْ مباح إنما هو واجب أو مندوب لأنه قد جاء هذا الأجر في الزراعة وهي من المباحات عند أهل العلم وقد جاء أن المؤمن يؤجر حتى في بضعه لامرأته قيل يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون فيها مأجوراً فقال عليه السلام أرأيت لو وضعها في الحرام أليس يكون مأثوماً قالوا بلى قال كذلك إذا وضعها في الحلال يكون مأجوراً ۳ أو كما قال عليه السلام وجاء أن نومه إذا قصد به العون على الطاعة كان فيه مأجوراً وهو ما جاء عن معاذ حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم في قصته المشهورة فقال صاحبه أقرأ القرآن قائماً وقاعداً وأفوقه تفويقاً ولا أنام وقال معاذ أقوم وأنام وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي فشهد النبي لا الهلال والمعاذ بالفقه وجاء في شربة الماء إذا قصد به العون على الطاعة وسمّى أولاً ثم قطع وحمد يفعل ذلك ثلاثاً أن الماء يسبح في جوفه فهذه مع ما تقدم ذكره في الحديث من الاستشهادات في أن جميع تصرفات المؤمن وشهواته تراه
1 أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يرى بها بأساً ليضحك بها القوم فإنه ليقع بها أبعد من السماء ٢ أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ومطلعه الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال الخ
۳ أخرجه أبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه ومطلعه يصبح على كل سلامي من ابن ادم صدقة
۱۳۱۸
فيها مأجوراً فكيف ما هي قربة بوضعها إما واجبات وإما مندوبات فظهرت الأدلة الشرعية بتقوية
مقالهم وطريقتهم المباركة
جعلنا الله ممن ألحق بهم بمنه وفضله امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۳۱۹
حديث رحمة الله لمن يرحم عباده
عَن جَرِيرِ بنِ عَبدِ الله ۱ رضيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَن لا يَرحَمُ لاَ يُرحَمُ
ظاهر الحديث يدل أن رحمة الله لا ينالها إلا من تكون فيه رحمة والكلام عليه من وجوه منها قوله لا يرحم ما معناه هل المراد لا يرحم أبداً أو أنه ليس من طريق الحكم بالعدل سبب يوجب له بالوعدِ الحق رحمةً احتمل الوجهين معاً بحسب التأويل في قوله عليه السلام من لا يرحم على ما يذكر بعد وهل المراد بقوله من لا يرحم لا يرحم غيره إما بإحسان أو بما يكون في مثله من تسلّ أو تَعَزّ أو إرشاد إلى غير ذلك من وجوه المسرات
أو يريد بقوله من لا يرحم لا يُرحم أي لا تكون فيه رحمة الإيمان التي هي دالة عليه فلا يرحم لخلوه من الإيمان
أو يكون المراد من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله تعالى و اجتناب نواهيه لا يرحم لأنه ليس له عهد عند الله تعالى يوجب ذلك
أو يكون المراد لا يرحم الرحمة التي ليس فيها ضيم ولا شيء من شوائب التشويشات إلا من كان راحماً على الإطلاق لنفسه ولغيره وفي إيمانه كما قال عزّ وجلَّ في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ٢ أى يحق لهم الرجاء لما أتوا
هو جرير بن عبدالله البَجَلي نسبة إلى قبيلة بجيلة وهو اسم لأم القبيلة وبها سميت كان جرير صحابياً وهو القائل ما حجبني رسول الله الا الله منذ أسلمت ولا راني إلا تبسم في وجهي أسلم سنة عشر وسكن الكوفة وفي الخبر أن عمر رضي الله عنه وجد مرّة من بعض جلسائه رائحة فقال عزمت على صاحب هذه الريح إلا قام فتوضأ فقال جرير اعزم علينا كلنا فعزم عليهم ثم قال يا جرير ما زلت شريفاً في الجاهلية والإسلام وسأله عمر رضي الله عنه عن الناس فقال هم كسهام الجعبة منها القائم الرائش والنصل الطائش توفي سنة ٥١ هـ شذرات الذهب ٥٨/١ سورة البقرة من الآية ۱۸
۱۳۰
بموجباته - فإن رجوا بغير عمل فليس ذلك رجاء وإنما تسميه العلماء تمن والتمني عندهم مطية الهلاك - وكقوله عزّ وجلَّ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِتَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنْهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْتَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوْ لَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٢
أو يكون المراد أن أهل المبالغة في الرحمة يتجاوز الله تعالى بفضله عنهم ويرحمهم كما جاء تجاوزوا عن الكريم فإن الله اخذ بيده كلما عثر وقد جاء أن يوم القيامة ينادي مناد مَنْ له على الله حق فليقم فيقوم العافون عن الناس فيؤمر بهم إلى الجنة من غير حساب ۳
واحتمل أن تكون الرحمة هنا بمعنى الحسنات والأجور فإنه لا يؤجر ويحسن إليه إلا من فعل رحمة أي عملا يوجب له ثواباً كقوله عليه السلام إن الله لا يمل حتى تملوا أي إن الله لا يمل بالإحسان وحسن الجزاء حتى تملوا من العمل
واحتمل أن يكون المراد لا ينظر إليه بعين الرحمة إلا من وفق إلى الرحمة وجعلت في قلبه فتكون دالة على الرحمة له ومن لم يجعل في قلبه رحمة كان ذلك دليلا على عدم الرحمة له في الآخرة وإن كان هذا على عمل خير في الظاهر لأن تلك العلامة لم يجدها وقد جاء عنه ما يبين هذا المعنى وهو قوله عليه السلام اطلبوا الرقة في ثلاث في الذكر والتلاوة والصلاة فإن وجدتموها وإلا فاعلموا أن الباب مغلق ٥ أو كما قال عليه السلام والرقة لا تكون إلا مع الرحمة وقد قال لأعرابي ما بالك أنزع الله الرحمة من قلبك إن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء ٦ أو كما قال عليه السلام وقد قال في القاسي القلب بعيد من الله وقد قال ألا
1 كذا والصواب تمنياً سورة الأعراف من ١٥٦ و ١٥٧
۳ أخرجه ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة قيل من الذي أجره على الله قال العافون عن الناس
٤ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها بلفظ اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل
٥ لم نقف على مصدره لعله يعني به حديث الأقرع بن حابس حين رأى النبي الا الله وهو يقبل الحسن فقال إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال من لا يرحم لا يرحم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو
حديث الباب
۱۳۱
أخبركم بمن يحرم على النار وتحرم عليه النار على كل قريب هين سهل١ أو كما قال عليه
السلام وهذه الأدلة كلها إنما هي لمن جعلت الرحمة في قلبه
واحتمل أن يكون المراد بالرحمة هنا الصدقة فيكون المراد بقوله لا يُرحم أي لا يُدفع عنه البلاء مثل ما حكي في قصة القصار من بني إسرائيل الذي كان يؤذي الناس فشكوه لنبي ذلك الزمان فأخبرهم أن الله عزّ وجلَّ يرسل عليه بلاء في اليوم الفلاني فلما كان في ذلك اليوم خرج الرجل على عادته للقصارة وأخرج معه رغيفين لغذائه فلقيه مسكين فسأله فأعطاه الرغيفين فلما كان عشية النهار وإذا۳ به راجع ما به شيء فقالوا لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا وعلى جميعهم أين الذي وعدتنا فسأله ما فعلت اليوم فأخبره بإعطائه الرغيفين فأمر بحَلِّ رزمة ثيابه فوجد فيها حية عظيمة ملجمة بلجام من نار فقال لهم هذا البلاء الذي كان أرسل عليه وهذا اللجام هي الصدقة التي تصدق بها حبستها عنه أو كما جرى وقد قال ادفعوا البلاء بالصدقة ۳
واحتمل أن يكون المراد الإرشاد لجميع مصانع المعروف لقوله صلى الله عليه وسلم مصانع المعروف تقي مصارع السوء ٤
واحتمل أن يكون المراد جميع الوجوه كلها لأن على كل واحد منها أدلة من السنّة عديدة ويترتب على ذلك من الفقه أن يتفقد المرء نفسه في هذه الوجوه كلها لعله أن يكون ممن يرحم وإن عسر عليه شيء منها فيلجأ إلى المولى الكريم لعله يمنّ عليه بالرحمة وأسبابها فهو
منان كريم
جعلنا الله من أهلها بفضله في الدنيا والآخرة آمين آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الترمذي والطبراني وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار كل
قريب هين لين سهل كذا بزيادة الواو
۳ روى الطبراني في الكبير عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي الا الله قال الصدقة تسدّ سبعين باباً من السوء وروى البيهقي مرفوعاً وموقوفاً عن أنس رضي الله عنه أن النبي الا الله قال باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى
الصدقة
٤ أخرجه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفىء غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر
حديث الحث على إكرام الجار
عَن عائِشَةَ رضي "
ظَنَنتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّتُهُ
الله عنها عَن النَّبيِّ الا الله قال ما زالَ جِبريلُ يُوصيني بالجَارِ حَتَّى
*
ظاهر الحديث يدل على الحض على حفظ الجار والإخبار بكثرة وصية جبريل عليه السلام للنبي عليه السلام به والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه الوصية من قبيل الواجب أو المندوب وهل الوصية به من قبيل الإحسان إليه وإن كان من أجل ذلك فما حدّه أو المراد غير ذلك من ترك الضرر إليه أو الجميع وهل ذلك على الإطلاق على أي حال كان الجار أو لها شروط وأي حد هو حدّ الجار من القرب والبعد ومن أي الجهات يكون وهل القريب منهم والبعيد في الحرمة سواء وهل هي من الأمور التي يحتاج فيها إلى نية أم لا
أما قولنا هل هذه الوصية من قبيل الواجب أو المندوب فهذه الصيغة لا تستعمل إلا في المندوبات والمرغبات مثل قول أبي هريرة رضي الله عنه أوصاني خليلي بثلاث ركعتي الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وأن أوتر قبل أن أنام ۱ وحفظ الجار من كمال الإيمان وهو أيضاً مما كانت الجاهلية ترعاه وتحافظ عليه وتفتخر بحفظه وتعيب تارك ذلك وتذمه وأما قولنا ما حَدّ الإحسان إليه فهو على ضربين إما الإحسان إليه بأنواع ضروب الإحسان وإما كف الأذى عنه على اختلاف أنواعه وكف الأذى عنه أشد وأبلغ في حقيقة
۱ رواه الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
۱۳۳
الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يأمن جاره بوائقه ۱ أو كما قال عليه السلام فنفى أن تجتمع حقيقة الإيمان مع إيذاء الجار والإحسان إليه من كماله
من
والإحسان إليه يكون بالوجوه المحسوسة مثل الهدية وألا يمنعه غرز خشبة في جداره إن احتاج إليها وما هو في معنى ذلك ويكون بالمعنويات مثل إرادة الخير له والدعاء له بذلك بظهر الغيب وما في معناه ومعاونته على شيء إن احتاج إليه بقدر الجهد بأي نوع كان ذلك المحسوسات أو المعنويات كل ذلك على قدر طاقتك بغير ضرر يلحق فيه للغير ديناً ودنيا وأما قولنا هل ذلك على الإطلاق أو له شروط فالجواب أنه من وجه على الإطلاق ومن وجه له شروط فالذي هو على الإطلاق إرادتك الخير له إن لم يكن من أهله ودعاؤك له في ذلك بظهر الغيب وما في معناه وأما الذي له شروط فإنه إذا كان على الاستقامة فالمندوب قد أصاب محله فأحسن إليه بما أمكنك من وجوه الإحسان حِسّاً ومعنى وإن كان على غير استقامة فواجب عليك كفه عن ذلك إن كان ذلك في قدرتك أو موعظته إن قبل ذلك وإلا فهجرانه على قدر جرمه ويكون يعلم أن هجرانك له من أجل ذلك لعله يرتجع من أجل هذا وما أشبهه وقد قيل الجار قبل الدار وقال العلماء شؤم الدار سوء جارها ٣
وأما قولنا أي حد هو حدّها فقد تكلم الناس في ذلك فيما قيل فيه إن من بينك وبينه أربعون داراً فما دون ذلك فهو من جيرانك ٤ وأما ما يدل عليه الحديث الذي بعد هذا فهو من اثنين فما دون على ما يقع الكلام عليه في موضعه من الحديث إن شاء الله تعالى
وأما قولنا من أي الجهات يكون فقد قال العلماء من الأربع جهات إن كانت الجهات
عامرة كلّها
وأما قولنا هل القريب والبعيد في الحرمة سواء فهذا يحتاج إلى تفسير أما في منع الضرر لهم فذلك سواء وأما في إرسال الخير إليهم فإن كان مثل المعنويات فهم في ذلك سواء وإن كان
۱ رواه البخاري عن أبي شُرَيح الكعبي رضي الله عنه أن النبي الا الله قال والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل لقد خاب وخسر من هذا قال من لا يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه قال شره وفي رواية لأبي يعلى عن أنس رضي الله عنه ما هو بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي لا الاول قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في حائطه ۳ أخرج ابن ماجه والطبراني من حديث أسماء بنت عمیس قالت یا رسول الله ما سوء الدار قال ضيق ساحتها وخبث جيرانها إلى اخر الحديث انظر العراقي على الإحياء ۳ ٤ أخرج أبو داود في المراسيل ووصله الطبراني من رواية الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن رجلا أتى النبي ا لا لا لا فجعل يشكو جاره فأمره النبي و الله أن ينادي على باب المسجد ألا إن أربعين دارا جار قال الزهري أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأوماً إلى أربع جهات
١٣٢٤
من جهة المحسوسات فتعمل في ذلك بحسب نص الحديث الذي يأتي بعد هذا الحديث وهو تقديم أقربهم منك باباً فتلك السنة هذا إذا تساووا في حق الجوار بلا زيادة حق على ذلك فإن من الجيران من له حق واحد ومن له حقان وهو الذي يكون جاراً مسلماً ومن له ثلاثة حقوق وهو أن يكون جاراً مسلماً قريباً من القرابة أو من الرحم ومنهم من يكون له أربعة حقوق القرابة والجوار والإسلام والصهر ۱ فيكون إذ ذاك المقدَّم منهم الذي يكون أكثرهم حقاً كفعل المواريث أقواهم سبباً يكون أولى من غيره وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أم لا فاعلم أن كل فعل يمكن عمله الله ويمكن عمله لغير الله - والوجهان فيه سائغان على لسان العلم - فلا بدّ من النية فيه إذا فُعِل الله ليمتاز عن غيره والإحسان للجار هو مما يمكن أن يكون الله وأن يكون لغير الله مثل أن تفعل الخير معه مكافأة على إحسان تقدم له عليك أو لمن يلزمك منه ملزم أو الحب فيه أو لحياء منه أو لرغبة في مكافأته أو لإحسان أو لخوف منه وأشياء عديدة إذا نظرتها تجدها فإذا كان لمجرد الجوار فالنية فيه مطلوبة ليتميز من هذه الوجوه كلها وما أقل اليوم فاعل ذلك !
وقد ذكر عن بعض أهل الدين والفضل أنه كان له أحد جيرانه وكان مسرفاً على نفسه والسيد لا يعلم ذلك منه وكانت لذلك المسرف عادة إذا كان يفيق من نشوته قريب السحر يرفع صوته
ويقول
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ومثلي في الحقيقة لا يُضاعُ
فكان ذلك السيد يتأنس بذلك القول منه كل ليلة إلى أن وقع الحاكم عليه فأمر بسجنه فلما كان في السَّحَر لم يسمع ذلك القول المعتاد من جاره فلما أصبح قال للخديم الذي له اذهب إلى جارنا فاسأل عن حاله وما كان سبب قطعه العادة البارحة فرجع الخديم إليه وأخبره بشأنه وما هو عليه فقال السيد لا يمكنني إضاعته فتوجّه للحاكم في قضيته فقضى الحاكم حاجته وأطلقه ووجّهه إلى ذلك السيد فلما راه قال له هل ضيَّعناك أو فرطنا في حقك فاستحيا من ذلك السيد وتاب وحسن حاله
1 أخرج الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما وأبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه وابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي لا الا الله قال الجيران ثلاثة جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك
تروى هذه الحكاية عن أبي حنيفة رضي الله عنه تقول كان له جار مسرف على نفسه يشرب الخمرة طوال =
١٣٢٥
تنبيه إذا كان يؤكد عليك في حق جار بينك وبينه جدار وتمنع أن يصل إليه منك أذى
وتؤمر بحفظه إيصال الخير إليه فكيف بجوار الملكين الحافظين اللذين ليس بينك وبينهما جدار ولا حائل وأنت تؤذيهما مع مرور الساعات بدوام التفريط وإيقاع المخالفات انظر بعقلك هل لك يصح ذلك حقيقة الإيمان أم كيف حالك يا مسكين لأنه قد جاء أن الحفظة الكرام يسرون بحسنات العبد أكثر ممّا يسر العبد بها عند رؤية ثوابها وأنهما يحزنان ويهتمان من سيئات العبد ومعصيته أكثر مما يحزن العبد إذا رأى جزاءه عليها فإساءتك لهما بخطيئتك وأنت لا تستحي ولا تنزجر فانتبه يا بَطّال قبل رفع الحجاب وغلق الباب إذا كنت نفسك لا تحفظها وجيرانك منك لا يسلمون فالهرب منك ثم الهرب الهرب وقوله حتى ظننت أنه سيورثه فيه دليلان أحدهما أن من أكثر له من شيء يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه لأنه لما كثرت من جبريل عليه السلام الوصية في حق الجار ظن
سيدنا أنه سيبلغ الاعتناء به إلى ما هو أعلى وهو الميراث وفي هذا دليل لأهل المقامات والأحوال لأنهم يقولون إذا فتح على أحد في مقام ودام عليه بأدبه رجي له الانتقال إلى ما هو أعلى منه
والدليل الثاني أن أعلى الحرمة هو الميراث والميراث على ضربين ميراث العوام وهو في حطام الدنيا وميراث الخواص وهو العلم إذا كان الله وهو على ضربين منقول وموهوب وهو الميراث الذي ورثه أهل الخصوص من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام لأن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كالذي روي عن بعض الصحابة - وأظنه أبا هريرة رضي الله عنه ـ أنه مرَّ على بعض أصحابه في السوق فقال لهم أتجلسون هنا وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد وذلك بعد وفاته فتسارعوا إلى المسجد فإذا ناس من الصحابة رضي عنهم يتذاكرون في العلم فقالوا له وأين ما قلت قال ذلك ميراث رسول الله ۱ لأن
الله
الليل ويغني ويرفع صوته ويؤذي أبا حنيفة إذ يشوش عليه دراسته وقراءته وكان الجار يردد دائماً بصوت عال بيت أبي فراس الحمداني
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسَدادِ ثغر وحدث أن مرت ليلة ولم يسمع أبو حنيفة ضجة جاره ولا تغنيه بيت أبي فراس وكذلك في الليلة التالية والثالثة فافتقده وسأل عنه فقيل له لقد قبض عليه العَسَسُ مخمورا وأودع السجن فذهب أبو حنيفة إلى الوالي وشفع له رعياً على حقوق جواره ولما أطلق سراحه سأله أبو حنيفة هل أضعناك كما كنت تقول فخجل الرجل وتاب وأقلع 1 أخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال ذالك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه قالوا وأين يا أبا هريرة =
١٣٢٦
الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ حظه من
الميراث
غير أن بين الميراثين فرقاً عظيماً وهو أن الميراث الذي هو في حطام الدنيا تدخله نسبة الدار وهو الضيق والنقص بالحجب إما كلياً وإما بعضياً وبالعول ۱ أيضاً نقص ثان وأما ما هو ميراث الخواص بينهم كما تقدم وبضاعة ميراثهم متسعة أيضاً لا يلحقها ضيق ولا حصر فليس فيه شيء من ذلك بل التواد واسع ولهم الخير التام نسبة الدار التي هو لها حكمة حكيم
وأما اللَّدُنْي فكذلك أيضاً وهو حق بدليل الكتاب والسنة
فأما الكتاب فقصة الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام حين قال الخضر أنا على علم من علم الله تعالى عَلَّمَنِيه لا تعلمه أنت - وهو اللَّدُنْي على ما ذكره أهل العلم ـ وأنت على علم أنا علَّمَكَه الله لا أعلمه أنا وهو المشروع وكان في قصتهما ما قص الله سبحانه في كتابه إلى قوله ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ ۳ وقصة آدم عليه السلام حين علمه الله أسماء كل شيء بعد ما سأل جل جلاله الملائكة عن ذلك فقالوا سبحانك لا علم لنا فقال تعالى يَتَنَادَمُ أَنْبِتْهُم بِأَسْمَاءِهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَاهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُم تَكْتُمُونَ ٤ وتعليمه جل جلاله أسماء الأشياء كلها حتى اسم القصعة والقصيعة إنما كان بالعلم اللدني بلا واسطة بين ادم ومولاه ولهذا ظهر عجز الملائكة وأقروا به
وأما السنة فقوله الله إن من أمتي لَمُحَدَّثِينَ وإن عمرَ لَمِنْهُمْ ه وقصته الله مع أبي هريرة حين شكا له أنه يسمع الحديث وينساه فقال له عليه السلام ابسُط رداءَكَ فَبَسَطته قال فغرف بيده ثم قال ضُمَّه فضَمَمْتُه فما نسيت شيئاً بعده ٦ فكان أبو هريرة رضي الله عنه بعد ذلك
قال في المسجد فخرجوا سراعاً ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم ما لكم فقالوا يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئاً يقسم فقال لهم أبو هريرة وما رأيتم في المسجد أحداً قالوا بلى رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرأون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام فقال لهم أبو هريرة ويحكم فذاك
میراث محمد
۱ العَوْل في علم الفرائض زيادة الأَنْصِباء على الفريضة فتنقص قيمتها بقَدْرِ الحصص اللدني نسبة إلى الكلمة الواردة في قوله تعالى وعلمناه من لدنا علماً ۳ سورة الكهف من الآية ۸
٤ سورة البقرة الآية ٣٣
0 أخرجه الزبيدي في اتحاف السادة المُتَّقِين ۰۹/۷ بلفظ إن من أمتي لمحدثين ومكلّمين وإن عمر منهم ٦ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
33
۱۳۷
الصحابة حديثاً وقال رضي الله عنه حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما
فَبَتَتْتُه وأما الآخر فلو بَشَتْتُه قَطِع هذا البلعوم ۱
ـعني
أن جميع تلك الأحاديث التي رواها إنما هي من بركة بسطة الرداء والصحابة رضوان الله عليهم قد قالوا أكثرت يا أبا هريرة من الحديث فكأنه يقول إذا الشيء الواحد منهما قد أقلقكم وقلتم إني أكثرتُ من الحديث فلو سمعتم الآخر لقتلتموني لأنكم كنتم تنسبونني إلى أن
الله
ذلك كذب مني على النبي الا الله ولم يقل هذا أبو هريرة وهو يقصد به الصحابة لأنهم رضي عنهم يعرف كل واحد منهم فضل صاحبه ودينه وإنما قال ذلك من أجل الجهال الداخلين في الدين إذ كانوا يسمعون من الخلفاء وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم أكثر أبو هريرة من الحديث وينكرون عليه ذلك وما أنكر من الصحابة من أنكر ذلك على أبي هريرة أنه اتهمه وإنما رأوا أن شغله بالتعبد أولَى من استغراقه الزمان كله في رواية الحديث فإن كتاب الله قد كُتب وأثبت بالإجماع وفيه جميع الأحكام وإن الصحابة رضي الله عنهم قد نقل عنهم من الأحاديث ما فيه كفاية وزيادة فقد حصل من مجموع الثقلين وهما الكتاب والسنة - ما فيه كفاية لمن اشتغل بالدين وتوفية ما به آمر لأن الصحابة والصدر الأول رضوان الله عليهم إنما كانت هممهم في الأعمال لأنها ثمرة العلم وكان مذهب أبي هريرة أنّ بثَّ ما سمعه من رسول الله بعد أداء الفرائض أفضل القُرَب كما روي عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه قال لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أُنْفِذ كلمة سمعتها من رسول الله الا الله قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها فلم يرجع واحد منهم عما ظهر له والكل على الحق رضي الله عنهم جميعهم كما فعل بعض أصحاب مالك حمه الله وكان ذلك الصاحب ممن قد انقطع إلى العبادة فكتب إلى مالك يحضه على ترك العلم والانقطاع إلى العبادة فأرسل مالك إليه وهو يقول له يا أخي ما أنت عليه بأفضل مما أنا عليه والكل على خير إن صلحت النية فلم يرجع إليه فإذا رأى الجاهل أبا هريرة بعد ما سمع من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أنه أكثر من الحديث قد زاد في الحديث أضعافاً مضاعفة ينسبه إلى ما لا يليق به وقد يفضي الأمر إلى القتل فيكون قولهم ذلك مع الزيادة في الحديث قاطعاً للبلعوم كما ذكر رضي الله عنه لأنه من شارك في قتل نفس بأي وجه شارك - وإن قلّ - من قول أو فعل سمّي قاتلاً لغةً وشرعاً فلذلك كفّ رضي عنه عن الزيادة ٢
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
الله
قال ابن حجر في فتح الباري وبقية شراح الجامع إن المراد بالذي كتمه أبو هريرة إنما هو تولية بعض أمراء بني
أمية
۱۳۸
وفي
ذلك دليل للأخذ بسد الذريعة وفي فعل سيدنا ذلك مع أبي هريرة دليل لأهل الأحوال الصادقة المستقيمة على طريق الكتاب والسنة مع أولادهم في السلوك ينظرون إلى الذين فيهم الأهلية فيورثونهم من أحوالهم المباركة التي فتح عليهم فيها لأنه الأصل في كل خير من علم أو حال أو عمل فإنه بحر الأنوار والحكم والحُلى النفيسة وجامع للأعلى من العلوم والأحوال والشيم الرفيعة بدءاً وعَوْداً فكل من كان من أهل السعادة قد أخذ منه مشرباً
وفي قوله عليه السلام ظننت وجه ثالث وهو أن الظن إذا كان في طريق الخير جائز شرعاً ما صَحْ منه وما لم يصح - فإنه قد ظن أنه سيورثه ولم يقطع ذلك ففائدة إخباره عليه السلام لنا بذلك لنأخذ منه الدليل على جواز ذلك والفرق بينه وبين الظن السوء بأنه ممنوع شرعاً كما قال عزّ وجلَّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِنْةٌ
وفي ذلك دليل على الطمع في زيادة خير المولى سبحانه عند توالي نِعَمِهِ على عبده بلغ ذلك حده أو لم يبلغه لأنه أي توالي نعمه أكبر من كثرة ترداد جبريل عليه بالوصية في حق الجار إلى خير البشر صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على الندب إلى التحدث بما يقع في النفس من الخير قضي بذلك أم لا وقد قيل في فضل مولاك فاطمع إن كنت طامعاً فليس عار على عبد في فضل مولاه طمع وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الحجرات من الآية ۱
۱۳۹
-TEE-
حديث الترتيب بين الجيران بالمودة
عَن عائشة رضي الله عنها قالت قُلتُ يا رَسُولَ الله إِنَّ لي جارَينِ فَإِلَى أَيهما أهدي قالَ إلى أَقْرَبِهِما مِنكِ باباً
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن أقرب الجيران منك باباً أولى بالهدية من غيره والكلام عليه من
منها أن يقال هل هذا على طريق الاستحباب أو الوجوب فالجواب أما أن يكون ذلك على الوجوب فليس بظاهر لأن الهدية لم يقل أحد إنها واجبة فإذا كان الفعل في نفسه مندوباً فتقديم
الناس فيه بعضهم على بعض من باب المندوب أيضاً فإنه لا يكون الفرع أقوى من الأصل وفيه دليل على أن المستحب في الأعمال الأخذُ بما هو أعلى يؤخذ ذلك من إرشاده لما هو الأفضل في الترتيب بين الجيران والأعظم حرمة أليس أنها لو أهدت لغير الأقرب باباً لكانت مأجورةً في هديتها فلما كان الأقرب باباً أعظم حرمةً كان بالمعروف أولى وكان صاحبه أكثر أجراً وكذلك الشأن في غير ذلك من أفعال البرّ يؤيد ذلك ويقويه قوله عزّ وجلَّ في كتابه أُوْلَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ۱
وفيه دليل على تقديم العلم قبل العمل يؤخذ ذلك من سؤالها رضي الله عنها قبل عملها وفيه دليل لأهل الطريق لأنهم يؤخّرون العمل لاشتغالهم بتصحيح النية يؤيد هذا لقوله الا الله
خيرُ العمل ما تقدَّمته النية أو كما قال عليه السلام
صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على أن الجوار الذي وكد في حقه على نحو الحديث قبل إنه ما يتعدَّى إلى أكثرَ
۱۳۳۰
1 سورة الإسراء من الآية ٥٧
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۱ وماذا أعد لهم بمتضمن قوله وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ فثواب أعمالهم
محدود معلوم وما كان من فضله عزّ وجلَّ فلا تصل إليه العقول ولا تحيط به الأوهام
جعلنا الله من أهل القرب المقربين بفضله كما يليق بفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النور الآية ٣٦ و ٣٨
سورة النور من الآية ۳۸
۱۳۳
ITED-
حديث كل معروف صدقة
عَن جابر بنِ عبدِ الله ۱ رضيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ كُلُّ مَعروفٍ صَدَقَة
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل من عمل عملاً من أعمال المعروف أن له فيه أجراً وحسنة مثل ما له في الصدقة إذا تصدق بها والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل المراد بالمعروف الشرعي أو العادي وهل فاعله يحتاج إلى نية حتى يكون مأجوراً أو بنفس فعله يكون مأجوراً وإن عَرِيَ عن النية وهل هو محدود معلوم لا يزيد ولا ينقص أو هو معلوم غير محدود يزيد وينقص بحسب الأزمنة
أما قولنا ما المراد بالمعروف فالمراد أنه قد عرف وتحقق أنه من أفعال البر فصار هذا الاسم عليه عَلَماً
وأما قولنا هل المراد الشرعي أو العادي
فالجواب أنه لا ينطلق اسم معروف إلا على ما قد عرف بالأدلة الشرعية أنه من أفعال البر كان أصله مخترعاً بالشرع أو كان عادة فأقرتها الشريعة بأن جعلته معروفاً
فمثال ما اخترعته الشريعة بأن جعلته معروفاً ولم يعلم قبل أنه من وجوهه مثل الحب في الله تعالى والبغض في الله إذا كانا بشروطهما وما يشبههما وهو كثير ومثل إماطة الأذى عن الطريق وما أشبهه وهو أيضاً كثير ومثل أنواع الأذكار وما في معناها وهو أيضاً كثير ومثل أنواع المندوبات
وأما ما كان عادة بين الناس وأثبتت الشريعة أنه معروف فهو مثل السَّلَف فإنه كان عادة بين
۱۳۳۳
۱ سبقت ترجمته في الحديثين ٥٣ و ۱۱
ـه من
الناس أثبتت الشريعة فيه من الأجر كثيراً حتى ارتفع الحق الواجب الذي فيه من الزكاة طول بقائه عند الذي استسلفه فإذا بقي مالُ المقرض الذي فيه نصاب عند الذي استسلفه سنين عديدة ثم قبضه صاحبه لا يجب عليه فيه إلا زكاة سنة واحدة لا غير ومثل استعارة متاع البيت وكان الناس يفعلونه عادةً فجاء فيه من الأجر ما جاء وجاءت الأدلة الشرعية تحضّ عليه حتى قال بعض العلماء إنه واجب ومن هذا النوع كثير وقد جاء في مبلغ أجورهم أنه من أعار قدراً كان له الأجر بقدر ما طبخ فيها من الطعام أن لو تصدق به ومن أوقد شعلة نار كان له من الأجر بقدر ما طبخ على تلك النار أن لو تصدق به وكذلك في سلف الخميرة أو هبَتِها وكذلك الملح وأما قولنا هل يحتاج إلى نية عند فعله أو بنفس الفعل يكون مأجوراً وإن لم تحضره نية فهذا يحتاج إلى تقسيم وذلك أن العلماء قد أجمعوا على أن أفعال البر كلها إذا وجدت فيها النية مقدمة فلا خلاف في كمالها ورجاء قبولها وبقي الخلاف فيما عدا ذلك هل يجزىء مطلقاً أو لا يجزىء مطلقاً أو بالتفرقة البعض يجزىء والبعض لا يجزىء خلاف متسع وترك الخلاف
أولى
وأما قولنا هل هو محمود معلوم لا يزيد ولا ينقص أو هو معلوم غير محدود يزيد وينقص حسب الأحوال والأزمنة فإن نظرنا بحسب الوقائع وطرقها فتزيد في زمان وتنقص في زمان اخر لكن الشأن هل تعلم جميع أنواعها مفصلاً هذا ما قدر أحد من العلماء أن يحصره لأنه قد جاء عن سيدنا أنه بلغ عدد المستحقرات من أفعال البر التي أعلاها منحة العنز ۱ ـ ومنحة العنز عند العرب من الأشياء التي لا يبالى بها - سبعين أو كما قيل
وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا عددناها بعد فما قدرنا على أن نبلغ فيها أكثر من خمسة عشر وهي مثل إماطة الأذى عن الطريق ومثل أن تلقى أخاك بوجه طَلْق ومثل الكلمة الطيبة ومثل الإرشاد إلى الطريق وما في معناها فإذا كان أولئك السادة لم يقدروا أن يحصروا من السبعين إلا خمسة عشر مع اهتمامهم بالدين وجمعهم على ذلك فكيف بمن بعدهم ولاسيما في زماننا هذا
وهنا إشارة لطيفة وهي أنه لما أن خفيت أفعال المعروف لدقة أكثرها أشبهت إخفاء ليلة القدر وإخفاء الساعة في يوم الجمعة وليلة القدر تُرقب في لياليها المعلومة لها والساعة التي في يوم الجمعة تُرقب في جميع يومها فينبغي أن ترقب أفعال المعروف مثلها وكيفية ذلك أن يحضر النية في أول يومه بأنه لا يفعل فعلاً من الأفعال أو يتكلم بكلمة إلا ناوياً بها القرب إلى الله تعالى
۱ من معاني العنز الصخرة في الماء
١٣٣٤
فما وقع له من ذلك فإن جدّد له نية فهو الكمال وإن حصلت له غفلة حين وقوع ذلك منه فيرجى أن ما تقدم ذلك من النية يجزىء عنه ما لم يكن لتلك النية مناقض
وقد تقدم أن الأفعال قسمان واجب ومندوب بالنسبة إلى النيات وأما المباح فلا سبيل إليه عند أهل الطريق فإذا فعل ذلك يرجى أن يصادف كل معروف كما يصادِفُ ليلة القدر والساعة
التي في الجمعة من ارتقبهما والله الموفق ويكون في ذلك كله مستعيناً بالله تعالى مستعيداً به ومستغيثاً خوفاً أن يُوكل إلى نفسه فيقطع به فيما نواه فيحصل والعياذ بالله في المقت لقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱
وهنا إشارة حسنة وهي أنه لما خفيت علينا هذه الفوائد كما خفيت علينا ليلة القدر وجعلوا قيام السنة كلها بنية ليلة القدر - كما تقدم الكلام عليه حين تكلمنا على ليلة القدر - قالوا هنا نحن نجعل حركاتنا كلها مباحَها وغير ذلك كلها بنية القربة الله تعالى فما أصبنا من أفعال البر التي قد تبه عليها ولم نصل إلى معرفتها فقد يحصل لنا المقصود إن وقع منا فعل ونية حسنة متقدمة وما كان من المباح وفعلناه بنية القربة ولم نصادف تلك الأشياء فلا يضرنا ذلك وهو وجه حسن لأننا نرجو ما قالوا في الأجر وإصابته بفضل الله تعالى
وما قالوا فإنه إذا لم يصب من ذلك شيئاً لا يضره ذلك وأنه لا يخلو في ذلك الوجه من الأجر أيضاً لحرصه على إصابة الخير واتباع السنة وقهر نفسه حتى نفى عنها المباح الذي لها سعة فيه وملازمته ذلك ابتغاء مرضاة مولاه العليم الكريم وكيف يضيع ذلك ومولاه جل جلاله يقول في كتابه وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا بل يرجى أن يزيد مع الأجر في ذلك النور والهدى إلى سبيل الخير بالوعد الجميل ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۳ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثًا 4
لكن بقي علينا كيف توجيه حسن النية في جميع الحركات على نحو ما أشاروا إليه كيف يكون حتى نسلم من البدع ونكون في ذلك على لسان العلم فنقول والله المستعان لا يخلو ما يتصرف فيه العبد أن يكون فيما يخص نفسه أو ما يخص غيره فإن كان فيما يخص نفسه فلا يخلو أن يكون من النوع الذي فيه قربة لله تعالى - فهذا قد تميز بنفسه - أو يكون مما أبيح له فعله على لسان العلم فيجعله بنيّة العون على طاعة الله دَقَّ في ذلك أو جَلَّ ودليله في ذلك قول
1 سورة الصف من الآية -۳
سورة العنكبوت من الاية ٦٩ ۳ سورة النساء من الاية ۱
٤ سورة النساء من الاية ۸۷
١٣٣٥
معاذ رضي الله عنه في نومه وأحتسب نَوْمتي كما أحتَسِب قَوْمتي وقد تقدم الكلام عليه في غير ما موضع وإن كان فيما يخص غيره فلا يخلو أن يكون مع حيوان عاقل مثله أو غير عاقل فإن كان عاقلا فلا يخلو أيضاً ما يتصرف فيه أن يكون مما تبيّن أن فيه قربة إلى الله تعالى فقد بان الوجه فيه وإن كان لم يتبيّن فيه ذلك فتكون نيته في ذلك إحدى النيات المستحسنة شرعاً وهي إما من باب إدخال السرور أو من باب شفقة الإسلام أو من باب العون على ما فيه رفق له في شأنه أو من باب الرفق لقوله عليه السلام ما كان الرفق في شيء إلا زانه ۱ أو من باب اتباع حكمة الله تعالى الجارية في ذلك الوجه أو من باب اتخاذ الخير عادة مطلقاً أو ما في معنى هذه النيات أيها أمكن في ذلك الأمر فعله وليتحرَّز في ذلك من الرياء وطلب المدح على ذلك أو العوض أو ما يقرب من ذلك وإن خفي سواء كان فعلاً أو قولاً أو نية
ومما روي فيما يشبه هذا النوع من حسن النية للغير في أمر خاص أن بعض المسرفين على نفسه مات ولم تُعلَم له حسنة قط فرآه بعض المباركين في نومه في حالة حسنة فقال له بِمَ نلت هذه المنزلة فقال له لم توجد لي حسنة واحدة إلا أنه خرجَتْ يوماً سرية من سرايا المسلمين ت فبلغني ذلك ففرحتُ لكون المسلمين غنموا فغفر الله لي بذلك فانظر إلى هذا الخير ما أدقه وأخفاه ! وإلى هذا الفضل ما أعظمه وأعلاه ومن هنا فتنبه
فعَنِمَت
وإن كان الحيوان غير عاقل فقد بان المعروف فيه لقوله لها الله في كل كبد حتى أجرُ ٢ إلا أنه يتحرز أن يكون لولوع به أو لمنفعة يرجوها منه أو عليه أو لحظ ما من الحظوظ النفسانية فتلك أبواب قد عرف ما فيها وما على الداخل فيها وما له على حسب ما قد بيناه في غير ما موضع من الكتاب وليست هي من هذا الباب الذي نحن بسبيله في شيء
وفي هذا الحديث فائدة لطيفة وهي الحض لك أن ترد بالك إلى باب المعروف فتعلمه وتعمل به لأنه باب واسع كاد ألا يخلو من وفق إلى علمه والعمل به من دوام الخير ليلاً ونهاراً لئلا تجهل فتقول لا تكون الحسنة إلا في الصدقة بالمحسوس ويفوتك خير كثير وأنت قادر عليه وليس عليك في أكثره شيء من المشقة والصدقة بالمحسوس قد لا يقدر عليها بعض الناس وهذا من الله لا من أحسن الإرشاد جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته بفضله
وجعلنا من مباركيها في الدارين بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها وتمامه يا عائشة عليك بتقوى الله والرفق فإن الرفق لم يكن في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه
قطعة من حديث أخرجه الإمامان أحمد ومالك والشيخان وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش
١٣٣٦
152-
حديث كراهية الشعر وحرمته
عَنِ ابْنِ عُمر رَضِيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال لأَنْ يَمتلىء جَوفُ أَحَدِكُم قَيحاً خَيْرٌ لَه مِن أنْ يَمتلىء شِعراً
*
ظاهر الحديث يدل على ترجيح أن يمتلىء الجوف قيحاً الذي هو عين الهلاك على أن يمتلىء شعراً والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما يعني بجوفه ومنها هل قوله شعراً على عمومه أو ليس وما المراد بقوله أن يمتلىء شعراً هل لكثرة حفظه الشعر أو هل لتعلق الخاطر به ومنها ما الحكمة في أن مثل بالقيح دون غيره
أما قولنا ما معنى جوفه احتمل وجهين أحدهما أن يعني به الذي في جوفه وهو القلب واحتمل أن يكون على ظاهره فيعني به الجوف كله وما فيه من القلب وغيره والأول أظهر والله أعلم
وأما قولنا ما معنى قوله لا الله شعراً هل ذلك على العموم من أي نوع كان الشعر أو على الخصوص احتمل اللفظ لكن قواعد الشريعة تخصصه لأن ما كان من الشعر في مدحه فهو قربة إلى الله تعالى وقد كان وهو اهله هوله و يحض عليه مثل وقال له لا لا لا لا لا أجبهم عني فقال له حسان والله لأسأَنَّكَ منهم منهم كما تسلّ الشعرة من العجين ۱ أو كما قال وما كان منه في تنزيه الحق سبحانه فذلك قربة أيضاً وما كان منه يحض على الآخرة ويزهد في الدنيا فذلك من باب الوعظ والتذكار بالخير وقد قال له إن من الشعر لحكمة فما كان منه حكمة فكيف يكون ملء الجوف بالقيح خيراً منه هذا لا يمكن فيكون اللفظ عاماً ومعناه الخصوص والله أعلم
1 أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن حسان بن ثابت استأذن رسول الله الله في هجاء المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بنسبي فقال حسان والله إلى آخر الحديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن أبي بن كعب رضي الله عنه بلفظ حكمة دون لام
۱۳۳۷
وعلى هذا التوجيه المتقدم فيكون المحذور منه مثل النوع الذي ذمَّه مولانا جلّ جلاله في كتابه حيث قال وَالشُّعَرَاهُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ۱ وذلك مثل شعراء الجاهلية وتغزلهم فإنهم كانوا يتغزلون في مدح النساء وذكرهن وغير ذلك من الوجوه المحركة للشهوات وحبها وحب الدنيا وفخرهم بما لا يجوز شرعاً وما في معناه ولذلك ذكر عن بعض أهل الطريق - وكان من أكابر وقته - أنه جاءه بعض الناس بابنه بعدما علمه العربية والأدب ورغب منه أن يقرأ عليه شيئاً من طريق القوم لعلّه تنبعث له همة فقال له لا أفعل لأنك أتيت به إليَّ بعدما ملأت قلبه بالشّعر وخالط بشاشة الشهوات وحبَّ الدنيا فما عسى أن أفعل فيه فامتنع منه ولم يقبله وهنا إشارة لطيفة كما قال صاحب الرسالة أولى القلوب بالخير ما لم يسبق الشر إليه وأما قولنا ما معنى يمتلىء شعراً هل المراد منه الذي يُكثر من حفظ هذا النوع من الشعر أو المراد به مَنْ تَعَلَّقَ به خاطره حتى يكونَ به مشغوفاً
فالجواب أن هذا على وجهين إما مشغوفاً بترداده وذكره والنظر فيه أو مشغوفاً به وبنظمه وإنشائه واختراعه ومعارضة من تقدم من أهل ذلك الشأن احتمل الوجوه كلها لكن الأظهر والله أعلم ـ أن المراد هو الذي تعلق خاطره به التعلق الكلي الذي يلهيه عن غيره سواء كان ممن يخترعه وينشئه أو ممن ينقله ويحفظه فالوجهان سِيّان كالذي ابتلي بحب الدنيا كان بيده منها شيء أو لم يكن فالكل غلب عليهم حب الدنيا ومن أهلها يحسبون
وأما قولنا ما الحكمة في أن مثل بذكر القيح فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن تمثيله عليه السلام بالقيح من أعظم الحذر عما مثل به وذلك أن أهل صنعة الطب يزعمون أنه إذا وصل إلى القلب من الداء شيء ولو كان يسيراً فإن صاحبه يموت لا محالة لأنه عضو رئيس لا يحمل من الآلام شيئاً وأن غيره مما في الجوف مثل الكبد والرئة إلى غير ذلك أن الآلام إذا كانت في بعضها أن ذلك من الأمور المخوفة والغالب على صاحبها الهلاك فكيف إذا امتلأ الجميع بالقيح لا شك في هلاك صاحب ذلك ألا ترى أنه إذا كان بعض الأنامل فيه نبت عند أخذه في جمع القيح لا يهنا لصاحبه عيش ولا حال وأيضاً أن صاحب ورم الأكباد يموت مخبول الدماغ من هول ما يقاسي فترجيحه هذه الحالة التي ذكرناها على الشعر الذي فيه راحة النفس إنما ذلك لجمعه علتين
۱ سورة الشعراء ٢٢٤ - ٢٢٦
۱۳۳۸
وهما شغله عن الله تعالى بما لا يجوز من ذكر تلك الأمور التي يتضمنها تغزل الشعر لأنه قد قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت ۱ ولما كان الشغل هنا بمكروه أو حرام كانت الموتة على الحالة المذكورة خيراً له
وهنا بحث وهو أن يقال هل يتعدى الحكم بوجود العلة أم لا الظاهر تعديه لأن كل ما يشغل عن الله تعالى فصاحبه محروم فإن كان بمحرّم من أي المحرمات كان الموت على هذه الحالة خيراً له مما هو فيه
تنبيه إذا كان مَلؤه بالقيح خيراً له من الشعر وما فيه إلا العلتان اللتان ذكرناهما فكيف إذا امتلأ بعلم الجدل وما يشبهه لأن تلك العلوم تقسي القلوب وتشغلها عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقادات وتطيل اللسان وتزرع الحسد في القلوب والتنافس وتفضي إلى التباغض والتحكم على القدرة بأشياء لا توافقها الأدلة الشرعية فكيف يكون حال صاحبه
وفيه تنبيه على ترك حظوظ النفس والعوائد السوء يؤخذ ذلك من أن سيدنا بعث والعرب في معظم فصاحتها واشتغالها بالشعر وتنافسها فيه فزجرهم النبي الله عن ذلك بهذا الزجر العظيم الذي تضمنه الحديث
ويترتب على ذلك من الفقه أن شغل الباطن بغير ما يرضي الله من أعظم الأمور المهلكة ولم يُجعل له مخرج والأمور الواقعة في الخارج من الكبائر والصغائر وما بينهما فقد جعلت فيها الحدود والكفارات إلى غير ذلك مما هو معروف من قواعد الشرع
ويترتب عليه أيضاً أن الزجر إذا كان لنفسك أو لغيرك فيكون بحسب الشيء المنهي عنه من
أن نفسه كان فيها
قوة أو لين حتى يكون عاصماً لتلك المادة الرديئة وفيه دليل لأهل المجاهدات وهو أنه لما عسرت عليهم نفوسهم في الانقياد إلى ما أريد منها أخذوها بالمجاهدات على قدر رعونتها حتى انقادت وقد ذكر عن بعضهم رعونة فجاهدها عشرين سنة بأكل نشارة الخشب ولم يطعمها خبزاً أصلا حتى انقادت واستقامت لما أريد منها ومثل ذلك الشأن قطع العوائد السوء ولا ينظر في ذلك لكثرة انتشارها في الناس وإنما ينظر فيها بلسان العلم هل تجوز أم لا وعلى ذلك يكون العمل فهي طريق النجاة جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه
شيب
۱۳۳۹
حديث فضيحة الغادر يوم القيامة
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيُّ الله قال إنَّ الغادِرَ يُرفَعُ لَهُ لِواء يَومَ القيامَةِ صلى الله عليه وسلم
فيقال هذهِ غَدَرَةُ فُلان بن فلان
ظاهر الحديث يدل على فضيحة الغادر يوم القيامة يُنصَب له لواء غدرته وشهرته بها على جميع العالم هناك والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال هل الغدر على عمومه في الدق والجلّ أو في أشياء مخصوصة وهل له عذاب غير ذلك أم ليس وهل لكل غدرة تكون منه ينصب له بها لواء أو لواء واحد يكفي عن جميع غدراته وهل تعرف الحكمة في ذلك أم لا
وأما قولنا هل الغدر على عمومه أو هو في بعض الأشياء دون بعض أما ما عدا الأشياء المحرمات والمكروهات التي قد خرجت ببابها فهو عام في الدق من الأمور والجِلّ وهذا باب ضيق لم يسامح فيه أحد من العلماء في ذرة حتى إنهم قالوا في الأسير إذا كان في دار الحرب وقال له العلج الذي هو في يده عاهدني على ألا تهرب وأنا أسرحك من الحديد فإن عاهده وسرّحه من الحديد من أجل عهده فلا يحلّ له الهروب بخلاف ما لو حلفه فله إذا حلَّفه أن يهرب ويكفر عن يمينه
أما ترى إلى حال الغادر في كتاب الله عزّ وجلّ حيث قال وَمِنْهُم مَّنْ عَهَدَ اللهَ لَبِنْ مَاتَنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الصَّلِحِينَ فَلَمَّا ءَاتَنهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۱ فأورثهم غدرُهم لمولاهم أنحس الأحوال وهو النفاق
۱ سورة التوبة ٧٥ - ٧٧
١٣٤٠
وأما قولنا هل له عذاب على ذلك فالعذاب له بحسب ما غدر به وإنما تكون له هذه
العلامة التي يعرف بها يوم القيامة لأنه قد شاءت الحكمة الربانية أن جعلت لكل صاحب ذنب علامة يعرف بها ذنبه مثل شاهد الزور يبعث مولغاً لسانه بالنار وأكل الربا يتخبط مثل صاحب الجنون في الدنيا والذي يطلب وليس بذي حاجة ليس في وجهه مزعة لحم والنائحة لها سِرْبَالان أحدهما من جَرَب والثاني من قطران ومانع الزكاة إن كانت إبلا يبطح لها بقاع قرقر ۱ فجاءت أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرّ آخرها ردت أولاها حتى يقضي الله تعالى بين عباده ثم يرى سبيله وإن كانت غنماً فمثل ذلك إلا أنه قال تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها وإن كان ماله ذهباً أو فضة مثل له بشجاع أقرع ۳ يعضه في شدقيه يقول أنا مالك أنا كنزك والمتكبرون يبعثون مثل الذر واكل أموال اليتامى ألسنة النار تخرج من منافس جسده و شارب الخمر الكوز معلق في عنقه والكذاب يشق شدقيه كما تقدم في الحديث والمغتابون للناس تقرض شفاههم بالمقاريض أو كما ورد في ذلك
فهذه كلها علامات على كل ذنب حتى يعرف به صاحبه وهي أشياء عديدة بحسب الجرائم وكفى في ذلك قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُم فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَمِي وَالْأَقْدَامِ ۳ أعاذنا الله من الذنوب والفضيحة بها ولو لم يكن فيها إلا هذا المقدار لكان كافياً في الردع والازدجار فكيف بالأمور الزائدة على ذلك الذي لا تحمله الجبال
وأما قولنا فيمن له غدرات هل تنصب له ألوية بعددها أو لواء واحد يكفي ظاهر الحديث يعطي أن لكل غدرة لواء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يقال هذه غدرة فلان بن فلان ٤ وجاء في حديث غيره بقدر غدرته
وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونه جعلت شهرته بنصب اللواء أم لا فنقول والله أعلم قد عرفنا من حكمة الشريعة أن العذاب على الشيء يكون بما يضاده وأن الشهرة هناك من جملة العقاب أيضاً فلما كان الغدر هنا أمراً باطنياً خفياً جعلت علامته هنا أشهر الأشياء لأن عادة العرب أن أشهر الأشياء عندهم إنما يكون برفع الألوية وقد جاء في حديث آخر أنه ينصب عند أسته أو كما ورد وهذه مبالغة في التوبيخ والخزي جزاءً وفاقاً
۱ القرقر من الأراضي المنخفضة اللينة
شجاع أقرع حية شديدة
۳ سورة الرحمن من الاية ٤١
٤ أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٣٤١
وفيه دليل على أن المعرفة في الآخرة مثل المعرفة هنا يؤخذ ذلك من قوله فلان بن فلان وكما أن المعرفة بالآباء هنا فكذلك هناك
تنبيه اعرض يا فلان بن فلان على نفسك حين وصف الا الله وأبواب الجنة وذكر أن لكل باب منها من أعمال الخير نوعاً يدخل أهله من ذلك الباب وأن أهل الصوم يدخلون من باب الريَّان فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما على من يُدعَى من تلك الأبواب كلها فقال أرجو أن تكون منهم ١ أو كما ورد
وكيف حال من اجتمعت عليه وفيه تلك العلامات القبيحة على ما فرط من الزكاة وغيرها من المتقدم ذكرها ورايات غدره تخفق عند أسته فاجعل نفسك بين هاتين الحالتين واختر إلى أيهما تفزع بالأعمال لا بالطمع والآمال والكَيْس من دانَ نفسَه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني
جعلنا الله من أهل الكيس وأعاننا عليه وأسعدنا به بمنّه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب - يعني الجنة - يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة أو قال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني والحاكم عن شداد بن أوس رضي الله عنه
١٣٤٢
ITEA-
حديث كراهة الألفاظ الخبيثة من المؤمنين
عَن عائِشَةَ رَضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَت نَفسي
وَلَكِن لِيَقُل لَقِسَت نفسي
ظاهر الحديث النهي عن أن يصف أحد نفسه بالخبث ولكن إن ظهر له منها ما لا يعجبه يعبر عن ذلك بقوله القِسَت نفسي والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال هل النهي عنها على طريق الكراهة أو الحظر وهل الأمر بقوله القست نفسي على طريق الندب أو على طريق الوجوب وإن كان على طريق الندب هل يُعبَّر بغير هذه الصيغة أم لا وما الحكمة في منعه من قول الخبث وهل يكون المنع من هذه اللفظة لا غير أو
ما هو في معناها
أما قولنا هل النهي على طريق الحظر أو الكراهة احتمل والظاهر أنه على طريق الكراهة
بحسب ما أعلله بعدُ
وأما قولنا هل الأمر بقوله القست نفسي على طريق الندب أو الوجوب اللفظ محتمل والظاهر هنا الندب على ما يعلّل بعد
وأما قولنا إن كان على الندب هل يعبر بغير القست
لا الا و فالجواب إن الأولى في المندوب صيغة لفظه ل ا ل لما في ذلك من الخير وإن عبر بما في معناها فقد خرج عن المنهي عنه عنه ودخل في باب المندوب إلا أنه ترك الأولى من المندوب لترك
اللفظ المبارك
۱ لقست نفسه إلى الشيء نازعته إليه وحرصت عليه ولقست نفسه من الشيء غث الشيء غثت وفترت وكسلت تلاقس القوم تسابوا وتشاتموا المعجم الوسيط
١٣٤٣
وأما قولنا ما الحكمة في نهايه الا الله عن عن ذلك فإن قلنا تعبّد فلا بحث وإن قلنا لحكمة
فما هي فاعلم - وفقنا الله وإياك - أنه عليه السلام كان يعجبه الفأل الحسن ويكره السيّيء منه فکراهيته عليه السلام لذلك اللفظ الخبيث لوجهين والله أعلم أحدهما كراهيته من أن يكون فالاً فإنها لفظة ثقيلة كما نهى عليه السلام أن يسمي أحد ابنه أو عبده خيراً خيفة أن يقول طالبه هنا خير ولا يكون حاضراً فيجيبه ليس هنا خير
والوجه الثاني كراهية أن يشهد المرء على نفسه بالفسق لأن الفاسق والكافر والفاجر نفس كل واحد منهم خبيثة فلما كانت تلك اللفظة تحتمل جملة معان قبيحة منع عليه السلام المؤمنين أن يعبروا بها عما يجدون في أنفسهم بما لا يرضونه من عجزها أو ما يشبهه وأبدل لهم لفظة حسنة وهي قوله لَقِسَت لأن المعدة لا تلقس إلا حين تكون مملوءة طعاماً وكذلك نفس المؤمن قد امتلأت بالخير حتى أكثر مما تطيقه فظهر منها اللقس لكثرة امتلائها بالخيرات وهذا من نوع الفأل
الحسن
ويترتب على هذا من الفقه أن يطلب المرء أنواع الخير ولو بالفأل الحسن ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما وإن ضعفت طمعاً في فضل الكريم الجواد ويدفع عن نفسه السوء ويكرهه حتى التفاؤل به ولا يكون بينه وبين أهله صلة ويقطعها القطع الكلي حتى في المشتركة التي تقع معبرة عن حاله وحالهم يعدل عنها خيفة شؤمها أعاذنا الله من ذلك بمنه
الألفاظ
ومما يقوي ما أشرنا إليه ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتاه أعرابي فقال ما اسمك فقال جمرة فقال ابن مَن فقال ابن شهاب قال ممن قال من الحُرَّقة قال أين مسكنك قال بحَرَّة النار قال بأيها قال بذاتِ لظى قال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا ۱ فكان كما قال عمر رضي الله عنه رواه مالك في موطئه
وأما قولنا هل النهي عن هذه اللفظة لا غير أو عنها وعمّا في معناها فإذا قلنا بتعليل قوله
فينبغي المنع منها وما في معناها للعلة المذكورة لا سيما ما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنفاً وإن قلنا تعبد فلا يتعدى الحكم إلى غيرها وليس بظاهر ويجب على القول بالتعليل أن يمنع ما اتخذه اليوم بعض الناس أنه إذا كان به شيء يقول نفسي ليست بطيبة وأنا لست بطيب يُخرِج نفسه من الطيبين فإذا أخرجها من الطيبين ألحقها بالخبيثين وكذلك كل ما كان من هذا النوع المنع فيه هو الأولى
1 أخرجه الإمام مالك فيما يكره من الأسماء من الاستئذان في الموطأ ۳/
١٣٤٤
أشبهه
وفيه دليل على كثرة شفقته على أمته يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام عن هذا وما
وفيه تنبيه لأهل القلوب لأن من الألفاظ والحركات ما هي إشارة من الغيب لمن فهم ولولا ذلك ما كان ينهى هذا السيّد صلوات الله عليه وسلامه عن هذا وأشباهه ومما يروى عن بعض أهل القلوب أنه خرج متوجهاً في حاجة فقابله دكان صاحب الحاجة وهو قد نزل إلى حاجة له وجعل على دكانه عودَيْن على شبه لام ألف فلما رآها الفقير رجع فقيل له في ذلك فقال لهم أما ترون على دكانه العلامة على أنها ليست عنده فقالوا وما هي فقال لام ألف عبارة عن لا شيء هنا فلما كان بعد مجيئه سأله بعض أصحاب الفقير عما قال فقال صاحب الدكان صدق الفقير فإن الحاجة لم تكن عندي
ومن قول بعضهم ما يقوي هذا المعنى الاعتراض على الرموز جفا إن فهمت وإلا فلا
تعترض على ما ليس لك به علم ومما يؤيد ذلك قوله المؤمن ينظر بنور الله ۱ فمن نظر بالنور فهو موضع الإشارة ومن لم يكن له نور لم يلتفت إلى شيء وبقي مثل البهيمة فإما أن يجعل الكل رموزاً فيخرج بذلك إلى باب عظيم من الفساد وإما أن يسد هذا الباب مرة واحدة فتفوته هذه الرموز وتتغطى عنه فهذا الأمر في حقه أسلم له إذا سلّم الأمر إلى أهله
وهذا إنما هو لأهل الميراث والنور والتوفيق كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه فيما تقدم من الكتاب ومن رزقه الله من ذلك الميراث والنور والتوفيق نسبة ما ولذلك قال إنما أنا قاسم والله يعطي ٢ فوجوه الخير على يده عليه الصلاة والسلام تتابعت وقسم لمن قسم ما
قدر له
جعلنا الله ممن أجزل نصيبه من تلك الخيرات إنه ولي حميد وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما
قطعة من حديث أوله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي أخرجه البخاري ومسلم
من حديث معاوية رضي الله عنه
١٣٤٥
حديث تحريم سب الدهر
الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى يَسُبُّ ابنُ
عَن أبي هريرَةَ رَضي آدمَ الدَّهر وأنا الدَّهرُ بِيَدِي اللَّيلُ وَالنَّهارُ
ظاهر الحديث يدل على المنع من سب الدهر لأنه يعود إلى سب خالقه ومصوره وهو الله سبحانه وتعالى والكلام عليه من وجوه
منها أن هذا صيغته صيغة الخبر ومعناه الزجر والمنع لأنه ممنوع أن يسب عبد مولاه أو مخلوق خالقه أو عابد معبوده فلما كان هذا ممنوعاً عقلاً وشرعاً استغنى عليه السلام بالإخبار عن النهي والمنع وشبههما
ومنها هل سبّ الليل والنهار أعيانهما هو المنهي عنه أو سب ما يجري فيهما من الحوادث والنوازل كانت على أيدي البشر أو بغير وساطة البشر وهل هذا المنع يتعدى إلى غيرهما من المخلوقات أو لا وهل يمنع ما يشبه أو يقارب السبّ مثل الذم والشؤم وما في معناهما أو لا يمنع إلا السب لا غير وما الحكم فيمن فعل ذلك
وأما قولنا هل الممنوع سبّ أعيان الليل والنهار أو ما يجري فيهما من الحوادث فهذا لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ولا يكاد هذا يخفى على أحد حتى يأتي على ذلك هذا العتب وإنما الظاهر سبّ ما يجري فيهما من الحوادث وهذا هو الذي يقع فيه كثير من الناس وهو الذي يعطيه سياق الحديث لقوله بيدي الليل والنهار فنفى عنهما أن يكون لهما تأثير فيما يجري فيهما من الأمور والحوادث
والأمور والحوادث التي تجري فيهما على نوعين منها ما يجري بواسطة الحيوان العاقل المكلف فهذا يضاف شرعاً ولغة إلى الذي أجري على يديه وإن كان في التحقيق بقضاء الله تعالى وقدره لأن أفعال العباد كسب لهم قد ترتبت عليها الأحكام بالثواب والعقاب بمقتضى الحكمة
١٣٤٦
وما فهم هذا المعنى إلا أهل التوفيق لأنهم يقولون كل ما في الوجود حسن جميل إلا ما ذمّه
الشرع ذممناه حكماً وامتثالاً وقد ذكر عن بعض الناس أنه رآه بعض إخوانه مكروباً فقال له في ذلك فقال إنه دخل عليَّ في معبدي هذا قوم مباركون من الأبدال مراراً فرغبت منهم في بعضها عساهم يحملونني معهم وكانوا يأتوني بحَرْق العادة من أرض بعيدة فحملوني معهم فوصلوني في لحظة قريبة وكانوا في غار في جبل على البحر الكبير
فلما كان إحدى الليالي جاءت ريح شديدة وظلام شديد وهول في البحر شديد فخرجوا من الغار وخرجت معهم وأخذوا في التقديس والتسبيح والتعظيم الله سبحانه فحملني الجهل بأن قلت هذا هول عظيم فالتفتوا إليَّ وقالوا تعترض على الله لا يصحبنا قليل الأدب ثم التفت الشيخ منهم وقال لبعضهم اجعله في مكانه الذي أخذناه منه فأخذني بيدي شيئاً يسيراً وإذا أنا في موضعي ولم أره ولا واحداً منهم بعد ذلك فكيف لا أحزن على طردي ثم على قلة أدبي واأسفا على جهلي واأسفا على بُعدي فلم يزل باكياً أو كما جرى هكذا تكون الحرمة عند المباركين احترموا فاحترموا واستحَسنُوا فاستُحسنوا آثَروه بالبر والإكبار فآثرهم على غيرهم بالترفيع والإعظام وعنده بالزلفى والإحسان
وأما قولنا هل يمنع ما في معنى السبّ أو ما يقرب منه مثل تعييب الأمور والكراهية أو ما يشبه ذلك فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن ما قرب من الشيء يعطى حكمه وإن لم يكن في الحقيقة مثله لأن ما هو في معنى السب إما أن يكون هو مثله فيمنع وإما أن يكون أقل درجة منه وأقل ما يكون فيه قلة الأدب لأنك تذم شيئاً لا تعرف ما فيه من الحكمة والإتقان بغير دليل ولا اعتبار اللهم إلا إن كان ذلك كما تقدم بدليل شرعي فهو على ما تقدم الكلام عليه
ولذلك لم يأت عن سيدنا الله ولا عن أحد من الأنبياء عليهم أن أحدا منهم ع شيئاً من خلق الله تعالى إلا ما أمر به من طريق الأمر فمن خالف سنن الرسل عليهم الصلاة والسلام ووقع في شيء من خلق الله أقل درجاته أنه وقع فيما فيه قلة الأدب كيف يستحسن حاله أو يحسن منه حال
وفي هذا الحديث دليل لأهل السنة رضي الله عنهم لأنهم يقولون إن العقل لا يحسّن ولا يقبح وإنما التحسين والتقبيح للشرع لا غير
وأما قولنا ما الحكم على من فعل ذلك فهذه مسألة اجتهادية لأنه لم يجىء عن الشارع عليه السلام في ذلك شيء فإن قلنا إن حكمه حكم السبّ الصريح فالخلاف فيه معلوم وما أظنه يكون مثله إلا ممن يعلم ما جاء في ذلك ثم يقصد الذم بعد العلم فكأنه ما أراد إلا الصريح
١٣٤٨
منه فينبغي أدبه ولا يؤول الحكم فيه إلى القتل لأن السب الصريح الأظهر فيه من الخلاف الذي بين العلماء الأدب فكيف بهذا الذي هو دونه وإن صدر ذلك من جاهل يعنف بالقول الشديد ويبين له قدر ما وقع فيه خلاف ويقال له إن عدت إلى مثل هذا أُدبتَ الأدبَ الوجيع ويغلظ له في ذلك ولا يعذر في ثاني مرة إن وقعت منه ويؤدب والله الموفق للصواب وفيه دليل على أن مجموع الليل والنهار يسمى دهراً شرعاً يؤخذ ذلك من ذكره الدهر ثم فسره بقوله بيدي الليل والنهار
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله في منعه الربا المعنوي يؤخذ ذلك من أنه لما كان سبّ الدهر يؤول إلى سبّ المولى سبحانه جعله سَبّاً له فجعل ما يعود بالمآل كالذي هو حاضر في
الوقت
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون إن الصفة لا تفارق الموصوف يؤخذ ذلك من أنه لما كانت الأمور صادرة عن صفة قدرته عزّ وجلّ جعل ذلك صادراً عن ذاته الجليلة بقوله سبحانه بيدي الليل والنهار
وفيه تنبيه لمن له همة ألا يتكلم بما لا يعرف ما معناه وكذلك في الأفعال لا يفعل شيئاً حتى يعلم هل ذلك مما ليس عليه فيه درك أم لا ومما يقوي ذلك وصية الخضِرِ لموسى عليهما السلام حين افترقا وطلب موسى منه الوصية فقال له في جملة وصيته يا موسى لا تفتح باباً لا تدري ما غلقه ولا تغلق باباً لا تدري ما فتحه فيا هذا إذا تأملت مثل هذه الأمور وأدلة الشرع وجدت الدين من شيئين ويدور على قاعدتين الامتثال والأدب فمن امتثل فقد وفى ما به أمر ومن تأدب فقد نجا مما عنه نهي وله كره وفقنا الله وإياك لذلك الامتثال والأدب بمنّه آمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٣٤٩
المؤمن
حديث الكرم قلب المؤمن
أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ يَقولونَ الكَرْمُ إنَّما الكَرمُ قلب
ظاهر الحديث يدل على أن حقيقة تسمية الكرم إنما هي لقلب المؤمن وأنه في غيره مجاز والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً لمن يقول إن اللغة اصطلاحية يؤخذ ذلك من أنهم كانوا عرباً وكانوا يكنون عن ثمرة العنب بالكرمة فمنع ل لا الهلال ومن ذلك بقوله إنما الكرم قلب المؤمن وقد جاء من طريق آخر ولكن قولوا حديقة العنب
وفيه بحث وهو لم خص قلب المؤمن بهذا الاسم فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم لما كان اشتقاقه من الكرم والأرض الكريمة هي أحسن الأرض وهذه الصفة حيثما وجدت فهي من أحسن الصفات فلا يليق إلا أن يعبر بها عن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء لأن المؤمن هو خير البرية - على أحد الوجوه - وخير ما في المؤمن قلبه لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم ا ا ا ن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب 1
كيف لا يكون كذلك وهي أرض لنبات ثمرة الإيمان التي قد قال مولانا سبحانه أَلَمْ تَرَ ﴿أَلَمْ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا
۱ متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ومطلعه الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات
سورة إبراهيم من الآية ٢٤ ٢٥
١٣٥٠
ويترتب عليه فيها من الفقه أن كل خير لفظاً أو معنى أو مشتقاً منه أو مسمى به إنما تكون إضافته الحقيقية إلى الإيمان وأهله وهو فيما عدا ذلك مجاز وفي الكرمة أيضاً شبه من المؤمن
لأنها لينة قريبة الجني حلوة المذاق وتغني عن الطعام لأكلها وتغني عن الماء لمن استعملها وفيها تنبيه لطيف لأن أوصاف الشيطان تجري معها كما يجري الشيطان في بني ادم مجرى الدم فكما أن غفلة المؤمن عن شيطانه أوقعته في المخالفة وألبسته ثوب البعد والحرمان كذلك إن غفل عن عصير الكرمة ظهرت تلك الأوصاف فيها وألبستها ثوب التخمير والتنجيس وهو الخمر المتفق عليه من جميع العلماء على تحريمه بلا خلاف
ويقوى الشبه بينهما من أجل أن الخمر من ساعته يعود خلاً فكساه ثوب التخليل الطهارة فكذلك المؤمن من ساعته بالتوبة النصوح عادت له طهارته الأصلية ورياسته الجميلة وجَبَّت توبته ما كان قبلها من البعد والحرمان وأذهبت الآثام والأثقال وكما أيضاً تكون توبة المؤمن بمعالجة من وعظ أو تذكار أو تكون بفيض لا يتقدمه علاج فكذلك العصير إذا تخمر قد يكون تخلله بمعالجة وقد يكون دفعة من غير علاج
فهل نظرت يا مسكين إلى عصير كرم قلبك فتعالج تخميره لعله يعود خلاً ولا تغفل عنه عقلك فتلحق بالهالكين
فيذهب بجميع
وفيه دليل على كثرة حياء سيدنا يؤخذ ذلك من قوله ويقولون ۱ بلفظة الغيبة ولم يقل لهم تقولون فإنه يكون فيه الخجل لهم وكذلك كانت عادته المباركة إذا قيل له من أحدٍ شيء فإنه كان لا يسميه باسمه ولا يقول له يا فلان لم قلت كذا وكذا إلا أنه كان قوله ما بالُ رجال يقولون كذا أو يفعلون كذا
ويترتب عليه من الفقه أن أهل الفضل أولى الناس بالأدب ومكارم الأخلاق وقد نص ذلك بقوله إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ۳ رواه مالك قال بعض الناس فإن كنت ذا همة فتجمل بمكارم الأخلاق والشيم واملأ عطفيْكَ تبخترا بهما فقد أصبت سنّة خير الأمم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ كذا بزيادة واو قبل الفعل
أخرجه أبو داود والبغوي في شرح السنة عن السيدة عائشة رضي الله عنها بعبارة ما بال أقوام وليس ما بال
رجال
۳ أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلاغاً والإمام أحمد والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٣٥١
- ٢٥١ -
حديث إباحة التسمي وتحريم الكذب عليه
عَن أبي هريرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ عَن النَّبي الا قالَ تَسَمَّوا باسمي ولا تكَنَّوا بكُنيتي وَمَن رَآني في المنام فقد رآني حقًّا فَإِنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمثَلُ عَلى صُورَتي وَمَن كَذَبَ عَليَّ مُتعَمِّداً فَليَتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام أحدها إباحته التسمية باسمه والمنع من أن يكنى بكنيته والثاني إخباره له بأنه من راه في النوم فقد راه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل على صورته والثالث من كذب عليها المتعمداً فليتبوأ مقعده من النار والكلام عليه من وجوه
منها هل قوله صلى الله عليه وسلم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي هل ذلك تعبد أو لعلّة اختلف مطلقاً العلماء في ذلك فمنهم من حمل الحديث على ظاهره ومنع أن يكنّى بكنيته أصلا ومنهم من علل وقال إنما أراد ألا يجمع في شخص واحد بين اسمه الا الله وكنيته وهذا خروج عن ظاهر الحديث ومنهم من علل وقال إن علة ذلك أنه كان الله ماشياً وشخص ينادي خلفه يا أبا القاسم فالتفت إليه الله فقال له الشخص لم أَعْنِكَ وإنما عَنَيْتُ هذا وأشار إلى شخص غيره فقال هو إذ ذاك تَسَمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي أو كما ورد
فإذا قلنا إن هذا كان سبباً لمنعه عليه السلام أن يكنّى بكنيته فهل يُقصر ذلك النهي على العلة فيرتفع بارتفاعها - وهي نقلته عليه السلام إلى الرفيق الأعلى - أو يبقى النهي على عمومه وإن ذهبت العلة موضع خلاف ويحتمل عندي علة أخرى - والله أعلم - وهي أن العرب كانت كناهم بأسماء أبنائهم وكان من أسماء بنيه ل القاسم فلعله عند ذكر الشخص أبا القاسم تحرك عنده من ابنه شيء كان يشغله عما كان بسبيله فمنع ل لا لا لاهم من ذلك كما فعل بعلم الثوب في الصلاة حين نظر إليه فلما فرغ من صلاته قال ردوه إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمه في الصلاة فكاد يفتنني 1
1 أخرجه الإمام أحمد في مسند البصريين عن جابر بن سَمُرَة رضي الله
١٣٥٢
ويترتب على هذا الوجه من الفقه قطع كل ما يتوقع منه شيء من التشويش والمحافظة على خلو القلب بالاشتغال بما هو إليه مندوب وما هو عليه واجب
وإن قلنا إن علة المنع ما ذكرنا أولاً من كونه لا التفت إلى الذي نادى يا أبا القاسم فقال لم أعنك فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك في حق أمته لأن من أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يعرض عنه لأن الله عزّ وجلّ يقول من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ۱ وكذلك من أعرض عنه رسول الله الله فقد أعرض الله عنه فيكون هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حين لقيه بعض الصحابة ليلا وكان معتكفاً وجاءت إليه إحدى أزواجه فقال له إنها فلانة وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بأن قال خفت أن ينزغ الشيطان في قلبك شيئا ٢ أو كما ورد
فكان ذلك الرفقه بأمته فحيثما يخاف ۳ عليهم شيئاً ما يتوقعه يحذرهم عنه وحيثما علم لهم شيئاً من الخير أرشدهم إليه فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله فإنه ولي حميد
وأما إباحته لهم التسمية باسمه عليه الصلاة والسلام فذلك لما جاء فيه من الخير لأنه قد جاء أن مَن اسمه محمد لا يخلو من خير وقد ذكر أنه إذا نودي يوم القيامة باسمه يا محمد فمن سمعه ورفع له رأسه أفلح وسعد وجاءت فيه مما يشبه هذا آثار كثيرة وقد رأيت بعض المباركين وكان عنده شيء من لسان العلم وكان له جملة أولاد وكلهم سماهم محمّداً وما فرق بينهم إلا بالكنى لما سمع من الخير الذي جاء في هذا الاسم المبارك ولمن سَمَّى به ابنه ولذلك ما رأيته وإياهم إلا في خير عظيم - وكان فقيراً وكانت له عائلة كثيرة من غير أن يقصد أحداً أو يخرج عما كان به مشتغلاً عما كان يعنيه من دينه والأولى في هذه الوجوه حمله على ظاهره فإنه أبراً للذمة وأعظم للحرمة والله المرشد للصواب
۱ سورة النساء من الآية ۸۰
رواه عبد الرزاق والإمام أحمد والشيخان والدارمي وأبو داود وابن ماجه والطبراني وأبو نعيم والبغوي من حديث السيدة صفية رضي الله عنها كما رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ونص الحديث عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي الا الله و أخبرته أنها جاءت رسول الله لا تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ثم قامت تنقلب فقام معها رسول الله له له له حتى إذا بلغ باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي الله دوم بهما رجلان من الأنصار فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا فقال لهما رسول الله الله على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي قالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ذلك فقال رسول الله الله و إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً - أو قال شرا -
وفي لفظ سوءا
۳ كذا دون جزم
١٣٥٣
وقوله صلى الله عليه وسلم من راني في المنام فقد راني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي فقد
اختلف العلماء في هذا فمنهم من قال إن الصورة التي لا يتمثل الشيطان عليها هي الصفة التي توفي عليها حتى قالوا وتكون في لحيته عدة تلك الشعرات البيض التي كانت فيها وقال بعضهم وحتى تكون رؤياه له في دار الخيزران وهذا تحكم على عموم الحديث وتضييق للرحمة
الواسعة
ومنهم من قال إن الشيطان لا يتصور على صورته عليه الصلاة والسلام أصلاً جملة كافية فمن راه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي ومن راه على صورة غير حسنة فرؤياه حق وذلك القبح في دين الرائي وإن كان في جارحة من جوارحه شين فتلك الجارحة من الرائي فيها خلل من جهة الدين وهذا هو الحق
وقد جرب هذا فوجد على هذا الأسلوب سواء بسواء لم ينكر وبهذا تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه عليه الصلاة والسلام حتى يتبين للرائي هل عنده خلل في دينه أم لا لأنه نوري فهو مثل المرأة الصقيلة ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها ولا شين
وكذلك ذكروا في كلامه عليه الصلاة والسلام في النوم أنه يُعرَض على سنته عليه الصلاة والسلام فما وافقها مما سمعه الرائي فهو حق وما خالفها فالخلل في سمع الرائي فإنه ما ينطق عن الهوى ۱ ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فتكون رؤيا الذات المباركة حقاً ويكون الخلل قد وقع في سمع الرائي وهو الحق الذي لا شك فيه
وهنا تنبيه وهو هل تحمل الخواطر التي تخطر لأرباب القلوب بتمثيله في بعض المخاطبات التي يخاطبون على لسانه عليه الصلاة والسلام وتتشكل صورته المباركة في عالم أسرارهم في بعض المحاضرات والمحادثات التي من عادة طريقهم المباركة على أنها مثل رؤيا المنام فتكون حقاً أم لا
فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن خواطر أرباب القلوب حق بحسب ما دلّت عليه الأدلة الشرعية وأنها أصدق من مرائي غيرهم لما من عليهم من تنويرها وبركتها دون إشارة من قبله رؤياه من مبارك وغيره حق فكيف بهما إذا اجتمعا فذلك في صدقه وقد بينا الدليل على تصديق خواطر الرجال من الكتاب والسنة في غير ما موضع من الكتاب فإذا اجتمع ما ذكرنا من تشكل صورته
۱ مقتبس من الآية القرانية الثالثة في سورة النجم وما ينطق عن الهوى بزيادة الواو في أول الآية الكريمة سورة النساء من الاية ۸
١٣٥٤
المباركة أو كلامه المبارك لأولئك المباركين وقد اجتمع على تصديق ذلك أدلة الكتاب والسنة وكفى في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام إن الشيطان لا يتمثل على صورتي لأنه لفظ عام ولأجل حمل العام على عمومه و ما نفاه عليه الصلاة والسلام من طريق الباطل الذي هو طريق الشيطان وتخيلاته لم يبق إلا أن يكون حقاً قطعاً لكن بالشرط المتقدم وهو أن تعرض على كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فما وافق أُمْضِي وإلا فلا
وقوله فليتبوأ مقعده من النار أي فلينزل مقعده من النار لأن التَّبَؤُءَ هو النزول لقوله عزّ
وجل وَإِذْ بَوَأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ۱ أي جعلناه له منزلاً
وهنا بحث وهو أنه قد علم بأدلة الشرع أن الكذب من الكبائر وقد جاء فيه من الوعيد العظيم ما تقدم ذكره في الأحاديث قبل فهل لإخباره لالا لاله ها هنا عن الكذب عليه خصوصاً بهذه الصيغة زيادة فائدة أو إنما أخبر أن الكذب عليها من جملة الكذب المحرم الذي لا يمكن فيه التأويل ولا يقبل التعليل ولا التوجيه لما تقدم الكلام على الكذب في الأحاديث قبل ووجهنا ما قال فيه العلماء فإذا هو على خمسة وجوه ـ كما هو مذكور هناك - فيكون الكذب عليه الله من أحد الأقسام الخمسة وهذا القسم الذي هو منها محرم بالنص والإجماع ولا يدخل فيه ذلك التقسيم بالجملة وأن صاحبه يعذب العذاب الأليم احتمل أن يكون بمنزلة هذا النوع المذكورة وزيادة
فائدة أخرى وهي أن الذي يكذب عليه الا الله و متعمداً لا بدَّ له من دخول النار بخلاف غيره من الكذابين فقد يأتي الله بمن يشفع فيه وقد يتوب أو قد يتداركه الله تعالى بنوع من أنواع الرحمة يؤخذ ذلك من قوة قوله عليه الصلاة والسلام فليتبوأ فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول فليقعد مقعده من النار فلا محيص له منها وبهذا تظهر الفائدة في الفرق بين الكذب عليه من الكذب على غيره والله أعلم
ومن جهة التعليل يقوى هذا التوجيه لأن الكذب عليه الا الله ويقع به الخلل في الدين وتغيير الأحكام وهذا كفر بلا خلاف وإن لم يستحله ومن كفَرَ فلا محيص له من النار بخلاف غيره من الكبائر والآثام فإن صاحبها في المشيئة
وبقي بحث في توبته هل تصح أم لا فهي - والله أعلم - على ضربين لا يخلو ما كَذَب به عليه أن يكون قد ترتبت عليه أحكام أو لا فإن كان ترتبت عليه أحكام فهل يمكنه ردّها وقطع تلك المادة بالجملة الكافية أو لا يمكنه ذلك فإن لم يترتب عليه أحكام أو ترتبت عليه وقدر
1 سورة الحج من الآية ٢٦
١٣٥٥
على قطع تلك المادة الفاسدة بالجملة الكافية فعل ذلك وصدق مع الله تعالى في توبته رجيت له العموم قوله صلى الله عليه وسلم التوبة تَجُبْ ما قبلها ۱ وإن كان لا يمكنه تلافي ذلك خيف عليه من عدم القبول لنقص شروط التوبة فإن من شروطها ردّ المظالم لأن أولئك المساكين الذين بلغت لهم تلك الأحكام الفاسدة وعملوا عليها فقد ظلمهم ظلماً كثيراً
وقد جاء أن مولانا سبحانه يقول يوم القيامة لصاحب البدعة هب أغفر لك فيما بيني وبينك فالذين أضللت كيف أفعل بهم أو كما ورد معناه أي لا أترك لك حقوقهم واخذك بها فإذا كان هذا لصاحب البدعة فكيف بمن كذب عليه لا اله الله وغير بذلك أحكام شريعته من باب أحرى وأولى ومن هذا الباب وصية بعض أهل التحقيق اتَّضِع لا ترتفع اتَّبِع لا تبتدع من تورع لم يتسع ومما يشبه وصية الآخر بقوله عليك بالسنة والسنن تفز بالأجر وغنيمة الدارين مَنَّ الله علينا بذلك بمنه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحديث الإسلام يجب ما قبله ولم نعثر على ما جاء به المؤلف رحمه الله
١٣٥٦
٢٥٢ ـ
حديث النَّفي التسمي بملك الملوك
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله أَخنَعُ الأسماء عِندَ الله يَومَ القيامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأملاكِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على أن أخس الأسماء وأرذلها عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك والكلام عليه من وجوه
منها هل هذا التحقير للاسم منه يلحق للذي 1 تسمّى به شيء خلاف هذا أم لا ومنها هل هذا لعلة أو لغير علة فإن كان لعلة فهل نَطْرُدُ الحكم حيث وجدنا العلة أو لا وما الحكمة في قوله يوم القيامة
فأما قولنا هل يلحق للمسمَّى بهذا الاسم زيادة على تحقير الاسم أو لا فنقول إنما جعل ترفيع الأسماء يوم القيامة للدلالة على ترفيع أهلها وما لهم في ذلك اليوم من الخير والسرور وكذلك ضده دال على ضده لأن ذلك يوم حق ليس فيه مجاز ولا تلبيس
وأما قولنا هل ذلك لعلّة أو لا فإن قلنا تعبُّد فلا بحث وإن قلنا لعلة فما هي فنقول والله أعلم لتشبهه باسم من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى لأن هذا الاسم لا يكون حقيقة إلا الله سبحانه وتعالى فإن كانت العلة ما ذكرنا فيجوز تعدي الحكم مثل أن يتسمّى بـ سلطان السلاطين وكذلك قاضي القضاة وإن كانت العلة بهذا الاسم - أعني قاضي القضاة ۳ - قد
تقدمت بسنين لا سيما في جهة المشرق
1 كذا بزيادة اللام مع المفعول للتقوية سورة الشورى من الآية ۱۱
۳ قاضي
القضاة هو
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري صاحب أبي حنيفة وهو أول من دعي قاضي القضاة وكان يقال له احترازا من الإنكار قاضي قضاة الدنيا توفي سنة ۱۸هـ
١٣٥٧
وقد ذكر عن الثوري ١ من أهل التحقيق أنه جاء يزوره من كان يتسمى بهذا الاسم في زمانه
سمع
فلما دخل عليه قال له بعض من جاء معه هذا قاضي القضاة وكان معهم قاعداً منبسطاً فلما کلامه قام دهشاً مسرعاً وهو يقول هذا قاضي القضاة فهذا يوم الفصل والقضاء فأين الميزان فأين الصراط وجعل يعدد من أحوال يوم القيامة ما شاء الله تعالى فحصل من كلامه في النفوس
حال عجيب
وقد حدثني بعض من لقيته من السادة أن دولة الموحدين - وكانت دار مملكتهم في غرب العدوة مراكش - أن القاضي الذي كان يتولى بها كان يدعى بقاضي الجماعة لأن الفقهاء إذ ذاك كانوا هناك متوافرين وكان الغالب عليهم الدين فلم يأخذوا من الأسماء وجميع الأشياء إلا الذي ليس فيه شيء من المكروه ولا يحتاجون فيه إلى شيء من التأويل وهذه طريقة السلف رضي الله عنهم ولم يسمع هذا الاسم في السلف الصالح أيضاً فنعوذ بالله من قلة الاهتمام بأمور الدين
والتهاون به
وأما قولنا ما الحكمة في قوله يوم القيامة فلأنه يوم تظهر فيه الأمور على ما هي عليه حقيقة ليس فيها زغل ولا عناد ولا تجاوز إلا حقائق ظاهرة وهذه الدار فيها التلويثات والاختلاطات وقد يكون ظاهر الأمر يوافق باطنه أو الضد وفي تلك الأعمال على إبراز الضمائر وتحقيق الحقائق هُنَالِكَ تَبلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ٢
وفيه تنبيه على أن الأدب في الدين مطلوب جداً يؤخذ ذلك من كونه لما تسمّى هذا المسكين بهذا الاسم وهو محتمل إن أراد ملك ملوك الأرض وكان ذلك ملكاً له واحتمل أن تسمّى به اختياراً مثلما تسمى بعض نساء العرب وغيرهن في الوقت وقبل هذا الوقت بِسِتّ العرب والناس أجمعين يعلمون أن ذلك ليس بحقيقة وكما يسمّى بعض الناس بسيد الناس وهذا مقطوع أيضاً أنه ليس كذلك وهذا الاسم أيضاً يدخله المنع بالتعليل المتقدم وما هو في معناه لأن العلة فيه موجودة لكن غفلات توالت وعوائد سوء اتخذت مضى الأمر عليها على من قدّر عليه بما قدر واحتمل أن يكون تسمّى بذلك تمرُّداً وتجبراً
۱ الثوري سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري من بني ثور بن عبد مناة من مضر أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث كان سيد زمانه في علوم الدين والتقوى ولد ونشأ في الكوفة وراوده المنصور على أن يلي الحكم فأبى وخرج من الكوفة فسكن مكة والمدينة ثم طلبه المهدي فتوارى وانتقل إلى البصرة ومات مستخفياً له من الكتب الجامع الكبير والجامع الصغير وكلاهما في الحديث وكتاب في الفرائض توفي سنة ١٦١ هـ الأعلام ١٥٨/٣
سورة يونس من الاية ۳۰
١٣٥٨
لكن ليس في الحديث ما يدل على واحد من هذه خصوصاً فالكل محتمل والمحتمل ينبغي
أن تبقى كل محتملاته لا سيما في مواضع الخوف لكن صيغة اللفظ في الحديث العموم لأنه قال تسمّى فيكون معناه تسمّى بهذا الاسم على أي وجه وقع هذا الاسم فصاحبه بتلك الحالة الذميمة والخزي العظيم فبهذا يزداد الحض على طلب الأدب في الدين
وفيه إرشاد إلى علم السنة وإيثاره على غيره لأن هذا وأمثاله وهي مواضع عديدة وقد نبهنا عليها في مواضع من الكتاب لا تعلم إلا من طريق علم السنة والاهتمام به وقد غفل عن ذلك كثير من الناس وأوقعهم ذلك في المهالك وهم لا يعلمون وتكون حالهم كما أخبر تعالى في كتابه وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعًا ١ فمنهم من جهله جملة واحدة ومنهم من اشتغل به وكان علمه
كأن لا علم لأثَرَةِ غيره عليه ويجعل ذلك نبلاً وكَيْساً وهو غَيٌّ وحرمان أعاذنا الله من ذلك بمنّه ولذلك كانت وصية من لقيته من أهل التوفيق بالعلم والسنة أن يقول الرجل لا يكون الرجل رجلاً حتى يكون محاسباً مراقباً فكنت أقول له ما معنى قولكم محاسباً مراقباً فكان جوابه على ذلك أن يقول محاسباً يحاسب نفسه في هذه الدار لقوله صلى الله عليه وسلم حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ٢ فإن رأى على نفسه دركاً أخذ في خلاصها ومراقباً يجعل قلبه أمام رأيه فإن خطر له قول أو فعل نظره بلسان العلم فإن كان جائزاً فعل أو قال وإن كان ممنوعاً أو مكروهاً أمسك لأن ترك الذنب أولى من طلب المغفرة وإلا كان كتاجر ينفق ولا يعلم فيصبح وقد أفلس وإن لم يعرف ذلك الذي خطر له من أي الوجوه هو توقف حتى يسأل أهل العلم الذين هم على السنة واتباع السنن فإن المؤمن وقاف
جعلنا الله من المؤمنين حقاً الملطوف بهم بمنه لا ربَّ سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الكهف من الآية ١٠٤
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية أخرجه ابن المبارك وابن منصور وابن أبي شيبة و الإمام أحمد في الزهد وابن أبي
الدنيا عن عمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً
١٣٥٩
- ١ ٢٥٣
حديث من السنة تشميت العاطس بعد حمد
عَن أَنَسِ بنِ مالك رضيَ الله عَنهُ يَقولُ عَطَسَ رَجُلانِ عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فشَمَّتَ أحَدَهُما وَلَم يُشَمِّتِ الآخرَ فَقالَ الرَّجُلُ يا رَسُولَ الله شَمَّتَ هَذا وَلَم تُشمِّتني قالَ إِنَّ هَذا حَمِدَ الله وَأَنتَ لَم تَحمَدهُ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة أنه لا يُسمَّت العاطس حتى يحمد الله تعالى ومن عطس ولم يحمد الله تعالى فلا يشمت والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل التشميت للعاطس واجب أو مندوب ومنها كيف صفة التشميت وما معناه ومنها هل هذا مطلقاً في كل مرة وإن تكرر هذا من العاطس مراراً أو له حدّ محدود ومنها هل هذا لكل عاطس كان مؤمناً أو كافراً أو هذا خاص بالمؤمنين
أما قولنا هل هو على الوجوب أو الندب فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال فمنهم من يقول إنه فرض على كل من سمعه وهم أهل الظاهر ومن علمائنا من وافقهم على ذلك ومنهم من قال هو ندب وإرشاد ومنهم من قال هو واجب على الكفاية كرد السلام وهم جمهور أهل السنة
وأما قولنا كيف صفة التشميت فقد جاءت صفته نقلا عن النبي لأنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وإذا قال الحمد لله فلْيُقَل له يرحمك الله ويردّ عليه يغفر الله لنا ولكم أو كما قال عليه الصلاة والسلام وفي رواية يردّ عليه بقوله يهديكم الله ويصلح بالكم ۱ ومنهم من قال هو بالخيار لأن اللفظين قد رُويا عن النبي
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٣٦٠
فبأيهما ردّ فقد وافق السنة ومنهم من استحب أن يجمع بينهما حتى يكون أجمع للخير وخروجاً عن الخلاف وهو الأحسن والله أعلم وقد جاء بدلَ التشميت بالسِّين المهملة ١ وأما قولنا ما معنى التشميت فهو بمعنى أبعد الله عنك الشماتة وجنّبك ما يشمت به
عليك وأما معنى التسميت فهو بمعنى جعلك الله على سَمتِ حَسَن هذا قول أئمتنا وأما قولنا هل هذا مطلقاً في كل مرة وإن تكرر العطاس من العاطس في الوقت مراراً فالذي عليه الجمهور أن الحد فيه إلى الثالثة أو الرابعة لأنه جاء عنه أنه قال إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فقولوا له عافاك الله فإنه مضنوك ٢ أو كما قال عليه السلام قال راوي الحديث لا أدري هل بعد الثالثة أو بعد الرابعة قال فإنه مضنوك فمن أجل الشك الذي روي عن راوي الحديث وقع الخلاف
وأما قولنا هل هذا أمر عام كان العاطس مؤمناً أو كافراً أو هو للمؤمن لا غير لا أعرف خلافاً أن التشميت عام للمؤمن والكافر غير أن في الكيفية في ذلك وقعت التفرقة بين المؤمن والكافر لأن الكيفية في تشميت المؤمن كما تقدم الكلام عليها وأما الكافر فيقال له يهديكم الله ويُصلِحُ بالكم وهذه الصفة التي رويت عن النبي الا الله في تسميته أهل الكتاب لأن اليهود كانوا يستعملون العطاس بين يديه الا الله ما جاء في دعائه وتشميته بـ يهديكم الله ويُصلح بالكم
الخلاف
وبقي بين العلماء إذا عطس العاطس فحمد الله فسمعه بعض الحاضرين ولم يسمعه الغير هل۳ يجب على من لم يسمعه حين حمد الله وقد سمع الذي شمَّتَه هل يشمته هو
تابعاً لذلك أم لا قولان
وفيه دليل على جواز طلب المفضول من الفاضل علة الحكم وبيانها يؤخذ ذلك من قوله يا
رسول الله شمَّنَّ هذا ولم تشمتني وفيه بحث وهو ما الحكمة بأن جعل في العطاس هذه الأحكام المذكورة فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فاعلم أنه لم يختلف أحد ممن له معرفة بطب الأبدان وأدوائها أن العطاس فيه منفعة للعاطس وأنه إذهاب داء قد يكون في رأسه فعلى هذا فهو من جملة النعم وقد تقرر في قواعد الشرع أنه مما استعبدنا به الشكرُ على النعم وأعلى الشكر هو
۱ يعني - التسميت بدل التشميت رواه أبو داود وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه وسنده حسن بلفظ إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمت بعد ثلاث
۳ كذا بحذف الفاء الرابطة للجواب
١٣٦١
الحمد فأمرنا بذلك فأنتجت بالوعد الجميل مزيد النعماء وهو الدعاء بالخير إثر الحمد لأن الله عزّ وجلَّ يقول في كتابه لَن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فتأكدت النعمة بمزيد الدعاء له من السامعين لعطسه ثم تأكدت الرحمة بالدعاء من العاطس لأخيه الذي شمته ولنفسه إن شاء
الله
وفيه تنبيه يدل على لطف المولى سبحانه بعبيده وهو أن جَعَل المزيد هنا بعد الحمد واجباً مشروعاً ولم يترك ذلك لاختيار أحد من عباده ولا غائباً عنا حتى لا نعلم هل قبل منا فزيد لنا ولا ما هي الزيادة أيضاً حتى يحصل العلم بها ولا ما هو قدر الزيادة ولا ما هو جنسها فشرعت لنا تلك الألفات الدالة على الخير العميم لمن فهم معانيها وتدبَّرها لأنه إذا قلنا إن التشميت واجب كما تقدم - وهو الذي عليه الجمهور - فإذا فعل المكلف الواجب الذي عليه بشروطه رجي له القبول فهذا قد دعا للعاطس بالخير امتثالاً لما به أمر فهذا دعاء مرجوّ قبوله
فلما كان الأمر على هذا الخير العظيم أمر العاطس أن يدعو للذي أُجري له على يديه مزيد لدعائه له بالخير وأن يدعو هو أيضاً له بالخير حتى تكون رحمته عزَّ وجلَّ عامة بعباده إذ ذاك وكان الرجاء في قبول الدعاء الثاني مثل الأول سواء
ويترتب على هذا من الإرشاد أنه إذا استشعر أحد من العبيد موطناً يكون فيه خير أو رجاء من وجه من وجوه الخير أن يكثر فيه بالدعاء لنفسه ولوالديه وأقاربه وأصحابه وإخوانه المؤمنين فإن الله نفحات إذا وجدت سَعِد بها عالم كبير جعلنا الله ممن تعرض لها وأصابها وممن أجزل له نصيبه منها بتعرض وبغيره فإنه ولي حميد
وفيه دليل على عظيم النعمة على العاطس يؤخذ ذلك مما ترتب عليه من هذه الأحكام والخير فصارت عَلَماً على ذلك
وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله تعالى ورحمته لأنه عزَّ وجلَّ رحم عبده بأن أذهب عنه ذلك الضرر الذي كان به بنعمة العطاس ثم ثناها بمشروعية الحمد له ثم أتبعها بدعاء خير بعد دعاء خير وهذا كله في لمحة واحدة نِعَم متواليات في أيسر زمان بلا موجب عليه إلا بمجرد الفضل بدءاً منه وبرحمته سبحانه وكذلك الخير المذكور تمامه منه قبوله
تنبيه في أحكام الحديث وفيما أشرنا إليه من التنبيهات وغير ذلك إذا نظرتها بقلب له بصيرة حصل لك به من قوة الإيمان ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة ودخل داخل قلبك ولحمك ودمك من
١٣٦٢
۱ سورة إبراهيم من الآية ٧
وهو أن قال لها كوني فكانت بغير واسطة بيد مخلوقٍ مِن خَلقِه وقد جاء أن فيها من الفواكه والنعم ما له أصل ثابت وما ليس له أصل ثابت مثل الزعفران الذي هو حشيشها وليس له أصل ثابت وأطلق على الكل غراسة
وهذا إذا نظرت من جهة الخير المتعدي النفع فالحبوب التي يكنون عنها بالزراعة أعم فإنها غالب الأقوات وقد كان سهل من فقهاء غرناطة بالأندلس وكان من خير علماء وقته يقول لأصحابه إن الأعمال قد قلت والكسل توالى فأكثروا الزرع لأن تكثر حسناتكم وكانت غرناطة الغالب عليها كثرة زرع الحبوب ويرد عليهم الحديث الذي نحن بسبيله وهذا هو غالب ما تصل إليه جميع الدواب - أعنى الحبوب المزروعة - وهذا أيضاً من طريق كرم المولى سبحانه أولى لأن الكريم إذا تكرم لا يحصر بل يوسع ويفسح
وأما قولنا هل نعني بـ المسلم جنس المسلمين صالحهم وغيره أو المسلم الكامل الإيمان أما الحقيقي فلا خلاف فيه وأما غيره المتخبط في أعماله فمن طريق العدل وميزان العلم إذا نظرنا نجدهم على أنواع مختلفة لأنا لا نقدر أن نقول في تارك الصلاة إن زرعه يكون فيه مأجوراً ونحن نحكم عليه بغير الإسلام وأن حياته مستعارة وأن جزاءه القتل على خلاف هل كفراً أو حداً
وفي غير تارك الصلاة من أهل المعاصي يبقى الخلاف في زرعه وغرسه إذا كان الغرس والزرع على لسان العلم على الخلاف الذي بين العلماء هل تقبل حسناته أو لا تقبل حتى يقلع عن معاصيه والجمهور من أهل السنة على قبول حسناته إذا كانت على ما أمر بها وأنه مؤاخذ بسيئاته إلا أن يتوب أو يتفضل المولى سبحانه عليه بما شاء من أنواع أفضاله ذلك في حكم المشيئة ومن العلماء من يقول إنه لا تقبل حسناته حتى يقلع عن سيئاته وقد تقدم الكلام أول الكتاب على هذا النوع وتوجيه الأقاويل وتعليلها بما فيه الكفاية بفضل الله تعالى
وأما قولنا هل يكون الغرس على أي وجه كان أو على وجه مخصوص فالجواب أن العمل إذا كان مخالفاً للشرع فهو غير مجزي فهذه قاعدة متفق عليها بالكتاب والسنة والإجماع أن الأعمال إذا خالفت الشرع لا تقبل والله أعلم وقد تقدم الكلام على هذا النوع في غير ما موضع من الكتاب وقد قال ليس لعرق ظالم حق فمن ليس له حق كيف يكون فيه مأجوراً
١ كذا ولعله يريد مجزىء
رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضاً مواتاً عن جابر رضي الله ومعنى الحديث ليس لذي عرق ظالم حق أي الظالم من غرس أوزرع أو بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق
من اثنين من الجهة الواحدة يُعلم ذلك من موقع بيتها رضي الله عنها فهو محاط بالمسجد النبوي من جهاته الثلاث وبيوتِ أزواجه الله فلم يبقَ إلا جهةً واحدة يؤخذ ذلك من قولها إن لي جارَينِ
فلو كان العدد فيهم أكثرَ لَذَكَرَت أكثر من الاثنين بالعلم الضروري الذي لا شك فيه أن بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت وسط المدينة وأن الدور في المدينة متصل بعضُها ببعض ولو كان وجه الجيرة ـ كما ذكر عن العلماء - أربعين داراً لكان أكثر أهل المدينة جيرانهم وفي الغالب أنه لا يعلم أحد حفظهم على حد سواء ولكان مندوباً يفضي بصاحبه إلى الضرر والمشاق وهذا - في الدين والحمد الله - قد عوفينا منه وبتعليله بأقربهم باباً يظهر أن حَدَّه هنا ما تضمنه قولها جارين لأنه هو الذي أقرب منها باباً وما عداه أخفض رتبة في الطلب فأوجب ذلك تأكيداً ما
على غيره
وفيه دليل على أن اكد الجهات في الجوار جهة الأبواب لأن الذي هو أقرب منك باباً هو الذي تكثر مشاهدته لك ولكل ما يرد عليك وقد يعلم من حالك لكثرة الملازمة ما لا يعلمه غيره وأنت أيضاً تعلم من حاله كذلك وهذا كله إذا كان الجوار على الشروط المتقدم ذكرها في الحديث قبل وعريت عن الحقوق الزائدة عليها كما تقدم أيضاً
وفيه دليل على أن المندوب إلى حفظ الجار الرجال والنساء فيه سواء يؤخذ ذلك من قولها إلى أيهما أهدي فإنها سألت عما يخصها في ذلك ولو كانت نائبة عنه القالت إلى أيهما
نهدي
تنبيه القرب بأي وجه كان له حرمة ما أما ترى الجار قد جعلت له حرمة من أجل الجوار بالجدار وإن كان كافراً ففيه إرشاد إلى أن تكون لك همة فيها فحولية لعل قربك يكون من النوع الذي لا قطعَ له فإن قرب الكافر بجوار الجدار ينقطع بانقطاع هذه الدار والقرب بمناسبة الطريقة والحال يتأكد حقه في تلك الدار كما جاء في الأثر أنّ عمار المساجد جيران الله ۱ فإذا كانوا جيرانه في هذه الدار فكيف يكون حال حرمتهم في تلك الدار هذه حباً فيهم وشوقاً إليهم يا حُسنَ ما أثنى عليهم مولاهم حيث قال فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تَرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا نَتَقَلَبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَرُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ
۱ أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه بلفظ إن عمار بيوت الله هم أهل الله عزّ وجلَّ
۱۳۳۱
الإلهية وهي في الإنشاء والاختراع خَلقُ الله سبحانه لا خالق إلا هو سبحانه وتعالى علواً كبيراً وما جرى فيهما بغير وساطة أحد من خلقه فذلك منسوب إلى قدرة القادر ليس لليل والنهار في ذلك فعل ولا تأثير لا عقلاً ولا لغةً ولا شرعاً وهو المعني في الحديث والله أعلم وكذلك أيضاً كل ما كان صادراً عن الحيوان غير العاقل فهو مضاف إلى القدرة إذا لم يكن ذلك بِتَسَبَّب العاقل المكلف ولذلك جعل الشارع عليه الصلاة والسلام جرحها جُبَاراً ۱ أي ليس فيه أرْش ولا قود ولا دِيَةٌ ۳ وكذلك الحكم في الجمادات كل ما يكون منها ينسب إلى القدرة أيضاً مثل حائط يقع على أحد أو جبل ينهد عليه أو ثمرة تضر به أو تسقط عليه أو ماء يغرق فيه أو ما يشبه فهذه كلها منسوبة إلى القدرة والسبّ لها سبّ لمصوّرها وظهرت بقدرته وفيه دليل على نفي الأفعال عن غير العاقل المكلف من جماد وحيوان غير عاقل فسبحان أظهر قدرته أين شاء بلا حجاب عليها وحجبها حيث شاء برداء حكمته فجاءت الحكمة شاهدة للقدرة والقدرة شاهدة للحكمة و حِكْمَةُ بَلِمَةٌ فَمَ تُغْنِ النُّذُرُ ٤
وأما قولنا هل يتعدى المنع إلى سبّ غيرهما فاعلم أن كل حكم كان منوطاً بعلة فحيث وجدت العلة فالحكم ثابت لازم فلما علل سبحانه منع سبّ الدهور بأنه سب له عزّ وجلّ لكونه بیده - تعالى عن الجارحة والتحديد - وإنما اليد هنا كناية عن يد القدرة كقوله تعالى خَلَقْتُ بِيَدَى ٥ أي بقدرتي فحيث وجدنا هذه العلة منعنا ويكون ذكر الدهر هنا الذي هو الليل والنهار من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن الليل والنهار من أعظم الآيات والمخلوقات
الدالة على تحقيق الربوبية
ولذلك أشار عزّ وجلّ في كتابه العزيز إلى النظر فيهما بقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاَيَتِ لِأُولِي الْأَلْبَبِ ٦ ويكون النظر في ذلك على التقسيم المتقدم وهو هل تجري تلك الأمور على يد مكلف أو لا فإن كانت على يد مكلف فيكون الإنكار أو الزجر أو البعض أو غير ذلك امتثالاً للأمر لا غير بقدر ما جعل لك في ذلك دون زيادة فيه فتكون متعدياً ولا تنقص منه فتكون غير موفٍ لما به أمرت حكماً عدلاً
۱ الجُبار الهَدَر وهو ما لا قصاص فيه ولا غُرم
الأرش دية الجراح
۳ القود القصاص الدية المال الذي يعطى لولي المقتول بدل نفسه
٤ سورة القمر ٥
5 سورة ص من الآية ٧٥
٦ سورة ال عمران الآية ۱۹۰
١٣٤٧
سنته
حبّ الله تعالى الذي قد أعد لك من هذا الخير العظيم ما لم يكن لك في ظن ولا علم ومن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان معرفة هذا الخير على يديه ما لا يُقدَّر قدره وكذلك الحب في علم سنـ عليه الصلاة والسلام وزيادة ذرة من هذا خير من قناطير مقنطرة من الأعمال المقبولة بلا خلاف في ذلك بين أحد من علماء أهل التوفيق والاتباع للسنة والسنن
أعاد الله علينا من بركاتهم وجعلنا لأنعمه من الشاكرين بمنه وكرمه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٣٦٣
وفقنا الله وإياك - أن حسن النية في الأعمال لا يكون شيء خيراً منها لقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات ۱ ولقوله عليه السلام أوقع الله أجره على قدر نيته
وإنما قال سيدنا إن هذا سيد الاستغفار في الذين تساوت نياتهم وأحوالهم فإذا تساوت النيات والأحوال ففي كل نوع منها الذي يستغفر بهذا الاستغفار فاستغفاره سيد نوعه وكذلك جميع التعبدات من فرض ونفل وغيره من التفضيل في كل نوع منه بوجهين إما بما وضع له من حده وإما بحسب نيات الفاعلين له وأحوالهم وبحسب اختلافهم في ذلك
ومن أجل ذلك قال فى الصلاة المفروضة التي هي في الدين بمنزلة الرأس من الجسد ۳ إنه يكتب له نصفها ثلثها ربعها عُشرها ٤ وفي لفظ آخر ومنهم من تُطوى كالثوب الخَلَق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول له ضيعتني ضيعك الله ٥ أو كما قال عليه السلام فدخل المسكين في الصلاة لأن يأتي ٦ بخير العبادات فانعكس عليه الأمر من أجل سوء حاله هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ﴾ ٧
﴿ عِندِاً
وأما قولنا هل المستغفر بهذا الاستغفار يفضل الذي يستغفر بغيره في الأزمنة المرغب في الاستغفار فيها أم لا فالجواب على هذا كالجواب على النية وحسنها لأن تلك الفضيلة التي جعلت في الزمان لا تقاس بفضيلة الألفاظ والنيات وإنما هذا سيد الاستغفار إذا تساوت المراتب من كل الوجوه
وإلا إذا ۸ كان هذا قد استغفر بغير هذا الاستغفار في الأسحار مثلاً فقد حصل له فضيلة السحر في استغفاره لقول مولانا جلّ جلاله وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۹ واستغفر شخص ﴾
1 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن عن عمر رضي الله عنه
قطعة من حديث أخرجه الإمام مالك في الجنائز ٣٦ والنسائي في الجنائز ١٤ والإمام أحمد ٤٤٦/٥ 3 أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
٤ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما بلفظ إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها ربعها ثلثها نصفها ٥ أخرجه أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بلفظ إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة حفظك الله كما حفظتني فترفع وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها وسجودها قالت
الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه
كذا بإظهار أن المضمرة ۷ سورة آل عمران من الآية ۱٦٥
E3
^
كذا والصواب فإذا
۹ سورة الذاريات من الآية ۱۸
۱۳۷۹
٢٥٤ -
حديث التشهد المشروع في الصلاة
عَن عَبدِ الله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عَنهُ قالَ كُنَّا إِذا صَلَّينا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قلنا السَّلاَمُ على الله قبل عِبادِهِ السَّلامُ عَلى جِبريلَ السَّلامُ عَلى ميكائيل السَّلامُ عَلى فُلانٍ فَلمَّا انصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجهِهِ فَقالَ إِنَّ الله هُوَ السَّلامُ فَإذا جَلَسَ أحَدُكُم في الصَّلاةِ فَلْيقُل التَّحِيَّاتُ الله وَالصَّلواتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحمةُ الله وَبَرَكاتُهُ السَّلامُ عَلَينا وَعَلَى عِبادِ الله الصَّالحين - فَإِنَّهُ إذا قالَ ذَلِكَ أصابَ كُلَّ عَبدٍ صالح في السَّماءِ وَالأَرضِ - أشهَدُ أن لا إله إلا الله وأشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَعدُ مِنَ الكَلامِ
ما شَاءَ
ظاهر الحديث يدل على أن هذا التشهد المذكور في الحديث هو المشروع في الصلاة
والكلام عليه من وجوه
منها هل يجزىء خلاف هذه الصيغة أم لا ومنها هل هو سنة أو فرض ومنها الكلام على معاني تلك الألفاظ
فأما قولنا هل يجزىء خلاف هذه الصيغة فاعلم أنه لا يجزىء إلا ما جاء فيها من اختلاف عض ألفاظها في بعض الروايات فمنها ما جاء من طريق عائشة رضي الله عنها وهو قولها التحياتُ الطيبات الصلواتُ الزاكياتُ الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدتُ أن لا إلهَ إلا الله شهدت أن محمداً رسولُ الله
ومنها ما جاء من تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي علّمه الناس على المنبر والصحابة رضي الله عنهم متوافرون وهو التحيات الله الزاكيات الله الطيبات الله الصلوات الله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله
١٣٦٤
إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومنها ما جاء من تشهد ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما والمعنى في الكل واحد غير أن في بعض الألفاظ اختلافاً وكلها في الصحيح وبأيها تشهد أجزأ بلا خلاف أعرفه بين أحد من العلماء خلفاً عن سلف
وأما قولنا هل هو سنة أو فرض فالجمهور على أنه سنة إلا ما روي عن الشافعي أن الصلاة على النبي فيه فرض
وأما الكلام على معاني الألفاظ فقوله التحيات لله جمع تحية والتحية هي السلام فالسلام كله على اختلاف أنواعه وصيغه هو الله تعالى أي مضاف إليه لأن من أسمائه سبحانه السلام فكل ما كان مشتقاً من هذا الاسم فهو له ومضاف إليه
وقوله والصلوات هي جمع صلاة وفي اللغة معناها الدعاء والدعاء منه تتابع الرحمة والرحمة منه كدعائه لأبي أوفى حين أتاه ابنه بصدقته فقال اللهم صلّ على آل أبي أوفى وارحمهم وعطفها على التحيات فاستغنى بذلك عن إعادة ذكر الله تعالى والصلاة من الله سبحانه وتعالى رحمة لعباده ومن أسمائه عزَّ وجلّ الرحمن فكل ما كان مشتقاً من هذا الاسم فهو له ومضاف إليه
وقوله والطيبات جمع طيّب والطيب كله على اختلاف صيغه وأنواعه الله ومضاف إليه سبحانه وعطفه على التحيات لله فاستغنى بذلك عن إعادة ذكر الله تعالى وهو من فصيح الكلام
وقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام معناه الأمان وبركاته خيراته
وأمره عليه السلام لهم بالدعاء له هنا هو في حقهم لأن من أكبر القُرَب إلى الله سبحانه الصلاة عليه والدعاء له وإن كان هو عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله وفضله غير إلى دعائنا لكن ذلك رحمة في حقنا ألا ترى إلى ما جاء من الخير لمن قال في دعائه آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ۱ وهذا أمر قد منّ الله به عليه حتماً لا تبديل فيه فالفائدة في ذلك للذي يدعو به حتى تكون بركته و تعود على أمته في كل الأحوال
وقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض السلام معناه الأمان - كما تقدم - فكأنه يدعو بالأمان لنفسه ولكل عبد صالح في
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه وتمامه من قال إذا النداء اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ات محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له الشفاعة يوم القيامة
١٣٦٥
السماء والأرض ومن جعل له الأمان من الله فقد حصل له جميع الخير من الله علينا بذلك بمنه وفيه تنبيه منه ل لنا على اتباع طريق الصالحين لأنه إذا كنت منهم فجميع المصلين في كل صلاة يدعون لك بالأمان والخير فذلك خير من أضعاف أضعاف عملك بما لا يعلم قدره إلا الذي من به عليهم وفيه دليل على أن الملائكة والصالحين من المؤمنين لا يفضل أحدهما الآخر لأن العلماء اختلفوا فيمن أفضل هل الملائكة أو الصالحون من بني آدم على قولين والنص منه الله هنا يعطي أن لا تفضيل بينهما لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما ذكر أول الحديث يسلمون على الله قبل عباده ثم على جبريل وميكائيل ثم على فلان فقال هو عند ما علمهم كيفية التشهد إذا قال المصلي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض فجمع فيه بين الملائكة لأنهم سكان السماء وبين بني آدم الصالحين بلا تقديم ولا تفضيل وقوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ختمه بأرفع الكلام وعماد كلمة الإخلاص وتصديق رسالته ل ل ا ل ثم أباح لنا الزيادة على ذلك مما هو يناسبه لأن ذلك معروف عند العرب يؤخذ ذلك من قوله ثم يتخير بعد من الكلام ما شاء على نحو ما أشرنا إليه
الدين وهي
وفيه دليل على أن أول ما فرضت الصلاة لم يكن التشهد من مشروعيتها لا فرضاً ولا سنةً يؤخذ ذلك من قول عبد الله كنا إذا صلينا مع النبيل نقول السلام على الله قبل عباده فدل على أنهم بَقُوا على ذلك زماناً حتى إلى ۱ اليوم الذي سمع النبي فنهاهم عن ذلك وأمرهم بما ذكر
بعد
لا لا
وبقي هنا بحث وهو أن يقال لم نهاهم عن أن يقولوا السلام على الله قبل عباده ثم أمرهم أن يقولوا التحيات وهي جمع تحية والتحية هي السلام كما تقدم والانفصال عنه أن السلام هو الأمان فلما قالوا هم السلام على الله فليس على الله خوف من أحد ولا يقدر أحد على ضره ولا نفعه كما جاء في حديث مسلم وغيره إن يريدوا ضري لم يقدروا وكذلك نَفعُه سبحانه فنهاهم عن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى منه يُطلب الأمان وهو الذي يؤمن وهو الذي يخوف ومنه الخوف وفيه الرجاء فأمرهم عليه السلام أن يأتوا الأمر على بابه ويطلبوا الأمان منه عزّ وجلّ ويعترفوا له سبحانه بأنه هو السلام وهو الذي يعطي السلام وإليه يضاف حقيقة وإن كان يضاف إلى غيره في بعض الأماكن فهو مجاز أو لوجه ما من طريق ما اقتضته
الحكمة الربانية فجزاه الله عنا من معلم خيراً
۱ كذا بزيادة إلى بعد حتى
١٣٦٦
وفيه دليل على أن ما كان من زيادة ذكر أو دعاء في الصلاة لا يفسدها يؤخذ ذلك من أن النبي لم يأمرهم بإعادة الصلاة التي تقدمت لهم وهم كانوا يذكرون فيها ما نهاهم عنه كما هو في الحديث
وفيه دليل على أنه إذا كان القلب متعلقاً بفعل خير والمرء في الصلاة أن ذلك لا يفسد صلاته إذا لم يكن يستولي على القلب حتى يخل ببعض أركانها يؤخذ ذلك من أنه لما سمع سيدنا مقالتهم وهو في الصلاة بقي خاطره المكرم متعلقاً بمقالتهم لأنه عليه السلام عندما سلّم من الصلاة كلّمهم - كما هو نص الحديث - فدل على أن ذلك بقي مستصحباً إلى حين فراغه عليه السلام من الصلاة فكلمهم فيه
فإن استولى على القلب شغل بتلك الطاعة حتى أخلّ بركن من أركان الصلاة أعاد الصلاة كما فعل عمر رضي الله عنه حين صلى صلاة الصبح بالصحابة رضوان الله عليهم فلم يقرأ فيها فلما فرغ منها قيل له في ذلك فقال إني جهزت جيشاً إلى الشام وأنا في الصلاة وأنزلتهم منازلهم - ثم أعاد الصلاة
وفيه دليل على أن أفضل الأعمال تعليم دين الله تعالى يؤخذ ذلك من كونه لال لم يفعل إثر الصلاة إلا أن أخذ في تعليمهم ولم يشتغل بِتَسْبِيحِ ولا غيره فدل ذلك على فضيلته وقد جاء أنه من صلى الفريضة وقعد يعلّم الخير نودي في ملكوت السموات عظيماً
وفيه دليل على أن السيد انا الله أن يشرع من الأحكام ما يظهر له دون وحي ويلزمنا امتثاله يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لما علمهم التشهد لم يذكر أن ذلك كان بوحي ولو كان بوحي ذكره كما فعل عليه السلام في غير ما موضع على ما هو منصوص عنه الله
وفيه دليل على فضيلة الصحابة رضوان الله عليهم يؤخذ ذلك من أنهم تلقوا هذه الأحكام
عنه ل ونقلوها لنا فهذه منزلة لا يشاركهم فيها أحد
وفيه نكتة صوفية وهي إذا كان جميع الخير والطيب له سبحانه فلم يبق للعبد إلا الفقر دائماً واللجأ دائماً والاحتياج إليه سبحانه دائماً فانظر كيف تقول ذلك في كل صلاتك ثم تدعو عند فراغك بكثير من الأشياء حساً ومعنى وتضيفها إلى نفسك حقيقة يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ ۱ فلو جعلت حالك مثل مقالك لكنت من الأبرار لكن كثافة الران فسد به الحال وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الصف و ۳
الران الصدأ والحجاب الكثيف وما غطى على القلب ورَكِبَه من القسوة للذنب بعد الذنب ومثله الرَّيْن
١٣٦٧
- ٢٥٥-
حديث أنواع الزنى وما كُتِب على العبد منه لا بدّ من نفاذه
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ عَن النَّب لاله ها قالَ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ عَلى ابنِ آدمَ حَقَّهُ مِنَ الزِّني أدرَكَ ذلِكَ لا مَحالَة فَزِنى العَينِ النَّظرُ وَزِنى اللَّسَانِ النُّطقُ والنَّفْسُ تَتمَنَّى ذلك وتشتهي وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِكَ أو يُكَذِّبُهُ
*
ظاهر الحديث يدل على الإخبار بأن من كتب الله عليه من بني آدم شيئاً من الزني لا بد أن يفعله ولو تحرز بما عسى أن يتحرز والكلام عليه من وجوه
منها أنه قسم الزنى على قسمين زنى الفرج وهو الزنى الحقيقي وهو الذي يوجـ الحد وزنى العين بالنظر واللسان بالكلام وهو الذي يدخل تحت حدّ اللّمَم - على قول بعض العلماء - لأنهم قالوا ما دون الوَطْء فهو اللَّمَم ويستشهدون بقوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَر الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَم ۱ ومصداق ذلك من الحديث نفسه قوله عليه السلام والفَرْج يصدّق ﴾ ذلك أو يكذبه فإذا كذبه الفرج فلا زنى
وبقي فيه سؤال وهو أن يقال ذكره العين واللسان هل ذلك الزنى مقصور على هاتين الجارحتين أو ذكر هاتين الجارحتين من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى الظاهر أنه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن لكل جارحة زنى وهو خروجها في تصرفها عما شرع لها فإن اليد لما لمست ما لم يَجُز لها فقد زنت وكذلك الأذن إذا سمعت ما لا يجوز لها فقد زنت وكذلك الأنف إذا شم ما لا يجوز له فقد زنى وكذلك الرّجل إذا مشت إلى ما لا يجوز لها فقد زنت وكذلك جميع الحواس فزنى كل جارحة بحسب خروجها عما شرع لها لكن لا تخلو كل جارحة من الجوارح أن يكون خروجها عما شُرع لها مما هو من أسباب النكاح وأدواته أو من غير ذلك فإن
1 سورة النجم من الآية ۳
T
١٣٦٨
كان مما هو من أسباب النكاح وأدواته فهو الذي يكون الفرج يصدقه أو يكذبه وهو الذي أشار إليه سيدنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي نحن بسبيله وإن كان خروجها عما شُرع لها لا يمكن أن تكون تلك المخالفة إلا منها وهي التي تحققها إن كانت لها مشاركة مع غيرها من الجوارح فيها أو تكذبها فليس من هذا الحديث الذي نحن بسبيله ولها حكمها المنصوص عليه في موضعه مثال ذلك الغيبة التي هي مختصة باللسان وهي من الكبائر بلا خلاف لقوله صلى الله عليه وسلم الربا اثنان وسبعون باباً أدناه مثل أن يطأ الرجل أمه وإن أربى الرّبا استطالة لسان المسلم في عرض أخيه فمن وقع في الغيبة بلسانه فقد تحقق عليه إثم الغيبة ولا يحتاج في ذلك لجارحة أخرى تصدقه أو تكذبه وعلى هذا النوع فانظر جارحة جارحة تجد القاعدة مطردة والحكم فيها واحداً وقوله صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك لا محالة لا يختص هذا بالزنى وحده بل كذلك حكم الله في جميع أنواع الخير والشر من كتب له من أحد الوجهين شيئاً واجباً فلا بد له منه لا يَردّه عنه راد لأنه قد نص العلماء على أن ما قُدّر على العبد على ضربين قَدَر قُدّر وقدّر أن يردّه وجه ما من الوجوه فذلك الذي ينفع أثر الحكمة فيه وهي التسبب في دفعه وما قدر له أو عليه حتماً فذلك لا يردّه شيء من الأشياء ومنه خوف الرجال وأهل العقول
وقوله والنفس تتمنى ذلك وتشتهي يعود على جميع ما ذكر في الحديث لأنها مطبوعة على تمني جميع الشهوات حلالاً كانت أو حراماً لكن لا يضرّ ذلك إذا زجرها صاحبها ولم
يوافقها على ذلك ودخل تحت متضمن قوله تعالى ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ٢
فإن لم ينهها ولم يقع ما طلبته منه بحكم الوفاق لم يكن من أحد القسمين ولم يكن ممن ينطلق عليه اسم زان لأنه لم يقع الفعل بالفرج الذي هو يصدقه ولم يكن أيضاً ممن زجر النفس عن الهوى فتكون الجنة له مأوى وكذلك كل ما حدثت به النفس من غير ذلك إنما هو من الخاسرين وإن هو لم ينهها ولم يفعل بحكم الوفاق كان من المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
وكذلك يتعدى الحكم إلى ما هو الشخص فيه مؤاخذ بعقد النية الذي هو من الأمور القلبية إذا وافقها على ما سولت له عقد نيته على ذلك كان من الخاسرين وإن نهاها عن ذلك كان من
1 أخرجه الطبراني في الأوسط عن البراء رضي الله عنه بلفظ الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربي الربا استطالة الرجل في عرض أخيه
سورة النازعات ٤٠ - ٤١
١٣٦٩
المفلحين التقسيم بعينه مثال ذلك الحسد المنهي عنه شرعاً إذا دعته النفس إليه جرى فيه ذلك التقسيم وكذلك ما أشبهه مما هو مختص بالقلب ليس إلا فتكون النية وعقدها هي التي تصدق ذلك أو تكذبه
وفيه دليل لطريق أهل الصوفة الذين يرون مخالفة النفس وحديثها جملة واحدة يؤخذ ذلك من نصه في الحديث أن من وضعها الذي طبعت عليه أنها تتمنى ذلك الحرام وتشتهيه فمن هذه صفتها وجبت مخالفتها عقلاً وديناً فإنها تفضي بصاحبها إلى الهلاك وقد قيل نفسك وإن
صلحت لا تأمنها فإن الشر يلمع في جبهتها
ويترتب على فهم الحديث بشرحه فائدتان إحداهما أن تجتهد في أفعال الخير لعله يدفع عنك بها من الشر ما لا تعلمه وقد كتب عليك فتكون ممن وقاه معروفه مصارع السوء والأخرى دوام الخوف وإن كنت على أرفع الأحوال أو على أي حالة كنت خوفاً أن يكون قد سبق عليك في الكتاب الختم بما لا تطيقه وأنت لا تعلم ومن أجل هذه الإشارة قال جلّ جلاله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ١
جعلنا الله ممن يخشاه وكانت خشيته سبباً إلى سعادته بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة فاطر من الآية ۸
۱۳۷۰
-٢٥٦-
حديث النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهى عَن أن يُقامَ الرَّجُلُ مِن مَجْلِسِهِ ويَجْلِسَ فِيهِ آخرُ وَلكِن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه الذي جلس فيه ويجلس فيه غيره والثاني الأمر بالتفسح فيما بين المجالس والتوسع إذا دخل عليهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه في كل مجلس أو هو على الخصوص في مجالس مخصوصة وهل هذا أيضاً عام في كل الرجال أو لا ومنها هل هذا تعبد أو لحكمة فإن كان لحكمة فما هي وهل النهي عن ذلك على الكراهة أو التحريم
أما قولنا هل ذلك عام في كل المجالس أو هو في مجالس مخصوصة صيغة اللفظ تعطي العموم وقواعد الشرع تخصصه لأنه قد تقرر من الشرع أنه من جلس فيما ليس له ملك ولا له فيه ذلك سبب يوجب ذلك أنه يُقام ويُخرَج ولا يُنَزَّل منزلة من له ذلك أو أذن فيه مَنْ له الإذن في ذ فما بقي أن يكون ذلك إلا خاصاً في المواضع المباح للناس دخولها أو الجلوس فيها إما على العموم للناس كلهم مثل المساجد ومجالس الحكام والعلم الذي هو الله أو ما يشبه ذلك أو على الخصوص مثل من يدعو قوماً مخصوصين إلى منزله في وليمة أو غيرها مما أجازته الشريعة فهذه المجالس من جلس فيها مجلساً فلا يقام منه ويجلس فيه غيره
وأما قولنا هل هذا عام في كل الرجال أو لا فظاهر اللفظ العموم وما تقرر من الشريعة أيضاً يخصصه مثل إزالة المجانين من المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم صبيانكم و مجانينكم ۱ ومثل آكل الثوم النيء والأجدم فهؤلاء يُقامون ويُخرجون من المساجد إذا تأذى
بهم الجلاس
1 أخرجه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه
۱۳۷۱
وكذلك كل من يكون فيه إذاية 1 للجلاس فإنه يخرج لقوله لا لا لا لا لا لا ضرر ولا ضرار
ويشترط أن يكون ذلك الضرر مما يراه الشارع صلوات الله عليه ضرراً لا بحظ نفساني ولا بحظ دنيوي وكذلك يقام السفهاء من مجالس الحكام والعلم وأعني بالسفهاء الذين يسفهون بالألسنة حتى يخرجوا لما ينافي مجلس العلم والحكم وما يشبه هذا
وأما قولنا هل هو تعبد أو لحكمة فإن كان تعبدا فلا تعليل ولا توجيه وإن كان لحكمة - وهو الظاهر - فما هي فنقول والله الموفق للصواب إن الحكمة فيه ظاهرة من وجهين أحدهما منع تكبر بعضنا على بعض لأن إزالة هذا من مجلسه وإجلاس غيره فيه استنقاص بالقائم واستصغار له وترفيع للجالس في مجلسه وتكبر منه وقد قال إنه أوحي إلي أن لا يفخرُ بعضُكم على بعض ولا يتكبر بعضُكم على بعض أو كما قال عليه السلام وهو أيضاً مما يوجب الضغائن في الصدور والأحقاد وقد نهينا عن ذلك وما هو السبب إلى شيء فهو مثله والوجه الآخر أن المباح كله الناس كلهم فيه على حد سواء الرفيع والوضيع فمن سَبَق إلى شيء منه فقد استحقه ومن استحق شيئاً من الأشياء بوجه شرعي فإذا أُخِذ منه بغير وجه شرعي فقد غُصبه والغصب حرام بدليل الإجماع فلما جلس هذا مجلسه من تلك المجالس المتقدم ذكرها فقد استوجبه بوجه شرعي فلا يُقام منه لأنه هو المستحق له
وأما قولنا هل النهي على التحريم أو على الكراهية فعلى التوجيه الأول يكون على الكراهية وعلى التوجيه الآخر يكون على التحريم - وهو الظاهر - لأنه يمكن الجمع بين التعليلين فإذا كان الجمع بين التعليلين ممكناً اندرجت الصغرى التي هي النهي في الكبرى التي هي
التحريم
وبقي هنا بحث وهو أنه إن فعل الجالس ذلك من تلقاء نفسه هل يدخله شيء من النهي أو ليس أما إن كان سالماً من الشوائب فالظاهر أنه ليس فيه كراهية وإن دخله شيء من الشوائب مثل أن يفعله لخوف أو بإشارة تهديد أو ما في معنى ذلك فيكون مثل أصحاب السبت لَمّا نُهوا عن الصيد فيه عملوا الحيلة للصيد في يوم السبت وصادوا يوم الأحد فكان من أمرهم ما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم في كتابه فكان حقيقة صيدهم يوم السبت لأن بتلك الحيلة أمكنهم أخذ الصيد يوم الأحد وما لا يوصل إلى شيء إلا به فهو منه وإن اختلف نوعهما
وقد ذكر لي عن بعض أهل الفضل بجزيرة الأندلس وكان ممن فتح عليه في دنياه أنه دعي
1 يريد أذية
أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
۱۳۷
إلى عقد نكاح فلما دخل المنزل لم يجد فيه أين يقعد فبقي واقفاً خجلانا ولحقه الدَّهَش لأن المجلس كان حَفِلاً وكان ممن كان قاعداً في المجلس شخص كان للداخل عليه دين مائة دينار فقام الذي كان عليه الدين من مجلسه وأجلس فيه ذلك السيد فلما انفض المجلس وجه ذلك السيد الذي كان دخل اخر الناس ولحقه الدَهَش لذلك الشخص الذي كان قام له من مجلسه وأجلسه فيه وأحَلَّه الذي كان له عليه من المائة دينار وأشهد على نفسه بتبرئته منها مكافأة له على زوال خجلته في ذلك المجلس
تنبيه في الحكاية إشارة إلى أن من تأخر عما دعي إليه يلحقه الخجل فاحذر مما يخجلك يوم الوفد ولا محيص
وقوله ولكن تفسحوا وتوسعوا هل هما لفظان مترادفان لمعنى واحد أو لكل لفظ معنى احتمل الوجهين معاً لكن الأولى أن يحمل كل واحد منهما على معنى فإن ذلك أكبر فائدة فيكون معنى تفسحوا أي يوسعوا فيما بينهم للداخل أن يقعد ويكون معنى توسعوا أي توسعوا عنه بأن ينضم بعضكم إلى بعض حتى يبقى له في المجلس أين يقعد۳ فإن السنة أن الداخل يجلس حيث انتهى به المجلس فلما لم يبق لهذا الداخل من المجلس أين يجلس ۳ أمرنا
بأن ينضم بعضنا إلى بعض فيتوسع بذلك المجلس فيبقى في اخره لهذا الداخل أين يجلس ۳ فيكون قد خيّر أهل المجلس أن يفعلوا مع الداخل أحد هذين الوجهين أيهما فعلوا فقد أصابوا السنة لكن بشرط أن يكون المجلس يحمل هذا بلا ضرر على الجلاس لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار مثال ذلك أن يدخل شخص والمجلس قد غص بأهله فيفسحوا له ويوسعوا ثم ثان كذلك ثم ثالث كذلك ثم رابع فإذا لم يطيقوا لكثرتهم وضاق المجلس أن يفسحوا أو يوسعوا ويكون عليهم ضرر في ذلك فلا يلزمهم من ذلك شيء لكن من حسن المعاملة أن يعتذر له حتى ينصرف وهو طيب النفس لقوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّكُمُ وَليُّ حَمِيمٌ 1
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
02
١ كذا بالتنوين وهو لغة لبعض العرب
كذا بضمير الغائب خلافاً لبعض الحديث ولما يلي
۳ أي مكان يقعد فيه ٤ سورة فصلت من الآية ٣٤
۱۳۷۳
٢٥٧-
حديث بيان كفارة من حلف بغير الله تعالـ
وكفارة من طلب المقامرة
عَن أبي هريرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن حَلفَ مِنكُم فَقالَ في حَلِفِهِ باللاتِ والعُزَّى فَلْيقُل لا إله إلا الله وَمَن قَالَ لِصاحِبِهِ تَعَالَ أُقامِرْكَ فَلْيَتَصَّدق
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أمره و أن من قال في حلفه باللات والعزى أن تكفير ذلك أن يقول لا إله إلا الله والثاني أن من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق فذلك كفارته والكلام عليه من وجوه
منها هل أمره عليه السلام لمن حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله هل هذا خاص بهذه اللفظة أو عام في كل من حَلَف بصنم من الأصنام أو شيء من الطواغيت وما في معناها وكذلك لمن قال لصاحبه تعال أقامرك هل الأمر بالصدقة لقائل هذا اللفظ ليس إلا أو هذا هو الحكم في كل ما هو في معنى هذا وطريقه وهل هذا تعبد أو لحكمة في ذلك معقولة المعنى وهل الأمر بهذين الأمرين عام فيمن قالها معتقداً أو غضبانا ١ أو خطأ على حد سواء أو
بينهما فرق
أما قولنا هل هذا خاص بمن ذكر في يمينه اللات والعزى أو هو عام في كل من حلف بشيء من الطواغيت أو ما هو في معناها ظاهر اللفظ يقتضي أنه خاص به وما يفهم من معناه وما به جاء عنه عليه السلام في غير هذا الحديث يقتضي تعدي الحكم إلى أنه من كان حلفه بشيء من الطواغيت أو الأصنام التي تُعبد من دون الله أو ما في معنى ذلك أن يقول صاحب هذا القول لا إله
١٣٧٤
۱ كذا بالتنوين وهي لغة لبعض العرب
إلا الله فإن ذلك كفارة لما قال لأنه من جهة المعنى قد تلفّظ بما يشبه الررة فإن الحالف بشيء هو معظم له
فهذا قد عظم شيئاً سوى الله على نحو ما يفعله الكفار بالله تعالى فينبغي له أن يُظهر إبطال ما قاله ويحتقر ما عظم بأن يعلن بقول لا إله إلا الله فكأن إعلانه بها رجوع إلى الإسلام وتوبة من ذلك الخلل الذي ظهر منه وما في معناه كذلك ينبغي الحكم فيه وقد جاء ذلك نصاً عنه وهو قوله من قال هو يهودي أو نصراني فليقل لا إله إلا الله أو كما قال عليه السلام وكذلك يلزم في كل من قال عن نفسه إنه على غير دين الإسلام الحكم كالحكم سواء مثل أن يقول هو مجوسي أو غير ذلك مما يشبهه لأنها ردة في الظاهر فينبغي الرجوع عنها بإظهار كلمة
الإخلاص
وكذلك البحث على قولنا هل أمره بالصدقة خاص بمن قال لصاحبه تعال أقامرك فأما ظاهر اللفظ فيقتضي أن هذا حكم هذا القائل وإن نظرنا إلى المعنى عدينا الحكم حيث وجدنا العلة لأن قول الشخص لصاحبه تعال أقامرك أي نأكل أموالنا بيننا بالباطل على وجه حرام فحيثما وجدنا هذه العلة عدينا الحكم على المعروف من عادة الفقهاء في ذلك
وبقي بحث وهو هل هذا الأمر بالصدقة هنا على طريق الندب أو على طريق الوجوب أما على مذهب مالك ومن تبعه فإن الصدقة هنا على طريق الندب لأن قاعدة مذهبه أن كل أمرٍ أُمر به لم يكن محدوداً بالكتاب والسنة فإنه من باب الندب مثل الأمر بالمتعة لما أمر بها مولانا سبحانه في كتابه ولم يحدّها ولا وُجِد في سنة نبيه الله لها حد حملها مالك ومَن تَبِعه على الندب وكذلك كل ما أمر به ولم يُحَدَّ فيه شيء مثل هذه الصدقة وما في معناها ومذهب الشافعي ومن تبعه في ذلك حمله على الوجوب على قاعدة مذهبهم وكذلك قالوا في المتعة إنها على الوجوب ويجزىء فيها أقل الأشياء لأن ذلك قاعدة مذهبهم
وأما قولنا هل الأمر عام فيمن قالها متعمداً أو حَرجاً أو غالطاً فاللفظ يقتضي العموم لكنّ بينهم فرقاً أما من قالها متعمداً معتقداً لذلك فيجب عليه أن يدخل في الإسلام لخروجه منه بما جرى ويجدد التوبة من ذلك على ما قد بينا من حدود التوبة قبل في غير ما حديث فإن كان غضباناً أو غالطاً فينبغي له قول ما أمر به أو فعله هذا هو الظاهر ولا ينبغي تخصيص لفظ الحديث بغير
مخصص
وفيه دليل على الأخذ بسد الذريعة في غلق باب الشيء بالجملة الكافية حتى لا يقع من المؤمن شيء ينافي الإيمان والإسلام لا بقول ولا بفعل ولا يسامح في ذلك بشيء ومما يؤيد
۱۳۷۰
هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا تتشبهوا بأهل الكتاب ۱ وقوله عليه السلام ثلاثة يبغضهم الله وعدَّ فيهم من استن في الإسلام بسنة الجاهلية ۳ أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشرِّ لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفا ٣ والأثر في ذلك كثير ومجموع ذلك يدل على حفظ المؤمن نفسه مما يخالف دينه وقع ذلك منه جداً أو هزلاً
وفي هذا دليل لأهل السلوك لأنهم منعوا أنفسهم من الأخذ في المباح وجعلوا ذلك حماية بينهم وبين المكروه فَدَتْهُم النفوسُ ما أعْرَفَهُمْ بها وأكْثَرَ اهْتِمَامَهُمْ بالدين وطرق النجاة وقد قيل نفسَك فَرُضُها وعلى الخير فاحْمِلْها ولا تغفل عن سياستها فالغَدْر من شأنها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ أخرجه الترمذي وضعفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف ٢ أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركها الناس أبداً الطعن في النسب والنياحة على الميت والاستمطار بالنجوم ۳ أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار
١٣٧٦
-٢٥٨ -
حديث سيد الاستغفار
شَدَّادِ بنِ أَوس۱ رَضِيَ الله عَنهُ الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ سَيِّدُ الاستغفارِ أن تقول اللَّهُمَّ أَنتَ رَبِّي لا إله إلا أنت خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ وأنا عَلى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما استطعتُ أعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ أبوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ وَأبوءُ بِذَنبي فاغفِر لي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ
ظاهر الحديث إخباره الله و أن هذه الألفاظ المذكورة في هذا الحديث هي أعلى أنواع طرق الاستغفار وأقربها إلى الله عزّ وجلّ والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل جعله وهذه الألفاظ سيّدة الاستغفار تعبد لا يُعقل له معنى أو هل تفهم الحكمة في ذلك وهل إن سُبكَ معناه في ألفاظ أُخَرَ بزيادة أو نقص والمعنى باق على حاله هل تبقى له تلك الرفعة والمنزلة أم لا وهل المستغفر بهذه الألفاظ يكون استغفاره أرفع ممن استغفر بألفاظ غير هذه وكانت نيته أرفع من نية صاحب هذه الألفاظ أم لا وكذلك في الأوقات أيضاً هل فضيلة الأوقات في الاستغفار تفضل هذه أو هذه تفضلها
أما قولنا هل هذا تعبّد أو لحكمة تفهم منه فالجواب أنه لحكمة ألا ترى حُسْنَ ألفاظه وما جمعت من بديع معاني الإيمان فإنه جمع فيه بين الإقرار الله بالألوهية وحده والاعتراف له عزّ وجلّ بأنه خالقه واعترف على نفسه بالعبودية لله عزّ وجلّ واعترف بالعهد الذي أُخِذ عليه والرجاء فيما وعده مولاه والإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة بقوله وأنا على عهدك
۱ شداد بن أوس بن ثابت الخزرجي الأنصاري أبو يعلى صحابي من الأمراء ولأه عمر إمارة حمص ولما قتل عثمان اعتزل وعكف على العبادة كان فصيحاً حليماً حكيماً قال أبو الدرداء لكل أمة فقيه وفقيه هذه الأمة شداد بن أوس توفي في القدس سنة ٥٨هـ / ٦٧٧م وله في كتب الحديث ۵۰ حديثاً الأعلام ۳ ۳
٢ كذا بإدخال هل على إن والصواب أو إن
۱۳۷۷
ووعدك ما استطعت فإن الحكمة - وهي الشريعة وما كلفتنا من التكاليف - إنما تحصل إذا كان في
ذلك للعبد العون بقدرة من القادر الذي تعبدنا وهي التي يكنى عنها بالحقيقة
فإذا أراد القادر الحكيم ضد ذلك - وهي ما قدر على العبد من القدر الحتم - لم ينفعه في ذلك أثر الحكمة وغلبت الحقيقة على العبد في نفسه حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه بمقتضى الحكمة والعدل - التي هي الشريعة - ولم يبق له شيء يدفع به عن نفسه إلا إما عقاب بمقتضى العدل وظهور الحجة وإما عفو بمجرد الفضل من الله والرحمة وهذه أرفع الطرق كما تقدم الكلام على ذلك في غير ما موضع من الكتاب وتبيين ذلك بالكتاب والسنة
ثم استعادته لمولاه الجليل من شرّ ما جنى على نفسه وإضافة ذنبه إلى نفسه ورغبته في مغفرة ذنبه والإقرار أنه ليس يقدر أحد على مغفرة الذنوب إلا الله سبحانه فيحق أن يطلق عليه سيد الاستغفار لأن صيغة الاستغفار المعلوم لغة وعادة هو أستغفر الله فانظر بكم وجه يفضل
هذا الاستغفار المشار إليه هذه الصيغة المعروفة لغة وعادةً تبين لك حقيقة الحكمة في ذلك عياناً وأما قولنا إذا سُبِك ذلك المعنى بألفاظ غير هذه ولا ينقص من المعنى شيء هل تبقى حقيقة هذا الاسم أم لا فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن المعاني التي أخذت من ألفاظ الشارع لعل الله أنها إذا أزيلت تلك الألفاظ المباركة عن تلك المعاني أن ذلك الخير لا يوجد له مثل لأن الله عزّ وجلّ قد جعل الخير فيه وعلى يديه الكريمتين وفي لفظه وإشارته وكل ما يكون عنه أو به لا يخلفه في ذلك غيره
أما ترى إلى اختلاف العلماء في نقل كلامه عليه السلام هل ينقل بالمعنى بشرط ألا يخل فيه بشيء أو لا ينقل إلا بالفاء والواو كما ينقل القرآن وعلى هذا هم جمهور العلماء لأنه كله عن الله وما بينهما إلا أن الكتاب بالوحي بواسطة المَلَك وهذا عن الله بطريق الإلهام والإرشاد قال عزّ وجلّ في حقه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۱ فكيف فيما جعلت فيه فضيلة فإنما حصلت تلك الفضيلة المجموع الأمرين وهما حسن المعنى وبركة لفظه عليه السلام فإنه كذلك شأنها الحكمة والقدرة الربانية لا تبديل لحكم الله وهذا جار في هذا الحديث وفي كل ما جاء عنه عليه السلام بلفظ مخصوص فلا يبدل ذلك اللفظ بغيره أصلاً
وأما قولنا هل يكون المستغفر بهذا الاستغفار ونيته ليست بتلك الجودة سيداً على من استغفر بغير هذا الاستغفار ونيته صالحة مباركة على ما أريد منه من الحضور والأدب فاعلم -
3
۱۳۷۸
1 سورة النجم من الآية ۳
اخر بهذا الاستغفار بالنهار حصل له سيّد استغفار بالنهار بمثل حاله وليس للعقل طريق أن يحكم أيهما أفضل عند الله تعالى هل الذي استغفر في السحر بغير هذا أو هذا الذي استغفر في النهار بهذا الاستغفار لأن هذه التحديدات لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما طريقها ما يُلقى في ذلك من الشارع و و و و و و هذا لم يأتِ عن الشارع فيه شيء فيُرَدُّ الأمر فيه إلى الله لا غير ويترتب على النظر في هذا الحديث وأشباهه أن الحكمة الربانية كما اقتضت التفضيل بين العباد وجميع الحيوان وكذلك سائر المخلوقات على ما هو متلقى من طريق الرسل عليهم السلام وأخبارهم فكذلك اقتضت الفضيلة بين أنواع العبادات وتضعيف الأجور في ذلك من وجوه سبعة فمنها بنوعها ومنها بحسن المعاني بين النوع الواحد في أنواعه أيضاً ومنها من طريق الألفاظ ومنها من جهة الأماكن ومنها من جهة الأزمنة ومنها من جهة النيات والمقاصد ومنها من جهة الأحوال والشيم
وقال عز وجل في كتابه حضاً على طلب الأعلى فالأعلى من هذه تنبيهاً للمكلف عليها وحضاً له على طلبها وتحصيلها أُولَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ ۱ وحضت السنّة على ذلك بتبيين فضيلة كل قسم منها وتعيينه وبما للعامل في ذلك بأتم بيان ثم أكّد عليه السلام ذلك بلفظ مجمل وهو قوله صلى الله عليه وسلم كفى بالعبادة شغلاً لأنه من جعل همته أن يأخذ الأعلى فالأعلى من تلك السبعة وجوه لا يسعه مع ذلك شغل غيره لأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
وفيما نبهنا عليه حجة لأهل السلوك على طريق السنة والسنن لأنهم بهذا عمروا أوقاتهم وبالبحث عليه والاهتمام به شغلوا أنفسهم حتى إن بعضهم سئل عن الصباح والمساء فقال لا أعرفهما فَسَلْ عنهما غيري لأنه رأى الأخذ في هذا من قبيل اللغو وشغل الوقت بما لا يُغني
منَّ الله علينا بما به مَنّ عليهم بكرمه وفضله آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الإسراء من الآية ٥٧
أخرجه الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ إن في الصلاة لشغلاً
۱۳۸۰
-٢٥٩-
حديث بيان خوف المؤمن من ذنوبه وعدم اهتمام الفاجر بها
عَن عَبدِ الله بن مسعودٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ إِنَّ المُؤمِنَ يرى ذُنُوبَهُ كأَنَّهُ قاعِدٌ تَحتَ جَبلٍ يَخافُ أَن يَقَعَ عليه وَإِنَّ الفاجِرَ يَرى ذُنوبَهُ كَذَّبَابٍ مَرَّ عَلى أَنفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذا قال أبو شهاب بِيَدِهِ فَوقَ أَنفِهِ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره الله بحال المؤمن وكبر ذنوبه في عينه حتى يراها مثل جبل واقع عليه والآخر إخباره و بحال الفاجر واحتقاره لذنوبه حتى يراها كذباب مرّ على أنفه والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً لأهل السنّة لأنهم لا يكفرون أحداً من أهل الإيمان بذنب وردّاً على القدرية الذين يكفرون بالذنوب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن المؤمن يرى ذنوبه فسمّى هذا المذنب باسم الإيمان ولم يخرجه بذنوبه من دائرة الإيمان
وفيه دليل على أن الفجور هو أمر قلبي مثل الإيمان لأنه أمر قلبي أيضاً يؤخذ ذلك من أنه وصفه بالذنوب كما وصف المؤمن بالذنوب فجاءت التفرقة بين المؤمن والفاجر بأمر قلبي و بيان ذلك من جهة النظر والعقل أنه لما كان قلب المؤمن منوّراً بالإيمان ورأى من نفسه ما يخالف ما تنوّر به قلبه - وهو الإيمان - عظم الأمر عليه لأنه لا شيء أثقل على الأشياء من ضدها عقلاً
ونقلاً قال تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ۱ من أجل النسبة التي بينهم خفّت عليهم وكذلك أهل التوفيق خفت عليهم الطاعات حتى صاروا يتنعمون بها ويجدون لها حلاوة حتى إنه روي عن جماعة أهل هذا الشأن أنهم يحسّون بالحلاوة تنسكب على قلوبهم عند استغراقهم في الطاعات مثلما يجدون حلاوة الشهد على قلوبهم في حين شربهم له بل أعظم وأرق وأحلى
۱۳۸۱
۱ سورة البقرة من الآية ٤٥
هذا
موجود
خلَفاً عن سلف إلى هَلُمَّ جَرّاً ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أرحنا بها يا بلال ۱ وقوله وجُعِلَت فَرَّةُ عيني في الصلاة لما كان يجد فيها فإنه القدوة في كل خير حالاً ومقالاً
ولما كان قلب الفاجر مظلماً لما فيه من الفجور وضعف الإيمان خفت عليه ذنوبه من أجل النسبة التي هناك ولذلك قد كثر في زماننا هذا إذا جئت تعظ بعض من قد ظهرت عليه علامات الفجور في ذنب وقع فيه فيكون جوابه هذا قريب اشتهينا ألا يكون إلا هذا فهذا قريب وعدم الاكتراث بذنبه ظاهر عليه أعاذنا الله من ذلك بمنّه
ويترتب على هذا الحديث أن الدليل على فجور الشخص قلة حزنه على ذنوبه وتهوينها عليه وخفتها وأن الدليل على إيمانه حزنه على ذنوبه وخوفه منها - وإن قلت - وبقدر قوة إيمانه تكون شدة حزنه وخوفه يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما أصبح المؤمن فيها - يعني دار الدنيا - إلا حزيناً ولا أمسى إلا حزين أو كما قال عليه السلام لأنه من ذا الذي لم يقع منه قط مخالفة ولو صغيرة إنما ذلك مقام الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين ومن مَنَّ الله عليهم من الصِّدِّيقين وهم
قليل
فجاء إخباره عن الغالب وعليه أثبتت الشريعة غالباً وقد يكون على عمومه فيكون حزن الرسل والصديقين من أجل الغير لما يَرَوْن منهم ما اقتحموا بأنفسهم من المهالك لكثرة ما أودع الله تعالى في قلوبهم من الشفقة والرحمة كما قال مولانا جلّ جلاله لسيدنا فلا نَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَتٍ ۳ فالعاقل يقيم هذا الميزان على نفسه حتى يتبين له من أي الفريقين هو وكَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ٤
ومما في معناه ما يذكر عن بعض قضاة الخير ممن تقدم أنه كان له شاهدان عدلان وكان الذي له الإمرة في وقته ظالماً فجبر ذلك الظالم ذينك الشاهدين أن يأكلا على مائدته فأسقط القاضي شهادة أحدهما وأبقى الآخر على عدالته فقال له الذي أسقطه لِمَ أسقطت شهادتي فقال له القاضي لأنك أكلت من مائدة الظالم فقال له وإن صاحبي أكل معي عليها فقال له إن
1 قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن سالم بن أبي الجعد رضي الله عنه ولفظه أقم الصلاة
يا بلال أرحنا بها
أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ولفظه حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
۳ سورة فاطر من الآية ٨ ٤ سورة الإسراء من الآية ١٤
۱۳۸
صاحبك أكل وهو يبكي وأنت أكلت وأنت تضحك فلحظ القاضي هذا المعنى الذي أشرنا إليه
فدل تهاون الذي كان يضحك بما وقع فيه على فجوره وكان سبباً إلى تجريحه
وهنا بحث وهو أن يقال في الجواب لِمَ مثل عليه السلام خوف المؤمن من ذنوبه بالجبل يقع عليه وما الحكمة في ذلك ولم يكن بغيره
والجواب أن غير ذلك من المهلكات مثل الغرق أو الحرق أو القتل أو غير ذلك فقد يتسبب بعض الناس فيما يحلّ بهم من ذلك وقد ينجو منه بلطف من الله تعالى وقد وقع من ذلك ما رئي عياناً فإنه حكي عن بعض من لحقهم الغرق أنهم نجوا أو نجا منه بعضهم وكذلك في الحرق والهدم وكذلك في القتل وجد في بعضهم من فيه النَّفس فعولج زماناً حتى برىء وهذه الأشياء أعظم المهلكات بعد هذا الجبل ولولا التطويل لذكرنا منها حكايات جملة ووقوع الجبل ليس معه حياة أصلاً فالهلاك في ذلك مقطوع به
فلذلك مثل به له ولأن المؤمن إذا وجد من نفسه ما يخالف الإيمان خاف على نفسه أشدَّ الأشياء وهو النفاق الذي الهلاك معه مقطوع به لمن مات عليه وخاف من قول الله عزّ وجلّ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱ فحزنوا من أجل كبر هذا المقت لأن ما كبره الله سبحانه فهو أمرٌ عظيم لا يحمله أهل الإيمان ويصعقون منه ولذلك لما علم مولانا سبحانه خوفهم من ذلك طمعهم ورجاهم بقوله تعالى ﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُلُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ۳
وهنا بحث آخر وهو أن يقال لِمَ شبَّه ذنوبَ الفاجر بالذباب وما الحكمة في ذلك ولِمَ لَمْ
يكن مَثَلَ بالذَّر أو ما هو في شبهه مثل الحشرات وغير ذلك
والجواب عنه أنه لما كان الذباب أخفَّ الطير وأقله ضرراً وهو مما يُعايَن ويَندفع بأقل الأشياء وإن عَضَ فليس لعضته ضرر بخلاف الذّر الذي هو أقل الحشرات لأن التحفظ منه عسير وفيه شدّة وانفصاله بطيء وإذا عض فلعضته حرارة وفيها إذاية ٤ في الأموال حتى إذا کثر يكون بسبب ضرره جائحة كثيرة وليس ذلك في الذباب فلذلك ثلاثل ل لا لا لا بـ
۱ سورة الصف الايتان و ۳ سورة الزمر من الآية ٥٣ ۳ سورة الملك من الآية ١٤ يريد أذية
۱۳۸۳
وفي تمثيله عليه السلام بالأنف من بين سائر الجوارح وإشارته عليه السلام بيده لدفع الذباب عنه وجهان من الفقه أحدهما المبالغة في تخفيف ذنوبه عليه لأن الأنف قلّ ما ينزل الذباب عليه وإنما يقصد في الغالب العينين وإزالته بيده تأكيد في الخفة أيضاً حتى لا يلحقه منه شيء من الضرر والوجه الآخر أن يستعمل في التمثيل ما هو أقوى لأن إشارته عليه السلام هنا بيده أقوى من القول فكنى بالإشارة عن الكلام لقوتها في الوضع
وفي هذا دليل على ما أعطي من كثرة معرفته بالأشياء وإدراكه ذلك على البديهة متى شاء فإن كان آدم عليه السلام عُلم الأسماء كلَّها فقد وُهِب سيّدنا الالالالا لمعرفة الأشياء كلها وفائدة معرفة الأشياء أكبر من معرفة أسمائها تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ
ورفع بعضهم درجات
1 E
وفيه دليل على جواز ضرب المثل بكل ما هو ممكن بحسب قدرة القادر وإن كان لا يقع وإن وقع فيكون بخرق العادة لا بجريانها المتعاهد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه لأن هذا من جهة القدرة ممكن وما وقع هذا إلا لبني إسرائيل حين رفع الله عليهم الجبل وهم يخافون أن يقع عليهم حتى امتثلوا ما أمروا به فجاء بخرق العادة الموسى عليه السلام
وفائدة إخباره لنا بهذا الحديث إرشاد لنا إلى ألا نغفل عن محاسبة نفوسنا وأن نختبر العلاماتِ الدالة على بقاء نعمة الإيمان علينا فإنه قد جاء في الصحيح إن الرجل ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثلَ الوَكْت ثم ينام النومةَ فيقبضُ أثرُ الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دحرجته على رجلك فَنَفِط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة ودحرجها على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلَدَه وما أظرَفَه ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ۳ أو كما ورد الوكت سواد اللون والمجل مَجَلَت يده إذا أصابها العَمَل والنَّبر ورم في الجسد كله
جعلنا الله ممن أكمل نعمة الإيمان في الدارين بمنّه فإنه منان كريم آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ٢٥٣
رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه بلفظ أن الأمانة نزلت في جَذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت إلى اخر الحديث
١٣٨٤
حديث شدة فرح الله تعالى بتوبة العبد إذا تاب
عَن ابنِ مسعودٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال اللهُ أَفرَحُ بِتَوبةِ العَبدِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنزِلاً وَبِهِ مَهلَكَة ومَعَهُ راحِلَتُهُ عَلَيْها طَعامُهُ وَشَرابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَومةٌ فاستَيْقَظَ وَقَد ذَهَبَت راحِلتُه حَتى إذا اشتدَّ عَلَيهِ الحرُّ وَالعَطش أو ما شاءَ الله قال أرجِعُ إلى مكاني فَرَجَعَ فَنامَ نَومَةً ثُمَّ رَفعَ رَأْسَهُ فَإذا راحِلَتُهُ عِندَهُ
وجوه
ظاهر الحديث الإخبار بشدة فرح الله عزّ وجلّ بتوبة العبد إذا هو تابه والكلام عليه من
العادة
منها أن يقال ما معنى فرح الله سبحانه بتوبة العبد فالجواب أنه قد تقدم في غير ما موضع من الكتاب أن هذه الأوصاف التي هي من صفاتِ المحدثاتِ مثل الفرح والحزن والحب وما أشبَهَ ذلك أنها في حقٍّ الله سبحانه وتعالى مستحيلة وإنما معناها ما تضمنته تلك الصفة بجري عندنا لأنا لا نفهم ما يُراد منا إلا بالتمثيل بما نعلمه من عاداتنا وأوصافنا فكني عن كثرة صلى الله عليه وسلم إحسان الله سبحانه للتائب وكثرة تجاوزه عنه وعظيم الإفضال عليه بقوة هذا الفرح الذي لا شيء عندنا - فيما نعلمه من عوائدنا - أعظمُ من هذا الفرح الذي لحق صاحبَ هذه الراحلة عند وجودها بعد ذلك الكرب العظيم الذي لحقه والمعلوم من عوائد الملوك الكرام إذا فرحوا بشيء أنَّ صاحب ذلك الشيء الذي فرحوا به يحسنون إليه الإحسان الذي يَخرِق العقول ويرفعونه المنازل الرفيعة التي ليس فوقها منزلة وكذلك جاء عن مولانا سبحانه في حق التائب بالنص في ذلك من الكتاب ومن السنّة في غير ما موضع فمن الكتاب قوله تعالى ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَن وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحًا فَأُولَتيك يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتْ ۱ وقوله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ
۱ سورة الفرقان من الآية ۷۰
۱۳۸۵
التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ ۱ ومن السنة قول رسول الله التوبةُ تَجُبُّ ما قَبْلَها صلى الله عليه وسلم وقوله عليه السلام إذا تابَ العبدُ يُباهِي الله به الملأ الأعلى ويُوقَد له سراج بين الأرض والسماء وينادي مناد من قِبَلِ الله عزّ وجلّ إن فلان بن فلان قد صالحَ مَوْلاهُ ۳ أو كما قال والآي والأحاديث فيه كثيرة فأجمل هنا هو بهذا المثل العجيب كما جاء مفسّراً في الكتاب والسنّة في مواضع عديدة ليكون أقرب للفهم وأحصّ على الرغبة في التوبة وأيسر للحفظ ومما يبين ما أشرنا إليه حكايةُ مَعْن ٤ لأنه كان من الملوك الأول ٥ وكان قد اشتهر بكثرة الجود والكرم فكثرت عليه القصاد حتى احتجب عن الناس فأتاه أحد الأدباء فقيل له إنه احتجبَ منذ زمان وكان له بإزاء قصره بستان يتفرج فيه في بعض الأيام فقال ذلك الأديب لأحد حجابه إن أنتَ أخبرتني بيوم خروجه إلى البستان لك ٦ عندي جائزة كذا وبقي يواظب على الباب حتى قال له ذلك الحاجب إنه اليوم في البستان فكتب على خشبة
أيا جُودَ مَعْنِ نادِ مَعْناً بحاجتي مالي شَفيعُ فما لي إلى مَعْنِ سِواك شفيـ وأتى خلف البستان ووضعها في ماء كان يدخل البستان فبينما الملك قاعد على ذلك الماء أبصَرَ الخشبة تعوم على وجه الماء فأمَرَ بأخذها ونظر ما فيها فلما أُخبِر بالكتب الذي عليها فرح به فرحاً شديداً وسُرَّ به سروراً عظيماً وخرج من حينه وأمر بحضور أرباب دولته وبحضور كاتب هذه فلما أبصره قال له أنت القائل هذا والخشَبَةُ بين يديه قال له نعم فأمرَ له بعطاء عظيم أبْهَتَ الحاضرين وجعل له منزلةً عظيمة يكثر لها الحسّاد
فلما كان من الغد خرج وأمر بحضور أرباب دولته وبحضور ذلك الشخص وأعطاه مثل ما أعطاه بالأمس وكذلك في اليوم الثالث فلما كان في اليوم الرابع خرج وأمر بإحضاره فطلب فلم يوجد فقال لأرباب دولته أما إنه لو قعد كنّا ندفع له كل يوم كمثل ما دفعنا له أول يوم حتى لا يبقى لنا شيء نعطيه فإنه تشفّع لنا بما يَقصُرُ مُلكُنا عن مكافأته عليه فكثرة جوده أوجبت كثرة
عطائه
۱ سورة الشورى من الآية ٢٥
المعروف أن الإسلام يجب ما قبله و التائب حبيب الله و التائب من الذنب كمن لا ذنب له ۳ لم نقف على مصدره
٤ معن بن زائدة من أشهر أجواد العرب وشجعانهم أدرك العصرين الأموي والعباسي وكان بينه وبين المنصور أحداث انتهت بالمصالحة وتوليته اليمن ثم سجستان وفيها قتل غيلة سنة ١٥١هـ الأعلام ١٩٢٨
ه كذا والصواب فيها ٦ كذا والصواب فلك
١٣٨٦
هذا مِمَّن ملكه محصور يفنى وهو مثله ينفد ويفنى وخزائنه محصورة معدودة وجُوده
محدود وكل معدودٍ محدودٍ يَغنى فكيف بمن لا ينقضي أبَده ولا يحصر ملكه ولا تفنى خزائنه ولا يشبه كرمه كرم فإذا فعل العبد ما فيه موجب لإحسانه عزّ وجلّ من طريق المنّ والفضل لا من طريق الوجوب والإلزام فكيف يكون إحسانه لهذا العبد وكيف يكون ترفيعه له وتجاوزه عنه جعلنا الله مِمَّن أمَّلَه لذلك بمنّه
واحتمل وجهاً آخر وهو مثلما اختلف العلماء في ذكره سبحانه وتعالى عن نفسه الوجه واليدين فمن أهل السنّة من تأول الوجه بمعنى الذات لأن العرب تقول وجه الطريق بمعنى ذاته واليد بمعنى النعمة ومنهم من قال يحمل اللفظ على ظاهره مع نفي الجارحة ونفي التحديد والتكييف
ويجري هذا الوجه في هذا الحديث وما في معناه من الحب والغضب والرضا والضحك وكل ماجاء في الأحاديث من هذا النوع مع نفي ما تضمن تلك الصفة منّا مثل الفرح يُقَرُّ اللفظ على حاله مع نفي المعنى الذي نجده نحن من السرور به والميل إلى ذلك الشيء المفروح به والبشاشة إليه وإيثاره على غيره وكون ذلك كما يليق بجلاله سبحانه مع نفي الشبه والمثال
وإبقاء ما ينالنا من تلك الصفة من الخير على جري عادتنا فإنَّ من أجل ذلك ضُرِب لنا المثل وكذلك يمشي هذا الوجه في الغضب والرضى والضحك لأن القاعدة قد تقررت بمدلول
العقل والنص أنه جل جلاله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ۱ وقد تقدم بيان ذلك بأدلته أول الكتاب في ﴾ حديث عبادة بن الصامت فأغنى عن إعادته هنا فلما تقعدت تلك القاعدة لم يضرّ إطلاق هذه الألفاظ ولا يقع بها على العقول في معتقدها التباس
وفيه دليل على جواز السفر منفرداً يؤخذ ذلك من قوله من رجل نزل منزلاً وبه مَهلَكة فوصف بأنه كان في تلك المهلكة وحده فإنه عليه السلام لا يضرب مثلا بما لا يجوز في شريعته ويعارضنا النهي منه عليه السلام أن يسافر الرجل وحده ويمكن الجمع بينهما بأن يكون هذا الحديث دليلا على الجواز وذاك النهي نهي كراهية وشفقة
ومن أجل ما كان هذا في تلك المهلكة وحده جرت عليه تلك الشدة لأنه لو كان معه رفيق ما حصل في تلك الشدة حتى أيقن بالهلاك فإنه لو ذهبت راحلته بقيت رواحل رفقائه فقد كانوا يقومون بضروراته فلم يكن يجد لذهاب راحلته ذلك الهم الكبير فبان بهذا الحديث وإن كان يدل على الجواز فائدة نهيه عليه السلام عن السفر منفرداً
۱ سورة الشورى من الآية ۱۱
۱۳۸۷
وفيه دليل على جواز دخول موضع الهلاك إذا كان مع داخلها ما يقي به نفسه من تلك
المهلكة على ما جرت به العادة في ذلك الوجه يؤخذ ذلك من دخول هذا تلك المهلكة ومعه ما يمنعه مما فيها من المهالك وهي راحلته عليها طعامه وشرابه ولو كان هذا غير جائز ما ضرب و الليل المثل به وسكت عن الإشارة إلى منعه كما فعل في المجاهد حين وصفه أنه غرَّر بنفسه لأنه عليه السلام هو المشرّع فلا يتكلم إلا بالشيء الجائز ومَن تتبع كلامه يجده في المواضع التي يكون فيها إشكال ما قد تحرَّز من ذلك إمّا بقول أو بإشارة أو ما كان في معناهما وفيه دليل على أنه حيث يُعدم الطعام والشراب يسمَّى مهلكة يؤخذ ذلك من أن صاحب هذه الراحلة لم يكن له شيء يخافه في تلك المهلكة إلا عدم الطعام والماء الذي كان على راحلته ولو كان له خوف مما سوى ذلك كان يذكره لأنه يكون زيادة في قوة كربه فيكون فرحه براحلته أكثر ولا كان يمكنه نوم مع ذلك كما هو المعهود من الناس ذلك لأنه لو كان له خوف من سباع أو لصوص لم يمكنه النوم مع ذلك لأن الخوف من مثل هذا يذهب بالنوم على العوائد الجارية في
الناس
وفيه دليل على أنه من ركن إلى ما سوى مولاه فإنه يقطع به أحوج ما يكون إليه يؤخذ ذلك من نوم هذا في تلك المهلكة لثقته براحلته التي عليها طعامه وشرابه الذي يظن أنه ينجيه من تلك المهلكة فأحوج ما كان إليها لم يجدها وهو عند استيقاظه من نومه أكثر اضطرارا لحاجته إذ ذاك
لطعامه وشرابه
ولذلك قال بعض أهل التوفيق من سرّه ألا يرى ما يؤلمه فلا يتَّخذ شيئاً يخاف له فقداً أي من عوّل على غير من لا يحول ولا يزول فلا بد له من الاضطراب غالباً ومن كان عدته مولاه فلا يفقده حيث يحتاج إليه أبداً بل يجده به رؤوفاً رحيماً قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فهو حسبه و 1
المعتادة
بينهم
وفيه دليل على أن همّ البشرية وفرحها غالباً إنما هو على ما جرت به أثر الحكمة من العوائد إلا أهل التحقيق وقليل ما هم يؤخذ ذلك من أن حزن هذا - صاحبَ المهلكة - على ذهاب راحلته إنما كان خوفه من الموت من أجل عدم الطعام والشراب وفرحه بهما إنما كان من أجل وجوده الطعام والشراب الذي ينسبون الحياة إليه
وقد يكون الأمر بالعكس أن تكون الحياة مع عدم الطعام والشراب كما قال أبو حامد
۱ سورة الطلاق من الآية ٣
۱۳۸۸
الغزالي رحمه الله إن الرزق الذي ضمنه الله عزّ وجلّ لعباده ليس من شرطه أن يكون محسوساً فقد يكون محسوساً وقد يكون غير محسوس وإنما ضمن لهم أن يرزقهم قوة لهذا الجسد بما يعبدونه فيجعله كيف شاء
والذي يقع لي أن هذا المعنى فيه إشارة لقول سيدنا إني لستُ كهيئتكم إني أبيتُ عند ربي يطعمني ويسقيني أي إن إيماني ويقيني ليسا مثل إيمانكم ويقينكم فإني أعلم أن الذي يقويني بالطعام والشراب هو الذي يقويني بلا طعام ولا شراب ولو كان يأكل أكلاً حِسيّاً لم يقع عليه اسم مواصل لا يمكنه أن يكون يواصل بهم ويكون هو عليه السلام يأكل ويشرب وأصحابه يواصلون ولا يأكلون ولا يشربون ليس هذا من خُلُق غيره فكيف بأخلاقه السَّنية التي لا يمكن اللحاق بها أبداً وقد يكون الموت بسبب أخذك الطعام والشراب وقد وجد هذا في الأخبار المنقولة كثيراً
وفيه دليل على أن الأحكام والأمثال إنما تستعمل على الغالب من أحوال الناس لأنه لما كان
الغالب من الناس إنما فرحهم بالمحسوس وحزنهم على فقده و ا ر ا ب ا لا اله الا المثل بهذا وفيه دليل على بركة الاستسلام لأمر الله عزّ وجلّ وسرعة النجح عند ذلك يؤخذ ذلك من أنه لما ترك صاحب الراحلة جدّه وطلبه وسلّم لله أمره واستسلم له برجوعه إلى موضعه فأول خيراته إرسال النوم عليه لأنه من علامات الرحمة عند الوقوع في الشدائد وأرفَقُ لمن وقعت به كما أخبر سبحانه عن الصحابة رضي الله عنهم في كتابه بقوله ﴿ إِذْ يُغَشِيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً منْهُ ٢ ولما أرسل الله عزّ وجلّ عليهم النعاس كما أخبر بقي المنافقون لم يرسل عليهم من النعاس شيئاً وبقوا في كرب عظيم ثم بعد ما استيقظ صاحب المهلكة من نعمة النوم وجد راحلته عنده قائمة فتمت النعمة عليه بوجودها
وفيه تنبيه على أن يقدم العبد أثر الحكمة - وهي عمل الأسباب على ما شرعت وبينت - فإذا لم يرها تنجح له في قصده يعمل على مقتضى التسليم للقدر رضاءً وتسليماً ويعلم أن ذلك هو المقصود منه فعند ذلك يُيَسِّرُ له مقصده بلا كلفة يؤخذ ذلك من كون صاحب الراحلة لما ذهبت أخذ في نظرها والبحث عنها فلمَّا لحقه في ذلك ما لحقه من العطش وما شاء الله ورأى أن ذلك
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن أبي سعيد رضي الله عنه والإمام أحمد والبخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة الأنفال من الآية ۱۱
۱۳۸۹
لا يُنجح له مطلباً أخذ في الاستسلام للقدر ورجع إلى موضعه وترك ما كان بسبيله من أثر
الحكمة فأتاه ما أمله من الخير وهو إتيان راحلته
وفي رجوعه إلى الموضع الذي ذهبت منه راحلته إشارة إلى الثقة بعظيم قدرة القادر لعل من الباب الذي كان منه الكسر بالعدل يكون منه الجبر بالفضل حالة يعقوبية كما ذهب بصره بقميص يوسف عليه السلام فبالقميص كان رجوع بصره إليه ولذلك قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ١
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأعراف من الآية ٦٢
۱۳۹۰
-55-
حديث مثل الذاكر لربه والغافل
عَن أبي مُوسى رَضِيَ الله عَنهُ قال قال النبي مَثَلُ الَّذِي يَذكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذكُرُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ
وجوه
ظاهر الحديث تمثيله الا الله و الذي يذكر ربه بالحي والذي لا يذكره بالميت والكلام عليه من
منها أن يقال ما معنى الذكر هنا هل الذكر باللسان أو الذكر بالأفعال وهو اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه لأن العلماء قد قالوا في معنى قوله جلّ جلاله والَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ إنهم الذين إذا كان عليهم الحق أعطوه وإذا كان لهم الحق أخذوه كل ذلك على الحد الذي شُرع بلا زيادة ولا نقصان وقال عمر رضي الله عنه ذكر الله عند نهيه وأمره خير من ذكره باللسان أو كما قال رضي الله عنه وفي أي نسبة يكون الشبه فيما شبه به على أحد الوجهين وما يترتب على ذلك من الفائدة
قلوبهم
أما قولنا أي وجه عنى بالذكر احتمل الوجهين كل واحد على حدة واحتمل أنه عنى بذلك الوجهين معاً فإن كان عنى المجموع فهو للفائدة أتمّ وإن كان على أحد الوجهين فبين
الذكر بالقول والذكر بالفعل فرق كبير لأن الذكر بالفعل مثل الطهارة الكبرى تندرج فيها الصغرى لأن الذي يمتثل الأوامر وينتهي عن النواهي فلا بد له من الذكر باللسان لا محالة فإن حاله يَحمله على ذلك جبراً وإن كان لا يقع ذلك منه فالذي فعل من امتثاله الأوامر أجزأه عن ذكر اللسان كالطهارة الكبرى تجزىء عن الصغرى والذي يذكر باللسان مثل الطهارة الصغرى لا تدخل تحتها
الكبرى ولا تجزىء عنها وهو مطلوب بها
۱۳۹۱
۱ سورة الأنفال من الآية ٢
وأما قولنا من أي وجه تكون النسبة بين هذا وبين المثل أما إن كان الذكر بالفعل على ما
تقدم فالنسبة بينهما من أجل عدم الفائدة لهذا التارك لما أمر به في حياته فإن فائدة الحياة في هذه الدار إنما هي الكسب لتلك الدار الباقية فإنما جعلت هذه مزرعة للعباد لأن يتزودوا منها للمعاد فإذا ماتوا انقطع من هذه المزرعة كسبهم فلما كانت حياة هذا في هذه المزرعة بغير كسب المعاده كان كالميت الذي لم يبق له فيها عمل وكانت حياته كأن لا حياة
ومما يوضح ذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه العزيز حكاية عن قول من ختم عليه بالشقاء لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۱ وبالضرورة أنهم حين كانوا في هذه الدار كانوا يسمعون ويعقلون فلما كان سمعهم وعقلهم لم يجدوا لهما منفعة في تلك الدار نفوا ذلك عن أنفسهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
وأما إن كان المعنى الذكر باللسان فالنسبة بينهما من أجل ما حرموا من ذكر مولاهم لهم لأنه قد جاء عنه جل جلاله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقد قال عزّ وجلّ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ۳ قال العلماء معناه ذكر ربك عبده رحمة له فكأن من كان أعطي هذه الرحمة العظمى مع من حُرمها كنسبة الحي من الميت لأن من ترك هذا الخير العظيم بأيسر الأشياء وهو تحريك اللسان أو إمرار ذلك بالقلب فقد عدم فائدة الحياة التي هي موضوعة لكسب هذه الخيرات وأشباهها
وقد قال الله عزّ وجلّ في شأن الذكر وَالذَكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ هُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٤ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ ٤ فمن يحرم نفسه من هذا الخير العظيم كيف لا يوصف بالموت بل هو أحق بذلك وبل ٥ الموت له على خير خير من هذه الحياة المغبون صاحبها وإن كان المعنى في الحديث الوجهين معاً فكان الأمر في حق هذا المغبون أشد وأعظم أعاذنا الله من الحرمان بفضله
وأما قولنا ما يترتب على ذلك من الفائدة فغير واحدة منها الحض على امتثال الأوامر ومنها الحض على الذكر والعلم بما فيه من الخير ومنها التنبيه على أن الحياة الحقيقية إنما هي حياة
۱ سورة الملك من الآية ۱۰
أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة مريم الاية ٢
٤ سورة الأحزاب من الآية ٣٥
٥ كذا بزيادة الواو قبل بل
۱۳۹
الآخرة فيكون معظم الفائدة الحض على نبذ هذه الدار والاهتمام بتلك الدار لأن هناك هي الحياة الطيبة والعيش الرغد كما أخبر جلّ جلاله في كتابه العزيز بقوله مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ١
وفيه دليل لأهل الصوفة المتبعين للسنة والسنن لأن طريقهم الجد في اتباع الأوامر واجتناب النواهي ودوامُ الذكر شأنهم وبه فرحهم فهم الذين فَهِموا ما إليه خُلِقوا حتى صار حالهم ومقالهم على حدّ سواء فهِمُوا فسعِدوا إذ عَلِموا وعملوا وغرَسوا الشجرة فجنَوْا ثمرها أولئك موضع نظر الله من خلقه بهم يرحم العباد والبلاد أعاد الله علينا من بركاتهم في الحياة وفي الممات امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النحل الآية ٩٧
۱۳۹۳
- ٢٦٢ -
حديث فرح المؤمن عند موته للقاء ربه
عَن عُبادَة بن الصَّامِتِ ١ رضي الل الله لقاءَهُ وَمَن كَرِه لِقاءَ الله كَرة الله لقاءَهُ فَقالَت عائِشَةُ أو بَعضُ أَزواجهِ إِنَّا لَنكَرَهُ الموت قالَ لَيسَ ذَاكَ وَلكنَّ المُؤمِنَ إِذا حَضَرَهُ الموتُ بُشِّرَ بِرِضوانِ اللهِ وَكَرامَتِهِ فَلَيسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقاءَ الله وأَحَبَّ الله لِقاءَهُ وإنَّ الكَافِرَ إِذا حَضَرَهُ المَوتُ
الله عنهُ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ مَن أحبَّ لِقاءَ الله أَحَبَّ
بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّه وَعُقوبَتِهِ فَليسَ شَيْءٌ أكرَهَ إِلَيْهِ مِمّا أمامَهُ فَكَرِهَ لِقاءَ الله وَكَرِهَ الله لِقاءَهُ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والثاني إخباره لا لا لا لو أنه لا تخرج نفس من هذه الدار حتى تعرف ما لها في تلك الدار من خير أو ضده والكلام عليه من وجوه
منها الكلام على معنى أحب ومعنى كره والكلام على هذا المؤمن أي مؤمن هو فأما الكلام على معنى الحب ومعنى الكراهية فهو على نحو ما تقدم الكلام عليه في الحديث قبله على أحد الوجهين المذكورين بعلتيهما
وأما قولنا أي مؤمن هو فظاهره يعطي أن المراد به المؤمن الكامل الإيمان الذي إيمانه بتوفية ما أمر به ونُهِي لأنه جاء ذكره عليه السلام هنا للطرفين معاً الطرف الواحد من جهة الإيمان والطرف الاخر طرف الكفر والحرمان التام وبقي الكلام على المتوسط بين ذلك وهو
عنه
المؤمن الذي شاب إيمانه بالمعاصي والآثام
والجواب عليه مثل ما تقدم الجواب على المتوسط في حديث فتنة القبر فيما تقدم من الكتاب حين أخبر لا اله الا هو أن الموقن هو الذي يجاوب بالحق ثلاثاً ذلك هو الناجي وأن المرتاب
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٥١
١٣٩٤
الذي لا يعرف دينه يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فذلك هو الهالك وبقي القسم
المتوسط بين ذلك وتكلمنا عليه هنالك والكلام عليه هناك مثله يكون شأن المتوسط هنا وفيه دليل على فضل أزواج النبي الله وهو عليه انا أجمعين وفقههنَّ يؤخذ ذلك من مراجعتهن للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن بحسن الأدب بقولهن إنا لنكره الموت فانظر إلى اختصار هذا اللفظ وما تحته من الآداب والفوائد ويترتب عليه من الفقه جواز مراجعة العالم إذا بقي على السامع في فهمه إشكال ويكون بأدب
وفيه دليل على جواز إطلاق اللفظ المحتمل وإن كان الذي قصد المتكلم من محتملاته ليس هو المستعمل بجري العادة يؤخذ ذلك من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وظاهر اللفظ المستعمل بين الناس والذي يسبق إلى الفهم هو الذي راجعت به هذه
السيدة وكان قصد سيدنا له بذلك وجهاً خاصاً وهو ما أبداه الله وبينه عند مراجعة هذه السيدة
وفيه دليل على جواز إلقاء العلم للنساء ولو لواحدة منهن يؤخذ ذلك من إلقائه هذه القاعدة الشرعية لهذه السيدة وإلقاؤه ذلك إليها يدل على جواز أخذه منها لأن علم الشريعة لا يحل كتمه ويؤخذ منه جواز إلقاء المعلم المسألة المحتملة ليختبر بها أصحابه أو يسألوه عن بيانها يؤخذ ذلك من هذه اللفظة المتقدم ذكرها
وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعمل على لفظ محتمل على أحد محتملاته حتى يدل الدليل عليه أنه هو المقصود يؤخذ ذلك من مراجعة هذه السيدة حتى زال الاحتمال وأقرها الله على ذلك
وفيه دليل على تهوين الموت على المؤمن يؤخذ ذلك من فرحه بما أمامه مما بُشِّرَ به من رضى مولاه عنه وإحسانه إليه فإنه من فرح بشيء هان عليه ما لقي عليه أو دونه من الشدائد وهذا ندركه حساً في أهل الدنيا فإنهم ما حملوا فيها ما حملوا من المشاق والشدائد إلا فرحهم بها وحبّهم لها فكيف بالفرح الذي ليس مثله فرح جعلنا الله من أهله بفضله
وفيه دليل على تشديد الموت على الكافر يؤخذ ذلك من همه وحزنه على ما هو أمامه فتضاعفت عليه الهموم والشدائد ومما في معنى ما أشرنا إليه أن بعض الناس مرّ في بعض طريقه بشخص نحيف البدن وهو يُضرب بالسياط ضرباً شديداً وهو مع ذلك لا يتكلم ولا يلتفت لها حتى إلى ١ آخر سوط صاح واستغاث استغاثة شديدة فتعجب من كان حاضراً من شدة صبره أولاً
ثم تعجب منه آخراً مما ظهر منه
۱ كذا بزيارة إلى بعد حتى
فلما خُلّي عنه تَبعه فقال له ناشدتك الله ما شأنك إني تعجبتُ منك أول ضربك وحَملِك
ذلك البلاء العظيم ثم تعجبت منك من كونك آخراً من سوط واحدٍ ظهر منك ضدُّ ما كنتَ عليه فقال له إن العين التي كنت أعذب من أجلها كنتُ أشاهدها فلم أحس بتلك الأمور التي جرت على البدن مع ضعفه فلما احتجبَت عني وجدتُ ألم الحجاب أشدَّ من تلك الآلام فاجتمعت عليَّ المحن فلم أحملها فذلك الذي ظهر مني أعاذنا الله من المحن جميعاً بمنه وكرمه
وفيه دليل على أنه عند بوادي أمور الآخرة يقع هناك التصديق بها للمؤمن والكافر بلا شك ولا ارتياب يؤخذ ذلك من فرح المؤمن بما يُبشَّر به وحزن الكافر وكراهيته بما يبشر به فلولا أنهما في التصديق على حد سواء ما حزن هذا وفرح هذا
وبقي بحث وهو أن يقال متى يكون ذلك فالجواب أما من الحديث فلا يؤخذ تعيين الوقت لكن يؤخذ من حديث غير هذا وهو قوله إن الله يقبل توبة عبده المؤمن ما لم يغرغر ١ أو كما قال وهو إذا كانت الروح في الحلقوم وعاين مبادىء أمور الآخرة فهناك يكون وقت البشارة ولأنه لو كانت البشارة للكافر قبل ذلك الوقت الذي تقبل منه التوبة والإسلام وحصل له التصديق كان إذ ذاك يُسلم الكافر ويتوب العاصي فلما كانت البشارة في وقت لا تنفع فيه التوبة ولا الإسلام حصل له التصديق في وقت لا حيلة له في الخلاص فاشتد لذلك الحزن عليه والله أعلم
وقد أخبرني من أثق به ممّا يقوّي ما أشرنا إليه أنه كان به بعض من يقرب منه وكان مسرفاً على نفسه فابتلي في بدنه فتاب ورجع إلى الله وبقي معه الخوف مما تقدم فكان يقول لذلك الشخص مع مرور الأيام يا فلان كيف يكون قدومي على الله وبماذا ألقاه ويحزن لذلك كثيراً فلما مَرِضَ مَرَضَ الموت واحتُضِرَ التفت إلى ذلك الشخص بعدما نظر إلى السماء وتبسم وتهلل وجهه فرحاً فقال يا فلان أبشر فما ثَمَّ إلا خيرٌ وشهق شهقة طلعت منها روحه وفيه
قيل
للموت فاستعد إن كنت عاقلاً وبالتقوى فتزود إن كنت راحلا وإلى الله فارجع فإنك عليه قادم عاجلاً وفي البشارات إشارات بها السعيد حافلاً جعلنا الله ممن احتفل بها وبها سعد بمنّه
امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٣٩٦
- ٢٦٣-
حديث ما يتبع الميت إلى قبره
عَن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول قال رسُول الله يتبع الميَّتَ ثلاثة أَنَسِ فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله
*
ظاهر الحديث أن الميت يتبعه الأهل والمال والعمل فلا يبقى معه إلا عمله ويرجع الباقي والكلام عليه من وجوه
منها الكلام على الاتباعية كيف هي وما الحكمة في الإخبار بهذه الثلاثة ونحن نعرف
ذلك ونشاهده
حدة
أما قولنا في الاتباعية كيف هي فالتقسيم يقتضي أن نتكلم على كل واحدة من الثلاثة على
فاتباع الأهل هو حملهم جنازته وصيغة اللفظ تقتضي أن يكون الماشون مع الجنازة خلفها والسنة أن يكون الماشون مع الجنازة أمامها وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الناس بالدّرة على المشي خلفها ويقول إنما أنتم شفعاء لها والشفيع يكون أمام المشفوع له أو كما قال رضي الله عنه
والجمع بين ذلك أن نقول إن الذي يخرج من أجل شخص حياً كان أو ميتاً فإنما هو تابع له وإن كان يمشي أمامه ألا ترى أنه ليس له اختيار أن يقصد موضعاً إلا الموضع الذي خرج إليه معه فهو تابع له فلما كان خروج الميت ومشيه إلى قبره فمشي أهله معه إلى القبر إنما هو من أجله فإنهم لا حاجة لهم في القبر نفسه فهم في مشيهم - وإن كانوا أمامه - تابعون له حيث كان قبره مشوا
معه إليه فبان في حقهم اسم التبعية له وتقدمهم أمامه اتباعاً لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما اتباع المال ففيه بحث وهو أن الميت عند خروج نفسه يرجع المال لغيره فكيف يصح أن تقول مالُه تَبِعَهُ وهو لغيره وماذا من المال يتبعه إلى قبره فمن كانت له دور أو بهائم أو عَيْن فكيف يتبعه إلى قبره
۱۳۹۷
والجواب أن ذلك الزمان الذي بين دفنه وخروج الروح المالُ فيه مضاف إليه لأن السنّة
أحكمت ألا يُقْتَسَمُ ماله إلا بعدما يُخرج منه كفنه وما يحتاج إليه من جهازه إلى قبره ووصيته ودَيْنه إن كان عليه وبعد ذلك إن فَضَل من المال فضل اقتسمته الورثة بمقتضى ما فُرِضَ لهم والسنة تعجيل دفن الميت كما قال إنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم ١ أو كما قال عليه السلام فصح أن يقال ماله فإن أمره فيه عامل وهو إليه في الوقت مضاف من أجل أنه إنما يكنى عن المال في الوقت بـ تركة فلان الذي هو الميت ولم تحصل يد أحد ممن له فيه حق
على شيء منه بعد
وأما قولنا ماذا يتبعه من ماله فإن العرب تسمي البعض باسم الكل والكل باسم البعض فيتبعه من ماله عبيده إن كان له عبيد وما يحمل عليه وما يحفر به قبره من الآلة وما يشبه ذلك فيصح أن يطلق عليه اسم ماله ومن جهة المعنى إذا رجعوا من دفنه إنما يأخذون في تقسيم المال إلى من له حق فيرجع الاسم معهم إلى وقت وصولهم إلى منزله وتوزيعه على من له فيه شيء وبعد ذلك يصبح المال ملكاً لمن له فيه حق ولهذا صح أن يقال تَبِعَه ماله من جهة الحس ومن
جهة المعنى
وأما اتباع عمله له ففيه بحث أيضاً وهو أن عمله قد رفع وكتب وموته جاء بعد نفاد عمله ورفعه فكيف يكون المتقدم تابعاً للمتأخر فالجواب أنه لما كان العمل - وإن كان قد رفع - فصاحبه به مطلوب و به مأخوذ لا يمنعه عنه مانع حيث كان فصح أن يقال عنه أن يقال عنه تابع له وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث إن كان صالحاً لم يأنس إلا به وإن كان سيئاً لم يستوحش إلا منه أو كما قال عليه السلام
وقد جاء أن العمل إذا كان صالحاً دخل على المرء في قبره في صورة شخص حسن الصورة طيب الرائحة نُورِي فيأنس به من وحشة القبر فيقول له من أنت الذي قد مَنَّ الله عليَّ بك فيقول له أما تعرفني فيقول له لا أعرفك فيقول له أنا عملك الصالح في دار الدنيا لا أفارقك وإن كان العمل سيئاً دخل عليه في صورة وحشة منتنة وظلمة فيستوحش منه زيادة على وحشة القبر وضيقه فيقول له من أنت الذي روّعتني فيقول له أما تعرفني فيقول له لا أعرفك فيقول له أنا عملك السيىء في دار الدنيا لا أفارقك أو كما ورد عافانا الله من سيىء الأعمال بمنّه وأما قولنا ما الحكمة في الإخبار بهذا ونحن نشاهده ونعرفه فالحكمة في ذلك من
وجوه
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم
۱۳۹۸
منها أنه إنما نعاين من جهة الإدراك بالحواس رجوع الأهل والمال وإنما نعرف من طريق الإيمان بما أخبرنا من ذلك فإعادته هنا بعد العلم به لأن ذلك من لازم الإيمان فهو تأكيد في الإخبار حتى يرجع أمر الغيب عندنا في ذلك مثل الذي نشاهده حساً من الأهل والمال
ومنها التنبيه على الاهتمام بتحسين العمل وكثرة الاشتغال به إذ هو الذي يبقى معنا وغيره يرجع عنا فتقديم من يبقى معك على من يرجع عنك ضروري إن عقلت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الويل كل الويل لمن ترك عياله بخیر وقدِم على ربه بِشَر ۱ أو كما قال عليه السلام
ومنها التنبيه على الزهدِ في دار أنت خارج منها على هذه الحالة لا محالة والإقبال على دار ليس لك فيها إلا ما قدمته من هذه الذاهبة عنك فاغتنم زمان المهلة قبل وقت الندم ولا ينفع وتطلب الرجوع لتجبر فيقال لك الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ٢
وفيه دليل على جواز اتخاذ الأهل والمال ولا يضران إذا كان العمل صالحاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يتبعه ماله وأهله فلو لم يكن ذلك جائزاً ما جعله من التابعين له ويترتب عليه من الفقه أن يذكر الإنسان بالخير وإن كان يعلمه ويحذّر من الشر وإن كان يعرفه فإن الغفلة غالبة علينا ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تلاقوا يقول بعضهم لبعض تعالوا نؤمن أي نتحدث في الإيمان وأنواع تكليفاته لأن يذكر بعضهم بعضاً فيقوى إيمانهم فيكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى كما قال جل جلاله وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ٣
وفي هذا دليل لأهل السلوك فإن هذا شأنهم إذا اجتمع أحدهم مع صاحبه لم يكن حديثهم إلا في الإيمان وأنواع الأعمال والأحوال فإن افترقوا اشتغلوا بما به تحدثوا أولئك الذين فهموا معاني الكتاب والسنة
جعلنا الله من التابعين لهم بإحسان بفضله ومنه لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أورده الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤٠٩/٨
والعجلوني في كشف الخفا ٤۸/
مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه
۳ سورة المائدة من الآية ٢
۱۳۹۹
-٢٦٤-
حديث النَّفي عن سب الأموات
عَن عائشةَ رَضي الله عنها قالت قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا تَسُبُّوا الأموات فإِنَّهُم قَد
أفضَوا إلى ما قَدَّمُوا
ظاهر الحديث النهي عن سب الأموات والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي على عمومه في المؤمن والكافر أو في المؤمن خاصة فالجواب أن ظاهر اللفظ يعطي العموم وما يفهم من قواعد الشريعة يخصصه بالمؤمنين لأن الكافر لا حرمة له في حياته فكيف بعد مماته والمؤمن لما كانت غيبته في الحياة ممنوعة أمر الشارع باستصحاب تلك الحرمة بعد الموت وزاد ذلك بياناً بتعليله عليه السلام النهي بقوله فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وفي تعليل النهي الذي نهى عنه عليه السلام دليل على تبيين تعليل الأحكام لمن تلقى إليه ليكون في أحكام الله عزّ وجلّ على بصيرة وفيه دليل على فضيلة الإيمان وحرمة أهله يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام عن سبّ الميت من أهل الإيمان وإن كان مجرماً
وفيه دليل على جواز ذكر الموتى بخير لأن النهي عن الشيء دليل على جواز ضده على
أظهر الأقاويل
وفيه دليل على أنه حين خروج الميت من هذه الدار يلقى عمله والمجازاة عليه خيراً كان أو
ضده يؤخذ ذلك من الله الله فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا كما نبهنا عليه في الحديث قبل وفيه دليل على أن ليس للمرء في تلك الدار إلا ما قدم من هذه كما أشرنا إليه في الحديث قبل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أفضوا إلى ما قدَّموا ويشهد لذلك قوله تعالى ﴿ وَأَن لَّيْسَ
١٤٠٠
حديث أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها
عَن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عَنهُ قالَ َقدِمَ عَلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌّ فإذا امرأَة مِنَ السَّنِي تَحلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقي إذ وَجَدت صَبيًا في السَّبي فأَخَذتهُ فأَلصقتهُ بِبَطنِها وَأرْضَعَتْهُ فَقالَ لَنَا النَّبِيُّ أَتَروْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلدَها فِي النَّارِ قُلنا لاَ وَهِيَ تَقدِرُ أَلا تَطْرَحَهُ فَقالَ الله أرحَمُ بِعِبادِهِ مِن هَذِهِ بِوَلَدِهَا
ظاهر الحديث الإخبار بقدر عظيم رحمة الله تعالى بعباده بمشاهدة ذلك المثال والكلام
عليه من وجوه
جميع
منها قوله بعباده هل هو عموم للمؤمن والكافر والحيوانات على اختلافها وغيرها من المخلوقات أو ذلك خاص بالمؤمنين فيكون اللفظ عاماً ومعناه الخصوص لفظ العباد يقتضي العموم وقرينه الحال - وهو ذكره طرحها لولدها في النار - إشارة إلى تخصيص المؤمنين وتطييب قلوب السامعين منهم أن مولاهم الذي مَنّ عليهم بالإيمان به لا يعذبهم بناره وقد جاء هذا المعنى صريحاً في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله جلّ جلاله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوْةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِنَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الْأُتِيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَ إصْرَهُمْ وَالْأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ امَنُوا بِهِ وَعَذَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوْلَبِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ ١ فثبت للمؤمنين الذين هم بتلك الأوصاف المذكورة وأما السنة فبالحديث المتقدم وهو قوله صلى الله عليه وسلم ما حق
۱ سورة الأعراف ١٥٦ و ١٥٧
۱۳۰۱
الله على عباده وما حق العباد على الله ثم ذكر أن حق العباد على الله إذا عبدوه لا يشركون به
شيئاً ألا يعذبهم ۱ واحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون معنى المثال الإخبار بأن رحمة الله تعالى لا يشبهها شيء لمن سبقت له فيها نسبة من أي العباد كان حيواناً أو غير حيوان وأنها لا يضر معها شيء وبقي العلم بتحقيق من سبعق له فيها نصيب ولذلك قال الفضلاء رِضَى الله عنهم لا سَخَطَ بعدَه أبداً يعنون من سبق له في الأزل رضاءٌ فلا يضره مع السابقة شيء ولذلك قالوا كم من صديق في القبا وكم من عدو في العبا نظراً إلى السابقة بماذا سبقت
وقد سأل بعض أهل الشيع بعض أهل السنة فقال إن الرحيم من حقيقته ألا يعذب أحداً من عباده فكيف يعذب عباده بالنار وهو الرحمن الرحيم فجاوبه السني بأن قال إن الله سبحانه أسماء عديدة منها المنتقم وكل أسمائه عزّ وجلّ حقيقة لا مجاز فيها ولا بد لكل اسم أن يظهر ما يدل عليه في عالم الوجود والخلق فمَن خَصّه بالرحمة فلا يعذبه ومن خصّه بالانتقام فلا يرحمه ومن حكمته عزّ وجلّ أن يخصص من عباده من شاء بما شاء على مقتضى كل اسم وصفة وقد قال جل جلاله نَبِيَّ عِبَادِى أَنِي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأليم فبهت الشيعي وكأنه ألقم حجراً
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو لأهل القلوب وهو أن يكون معنى الحديث الحثّ على التعلق بالله تعالى والزهد في غيره لأن العباد من شأنهم طلب الحوائج وطلب الخيرات والاستعاذة من المكروهات والتسبب في ذلك وطلب بعضهم من بعض المساعدة على ذلك والعادة بينهم أنهم لا يقصدون في الحوائج ولا تتعلق امالهم إلا بمن فيه رحمة وإحسان فأخبرهم الصادق و أن رحمة المولى سبحانه بعباده على العموم أكثر من رحمة هذه المرأة بولدها - التي قد جرت العادة المألوفة من النساء على أولادهن - ببون عظيم
فمن يرد طلب خير أو دفع ضر أو أي حاجة أرادها فليقصد من رحمته أعظم من رحمة هذه بولدها فهو أنجح له في حاجته وأيسر له فيما يؤمله ولذلك قيل من كان قاصداً فليقصد مولاه
فهو سبب إلى رحماه وقال بعضهم هَبْني أتيتُ بلا معنى ولا سبب
أليس أنت إلى معروفك السَّببُ
۱ جزء من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنهما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه سورة الحجر ٤٩ و ٥٠
۱۳۰
وفيه دليل على جواز النظر إلى النساء اللاتي يُسبَين قبل القسم يؤخذ من نظره إلى هذه المرأة وإرشاده للصحابة رضي الله عنهم إلى نظرها
وفيه دليل على جواز ضرب المثال بما يعقل ويدرك بالحواس تشبيهاً بما لا يعقل ولا يدرك بالحواس لتحصل فائدة المعرفة بالشيء من وجه ما وإن كان لا يحيط المثال به من كل الجهات يؤخذ ذلك من ضربه لله المثال على عظم رحمة الله تعالى التي لا تصل إليها الأفكار ولا العقول برحمة هذه المرأة على ولدها ومنه بعينه يستدل على أن صفاته سبحانه لا تشبه صفات المحدثات وإن شاركتها في التسمية يؤخذ ذلك من قوله الله أرحم بعباده من هذه بولدها والزيادة غير محدودة فلا شبه بينهما ولا اشتراك إلا في التسمية ليس إلا
وفيه دليل على ترجيح أخف الضررين يؤخذ ذلك من كونه ترك هذه المرأة تُشرِك أطفال السبي في الرضاعة وربما إذا كبروا يتناكحون وهم إخوة من الرضاعة وهذا لا يجوز فلما كان هذا الوجه محتملاً أن يكون وألا يكون وسَدَّ رَمَقهم في الوقت مما الحاجة إليه أكيدة تركها تفعل ما هو الأرجح وبهذا يستدل أيضاً على أن الضرورة لها حكم على حِدَة لأنه لولا ضرورة الأطفال في الوقت إلى الرضاع ما تركها لا لا لا لا تفعل ذلك من أجل العلة المتقدم ذكرها وهذا البحث هو على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وفيه دليل وهو أقوى في البحث وهو أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة لأن أطفال الكفار في الدين مثل ابائهم وإن ملكهم المسلمون فلو كانوا مخاطبين بفروع الشريعة لكان سيّدنا يقول للصحابة في ذلك شيئاً لأنه عليه السلام المشرع وسكوته عند الحاجة إلى البيان لا يجوز ويترتب عليه من الفقه أن أولاد الكفار إذا ملكوا وهم دون البلوغ أن يُحكم لهم بالكفر وإن أسلموا إلا أن يكون إسلامهم بعد بلوغهم وقد نص الفقهاء على أن من سُبِي منهم دون البلوغ وأجبر على الإسلام أو أسلم من تلقاء نفسه ثم مات قبل البلوغ أنه لا يدفن مع المسلمين ولا يصلى عليه فإن حكمه حكم الكفار إلا خلافاً شاذاً لا يعوّل عليه هذا هو الغالب على الظن وفيه إشارة لطريق المحبين يؤخذ ذلك من حال المرأة المذكورة في الحديث لما كان حب ابنها قد شغف فؤادَها بذلت نفسها في أشق الأشياء عليها فيما يشبهه في السنّ فكيف حالها لو أنها وجدت ابنها لأن كثرة الرضاع والحَلْب تُضعِف النِسَاء وكثير منهن إذا كان ابنها قوي الرضاع يُهلكها ولا تقدر على إرضاعه وهذه بكثرة وَجْدِها على ابنها قد عَمّت بالرضاع كل مولود لَقِيَتْ لشبهه بابنها كما أخبر عن قيس ليلى حيث قال ۱
1 البيت ليس في ديوان قيس هذا وهو مجهول القائل انظر الجمل للزجاجي ص ١٨٢ وعيون الأخبار ٤ ٣٤ =
=
أحبّ لحبها السُّودَان حتّـ حتّى
أحبُّ الحُبّها سودَ الكلاب
كذلك المحب لا يبالي ما لقي في حبّ محبوبه
ومثل ذلك ما أخبر مولانا جل جلاله في كتابه العزيز في قصة يوسف عليه السلام مع أخيه بنيامين حين اجتمعا فقال بنيامين ليوسف عليهما السلام لا أفارقك أصلاً فقال له يوسف عليه السلام لا يمكن ذلك إلا بعد أن تقرَّ على نفسك بالسّرقة فرضي بإلقاء الوصف الذميم على اليد السالمة من العار والخيانة بغية الإقامة مع الحبيب فقال تعالى ﴿ فَلَمَّا جَهَزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَنَ مُؤَذِّنُ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حَمَلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمُ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنَفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَرِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ۱ هان عليه وصف الخيانة لتوفية رفع الملامة وخلوه بالحبيب دون مشوش ولا ﴾ رقيب هذا في حق مخلوق فان فكيف في حب خالق باق
هانت والله عليهم النفوس فبذلوها في حب مولاها فوصل عزّ وجلّ حبلهم بحبله وأدناهم وسقاهم فأحياهم أهانوها فرفعوها وأذلوها فأعزوها وأفردوها فجمعوها وحرموها فأسعدوها وقطعوا العلائق فأمنوا البوائق وحادوا عما سواه فلم يجدوا إلا إياه ومن قول بعضهم تفردت عن الأكوان بحبه وكذلك عبد الفرد لايزال فرداً فَمُناهم هَنَاهُمْ برضى مولاهم يا طوباهم حين لقاهم مولاهم فيا من أسعد محياهم بحرمتهم إلا ما أوردتنا مواردهم يا كريم يا
وهاب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
وشرح المفصل ٩ ٤٧ وتهذيب الألفاظ ص ٤٦٥ وتهذيب إصلاح المنطق ص ٢٢٦
۱ سورة يوسف ٧٠ - ٧٦
١٣٠٤
حديث رحمة الله تعالى لجميع المخلوقات
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ جَعَلَ الله الرَّحمةَ مائَةَ جُزءٍ فأمْسَكَ عِندَهُ نِسعَةً وَتَسعينَ جُزءاً وأنزَل في الأرضِ جُزءاً واحِداً فَمِن ذَلِكَ الجُزءِ يَتَراحَمُ الخَلْقُ حَتَّى تَرفعَ الفَرسُ حافِرَها عَن وَلَدِها خَشيَةَ أن تُصيبَهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل ما في الأرض من رحمة في قلوب جميع الخلق جزء من مائة جزء مِمّا أَعَدَّ الله لعباده من الرحمة وأن باقي المائة - وذلك تسعة وتسعون جزءاً ـ مؤخرة عنده عزّ وجلّ لهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى جعل الرحمة في مائة جزء وما معنى أمسك عنده ولمن ذلك الإمساك هل لجميع الخلق أو لعبيد مخصوصين ولم خص ذكر الفرس من بين سائر الحيوانات وما الفائدة لنا في الإخبار بذلك وهل لنا طريق إلى معرفة كيفية إنزال ذلك الجزء أم لا وهل لفظ الخلق يكون عموماً في الحيوان وغير الحيوان أو يكون خاصاً بالحيوان لا غير وقوله وأنزل في الأرض جزءا هل يعني بـ الأرض الجنس أو النوع وهذه هي الأرض التي نحن عليها فأما قولنا ما معنى جعل الرحمة في مائة جزء احتمل وجهين أحدهما أنه سبحانه لما من على خلقه برحمة معينة جعلها لهم في مائة وعاء فأهبط منها وعاءً واحداً إلى الأرض كما أخبر عليه السلام في الحديث وبقي الباقي عنده عزّ وجلّ واحتمل أن تكون الفاء ۱ زائدة ويكون معنى الإخبار أن الرحمة التي منّ بها على خلقه سبحانه قسمها مائة جزء فأنزل إلى الأرض جزءاً واحداً لأن العرب كثيراً ما تزيد الحروف في أول الكلام - وهو من فصيحه - وأبقى التسعة
والتسعين جزءاً عنده
1 يعني في قوله فأمسك
۱۳۰۰
وأما قولنا ما معنى أمسكها عنده أي أنه لم يشأ سبحانه نزولها إلى هذه الدار وأمسكها للدار الأخرى وهناك يكون الإنعام بإيصالها لمن كتبها له
وأما قولنا لمن ذلك الإمساك هل لجميع الخلق أو لعبيد معينين منهم أما من الحديث فليس فيه مايدل على ذلك لكن قد أفصح الكتاب والسنّة بذلك فأما الكتاب فآيات عديدة منها
قوله عز وجل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَجهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأُمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أَوَلَيْكَ هُمُ الْوَرِثُونَ ﴾ ١ ومنها قوله تعالى ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِنَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمَرَ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْنُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنْهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوَلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وأما السنة فالأخبار فيها كثيرة منها الإخبار بأمر الساعة كيف يُحشَر جميع الخلق فيقال بعد الحساب للكل ما عدا الثقلين الجن والإنس كونوا تراباً فيعودون تراباً والثقلان قسمان إما شقي ففي النار وإما سعيد ففي الجنة فمن كان في النار أو صار تراباً لم يبق له في تلك الرحمة نصيب وبقيت موفورة لأهل دار الكرامة وهم المؤمنون من الثقلين الجن والإنس جعلنا الله من أهل دار السعادة بمنّه
وأما قولنا ما الحكمة في كونه خص الفرس بالمثال دون غيره من الحيوان فنقول والله أعلم لوجوه منها أنه أشد الحيوان الذي نعاين من حركته وحركة أولاده وأكبره لأن غيره الذي هو أكبر منه مثل الأسد والفيل لا نعاين ذلك منهم لقلة مخالطتنا لهم ۳ كما ضرب عزّ وجلّ المثل بقوله تعالى أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَهَا وَزَيَّنَّهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتَنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيچ ٤ ولم يقل إلى الكرسي أو إلى
۱ سورة المؤمنون ۱ - ۱۰ سورة الأعراف ١٥٦ و ١٥٧
۳ كذا بضمير العاقلين
٤ سورة ق ٦ و ٧
١٣٠٦
العرش اللذين هما أعظم المخلوقات وإنما أحالنا عزّ وجلّ على الذي نلحق إليه بحواس أبصارنا
ومنها لما جعل في الفرس من الخفة والسرعة في تنقلها فكونها مع ذلك الذي طبعت عليه
من سرعة الحركة من أجل الرحمة التي قسم لها منها ذلك الجزء اللطيف ترفع حافرها عن ابنها ومنها أن الخيل تحمل من التعب بالكرّ والفرّ وكثرة الجري والجهد في ذلك حتى يلحقها من التعب ما لا يلحق غيرها من الحيوان ثم مع ذلك يشتد احتياج ابنها إليها فلما قسم لها من تلك الرحمة تؤثر الشفقة على ابنها على راحة نفسها حتى ترفع حافرها عنه خيفة أن تصيبه وتعاين ذلك كله منها ما لا تعاينه من غيرها ولا سيما العرب وهم في هذا أكثرُ الناس مباشرة ويخبرون عن الخيل بأشياء عجيبة منها ما ذكر عن ذي القرنين حين أراد أن يدخل الظلمة التي عارضته حين خرج يطلب عين الحياة وكيف يتأتى له دخول تلك الظلمة وكيف الخروج منها فأشار عليه الذين يعرفون فوائد الخيل بأن قالوا خذ الإناث من الخيل التي لها بطن واحد فإنها أقوى أبصاراً وأشدّ واحبس أولادها في أول الظلمة حيث النور ثم خض بها في تلك الظلمة حيث شئتَ فإذا أردتَ الرجوع فاقلب رؤوسها فإنها ترجع إلى أولادها في أسرع وقت ففعل ذلك فجاء الأمر كما
أخبروه
وأما قولنا ما الفائدة في الإخبار لنا بذلك فلفوائد منها الإخبار بأن الرحمة في تلك الدار أكثر وأعظم من البلاء لأنه عليه السلام قد أخبر عن النار في الأحاديث قبل أنها فضلت على نارنا هذه وهي جميع نار الدنيا بتسعة وتسعين جزءاً والرحمة المذكورة في تلك الدار بتسعة وتسعين جزءاً من مثل جميع كل رحمة في هذه الدار إذا جمعت ثم مع ذلك هي خاصة كلها للمؤمنين ويقوي هذا التأويل قوله جل جلاله على لسان نبيه عليه السلام إن رحمتي غلبت ۱ لأن أثر الخير الذي هو دال على الرحمة أكثر من المحن الدالة على الغضب فلو لم يكن إلا هذه لكانت فائدة عظمى ويستدل منها أن رحمته جلّ جلاله التي هي صفة ذاته الجليلة ليست تُحَدُّ ولا تكيف لأن تحديد هذه الموهبة - وهي أصل الخير والإحسان - لا تقدر العقول على حصرها فكيف بالتي هي الدالة عليها وبهذا علمنا أن الذات الجليلة ليست بمحدودة ومنها إدخال السرور على نفوس المؤمنين لأن النفس من عادتها أنه لا يكمل فرحها بالخير إلا إذا كان
غضبي
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي
۱۳۰۷
محدوداً فأخبرهم عليه السلام بذلك الحَدّ العظيم ليكمل فرحها بما وهب لها لعلها تجده
عند احتياجها إليه
وفيه تحضيض على الإيمان والقوة فيه لأن المؤمن إذا علم قدر داره التي قراره فيها وكيفية الخير الذي له فيها قوي إيمانه فكان ذلك عوناً له على الزهد في هذه الدار والرغبة في تلك الدار ومما يقوي هذا قوله الا الله المَوْضِعُ سَوْط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ۱ وهذا منه عليه السلام إخبار بتفاوت النسبة بين الدارين وترغيب في تلك وتزهيد في هذه الفانية
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون إن نعيم تلك الدار وضده محسوسان مدركان وهو الحق الذي لا خفاء فيه وتقتضيه أدلة الكتاب والسنة يؤخذ ذلك من هذا الحديث من قوله عليه السلام حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها فإن رفع الحافر شيء محسوس لا شك في ذلك ومن أجل ذلك وقع التمثيل به
وأما قولنا هل لنا طريق إلى معرفة كيفية إنزال ذلك الجزء إلى الأرض فاعلم أن اتصال تصرف قدرة القادر جل جلاله في المقدورات وكيفية التصرف ليس للعقول فيه مجال إلا بالتصديق والتسليم وقد تقدم أول الكتاب في هذا النوع ما فيه كفاية بفضل الله تعالى
وأما قولنا لفظ الخلق هل يكون عاماً في جميع الخلق حيواناً أو غير حيوان اللفظ محتمل للوجهين معاً والذي يعطيه الدليل من خارج أنه عموم في الحيوان وغيره لأن قد جاء أن يوم القيامة تُسأل الشاةُ القرناء لم نطحت الجمَّاء والعودُ لِمَ خَدَش العود والحجر لم لامس الحجر فلو لم يجعل بينهم ۳ رحمة لما حوسب على تركها وقد جاء أن الأرض تضم المؤمن إذا جعل في قبره ضمة رحمة وتقول له ما أحَبَّ منك حين كنتَ تَمشي على ظهري ! فكيف اليوم وأنت في بطني والكافر بضد ذلك ومن جهة عظم القدرة العموم أولى ليظهر بذلك تفاوت النسبة بين حالة هذه الدار والدار الآخرة وهو أولى وأظهر
ومما يقوي أنها عموم في جميع الخلق قوله تعالى ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَرُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءِ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ٤ ولا تكون الخشية إلا
۱ رواه الإمام أحمد والهيثمي في مجمع الزوائد ٤١٥/١٠
٢ أخرجه الإمام أحمد ومسلم والبخاري في الأدب المفرد والترمذي والطبراني في الكبير عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء نطحتها
۳ كذا بضمير العاقلين ٤ سورة البقرة من الاية ٧٤
۱۳۰۸
حيث جعلت الرحمة وقد قال عزّ وجلّ في الحيوان العاقل ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ﴾ ١ والعلماء بالله هم أكثر الناس رحمة وأكثرهم حناناً وشفقة ولا تكون الخشية إلا حيث تكون الرحمة وقد قال العلماء كلُّ ما رأيتَ من جبل انهد أو حجر انشق فإنما هو من خشية
الله تعالى
وبقى هنا للحكمة الربانية أثر عجيب في قسمة تلك الرحمة فقد تكون قسمة بعض الجماد منها أبرك وأكثر مما قسم للحيوان العاقل المخاطب فيكون الحجر على صلابته والجبل على قوته يتفتتان وينهدان ويسيلان من الخشية وتكون هذه الجارحة الصنوبرية - على صغرها ولينها - لا تتأثر لشيء من أثر قدرة القادر الجليل وهذا من أعظم العجائب لمن فهم ولذلك جاء التوبيخ بها في الكتاب العزيز ولكن المحروم أطرش كم ذا يضرب في حديد بارد! تعب بلا فائدة وقوله صلى الله عليه وسلم أنزل في الأرض هل المراد هذه الأرض الواحدة التي نحن عليها أو جنس الأرض فيكون نزوله في الأرضين السبع اللفظ محتمل لكن يقوّي أنه للكل من خارج ما قاله
بعض العلماء إن الأرض الرابعة عُمارها الجن وهم أحد الثقلين المكلّفَيْنِ وبينهم تراحم وتواد صالحهم وضده وقد قيل عرش إبليس في الرابعة وذكر أنه في السابعة هو وجنوده وإن كانوا على ما هم عليه من الضلال فبينهم تراحم وتواد وهو أيضاً من جهة عظم القدرة وتفاوت النسبة بين الدارين كما تقدم أولى وأظهر
وبقي في الحديث بحث لطيف وهو ما يعني بهذه الرحمة هل كل رحمة وجدناها بين العالم كانت من أجل الله أو من أجل حب وولوع أو جوار أو دوام مصاحبة أو للإحسان والألفة أو أي نوع كانت هي من تلك الرحمة أو ما هي منها إلا ما كان الله ليس إلا احتمل الوجهين معاً والأظهر أنها عامة بأي نوع وجدت فهي من تلك الرحمة الواحدة المنزلة ويقوّي هذا الوجه قوله حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وإنما ترفع الفرس حافرها عن ولدها لما
جعل لها من حب ولدها هذا نجده في الحيوان غير العاقل من باب وفي العاقل أحرى ويترتب على هذا الوجه من الفقه وجوه منها اتساع الرجاء في عظم الرحمات المدخرة وعظم التباين في النسبة بين الدارين وأن الرحمة التي في تلك الدار خير كلها وما يصدر عنها كذلك وأن الرحمة التي في هذه الدار بنسبة الدار مختلطة بحسب ما تصدر عنه وإليه فما كان منها الله وعن الله فهي خير كلها وما كان في الضد منها فهي في الضد في الأحكام كلها وما كان منها في
المباح فهي من نوعه
۱ سورة فاطر من الآية ۸
۱۳۰۹
ويقوّي هذا التوجيه قوله تعالى ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذَكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ۱ فمنع عزّ وجلّ من الرحمة٢ أن تكون في غير ما يرضي الله فإن وقعت فليست برحمة مرحوم فاعلها بل هي رحمة معاقب صاحبها وعلى هذا فَتَبَصَّرْ تجد الأمر كما وجهناه
وفي الحديث الذي بعده ما يقوي هذا المعنى بحسب ما يفتح الله تعالى في تبيين ذلك ولهذه الإشارة جعل أهل التوفيق كل حركاتهم وأقوالهم وأفعالهم مع القريب والبعيد الله وبالله ومما علمه بعض من نسب إليهم من الدعاء في بعض مرائيه أن قيل له يكون من دعائك اللهم اجعل جميع تصرفي فيما يرضيك ابتغاء مرضاتك جعلنا الله ممن مَنّ عليه بذلك حتى يتوفانا عليه بفضله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النور من الآية ٢
أي بعض الرحمة
۱۳۱۰
ITE I
حديث مَثَل توادَ المؤمنين وتراحمهم مثلُ الجَسَد
عَنِ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ ١ رضي الله عَنهُما يَقولُ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرى المؤمنينَ في تَراحُمِهم وتَوادهم وتعاطفهم كَمَثَلِ الجَسدِ إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد لَهُ بالسَّهَرِ وَالحُمَّى
ظاهر الحديث يدل على أن المؤمنين كلهم وإن تباينوا أو تباعدوا كالجَسَد الواحد كلما أصيب أحدهم بشيء أصاب الجميع منه نسبة والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه تقوية للتوجيه الذي وجهناه آخر الكلام على الحديث قبله لأنه عليه السلام جعل تواد المؤمنين وتراحمهم مخالفاً لتوادّ غيرهم وتراحمهم ومنها هل التراحم والتواد والتعاطف ألفاظ مترادفة والمعنى واحد أو لكل لفظ معنى خاص وهل هذا للمؤمن الكامل الإيمان أو لكل من دخل تحت هذا الاسم وما الحكمة بأن مثل الإيمان بالجسد والمؤمنين بالأعضاء منه
مختلفة
فأما قولنا هل الثلاثة الألفاظ بمعنى واحد أو لمعان فنقول والله أعلم بل هي لمعان
فقوله في تراحمهم معناه أن الرحمة التي جُعِلت في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض من أجل أخوة الإيمان هذا لا لِوُلوع ولا لإحسان ولا لشيء خلاف الإيمان هذا هو أصلها وقد تتزايد للوجوه الموجبة لرحمته عزّ وجلّ كما جاء في حق الجار أن له بنفس الجوار حقاً فإن كان مؤمناً كان له حقان فإن كان قريباً كان له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق الإيمان وحق القرابة وكذلك إن كان صهراً من الأصهار زاده حقاً رابعاً فكذلك الرحمة التي بين المؤمنين
۱ مرت ترجمته في الحديث ۱۰۳
۱۳۱۱
تتضاعف بحسب الموجبات للرحمة مثلما فعل سيدنا الا الله وحين رُفع له ابنُ ابنته ونفس الصبي
تتقعقع كأنها شَن ۱ ففاضت عيناه عليه السلام فقال سعد يا رسول الله ما هذا قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده إنما من عباده الرحماء لما اجتمع له صلى الله عليه وسلم رحمة الإيمان وما رأى من صغر الصبي ومن شدة معالجة الموت وما بينهما من النسب حتى سالت
يرحم
تلك الدمعة المباركة لتضاعف الرحمة عنده
الله
و توادهم كناية عن التواصل بينهم واستعمالهم أسبابه وأصله أيضاً الإيمان وقد يتضاعف لموجباته مثل التهادي لقوله عليه السلام تهادوا تحابوا ۳ والتزاور والجوار والمشاركة عند الضرورة وكل ما يتولد عنه ودّ ما فالأصل فيه تواد الإيمان ويتضاعف بحَسَب موجباته بين
الناس
وأما التعاطف فهو تقوية بعضهم لبعض كما يعطف طرف الثوب عليه ليقويه وهو من باب قوله عزّ وجلّ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ٤ فإن أصل الإيمان هو الذي عطف قلوب بعضهم على بعض كما قال جلّ جلاله في كتابه لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَفتَ بَيْنَ قُلُوبِهِم وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ ٥ وكقصة موسى عليه السلام حين وجد الإسرائيلي مع القبطي فاستنصر الإسرائيلي بموسى عليه السلام من أجل حَمِيّة الإيمان بينهما فوكز موسى عليه السلام القبطي من أجل تواد الإسرائيلي فكان من قصتهما ما أخبر عزّ وجلّ في كتابه وقد يتزايد التعاطف بينهم أيضاً لموجباته وأصله الإيمان كقصة موسى عليه السلام لما رأى ضعف الإسرائيلي وتعدي القبطي عليه وظلمه وقلة أنصار الإسرائيلي تأكد التعاطف عند موسى عليه السلام حتى أخذ بالضربة الواحدة روح القبطي ٦
وأما قولنا هل هذه الأوصاف للمؤمن الكامل الإيمان أو لكل من دخل تحت هذا الاسم فقد بان لك بضرب المثل بسيدنا الله وبموسى عليه السلام أن ذلك من أوصاف الإيمان الكامل
۱ تتقعقع تحدث صوتاً عند التحريك أو التحرك الشَنُ القِربة الخلق الصغيرة ٢ أخرجه الإمامان مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان عن أسامة بن زيد رضي الله
عنه
۳ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤ سورة المائدة من الاية ٥ سورة الأنفال من الاية ٦٣ ٦ التفصيل في سورة القصص
۱۳۱
ولا يطلق الشارع لفظ الإيمان إلا على كماله ولذلك بين عليه السلام أوصاف المؤمنين ليعرف كل أحد قسمته أين هي وكفى به على نفسه حسيباً ولا يغتر بإطراء بعض الناس له فإن المخير صادق والناقد بصير وإليه المرجع والمصير
وأما قولنا ما الحكمة بأن شبه عليه السلام الإيمان بالجسد وأهله بالأعضاء فذلك من أبدع ما يكون في التشبيه لأنه لما كان الإيمان أصلاً وله فروع - وهي جميع التكليفات على نحو ما جاءت به الشريعة المحمدية - فإذا نقص من التكليفات شيء أو دخل في بعضها شين شان ذلك الشينُ الأصل الذي هو الإيمان لأنه يقتضي بوضعه الانقياد والامتثال فكذلك الجسد وهو واحد مثل أصل الشجرة وأعضاؤه هم المؤمنون لأنهم قد تفرقوا مثل فروع الشجرة فإذا كان شين ما في أحد الفروع شان ذلك الأصل وإذا ضرب أحد في غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها وتداعت لتلك الضربة كلها بالتحرك والاضطراب وكذلك الجسد إذا ضربت يد القَدَر عضواً منه مما يؤلمه تداعت له سائر الأعضاء كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على ما أعطى الله عزّ وجلّ لسيدنا الله من الفصاحة والبلاغة
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله الذي يقول إن الإيمان يزيد وينقص يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام حين بين صفات الإيمان الكامل والكمال ضده النقص والنقص ليس على حد واحد فبانت الزيادة والنقص وفي هذه الأوصاف دليل لطريق أهل السلوك لأنهم يطالبون أنفسهم بتوفية أوصاف الإيمان في أنفسهم ومع غيرهم وقد ذكر عن بعضهم أنه جاءه بعض إخوانه يطلب منه سلفاً فلما أخرج له ذلك السلف خرج وهو باك فقال أخوه ما أبكاك قال له تفريطي في حقك حيث جئت تطلب مني السلف واستغفر الله مما جرى منه هكذا فَكُنْ وإلا فالأصل
معلول
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۳۱۳
- ٢٤١ -
حديث ثواب من زرع زرعاً
عَن أَنَسٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال ما مِن مُسلمٍ غَرسَ غَرساً فَأَكلَ مِنهُ إنسان
أو دابَّة إلا كانَ لَهُ بِهِ صَدَقَة
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل من غرس من المسلمين غرساً فكل من أكل منه شيئاً من جميع بني آدم أو من جميع الدواب له في ذلك الشيء الذي أكل أجر صدقة والكلام عليه من وجوه منها أن يقال هل المراد بالغرس كل ما ينبت ويؤكل منه أكان له أصل ثابت مثل التمر والرمان وما أشبههما أو ما ليس له أصل ثابت مثل القمح والشعير والبطيخ والقثاء وما أشبهها أو المراد الذي ليس له أصل ثابت لا غير وهل يعني بـ المسلم الجنس أو المسلم الكامل الإيمان وهل يكون الغرس على أي وجه كان أو يكون على وجه مخصوص وهل يحتاج إلى نية في غرسه أم لا وهل يكون الأكل على أي وجه كان بحقه مثل الشراء منه وغير ذلك أو بوجه مخصوص وكذلك الدواب بأي وجه أكلته وهل جميع الدواب في ذلك سواء ما يتملك منها وما لم يتملك وهل يلحق الطير بالدواب أم لا وهل يشترط في الغرس دوام ملك الغارس عليه حين الأكل منه أم لا وهل يُعلم قدر تلك الصدقة أو ليس لنا طريق يعرف به وما الحكمة في الإخبار بذلك وما يترتب عليه من الفقه
أما قولنا هل المراد بالغرس ما له أصل ثابت وما ليس له أصل أو ما له أصل ثابت ليس إلا إن نظرنا بحسب اصطلاح الناس في الغراسة فلا يطلقونها إلا على كل ما له أصل ثابت وأما ما ليس له أصل ثابت فإنهم يطلقون عليه زراعة وإن نظرنا إلى اللغة فكل ما يبذر في الأرض وينبت ينطلق عليه اسم غراسة مثل ما جاء في وصف الجنة غرسها الرحمن بيده أي بيد قدرته
1 أخرجه الحاكم عن أنس رضي الله عنه بلفظ خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون
١٣١٤
وقال إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قيل وما إتقانه قال يخلصه من الرياء
والبدعة ۱ فكل شيء خالف لسان العلم فلا يكون عامله فيه مأجوراً فإذا خالف هذا الغارس في غرسه لسان العلم أليس يكون فعله أيماً
وأما قولنا هل يحتاج في غرسه ذلك إلى نية أم لا ظاهر الحديث لا يعطي ذلك بل هو من طريق الإفضال لكن من وُفِّقَ في ذلك إلى حسن النية كانت له زيادة في أجره لقوله صلى الله عليه وسلم خير الأعمال ما تقدمته النية كما أن النية السوء إذا تقدمته أفْسَدَتْه مثل أن ينوي بذلك الغرس ضرراً للغير أو فَخْراً أو مباهاة أو ما يشبه هذه النيات المبطلة للأعمال على حسب ما تقرر ذلك بلسان
العلم
وأما قولنا هل يكون ذلك الأكل منه على أي وجه كان بحق أو بغير حق فقد تقرر من الشرع أن كل ما أُخِذ من مال أحد بأي وجه أُخِذ بأكل أو غيره بغير حق فإن المأخوذ منه مأجور فيكون الإخبار هنا - لو كان على هذا المعنى - تأكيداً لا غير والمعروف من طريق الأحاديث أنه لا يأتي منها حديث إلا لزيادة فائدة بل لفوائد جمة مثلما قال عليه السلام إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهي له صدقة ۳
وقد تقرر بالشرع أن كل ما فعله الآدمي مما هو عليه واجب أنه فيه مأجور فلما كانت النية بالاحتساب في ذلك الواجب تزيده بذلك خيراً أخبر به عليه السلام ولما كان الزرع والغرس مما هو مباح لنا على لسان العلم وكان فيه خيرٌ متعد للحيوان العاقل وغيره تفضل المولى جلّ جلاله علينا بأن جعل لنا بذلك الخير المتعدي وإن كنا لم نقصده أن يُجعَل فيه أجر كان ذلك الأكل بحق أو بغير حق ولتلك الفائدة أخبر الصادق الله الله بذلك في هذا الحديث وجعله خاصاً
بالمؤمنين
وأما قولنا هل الدواب في ذلك الأكل سواء كانت مما يتملك أو لا يتملك لفظ الحديث يعطي العموم والعلة المتقدم ذكرها - وهي الخير المتعدي - تقويه وأما قولنا هل الطير تلحق بالدواب أو لا فإن نظرنا إلى العلة المذكورة فلا فرق بين الطير وغيره بل الطير يكون في ذلك اكد لأن منه جُلّ معاشه وإن نظرنا إلى لفظ الحديث فليس ينطلق على الطير إلا إن جعلنا من باب التنبيه بالأكثر على الأقل لأن الدواب أكثر من الطير وإن قلنا إن
۱ رواه البيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه يريد أفليس حذف الفاء
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه
١٣١٦
الطير وإن كان يطير فهو أيضاً مما يدب على الأرض فلا يخرج من عموم الحديث لأن كل ما يطير
يدب ولا ينعكس وهو الأظهر - والله أعلم - أن يكون عاماً في الطير وغيره للوجوه المذكورة وهل يشترط دوام الملك على ذلك الغرس عند الأكل أم لا احتمل والأظهر أن دوام الملك وعدم دوامه في ذلك سواء وله نظائر في الشرع عديدة منها قوله عليه السلام إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك ۱ لأنهما يعطيان ما لا يملكان ويكون لهما الأجر مثل صاحب الأصل لأنهما كانا سبباً في الخير الذي هو الإنفاق فكيف من هو سبب في أصل الخير وظهوره وهي الغراسة من باب أولى ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ل الدال على الخير كفاعله فإذا كان الذي يدل على الخير مثل فاعله وهو لم يفعل شيئاً فكيف بمن كان فيه أصلا ولهذه الفائدة وما تقدم ذكره وما بعد أخبر بذلك الصادق الأمين ويدور فيه البحث الأول وعموم لفظ الحديث يعطي ذلك ولا يخصص لفظه عليه السلام بغير معارض لأن هذا ممنوع وقد جاءت رواية إلى يوم القيامة
وأما قولنا هل لنا طريق إلى معرفة مقدار الأجر فلفظ الصدقة يكفي في ذلك لأن الصدقة يكون الأجر فيها بقدر كبرها وصغرها وهذا مثلها فقد يكون الأكل منه كثيراً أو قليلا بل بقي هنا من جهة قوة الطمع في فضل الله تعالى
وفي عموم الحديث بحث وهو هل يكون ما يأكل هو وأهله داخلاً في عموم لفظ إنسان أَوْ لا لأنه وإياهم ناس فيرجى ذلك من فضل الله تعالى لعموم اللفظ ومما يؤيد ما تقدم من البحث ما خرجه مسلم لا يغرس رجل مسلم غرساً ولا زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو شيء إلا كان له فيه أجر ۳ وفي حديث ثان إلى يوم القيامة أو كما قال عليه السلام
وأما قولنا ما الحكمة في أنه أخبرنا بهذا وما يترتب عليه من الفقه ففيه وجوه منها المعرفة بعظم مزية قدر المؤمن على غيره لكونه يؤجر على أشياء لا يؤجر عليها غيره وهو لم يقصد بذلك قربة ومنها الترغيب في المشي في التصرف على لسان العلم لأنه لا يكون هذا الخير وما أشبهه إلا لمن كان تصرفه على لسان العلم كما تقدم البحث فيه ومنها الحض على التزام طريق المفلحين ليكون له الخير في هذا وأمثاله ومنها الإرشاد إلى ترك النيات المفسدة لهذا
۱ قطعة من حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها رواه البزار عن ابن مسعود والطبراني عن سهل بن سعد وابن مسعود رضي الله عنهما ۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله عنه بلفظ ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة أو سبع أو دابة إلا كان له به صدقة
۱۳۱۷
الخير والترغيب في النيات المنمية له لأنه إذا علم أنه يثاب عليه ينميه بحسن النية فيه كما هي
عادة أهل التوفيق والاتباع السلف الخير
ويترتب عليه من الفقه أن عمل الأسباب التي اقتضتها الحكمة الربانية في عمارة هذه الدار إذا كانت على وجهها لا تنافي العبادة وفيها أجر وقربة إلى الله تعالى ومنها أنها لا تنافي طريق الزهد ويتلخص من هذا أن الزهد والرغبة أمر قلبي وقد جاء ما بين هذا أيضاً عنه حين قال ليس الزهد بتحريم الحلال وإنما الزهد بأن تقطع الإياس مما في أيدي الناس وأن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك ۱ أو كما قال عليه السلام
وفيه من الفقه الحصّ على العلم بالسنة ليعلم المرء ما له من الخير فيرغب فيه فإن مثل هذا وما أشبهه لا يعرف إلا من السنة ليس له طريق غير ذلك لا عقل ولا قياس وليعلم المرء أيضاً أن ما له من الخير يصل إليه ولو لم يعلم به وكذلك ضدّه فيحفظ نفسه من الشر وقد جاء هذا نصاً منه حيث قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها أهله لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً وإنه ليتكلم بالكلمة من الخير لا يبالي بها يرفع بها سبعون درجة في الجنة ٢ أو
كما قال عليه السلام وفي الحديث وأمثاله ما يقوي أهل السلوك والخدمة لأنهم يقولون لم يبق لأهل الفلاح في تَصَرُّفِهِمْ مباح إنما هو واجب أو مندوب لأنه قد جاء هذا الأجر في الزراعة وهي من المباحات عند أهل العلم وقد جاء أن المؤمن يؤجر حتى في بضعه لامرأته قيل يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون فيها مأجوراً فقال عليه السلام أرأيت لو وضعها في الحرام أليس يكون مأثوماً قالوا بلى قال كذلك إذا وضعها في الحلال يكون مأجوراً ۳ أو كما قال عليه السلام وجاء أن نومه إذا قصد به العون على الطاعة كان فيه مأجوراً وهو ما جاء عن معاذ حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم في قصته المشهورة فقال صاحبه أقرأ القرآن قائماً وقاعداً وأفوقه تفويقاً ولا أنام وقال معاذ أقوم وأنام وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي فشهد النبي لا الهلال والمعاذ بالفقه وجاء في شربة الماء إذا قصد به العون على الطاعة وسمّى أولاً ثم قطع وحمد يفعل ذلك ثلاثاً أن الماء يسبح في جوفه فهذه مع ما تقدم ذكره في الحديث من الاستشهادات في أن جميع تصرفات المؤمن وشهواته تراه
1 أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يرى بها بأساً ليضحك بها القوم فإنه ليقع بها أبعد من السماء ٢ أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ومطلعه الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال الخ
۳ أخرجه أبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه ومطلعه يصبح على كل سلامي من ابن ادم صدقة
۱۳۱۸
فيها مأجوراً فكيف ما هي قربة بوضعها إما واجبات وإما مندوبات فظهرت الأدلة الشرعية بتقوية
مقالهم وطريقتهم المباركة
جعلنا الله ممن ألحق بهم بمنه وفضله امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱۳۱۹
حديث رحمة الله لمن يرحم عباده
عَن جَرِيرِ بنِ عَبدِ الله ۱ رضيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَن لا يَرحَمُ لاَ يُرحَمُ
ظاهر الحديث يدل أن رحمة الله لا ينالها إلا من تكون فيه رحمة والكلام عليه من وجوه منها قوله لا يرحم ما معناه هل المراد لا يرحم أبداً أو أنه ليس من طريق الحكم بالعدل سبب يوجب له بالوعدِ الحق رحمةً احتمل الوجهين معاً بحسب التأويل في قوله عليه السلام من لا يرحم على ما يذكر بعد وهل المراد بقوله من لا يرحم لا يرحم غيره إما بإحسان أو بما يكون في مثله من تسلّ أو تَعَزّ أو إرشاد إلى غير ذلك من وجوه المسرات
أو يريد بقوله من لا يرحم لا يُرحم أي لا تكون فيه رحمة الإيمان التي هي دالة عليه فلا يرحم لخلوه من الإيمان
أو يكون المراد من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله تعالى و اجتناب نواهيه لا يرحم لأنه ليس له عهد عند الله تعالى يوجب ذلك
أو يكون المراد لا يرحم الرحمة التي ليس فيها ضيم ولا شيء من شوائب التشويشات إلا من كان راحماً على الإطلاق لنفسه ولغيره وفي إيمانه كما قال عزّ وجلَّ في كتابه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَبِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ٢ أى يحق لهم الرجاء لما أتوا
هو جرير بن عبدالله البَجَلي نسبة إلى قبيلة بجيلة وهو اسم لأم القبيلة وبها سميت كان جرير صحابياً وهو القائل ما حجبني رسول الله الا الله منذ أسلمت ولا راني إلا تبسم في وجهي أسلم سنة عشر وسكن الكوفة وفي الخبر أن عمر رضي الله عنه وجد مرّة من بعض جلسائه رائحة فقال عزمت على صاحب هذه الريح إلا قام فتوضأ فقال جرير اعزم علينا كلنا فعزم عليهم ثم قال يا جرير ما زلت شريفاً في الجاهلية والإسلام وسأله عمر رضي الله عنه عن الناس فقال هم كسهام الجعبة منها القائم الرائش والنصل الطائش توفي سنة ٥١ هـ شذرات الذهب ٥٨/١ سورة البقرة من الآية ۱۸
۱۳۰
بموجباته - فإن رجوا بغير عمل فليس ذلك رجاء وإنما تسميه العلماء تمن والتمني عندهم مطية الهلاك - وكقوله عزّ وجلَّ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِتَايَتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنْهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْتَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَعْلَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أَوْ لَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٢
أو يكون المراد أن أهل المبالغة في الرحمة يتجاوز الله تعالى بفضله عنهم ويرحمهم كما جاء تجاوزوا عن الكريم فإن الله اخذ بيده كلما عثر وقد جاء أن يوم القيامة ينادي مناد مَنْ له على الله حق فليقم فيقوم العافون عن الناس فيؤمر بهم إلى الجنة من غير حساب ۳
واحتمل أن تكون الرحمة هنا بمعنى الحسنات والأجور فإنه لا يؤجر ويحسن إليه إلا من فعل رحمة أي عملا يوجب له ثواباً كقوله عليه السلام إن الله لا يمل حتى تملوا أي إن الله لا يمل بالإحسان وحسن الجزاء حتى تملوا من العمل
واحتمل أن يكون المراد لا ينظر إليه بعين الرحمة إلا من وفق إلى الرحمة وجعلت في قلبه فتكون دالة على الرحمة له ومن لم يجعل في قلبه رحمة كان ذلك دليلا على عدم الرحمة له في الآخرة وإن كان هذا على عمل خير في الظاهر لأن تلك العلامة لم يجدها وقد جاء عنه ما يبين هذا المعنى وهو قوله عليه السلام اطلبوا الرقة في ثلاث في الذكر والتلاوة والصلاة فإن وجدتموها وإلا فاعلموا أن الباب مغلق ٥ أو كما قال عليه السلام والرقة لا تكون إلا مع الرحمة وقد قال لأعرابي ما بالك أنزع الله الرحمة من قلبك إن الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء ٦ أو كما قال عليه السلام وقد قال في القاسي القلب بعيد من الله وقد قال ألا
1 كذا والصواب تمنياً سورة الأعراف من ١٥٦ و ١٥٧
۳ أخرجه ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه بلفظ إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله وليدخل الجنة قيل من الذي أجره على الله قال العافون عن الناس
٤ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها بلفظ اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل
٥ لم نقف على مصدره لعله يعني به حديث الأقرع بن حابس حين رأى النبي الا الله وهو يقبل الحسن فقال إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم فقال من لا يرحم لا يرحم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو
حديث الباب
۱۳۱
أخبركم بمن يحرم على النار وتحرم عليه النار على كل قريب هين سهل١ أو كما قال عليه
السلام وهذه الأدلة كلها إنما هي لمن جعلت الرحمة في قلبه
واحتمل أن يكون المراد بالرحمة هنا الصدقة فيكون المراد بقوله لا يُرحم أي لا يُدفع عنه البلاء مثل ما حكي في قصة القصار من بني إسرائيل الذي كان يؤذي الناس فشكوه لنبي ذلك الزمان فأخبرهم أن الله عزّ وجلَّ يرسل عليه بلاء في اليوم الفلاني فلما كان في ذلك اليوم خرج الرجل على عادته للقصارة وأخرج معه رغيفين لغذائه فلقيه مسكين فسأله فأعطاه الرغيفين فلما كان عشية النهار وإذا۳ به راجع ما به شيء فقالوا لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعلى سيدنا وعلى جميعهم أين الذي وعدتنا فسأله ما فعلت اليوم فأخبره بإعطائه الرغيفين فأمر بحَلِّ رزمة ثيابه فوجد فيها حية عظيمة ملجمة بلجام من نار فقال لهم هذا البلاء الذي كان أرسل عليه وهذا اللجام هي الصدقة التي تصدق بها حبستها عنه أو كما جرى وقد قال ادفعوا البلاء بالصدقة ۳
واحتمل أن يكون المراد الإرشاد لجميع مصانع المعروف لقوله صلى الله عليه وسلم مصانع المعروف تقي مصارع السوء ٤
واحتمل أن يكون المراد جميع الوجوه كلها لأن على كل واحد منها أدلة من السنّة عديدة ويترتب على ذلك من الفقه أن يتفقد المرء نفسه في هذه الوجوه كلها لعله أن يكون ممن يرحم وإن عسر عليه شيء منها فيلجأ إلى المولى الكريم لعله يمنّ عليه بالرحمة وأسبابها فهو
منان كريم
جعلنا الله من أهلها بفضله في الدنيا والآخرة آمين آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الترمذي والطبراني وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار كل
قريب هين لين سهل كذا بزيادة الواو
۳ روى الطبراني في الكبير عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي الا الله قال الصدقة تسدّ سبعين باباً من السوء وروى البيهقي مرفوعاً وموقوفاً عن أنس رضي الله عنه أن النبي الا الله قال باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى
الصدقة
٤ أخرجه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفىء غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر
حديث الحث على إكرام الجار
عَن عائِشَةَ رضي "
ظَنَنتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّتُهُ
الله عنها عَن النَّبيِّ الا الله قال ما زالَ جِبريلُ يُوصيني بالجَارِ حَتَّى
*
ظاهر الحديث يدل على الحض على حفظ الجار والإخبار بكثرة وصية جبريل عليه السلام للنبي عليه السلام به والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذه الوصية من قبيل الواجب أو المندوب وهل الوصية به من قبيل الإحسان إليه وإن كان من أجل ذلك فما حدّه أو المراد غير ذلك من ترك الضرر إليه أو الجميع وهل ذلك على الإطلاق على أي حال كان الجار أو لها شروط وأي حد هو حدّ الجار من القرب والبعد ومن أي الجهات يكون وهل القريب منهم والبعيد في الحرمة سواء وهل هي من الأمور التي يحتاج فيها إلى نية أم لا
أما قولنا هل هذه الوصية من قبيل الواجب أو المندوب فهذه الصيغة لا تستعمل إلا في المندوبات والمرغبات مثل قول أبي هريرة رضي الله عنه أوصاني خليلي بثلاث ركعتي الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وأن أوتر قبل أن أنام ۱ وحفظ الجار من كمال الإيمان وهو أيضاً مما كانت الجاهلية ترعاه وتحافظ عليه وتفتخر بحفظه وتعيب تارك ذلك وتذمه وأما قولنا ما حَدّ الإحسان إليه فهو على ضربين إما الإحسان إليه بأنواع ضروب الإحسان وإما كف الأذى عنه على اختلاف أنواعه وكف الأذى عنه أشد وأبلغ في حقيقة
۱ رواه الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
۱۳۳
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۱ وماذا أعد لهم بمتضمن قوله وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ فثواب أعمالهم
محدود معلوم وما كان من فضله عزّ وجلَّ فلا تصل إليه العقول ولا تحيط به الأوهام
جعلنا الله من أهل القرب المقربين بفضله كما يليق بفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النور الآية ٣٦ و ٣٨
سورة النور من الآية ۳۸
۱۳۳
ITED-
حديث كل معروف صدقة
عَن جابر بنِ عبدِ الله ۱ رضيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ كُلُّ مَعروفٍ صَدَقَة
*
ظاهر الحديث يدل على أن كل من عمل عملاً من أعمال المعروف أن له فيه أجراً وحسنة مثل ما له في الصدقة إذا تصدق بها والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل المراد بالمعروف الشرعي أو العادي وهل فاعله يحتاج إلى نية حتى يكون مأجوراً أو بنفس فعله يكون مأجوراً وإن عَرِيَ عن النية وهل هو محدود معلوم لا يزيد ولا ينقص أو هو معلوم غير محدود يزيد وينقص بحسب الأزمنة
أما قولنا ما المراد بالمعروف فالمراد أنه قد عرف وتحقق أنه من أفعال البر فصار هذا الاسم عليه عَلَماً
وأما قولنا هل المراد الشرعي أو العادي
فالجواب أنه لا ينطلق اسم معروف إلا على ما قد عرف بالأدلة الشرعية أنه من أفعال البر كان أصله مخترعاً بالشرع أو كان عادة فأقرتها الشريعة بأن جعلته معروفاً
فمثال ما اخترعته الشريعة بأن جعلته معروفاً ولم يعلم قبل أنه من وجوهه مثل الحب في الله تعالى والبغض في الله إذا كانا بشروطهما وما يشبههما وهو كثير ومثل إماطة الأذى عن الطريق وما أشبهه وهو أيضاً كثير ومثل أنواع الأذكار وما في معناها وهو أيضاً كثير ومثل أنواع المندوبات
وأما ما كان عادة بين الناس وأثبتت الشريعة أنه معروف فهو مثل السَّلَف فإنه كان عادة بين
۱۳۳۳
۱ سبقت ترجمته في الحديثين ٥٣ و ۱۱
ـه من
الناس أثبتت الشريعة فيه من الأجر كثيراً حتى ارتفع الحق الواجب الذي فيه من الزكاة طول بقائه عند الذي استسلفه فإذا بقي مالُ المقرض الذي فيه نصاب عند الذي استسلفه سنين عديدة ثم قبضه صاحبه لا يجب عليه فيه إلا زكاة سنة واحدة لا غير ومثل استعارة متاع البيت وكان الناس يفعلونه عادةً فجاء فيه من الأجر ما جاء وجاءت الأدلة الشرعية تحضّ عليه حتى قال بعض العلماء إنه واجب ومن هذا النوع كثير وقد جاء في مبلغ أجورهم أنه من أعار قدراً كان له الأجر بقدر ما طبخ فيها من الطعام أن لو تصدق به ومن أوقد شعلة نار كان له من الأجر بقدر ما طبخ على تلك النار أن لو تصدق به وكذلك في سلف الخميرة أو هبَتِها وكذلك الملح وأما قولنا هل يحتاج إلى نية عند فعله أو بنفس الفعل يكون مأجوراً وإن لم تحضره نية فهذا يحتاج إلى تقسيم وذلك أن العلماء قد أجمعوا على أن أفعال البر كلها إذا وجدت فيها النية مقدمة فلا خلاف في كمالها ورجاء قبولها وبقي الخلاف فيما عدا ذلك هل يجزىء مطلقاً أو لا يجزىء مطلقاً أو بالتفرقة البعض يجزىء والبعض لا يجزىء خلاف متسع وترك الخلاف
أولى
وأما قولنا هل هو محمود معلوم لا يزيد ولا ينقص أو هو معلوم غير محدود يزيد وينقص حسب الأحوال والأزمنة فإن نظرنا بحسب الوقائع وطرقها فتزيد في زمان وتنقص في زمان اخر لكن الشأن هل تعلم جميع أنواعها مفصلاً هذا ما قدر أحد من العلماء أن يحصره لأنه قد جاء عن سيدنا أنه بلغ عدد المستحقرات من أفعال البر التي أعلاها منحة العنز ۱ ـ ومنحة العنز عند العرب من الأشياء التي لا يبالى بها - سبعين أو كما قيل
وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا عددناها بعد فما قدرنا على أن نبلغ فيها أكثر من خمسة عشر وهي مثل إماطة الأذى عن الطريق ومثل أن تلقى أخاك بوجه طَلْق ومثل الكلمة الطيبة ومثل الإرشاد إلى الطريق وما في معناها فإذا كان أولئك السادة لم يقدروا أن يحصروا من السبعين إلا خمسة عشر مع اهتمامهم بالدين وجمعهم على ذلك فكيف بمن بعدهم ولاسيما في زماننا هذا
وهنا إشارة لطيفة وهي أنه لما أن خفيت أفعال المعروف لدقة أكثرها أشبهت إخفاء ليلة القدر وإخفاء الساعة في يوم الجمعة وليلة القدر تُرقب في لياليها المعلومة لها والساعة التي في يوم الجمعة تُرقب في جميع يومها فينبغي أن ترقب أفعال المعروف مثلها وكيفية ذلك أن يحضر النية في أول يومه بأنه لا يفعل فعلاً من الأفعال أو يتكلم بكلمة إلا ناوياً بها القرب إلى الله تعالى
۱ من معاني العنز الصخرة في الماء
١٣٣٤
فما وقع له من ذلك فإن جدّد له نية فهو الكمال وإن حصلت له غفلة حين وقوع ذلك منه فيرجى أن ما تقدم ذلك من النية يجزىء عنه ما لم يكن لتلك النية مناقض
وقد تقدم أن الأفعال قسمان واجب ومندوب بالنسبة إلى النيات وأما المباح فلا سبيل إليه عند أهل الطريق فإذا فعل ذلك يرجى أن يصادف كل معروف كما يصادِفُ ليلة القدر والساعة
التي في الجمعة من ارتقبهما والله الموفق ويكون في ذلك كله مستعيناً بالله تعالى مستعيداً به ومستغيثاً خوفاً أن يُوكل إلى نفسه فيقطع به فيما نواه فيحصل والعياذ بالله في المقت لقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱
وهنا إشارة حسنة وهي أنه لما خفيت علينا هذه الفوائد كما خفيت علينا ليلة القدر وجعلوا قيام السنة كلها بنية ليلة القدر - كما تقدم الكلام عليه حين تكلمنا على ليلة القدر - قالوا هنا نحن نجعل حركاتنا كلها مباحَها وغير ذلك كلها بنية القربة الله تعالى فما أصبنا من أفعال البر التي قد تبه عليها ولم نصل إلى معرفتها فقد يحصل لنا المقصود إن وقع منا فعل ونية حسنة متقدمة وما كان من المباح وفعلناه بنية القربة ولم نصادف تلك الأشياء فلا يضرنا ذلك وهو وجه حسن لأننا نرجو ما قالوا في الأجر وإصابته بفضل الله تعالى
وما قالوا فإنه إذا لم يصب من ذلك شيئاً لا يضره ذلك وأنه لا يخلو في ذلك الوجه من الأجر أيضاً لحرصه على إصابة الخير واتباع السنة وقهر نفسه حتى نفى عنها المباح الذي لها سعة فيه وملازمته ذلك ابتغاء مرضاة مولاه العليم الكريم وكيف يضيع ذلك ومولاه جل جلاله يقول في كتابه وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا بل يرجى أن يزيد مع الأجر في ذلك النور والهدى إلى سبيل الخير بالوعد الجميل ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ۳ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثًا 4
لكن بقي علينا كيف توجيه حسن النية في جميع الحركات على نحو ما أشاروا إليه كيف يكون حتى نسلم من البدع ونكون في ذلك على لسان العلم فنقول والله المستعان لا يخلو ما يتصرف فيه العبد أن يكون فيما يخص نفسه أو ما يخص غيره فإن كان فيما يخص نفسه فلا يخلو أن يكون من النوع الذي فيه قربة لله تعالى - فهذا قد تميز بنفسه - أو يكون مما أبيح له فعله على لسان العلم فيجعله بنيّة العون على طاعة الله دَقَّ في ذلك أو جَلَّ ودليله في ذلك قول
1 سورة الصف من الآية -۳
سورة العنكبوت من الاية ٦٩ ۳ سورة النساء من الاية ۱
٤ سورة النساء من الاية ۸۷
١٣٣٥
معاذ رضي الله عنه في نومه وأحتسب نَوْمتي كما أحتَسِب قَوْمتي وقد تقدم الكلام عليه في غير ما موضع وإن كان فيما يخص غيره فلا يخلو أن يكون مع حيوان عاقل مثله أو غير عاقل فإن كان عاقلا فلا يخلو أيضاً ما يتصرف فيه أن يكون مما تبيّن أن فيه قربة إلى الله تعالى فقد بان الوجه فيه وإن كان لم يتبيّن فيه ذلك فتكون نيته في ذلك إحدى النيات المستحسنة شرعاً وهي إما من باب إدخال السرور أو من باب شفقة الإسلام أو من باب العون على ما فيه رفق له في شأنه أو من باب الرفق لقوله عليه السلام ما كان الرفق في شيء إلا زانه ۱ أو من باب اتباع حكمة الله تعالى الجارية في ذلك الوجه أو من باب اتخاذ الخير عادة مطلقاً أو ما في معنى هذه النيات أيها أمكن في ذلك الأمر فعله وليتحرَّز في ذلك من الرياء وطلب المدح على ذلك أو العوض أو ما يقرب من ذلك وإن خفي سواء كان فعلاً أو قولاً أو نية
ومما روي فيما يشبه هذا النوع من حسن النية للغير في أمر خاص أن بعض المسرفين على نفسه مات ولم تُعلَم له حسنة قط فرآه بعض المباركين في نومه في حالة حسنة فقال له بِمَ نلت هذه المنزلة فقال له لم توجد لي حسنة واحدة إلا أنه خرجَتْ يوماً سرية من سرايا المسلمين ت فبلغني ذلك ففرحتُ لكون المسلمين غنموا فغفر الله لي بذلك فانظر إلى هذا الخير ما أدقه وأخفاه ! وإلى هذا الفضل ما أعظمه وأعلاه ومن هنا فتنبه
فعَنِمَت
وإن كان الحيوان غير عاقل فقد بان المعروف فيه لقوله لها الله في كل كبد حتى أجرُ ٢ إلا أنه يتحرز أن يكون لولوع به أو لمنفعة يرجوها منه أو عليه أو لحظ ما من الحظوظ النفسانية فتلك أبواب قد عرف ما فيها وما على الداخل فيها وما له على حسب ما قد بيناه في غير ما موضع من الكتاب وليست هي من هذا الباب الذي نحن بسبيله في شيء
وفي هذا الحديث فائدة لطيفة وهي الحض لك أن ترد بالك إلى باب المعروف فتعلمه وتعمل به لأنه باب واسع كاد ألا يخلو من وفق إلى علمه والعمل به من دوام الخير ليلاً ونهاراً لئلا تجهل فتقول لا تكون الحسنة إلا في الصدقة بالمحسوس ويفوتك خير كثير وأنت قادر عليه وليس عليك في أكثره شيء من المشقة والصدقة بالمحسوس قد لا يقدر عليها بعض الناس وهذا من الله لا من أحسن الإرشاد جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته بفضله
وجعلنا من مباركيها في الدارين بمنه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها وتمامه يا عائشة عليك بتقوى الله والرفق فإن الرفق لم يكن في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه
قطعة من حديث أخرجه الإمامان أحمد ومالك والشيخان وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش
١٣٣٦
152-
حديث كراهية الشعر وحرمته
عَنِ ابْنِ عُمر رَضِيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال لأَنْ يَمتلىء جَوفُ أَحَدِكُم قَيحاً خَيْرٌ لَه مِن أنْ يَمتلىء شِعراً
*
ظاهر الحديث يدل على ترجيح أن يمتلىء الجوف قيحاً الذي هو عين الهلاك على أن يمتلىء شعراً والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما يعني بجوفه ومنها هل قوله شعراً على عمومه أو ليس وما المراد بقوله أن يمتلىء شعراً هل لكثرة حفظه الشعر أو هل لتعلق الخاطر به ومنها ما الحكمة في أن مثل بالقيح دون غيره
أما قولنا ما معنى جوفه احتمل وجهين أحدهما أن يعني به الذي في جوفه وهو القلب واحتمل أن يكون على ظاهره فيعني به الجوف كله وما فيه من القلب وغيره والأول أظهر والله أعلم
وأما قولنا ما معنى قوله لا الله شعراً هل ذلك على العموم من أي نوع كان الشعر أو على الخصوص احتمل اللفظ لكن قواعد الشريعة تخصصه لأن ما كان من الشعر في مدحه فهو قربة إلى الله تعالى وقد كان وهو اهله هوله و يحض عليه مثل وقال له لا لا لا لا لا أجبهم عني فقال له حسان والله لأسأَنَّكَ منهم منهم كما تسلّ الشعرة من العجين ۱ أو كما قال وما كان منه في تنزيه الحق سبحانه فذلك قربة أيضاً وما كان منه يحض على الآخرة ويزهد في الدنيا فذلك من باب الوعظ والتذكار بالخير وقد قال له إن من الشعر لحكمة فما كان منه حكمة فكيف يكون ملء الجوف بالقيح خيراً منه هذا لا يمكن فيكون اللفظ عاماً ومعناه الخصوص والله أعلم
1 أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أن حسان بن ثابت استأذن رسول الله الله في هجاء المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بنسبي فقال حسان والله إلى آخر الحديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن أبي بن كعب رضي الله عنه بلفظ حكمة دون لام
۱۳۳۷
وعلى هذا التوجيه المتقدم فيكون المحذور منه مثل النوع الذي ذمَّه مولانا جلّ جلاله في كتابه حيث قال وَالشُّعَرَاهُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ۱ وذلك مثل شعراء الجاهلية وتغزلهم فإنهم كانوا يتغزلون في مدح النساء وذكرهن وغير ذلك من الوجوه المحركة للشهوات وحبها وحب الدنيا وفخرهم بما لا يجوز شرعاً وما في معناه ولذلك ذكر عن بعض أهل الطريق - وكان من أكابر وقته - أنه جاءه بعض الناس بابنه بعدما علمه العربية والأدب ورغب منه أن يقرأ عليه شيئاً من طريق القوم لعلّه تنبعث له همة فقال له لا أفعل لأنك أتيت به إليَّ بعدما ملأت قلبه بالشّعر وخالط بشاشة الشهوات وحبَّ الدنيا فما عسى أن أفعل فيه فامتنع منه ولم يقبله وهنا إشارة لطيفة كما قال صاحب الرسالة أولى القلوب بالخير ما لم يسبق الشر إليه وأما قولنا ما معنى يمتلىء شعراً هل المراد منه الذي يُكثر من حفظ هذا النوع من الشعر أو المراد به مَنْ تَعَلَّقَ به خاطره حتى يكونَ به مشغوفاً
فالجواب أن هذا على وجهين إما مشغوفاً بترداده وذكره والنظر فيه أو مشغوفاً به وبنظمه وإنشائه واختراعه ومعارضة من تقدم من أهل ذلك الشأن احتمل الوجوه كلها لكن الأظهر والله أعلم ـ أن المراد هو الذي تعلق خاطره به التعلق الكلي الذي يلهيه عن غيره سواء كان ممن يخترعه وينشئه أو ممن ينقله ويحفظه فالوجهان سِيّان كالذي ابتلي بحب الدنيا كان بيده منها شيء أو لم يكن فالكل غلب عليهم حب الدنيا ومن أهلها يحسبون
وأما قولنا ما الحكمة في أن مثل بذكر القيح فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن تمثيله عليه السلام بالقيح من أعظم الحذر عما مثل به وذلك أن أهل صنعة الطب يزعمون أنه إذا وصل إلى القلب من الداء شيء ولو كان يسيراً فإن صاحبه يموت لا محالة لأنه عضو رئيس لا يحمل من الآلام شيئاً وأن غيره مما في الجوف مثل الكبد والرئة إلى غير ذلك أن الآلام إذا كانت في بعضها أن ذلك من الأمور المخوفة والغالب على صاحبها الهلاك فكيف إذا امتلأ الجميع بالقيح لا شك في هلاك صاحب ذلك ألا ترى أنه إذا كان بعض الأنامل فيه نبت عند أخذه في جمع القيح لا يهنا لصاحبه عيش ولا حال وأيضاً أن صاحب ورم الأكباد يموت مخبول الدماغ من هول ما يقاسي فترجيحه هذه الحالة التي ذكرناها على الشعر الذي فيه راحة النفس إنما ذلك لجمعه علتين
۱ سورة الشعراء ٢٢٤ - ٢٢٦
۱۳۳۸
وهما شغله عن الله تعالى بما لا يجوز من ذكر تلك الأمور التي يتضمنها تغزل الشعر لأنه قد قال مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت ۱ ولما كان الشغل هنا بمكروه أو حرام كانت الموتة على الحالة المذكورة خيراً له
وهنا بحث وهو أن يقال هل يتعدى الحكم بوجود العلة أم لا الظاهر تعديه لأن كل ما يشغل عن الله تعالى فصاحبه محروم فإن كان بمحرّم من أي المحرمات كان الموت على هذه الحالة خيراً له مما هو فيه
تنبيه إذا كان مَلؤه بالقيح خيراً له من الشعر وما فيه إلا العلتان اللتان ذكرناهما فكيف إذا امتلأ بعلم الجدل وما يشبهه لأن تلك العلوم تقسي القلوب وتشغلها عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقادات وتطيل اللسان وتزرع الحسد في القلوب والتنافس وتفضي إلى التباغض والتحكم على القدرة بأشياء لا توافقها الأدلة الشرعية فكيف يكون حال صاحبه
وفيه تنبيه على ترك حظوظ النفس والعوائد السوء يؤخذ ذلك من أن سيدنا بعث والعرب في معظم فصاحتها واشتغالها بالشعر وتنافسها فيه فزجرهم النبي الله عن ذلك بهذا الزجر العظيم الذي تضمنه الحديث
ويترتب على ذلك من الفقه أن شغل الباطن بغير ما يرضي الله من أعظم الأمور المهلكة ولم يُجعل له مخرج والأمور الواقعة في الخارج من الكبائر والصغائر وما بينهما فقد جعلت فيها الحدود والكفارات إلى غير ذلك مما هو معروف من قواعد الشرع
ويترتب عليه أيضاً أن الزجر إذا كان لنفسك أو لغيرك فيكون بحسب الشيء المنهي عنه من
أن نفسه كان فيها
قوة أو لين حتى يكون عاصماً لتلك المادة الرديئة وفيه دليل لأهل المجاهدات وهو أنه لما عسرت عليهم نفوسهم في الانقياد إلى ما أريد منها أخذوها بالمجاهدات على قدر رعونتها حتى انقادت وقد ذكر عن بعضهم رعونة فجاهدها عشرين سنة بأكل نشارة الخشب ولم يطعمها خبزاً أصلا حتى انقادت واستقامت لما أريد منها ومثل ذلك الشأن قطع العوائد السوء ولا ينظر في ذلك لكثرة انتشارها في الناس وإنما ينظر فيها بلسان العلم هل تجوز أم لا وعلى ذلك يكون العمل فهي طريق النجاة جعلنا الله من أهلها في الدارين بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه
شيب
۱۳۳۹
وما فهم هذا المعنى إلا أهل التوفيق لأنهم يقولون كل ما في الوجود حسن جميل إلا ما ذمّه
الشرع ذممناه حكماً وامتثالاً وقد ذكر عن بعض الناس أنه رآه بعض إخوانه مكروباً فقال له في ذلك فقال إنه دخل عليَّ في معبدي هذا قوم مباركون من الأبدال مراراً فرغبت منهم في بعضها عساهم يحملونني معهم وكانوا يأتوني بحَرْق العادة من أرض بعيدة فحملوني معهم فوصلوني في لحظة قريبة وكانوا في غار في جبل على البحر الكبير
فلما كان إحدى الليالي جاءت ريح شديدة وظلام شديد وهول في البحر شديد فخرجوا من الغار وخرجت معهم وأخذوا في التقديس والتسبيح والتعظيم الله سبحانه فحملني الجهل بأن قلت هذا هول عظيم فالتفتوا إليَّ وقالوا تعترض على الله لا يصحبنا قليل الأدب ثم التفت الشيخ منهم وقال لبعضهم اجعله في مكانه الذي أخذناه منه فأخذني بيدي شيئاً يسيراً وإذا أنا في موضعي ولم أره ولا واحداً منهم بعد ذلك فكيف لا أحزن على طردي ثم على قلة أدبي واأسفا على جهلي واأسفا على بُعدي فلم يزل باكياً أو كما جرى هكذا تكون الحرمة عند المباركين احترموا فاحترموا واستحَسنُوا فاستُحسنوا آثَروه بالبر والإكبار فآثرهم على غيرهم بالترفيع والإعظام وعنده بالزلفى والإحسان
وأما قولنا هل يمنع ما في معنى السبّ أو ما يقرب منه مثل تعييب الأمور والكراهية أو ما يشبه ذلك فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن ما قرب من الشيء يعطى حكمه وإن لم يكن في الحقيقة مثله لأن ما هو في معنى السب إما أن يكون هو مثله فيمنع وإما أن يكون أقل درجة منه وأقل ما يكون فيه قلة الأدب لأنك تذم شيئاً لا تعرف ما فيه من الحكمة والإتقان بغير دليل ولا اعتبار اللهم إلا إن كان ذلك كما تقدم بدليل شرعي فهو على ما تقدم الكلام عليه
ولذلك لم يأت عن سيدنا الله ولا عن أحد من الأنبياء عليهم أن أحدا منهم ع شيئاً من خلق الله تعالى إلا ما أمر به من طريق الأمر فمن خالف سنن الرسل عليهم الصلاة والسلام ووقع في شيء من خلق الله أقل درجاته أنه وقع فيما فيه قلة الأدب كيف يستحسن حاله أو يحسن منه حال
وفي هذا الحديث دليل لأهل السنة رضي الله عنهم لأنهم يقولون إن العقل لا يحسّن ولا يقبح وإنما التحسين والتقبيح للشرع لا غير
وأما قولنا ما الحكم على من فعل ذلك فهذه مسألة اجتهادية لأنه لم يجىء عن الشارع عليه السلام في ذلك شيء فإن قلنا إن حكمه حكم السبّ الصريح فالخلاف فيه معلوم وما أظنه يكون مثله إلا ممن يعلم ما جاء في ذلك ثم يقصد الذم بعد العلم فكأنه ما أراد إلا الصريح
١٣٤٨
منه فينبغي أدبه ولا يؤول الحكم فيه إلى القتل لأن السب الصريح الأظهر فيه من الخلاف الذي بين العلماء الأدب فكيف بهذا الذي هو دونه وإن صدر ذلك من جاهل يعنف بالقول الشديد ويبين له قدر ما وقع فيه خلاف ويقال له إن عدت إلى مثل هذا أُدبتَ الأدبَ الوجيع ويغلظ له في ذلك ولا يعذر في ثاني مرة إن وقعت منه ويؤدب والله الموفق للصواب وفيه دليل على أن مجموع الليل والنهار يسمى دهراً شرعاً يؤخذ ذلك من ذكره الدهر ثم فسره بقوله بيدي الليل والنهار
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله في منعه الربا المعنوي يؤخذ ذلك من أنه لما كان سبّ الدهر يؤول إلى سبّ المولى سبحانه جعله سَبّاً له فجعل ما يعود بالمآل كالذي هو حاضر في
الوقت
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون إن الصفة لا تفارق الموصوف يؤخذ ذلك من أنه لما كانت الأمور صادرة عن صفة قدرته عزّ وجلّ جعل ذلك صادراً عن ذاته الجليلة بقوله سبحانه بيدي الليل والنهار
وفيه تنبيه لمن له همة ألا يتكلم بما لا يعرف ما معناه وكذلك في الأفعال لا يفعل شيئاً حتى يعلم هل ذلك مما ليس عليه فيه درك أم لا ومما يقوي ذلك وصية الخضِرِ لموسى عليهما السلام حين افترقا وطلب موسى منه الوصية فقال له في جملة وصيته يا موسى لا تفتح باباً لا تدري ما غلقه ولا تغلق باباً لا تدري ما فتحه فيا هذا إذا تأملت مثل هذه الأمور وأدلة الشرع وجدت الدين من شيئين ويدور على قاعدتين الامتثال والأدب فمن امتثل فقد وفى ما به أمر ومن تأدب فقد نجا مما عنه نهي وله كره وفقنا الله وإياك لذلك الامتثال والأدب بمنّه آمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٣٤٩
المؤمن
حديث الكرم قلب المؤمن
أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ يَقولونَ الكَرْمُ إنَّما الكَرمُ قلب
ظاهر الحديث يدل على أن حقيقة تسمية الكرم إنما هي لقلب المؤمن وأنه في غيره مجاز والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً لمن يقول إن اللغة اصطلاحية يؤخذ ذلك من أنهم كانوا عرباً وكانوا يكنون عن ثمرة العنب بالكرمة فمنع ل لا الهلال ومن ذلك بقوله إنما الكرم قلب المؤمن وقد جاء من طريق آخر ولكن قولوا حديقة العنب
وفيه بحث وهو لم خص قلب المؤمن بهذا الاسم فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله أعلم لما كان اشتقاقه من الكرم والأرض الكريمة هي أحسن الأرض وهذه الصفة حيثما وجدت فهي من أحسن الصفات فلا يليق إلا أن يعبر بها عن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء لأن المؤمن هو خير البرية - على أحد الوجوه - وخير ما في المؤمن قلبه لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم ا ا ا ن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب 1
كيف لا يكون كذلك وهي أرض لنبات ثمرة الإيمان التي قد قال مولانا سبحانه أَلَمْ تَرَ ﴿أَلَمْ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا
۱ متفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ومطلعه الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات
سورة إبراهيم من الآية ٢٤ ٢٥
١٣٥٠
ويترتب عليه فيها من الفقه أن كل خير لفظاً أو معنى أو مشتقاً منه أو مسمى به إنما تكون إضافته الحقيقية إلى الإيمان وأهله وهو فيما عدا ذلك مجاز وفي الكرمة أيضاً شبه من المؤمن
لأنها لينة قريبة الجني حلوة المذاق وتغني عن الطعام لأكلها وتغني عن الماء لمن استعملها وفيها تنبيه لطيف لأن أوصاف الشيطان تجري معها كما يجري الشيطان في بني ادم مجرى الدم فكما أن غفلة المؤمن عن شيطانه أوقعته في المخالفة وألبسته ثوب البعد والحرمان كذلك إن غفل عن عصير الكرمة ظهرت تلك الأوصاف فيها وألبستها ثوب التخمير والتنجيس وهو الخمر المتفق عليه من جميع العلماء على تحريمه بلا خلاف
ويقوى الشبه بينهما من أجل أن الخمر من ساعته يعود خلاً فكساه ثوب التخليل الطهارة فكذلك المؤمن من ساعته بالتوبة النصوح عادت له طهارته الأصلية ورياسته الجميلة وجَبَّت توبته ما كان قبلها من البعد والحرمان وأذهبت الآثام والأثقال وكما أيضاً تكون توبة المؤمن بمعالجة من وعظ أو تذكار أو تكون بفيض لا يتقدمه علاج فكذلك العصير إذا تخمر قد يكون تخلله بمعالجة وقد يكون دفعة من غير علاج
فهل نظرت يا مسكين إلى عصير كرم قلبك فتعالج تخميره لعله يعود خلاً ولا تغفل عنه عقلك فتلحق بالهالكين
فيذهب بجميع
وفيه دليل على كثرة حياء سيدنا يؤخذ ذلك من قوله ويقولون ۱ بلفظة الغيبة ولم يقل لهم تقولون فإنه يكون فيه الخجل لهم وكذلك كانت عادته المباركة إذا قيل له من أحدٍ شيء فإنه كان لا يسميه باسمه ولا يقول له يا فلان لم قلت كذا وكذا إلا أنه كان قوله ما بالُ رجال يقولون كذا أو يفعلون كذا
ويترتب عليه من الفقه أن أهل الفضل أولى الناس بالأدب ومكارم الأخلاق وقد نص ذلك بقوله إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ۳ رواه مالك قال بعض الناس فإن كنت ذا همة فتجمل بمكارم الأخلاق والشيم واملأ عطفيْكَ تبخترا بهما فقد أصبت سنّة خير الأمم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ كذا بزيادة واو قبل الفعل
أخرجه أبو داود والبغوي في شرح السنة عن السيدة عائشة رضي الله عنها بعبارة ما بال أقوام وليس ما بال
رجال
۳ أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلاغاً والإمام أحمد والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٣٥١
- ٢٥١ -
حديث إباحة التسمي وتحريم الكذب عليه
عَن أبي هريرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ عَن النَّبي الا قالَ تَسَمَّوا باسمي ولا تكَنَّوا بكُنيتي وَمَن رَآني في المنام فقد رآني حقًّا فَإِنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمثَلُ عَلى صُورَتي وَمَن كَذَبَ عَليَّ مُتعَمِّداً فَليَتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام أحدها إباحته التسمية باسمه والمنع من أن يكنى بكنيته والثاني إخباره له بأنه من راه في النوم فقد راه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل على صورته والثالث من كذب عليها المتعمداً فليتبوأ مقعده من النار والكلام عليه من وجوه
منها هل قوله صلى الله عليه وسلم تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي هل ذلك تعبد أو لعلّة اختلف مطلقاً العلماء في ذلك فمنهم من حمل الحديث على ظاهره ومنع أن يكنّى بكنيته أصلا ومنهم من علل وقال إنما أراد ألا يجمع في شخص واحد بين اسمه الا الله وكنيته وهذا خروج عن ظاهر الحديث ومنهم من علل وقال إن علة ذلك أنه كان الله ماشياً وشخص ينادي خلفه يا أبا القاسم فالتفت إليه الله فقال له الشخص لم أَعْنِكَ وإنما عَنَيْتُ هذا وأشار إلى شخص غيره فقال هو إذ ذاك تَسَمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي أو كما ورد
فإذا قلنا إن هذا كان سبباً لمنعه عليه السلام أن يكنّى بكنيته فهل يُقصر ذلك النهي على العلة فيرتفع بارتفاعها - وهي نقلته عليه السلام إلى الرفيق الأعلى - أو يبقى النهي على عمومه وإن ذهبت العلة موضع خلاف ويحتمل عندي علة أخرى - والله أعلم - وهي أن العرب كانت كناهم بأسماء أبنائهم وكان من أسماء بنيه ل القاسم فلعله عند ذكر الشخص أبا القاسم تحرك عنده من ابنه شيء كان يشغله عما كان بسبيله فمنع ل لا لا لاهم من ذلك كما فعل بعلم الثوب في الصلاة حين نظر إليه فلما فرغ من صلاته قال ردوه إلى أبي جهم فإني نظرت إلى علمه في الصلاة فكاد يفتنني 1
1 أخرجه الإمام أحمد في مسند البصريين عن جابر بن سَمُرَة رضي الله
١٣٥٢
ويترتب على هذا الوجه من الفقه قطع كل ما يتوقع منه شيء من التشويش والمحافظة على خلو القلب بالاشتغال بما هو إليه مندوب وما هو عليه واجب
وإن قلنا إن علة المنع ما ذكرنا أولاً من كونه لا التفت إلى الذي نادى يا أبا القاسم فقال لم أعنك فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك في حق أمته لأن من أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يعرض عنه لأن الله عزّ وجلّ يقول من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ۱ وكذلك من أعرض عنه رسول الله الله فقد أعرض الله عنه فيكون هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام حين لقيه بعض الصحابة ليلا وكان معتكفاً وجاءت إليه إحدى أزواجه فقال له إنها فلانة وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بأن قال خفت أن ينزغ الشيطان في قلبك شيئا ٢ أو كما ورد
فكان ذلك الرفقه بأمته فحيثما يخاف ۳ عليهم شيئاً ما يتوقعه يحذرهم عنه وحيثما علم لهم شيئاً من الخير أرشدهم إليه فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته وحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ندامى بفضله فإنه ولي حميد
وأما إباحته لهم التسمية باسمه عليه الصلاة والسلام فذلك لما جاء فيه من الخير لأنه قد جاء أن مَن اسمه محمد لا يخلو من خير وقد ذكر أنه إذا نودي يوم القيامة باسمه يا محمد فمن سمعه ورفع له رأسه أفلح وسعد وجاءت فيه مما يشبه هذا آثار كثيرة وقد رأيت بعض المباركين وكان عنده شيء من لسان العلم وكان له جملة أولاد وكلهم سماهم محمّداً وما فرق بينهم إلا بالكنى لما سمع من الخير الذي جاء في هذا الاسم المبارك ولمن سَمَّى به ابنه ولذلك ما رأيته وإياهم إلا في خير عظيم - وكان فقيراً وكانت له عائلة كثيرة من غير أن يقصد أحداً أو يخرج عما كان به مشتغلاً عما كان يعنيه من دينه والأولى في هذه الوجوه حمله على ظاهره فإنه أبراً للذمة وأعظم للحرمة والله المرشد للصواب
۱ سورة النساء من الآية ۸۰
رواه عبد الرزاق والإمام أحمد والشيخان والدارمي وأبو داود وابن ماجه والطبراني وأبو نعيم والبغوي من حديث السيدة صفية رضي الله عنها كما رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه ونص الحديث عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي الا الله و أخبرته أنها جاءت رسول الله لا تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان ثم قامت تنقلب فقام معها رسول الله له له له حتى إذا بلغ باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي الله دوم بهما رجلان من الأنصار فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا فقال لهما رسول الله الله على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي قالا سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ذلك فقال رسول الله الله و إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً - أو قال شرا -
وفي لفظ سوءا
۳ كذا دون جزم
١٣٥٣
وقوله صلى الله عليه وسلم من راني في المنام فقد راني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي فقد
اختلف العلماء في هذا فمنهم من قال إن الصورة التي لا يتمثل الشيطان عليها هي الصفة التي توفي عليها حتى قالوا وتكون في لحيته عدة تلك الشعرات البيض التي كانت فيها وقال بعضهم وحتى تكون رؤياه له في دار الخيزران وهذا تحكم على عموم الحديث وتضييق للرحمة
الواسعة
ومنهم من قال إن الشيطان لا يتصور على صورته عليه الصلاة والسلام أصلاً جملة كافية فمن راه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي ومن راه على صورة غير حسنة فرؤياه حق وذلك القبح في دين الرائي وإن كان في جارحة من جوارحه شين فتلك الجارحة من الرائي فيها خلل من جهة الدين وهذا هو الحق
وقد جرب هذا فوجد على هذا الأسلوب سواء بسواء لم ينكر وبهذا تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه عليه الصلاة والسلام حتى يتبين للرائي هل عنده خلل في دينه أم لا لأنه نوري فهو مثل المرأة الصقيلة ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها ولا شين
وكذلك ذكروا في كلامه عليه الصلاة والسلام في النوم أنه يُعرَض على سنته عليه الصلاة والسلام فما وافقها مما سمعه الرائي فهو حق وما خالفها فالخلل في سمع الرائي فإنه ما ينطق عن الهوى ۱ ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فتكون رؤيا الذات المباركة حقاً ويكون الخلل قد وقع في سمع الرائي وهو الحق الذي لا شك فيه
وهنا تنبيه وهو هل تحمل الخواطر التي تخطر لأرباب القلوب بتمثيله في بعض المخاطبات التي يخاطبون على لسانه عليه الصلاة والسلام وتتشكل صورته المباركة في عالم أسرارهم في بعض المحاضرات والمحادثات التي من عادة طريقهم المباركة على أنها مثل رؤيا المنام فتكون حقاً أم لا
فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن خواطر أرباب القلوب حق بحسب ما دلّت عليه الأدلة الشرعية وأنها أصدق من مرائي غيرهم لما من عليهم من تنويرها وبركتها دون إشارة من قبله رؤياه من مبارك وغيره حق فكيف بهما إذا اجتمعا فذلك في صدقه وقد بينا الدليل على تصديق خواطر الرجال من الكتاب والسنة في غير ما موضع من الكتاب فإذا اجتمع ما ذكرنا من تشكل صورته
۱ مقتبس من الآية القرانية الثالثة في سورة النجم وما ينطق عن الهوى بزيادة الواو في أول الآية الكريمة سورة النساء من الاية ۸
١٣٥٤
المباركة أو كلامه المبارك لأولئك المباركين وقد اجتمع على تصديق ذلك أدلة الكتاب والسنة وكفى في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام إن الشيطان لا يتمثل على صورتي لأنه لفظ عام ولأجل حمل العام على عمومه و ما نفاه عليه الصلاة والسلام من طريق الباطل الذي هو طريق الشيطان وتخيلاته لم يبق إلا أن يكون حقاً قطعاً لكن بالشرط المتقدم وهو أن تعرض على كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فما وافق أُمْضِي وإلا فلا
وقوله فليتبوأ مقعده من النار أي فلينزل مقعده من النار لأن التَّبَؤُءَ هو النزول لقوله عزّ
وجل وَإِذْ بَوَأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ۱ أي جعلناه له منزلاً
وهنا بحث وهو أنه قد علم بأدلة الشرع أن الكذب من الكبائر وقد جاء فيه من الوعيد العظيم ما تقدم ذكره في الأحاديث قبل فهل لإخباره لالا لاله ها هنا عن الكذب عليه خصوصاً بهذه الصيغة زيادة فائدة أو إنما أخبر أن الكذب عليها من جملة الكذب المحرم الذي لا يمكن فيه التأويل ولا يقبل التعليل ولا التوجيه لما تقدم الكلام على الكذب في الأحاديث قبل ووجهنا ما قال فيه العلماء فإذا هو على خمسة وجوه ـ كما هو مذكور هناك - فيكون الكذب عليه الله من أحد الأقسام الخمسة وهذا القسم الذي هو منها محرم بالنص والإجماع ولا يدخل فيه ذلك التقسيم بالجملة وأن صاحبه يعذب العذاب الأليم احتمل أن يكون بمنزلة هذا النوع المذكورة وزيادة
فائدة أخرى وهي أن الذي يكذب عليه الا الله و متعمداً لا بدَّ له من دخول النار بخلاف غيره من الكذابين فقد يأتي الله بمن يشفع فيه وقد يتوب أو قد يتداركه الله تعالى بنوع من أنواع الرحمة يؤخذ ذلك من قوة قوله عليه الصلاة والسلام فليتبوأ فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول فليقعد مقعده من النار فلا محيص له منها وبهذا تظهر الفائدة في الفرق بين الكذب عليه من الكذب على غيره والله أعلم
ومن جهة التعليل يقوى هذا التوجيه لأن الكذب عليه الا الله ويقع به الخلل في الدين وتغيير الأحكام وهذا كفر بلا خلاف وإن لم يستحله ومن كفَرَ فلا محيص له من النار بخلاف غيره من الكبائر والآثام فإن صاحبها في المشيئة
وبقي بحث في توبته هل تصح أم لا فهي - والله أعلم - على ضربين لا يخلو ما كَذَب به عليه أن يكون قد ترتبت عليه أحكام أو لا فإن كان ترتبت عليه أحكام فهل يمكنه ردّها وقطع تلك المادة بالجملة الكافية أو لا يمكنه ذلك فإن لم يترتب عليه أحكام أو ترتبت عليه وقدر
1 سورة الحج من الآية ٢٦
١٣٥٥
وهو أن قال لها كوني فكانت بغير واسطة بيد مخلوقٍ مِن خَلقِه وقد جاء أن فيها من الفواكه والنعم ما له أصل ثابت وما ليس له أصل ثابت مثل الزعفران الذي هو حشيشها وليس له أصل ثابت وأطلق على الكل غراسة
وهذا إذا نظرت من جهة الخير المتعدي النفع فالحبوب التي يكنون عنها بالزراعة أعم فإنها غالب الأقوات وقد كان سهل من فقهاء غرناطة بالأندلس وكان من خير علماء وقته يقول لأصحابه إن الأعمال قد قلت والكسل توالى فأكثروا الزرع لأن تكثر حسناتكم وكانت غرناطة الغالب عليها كثرة زرع الحبوب ويرد عليهم الحديث الذي نحن بسبيله وهذا هو غالب ما تصل إليه جميع الدواب - أعنى الحبوب المزروعة - وهذا أيضاً من طريق كرم المولى سبحانه أولى لأن الكريم إذا تكرم لا يحصر بل يوسع ويفسح
وأما قولنا هل نعني بـ المسلم جنس المسلمين صالحهم وغيره أو المسلم الكامل الإيمان أما الحقيقي فلا خلاف فيه وأما غيره المتخبط في أعماله فمن طريق العدل وميزان العلم إذا نظرنا نجدهم على أنواع مختلفة لأنا لا نقدر أن نقول في تارك الصلاة إن زرعه يكون فيه مأجوراً ونحن نحكم عليه بغير الإسلام وأن حياته مستعارة وأن جزاءه القتل على خلاف هل كفراً أو حداً
وفي غير تارك الصلاة من أهل المعاصي يبقى الخلاف في زرعه وغرسه إذا كان الغرس والزرع على لسان العلم على الخلاف الذي بين العلماء هل تقبل حسناته أو لا تقبل حتى يقلع عن معاصيه والجمهور من أهل السنة على قبول حسناته إذا كانت على ما أمر بها وأنه مؤاخذ بسيئاته إلا أن يتوب أو يتفضل المولى سبحانه عليه بما شاء من أنواع أفضاله ذلك في حكم المشيئة ومن العلماء من يقول إنه لا تقبل حسناته حتى يقلع عن سيئاته وقد تقدم الكلام أول الكتاب على هذا النوع وتوجيه الأقاويل وتعليلها بما فيه الكفاية بفضل الله تعالى
وأما قولنا هل يكون الغرس على أي وجه كان أو على وجه مخصوص فالجواب أن العمل إذا كان مخالفاً للشرع فهو غير مجزي فهذه قاعدة متفق عليها بالكتاب والسنة والإجماع أن الأعمال إذا خالفت الشرع لا تقبل والله أعلم وقد تقدم الكلام على هذا النوع في غير ما موضع من الكتاب وقد قال ليس لعرق ظالم حق فمن ليس له حق كيف يكون فيه مأجوراً
١ كذا ولعله يريد مجزىء
رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضاً مواتاً عن جابر رضي الله ومعنى الحديث ليس لذي عرق ظالم حق أي الظالم من غرس أوزرع أو بنى أو حفر في أرض غيره بغير حق
من اثنين من الجهة الواحدة يُعلم ذلك من موقع بيتها رضي الله عنها فهو محاط بالمسجد النبوي من جهاته الثلاث وبيوتِ أزواجه الله فلم يبقَ إلا جهةً واحدة يؤخذ ذلك من قولها إن لي جارَينِ
فلو كان العدد فيهم أكثرَ لَذَكَرَت أكثر من الاثنين بالعلم الضروري الذي لا شك فيه أن بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت وسط المدينة وأن الدور في المدينة متصل بعضُها ببعض ولو كان وجه الجيرة ـ كما ذكر عن العلماء - أربعين داراً لكان أكثر أهل المدينة جيرانهم وفي الغالب أنه لا يعلم أحد حفظهم على حد سواء ولكان مندوباً يفضي بصاحبه إلى الضرر والمشاق وهذا - في الدين والحمد الله - قد عوفينا منه وبتعليله بأقربهم باباً يظهر أن حَدَّه هنا ما تضمنه قولها جارين لأنه هو الذي أقرب منها باباً وما عداه أخفض رتبة في الطلب فأوجب ذلك تأكيداً ما
على غيره
وفيه دليل على أن اكد الجهات في الجوار جهة الأبواب لأن الذي هو أقرب منك باباً هو الذي تكثر مشاهدته لك ولكل ما يرد عليك وقد يعلم من حالك لكثرة الملازمة ما لا يعلمه غيره وأنت أيضاً تعلم من حاله كذلك وهذا كله إذا كان الجوار على الشروط المتقدم ذكرها في الحديث قبل وعريت عن الحقوق الزائدة عليها كما تقدم أيضاً
وفيه دليل على أن المندوب إلى حفظ الجار الرجال والنساء فيه سواء يؤخذ ذلك من قولها إلى أيهما أهدي فإنها سألت عما يخصها في ذلك ولو كانت نائبة عنه القالت إلى أيهما
نهدي
تنبيه القرب بأي وجه كان له حرمة ما أما ترى الجار قد جعلت له حرمة من أجل الجوار بالجدار وإن كان كافراً ففيه إرشاد إلى أن تكون لك همة فيها فحولية لعل قربك يكون من النوع الذي لا قطعَ له فإن قرب الكافر بجوار الجدار ينقطع بانقطاع هذه الدار والقرب بمناسبة الطريقة والحال يتأكد حقه في تلك الدار كما جاء في الأثر أنّ عمار المساجد جيران الله ۱ فإذا كانوا جيرانه في هذه الدار فكيف يكون حال حرمتهم في تلك الدار هذه حباً فيهم وشوقاً إليهم يا حُسنَ ما أثنى عليهم مولاهم حيث قال فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تَرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا نَتَقَلَبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَرُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ
۱ أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه بلفظ إن عمار بيوت الله هم أهل الله عزّ وجلَّ
۱۳۳۱
الإلهية وهي في الإنشاء والاختراع خَلقُ الله سبحانه لا خالق إلا هو سبحانه وتعالى علواً كبيراً وما جرى فيهما بغير وساطة أحد من خلقه فذلك منسوب إلى قدرة القادر ليس لليل والنهار في ذلك فعل ولا تأثير لا عقلاً ولا لغةً ولا شرعاً وهو المعني في الحديث والله أعلم وكذلك أيضاً كل ما كان صادراً عن الحيوان غير العاقل فهو مضاف إلى القدرة إذا لم يكن ذلك بِتَسَبَّب العاقل المكلف ولذلك جعل الشارع عليه الصلاة والسلام جرحها جُبَاراً ۱ أي ليس فيه أرْش ولا قود ولا دِيَةٌ ۳ وكذلك الحكم في الجمادات كل ما يكون منها ينسب إلى القدرة أيضاً مثل حائط يقع على أحد أو جبل ينهد عليه أو ثمرة تضر به أو تسقط عليه أو ماء يغرق فيه أو ما يشبه فهذه كلها منسوبة إلى القدرة والسبّ لها سبّ لمصوّرها وظهرت بقدرته وفيه دليل على نفي الأفعال عن غير العاقل المكلف من جماد وحيوان غير عاقل فسبحان أظهر قدرته أين شاء بلا حجاب عليها وحجبها حيث شاء برداء حكمته فجاءت الحكمة شاهدة للقدرة والقدرة شاهدة للحكمة و حِكْمَةُ بَلِمَةٌ فَمَ تُغْنِ النُّذُرُ ٤
وأما قولنا هل يتعدى المنع إلى سبّ غيرهما فاعلم أن كل حكم كان منوطاً بعلة فحيث وجدت العلة فالحكم ثابت لازم فلما علل سبحانه منع سبّ الدهور بأنه سب له عزّ وجلّ لكونه بیده - تعالى عن الجارحة والتحديد - وإنما اليد هنا كناية عن يد القدرة كقوله تعالى خَلَقْتُ بِيَدَى ٥ أي بقدرتي فحيث وجدنا هذه العلة منعنا ويكون ذكر الدهر هنا الذي هو الليل والنهار من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن الليل والنهار من أعظم الآيات والمخلوقات
الدالة على تحقيق الربوبية
ولذلك أشار عزّ وجلّ في كتابه العزيز إلى النظر فيهما بقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاَيَتِ لِأُولِي الْأَلْبَبِ ٦ ويكون النظر في ذلك على التقسيم المتقدم وهو هل تجري تلك الأمور على يد مكلف أو لا فإن كانت على يد مكلف فيكون الإنكار أو الزجر أو البعض أو غير ذلك امتثالاً للأمر لا غير بقدر ما جعل لك في ذلك دون زيادة فيه فتكون متعدياً ولا تنقص منه فتكون غير موفٍ لما به أمرت حكماً عدلاً
۱ الجُبار الهَدَر وهو ما لا قصاص فيه ولا غُرم
الأرش دية الجراح
۳ القود القصاص الدية المال الذي يعطى لولي المقتول بدل نفسه
٤ سورة القمر ٥
5 سورة ص من الآية ٧٥
٦ سورة ال عمران الآية ۱۹۰
١٣٤٧
سنته
حبّ الله تعالى الذي قد أعد لك من هذا الخير العظيم ما لم يكن لك في ظن ولا علم ومن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان معرفة هذا الخير على يديه ما لا يُقدَّر قدره وكذلك الحب في علم سنـ عليه الصلاة والسلام وزيادة ذرة من هذا خير من قناطير مقنطرة من الأعمال المقبولة بلا خلاف في ذلك بين أحد من علماء أهل التوفيق والاتباع للسنة والسنن
أعاد الله علينا من بركاتهم وجعلنا لأنعمه من الشاكرين بمنه وكرمه امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٣٦٣
-٢٥٦-
حديث النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهى عَن أن يُقامَ الرَّجُلُ مِن مَجْلِسِهِ ويَجْلِسَ فِيهِ آخرُ وَلكِن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه الذي جلس فيه ويجلس فيه غيره والثاني الأمر بالتفسح فيما بين المجالس والتوسع إذا دخل عليهم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه في كل مجلس أو هو على الخصوص في مجالس مخصوصة وهل هذا أيضاً عام في كل الرجال أو لا ومنها هل هذا تعبد أو لحكمة فإن كان لحكمة فما هي وهل النهي عن ذلك على الكراهة أو التحريم
أما قولنا هل ذلك عام في كل المجالس أو هو في مجالس مخصوصة صيغة اللفظ تعطي العموم وقواعد الشرع تخصصه لأنه قد تقرر من الشرع أنه من جلس فيما ليس له ملك ولا له فيه ذلك سبب يوجب ذلك أنه يُقام ويُخرَج ولا يُنَزَّل منزلة من له ذلك أو أذن فيه مَنْ له الإذن في ذ فما بقي أن يكون ذلك إلا خاصاً في المواضع المباح للناس دخولها أو الجلوس فيها إما على العموم للناس كلهم مثل المساجد ومجالس الحكام والعلم الذي هو الله أو ما يشبه ذلك أو على الخصوص مثل من يدعو قوماً مخصوصين إلى منزله في وليمة أو غيرها مما أجازته الشريعة فهذه المجالس من جلس فيها مجلساً فلا يقام منه ويجلس فيه غيره
وأما قولنا هل هذا عام في كل الرجال أو لا فظاهر اللفظ العموم وما تقرر من الشريعة أيضاً يخصصه مثل إزالة المجانين من المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم صبيانكم و مجانينكم ۱ ومثل آكل الثوم النيء والأجدم فهؤلاء يُقامون ويُخرجون من المساجد إذا تأذى
بهم الجلاس
1 أخرجه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه
۱۳۷۱
وفقنا الله وإياك - أن حسن النية في الأعمال لا يكون شيء خيراً منها لقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات ۱ ولقوله عليه السلام أوقع الله أجره على قدر نيته
وإنما قال سيدنا إن هذا سيد الاستغفار في الذين تساوت نياتهم وأحوالهم فإذا تساوت النيات والأحوال ففي كل نوع منها الذي يستغفر بهذا الاستغفار فاستغفاره سيد نوعه وكذلك جميع التعبدات من فرض ونفل وغيره من التفضيل في كل نوع منه بوجهين إما بما وضع له من حده وإما بحسب نيات الفاعلين له وأحوالهم وبحسب اختلافهم في ذلك
ومن أجل ذلك قال فى الصلاة المفروضة التي هي في الدين بمنزلة الرأس من الجسد ۳ إنه يكتب له نصفها ثلثها ربعها عُشرها ٤ وفي لفظ آخر ومنهم من تُطوى كالثوب الخَلَق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول له ضيعتني ضيعك الله ٥ أو كما قال عليه السلام فدخل المسكين في الصلاة لأن يأتي ٦ بخير العبادات فانعكس عليه الأمر من أجل سوء حاله هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ﴾ ٧
﴿ عِندِاً
وأما قولنا هل المستغفر بهذا الاستغفار يفضل الذي يستغفر بغيره في الأزمنة المرغب في الاستغفار فيها أم لا فالجواب على هذا كالجواب على النية وحسنها لأن تلك الفضيلة التي جعلت في الزمان لا تقاس بفضيلة الألفاظ والنيات وإنما هذا سيد الاستغفار إذا تساوت المراتب من كل الوجوه
وإلا إذا ۸ كان هذا قد استغفر بغير هذا الاستغفار في الأسحار مثلاً فقد حصل له فضيلة السحر في استغفاره لقول مولانا جلّ جلاله وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۹ واستغفر شخص ﴾
1 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن عن عمر رضي الله عنه
قطعة من حديث أخرجه الإمام مالك في الجنائز ٣٦ والنسائي في الجنائز ١٤ والإمام أحمد ٤٤٦/٥ 3 أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد
٤ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما بلفظ إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها ربعها ثلثها نصفها ٥ أخرجه أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بلفظ إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة حفظك الله كما حفظتني فترفع وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها وسجودها قالت
الصلاة ضيعك الله كما ضيعتني فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه
كذا بإظهار أن المضمرة ۷ سورة آل عمران من الآية ۱٦٥
E3
^
كذا والصواب فإذا
۹ سورة الذاريات من الآية ۱۸
۱۳۷۹
وفيه دليل على جواز دخول موضع الهلاك إذا كان مع داخلها ما يقي به نفسه من تلك
المهلكة على ما جرت به العادة في ذلك الوجه يؤخذ ذلك من دخول هذا تلك المهلكة ومعه ما يمنعه مما فيها من المهالك وهي راحلته عليها طعامه وشرابه ولو كان هذا غير جائز ما ضرب و الليل المثل به وسكت عن الإشارة إلى منعه كما فعل في المجاهد حين وصفه أنه غرَّر بنفسه لأنه عليه السلام هو المشرّع فلا يتكلم إلا بالشيء الجائز ومَن تتبع كلامه يجده في المواضع التي يكون فيها إشكال ما قد تحرَّز من ذلك إمّا بقول أو بإشارة أو ما كان في معناهما وفيه دليل على أنه حيث يُعدم الطعام والشراب يسمَّى مهلكة يؤخذ ذلك من أن صاحب هذه الراحلة لم يكن له شيء يخافه في تلك المهلكة إلا عدم الطعام والماء الذي كان على راحلته ولو كان له خوف مما سوى ذلك كان يذكره لأنه يكون زيادة في قوة كربه فيكون فرحه براحلته أكثر ولا كان يمكنه نوم مع ذلك كما هو المعهود من الناس ذلك لأنه لو كان له خوف من سباع أو لصوص لم يمكنه النوم مع ذلك لأن الخوف من مثل هذا يذهب بالنوم على العوائد الجارية في
الناس
وفيه دليل على أنه من ركن إلى ما سوى مولاه فإنه يقطع به أحوج ما يكون إليه يؤخذ ذلك من نوم هذا في تلك المهلكة لثقته براحلته التي عليها طعامه وشرابه الذي يظن أنه ينجيه من تلك المهلكة فأحوج ما كان إليها لم يجدها وهو عند استيقاظه من نومه أكثر اضطرارا لحاجته إذ ذاك
لطعامه وشرابه
ولذلك قال بعض أهل التوفيق من سرّه ألا يرى ما يؤلمه فلا يتَّخذ شيئاً يخاف له فقداً أي من عوّل على غير من لا يحول ولا يزول فلا بد له من الاضطراب غالباً ومن كان عدته مولاه فلا يفقده حيث يحتاج إليه أبداً بل يجده به رؤوفاً رحيماً قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فهو حسبه و 1
المعتادة
بينهم
وفيه دليل على أن همّ البشرية وفرحها غالباً إنما هو على ما جرت به أثر الحكمة من العوائد إلا أهل التحقيق وقليل ما هم يؤخذ ذلك من أن حزن هذا - صاحبَ المهلكة - على ذهاب راحلته إنما كان خوفه من الموت من أجل عدم الطعام والشراب وفرحه بهما إنما كان من أجل وجوده الطعام والشراب الذي ينسبون الحياة إليه
وقد يكون الأمر بالعكس أن تكون الحياة مع عدم الطعام والشراب كما قال أبو حامد
۱ سورة الطلاق من الآية ٣
۱۳۸۸
٢٥٤ -
حديث التشهد المشروع في الصلاة
عَن عَبدِ الله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عَنهُ قالَ كُنَّا إِذا صَلَّينا معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قلنا السَّلاَمُ على الله قبل عِبادِهِ السَّلامُ عَلى جِبريلَ السَّلامُ عَلى ميكائيل السَّلامُ عَلى فُلانٍ فَلمَّا انصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجهِهِ فَقالَ إِنَّ الله هُوَ السَّلامُ فَإذا جَلَسَ أحَدُكُم في الصَّلاةِ فَلْيقُل التَّحِيَّاتُ الله وَالصَّلواتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحمةُ الله وَبَرَكاتُهُ السَّلامُ عَلَينا وَعَلَى عِبادِ الله الصَّالحين - فَإِنَّهُ إذا قالَ ذَلِكَ أصابَ كُلَّ عَبدٍ صالح في السَّماءِ وَالأَرضِ - أشهَدُ أن لا إله إلا الله وأشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَعدُ مِنَ الكَلامِ
ما شَاءَ
ظاهر الحديث يدل على أن هذا التشهد المذكور في الحديث هو المشروع في الصلاة
والكلام عليه من وجوه
منها هل يجزىء خلاف هذه الصيغة أم لا ومنها هل هو سنة أو فرض ومنها الكلام على معاني تلك الألفاظ
فأما قولنا هل يجزىء خلاف هذه الصيغة فاعلم أنه لا يجزىء إلا ما جاء فيها من اختلاف عض ألفاظها في بعض الروايات فمنها ما جاء من طريق عائشة رضي الله عنها وهو قولها التحياتُ الطيبات الصلواتُ الزاكياتُ الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين شهدتُ أن لا إلهَ إلا الله شهدت أن محمداً رسولُ الله
ومنها ما جاء من تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي علّمه الناس على المنبر والصحابة رضي الله عنهم متوافرون وهو التحيات الله الزاكيات الله الطيبات الله الصلوات الله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله
١٣٦٤
إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومنها ما جاء من تشهد ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما والمعنى في الكل واحد غير أن في بعض الألفاظ اختلافاً وكلها في الصحيح وبأيها تشهد أجزأ بلا خلاف أعرفه بين أحد من العلماء خلفاً عن سلف
وأما قولنا هل هو سنة أو فرض فالجمهور على أنه سنة إلا ما روي عن الشافعي أن الصلاة على النبي فيه فرض
وأما الكلام على معاني الألفاظ فقوله التحيات لله جمع تحية والتحية هي السلام فالسلام كله على اختلاف أنواعه وصيغه هو الله تعالى أي مضاف إليه لأن من أسمائه سبحانه السلام فكل ما كان مشتقاً من هذا الاسم فهو له ومضاف إليه
وقوله والصلوات هي جمع صلاة وفي اللغة معناها الدعاء والدعاء منه تتابع الرحمة والرحمة منه كدعائه لأبي أوفى حين أتاه ابنه بصدقته فقال اللهم صلّ على آل أبي أوفى وارحمهم وعطفها على التحيات فاستغنى بذلك عن إعادة ذكر الله تعالى والصلاة من الله سبحانه وتعالى رحمة لعباده ومن أسمائه عزَّ وجلّ الرحمن فكل ما كان مشتقاً من هذا الاسم فهو له ومضاف إليه
وقوله والطيبات جمع طيّب والطيب كله على اختلاف صيغه وأنواعه الله ومضاف إليه سبحانه وعطفه على التحيات لله فاستغنى بذلك عن إعادة ذكر الله تعالى وهو من فصيح الكلام
وقوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام معناه الأمان وبركاته خيراته
وأمره عليه السلام لهم بالدعاء له هنا هو في حقهم لأن من أكبر القُرَب إلى الله سبحانه الصلاة عليه والدعاء له وإن كان هو عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله وفضله غير إلى دعائنا لكن ذلك رحمة في حقنا ألا ترى إلى ما جاء من الخير لمن قال في دعائه آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ۱ وهذا أمر قد منّ الله به عليه حتماً لا تبديل فيه فالفائدة في ذلك للذي يدعو به حتى تكون بركته و تعود على أمته في كل الأحوال
وقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض السلام معناه الأمان - كما تقدم - فكأنه يدعو بالأمان لنفسه ولكل عبد صالح في
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه وتمامه من قال إذا النداء اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ات محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له الشفاعة يوم القيامة
١٣٦٥
السماء والأرض ومن جعل له الأمان من الله فقد حصل له جميع الخير من الله علينا بذلك بمنه وفيه تنبيه منه ل لنا على اتباع طريق الصالحين لأنه إذا كنت منهم فجميع المصلين في كل صلاة يدعون لك بالأمان والخير فذلك خير من أضعاف أضعاف عملك بما لا يعلم قدره إلا الذي من به عليهم وفيه دليل على أن الملائكة والصالحين من المؤمنين لا يفضل أحدهما الآخر لأن العلماء اختلفوا فيمن أفضل هل الملائكة أو الصالحون من بني آدم على قولين والنص منه الله هنا يعطي أن لا تفضيل بينهما لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما ذكر أول الحديث يسلمون على الله قبل عباده ثم على جبريل وميكائيل ثم على فلان فقال هو عند ما علمهم كيفية التشهد إذا قال المصلي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض فجمع فيه بين الملائكة لأنهم سكان السماء وبين بني آدم الصالحين بلا تقديم ولا تفضيل وقوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ختمه بأرفع الكلام وعماد كلمة الإخلاص وتصديق رسالته ل ل ا ل ثم أباح لنا الزيادة على ذلك مما هو يناسبه لأن ذلك معروف عند العرب يؤخذ ذلك من قوله ثم يتخير بعد من الكلام ما شاء على نحو ما أشرنا إليه
الدين وهي
وفيه دليل على أن أول ما فرضت الصلاة لم يكن التشهد من مشروعيتها لا فرضاً ولا سنةً يؤخذ ذلك من قول عبد الله كنا إذا صلينا مع النبيل نقول السلام على الله قبل عباده فدل على أنهم بَقُوا على ذلك زماناً حتى إلى ۱ اليوم الذي سمع النبي فنهاهم عن ذلك وأمرهم بما ذكر
بعد
لا لا
وبقي هنا بحث وهو أن يقال لم نهاهم عن أن يقولوا السلام على الله قبل عباده ثم أمرهم أن يقولوا التحيات وهي جمع تحية والتحية هي السلام كما تقدم والانفصال عنه أن السلام هو الأمان فلما قالوا هم السلام على الله فليس على الله خوف من أحد ولا يقدر أحد على ضره ولا نفعه كما جاء في حديث مسلم وغيره إن يريدوا ضري لم يقدروا وكذلك نَفعُه سبحانه فنهاهم عن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى منه يُطلب الأمان وهو الذي يؤمن وهو الذي يخوف ومنه الخوف وفيه الرجاء فأمرهم عليه السلام أن يأتوا الأمر على بابه ويطلبوا الأمان منه عزّ وجلّ ويعترفوا له سبحانه بأنه هو السلام وهو الذي يعطي السلام وإليه يضاف حقيقة وإن كان يضاف إلى غيره في بعض الأماكن فهو مجاز أو لوجه ما من طريق ما اقتضته
الحكمة الربانية فجزاه الله عنا من معلم خيراً
۱ كذا بزيادة إلى بعد حتى
١٣٦٦
وفيه دليل على أن ما كان من زيادة ذكر أو دعاء في الصلاة لا يفسدها يؤخذ ذلك من أن النبي لم يأمرهم بإعادة الصلاة التي تقدمت لهم وهم كانوا يذكرون فيها ما نهاهم عنه كما هو في الحديث
وفيه دليل على أنه إذا كان القلب متعلقاً بفعل خير والمرء في الصلاة أن ذلك لا يفسد صلاته إذا لم يكن يستولي على القلب حتى يخل ببعض أركانها يؤخذ ذلك من أنه لما سمع سيدنا مقالتهم وهو في الصلاة بقي خاطره المكرم متعلقاً بمقالتهم لأنه عليه السلام عندما سلّم من الصلاة كلّمهم - كما هو نص الحديث - فدل على أن ذلك بقي مستصحباً إلى حين فراغه عليه السلام من الصلاة فكلمهم فيه
فإن استولى على القلب شغل بتلك الطاعة حتى أخلّ بركن من أركان الصلاة أعاد الصلاة كما فعل عمر رضي الله عنه حين صلى صلاة الصبح بالصحابة رضوان الله عليهم فلم يقرأ فيها فلما فرغ منها قيل له في ذلك فقال إني جهزت جيشاً إلى الشام وأنا في الصلاة وأنزلتهم منازلهم - ثم أعاد الصلاة
وفيه دليل على أن أفضل الأعمال تعليم دين الله تعالى يؤخذ ذلك من كونه لال لم يفعل إثر الصلاة إلا أن أخذ في تعليمهم ولم يشتغل بِتَسْبِيحِ ولا غيره فدل ذلك على فضيلته وقد جاء أنه من صلى الفريضة وقعد يعلّم الخير نودي في ملكوت السموات عظيماً
وفيه دليل على أن السيد انا الله أن يشرع من الأحكام ما يظهر له دون وحي ويلزمنا امتثاله يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لما علمهم التشهد لم يذكر أن ذلك كان بوحي ولو كان بوحي ذكره كما فعل عليه السلام في غير ما موضع على ما هو منصوص عنه الله
وفيه دليل على فضيلة الصحابة رضوان الله عليهم يؤخذ ذلك من أنهم تلقوا هذه الأحكام
عنه ل ونقلوها لنا فهذه منزلة لا يشاركهم فيها أحد
وفيه نكتة صوفية وهي إذا كان جميع الخير والطيب له سبحانه فلم يبق للعبد إلا الفقر دائماً واللجأ دائماً والاحتياج إليه سبحانه دائماً فانظر كيف تقول ذلك في كل صلاتك ثم تدعو عند فراغك بكثير من الأشياء حساً ومعنى وتضيفها إلى نفسك حقيقة يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ ۱ فلو جعلت حالك مثل مقالك لكنت من الأبرار لكن كثافة الران فسد به الحال وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الصف و ۳
الران الصدأ والحجاب الكثيف وما غطى على القلب ورَكِبَه من القسوة للذنب بعد الذنب ومثله الرَّيْن
١٣٦٧
- ٢٥٥-
حديث أنواع الزنى وما كُتِب على العبد منه لا بدّ من نفاذه
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ عَن النَّب لاله ها قالَ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ عَلى ابنِ آدمَ حَقَّهُ مِنَ الزِّني أدرَكَ ذلِكَ لا مَحالَة فَزِنى العَينِ النَّظرُ وَزِنى اللَّسَانِ النُّطقُ والنَّفْسُ تَتمَنَّى ذلك وتشتهي وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِكَ أو يُكَذِّبُهُ
*
ظاهر الحديث يدل على الإخبار بأن من كتب الله عليه من بني آدم شيئاً من الزني لا بد أن يفعله ولو تحرز بما عسى أن يتحرز والكلام عليه من وجوه
منها أنه قسم الزنى على قسمين زنى الفرج وهو الزنى الحقيقي وهو الذي يوجـ الحد وزنى العين بالنظر واللسان بالكلام وهو الذي يدخل تحت حدّ اللّمَم - على قول بعض العلماء - لأنهم قالوا ما دون الوَطْء فهو اللَّمَم ويستشهدون بقوله تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَر الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَم ۱ ومصداق ذلك من الحديث نفسه قوله عليه السلام والفَرْج يصدّق ﴾ ذلك أو يكذبه فإذا كذبه الفرج فلا زنى
وبقي فيه سؤال وهو أن يقال ذكره العين واللسان هل ذلك الزنى مقصور على هاتين الجارحتين أو ذكر هاتين الجارحتين من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى الظاهر أنه من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن لكل جارحة زنى وهو خروجها في تصرفها عما شرع لها فإن اليد لما لمست ما لم يَجُز لها فقد زنت وكذلك الأذن إذا سمعت ما لا يجوز لها فقد زنت وكذلك الأنف إذا شم ما لا يجوز له فقد زنى وكذلك الرّجل إذا مشت إلى ما لا يجوز لها فقد زنت وكذلك جميع الحواس فزنى كل جارحة بحسب خروجها عما شرع لها لكن لا تخلو كل جارحة من الجوارح أن يكون خروجها عما شُرع لها مما هو من أسباب النكاح وأدواته أو من غير ذلك فإن
1 سورة النجم من الآية ۳
T
١٣٦٨
كان مما هو من أسباب النكاح وأدواته فهو الذي يكون الفرج يصدقه أو يكذبه وهو الذي أشار إليه سيدنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي نحن بسبيله وإن كان خروجها عما شُرع لها لا يمكن أن تكون تلك المخالفة إلا منها وهي التي تحققها إن كانت لها مشاركة مع غيرها من الجوارح فيها أو تكذبها فليس من هذا الحديث الذي نحن بسبيله ولها حكمها المنصوص عليه في موضعه مثال ذلك الغيبة التي هي مختصة باللسان وهي من الكبائر بلا خلاف لقوله صلى الله عليه وسلم الربا اثنان وسبعون باباً أدناه مثل أن يطأ الرجل أمه وإن أربى الرّبا استطالة لسان المسلم في عرض أخيه فمن وقع في الغيبة بلسانه فقد تحقق عليه إثم الغيبة ولا يحتاج في ذلك لجارحة أخرى تصدقه أو تكذبه وعلى هذا النوع فانظر جارحة جارحة تجد القاعدة مطردة والحكم فيها واحداً وقوله صلى الله عليه وسلم أدرك ذلك لا محالة لا يختص هذا بالزنى وحده بل كذلك حكم الله في جميع أنواع الخير والشر من كتب له من أحد الوجهين شيئاً واجباً فلا بد له منه لا يَردّه عنه راد لأنه قد نص العلماء على أن ما قُدّر على العبد على ضربين قَدَر قُدّر وقدّر أن يردّه وجه ما من الوجوه فذلك الذي ينفع أثر الحكمة فيه وهي التسبب في دفعه وما قدر له أو عليه حتماً فذلك لا يردّه شيء من الأشياء ومنه خوف الرجال وأهل العقول
وقوله والنفس تتمنى ذلك وتشتهي يعود على جميع ما ذكر في الحديث لأنها مطبوعة على تمني جميع الشهوات حلالاً كانت أو حراماً لكن لا يضرّ ذلك إذا زجرها صاحبها ولم
يوافقها على ذلك ودخل تحت متضمن قوله تعالى ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ٢
فإن لم ينهها ولم يقع ما طلبته منه بحكم الوفاق لم يكن من أحد القسمين ولم يكن ممن ينطلق عليه اسم زان لأنه لم يقع الفعل بالفرج الذي هو يصدقه ولم يكن أيضاً ممن زجر النفس عن الهوى فتكون الجنة له مأوى وكذلك كل ما حدثت به النفس من غير ذلك إنما هو من الخاسرين وإن هو لم ينهها ولم يفعل بحكم الوفاق كان من المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء
وكذلك يتعدى الحكم إلى ما هو الشخص فيه مؤاخذ بعقد النية الذي هو من الأمور القلبية إذا وافقها على ما سولت له عقد نيته على ذلك كان من الخاسرين وإن نهاها عن ذلك كان من
1 أخرجه الطبراني في الأوسط عن البراء رضي الله عنه بلفظ الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه وإن أربي الربا استطالة الرجل في عرض أخيه
سورة النازعات ٤٠ - ٤١
١٣٦٩
المفلحين التقسيم بعينه مثال ذلك الحسد المنهي عنه شرعاً إذا دعته النفس إليه جرى فيه ذلك التقسيم وكذلك ما أشبهه مما هو مختص بالقلب ليس إلا فتكون النية وعقدها هي التي تصدق ذلك أو تكذبه
وفيه دليل لطريق أهل الصوفة الذين يرون مخالفة النفس وحديثها جملة واحدة يؤخذ ذلك من نصه في الحديث أن من وضعها الذي طبعت عليه أنها تتمنى ذلك الحرام وتشتهيه فمن هذه صفتها وجبت مخالفتها عقلاً وديناً فإنها تفضي بصاحبها إلى الهلاك وقد قيل نفسك وإن
صلحت لا تأمنها فإن الشر يلمع في جبهتها
ويترتب على فهم الحديث بشرحه فائدتان إحداهما أن تجتهد في أفعال الخير لعله يدفع عنك بها من الشر ما لا تعلمه وقد كتب عليك فتكون ممن وقاه معروفه مصارع السوء والأخرى دوام الخوف وإن كنت على أرفع الأحوال أو على أي حالة كنت خوفاً أن يكون قد سبق عليك في الكتاب الختم بما لا تطيقه وأنت لا تعلم ومن أجل هذه الإشارة قال جلّ جلاله إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا ١
جعلنا الله ممن يخشاه وكانت خشيته سبباً إلى سعادته بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة فاطر من الآية ۸
۱۳۷۰
اخر بهذا الاستغفار بالنهار حصل له سيّد استغفار بالنهار بمثل حاله وليس للعقل طريق أن يحكم أيهما أفضل عند الله تعالى هل الذي استغفر في السحر بغير هذا أو هذا الذي استغفر في النهار بهذا الاستغفار لأن هذه التحديدات لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما طريقها ما يُلقى في ذلك من الشارع و و و و و و هذا لم يأتِ عن الشارع فيه شيء فيُرَدُّ الأمر فيه إلى الله لا غير ويترتب على النظر في هذا الحديث وأشباهه أن الحكمة الربانية كما اقتضت التفضيل بين العباد وجميع الحيوان وكذلك سائر المخلوقات على ما هو متلقى من طريق الرسل عليهم السلام وأخبارهم فكذلك اقتضت الفضيلة بين أنواع العبادات وتضعيف الأجور في ذلك من وجوه سبعة فمنها بنوعها ومنها بحسن المعاني بين النوع الواحد في أنواعه أيضاً ومنها من طريق الألفاظ ومنها من جهة الأماكن ومنها من جهة الأزمنة ومنها من جهة النيات والمقاصد ومنها من جهة الأحوال والشيم
وقال عز وجل في كتابه حضاً على طلب الأعلى فالأعلى من هذه تنبيهاً للمكلف عليها وحضاً له على طلبها وتحصيلها أُولَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيَّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ ۱ وحضت السنّة على ذلك بتبيين فضيلة كل قسم منها وتعيينه وبما للعامل في ذلك بأتم بيان ثم أكّد عليه السلام ذلك بلفظ مجمل وهو قوله صلى الله عليه وسلم كفى بالعبادة شغلاً لأنه من جعل همته أن يأخذ الأعلى فالأعلى من تلك السبعة وجوه لا يسعه مع ذلك شغل غيره لأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه
وفيما نبهنا عليه حجة لأهل السلوك على طريق السنة والسنن لأنهم بهذا عمروا أوقاتهم وبالبحث عليه والاهتمام به شغلوا أنفسهم حتى إن بعضهم سئل عن الصباح والمساء فقال لا أعرفهما فَسَلْ عنهما غيري لأنه رأى الأخذ في هذا من قبيل اللغو وشغل الوقت بما لا يُغني
منَّ الله علينا بما به مَنّ عليهم بكرمه وفضله آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الإسراء من الآية ٥٧
أخرجه الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ إن في الصلاة لشغلاً
۱۳۸۰
-٢٥٩-
حديث بيان خوف المؤمن من ذنوبه وعدم اهتمام الفاجر بها
عَن عَبدِ الله بن مسعودٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ إِنَّ المُؤمِنَ يرى ذُنُوبَهُ كأَنَّهُ قاعِدٌ تَحتَ جَبلٍ يَخافُ أَن يَقَعَ عليه وَإِنَّ الفاجِرَ يَرى ذُنوبَهُ كَذَّبَابٍ مَرَّ عَلى أَنفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذا قال أبو شهاب بِيَدِهِ فَوقَ أَنفِهِ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره الله بحال المؤمن وكبر ذنوبه في عينه حتى يراها مثل جبل واقع عليه والآخر إخباره و بحال الفاجر واحتقاره لذنوبه حتى يراها كذباب مرّ على أنفه والكلام عليه من وجوه
منها أن فيه دليلاً لأهل السنّة لأنهم لا يكفرون أحداً من أهل الإيمان بذنب وردّاً على القدرية الذين يكفرون بالذنوب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن المؤمن يرى ذنوبه فسمّى هذا المذنب باسم الإيمان ولم يخرجه بذنوبه من دائرة الإيمان
وفيه دليل على أن الفجور هو أمر قلبي مثل الإيمان لأنه أمر قلبي أيضاً يؤخذ ذلك من أنه وصفه بالذنوب كما وصف المؤمن بالذنوب فجاءت التفرقة بين المؤمن والفاجر بأمر قلبي و بيان ذلك من جهة النظر والعقل أنه لما كان قلب المؤمن منوّراً بالإيمان ورأى من نفسه ما يخالف ما تنوّر به قلبه - وهو الإيمان - عظم الأمر عليه لأنه لا شيء أثقل على الأشياء من ضدها عقلاً
ونقلاً قال تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ۱ من أجل النسبة التي بينهم خفّت عليهم وكذلك أهل التوفيق خفت عليهم الطاعات حتى صاروا يتنعمون بها ويجدون لها حلاوة حتى إنه روي عن جماعة أهل هذا الشأن أنهم يحسّون بالحلاوة تنسكب على قلوبهم عند استغراقهم في الطاعات مثلما يجدون حلاوة الشهد على قلوبهم في حين شربهم له بل أعظم وأرق وأحلى
۱۳۸۱
۱ سورة البقرة من الآية ٤٥
هذا
موجود
خلَفاً عن سلف إلى هَلُمَّ جَرّاً ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أرحنا بها يا بلال ۱ وقوله وجُعِلَت فَرَّةُ عيني في الصلاة لما كان يجد فيها فإنه القدوة في كل خير حالاً ومقالاً
ولما كان قلب الفاجر مظلماً لما فيه من الفجور وضعف الإيمان خفت عليه ذنوبه من أجل النسبة التي هناك ولذلك قد كثر في زماننا هذا إذا جئت تعظ بعض من قد ظهرت عليه علامات الفجور في ذنب وقع فيه فيكون جوابه هذا قريب اشتهينا ألا يكون إلا هذا فهذا قريب وعدم الاكتراث بذنبه ظاهر عليه أعاذنا الله من ذلك بمنّه
ويترتب على هذا الحديث أن الدليل على فجور الشخص قلة حزنه على ذنوبه وتهوينها عليه وخفتها وأن الدليل على إيمانه حزنه على ذنوبه وخوفه منها - وإن قلت - وبقدر قوة إيمانه تكون شدة حزنه وخوفه يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما أصبح المؤمن فيها - يعني دار الدنيا - إلا حزيناً ولا أمسى إلا حزين أو كما قال عليه السلام لأنه من ذا الذي لم يقع منه قط مخالفة ولو صغيرة إنما ذلك مقام الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين ومن مَنَّ الله عليهم من الصِّدِّيقين وهم
قليل
فجاء إخباره عن الغالب وعليه أثبتت الشريعة غالباً وقد يكون على عمومه فيكون حزن الرسل والصديقين من أجل الغير لما يَرَوْن منهم ما اقتحموا بأنفسهم من المهالك لكثرة ما أودع الله تعالى في قلوبهم من الشفقة والرحمة كما قال مولانا جلّ جلاله لسيدنا فلا نَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَتٍ ۳ فالعاقل يقيم هذا الميزان على نفسه حتى يتبين له من أي الفريقين هو وكَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ٤
ومما في معناه ما يذكر عن بعض قضاة الخير ممن تقدم أنه كان له شاهدان عدلان وكان الذي له الإمرة في وقته ظالماً فجبر ذلك الظالم ذينك الشاهدين أن يأكلا على مائدته فأسقط القاضي شهادة أحدهما وأبقى الآخر على عدالته فقال له الذي أسقطه لِمَ أسقطت شهادتي فقال له القاضي لأنك أكلت من مائدة الظالم فقال له وإن صاحبي أكل معي عليها فقال له إن
1 قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن سالم بن أبي الجعد رضي الله عنه ولفظه أقم الصلاة
يا بلال أرحنا بها
أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ولفظه حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
۳ سورة فاطر من الآية ٨ ٤ سورة الإسراء من الآية ١٤
۱۳۸
صاحبك أكل وهو يبكي وأنت أكلت وأنت تضحك فلحظ القاضي هذا المعنى الذي أشرنا إليه
فدل تهاون الذي كان يضحك بما وقع فيه على فجوره وكان سبباً إلى تجريحه
وهنا بحث وهو أن يقال في الجواب لِمَ مثل عليه السلام خوف المؤمن من ذنوبه بالجبل يقع عليه وما الحكمة في ذلك ولم يكن بغيره
والجواب أن غير ذلك من المهلكات مثل الغرق أو الحرق أو القتل أو غير ذلك فقد يتسبب بعض الناس فيما يحلّ بهم من ذلك وقد ينجو منه بلطف من الله تعالى وقد وقع من ذلك ما رئي عياناً فإنه حكي عن بعض من لحقهم الغرق أنهم نجوا أو نجا منه بعضهم وكذلك في الحرق والهدم وكذلك في القتل وجد في بعضهم من فيه النَّفس فعولج زماناً حتى برىء وهذه الأشياء أعظم المهلكات بعد هذا الجبل ولولا التطويل لذكرنا منها حكايات جملة ووقوع الجبل ليس معه حياة أصلاً فالهلاك في ذلك مقطوع به
فلذلك مثل به له ولأن المؤمن إذا وجد من نفسه ما يخالف الإيمان خاف على نفسه أشدَّ الأشياء وهو النفاق الذي الهلاك معه مقطوع به لمن مات عليه وخاف من قول الله عزّ وجلّ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱ فحزنوا من أجل كبر هذا المقت لأن ما كبره الله سبحانه فهو أمرٌ عظيم لا يحمله أهل الإيمان ويصعقون منه ولذلك لما علم مولانا سبحانه خوفهم من ذلك طمعهم ورجاهم بقوله تعالى ﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُلُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ ۳
وهنا بحث آخر وهو أن يقال لِمَ شبَّه ذنوبَ الفاجر بالذباب وما الحكمة في ذلك ولِمَ لَمْ
يكن مَثَلَ بالذَّر أو ما هو في شبهه مثل الحشرات وغير ذلك
والجواب عنه أنه لما كان الذباب أخفَّ الطير وأقله ضرراً وهو مما يُعايَن ويَندفع بأقل الأشياء وإن عَضَ فليس لعضته ضرر بخلاف الذّر الذي هو أقل الحشرات لأن التحفظ منه عسير وفيه شدّة وانفصاله بطيء وإذا عض فلعضته حرارة وفيها إذاية ٤ في الأموال حتى إذا کثر يكون بسبب ضرره جائحة كثيرة وليس ذلك في الذباب فلذلك ثلاثل ل لا لا لا بـ
۱ سورة الصف الايتان و ۳ سورة الزمر من الآية ٥٣ ۳ سورة الملك من الآية ١٤ يريد أذية
۱۳۸۳
وفي تمثيله عليه السلام بالأنف من بين سائر الجوارح وإشارته عليه السلام بيده لدفع الذباب عنه وجهان من الفقه أحدهما المبالغة في تخفيف ذنوبه عليه لأن الأنف قلّ ما ينزل الذباب عليه وإنما يقصد في الغالب العينين وإزالته بيده تأكيد في الخفة أيضاً حتى لا يلحقه منه شيء من الضرر والوجه الآخر أن يستعمل في التمثيل ما هو أقوى لأن إشارته عليه السلام هنا بيده أقوى من القول فكنى بالإشارة عن الكلام لقوتها في الوضع
وفي هذا دليل على ما أعطي من كثرة معرفته بالأشياء وإدراكه ذلك على البديهة متى شاء فإن كان آدم عليه السلام عُلم الأسماء كلَّها فقد وُهِب سيّدنا الالالالا لمعرفة الأشياء كلها وفائدة معرفة الأشياء أكبر من معرفة أسمائها تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ
ورفع بعضهم درجات
1 E
وفيه دليل على جواز ضرب المثل بكل ما هو ممكن بحسب قدرة القادر وإن كان لا يقع وإن وقع فيكون بخرق العادة لا بجريانها المتعاهد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه لأن هذا من جهة القدرة ممكن وما وقع هذا إلا لبني إسرائيل حين رفع الله عليهم الجبل وهم يخافون أن يقع عليهم حتى امتثلوا ما أمروا به فجاء بخرق العادة الموسى عليه السلام
وفائدة إخباره لنا بهذا الحديث إرشاد لنا إلى ألا نغفل عن محاسبة نفوسنا وأن نختبر العلاماتِ الدالة على بقاء نعمة الإيمان علينا فإنه قد جاء في الصحيح إن الرجل ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثلَ الوَكْت ثم ينام النومةَ فيقبضُ أثرُ الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دحرجته على رجلك فَنَفِط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة ودحرجها على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ما أجلَدَه وما أظرَفَه ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ۳ أو كما ورد الوكت سواد اللون والمجل مَجَلَت يده إذا أصابها العَمَل والنَّبر ورم في الجسد كله
جعلنا الله ممن أكمل نعمة الإيمان في الدارين بمنّه فإنه منان كريم آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ٢٥٣
رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه بلفظ أن الأمانة نزلت في جَذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت إلى اخر الحديث
١٣٨٤
حديث شدة فرح الله تعالى بتوبة العبد إذا تاب
عَن ابنِ مسعودٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال اللهُ أَفرَحُ بِتَوبةِ العَبدِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنزِلاً وَبِهِ مَهلَكَة ومَعَهُ راحِلَتُهُ عَلَيْها طَعامُهُ وَشَرابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَومةٌ فاستَيْقَظَ وَقَد ذَهَبَت راحِلتُه حَتى إذا اشتدَّ عَلَيهِ الحرُّ وَالعَطش أو ما شاءَ الله قال أرجِعُ إلى مكاني فَرَجَعَ فَنامَ نَومَةً ثُمَّ رَفعَ رَأْسَهُ فَإذا راحِلَتُهُ عِندَهُ
وجوه
ظاهر الحديث الإخبار بشدة فرح الله عزّ وجلّ بتوبة العبد إذا هو تابه والكلام عليه من
العادة
منها أن يقال ما معنى فرح الله سبحانه بتوبة العبد فالجواب أنه قد تقدم في غير ما موضع من الكتاب أن هذه الأوصاف التي هي من صفاتِ المحدثاتِ مثل الفرح والحزن والحب وما أشبَهَ ذلك أنها في حقٍّ الله سبحانه وتعالى مستحيلة وإنما معناها ما تضمنته تلك الصفة بجري عندنا لأنا لا نفهم ما يُراد منا إلا بالتمثيل بما نعلمه من عاداتنا وأوصافنا فكني عن كثرة صلى الله عليه وسلم إحسان الله سبحانه للتائب وكثرة تجاوزه عنه وعظيم الإفضال عليه بقوة هذا الفرح الذي لا شيء عندنا - فيما نعلمه من عوائدنا - أعظمُ من هذا الفرح الذي لحق صاحبَ هذه الراحلة عند وجودها بعد ذلك الكرب العظيم الذي لحقه والمعلوم من عوائد الملوك الكرام إذا فرحوا بشيء أنَّ صاحب ذلك الشيء الذي فرحوا به يحسنون إليه الإحسان الذي يَخرِق العقول ويرفعونه المنازل الرفيعة التي ليس فوقها منزلة وكذلك جاء عن مولانا سبحانه في حق التائب بالنص في ذلك من الكتاب ومن السنّة في غير ما موضع فمن الكتاب قوله تعالى ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَن وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحًا فَأُولَتيك يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتْ ۱ وقوله تعالى ﴿ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ
۱ سورة الفرقان من الآية ۷۰
۱۳۸۵
التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ ۱ ومن السنة قول رسول الله التوبةُ تَجُبُّ ما قَبْلَها صلى الله عليه وسلم وقوله عليه السلام إذا تابَ العبدُ يُباهِي الله به الملأ الأعلى ويُوقَد له سراج بين الأرض والسماء وينادي مناد من قِبَلِ الله عزّ وجلّ إن فلان بن فلان قد صالحَ مَوْلاهُ ۳ أو كما قال والآي والأحاديث فيه كثيرة فأجمل هنا هو بهذا المثل العجيب كما جاء مفسّراً في الكتاب والسنّة في مواضع عديدة ليكون أقرب للفهم وأحصّ على الرغبة في التوبة وأيسر للحفظ ومما يبين ما أشرنا إليه حكايةُ مَعْن ٤ لأنه كان من الملوك الأول ٥ وكان قد اشتهر بكثرة الجود والكرم فكثرت عليه القصاد حتى احتجب عن الناس فأتاه أحد الأدباء فقيل له إنه احتجبَ منذ زمان وكان له بإزاء قصره بستان يتفرج فيه في بعض الأيام فقال ذلك الأديب لأحد حجابه إن أنتَ أخبرتني بيوم خروجه إلى البستان لك ٦ عندي جائزة كذا وبقي يواظب على الباب حتى قال له ذلك الحاجب إنه اليوم في البستان فكتب على خشبة
أيا جُودَ مَعْنِ نادِ مَعْناً بحاجتي مالي شَفيعُ فما لي إلى مَعْنِ سِواك شفيـ وأتى خلف البستان ووضعها في ماء كان يدخل البستان فبينما الملك قاعد على ذلك الماء أبصَرَ الخشبة تعوم على وجه الماء فأمَرَ بأخذها ونظر ما فيها فلما أُخبِر بالكتب الذي عليها فرح به فرحاً شديداً وسُرَّ به سروراً عظيماً وخرج من حينه وأمر بحضور أرباب دولته وبحضور كاتب هذه فلما أبصره قال له أنت القائل هذا والخشَبَةُ بين يديه قال له نعم فأمرَ له بعطاء عظيم أبْهَتَ الحاضرين وجعل له منزلةً عظيمة يكثر لها الحسّاد
فلما كان من الغد خرج وأمر بحضور أرباب دولته وبحضور ذلك الشخص وأعطاه مثل ما أعطاه بالأمس وكذلك في اليوم الثالث فلما كان في اليوم الرابع خرج وأمر بإحضاره فطلب فلم يوجد فقال لأرباب دولته أما إنه لو قعد كنّا ندفع له كل يوم كمثل ما دفعنا له أول يوم حتى لا يبقى لنا شيء نعطيه فإنه تشفّع لنا بما يَقصُرُ مُلكُنا عن مكافأته عليه فكثرة جوده أوجبت كثرة
عطائه
۱ سورة الشورى من الآية ٢٥
المعروف أن الإسلام يجب ما قبله و التائب حبيب الله و التائب من الذنب كمن لا ذنب له ۳ لم نقف على مصدره
٤ معن بن زائدة من أشهر أجواد العرب وشجعانهم أدرك العصرين الأموي والعباسي وكان بينه وبين المنصور أحداث انتهت بالمصالحة وتوليته اليمن ثم سجستان وفيها قتل غيلة سنة ١٥١هـ الأعلام ١٩٢٨
ه كذا والصواب فيها ٦ كذا والصواب فلك
١٣٨٦
هذا مِمَّن ملكه محصور يفنى وهو مثله ينفد ويفنى وخزائنه محصورة معدودة وجُوده
محدود وكل معدودٍ محدودٍ يَغنى فكيف بمن لا ينقضي أبَده ولا يحصر ملكه ولا تفنى خزائنه ولا يشبه كرمه كرم فإذا فعل العبد ما فيه موجب لإحسانه عزّ وجلّ من طريق المنّ والفضل لا من طريق الوجوب والإلزام فكيف يكون إحسانه لهذا العبد وكيف يكون ترفيعه له وتجاوزه عنه جعلنا الله مِمَّن أمَّلَه لذلك بمنّه
واحتمل وجهاً آخر وهو مثلما اختلف العلماء في ذكره سبحانه وتعالى عن نفسه الوجه واليدين فمن أهل السنّة من تأول الوجه بمعنى الذات لأن العرب تقول وجه الطريق بمعنى ذاته واليد بمعنى النعمة ومنهم من قال يحمل اللفظ على ظاهره مع نفي الجارحة ونفي التحديد والتكييف
ويجري هذا الوجه في هذا الحديث وما في معناه من الحب والغضب والرضا والضحك وكل ماجاء في الأحاديث من هذا النوع مع نفي ما تضمن تلك الصفة منّا مثل الفرح يُقَرُّ اللفظ على حاله مع نفي المعنى الذي نجده نحن من السرور به والميل إلى ذلك الشيء المفروح به والبشاشة إليه وإيثاره على غيره وكون ذلك كما يليق بجلاله سبحانه مع نفي الشبه والمثال
وإبقاء ما ينالنا من تلك الصفة من الخير على جري عادتنا فإنَّ من أجل ذلك ضُرِب لنا المثل وكذلك يمشي هذا الوجه في الغضب والرضى والضحك لأن القاعدة قد تقررت بمدلول
العقل والنص أنه جل جلاله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ۱ وقد تقدم بيان ذلك بأدلته أول الكتاب في ﴾ حديث عبادة بن الصامت فأغنى عن إعادته هنا فلما تقعدت تلك القاعدة لم يضرّ إطلاق هذه الألفاظ ولا يقع بها على العقول في معتقدها التباس
وفيه دليل على جواز السفر منفرداً يؤخذ ذلك من قوله من رجل نزل منزلاً وبه مَهلَكة فوصف بأنه كان في تلك المهلكة وحده فإنه عليه السلام لا يضرب مثلا بما لا يجوز في شريعته ويعارضنا النهي منه عليه السلام أن يسافر الرجل وحده ويمكن الجمع بينهما بأن يكون هذا الحديث دليلا على الجواز وذاك النهي نهي كراهية وشفقة
ومن أجل ما كان هذا في تلك المهلكة وحده جرت عليه تلك الشدة لأنه لو كان معه رفيق ما حصل في تلك الشدة حتى أيقن بالهلاك فإنه لو ذهبت راحلته بقيت رواحل رفقائه فقد كانوا يقومون بضروراته فلم يكن يجد لذهاب راحلته ذلك الهم الكبير فبان بهذا الحديث وإن كان يدل على الجواز فائدة نهيه عليه السلام عن السفر منفرداً
۱ سورة الشورى من الآية ۱۱
۱۳۸۷
الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يأمن جاره بوائقه ۱ أو كما قال عليه السلام فنفى أن تجتمع حقيقة الإيمان مع إيذاء الجار والإحسان إليه من كماله
من
والإحسان إليه يكون بالوجوه المحسوسة مثل الهدية وألا يمنعه غرز خشبة في جداره إن احتاج إليها وما هو في معنى ذلك ويكون بالمعنويات مثل إرادة الخير له والدعاء له بذلك بظهر الغيب وما في معناه ومعاونته على شيء إن احتاج إليه بقدر الجهد بأي نوع كان ذلك المحسوسات أو المعنويات كل ذلك على قدر طاقتك بغير ضرر يلحق فيه للغير ديناً ودنيا وأما قولنا هل ذلك على الإطلاق أو له شروط فالجواب أنه من وجه على الإطلاق ومن وجه له شروط فالذي هو على الإطلاق إرادتك الخير له إن لم يكن من أهله ودعاؤك له في ذلك بظهر الغيب وما في معناه وأما الذي له شروط فإنه إذا كان على الاستقامة فالمندوب قد أصاب محله فأحسن إليه بما أمكنك من وجوه الإحسان حِسّاً ومعنى وإن كان على غير استقامة فواجب عليك كفه عن ذلك إن كان ذلك في قدرتك أو موعظته إن قبل ذلك وإلا فهجرانه على قدر جرمه ويكون يعلم أن هجرانك له من أجل ذلك لعله يرتجع من أجل هذا وما أشبهه وقد قيل الجار قبل الدار وقال العلماء شؤم الدار سوء جارها ٣
وأما قولنا أي حد هو حدّها فقد تكلم الناس في ذلك فيما قيل فيه إن من بينك وبينه أربعون داراً فما دون ذلك فهو من جيرانك ٤ وأما ما يدل عليه الحديث الذي بعد هذا فهو من اثنين فما دون على ما يقع الكلام عليه في موضعه من الحديث إن شاء الله تعالى
وأما قولنا من أي الجهات يكون فقد قال العلماء من الأربع جهات إن كانت الجهات
عامرة كلّها
وأما قولنا هل القريب والبعيد في الحرمة سواء فهذا يحتاج إلى تفسير أما في منع الضرر لهم فذلك سواء وأما في إرسال الخير إليهم فإن كان مثل المعنويات فهم في ذلك سواء وإن كان
۱ رواه البخاري عن أبي شُرَيح الكعبي رضي الله عنه أن النبي الا الله قال والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل لقد خاب وخسر من هذا قال من لا يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه قال شره وفي رواية لأبي يعلى عن أنس رضي الله عنه ما هو بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي لا الاول قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في حائطه ۳ أخرج ابن ماجه والطبراني من حديث أسماء بنت عمیس قالت یا رسول الله ما سوء الدار قال ضيق ساحتها وخبث جيرانها إلى اخر الحديث انظر العراقي على الإحياء ۳ ٤ أخرج أبو داود في المراسيل ووصله الطبراني من رواية الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن رجلا أتى النبي ا لا لا لا فجعل يشكو جاره فأمره النبي و الله أن ينادي على باب المسجد ألا إن أربعين دارا جار قال الزهري أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأوماً إلى أربع جهات
١٣٢٤
من جهة المحسوسات فتعمل في ذلك بحسب نص الحديث الذي يأتي بعد هذا الحديث وهو تقديم أقربهم منك باباً فتلك السنة هذا إذا تساووا في حق الجوار بلا زيادة حق على ذلك فإن من الجيران من له حق واحد ومن له حقان وهو الذي يكون جاراً مسلماً ومن له ثلاثة حقوق وهو أن يكون جاراً مسلماً قريباً من القرابة أو من الرحم ومنهم من يكون له أربعة حقوق القرابة والجوار والإسلام والصهر ۱ فيكون إذ ذاك المقدَّم منهم الذي يكون أكثرهم حقاً كفعل المواريث أقواهم سبباً يكون أولى من غيره وأما قولنا هل يحتاج في ذلك إلى نية أم لا فاعلم أن كل فعل يمكن عمله الله ويمكن عمله لغير الله - والوجهان فيه سائغان على لسان العلم - فلا بدّ من النية فيه إذا فُعِل الله ليمتاز عن غيره والإحسان للجار هو مما يمكن أن يكون الله وأن يكون لغير الله مثل أن تفعل الخير معه مكافأة على إحسان تقدم له عليك أو لمن يلزمك منه ملزم أو الحب فيه أو لحياء منه أو لرغبة في مكافأته أو لإحسان أو لخوف منه وأشياء عديدة إذا نظرتها تجدها فإذا كان لمجرد الجوار فالنية فيه مطلوبة ليتميز من هذه الوجوه كلها وما أقل اليوم فاعل ذلك !
وقد ذكر عن بعض أهل الدين والفضل أنه كان له أحد جيرانه وكان مسرفاً على نفسه والسيد لا يعلم ذلك منه وكانت لذلك المسرف عادة إذا كان يفيق من نشوته قريب السحر يرفع صوته
ويقول
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ومثلي في الحقيقة لا يُضاعُ
فكان ذلك السيد يتأنس بذلك القول منه كل ليلة إلى أن وقع الحاكم عليه فأمر بسجنه فلما كان في السَّحَر لم يسمع ذلك القول المعتاد من جاره فلما أصبح قال للخديم الذي له اذهب إلى جارنا فاسأل عن حاله وما كان سبب قطعه العادة البارحة فرجع الخديم إليه وأخبره بشأنه وما هو عليه فقال السيد لا يمكنني إضاعته فتوجّه للحاكم في قضيته فقضى الحاكم حاجته وأطلقه ووجّهه إلى ذلك السيد فلما راه قال له هل ضيَّعناك أو فرطنا في حقك فاستحيا من ذلك السيد وتاب وحسن حاله
1 أخرج الحسن بن سفيان والبزار في مسنديهما وأبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه وابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي لا الا الله قال الجيران ثلاثة جار له حق واحد وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك
تروى هذه الحكاية عن أبي حنيفة رضي الله عنه تقول كان له جار مسرف على نفسه يشرب الخمرة طوال =
١٣٢٥
تنبيه إذا كان يؤكد عليك في حق جار بينك وبينه جدار وتمنع أن يصل إليه منك أذى
وتؤمر بحفظه إيصال الخير إليه فكيف بجوار الملكين الحافظين اللذين ليس بينك وبينهما جدار ولا حائل وأنت تؤذيهما مع مرور الساعات بدوام التفريط وإيقاع المخالفات انظر بعقلك هل لك يصح ذلك حقيقة الإيمان أم كيف حالك يا مسكين لأنه قد جاء أن الحفظة الكرام يسرون بحسنات العبد أكثر ممّا يسر العبد بها عند رؤية ثوابها وأنهما يحزنان ويهتمان من سيئات العبد ومعصيته أكثر مما يحزن العبد إذا رأى جزاءه عليها فإساءتك لهما بخطيئتك وأنت لا تستحي ولا تنزجر فانتبه يا بَطّال قبل رفع الحجاب وغلق الباب إذا كنت نفسك لا تحفظها وجيرانك منك لا يسلمون فالهرب منك ثم الهرب الهرب وقوله حتى ظننت أنه سيورثه فيه دليلان أحدهما أن من أكثر له من شيء يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلى منه لأنه لما كثرت من جبريل عليه السلام الوصية في حق الجار ظن
سيدنا أنه سيبلغ الاعتناء به إلى ما هو أعلى وهو الميراث وفي هذا دليل لأهل المقامات والأحوال لأنهم يقولون إذا فتح على أحد في مقام ودام عليه بأدبه رجي له الانتقال إلى ما هو أعلى منه
والدليل الثاني أن أعلى الحرمة هو الميراث والميراث على ضربين ميراث العوام وهو في حطام الدنيا وميراث الخواص وهو العلم إذا كان الله وهو على ضربين منقول وموهوب وهو الميراث الذي ورثه أهل الخصوص من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام لأن العلماء رضي الله عنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كالذي روي عن بعض الصحابة - وأظنه أبا هريرة رضي الله عنه ـ أنه مرَّ على بعض أصحابه في السوق فقال لهم أتجلسون هنا وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد وذلك بعد وفاته فتسارعوا إلى المسجد فإذا ناس من الصحابة رضي عنهم يتذاكرون في العلم فقالوا له وأين ما قلت قال ذلك ميراث رسول الله ۱ لأن
الله
الليل ويغني ويرفع صوته ويؤذي أبا حنيفة إذ يشوش عليه دراسته وقراءته وكان الجار يردد دائماً بصوت عال بيت أبي فراس الحمداني
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسَدادِ ثغر وحدث أن مرت ليلة ولم يسمع أبو حنيفة ضجة جاره ولا تغنيه بيت أبي فراس وكذلك في الليلة التالية والثالثة فافتقده وسأل عنه فقيل له لقد قبض عليه العَسَسُ مخمورا وأودع السجن فذهب أبو حنيفة إلى الوالي وشفع له رعياً على حقوق جواره ولما أطلق سراحه سأله أبو حنيفة هل أضعناك كما كنت تقول فخجل الرجل وتاب وأقلع 1 أخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها فقال ذالك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه قالوا وأين يا أبا هريرة =
١٣٢٦
الأنبياء عليهم السلام لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ حظه من
الميراث
غير أن بين الميراثين فرقاً عظيماً وهو أن الميراث الذي هو في حطام الدنيا تدخله نسبة الدار وهو الضيق والنقص بالحجب إما كلياً وإما بعضياً وبالعول ۱ أيضاً نقص ثان وأما ما هو ميراث الخواص بينهم كما تقدم وبضاعة ميراثهم متسعة أيضاً لا يلحقها ضيق ولا حصر فليس فيه شيء من ذلك بل التواد واسع ولهم الخير التام نسبة الدار التي هو لها حكمة حكيم
وأما اللَّدُنْي فكذلك أيضاً وهو حق بدليل الكتاب والسنة
فأما الكتاب فقصة الخضر عليه السلام مع موسى عليه السلام حين قال الخضر أنا على علم من علم الله تعالى عَلَّمَنِيه لا تعلمه أنت - وهو اللَّدُنْي على ما ذكره أهل العلم ـ وأنت على علم أنا علَّمَكَه الله لا أعلمه أنا وهو المشروع وكان في قصتهما ما قص الله سبحانه في كتابه إلى قوله ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ ۳ وقصة آدم عليه السلام حين علمه الله أسماء كل شيء بعد ما سأل جل جلاله الملائكة عن ذلك فقالوا سبحانك لا علم لنا فقال تعالى يَتَنَادَمُ أَنْبِتْهُم بِأَسْمَاءِهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَاهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُم تَكْتُمُونَ ٤ وتعليمه جل جلاله أسماء الأشياء كلها حتى اسم القصعة والقصيعة إنما كان بالعلم اللدني بلا واسطة بين ادم ومولاه ولهذا ظهر عجز الملائكة وأقروا به
وأما السنة فقوله الله إن من أمتي لَمُحَدَّثِينَ وإن عمرَ لَمِنْهُمْ ه وقصته الله مع أبي هريرة حين شكا له أنه يسمع الحديث وينساه فقال له عليه السلام ابسُط رداءَكَ فَبَسَطته قال فغرف بيده ثم قال ضُمَّه فضَمَمْتُه فما نسيت شيئاً بعده ٦ فكان أبو هريرة رضي الله عنه بعد ذلك
قال في المسجد فخرجوا سراعاً ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم ما لكم فقالوا يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئاً يقسم فقال لهم أبو هريرة وما رأيتم في المسجد أحداً قالوا بلى رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرأون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام فقال لهم أبو هريرة ويحكم فذاك
میراث محمد
۱ العَوْل في علم الفرائض زيادة الأَنْصِباء على الفريضة فتنقص قيمتها بقَدْرِ الحصص اللدني نسبة إلى الكلمة الواردة في قوله تعالى وعلمناه من لدنا علماً ۳ سورة الكهف من الآية ۸
٤ سورة البقرة الآية ٣٣
0 أخرجه الزبيدي في اتحاف السادة المُتَّقِين ۰۹/۷ بلفظ إن من أمتي لمحدثين ومكلّمين وإن عمر منهم ٦ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
33
۱۳۷
الصحابة حديثاً وقال رضي الله عنه حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما
فَبَتَتْتُه وأما الآخر فلو بَشَتْتُه قَطِع هذا البلعوم ۱
ـعني
أن جميع تلك الأحاديث التي رواها إنما هي من بركة بسطة الرداء والصحابة رضوان الله عليهم قد قالوا أكثرت يا أبا هريرة من الحديث فكأنه يقول إذا الشيء الواحد منهما قد أقلقكم وقلتم إني أكثرتُ من الحديث فلو سمعتم الآخر لقتلتموني لأنكم كنتم تنسبونني إلى أن
الله
ذلك كذب مني على النبي الا الله ولم يقل هذا أبو هريرة وهو يقصد به الصحابة لأنهم رضي عنهم يعرف كل واحد منهم فضل صاحبه ودينه وإنما قال ذلك من أجل الجهال الداخلين في الدين إذ كانوا يسمعون من الخلفاء وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم أكثر أبو هريرة من الحديث وينكرون عليه ذلك وما أنكر من الصحابة من أنكر ذلك على أبي هريرة أنه اتهمه وإنما رأوا أن شغله بالتعبد أولَى من استغراقه الزمان كله في رواية الحديث فإن كتاب الله قد كُتب وأثبت بالإجماع وفيه جميع الأحكام وإن الصحابة رضي الله عنهم قد نقل عنهم من الأحاديث ما فيه كفاية وزيادة فقد حصل من مجموع الثقلين وهما الكتاب والسنة - ما فيه كفاية لمن اشتغل بالدين وتوفية ما به آمر لأن الصحابة والصدر الأول رضوان الله عليهم إنما كانت هممهم في الأعمال لأنها ثمرة العلم وكان مذهب أبي هريرة أنّ بثَّ ما سمعه من رسول الله بعد أداء الفرائض أفضل القُرَب كما روي عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه قال لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أُنْفِذ كلمة سمعتها من رسول الله الا الله قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها فلم يرجع واحد منهم عما ظهر له والكل على الحق رضي الله عنهم جميعهم كما فعل بعض أصحاب مالك حمه الله وكان ذلك الصاحب ممن قد انقطع إلى العبادة فكتب إلى مالك يحضه على ترك العلم والانقطاع إلى العبادة فأرسل مالك إليه وهو يقول له يا أخي ما أنت عليه بأفضل مما أنا عليه والكل على خير إن صلحت النية فلم يرجع إليه فإذا رأى الجاهل أبا هريرة بعد ما سمع من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أنه أكثر من الحديث قد زاد في الحديث أضعافاً مضاعفة ينسبه إلى ما لا يليق به وقد يفضي الأمر إلى القتل فيكون قولهم ذلك مع الزيادة في الحديث قاطعاً للبلعوم كما ذكر رضي الله عنه لأنه من شارك في قتل نفس بأي وجه شارك - وإن قلّ - من قول أو فعل سمّي قاتلاً لغةً وشرعاً فلذلك كفّ رضي عنه عن الزيادة ٢
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
الله
قال ابن حجر في فتح الباري وبقية شراح الجامع إن المراد بالذي كتمه أبو هريرة إنما هو تولية بعض أمراء بني
أمية
۱۳۸
وفي
ذلك دليل للأخذ بسد الذريعة وفي فعل سيدنا ذلك مع أبي هريرة دليل لأهل الأحوال الصادقة المستقيمة على طريق الكتاب والسنة مع أولادهم في السلوك ينظرون إلى الذين فيهم الأهلية فيورثونهم من أحوالهم المباركة التي فتح عليهم فيها لأنه الأصل في كل خير من علم أو حال أو عمل فإنه بحر الأنوار والحكم والحُلى النفيسة وجامع للأعلى من العلوم والأحوال والشيم الرفيعة بدءاً وعَوْداً فكل من كان من أهل السعادة قد أخذ منه مشرباً
وفي قوله عليه السلام ظننت وجه ثالث وهو أن الظن إذا كان في طريق الخير جائز شرعاً ما صَحْ منه وما لم يصح - فإنه قد ظن أنه سيورثه ولم يقطع ذلك ففائدة إخباره عليه السلام لنا بذلك لنأخذ منه الدليل على جواز ذلك والفرق بينه وبين الظن السوء بأنه ممنوع شرعاً كما قال عزّ وجلَّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ إِنْةٌ
وفي ذلك دليل على الطمع في زيادة خير المولى سبحانه عند توالي نِعَمِهِ على عبده بلغ ذلك حده أو لم يبلغه لأنه أي توالي نعمه أكبر من كثرة ترداد جبريل عليه بالوصية في حق الجار إلى خير البشر صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على الندب إلى التحدث بما يقع في النفس من الخير قضي بذلك أم لا وقد قيل في فضل مولاك فاطمع إن كنت طامعاً فليس عار على عبد في فضل مولاه طمع وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الحجرات من الآية ۱
۱۳۹
-TEE-
حديث الترتيب بين الجيران بالمودة
عَن عائشة رضي الله عنها قالت قُلتُ يا رَسُولَ الله إِنَّ لي جارَينِ فَإِلَى أَيهما أهدي قالَ إلى أَقْرَبِهِما مِنكِ باباً
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن أقرب الجيران منك باباً أولى بالهدية من غيره والكلام عليه من
منها أن يقال هل هذا على طريق الاستحباب أو الوجوب فالجواب أما أن يكون ذلك على الوجوب فليس بظاهر لأن الهدية لم يقل أحد إنها واجبة فإذا كان الفعل في نفسه مندوباً فتقديم
الناس فيه بعضهم على بعض من باب المندوب أيضاً فإنه لا يكون الفرع أقوى من الأصل وفيه دليل على أن المستحب في الأعمال الأخذُ بما هو أعلى يؤخذ ذلك من إرشاده لما هو الأفضل في الترتيب بين الجيران والأعظم حرمة أليس أنها لو أهدت لغير الأقرب باباً لكانت مأجورةً في هديتها فلما كان الأقرب باباً أعظم حرمةً كان بالمعروف أولى وكان صاحبه أكثر أجراً وكذلك الشأن في غير ذلك من أفعال البرّ يؤيد ذلك ويقويه قوله عزّ وجلَّ في كتابه أُوْلَيْكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ۱
وفيه دليل على تقديم العلم قبل العمل يؤخذ ذلك من سؤالها رضي الله عنها قبل عملها وفيه دليل لأهل الطريق لأنهم يؤخّرون العمل لاشتغالهم بتصحيح النية يؤيد هذا لقوله الا الله
خيرُ العمل ما تقدَّمته النية أو كما قال عليه السلام
صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على أن الجوار الذي وكد في حقه على نحو الحديث قبل إنه ما يتعدَّى إلى أكثرَ
۱۳۳۰
1 سورة الإسراء من الآية ٥٧
حديث فضيحة الغادر يوم القيامة
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيُّ الله قال إنَّ الغادِرَ يُرفَعُ لَهُ لِواء يَومَ القيامَةِ صلى الله عليه وسلم
فيقال هذهِ غَدَرَةُ فُلان بن فلان
ظاهر الحديث يدل على فضيحة الغادر يوم القيامة يُنصَب له لواء غدرته وشهرته بها على جميع العالم هناك والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال هل الغدر على عمومه في الدق والجلّ أو في أشياء مخصوصة وهل له عذاب غير ذلك أم ليس وهل لكل غدرة تكون منه ينصب له بها لواء أو لواء واحد يكفي عن جميع غدراته وهل تعرف الحكمة في ذلك أم لا
وأما قولنا هل الغدر على عمومه أو هو في بعض الأشياء دون بعض أما ما عدا الأشياء المحرمات والمكروهات التي قد خرجت ببابها فهو عام في الدق من الأمور والجِلّ وهذا باب ضيق لم يسامح فيه أحد من العلماء في ذرة حتى إنهم قالوا في الأسير إذا كان في دار الحرب وقال له العلج الذي هو في يده عاهدني على ألا تهرب وأنا أسرحك من الحديد فإن عاهده وسرّحه من الحديد من أجل عهده فلا يحلّ له الهروب بخلاف ما لو حلفه فله إذا حلَّفه أن يهرب ويكفر عن يمينه
أما ترى إلى حال الغادر في كتاب الله عزّ وجلّ حيث قال وَمِنْهُم مَّنْ عَهَدَ اللهَ لَبِنْ مَاتَنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الصَّلِحِينَ فَلَمَّا ءَاتَنهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۱ فأورثهم غدرُهم لمولاهم أنحس الأحوال وهو النفاق
۱ سورة التوبة ٧٥ - ٧٧
١٣٤٠
وأما قولنا هل له عذاب على ذلك فالعذاب له بحسب ما غدر به وإنما تكون له هذه
العلامة التي يعرف بها يوم القيامة لأنه قد شاءت الحكمة الربانية أن جعلت لكل صاحب ذنب علامة يعرف بها ذنبه مثل شاهد الزور يبعث مولغاً لسانه بالنار وأكل الربا يتخبط مثل صاحب الجنون في الدنيا والذي يطلب وليس بذي حاجة ليس في وجهه مزعة لحم والنائحة لها سِرْبَالان أحدهما من جَرَب والثاني من قطران ومانع الزكاة إن كانت إبلا يبطح لها بقاع قرقر ۱ فجاءت أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مرّ آخرها ردت أولاها حتى يقضي الله تعالى بين عباده ثم يرى سبيله وإن كانت غنماً فمثل ذلك إلا أنه قال تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها وإن كان ماله ذهباً أو فضة مثل له بشجاع أقرع ۳ يعضه في شدقيه يقول أنا مالك أنا كنزك والمتكبرون يبعثون مثل الذر واكل أموال اليتامى ألسنة النار تخرج من منافس جسده و شارب الخمر الكوز معلق في عنقه والكذاب يشق شدقيه كما تقدم في الحديث والمغتابون للناس تقرض شفاههم بالمقاريض أو كما ورد في ذلك
فهذه كلها علامات على كل ذنب حتى يعرف به صاحبه وهي أشياء عديدة بحسب الجرائم وكفى في ذلك قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُم فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَمِي وَالْأَقْدَامِ ۳ أعاذنا الله من الذنوب والفضيحة بها ولو لم يكن فيها إلا هذا المقدار لكان كافياً في الردع والازدجار فكيف بالأمور الزائدة على ذلك الذي لا تحمله الجبال
وأما قولنا فيمن له غدرات هل تنصب له ألوية بعددها أو لواء واحد يكفي ظاهر الحديث يعطي أن لكل غدرة لواء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يقال هذه غدرة فلان بن فلان ٤ وجاء في حديث غيره بقدر غدرته
وأما قولنا هل تعرف الحكمة في كونه جعلت شهرته بنصب اللواء أم لا فنقول والله أعلم قد عرفنا من حكمة الشريعة أن العذاب على الشيء يكون بما يضاده وأن الشهرة هناك من جملة العقاب أيضاً فلما كان الغدر هنا أمراً باطنياً خفياً جعلت علامته هنا أشهر الأشياء لأن عادة العرب أن أشهر الأشياء عندهم إنما يكون برفع الألوية وقد جاء في حديث آخر أنه ينصب عند أسته أو كما ورد وهذه مبالغة في التوبيخ والخزي جزاءً وفاقاً
۱ القرقر من الأراضي المنخفضة اللينة
شجاع أقرع حية شديدة
۳ سورة الرحمن من الاية ٤١
٤ أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٣٤١
وفيه دليل على أن المعرفة في الآخرة مثل المعرفة هنا يؤخذ ذلك من قوله فلان بن فلان وكما أن المعرفة بالآباء هنا فكذلك هناك
تنبيه اعرض يا فلان بن فلان على نفسك حين وصف الا الله وأبواب الجنة وذكر أن لكل باب منها من أعمال الخير نوعاً يدخل أهله من ذلك الباب وأن أهل الصوم يدخلون من باب الريَّان فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما على من يُدعَى من تلك الأبواب كلها فقال أرجو أن تكون منهم ١ أو كما ورد
وكيف حال من اجتمعت عليه وفيه تلك العلامات القبيحة على ما فرط من الزكاة وغيرها من المتقدم ذكرها ورايات غدره تخفق عند أسته فاجعل نفسك بين هاتين الحالتين واختر إلى أيهما تفزع بالأعمال لا بالطمع والآمال والكَيْس من دانَ نفسَه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني
جعلنا الله من أهل الكيس وأعاننا عليه وأسعدنا به بمنّه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب - يعني الجنة - يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة أو قال هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني والحاكم عن شداد بن أوس رضي الله عنه
١٣٤٢
ITEA-
حديث كراهة الألفاظ الخبيثة من المؤمنين
عَن عائِشَةَ رَضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَت نَفسي
وَلَكِن لِيَقُل لَقِسَت نفسي
ظاهر الحديث النهي عن أن يصف أحد نفسه بالخبث ولكن إن ظهر له منها ما لا يعجبه يعبر عن ذلك بقوله القِسَت نفسي والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال هل النهي عنها على طريق الكراهة أو الحظر وهل الأمر بقوله القست نفسي على طريق الندب أو على طريق الوجوب وإن كان على طريق الندب هل يُعبَّر بغير هذه الصيغة أم لا وما الحكمة في منعه من قول الخبث وهل يكون المنع من هذه اللفظة لا غير أو
ما هو في معناها
أما قولنا هل النهي على طريق الحظر أو الكراهة احتمل والظاهر أنه على طريق الكراهة
بحسب ما أعلله بعدُ
وأما قولنا هل الأمر بقوله القست نفسي على طريق الندب أو الوجوب اللفظ محتمل والظاهر هنا الندب على ما يعلّل بعد
وأما قولنا إن كان على الندب هل يعبر بغير القست
لا الا و فالجواب إن الأولى في المندوب صيغة لفظه ل ا ل لما في ذلك من الخير وإن عبر بما في معناها فقد خرج عن المنهي عنه عنه ودخل في باب المندوب إلا أنه ترك الأولى من المندوب لترك
اللفظ المبارك
۱ لقست نفسه إلى الشيء نازعته إليه وحرصت عليه ولقست نفسه من الشيء غث الشيء غثت وفترت وكسلت تلاقس القوم تسابوا وتشاتموا المعجم الوسيط
١٣٤٣
وأما قولنا ما الحكمة في نهايه الا الله عن عن ذلك فإن قلنا تعبّد فلا بحث وإن قلنا لحكمة
فما هي فاعلم - وفقنا الله وإياك - أنه عليه السلام كان يعجبه الفأل الحسن ويكره السيّيء منه فکراهيته عليه السلام لذلك اللفظ الخبيث لوجهين والله أعلم أحدهما كراهيته من أن يكون فالاً فإنها لفظة ثقيلة كما نهى عليه السلام أن يسمي أحد ابنه أو عبده خيراً خيفة أن يقول طالبه هنا خير ولا يكون حاضراً فيجيبه ليس هنا خير
والوجه الثاني كراهية أن يشهد المرء على نفسه بالفسق لأن الفاسق والكافر والفاجر نفس كل واحد منهم خبيثة فلما كانت تلك اللفظة تحتمل جملة معان قبيحة منع عليه السلام المؤمنين أن يعبروا بها عما يجدون في أنفسهم بما لا يرضونه من عجزها أو ما يشبهه وأبدل لهم لفظة حسنة وهي قوله لَقِسَت لأن المعدة لا تلقس إلا حين تكون مملوءة طعاماً وكذلك نفس المؤمن قد امتلأت بالخير حتى أكثر مما تطيقه فظهر منها اللقس لكثرة امتلائها بالخيرات وهذا من نوع الفأل
الحسن
ويترتب على هذا من الفقه أن يطلب المرء أنواع الخير ولو بالفأل الحسن ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما وإن ضعفت طمعاً في فضل الكريم الجواد ويدفع عن نفسه السوء ويكرهه حتى التفاؤل به ولا يكون بينه وبين أهله صلة ويقطعها القطع الكلي حتى في المشتركة التي تقع معبرة عن حاله وحالهم يعدل عنها خيفة شؤمها أعاذنا الله من ذلك بمنه
الألفاظ
ومما يقوي ما أشرنا إليه ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتاه أعرابي فقال ما اسمك فقال جمرة فقال ابن مَن فقال ابن شهاب قال ممن قال من الحُرَّقة قال أين مسكنك قال بحَرَّة النار قال بأيها قال بذاتِ لظى قال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا ۱ فكان كما قال عمر رضي الله عنه رواه مالك في موطئه
وأما قولنا هل النهي عن هذه اللفظة لا غير أو عنها وعمّا في معناها فإذا قلنا بتعليل قوله
فينبغي المنع منها وما في معناها للعلة المذكورة لا سيما ما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنفاً وإن قلنا تعبد فلا يتعدى الحكم إلى غيرها وليس بظاهر ويجب على القول بالتعليل أن يمنع ما اتخذه اليوم بعض الناس أنه إذا كان به شيء يقول نفسي ليست بطيبة وأنا لست بطيب يُخرِج نفسه من الطيبين فإذا أخرجها من الطيبين ألحقها بالخبيثين وكذلك كل ما كان من هذا النوع المنع فيه هو الأولى
1 أخرجه الإمام مالك فيما يكره من الأسماء من الاستئذان في الموطأ ۳/
١٣٤٤
أشبهه
وفيه دليل على كثرة شفقته على أمته يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام عن هذا وما
وفيه تنبيه لأهل القلوب لأن من الألفاظ والحركات ما هي إشارة من الغيب لمن فهم ولولا ذلك ما كان ينهى هذا السيّد صلوات الله عليه وسلامه عن هذا وأشباهه ومما يروى عن بعض أهل القلوب أنه خرج متوجهاً في حاجة فقابله دكان صاحب الحاجة وهو قد نزل إلى حاجة له وجعل على دكانه عودَيْن على شبه لام ألف فلما رآها الفقير رجع فقيل له في ذلك فقال لهم أما ترون على دكانه العلامة على أنها ليست عنده فقالوا وما هي فقال لام ألف عبارة عن لا شيء هنا فلما كان بعد مجيئه سأله بعض أصحاب الفقير عما قال فقال صاحب الدكان صدق الفقير فإن الحاجة لم تكن عندي
ومن قول بعضهم ما يقوي هذا المعنى الاعتراض على الرموز جفا إن فهمت وإلا فلا
تعترض على ما ليس لك به علم ومما يؤيد ذلك قوله المؤمن ينظر بنور الله ۱ فمن نظر بالنور فهو موضع الإشارة ومن لم يكن له نور لم يلتفت إلى شيء وبقي مثل البهيمة فإما أن يجعل الكل رموزاً فيخرج بذلك إلى باب عظيم من الفساد وإما أن يسد هذا الباب مرة واحدة فتفوته هذه الرموز وتتغطى عنه فهذا الأمر في حقه أسلم له إذا سلّم الأمر إلى أهله
وهذا إنما هو لأهل الميراث والنور والتوفيق كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه فيما تقدم من الكتاب ومن رزقه الله من ذلك الميراث والنور والتوفيق نسبة ما ولذلك قال إنما أنا قاسم والله يعطي ٢ فوجوه الخير على يده عليه الصلاة والسلام تتابعت وقسم لمن قسم ما
قدر له
جعلنا الله ممن أجزل نصيبه من تلك الخيرات إنه ولي حميد وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما
قطعة من حديث أوله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي أخرجه البخاري ومسلم
من حديث معاوية رضي الله عنه
١٣٤٥
حديث تحريم سب الدهر
الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى يَسُبُّ ابنُ
عَن أبي هريرَةَ رَضي آدمَ الدَّهر وأنا الدَّهرُ بِيَدِي اللَّيلُ وَالنَّهارُ
ظاهر الحديث يدل على المنع من سب الدهر لأنه يعود إلى سب خالقه ومصوره وهو الله سبحانه وتعالى والكلام عليه من وجوه
منها أن هذا صيغته صيغة الخبر ومعناه الزجر والمنع لأنه ممنوع أن يسب عبد مولاه أو مخلوق خالقه أو عابد معبوده فلما كان هذا ممنوعاً عقلاً وشرعاً استغنى عليه السلام بالإخبار عن النهي والمنع وشبههما
ومنها هل سبّ الليل والنهار أعيانهما هو المنهي عنه أو سب ما يجري فيهما من الحوادث والنوازل كانت على أيدي البشر أو بغير وساطة البشر وهل هذا المنع يتعدى إلى غيرهما من المخلوقات أو لا وهل يمنع ما يشبه أو يقارب السبّ مثل الذم والشؤم وما في معناهما أو لا يمنع إلا السب لا غير وما الحكم فيمن فعل ذلك
وأما قولنا هل الممنوع سبّ أعيان الليل والنهار أو ما يجري فيهما من الحوادث فهذا لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ولا يكاد هذا يخفى على أحد حتى يأتي على ذلك هذا العتب وإنما الظاهر سبّ ما يجري فيهما من الحوادث وهذا هو الذي يقع فيه كثير من الناس وهو الذي يعطيه سياق الحديث لقوله بيدي الليل والنهار فنفى عنهما أن يكون لهما تأثير فيما يجري فيهما من الأمور والحوادث
والأمور والحوادث التي تجري فيهما على نوعين منها ما يجري بواسطة الحيوان العاقل المكلف فهذا يضاف شرعاً ولغة إلى الذي أجري على يديه وإن كان في التحقيق بقضاء الله تعالى وقدره لأن أفعال العباد كسب لهم قد ترتبت عليها الأحكام بالثواب والعقاب بمقتضى الحكمة
١٣٤٦
على قطع تلك المادة الفاسدة بالجملة الكافية فعل ذلك وصدق مع الله تعالى في توبته رجيت له العموم قوله صلى الله عليه وسلم التوبة تَجُبْ ما قبلها ۱ وإن كان لا يمكنه تلافي ذلك خيف عليه من عدم القبول لنقص شروط التوبة فإن من شروطها ردّ المظالم لأن أولئك المساكين الذين بلغت لهم تلك الأحكام الفاسدة وعملوا عليها فقد ظلمهم ظلماً كثيراً
وقد جاء أن مولانا سبحانه يقول يوم القيامة لصاحب البدعة هب أغفر لك فيما بيني وبينك فالذين أضللت كيف أفعل بهم أو كما ورد معناه أي لا أترك لك حقوقهم واخذك بها فإذا كان هذا لصاحب البدعة فكيف بمن كذب عليه لا اله الله وغير بذلك أحكام شريعته من باب أحرى وأولى ومن هذا الباب وصية بعض أهل التحقيق اتَّضِع لا ترتفع اتَّبِع لا تبتدع من تورع لم يتسع ومما يشبه وصية الآخر بقوله عليك بالسنة والسنن تفز بالأجر وغنيمة الدارين مَنَّ الله علينا بذلك بمنه امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 الحديث الإسلام يجب ما قبله ولم نعثر على ما جاء به المؤلف رحمه الله
١٣٥٦
٢٥٢ ـ
حديث النَّفي التسمي بملك الملوك
عَن أبي هريرَةَ رَضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله أَخنَعُ الأسماء عِندَ الله يَومَ القيامَةِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأملاكِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على أن أخس الأسماء وأرذلها عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك والكلام عليه من وجوه
منها هل هذا التحقير للاسم منه يلحق للذي 1 تسمّى به شيء خلاف هذا أم لا ومنها هل هذا لعلة أو لغير علة فإن كان لعلة فهل نَطْرُدُ الحكم حيث وجدنا العلة أو لا وما الحكمة في قوله يوم القيامة
فأما قولنا هل يلحق للمسمَّى بهذا الاسم زيادة على تحقير الاسم أو لا فنقول إنما جعل ترفيع الأسماء يوم القيامة للدلالة على ترفيع أهلها وما لهم في ذلك اليوم من الخير والسرور وكذلك ضده دال على ضده لأن ذلك يوم حق ليس فيه مجاز ولا تلبيس
وأما قولنا هل ذلك لعلّة أو لا فإن قلنا تعبُّد فلا بحث وإن قلنا لعلة فما هي فنقول والله أعلم لتشبهه باسم من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى لأن هذا الاسم لا يكون حقيقة إلا الله سبحانه وتعالى فإن كانت العلة ما ذكرنا فيجوز تعدي الحكم مثل أن يتسمّى بـ سلطان السلاطين وكذلك قاضي القضاة وإن كانت العلة بهذا الاسم - أعني قاضي القضاة ۳ - قد
تقدمت بسنين لا سيما في جهة المشرق
1 كذا بزيادة اللام مع المفعول للتقوية سورة الشورى من الآية ۱۱
۳ قاضي
القضاة هو
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري صاحب أبي حنيفة وهو أول من دعي قاضي القضاة وكان يقال له احترازا من الإنكار قاضي قضاة الدنيا توفي سنة ۱۸هـ
١٣٥٧
وقد ذكر عن الثوري ١ من أهل التحقيق أنه جاء يزوره من كان يتسمى بهذا الاسم في زمانه
سمع
فلما دخل عليه قال له بعض من جاء معه هذا قاضي القضاة وكان معهم قاعداً منبسطاً فلما کلامه قام دهشاً مسرعاً وهو يقول هذا قاضي القضاة فهذا يوم الفصل والقضاء فأين الميزان فأين الصراط وجعل يعدد من أحوال يوم القيامة ما شاء الله تعالى فحصل من كلامه في النفوس
حال عجيب
وقد حدثني بعض من لقيته من السادة أن دولة الموحدين - وكانت دار مملكتهم في غرب العدوة مراكش - أن القاضي الذي كان يتولى بها كان يدعى بقاضي الجماعة لأن الفقهاء إذ ذاك كانوا هناك متوافرين وكان الغالب عليهم الدين فلم يأخذوا من الأسماء وجميع الأشياء إلا الذي ليس فيه شيء من المكروه ولا يحتاجون فيه إلى شيء من التأويل وهذه طريقة السلف رضي الله عنهم ولم يسمع هذا الاسم في السلف الصالح أيضاً فنعوذ بالله من قلة الاهتمام بأمور الدين
والتهاون به
وأما قولنا ما الحكمة في قوله يوم القيامة فلأنه يوم تظهر فيه الأمور على ما هي عليه حقيقة ليس فيها زغل ولا عناد ولا تجاوز إلا حقائق ظاهرة وهذه الدار فيها التلويثات والاختلاطات وقد يكون ظاهر الأمر يوافق باطنه أو الضد وفي تلك الأعمال على إبراز الضمائر وتحقيق الحقائق هُنَالِكَ تَبلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ٢
وفيه تنبيه على أن الأدب في الدين مطلوب جداً يؤخذ ذلك من كونه لما تسمّى هذا المسكين بهذا الاسم وهو محتمل إن أراد ملك ملوك الأرض وكان ذلك ملكاً له واحتمل أن تسمّى به اختياراً مثلما تسمى بعض نساء العرب وغيرهن في الوقت وقبل هذا الوقت بِسِتّ العرب والناس أجمعين يعلمون أن ذلك ليس بحقيقة وكما يسمّى بعض الناس بسيد الناس وهذا مقطوع أيضاً أنه ليس كذلك وهذا الاسم أيضاً يدخله المنع بالتعليل المتقدم وما هو في معناه لأن العلة فيه موجودة لكن غفلات توالت وعوائد سوء اتخذت مضى الأمر عليها على من قدّر عليه بما قدر واحتمل أن يكون تسمّى بذلك تمرُّداً وتجبراً
۱ الثوري سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري من بني ثور بن عبد مناة من مضر أبو عبد الله أمير المؤمنين في الحديث كان سيد زمانه في علوم الدين والتقوى ولد ونشأ في الكوفة وراوده المنصور على أن يلي الحكم فأبى وخرج من الكوفة فسكن مكة والمدينة ثم طلبه المهدي فتوارى وانتقل إلى البصرة ومات مستخفياً له من الكتب الجامع الكبير والجامع الصغير وكلاهما في الحديث وكتاب في الفرائض توفي سنة ١٦١ هـ الأعلام ١٥٨/٣
سورة يونس من الاية ۳۰
١٣٥٨
لكن ليس في الحديث ما يدل على واحد من هذه خصوصاً فالكل محتمل والمحتمل ينبغي
أن تبقى كل محتملاته لا سيما في مواضع الخوف لكن صيغة اللفظ في الحديث العموم لأنه قال تسمّى فيكون معناه تسمّى بهذا الاسم على أي وجه وقع هذا الاسم فصاحبه بتلك الحالة الذميمة والخزي العظيم فبهذا يزداد الحض على طلب الأدب في الدين
وفيه إرشاد إلى علم السنة وإيثاره على غيره لأن هذا وأمثاله وهي مواضع عديدة وقد نبهنا عليها في مواضع من الكتاب لا تعلم إلا من طريق علم السنة والاهتمام به وقد غفل عن ذلك كثير من الناس وأوقعهم ذلك في المهالك وهم لا يعلمون وتكون حالهم كما أخبر تعالى في كتابه وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعًا ١ فمنهم من جهله جملة واحدة ومنهم من اشتغل به وكان علمه
كأن لا علم لأثَرَةِ غيره عليه ويجعل ذلك نبلاً وكَيْساً وهو غَيٌّ وحرمان أعاذنا الله من ذلك بمنّه ولذلك كانت وصية من لقيته من أهل التوفيق بالعلم والسنة أن يقول الرجل لا يكون الرجل رجلاً حتى يكون محاسباً مراقباً فكنت أقول له ما معنى قولكم محاسباً مراقباً فكان جوابه على ذلك أن يقول محاسباً يحاسب نفسه في هذه الدار لقوله صلى الله عليه وسلم حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ٢ فإن رأى على نفسه دركاً أخذ في خلاصها ومراقباً يجعل قلبه أمام رأيه فإن خطر له قول أو فعل نظره بلسان العلم فإن كان جائزاً فعل أو قال وإن كان ممنوعاً أو مكروهاً أمسك لأن ترك الذنب أولى من طلب المغفرة وإلا كان كتاجر ينفق ولا يعلم فيصبح وقد أفلس وإن لم يعرف ذلك الذي خطر له من أي الوجوه هو توقف حتى يسأل أهل العلم الذين هم على السنة واتباع السنن فإن المؤمن وقاف
جعلنا الله من المؤمنين حقاً الملطوف بهم بمنه لا ربَّ سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الكهف من الآية ١٠٤
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية أخرجه ابن المبارك وابن منصور وابن أبي شيبة و الإمام أحمد في الزهد وابن أبي
الدنيا عن عمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً
١٣٥٩
- ١ ٢٥٣
حديث من السنة تشميت العاطس بعد حمد
عَن أَنَسِ بنِ مالك رضيَ الله عَنهُ يَقولُ عَطَسَ رَجُلانِ عِندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فشَمَّتَ أحَدَهُما وَلَم يُشَمِّتِ الآخرَ فَقالَ الرَّجُلُ يا رَسُولَ الله شَمَّتَ هَذا وَلَم تُشمِّتني قالَ إِنَّ هَذا حَمِدَ الله وَأَنتَ لَم تَحمَدهُ
ظاهر الحديث يدل على أن السنة أنه لا يُسمَّت العاطس حتى يحمد الله تعالى ومن عطس ولم يحمد الله تعالى فلا يشمت والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل التشميت للعاطس واجب أو مندوب ومنها كيف صفة التشميت وما معناه ومنها هل هذا مطلقاً في كل مرة وإن تكرر هذا من العاطس مراراً أو له حدّ محدود ومنها هل هذا لكل عاطس كان مؤمناً أو كافراً أو هذا خاص بالمؤمنين
أما قولنا هل هو على الوجوب أو الندب فقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال فمنهم من يقول إنه فرض على كل من سمعه وهم أهل الظاهر ومن علمائنا من وافقهم على ذلك ومنهم من قال هو ندب وإرشاد ومنهم من قال هو واجب على الكفاية كرد السلام وهم جمهور أهل السنة
وأما قولنا كيف صفة التشميت فقد جاءت صفته نقلا عن النبي لأنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وإذا قال الحمد لله فلْيُقَل له يرحمك الله ويردّ عليه يغفر الله لنا ولكم أو كما قال عليه الصلاة والسلام وفي رواية يردّ عليه بقوله يهديكم الله ويصلح بالكم ۱ ومنهم من قال هو بالخيار لأن اللفظين قد رُويا عن النبي
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٣٦٠
فبأيهما ردّ فقد وافق السنة ومنهم من استحب أن يجمع بينهما حتى يكون أجمع للخير وخروجاً عن الخلاف وهو الأحسن والله أعلم وقد جاء بدلَ التشميت بالسِّين المهملة ١ وأما قولنا ما معنى التشميت فهو بمعنى أبعد الله عنك الشماتة وجنّبك ما يشمت به
عليك وأما معنى التسميت فهو بمعنى جعلك الله على سَمتِ حَسَن هذا قول أئمتنا وأما قولنا هل هذا مطلقاً في كل مرة وإن تكرر العطاس من العاطس في الوقت مراراً فالذي عليه الجمهور أن الحد فيه إلى الثالثة أو الرابعة لأنه جاء عنه أنه قال إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فشمتوه ثم إذا عطس فقولوا له عافاك الله فإنه مضنوك ٢ أو كما قال عليه السلام قال راوي الحديث لا أدري هل بعد الثالثة أو بعد الرابعة قال فإنه مضنوك فمن أجل الشك الذي روي عن راوي الحديث وقع الخلاف
وأما قولنا هل هذا أمر عام كان العاطس مؤمناً أو كافراً أو هو للمؤمن لا غير لا أعرف خلافاً أن التشميت عام للمؤمن والكافر غير أن في الكيفية في ذلك وقعت التفرقة بين المؤمن والكافر لأن الكيفية في تشميت المؤمن كما تقدم الكلام عليها وأما الكافر فيقال له يهديكم الله ويُصلِحُ بالكم وهذه الصفة التي رويت عن النبي الا الله في تسميته أهل الكتاب لأن اليهود كانوا يستعملون العطاس بين يديه الا الله ما جاء في دعائه وتشميته بـ يهديكم الله ويُصلح بالكم
الخلاف
وبقي بين العلماء إذا عطس العاطس فحمد الله فسمعه بعض الحاضرين ولم يسمعه الغير هل۳ يجب على من لم يسمعه حين حمد الله وقد سمع الذي شمَّتَه هل يشمته هو
تابعاً لذلك أم لا قولان
وفيه دليل على جواز طلب المفضول من الفاضل علة الحكم وبيانها يؤخذ ذلك من قوله يا
رسول الله شمَّنَّ هذا ولم تشمتني وفيه بحث وهو ما الحكمة بأن جعل في العطاس هذه الأحكام المذكورة فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فما هي فاعلم أنه لم يختلف أحد ممن له معرفة بطب الأبدان وأدوائها أن العطاس فيه منفعة للعاطس وأنه إذهاب داء قد يكون في رأسه فعلى هذا فهو من جملة النعم وقد تقرر في قواعد الشرع أنه مما استعبدنا به الشكرُ على النعم وأعلى الشكر هو
۱ يعني - التسميت بدل التشميت رواه أبو داود وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه وسنده حسن بلفظ إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمت بعد ثلاث
۳ كذا بحذف الفاء الرابطة للجواب
١٣٦١
الحمد فأمرنا بذلك فأنتجت بالوعد الجميل مزيد النعماء وهو الدعاء بالخير إثر الحمد لأن الله عزّ وجلَّ يقول في كتابه لَن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فتأكدت النعمة بمزيد الدعاء له من السامعين لعطسه ثم تأكدت الرحمة بالدعاء من العاطس لأخيه الذي شمته ولنفسه إن شاء
الله
وفيه تنبيه يدل على لطف المولى سبحانه بعبيده وهو أن جَعَل المزيد هنا بعد الحمد واجباً مشروعاً ولم يترك ذلك لاختيار أحد من عباده ولا غائباً عنا حتى لا نعلم هل قبل منا فزيد لنا ولا ما هي الزيادة أيضاً حتى يحصل العلم بها ولا ما هو قدر الزيادة ولا ما هو جنسها فشرعت لنا تلك الألفات الدالة على الخير العميم لمن فهم معانيها وتدبَّرها لأنه إذا قلنا إن التشميت واجب كما تقدم - وهو الذي عليه الجمهور - فإذا فعل المكلف الواجب الذي عليه بشروطه رجي له القبول فهذا قد دعا للعاطس بالخير امتثالاً لما به أمر فهذا دعاء مرجوّ قبوله
فلما كان الأمر على هذا الخير العظيم أمر العاطس أن يدعو للذي أُجري له على يديه مزيد لدعائه له بالخير وأن يدعو هو أيضاً له بالخير حتى تكون رحمته عزَّ وجلَّ عامة بعباده إذ ذاك وكان الرجاء في قبول الدعاء الثاني مثل الأول سواء
ويترتب على هذا من الإرشاد أنه إذا استشعر أحد من العبيد موطناً يكون فيه خير أو رجاء من وجه من وجوه الخير أن يكثر فيه بالدعاء لنفسه ولوالديه وأقاربه وأصحابه وإخوانه المؤمنين فإن الله نفحات إذا وجدت سَعِد بها عالم كبير جعلنا الله ممن تعرض لها وأصابها وممن أجزل له نصيبه منها بتعرض وبغيره فإنه ولي حميد
وفيه دليل على عظيم النعمة على العاطس يؤخذ ذلك مما ترتب عليه من هذه الأحكام والخير فصارت عَلَماً على ذلك
وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله تعالى ورحمته لأنه عزَّ وجلَّ رحم عبده بأن أذهب عنه ذلك الضرر الذي كان به بنعمة العطاس ثم ثناها بمشروعية الحمد له ثم أتبعها بدعاء خير بعد دعاء خير وهذا كله في لمحة واحدة نِعَم متواليات في أيسر زمان بلا موجب عليه إلا بمجرد الفضل بدءاً منه وبرحمته سبحانه وكذلك الخير المذكور تمامه منه قبوله
تنبيه في أحكام الحديث وفيما أشرنا إليه من التنبيهات وغير ذلك إذا نظرتها بقلب له بصيرة حصل لك به من قوة الإيمان ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة ودخل داخل قلبك ولحمك ودمك من
١٣٦٢
۱ سورة إبراهيم من الآية ٧
وكذلك كل من يكون فيه إذاية 1 للجلاس فإنه يخرج لقوله لا لا لا لا لا لا ضرر ولا ضرار
ويشترط أن يكون ذلك الضرر مما يراه الشارع صلوات الله عليه ضرراً لا بحظ نفساني ولا بحظ دنيوي وكذلك يقام السفهاء من مجالس الحكام والعلم وأعني بالسفهاء الذين يسفهون بالألسنة حتى يخرجوا لما ينافي مجلس العلم والحكم وما يشبه هذا
وأما قولنا هل هو تعبد أو لحكمة فإن كان تعبدا فلا تعليل ولا توجيه وإن كان لحكمة - وهو الظاهر - فما هي فنقول والله الموفق للصواب إن الحكمة فيه ظاهرة من وجهين أحدهما منع تكبر بعضنا على بعض لأن إزالة هذا من مجلسه وإجلاس غيره فيه استنقاص بالقائم واستصغار له وترفيع للجالس في مجلسه وتكبر منه وقد قال إنه أوحي إلي أن لا يفخرُ بعضُكم على بعض ولا يتكبر بعضُكم على بعض أو كما قال عليه السلام وهو أيضاً مما يوجب الضغائن في الصدور والأحقاد وقد نهينا عن ذلك وما هو السبب إلى شيء فهو مثله والوجه الآخر أن المباح كله الناس كلهم فيه على حد سواء الرفيع والوضيع فمن سَبَق إلى شيء منه فقد استحقه ومن استحق شيئاً من الأشياء بوجه شرعي فإذا أُخِذ منه بغير وجه شرعي فقد غُصبه والغصب حرام بدليل الإجماع فلما جلس هذا مجلسه من تلك المجالس المتقدم ذكرها فقد استوجبه بوجه شرعي فلا يُقام منه لأنه هو المستحق له
وأما قولنا هل النهي على التحريم أو على الكراهية فعلى التوجيه الأول يكون على الكراهية وعلى التوجيه الآخر يكون على التحريم - وهو الظاهر - لأنه يمكن الجمع بين التعليلين فإذا كان الجمع بين التعليلين ممكناً اندرجت الصغرى التي هي النهي في الكبرى التي هي
التحريم
وبقي هنا بحث وهو أنه إن فعل الجالس ذلك من تلقاء نفسه هل يدخله شيء من النهي أو ليس أما إن كان سالماً من الشوائب فالظاهر أنه ليس فيه كراهية وإن دخله شيء من الشوائب مثل أن يفعله لخوف أو بإشارة تهديد أو ما في معنى ذلك فيكون مثل أصحاب السبت لَمّا نُهوا عن الصيد فيه عملوا الحيلة للصيد في يوم السبت وصادوا يوم الأحد فكان من أمرهم ما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم في كتابه فكان حقيقة صيدهم يوم السبت لأن بتلك الحيلة أمكنهم أخذ الصيد يوم الأحد وما لا يوصل إلى شيء إلا به فهو منه وإن اختلف نوعهما
وقد ذكر لي عن بعض أهل الفضل بجزيرة الأندلس وكان ممن فتح عليه في دنياه أنه دعي
1 يريد أذية
أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
۱۳۷
إلى عقد نكاح فلما دخل المنزل لم يجد فيه أين يقعد فبقي واقفاً خجلانا ولحقه الدَّهَش لأن المجلس كان حَفِلاً وكان ممن كان قاعداً في المجلس شخص كان للداخل عليه دين مائة دينار فقام الذي كان عليه الدين من مجلسه وأجلس فيه ذلك السيد فلما انفض المجلس وجه ذلك السيد الذي كان دخل اخر الناس ولحقه الدَهَش لذلك الشخص الذي كان قام له من مجلسه وأجلسه فيه وأحَلَّه الذي كان له عليه من المائة دينار وأشهد على نفسه بتبرئته منها مكافأة له على زوال خجلته في ذلك المجلس
تنبيه في الحكاية إشارة إلى أن من تأخر عما دعي إليه يلحقه الخجل فاحذر مما يخجلك يوم الوفد ولا محيص
وقوله ولكن تفسحوا وتوسعوا هل هما لفظان مترادفان لمعنى واحد أو لكل لفظ معنى احتمل الوجهين معاً لكن الأولى أن يحمل كل واحد منهما على معنى فإن ذلك أكبر فائدة فيكون معنى تفسحوا أي يوسعوا فيما بينهم للداخل أن يقعد ويكون معنى توسعوا أي توسعوا عنه بأن ينضم بعضكم إلى بعض حتى يبقى له في المجلس أين يقعد۳ فإن السنة أن الداخل يجلس حيث انتهى به المجلس فلما لم يبق لهذا الداخل من المجلس أين يجلس ۳ أمرنا
بأن ينضم بعضنا إلى بعض فيتوسع بذلك المجلس فيبقى في اخره لهذا الداخل أين يجلس ۳ فيكون قد خيّر أهل المجلس أن يفعلوا مع الداخل أحد هذين الوجهين أيهما فعلوا فقد أصابوا السنة لكن بشرط أن يكون المجلس يحمل هذا بلا ضرر على الجلاس لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار مثال ذلك أن يدخل شخص والمجلس قد غص بأهله فيفسحوا له ويوسعوا ثم ثان كذلك ثم ثالث كذلك ثم رابع فإذا لم يطيقوا لكثرتهم وضاق المجلس أن يفسحوا أو يوسعوا ويكون عليهم ضرر في ذلك فلا يلزمهم من ذلك شيء لكن من حسن المعاملة أن يعتذر له حتى ينصرف وهو طيب النفس لقوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّكُمُ وَليُّ حَمِيمٌ 1
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
02
١ كذا بالتنوين وهو لغة لبعض العرب
كذا بضمير الغائب خلافاً لبعض الحديث ولما يلي
۳ أي مكان يقعد فيه ٤ سورة فصلت من الآية ٣٤
۱۳۷۳
٢٥٧-
حديث بيان كفارة من حلف بغير الله تعالـ
وكفارة من طلب المقامرة
عَن أبي هريرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن حَلفَ مِنكُم فَقالَ في حَلِفِهِ باللاتِ والعُزَّى فَلْيقُل لا إله إلا الله وَمَن قَالَ لِصاحِبِهِ تَعَالَ أُقامِرْكَ فَلْيَتَصَّدق
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أمره و أن من قال في حلفه باللات والعزى أن تكفير ذلك أن يقول لا إله إلا الله والثاني أن من قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق فذلك كفارته والكلام عليه من وجوه
منها هل أمره عليه السلام لمن حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله هل هذا خاص بهذه اللفظة أو عام في كل من حَلَف بصنم من الأصنام أو شيء من الطواغيت وما في معناها وكذلك لمن قال لصاحبه تعال أقامرك هل الأمر بالصدقة لقائل هذا اللفظ ليس إلا أو هذا هو الحكم في كل ما هو في معنى هذا وطريقه وهل هذا تعبد أو لحكمة في ذلك معقولة المعنى وهل الأمر بهذين الأمرين عام فيمن قالها معتقداً أو غضبانا ١ أو خطأ على حد سواء أو
بينهما فرق
أما قولنا هل هذا خاص بمن ذكر في يمينه اللات والعزى أو هو عام في كل من حلف بشيء من الطواغيت أو ما هو في معناها ظاهر اللفظ يقتضي أنه خاص به وما يفهم من معناه وما به جاء عنه عليه السلام في غير هذا الحديث يقتضي تعدي الحكم إلى أنه من كان حلفه بشيء من الطواغيت أو الأصنام التي تُعبد من دون الله أو ما في معنى ذلك أن يقول صاحب هذا القول لا إله
١٣٧٤
۱ كذا بالتنوين وهي لغة لبعض العرب
إلا الله فإن ذلك كفارة لما قال لأنه من جهة المعنى قد تلفّظ بما يشبه الررة فإن الحالف بشيء هو معظم له
فهذا قد عظم شيئاً سوى الله على نحو ما يفعله الكفار بالله تعالى فينبغي له أن يُظهر إبطال ما قاله ويحتقر ما عظم بأن يعلن بقول لا إله إلا الله فكأن إعلانه بها رجوع إلى الإسلام وتوبة من ذلك الخلل الذي ظهر منه وما في معناه كذلك ينبغي الحكم فيه وقد جاء ذلك نصاً عنه وهو قوله من قال هو يهودي أو نصراني فليقل لا إله إلا الله أو كما قال عليه السلام وكذلك يلزم في كل من قال عن نفسه إنه على غير دين الإسلام الحكم كالحكم سواء مثل أن يقول هو مجوسي أو غير ذلك مما يشبهه لأنها ردة في الظاهر فينبغي الرجوع عنها بإظهار كلمة
الإخلاص
وكذلك البحث على قولنا هل أمره بالصدقة خاص بمن قال لصاحبه تعال أقامرك فأما ظاهر اللفظ فيقتضي أن هذا حكم هذا القائل وإن نظرنا إلى المعنى عدينا الحكم حيث وجدنا العلة لأن قول الشخص لصاحبه تعال أقامرك أي نأكل أموالنا بيننا بالباطل على وجه حرام فحيثما وجدنا هذه العلة عدينا الحكم على المعروف من عادة الفقهاء في ذلك
وبقي بحث وهو هل هذا الأمر بالصدقة هنا على طريق الندب أو على طريق الوجوب أما على مذهب مالك ومن تبعه فإن الصدقة هنا على طريق الندب لأن قاعدة مذهبه أن كل أمرٍ أُمر به لم يكن محدوداً بالكتاب والسنة فإنه من باب الندب مثل الأمر بالمتعة لما أمر بها مولانا سبحانه في كتابه ولم يحدّها ولا وُجِد في سنة نبيه الله لها حد حملها مالك ومَن تَبِعه على الندب وكذلك كل ما أمر به ولم يُحَدَّ فيه شيء مثل هذه الصدقة وما في معناها ومذهب الشافعي ومن تبعه في ذلك حمله على الوجوب على قاعدة مذهبهم وكذلك قالوا في المتعة إنها على الوجوب ويجزىء فيها أقل الأشياء لأن ذلك قاعدة مذهبهم
وأما قولنا هل الأمر عام فيمن قالها متعمداً أو حَرجاً أو غالطاً فاللفظ يقتضي العموم لكنّ بينهم فرقاً أما من قالها متعمداً معتقداً لذلك فيجب عليه أن يدخل في الإسلام لخروجه منه بما جرى ويجدد التوبة من ذلك على ما قد بينا من حدود التوبة قبل في غير ما حديث فإن كان غضباناً أو غالطاً فينبغي له قول ما أمر به أو فعله هذا هو الظاهر ولا ينبغي تخصيص لفظ الحديث بغير
مخصص
وفيه دليل على الأخذ بسد الذريعة في غلق باب الشيء بالجملة الكافية حتى لا يقع من المؤمن شيء ينافي الإيمان والإسلام لا بقول ولا بفعل ولا يسامح في ذلك بشيء ومما يؤيد
۱۳۷۰
هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا تتشبهوا بأهل الكتاب ۱ وقوله عليه السلام ثلاثة يبغضهم الله وعدَّ فيهم من استن في الإسلام بسنة الجاهلية ۳ أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشرِّ لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفا ٣ والأثر في ذلك كثير ومجموع ذلك يدل على حفظ المؤمن نفسه مما يخالف دينه وقع ذلك منه جداً أو هزلاً
وفي هذا دليل لأهل السلوك لأنهم منعوا أنفسهم من الأخذ في المباح وجعلوا ذلك حماية بينهم وبين المكروه فَدَتْهُم النفوسُ ما أعْرَفَهُمْ بها وأكْثَرَ اهْتِمَامَهُمْ بالدين وطرق النجاة وقد قيل نفسَك فَرُضُها وعلى الخير فاحْمِلْها ولا تغفل عن سياستها فالغَدْر من شأنها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ أخرجه الترمذي وضعفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف ٢ أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركها الناس أبداً الطعن في النسب والنياحة على الميت والاستمطار بالنجوم ۳ أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار
١٣٧٦
-٢٥٨ -
حديث سيد الاستغفار
شَدَّادِ بنِ أَوس۱ رَضِيَ الله عَنهُ الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ سَيِّدُ الاستغفارِ أن تقول اللَّهُمَّ أَنتَ رَبِّي لا إله إلا أنت خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ وأنا عَلى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما استطعتُ أعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ أبوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ وَأبوءُ بِذَنبي فاغفِر لي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ
ظاهر الحديث إخباره الله و أن هذه الألفاظ المذكورة في هذا الحديث هي أعلى أنواع طرق الاستغفار وأقربها إلى الله عزّ وجلّ والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال هل جعله وهذه الألفاظ سيّدة الاستغفار تعبد لا يُعقل له معنى أو هل تفهم الحكمة في ذلك وهل إن سُبكَ معناه في ألفاظ أُخَرَ بزيادة أو نقص والمعنى باق على حاله هل تبقى له تلك الرفعة والمنزلة أم لا وهل المستغفر بهذه الألفاظ يكون استغفاره أرفع ممن استغفر بألفاظ غير هذه وكانت نيته أرفع من نية صاحب هذه الألفاظ أم لا وكذلك في الأوقات أيضاً هل فضيلة الأوقات في الاستغفار تفضل هذه أو هذه تفضلها
أما قولنا هل هذا تعبّد أو لحكمة تفهم منه فالجواب أنه لحكمة ألا ترى حُسْنَ ألفاظه وما جمعت من بديع معاني الإيمان فإنه جمع فيه بين الإقرار الله بالألوهية وحده والاعتراف له عزّ وجلّ بأنه خالقه واعترف على نفسه بالعبودية لله عزّ وجلّ واعترف بالعهد الذي أُخِذ عليه والرجاء فيما وعده مولاه والإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة بقوله وأنا على عهدك
۱ شداد بن أوس بن ثابت الخزرجي الأنصاري أبو يعلى صحابي من الأمراء ولأه عمر إمارة حمص ولما قتل عثمان اعتزل وعكف على العبادة كان فصيحاً حليماً حكيماً قال أبو الدرداء لكل أمة فقيه وفقيه هذه الأمة شداد بن أوس توفي في القدس سنة ٥٨هـ / ٦٧٧م وله في كتب الحديث ۵۰ حديثاً الأعلام ۳ ۳
٢ كذا بإدخال هل على إن والصواب أو إن
۱۳۷۷
ووعدك ما استطعت فإن الحكمة - وهي الشريعة وما كلفتنا من التكاليف - إنما تحصل إذا كان في
ذلك للعبد العون بقدرة من القادر الذي تعبدنا وهي التي يكنى عنها بالحقيقة
فإذا أراد القادر الحكيم ضد ذلك - وهي ما قدر على العبد من القدر الحتم - لم ينفعه في ذلك أثر الحكمة وغلبت الحقيقة على العبد في نفسه حتى يجري عليه ما قدر عليه وقامت الحجة عليه بمقتضى الحكمة والعدل - التي هي الشريعة - ولم يبق له شيء يدفع به عن نفسه إلا إما عقاب بمقتضى العدل وظهور الحجة وإما عفو بمجرد الفضل من الله والرحمة وهذه أرفع الطرق كما تقدم الكلام على ذلك في غير ما موضع من الكتاب وتبيين ذلك بالكتاب والسنة
ثم استعادته لمولاه الجليل من شرّ ما جنى على نفسه وإضافة ذنبه إلى نفسه ورغبته في مغفرة ذنبه والإقرار أنه ليس يقدر أحد على مغفرة الذنوب إلا الله سبحانه فيحق أن يطلق عليه سيد الاستغفار لأن صيغة الاستغفار المعلوم لغة وعادة هو أستغفر الله فانظر بكم وجه يفضل
هذا الاستغفار المشار إليه هذه الصيغة المعروفة لغة وعادةً تبين لك حقيقة الحكمة في ذلك عياناً وأما قولنا إذا سُبِك ذلك المعنى بألفاظ غير هذه ولا ينقص من المعنى شيء هل تبقى حقيقة هذا الاسم أم لا فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن المعاني التي أخذت من ألفاظ الشارع لعل الله أنها إذا أزيلت تلك الألفاظ المباركة عن تلك المعاني أن ذلك الخير لا يوجد له مثل لأن الله عزّ وجلّ قد جعل الخير فيه وعلى يديه الكريمتين وفي لفظه وإشارته وكل ما يكون عنه أو به لا يخلفه في ذلك غيره
أما ترى إلى اختلاف العلماء في نقل كلامه عليه السلام هل ينقل بالمعنى بشرط ألا يخل فيه بشيء أو لا ينقل إلا بالفاء والواو كما ينقل القرآن وعلى هذا هم جمهور العلماء لأنه كله عن الله وما بينهما إلا أن الكتاب بالوحي بواسطة المَلَك وهذا عن الله بطريق الإلهام والإرشاد قال عزّ وجلّ في حقه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ۱ فكيف فيما جعلت فيه فضيلة فإنما حصلت تلك الفضيلة المجموع الأمرين وهما حسن المعنى وبركة لفظه عليه السلام فإنه كذلك شأنها الحكمة والقدرة الربانية لا تبديل لحكم الله وهذا جار في هذا الحديث وفي كل ما جاء عنه عليه السلام بلفظ مخصوص فلا يبدل ذلك اللفظ بغيره أصلاً
وأما قولنا هل يكون المستغفر بهذا الاستغفار ونيته ليست بتلك الجودة سيداً على من استغفر بغير هذا الاستغفار ونيته صالحة مباركة على ما أريد منه من الحضور والأدب فاعلم -
3
۱۳۷۸
1 سورة النجم من الآية ۳
الغزالي رحمه الله إن الرزق الذي ضمنه الله عزّ وجلّ لعباده ليس من شرطه أن يكون محسوساً فقد يكون محسوساً وقد يكون غير محسوس وإنما ضمن لهم أن يرزقهم قوة لهذا الجسد بما يعبدونه فيجعله كيف شاء
والذي يقع لي أن هذا المعنى فيه إشارة لقول سيدنا إني لستُ كهيئتكم إني أبيتُ عند ربي يطعمني ويسقيني أي إن إيماني ويقيني ليسا مثل إيمانكم ويقينكم فإني أعلم أن الذي يقويني بالطعام والشراب هو الذي يقويني بلا طعام ولا شراب ولو كان يأكل أكلاً حِسيّاً لم يقع عليه اسم مواصل لا يمكنه أن يكون يواصل بهم ويكون هو عليه السلام يأكل ويشرب وأصحابه يواصلون ولا يأكلون ولا يشربون ليس هذا من خُلُق غيره فكيف بأخلاقه السَّنية التي لا يمكن اللحاق بها أبداً وقد يكون الموت بسبب أخذك الطعام والشراب وقد وجد هذا في الأخبار المنقولة كثيراً
وفيه دليل على أن الأحكام والأمثال إنما تستعمل على الغالب من أحوال الناس لأنه لما كان
الغالب من الناس إنما فرحهم بالمحسوس وحزنهم على فقده و ا ر ا ب ا لا اله الا المثل بهذا وفيه دليل على بركة الاستسلام لأمر الله عزّ وجلّ وسرعة النجح عند ذلك يؤخذ ذلك من أنه لما ترك صاحب الراحلة جدّه وطلبه وسلّم لله أمره واستسلم له برجوعه إلى موضعه فأول خيراته إرسال النوم عليه لأنه من علامات الرحمة عند الوقوع في الشدائد وأرفَقُ لمن وقعت به كما أخبر سبحانه عن الصحابة رضي الله عنهم في كتابه بقوله ﴿ إِذْ يُغَشِيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً منْهُ ٢ ولما أرسل الله عزّ وجلّ عليهم النعاس كما أخبر بقي المنافقون لم يرسل عليهم من النعاس شيئاً وبقوا في كرب عظيم ثم بعد ما استيقظ صاحب المهلكة من نعمة النوم وجد راحلته عنده قائمة فتمت النعمة عليه بوجودها
وفيه تنبيه على أن يقدم العبد أثر الحكمة - وهي عمل الأسباب على ما شرعت وبينت - فإذا لم يرها تنجح له في قصده يعمل على مقتضى التسليم للقدر رضاءً وتسليماً ويعلم أن ذلك هو المقصود منه فعند ذلك يُيَسِّرُ له مقصده بلا كلفة يؤخذ ذلك من كون صاحب الراحلة لما ذهبت أخذ في نظرها والبحث عنها فلمَّا لحقه في ذلك ما لحقه من العطش وما شاء الله ورأى أن ذلك
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن أبي سعيد رضي الله عنه والإمام أحمد والبخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة الأنفال من الآية ۱۱
۱۳۸۹
لا يُنجح له مطلباً أخذ في الاستسلام للقدر ورجع إلى موضعه وترك ما كان بسبيله من أثر
الحكمة فأتاه ما أمله من الخير وهو إتيان راحلته
وفي رجوعه إلى الموضع الذي ذهبت منه راحلته إشارة إلى الثقة بعظيم قدرة القادر لعل من الباب الذي كان منه الكسر بالعدل يكون منه الجبر بالفضل حالة يعقوبية كما ذهب بصره بقميص يوسف عليه السلام فبالقميص كان رجوع بصره إليه ولذلك قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ١
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الأعراف من الآية ٦٢
۱۳۹۰
-55-
حديث مثل الذاكر لربه والغافل
عَن أبي مُوسى رَضِيَ الله عَنهُ قال قال النبي مَثَلُ الَّذِي يَذكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذكُرُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ
وجوه
ظاهر الحديث تمثيله الا الله و الذي يذكر ربه بالحي والذي لا يذكره بالميت والكلام عليه من
منها أن يقال ما معنى الذكر هنا هل الذكر باللسان أو الذكر بالأفعال وهو اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه لأن العلماء قد قالوا في معنى قوله جلّ جلاله والَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ إنهم الذين إذا كان عليهم الحق أعطوه وإذا كان لهم الحق أخذوه كل ذلك على الحد الذي شُرع بلا زيادة ولا نقصان وقال عمر رضي الله عنه ذكر الله عند نهيه وأمره خير من ذكره باللسان أو كما قال رضي الله عنه وفي أي نسبة يكون الشبه فيما شبه به على أحد الوجهين وما يترتب على ذلك من الفائدة
قلوبهم
أما قولنا أي وجه عنى بالذكر احتمل الوجهين كل واحد على حدة واحتمل أنه عنى بذلك الوجهين معاً فإن كان عنى المجموع فهو للفائدة أتمّ وإن كان على أحد الوجهين فبين
الذكر بالقول والذكر بالفعل فرق كبير لأن الذكر بالفعل مثل الطهارة الكبرى تندرج فيها الصغرى لأن الذي يمتثل الأوامر وينتهي عن النواهي فلا بد له من الذكر باللسان لا محالة فإن حاله يَحمله على ذلك جبراً وإن كان لا يقع ذلك منه فالذي فعل من امتثاله الأوامر أجزأه عن ذكر اللسان كالطهارة الكبرى تجزىء عن الصغرى والذي يذكر باللسان مثل الطهارة الصغرى لا تدخل تحتها
الكبرى ولا تجزىء عنها وهو مطلوب بها
۱۳۹۱
۱ سورة الأنفال من الآية ٢
وأما قولنا من أي وجه تكون النسبة بين هذا وبين المثل أما إن كان الذكر بالفعل على ما
تقدم فالنسبة بينهما من أجل عدم الفائدة لهذا التارك لما أمر به في حياته فإن فائدة الحياة في هذه الدار إنما هي الكسب لتلك الدار الباقية فإنما جعلت هذه مزرعة للعباد لأن يتزودوا منها للمعاد فإذا ماتوا انقطع من هذه المزرعة كسبهم فلما كانت حياة هذا في هذه المزرعة بغير كسب المعاده كان كالميت الذي لم يبق له فيها عمل وكانت حياته كأن لا حياة
ومما يوضح ذلك قوله عزّ وجلّ في كتابه العزيز حكاية عن قول من ختم عليه بالشقاء لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ۱ وبالضرورة أنهم حين كانوا في هذه الدار كانوا يسمعون ويعقلون فلما كان سمعهم وعقلهم لم يجدوا لهما منفعة في تلك الدار نفوا ذلك عن أنفسهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
وأما إن كان المعنى الذكر باللسان فالنسبة بينهما من أجل ما حرموا من ذكر مولاهم لهم لأنه قد جاء عنه جل جلاله من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقد قال عزّ وجلّ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ۳ قال العلماء معناه ذكر ربك عبده رحمة له فكأن من كان أعطي هذه الرحمة العظمى مع من حُرمها كنسبة الحي من الميت لأن من ترك هذا الخير العظيم بأيسر الأشياء وهو تحريك اللسان أو إمرار ذلك بالقلب فقد عدم فائدة الحياة التي هي موضوعة لكسب هذه الخيرات وأشباهها
وقد قال الله عزّ وجلّ في شأن الذكر وَالذَكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ هُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ٤ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ ٤ فمن يحرم نفسه من هذا الخير العظيم كيف لا يوصف بالموت بل هو أحق بذلك وبل ٥ الموت له على خير خير من هذه الحياة المغبون صاحبها وإن كان المعنى في الحديث الوجهين معاً فكان الأمر في حق هذا المغبون أشد وأعظم أعاذنا الله من الحرمان بفضله
وأما قولنا ما يترتب على ذلك من الفائدة فغير واحدة منها الحض على امتثال الأوامر ومنها الحض على الذكر والعلم بما فيه من الخير ومنها التنبيه على أن الحياة الحقيقية إنما هي حياة
۱ سورة الملك من الآية ۱۰
أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة مريم الاية ٢
٤ سورة الأحزاب من الآية ٣٥
٥ كذا بزيادة الواو قبل بل
۱۳۹
الآخرة فيكون معظم الفائدة الحض على نبذ هذه الدار والاهتمام بتلك الدار لأن هناك هي الحياة الطيبة والعيش الرغد كما أخبر جلّ جلاله في كتابه العزيز بقوله مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ١
وفيه دليل لأهل الصوفة المتبعين للسنة والسنن لأن طريقهم الجد في اتباع الأوامر واجتناب النواهي ودوامُ الذكر شأنهم وبه فرحهم فهم الذين فَهِموا ما إليه خُلِقوا حتى صار حالهم ومقالهم على حدّ سواء فهِمُوا فسعِدوا إذ عَلِموا وعملوا وغرَسوا الشجرة فجنَوْا ثمرها أولئك موضع نظر الله من خلقه بهم يرحم العباد والبلاد أعاد الله علينا من بركاتهم في الحياة وفي الممات امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النحل الآية ٩٧
۱۳۹۳
- ٢٦٢ -
حديث فرح المؤمن عند موته للقاء ربه
عَن عُبادَة بن الصَّامِتِ ١ رضي الل الله لقاءَهُ وَمَن كَرِه لِقاءَ الله كَرة الله لقاءَهُ فَقالَت عائِشَةُ أو بَعضُ أَزواجهِ إِنَّا لَنكَرَهُ الموت قالَ لَيسَ ذَاكَ وَلكنَّ المُؤمِنَ إِذا حَضَرَهُ الموتُ بُشِّرَ بِرِضوانِ اللهِ وَكَرامَتِهِ فَلَيسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقاءَ الله وأَحَبَّ الله لِقاءَهُ وإنَّ الكَافِرَ إِذا حَضَرَهُ المَوتُ
الله عنهُ عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ مَن أحبَّ لِقاءَ الله أَحَبَّ
بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّه وَعُقوبَتِهِ فَليسَ شَيْءٌ أكرَهَ إِلَيْهِ مِمّا أمامَهُ فَكَرِهَ لِقاءَ الله وَكَرِهَ الله لِقاءَهُ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه والثاني إخباره لا لا لا لو أنه لا تخرج نفس من هذه الدار حتى تعرف ما لها في تلك الدار من خير أو ضده والكلام عليه من وجوه
منها الكلام على معنى أحب ومعنى كره والكلام على هذا المؤمن أي مؤمن هو فأما الكلام على معنى الحب ومعنى الكراهية فهو على نحو ما تقدم الكلام عليه في الحديث قبله على أحد الوجهين المذكورين بعلتيهما
وأما قولنا أي مؤمن هو فظاهره يعطي أن المراد به المؤمن الكامل الإيمان الذي إيمانه بتوفية ما أمر به ونُهِي لأنه جاء ذكره عليه السلام هنا للطرفين معاً الطرف الواحد من جهة الإيمان والطرف الاخر طرف الكفر والحرمان التام وبقي الكلام على المتوسط بين ذلك وهو
عنه
المؤمن الذي شاب إيمانه بالمعاصي والآثام
والجواب عليه مثل ما تقدم الجواب على المتوسط في حديث فتنة القبر فيما تقدم من الكتاب حين أخبر لا اله الا هو أن الموقن هو الذي يجاوب بالحق ثلاثاً ذلك هو الناجي وأن المرتاب
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ٥١
١٣٩٤
الذي لا يعرف دينه يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فذلك هو الهالك وبقي القسم
المتوسط بين ذلك وتكلمنا عليه هنالك والكلام عليه هناك مثله يكون شأن المتوسط هنا وفيه دليل على فضل أزواج النبي الله وهو عليه انا أجمعين وفقههنَّ يؤخذ ذلك من مراجعتهن للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن بحسن الأدب بقولهن إنا لنكره الموت فانظر إلى اختصار هذا اللفظ وما تحته من الآداب والفوائد ويترتب عليه من الفقه جواز مراجعة العالم إذا بقي على السامع في فهمه إشكال ويكون بأدب
وفيه دليل على جواز إطلاق اللفظ المحتمل وإن كان الذي قصد المتكلم من محتملاته ليس هو المستعمل بجري العادة يؤخذ ذلك من قوله من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وظاهر اللفظ المستعمل بين الناس والذي يسبق إلى الفهم هو الذي راجعت به هذه
السيدة وكان قصد سيدنا له بذلك وجهاً خاصاً وهو ما أبداه الله وبينه عند مراجعة هذه السيدة
وفيه دليل على جواز إلقاء العلم للنساء ولو لواحدة منهن يؤخذ ذلك من إلقائه هذه القاعدة الشرعية لهذه السيدة وإلقاؤه ذلك إليها يدل على جواز أخذه منها لأن علم الشريعة لا يحل كتمه ويؤخذ منه جواز إلقاء المعلم المسألة المحتملة ليختبر بها أصحابه أو يسألوه عن بيانها يؤخذ ذلك من هذه اللفظة المتقدم ذكرها
وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعمل على لفظ محتمل على أحد محتملاته حتى يدل الدليل عليه أنه هو المقصود يؤخذ ذلك من مراجعة هذه السيدة حتى زال الاحتمال وأقرها الله على ذلك
وفيه دليل على تهوين الموت على المؤمن يؤخذ ذلك من فرحه بما أمامه مما بُشِّرَ به من رضى مولاه عنه وإحسانه إليه فإنه من فرح بشيء هان عليه ما لقي عليه أو دونه من الشدائد وهذا ندركه حساً في أهل الدنيا فإنهم ما حملوا فيها ما حملوا من المشاق والشدائد إلا فرحهم بها وحبّهم لها فكيف بالفرح الذي ليس مثله فرح جعلنا الله من أهله بفضله
وفيه دليل على تشديد الموت على الكافر يؤخذ ذلك من همه وحزنه على ما هو أمامه فتضاعفت عليه الهموم والشدائد ومما في معنى ما أشرنا إليه أن بعض الناس مرّ في بعض طريقه بشخص نحيف البدن وهو يُضرب بالسياط ضرباً شديداً وهو مع ذلك لا يتكلم ولا يلتفت لها حتى إلى ١ آخر سوط صاح واستغاث استغاثة شديدة فتعجب من كان حاضراً من شدة صبره أولاً
ثم تعجب منه آخراً مما ظهر منه
۱ كذا بزيارة إلى بعد حتى
فلما خُلّي عنه تَبعه فقال له ناشدتك الله ما شأنك إني تعجبتُ منك أول ضربك وحَملِك
ذلك البلاء العظيم ثم تعجبت منك من كونك آخراً من سوط واحدٍ ظهر منك ضدُّ ما كنتَ عليه فقال له إن العين التي كنت أعذب من أجلها كنتُ أشاهدها فلم أحس بتلك الأمور التي جرت على البدن مع ضعفه فلما احتجبَت عني وجدتُ ألم الحجاب أشدَّ من تلك الآلام فاجتمعت عليَّ المحن فلم أحملها فذلك الذي ظهر مني أعاذنا الله من المحن جميعاً بمنه وكرمه
وفيه دليل على أنه عند بوادي أمور الآخرة يقع هناك التصديق بها للمؤمن والكافر بلا شك ولا ارتياب يؤخذ ذلك من فرح المؤمن بما يُبشَّر به وحزن الكافر وكراهيته بما يبشر به فلولا أنهما في التصديق على حد سواء ما حزن هذا وفرح هذا
وبقي بحث وهو أن يقال متى يكون ذلك فالجواب أما من الحديث فلا يؤخذ تعيين الوقت لكن يؤخذ من حديث غير هذا وهو قوله إن الله يقبل توبة عبده المؤمن ما لم يغرغر ١ أو كما قال وهو إذا كانت الروح في الحلقوم وعاين مبادىء أمور الآخرة فهناك يكون وقت البشارة ولأنه لو كانت البشارة للكافر قبل ذلك الوقت الذي تقبل منه التوبة والإسلام وحصل له التصديق كان إذ ذاك يُسلم الكافر ويتوب العاصي فلما كانت البشارة في وقت لا تنفع فيه التوبة ولا الإسلام حصل له التصديق في وقت لا حيلة له في الخلاص فاشتد لذلك الحزن عليه والله أعلم
وقد أخبرني من أثق به ممّا يقوّي ما أشرنا إليه أنه كان به بعض من يقرب منه وكان مسرفاً على نفسه فابتلي في بدنه فتاب ورجع إلى الله وبقي معه الخوف مما تقدم فكان يقول لذلك الشخص مع مرور الأيام يا فلان كيف يكون قدومي على الله وبماذا ألقاه ويحزن لذلك كثيراً فلما مَرِضَ مَرَضَ الموت واحتُضِرَ التفت إلى ذلك الشخص بعدما نظر إلى السماء وتبسم وتهلل وجهه فرحاً فقال يا فلان أبشر فما ثَمَّ إلا خيرٌ وشهق شهقة طلعت منها روحه وفيه
قيل
للموت فاستعد إن كنت عاقلاً وبالتقوى فتزود إن كنت راحلا وإلى الله فارجع فإنك عليه قادم عاجلاً وفي البشارات إشارات بها السعيد حافلاً جعلنا الله ممن احتفل بها وبها سعد بمنّه
امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٣٩٦
- ٢٦٣-
حديث ما يتبع الميت إلى قبره
عَن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول قال رسُول الله يتبع الميَّتَ ثلاثة أَنَسِ فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله
*
ظاهر الحديث أن الميت يتبعه الأهل والمال والعمل فلا يبقى معه إلا عمله ويرجع الباقي والكلام عليه من وجوه
منها الكلام على الاتباعية كيف هي وما الحكمة في الإخبار بهذه الثلاثة ونحن نعرف
ذلك ونشاهده
حدة
أما قولنا في الاتباعية كيف هي فالتقسيم يقتضي أن نتكلم على كل واحدة من الثلاثة على
فاتباع الأهل هو حملهم جنازته وصيغة اللفظ تقتضي أن يكون الماشون مع الجنازة خلفها والسنة أن يكون الماشون مع الجنازة أمامها وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب الناس بالدّرة على المشي خلفها ويقول إنما أنتم شفعاء لها والشفيع يكون أمام المشفوع له أو كما قال رضي الله عنه
والجمع بين ذلك أن نقول إن الذي يخرج من أجل شخص حياً كان أو ميتاً فإنما هو تابع له وإن كان يمشي أمامه ألا ترى أنه ليس له اختيار أن يقصد موضعاً إلا الموضع الذي خرج إليه معه فهو تابع له فلما كان خروج الميت ومشيه إلى قبره فمشي أهله معه إلى القبر إنما هو من أجله فإنهم لا حاجة لهم في القبر نفسه فهم في مشيهم - وإن كانوا أمامه - تابعون له حيث كان قبره مشوا
معه إليه فبان في حقهم اسم التبعية له وتقدمهم أمامه اتباعاً لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما اتباع المال ففيه بحث وهو أن الميت عند خروج نفسه يرجع المال لغيره فكيف يصح أن تقول مالُه تَبِعَهُ وهو لغيره وماذا من المال يتبعه إلى قبره فمن كانت له دور أو بهائم أو عَيْن فكيف يتبعه إلى قبره
۱۳۹۷
والجواب أن ذلك الزمان الذي بين دفنه وخروج الروح المالُ فيه مضاف إليه لأن السنّة
أحكمت ألا يُقْتَسَمُ ماله إلا بعدما يُخرج منه كفنه وما يحتاج إليه من جهازه إلى قبره ووصيته ودَيْنه إن كان عليه وبعد ذلك إن فَضَل من المال فضل اقتسمته الورثة بمقتضى ما فُرِضَ لهم والسنة تعجيل دفن الميت كما قال إنما هو خير تقدمونه إليه أو شر تضعونه عن رقابكم ١ أو كما قال عليه السلام فصح أن يقال ماله فإن أمره فيه عامل وهو إليه في الوقت مضاف من أجل أنه إنما يكنى عن المال في الوقت بـ تركة فلان الذي هو الميت ولم تحصل يد أحد ممن له فيه حق
على شيء منه بعد
وأما قولنا ماذا يتبعه من ماله فإن العرب تسمي البعض باسم الكل والكل باسم البعض فيتبعه من ماله عبيده إن كان له عبيد وما يحمل عليه وما يحفر به قبره من الآلة وما يشبه ذلك فيصح أن يطلق عليه اسم ماله ومن جهة المعنى إذا رجعوا من دفنه إنما يأخذون في تقسيم المال إلى من له حق فيرجع الاسم معهم إلى وقت وصولهم إلى منزله وتوزيعه على من له فيه شيء وبعد ذلك يصبح المال ملكاً لمن له فيه حق ولهذا صح أن يقال تَبِعَه ماله من جهة الحس ومن
جهة المعنى
وأما اتباع عمله له ففيه بحث أيضاً وهو أن عمله قد رفع وكتب وموته جاء بعد نفاد عمله ورفعه فكيف يكون المتقدم تابعاً للمتأخر فالجواب أنه لما كان العمل - وإن كان قد رفع - فصاحبه به مطلوب و به مأخوذ لا يمنعه عنه مانع حيث كان فصح أن يقال عنه أن يقال عنه تابع له وكذلك قال صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث إن كان صالحاً لم يأنس إلا به وإن كان سيئاً لم يستوحش إلا منه أو كما قال عليه السلام
وقد جاء أن العمل إذا كان صالحاً دخل على المرء في قبره في صورة شخص حسن الصورة طيب الرائحة نُورِي فيأنس به من وحشة القبر فيقول له من أنت الذي قد مَنَّ الله عليَّ بك فيقول له أما تعرفني فيقول له لا أعرفك فيقول له أنا عملك الصالح في دار الدنيا لا أفارقك وإن كان العمل سيئاً دخل عليه في صورة وحشة منتنة وظلمة فيستوحش منه زيادة على وحشة القبر وضيقه فيقول له من أنت الذي روّعتني فيقول له أما تعرفني فيقول له لا أعرفك فيقول له أنا عملك السيىء في دار الدنيا لا أفارقك أو كما ورد عافانا الله من سيىء الأعمال بمنّه وأما قولنا ما الحكمة في الإخبار بهذا ونحن نشاهده ونعرفه فالحكمة في ذلك من
وجوه
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم
۱۳۹۸
منها أنه إنما نعاين من جهة الإدراك بالحواس رجوع الأهل والمال وإنما نعرف من طريق الإيمان بما أخبرنا من ذلك فإعادته هنا بعد العلم به لأن ذلك من لازم الإيمان فهو تأكيد في الإخبار حتى يرجع أمر الغيب عندنا في ذلك مثل الذي نشاهده حساً من الأهل والمال
ومنها التنبيه على الاهتمام بتحسين العمل وكثرة الاشتغال به إذ هو الذي يبقى معنا وغيره يرجع عنا فتقديم من يبقى معك على من يرجع عنك ضروري إن عقلت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الويل كل الويل لمن ترك عياله بخیر وقدِم على ربه بِشَر ۱ أو كما قال عليه السلام
ومنها التنبيه على الزهدِ في دار أنت خارج منها على هذه الحالة لا محالة والإقبال على دار ليس لك فيها إلا ما قدمته من هذه الذاهبة عنك فاغتنم زمان المهلة قبل وقت الندم ولا ينفع وتطلب الرجوع لتجبر فيقال لك الصَّيفَ ضَيَّعْتِ اللَّبنَ ٢
وفيه دليل على جواز اتخاذ الأهل والمال ولا يضران إذا كان العمل صالحاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يتبعه ماله وأهله فلو لم يكن ذلك جائزاً ما جعله من التابعين له ويترتب عليه من الفقه أن يذكر الإنسان بالخير وإن كان يعلمه ويحذّر من الشر وإن كان يعرفه فإن الغفلة غالبة علينا ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تلاقوا يقول بعضهم لبعض تعالوا نؤمن أي نتحدث في الإيمان وأنواع تكليفاته لأن يذكر بعضهم بعضاً فيقوى إيمانهم فيكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى كما قال جل جلاله وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ٣
وفي هذا دليل لأهل السلوك فإن هذا شأنهم إذا اجتمع أحدهم مع صاحبه لم يكن حديثهم إلا في الإيمان وأنواع الأعمال والأحوال فإن افترقوا اشتغلوا بما به تحدثوا أولئك الذين فهموا معاني الكتاب والسنة
جعلنا الله من التابعين لهم بإحسان بفضله ومنه لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أورده الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤٠٩/٨
والعجلوني في كشف الخفا ٤۸/
مثل يضرب لمن يطلب الشيء في غير أوانه
۳ سورة المائدة من الآية ٢
۱۳۹۹
-٢٦٤-
حديث النَّفي عن سب الأموات
عَن عائشةَ رَضي الله عنها قالت قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لا تَسُبُّوا الأموات فإِنَّهُم قَد
أفضَوا إلى ما قَدَّمُوا
ظاهر الحديث النهي عن سب الأموات والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا النهي على عمومه في المؤمن والكافر أو في المؤمن خاصة فالجواب أن ظاهر اللفظ يعطي العموم وما يفهم من قواعد الشريعة يخصصه بالمؤمنين لأن الكافر لا حرمة له في حياته فكيف بعد مماته والمؤمن لما كانت غيبته في الحياة ممنوعة أمر الشارع باستصحاب تلك الحرمة بعد الموت وزاد ذلك بياناً بتعليله عليه السلام النهي بقوله فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وفي تعليل النهي الذي نهى عنه عليه السلام دليل على تبيين تعليل الأحكام لمن تلقى إليه ليكون في أحكام الله عزّ وجلّ على بصيرة وفيه دليل على فضيلة الإيمان وحرمة أهله يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام عن سبّ الميت من أهل الإيمان وإن كان مجرماً
وفيه دليل على جواز ذكر الموتى بخير لأن النهي عن الشيء دليل على جواز ضده على
أظهر الأقاويل
وفيه دليل على أنه حين خروج الميت من هذه الدار يلقى عمله والمجازاة عليه خيراً كان أو
ضده يؤخذ ذلك من الله الله فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا كما نبهنا عليه في الحديث قبل وفيه دليل على أن ليس للمرء في تلك الدار إلا ما قدم من هذه كما أشرنا إليه في الحديث قبل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أفضوا إلى ما قدَّموا ويشهد لذلك قوله تعالى ﴿ وَأَن لَّيْسَ
١٤٠٠