الْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ۱ وفي قوله عليه السلام فإنهم قد أفضوا إلى ما ١ قدموا تنبيه لمن بلغه هذا النهي أن ينظر في عمله خيفة أن يكون سيئاً فيقدم عليه ولا بد له من الجزاء عليه فيكون فيه اجتماع أمرين أمر بإبقاء حرمة المسلم بعد موته وإن كان مسيئاً يستحق السبّ وتنبيه للحي أن ينظر في صلاح عمله بينما هو في دار المهلة خيفة أن يكون فيه ما يَسُوءُه فيغفل حتى يقدم عليه فلا يقدر لخلاص نفسه بحيلة من الحيل ومن تبصر انتفع وإلا فالأمر والله جد والحاكم عدل ولات حين مناص
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النجم الآيتان ٣٩ و ٤٠
١٤٠١
- ٢٦٥ -
حديث صفة أرض المحشـ
عَن سَهْلِ بنِ سَعِيدٍ ۱ رضيَ الله عَنهُ قالَ سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يُحشَرُ النَّاسُ يَومَ القيامَةِ عَلى أرض بَيضاءَ عَفَراءَ كَقُرْصَةِ ٢ نَقيٌّ قالَ سَهل أو غَيْرُهُ لَيسَ فيها مَعْلَم ۳
لأحَدٍ
ظاهر الحديث يدل على أن الأرض التي يحشر الناس عليها يوم القيامة غير هذه الأرض وأنها بيضاء مستوية مدوّرة لم يتقدم فيها لأحد ملك ولا تصرّف والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما الحكمة في إخبارنا بهذا وهل هذه الأرض خلقت أو لم تخلق بعد وإنما يكون خلقها في ذلك الوقت وهل نفهم ما الحكمة أيضاً بألا يكون الحساب على هذه الأرض أو ليس لنا طريق لذلك وما الفائدة بأن نع ل ل ا ل ل ا ل ل ت ل ل لكل الأرض بصفتين ومعناهما واحد لأن عفراء
معناها بيضاء
أما قولنا ما الحكمة في أن أخبرنا بذلك فاعلم - وفقنا الله وإياك ـ أن ذلك لوجوه منها أن فيه دليلا على عظم القدرة وما فيه مما يدل على صفة من صفاته عزّ وجلّ يقوى به الإيمان وكل ما فيه زيادة ما في الإيمان فهو من أعظم الفوائد والقرب إليه عزّ وجلّ ومنها الإعلام بجزئيات ذلك اليوم حتى يكون المؤمن في أمره على بصيرة فيتأكد تصديقه بذلك اليوم حتى يرجع العلم به كأنه عين يقين حتى إذا كان ذلك الوقت لم يزده الأمر شيئاً غير أنه انتقل من علم اليقين
۱ سهل بن سعد الساعدي الأنصاري الخزرجي أبو العباس صحابي من مشاهيرهم من أهل المدينة عاش نحو مئة سنة وهو اخر من مات بالمدينة من الصحابة له في كتب الحديث ۱۸۸ حديثاً توفي سنة ٩١ هـ الإعلام ۳ ۱۰
القرصَة خبزة صغيرة مبسوطة مدوّرة ونقيّ نظيف والمراد كرغيف خبز أبيض ۳ المعلم العُلامة جمع معالم وهي العلامة التي توضع في الطريق أو في سواه ليهتدى بها
١٤٠٢
إلى معاينته ويكون أيضاً علمه بجزئياته عوناً له على نفسه وعلى عدوه في القهر لهما وأخذ الأهبة لما يخلّص به نفسه فإنه يكون علمه على يقين وتحفظ وذلك أزكى في الأعمال وأبرك ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً لأنه قد حصل له من العلم بذلك اليوم وجزئياته ما لا يزيده العِيان فيه شيئاً ومثل ذلك ما قاله المؤمنون يوم الأحزاب هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُمْ ۱ وكان غير المؤمنين كما أخبر الله عزّ وجلّ تَدُورُ أَعْيُنَهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فشَبَه الفريقين في ذلك اليوم كَشَبَهِهِمْ يوم القيامة ومعرفة جزئيات الأمر قبل وقوعه فيه رياضة للنفس على حملها على ما فيه خلاصها هناك وتهوين عليها أيضاً في ذلك بخلاف الأمر إذا جاء فجأة ولا علم لها به يعظم الأمر عليها أضعافاً مما هو وفوائد عديدة إذ تتبعتها ووقفت عليها وجدتها
وأما قولنا هل هذه الأرض خلقت أو إنما تخلق في ذلك الوقت الذي يحتاج إليها فليس في الحديث ما يدل على واحد من ذلك والقدرة صالحة غير أنه قد جاء أن الله سبحانه ثمانية عشر ألف عالم والأخبار تقتضي أن تلك الأرض أكبر من هذه بدليل أنه قد جاء أن كل من في هذه الأرض وما عليها يحشرون يوم القيامة وكل من في الأرضِين السبع وكل من في السموات من الملائكة وغيرهم وأن هذه الأرض بنفسها تحشر أيضاً بدليل أن بقاعها تشهد بما فعل عليها من خير وغيره ولا تشهد إلا وهي حاضرة يشهد لذلك قوله عزّ وجلّ يَوْمَيذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ ۳ ونستفيد من الأخبار بأن الله عزّ وجلّ ثمانية عشر ألف عالم فإن كانت تلك الأرض مخلوقة فتكون واحدةً من هذا العدد المذكور وإن لم تكن مخلوقة فليست من هذه العوالم وتخلق بعد والله أعلم بحقيقة ذلك
وأما قولنا هل تفهم الحكمة في أن الحساب لا يكون على هذه الأرض فنقول والله أعلم إنه لما شاء القادر أن يستنطق بقاع الأرض بما فعل عليها فتكون شاهدة بذلك والشاهد إنما يكون وظيفته الاشتغال بأداء الشهادة ووجه ثان وهو أنه لما كان ذلك اليوم يومَ عدل وظهورِ حق فينبغي بمقتضى الحكمة أن يكون المحل الذي يكون فيه طاهراً كما يليق بالحكم وهذه الأرض قد توسخت بالمعاصي والمظالم والتخاصم فيها فلا يليق أن تكون ظرفاً لذلك الأمر الحق والخطب العظيم ووجه آخر وهو أنه لما كان الحكم في ذلك اليوم الله وحده خالصاً بلا واسطة فينبغي من
1 سورة الأحزاب من الآية
سورة الأحزاب من الآية ۱۹
۳ سورة الزلزلة الايتان ٤ و ٥
١٤٠٣
طريق الإجلال والترفيع لجلاله عزّ وجلّ والحكم الحق أن يكون المحل الذي يكون فيه ذلك الحكم الخاص الله وحده لا يتقدم فيها دعوى ملك لأحد وهذه فيها الدعاوى كثيرة
ومما روي في ذلك أن رجلين تخاصما في أرض فأنطق الله تلك الأرض وقالت ففيمَ تختصمان وقد ملكني قبلكم ألفُ أعور دون الأصِمَّاء أو كما ورد فقيم الخصام والتشاجر فيها على هذا القدر الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فكيف يكون عليها حكم أعدل العادلين فتبدلها بتلك الأرض النقيّة بمقتضى الحكمة
واحتمل وجهاً آخر وهو أنه لما كان ذلك اليوم يومَ يتجلّى الله سبحانه لعباده المؤمنين وينظرون إلى وجهه الكريم فلا يكون تجليه عزّ وجلّ لعباده إلا وهم على أرض تليق بالتجلّي واحتمل مجموع التوجيهات كلها وهذا هو اللائق بالحكمة والتعظيم لحكم رب العالمين
وتجليه عزّ وجلّ لعباده فسبحان الذي خلق كل شيء وأتقنه
وأما قولنا ما الفائدة بأن نعت الأرض بصفتين ومعناهما واحد فإنما فعل عليه السلام ذلك لرفع الالتباس لأن العرب تقول أسود كالح وأحمر قان وأصفر فاقع فذلك تحقيق لتلك الأسماء من أجل الاشتراك الذي يلحقها في اللغة مع غيرها إذا لم يؤكدها بزيادة تلك الصفة الرافعة للاشتراك العارض لها وهذا مثله
ويترتب على هذا من الفقه أنه ينبغي للمتكلم أن يحرر ألفاظه ويحرزها من الاحتمالات
الممكنة فيها
وقوله نقية ١ أي ليس فيها جبال ولا عليها شجر ولا نبات ولا فيها خنادق إلا مستوية وقد جاء أنها تمتد مد الأديم فدل هذا على حسن استوائها وفي كونها بيضاء دليل على أن البياض هو خير الألوان لأن ما اختاره الله عزّ وجلّ لإنفاذ حكمه وتجليه لعباده من الألوان هو خيرها وقد قال خير لباسكم البياض ٢ وما فيها وجه من الوجوه إلا وفيه دليل على عظم قدرته سبحانه وعظم سلطانه تبارك وتعالى علواً كبيراً
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 كذا والراوية نقي
٢ أخرجه ابن ماجه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ خير ثيابكم البياض فكفنوا بها موتاكم وألبسوها خياركم وخير أكحالكم الإثمد ينبت الشعر ويجلو البصر
١٤٠٤
-٢٦٦-
حديث صفة الناس في الحشر يوم القيامة
عَن عائِشَة رَضي الله عنها قالت قالَ رَسُولُ الله تحشَرونَ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةٌ غُرلا ۱ قالت عائِشَةُ فَقُلتُ يا رَسُولَ الله الرِّجالُ وَالنِّساء ينْظُرُ بَعضُهُم إلى بعض فَقالَ الأمر أشدّ مِن أن يُهِمَّهُم ذاك
*
ظاهر الحديث يدل على أن الناس يحشرون يوم القيامة بلا ثوب يسترهم ولا شيء في أرجلهم يقيهم من ذلك الهول العظيم وأنهم يكونون على الحالة التي خرجوا عليها من بطون أمهاتهم غير مختونين ولا مقصوصة أظفارهم على وضع الخلقة التي كانوا عليها عند تمام خلقهم وهم في الأرحام والكلام عليه من وجوه
منها ما الفائدة في الإخبار بهذا وما الحكمة في ذلك وما معنى يحشرون هل الجنس أو
النوع أما قولنا ما الفائدة في الإخبار بذلك فلوجوه منها المعرفة بأحوالنا في ذلك الوقت وذلك مما يزيد في قوة الإيمان وفيه دليل على عظم قدرة الله عزّ وجلّ وذلك مما يوجب زيادة تعظيم جلاله سبحانه في القلوب وهو مما يقرّب العبد إلى مولاه وفيه إشارة إلى أن الخروج إلى الدارين أولاً الفاضل والمفضول في ذلك الوقت على حد سواء وبعد ذلك يكون الترفيع بالتفضيل بحسب ما شاء الحكيم فخروجنا إلى هذه الدار عراة حفاة غرلاً وفي تلك الدار كذلك وبعد وقوع الأمر يكون التفضيل وقد جاء أن أول من يُكسَى
۱ الغُرلة جلدة الصبي التي تقطع في الختان وغرلاً في الحديث أي غير مختونين
١٤٠٥
يوم القيامة سيّدنا محمد الله وبعده من شاء الله على ما جاءت به الاثار فسبحان من أبهرت ۱
حكمته العقول
وأما قولنا ما الحكمة فيه فهي - والله أعلم - تصديق لقوله عزّ وجلّ كَمَا بَدَأْنَا أَوّلَ خَلْقِ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وهي أيضاً من أعظم الأدلة على عظم قدرته جلّ
جلاله
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون إن التقبيح والتحسين ليس للعقل فيه مدخل وإنما ذلك
بحسب ما حُدَّ وشُرِع لأن هذه الدار كشف العورة فيها ممنوع محرم قبيح وهناك جائز وسائغ وأما قولنا ما معنى يحشرون يعني هل النوع أو الجنس احتمل الوجهين معاً لكن آخر الحديث يبين أنه الجنس وهو جوابه لها بقوله الأمر أشد من أن يهمهم ذاك فدل أنه أراد الله جنس الآدميين
وفي قولها رضي الله عنها الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض دليل على أن استصحاب
الحال معلوم عندهم ولا يترك بالمحتمل حتى يأتي أمر لا احتمال فيه
ويترتب عليه من الفقه أن ما يقعد من الأحكام بالنص لا يُزال بالمحتمل وإن كان ظاهراً ويؤخذ من مراجعتها جواز مراجعة المفضول للفاضل إذا بقي عليه في كلامه احتمال لكن يكون ذلك بأدب كما هو ظاهر كلامها
وفي قوله الأمر أشد من أن يهمهم ذلك فوائد منها ما ذكرنا آنفاً من تحقيق ما أراد عليه السلام بقوله يحشرون ومنها التخويف والإرهاب من ذلك اليوم العظيم ليكون ذلك سبباً
للاستعداد إليه
ومنها أن معاينة الأهوال العظام تنقل الطباع عن عادتها المألوفة لها لأن عادة البشرية إذا نظر الرجال إلى النساء وهن باديات العورات أن ذلك يحرك عندهم شهوة الاستمتاع بهن وكذلك النساء أيضاً إذا رأين الرجال على تلك الحالة وفي ذلك اليوم من عظم ما يعاينون من الأهوال انتقلت الطباع عن عادتها المعلومة منها
ويترتب عليه من الفقه أن الخوف إن كان حقيقياً يذهب بإغواء النفس وخَدعها المعلوم منها وينقل الطباع السوء إلى الحسن والتقويم ولهذا هي الإشارة بقوله تعالى ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ
۱ كذا بزيادة الهمزة والمعروف بهرت
سورة الأنبياء من الآية ١٠٤
١٤٠٦
بِهِ عِبَادَةً يَعِبَادِ فَاتَّقُونِ ۱ فلولا أن الخوف يُحدِث في الطباع السوء شيئاً حسناً ما جعله الله تعالى
سبباً إلى تقواه الذي هو أجلّ الأحوال السنية
ولذلك قال أهل السلوك إن القلب إذا خلا من الخوف خرب وقد ذكر عن بعض الرجال أنه كان إذا أوى إلى فراشه يتذكر النار وما فيها فينتفي عنه النوم فيقوم إلى محرابه وينادي ويقول اللهم إنك تعلم أن خوف نارك منعني الكرَى فيتم ليله مصلياً أو كما قيل ومثل ذلك عنهم كثير وقلة الخوف أوجب لأهل الدنيا التنافس فيها والغفلة عن هذا الخطر العظيم
سواه
جعلنا الله ممن خاف فازدجَرَ وتذكَّرَ فاعتبر وعمل وادَّخَرَ بمنّه وأسعدنا بذلك لا رب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الزمر من الآية ١٦
١٤٠٧
- ٢٦٧ -
حديث العرق الذي يلحق الناس يوم القيامة
من شدة هول الموقف
عَن أبي هريرَةَ رضي الله عَنهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال يَعرقُ النَّاسُ يومَ القيامَةِ حَتَّى يذهَبَ عَرَقُهُم في الأرضِ سَبعينَ ذِراعاً وَيُلجِمُهُم حَتَّى يَبلُغَ آذانَهُم
ظاهر الحديث الإخبار بشدة الأمر الذي يلحق الناس يوم القيامة حتى يعرقوا فيذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ثم يلجمهم حتى يبلغ آذانهم والكلام عليه من وجوه منها أن يقال هل هذا الأمر للناس عامة أو اللفظ عام والمعنى فيه الخصوص وهل الذراع المذكور فيه من هذا الذراع المعروف عندنا أو غير هذا
أما قولنا هل هو على العموم في جميع الناس أم لا ظاهر اللفظ يعطي العموم وقد جاءت أحاديث تخصصه فمنها أنه قد جاء أن من الناس من يبلغ عرقه إلى الكعبين ومنهم إلى الركبتين ومنهم إلى وسطه ومنهم إلى الصدر ومنهم إلى الثديين ومنهم من يسبح في عرقه ۱
أي يعوم فيه أو كما ورد
وقد جاء أن هناك من لا يحضر تلك المواطن مثل الشهداء لأنه قد جاء أنهم يقومون من قبورهم إلى قصورهم أو كما ورد
وقد جاء أن الأنبياء والرسل عليهم السلام على كراسي في ظل عرش الرحمن وأن العلماء هناك دون الأنبياء بدرجة والصديقين دونهم أو كما ورد وهذه كلها أخبار والخبر لا
1 أخرجه مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه بلفظ تُدنَى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ويكون الناس على قدر أعمالهم من العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق الجاماً وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه
١٤٠٨
يدخله نسخ ويسوغ الجمع بينهما بأن يقال هذا الحديث هو حال الأغلب من الناس وأن غيرهم
ممن ذكرناهم قوم مستثنون ممن ذكر وهم قلائل
ويبقى هذا على عمومه فيمن بقي لأن الأكثر من الناس يوم القيامة هم الكفار كما جاء أن الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة لآدم عليه السلام أخرِج بَعْثَ النار من بنيك فيقول يا رب وما بَعْتُ
النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحدٌ إلى الجنة ۱ أو كما ورد
ثم أصحاب المعاصي بعدهم وهم الذين دون الكفار في العرق بحسب معاصيهم والله أعلم والذين يسبحون في عرقهم أشدّهم وقد يكونون من جبابرة الكفار ورؤسائهم في الضلالة وهم بالنسبة إلى غيرهم قلائل لأنهم هم الإرِّيسيّون والله أعلم لأن بهذا التوجيه تستعمل جميع الأخبار وهو الأصلح عند أهل الحديث لأن الوجه الذي يمكن فيه جمع الأحاديث هو الأحسن عندهم إذا لم تكن أخباراً فإذا كانت أخباراً فمن باب أولى فإن الأخبار لا يمكن إسقاط
أحدها لعدم النسخ فيها وأما قولنا هل الذراع هو هذا الذراع المعلوم عندنا فهذا هو الظاهر - والله أعلم - وإن كان بعض العلماء قد قال إنه قدر الذراع الملكي ۳ الذي هو ضعفان من هذا وهذا يحتاج إلى توقيف من الشارع والأظهر أنا لا نخاطب إلا بما هو معروف عندنا وإذا كان الخطاب بخلاف ذلك بين لنا بوجه نعرفه أو نعرف نسبته بتقريب ما هذا هو المتعاهد في الشريعة غالباً
وأما قوله يلجمهم أي يبلغ موضع اللجام وهو أفواههم وهنا إشارة إذا نظرناها يزيد الله المرء بها تهويلاً وتعظيماً وهو أنه قد أخبر الله و أن النار تدور بالمحشر كالخاتم بالأصبع ٤ وأن
1
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي الا الله وقوله يقول الله يا ادم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعنده يشيب الصغير وَتَضَعُ كُلِّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَنَرَى وَمَا هُم بِسُكَنَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾ قالوا يا رسول الله وأينا ذلك الواحد قال أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفاً ثم قال والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة أرجو أن تكونوا رُبع أهل الجنّة ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود أو كالرقمة في ذراع الحمار الإريسيون مفردها إريس الأمير المطاع القادر على هداية قومه أو إضلالهم وقال ثعلب أصله رئيس وِزَان فعيل من الرئاسة والمؤرس المؤمر ثم قلب ۳ الذراع ما بين طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى لسان العرب والذراع الملكي - كما شرحه المؤلف -
ضعف هذا المقياس ٤ في حديث رواه الطبراني موقوفاً بإسناد جيد قوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال الأرض كلها نار يوم القيامة إلى اخر الحديث
١٤٠٩
الشمس تقلب وجهها إلى الناس وتدنو من رؤوسهم حتى يكون بينها وبينهم قدر الميل وهو
1
المزود الذي يكحل به العين فانظر كيف تكون حرارة تلك الأرض التي تكون الناس عليها وما عسى أن يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعاً ثم بعد ذلك يلجمهم وكيف تكون حرارته فسبحان الذي أرواحهم مع هذا البلاء العظيم أعاذنا الله منه بجاه نبيه محمد الكريم الله
حبس
تنبيه إذا نظرت إليه تَبيَّن لك من عظم قدرة الله تعالى ما يبهر العقول انظر إلى إخباره عليه السلام بحالة هؤلاء في عرقهم وتنويعهم على ما ذكرناه بحسب الأخبار الواردة في ذلك ومع هذا قد جاء أن الناس يحشرون مثل السهام في الجعبة قدم الرجل على قدم المرأة وقدم المرأة على قدم الرجل ولا يعرف أحدهم الآخر
فتأمل كيف يكون هذا القدر من اجتماع وتلاصق وهم متفاوتون في العرق ومتفاضلون في الآلام هذا ما يبهر العقول ويدل على عظم قدرة الله تعالى وأن أمور الآخرة ليس للعقل فيها مجال وإنما تؤخذ بالقبول والتصديق الذي لا شك يدخله ولا ريب ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة جارية ولا حكمة ولا بشيء من الأشياء ومن وقع له شيء من ذلك فهو دليل على حرمانه وخسرانه إلا أن يتداركه الله بالتوبة قبل الممات
وفائدة الإخبار بهذا الحديث وأشباهه أن يتنبه السامع لها لنفسه ويأخذ في الأمور التي تخلصه من هذه الأهوال على نحو ما شرع له ويلجأ إلى المولى الكريم بالصدق والضراعة الدائمة عساه يمنّ عليه بالعون على ذلك وينجيه من تلك الأهوال وإلا كانت الفائدة عليه معكوسة وظهرت إقامة الحجة عليه ببيان الأمر الذي هو صائر إليه وتبيين الطرق المنجية له من ذلك يشهد لذلك قوله جلّ جلاله * وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لأن الرسل عليهم السلام بينوا ما ذكرناه فمن لم يفعل قامت الحجة عليه بالهلاك ولا دافع له ولا واق منه أعاذنا الله من ذلك بمنّه وفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ وفي حديث آخر رواه مسلم عن المقداد عن النبي الا الله و أن الشمس تدنى يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل وفي الحديث قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بـ الميل مسافة الأرض أو الميل التي
تكحل به العين إلى اخر الحديث سورة الإسراء من الآية ١٥
١٤١٠
-٢٦٨-
حديث الحث على الصدقة وأنها تدفع حرّ النار يوم القيامة
1
عَن عَدي بنِ حَاتِمٍ رضي الله عَنهُ قالَ َقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما مِنكُم مِن أحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ الله يوم القيامةِ لَيسَ بَينَهُ وبينَهُ تَرجُمان ثُمَّ يَنظُرُ فَلا يَرَى شَيْئاً قُدَّامَه ثَمَّ يَنظُرُ بَينَ يَديهِ فَتَستقبِلُهُ النَّارُ فَمَن استطاعَ مِنكُم أن يتَّقي النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرة
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما إخباره بأن ما منَّا من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان أي أنه يشافهه بذاته الجليلة بلا واسطة بينهما والاخر إشارته الليل إلى أن تتقى النار بالصدقة ولو بما قَلَّ منها وهو شِقُ تمرة والكلام عليه من وجوه
لكان الناظر يبصره
منها أن فيه دليلاً على أن احتجابه جلّ جلاله عن عباده يكون يوم القيامة بغير حائل حسي بل بقدرته عزّ وجلّ لا غير يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ثم ينظر فلا يرى شيئاً قدامه ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار فلو كان الحجاب بشيء محسوس وكذلك حجابه جلّ جلاله في هذه الدار أيضاً بالقدرة والعزّ والجبروت لا بالمحسوسات وما جاء من ذكر الحجاب في الحديث فتعظيم لمملكة المَلِك الذي ليس كمثله شيء ومن ليس كمثله شيء فلا يحجبه شيء ومن هذا يُستدل على أن المولى سبحانه ليس بمتحيّز ولا في جهة من الجهات فإن كل من هو متحيز أو في جهة من الجهات فإنما يكون حجابه بحائل محسوس مرئي وفيه دليل على أن رؤيته سبحانه أو كلامه أو ما كان من صفاته عزّ وجلّ إذا تجلى لعبده بذاته أو بصفة من صفاته لا يقدر أن يرى معه أو مع صفة من صفاته شيئاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ثم ينظر وذلك عند فراغه من سماع الكلام فدل على أنه عندما يتجلى عزّ وجلّ لعبده بصفة من صفاته - وهي الكلام - لا يمكنه مع ذلك أن ينظر إلى شيء
1411
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ۹۱
ومما يقوي ذلك ويوضحه ما جاء في الذين أكرمهم الله تعالى في دار كرامته بدوام النظر إلى وجهه الكريم لأنهم لا يقدرون معه أن يلتفتوا إلى الجنة ولا إلى نعيمها ولا إلى الحور والولدان ولا لشيء من ذلك حتى تشكو الحور والولدان إلى الله كثرة غيبتهم عنهم فيقول جل جلاله إن الحور والولدان قد شكوا طول الغَيبة ۱ فيقع الحجاب بينهم وبينه فيرجعون إلى الحور والولدان ثم يستغيثون بالله سبحانه من الحجاب فيمن الله جل جلاله عليهم برفعه هكذا دأبهم أو كما
ورد
وفيه تنبيه صوفي يدل على أن المحجوب هو الذي ينظر ويلتفت يؤخذ ذلك من أن هذا لم
ينظر حتى حجب
وفيه دليل لأهل الصوفة المتحققين المتبعين للسنة لأنهم يقولون الملتفت هالك يؤخذ ذلك من أن هذا لما نظر أمامه وبين يديه - وهذه صورة الالتفات - استقبله الهلاك وهو النار أعاذنا الله منها بمنه
وفيه دليل على قرب النار من أهل المحشر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار ومن استقبله الشيء بين يديه فهو أقرب الأشياء إليه
وفيه دليل على فضل الصدقة يؤخذ ذلك من كونه أخبر أنها الواقية من النار بقوله عليه السلام اتقوا النار ولو بشق تمرة فإذا كانت هي الواقية من ذلك الأمر الخطر دلّ ذلك على عظم فضلها من بين أعمال البرّ
وفي هذا دليل لأهل الصوفة المتحققين لأنهم بنوا طريقهم على كثرة البذل والإيثار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة في هذه الدار وفضلها فيها أيضاً ادفعوا البلاء بالصدقة وجعله مطلقاً في أي نوع كان أعني دفع البلاء وقال عليه السلام استعينوا على قضاء حوائجكم بالصدقة ۳ أو كما قال عليه السلام فأخبر عليه السلام عنها بأنها في الدارين دافعة لبلائها بحسب ما ذكرناه آنفاً وقد قال الله سبحانه في كتابه العزيز ما يشهد لهذا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِهِ مِسْكِينا
1 لم نقف على مصدره
ما روي في دفع الصدقة للبلاء روى الترمذي وابن حبان عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الصدقة لتطفىء غضب الرب وتدفع ميتة السوء وروى ابن المبارك في كتاب البرّ شطره الأخير ولفظه إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين باباً من ميتة السوء وروى البيهقي مرفوعاً وموقوفاً عن أنس رضي الله عنه أن النبي يا الله قال باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة أمّا ما جاء به المؤلف رحمه الله فلم نقف عليه في
الذي أورده
۳ لم نقف على مصدره
اللفظ
١٤١٢
وَبَنِيمَا وَأَسِيرًا إنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّيْنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَنطَرِيرًا فَوَقَتَهُم
اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَهُمْ نَضَرَةً وَسُرُورًا ﴾ ١ نَ
تمرة
وفيه دليل على قبول الخير من العبد وإن قل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ولو بشق
وبقي هنا إشارة وهي لمن هذا الخير هل لكل متصدق وبكل صدقة كانت من أي نوع كان كسب المتصدق بها أم لا
فالجواب أنه ليس المراد ذلك بل ذلك للذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم على أوامر ربهم يحافظون بدليل قوله عليه السلام إن أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة فإن قبلت منه نظر في سائر عمله وإلا لم ينظر فيه أو كما قال عليه السلام فمن لم تُقبل صلاته ولا نظر في باقي عمله فأي شيء يقيه من النار وقد استوجب دخولها وكذلك كل فرض لم يفعله لم تُغنه النوافل عنه واستحق بتركه دخول النار والعقاب على ذلك بقدر جرمه
فكذلك إذا كانت الصدقة من مال غير طيب لم تقبل لقوله له إن الله لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول ۳ وكذلك إن كان فيها شائبة لغير الله تعالى لا تقبل أيضاً لقوله تعالى يوم القيامة لمن خلط في عمله لغير الله شيئاً أنا أغنى الشركاء اذهب فاطلب الأجر من غيري 4 ٤ فليتنبه المرء لنفسه وعمله ويُصلحهما على حسب ما بينته الشريعة وأوضحته وإلا دخل تحت قوله عزّ وجلّ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنعا ﴾ ٥
وبقي بحث في قوله منكم هل يعود ذلك على جنس بني آدم أو هو لجنس المؤمنين ظاهر اللفظ محتمل وما جاء في الكتاب العزيز يخصصه وهو قوله تعالى في حق الكفار كلاً
۱ سورة الإنسان ۸ - ۱۱
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عزّ وجلّ لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئاً قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم والغلول ۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن والد أبي المليح رضي الله عنه الغش أو الحرام
٤ رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملا وأشرك فيه معي غيري تركته وشركه
٥ سورة الكهف من الاية ١٠٤
١٤١٣
إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾ ۱ فبهذا يتخصص اللفظ وبقي الكلام للمؤمنين خاصة صالحهم
وغيره
وبهذا فرح أهل الصوفة وتنعموا لما أيقنوا بسماع كلامه جل جلاله بلا واسطة وتجليه سبحانه لعباده المؤمنين بلا حجاب حتى إنه قد روي عن رابعة العدوية أنها قالت أوليس يوبخني ويقول لي يا أمَةَ السوء فعلت كذا وكذا أو كما قالت فهذا كان عندها من أكبر النعم أن تسمع كلام الجليل بلا واسطة وإن كان بالتوبيخ فكيف به أن يكون بالعطف والتأنيس كما أخبر عزّ وجلّ في كتابه بالقول لهم وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُورًا ٢ يا له من فرح وسرور حارت لديه العقول
جعلنا الله من أهله بمنّه وفضله لا ربّ سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة المطففين الآية ١٥ سورة الإنسان من الآية ٢٢
١٤١٤
-٢٦٩ -
حديث خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار
فيها إلى الأبد
عَن أبي هريرة رضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله يُقالُ لأهلِ الجنَّةَ خُلود لا مَوتَ وَلأهلِ النَّارِ خُلود لاَ مَوتَ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإعلام بدوام خلود أهل الجنة وتأبيدهم فيها دواماً لا انقضاء له دون موت يلحقهم فيها يشهد لذلك من الكتاب العزيز قوله تعالى ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَنهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۱ والحكم الثاني الإخبار بدوام خلود أهل النار في النار خلوداً لا انقضاء له ولا موت يلحقهم فيها يشهد لذلك من الكتاب العزيز قوله تعالى خَلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ والكلام عليه
من وجوه
منها أن يُقال ما الحكمة في أن أخبرنا بالخلود وما الحكمة في أن أخبر بوصفين وكل واحد منهما يدل عليه الآخر لأن الخلود يدل على عدم الموت وعدم الموت يدل على الخلود والجواب أن في الإخبار لأهل النعيم بدوامه زيادة في نعيمهم ورفعاً لتشويش ممكن وقوعه من خوف سلب ما هم فيه فيضاعف بتحقيق ذلك السرور عليهم ومثل ذلك أهل الشقاوة والعذاب تضاعفت الأحزان عليهم واشتد ألَمُ العذاب عليهم لعلمهم بدوامه تضاعفت الحسرات والآلام
والجواب عن الثاني هو أن فيه لأهل السرور تأكيداً في الإخبار حتى لا يبقى فيه احتمال بوجه من الوجوه ويحصل لهم بذلك أكبر النعيم وهو القطع بدوام نعم المنعم عليهم بلا تعب
۱ سورة الدخان الآية ٥٦ سورة البقرة الآية ١٦٢
1415
يلحقهم ولا ألم بوجه من الوجوه المحتملة بحسب ما عهدوا في هذه الدار لأن نعيمها - وإن دام لأحد ـ فالموت يقطعه فأخبروا أن ذلك النعيم بخلاف هذا لأن دوامه لا ينقضي ولا لهم فيها
موت يقطعه
ومثل ذلك في ضده أهل دار الشقاء لأن يحصل لهم العلم أن عذاب تلك الدار دائم وأنه ليس كعذاب هذه الدار لأن عذابها - وإن دام - فالموت قاطعه كما قال السحرة لفرعون إِنَّمَا نَقْضِي هَذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا ۱ وهي منقطعة فلا نبالي بعذابك افعل ما بدا لك هذا بلسان الحال الذي هو أبلغ من لسان المقال وأنه ليس هنا موت يقطع لكم ما أنتم فيه فأيقنوا بدوام عقاب الله لهم ونقمه
ثم مع هذا القدر من التحقيق في الإخبار لم يكفهم ذلك حتى زيدوا بأن يؤتى بالموت في مثل كبش وينادى لأهل الدارين جميعاً هل تعرفون هذا فكلهم يقرون أنهم يعرفونه فيذبح عند ذلك بين الجنة والنار ٢ وكل من أهل الدارين يعاينونه حتى يرجع لهم العلم بما قيل لهم من الخلود وعدم الموت عين يقين فينقطع إذ ذاك رجاء أهل النار من رحمة أرحم الراحمين ويرجع لأهل الجنة بدوام نعم الله عليهم ورحمته لهم عين يقين وفي هذا الحديث تضمن الإخبار الحثّ على الأعمال الموجبة لدار الخير والإحسان والنهي والتحذير عن الأعمال التي توجب الحيرة والهوان وهو حقيقة فقه الحديث وفائدته العظمى لمن فهم وإلا كان حجة عليه لا له أَوَلَمْ نُعَمِرَكُم مَّا يَتَذَكَرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَ كُمُ النَّذِيرٌ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ ۳
الحميد
جعلنا الله ممن ذُكِّر فوعى وسبقت له الرحمة بدار الرضى لا رب سواه وهو الولي
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى اله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة طه من الاية ۷
الأحاديث المروية في خلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وذبح الموت كثيرة منها ما رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي به منادٍ يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا هو الموت وكلهم قد راه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد راه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وَأَنذِرَ هُوَ يَوْمَ الْحَسَرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وأشار بيده إلى الدنيا
۳ سورة فاطر من الاية ۳۷
١٤١٦
۷۰-
حديث توبيخ الكافر يوم القيامة على عدم إيمانه بالله تعالى
عَن أنس بن مالك رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ يَقولُ الله تَبَاركَ وتَعالى لأهْوَنِ صلى الله عليه وسلم أهلِ النَّارِ عَذاباً يَومَ القِيامَةِ لَو أَنَّ لَكَ ما في الأرضِ مِن شَيءٍ أَكُنتَ تَفتدي بِهِ فَيقول نَعَم فَيَقولُ أَرَدتُ منكَ أهْوَنَ مِن هَذا وَأنتَ في صُلب آدمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً فَأبيت إلا أن تُشرك بي
ظاهر الحديث التوبيخ لأهل النار يقول الله جل جلاله لأقلهم عذاباً لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقول أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي والكلام عليه من وجوه منها أن يُقال من هو المتكلم مع هذا وما معنى أردت منك وما الحكمة في أن يكون الكلام مع أقلهم عذاباً وما الفائدة لنا في الإخبار بهذا
أما قولنا من هو المتكلم مع هذا هل هو الحق سبحانه أو غيره عنه ممن شاء من ملائكته أو غيرهم احتمل الوجهين لأن العرب تقول كلم زيد عَمْراً وما كلمه إلا غلامه أو رسوله فإذا أرادوا الحقيقة في أنه كلمه بنفسه قالوا كلّمه بنفسه وقد يطلقون المجاز على الحقيقة فيقولون كلمه ويريدون بنفسه فإذا لم يُؤكَّد الكلام بالمصدر احتمل الحقيقة والمجاز وإذا أكدوه بالمصدر كان حقيقة ولا يمكن فيه المجاز والكلام هنا غير مؤكد فهو محتمل للوجهين معاً والقدرة صالحة لذلك
وأما قولنا ما معنى أردت فهل يراد بها الإرادة حقيقة أو هي بمعنى ثان الظاهر أنها بمعنى الأمر لكن لا يخلو أن يكون فيها من معنى الإرادة شيء لقوله وأنت في صلب ادم لأنه لو كانت الإرادة على بابها كان المقصود منها الإشارة إلى ما أخذه علينا من العهد ونحن في
١٤١٧
ظهر آدم عليه الصلاة والسلام وأخبرنا إذا بمراد الله عزّ وجلّ وهو أن نعبده ولا نشرك به شيئاً
وأقررنا بذلك وأشهدنا على أنفسنا به
فتلك الإرادة التي أخبرنا بها هي المقصودة بهذه العبارة ثم أكدت الإرادة بعد علينا بإخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام وطلب الوفاء بها فمنها ما أخبرنا نحن به في كتابه وهو قوله عزّ وجل ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّنَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَستُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ۱ وقوله عزّ وجلّ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أن يُطْعِمُونِ ٢
فالإرادة هنا لا تكون إلا بمعنى الأمر لأنه سبحانه إذا أراد شيئاً كان لا راد لأمره إذ المُلك له سبحانه وتعالى ولا يكون في ملكه ما لا يريد ولو أراد الله سبحانه وتعالى إسلام الكافر لكان مسلماً لكن لم يرد عزّ وجلّ منه مع أمره له به فالفرق بين الأمر والإرادة ظاهر بين وقد يعبر بالإرادة عن الأمر وذلك موجود في لسان العرب وعلى هذا تأولوا قوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الحِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ أي لأمرهم وأنهاهم وإلا فلو كان خلقهم لإرادة العبادة منهم لكانوا عن آخر هم كذلك لأنه لا يقع في الوجود غير ما يريد سبحانه وتعالى والله الموفق
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون بأن العبد له إرادة ولولا ذلك ما اقتضت الحكمة تكليفه لكن هي متعلقة بإرادة الله عزّ وجلّ وحكمته في عباده ويشهد لذلك قوله عزّ وجلّ ﴿ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ۳ فأثبت عزّ وجلّ بهذا لعبده مشيئته ثم أعقب ذلك بقوله تعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ﴾ ٤ فعلق عزّ وجلّ مشيئة عبده بمشيئته سبحانه فصح بمدلول الآيتين التكليف بمقتضى الحكمة ونفوذ حكمه عزّ وجلّ في عباده بالحق الواجب وتصرفه جلّ جلاله فيهم بالقدرة القاهرة التي لا يبقى لأحد حجة بل الله الحجة جميعاً فيا معشر البطالين والملحدين ﴿ فَانْفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَنِ ﴾ ٥
وفي سكوت هذا المعذب المخاطب الذي كذبت دعواه دليل على ظهور حجة الله عزّ وجلّ على عباده في الآخرة ولا مخالف منهم في ذلك يؤخذ ذلك من أنه من يكون يبلغ به شدة العذاب
1 سورة الأعراف من الآية ۱۷
سورة الذاريات ٥٦ و ٥٧ ۳ سورة المزمل من الاية ۱۹ ٤ سورة الإنسان من الاية ۳۰ ٥ سورة الرحمن من الاية ۳۳
١٤١٨
أن لو كان له ما في الأرض جميعاً افتدى به فسكت إذ ذاك ولم يدع حجة فلو كانت له حجة يقدر أن يدفع بها عن نفسه ما سكت عنها لا يشك في ذلك من له عقل ولذلك جاء أنه لا يدخل أحد
النار إلا وهو راض عن الله عزّ وجلّ لما يرى من ثبوت الحق عليه وأنه مستحق لما يفعل به
وأما قولنا ما الحكمة في الكلام مع من هو أقل عذاباً منهم فهو إعلام لنا بتهويل الأمر وعظمه فإنه إذا كان هذا حال من هو أقل عذاباً فما بالك بالذي هو أشدهم عذاباً لا يجد ما يفتدي به أن لو قُبِلَ فلا شيء يعدل ما هو فيه وقد يمكن أنه لا يقدر أن يتكلم للهول الذي هو فيه وما يوافق هذا الحديث من الكتاب قوله عزّ وجلّ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا نُقْبَلَ مِنْهُم ١
وأما قولنا ما الفائدة بأن أخبرنا بذلك فلوجوه منها الإشارة إلى حقارة الدنيا وجميع ما فيها من متاعها لأنه إذا كانت هي وجميع ما ذكر لا يؤخذ فداء عن أقل أهل النار عذاباً فأي شيء خطرها وقد جاء ما يوضح ذلك ويزيده بياناً وهو أنه إذا كان يوم القيامة تقول الدنيا يا رب أعطني لبعض أوليائك فيقول لها جلّ جلاله اذهبي بلا شيء أو كما ورد وقد قال لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء ٢ أو كما قال عليه السلام ومنها التحذير عن هذا الأمر الخطر الذي لا يؤخذ فيه فداء ولا يخلص منه شيء ولا يقدر عليه وفيه حض على الوفاء بالعهد الذي قد ألزمناه أنفسنا وأن هذا عاقبة مَنْ نَكثه وفيه الإعلام بعظم قدر الإيمان بالله تعالى وأنه هو الذي ينجي من ذلك الأمر العظيم لا بغيره ولو كان ما عسى أن يكون قال الله عزّ وجلّ في كتابه و إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء ۳
وفيه أيضاً الإخبار بتيسير الإيمان على من وفق لأنه ليس هو إلا الاعتقاد بالقلب وهذا شيء لا تعب فيه ولولا ذلك ما كان الله عزّ وجلّ يقول وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا ٤
۱ سورة المائدة من الآية ٣٦
رواه الترمذي والضياء في المختارة عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه بلفظ تعدل بدلاً من تساوي
و کافرا بدل من الكافر ۳ سورة النساء من الآية ١١٦
٤ سورة النساء الآية ۳۹
وفيه دليل على عظيم قدرة الله تعالى يؤخذ ذلك من هذا الخير العظيم القدر الخفيف الحمل لا يقدر عليه من حرمه الله منه ويجده عليه أثقل من الجبال الرواسخ فسبحان من خص بالسعادة من شاء بفضله وقضى على من شاء بالشقاوة بعدله
وفيه إشارة إلى أهل الإيمان الذين مَنَّ الله عليهم به بفضله إلى أن يشكروه على نعمة الإيمان لعلها تبقى عليهم ويزدادون منها لأن الله عزّ وجلّ يقول ﴿ لَمَن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَبِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ۱
وفيه دليل على أن القدرة طبعت البشرية على طلب راحة نفوسها يؤخذ ذلك من أن هذا المعذب لو وجد ما عسى أن يجد كان يبذله في راحة نفسه وهذا المطلب هو الذي أشقى أهل الدنيا لأنهم أرادوا ما طبعت عليه النفوس من طلب راحتها فلم يحسنوا طلب ذلك وأرادوا استعجال الراحة في غير موضعها فلحقهم التعب في الدارين معاً
وجاء أهل السلوك والتوفيق فأبصروا مواطن الراحة وكيف الطريق إليها فعملوا على ذلك فنالوا الراحة في الدنيا والآخرة حتى إنه قيل لبعض المتعبدين إنك كثيراً ما تتعب نفسك فقال لهم راحتها أريد وقال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله مساكين أهل الدنيا طلبوا الراحة فأخطؤوا الطريق فاستقبلهم العذاب يُبيّن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن والرغبة في الدنيا تُكثِر الهَمَّ والحَزَن أو كما قال عليه السلام
جعلنا الله ممن رزقه راحة الدنيا والآخرة بمنّه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة إبراهيم من الآية ٧
جزء من حديث أخرجه القضاعي عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٤٢٠
۷۱
حديث النهي عن النذر
عَن ابْنِ عُمَر رضي الله عَنهُما قالَ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّدْرِ وقالَ إنه لا يَردُّ شيئاً وإِنَّما يُستخرَجُ بِهِ مِن مالِ البَخيل
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما النهي عن النذر والآخر إخباره أن النذر لا يرد شيئاً من القدر وإنما يستخرج به من مال البخيل والكلام عليه من وجوه
منها أن يُقال هل النهي على الوجوب أو الكراهية ومنها هل قوله هذا على عموم النذر أو من النذر المعيَّن وما معنى يستخرج به من مال البخيل ومن المستخرج له ومن هو البخيل وأي شيء العلاقة التي نعرفه بها وما معنى لا يرد شيئاً وما الشيء الذي لا يُرَدّ
أما قولنا هل النهي على التحريم أو الكراهية اللفظ يحتمل لكن ما جاء في الشرع بإلزام النذر لمن نذره والوفاء به يدل على أن ذلك ليس بحرام لأنه لو كان حراماً ما لزم صاحبه الوفاء ه لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ ۱ فمدحهم بالوفاء بالنذر
وأما قولنا هل هذا على العموم في جميع وجوه النذر أو هو على الخصوص في وجه من وجوهه فاعلم أن النذر على خمسة وجوه
منه حرام لا يجوز وما لا يجوز فعله لا يجوز نذره ولا الوفاء به وقد جاء لا نذر في معصية ٢ ومن نذره هل تلزمه كفارة يمين أم لا قولان للفقهاء
۱ سورة الإنسان من الآية ٧
٢ أخرجه الطبراني والضياء عن عبد الله بن بدر رضي الله عنه
١٤٢١
ومنه نذر لا يلزم الوفاء به ولا على قائله شيء وهو نذر ما لا يملكه لقوله صلى الله عليه وسلم لا نذر فيما لا يملك ١ أو كما قال عليه السلام
ومنه نذر مباح إن شئتَ فعلتَ وإن شئتَ لم تفعل ولا شيء عليك وهو ما نذرتَ من الأفعال المباحات مثل أن تنذر أن تمشي اليوم للسوق أو تلبس الثوب الفلاني أو ما في معناه ومنه نذر مستحبّ وهو أن تنذر الله طاعةً ولا تعلّقها بشيء تطلبه من الله تعلى يفعله لك
فيلزم الوفاء به
والدليل على لزوم ما كان منه طاعة بغير عوض تطلبه وترك ما هو غير طاعة الله ما جاء عنه أنه مرَّ على ناس مجتمعين على شخص قائم في الشمس فقال ما بال هذا فقالوا إنه نَذَرَ الاّ يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم فقال مُروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صومه ٢ أو كما قال عليه السلام فكل ما كان من طريق المباح وكان عليه فيه مشقة لم يلزمه منه شيء والذي كان الله فيه طاعة وهو الصوم أمره بإتمامه
وأما المكروه منه فهو الذي [جاءت] الإشارة إليه في هذا الحديث وهو الذي ينذر النذر وهو يعتقد أنه يرد عنه شيئاً يخافه أو يجلب إليه شيئاً يحبه ويعتقد أن ذلك يؤثر على زعمه فهذا الأمر لا يرد عنه شيئاً يكرهه ولا يقرب إليه شيئاً يحبه فأما إن كان نذره ذلك على طريق الشكر الله وهو أن يقول إن قدر لي بكذا وكذا لشيء يحبه أو يدفع عني لشيء يكرهه فلله علي شكر هذه النعمة كذا وكذا لشيء يسميه من أنواع البر فذلك من قبيل الحسن
وقد فعله علي وفاطمة رضي الله عنهما فإنه مرض الحسن والحسين فقالا إن شفاهما الله تعالى نصوم شكراً الله تعالى ثلاثة أيام فلما شفاهما الله وأخذا في صوم نذرهما فعند فطرهما جاء مسكين إلى الباب فأخرجا له جملة طعامهما وطويا ليلتهما وأصبحا صائمين فعند فطرهما أيضاً جاءهما يتيم فأخرجا له جميع طعامهما وطويا الليلة الثانية فأصبحا صائمين فعند فطرهما جاءهما أسير فأعطياه أيضاً جميع طعامهما وطويا الليلة الثالثة فأنزل الله عزّ وجلّ في حقهما يُوفُونَ النَّدْرِ وَتَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرمُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَيْهِ مِسْكِينَنا وَبَتيها وَأَسِيراً إنّما نُظمتكُم لوجه الله
1 أخرجه الترمذي بلفظ لا نذر لا بن ادم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك أخرجه البخاري وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ بينا النبي الهلال يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي الله مُرُوهُ فليتكلم وليستظل وليعقد وليتم صومه
صلى الله عليه وسلم
١٤٢٢
لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّيْنَا يَوْمًا عَبُوسًا فَتَطَرِيرًا فَوَقَلَهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَلَهُم نَضَرَةً و سرورا 1
وأما قولنا ما معنى يستخرج به مال البخيل ومن المستخرج له ومن هو البخيل وما علامته فأما البخيل شرعاً فهو الذي يبخل بزكاة ماله وما فرض عليه هذا قول فقهاء الدين وأئمته وأما من المستخرج له فالقدر المحتوم عليه بوساطة الشيطان وتسويله لأن الله عزّ وجلّ جعله واسطة لكل شر مقدور كما جعل الرسل عليهم الصلاة والسلام الوسائط إلى كل خير مقدور وكذلك متبعوهم بإحسان إلى يوم الدين
وأما قولنا ما معنى استخراجه فهو ذهابه عن يده
وهنا إشارة إلى أنه من كان على السنن المباركة والطريقة المرضية فلا يخرج ماله إلا فيما يُرضي ربه ويعود عليه نفعه في الدارين ومن كان غير مُمْتَثِل لأمر ربه يخرج ماله إمّا فيما لا يُرضي ربه أو فيما لا ينفعه حتى تكون النفقة بحسب الحال الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَتِ وَالطَّيِّبَتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَتِ أَوَلَكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يشهد ذلك قوله من جمع مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر۳ أو كما قال ٢ صلى الله عليه وسلم
عليه السلام
وأما قولنا لا يرد شيئاً ما معناه فهو بمعنى أنه لا يرد عنه شيئاً قُدّر عليه وكما لا يرد عنه شيئاً قدر عليه كذلك لا يُوصل إليه شيئاً لم يُقدّر عليه بخلاف الصدقة لأنه قال ادفعوا البلاء بالصدقة واستعينوا على قضاء حوائجكم بالصدقة ٤
وهنا بحث هذه الصدقة تدفع البلاء وتأتي بالحوائج والنذر صدقة أيضاً ولا يرد شيئاً من البلاء ولا يأتي بشيء من الخير لأن تيسير الحوائج من أعلى وجوه الخير والجواب من وجهين أحدهما أن الأحكام الله سبحانه يجعل ما يشاء كما يشاء وكيف يشاء وليس ذلك لغيره فمن جعل لشيء من الأشياء حكماً من الأحكام من تلقاء نفسه أو رأيه لم يصح من ذلك شيء فشاء
۱ سورة الإنسان الآيات ۷ - ۱۱ سورة النور من الآية ٢٦
۳ أخرجه القضاعي في مسند الشهاب عن أبي سلمة الحمصي لا صحبة له وفيه أقوال كثيرة في وضعه والنهاوش المظالم والإجحافات بالناس والنهاير الحفر بين الآكام مفردها نُهْبُرَة
٤ انظر تفصيل الكلام عنه في الحديث ٢٦٨
١٤٢٣
الحكيم أن جعل للصدقة هذه المنزلة المباركة ولا يلهم إليها إلا من سبقت له سابقة خير ولم
يجعل للنذر الذي هو من قبيل المكروه - كما تقدم في الفائدة - شيئاً غير استخراج مال البخيل والوجه الثاني من طريق النظر وكيف يجب أن يكون أدب العبودية مع الربوبية وهو أنه لما أمر الله عزّ وجلّ بالصدقة وأخبر أنها تردّ البلاء فجاد هذا العبد بمال الذي هو معلق بقلبه تصديقاً لوعد مولاه ورجاء في فضله في دفع ما يخافه أو تيسير ما يرجوه فجاد الله تعالى عليه بما أمله من ذلك بفضله وجاء صاحب النذر المكروه وأساء الأدب مع مولاه وقال إن أنتَ ما أخافه من كذا أو بلغتني ما أريده من كذا الشيء يسمّيه فإني أعطيك من مالك الذي خولتني وقد حبست منه الحقوق التي أمرتني بها كذا ۱ فلسوء أدبه لم ينفعه نذره شيئاً وأخرج ماله عن يده ولم يبلغ به ما أمله عقاباً على سوء أدبه وتعديه في منع ما أمره به
دفعت
عني
ويترتب على هذا من الفائدة أنه لا ينال ما عند الله إلا بما أمر به ونهى عنه وحدّ وشرع من
الواجبات والمندوبات والمستحبات لا بغير ذلك
جعلنا الله ممن هدي إلى ما به أمر وجنبنا البدع والآثام بمنه وفضله إنه ولي ذلك امين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ هذا هو المفعول الثاني لأعطي
١٤٢٤
حديث الأمر بإتمام الصيام لمن أكل ناسياً
عَن أبي هريرة رضي الله عَنهُ قال قالَ النَّبِيُّ مَن أَكَلَ ناسِياً وَهُوَ صائِم فَلْيُتِمَّ صَومَهُ فإِنَّما أطْعَمَهُ الله وسَقاهُ
ظاهر الحديث يدل على أن الأكل ناسياً وهو صائم أنه لا شيء عليه في ذلك ويمسك بقية يومه وصومه مجزىء عنه والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على العموم في الفرض والنفل أو في النفل فقط وهل يقصر ذلك على الأكل وحده أو يتعدى إلى غيره من مفسدات الصوم إذا فعلها ناسياً وهل يكون ذلك في المرة الواحدة في اليوم الواحد وإن تكرر الفعل منه مراراً في اليوم الواحد هل ينتقل الحكم إلى حكم ثان أو الحكم واحد وإن تكرر ذلك منه مرارا في اليوم الواحد وهل هذا أيضاً لمن يندر منه النسيان ولمن هو مستنكح بالنسيان على حد واحد أو هذا خاص لمن يندر منه النسيان لا غير وأما قولنا هل ذلك على العموم في صوم الفرض والنافلة أو لا فقد اختلف العلماء في
1
ذلك فمذهب الشافعي ومن تَبِعَه أن ذلك على العموم في الفرض والنفل ومذهب مالك ومن تبعه أن ذلك في النفل لا غير وتعليله في ذلك - والله أعلم - الأخذ في الجمع بين الآية والحديث
فأما الآية فقوله عزّ وجلّ و فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَّ فأوجب الله عزّ وجلّ القضاء على المريض والمسافر والناسي كالمريض لأن النسيان من جملة
الأمراض إذ إنه عاهة تلحق الذهن الذي هو المقصود من الشخص حتى ينسى ما هو مشروع له
ومكلف به فتقع منه المخالفة في ذلك والنسيان من جملة ما امتحن به بنو آدم وقد قال الله عزّ
۱ مستنكح مغلوب مُسَلّط عليه يقال استنكح النوم عينيه غلبهما النوم
سورة البقرة من الآية ١٨٤
١٤٢٥
وجل في حقه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ﴾ ١ قال أهل العلم في ذلك سلط عليه النوم والنسيان فكانا عاهة لحقته في حسن خلقته لحكمة اقتضتها حكمة من لا يشبهه شيء
وأما الحديث فهو الاحتمال الذي يتطرق للحديث الذي نحن بسبيله عند قوله عليه السلام فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه هل هذا الإتمام لا يكون معه إعادة لعدم قصده الأكل
عنه
والشرب أو هذا الأمر من أجل حرمة الصوم لئلا يستبيح الأكل لكونه قد أكل ناسياً وانقطع صومه فيتم اليوم مستصحباً للأكل والشرب فأمره عليه السلام باستصحاب الإمساك - وإن كان قد أكل - لحرمة الصوم ولعدم قصده الأكل ويبقى الأمر بالقضاء لذلك اليوم بالقاعدة المتقدمة وأصل مذهبه سدّ الذريعة وهو الأخذ بالأحوط في النوازل وهو أبرأ للذمة واستعمل الحديث على ظاهره في النافلة فوقع له الجمع بين الآية والحديث ومن أجل الخلاف أيضاً في نسخ القرآن بالسنة فيقوي ما ذهب إليه بلحظ هذه الأمور
وأما قولنا هل يقصر ذلك على الأكل وحده أو يتعدى إلى غيره من مفسدات الصوم إذا فعلت نسياناً فالكلام على هذا يحتاج إلى تقسيم المفسدات للصوم والمتفق فيها والمختلف فيها فاعلم أن مفسدات الصوم ثلاثة الأكل وما في معناه من الشرب أو ما يجري مجراهما وهذا متفق عليه وأنه قد يقع بالقصد وقد يقع بالنسيان وأما الجماع فهو يفسد الصوم بذاته وهل يقع ذلك على طريق النسيان أم لا قولان وذلك للخلاف في أسبابه هل حكمها حكم الجماع نفسه أم لا قولان والثالث الغيبة وهذا مختلف فيه فالجمهور على أنها ليست تفطر الصائم بل هي من جملة الكبائر وهي في حق الصائم أشد ومن العلماء من يقول إنها مفسدة للصوم
وإن كانت من المفسدات للصوم فليس الواقع فيها معذوراً بالنسيان فلا يدخل تحت ما نحن بسبيله وبقي الكلام على الأكل والجماع لا غير فمن يقول إن الجماع يقع بالنسيان كما يقع بالأكل والشرب فيلزمه تعدي الحكم وهو مذهب مالك رحمه الله ومن تبعه فإنه يجعل في عمده وعمد الأكل والشرب القضاء والكفارة وفي نسيانه ونسيان الأكل والشرب القضاء لا غير ومن قال إن النسيان لا يمكن في الجماع وهو مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه فلا يجري فيه هذا الحكم ويكون حكمه كله عنده حكم العمد فيلزمه القضاء والكفارة وأما قولنا هل ذلك لمن وقع منه في اليوم الواحد مراراً أو ليس إلا لمن وقع ذلك منه مرة
1 سورة التين الآيتان ٤ و ٥
١٤٢٦
واحدة في اليوم الواحد اللفظ يقتضي العموم مهما وقع ذلك منه على وجه النسيان حقيقة فالعلة
بعينها موجودة فالحكم كالحكم على حد واحد
وأما قولنا هل ذلك على العموم أيضاً يتناول كل نسيان سواء أكان نادراً ما يكون في إنسان أو كان مستنكحاً به ظاهر اللفظ يقتضي العموم وما يعرف من قواعد الشرع من الأحكام خلاف ذلك لأن الأحكام لم تأت إلا على الغالب من أحوال الناس وعاداتهم الجارية والعادة من الناس في أمر النسيان إنما تصدر من الشخص مرات يسيرة وأما الذي هو مستنكح به فنادر فينبغي أن يحتاط لذلك لأنه ذلك علة بنفسها
ولوجه اخر وهو مما عرف من فعله لو أنه لما سُحِرَ وكان يظن أنه فعَل الشيء ولم يكن فعله جعل يسأل أهله هل فعلتُ كذا أم لا فيعمل بحسب ما يقولون له في ذلك ١ فدل بهذا أن هذا هو حكم الذي يستنكحه السَّهو فبيّن عليه السلام بما فعله هنا هذا الحكم كما بيّنه عليه السلام بقوله في الذي يندر منه السهو ولذلك قال الفقهاء في الذي لا يمكن أن يعقل من طهارته أو صلاته شيئاً يبني عليه لكثرة استيلاء السهو عليه أنه يجعل شاهدين عند تلبسه بالعبادة ويعمل على حسب ما يقولان له
وأما قولنا هل هذا على الندب أو الوجوب فهو موضع بحث والخلاف فيه محتمل
وفيه دليل على أن المتكلم ينبغي له مراعاة من يفهم ومن فهمه بطيء ليجتمع للكل الفائدة المقصودة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام من أكل وهو صائم ثم قال في آخره فإنما أطعمه الله وسقاه واللفظ بـ الأكل يتضمن الشرب لأنه كله أكل ومما يبين ذلك ما روي في الحديث أنه كان إذا أكل طعاماً وفرغ منه حمد الله وقال اللهم أبدلنا خيراً منه وإذا أكل لبناً وفرغ منه قال اللهم زدنا منه ۳ واللبن مما يشرب فسمى شربه أكلا لكن لما كان الأكل يحمل على ظاهره فيما يؤكل دون ما يشرب أتى في الحديث بقوله فإنما أطعمه الله وسقاه ولهذا وقع الخلاف بين العلماء في الحديث الذي ذكر فيه أنه أنتيل الهلال لو بصبيا لم يأكل الطعام قبال على ثوبه فقال بعضهم لم يكن شرب من لبن أمه شيئاً وأتي به ليكون أول ما يدخل جوفه ريق وقال بعضهم معنى لم يأكل الطعام أنه كان يرضع اللبن ولم يأكل الطعام الذي هو
الله عنها
1 أخرج الإمام أحمد والشيخان والنسائي والحاكم والبيهقي في دلائل النبوة عن السيدة عائشة رضي قالت سُحِرَ رسول الله الا الله وحتى إنه ليخيّل إليه فعل الشيء وما فعله الحديث ٢ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن السني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا خيرا منه وإذا شرب لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن
١٤٢٧
خلاف اللبن فأزال عليه السلام بقوله فإنما أطعمه الله وسقاه الخلاف في ذلك حتى اجتمعوا
في فهم الفائدة جميعاً فسبحان من أيده بالفصاحة والبلاغة
وهنا إشارة في النظر في هذا الحديث وما هو في معناه وفي المعارض له وما يترتب على ذلك من الفائدة لمن له فهم وعقل راجح انظر كيف عذرنا بالنسيان في هذه العبادة العظمى وأبقى لنا حكمها وما فيها من الخير والأجر مع وقوع المخالفة منا بالفعل لذلك وكذلك إذا تتبعت قواعد الشريعة تجدها بفضل الله قد عذرنا في النسيان وما عليه استكرهنا بمثل قوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ۱ أو كما قال عليه السلام وقال الله سبحانه في شأن الإيمان الذي هو أصل الدين إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَنُ بِالإِيمَن وهذا كله تجده في الأمور ﴿
التي بين العبد وبين مولاه وأما المعارض لهذا فهو ما جاء في عدم العذر بالنسيان في الأمور التي بين العبيد فتجد قد أُخِذنا فيها بالنسيان والخطأ يشهد لذلك قوله الخطأ والعمد في أموال الناس سواء وما جعل في قتل الخطأ من غُرم العاقلة دِيَة المقتول وما جعل في جرح الخطأ من غُرم أرْشِه بدلاً من القصاص فيه وما جعل في الغيبة من الإثم في الخطأ والعمد سواء فلم نسامح في الحقوق التي بيننا كما سومحنا في الحقوق التي بيننا وبين مولانا جل جلاله على ما فسرنا قبل ويترتب على ذلك من الفائدة المحافظة على حقوق الغير لأن تبقى ذمته منها بريئة فيكون القصاص أهون عليه فإن وفق مع ذلك لتوفية حقوق مولاه فتلك الدرجة العليا وإن نقصه منها شيء على طريق النسيان أو ما غلب عليه بالاستكراه فالعذر له عند مولاه قائم وإن كان ذلك بالقصد فالخروج منه يسير بفضل الله وهو وقوع التوبة ولو عند آخر نَفَس بخلاف حقوق الغير فإن الخلاص منها إذا ترتبت في الذمة عسير جدا أعاذنا الله من ذلك بمنّه
ولهذا كان أهمّ ما عند أهل السلوك التحفظ على براءة الذمة وحينئذ يأخذون في العبادة والترقي وإلا عَسُرَ عليهم الأمرُ من هذا الباب وفيما ذكرناه دليل على استغناء الله عزّ وجلّ عن عبادة العابدين وتنزيهه عن الضرر بمعصية العاصين لأنه لو كان محتاجاً لشيء من ذلك أو يتضرر بشيء منه تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً لكان الأمر بالعكس فيكون الذي بين العبد وربه الحكم فيه أشد من الذي بين العباد بعضهم مع بعض فسبحان من بذاته تنزّه عن الغير وبها جلّ وتعالى وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الطبراني عن ثوبان رضي الله عنه سورة النحل من الآية ١٠٦
١٤٢٨
- ٢٧٣ -
حديث حكم جلد الميتة بعد دبغه ومذهب العلماء في
عَن سَودَة ١ زَوجِ النَّبِيِّ الله قالت مانَت لَنا شَاة فَدَبَعْنا مَسكَها ثُمَّ ما زِلنا نَنبِذُ ۳ فيهِ حَتَّى صَارِ شَنا ٤
* * *
ظاهر الحديث يدل على أن الدباغ يطهر جلد الميتة ويجوز استعماله والانتفاع به والكلام
عليه من وجوه
خاص
منها أن يقال هل هذا التطهير عام أو هو في وجوه مخصوصة وهل الانتفاع به عام أيضاً أو
أما قولنا هل الطهارة فيه عامة أو خاصة ففيه خلاف بين العلماء وإن كان اللفظ محتملاً لذلك فمذهب مالك ومن تبعه أنها خاصة ومذهب الشافعي ومن تبعه أنها عامة ويقوي مذهبه في ذلك بقوله في حديث غيره أيما إهاب دبِ فقد طهر ٥
۱ سودة بنت زمعة القرشية إحدى أزواج النبي لا الهلال لو كانت في الجاهلية زوجة السكران بن عمرو بن عبد شمس وأسلمت ثم أسلم زوجها وهاجرا إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم عادا إلى مكة فتوفي السكران فتزوجها النبي بعد موت خديجة وقبل الهجرة بثلاث سنوات وكانت طويلة جسيمة ووهبت نوبتها من القسم لعائشة رجاء أن تموت في عصمة النبي اهل و هفتم لها ذلك توفيت في المدينة سنة ٥٤هـ الأعلام ٢١٤/٣ وشذرات
الذهب ١/ ٣٤
المسك الجلد
۳ تنبذ أي نتخذ نبيذاً والنبيد يطلق على سائر الأشربة من الطبيخ والعصير وكل ما نبذ في الماء ونقع فيه فهو نبيد وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنه لو كان يُنبذ له ليلا فيشر به غدوة ويُنبذ له غدوة فيشر به عشيّة وحدیث سودة وهو حديث الباب يعني أنهم ما كانوا ينبذون إلا ما يَحِل شربه ومع ذلك كان يطلق عليه اسم نبيذ فتح الباري ٥٧٨/١١ ٤ الشن القربة الخلق الصغيرة
٥ أخرجه الشافعي وعبد الرزاق والإمام أحمد والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي عن ابن عباس رضي الله
عنهما
١٤٢٩
وأما قولنا هل الانتفاع به عام في كل الوجوه أو خاص ففي ذلك خلاف فمذهب الشافعي
ومن تبعه أن الانتفاع به عام في كل الوجوه وبيعه جائز ومذهب مالك ومن تبعه أن الانتفاع به خاص في اليابسات ولا يستعمل في المائعات إلا في الماء وحده ومن أجل هذا الحديث جعل قولها فتنبذ فيه مبيناً ومخصصاً للوجه الذي يستعمل فيه وعند الشافعي كونهم استعملوه لأن ينبذوا فيه بحكم الوفاق وأن ذلك لا يعتبر
وفيه دليل على أن تملّك المال واقتناء الماشية لا يخرج عن الزهد لأن سيدنا قدوتهم وقد كانت الشاة عندهم حتى ماتت حتف أنفها وفيه رد على من يزعم أن الزهد إنما هو بالخروج عن جميع ما يمتلك وهذا تحكم بغير دليل وقد بين هذا أتم بيان بقوله ليس الزهد بتحريم الحلال وإنما الزهد بأن تقطع إياسك مما في أيدي الناس وأن تكون بما في يد الله أوثق منك مما في يدك ۱ أو كما قال عليه السلام
فحقيقة الزهد أمر قلبي والإشارة في ذلك حتى لا يكون في القلب ميل إلى الدنيا ولا إلى حطامها وإن كان في يدك منها شيء كما قيل في وصف القوم استوى عندهم مَدَرُها وذهَبُها وفِضَّتُها وجَميعُ متاعها أي أنهم لا يبالون بشيء من ذلك وإن تصرفوا فيه فبحسب امتثال الأمر
كما ذكر عن بعض السادة أنه كان له غنم وبقر فسمع بعض الناس عنه فأتى لزيارته فدخل عليه والغنم التي كانت له والبقر قد خرج بها الرعاة وهو مشمر يجعل العجاجيل في بيت ويغلق عليها وسخال الغنم في بيت ويغلق عليها وهو يرمي لدجاج كانت عنده علفها فقال الشخص في نفسه هذا الذي يوصف بالزهد وهو يحرص على الدنيا بمثل هذا الحرص فرفع إليه رأسه وقال يا بني ليس هذا هو الحرص وإنما أنا أرفق بهؤلاء الضعاف فإن أمهاتهم قد خرجوا وهم لا يطيقون المشي معهم وهؤلاء أعطيهم قوتهم فإني عنهم مسؤول وأخبره بأشياء كانت في خاطره مكنونة فاستحيا ذلك الشخص وحصل له حال مبارك
وإنما هرب من هرب من رؤية حطامها وتملكه لأنه رأى نفسه أنه لا يقدر أن يُعرِض عما في يده فتركه من أجل تلك العلة هذا حال غير المتَمَلكين وأما من تركه وهو يظن أن ذلك عين الزهد فليس الكلام عليه وقد أقمنا عليه الحجة قبل
1 أخرجه الحاكم وقال غريب ضعيف وأخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي في الزهد عن أبي ذر وأبو نعيم في الحلية عن أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ الزّهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يدي الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها
أرغب فيها لو أنها أبقيت لك وفي رواية البيهقي زيادة وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء
كذا بضمير العاقلين هنا وفيما بعد
١٤٣٠
وفيه دليل على أن من السنة تنمية المال يؤخذ ذلك من أخذهم جلد الشاة ودبغه ولم يتنزهوا عنه مع كثرة كرمهم وزهدهم رضي الله عنهم أجمعين وقد جاء هذا نصاً منه بقوله إن له الله نهاكم عن إضاعة المال وكثرة السؤال والقيل والقال ١ أو كما قال عليه السلام وفيه دليل على أن من السنة استعمال أثر الحكمة إذا قُدِر عليها يؤخذ ذلك من قولها ننبذ فيه فإن ذلك مما يوافق هواهم فهذا استعمال أثر الحكمة و لقد كان له الا في وقت غير هذا يقعد الشهر والشهرين وليس لهم طعام إلا الأسودين التمر والماء
متبع
ويترتب على هذه الآثار المختلفة عنه عليه الصلاة والسلام في تطوير أحواله المباركة أن السنة إذا وجد العبد بما يفعل به أثر الحكمة أن يستعمل من الأطعمة والأشربة ما يصلح به مزاجه لأن يكون ذلك عوناً له على عبادة الله لأن ذلك الأقرب إلى الله عزّ وجلّ وهو في ذلك للسنة وإذا لم يجد على ذلك قدرة لا يشغل نفسه بطلب ذلك والاهتمام به إلا أنه يرضى بما تيسر له في الوقت من رخاء وشدة ويوافق في ذلك القدر بالتسليم والرضا ويعلم أن القدرة قد تبلغه بغير أثر الحكمة أكثر مما يبلغ به أثر الحكمة في ذلك النوع بحسب ما جرت به العادة له أو مثل ذلك أو أقل لا تتوقف قدرة القادر عن شيء عجزاً ولا بخلاً
وفي هذا دليل لأهل السلوك في اقتدائهم العجيب الذي لا يقدر أحد أن يضاهيهم فيه ومما يحكى في ذلك أن بعضهم مرض بإنزال الدم فعجز عن محاولة أمر نفسه وكان له أخ في الله مبارك وكان قادراً على وقفه فوقع له أن يمشي إليه ويكون مرضه عنده فلما دخل عليه فرح به فأول طعام قدم له لحماً بخَلّ فقال في نفسه وكيف يوافق هذا لمثل ۳ هذه الشكاية من طريق أثر الحكمة ثم قال لنفسه القدرة صالحة لما شاءت وأنت قد أتيت إليه من أجل الله فلا تردّ عليه ولا تمتنع عما يسوق لك فهو أبصر فأكل ذلك الطعام وبقي أياماً متواليات لا يأتيه إلا بذلك الطعام أو مثله مما هو مخالف لشكايته وشكايته كل يوم تنقص حتى برئت في أقرب زمان وحينئذ رفع عنه أكل طعام الخل
وفيه دليل على جواز دوام أكل الطيب من الطعام إذا وجد وليس بمناف للزهد ولا للعبادة يؤخذ ذلك من قولها ما زلنا ننبذ فيه فدل ذلك على دوامهم للانتباذ وهو من أطيب شرابهم بحسب
1 أخرجه الإمامان مالك وأحمد كما أخرجه مسلم والبغوي في شرح السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال
كذا فخبر المبتدأ أول محذوف كائن ۳ اللام زائدة للتقوية والتوكيد
333
1431
أهوية بلادهم وقد جاء عنه ما لو أنه كان يأكل الطيب من الطعام في وقته والغليظ منه ولم يدم قط
طعاماً
وفيه دليل على جواز تخصيص بعض الأواني ببعض الأطعمة إذا رأى صاحبها في ذلك مصلحة يؤخذ ذلك من قولها ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا أي بالياً فدل ذلك على اتخاذهم ذلك الجلد للانتباذ وتخصيصه به ودوام ذلك حتى صار بالياً
وفيه دليل على جواز إضافة الشيء إلى الشخص بأدنى ملابسة ما يؤخذ ذلك من قولها شاة لنا و مازلنا ننبذ فيه بصيغة الجمع والشاة إنما كانت لصاحب البيت أو لها فلما كان كل ما يكون في البيت وإن كان الذي يملكه واحداً لكن تعود المنفعة فيه على الكل حصل فيه بلازم جري العادة اشتراك ما فجاز أن يضيفه الشخص إلى نفسه مع الذي هو مالك له
وفيه دليل على أن المصائب تصيب الرفيع والوضيع في المال والنفس يؤخذ ذلك من موت هذه الشاة وهي في ملك سيّد الأولين والآخرين فإن ذلك إصابة في المال وقد كان يصاب في بدنه باعتراض الأمراض وهذا ترفيع له في الدرجات وقد قال الله إن الله يبغض النَّفْرِيتَ الذي لم يرزاً في بدنه وماله ۱ أو كما قال عليه السلام وقد قال الله عزّ وجلّ في كتابه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّبِرِينَ وَنَبْلُوا أَخَبَارَكُمْ ﴾ ٢ وقال عز وجل الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَوَلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوَلَتَبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ۳ فقد بانت فائدة الامتحان في الأموال والأبدان بالكتاب والسنة والحكمة في ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب وقد كان بعض الرجال يقول أحب المرض لتكفير سيئاتي وأحب الموت من أجل لقاء ربي فانتبه إلى حال القوم كيف هي حال الغير يبن لك الخير أين هو ويتضح
سواه
جعلنا الله ممن هداه في سرائه وضرائه إلى الطريق المبلغ إلى رضاه بمنّه وكرمه لا رَبَّ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ يقال عفریت نفريت أي خبيث مارد
سورة محمد الاية ۳۱
۳ سورة البقرة الآيتان ١٥٦ و ١٥٧
١٤٣٢
٢٧٤
وجوه
حديث ابن أخت القوم منهـ
عَن أنس رضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال ابنُ أُختِ القَومِ مِنهُم أو مِن أَنفُسِهِم
ظاهر الحديث يدل على أن ابن أخت القوم منهم وأنه يضاف إليهم والكلام عليه من
منها أن يقال ما معنى منهم هل ذلك على العموم في كل من انقطع عن نسب أبيه أو ذلك في وجه خاص وما الحكمة في أن أتى بصيغة القوم وماذا أراد بها هل القبيلة أو غير ذلك
من الرجال دون النساء وهل لهذه النسبة أمر لا يعقل معناه فيكون تعبداً أو لحكمة تعرف أما قولنا ما معنى منهم وهل ذلك على العموم أو في أمر خاص اللفظ محتمل وتخصيصه يؤخذ من غير هذا الحديث ويتبين أيضاً تخصيصه من قواعد الشريعة فأما تخصيصه من جهة قواعد الشريعة فقد قال له الا الله له من انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ١ أو كما قال عليه السلام فلا يكون على عمومه حتى يقطع الابن من أبيه ونسبه وأما تخصيصه من غير هذا الحديث فقد قال الله له الخلال أحد الأبوين معناه فيما يجب من بره وتوقيره لا أنه اشترك هو والأبوان في الصبي ولا له معهما من ميراثه نصيب فكذلك ابن الأخت من القوم أي مثل بنيهم لأنه ما يكون من القوم إلا بنيُّهُمْ ۳ فهو كبنيهم في الشفقة عليه ولذلك قدم في الحضانة الأم وأهلها من بعدها على الأب وأهله ويلزم الصبيَّ من البر لهم والإكرام مثل ما يلزم من جهة الأب وقد قال بعض العلماء إذا أردت النصرة فائت العمومة والقبيلة فهم
r
۱ أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بلفظ من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام لم نقف على مصدره وإنما روى الخرائطي في مكارم الأخلاق عن وَهْبٍ خال النبي الله إنما الخال والد ۳ البني جمع ابن على وزن فعول مثل عصيّ جمع عصا
١٤٣٣
أشد في الحماية لك وإن أردت الأكل والحاجة من جهة بذل المال أو ما في معناه فائت الخؤولة فهم أحنّ عليك وأشفق ومما يبين ما ذكرناه أنه دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي لا الله فقال لها ما يبكيك فقالت ليس لي بما كنَّى وعادة العرب يكنون بالأكبر من بنيهم فقال لها تكني بابن أختك عبد الله ۱ فجعل ابن أختها مثل ابنها
وأما قولنا ماذا أراد بقوله القوم هل الرجال دون النساء أو الجميع
فالجواب أنه لما كان الحكم في هذا للرجال والنساء سواء وعادة العرب إذا كان مذكر ومؤنث وأرادوا جمعهما غلبوا المذكر وإن كان هو الأقل وجمعوهما جمع المذكر فلذلك هنا بصيغة جمع المذكر
جمع
وأما قولنا هل هذا تعبد أو لحكمة تعرف فالحكمة - والله أعلم - ظاهرة لأن العرب كانوا لا يلتفتون لجهة النساء ولا يُعنون بهن وكانوا يقولون في ابن البنت الذي هو أقرب منه - أعني من ابن الأخت
يتونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهنَّ أبناء الرجالِ الأباعدِ فأراد بهذا الحديث وما في معناه نسخ أحكام الجاهلية والإلفة بين الأهل والأقارب والله أعلم
وفيه دليل على جواز المخاطبة باللفظ العام والمراد منه الخصوص إذا علم من فهم المخاطب أنه فهم ما ألقي إليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ابن أخت القوم منهم والمقصود بقوله منهم ما أشرنا إليه باللفظ الخاص
وفي هذا دليل لمالك حيث يقول بالمعنى استعبدنا لا بالألفاظ إشارة منه إلى هذا المعنى
فلا تشاحح في الألفاظ
وفي هذا دليل على فضل الصحابة رضي الله عنهم وتحريهم في النقل يؤخذ ذلك من قول الراوي منهم أو من أنفسهم وهذا دأبهم في النقل
وفيه دليل لمن يقول إن الحديث إنما ينقل مثل القرآن بالواو والفاء يؤخذ ذلك من قوله
1 أخرج ابن سعد والطبراني عن عبادة بن عبد الله بن الزبير أن عائشة قالت يا رسول الله ألا تكنيني قال اكتني بابنك عبد الله بن الزبير وعن عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لعائشة ما يبكيك الحديث
البيت للفرزدق في ديوانه ص ۱۷
منهم أو من أنفسهم لأن المعنى في اللفظين سواء فلو لم يكن الأمر عندهم أنه ينقل بالفاء والواو ما فعل هذا
وفيه دليل لمن يقول إن للعالم أن يعلّم قبل أن يُسأل يؤخذ ذلك من أن سيدنا أخبرهم بهذا الحديث من غير سؤال تقدم ولو تقدمه سؤال لذكره الراوي فإن هذا هو المعروف من عادتهم
رضي الله عنهم
وفيه دليل على أن لسيدنا و أن يقرر من الأحكام ما شاء بغير وحي في ذلك يؤخذ ذلك من أنه أخبر بهذا الحديث ولم يذكر بأنه بوحي وبأي طريق أمرنا من هذين الوجهين يلزمنا العمل بذلك لقول الله عزّ وجلّ في كتابه لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ اللهُ ۱ وإن كانت المسألة مختلفاً فيها لكن هذا هو الظاهر والذي عليه الجمهور وهو المستقر أيضاً من أحكام الشريعة لمن
تتبعها غالباً
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ١٠٥
١٤٣٥
٢٧٥ -
حديث يحرم على المرء أن ينتسب إلى غير أبيه
عَن سَعدٍ ١ رضي الله عَنهُ قالَ سَمِعتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول مَن ادَّعى إلى غير أبيه وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أبيه فالجنَّةُ عَليهِ حَرام
ظاهر الحديث المنع من أن ينتسب المرء إلى غير أبيه وهو يعلم ذلك وإن من فعل ذلك لا يدخل الجنة والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هو ممن يخلد في النار مع الكفار أو كيف يكون حاله وهل يلحق به الناسي والمكره أو ليس إلا العالم بذلك القاصد له وحده وهل الذي يفعله لاهياً غير مجدّهل يلحق به أم لا وهل هذا تعبد أو لحكمة تعرف وهل يتعدى الحكم إلى غير هذا أم لا
أما قولنا هل يخلد في النار مع الكفار أو كيف يكون حاله أما إن مات على الإيمان فلا يخلد في النار أصلاً ويكون معنى الحديث مثل ما قيل في معنى قوله تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا ﴾ قال علماء السنة معناه فجزاؤه ـ إن جازاه ـ فيكون هذا كذلك لأنه من حُرِم الجنة فالنار مأواه لأنه ليس بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنة أو
النار
ويكون حكم هذا بمقتضى الشريعة التخليد في النار فيكون من الذين يخرجهم الله تعالى بشفاعته الجليلة كما جاء في الحديث إن الله عزّ وجل يقول بعدما يشفع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى النار عن ثلاث مرات يقال له في أول مرة أخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وفي الثانية أدنى ذرة من الإيمان فلا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن فيقول الله جلّ جلاله
۱ هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما ذكر ابن حجر في فتح الباري وقد تقدمت ترجمة سعد في الحديث
١٢٤
سورة النساء من الآية ۹۳
١٤٣٦
شفعت الأنبياء والرسل وشفعت الملائكة وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من أهل النار ممن حبسهم القرآن فيخرجهم بشفاعته الجليلة ويسمون عتقاء الله من النار ۱ والذين حبسهم القران في النار هم على نوعين كفار وغير كفار فغير الكفار مثل صاحب هذا الذنب الذي في هذا الحديث ومثل الذي في الآية وهو القاتل للمؤمن عمداً ومثل المتلاقيين بسيفيهما وما هو في معناهم مما نص الكتاب أو السنة على تخليدهم في النار فيكون الجمع بين ذلك بأن نقول إن الكفار لا يخرجون من النار أبدا وذلك بنص الكتاب والسنة وإجماع
علماء المسلمين
فتكون الشفاعة التي هي من قِبَلِ الله عزّ وجل لهذا القسم الثاني ويصدق عليهم اسم ممن حبسهم القرآن حقيقة لأنه ما أخبرت السنة به فالكتاب مخبر به لأنه ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى ۳ وقد تقدم أول الكتاب في هذا بيان شافٍ وما أعدنا منه هذا إلا لضرورة الموضع
وأما قولنا هل يلحق بالعامد في هذا الحكم الناسي والمكره أما بنص الحديث فيحتمل وأما ما تقرر في الشريعة بقوله رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ۳ أو كما قال عليه السلام وذلك يعطي ألا يلحقوا به في وقوع الإثم والله أعلم
وأما قولنا هل يلحق بهذا الذي يفعله غير مجد لفظ الحديث يعطي العموم ويزيد ذلك تأكيداً في حق اللاهي قوله الا الله و إن الرجل يتكلم بالكلمة من الشر يُلهي بها أهله لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً ٤ أو كما قال عليه السلام ولوجه آخر من جهة الفقه لأنه يلعب بدين الله ويهزأ بقول الشارع عليه السلام وهذا أعظم الذنوب
وأما قولنا هل الذي يفعل ذلك مع غيره أي ينسب إنساناً إلى غير أبيه ٥ فهذا لا يدخل تحت هذا الحكم وهو من باب القذف وحكم القاذف قد تقرر بحسب ما علم من الشريعة وهو بحيث لا يجهل فلا يحتاج إلى بيان
وأما قولنا هل هذا تعبد لا يعقل له معنى أو هو لحكمة نعرفها فإن قلنا تعبد فلا بحث
۱ قطعة من حديث طويل رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد رضي الله عنه سورة النجم الاية ٣
۳ رواه الطبراني والبيهقي في الأفراد عن أبي ذر رضي الله عنه والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما ٤ رواه الترمذي وقال حديث غريب ورواه ابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأساً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً
٥ كذا وهو لم يرد في مستهل شرح الحديث
١٤٣٧
وإن قلنا لحكمة فما هي فنقول والله الموفق للصواب لما خالف هذا حكمة الله سبحانه وتعالى في عبيده ترتب على ما فعله تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله وترتب عليه هذا الوعيد العظيم ولو اعتقد أن ذلك جائز لكان كافراً بيان ذلك أن الله عزّ وجلّ يقول وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَابِلَ لِتَعَارَفُوا ١
وهذا حلّل من النسب وحرم منه ما شاء - أعني في التناكح بينهم حسب ما يعرف ذلك من أحكام الشريعة - وقد تقرر الحكم به فلا يحتاج إلى ذكره فإذا انتسب هذا إلى غير أبيه فقد حرم هذا النظام البديع وحرّم على نفسه وعلى غيره نكاح مَن قد أحله الله له ولغيره وحلل لنفسه ما قد حرمه الله عليه وعلى غيره فإنه يتزوج بتلك النسبة التي انتسبها ذوي محارمه الحقيقيين وهم عليه حرام ويحرم على نفسه أو على غير محارمه الزورتين بحسب انتسابه فيكون حرّم من ذلك ما
أحلّه الله تعالى
وأما قولنا هل يتعدى الحكم إلى غير هذا أم لا فحيث وجدنا من خالف حكم الله تعالى مثلما فعل هذا قلنا له الحكم فيه كالحكم في هذا سواء لأنه بواحدة مما فعل هذا يكون الخلود في النار ـ أعني مع الاعتقاد ـ لقول الله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَالِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ الْعَذَابِ وبإجماع الأمة أن من أحلَّ واحدة مما حرمه الله سبحانه أو حرم واحدة مما أحله الله عامداً لذلك مستبيحاً لذلك أنه كافر يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل كفراً
وفيه معنى آخر وهو سوء أدب العبودية مع الموالِيَّة لأن حكم العبودية اتباع كل ما أمرت به الموالية فالعبد إذا خالف حكم مولاه وجب أدبه ولذلك قال بعض أهل التوفيق أعظم الكرامات الاتصاف بأوصاف العبودية وامتثال أمر الربوبية
جعلنا الله من أهلها بمنّه آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الحجرات من الآية ۱۳
سورة البقرة من الآية ٨٥
١٤٣٨
- ٢٧٦ -
حديث انقطاع النبوات ولم يبق إلا الرؤيا الصالحة
عَن أبي هريرة رضي الله عَنهُ قالَ سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لَم يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلا المُبشِّراتُ قالُوا وَما المُبشِّراتُ َقالَ الرؤيا الصَّالحةُ
ظاهر الحديث يدل على انقطاع النبوة ولم يبق منها إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال كيف نفهم قوله لم يبق وكيف نفهم معنى الصالحة وهل الذي ما بين هذه الرؤيا والنبوة من تضعيف الأجزاء والنسبة هل نأخذه تعبداً أو لنا طريق لمعرفة ذلك ومنها هل التي ليست بصالحة إن كانت حقاً فهل تكون من النبوة أم لا وهل هذه المبشرات على عمومها كان الذي يراها تقياً أو غير ذلك وما الحكمة في أن قال من النبوة ولم يقل من الرسالة
أما قولنا كيف نفهم قوله عليه السلام لم يبق فهذا إنما يستعمل في الماضي اعلم أن العرب تأتي بالماضي وتريد به المستقبل إذا كان في الكلام ما يدل عليه كقول الله تبارك وتعالى وَإِذْ قَالَ اللهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُتِيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۱ وهذا إنما
يكون يوم القيامة وقد بين هذا في حديث غيره فقال لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات ٢
أو كما قال عليه السلام
وأما قولنا ما معنى الصالحة فمعناها الحسنة كما قال عزّ وجلّ في قصة موسى مع شعيب عليهما السلام سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّلِحِينَ ۳ ولم يرد شعيب عليه
۱ سورة المائدة من الآية ١١٦
قطعة من حديث رواه الإمام مالك عن عطاء بن يسار رضي الله عنه
۳ سورة القصص من الاية ۷
١٤٣٩
السلام مدح نفسه بالخير وإنما أراد به معنى الخير والإحسان لموسى عليه السلام فما فيه خير
لك يسوغ فيه أن يقال هذا صالح لك أو يصلح به أمرك أو شأنك
وأما قولنا كيف النسبة بينها وبين النبوة ومن أين يكون الجمع بينها وبين النبوة فاعلم أن النسبة بينهما وطريق الجمع من وجهين الواحد من طريق أن النبوة حق لا شك فيها فهذه كذلك حق لا شك فيها وقد نبه على ذلك في الحديث بعد هذا بقوله وما كان من النبوة فلا يكذَّب ۱ والوجه الآخر هو أنه لما كانت بداية نبوته عليه السلام قبل أن يأتيه الوحي بالرؤيا الصالحة كما هو مذكور أول الكتاب فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح فما كان بدؤها أولاً هو الذي يبقى منها آخراً كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا ٢
وأما قولنا هل التي ليست بصالحة إن كانت حقاً تكون من النبوة أم لا فإن فهمنا من قوله صالحة الخير الذي فيه سرور للنفس وفرح به لا غير فلا نحكم لها بأنها من النبوة فعلى هذا فتقسم الرؤيا على ثلاثة أقسام فما كان منها يَسُرّ فمن النبوة وما كان حلماً فهو من الشيطان وما كان منها بين ذلك - وهو الذي ليس بحلم ويكره - فهو محتمل أن يكون حقاً فيلحق بالنبوة لأنه حق فجاءت النسبة ويحتمل أن يكون باطلاً فيلحق بالذي هو من الشيطان وهي الأضغاث والأحلام لكن هذا لا يعلم الحق منه من الباطل إلا بحسب ما تستقر به العاقبة
وإن قلنا إن معنى صالحة ما يصلح به حالك فإن مما يصلح به الحال أن يبين للمرء ما يصلح به حاله من خير يُسَرُّ به أو شرّ يحذر منه فإنه بهذا أتت النبوة معلمة بطريق الخير ومحرضة عليها ومبينة لطريق الشر ومحذرة عنها فتكون الرؤيا على هذا نوعين ما يكون منها حقاً بحسب دلائل التعبير في ذلك فهي من النبوة وما كان مخوفاً ولا يعلم له معنى من طريق أدلة العبادة فهي من الشيطان
ومما يبين ذلك ما ذكر أنه أتى شخص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت في المنام كأن رأسه ۳ قطع والرأس يتدحرج وهو يجري خلفه فزجره وقال له هذه من الشيطان أأحد يقطع رأسه ويبقى حياً يمشي أو كما قال عليه السلام والوجه الأول أظهر والله أعلم
1
وما ذكرناه من التقسيم والتفسير بين الحسن وضده يحتاج ذلك إلى معرفة علم العبارة على
جزء من حديث مطلعه إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله
عنه
سورة الأنبياء من الآية ١٠٤ ۳ كذا بضمير الغائب هنا وفيما بعد
مقتضى الكتاب والسنة وحينئذ نعرف الفرق بينهما وإن لم يكن لنا بذلك علم فلا يحلّ لنا أن نتكلم في شيء من ذلك بغير علم فهو من باب الهزء بآثار النبوة وهذا ممنوع
وأما قولنا هل هذه المبشرات على عمومها كان الذي يراها تقياً أو غير ذلك أما هذا الحديث فلا يفهم منه من ذلك شيء وقد جاء هذا عنه الا الله في حديث غيره بقوله عليه السلام يراها الرجل الصالح أو تُرى له ۱ لأن الغالب من غير الصالح إما أن يكون من شياطين الإنس فكفى بها أو يكون مستغرقاً في دنياه فالغالب عليه حديث النفس وشهواتها فلم يبق مع هؤلاء في هذا الباب كلام هذا هو الغالب وعليه تحمل الأحكام وما يندر من ذلك فالنادر لا حكم له وإذا ندر يعلل بوجوده بحسب الحال والوقت وإن كنا قد نبهنا على هذا فيما تقدم من الكتاب
وأما قولنا ما الحكمة في أنه قال من النبوة ولم يقل من الرسالة فاعلم أن هذا من أكبر الدلائل على ما خصه الله عزّ وجلّ به من حسن البلاغة وسرعة الإدراك لغوامض الفوائد على البديهة وذلك أن الأنبياء عليهم السلام منهم من هو مرسل للغير ومنهم من تنبأ وليس بمرسل فلما كانت المرائي منها ما يكون فيما يخص المرء في نفسه ومنها ما يراها لغيره كما ذكرنا عنه عليه السلام آنفاً بقوله عليه السلام يراها الرجل الصالح أو تُرى له فلهذه النسبة ذكر عليه السلام النبوة ولم يذكر الرسالة وإنما هي حق مثل ما هي النبوة حق وبقى فيها احتمال هل تخص أو تعم كما أن النبوة قد يكون معها الإرسال فتكون عامة أو لا يكون معها إرسال فتكون خاصة
وفيه دليل على جواز مراجعة العالم إذا لم يفهم كلامه يؤخذ ذلك من قولهم وما
المبشرات
ويترتب على هذا من الفقه التثبت في العلوم الشرعية حتى يكون على تحقيق ويقين والبحث عن ذلك مع الرفيع والوضيع على حد سواء بالأدب لأن ذلك هو الطريق اللائق بالعلم وإلا فصاحبه يدعى زائغ عن طريق العلم وسيرة السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين جعلنا الله من المتبعين لهم بمنه
وفيه دليل على كثرة رحمته بأمته يؤخذ ذلك من إدخاله عليه السلام السرور عليهم بتحقيق الرؤيا التي هي خيرٌ بوجه لا يبقى فيه شك - وهو كونه عليه السلام جعلها من النبوة
1 أخرجه الإمام مالك عن عطاء بن يسار رضي الله عنه بلفظ لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشرات فقالوا وما المبشرات يا رسول الله قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه واحمد والدارمي بألفاظ مختلفة
فأدخل بذلك المسرة عليهم إلى يوم القيامة - ونفى عنهم ما يهتمون به ويتخوفون من الحلم فجعله من الشيطان الذي ليس له قدرة غير التخويف أو التهويل وعلمهم المخرج من ذلك حسب ما تقدم ذكره في الكتاب وبحسب ما يذكر في الحديث بعد وترك لهم التي تدل على الشر وليست بحلم من قبيل المحتمل وما هو من قبيل المحتمل فليس يكون عند ذلك له خطر
وإذا تتبعت النظر رأيت عظيم الرحمة من المولى الكريم الذي مَنْ علينا بهذا النبي الكريم بهذه الشفقة علينا والرحمة لنا وقد شهد الحق عزّ وجلّ له بذلك بقوله تعالى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ نجرٌ ۱ ربنا تممها نعمة علينا واجعلنا لها من الشاكرين
ويترتب عليه من الفائدة أن إدخال السرور على المؤمنين من السنة ولأهل السلوك في هذا أقوى دليل لأنهم بنوا طريقهم على جبر القلوب وإدخال السرور على المؤمنين عامة وفيما تقدم آنفاً من استشهادنا بقوله يراها الرجل الصالح أو ترى له تنبيه على أن الخير في هذه المبشرات إنما هو للصالحين وكذلك في كل وجوه الخير في الدارين هم المقصودون به وقد قال تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فإذا كان الخير كله عاجلاً وآجلاً للصالحين فيا ويح الطالحين ويا خسارة الجاهلين ويا قبح المفرطين اللهم اجعلنا من العاملين المتبعين لسنن المرسلين بجاه سيّد الأولين والآخرين سيدنا محمّد المبعوث في الأميين آمين
فيا عبد شهوته وأخا غفلته بعت كل خير بصفقة بخس فهلا حكّمتَ حاكم العقل فحَلَّ لك عقدة بيعك البخس قبل تصرف يد المنايا في جميع بضائع حسك ومعناك فلا تجد للحل محلا ولا وقتاً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة التوبة الآية ۱۸ سورة يونس من الاية ٦٤
١٤٤٢
حديث من رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة
عَن أبي هريرة رضي الله عَنهُ قالَ سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ مَن رآني في المنامِ فَسَيراني في اليقظة ولا يَتَمثَلُ الشَّيطانُ بي
*
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أنه من راه في النوم فسيراه في اليقظة والثاني الإخبار بأن الشيطان لا يتمثل به عليه السلام والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا على عمومه في حياته عليه السلام وبعد مماته أو هذا كان في حياته عليه السلام ليس إلا وهل يتمثل بغيره من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أو هذا من الأمور الخاصة به عليه السلام وهل ذلك لكل من راه مطلقاً أو خاصاً لمن فيه الأهلية والاتباع السنته عليه السلام
أما قولنا هل هذا على العموم في حياته عليه السلام وفي مماته أو في حياته لا غير اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه الا الله و المتعسف وقد وقع من بعض الناس عدم التصديق بعمومه وقال على ما أعطاه عقله وكيف يكون من هو في دار البقاء يُرى في دار الفناء وفي هذا القول من المحذورِ وَجهان خطران أحدهما أنه قد يقع في عدم التصديق لعموم قول الصادق عليه السلام الذي لا ينطق عن الهوى والثاني الجهل بقدرة القادر وتعجيزها كأنه لم يسمع في سورة البقرة قصة البقرة وكيف قال الله عزّ وجلّ فَقُلْنَا أَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ ۱ فضُرِب قبرُ الميت أو هو نفسه ببعض البقرة فقام حيّاً سَوِيّاً وأخبرهم بقاتله وذلك بعد أربعين سنة على ما ذكره أهل العلم لأن بني إسرائيل تأخر أمرهم في طلب البقرة على الصفة التي نعتت لهم أربعين سنة وحينئذ وجدوها وكما أخبر أيضاً في السورة
1 سورة البقرة من الآية ۷۳
١٤٤٣
نفسها عن قصة العُزير وقصة إبراهيم عليه السلام في الأربع من الطير وكيف قص علينا في
شأنهما
فالذي جعل ضرب الميت ببعض البقرة سبباً لحياته وجعل دعاء إبراهيم عليه السلام سبباً لإحياء الطيور وجعل تعجب العزير سبباً لإحيائه وإحياء حماره بعد بقائه مائة سنة ميتاً قادر على
أن يجعل رؤيته له في النوم سبباً لرؤيته في اليقظة
وقد ذكر بعض الصحابة - وأظنه ابن عباس رضي الله عنهما - أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فتذكر هذا الحديث وبقي متفكراً فيه ثم دخل على بعض أزواج النبي وأظنها ميمونة ١ فقص عليها قصته فقامت وأخرجت له جبَّة ومراة وقالت له هذه جبته وهذه مراته قال الله عنه فنظرت في المرآة فرأيت الصورة النبي يا الله ولم أرَ لنفسي صورة
رضي
وقد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جراً عن جماعة ممن كانوا رَأَوْهُ في النوم وكانوا ممن يحملون هذا الحديث على ظاهره فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فَرَجُها فحاء الأمر كذلك
بلا زيادة ولا نقص
والمنكر لهذا لا يخلو أن يصدّق بكرامات الأولياء أو يكذب بها فإن كان ممن يكذب بها فقد سقط البحث معه فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة وقد تكلمنا على هذا أول الكتاب وبيناه بما فيه كفاية بفضل الله تعالى وإن كان مصدّقاً بها فهذه من ذلك القبيل لأن الأولياء يكشف
لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي والسفليّ عديدة فلا تنكر هذا مع التصديق بذلك وأما قولنا هل جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام مثله عليه السلام في ذلك لا يتمثل الشيطان على صورهم أو هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين فليس في الحديث ما يدل على الخصوص قطعاً ولا على العموم قطعاً ولا هذه الأمور مما تؤخذ بالقياس ولا بالعقل وما يعلم من علوّ مكانتهم عند الله تعالى يُشعِر أن العناية تعمّهم فإنهم صلوات الله عليهم أجمعين أتوا إلى إزالة الشيطان وخزيه فأشعر ذلك أن الشيطان لا يتمثل بصورهم المباركة كما أخبر عليه السلام في كرامته وكرامتهم أن لحومهم على الأرض حرام حتى تؤديهم كما جعلوا فيها كذلك تساويهم في هذه الكرامة والله أعلم وأما قولنا هل ذلك على عمومه لكل من رأه عليه السلام أو ذلك خاص فاعلم أن الخير
۱ ميمونة أم المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدمت ترجمتها في الحديث ۱۹۸
١٤٤٤
كله المقطوع به والمنصوص عليه والمشار إليه بأدلة الشرع وقواعده إنما هو لأهل التوفيق ويبقى في غيرهم على طريق الرجاء للجهل بعاقبتهم فلعلهم ممن قد سبقت لهم سعادة في الأزل فلا يقطع عليهم باليأس من الخير لا سيما مع قوله عليه السلام إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبين الجنة إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبين النار إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ۱
لكن كيف يراه من لا يصدق بقوله هذا من طريق الأدلة بعيد وأما من فيه مخالفة لسنته عليه السلام فاختلف العلماء في رؤياه اله الا الله إذا ادعى أنه راه هل هي حق أم لا وقد تقدم البحث على هذا في الكتاب فكيف تكون الرؤية في اليقظة مع عدم التسليم في رؤيا النوم هذا فيه ما فيه وفي هذا الحديث إشارة وهي لما أخبر لا لا لا و أنا في آخر الزمان من أمته من يود أن لو خرج عن أهله وماله على أن يراه ولهذا أبقى الا الله لهم هذا التأنيس العظيم بأنه من راه في النوم فسيراه في اليقظة فطمعت لذلك نفوس المحبين الصادقين المصدقين فرأوا ما به أُخبروا كما أخبر ولكن
صاحب الشك لا يثبت له في خير قدم وإذا تتبعت أحوال الذين روي عنهم أنهم رأوا الله تجدهم مع التصديق بهذا الحديث محبين له حباً يزيدون فيه على غيرهم وقد صح عندي عن بعض الأشخاص الذين ذكرتهم قبل في أول الكلام على الحديث أنه صح عنده من طريق لا يشك فيه أنه لما راه في بعض مرائيه أقبل عليه إقبالاً عجيباً فقال له يا رسول الله بم استوجبت أنا هذا فقال له بحبك فيَّ فلم يجعل له سبباً إلى رفع منزلته غير حبه له
وهنا إشارة لو عرفها المنكر وذلك أن المحب فيمن أحبه فان قد أخرجه الاشتغال بمن أحب عن هذه الدار وأهلها فلما كان معدوداً في الفانين لحق بأهل دار البقاء برؤية أهلها والتنعم بمشاهدتهم وكانت جثته في هذه الدار كظاهر القبر في الدنيا وباطنه في الآخرة لأنه أول منزل من منازل الآخرة وقد تلوح مراراً على ظاهر القبر علامات مما هو داخله من خير أو غيره وهذا من الشهرة بين الناس خلفاً عن سلف من حيث لا يحتاج أن يذكر له حكاية ولا خبر
وفيه دليل على عظم قدرة الله تعالى كيف جعل للشيطان القدرة على أن يتصور في أي صورة شاء ويتشبه بمن شاء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ولا يتمثل الشيطان بي فدل على أنه
۱ قطعة من حديث مطلعه إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
١٤٤٥
يتمثل بغيره ومثل ذلك جاء عن الملائكة عليهم السلام أن الله عزّ وجلّ أعطاهم التطوير يتمثلون على أي صورة شاؤوا فانظر إلى حالة ما بين الملائكة وحالة الشيطان وقد أعطيا معاً هذه
الحالة العجيبة
فمن أجل هذا لم يلتفت أهل التوفيق إلى الكرامات بخرق العادة وطلبوا التوفيق لما به أمروا ولطف الله بهم في الدنيا والآخرة لأن خرق العادة قد يكون للصدِّيق والزنديق وهي للزنديق من طريق الإملاء والإغواء وإنما تقع التفرقة بينهما ما هو منها كرامة أو بلاء وإغواء بالاتباع للكتاب والسنة وقد تقدم من الكلام في هذا الكتاب ما فيه شفاء والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٤٤٦
حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشيطان لا يتمثل به
عَن أَنَسٍ رَضي الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ مَن رَآني في المنامِ فَقد رَآنِي فَإِنَّ الشَّيطانَ لا يَتَخَيَّلُ بي وَرُؤيا المؤمِنِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وَأربَعينَ جُزءاً مِنَ النُّبوة
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أنه من راه عليه الصلاة والسلام في النوم فقد راه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل به والثاني أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة وما الحكمة في أن قال في
الحديث قبل ولا يتمثل الشيطان بي وقال ههنا ولا يتخيَّل بي أي على إحدى الروايتين أما قولنا ما معنى جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فقد قال بعض الناس فيه إنه اختلف في كم سنة أوحي إليه فقيل عشرين سنة - وقيل ثلاثاً وعشرين سنة فعلى القول بأنه أوحي إليه ثلاثاً وعشرين فيجيء الجزء منها نصف سنة لأن ثلاثاً وعشرين إذا قسِمَتْ كل سنة منها على جزأين جاءت ستة وأربعين وهذا عندي ما له تلك الفائدة ولا على هذا المعنى تكلم صلوات الله عليه وسلامه الذي أيده الله بالفصاحة والبلاغة وإنما المتكلم بهذا أراد أن يجعل بين الرؤيا والنبوة نسبة ما بحسب ذلك المثال أكانت له فائدة أم لا
وهذا التوجيه الذي رأى لا يجري على الإطلاق في جميع الأحاديث التي جاءت في هذا النوع حتى إنه روي عن بعض القائلين بهذا أنه جاء في بعض الأحاديث التي جاءت في هذا النوع وقال لا أقدر أن أجعل للنسبة في هذا وجهاً لأنه جاء في هذه النسبة جملة أحاديث منها أنها جزء من اثنين وسبعين وقد جاء أنها جزء من خمس وأربعين ۱ وجاء أنها جزء من أربعين ۱ وجاء أنها جزء من سبع وعشرين ۱ وجاء أنها جزء من خمس وعشرين ۱
۱ كذا
١٤٤٧
وقد قال بعض الناس إن هذا الاختلاف الذي جاء في هذه الأجزاء إنما هو بحسب الرائي
لها وهذا نوع منه آخر وقد ذكرت فيها أقاويل كلها متقاربة في النوع الذي أشرنا إليه والذي يظهر لي - والله الموفق للصواب - أن النسبة التي بينها وبين النبوة من وجهين أحدهما أن النبوة كلها جاءت بالأمور البينة الواضحة ومن الأمور ما يكون بعضها مجملاً ثم بينتها النبوة بعد حتى لم يبق في الشريعة شيء فيه إشكال كما أشرنا إليه في أول حديث من الكتاب والمرائي منها ما هو نص لا يحتاج فيه إلى شيء ومنها أشياء مجملة
فتلك الأشياء المجملة ما تفهم منها الذي له معرفة بطريق العبارة من الحق الذي يخرج منها إلا كما جاءت الأجزاء منها وذلك الجزء الذي فهمه - وهو الحق - جزء من النبوة فمرة يكثر ذلك الجزء ومرة يقل فيكون قرب الجزء من النبوة أو بعده بحسب فهم المعبر لها فأعلاهم يكون بينه وبين النبوة خمساً وعشرين ۱ جزءاً وأقلهم فهماً يكون بينه وبين النبوة اثنين وسبعين جزءاً ۱ وما بين هذين الحديثين تتفاوت فيه فهوم الناس
ومما يبين هذا الوجه أن شخصاً أتى النبي و قص عليه رؤيا راها وأبو بكر قاعد عنده فقال له دعني يا رسول الله أعبّرها فقال له افعل فلما عبرها قال يا رسول الله أصبتُ فيما قلتُ فقال له أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً فقال أبو بكر أخبرني يا رسول الله فيماذا أصبت وفيماذا أخطأت فلم يخبره رواه الترمذي ٢ وقد قال أهل العلم بالتعبير لا يطرأ لأحد أو على أحد شيء في هذه الدار إلا وهو يراه في نومه عَلِمَه مَن عَلِمَه وجَهِلَه مَن جَهِله فبهذا يقوى ما وجهناه بفضل الله تعالى
والوجه الآخر هو أن النبوة لها وجوه من الترفيعات والفوائد دنيوية وأخروية فيما يخص ويَعُمّ منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه والرؤيا ما بينها وبين النبوة نسبة إلا في كونها حقاً فهي وما دلت عليه حق كما أن ما دلت عليه النبوة وأخبرت به حق وبقي لمقام النبوة التفضيل بينها وبين الرؤيا بتلك الأجزاء المذكورة في الحديث ليعلم فضل النبوة إذ الجزء من ستة وأربعين منها يخبر بالحق في الأمور الحاضرة والغائبة لأن الرؤيا منها ما يدل على حالك الذي أنت فيه ومنها ما يدل على ما قد مضى ومنها ما يدل على ما يكون وفي كل الوجوه يدل على الحق ويخبر عنه
على ما هو عليه إن كان أو يكون
1 كذا
سنن الترمذي رقم الحديث ٢٢٩٤
١٤٤٨
فدل هذا على تعظيم مقام النبوة وأنه ليس لقولنا قوة إلى الوصول لذلك فيقوى بذلك إيماننا ويعظم به أجرنا لأنه كلما زاد في النفوس للأنبياء عليهم السلام تعظيماً زاد العبد بذلك الله عزّ وجلّ قربة لأن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَبِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وأي شعيرة أرفع من تعظيم مقام أنبياء الله عزّ وجلّ
ويكون الفرق بين الأحاديث التي ذكرناها في اختلاف الأجزاء التي هي من خمسة وعشرين جزءاً إلى اثنين وسبعين جزءاً بحسب ترفیع درجات الأنبياء عليهم السلام بعضهم على بعض لأن الأنبياء عليهم السلام منهم مرسلون وغير مرسلين وليس درجة من هو نبي غيرُ مرسل مثل من هو نبي مرسل والمرسلون منهم صلوات الله عليهم أجمعين أعلى من بعض وهذا بحث لا خفاء فيه وكفى فيه قول الله عزّ وجلّ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضُ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَتٍ فنسبتها من أعلى الأنبياء المرسلين لنسبة اثنين وسبعين ونسبتها من أقل النبيين غيرِ المرسلين نسبةُ خمسة وعشرين جزءاً وما بقي بين الحديثين بحسب تفاوت الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام في الدرجات بينهم ولذلك ذكر لي النبوة على العموم ولم يذكر واحدا منهم ولا ذكر نفسه المباركة ولا أشار إليها
هذين
واحتمل الوجهين وزيادة لمن زاده الله في ذلك فهماً لأنه لا يكون كلامه صلوات الله عليه وسلامه إلا وتحته من الفوائد ما يكثر تعدادها وقد تعجز الفهوم منا عن إحصائها فأقل مراتب الإيمان أن يكون هذا اعتقاد الناظر في كلامه و و و و وما فتح له فيه من الفهم يقول إلى هذا وصل فهمي ولا يقول هذا هو المعنى الذي يدل عليه هذا لا غير ويمنع الزيادة على ذلك لمن فتح الله عليه في شيء من ذلك بفضله ومنه
وأما قولنا ما الحكمة في أن قال في هذا الحديث على إحدى الروايتين فإن الشيطان لا يتخيل بي وفي الذي قبله ولا يتمثل الشيطان بي فنقول والله الموفق للصواب وذلك أن مقتضى الحديثين يدل على أن الشيطان له مع الذي يتراءى في النوم حالتان إحداهما أنه يتصور ويتطور ويتمثل بنفسه للذي يتراءى له على الصورة التي يريد ما عدا صورة سيدنا محمد وأنه مرة أخرى يوهم الذي يتراءى له أنه على صورة ما وهو في ذاته على صورته التي هو عليها لم
يتغير عنها
1 سورة الحج الآية ۳ سورة البقرة من الاية ٢٥٣
١٤٤٩
ومثل هذا يشاهده الناس من الذين يشتغلون بالسحر في هذاء إذ يُري الناظرين أشياء على
خلاف ما هي عليه والشيء في نفسه على ما هو عليه لم يتغير مثل ما روي عن سحرة فرعون مع موسى عليه السلام أنهم أتوا بوقر ثلاثمائة جمل حالاً وعصيّاً فلما ألقوا حيالهم وعصيهم ظهرت في عين موسى عليه السلام وجميع الناظرين أن الأرض قد ملئت ثعابين وقال الله عزّ وجلّ في حقهم وَمَاهُو بِسِحْرٍ عَظيم ۱ وتلك الحبال والعصي باقية على حالها لم تتغير
أعيانها كما كانت عليه
يشهد لهذا ما ذكرناه في الحديث قبل في الذي أتى النبي وقال له إنه رأى في النوم كأن قطع وهو يتدحرج وهو يجري خلفه فقال له رسول الله هذا من الشيطان لأنه لا يقطع رأس أحد ويبقى يجري خلفه أو كما قال عليه السلام فالشيطان لا يتمثل له في هذه الرؤيا بنفسه على هذه الصورة التي لا تقبلها العقول وإنما خيل له ذلك لكي يفزعه والحديث الذي نحن بسييله يدل على هذه التخيلات
وفيه دليل على ما ذكرناه في الأحاديث قبل حين أوردنا من السؤال هل يُلحق بذلك تشكله عليه السلام في خواطر المباركين وأصحاب القلوب والخواطر أم لا فهذا يدل على أنه كما لا يتمثل على صورته عليه السلام كذلك لا يتخيل بها لا في كلام ولا في خاطر ولا في نوع من الأنواع لأنك إذا نظرت ما تجد ما يخيل به إلا قسمين إما بالذات أو بما يدل على الذات من كلام أو إشارة أو حديث في السر أو خاطر في القلب
قدل بالحديث الذي قبل هذا على منعه من التمثل بصورته عليه السلام المباركة وأنه يتصور على صورة غيره ودل بهذا الحديث على أنه لا يتخيل بشيء مما يدل عليه من جهة ما من صفة من الصفات أو لمحة من اللمحات أو خطرة من الخطرات أو إشارة من الإشارات وأن الله عزّ وجلّ قد منعه من هذا كله وأنه في غير جهة سيدنا يعمل من ذلك كله ما يشاء وأن الله عزّ وجلّ قد أعطاه ذلك وهذه بشارة عظيمة
والبحث في هذا التخيل في حق غير سيدنا من الأنبياء عليهم السلام كالبحث قبله وهذا كله بشرط يشترط فيه وهو ما قدمنا ذكره فيما تقدم عن العلماء في أن كل ما يقع من الأمر والنهي والزجر والمخاطبة وغير ذلك كله فإنه يعرض على سنته عليه السلام فما وافقها مما سمعه الرائي فهو حق وما خالفها فالخلل في سمع الرائي فإنه ما ينطق عن الهوى وَلَوْ كَانَ
1 سورة الأعراف من الآية ١١٦
١٤٥٠
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۱ فيكون رؤيا الذات المباركة حقاً ويكون الخلل
وقع في سمع الرائي وهو الحق الذي لا شك فيه
فكذلك فيما نحن بسبيله من تشكله عليه السلام للمباركين في أسرارهم ورؤيته عليه السلام في اليقظة ومخاطبته عليه السلام والخواطر تمرّ بهم من قِبَلِهِ وما يقع من هواجس النفوس من قِبَلِهِ عليه السلام وما يقع من التخيل والتمثيل عنه عليه السلام فكل ذلك يُعرَض
على كتاب الله وسنته عليه السلام كما تقدم والله الموفق للصواب
وفيه دليل على عظم قدرة القادر سبحانه مثل ما تقدم قبل
وفيه بشارة للمحبين فيه عليه السلام المتبعين له فإنه إذا كانت رؤياه عليه السلام حقاً فكل ما يكون من إشارة أو خطرة هو عليه السلام فيها أو منه أتَتْ فإنها حق على الشرط
المذكور فزادهم بهذا فرحاً إلى فرح
جعلنا الله منهم بمنه في الدارين في عافية لا ربّ سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ۸
1451
۷۹-
حديث فضل عمر رضي الله عنه في العلم
عَن ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنهُما قالَ سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ بينما أنا نائم أُتيتُ بِقَدحِ لَبَنٍ فَشَربتُ مِنهُ حَتَّى إني لأرى الري يخرجُ مِن أظفاري ثُمَّ أعطَيتُ فَضلي عُمر قالوا فما أولته يا رَسولَ الله َقالَ العِلمَ
ظاهر الحديث يدل على فضل عمر رضي الله عنه وما خصه الله به من العلم والكلام عليه
من وجوه
منها أن يقال ما معنى هذا العلم الذي خص به عمر رضي الله عنه وقد جاء أنه قال أنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها فهل بين هذين الحديثين تعارض وهل لهما وجه يجتمعان به
فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن هذين الحديثين ليس بينهما تعارض وأن أحدهما يقوي الآخر وذلك أن العلم في الشريعة علمان أحدهما العلم بقواعد الشريعة وفروعها وأحكامها واستنباط ذلك من الكتاب والسنة وفهم ذلك بالنور الذي يهبه الله من يشاء من خلقه وهؤلاء هم ورثة الأنبياء عليهم السلام وهذا هو العلم الذي خُصَّ عليّ رضي الله عنه بالزيادة فيه على غيره من الخلفاء بحسب ما شهد له به رسول الله و و و و و ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول أعوذ بالله من معضلة لا يحضرها عليّ وإن كان الكل رضي الله عنهم بذلك علماء لكن خُص عليّ رضي الله عنه بالزيادة فيه والعلم الثاني هو العلم بالله وعظم قدرته وجلاله والعلم بأنه الغالب على أمره وهذا العلم لا تُعلم حقيقته حتى يكون للعالم به العلم به حالاً وهم القليل من الناس
أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب أخرجه الحاكم في المستدرك وتعقب عن جابر وأخرجه الخطيب عن ابن عباس وفي رواية للطبراني عن ابن عباس فمن أراد العلم فليأته من بابه
١٤٥٢
1
كما أخبر الله عزّ وجلَّ في كتابه حيث يقول ﴿ وَاللهُ غَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۱ وإن كان الصحابة والخلفاء لعمر رضي الله عنهم أجمعين يعلمون ذلك حقيقة لكن أعطى الله عزَّ وجلَّ لعمر رضي الله عنه في ذلك زيادةً وتلك الزيادة هي التي أوجبت له الشجاعة في الدين حتى شهد له بها رسول الله الله بقوله أنا مدينة الشجاعة وعمر بابها ولم يعن الشجاعة التي هي في القتال في مقارعة الأبطال فإن ما خَصَّ الله عزّ وجلَّ به سيّدنا له في هذا لا يقدر أحد أن يكون له باباً لما روي عنه عليه السلام في ذلك حتى قال علي رضي الله تعالى عنه كنا إذا اشتد القتال اتَّقَيْنا برسول الله وتلك الزيادة التي أوجبت له الشجاعة هي التي أوجبت له أن يسمّى فاروقاً لأن يوم إسلامه فَرّق الله فيه بين الحق والباطل وعُبِدَ الله جهراً وأعلى الله به كلمة الحق ومناره كما هو الحديث المأثور في ذلك فظهر مما أبديناه كيف اجتمع الحديثان وقوّى أحدهما الآخر
وهنا بحث وهو أن يقال ما هي الحكمة بأن تأول سيدنا الله واللبن بالعلم الذي أشرنا إليه قبل والجواب أنه إنما فعل ذلك لا لا اعتباراً بالذي كان أول الأمر فأخذ اللبن حين أُتي بقدحين قدح خمر وقدح لبن فخُيّر أن يأخذ أيهما شاء فأخَذَ اللبن فقال له جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ولو أخذتَ الخمر لَغَوَتْ أمتُك ٤ ـ يعني بالفطرة فطرة الإسلام - يعني فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ٥
وحقيقة الفطرة تقتضي المعرفة بحقيقة الربوبية وجلالها وكمالها وأنها الغالبة على أمرها وما نقص من نقص ذلك إلا بالمجاورة للغير كما قال الصادق و لكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ٦
وفيه دليل على جواز بثّ الرؤيا لمن هو أقل علماً من الرائي يؤخذ ذلك من ذكر سيدنا لو رؤياه للصحابة رضي الله عنهم
ويترتب على ذلك من الفقه إلقاء العالم المسائل وسؤاله فيها لمن هو دونه في المرتبة
۱ سورة يوسف من الآية ۱
لم نقف على مصدره
۳ أخرجه البخاري ومسلم عن البراء رضي الله عنه بلفظ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي
يحاذي به
٤ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله أتيت بالبراق
٥ سورة الروم من الاية ۳۰
٦ أخرجه أبو يعلى والطبراني عن الأسود بن سريع رضي الله عنه
١٤٥٣
وفيه دليل على أن من الأدب في علم العبارة إذا قص الرؤيا من هو أعلم بها على من دونه أن يردّ الأمر في ذلك إليه ويسأل عن معناها فإنه يغلب على الظن أن ما كان ذكره ذلك لمن هو دونه إلا أن يسألوه فيعلمهم يؤخذ ذلك من قول الصحابة رضي الله عنهم لما قص سيدنا الرؤيا لأنه عليه السلام ما أراد منهم أن يعلموه تأويلها وإنما كان قصده أن يسألوه فيعلمهم فلحسن أدبهم فهموا عنه فعملوا على ما يقتضيه الأدب فاستفادوا وأفادوا وكذلك ينبغى الأدب في جميع العلوم فإن من سنة العلم الأدب فيه ومع أهله إذا كان الله
وفيه دليل على أن علم سيدنا الله الله عزّ وجلَّ وجلاله لا يبلغه فيه غيره يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام شرب كما أخبر حتى رأى الريّ يخرج من أظفاره ثم أعطى فضله عمر فانظر بنظرك إلى الذي شرب فضلة رسول الله كيف كان قوة علمه الذي لم يقدر أحد من الخلفاء يماثله فيه فكيف بغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وكيف بمن جاء بعد الصحابة ثم انظر كيف يكون من شرب حتى رأى الريّ يخرج من أظفاره لا يمكن أن يبلغ أحد ذلك المقام
فجاء شربه ل و سرب عمر كما مثل الا الله بقوله أنا مدينة الشجاعة وعمر بابها فإن نسبة ما شرب عليه السلام من ذلك اللبن والذي شربه عمر كنسبة المدينة وسعتها من الباب وقدر مساحته وقدر سعته فما أحسن عباراته عليه السلام وما أحلى إشارته وفي تمثيله عليه السلام في اليقظة بالمدينة وبابها وما مثل له في النوم بالشرب على ما هو مذكور في الحديث وكيف ظهرت النسبة بينهما على حدّ سواء
وفيه دليل على أن كلامه عليه السلام بالله وعن الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً
وفيه دليل على ما قدمناه في الحديث قبل أن من الرؤيا ما يكون يدلّ على الحال وعلى الماضي فإن هذا الذي رأى سيدنا الله وهو تمثيل بأمر قد وقع فإن الذي أعطي عليه السلام من العلم بالله قد كان وكذلك عمر فكانت فائدة الرؤيا أن عرّف بقدر النسبة التي بين ما أعطي عليه السلام من العلم وما أعطي منه عمر وإن كان عليه السلام السبب فيه العمر رضي الله عنه وعلى يديه الكريمتين كان ذلك الخير ولأن يعرف به الغير حتى يقدر لكل أحد قدْرَه بحسب ما فتح الله عليه من الخير ولذلك قال الله أنزلوا الناس منازلهم - أي بقدر ما جعل الله لهم - ولا تبخسوا ولا تتغالوا وأقيموا الوزن بالقسط وكونوا عبيداً ولا تكونوا موالي ١ أو كما قال عليه السلام وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه أبو داود برقم ٤٢ و ٤٨ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢٦٥/٦
١٤٥٤
حديث فضل عمر رضي الله عنه وعلوه في الدين
عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عَنهُ يَقُولُ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينما أنا نائم رأيتُ النَّاسَ يُعرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيهِم قُمُص منها ما يبلغ التُّدِيَّ ومنها ما يَبْلُغُ دونَ ذلكَ ومرَّ عَلَيَّ عمر بن الخَطَّاب وَعَليهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ قالوا ما أوَّلتَهَ يا رسول الله قال الدِّين
*
ظاهر الحديث يدل على فضل عمر رضي الله عنه في الدين وعلوّ منزلته فيه والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى الناس المعرضون هل على العموم أو على الخصوص وما معنى الدين هنا
أما قولنا هل يعني بـ الناس العموم أو الخصوص فالظاهر أن المراد به الخصوص لأنه لا يمكن أن يكون المراد العموم لأنه إذا كان ذلك دخل تحته الكفار ولا يمكن ذلك لأن كل من راه كانت عليهم قمص منها ما يبلغ الثدي - وهو أقلهم - حتى إلى الذي يجرّ قميصه وهو أعلاهم ثم تأول عليه السلام ذلك بالدين والكفار لا يدخلون في هذا لأنه ليس لهم من الدين
1
ما يبلغ لا الثدي ولا إلى غيره فهو لفظ عام والمعني به الخصوص وهم أهل الإيمان والإسلام وبقي الاحتمال هل المراد بذلك جنس المؤمنين من أمته عليه السلام وغيرهم أو المراد بذلك أمته أو المراد بذلك ناس من أمته عليه السلام لا جميع الأمة محتمل لكل ذلك لكن الأخير هو الأظهر بدليل قوله في غير هذا الحديث ما ذكر فيه من فضل أبي بكر رضي الله عنه وغيره من الخلفاء رضي الله عنهم ولم يذكر لهم هنا مثالاً فدل بذلك أنهم ناس من المؤمنين لا جميع أمته ولا جميع جنس المؤمنين والله أعلم
۱ كذا بزيادة إلى بعد حتى
١٤٥٥
وأما قولنا ما معنى الدين هنا فهو ما أخبر الله عزّ وجلَّ في كتابه بقوله تعالى ﴿ إِنَّ الدينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَهُ ۱ الذي هو اتباع الأمر واجتناب النهي وكان عمر رضي الله عنه في ذلك كما هو المشهور عنه في علمه وزهده وفضله
وفي هذا دليل على ما ذكرناه في كثير من الأحاديث قبل أن الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ باتباع أمره واجتناب نهيه وبه يكون طريق السلوك ورفعة الأحوال لأهل الأحوال وغير ذلك لا شيء وإن ظهر لصاحبه شيء من خرق العادات فذلك من طريق الإملاء له والاستدراج وفيه دليل لما يقوله أهل علم العبارة أن الرؤيا اقلِبْ تَجِدْ يعنون أن الأمور التي تكون مكروهة في اليقظة إذا رئيت في النوم فهي حسنة يعني في بعض الناس وبعض الأحوال يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في قميص عمر الذي راه يجره أنه تأول فيه حُسْنَ دينه وهذه الحالة في اليقظة محرّمة لقوله إزرة المؤمن إلى نصف ساقه فإن زادت إلى الكعبين وما تحت ذلك ففي النار ٢
ويترتب على تأويل سيدنا بأن جعل القميص يدل على الدين أنه كل ما يرى في النوم من حسن أو ضده في القميص يكون ذلك في دين لابسه فهذه قاعدة في علم العبارة وكذلك كل ما جاء عنه عليه السلام من تفسير رؤيا من المرائي أن ذلك قاعدة من قواعد علم العبارة لأنه دليل الخير كله
وفيه بحث وهو أن يقال ما معنى الحكمة في أن جعل القميص دالاً على الدين هل ذلك تعبد أو لحكمة فتكون الفائدة بها أكثر فنقول والله الموفق للصواب اعلم أن كل من اتصف بصفة ما إما بملازمة الشيء أو بدعوى فيه فكأنه ألبس نفسه تلك الصفة وهو بصدد أن يخرج عنها أو يتصف بغيرها وحواسه وذاته باقية على حالها فلهذا شبهه عليه السلام بالقميص فإنك إذا لبست القميص فأنت بالخيار في أن تبقيه على نفسك أو تزيله عنك
ولتلك النسبة قال صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه إنهم يطلبون منك أن تخلع ثوباً كَسَاكَهُ الله فلا تفعل إشارة منه عليه السلام إلى ما طلبوا من عثمان رضي الله عنه من أن يتخلّع من الخلافة التي أعطاها الله له وكان أهلا لها وذلك عند قتله رضي الله عنه فلما كان المسلمون ادعوا الإسلام وقد ألبسوا أنفسهم هذه الحالة وجب عليهم - بحسب دعواهم - أن يكملوا تلك الصفة
۱ سورة ال عمران من الآية ١٩
رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٤٥٦
التي ادعوها فمن كمّلها جاء ثوبه كاملاً ومن أخل بشيء جاء ثوبه ناقصاً وكان نقص الثوب
بحسب ما نقص مما ادعاه من الإيمان والدخول فيه
الله عنه الذي
وهنا إشارة لأهل المرقعة وهي أنه ما حسنت تلك المرقعة على عمر رضي الله عنه كان في ثوبه ثلاث عشرة رقعة إحداها من جلد إلا لحسن ذلك الثوب الذي تحتها حتى كان يجره بحسب ما فضل من طول ذلك الثوب المبارك فعاد بهاؤه وجماله على المرقعة فجاءت كلها
حسنة
ومما يحكى في هذا النوع أن أحد الملوك بنى بيتاً وأراد أن يجلب له من الدهانين من له المعرفة الجيدة لأن يصوّروا فيه من التصاوير أبدع ما يكون فلما حضروا بين يديه افترقوا على فرقتين كل فرقة تدعي أنها أعرف من الأخرى فقال لهم تأخذ الفرقة الواحدة جانباً من البيت تنفرد به لا تدخل الأخرى معها والفرقة الأخرى الجانب الثاني على هذا الشرط فقالت الفرقة الأولى بشرط أن تجعل بيننا حجاباً حتى لا يروا منا أحداً ولا نرى منهم أحداً فإذا فرغنا ينظر الملك من هو قائل الحق منا فيما ادعاه
فأمر بذلك فكانت الفرقة الأولى تطلب من أنواع الأدهان أشياء عديدة ولا تبالي بمن يدخل عليها ليتفرج على ما يظهر من صنعها وكانت الثانية لا تطلب من الأدهان ولا من أنواع الصبغ شيئاً ولا تترك أحداً يدخل عليها واشتغلت بصقالة الحيطان ودلكها فلما فرغ أهل الدهان قيل للاخرين وأنتم فرغتم قالوا نعم قيل لهم فأزيلوا الستر بينكم فقالوا لا نزيله إلا بحضرة الملك كما اشترطنا أولاً
فلما حضر الملك ونظر إلى حسن ما فعله أهل الدهان والصبغ أعجبه فأزالوا الستر الذي كان بينهم فلحسن صقل الحيطان وبياضها وكثرة صقالتها انعكست تلك الصورة التي فعلت في الجانب الأول وتمثلت في هذا الجانب فأعجب ذلك الملك ومن كان معه واستحسنه فسألهم عن فعلهم ذلك فأشاروا إليه بأن قالوا إنما نحن مع النقاء والصفاء
فإذا كان هذا في الجماد فكيف يكون في الغير لكن بشرط أن يكون أهل المرقعة على طريقته رضي الله عنه حالاً لا دعوى ومن هذا الباب وقع الفرق بين الناس واللبيب فطِن تنبيه يا هذا ثوب دينك فأجِدَّه وثيابك فاخلعها ولا تعكس الأمر فتنعكس فوالله ما للزّورِ فائدة إلا زيادة في التوبيخ والخمول وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٤٥٧
-901-
حديث صدق رؤيا المؤمن عند قرب قيام الساعة
عن أبي هريرة رضي الله عَنهُ يَقولُ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اقتربَ الزَّمانُ لَم تَكَد تَكذَبُ رُؤيا المؤمنِ وَرُؤيا المؤمنِ جزء من ستَّة وأربعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوة وما كانَ مِنَ النُّبوَّة فإنه لا يكذب
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام أحدها أنه إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب والثاني أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة والثالث أن ما كان من النبوة فإنه لا يكذب وإن قلت نسبته وضعفت والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى اقترب الزمان وأي زمان هو وقوله لم تكد تكذب هل قبل اقتراب الزمان يكون في رؤيا المؤمن ما يكذب وليس بحق وكيف يجتمع ذلك مع قوله عليه السلام آخر الحديث وما كان من النبوة فإنه لا يكذب وكيف نسبة هذه الستة والأربعين من رؤيا المؤمن من أي وجه هي وما الفائدة في تكرار هذه الأحاديث في معنى نسبتها من النبوة
أما قولنا ما معنى اقترب الزمان وأي زمان هو فأما اقتراب الزمان فهو قربه لقول الله تبارك وتعالى أقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ١ أي قربت وأما الزمان فهو الزمان الذي تقوم فيه الساعة ولذلك عرفه بالألف واللام لقوله تعالى أقْتَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ ٢ أي زمان وقت حسابهم
وهي الساعة
وأما قولنا هل يدل قوله لم تكد تكذب رؤيا المؤمن على أنها قبل اقتراب الزمان فيها ما يكذب المسألة فيها خلاف بين أهل الفقه هل الأمر بجواز الشيء يدل على منع ضده أو لا
۱ سورة القمر من الآية ١ سورة الأنبياء من الآية ١
١٤٥٨
قولان ولذلك الإخبار بجواز الشيء هل يدل على جواز ضده أو لا فإن قلنا إنه لا يدل على جواز ضده فلا بحث وإن قلنا إنه يدل على عدم جواز ضده فعلى هذا يكون البحث في كيفية جمع الحديث أوله مع اخره
فقد قدمنا في الحديث الذي قبل هذا بحديثين أن الرؤيا فيها ما هو بيّن لا يخفى على أحدٍ من أهل العلم بعبارة الرؤيا وغيرهم ومنها ما لا يفهمه إلا أهل العلم بعبارة الرؤيا والذي يفهم منه فقليل فبقلة فهمهم لمعنى تلك الإشارات والأمور المحتملة لا يخرج لهم من ذلك التعبير الذي يعبرونه بحسب فهومهم إلا القليل فيصدق لغة أن يقال كذبت رؤيا فلان - وإن كانت في نفسها
حقاً - لأنه ما هو من النبوة فليس يكذب بل هو حق لا شك فيه وإنما جاء الكذب من المعبر لها يشهد لهذا قول الله سبحانه في حق كتابه العزيز يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً ۱ والكتاب كله في نفسه حق وهدى لكن بسوء فهم الضال الذي نظر فيه بغير هدى جاءه الضلال فنسب ضلاله إلى الكتاب لافترائه على الكتاب بتأويله الفاسد والعرب تضيف الشيء إلى الشيء بأدنى ملابسة ما أو شبهة ما فإذا قربت الساعة لم تكن رؤيا المؤمن إلا بالأمور البينة والإشارات الواضحة حتى لا يبقى فيها ولا في تعبيرها على أحد وجه من وجوه الإشكالات فلا يقع بسببها لأحد ممن تكلم فيها إشكال ولا كذب فيصدق عليها أنها لا تكاد تكذب فبهذا الوجه يصح
الجمع بين أول الحديث وآخره وفيما أبديناه دليل لمن يقول إن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه وأما قولنا كيف نسبة رؤيا المؤمن من النبوة ومن أي وجه يكون فالجواب على هذا قد تقدم في الحديث الذي قبل هذا بحديثين حيث ذكرنا الأحاديث التي وردت في تنويع عدد الأجزاء التي أتت فيها بين رؤيا المؤمن والنبوة وما يترتب على ذلك من التأويل لجميعها بحسب ما هو مذكور هناك وبقي هذا الحديث الذي نحن بسبيله لم نذكره هناك وحديث اخر وهو قوله الله في الرؤيا إنها من النبوة ولم يذكر فيه جزءاً من الأجزاء لا قليلاً ولا كثيراً
فالجواب على الحديث الذي لم يذكر فيه جزءاً من الأجزاء أن أهل الحديث من عادتهم إذا أتى حديث عام واخر مقيَّد جعلوا المقيَّد مفسّراً للمجمل فكيف إذا كانت المقيدات كثيرة والمجمَل واحداً فمن باب أحرى لكن زدنا هنا لتلك التوجيهات التي وجهناها هناك وجهاً آخر بمقتضى هذا الحديث وهو أن ذكره و اختلاف تلك الأجزاء من خمسة وعشرين جزءاً إلى اثنين وسبعين جزءاً وقد جاء أثر آخر ـ على ما يغلب على ظني ولا أقطع به في الوقت ـ بخمسة وسبعين جزءاً أن اختلاف تلك الأجزاء تكون بحسب صلاح الزمان وفساده
۱ سورة البقرة من الآية ٢٦
فعند صلاح الزمان وقوة إيمان أهله مثل الصحابة والذين من بعدهم وهم خير القرون - كما أخبر - تكون نسبة الرؤيا من النبوة بعيدة مثل اثنين وسبعين أو خمسة وسبعين - إن صح - لأنهم عاملون على ما جاءت به النبوة ولا يلتفتون إلى شيء كما ذكر عن سحنون ۱ رحمه الله أنه أتاه بعض إخوانه مكروباً من رؤيا رآها فقال له الشيطان أريد أن يحزنك ثم إنه وجّه وراء قسيس من قسس النصارى فقال له هل رأى البارحة منكم أحد رؤيا تسره فقال له نعم فلان مِنَّا وهو كبير في دينه رأى رؤيا سرته فقال له ألم أقل لك إنها من الشيطان ذهب إليك ليحزنك وذهب لهذا ليثبته على ضلاله أو كما قيل فانظر إلى قوة إيمانهم لا يعرجون على شيء بل هم مصدقون لما قيل لهم عاملون على ذلك بلا شيء يعارضهم وإن عارضهم لم يلتفتوا إليه ولم يعرجوا عليه
وإذا كان آخر الزمان عند اقتراب الساعة وضعف الإيمان وقلة أهله قويت النسبة بين رؤيا المؤمن وبين النبوة بسبعة وعشرين جزءاً أو خمسة وعشرين جزءاً لأن المؤمن في ذلك الوقت غريب كما قال صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء رواه مسلم فلا يكون للمؤمن في ذلك الوقت أنيس ولا معين إلا من طريق الرؤيا غالباً وما بين ذينك الحديثين تفاوتت أحوال الناس فيما بين الزمانين على الترتيب
وهنا بحث هو ما الحكمة في هذا التأويل بحسب ما شهد له قول الصادق في الحديث صلى الله عليه وسلم الذي نحن بسبيله بقوله لم تكد تكذب رؤيا المؤمن فاعلم - وفقنا الله وإياك - أنه مما قد علم من حكمة الله تعالى أن الله سبحانه ما كان يبعث الرسل إلا بعد الفترات التي كانت تأتي بعد الرسل عليهم السلام
فلما كان سيدنا اخر الرسل ولا نبي بعده وأن بين موته وقيام الساعة زمان أطول من الفترات التي تقدمته بين الرسل عليهم السلام وعلم الحق عزّ وجلَّ من عباده أنه مع طول المدى بلا رسول بينهم يهديهم أن الإيمان ينقص وأهله يقلون وأراد بفضله أن تبقى من هذه الأمة عصابة على الحق إلى يوم القيامة لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة ۳ وصح بنقل الرسل صلوات الله عليهم عنه عنه جل جلاله كثرة لطفه بعباده المؤمنين ورحمته لهم ورفقه بهم فجعل لهم من أثر النبوة شيئاً يستأنسون به ويتقوى إيمانهم به ويجدون فيه شفاء لبرء دائهم
۱ تقدم ذكره في الحديث ۷۸
قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سنة الأشجعي رضي الله عنه
۳ رواه مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ولفظه لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك
12
فعند صلاح الزمان وقوة إيمان أهله مثل الصحابة والذين من بعدهم وهم خير القرون -
1
كما أخبر - تكون نسبة الرؤيا من النبوة بعيدة مثل اثنين وسبعين أو خمسة وسبعين - إن صح - لأنهم عاملون على ما جاءت به النبوة ولا يلتفتون إلى شيء كما ذكر عن سحنون ۱ رحمه الله أنه أتاه بعض إخوانه مكروباً من رؤيا رآها فقال له الشيطان أراد أن يحزنك ثم إنه وجّه وراء قسيس من قسس النصارى فقال له هل رأى البارحة منكم أحد رؤيا تسره فقال له نعم فلان مِنًا وهو كبير في دينه رأى رؤيا سرته فقال له ألم أقل لك إنها من الشيطان ذهب إليك ليحزنك وذهب لهذا ليثبته على ضلاله أو كما قيل فانظر إلى قوة إيمانهم لا يعرجون على شيء بل هم مصدقون لما قيل لهم عاملون على ذلك بلا شيء يعارضهم وإن عارضهم لم يلتفتوا إليه ولم يعرجوا عليه
وإذا كان آخر الزمان عند اقتراب الساعة وضعف الإيمان وقلة أهله قويت النسبة بين رؤيا المؤمن وبين النبوة بسبعة وعشرين جزءاً أو خمسة وعشرين جزءاً لأن المؤمن في ذلك الوقت غريب كما قال الله بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء رواه مسلم فلا يكون للمؤمن في ذلك الوقت أنيس ولا معين إلا من طريق الرؤيا غالباً وما بين ذينك الحديثين تفاوتت أحوال الناس فيما بين الزمانين على الترتيب
وهنا بحث هو ما الحكمة في هذا التأويل بحسب ما شهد له قول الصادق الله في الحديث الذي نحن بسبيله بقوله لم تكد تكذب رؤيا المؤمن فاعلم - وفقنا الله وإياك - أنه مما قد علم من حكمة الله تعالى أن الله سبحانه ما كان يبعث الرسل إلا بعد الفترات التي كانت تأتي بعد الرسل
عليهم السلام
فلما كان سيدنا الله اخر الرسل ولا نبي بعده وأن بين موته وقيام الساعة زمان أطول من الفترات التي تقدمته بين الرسل عليهم السلام وعلم الحق عزّ وجلَّ من عباده أنه مع طول المدى بلا رسول بينهم يهديهم أن الإيمان ينقص وأهله يقلون وأراد بفضله أن تبقى من هذه الأمة عصابة على الحق إلى يوم القيامة لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة ۳ وصح بنقل الرسل صلوات الله عليهم عنه جل جلاله كثرة لطفه بعباده المؤمنين ورحمته لهم ورفقه بهم فجعل لهم من أثر النبوة شيئاً يستأنسون به ويتقوى إيمانهم به ويجدون فيه شفاء لبرء دائهم
۱ تقدم ذكره في الحديث ۷۸
قطعة من حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سنة الأشجعي رضي الله عنه
۳ رواه مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ولفظه لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك
12
وعوناً على مخالفيهم وهي الرؤيا الحسنة التي بدىء نبيهم الله بها كما جاء في أول حديث من الكتاب كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح ۱ فبالذي بدىء به هذا الخير به ختم كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ٢
وفي هذا دليل على فضيلة سيدنا وهو أن أبقى لأمته من الخير الذي أعطي أثراً يهتدون به ويستريحون إليه حتى لا تخلو بركته ولا أثره الجليل من أمته وبقي هديه عليه السلام لهم في عالم الحس والمعنى ففي عالم الحس بالثقلين وهما الكتاب والسنة وفي عالم المعنى بالرؤيا الحسنة وكل واحد منهما يصدق صاحبه فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۳
وأما قولنا ما الحكمة في تكرار ه ه ه ه ه ه ه ه ه هذه الأحاديث العديدة في شأن نسبة رؤيا المؤمن من النبوة فذلك لوجوه منها أن يحصل لها قوة ولو كان ذلك كله في حديث واحد لم يكن كذلك ولأن يُظهر بكثرة ذكره عليه السلام لذلك لأمته كثرة اعتنائه عليه السلام بالرؤيا والبحث عنها لكونها من النبوة لأنه كان من سنته عليه السلام إذا اهتم بالأمر يكرره مراراً
وفيه من الحكمة أن الحكم إذا كان لا يظهر حقيقة إلا بجمع الآثار التي وردت فيه فلا يعلم ذلك إلا القليل لأنه لا يعلم جميع تلك الأحاديث كثير من الناس حتى يكون الأمر على ما ذكره عليه السلام أول الكتاب بقوله إنما أنا قاسم والله يعطي
وفيه أيضاً من الحكمة أن من ظهر له في أحدها حكم ثم لا يقدر أن يجربه في باقيها فذلك دال على ضعفه وإن كان يمكن جريه في جميعها كان ذلك دالاً على صلاحه وحسنه لأن كلامه كله لا يوجد فيه خلاف ولا تناقض إلا من قلة فهم الناظر فيه ولولا تكرارها وكل واحدة منها لا بد أن يوجد فيها معنى زائد على غيرها ما ظهرت بتوفيق الله تلك التوجيهات التي وجهناها من الفهم في جميع الأحاديث التي وردت في هذا الشأن مفترقة ومجموعة فإذا تأملتها تجدها جملة عديدة ولوجوه من الحكمة عديدة لمن وفق وتأملها
جعلنا الله ممن أسعده بما وهبه بفضله امين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الشيخان عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأوله أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة
في النوم
سورة الأنبياء من الآية ١٠٤ ۳ سورة الحجرات من الآية
٤ قطعة من عنهما
حديث أوله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين رواه الشيخان عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله
١٤٦١
حديث تحريم الكذب في الرؤيا والتجسس والتصوير
عَن ابنِ عباس رضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَن تَحلَّم بحُلم لَم يَرَهُ كُلِّف أن صلى الله عليه وسلم يَعْقِدَ بين شعيرتينِ وَلن يفعلَ وَمَن استمع إلى حديثِ قومٍ وَهُم لهُ كارِهونَ صُبّ في أُذُنَيْهِ الآنك يوم القيامةِ وَمَن صَوَّرَ صُورةً عُذَّبَ وَكُلِّف أن ينفخ فيها وَلَيسَ بنافخ
*
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام أحدها أنه من قال إنه رأى رؤيا وهو في ذلك كاذب كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ومعناه أنه يعذب طول الزمان الذي لا يقدر أن يعقد بينهما وهو لا يقدر فعذابه دائم والثاني أنه من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة وهو الرصاص المذاب والثالث أنه من صوّر صورةً عُذب وكُلف يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ ومعناه أنه يعذَّب طول الزمان الذي لا يقدر أن ينفخ فيها وهو ليس بنافخ وقد جاء من طريق آخر وليس بنافخ فيها أبداً فدل على دوام عذابه مثل الأول والكلام عليه من وجوه منها أن يقال ما الحكمة في أن سمّاه عليه السلام حُلماً وما معنى يعقد في هذا الموضع وما نسبة هذا مما فعله بمقتضى الحكمة لأن باقي الحديث يدل على أن عذاب كل واحد مناسب لِذَنْبِهِ ولم جعل هذا من أعظم الذنوب لأن من طال مقامه في النار فهو دال على عظم ذنبه وكيف استماع الحديث الذي يترتب عليه هذا العذاب المؤلم هل هو كيفما سمعه أو هو على وجه خاص وكيف يكلف أن يعلم كراهيتهم لسماعه هل يطلب بذلك بحسب قرينة الحال أو بعلم قطعي وقوله صورة هل هي على العموم أو الخصوص
أما قولنا ما الحكمة في أن سماه عليه السلام حُلما ولم يسمه رؤيا فلأنه لما كان هذا الرائي ادعى أنه رآها ولم ير شيئاً فكانت كذباً والكذب إنما هو من الشيطان وقد قال صلى الله عليه وسلم في
١٤٦٢
غير هذا الحديث إن الحُلْم من الشيطان ۱ وهو غير حق فعبر عنه بحقيقة معناه لأنه غير حق
ولأنه من الشيطان
بعضاً
وفي هذا دليل لما قلناه في الحديث قبله أن كلامه كله صلى الله عليه وسلم ليس فيه تناقض وأنه يصدق بعضه
وأما قولنا ما معنى يعقد بين شعيرتين فمعناه يصل إحداهما بالأخرى حتى يردّهما واحدة وهذا لا يقدر عليه أبداً وجاءت رواية بين شَعَرَتَين ومعناه يصلهما حتى يردهما شَعَرة واحدة لا أن يعقدهما بعقدة يعقدها لأنه قد يعقد بين شَعَرتين ولو كان يطلب منه ربطهما بعقد يعقده لعقدهما كما يسبق لفهم السامع لم يكن في ذلك صعوبة حتى لا يقدر أن يفعله وإنما معناه - والله أعلم - أن يعقد بينهما أي يصلهما بعضاً ببعض حتى يعودا واحدة
فهذا لا يقدر عليه لا هو ولا أحد إلا الله سبحانه وكذلك البناء وهو الذي يصل بعضه ببعض حتى يعود البناء شيئاً واحداً ولذلك ضرب المثل للمؤمنين بقوله و المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى يكون شيئاً واحداً
وأما قولنا ما نسبة ما كلف مما فعل بمقتضى الحكمة وذلك أنه لما كذب على الله في خلقه لأن الرؤيا خلق من خلق الله فأدخل في الوجود صورة معنوية لم تقع كما فعل الذي صَوّر الصورة الحسية لأنه أدخل في الوجود في عالم الحس صورة ليست بحقيقة لأن حقيقة الصورة المقصود منها ما جعل فيها من الروح والحياة فكلف صاحب الصورة الكثيفة أن يتم ما خلقه بنفخ الروح فيها وكلف صاحب الحلم الذي أتى بالصورة اللطيفة أمراً لطيفاً وهو أن يعقد بين
شعيرتين
وفي هذا دليل على أن كل ما هنا من الأمور المعنويات يكون الأمر فيها في الآخرة حسياً غير أنه يكون بينهما نسبة ما كما جاء في الحسنات والسيئات ومنها ما هو معنى وكلها تكون في الآخرة حسيّات لأنها توزن في الميزان ولا يوزن في الميزان المحسوس إلا حسي لكن يبقى بينهما نسبة ما وهي من وجهين الخفة والثقل وبحسب قدرها يكون في عالم الحس هناك قدرها أيضاً والوزن أيضاً كذلك
فجنس الحسنات نوري وجنس السيئات سواد وظلمة فلما ادعى هنا معنى لم يخلقه الله - وهو تلك الرؤيا التي زعم - قيل له كما فعلت هناك أمراً لطيفاً لم يخلقه الله فافعل هنا أمراً لطيفاً لم
۱ رواه البخاري ومسلم عن أبي سلمة رضي الله عنه بلفظ الرؤيا الصادقة من الله والحلم من الشيطان
أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
١٤٦٣
يشأه الله فإن الله عزّ وجلَّ قد شاء أن تكون هاتان الشعيرتان منفصلتين فاخلق أنت بينهما اتصالاً حتى يرجعا واحدة وهذا أمر لطيف ومهما لم تقدر على هذا مع لطافته تُعذَّب ولن تقدر على ذلك الأمر مع دقته ولطافته أبداً
وفي هذا دليل لأهل السنة الذين يقولون إن الخلق كله الله فلو لم يكن كذلك لكان هذا
يصل بين تينك الشعيرتين وقد تقدم في الكتاب في هذا ما فيه كفاية فأغنى عن بسطه هنا وأما قولنا ما الحكمة بأن جعل هذا من أعظم الذنوب فلأنه نازع الحق جل جلاله في قدرته وخلقه أما قدرته فلأنه ادعى بلسان حاله أنه خالق ومنازعته الله في ادعائه أنه خلق خلقاً يشبه خلق الله وليس الأمر حقاً في ذاته فامتحن بأن يخلق أهون الأشياء وهو العقد بين شعيرتين من ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان
والوجه الثاني أنه كذب على النبوة لأن الرؤيا جزء من النبوة وقد قال صلى الله عليه وسلم من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ۱ فلجمعه بين هذين الأمرين العظيمين عظم ذنبه
وقوله ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون هل هذا الاستماع على العموم على أي وجه كان أو على الخصوص الظاهر أنه على الخصوص لأنه لو كان على العموم لكان الأكثر منه من تكليف ما لا يطاق ومولانا سبحانه قد منّ علينا ولم يكلفنا ما لا يطاق إنما كلفنا في العلم بذلك بحسب قرائن الحال التي تدل على كراهيتهم لسماعنا إلى حديثهم فالاستماع على وجه خاص وليس على عمومه
آخر
وذلك مثل قوم يتحدثون في منزلهم فإن استمعت إلى حديثهم فقد دخلت تحت هذا الحد لأنهم بقرينة حالهم - وهو كونهم في منزلهم وقد أغلقوا دونك بابهم - فدل ذلك على أنهم إنما أرادوا أن ينفردوا بحديثهم دونك ودون غيرك ممن خلف بابهم وكذلك إذا تسار شخص مع ومع جماعة دونك فقد كرهوا أن يسمعوك حديثهم فإن تسمعت إليه دخلت هذا الحدّ ولذلك نهى أن يتناجى اثنان دون واحد لمّا كان الواحد ممنوعاً أن يتسمع إلى حديثهما منعا أيضاً أن يتناجيا دونه فيقع عنده منهما توهم ويظن بهما فمنعا من ذلك بقوله لا يتناجي اثنان دون واحد وأما إن كانوا يتحدثون أمامك جهراً وإن كان في قلوبهم كراهية منك أن
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود والطيالسي عن أنس رضي الله عنه وله
روايات كثيرة بلغت درجة التواتر
رواه الطبراني والخطيب عن ابن عمر رضي الله عنهما
١٤٦٤
تسمع كلامهم فهذا لا يلزمك منه شيء ولا أنت مطلوب بأن تعلم كراهيتهم لاستماعك حديثهم وفيما مثلنا به كفاية في الجواب عن المسألتين
وقوله من صور صورة هل هو على العموم في كل صورة من الصور أو على الخصوص اللفظ محتمل وقرينة الحال التي بعد تقتضي الخصوص وهي قوله ويكلف أن ينفخ فيها فإنه لا ينفخ في صورة من الصور إلا صورة لها روح فتخصص بهذه القرينة أنها كل صورة لها روح من أي أنواع المخلوقات كانت وقد جاء معنى هذا نصاً عن عبد الله ابن عمر حين سأله شخص كان يتعاني هذا فقال له صوّر كل ما شئت مما ليس له روح مثل الشجر والفواكه وشبههما أو كما قال رضي الله عنه
وبقي هنا بحث من طريق الفقه وهو هل هذه التصويرات التي عملها بعض الناس من العجين والسكر أيضاً أو من العسل هل تؤكل أو أكلها حرام كما هو فعلها حرام فإن كل من عمل شيئاً وهو يعذب من أجله ففعله حرام بلا خلاف فعلى القول بأن النهي يعود على فساد المنهي عنه فأكلها حرام ولا يجوز الانتفاع بها ولا أن تطعم لدواب ولا غير ذلك من الحيوان بل ترمى في البحر أو تدفن في الأرض فبيعها حرام ولا يجوز ويفسخ إن وقع
وعلى القول بأن لا يعود على فساد المنهي عنه وفاعله آثم فيكون أكله مكروهاً من طريق لسان العلم لكن الذي يشتريها الأمر في حقه أشدّ لأنه يعين بائعها وفاعلها على أمر لا يحل له عمله ويدخل من أجله النار وأمره يتردد بين الحرام والمكروه والتحريم أظهر فيه لا سيما إن كان مما لا يبالي به في دنيا أو دين فيزيد الأمر عليه شدة لاقتداء الغير به فيكون عليه إثم من تبعه فدخل في الأريستين وقد تقدم لقوله صلى الله عليه وسلم فإنما عليه إثم الأريستين ۱
وأما من طريق الورع أو طريق أهل السلوك فممنوع بلا خلاف لقوله لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وقمتم حتى تكونوا كالحنايا ولم يكن لكم ورع حاجز لم يمنعكم ذلك من النار والورع فيما هو أقل من هذا فإن هذا عند أهل التحقيق من الفقهاء حرام فكيف بطريق الورع أو طريق الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح الذين كانوا يقولون ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام لأن الطعام إذا كان فيه شبهة أظلم القلب وقسا به وقد قال القاسي القلب بعيد من الله أعاذنا الله من ذلك بفضله آمين
۱ قطعة من الحديث الذي هو رسالة النبي لا لا لا لها إلى هرقل ملك الروم أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين
رواه ابن منده من حديث عمر رضي الله عنها ولفظه لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة قال الذهبي باطل
١٤٦٥
وفي الحديث بتضمنه إشارة لطيفة وهي أنه من خرج عن وصف العبودية وجب عقابه
ويكون عقابه بقدر جرمه
وفيه تنبيه على أن الجاهل لا يعذر بجهله يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام أخبر عن أصحاب هذه الذنوب كيف عذابهم ولم يفرق فيه بين من يعلم تحريم ذلك وبين من لا يعلمه فالكل مؤاخذون بذنوبهم جهلوها أو علموها وفيه تنبيه على أن الذي يعمل على تأويل ليس على الوجه المأمور به أنه لا يعذر بذلك التأويل وإن كانت المسألة فيها خلاف بين العلماء
وفيه تنبيه على أنه من سئل في مسألة فأفتى فيها بغير علم وعمل عليه أنه ليس له في ذلك عند الله عذر وأنه يعذب على المخالفة التي وقعت منه يؤخذ ذلك من عموم الأخبار من الصادق بعذاب هؤلاء ولم يستثن فيه نوعاً من هذه الأنواع ولا أشار إليه وقد جاء النص منه عليه السلام على هذه الإشارة التي أشرنا إليها بقوله عليه السلام اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ۱
وفي مجموع هذه دليل على طلب علم الكتاب والسنة لأنه لا تعلم هذه وأمثالها إلا من هذا العلم المبارك الذي جعله الله عزّ وجلّ طريقاً إلى معرفته ومعرفة أحكامه وغيره ضلال أو بطالة كما قال لا في عالم الأنساب علم لا ينفع وجهالة لا تضر
وفقنا الله إلى علم كتابه وسنة نبيه
وجعلنا ممن سعد به لا ربَّ سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما وتمامه إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
أخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه علم النسب علم لا ينفع وجهالته لا تضر
١٤٦٦
حديث الأمر بألا تحدّث رؤيا الخير إلا من تحب
ولا تحدّث بالذي تكره
قتادة١
عن أبي قتادة ١ رضي
الله عَنهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ الرُّؤيا الحسنَةُ مِنَ الله فإذا
رَأى أحدكم ما يحبُّ فَلا يُحدِّث به إلا مَن يُحِبُّ وإذا رأى ما يكرهُ فَلْيتعوَّذُ بالله مِن شَرِّها وَمِن شَرِّ الشَّيطان وَلْيَتفُلْ ثلاثاً ولا يُحدِّث بها أحَداً فإنَّها لا تَضُرُّهُ
*
ظاهر الحديث يدل على أربعة أحكام أحدها إخباره الله بأن الرؤيا الحسنة من الله الثاني الأمر منه لا أنه إذا رأى أحد ما يحبّ فلا يحدث به إلا من يحب الثالث أمره لمن رأى ما يكره أن يتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان ويتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً والرابع إعلامه أنه من امتثل أمره عليه السلام في الرؤيا التي يكرهها فإنها لا تضره والكلام عليه من
وجوه
منها أن يقال ما معنى الحسنة وما الحكمة في نسبتها إلى الله سبحانه وما الحكمة أيضاً في ألا يحدث بالحسنة إلا من يحب وكيف صفة التعوّذ وصفة التفل وما الحكمة أيضاً في ألا يحدث بالمكروهة أحداً لا من يحب ولا من لا يحب
وأما قولنا ما معنى الحسنة فمعناها كل ما يكون لك فيها خير ويحتاج ذلك إلى العلم بالتعبير إن كانت مما يحتاج إلى تعبير لأنه قد يكون ظاهرها خيراً وهو غير ذلك وقد يكون الأمر فيها بالعكس إلا إن كانت بيّنة لا تحتاج إلى تعبير فحينئذ تجري على هذا الحكم
وأما قولنا ما الحكمة في نسبتها إلى الله تعالى فهذا جارٍ على أدب العبودية وعلى ما جاء
۱ تقدم ذكره في الحديث ۱۸
١٤٦٧
به القرآن من قوله عزّ وجلّ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۱ ويشهد لذلك أيضاً قوله عليه السلام إنها من النبوة ٢ كما ذكر في الأحاديث قبل لأن النبوة من الله أي من عند الله وفيه إشارة إلى أن الخير الذي مَنّ الله به على العبد من الرؤيا الحسنة أو النبوءة أو أي نوع كان من أنواع الخير أنه من عند الله أي بفضله ورحمته لا بحق لازم عليه لأحد من العباد كان العبد من أي نوع كان من أنواع عبيده ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْنَضُ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۳
وأما قولنا ما الحكمة في ألا يُحدِّث بالحسنة إلا من يُحِب فالكلام على هذا من وجهين أحدهما هل يعني بذلك من تحبه أنت وإن كان هو لا يحبك أو معناه لمن تحب أنت ويحبك هو ظاهر اللفظ محتمل لكن يعلم من العادة الجارية بين الناس أن المحادثة لا تكون غالباً إلا مع من يكون بينهما تواد ومحبة من الطرفين أو محبة من الطرف الواحد وعدم البغض من الطرف
الآخر
وأما الذي يكون فيه من أحد الطرفين بغض فلا يمكن بينهما محادثة بل منافرة وفرار كلّي لحديث بريرة ومغيث المتقدم ذكرهما كان يمشي خلفها يبكي من فرط حبها وهي من فرط بغضها لا تلتفت إليه فكيف يكون بين من هما على ذلك الحال محادثة هذا بعيد والنبي الله لا يخاطبنا إلا على ما هو المتعاهد من عوائدنا
فالمحادثة على وجهين إما مع من تحبه ويحبك أو مع من تحبه وهو لا يكرهك لأنه لا بد في الذي تحبه وهو لا يبغضك أن يكون له إليك ميل ما فهذان الشخصان هما اللذان تحدثهما برؤياك الحسنة
وأما قولنا ما الحكمة في منعك أن تحدث بها من يبغضك أو تبغضه أما من تبغضه أنت فلا بد أن يجد لك بغضاً ما لأن الحكمة الإلهية جرت بأن تكون بين القلوب مادة يجذب بعضها من بعض بحسب ما في هذا يجد الآخر منه نسبةً ما إما أقل أو أكثر أو بالتساوي هذا متعارف عند ما أرباب القلوب حتى إن من كلامهم في هذا النوع انظر إلى فؤادك كما تجدنا نجدك يعنون كما تجدنا فيه من حسن أو قبح كذلك نجدك وجاء هذا الحديث شاهداً لهم
1 سورة النساء من الآية ۷۹
أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري ومسلم عن ابن عمر وعن أبي هريرة والطبراني عن ابن مسعود رضي الم عنهم ولفظه الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة
۳ سورة ال عمران الايتان ٧٣ و ٧٤
الله
١٤٦٨
وقد ذكر مما يقوي هذا النوع أن بعض التجار في مدينة مَرّاكُش كان يجلس عنده أحد أبناء
الدنيا ممن له تعلق بالملك ويظهر له توادّاً فإذا انفصل عنه يقول لأصحابه هذا الرجل يعاملني بالبر وأجد له في نفسي كراهية فلما كان يوم عيد من الأعياد خرج ذلك التاجر إلى الصلاة بزينة العيد وكان أثر مطر وإذا بذلك الشخص خارج وهو راكب جواداً فلما قرب منه لوثت الدابة التي كان عليها ثياب ذلك التاجر وشوّهتها ورجع إلى بيته على حالة مسكينة فقال لأصحابه ظهر الموجب للكراهية التي كنت أجد له
فإن المبغض لك إمّا البغض الظاهر وإما الباطن الغالب أنه لا يقصر عنك في إذاية ۱ إن قدر عليها فلعلك إن قصصت عليه الرؤيا أن يعبرها لك على وجه مكروه وهي حسنة وقد جاء أن الرؤيا مثل الطائر فإذا عبرت وقعت ولزمت
ومما يقوي هذا قصة يوسف عليه السلام لما أتاه الشخصان وقد أبدل كل واحد منهما رؤیاه برؤيا صاحبه فلما عبّرها يوسف عليه السلام ورأى الذي كانت رؤياه دالة على الخير ـ وهو قد أبدلها مع صاحبه - فقال له لم يكن الذي رأى هذه إلا صاحبي هذا ولم تكن رؤياي إلا حسنة فقال لهما يوسف عليه السلام قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ ۳ أي بالتعبير قد وجب لكل واحد منكما ما عبّر له فكان الأمر كذلك
ولوجه آخر وهو أنه إن كانت قد عبرت لك بخير يحتال عليك في ذلك الخير الذي بشرت به كيف يشوش عليك لعله يدفعه عنك كما فعل إخوة يوسف عليه السلام حين رأى الرؤيا وقصها على أبيه يعقوب عليه السلام فقال لَا نَقْصُصْ رُهْ يَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٤ فجاء الأمر كما أخبر يعقوب عليه السلام
فمن أجل هذين الأمرين هي ألا تحدث برؤيا الخير إلا من تحب ولأن الغالب على من يحبك أو يميل إليك بقلبه من أجل حبك له أنه لا يحسدك ولا يريد لك إلا خيراً ولذلك منع عليه السلام من أن تحدث بها من لا تحبه وإن كان لا يبغضك خوفاً أن يحدث الشيطان عنده بذلك حسداً أو يتلفظ في تعبيرها بلفظ يلحق منه إذاية كما ذكر عن ابن سيرين ٥ الذي كان مشهوراً
1 يريد أذية
٢ أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه بلفظ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ولا تقصها إلا على واد وذي رأي
۳ سورة يوسف من الآية ٤١
٤ سورة يوسف من الاية ٥
0
ابن سيرين محمد أنصاري بالولاء إمام وقته في علوم الدين بالبصرة وتابعي من أشراف الكتاب مولده =
١٤٦٩
بعلم التعبير أنه جاءه شخص برؤيا فلم يجده في الدار فقال له الخادم وما كنت تريده فقال له يعبر لي رؤياي فقال وما هي فقال إني رأيت كأني أشرب البحر فقال له الخادم أولم ينفتق
بطنك
فولى عن الدار وإذا بابن سيرين فذكر له الرؤيا فسأله هل ذكرتها لأحد فقال له لخادمك وقال كيت وكيت فقال احتفظ على نفسك فولى عنه فإذا ببقرة شرود قد أفلتت من صاحبها وهو خلفها يجري فتعرض لها فنطحته بقرنها فشقت بطنه أو كما قال وفي هذا دليل على كثرة شفقته على أمته
وفيه دليل على التحضيض على اتباع أثر الحكمة يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام عن أن تحدث برؤياك من لا تحب وهو عمل سبب من أثر الحكمة في دفع الضرر عنك كما فعل يعقوب مع يوسف عليهما السلام لكن إذا جاء القدر لا ينفع معه أثر الحكمة مثلما جاءت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما أوصاه أبوه ولم تنفعه تلك الوصية للقدر الذي سببه بفراقه ولما عمل إخوة يوسف ذلك السبب بألا يظهر عليهم لم ينفعهم ذلك أيضاً وكان هو الظاهر عليهم لذلك قال جل جلاله ﴿ وَاللَّهُ غَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ١
1
ما شاء هو عزّ وجل بقدرته ينفذ لا محالة ولا ينفع فيه أثر الحكمة لكن نحن بها مخاطبون فنفعلها امتثالاً ونعلم مع ذلك أنه لا ينفع منها إلا ما وافق القدر من ذلك وإلا فالقدر هو النافذ لذلك لا محالة ولذلك قال بعضهم
وإذا حَذِرتَ مِنَ الأمورِ مُقَدَّراً وفَرَرْتَ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَوجَّهُ وهذه أجل الطرق لأنها جمعت بين الشريعة والحقيقة ومن أجل ذلك أثنى الله على يعقوب عليه السلام وقال في حقه وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ ﴾ ٢
وأما كيفية التعوذ فاعلم أن صفة التعوذ قد جاء عنه له في غير هذا الحديث نصاً وهو أن يقول أعوذ بالله من شرّ ما رأيت أن يضرني في ديني ودنياي والتعوذ من الشيطان معلوم وأما صفة التفل فقد عبر عنه بعض العلماء بشبهك إذا ألقيت نوى الزبيب من فيك حين
ووفاته بالبصرة نشأ بزازا في أذنه صمم وتفقه وروى الحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا ينسب له كتاب تعبير الرؤيا توفي سنة ۱۱۰ هـ ۷۹م الأعلام ۷٥ ٧٢٩ ٢٥/٧
۱ سورة يوسف من الاية ٢١
سورة يوسف من الاية ٦٨
١٤٧٠
تأكله وهو وجه حسن من التمثيل وقد جاء عنه في حديث غير هذا أن تتحول عن الجنب الذي
رأيت فيه ما تكره إلى الجنب الثاني
وقوله صلى الله عليه وسلم فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً عطفه بالواو توسعةٌ بأيها
بدأت فلا شيء عليك فيه
وأما قولنا ما الحكمة في ألا تحدث بالتي تكرهها أحداً لا من تحب ولا من لا تحب فإن كان تعبداً فلا بحث وإن كان لحكمة - وهو الأظهر - فما هي احتملت وجوهاً منها أن يكون عدم تحدثك بها حتى تلقيها عن قلبك فلا يبقى لك منها حزن فيكون هذا من باب الشفقة واحتمل أن يكون هذا من أجل الغير فتُحزِنَ الذي يودك بشيء لا يضرك وإن كان ممن يبغضك فيُسرّ بها فلسروره بتحزين مسلم يكون مأثوماً وتكون أنت سبباً لأن تدخل على أخيك المسلم سوءاً في عمله بشيء لا يضرك
واحتمل أن يكون عليه السلام جعل عدم ذكرك لها دالاً على تصديقه عليه السلام في الذي أخبرك به فتصديقك ه ه ه ه و و و و و و وامتثالك لأمره هو الذي يدفع عنك ذلك الضرر الذي كان يلحقك
منها
واحتمل مجموع التوجيهات كلها والآخر منها هو أظهرها والله أعلم ولذلك قال العلماء إن الرؤيا إذا كانت تدل على شرّ ولم تكن حلماً وامتثل صاحبها السنة كما أخبر في هذا الحديث إنها لا تضره ببركة اتباعه السنة وهو الحق الذي لا شك فيه لأن الله عزّ وجلّ يقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ ۱ وهذا لفظ عام فلا يقصر على جهة واحدة ولا معنى واحد بل يبقى على عمومه لأن ذلك فضل من الله وما كان من طريق فضل الربوبية يعتقد فيه أكمل وجوه الخير لأن ذلك هو اللائق بجلاله سبحانه
جعلنا الله ممن تمسك بالكتاب والسنة وتوفانا على ذلك مغفورا لنا بفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الأنبياء الآية ۱۰۷
١٤٧١
ITAE I
حديث الأمر بالصبر على طاعة الأمير وعدم مفارقة الجماعة
عَن ابنِ عباس رضي الله عَنهُما عَنِ النبي الله قال مَن رأى مِن أميرِهِ شيئاً يكرهه صلى الله عليه وسلم فَلْيَصبِرْ عَليهِ فإنَّهُ مَن فارقَ الجماعَةَ شِبراً فَمَاتَ إلأ ماتَ مِيتةً جاهلية ١
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الأمر لمن رأى من أميره ما يكرهه بالصبر على ذلك ولا ينكث في بيعته والثاني إخباره و أنه من فارق جماعة المسلمين قدر شبرمات على سنة الجاهلية والكلام عليه من وجوه
منها الشيء الذي يكرهه من أميره هل هو على العموم في أمور الدنيا والآخرة أو هو على الخصوص في أمور الدنيا وما يتعلق بالأمور النفسانية وما صفة هذه الجماعة هل هم الذين تسموا باسم الإسلام كانوا على أي حالة كانوا عليها أو معناه الخصوص وكيفية هذه المفارقة وما معنى تحديدها بالشبر وما هو معنى ميتة جاهلية هل يكون معناه على الكفر المحض أو على صفة من صفات الجاهلية مع بقاء الإيمان
أما قولنا الشيء الذي يكرهه من أميره وأمر بالصبر عليه هل ذلك على العموم أو على الخصوص اللفظ محتمل لكن يتخصص بالأحاديث المبينة لهذا العموم بأنه مما يتعلق بالأمور الدنيوية والأمور النفسانية تحفظاً على أمر الدين الذي هو طريق الآخرة فمنها قوله عليه السلام في الصحيح اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّرَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة وهذه كلها أمور نفسانية ودنيوية أو كما قال والحديث الآخر ذكر فيه أنهم قالوا أرأيت إن وُلّي علينا أمراءُ فُسَّاقٌ
جاهلية
۱ إلا للحصر هنا لما في الشرط من من تضمن النفي فكان المعنى ما فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة ٢ أخرجه الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة
١٤٧٢
أنقتلهم قال لا ما صلوا لا ما صلوا ۱ فدلّ بقوله عليه السلام لا ما صلوا أنهم إذا لم
يصلوا قتلوا ولا سَمْعَ لهم ولا طاعة
وكذلك قال عمر رضي الله عنه على المنبر حين بيعته قال ما أطعتُ الله ورسوله وإلا فلا سمع لي عليكم ولا طاعة أو كما قال فدلّ بهذا أن الأمور التي يكون فيها مخالفة في الدين لا يطاع فيها أمير ولا غيره لأنه ما جعلت الإمارة أن ينقاد الناس لها إلا من أجل أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد قال علماء الدين إنه لا يجوز لشرطي أن يؤدب أحداً بقول أميره حتى يعلم أن ذلك حق عليه بأمر الله واجب والأحاديث في هذا النوع كثيرة وفيما ذكرناه كفاية وأما قولنا ما صفة هذه الجماعة هل على العموم حتى في الذين تسموا باسم الإسلام أو ذلك على الخصوص في المسلمين حقاً البحث في هؤلاء والجواب عليه كالجواب على الأمير وحديث حذيفة الذي بعد هذا يبين هؤلاء الجماعة ويشرح هذا الموضع حيث قال له فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك
وأما قولنا كيف صفة هذه المفارقة فمعناها أن تسعى في حل تِلْكَ البيعة التي للأمير ولو بأدنى شيء فعبر عليه السلام عنه بمقدار الشبر لأن الأخذ في حل تلك البيعة هو مخالفة لجماعة المسلمين المنعقدين عليها وهو مع ذلك أمر يؤول إلى سفك الدماء بغير حق وقد قال صلى الله عليه وسلم من شارك في قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله ۳
أو كما قال عليه السلام
وأما قولنا ما معنى قوله عليه السلام فمات إلا مات ميتة جاهلية هل ذلك كفر صراح أو أنه مات على صفة من صفات الجاهلية وإيمانه باق اللفظ محتمل وقد جاء ما يبينه وهو قوله عليه السلام من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ٤ أو كما قال عليه السلام فشبهه عليه السلام بالمرتد عن الإسلام وهذا أمر خطر
اللهم عافنا من الخطر
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه بلفظ خير أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا يا رسول الله افلا تَنا بِذهم عند ذلك قال لا ما أقاموا الصلاة لا ما أقاموا الصلاة لا ما أقاموا الصلاة
رواه الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني وابن قانع والحاكم عن عمران بن حصين رضي الله عنه 3 أخرجه ابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب بين عينيه ايس من رحمة الله
٤ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
١٤٧٣
٢٨٥ -
حديث من علامات الساعة قلة البركة في الزمان وكثرة الفتن
والقتل
عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال يتقاربُ الزَّمانُ وينقصُ العمل ويُلقى الشُّحُ وتظهرُ الفتنُ ويكثُرُ الهَرْجُ قالُوا يا رسولَ الله أيما هُوَ ۱ قال القَتلُ
القتل
ظاهر الحديث يدل على خمسة أحكام الأول الإخبار بتقارب الزمان والثاني نقص العمل والثالث إلقاء الشح والرابع ظهور الفتن والخامس كثرة الهرج وهو القتل والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى تقارب الزمان وكيف يكون نقص العمل وما معنى هذا الشح الملقي هل هو على العموم أو على الخصوص وما الفتن المشار إليها وما صفة القتل الذي يكثر هل هو بحق أو بغيره وما معنى الهرج
أما قولنا ما معنى تقارب الزمان فمعناه أن يقصر ويقل طوله وأتى به على أبنية التأكيد وهي المفاعلة فدل ذلك على أن قصره يكون كثيراً وقد جاء نصاً في حديث غير هذا كقوله صلى الله عليه وسلم تكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كالنَّفس أو كما قال عليه السلام ولا يخلو هذا القصر أن يكون المراد به معنوياً أو حسياً
فأما المعنوي فقد ظهر وله سنون عديدة يعرف ذلك أهل الأعمال ومن له فطنة ما من أهل الدنيا المشتغلين بالأسباب فيها فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدرون أن يبلغوا من عمل أسباب الدنيا قدر الذي كانوا يعملون ويَشْكون ذلك ولا يدرون العلة من أين هي وكذلك أهل أعمال الآخرة قد وجدوا نقص العمل ونقص تلك المعاني الخاصة بالقلوب الحاملة على الأعمال
1 أي اسم استفهام وما نكرة تامة بمعنى شيء والتقدير أي شيء هو
١٤٧٤
والعلة في ذلك - والله أعلم - ما دخل في الإيمان من الضعف من كثرة إظهار الأمور المخالفة
للسان العلم من وجوه عديدة من حيث لا يخفى على ذي بصيرة ومما دخل من أجلها في الأقوات من الشبه بل من الحرام المحض حتى إن كثيرا من الناس ما يتوقف في هذا الباب عن شيء وكيف قدر أن يصل إلى شيء فعل ولا يبالي فإن البركة في الزمان والرزق في البدن من طريق قوة الإيمان واتباع الأمر واجتناب النهي يشهد لذلك قوله جلّ جلاله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ١
وأما إن كان المقصود بتقارب الزمان أن يكون حساً ظاهراً فهذا لم يظهر بعد ولعله من الأمور التي تكون عند قرب الساعة ولعله عليه السلام عنى بذلك الوجهين معاً فيكون الواحد
- وهو المعنوي - قد ظهر وبقي الآخر - وهو الحسي - حتى يصل وقته مع ما بقي من الشروط وأما كيفية نقص العمل فعلى وجهين إن كان في الحسي الذي لم يظهر بعد فهذا بين لا يحتاج فيه إلى تعليل لأن الزمان ظرف الأعمال فإذا نقص العمل لا محالة وأما نقصه في المعنوي فمن وجهين أحدهما ما أشرنا إليه آنفاً وهو من جهة المطعم وما دخل فيه من الخلل وقلة الباعث الذي هو حامل على الأعمال ومحرض عليها وذلك من ضعف الإيمان
الثاني من قلة المساعد على ذلك في الخارج - والنفس من طبعها أنها ميالة إلى جنسها ولذلك قال الله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - ولكثرة شياطين الإنس الذين هم أضر عليك من الشيطان الرجيم اللهم إلا تلك العصابة التي شاء سبحانه وتعالى بقاءها على الحق لا يضرها من خالفها فهي محمولة بالقدرة واللطف الرباني وإنما جاءت الأخبار على الغالب من أحوال الناس
وأما قولنا ما معنى الشح الذي يلقى هل هو على العموم أو على الخصوص محتمل والظاهر العموم لأن الشح الخاص المستعمل عند الناس فيما عدا الفرائض لا يعود منه ذلك الضرر المخوف وإنما الشح الذي يخاف منه ومن وباله الشح بالفرائض ومن شَحَ بها فمن باب أولى أن يشح بغيرها فيكون عاماً والله أعلم يشهد لهذا قوله لا تزداد الدنيا إلا إدباراً ولا الناس إلا شحا أو كما قال عليه السلام فجاء لفظ عام في الحديثين معاً
ولا يسمي الفقهاء شحيحاً إلا الذي يشخ بالفرائض والناس يسمون الشحيح كلّ من لا
1 سورة الأعراف من الآية ٩٦ سورة المائدة من الآية ٢
١٤٧٥
يجود عليهم ولا ينظرون هل أدى فرضه أم لا كما يزعمون أن الكنز هو ما جعل من المال تحت الأرض والعلماء يقولون الكنز هو المال لذي لم تُخرج زكاتُه كان على وجه الأرض أو في بطنها مدفوناً وإذا كان مدفوناً وهو يُخرج زكاتُه فليس عندهم بكنز وحبس حقوق الأموال سبب إلى ذهابها وقلة بركتها وطُروء الجوائح عليها
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا ينقص مال من صدقة ۱ أو كما قال عليه السلام قال أهل العلم معناه أن المال الذي تخرج منه الزكاة لا يلحقه عاهة ولا يتلف ولا يلحقه شيء من الأشياء التي تأتي على الأموال فينقص بها فإن الزكاة تحرسه من ذلك ولذلك سميت زكاة فإن المال يزكو بها وينمو وكذلك صاحبه ولذلك قال تعالى ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ ٢
وفي هذا إشارة لأهل الطريق الذين بنوا طريقهم على الإيثار لكي يسلموا من الشح على كلا الوجهين ولذلك لما لقي الشافعي ۳ شَيْبَان ٤ رحمهما الله فسأله عن الزكاة في الغنم في كم تجب فقال له أما عندكم ففي أربعين شاة وعندنا كلها زكاة فقال الإمام لأصحابه وُفّق لما علمناه أو كما قال وأما قولنا ما الفتن التي قد عرفها بالألف واللام فهي - والله أعلم - التي قد بينها الا الله بقوله فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً بعَرَض من الدنيا ٥ أو كما قال عليه السلام لأن كل فتنة يسلم فيها الدين فليست بفتنة مخوفة أعاذنا الله من جميعها بمنه وفضله والهرج يحتمل معنيين أحدهما الفتن التي تقع بين الناس ويخوض بعضهم في بعض الأمر
يبيع دينه
1 أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا يعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله
سورة التوبة من الآية ۱۰۳ ۳ الإمام الشافعي تقدم الحديث عنه في الحديث ۰ ٤ شیبان یرید به هنا - والله أعلم - محمد بن الحسن بن فرقد من موالي بني شيبان وهو إمام بالفقه والأصول وهو الذي نشر علم أبي حنيفة أصله من قرية حرستا في غوطة دمشق ولد بواسط ونشأ بالكوفة وسمع من أبي حنيفة وغلب عليه مذهبه وعرف به وانتقل إلى بغداد فولاه الرشيد القضاء بالرقة ثم عزله ولما خرج الرشيد إلى خراسان صحبه فمات بالري قال الشافعي لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته وكانت بين محمد بن الحسن والشافعي صحبه ومحبة ذكر بعضاً منها صاحب شذرات الذهب في
حوادث سنة ١٨٩هـ
0 أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه بلفظ تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا ويمسي مؤمناً ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا
١٤٧٦
بدهمهم والثاني القتل ولذلك استفهم الصحابة رضي الله عنهم سيدنا بقولهم أيما هو فأزال عليه السلام الاحتمال الأول بقوله القتل ثم أكَدَه ثانية لزوال الاحتمال الأول
وأما قولنا ما معنى كثرة القتل هل يكون ذلك لحقوق لازمة أو لغير ذلك فاعلم أن القتل الذي هو في الحقوق اللازمة شرعاً رحمة للعباد والبلاد يشهد لذلك قوله الأن يقام حد من حدود الله في بقعة خير لهم من أن تمطر السماء عليهم ثلاثين يوماً وقيل أربعين يوماً ۱ أو كما قال عليه السلام فهذا في حد واحد فكيف إذا كثر القيام بالحدود وفا أمرها وتعدد
وإنما يكون القتل - والله أعلم - في الوجهين اللذين قد ذكرهما في أحاديث متفرقة منها قوله عليه السلام لا تقوم الساعة حتى لا يعرف المقتول فيم قتل ولا القاتل فيم قَتَلَ أو كما قال عليه السلام ولا يكون ذلك إلا لكثرة القتل بغير لسان العلم حتى لا يعرف القاتل ولا المقتول لم وقع بهم ذلك الأمر والوجه الثاني قوله عليه السلام لا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتل عليه من كل مائة تسعة وتسعون ٤ أو كما قال عليه السلام
۳
وهنا بحث وهو ما الفائدة بأن أخبرنا بهذه الفتن فنقول والله الموفق لوجوه منها أن نستعيذ منها كما قال اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ونعوذ بك من فتنة القبر ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات ٥ وهو صلى الله عليه وسلم معافى من جميعها لكن ذلك على طريق التعليم لنا وعلى جهة الأدب منه عليه السلام مع مقام الربوبية حتى يجعل نفسه المكرمة في جملة العبيد الذين يخافون
ومنها لأن يستعمل منا من رأى منها شيئاً الدواء الذي قد علمناه وهو قوله لما سأله بعض الصحابة عند ذكره والفتن فقال له ما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان فقال الجؤوا إلى
۱ رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار
۳ كذا بضمير الجماعة ٤ رواه الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ لا تقوم الساعة حتى ينحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل عليه الناس فيقتل تسعة أعشارهم وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ويقول كل رجل منهم لعلي أكون الذي أنجو
الله عنه
٥ رواه الإمام مالك ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القران قولوا اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات
١٤٧٧
الإيمان والأعمال الصالحات فبين كيف العمل فيها وقد جاء من طريق آخر أنه لا يسلم منها
إلا من يكون حلساً من أحلاس بيته ۱
ومنها لأن تتبين لنا الوجوه التي منها الفتن فنأخذ في سدّ تلك الطرق مستعينين بالله على ذلك ومنها لأن تكون معجزات متتابعة إلى يوم القيامة لأنه كلما خرجت واحدة مما ذكر عليه السلام في هذا الحديث وغيره هي معجزة له عليه السلام في الوقت وفي ظهورها متتابعة إلى يوم القيامة حق الله تعالى وحق له عليه السلام وحق لأمته
فالحق الذي هو الله سبحانه وتعالى هو استصحاب ظهور حجته عزّ وجلّ على عباده لأن ظهور معجزة الرسول عليه السلام حجة الله تعالى عزّ وجلّ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وحجة للرسل في تصديق ما جاؤوا به وتصديق رسله حجة على عباده وزيادة قوة في
إيمانهم
٢
وأما الذي هو حق له دوام معجزاته ودوام إنذاره إلى يوم القيامة بالطريقين العظيمين بالكتاب لقوله تعالى ﴿ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغ ۳ فإنذاره عليه السلام باق إلى يوم القيامة بإظهار معجزاته عليه السلام وهي ظهور كل ما أخبر به عليه السلام فإن على ظهور كل واحدة منها علماً بتصديقه عليه السلام مُقوّياً لما جاء به وهذا مما خص به عليه السلام دون غيره من
الأنبياء عليهم السلام
وأما الذي هو حق لأمته فهو أن يكون هذا الخير الذي جاء به عليه السلام متساوياً في أمته من أولها إلى آخرها من طريقين بالكتاب العزيز الذي حفظ عليهم ولم يوكلوا في ذلك إلى أنفسهم فكان يقع فيه التغيير والتبديل كما وقع في الكتب المتقدمة وبمعجزاته عليه السلام هي التي من أول أمته إلى آخرها على نوعين منها ما هي ظاهرة لأهل ذلك الزمان ومنها ما يصدقون بها ولم يروها حتى يكون الشاهد منها ما يصدق الغائب وإن كانت كلها صدقاً
لكن فاق الصحابة رضي الله عنهم غيرهم بزيادة الصحبة وعاينوا ما كان في وقتهم منها وآمنوا بما أخبر به عليه السلام أنه يكون بعدهم ومن جاء بعدهم آمن بالذي شاهد منها الصحابة
۱ إشارة إلى الحديث في الفتنة كن حلساً من أحلاس بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منيّة قاضية وفي حديث أبي موسى قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال كونوا أحلاس بيوتكم أي الزموها والحِلس ما يبسط تحت حُرّ المتاع من مسح وغيره وكل شيء ولي ظهر البعير والدابة تحت الرحل والقتب والسَّرْج
سورة الإسراء من الاية ١٥ ۳ سورة الأنعام من الاية ۱۹
١٤٧٨
رضي
الله عنهم وبالتي أنت بعدهم إيمان تصديق فحصل لهم بها إيمان ومشاهدة والذين يأتون في آخر الزمان يؤمنون بما تقدم منها تقليداً وبما في زمانهم معاينة فجاء هذا الخير الذي جاء به في أمته من أولها إلى آخرها
ولبقاء هذا الخير دائماً أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ١ أو كما قال عليه السلام فإن الخير إذا بقي في الأرض لابد له من أهل له قائمين به وكذلك هي إشارته عليه السلام بقوله أمتي مثل المطر لا يدرى أيه أنفع أوّله خير أو آخره ٢ أو
كما قال عليه السلام
وهنا بحث وهو أنه لا يكون هذا الخير إلا للذين يعلمون علم الكتاب والسنة فإنه لا يعلم ما أخبر به إلا من سمع الحديث واعتنى به فمن اشتغل بغير ذلك من العلوم فاته هذا الخير وبقيت الحجة عليه قائمة بتضييعه لأثر النبوة التي بها الخير بدءاً وعوداً وأصلاً وفرعاً
ومنها أن تكون النفوس تُراض على دفعها وكراهيتها حتى إن ظهر منها شيء تجد النفس لها كراهية فإذا كرهتها أولاً ووقيت أولها كفيت فيما بقي منها لقوله تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أشرِبَها نَكَتَتْ فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السّماوات والأرض والآخر أسودَ مُرْيَداً كالكوز مَجْخِيّاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ۳ والأسود المربد هو شدة البياض في سواد والكوز المجنحيّ هو الكوز المنكوس ولذلك قيل قلبك فاحفظه من الفتن وإلى الله فالجأ في ذلك وأدمِنُ ٤
عافانا الله منها أجمعين بفضله آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه
رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه والإمام أحمد عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما وأبو يعلى عن علي رضي الله عنه عنه والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله
خير أم اخره
۳ رواه الإمام أحمد ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
٤ كذا بحذف الياء والصواب وأديمن
١٤٧٩
٢٨٦-
حديث النهي عن اتباع الفرق الضالة والمحافظة على الدين
عَنِ حذيفة بن اليمان ۱ رضي الله عنهُ قالَ كانَ النّاسُ يسألونَ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن صلى الله عليه وسلم
الخَير وكُنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني فقُلتُ يا رسولَ الله إِنَّا كُنا في جاهلية وشَر فجاءَنا الله بهذا الخيرِ فهَل بَعد هذا الخَير مِن شَرِّ قالَ نَعم
قُلتُ وهَل بَعد ذلكَ الشَّرِّ من خَيْر قال نعم وفيهِ دَخَنْ قُلت وما دخَنُهُ قَالَ قوم يهدونَ بغَيرِ هَدْيِي تعرفُ مِنهمُ وتُنكر قُلتُ فَهل بعد ذلك الخَير مِن شَرِ قال نعم دعاةٌ على أبواب جهنَّم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلتُ يا رسول الله صِفْهُمْ لنا قالَ هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا
قُلتُ فَما تأمرني إن أدركني ذلكَ َقالَ تَلزمُ جماعةَ المُسلمينَ وإمامهم قُلتُ فَإن لَم يكُن لهم جماعة ولا إمام قالَ فاعْتَزِلْ تلكَ الفرقَ كُلَّها ولو أن تعض بأصلِ شَجرةٍ حَتَّى يُدرِكَكَ الموتُ وأنتَ على ذلِكَ
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما الإخبار بالخلل الواقع في الدين والثاني الأمر بالتمسك به مع جماعة المسلمين وإمامهم فإن عدم ذلك فتبقى عليه وحدك وتفارق كل من ليس على طريقة الإسلام الحقيقي وإن آل الأمر بك إلى الخروج إلى البرية منفرداً وترك الأهل والمال والقرابة والعشيرة وجميع أهل الوقت من قريب وبعيد
وإن كان الأمر يضيق عليك في البرية حتى لا تجد أين تأوي حتى تنحصر إلى أصل شجرة مع سلامة دينك فَلْتَعَضَّ بها أي تشد عليها حتى يأتيك الموت وأنت على ما أمرت به من أمر الله
١٤٨٠
۱ تقدم ذكره في الحديث ١٨٨
تعالى واجتناب نهيه ومنه قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ۱ وقوله تعالى ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم
مُسْلِمُونَ ٢ والكلام عليه من وجوه
منها النظر في حكمة الله تعالى في عباده كيف يحبّب لكل شخص ما شاء الله أن يقيمه فيه يؤخذ ذلك من أنه عزّ وجلّ حبّب للصحابة رضي الله عنهم سؤالهم لها عن وجوه الخير كي يقتبسوها ويكونوا باباً لها وحبّب لهذا السيد سؤاله له ع ع ع ن و وجوه الشركي يحذرها ويكون سبباً في سدها عمن قدر الله تعالى له النجاة منها
ومنها النظر والاعتبار فيما أعطى الله تعالى سيدنا من سعة الصدر والمعرفة بحكمة الحكيم الذي يجاوب كل شخص عما سأل ويعلم أن ذلك هو الذي شاء الحكيم أن يقيمه فيه ويسدّده له ويدخل هذا تحت متضمن قوله ل إنما أنا قاسم والله يعطي ۳ فهو الذي أرسل لقسمة الأمور على ما اقتضتها الحكمة الربانية والله يقيم من يشاء فيما شاء فهو عليه السلام المبين لوجوه الخير والشر والله يعطي منها ما شاء لمن شاء كيف شاء
ويترتب على هذا من الحكمة والنظر أن الذي حبّب لشخص هو الذي يفوق فيه غيره يؤخذ ذلك من حال حذيفة رضي الله عنه لأنه لما حبّب الله له معرفة وجوه الشر كي يتقيه ويحذر منه غيره فضل فيه عشرة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولما علم سيدنا الله هذا الذي أشرنا إليه خصه بأن أعلمه بجميع أسماء المنافقين لأنه من هذا النوع الذي حبّب إليه حتى كان عمر يأتيه ليلا ويناشده الله هل هو ممن سماه رسول الله الله من المنافقين أو لا فيحلف
رضي الله عنه
له أنه ليس منهم
ورتب أهل الحكمة على هذا من الفائدة أنك إذا كان لك ابن أو غلام أو مَن لك عليه كفالة وأردت أن تشغله بشغل من الأشغال أو علم من العلوم أن تعرض عليه أنواع الأشغال إن أردت أن تشغله أو أنواع العلوم إن أردت به طريق ذلك وكانت تلك الأنواع مما تجيزها الشريعة فالذي تراه يحبه ويعجبه من ذلك ففيه اجعله فإنه يفوق فيه أهل زمانه لأن الذي حبّب إليه هو
۱ سورة التوبة الآية ٢٤ سورة ال عمران من الاية ۱۰
۳ أوله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي رواه الشيخان عن معاوية رضي الله
١٤٨١
المراد منه رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَطِلًا ١ واختبروا ذلك بعلم التجربة فوجدوه لا ينعكس ومن جمع الله له بين الطريقين فهو الحال الجليل وهو معرفة الخير والعمل عليه ومعرفة الشر واتقاؤه ولذلك كان من دعاء عليّ رضي الله عنه اللهم اجعلني مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر طيباً مباركاً حيث كنت أو كما قال رضي الله عنه
وفي هذا بيان الطريق لأهل السلوك والمعاملات مع الله تعالى فإنهم يقولون المبتدي حاله الكسب والمنتهي حاله الترك ومعناه أن المبتدي يسأل عن وجوه الخير ويعمل عليها كما كان حال الصحابة رضي الله عنهم في الحديث الذي نحن بسبيله وأن المنتهي يسأل عن الشر كله وأنواع المفاسد كلها فيتركها ويتقيها كما كان حال حذيفة
وحقيقة المعنى فيما أشاروا إليه أن هذا هو الغالب على أحوالهم لأن المبتدي يقع في الشر - أعوذ بالله من ذلك ولا يترك عمل الخير ] ٢ ولو كان ذلك ما صح له فعل خير وكذلك حال الصحابة رضي الله عنهم وإن المنتهي الغالب عليه تنقية النفس والبحث عن المفاسد كلها ولا أنهم ۳ أيضاً يتركون عمل الخير ولو كان ذلك كذلك ما صح منهم ترك شر وكذلك كان حذيفة رضي الله عنه
وفيه دليل على أن كل ما كان يهدي إلى طريق الآخرة ويهدي إلى أنواع الرشاد وكلّ ما يقرب إلى الله سبحانه يسمى خيراً لغةً وشرعاً وأن كل كفر وضلالة أي نوع كانت كبرى أو صغرى وكل ما دعا إليها يسمى شراً لغة وشرعاً يؤخذ ذلك من قول حذيفة كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير وكرر ذلك في الحديث مراراً ووافقه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما من طريق أنه لغة فلأنهم عرب وأما من طريق أنه شرع فلأن رسول الله ووافقه على ذلك بأن سلّم له فيه وجاوبه عليه بأن جعل فيه اسم الشر سواء للكفر أو الجاهلية التي كانوا عليها وسواء للضلال الذي طرأ على الإسلام و لا اله الا الله من الفتن والمعاصي غير أن الفرق بينهما من طريق النظر أن الأولى - وهي الكفر - كبرى والتي بعده وفيها الخلل في الدين من طريق المعاصي صغرى
وفيه دليل على أنه لا يطلق عليه اسم خير حتى يكون تاماً لا عوج فيه ويستدل بذلك على
۱ سورة ال عمران من الآية ۱۹۱ تتمة لا بد منها لتصحيح السياق
۳ كذا بضمير الجماعة
١٤٨٢
أنه لا يطلق عليه اسم مسلم إلا من هو كامل الإيمان وألا يكون إيمانه فيه دخن كما أخبر
الصادق عليه السلام بقوله وفيه دخن
وفيه دليل على أن كل هَدْي أو علم إنما معياره وما يختبر به ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة فالذي يكون على ذلك بلا زيادة ولا نقصان فهو طريق الحق والمبلغ إلى الله عزّ وجلّ وألا يكون من أحد القسمين إما من القسم الذي فيه الدخن وإما من أهل القسم الذين هم على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام وفيه دخن ثم فسَّر ذلك الدخن بكونهم يهدون بغير هاديه الله فاحذر هدي قوم جعلوا للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة وجعلوا الكتاب والسنة له فرعاً لقد عمَّ دخَنُهم الأرض وطبّقها حتى تناهى فيه قوم فوقفوا به على باب جهنم فمن أجابهم إليها
قذفوه فيها
وتنكر
وفيه دليل على وجوب قبول الحق حيث كان وتحقيقه يؤخذ ذلك من قوله تعرف منهم
وفيه دليل على وجوب ردّ الباطل وكل ما خالف هديه ولو قاله من قاله رفيع أو وضيع يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام تعرف منهم وتنكر
وهنا بحث وهو ما هو هذا الشر الذي أشار إليه وما هو هذا الخير الذي فيه الدخن فنقول والله الموفق يحتمل أن يكون الشر الذي أشار إليه عليه الصلاة والسلام هو ما كان بعده من الفتن إلى زمان قتل العلماء وقد أخبر عليه السلام به في حديث اخر - أعني بقتل العلماء - فإنه عليه السلام قال فيه يا ليت العلماء تحامقوا أو كما قال عليه السلام معناه لو أظهروا
ذلك سلموا من القتل
وأما الهدي الذي فيه الدخن فهو ما ظهر في الأمة من الشَّيَع والبدع يفسر ذلك قوله عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ۳ فكل من حصل له من الاثنين ۳ والسبعين ولو مسألة واحدة وإن كان لا يعلم بها فقد دخل في دينه دَخَن وبالحديث الآخر وهو قوله عليه السلام كل بدعة ضلالة
۱ رواه الديلمي في فردوس الأخبار عن ابن عباس رضي الله عنه بلفظ يأتي على الناس زمان يقتل فيه العلماء كما
تقتل الكلاب فياليت العلماء تحامقوا
كذا أوردها المؤلف بالتذكير ۳ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
١٤٨٣
وكل ضلالة في النار ۱ وبقوله عليه السلام ك من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ أو كما
قال عليه السلام فكل من حصل على بدعة من البدع فقد حصل في دينه وهديه دخن ولا يغره كثرة عمل الناس لتلك البدعة وانتشارها فإنها من جملة الدخن وقد قال الله له في شأن تجنب الفتن وعليك بخويصة نفسك أو كما قال عليه السلام ولا يغرك صاحب البدع وإن كانت لديه علوم جمة أو أعمال صالحة ونسك وتعبد أو مجموعها فقد قال الله في القدرية تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة تنظر في النضل فلا ترى شيئاً وتنظر في القدح فلا ترى شيئاً سَبَق الفَرْتَ والدم أو كما قال عليه السلام
وقوله عليه السلام دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها أي أنهم يرشدون إلى الطرق التي يدخل بها النار من الاعتقادات والأعمال المخالفة للسنة وهم يظهرون أنها هي المبلغة إلى الله تعالى وهم الذين قال عليه السلام فيهم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا فمن صدَّقهم واتبعهم دخل النار ۳
وفي قوله عليه السلام هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا دليل على أنهم من هذه الملة وبزيها وعلى طريقها ولغتها لأن معنى من جلدتنا أي على لغة العرب حتى لا ينكر أحد منهم شيئاً وفيه دليل على أن أهم ما على المرء في الدين نفسه يؤخذ ذلك من قول حذيفة رضي الله عنه فما تأمرني إن أدركني ذلك فما سأل إلا عن نفسه كيف يكون خلاصه
ويترتب على هذا من الفقه أن كل وجه يعلمه الشخص من وجوه الخير كان يدركه أو لا يدركه يعتقد فعله إن أدركه فيكون على ذلك مأجوراً وأي وجه علمه من وجوه الشر يكون بحيث يلحقه أو لا يلحقه يعتقد أنه لا يفعله وأنه يتبع السنة في الأعمال والأسباب المنجية منه فإن هذا هو طريق السنة ومن كان مرتكباً طريق السنة فإنه مأجور
۱ قطعة من حديث أوله أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهَدْي هَدْي مع محمد وشر الأمور مُحْدَثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ ١/ ۰٤ و ۰۵ والإمام أحمد في المسند ٥٦/٣ و ٦٥ والبخاري في فضائل القرآن باب إثم من رأى بالقرآن أو تأكل به وفي استتابة المرتدين باب قتال الخوارج ومسلم في الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم وأبو داود في السنة باب في قتال الخوارج والنسائي في الزكاة باب في المؤلفة قلوبهم وابن ماجه في المقدمة فيذكر الخوارج وعلماء كثيرين آخرين ۳ تقدم تخريجه في الحديث ۸
١٤٨٤
ويقوي ذلك قوله الا الله يابانية المؤمن أبلغ من عمله ۱ لأنه ينوي عملاً من أعمال الخير أو
ترك عمل من أعمال الشر وقد لا يدرك من ذلك شيئاً لقصر عمره فكانت نيته أكثر من عمله ولكونه كان يستعيذ من فتنة الدجال وهو بالعلم القطعي عنده أنه لا يدركه وقد قال عليه السلام إن يخرج وأنا فيكم فأنا أكفيكموه ٢ فقد علم عليه السلام أنه إن لحقه فلا يضره بل هو عليه السلام يكفي المسلمين ضرره ومع ذلك كان عليه السلام يستعيذ من فتنته فهذا من باب الإرشاد لنا إلى ما أشرنا إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم تلزم جماعة المسلمين يعني الفرقة الناجية من الثلاثة والسبعين الذين هم على ما هو عليه وأصحابه صلوات الله عليه وعليهم أجمعين جعلنا الله منهم ومعهم في الدارين بمنه
وفضله
وقوله وإمامهم يعني الذي يقتدون به ويكون الإمام على تلك الطريق المباركة أيضاً وفيه دليل على أن من السنة ألا تكون جماعة إلا ولها إمام
وقوله فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام يعني أن الموضع الذي يكون فيه ليس فيه من أهل الخير جماعة ولا إمام لأن هذه الأمة لاتزال جماعة من أهل الخير فيها باقية وكذلك أئمة الخير لا ينقطعون منها لكن قد يقلون أو يكونون في موضع من الأرض دون غيره يشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ۳ أو كما قال عليه السلام وقوله عليه السلام في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام و إمامكم منكم ٤ أي أنه يكون على طريق هديي متبعاً للكتاب والسنة
وفيه بحث وهو أنه إن كان واجداً لأحد الطرفين إما جماعة على الخير ولا إمام معهم أو إمام على خير ولا جماعة له فالبقاء مع أحدهما خير من الانفراد لأنه أعون على الدين ولفظ الحديث يدل على ذلك فإن الأمر بأن يتبع الجماعة والإمام لا ينفي إذا لم يجد إلا الواحد منهما ألا يتبعه غير أنه يأخذ أولاً الأكمل فالأكمل فإذا كانا في موضع مجتمعين وكان في موضع آخر
۱ أخرجه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه قطعة قطعة من حديث الدجال ومنه إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم ۳ أخرجه مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه بلفظ لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك
٤ أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ كيف أنتم إذا أنزل ابن مريم وإمامكم منكم
1810
أحدهما فحيث جمعهما أولى فإن لم يجد إلا أحدهما فهو خير من أصل الشجرة فإن تلك الغاية في الهروب والاحتياط للدين
هي
وقد قال الجليس الصالح خير من الوحدة والوحدة خير من الجليس السوء ۱ ففقه الموضع أن يكون صلاح الدين هو المعوّل عليه ويكون ذلك الصلاح على مقتضى الكتاب والسنة فإن قدر على الاجتماع بإخوانه المسلمين وبالإمام أو بأحدهما إن أمكنه ذلك مع الإقامة مع الأهل فحسن وإن لم يكن ذلك وأمكنه الجلوس في العمارة منفرداً فحسن أيضاً وإلا فالبرية على هذه الحالة الموصوفة في الحديث ويقوي ذلك قوله البشر الفرارين بدينهم من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق أنهم معي ومع إبراهيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى أو كما قال عليه السلام فقدم عليه السلام الفرار من العمارة إلى العمارة على الفرار إلى الجبال ويقويه أيضاً من كتاب الله عزّ وجلّ قوله تعالى أَلَمْ تَكُن أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَنُهَا جِرُوا فِيهَا
وفي تسمية ما جاء به خير دليل على ما سمينا به الكتاب الذي هذا شرحه بـ جمع النهاية في بدء الخير والغاية أن ذلك موافق بفضل الله لما قاله الصحابي رضي الله عنه ووافقه عليه سيدنا فقوي عند ذلك رجائي في فضل الله أن يكون كل ما سلكت فيه وفي شرحه موافقاً لما يرضي الله ورسوله ودالاً على الخيرات وأبوابها وساداً للشر وأبوابه بفضل الله ورحمته وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه بلفظ الوحدة خير من جليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة وإملاء الخير من السكوت والسكوت خير من إملاء الشرّ
سورة النساء من الآية ۹۷
١٤٨٦
۸۷-
حديث إذا نزل عذاب بقوم يعم الصالح منهم ويبعث كل على عمله
عَن عَبدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عَنهُما قالَ َقالَ رَسُولُ الله إذا أنزل الله بقوم عذاباً أَصَابَ العَذابُ مَن كانَ فيهِم ثُمَّ بُعِثُوا على حَسَبِ أعمالِهِم
ظاهر الحديث يدل على أن العذاب إذا أرسل على قوم عمّ الجميع ويبعثون في الآخرة على قدر أعمالهم وعليها يجازون والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى قوم هل يكونون مؤمنين أو غير مؤمنين وما معنى من كان فيهم وما الحكمة بأن يؤخذ القوم ومن فيهم في هذه الدار على حد سواء ثم عند البعث تقع التفرقة بينهم بحسب الأعمال هل هذا تعبد أو لحكمة تعلم فيتحرز من هذا الأمر العظيم
أما قولنا ما معنى قوم هل يكونون مؤمنين أو غير مؤمنين أما المؤمنون حقيقةً فلا يرسل الله عليهم عذاباً بل بهم يدفع الله العذاب كما جاءت في ذلك الآثار والآي تبين ذلك أما الآي فقوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ ۱ وقوله تعالى ﴿ وَمَا كان اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وأما الآثار فمثل قوله إن الله يحفظ الرجل الصالح الله في أهله ودويرات من جيرانه ۳ أو كما قال عليه السلام فقوله هنا على قوم يعم الكفار والعصاة وغيرهم ممن هم على ما يشبه حال هؤلاء الذين يرسل عليهم العذاب
وأما قولنا ما معنى من كان فيهم فالجواب أن معناه أن يكون معهم وليس على حالهم لأنه لما خالف المُجالس معهم الأمر لأن الله عزّ وجلّ يقول ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
١٤٨٧
۱ سورة القصص من الآية ٥٩ سورة الأنفال من الآية ۳۳
۳ لم نقف على مصدره
فتَمَسَّكُمُ النَّارُ ۱ وقال تعالى ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا نَتَّخِذُوا الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقال الله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ وَايَتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا نَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ ۳ وقال صلى الله عليه وسلم من والى قوماً فهو منهم 4 أو كما قال عليه السلام والآي والآثار في هذا كثيرة وهذه سنة الله تعالى أبداً في عباده
وقد ذكر عن عيسى عليه السلام أنه مرّ في سياحته على قرية وأهلها صرعى موتى فقال للحواريين لو كان موت هؤلاء من غير أخذ بلاء لدفن بعضهم بعضاً ثم ناداهم يا أهل القرية فلم يجب منهم أحد - على ثلاث مرات - ثم جاوبه واحد فقال له عليه السلام ما شأنكم قال له كانوا في عافية فأصبحوا وهم في الهاوية فقال له ما بالك أنت تكلمت وأصحابك لم يتكلموا قال إني لم أكن منهم وإنما مررت عليهم فبت عندهم فأخذني الأمر معهم فكل واحد منهم ملجَم بلجام من نار لا يقدر أن يتكلم وأنا لست مثلهم فتعجب هو والحواريون وتركوهم وذهبوا أو كما جرى
ويترتب على هذا من الفقه الهروب من بين الكفار ومن بين الظالمين لأنفسهم بالمعاصي لأن الجلوس بينهم من إلقاء النفس إلى التهلكة هذا إذا كان معهم ولم يُعِنهم على ما هم فيه أو يرضى ٥ من أفعالهم شيئاً فإن وقع في واحد من ذلك فهو منهم ـ وبالله العياذ
ولذلك كان سيدنا للحين مرّ هو وأصحابه على ديار عاد وثمود قال لهم أسرعوا في الخروج من هذا ولا تدخلوها إلا وأنتم خاشعون باكون ٦ أو كما قال عليه السلام وحين عجنوا العجين من بئر الناقة أمرهم عليه السلام ألا يأكلوه ويطعموه للبهائم وهذا كله منه الاهلي وخوفا و من أجل أن يعود عليهم من شؤم تلك البقعة ووبالها وجميع ما ذكر كله خوفاً من القرب من أهل المخالفات والمغضوب عليهم وإن كانوا قد فنوا
1 سورة هود من الآية ۱۱۳ سورة النساء من الآية ١٤٤ ۳ سورة النساء من الاية ١٤٠
٤ رواه الديلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ من كثر سواد قوم فهو منهم
5 كذا بعدم الجزم
٦ أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه بلفظ لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم
۷ أي كائن خوفاً فخبر هذا محذوف
١٤٨٨
وأما قولنا ما الحكمة في أن يؤخذ القوم ومن فيهم في هذه الدار مع أهل البلاء على حد
سواء ثم في الآخرة يبعث على عمله كل منهم بحسب ما كان عليه فهذا حكم عدل بمقتضى ما دلت عليه الشريعة لأن الله تعالى يقول ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَمُ ۱ وقال عزّ وجلّ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومس النار لهم إذا ركنوا إليهم فبقدر رُكونهم فلما لم يركنوا لهؤلاء الذين أرسل عليهم العذاب إلا بالجلوس معهم أصابهم من النار أن أخذوا معهم وكانوا في البرزخ الذي هو ما بين موتهم إلى حين بعثهم معهم في ذلك العذاب الذي هم فيه ثم يبعثون عند البعث كلّ على ما كان عليه من خير أو فدل ذلك على أن قدر عذابهم على ذلك الجزء اليسير - وهي الإقامة معهم - هو أن يؤخذوا معهم وأن يكونوا معهم على حالهم المهلكة حتى إلى ۳ وقت البعث فعند ذلك يرجع كلّ إلى حاله المختص به أولاً
ضده
يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ثم بعثوا على أعمالهم واحتمل البعث هنا أن يكون بعث سؤال القبر لأنه إن حملنا ثم على المهلة الطويلة فيكون بعثهم على أعمالهم عند بعث النفخ في الصور - والله أعلم - لأن سؤال القبر مع الموت بسرعة ليس بينهما طول زمان وإن حملنا ثم على المهلة القصيرة في الزمان فيكون بعث سؤال القبر لأن ذلك هو الذي بعد الموت لا شيء آخر بينهما والله أعلم
ومما يقوي ما قلناه قوله لها في غير هذا الحديث يموت المرء على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه4 فهؤلاء أخذوا على ما كانوا عليه من مخالطة أهل العذاب فماتوا على تلك الحالة ثم عند البعث لم يبعثوا عليها وبعث كلُّ منهم على حالتهم التي كان عليها قبل إرسال العذاب وذلك كان على قدر عذابهم على مخالطتهم بالجلوس بينهم
ولا يكون هؤلاء المأخوذون مع أهل العذاب المرسل الذين قد عذرهم الله عزّ وجلّ بقوله إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ٥ لأن من جعل الله له عذرا فلا يؤاخذه على ما قد عذره فيه بفضله ورحمته فعلى هذا يكون لفظ الحديث عاماً
1 سورة الزلزلة الآيتان ۷ و ۸
سورة هود من الآية ۱۱۳
۳ كذا بزيادة إلى بعد حتى
٤ أخرجه مسلم و ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه
٥ سورة النساء الآية ۹۸
١٤٨٩
فيما عدا أهل الأعذار الذين بين الله عزّ وجلّ عذرهم هو عام ومعناه الخصوص فيمن لم يعذره
الله سبحانه وتعالى
وفيه تخويف عظيم بالضمن وهو أن إرسال العذاب على المخالفين لأمره سبحانه وتعالى ونهيه باق متوقع كما كان فيمن تقدم ومما يقوي هذا قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث 1
فيا الله يا الله يا رباه أغثنا فقد كثر الخبث ولا مهرب إلا إليك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي يا الله دخل عليها فزعاً يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها فقالت زينب فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر
الخبث
١٤٩٠
-TAA-
حديث الأمر بصوم يوم عاشوراء
عَن سلمة بن الأكوع ۱ رضي الله عَنهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لِرَجُلٍ مِن أسلم أذُن في قومِكَ ـ أو في النَّاسِ - يومَ عاشوراء أنَّ مَن أكل فَلْيتِمَّ بقية يومِهِ وَمَن لَم يَكُنْ أكل
فَلْيهُمْ
* *
ظاهر الحديث يدل على حكمين أحدهما أن صوم يوم عاشوراء يجزىء لمن أمسك فيه عن الأكل والشرب وإن لم يكن بَيَّتَ صومه من الليل بخلاف غيره من الصوم لقوله في غير عاشوراء لا صوم لمن لم يُجمع على الصوم من الليل ۳ أو كما قال عليه السلام والحكم الثاني أن حرمته ليست كحرمة غيره من النوافل بل هو مثل حرمة الفرض لأن غيره من النوافل إذا أكل أحد فيه متعمداً لا يمسك بقية يومه والفرض إذا أكل أحد فيه متعمداً يمسك بقية يومه والكلام
عليه من وجوه
منها أن يقال هل هذا الحكم فيه مستصحب إلى هلم جرّاً أو ذلك كان في ذلك اليوم لكونهم لم يكونوا يعلمون حرمته فيفوتهم ولا يكون ذلك بعد بلوغ العلم به أما صومه لمن لم يعلم به إلا بعد طلوع الفجر أو الشمس أو علم ونسي ولم يبيت صومه فالظاهر أنه يجزيه صومه
۱ سلمة بن الأكوع الأسلمي صحابي من الذين بايعوا النبي لا لا لا لها تحت الشجرة على الموت يوم الحديبية غزا مع النبي سبع غزوات منها الحديبية وخيبر وحنين وكان بطلا رامياً شجاعاً عداءً يسبق الفرس شدّاً وله سوابق ومشاهد محمودة وهو ممن غزا إفريقية في أيام عثمان رضي الله عنه له ۷۷ حديثاً توفي في المدينة سنة ٧٤ هـ الأعلام ۳/ ۱۷ والشذرات ۸۱۱ اسلم قبيلة سميت باسم رجل كان أباً لأبناء كُثر وأسلم هذا من مراد ومراد فرع من كهلان وكهلان من
القحطانيين ۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن السيدة حفصة رضي الله عنها بلفظ من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له
١٤٩١
إذا أمسك ولم يأكل ولم يشرب بعد والدليل عليه من الحديث أنه سماه و صوماً وقد قال بعضهم إنما ذلك حين كان هو الفرض قبل فرض رمضان
وأما الذي أكل وشرب - وهو عالم - هل يمسك أو لا موضع خلاف أيضاً لأن منهم من قال إنما ذلك حين كان فرضاً صومه فكان حكمه حكم الفرض فأما اليوم فلا وأما هل يكون له أجر صومه فكذلك أيضاً موضع خلاف وليس في الحديث ما يدل عليه لأن قوله من أكل فليتم بقية يومه احتمل أن يبقى على أكله واحتمل أن يتم بقية يومه صائماً أو ممسكاً عن الأكل فمن جعله صوماً قال هو فيه مأجور ومن لم يجعله صوماً قال ليس له أجر الصوم وعلى كلا الوجهين قد ثبتت له حرمة ليست لغيره ولا سيما مع قوله في صومه أنه يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده ۱
ومنها أي يوم هو فقد اختلف العلماء فيه فقيل اليوم التاسع وقيل اليوم العاشر فمن أراد الخروج من الخلاف جمع بين اليومين لكن ظاهر الحديث يدل على أنه اليوم العاشر وكذلك ما نقل عنه أن اليوم الذي صامه كان العاشر وأنه قال إذا كان - إن شاء الله - في السنة الآتية أصوم التاسع فانتقل إلى كرامة ربه عزّ وجل قبل وصوله إليه
وأما قوله أذن في الناس أو في قومك الشك هنا من الراوي وهذا مما قد تكرر الكلام
عليه مراراً أنه مما يدل على صدقهم وتحريهم في النقل
أذن بمعنى أعلم ويؤخذ منه الدليل على جواز النيابة في تبليغ العلم لأن سيد انا لالالالا أناب هذا الرجل من أَسْلَمَ أن يعلم الناس عنه
ويؤخذ منه أن من السنة أن يعظم ما عظم الله تعالى من أي المخلوقات كان من جماد أو حيوان أو زمان اتباعاً لحكمة الحكيم يؤخذ ذلك من تعظيم سيدنا لهذا اليوم لأنه عليه السلام لما دخل المدينة وجد اليهود يصومونه فسأل لِمَ يصومونه فأخبروه أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وأغرق فيه فرعون فقال عليه السلام فنحن أحق وأولى بموسى منكم ٢ فصامه وأمر بصومه وكان هو الفرض حتى فرض رمضان
وفيه دليل على أن تعظيم ما عظمه الله تعالى من هذه الأزمنة والأماكن إنما هو بعمل
الطاعات فيها الله تعالى بحسب ما تقتضيه الشريعة مع اعتقاد الإيثار له على غيره من جنسه
۱ لعله يريد الحديث صيام يوم عاشوراء إني أحتسب إلى الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه
سورة الأنعام من الآية ۹۰
١٤٩٢
وفيه دليل لمن يقول من العلماء إن سيدنا هل له أن يشرع من الأحكام ما شاء وإن ذلك حكم
الله تعالى يجب العمل به وهو الحق يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بصوم هذا اليوم ولم يذكر فيه عن الله شيئاً لأن الأمور التي أمر عليه السلام بها عن الله كان يخبر أنها عن الله وهذا مستقرا من السنة
وفي قوله عليه السلام فنحن أحق وأولى بموسى منكم دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد عليه نسخ في شريعتنا وعلى هذا جماعة من العلماء ويقويه قوله تعالى ﴿ أُوْلَيْكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهدَ لَهُمُ اقْتَدِةٌ 1 ﴾ ١
وفي ترفيع الله تعالى بعض الأزمنة على بعض وكذلك الأماكن إلى غير ذلك دليل على عظيم رحمته عزّ وجلّ بعباده المؤمنين يؤخذ ذلك من إرشاد الرسل عليهم السلام إلى تعظيمها وإلى أعمال البر فيها وزيادة الأجور في ذلك للعاملين وذلك مثلما قال عليه السلام صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده متفق عليه فظاهر ما قصد منها كثرة الأجور والخير لنا فضلاً من الله ونعمة الله الحمد على ذلك وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ تقدم تخريجه في الصفحة السابقة
قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما
١٤٩٣
15491
حديث شهادة الأمة المحمدية على الأمم السابقة يوم القيامة
عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ الله يُجاءُ بنوح عليه السلام يومَ القيامة فَيُقالُ لَهُ هَل بلَّغتَ فَيَقولُ نعم يا ربِّ فَتُسالِ أَمَتُهُ هَل بلَّغكُم فيقولون ما جاءَنَا مِن نَذِيرٍ فَيُقالُ مَن شُهودُكَ فَيقول محمَّدٌ وأُمَتُهُ فيُجاءُ بِكُم فَتَشْهَدون ثُمَّ قرأَ رَسُولُ الله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۱
ظاهر الحديث الإخبار بفضل هذا النبي الله وفضل هذه الأمة وأنهم الشهود على من تقدمهم من الأمم والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال كيف يشهد متأخر على متقدم وما الحكمة في ذكر نوح عليه السلام من بين سائر الأنبياء عليهم السلام أجمعين وهل الأمة كلّها بَرُّها وفاجِرُها يشهدون أو لا يشهد إلا من هو لذلك أهل
أما قولنا كيف يشهد متأخر على متقدم فقد جاء في حديث غير هذا أن هذه حجة قوم نوح يقولون يا ربنا وكيف يشهدون علينا وهم آخر الأمم فيقول الله عزّ وجلّ لهم كيف تشهدون عليهم وأنتم آخر الأمم فيقولون ربنا إنا وجدنا فيما أنزلته في كتابك علينا أن نوحاً عليه السلام بلغ أمته
وفيه دليل على أن حكم الله تعالى بيننا في الآخرة على ما هي أحكام الشرع هنا يؤخذ ذلك من طلبه عزّ وجلّ الشهود من نوح عليه الصلاة والسلام وهو العالم بصدقه ومن استفسار
الشهود كما ذكرنا
١٤٩٤
۱ سورة البقرة من الاية ١٤٣
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله تعالى في أن القاضي لا يحكم بعلمه فإذا كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يحكم بعلمه فيما بيننا ذلك اليوم فكيف بالغير
وفيه دليل على تساوي الأحكام فيما بين الناس على حد واحد القوي والضعيف والرفيع والوضيع يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يجاء بنوح عليه السلام أي أنه يساق للحكم كما يساق غيره وهو حيث هو من مكانة الرسالة ثم إنه يُطلب منه الشهود ولا يُخلَّى عنه إلا بعد قبول شهادتهم وقد جاء أن أول ما يساق للحساب إسرافيل عليه السلام الذي العرش على كاهله والعرق يتحدر على جبينه فيقول الله جلّ جلاله ما صنعت في عهدي فيقول يا رب بلغته جبريل فيؤتى بجبريل فيقول له الحق جل جلاله هل بلغك إسرافيل عهدي فيقول نعم يا رب فيخلى عن إسرافيل ويسأل جبريل فيقول عزّ وجل له ما صنعت في عهدي فيقول يا رب بلغته الرسل فيؤتى بالرسل فيقال لهم صلوات الله على جميعهم هل بلغكم جبريل عهدي فيقولون نعم فحينئذ يُخلَّى عن جبريل ۱ فأول من يسأل من الرسل نوح عليه السلام فيكون من قصته ما هو نص الحديث فلا يخلّى عنه إلا بعد قبول شهادة هذه الأمة ثم الذين بعده كذلك واحداً بعد واحد ويعارضنا هنا قوله عليه السلام أول من يحاسب من الأمم أنتم وأول من يجوز من الأمم
الصراط أمتي أو كما قال عليه السلام
فالجواب أنه ليس بينهما تعارض لأن حساب الأمم على نوعين وبذلك يجتمع الحديثان ولا يبقى بينهما تعارض وهو أن النوع الأول أن تُسأل الأمم هل بلغهم الرسل عن الله أو لا فهذا الذي يتقدم جميع الأمم فيه على هذه الأمة لأنهم هم الشهود عليهم فلا بدّ من حضورهم إلى اخر الأمم والنوع الآخر هو سؤال الأمم كل شخص منهم منفرداً عن عمله
بمقتضى شريعته فهذا الذي تكون هذه الأمة أول من تحاسب عليه وسيدنا الله شاهد عليهم وأما قولنا ما الحكمة في أن ذكر نوحاً عليه السلام دون غيره من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيحتمل أن يكون إنما ذكر نوحاً عليه السلام لأنه أول الرسل فإذا كانت هذه الأمة تشهد على الأول من الأنبياء فمن باب أحرى غيره واستغنى عن ذكر الغير صلوات الله عليه وعليهم أجمعين بذكر الآية آخراً وهي عامة فهذا من الاختصار والبلاغة
۱ قطعة من حديث طويل أوله إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن جرير عن حبان بن أبي جبلة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
١٤٩٥
وأما قولنا هل الأمة تشهد لها برها وفاجرها أو لا يشهد إلا من هو أهل لذلك أما لفظ الحديث فمحتمل لأن العرب قد تسمي البعض باسم الكل لكن التخصيص يظهر فيه من وجهين أحدهما من الحديث الذي أوردنا شاهداً في قولهم وجدنا في الكتاب الذي أنزلت فهذا لا يكون جواباً إلا ممن يكون له علم بالكتاب وكثير من هذه الأمة لا يعلمون من الكتاب شيئاً ومن طريق النظر يكون في هذه الأمة إذ ذاك من هو في نوع من أنواع العذاب المتقدم ذكره في الأحاديث كيف يستشهد بهم وكيف تقبل لهم شهادة
والمتضمن الآية أيضاً بقوله وسطا أي خياراً فلا يشهد منها إلا خيارها أو كما أشرنا إليه أولاً لأن الحكم هناك كالحكم هنا وكما لا يقبل هنا إلا العدول الخيار كذلك هناك لقوله تعالى مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ فلما كان هنا لا يؤخذ إلا المرضي الحال فلا يؤخذ هناك ضده هذا
ما تقضيه الحكمة
وفيه إشارة لطيفة وهي أن إعلامك بهذه المرتبة الرفيعة عناية بك لتحافظ عليها لعلك ممن تكون يشهد إذ ذاك لأنه يرجى من فضل الكريم أن من قبلت شهادته أن يسامحه ويتفضل عليه بالخلاص من ذلك الهول العظيم
وفيه تنبيه إلى أن الشهود وإن اختلفت مراتبهم في الرفعة إذا لم يخرجوا من دائرة العدالة قبلوا كلهم يؤخذ ذلك من قول نوح عليه السلام حين يسأل عن شهوده فقال محمد وأمته فجعله من جملة الشهود و به صحت العدالة لِمُتَّبعيه
وفيه دليل على أن المخالف للسنة لا يكون ممن يشهد معه ولا يشهد معه إلا من تبعه بالإحسان لأن أولئك هم العدول وغيرهم أطراف لا وسط ولا عدول يقوي ذلك قوله عليه السلام كلها في النار إلا واحدة ما أنا عليه وأصحابي ۱ فمن يكون في النار أنّى له بالوسط من الأمة والتعديل هذا في ترجيحه أتم دليل
تنبيه يا أخا البطالة والتلويث لنفسك انتبه الحاكم قد زكاك وأنت بما ارتكبت من قبيح الأوصاف تجرح نفسك وبذلك تفرح فقد خضت بحر المهالك وعلى عقبك من الخير نكصت وفيه دليل على أن أقوى الأدلة في الأحكام كتاب الله تعالى يؤخذ ذلك من ترك سيدنا و
۱ قطعة
قطعة من حديث أوله افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة الحديث قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر وحسّنه وقال الزبيدي في الإتحاف ۱٤۰/۸ ورواه الحاكم في المستدرك والبزار في مسنده والبيهقي في المدخل وفي الباب عن أربعة عشر صحابياً ذكرهم الزبيدي في الإتحاف وعليه فإن الحديث له حكم المتواتر
١٤٩٦
تمام الكلام الذي أبداه وأتى بالآية من الكتاب العزيز ومما يقوي ذلك قول معاذ له حين وجهه إلى اليمن قال له عليه السلام بماذا تحكم قال بكتاب الله تعالى قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله له الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي فقال الله الحمد لله الذي وفق رسول رسوله إلى ما يحب الله ورسوله أو كما ورد وفقنا الله في جميع الأمور إلى ذلك بمنه وأسعدنا به
امین
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
١٤٩٧
حديث مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال مفاتيحُ الغَيبِ خَمس لاَ يَعلَمُها إلا الله لا يَعلَمُ ما تَغِيضُ الأرحام إلا الله ولا يعلمُ ما في غَدٍ إلا الله ولا يعلمُ مَتى يَأْتي المطَرُ أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تَمُوتُ إلا الله ولا يعلمُ مَتى تَقُومُ السَّاعةُ
إلا الله
ظاهر الحديث يدل على هذه الخمسة المذكورة في الحديث لا يعلمها إلا الله والكلام عليه
من وجوه
منها أن يقال ما الحكمة في أن استعار للغيب مفاتيح وما الحكمة في أن جعلها خمساً وهل للغيب زيادة على تلك الخمس مفاتيح أم لا وما الحكمة في أن لم يذكر من أمور الغيب إلا
تلك الخمس
وأما قولنا ما الحكمة في أن استعار للغيب مفاتيح فلوجوه منها الاقتداء بما به نطق الكتاب في ذلك بقوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو وَيَعْلَمُ مَا فِي البَر وَالْبَحْرِ ۱ ومنها لتقريب الأمر على المخاطب لأن أمور الغيب لا يحصيها أحد إلا عالمها ﴾ ١ وكل شيء حيل بينك وبينه فهو غيب وأقرب الأشياء في ذلك هي الأبواب والأبواب أقل ما يحبسها عن الفتح وأيسرها المفاتيح فإذا كان أيسر الأشياء التي يعرف بها الغيب لا يعرف أحد لها
موضعاً فكيف يقدر أن يعرف ما هو أكبر من ذلك هذا محال وهذا من أبلغ البيان وأخصره ومنها أنه أراد بالغيب الغيب الذي لا يعلمه أحد حقيقة لأن الغيوب على ما هي عليه وإن كانت لبعض الغيوب أسباب قد يستدل في بعض المرات بها عليها أن ذلك ليس بحقيقي في علم
۱ سورة الأنعام من الآية ٥٩
١٤٩٨
تلك الغيوب وأما حقيقتها فلا يعلمها أحد إلا الله تعالى يشهد لهذا التوجيه قوله كناية عن الله سبحانه أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن
بي كافر بالكوكب وأما من قال مُطرنا بِنَوْء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب 1 فعلى هذا فالغيب على نوعين غيبه سبحانه عنا بذاته وصفاته وغيب بالأمور الجارية في مخلوقاته فلما كانت تلك الأمور غائبة عنا لا نقدر على العلم بها ولا الوصول إليها وهي محصورة بالكتاب بقوله تعالى ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ ولقوله تعالى ﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَتي فِي كِتَبٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ۳
فلما كان جميع الوجود محصوراً في علمه سبحانه شبهه عليه السلام بالمخازن وكل مخزن لا بد له من باب وكل باب لا بد له من مفتاح فاستعار عليه السلام له المفاتيح يشهد لهذا التوجيه قوله تعالى ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآينُهُ وَمَا نُنَزِلَهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ ٤ فإذا كانت الخزائن والمفاتيح عنده سبحانه ولا يعلم أحد المفاتيح أين هي فكيف يخبر بما في المخازن هذا لا يتعقل لمخلوق أصلاً وإذا كانت هذه التي هي أثر قدرته سبحانه ولا يقدر أحد أن يعلم منها شيئاً إلا أن يخبره هو سبحانه بها كما قال تعالى في كتابه إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ ٥ فكيف بقدرته جل جلاله أو بصفة من صفاته على ما هي عليه من الجلال والكمال فكيف بذاته التي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٦ هذا ممنوع ٦ هذا ممنوع عقلاً وشرعاً ومن تعانى شيئاً من المعرفة في شيء مما قسمنا من الغيوب أو نوع من أنواعه أو تشبيه أو تمثيل بدليل من الأدلة فمحال دعواه وهو ضرب من الحمق
وأما قولنا ما الحكمة في أن جعلها خمساً وهل للغيب زيادة على هذه المفاتيح فاعلم - وفقنا الله وإياك - أن الحكمة في أن جعلها خمساً الكلام عليه مثلما تقدم الكلام على قول عائشة الله عنها كان رسول الله الله يحب التيامن في شأنه كله ثم قالت في طهوره وترجله
رضي
1 أخرجه الإمامان مالك وأحمد والشيخان وأبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
سورة الأنعام من الآية ٥٩ ۳ سورة طه الايتان ٥١ و ٥٢
٤ سورة الحجر الاية ۱ ٥ سورة الجن من الاية ٢٧ ٦ سورة الشورى من الاية ۱۱
١٤٩٩
وتنعله ۱ فأتت من الفرائض بآكدها وهو الطهور ومن السنّة كذلك الترجل ومن المباح كذلك
التنعل فحصرت بهذه الثلاث جميع ما يتصرف فيه المرء
وكذلك هذه الخمس حصر بها الهلال العوالم فقوله له ما تغيض الأرحام دليل على ما يزيد في النفوس وينقص وذكر منها الأرحام لكونها للناس في ذلك عوائد يعرفونها وقد تقررت على ذلك أحكام شرعية فهذه أعلاها فإذا كانت هذه التي قد تقررت عليها الأحكام بحسب جري العادة ولا يعرف حقيقتها لا متى تزيد ولا متى تنقص فغيرها من باب أحرى وقد قال تعالى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ فدلّ أن غيره سبحانه لا يعلم
ذلك
ومن هذا الباب كلام العلماء في عدة الحرة بثلاث حيض فهل ذلك دلالة حقيقة على براءة الرحم أو ذلك تعبد بحسب ما هو مذكور في كتبهم ولذلك قال جلّ جلاله ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا بصِرُونَ ۳ فإذا كان الشيء الذي هو فيك لا تعرفه فكيف غيره من باب أحرى
ودل بقوله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله على أمور العالم العلوي وذكر منها المطر لأن لنا أسباباً قد تدل عليه ونجدها في بعض المرار يجري فيها ما يغلب على الظن من جري العادة المتقدمة في مثلها وهو أيضاً كثير كما يتردد إلينا وجعل لنا فيه وبأثره بحسب مقتضى الحكمة الإلهية رزقاً وخيراً لا نعرفه حقيقة فكيف غيره من باب أحرى
وكذلك جاء الحديث الذي قد ذكرناه وهو قوله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أصبح وقد مطر الناس يقول مُطِرْنا بِنَوْءِ الفتح ويتلو هذه الآية ﴿ ما يفتح اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ﴾ ٤ ودل بقوله وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَي أَرْضِ تَمُوتُ على الجهل بهذه الأمور الأرضيات وذكر موضع الموت منها لأن العادة قد جرت غالباً أن أكثر الناس موتهم بالأرض التي هم بها والحكم في الأمور يُعطى للغالب وإن مات بها لا يدري حقيقة ضريحه منها أين هو فإذا كان هذا المقدار
۱ متفق عليه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله في
طهوره وترجله وتنعله
سورة الرعد من الآية ٨ ۳ سورة الذاريات الاية ۱ ٤ سورة فاطر من الاية ٢