Go Back




وآخرون قد تبقى عليهم التبعات فيسبب الله لهم من يشفع فيهم وهؤلاء من نوع
الملطوف بهم
وآخرون تَفْضُل عليهم صغائر فيلطف بهم ويُعفى عنهم لمتضمَّن الوعد الجميل وهو قوله تعالى ﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلَا كريما ۱
وآخرون لهم سيئات كبائر وصغائر فيأمر الله عزّ وجلّ الملائكة أن يبدلوا لهم صغائرهم حسنات فإذا رأوها قالوا يا ربَّنا كانت لنا كبائر ولم نرها هنا طمعاً أن تبدَّل لهم الكبائر بالحسنات فأولئك كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم في كتابه بقوله ﴿ فَأُوْلَيك يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَات ٢ وهؤلاء ممن تفضّل الله عليهم وآخرون تَرجَح حسناتهم سيئاتهم وأولئك هم المفلحون
وآخرون لم يحاسبوا البنة إلا من قبورهم إلى قصورهم كما جاءت بذلك الآثار مثل الشهداء
وغيرهم
وآخرون يُناقشون الحساب فأولئك الذين يهلكون أي يُعذَّبون لأن الهلاك هنا الذي هو كناية عن العدم ليس بموجود هناك وهذا مثل قوله تعالى ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِنت ۳ أي يأتيه أن لو كان يأتيه مثله في دار الدنيا لكان يموت فهنا يقاسي مثل الموت من كل جهة وليس بميت وفي هذا الهلاك يأتيه من الأمور المهلكة أن لو كان في دار الفناء لكان يهلك بها وهنا يقاسي مثل الهلاك وليس بهالك والهالكون هنا أي المعذَّبون على أحوال مختلفة بقدر أحوالهم كلُّ شخص بِقَدْر حاله

الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة أن من سمع شيئاً لا يعرفه فليراجع فيه حتى يعرفه يؤخذ ذلك من قوله كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه فلو لم يكن ذلك من سنن الإسلام لما أقرَّها عليه السلام في حقها خذوا عنها شَطْرَ دينكم ٤ لكن هذا
۱ سورة النساء من الآية ۳۱

سورة الفرقان من الآية ۷۰ ۳ سورة إبراهيم من الآية ١٧
٤ قال الحافظ ابن حجر في تخريج كتاب مختصر ابن الحاجب لا أعرف له إسناداً ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرّجه وذكر ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي فلم يعرفاه وقال السيوطي في الدرّ لم أقف عليه هـ من كشف الخفا ١/ ٣٧٤
۰۱
فيه
الله
فش
لى
6

ليس على العموم وإنما ذلك لمن فيه أهلية وأما العوام فوظيفتهم السؤال - كما تقدم - في
الأحاديث قبل
الوجه الثالث وفيه أن تكون المراجعة بحسن الأدب يؤخذ ذلك من قولها أوليس يقول الله تعالى فسوف يحاسَبُ حساباً يسيراً فلم تُظهِرْ صورة الإنكار ولكن عرضت بالآي ليجتمع لها في ذلك وجوه من الفقه منها تفسير الآية ممن يعرفها حقًا ومنها معرفة كيفية الجمع بينها وبين متن الحديث فاجتمع لها في ذلك ما أرادت وهو كونه عليه السلام بَيَّن لها معنى الاي وكيفية الجمع بين الآي والحديث
الوجه الرابع فيه دليل على تخصيص الكتاب بالسنة لأن هذا الحديث خصَّص تلك الآية
رحمه الله
بوجه ما لقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض ويؤخذ منه الدليل لمذهب مالك رحمه حيث يرى بأن جَمْع الآثار أولى من نسخها لأن الجمع يقتضي زيادة حكم والنَّسخ يقتضي نفي حكم هذا ما لم يُعلَم النسخ لأنه إذا عُلِم النسخ فلا جمع وذلك مثل ما فعل في الحديثين إنّما الماءُ من الماء ۱ وإذا جاوز الخِتانُ الخِتانَ فقد وَجَب الغُسْل فحمل قوله عليه السلام إذا جاوز الختان الختان على الجماع وحمل قوله عليه السلام إنما الماء من الماء على الاحتلام وما أشبهه وما نحن بسبيله مثله
الوجه الخامس يؤخذ منه أن الاستبداد مع حضور المعلم ممنوع وإنما الاستبداد بالتأويل مع الغيبة عنه يؤخذ ذلك من استدلالها بالآية حين سمعت ما ذكر عليه السلام فلم تستبد برأيها مع حضوره عليه السلام لأنه هو المشرّع والمعلّم فالتشريع خاص به والتعليم موروث عنه الوجه السادس فيه دليل على أن التفرقة بين اللفظين لافتراق الحكم جائزة بقرينة ما يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام مَن حوسب عُذب وقوله تعالى ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۳ فاللفظ واحد في الحساب ووقعت التفرقة بينهما بالصفة لأنه عليه السلام قال في الواحد لو لم يُيَسَّر عليه لهلك فوصفه بالتيسير وفي الآخر أضاف إليه الهلاك فليس من يُيَسّر عليه يَهْلِك الوجه السابع فيه دليل على أن بساط الحال يستدل به على حقيقة المعنى لأنه قال فَأَما
۱ رواه مسلم في كتاب الحيض
رواه مسلم في كتاب الحيض ورواه الإمام أحمد والترمذي عن السيدة عائشة عليها السلام مرفوعاً ولفظه عند مسلم إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ومَسَ الختان الختان فقد وجَبَ الغُسْلُ
۳ سورة الانشقاق الآية
۰

لا
مَن أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۱ فدل بذلك أن مَن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه فليس بمحاسب حساباً يسيراً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بأن أمْرَ الله عزّ وجلّ قد نفذ أنّ من أوتي كتابه باليمين يُحاسَبُ حساباً يسيراً وأخبر عليه السلام في نفوذ الأمر فيمن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه بالمناقشة
ويَرِد هنا سؤال على قوله شيئاً لا تعرفه هل هو على العموم فيما يكون من أمور الدنيا والآخرة أو هو خاص بمعنى أمور الآخرة ليس إلا
والجواب أن هذا على العموم لأنه من الشَّيَم العالية وشمائل السؤدد المنيفة وتلك السيدة كانت ممن لهنّ صفاتُ السُّؤدد العَلِيَّة والرتبة السنيّة وقد قيل قيمة المرء ما يُحْسِن وقد قال عليّ رضي الله عنه لمّا لقي أعرابيا فأعجبه حاله فقال له بِمَ نلتَ هذه الحالة فقال لم أسمع شيئاً لا أعرفه إلا بحثتُ فيه حتى أعرفه ولم أعرف شيئاً فامتنعت أن أُعلمه من لا يعرفه فقال له بهذا سُدْتَ وقد قالوا من دَرَسَ رَأْسَ ومن عرف ارتفع
وهنا بحث في قوله لا تعرفه إلا راجعت فيه ولم لم يقل أنكرته
والجواب أن المراجعة تَرَدُّدُ الأمر ليتبيَّنَ حقه من باطله والإنكار دَفَعُهُ مرة واحدة ومن له عقل لا ينفي شيئاً لا يعرفه حتى يراجع فيه ويعرف حقه من باطله لئلا يكون فيه حق أو منفعة فإن كان فيه حق أو منفعة قبله وإلا ردّه على بصيرة
ومن
علامات الجهل ردّ الشيء عند الجهل لأنه قد يكون فيه مصلحة لا يعرفها فيكون رده و جهله سبباً لحرمانه من تلك المنفعة ولذلك قال السادة العلماء مَنْ جَهِل شيئاً عاداه هذا إذا كان الأمر من خلاف كلام النبوة وأما ما يكون من كلام النبوة فالمراجعة فيه ليتبين ما فيه من الأنوار والحكم والفوائد لأنه خيرٌ كله
الوجه التاسع فيه دليل على منع بعض البحوث التي لبعض الناس في زماننا هذا لأن ما قصد بعضهم إلا قطع خصمه فيكون جوابه ممنوع أو لا أسلم وهو لا يعلم حقيقة ما قال صاحبه فحُرِم الفائدة لجهله بأدب البحث وقد قال الشافعي رحمه الله والسادة العلماء ما
۱ سورة الانشقاق الآيتان ۷ و ۸

بنى علماء الأصول على هذه العبارة أحكاماً كثيرة وهي من قواعدهم الأساسية الكبيرة والأمر - هنا - بالمعنى لا باللفظ إذ الموضوع يتعلق بمفهوم المخالفة وهل هي حجة وما هنا دليل لمن يحتج به
۰۳

باحثتُ أحداً فاخترت أن يكون الحق يجري على لساني ليس إلا وإنما قصدي أن يُظهر الله الحق على لسان من شاء من ألسنتنا ۱ لأن الحكمة ضالة المؤمن فمن أُتِيَ بها فرح بها
ويترتب عليه من الفقه على من يَرُدّ قبل أن يعرف مقالة خصمه وجهان لأنه لا يخلو أن يكون ما قاله المتكلم حقا فيراجعه بقوله ممنوع أو لا أسلّم فيدخل بذلك في عموم قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ فهذا حرام ممنوع أو يكون ما قاله خصمه منكراً لا يجوز فيرده قبل أن يعرفه وتغيير المنكر لا يجوز إلا بعد المعرفة بأنه مُنْكَر هذه المسألة بإجماع وهو أنه لا يجوز تغيير المنكر حتى يعلم أنه منكر فكيف يقدم هذا المُنْكِرُ على هذين الوجهين وفيهما من الخطر ما فيهما ولا سيما إذا انضاف لذلك حظوظ النفس وطلب الظهور والفخر فشقاوة على شقاوة أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
ومما يقرب من هذا الوجه من القبح - وهو عند بعض أهل هذا الوقت من النبلِ والكيس وبِئْسَ الحال ـ وهو ۳ أن يسمع مِمَّنْ مَنَّ الله عليه بالعلم وجهاً من العلوم لا يعرفه هو فيأتي إليه يسأله أن يبحث معه في ذلك الوجه لكي يُشعِره أنه يعرفه ولا يريد أن يتنازل إليه أن يقول له عَلِمْني تلك المسألة - فهذا فيه وجوه محذورة منها الكذب لأنه يخبر بلسان حاله أنه يعرف ذلك الشيء وليس كذلك وفيه استنقاص بمن هو أعلم منه في ذلك الحال وتلك المسألة وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تَحْقِرَنَ أحداً آتاه الله علماً فإن الله لم يَحْقِرُه حين آتاه العلم وقد قال أئمة الدين وأن تتواضعوا لمن تعلّمونه وتتواضعوا لمن تتعلمون منه فإن التواضع من أدب العلم ومن ترك أدب العلم قل أن يَحْظى به أو يناله على وجهه بل يُحْرَمُه ٤
فانظر إلى حسن العبارة في قوله لا تعرفه فدل على أن المراجعة تَعَلُّم لا إنكار فلما راجعت وعرفت أمسكت فتلك الفائدة التي قصدت والفائدة عند أصحاب البحث المتقدم ذكرهم قطع الخصم بـلا أسلم أو ممنوع لأنه يقال فلان قطع فلاناً أو أسكت فلاناً فإنا لله وإنا إليه راجعون على قلب الحقائق وردّ المعروفِ منكراً والمنكَرِ معروفاً
الوجه العاشر فيه دليل على أن زيادة البحث إذا كان بأدبه زادت الفائدة يؤخذ ذلك من أنها لما سمعت قوله عليه السلام راجعت بالأدب - كما تقدم - فازداد لها بذلك فائدة أن خصص لها
۱ انظر تفصيل نظرات الإمام الشافعي في اداب العلم والتعلم في الإحياء ۳۸۱
سورة التوبة من الاية ۳
۳ كذا والصواب إسقاط وهو
٤ راجع إحياء علوم الدين - كتاب ذم الكبر والعجب - ٣/ ٣٥٥ - ٣٩٨

٢٠٤

ذلك العام بقوله عليه السلام مَن نوقش الحساب هَلَك ثم خصص لها ذلك العموم بقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض
الوجه الحادي عشر في الحديث إشارة صوفية لأن تلك المناقشة هي التي حملتهم على الزهد في متاع الدنيا وقد أشار عليه السلام إليه في حديث آخر حين قال له رجل أوصني ولا تُشْطط فقال له عليه السلام لا تقل شيئاً تَستَعْذِرُ عنه في القيامة ۱ فعملوا في القول على هذه الوصية ليكون قولهم صدقاً ويكون حسابهم تجاوزاً وعرضاً
جعلنا الله ممن تجاوز عنه وسَلك به مسلكهم الرشيد وسَننهم السديد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۰۵

<-1
حديث القتال في سبيل
عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما القتال في سبيل الله فإن أحدنا يقاتل غَضَباً ويقاتل حَمِيَّةً فرفع إليه رأسه قال - وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً - فقال مَنْ قاتَلَ لتكونَ كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

الله
ظاهر الحديث يدل على أن القتال في سبيل الله لا يكون إلا بنيّة أن تكون كلمةُ الله هي العُليا
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على أن من الأدب والسنَّة تقدمَةَ مناداة المسؤول بأعلى أسمائه على الحاجة لأنه قال أولاً قبل أن يذكر حاجته يا رسول الله و رسول الله أعلى
أسمائه عليه السلام الوجه الثاني فيه دليل على جواز مناداة المفضول للفاضل لحاجته أو في أمر أشكل عليه لأن هذا الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه - وأصحابه أفضل ذلك الزمان بعده عليه السلام - فلم يُنكر عليه واحد منهم رفع صوته بينهم وعليهم وانفراده بسؤاله فيما احتاج إليه دونهم ولو كان ذلك غير جائز لما أقره الشارع عليه السلام على شيء من ذلك
الوجه الثالث قوله ما القتال في سبيل الله فيه دليل على إبداء العلل الواردة للعارف بها ليبين فيها الفاسد من الصالح لأن هذا الأعرابي قال أولاً ما القتال في سبيل الله ثم بيّن بعد ذلك وجوه القتال التي كانت عادة العرب يقاتلون عليها
الوجه الرابع فيه دليل على جواز حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله وهو يريد ما صفة القتال الذي يكون في سبيل الله فحذف الصفة للاختصار الوجه الخامس فيه دليل على أن من السنَّة تقديم العلم على العمل يؤخذ ذلك من قوله ما
القتال في سبيل الله ليعلم كيف يقاتل في سبيل الله
0
٢٠٦

الوجه السادس فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بأن الفرض لا بد له من حد يُحَدُّ به من الكتاب أو السنة أو منهما معاً كي يُعرَف بذلك يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله ليعرف الصفة التي إذا فعلها وفّى ما أمر به
الوجه السابع فيه دليل على إيجاب النية في العمل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لتكون كلمة الله هي العليا فأضرب عن الصفة وأجاب عن النية
الوجه الثامن فيه دليل على أن تخصيص الظواهر لا يكون إلا بالنيات يؤخذ ذلك من قوله بعد تعداد السائل الوجوه التي يقاتلون عليها من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فدل على أن الشأن النية لا الصورة الظاهرة
وهنا بحث هل قوله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لغيرها مما ذكر في صلى الله عليه وسلم الحديث ولا تكون الله إلا إذا عري المقصود عما سواه وأنه لا يبالي بتلك المقاصد إذا كان مقصده الأصلي فيها لتكون كلمة الله هي العليا ولهذا قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يُرى في طريق المسجد ولا يحب أن يُرى في طريق السوق لا يضره ذلك إذا كان عند الشروع الله خالصاً فالجواب أن هذا الأمر هنا احتمل وجوهاً لكل واحد منها حكم أحدها - وهو أعلاها بلا خلاف ـ وهو أن يكون الله عزّ وجلّ ولا يكون هناك غير ذلك الثاني أن يكون المثير للقتال أحد الوجوه المذكورة في هذا الحديث أو الزيادة التي في غيره وهي أن يقاتل طبعاً ثم عند الشروع فيه يجرد النية لأن تكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الذي يعطيه نص الحديث لأن المثير للشيء لا يُلتَفَتُ إليه إذا لم يُستصحب به الحال حتى يكون الفعل له لأن الحكم للأحدث فالأحدث
الثالث أن يكون القتال لذلك المؤثر والله معاً فهذا ليس من الله في شيء لما جاء أن الله جل جلاله إذا كان في العمل شرك لغيره يقول الله يوم القيامة لصاحب العمل أنا أغنى الشركاء اذهب فاطلب الأجر من غيري الرابع أن يكون لأحد الوجوه المذكورة لا غير فهذا له ما يقتضيه فعله ونيَّتُه من إثم أو
إباحة بحسب قواعد الشرع في كل قضية الوجه التاسع فيه دليل على أن من السنّة أن يواجه المسؤول السائل بوجهه عند الجواب يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه ثم استعذر عن رفع رأسه ل ل ا ل له بأن قال وما رَفَع إليه رأسه
إلا أنه كان قائماً

رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ورواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

عليه
الوجه العاشر فيه دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقتدون بأفعاله السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه فلولا أنهم كانوا يقتدون بأفعاله ما كانت حاجة إلى ذكر رفع رأسه لأنه ليس ذلك من لازم الجواب
عليه
الوجه الحادي عشر فيه دليل على وقار النبي صلى الله عليه وسلم وعلم الصحابة بذلك لأنه السلام كان لا يلتفت إلا عن حاجة لا عَبئاً فلولا ما كان كذلك ما احتاج الراوي أن يبديَ العلّة التي من أجلها رفع النبي رأسه وهي أن السائل كان قائماً
الوجه الثاني عشر فيه دليل على حفظ الجوارح حتى لا يكون تصرفها إلا عن ضرورة لا عبثاً لما تقدم في تعليل رفع رأسه عليه السلام
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن المخبر إذا أخبر بشيء لا يُعرَف فعليه أن يستدل عليه بما يُصَدَّق به حديثه يؤخذ ذلك من تعليل الصحابي سبب رفع رأسه عليه السلام لأنه لو لم يقل ذلك لكان ذلك سبباً ألا يقبل الصحابة قوله أو يتوقفوا فيه لِعِلمهم بخلاف ذلك فبين العلة لأن تصديق مقالته هنا حقيقتها تقعيد قاعدة شرعية فكان احتياطه رضي الله عنه من أجل ذلك لا من
أجل نفسه
الوجه الرابع عشر فيه دليل على جواز السؤال على كل الأحوال قاعداً أو قائماً لأن ذكرَه هنا القيام عند السؤال أو تعليله لذلك دالّ على أن المعروف عندهم كان الجلوس فلما أخبر هنا بالقيام دل على جوازه على كل حال ولو كان عندهم ذلك مما قد عرفوه لكان ذلك إخباراً

بتحصيل حاصل والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن ذلك

الوجه الخامس عشر فيه دليل على منع القتال على حطام الدنيا
الوجه السادس عشر فيه دليل على منع القتال على أن يكون لسفك دماء الكفار غيظاً عليهم يؤخذ ذائِكَ الحكمان من قوله عليه السلام لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا
الوجه السابع عشر هنا إشارة صوفية لأن الجهاد عندهم هو جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر كما أخبر في غير هذا الحديث حين رجع من الجهاد فقال للصحابة هبطتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ۱ والجهاد الأكبر هو جهاد النفس فتكون مجاهدتهم لها لأن تكون كلمة الله أيضاً هي العليا وصفتها كما أخبر عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام لا
۱ رواه البيهقي في الزهد الكبير عن جابر رضي الله عنه ورواه الخطيب في تاريخ بغداد بلفظ مختلف وللشيخ عدنان الغشيم رسالة في هذا الحديث ورجاله
۰۸

يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر
به ويده التي يبطش بها ۱ هذا هو طريق السادة الفضلاء منهم
وأما الذي يقوله أهلُ الجهل نواصِلُ و نجاهد حتى نرى شيئاً من خرق العادات والكرامات فأولئك عندهم جهال ومنهم من قال إنهم يدخلون تحت قوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وأي فائدة في ذلك على هذا الوجه والله عزّ وجلّ يقول في كتابه مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۳ ثم تلمح إلى قوله عزّ وجل وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 1 يتبين لك ما أخبرتك به ﴿
وفقنا الله لذلك بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة الحج من الآية ۱۱ والمعنى يَعبُدُهُ في السَّرَاءِ لا في الضَّرَا

سورة النساء من الآية ١٤٧ ٤ سورة العنكبوت من الآية ٦٩

سی
۱۳

حديث الرجل يخيّل إليه أنه يجد ريحاً وهو في الصـ
عن عباد بن تميم عن عمه
نه ١
رضى الله عنهما أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرجلُ ۳ الذي يخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء ٤ في الصلاة فقال لا ينفتل ٥ ـ أو لا ينصرف - حتى يسمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يقطع الصلاة من يخيّل إليه شيء حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الشيء هل هو على العموم أو شيء مخصوص اللفظ بنفسه محتمل لكن القرينة التي في آخر الحديث تشعر أنه شيء مخصوص وهو قوله حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً فدل أن الشيء هنا هو من النوع الذي هاتان الصفتان وصفه وهو الريح بصوت أو بغير
صوت
الوجه الثاني يَرِدُ هنا سؤال وهو هل هذا الحكم مختص بالرّيح وحده أو هو له ولغيره من الأحداث ٦
فالظاهر تعديه إلى غيره من الأحداث بدليل قول سعيد بن المسيب لو سال على فخذي ما
۱ عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري سمّاه مسلم وغيره في روايتهم لهذا الحديث شكا الضمير يعود على الراوي الذي هو عبد الله بن زيد وفي رواية لمسلم شُكِيَ ببناء الفعل للمجهول ولم
يسم الراوي
۳ الرجل بالضم على الحكاية
٤ الشيء أي الحدث خارجاً منه
٥ لا ينقتل بالجزم على النهي وبالرفع على أن لا نافية
٦ الأحداث ج حَدَث وهو عند الفقهاء نجاسة حكمية معنوية ترتفع بالوضوء أو بالغُسل أو التّيَمُّم
۱۰

حتى أقضي صلاتي فدل ذلك على أن الحكم إذا كان العبد في الصلاة ويتخيل له أتي
نوع من أنواع الأحداث الناقضة للطهارة أنه لا يقطع صلاته إلا بيقين
الوجه الثالث فيه من الفقه أن الشك لا يقدح في اليقين إذا كان في الصلاة اتفاقاً لنص الشارع عليه السلام على ذلك وعَمَلِ التابعي رضي الله عنه ويقصد ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ ﴾ ١ فمنع الشارع عليه السلام بمقتضى الحديث التطرق إلى فساد الأعمال بالشك أو الظنّ سَداً للذريعة وتعظيماً للعمل
الوجه الرابع هنا إشارة لطيفة وذلك أنه لما كان العبد قد توجه إلى الحضرة العَلِيّة فلا يلتفت إلى البشرية وعوارضها فإنه خلل في الحال فإن جاءه أمر متحقق فهو حكم رباني وَجَبَ الامتثال له ولذلك نهى ل ل ا ل ا ل عن الصلاة مع مدافعة فعة الأخبَتَيْنِ
وبقي الكلام على خارج الصلاة يكون الشك قادحاً في اليقين أم لا مثال ذلك أن يكون الرجل تيقن بالطهارة وشَكٍّ في الحدّث
اختلف العلماء في ذلك فذهب مالك رحمه الله ومن تتبعه من العلماء إلى أنه يَقْدَح ولا
يستفتح الصلاةَ إلا بطهارة مُتَيَقَّنة لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ۳ وقال غيره لا يقدح الشك في اليقين
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان
أحدهما أن الخاطر اليسير المشوّش في الصلاة معفو عنه
الثاني أنْ تَحَدُّثَ النفس في الصلاة بما يصلحها جائز يؤخذ ذلك من قوله يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء فإذا تخيل له قيل له أنظر ما الذي أُمِرتَ به وما الحكم عليك فيه وذلك حديث مع النفس لأجل تقرير الحكم وينبغي تعديه إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض للمصلي أن ينظر في حكم الله عليه ما هو حتى يخرج على مقتضاه ولذلك قال بعض أهل العلم صلاةٌ بسهو خيرٌ من سبعين صلاةً بغيرِ سَهْرٍ قيل وكيف قال لأن الصلاة إذا كانت بغير سهو احتملت القبول وغيره وإذا كانت بالسهو وخرج على لسان العلم فقد أرغم أنف الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم فتلك
1 سورة محمد من الاية ۳۳
الأخبثان البول والغائط والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله
عنها ۳ سورة البينة من الآية ٥
41

ترغيم للشيطان ۱ وما يُرغم أنفَ الشيطان يُرجَى معه رضا الرحمن فَفَضَلَتْ غيرَها بتلك الصفة

الوجه السادس في هذا إشارة إلى فضل العلم الشرعي لأنه لا يعلم ذلك إلا بالعلم وكذلك يتعدى هذا الحكم إلى جميع الأحكام وهو أنه يؤمر أولاً بالإخلاص تقريراً على لسان العلم في
كل الأشياء فإن عَرَضه عارض نظر فيه بلسان العلم وعمل بما يؤمر به وذلك كله عبادة الوجه السابع فيه دليل على الإشارة والتكنية عن الأشياء المستقذرات ولا يُفصَح بها
يؤخذ ذلك من قوله يجد الشيء فكنّى عن الحدث بـ الشيء
الوجه الثامن فيه دليل على أن ذكر المستقذرات عند الضرورة لا شيء فيه يؤخذ ذلك من قوله حتى يسمع صوتاً أو يَجِد ريحاً لأنه عند ضرورة تبيين الحكم ذكر مشافهة ما كنى عنه أولاً الوجه التاسع هنا سؤال وهو لمَ قال الرجل ولم يذكر النساء والجواب أنه لما علم أن النساء شقائق الرجال اجتزأ بالأعلى عن الأدنى لأن الذَّكَر -
طريق اللغة ـ أعلى لأنهم إذا اجتمع مذكر ومؤنث غَلّبوا المذكر على المؤنث
الوجه العاشر قوله لا ينفتل أو لا ينصرف هل ذلك بمعنى واحد أو بمعنيين
الظاهر أنهما بمعنيين لأن الانفتال هو ميل ما عن الموضع الذي هو فيه والانصراف كناية عن الذهاب بالكلية ففي العبارة - بهذين الوجهين - إشارة إلى أنه يبقى على حاله ولا يخلّ منها بشيء لا كثير ولا يسير الوجه الحادي عشر فيه من الإشارة لأهل القلوب ألا يلتفتوا إلى الشكوك ولا إلى العوارض لا قليلا ولا كثيراً ولذلك يقولون إن الملتفت عندهم هالك

الوجه الثاني عشر هنا سؤال وهو لمَ قال يجد ريحاً ولم يقل يشم ريحاً كما قال
يسمع صوتاً
والجواب أن الحدَثَ إذا كان بصوت سمع فلا يحتاج إلى زيادة صفة لأن الصوت أعلى وإن كان دون ذلك سُمع وإذا لم يكن له صوت فإما أن يُشتَمَّ من حينه - ولذلك قال يجد ريحاً - وإما أن يلتمس المحلَّ فيجد في العضو الذي يمس به المحل رائحة من صفة الحدث فيقوم ذلك مقام التحقيق بالحدث فأخبر هنا بأقل ما يستدل به من الشم عليه الوجه الثالث عشر فيه من الفقه أن مَسَّ الدُّبُر لا ينقض الطهارة خلافاً للشافعي رحمه
0

1 لم نعرف مصدره

الله فلا يعتبر بتلك الريح حتى يكون معها ما يشمّ فإنه ما لا صوت فيه فلا بد من الشم فإنه اليقين
في هذا الموضع
الوجه الرابع عشر فيه أيضاً بشارة لهم بأن دفع تلك العوارض لا تُخرجهم عن حالهم
الخاص
جعلنا الله ممّن خصه بالخير واختصه به لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

-14-
قتادة۱
حديث البول والاستنجاء والشرب
عن أبي قتادة ۱ رضي الله عنه عن النبي أنه قال إذا بال أحدكم فلا يأخذَنَّ

ذَكَرَهُ بِيمينه ولا يَسْتَنْجي بيمينه ولا يَتَنَفَّس في الإناء
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول ألا يأخذ ذكره بيمينه الثاني ألا يستنجي بيمينه الثالث ألا يتنفس في الإناء والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا تعبّد غير معقول المعنى أو هو معقول المعنى
وقد تقدم أن أمور الشرع كلها لا بد لها من معنى بمقتضى حكمة الحكيم لكن منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه ونخبر عنه بالتعبد ليس إلا فأما هنا بفضل الله فالمعنى ظاهر لأن اليمين لما جعل للأكل والشرب وما يقرب منه جُعِل اليسار لضد ذلك وهي الفضلات وما يتعلق بذلك وما يقرب منه فمس الذكر والاستنجاء من ذلك القبيل وأيضاً فلما كان أهل اليمين في الآخرة هم أهل الجنان والنعيم جُعِل في هذه الدار لذلك النوع ولمّا كان أهل الشمال في الآخرة أهل المعاصي والنكال جعل هنا لما يتولّد عن المعاصي وما شاكلها لأن أول ما وقعت المعصية من البشر تولد عنها الحدث وكذلك المعبرون للرؤيا يعبرون لمن رأى شيئاً من الأحداث أنها دالة على المعاصي الوجه الثاني هنا إشارة إلى أن المراد من المكلّف معرفة حكمة الحكيم في الأشياء واتباعها ولذلك قال عليه السلام حين جاء إلى السعي بين الصفا والمروة نبدأ بما بدأ الله
1 أبو قتادة هو الحارث أو النعمان أو عمرو بن ربعي الأنصاري الخزرجي السلمي صحابي من الأبطال الولاة وكان يقال له فارس رسول الله وفي حديث أخرجه مسلم خير فرساننا أبو قتادة شهد الوقائع مع النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء من وقعة أحد ولما ولي عبد الملك بن مروان إمرة المدينة أرسل إليه ليريه مواقف النبيل فانطلق معه وأراه ولما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه ولاه مكة وشهد معه صفين ومات في المدينة
سنة ٥٤ هـ/ ٦٧٤ م

به ۱ وإن كانت الواو لا تعطي رتبة في كلام العرب لكن لما عَلِم صاحب النور ۳ أن الحكيم
لا يبتدىء بشيء إلا لحكمة فاتبع مقتضى حكمة الحكيم
الوجه الثالث هنا إشارة إلى معنى قوله ولا يتنفس في الإناء فإن قلنا - كما تقدم - ما الحكمة في ذلك ففيه وجهان أحدهما في حق الشارب لعله عند تنفسه في الإناء يشرق بالماء والثاني في حق الغير لعله يتعلق من نَفْسِهِ شيء ما في الإناء فيستقذره الغير وفيه أيضاً إظهار الشهامة وقلة النّهمةِ 4 في الشراب وفيه أيضاً تفرقة ٥ الشراب أقرب إلى الري وفيه إشارة لعله ينتبه لما ندب إليه من قطع الشراب ثلاثاً فيحصل له ما رغب فيه من الخير لأنه جاء عنه أن مَن شرب الماءَ ونوى به العون على الطاعة وسمّى ثم قطع وحمد يفعل ذلك ثلاث مرات أن الماء يسبّح في جوفه ما بقي في جوفه ٦
ويترتب على هذا من الفقه أن يُقدَّم أولاً النهي عن الأشياء المحذورات وحينئذ يشار إلى زيادة الخير يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء نهياً منه عليه السلام وقال في الذي يشربه ثلاثاً ـ كما تقدم - على طريق الإرشاد من فعل كذا

·

الوجه الرابع فيه دليل على أن مجاوِر الشيء يُعطَى حكمه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ففي حين كان الذَّكَر مجاوراً للبول منعَ أخذُهُ باليمين وفي غير ذلك من الزمان لم يمنع منه يؤيد ذلك قوله عليه السلام حين سأله السائل ۷ في مسٌ ذَكَرِه فقال وهل هو إلا بضعةٌ منك ۸ فدلّ على جواز أخذه كسائر جسده ولهذه الإشارات - أعني أن المستخبثات كلها تكون بالشمال - قال أهل المعرفة بالخواطر إن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال شمال القلب
ويحتاج الآن أن نعرف شمال القلب أين هو فعندهم ۹ أن شمال القلب مخالف لشمال
۱ رواه مسلم في الحج والنسائي والإمام أحمد والإمام مالك وابن الجارود وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وابن حبان
يريد أن الواو لمجرد الجمع كما يقول النحاة
۳ صاحب النور في هذا السياق تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن أن يراد بها العالم بالشَّريعة كما تقدم
٤ النهمة الشهوة في الشيء الحاجة ٥ تفرقة تجزئة من فرّقت الشيء تفريقاً وتفرقةً
٦ لم نعرف مصدره
۷ يريد وفي غير ذلك من الأوضاع أي في غير حالة التبوّل
۸ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني و البضعة الجزء أو القطعة
۹ فعندهم أي عند أهل المعرفة بالخواطر

٢١٥

الجثة لأنهم يقولون وجه القلب ويعنون بوجهه الباب - الذي هو للغيوب مفتوحاً - هو إلى جهة الصُّلب فمن ذلك الباب هو يمين القلب ومنه يشاهدون ما يشاهدون من أمر المكاشفات والكرامات وما سوى ذلك مما خص الله عزّ وجلّ به أولياءه على مقتضى الحكمة كما دلت
عليه أدلة الشرع

ولجهل من جهل هذا المعنى الذي أشرنا إليه لما أن سمع أن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال والملك يأتي من جهة اليمين جعل ما سمع على وضع البِنْيَّة ١ فانعكس عليه الأم لأن الخواطر عندهم أربعة ملكي وشيطاني - وهما من حيث أشرنا أولاً - ونفساني وهو من أمام القلب وربّاني وهو من داخل القلب

وهنا بحث وهو هل النهي هنا على التحريم أو على الكراهة محتمل والظاهر أنه على الكراهة وهذه الكراهة مع عدم العذر وأما أصحاب الأعذار فلا يدخلون في هذا الباب مثل الذي ليس له إلا يمين أو له في اليسار عذر يمنع من التصرف للعذر الذي منعه وهي أيضاً أعني الأشياء أمر بها هنا سنة كما جاء في الحديث أنه و كانت يمينه لطعامه وشرابه وشماله لغير ذلك فتأكد ما أخبر به هنا بما كان يفعله هو
التي
الوجه الخامس فيه دليل على أن من الفصاحة الاختصار إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء لأن مفهومه إذا شرب لا غير
الوجه السادس فيه دليل على أن المعطوف يكون مثل المعطوف عليه في الوجوب أو غير ذلك وهو أيضاً من الفصاحة يؤخذ ذلك من أنه لما نهى أولاً عطف ما بعده عليه ولم يُعِدِ النهي
الوجه السابع يرد هنا بحث هل النهي مقصور على هذه الأشياء أو يتعدى حيث وجدنا العلة فعلى القول بأنه تعبدي فلا يتعدى وإذا قلنا بفهم العلة - كما أبدينا - فحيث وجدنا العلة عدينا الحكم وهذا هو الأظهر والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ أي على الشكل الظاهري لجسم الإنسان
٢١٦

<-19-
حديث الرأفة بالحيوان
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي الله أن رجلاً رأى كلباً يأكل النّرى من العطش فأخذ الرجل خُفّه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة
*
ظاهر الحديث يدل على أن إدخال الرجل الجنة بإروائه الكلب والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل هذا خاص بهذا الحيوان وهذا الرجل أو هو عام في جميع الحيوان والمخلوقات احتمل لكن الأظهر فيه العموم يؤيد ذلك قوله الله في حديث غير هذا في كل كبد حتى أجر ۱ فعَمَّ جميع الحيوان وقال تعالى في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا والآي والأحاديث في ذلك كثيرة
الوجه الثاني فيه دليل على معرفة الحال بالقرينة يؤخذ ذلك من قوله رأى كلباً يأكل الثرى لأن أكله الثرى لا يكون إلا دليلاً على العطش
الوجه الثالث فيه دليل على أن الحاجة تُخرِج الحيوان - عاقلاً كان أو غير عاقل ـ عن مألوفه وعادته يُؤخَذ ذلك من أكل الكلب الثرى - وهو التراب المبلول بالماء ـ من أجل ما يجد فيه من أثر الماء وليس يفعل ذلك عند استقامة مزاجه
ويؤخذ من ذلك أن ما قرب من الشيء يُعطى حكمه عند عدمه عقلاً وطبعاً فعقلاً في غير ما موضع من العقل والشرع وأما الطبع ففي هذا الموضع لأن الكلاب وجميع الحيوان - غير بني ادم والجن - لا عقل لهم لكن طبعوا على معرفة منافعهم فالذي يجدون فيه منفعتهم أنسوا به وإذا لم يجدوه ووجدوا ما يقرب منه استعملوه يؤخذ ذلك من أكل الكلب الثرى لأنه يجد بالماء التبريد فلما عدمه ووجد في الثرى ما يقرب منه في التبريد استعمله ولم يبال بثقل الثرى
1 حَرَّحَرُّ عطش فهو حَرّان وهي حرّى والحديث رواه مسلم في كتاب السلام بلفظ اخر سورة المائدة من الآية ۳

ويترتب عليه من معرفة الحكمة أن الثقيل عند الحاجة إليه يخف ويلزم ضده أن الخفيف عند الاستغناء عنه يثقل ولهذا المعنى خفت المجاهدة على أهل الحقيقة لاحتياجهم لمولاهم وتحققهم بذلك وثقلت على أهل الدنيا لحبهم للدنيا وكثرة احتياجهم إليها وثقلت عليهم العبادة التي ١ لمعرفتهم بما فيها ولذلك قال عزّ وجلّ في
م بها أهل المعرفة وخفت عليهم

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٢
ويؤخذ منه الدلالة على لطفه عزّ وجلّ بجميع خلقه يؤخذ ذلك من إلهامه الكلب أكل الثرى حتى يكون ذلك سبباً لرحمة الرائي له حتى يرويه بالماء
ويؤخذ منه أن من أحسن الصفات إيصال الخير لجميع الخلق يؤخذ ذلك من جزيل الثواب على هذا الفعل اليسير وإخبار النبي بذلك ليتأسى المؤمنون بهذه الصفة المقرّبة الوجه الرابع فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن التعريض بالشيء كالمنطوق به
يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بهذا الحديث لأن إخباره يدور بين أمرين إما أن يخبر به لغير فائدة - وأعوذ بالله أن يخطر ذلك على قلب أحد - ومن خطر ذلك بقلبه فليس بمؤمن لأن الله عزّ وجلّ يقول وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ ۳ وهذا عموم
وإما أن يكون لفائدة أو فوائد جملة وهو الحق فظهر ما أشرنا إليه من الفائدة قبل وما فيه من الفوائد بعد لأنه عزّ وجلّ قص علينا في كتابه العزيز القصص وقال ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نَشَيْتُ بِهِ فَؤَادَكَ ٤ وقال ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَهُمْ أَنفُسَهُمْ ٥ الآية وقال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ٦ فكذلك قال فقهاء الدين إن القصص طلب منا مقتضاها بالضمن والأمثال كذلك ولذلك قال عز وجلّ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَلِمُونَ ٧
الوجه الخامس فيه دليل على أن من أكبر القُرَب الخَيْرُ المتعدي يؤخذ ذلك من حسن
۱ وخفت عليهم الضمير يعود على أهل المعرفة وليس على أهل الدنيا
سورة البقرة من الآية ٤٥
۳ سورة النجم من الآية ٤ سورة هود من الآية ۱۰ ٥ سورة الحشر من الآية ۱۹ ٦ سورة يوسف من الآية ۱۰۹ ۷ سورة العنكبوت من الآية ٤٣

تحققهم
دة التي
كتابه
ب أكل
نواب
به
نلبه
ليه

الجزاء على هذه الفعلة اليسيرة مع هذا الحيوان الذي قد أمرتنا الشريعة بقتله فكيف بمن هو عاقل
مكلف وكيف بمن هو صالح منهم وهذا إذا تتبعته يتعدد كثيراً وعلى هذا فَقِسْ
الوجه السادس فيه دليل على التحضيض على جميع أعمال الخير إذ لا يُدْرَى بمَ تكون
السعادة إذ بهذا حصلت تلك السعادة وهي دخول الجنة فلا يضيع منها شيء الوجه السابع فيه دليل على أن الإخلاص هو الموجب لكثرة الأجر يؤخذ ذلك من شرح حال الحديث لأن هذا الحال المذكور وهو كونه كان في البرية وسقى هذا الكلب ولم يكن هناك أحد يبصره فكان خالصاً حقيقة يزيد هذا بياناً قوله م في صدقة السر حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه ۱
الوجه الثامن فيه دليل على أن كمال الأجر يكون بكمال العمل يؤخذ ذلك من قوله حتى أرواه فلما أكمل له ريه أكمل الله له نعمته عليه وهو دخوله الجنة وقد قال الخير كله بحذافيره في الجنة ٢
ويؤخذ منه تغليب فساد هذه الدار إذا كان في إصلاح تلك الدار يؤخذ ذلك من غَرْف الرجل الماء بخفه لأن الماء مما يفسد الخف فلما كان في إصلاح الآخرة فهو صلاح
E
ويؤخذ منه تعب الفاضل للمفضول إذا احتاج المفضول إليه يؤخذ ذلك من تعب الرجل في إسقاء الكلب عند حاجته إليه وإحسان المولى على ذلك وبنو ادم أفضل من غيرهم من الحيوان ما عدا الملائكة ففيهم خلاف
الوجه التاسع قوله عليه السلام فشكر الله له هل الشكر من الكلب الله أو هل هو من الله لعبده احتمل فإذا قلنا إن الشكر يكون بالقول أو بالحال احتمل والقدرة صالحة وإذا قلنا إن الشكر من الله لعبده فما معناه فيكون الشكر هنا بمعنى القبول فكأنه عليه السلام يقول قبل الله عمله فأثابه عليه بالجنة واحتمل جميع الوجوه فإن القدرة صالحة
وفقنا الله لما فيه رضاه بلا محنة بمنه
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث أوله سبعة يظلهم الله في ظله رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة
رضي الله عنه
لم نعرف مصدره
۱۹

حديث النعاس في الصلاة
عن
عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نَعَس أحدكم وهو يصلي
لعله
يستغفر
فَلْيرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري
فيسب نفسه
ظاهر الحديث يدل على النهي عن الصلاة وهو نائم والكلام عليه من وجوه الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن للعالم أن يُعلَّمَ وإن لم يُسْأَل يؤخَذُ ذلك من قوله إذا نعس أحدكم ابتداء دون أن يسأل وهنا سؤال هل هذا على عمومه كان النوم يسيراً أو كثيراً احتمل لكن الظاهر الخصوص وهو كثرة النوم لأنه إذا كان كثيراً من حيث أن يختلط عليه ما يقول ولا يعرفه كما أخبر في الحديث آخراً حين علله بالسب
الوجه الثاني فيه دليل على صحة أن الصلاة مجزية لأنه إنما علل الله و خيفة أن يَسُبّ الوجه الثالث فيه دليل لمالك الذي يقول بسد الذريعة لأنه قال لعله يسبّ ۱ لأنه أمر محتمل فترك الفعل للأمر المحتمل وهنا سؤال وهو ما معنى قوله فيست هل هو بمعنى السب المعهود لغة أو هو بمعنى غيره
الظاهر أنه ليس بمعنى السب المعهود لأن السب المعهود أن يقول الشخص لغيره أو لنفسه يا فاعل كذا أو يا من هو كذا من أشياء رَدِيَّةٍ ينسبه إلى القول بها أو بفعلها ولو كان كذلك فماذا يكون الخوف منه فما يكون منه خوف أن يكون متكلماً في صلاته وإذا كان متكلماً
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيَسُبٌ نَفْسَه

۰

في صلاته بطلت عليه صلاته وهو لا يشعر فيظن أنه قد صلى وليس كذلك وبقيت ذمته
متعمرة ١
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه يؤاخذ بفساد العمل وإن لم يشعر ويرد عليه من
البحث قوله إن الله تجاوز عن أمتي خطأها ونسيانها وما استكرهوا عليه ٢ فالجواب عن ذلك أنه لا يكون في ذلك الخطأ ـ على طريق الغفلة والنسيان - مأثوماً ولا يجزئه أيضاً الشيء المحتمل عما أمر به لأنه مأمور بالتوفية فلا يترك العمل حتى يعلم أنه قد وَفَّى ومهما لم يتحقق ذلك فهو مطلوب بالعمل ولذلك قال علماؤنا رضي الله عنهم إن من خاف فوات وقت من أوقات الصلوات وهو مثقل بنوم يصلّي وهو يجاهد نفسه جهده ثم ينام فإذا استيقظ من نومه عَرَض صلاته كلها على قلبه من أولها إلى آخرها فإن عقلها كلها ورآها حسنة أجزأته صلاته وإن رأى فيها خللاً أو لم يُحَقِّقْ ركناً من أركانها أو شَكٍّ فيه أعادها لأن الذمة لا تبرأ
إلا بيقين
واحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون السب هنا معنى الدعاء على نفسه بسوء فيكون الضرر أكثر من الأول لأنه يجتمع فيه الوجه المتقدم ووجه ثان وهو أن تكون تلك الساعة مما يستجاب فيها الدعاء فتكون تلك الدعوة سبب هلاكه ولأجل ذلك نهى عليه السلام أن يدعو أحد على
أهله أو ماله
أفعاله
ويترتب على ذلك من الفقه وجوه منها أن يكون الشخص يتحفظ على كلامه وجميع لئلا تكون منه غفلة في شيء فيكون ذلك سبب هلاكه وهو لا يشعر ولذلك قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً ٤
الوجه الرابع فيه من الفقه أن القدرة لا تنحصر بشيء من الأشياء ولا بفعل يؤخذ ذلك من أن الدعاء قد جاء أنه لا يقبل إلا بشروط وفي هذه المواضع التي ذكرناها وغيرها مما أخبرت به الشريعة يستجاب بغیر شرط ٥ فسبحان من حكمته لا تتناهى
۱ متعمّرة مشغولة ملأى بالواجب عكس المتفرغة أو الفارغة بعد أداء الواجب
رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ مأثوماً من اتمه أي جعل عليه الإثم ومأثوم اسم مفعول
٤ رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه 0 جاء في إحياء علوم الدين في باب اداب الدعاء وفضله
اداب الدعاء عشرة
الأول أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة ووقت السحر من الليل

الوجه الخامس فيه إشارة صوفية وهو أن ترك الآداب في محل القرب من الجفاء يؤخذ ذلك من قوله لعله يسبّ نفسه ۱ لأن الصلاة محل قرب والسبّ في موضع القرب جفاء وهنا بحث هل يشمل هذا كل سبّ أو ليس فالجواب أنه ليس على العموم لأن من السبّ ما يُقَرِّبُ في هذا الموضع وهو مثل قوله لأبي بكر رضي الله عنه حين سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت ٢ الحديث وهذا اللفظ مما ينطلق عليه اسم
سَبِّ لكنه لما فيه من معنى الاضطرار والفاقة إلى الكريم المتفضل وطلب الرحمة من عنده بسبب عَدَم موجبها من سوء أفعال العبودية كان مدحاً
ويرد علينا سؤال وهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت رؤوسهم تخفق من النوم ثم يخرج رسول الله فيصلون ۳
فالجواب أن من بعض فوائد الإقامة ذهاب النوم والغفلة وحضور القلب لأنه إذا قال المقيم للصلاة الله أكبَرُ ثار جيش الإيمان وتيقظ من الغفلات على اختلافها
ويقول أشهد أن لا إله إلا الله تَنَوَّرَ القلبُ وجاء العَوْن
أشهد أن محمداً رسول الله ثَلج اليقين وانتشرت الرحمة
الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كساعة زحف الصفوف في سبيل الله وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات
المكتوبة وعند السجود
الثالث أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يُرى بياض إبطيه ثم يمسح بهما وجهه ولا يرفع بصره إلى
السماء
الرابع أن يجعل صوته عند الدعاء بين المخافتة والجهر
الخامس ألا يتكلف السجع فإن الداعي ينبغي أن يكون حاله حال متضرع والتكلف لا يناسبه ويقتصر على
المأثور من أدعية الرسول الله المتوازنة
السادس أن يكون في حالة تضرع وخشوع ورغبة ورهبة السابع أن يجزم الدعاء ويُعْظِمَ الرغبة ويتيقن بالإجابة الثامن أن يلح بالدعاء ويكرره ثلاثاً ولا يستبطىء الإجابة
التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله عزّ وجلّ فلا يبدأ بالسؤال ويثني بعد حمد الله بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل
حاجته ثم يختتم بالصلاة على النبي يا الله
العاشر أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً ويرد المظالم ويقبل على الله بصدق وإخلاص
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيسب نفسه
رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق وابن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهم أجمعين
۳ رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه

ل
حَيَّ على الصلاة قوي العزم
حَيَّ على الفلاح أحدثت الجد وحسن العبادة
الله أكبر تكرر الإعظام وجاءت الهيبة
لا إله إلا الله استسلمت النفوس وراحت الأوهام وتكامل جد الباطن بتكرر الهيبة والإخلاص والظاهر بالإذعان والانقياد
فإن بقي على كَمالِ تَحَليه كما وصفنا لم يعد النوم إليه وإن أدركه ريح الغفلة جاءته عاهة النوم فحلت أحكام الشريعة عقدة صفقة القربة وهي الصلاة وأباحت له النوم وأنذرته بأداء ما تعمرت به الذمة إلى وقت التخليص من عاهة النوم بعد تنظيف المحل بالطهارة التامة ولهذا قال في الصلاة ۱ ولم يقل قبل
وهنا سؤال في قوله حتى يذهب عنه النوم وإن خرج عنه الوقت أو معناه ما لم يخرج الوقت احتمل لكن الأخذ بالأحوط أولى وإن كان الاحتمالان على حدّ واحد فينبغي أن يكون فيه تلك الأربعة وجوه ۳ التي بينها العلماء لكن الأمور من خارج تؤكد براءة الذمة وهو الأحوط
مثل فعله في الوادي وغيره

الوجه السادس فيه دليل على أن النائم لا يُسقط عنه النوم التكليف يؤخذ ذلك من قوله فليرقد حتى يذهب عنه النوم وهنا بحث هل بنفس الاستيقاظ تجب عليه الصلاة على أي حالة كان من خِفْةٍ أو ثِقَل
احتمل الوجهين معاً إذ يكون معنى قوله عليه السلام يذهب معنى نفس الاستيقاظ لأن عند التيقظ يَعْدَم ضده 4 أو يزيد ثقلا وإن استيقظ لأنه إذا استيقظ - والعلة التي من أجلها
1 كذا ولفظ الحديث إذا نعس أحدكم وهو يصلي

لعله يقصد بالأربعة وجوه هل تصلّى ۱ في الوقت أو بعده ۳ أو قضاء ٤ أو أداء روى البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب الأذان بعد ذهاب الوقت عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال سرنا مع النبي ليلة فقال بعض القوم لو عَرَّست بنا يا رسول الله قال أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي الا الله وقد طلع حاجب الشمس فقال يا بلال این ما قلت قال ما ألقيت عليَّ نَومة مثلها قط قال إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردّها عليكم حين شاء يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت
قام فصلى
٤ يريد بـ الضد النوم
0

أبحنا له النوم باقية - فالشيء الذي خفنا منه باقي توقعه والفقه يقتضي التفرقة بينهما وذلك أنا أولاً قد أتتنا العاهة وهي النوم وليس لنا شيء ندفعه به فجاز لنا النوم كما تقدم
وإن احتمل الثقل أن يكون حقيقةً كالأول واحتمل أن يكون وهميا فينبغي أن يستعمل الدواء وهو الوضوء لأنه من مُذهبات النوم ولذلك قال رحم الله امْرَأَ قام من الليل وأيقظ أهله فإن أبَت نَضَح الماءَ في وجهها ورَحِم الله امرأةً قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى ا نَضَحَت الماء في وجهه ۱ فإن ذهب النوم حصل المقصود وأخذنا في أداء العبادة وإن بقي الأمر على ما كان عليه من ثقل النوم نظرنا فإن كان في الوقت سَعَةٌ راجعنا النوم امتثالاً للأمر وإن كان الوقت ضيقاً فعلنا ما ذكرنا أولاً عن العلماء وهو أن يصلي ويُجهد نفسَه ثم ينام فإذا استيقظ فَعَل ما تقدم ذكره لأنه اجتمع لنا أمران أحدهما إيقاع الصلاة في وقتها والوقت قد انحتم وثقل النوم وإباحة النوم لأجله لكن يغلب أقل الضررين فإن خروج الوقت مع الذكر والقدرة على الأداء يتعلّق عليه العقاب والصلاة مع النوم متوقع الضرر معه وهو السَّب ـ على أحد المحتملات ـ وقد لا يقع والإقدام على المتوقع خير من المقطوع به
فإن قال الخصم قد جاء العذر من الوعيد الذي قلتم قلنا ليس الأمر كذلك لأن الأمر إذا نُصَّ عليه لا يرتفع بالمحتمل لأن الوعيد على إخراج الصلاة عن وقتها مع القدرة والإمكان قد ثبت وقوله فَلْيرقد حتى يَذهَب عنه النوم احتمل أن يكون وإن خرج الوقت أو يكون ما لم يخرج الوقت فلما احتمل الوجهين فالأظهر أنه لا يسقط والأصح ما تقدم ذكره من
التقسيم والله الموفق
الوجه السابع فيه دليل على جواز الاستغفار في الصلاة لقوله يستغفر لكن ليس على عمومه في جميع أركان الصلاة ولكن في المواضع التي يجوز ذلك أبين أَبْيَن
وهنا بحث لم علل بسب نفسه ولم يذكر سب غيره فالجواب أن النفس لا تقدّم في الغالب إلا نفسها فإن كان يسبق السبُّ منها لغيرها فهو نادر وإن وقع فيكون هنا غير مأثوم في حق الغير ويبقى ما هو فيه من بطلان العمل كما ذكرنا أولاً بلا زيادة ولما لم يكن السب للغير فيه زيادة بل هو أقل ضرراً لأنه إن كان دعا - على أحد المحتملات - لم يعد عليه شيء فجاء من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى الوجه الثامن فيه دليل على ألا يخالط الطاعة مكروه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٢٢٤

فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه فترك الصلاة في الوقت لاحتمال أن يقع السب في حال النوم وهو لم يقصد فكيف أن لو كان مقصوداً
ويترتب على ذلك من الفقه كثرة التشديد على الحضور في الصلاة حالاً ومقالاً يؤيد ذلك
قوله إن الله لا يقبل صلاة امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ۱
وهنا بحث وهو أنه طول نومه إذا لم يستيقظ يكون معذوراً غير مأثوم وإن خرج الوقت وبحث آخر هل له أن ينام قبل الصلاة أو ليس
يوم
فالجواب عن ذلك لا يخلو إما أن يكون ذلك نهاراً أو ليلاً
القائلة
فإن كان نهاراً فله ذلك بمقتضى السنّة وبما اعتاده الطبع فأما من طريق السنة فما جاء في وهي قريب وقت الظهر لقوله عليه السلام قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ٢ وأما من طريق ما جبلت عليه الطباع فإنها لا تكثر النوم بالنهار لأنه جعل لها للسعي كما أنها لا تكثر السهر بالليل لأنه جعل لها سكناً وما أحكمته حكمة الحكيم فلا يتبدل إلا لموجب وذلك نادر والنادر لا حكم له وهو أيضاً مبني على أثر القدرة وبه صحت الدلالة على القدرة وهو أصل في الإيمان الذي ترتب عليه الأحكام
وأما في الليل مثل النوم بين العشاءين فالذي أنقله عن العلماء الأجلة الذين لقيتهم وهم أيضاً كذلك نقلوه أن الذي يريد النوم بين العشاءين لحاجة له فلا يخلو أن يكون له من يوقظه لصلاة العشاء أو ليس فإن كان له من يوقظه فله ذلك وكذلك إن كان يعلم هو من نفسه أنه يستيقظ لذلك الوقت لعادة يعلمها من نفسه فله ذلك أيضاً وإن كان يعلم من نفسه أنه لا يستيقظ إلا بعد خروج الوقت فليس له ذلك وكذلك إن كان جاهلاً بعادته وليس في الحديث ما يدل على هذا لكن لما كان الموضع يحتاج إليه ذكرناه وهنا بحث في قوله عليه السلام فليرقد هل يرقد في موضع مصلاه على حاله ولا يقطع صلاته أو يقطع الصلاة ويرجع ينام حيث شاء احتمل لكن الظاهر أن ينام حيث هو على حاله يؤخذ ذلك من خارج من قوله إذا نام العبد وهو في الصلاة يقول الحق جلّ جلاله يا ملائكتي أما ترون عبدي جسده نائم بالأرض وروحه عندي ۳
1 رواه الحكيم الترمذي في النوادر بلفظ لا يقبل الله صلاة امرىء لا يشهد فيها قلبه ما يشهد فيها بدنه وعزاه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء لمحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرش
مرسلا
انظر مجمع الزوائد ۸/ ١١٢ وكنز العمال ٧ / ٢١٤٧٧
۳ لم نعرف مصدره
٢٢٥

حتى
وبحث آخر هل ذلك النوم ينقض الطهارة أم لا ۱ ليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك لكن العلماء اختلفوا في النوم في الصلاة اختلافاً كثيراً على حسب هيئته فمنهم من قال إن النوم في الصلاة لا ينقض الطهارة واحتجوا بما جاء أن سيدنا محمدا نام وهو ساجد علم منه النوم حقيقة فقيل له نمت فقال لا نوم في الصلاة ۳ والجمهور يجعلون ذلك - إن صح الحديث - من الخاص به عليه السلام لانه ل ا ا ا ا و كانت تنام عيناه ۳ ولا ينام قلبه الوجه التاسع فيه إشارة إلى التيقظ والحزم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا نعس أحدكم لأنه أمر عند ظهور المبادىء وهو النعاس الذي اخره النوم الثقيل الذي لا يعرف معه ما يقول أو يترك العمل وهو طاعة خيفة الخلل فما بالك بغيره ولذلك قال عليه السلام المؤمن كَيْسٌ حَذِرٌ فَطِنٌ ٤ وكذلك كان بعض أهل الصوفة إذا رأى أدنى غبار في خلق عياله أو دابته أو عادته أسرع إلى التوبة والطاعة وفتش على خبايا نفسه حتى يجد الغفلة التي وقعت منه فيُزيلها فيستقيم حاله ومنها قصة الشيخ الذي لم يكن يتكلم في أمور الدنيا حتى خطر له يوماً فيها خاطر فإذا بجندي بالباب يستأذن فأذن له فدخل وجلس بإزائه يحدثه في أمور الدنيا فتعجب الشيخ من
۱ في ذلك ثمانية مذاهب
١- ينقض الوضوء بكل حال لحديث علي رضي الله عنه من نام فليتوضأ وهو مذهب آل البيت والحسن

البصري
٢ - لا ينقض الوضوء بكل حال لحديث أنس رضي الله عنه كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تخفق رؤوسهم ينتظرون العشاء الآخر ثم يصلون ولا يتوضأون
٣ - لا ينقض الوضوء إذا كان على هيئة المصلي لحديث إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة وهو مذهب أبي حنيفة
٤ - لا ينقض الوضوء إذا كان متمكناً في مقعده لحديث العين وكاء السَّهِ الدبر فمن نام فليتوضأ وهو مذهب علماء الحديث ومذهب الشافعي
ه - لا ينقض الوضوء إلا إذا سقط الجنب على الأرض لحديث حذيفة نمت فأخذني له من ورائي احتضنه فالتفت فإذا أنا برسول الله فقلت هل عليّ الوضوء فقال لا حتى تضع جنبك
٦ - لا ينقض الوضوء إلا نوم الراكع والساجد لأنه مظنّة الانتقاض وهو مذهب أحمد - لا ينقض الوضوء إلا نوم الساجد لأنه مظنّة النقض أكثر وهو رواية في مذهب أحمد
۸ - لا ينقض الوضوء في الصلاة بل خارجها وهو مذهب زيد بن علي من نيل الأوطار للشوكاني ۱۹۰/۱
و ۱۹۱
لم نعرف مصدره
۳ رواه البخاري والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
٤ رواه القضاعي عن أنس رضي الله عنه
٢٢٦

من
إن
حتی
إن
ـه ما
إلى
إذا
من
ن
ـو
ذلك فرجع إلى نفسه لينظر من حيث أُتِي فإذا هو قد ألهم للخاطر الذي مر به في شأن الدنيا فقال من هنا أتيتُ فاستغفر من ذلك وتاب وإذا بالجندي قد قام من حينه وخرج ويؤيد ذلك قوله جل جلاله إِنَّ اللهَ لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ 1 هذا في نوم ا العادة وأما نوم أهل الدنيا فلا تكون اليقظة منه إلا عند الموت لقوله عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لأنهم رأوا الحق وعاينوا الحقائق فنوم أهل الدنيا جهل وغلبة شهوة وغفلة إلا من علمه الله وأيقظه وهم أهل الجد والتشمير والصدق والتصديق كما قال أبو بكر رضي الله عنه لو كُشِف الغطاء ما ازددتُ يقيناً وكذلك جميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
جعلنا الله منهم بلا محنة بحرمتهم عنده
الوجه العاشر قوله عليه السلام فليرقد حتى يذهب عنه النوم إشارة إلى امتثال الحكمة لأن الحكمة مضت أن النوم لا يذهب بالسكون حتى يصل وقته الذي قدر له فيذهب وحده كما جاء وحده وفي النوم وذهابه إظهار القدرة الجليلة بينما المرء مجموع الذهن والقوى إذ أتاه النوم بغتة
وهو لا يشعر وقد يكون بعض الأوقات لا يعجبه ذلك لمنفعة أو أرب يريد تحصيلها فيمنعه منها

الوجه الحادي عشر فيه دليل على عجز المخلوق وافتقاره بينما هو بحرصه وزعمه في تحصيل مآربه إذ أتاه ما لا يقدر على دفعه ويترك الحرص والحذر والتحصن ويستسلم بغير اختياره قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ۳ والنوم والنسيان شاهدان على نقص المحدّث وافتقاره ولذلك قال العلماء في قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ٤ قالوا أحسَنَ خَلْقَه ثم أرسل عليه النوم والنسيان فإذا استيقظ رجع لحرصه كأنه ما زال فلا يزال الأمر يتكرر عليه على مرور الليالي والأيام وهو مقيم على دعواه كأن لم يقعد ولا نام وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ ٥ طَبَّقت الغفلة بل رَانَ على القلب حتى رجع بصر بصيرته خفاء لا يرى شمس هذه الآي
ومن هنا فضل أهل الصوفة غيرهم لأنهم لما رأوا تلك الأحوال وهي حال موت النوم وإن كانوا هم أقل الناس نوماً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا فألزموا أنفسهم في حال اليقظة
۱ سورة الرعد من الآية ۱۱
من كلام سيدنا علي كرم الله وجهه
۳ سورة الأنبياء من الآية ٤٢
٤ سورة التين الآيتان ٤ و ٥ ٥ سورة الذاريات الآية ٢١

الاستسلام وهو حالهم في النوم فذلك منهم يقظة لأنهم حكموا باستصحاب الحال وذلك مقال أهل العلم وهم كانوا أولى به لكن لمّا كانت دواعي شهواتهم حثيثة الطلب تفقهوا في المقال وشغلتهم تلك الحلاوة في المقال عن فهم الحال وهل حَسنُ المقال مع قبح الحال إلا
بهرجة يندم صاحبها عند محك الانتقاد
الوجه الثاني عشر فيه دليل على عظم لطف المولى بجميع العبيد بَراً أو فاجراً مكلفاً أو غيره لأن النوم راحة للأبدان فلو تُرك النوم لاحتياجهم لكان بعض أهل الحرص لا يختارون النوم فيكون في ذلك هلاكهم فكان المولى سبحانه هو الذي أرسل ذلك بنفسه لا بواسطة ملك مقرب ولا غيره حيث قال في كتابه ﴿ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّنَكُم بِأَلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ۱
1,
الوجه الثالث عشر فيه دليل على استغناء الله تعالى عن عبادة العباد وتنزيهه أن تضره معصية عاص لأنه لو كان شيء من ذلك ما كان يرسل الراحة على عبده المخالف له بنفسه الجليلة وهو يَنْضَرُّ بها ولا كان يدخل التعطيل على العامل وهو ينتفع بعمله تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً فسبحانه ما أرحمه بعباده وأغناه عنهم ! خاتمة وعظية كم أنادِي إلى الهدى من لا يفهم وأعِظُ أَطْرُوشَ العقل وهو بالهوى مُغْرَم ! فإدمان الهوى على الضعف للجسم إسقام فخلّص سَقَمَ بَدَن دِينك النحيف بنقوع التوبة النصوح فتركيب الأسقام في البدن النحيف سل ۳ وهو يوجب الهلاك لك
ويلك ما لك أيقظان أنت أم نائم
أيقظنا الله وإياك من سِنَةِ الغفلة وأحيا قلوبنا بنسيم المحبة وشدّ ضعفَ حواس أدياننا
بأمراق الطاعة فهو المتفضّل المنّان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الأنعام من الآية ٦٠
السل مرض معروف

۸

حديث غسل المني من الثوب
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي ل ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً وفي رواية أخرى بقعاً بقعاً
ظاهر الحديث يدل على غسل المني والكلام عليه وجوه
الوجه الأول أن غسله يدل على نجاسته وهو مذهب مالك رضي الله عنه ومن تبعه وهل نجاسته من نفسه أو بالمجاورة بحث اخر هو في كتب الفقه
الوجه الثاني فيه دليل على جواز النيابة في الفروض التي ليست في الأبدان يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل المنيَّ
الوجه الثالث فيه دليل على جواز ذِكْرِ ما يُخْجِل ذِكرُه إذا دعت الضرورة إليه يؤخذ ذلك من ذكرها المني لأنه مما يخجل ذكره لأنه يدل على ما قد جاء الكتاب والسنة بالكناية عنه أما الكتاب فقوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ٢ ومن السنة قوله عليه السلام حتى تذوقي مُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ۳ لكن من أجل تقرير الأحكام ذكَرَتْه ولذلك قال

1 للحديث هذا روايات عدة وكلها عن سليمان بن يسار عن عائشة ففي رواية قالت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي إلخ وفي رواية سألت عائشة عن المني يصيب الثوب فقالت كنت أغسله من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة إلى آخر الحديث وفي رواية أنها كانت تغسل المني إلخ وهي التي اختارها الشارح ويعلق ابن حجر على الرواية الأخيرة فيقول قوله أنها كانت يحتمل أن يكون مذكورا بالمعنى من لفظها أي

قالت كنت أغسل ليشاكل قولها ثم أراه أو حذف لفظ قالت قبل قولها ثم أراه
سورة البقرة من الآية ۱۸۷
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن السيدة
عائشة رضي الله عنها
۹

نِعْمَ النساء نساء الأنصار لم يَمْنَعْهُنَّ الحياءُ أن يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين ۱
الوجه الرابع فيه دليل على التيسير في أمر النجاسات وإنما نحن مكلفون بما رأينا ولا نتوغل على النفس بالمحتمَلات لأنها لم تغسل إلا المني الذي رأت ومحتمل أن ضرب في
موضع آخر من الثوب نفسه أو غيره
يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام النَّضَحُ طَهورٌ لا شك فيه ۳ لأن فائدة النَّضح ما هي إلا لزوال ذلك الأثر الذي يحيك في النفس أو اغتفار النجاسة التي ليست بمتحققة أو لهما معاً لأنه إن كانت النجاسة وصلت للثوب فليس الرش بالماء يزيل عينها وإن كانت لم تصل فليس الماء يزيد في طهارة الثوب شيئاً
الوجه الخامس فيه دليل على رفع حكم النجاسة وإن بقي لونها إذا غسلت بالماء وذهب عينها يؤخذ ذلك من قولها ثم أراه بُقعاً بُقعاً
الوجه السادس فيه دليل على أن المؤمن في حال حَدَثِ الجماع في اليقظة أو في النوم طاهر العين ٤ وثوبه طاهر يجوز له الصلاة فيه ما لم ير فيه شيئاً فإن رأى غَسَل يؤخذ ذلك من قولها مِن ثوب رسول الله ولا يصيب الثوبَ المَنِيُّ إلا بأحد وجهين إما بجماع وإما باحتلام وإنما الطَّهورُ ٥ على الجُنُب تعبد وذلك مذهب أهل السنة
الوجه السابع فيه دليل على جواز خدمة المرأة زوجها إذا رضيت ذلك وإن كانت ذات بال يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل فإن الغسل من جملة الخدمة وأي رفعة مثل رفعة
هذه السيدة
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه موقوفاً عن عائشة رضي الله عنها ضرب بمعنى انتشر ومنه ضرب في الأرض انطلق مسافرا وضمير الشأن اسم أن المخففة ۳ مروي بالمعنى وأصله رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الحكم بن سفيان رضي
الله عنه
٤ العين ذات الشيء وكنهه وللكلمة معانٍ أخرى كثيرة
٥ الظهور الماء الطاهر الذي يتطهر به

٦ ذات بال ذات شأن وأمر ذو بال أي شريف يُحتفل له ويهتم به

عن عائشة رضي
حديث غسل دم الحيض
رضي الله عنها قالت كانت إحدانا تحيضُ ثم تَقْرُصُ الدَّمَ مِن ثَوْبِها عند طهرها فتغسِلُه وتَنْضَحُ على سائرِهِ ثم تُصَلّي فيه
*
ظاهر الحديث يدل على غسل دم الحيض والصلاة في الثوب الذي حاضت فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قولها كانت إحدانا تحيض ولم تخبر عن نفسها فما وجه ذلك فالجواب أن الإخبار عن الجميع يقتضي تقرير الحكم وهو على الكلّ على حد سواء فلو أخبرت عن نفسها لاحتمل الأمر أن يكون ذلك خاصا بها أو يكون لعذر ما فأتت بالوجه الذي لا يحتمل التأويل الوجه الثاني يؤخذ منه من الفقه أن الإخبار عن الأشياء يجب أن يكون بأبين الوجوه ويؤخذ منه جواز الإفصاح بالمستقذرات وإن كانت السنة قد جاءت بالكناية عنها لكن من أجل تقرير الأحكام كما تقدم في الحديث قبل لا يمكن إلا الإفصاح بها يؤخذ ذلك من ذكرها الحيض وإضافته لهن رضي الله عنهن
الوجه الثالث يؤخذ منه أن زوال النجاسة لا يتعين إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من قولها إنها لم تكن تغسل الدم إلا عند الظهر ويؤخذ منه أن دم الحيض كغيره من الدماء سواء وهو حجة على من يقول إنه أشد من غيره من الدماء يؤخذ ذلك من غسلها له ليس إلا كغسل المني
قبله وغيره من النجاسات الوجه الرابع قولها ثم تقرص الدم فلأنه أيسر في زواله وهذا معلوم حسّاً لأن النجاسة إذا كان لها جرم فحكُها أولاً ثم غسلها كان أسهل لأنه إذا صبّ عليها ماء ولم تقرص كان أكثر في الانتشار لها في الثوب ويترتب عليه من الفقه وجوه منها أن الأحسن - بل السنّة - في غسل النجاسة التي لها عين قائمة فركها قبل غسلها

الوجه الخامس يؤخذ منه أن السنّة في الأمور أن يؤخذ الأيسر منها لأن هذا الوجه لما كان

الأيسر في زوال النجاسة فَعَلَته وأخبرت به لكي يُقتَدَى بذلك في هذا وفي كل الأمور ويؤيد ذلك في حديث غير هذا قولها فيه ما خُيّر رسولُ الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ۱
الوجه السادس فيه دليل على نضح ما شك فيه يؤخذ ذلك من قولها وتنضح على سائره
وهنا بحث لم قالت في الحيضة بالنضح ولم تذكر ذلك في المني فالجواب عن ذلك لمّا كان زمن المني يسيراً عُفي عنه ولما كان زمان الحيض كثيراً جعل فيه النضح ولأنه أيضاً يدل على العفو كما تقدم البحث في الحديث قبله وإن كان يعطي بغلبة الظن أن طول الأيام مع استصحاب حال الحيضة والنجاسة ظاهرة في الثوب حتى تيبس لأنه لا يمكن الفرك في الدم إلا مع يبسه فقد يضرب ۳ في موضع آخر قبل يُبْسِه

ولوجه آخر لأن أول الحيض دم خاتر ٤ وآخره صفرة وكدرة كما جاء في الموطأ والصفرة والكدرة لا يتعلق منهما شيء يقتضي الفرك فدل بذلك أن الدم بقي في الثوب من أول الحيض أو من أثنائه أو من مجموعهما حتى إلى وقت الظهر ٥ ويغلب على الظن إصابته ٥ أعني أن موضع الدم يضرب في البدن وقد يكون البدن عرقاناً ٦ فيتعلق به شيء منه ثم يُمسح في موضع ثان من الثوب أو يضرب موضع الدم في غيره من الثوب نفسه لكن لما لم يكن مَرْيْتاً تُجوّز ۷ عنا في ذلك
وهل هذا في كل ثوب كان أبيض أو مصبوغاً الحديث ظاهره العموم
ويؤخذ منه جواز ترك النجاسة في الثوب في غير وقت العبادات وأن ذلك ليس بممنوع وهل ذلك - أعني بقاءها في زمان غير زمان العبادة - على الإطلاق أو ليس وأعني بالإطلاق كانت النجاسة مما تنفك عن الشخص أوليست مما تنفك عنه كدم الحيضة لأن التي ليست تنفك لو كلفنا بزوالها لكان فيه مشقة
1 رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
سائره باقيه
۳ يضرب في موضع آخر يصيب موضعاً آخر أو يذهب إليه
٤ خاتر غليظ ثخين ه كذا بزيادة إلى
٦ كذا بالتنوين والقياس أنه ممنوع من الصرف وعرقان فيه عرق كثير والعرق رشح الجلد
۷ أي تُجووز وعُفي

فالجواب - والله أعلم - أن الجواز على حد واحد بدليل قولها في حديث آخر عن غسل المني أنها كانت تفركه ولا يكون الفرك إلا مع اليُبْس فلو لم يكن ذلك جائزاً لما كان يقع ذلك من رسول الله وإلا كانت هي تعلل هنا تأخير الغسل لأن هذا موضع تقرير الحكم الوجه السابع فيه دليل على أن الصلاة لا تصح من الحائض إلا بعد رفع الدم وزوال النجاسة
والطهر بالماء يؤخذ ذلك من وصفها لهذه الأحوال وحينئذ تصلي
وهل هذا على الوجوب أو الندب أما الطهور فواجب إذا أمكن وإلا بَدَلُه وأما رفع الدم فواجب بالنص والإجماع وأما زوال النجاسة فمختلف فيه هل هو فرض أو سُنّة مع
إمكان زوالها
ويدل أيضاً على سقوطها - أعني الصلاة - عن الحائض لأن وجوب الشيء يستلزم سقوط ضده ويقوي ذلك النص والإجماع
وهنا سؤال لم قالت ثوبها ولم تقل درعها أو غير ذلك من أسماء الثياب فالجواب أن الإخبار بالأعم أفصح وأبينُ في الحكم لأنها لو قالت اسم ثوب من الثياب كنا نلحق باقي الثياب به بالقياس والذين لا يقولون بالقياس يقصرون الحكم على الذي نطقت به ليس إلا كما هي عادتهم في جميع الأحكام يقصرون الحكم على المنطوق به ليس إلا فلمّا كانت الفائدة في العام الذي يجمع أنواع الثياب أتت به عاماً
ويترتب عليه من الفقه أن على المخير بشيء يتعلق به حُكْم أن يخبر بأعم ما يكون في ذلك وإن كان مع الاختصار فحسن
الوجه الثامن يؤخذ منه أيضاً أن بَدَن الحائض وعَرَقها طاهر لأن البَدَن بالضرورة لا بدَّ له مع طول الأيام من العرق فلو كان غير طاهر لغسلت الثوبَ ولم تنضحه
وقولها تنضح على سائره هل على هنا على بابها أو هي زائدة الظاهر أنها على بابها وليست بزائدة لأنها إذا كانت على بابها فهي إشارة إلى تعليم كيفية الفعل في النضح وإذا كانت زائدة فلا فائدة فيها فحيث رأينا الزيادة علمنا أن ذلك هو المقصود ممَّن هو أقل منها فكيف من تلك السيدة لأن صفة النضح الذي جعل طهور الماء شرطاً فيه هو أن يبل الشخص يده بالماء ويرش
على الثوب ولا يلصق يده بالثوب ولذلك قالت على وهذا الوجه هو المختار فيه لا غير
وبعض الناس يبل يده ويلصقها بالثوب وحينئذ يجرها على الثوب أو يأخذ الماء ويسكبه لا على الثوب وقد قال علماؤنا إن من خالف الصفة الأولى - التي ذكرنا - فإن ذلك النضح
۳۳

ومن
يؤخذ
يجزئه وأن حكمه حكم من صلى بالنجاسة فمن قال في إزالتها إنها فرض يعيد أبداً قال إنها سُنَّة يعيد في الوقت لأنه من خالف ما أمر به لا يجزئه غيره الوجه التاسع فيه دليل على أن حكم النضح حيث أُمر به كحكم الغسل حيث أُمر به ذلك من قولها وتنضح على سائره فشَرِكت ۱ الحكم بين الغسل والنضح وحينئذ قالت ثم تصلي فأتت بـ ثم التي للتحويل من حال إلى حال فلم تشرع في الصلاة إلا بعد الفراغ من النضح والغسل وفيه تقوية لما ذكرناه من قول علمائنا رضي الله عنهم والله الموفق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ شرکه شاركه من باب علم
٢٣٤
ن الله حال
سخت

حديث كيفية الاغتسال من الحيض
عن عائشةَ رضي رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار قالت للنبي يا رسول الله كيف أغتسل من الحيض قال خُذي فِرصَةً مُمَسَّكَةٌ ۱ فتوضئي بها ثلاثاً ثم إن النبي استحيا فأعرض بوجهه أو قال توضئي بها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتُها بما يريد
النبي
ظاهر الحديث أن دم الحيض له رائحة لا يذهبها الماء وحدَه والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل قصدت بقولها الطهور الشرعيَّ أو اللغويَّ احتمل سؤال السائلة الوجهين معاً والظاهر أنها لم تسأل عن كيفية الطهور وإنما احتمل سؤالها معنيين أحدهما عن كيفية الطهر هل ما تعلم منه هو المُجْزِىء وهو الكمال فيه أم ذلك هو
المجزىء وبقي عليها شيء إن فعلته كان زيادةَ كَمالٍ فيه والوجه الآخر أن تسأل عن الطّهر اللغوي هل هو في ذلك المحل كغيره أو يختص ذلك المحل بزيادة أخرى
هذا هو الظاهر من المعنيين يؤخذ ذلك من جواب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله خذي فِرْصَةً مُمَسَّكةً فتوضئي بها ثلاثاً لأن الفرْصة قطعة ثوب وممسَّكة مطيَّبة وليس هذا صفة الطهور بالماء لا الشرعي ولا اللغوي فبهذا عَلِمنا أن النبي لا لا اله فَهِمَ عنها خلاف ظاهر اللفظ بقرينة الحال وقرينة الحال - بالإجماع - إذا تحققت أخرجت اللفظ عن ظاهره إلى ما دلّت عليه القرينة ولذلك قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعيدنا لا بالألفاظ وهذا النوع كثير في الكتاب والسنّة
۱ الفِرْصَة القطعة من الثوب أو القماش والممسكة المطيبة بالمسك توضئي - هنا - تنظفي
٢٣٥

الوجه الثاني قوله عليه السلام فتوضئي بها ثلاثاً أي تنظفي مأخوذ من الوضاءة وهو الحُسن فيكون ظاهر الحديث أن السنة للحائض إذا طهرت وتطهرت أن تُطَيِّب ذلك المحل الذي هو موضع الأذى وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو الندب وهل هذا مطلق لمن لها زوج أو لا زوج لها وهل هذا العلة أو ليس لعلة وهل هذا مع الإمكان وغيره أو مع الإمكان ليس إلا فالجواب أما على الوجوب فلا أعلم أحداً قال به وليس هنا أيضاً قرينة تدل عليه فلم يبق
إلا أن يكون ندباً
وأما هل يكون ذلك مطلقاً أو لا فإن قلنا إنه تعبد غيرُ معقول المعنى فيكون مطلقاً وإن قلنا إنه معقول المعنى فما تلك العلة
قيل إنما ذلك من أجل الزوج لأن دم الحيض نَتِن ويبقى الأيام المتوالية على ذلك المحل فيكتسب منه رائحة فربما يتأذى منها الزوج فتكون تلك الكراهية التي يجدها سبباً للفرقة وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم وقيل إن المحل يلحقه من الدم رِخوا وإن الطيب يصلح ذلك منه وفيه أقاويل تشبه
هذا فعلى هذا يكون لذات الزوج مندوباً

ويبقى الكلام لغير ذات الزوج يكون فيه أقاويل على ما يظهر والله أعلم إن كان ذلك مما يحرك عندها شهوة الجماع فلا تفعل وإن كان ذلك مما لا يحرك عندها من ذلك شيئاً فحسن أن تفعل لأن الطيب من السنة لا سيما لمنفعة تلحق كما قدمناه على أحد الوجوه
وأما مع الإمكان أو عدمه فلا تكلف في الفرائض إلا قدر إمكانها فكيف في المندوبات وقوله فرصة فلأن ذلك المحل لا يمكن تطيبُهُ باليد وإن فُعِلَ فلا تكون له فائدة والفائدة - كما ذكرنا - هي رفع الأذى عن ذلك المحل
وقوله ثلاثاً مبالغة في التطييب
وقولها ثم إن النبي استحيا هذا دال على حسن خلقه عليه السلام
الوجه الثالث فيه دليل على أن الأمور التي لا يمكن معرفة الحكم فيها إلا بذكرها على ما هي عليه - وإن كان ذكرها يخجل أو يكره - فلا بد منه من أجل الضرورة
۱ رِخْو من رَخا يَرخو أَو من رَخِيَ يَرحَى بمعنى اتَّسَع يقال عَيش رِخو ويطلق على كل هَضٌ لين من كل شيء
٢٣٦

حل
ج
ـق
ن
الوجه الرابع يؤخذ منه أن الاستحياء يُعلم بالإعراض بالوجه يؤخذ ذلك من فعله وفيه من الفقه أنه إذا فعل ذلك عرفه منه الرائي فتركه من ذلك الأمر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الحياء لا يظهر إلا بعد القدر المجزىء من الحكم يؤخذ
ذلك من أنه له لم يفعل ذلك إلا بعد فراغه من الكلام بتقرير الحكم ولذلك أنت بـ ثم الوجه السادس فيه من الفقه أنه إذا كان الإعراض عند الكلام بإلقاء الحكم يحصل للسائل من ذلك تشويش فقد لا يفهم ما قيل له فتذهب الفائدة فحين أعرض بوجهه أو قال توضئي بها لأنه فَهِمَ عنها أنها لم تفهمه فأتى بقرينة تنبىء أن هذا الوضوء المذكور هو في المحل الذي إذا ذُكِر كان فيه حياء ليعبر بالحال عن المقال وقولها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي ففهمت تلك السيدة رضي الله عنها قبل السائلة فحيئنذ أخبرتها
الوجه السابع يؤخذ منه تعليم المفضول بين يدي الفاضل لكن بعد ما يلقي الفاضل الحكم فيكون ذلك من باب الخدمة له لا سيما في أمر يكون الفاضل يخجل منه والمفضول ليس ذلك مما يخجله لأن تحدّث النساء فيما بينهن لا يقع منه خجل كما يقع من حديث الرجال معهن لا سيما في هذا المحل الخاص
الوجه الثامن فيه دليل على حمل العذر لمن لا يفهم والسنة أن يُرفق به في التعليم يؤخذ ذلك من أن النبي ا لَمَّا لم تفهم عنه السائلة وجاوبتها عائشة رضي الله عنها أقرَّ ذلك ولم يقل فيه شيئاً ولو لم يكن كذلك لقال ما فيه من الحكم يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام
علموا وارفقوا ۱ وهو الرفق والإعذار
ويؤخذ منه جواز الحكم بالإشارة إذا فُهم المعنى يؤخذ ذلك من قولها فأخبرتها بما يريد
رسول الله ولم تذكره الوجه التاسع فيه دليل على أن من الشرع أن يوصل بالفعل دون القول إلى ما يريد القائل إذا ألا تراجع في ذلك الأمر رسول الله أكثر مما تقدم وأقرها النبي ل على ذلك وليس فيه منقصة لا للفاعل
أمكن ذلك يؤخذ ذلك من قولها أخذتُها فجذبتها لأن أخذها قام مقام النهي
ولا للمفعول به
الوجه العاشر فيه دليل على جواز القبول من المفضول بحضرة الفاضل يؤخذ ذلك من بيان عائشة رضي الله عنها ما بَيَّنَتْهُ لها و لم تراجع النبي و و و و و وأجاز ذلك هو عليه السلام
1 لعله مروي بالمعنى لحديث علموا ويسّروا ولا تعسروا ولا تنفّروا فإذا غضب أحدكم فليسكت رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله عنهما

الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن المرء مطلوب منه ستر عيوبه وإن كانت مما جبل
عليها يؤخذ ذلك من أمره ا للسائلة أن تُذهب أثر تلك الرائحة التي هي مما جبلت عليه وتسترها بالطيب لكن الفقه فيه ألا يكون الستر إلا بما تجيزه الشريعة تحرزاً من أن يكون بتدليس أو كذب أو محرم فذلك ممنوع ويقوي ما قلناه قوله عليه السلام للسائل حين أوصاه إذا
غضبت فاسكت ۱ لأن الغضب شَيْن والسكوت له ستر وذلك في الشرع إذا تتبعته كثير ولذلك اتخذ أهل الصوفة التحلي بعدم الانتصار لأنفسهم لأن حظوظ النفس شَيْن في العقلاء فستروها بالعزم على عدم الانتصار لها حتى إنه ذكر عن بعضهم أن شخصاً سَبّه فأعرض عنه فقال له أنت أعني قال له السيد عنك أعرض ومثل هذا عنهم كثير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

لسنا
1 رواه البخاري في الأدب المفرد / ۱۳ و ٢٤٥/ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ۳/۸ والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ۱۷۰/۳ والطبراني في المعجم الكبير ٣٣/١١
كذا والصواب إياك أعني
۳۸

- ٢٤
حديث خلق الجنين في بطن أمه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال إن الله تعالى وكَلَ بالرَّحِم مَلَكاً يقول يا ربِّ نُطْفةً يا ربِّ عَلَقَةً يا ربِّ مُضْغَةً فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال ذكر أم أنثى شقيٌّ أم سعيد فما الرزقُ فما الأجَل فيُكتب في بطنِ
مَلَكاً ينادي إلى الحق سبحانه
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ وَكَّلَ بالرَّحِم وهو الذي لا يخفى عليه شيء عند كل وقت في حين تطوير المولود من حالة إلى حالة يخبر بتلك الحال إلى تمام حكم الله في كمال خلقه في الرَّحِم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا على عمومه من ظاهر أحكامه كله أو ليس
وهل يمكن الاستدلال على معرفة الحكمة في ذلك وما الحكمة في تعريفنا بهذا وما يترتب علينا بذلك من الأحكام الشرعية
فأما الجواب على هل هذا الحديث على ظاهره في جميع أحكامه فليس على ظاهره في كل أحكامه لما يعارضه من الآثار والآي لكن الفقه في الجمع بينهما بفضل الله فأما الآثار فمنها ما جاء أن الله سبحانه إذا أراد أن يخلق من بين الذكر والأنثى مولوداً أنه يُبقي الماء في الرحم ذلك المقدار الذي شاء الله ۱ وقد أخبر به في حديث آخر وهو أن الماء إذا وقع في الرحم يتطور كما أخبر الله تعالى في كتابه ۳ ومثله على لسان نبيه عليه السلام في
۱ الآيات القرآنية المتصلة بخلق الإنسان كثيرة منها يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى الحجرات/ ۱۳ و يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الحج / ٥ الخ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينِ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نَطْفَةٌ في قرار تكي أن خَلَقْنَا الظُّفَةَ عَلَقَدْ

۳۹

كل حالة أربعين يوماً إلى أن يُنفَخَ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً فإذا فرغت الأربعون يوماً الأولى - وهي المقدار الذي أشرنا إليه بقولنا ذلك المقدار الذي شاء الله - يبعث الله ملكاً فيأخذ من أي موضع شاء الله أن تكون تربة ذلك المولود منها فيأخذ من تلك التربة غباراً بين أصابعه فيدخل في الرّحِم فيُعجَن ذلك التراب بذلك الماء في الرحم وجاء أثر آخر أنه إذا كملت تلك الأيام مع التطوير بعث الله ملكاً فيصوره ويصور جوارحه على نحو ما يؤمر
وجاء حديث آخر أن الله يبعث مَلَكاً إلى الرحم عند ما تتم الثلاث تطويرات ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيا أو سعيداً ۳ وفي حديث آخر ينادي الملَكُ المُوَكَّلُ بالرَّحِم عند فراغ التطويرات فيقول يا رب مخلقة أم غيرُ مخلقة فيقول ربك ما شاء فيقول يا رب شقي أو سعيد فيقول ربك ما شاء فيقول ما الرزقُ ما الأَجَلُ فيكتب قبل نفخ الروح 4
وأما الآي فقوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ ٥ وقوله تعالى فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنبيَّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ٦
فيجب الإيمان بمجموع الآي والأحاديث فيجتمع معنى وجه الآية والأحاديث بالوجه الذي يجتمع به وجه الآي التي جاءت في كيفية الموت لأن مولانا سبحانه أخبر في بعض الآي بقوله وهو
فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا وَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَلِقِينَ المؤمنون ١٢ - ١٤ 1 لم نقف على مصدره ولكن الآيات التي تشير إلى أصل الإنسان كثيرة منها وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ مِنْ حما مسنون الحجر ٢٦ و خَلَقَ الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ كَالْفَخَارِ الرحمن ١٤ و﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ وَادَمَ خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ آل عمران ٥٩ و يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْتَنكر من تراب الحج ٥ و هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ غافر ٦٧ ﴿ أخرج مسلم عن حذيفة بن أسيد قال سمعت رسول الله الله بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك قال زهير حسبت قال يخلقها فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا ربّ أسَوِيّ أو غيرُ سَوِيّ فيجعله الله سَوِيًّا أو غيرَ سَوِيّ ثم يقول يا ربّ ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيًّا أو سعيدا وزهير هو أحد رجال الإسناد وهو زهير بن معاوية بن خديج ۳ رواه الحميدي والبخاري والبيهقي في الاعتقاد والأسماء والصفات والسنن الكبرى عن عبد الله بن مسعود رضي

الله عنه بلفظ آخر
هو حديث الباب الذي يشرحه المؤلف مع شيء من التصرف ببعض الألفاظ
٥ سورة ال عمران من الآية ٦
٢ O
٢٤٠
٦ سورة الحج من الآية ٥

أصدق القائلين قُلْ يَتَوَفَّنَكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكلَ بِكُم ۱ وقال في آية أخرى و الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فأضاف القبض في الواحدة إلى ملك الموت وفي الآية الأخرى إلى نفسه جلّ جلاله ويتصور الجمع بين الآيتين أنه أخبر في الآية الأولى في قوله مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكَلَ بِكُم ﴾ بمقتضى الحكمة والقبض الآخر الذي أضافه إلى نفسه بمقتضى القدرة لأن ملك الموت وغيره من جميع المخلوقين أفعالهم كسب لهم بمقتضى الحكمة وخَلْق الله بمقتضى الاختراع والخلق لا
خالق إلا الله
ولذلك قال أهل السنة إن أفعال العباد خَلْق للرَّب وكسب للعبد كما تقدم في الحديث قبل ومثل ذلك الجمع بين الأحاديث والآي فإنه جاء في الأحاديث أنه أخبر بمقتضى الحكمة - وهو واسطة الملك - وفي الاي بمقتضى القدرة وهو الاختراع والإنشاء ولذلك جاء أن الحفظة إذا صعدت بعمل العبد يقول الحق سبحانه اعرضوه على اللوح المحفوظ فيوجد على حد سواء
قال بعض الناس ما الحكمة في ذلك وهو مع ذلك علمه في كل وقت لا يَعْزُبُ عنه فعلُ المَلكِ ولا غيره فالجواب هذا تعبّد تعبَّدَ الله به الملائكة والله عزّ وجلّ يتعبد مِن خلقه من شاء كيف شاء ولحِكمٍ أُخَر لا تُحْصَر
وأما جمع الأحاديث فهو أن الله عزّ وجلّ وكَّلَ بالرَّحِم ملكاً كما وكَّل بالمعدة ملكاً وبالطعام ملكاً وبالشراب ملكاً وبحفظ العبد ملكاً وكذلك لكل حاسة من الحواس ملكاً كما جاء في بعض الآثار غير الشم فما سمعت فيه شيئاً ويحتمل أن يكون ولم أره فالقدرة صالحة ويكون ملَك مُوَكَّلاً بِسَوَقان التراب وعَجْن الماءِ به ومَلَكُ آخرُ مُوَكَّلُ بتصويره تعبداً ومَلَك يكون إتيانه عند مناداة الملك الموكَّل بالرَّحم لأن زمان التطوير قد فرغ فتكون فائدة إخباره أن يأتي الملك الموكل بالتصوير إذ ذاك فيمتثل ما يُؤْمَر به أو يقال له غير مخلقة فلا يأتي ملك التصوير
فإن أتى ملك التصوير وفرغ مما أُمر كما أمر لأنه قد جاء أن الملك إذا جاء للتصوير نُصِب له سبعون وفي حديث آخر ألف من جدوده - على ما رواه أبو داود - ثم يلقي الله تعالى شَبَهَه على من يشاء منهم ۳ فإذا فرغ التصوير نادى الملك الموكَّل بالرَّحِم فيأتي مَلَك آخرُ بالأربع
۱ سورة السجدة من الآية ۱۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
۳ أخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أنه إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها
٢٤١

كلمات فيجاوب المخبر عن كل واحدة واحدةً ويكتب والكاتب هنا لا نعرفه فلعله بعض الملائكة المذكورين أو غيرهم والله أعلم فيحصل الجمع على هذا التأويل ويكون عدد الملائكة الذي يجتمعون في الرَّحم عند خلق المولود من أوله إلى آخره أربعة وبقي البحث على الكتبِ هل يكون في الشخص نفسه أو في شيء اخر محتمل والقدرة صالحة فإن هذه الأحاديث كلها أخبار والأخبار لا يدخلها نسخ فيكون الحق سبحانه يخص من المخلوقين من هذه الوجوه ما شاء لمن شاء إظهاراً لِعِظَم القدرة بجميل بديع الحكمة وبعد الفراغ من هذا كله على أي وجه شاءه الله من تلك الوجوه ينفخ فيه الروح لكن قد جاء بيان هذا في حديث غيره وهو قوله عليه السلام ويَخرُج الملك بعد الكتب من الرَّحم بالصَّحيفة
في يده ۱
وقد جاءت في كيفية بدء خلقنا اثار بخلاف هذا الترتيب منها أنه قال عليه السلام إذا وقع ماء الرجل في الرَّحم تطاير في عروق المرأة أربعين يوماً وبعد ذلك يجتمع في الرَّحم وقد جاء عنه عليه السلام أنه عند فراغ الأربعين يوماً الأولى يكون تصوير النطفة بما شاءته القدرة وأما الجواب المعرفة ما الحكمة في ذلك هل لنا سبيل إلى معرفتها أو إلى شيء منها فما أخبرنا بها إلا لنتدبر ما الحكمة فيها فمن الحكمة في ذلك ما يحصل لمن مُنَّ عليه بتصديقها من قوة الإيمان الذي زيادة ذرة فيه خير من عمل الدهر يشهد لذلك قول سيدنا وله تَفكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدهر ۳ وإنما ذلك لما يتحصل فيها من قوة الإيمان كما يتحصل بمعرفة هذه ووجه آخر وهو أن نعرف للحكمة قدرها إذ ذاك أمر قد تقدر في جميع العوالم فيكون من
باب التحضيض عليها والتعظيم لشأنها
ويترتب على ذلك من الفقه أنه بمقتضى الحكمة استدللنا على القدرة وبالقدرة وعِظَمِها استدللنا على الحكمة فوجب بمقتضى الإيمان والتكليف والنظر والاستدلال الإيمان بمجموعهما والتعظيم لهما والإذعان لمن هذه مِن بعض صفاته كما أمر وقهر وحَكَم بالتعظيم
والإجلال والإكبار والتنزيه
۱ لعل المؤلف - يرحمه الله - أراد بما أورده معنى هذا الحديث إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة مجتها الأرحام دماً وإن كانت مخلقة قال يا ربّ فما صفة هذه النطفة ذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها أشقي أم سعيد قال فيقال له انطلق إلى الكتاب فاسْتَنسِخ منه صفة هذه النطفة قال فينطلق الملك فيستنسخها فلا تزال معه حتى يأتي على اخرها أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
سلف تخريجه في الحديث ۱
٢٤٢

لكة
الوجه الثاني فيه دليل على أن وجود الحق حق وإدراكه غير ممكن يؤخذ ذلك من أن
الملائكة بالإجماع أجسام وتراهم يدخل النفر منهم فينا ولا ندركهم ولا نشعر بهم وهم يتصرفون فينا ولا نعلم فكيف خالقنا وخالقهم فإن بقطعيات العقول لا يشبه الصانع الصنعة
الوجه الثالث فيه من الأدلة الإيمانية إذا تؤملت جمل كثيرة
وأما الجواب على ما الحكمة في الإخبار بذلك لنا وما يترتب عليه من الأحكام الشرعية فمنها التعريف لنا ببدء خلقنا وضعفنا ولطفه بنا وتَغْطِيَتِهِ بألطافه لنا وتسخير الملائكة الكرام لنا في كل الأحوال التي كنا عليها في حال يُعقل أو لا يعقل كما قال عزّ وجلّ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۱ على طريقة المَنْ وهذا استدعاء لطيف في طلب العبادة وانشراح الصدور لها فإنه إذا رأى العبد قدر هذا اللطف به من هذا المولى الجليل الغني المستغني سَهُلت عليه العبادة ورغب في الحظوة عند هذا المَلِك الذي قد كرَّمه قبل أن يعرفه ويعبُده فكيف به إذا عبده وسمع قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ أُولَيْكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ذاب حياءً وحباً واشتياقاً ورغبة ورهبة
الوجه الرابع ومما يترتب عليه من الأحكام الشرعية أن حكم الحاكم إذا نفذ ومضى لا يردّ يؤخذ ذلك من قوله أنه لا ينفخ الروح إلا بعد الكتب فيكون الحكم قد نفذ ومضى وهو في عالم اخر فلا يخرج لعالم الحياة إلا على حكم قد تمّ وفرغ فلا يطمع أحد في نقضه وهو موضع تحقيق الخوف والرجاء مع العمل أو تركه جعلنا الله ممن سبقت له السعادة بمنّه
ثم نرجع إلى ألفاظ الحديث بعون الله فقوله إن الله وكل أي جعله عليه مراقباً أين يكون فيه أو عليه القدرة صالحة للوجهين
الوجه الخامس قوله يقول في الكلام حذف معناه عندما يخلق الله النطفة وقوله يا ربّ نُطفَةٌ النطفة الماء اليسير في الإناء وهنا أيضاً حذف آخر لا يتم الكلام إلا به معناه نطفة حدثت في الرحم ثم ينادي عند تطورها بقدرة الله علقة العلقة قطعة من الدّم
الوجه السادس قوله يا رب علقة فيه محذوف ثالث معناه أي انتقلت أي انقلبت علقةً الوجه السابع قوله ثم يقول يا رب مضغة فيه محذوف رابع معناه انتقلت العلقة
مضغة والمضغة الشيء الذي يمضغ وليس فيه تشكيل
۱ سورة الجاثية من الآية ١٣
سورة البينة الآية ٧
٢٤٣

الوجه الثامن قوله فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قوة الكلام تعطى أن الله سبحانه إذا لم
يرد خلقه ينفذ فيه ما شاء من أمره إما أن يمجه الرحم وإما أن يبقى على حاله حتى ينفذ فيه ما شاء الحكيم فإن أراد الله خلقه - ولا يعرف الملك إرادة الله فيه إلا إذا ظهرت كما تقدم في الوجوه الثلاثة - فعند ذلك يأمر الله عزّ وجلّ بتصويره للملك الموكل بذلك - كما تقدم قبل - فيسأل أذكر أم أنثى
فهل لا يسأل ۱ إلا بهاتين الصيغتين لا غير ويكون الجواب بما قدر من ذكر أو أنثى أو خنثى بيناً أو مُشكلاً إلى غير ذلك مما قد رأيناه عياناً في جميع المخلوقين ويترتب على سؤاله بهاتين اللفظتين أن الكلام والعمل إنما يكون على الأغلب مما جرت به الحكمة أو يكون سيدنا عبر بهاتين اللفظتين من باب التنبيه بالأعم على الأخص احتمل لكن الظاهر في الإخبار أنه ليس كغيره من الأحكام لأنه شيء يوقف عنده ويؤمن به ليس إلا
ويترتب على هذا الإخبار بهذه التطويرات التي بدأ خَلْقَنا بها إلهنا وقدّره الله تعالى فينا وفي جميع خلقه قطع تسليط العقول عن إدراك قدرته إلا الذي من علينا بالوصول إليه كما أمرنا ومنع الطمع ممن هذه قدرته أن يحاط به أو بوصفه تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً
وبين لنا ما النسبة بين ما كان حقيقيًا من تلك التطويرات على ضعفها وما نحن عليه عند بلوغ الاحتلام والتكليف وما اجتمعت عليه هذه الصورة الحيوانية الإنسانية من عظم ومخ ولحم وعصب وعروق وشعر وجلد ودم وكبد وقوة وعقل وفكرة وشهوة وتصرّف وبطش وجميع ما فيها من حسن الصنعة كما قال عزّ وجلّ لَقَد خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ٢

ثم أين نسبة ذلك الحال الأول من هذا الحال وأين ذلك الخلق من هذه الخلقة كما قال

عزّ وجلّ في شأن الثمر عند تناهي طيبه انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ ٣ معنى ذلك
أين
انظروا إلى حال الثمر إذا برز من الشجرة ثم انظروه عند تناهي طیبه این نسبته في هذا الحال من نسبته أولاً أو من نسبة منبته فرأينا النسبة بين الحالين متباينة فكأنه عزّ وجلّ يقول بمدلول قوة الكلام ألا تعرفون أن ذلك بالقدرة لا بالأصل ولا بالماء فاعتبروا بمن هذه قدرته وأذعنوا إليه وأسلموا

333
ثم بعد ذلك يأتي حال الكِبَر وتنعكس تلك القوة ضعفاً ويدخل عليه النقص في جميع
يريد أفلا يسأل لأن هل لا تدخل على لا
سورة التين الآية ٤ ۳ سورة الأنعام من الآية ۹۹
٢٤٤

أحواله مع إبقاء الخلقة على قالبها كما أخبر عزّ وجلّ ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةٌ ۱ فأهل الاعتبار اعتبروا وأهل التذكار اذكروا وبقي أهل الغفلات عمهات الجهالات لا يبصرون إلا على قدر شهوتهم وهم في العلوم بعضهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً وغيرهم كما أخبر عزّ وجل إن هُم إِلَّا كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ولذلك قال جل جلاله وَكَأَن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ ۳
أي غافلون
الوجه التاسع قوله شقي أو سعيد لا ثالث لهما لكن الشقاوة تفترق على أنواع بعضها أعظم من بعض والسعادة أيضاً كذلك
الوجه العاشر قوله فما الرزق فما الأجل هنا بحث لِمَ أتى في الرزق والأجل بالفاء التي تعطي التعقيب دون غيرها من الحروف
لأنه
فالجواب - والله أعلم - أن أول ما يشتغل الملك بالخَلق وتقريره على ما شاءه الحكيم مع الشقاوة والسعادة وحينئذ أتى ذكر الرزق والأجل اخراً وهذا ترتيب بمقتضى الحكمة بديع الذي يكون الأهم والمتقدم بحسب الإرادة قَدَّمَ خَلْقَه أولاً وعليه يترتب التذكير والتأنيث أو غيرهما من الصفات وعليه أيضاً تقع الشقاوة أو السعادة ثم الرزق الذي هو متقدم على الأجل كما أخبر عليه السلام لن تموتَ نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطَّلَب ٤ ثم أخر الأجل فإذا كان الأمر قد تَمَّ فعَلامَ الحرص في طلب الرزق وقد تم الأمر لا يزاد ولا ينقص فيرجع الرزق والأجل والسعادة وغيرها كالتذكير والتأنيث لا يتبدل
وَلفَهم هذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم ولم يلتفتوا إلى غيرهم بشيء وبقوا مُعوّلين على من هو المتصرف فيهم اللطيف بهم كما لم تطمع النفوس في انقلاب الذكورية إلى ضدها أو ضدها إليها كذلك لم تطمع نفوسهم في الرزق ولا في الأجل ولا في السعادة في التبديل أصلاً وما بقوا إلا مشتغلين بما أمروا حتى إن بعضهم قال إن كان عَبَده لِخوفِ نارٍ أو رغبةً في جنة حَشَره الله مع فرعون وهامان بل قال أعبده لأنه أهل لأن يُعبَد ٥ وهو الحق لمن فَهِم
۱ سورة الروم من الآية ٥٤ سورة الفرقان من الآية ٤٤ ۳ سورة يوسف الآية ١٠٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ٥ هذا القول مروي على لسان رابعة العدوية
٢٤٥

وكفى في ذلك قصة العابد في بني إسرائيل الذي أخبره نبيه أنه من أهل النار فزاد في عبادته فأوحى الله لذلك النبي أن قل له يفعل ما شاء فإنه من أهل الجنة لازدرائه بنفسه

وأما من طريق الرزق فقال بعضهم إذا كان الفقير يُنظر في رزقه فإن الله يحسن عزاءه في طريقه وكفى في ذلك ما اختاره سيدنا محمد اله الا هو أنه قال أجوع يوماً فأتضرع وأشبع يوماً فأشكر ۳ وقال يمن بن رزق رحمه الله إذا كان الماضي لا يرجع والمقدور لا يتبدل فاطراح
الهم سعادة معجلة
الوجه الحادي عشر قوله فيكتب في بطن أمه يكون المعنى فيكتب وهو في بطن أمه وهنا بحث هل ذلك الكتب يكون قبل نفخ الروح أو بعده لكن قبل خروجه من بطن أمه ليس
في الموضع ما يدل على شيء منها لكن قد جاء في حديث آخر أنه يكتب ثم ينفخ فيه الروح ويترتب على هذا الإخبار من الفقه أن السعادة والشقاوة قد تكون بلا عمل ولا حياة في هذه الدار يؤخذ ذلك من قوله ثم ينفخ فيه الروح بعد كتب السعادة أو ضدها وقد رأينا من يموت في البطن قبل الخروج إلى هذه الدار وقد يخرج ولا يبلغ زمان العمل لا على طريق الوجوب ـ وهو البلوغ - ولا على طريق الندب وهو ما دون ذلك ويعضد هذا التأويل قوله عليه السلام في الأطفال الله أعلم بما كانوا عاملين ۳ لأن العلماء اختلفوا فيمن يموت قبل بلوغه التكليف على أي قدر كان من السن اختلافاً كثيراً لأن الأحاديث جاءت فيهم على أنواع فمنها قوله عليه السلام فيهم عصفور من عصافير الجنة 4 ثم قال فيهم هم من آبائهم ثم قوله عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وعلى هذه الآثار أكثر أهل السنة لا سيما مع ما في هذا الحديث الذي نحن فيه مما يقوي هذا المعنى وتكون تلك الآثار الآخر على الخصوص في هذين المعنيين فهذا المعنى يزيد تأكيداً لما ذهب إليه أهل الصوفة
جعلنا الله ممن سُعِد وحُمِي وفَهِم وعَمِل وقبل بِمَنْهِ لا ربَّ سِواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لعل معنى ينظر يُؤخّر أي من يتأخر رزقه فعزاؤه في طريقه وسلوكه الروحي و الفقير عند أهل الله يأتي بمعنى الفقير إلى الله أو بمعنى الصوفي فهو إنسان لا يهمه التقتير عليه ويجد سلوانه في الطريق الذي

أكرمه الله به بالعطاء المعنوي والإيماني

أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك الشر ولم
يعمله إلى آخر الحديث
٢٤٦

حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صليا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشُقّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله ل لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثلُ النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثلُ النجوم بأيهِمُ اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه وهو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا ل وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغيّر الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بِجَرْيِ العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة

٢٤٧

150-
حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صلَّيا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشقَّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثل النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه له هو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنّته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغير الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهّال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بجزي العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة
0
٢٤٧

ذكر بعض العلماء أنه إذا علم الشخص من نفسه أنه يميد حتى يَؤول أمره إلى تعطيل الصلاة أو
الخلل بشيء منها أنه لا يجوز له ركوبه وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى
فبهذين النوعين وما يشبههما إذا وقعت ولم تدخل عليها يجوز أن تصلي معها قاعداً إذا لم تقدر على القيام وهو المعني بـ المشقة هنا لأن العلماء لا يطلقون المشقة إلا على ما يكون مشقة شرعية يتعلق من أجلها حكم ما بخلاف أهل الصوفة فإنهم يطلقون المشقة على كل شيء يتغير به الخاطر قل أو جَلَّ الوجه الثاني قوله تدور معها يعني للقبلة حيثما دارت السفينة لأن الرياح تختلف بعض الأوقات على السفن فيكون مثلاً مقدَّمها إلى القبلة ثم تأتي ريح أخرى تديرها شرقاً أو غرباً أو لغير ذلك من النواحي فيكون المصلي في السفينة يدور إلى القبلة في الصلاة الواحدة إن احتاج لذلك مراراً لأنه شغل يسير معفو عنه والقبلة مطلوبة أو جِهَتُها حتماً لأنا معنا العلم بها والقدرة على ذلك ونحن الآن متمكنون من ذلك عارفون بها فلا يسعنا غير ذلك سواء كان المصلي قائماً أو قاعداً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز ركوب البحر فإن العلماء اختلفوا في ركوبه هل هو جائز مطلقاً أو لا يكون إلا للحاج والمجاهد فيه اختلاف بينهم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع ركوبه إلا لحاج أو مجاهد ويقول خَلْقٌ عظيم يركبه خَلْقٌ ضعيف ولولا آية في كتاب الله لكنت أضرب بالدرة من يركبه وركوبه لا يجوز إلا على الوجه المشروع في الحال وفي الزمان أما في الزمان فلا يجوز ركوبه عند ارتجاجه لقوله عليه السلام مَن ركب البحر في ارتجاجه فقد برىء من الذمة ۱
وأما في الأحوال من صفة المركب ووصفه إلى غير ذلك فلا يركب إلا على ما جرت به العادة إن كان ذلك هو المعروف عادة الذي تكون معه السلامة غالباً فإن لم يكن كذلك كان داخله أو
راكبه ممن يُلقي نفسه إلى التهلكة وقد جاء في ذلك ما جاء فهذا الحكم في البحر المعهودِ حِسّاً وأما البحور المعنوية التي ذكرها الناس فالركوب في كل بحر منها يجوز بحسب السنة فيه والبحور المعنوية سبعة بحر الدنيا وبحر الهوى وبحر الشهوات وبحر النفوس وبحر وبحر المعرفة وبحر التوحيد العلم
فبحر الدنيا ساحله الآخرة وركوبه في مركب الأمر والنهي
۱ رواه الإمام أحمد عن بعض أصحاب النبي
وعُدَده أنواع التعبدات
٢٤٨

وأوقات ركوبه عند عدم ارتجاجه وارتجاجه الفتن ولذلك حكمت السنة أن تكون في ذلك الوقت جلساً من أحلاس بيتك أو تكون بأصل شجرة وتفارق جميع الناس حتى يأتيك الموت وأنت على ما أنت عليه ورياحه العزائم فعلى قدر قوة عزيمتك يكون جَري سفينتك ورأسها العقل فعلى قدر عقلك يكون إتقان جريها وملاحوها خواطرك فعلى قدر حسنها تكون سلامتها ومسالكها العلم فعلى قدر علمك يكون حسن تصرفها ووَسَقها بضائع أعمالك فيكون الخلاص من البحر بقدر جودة السفينة وخدامها والربح أو الخسارة بحسب البضائع
وأما بحر الهوى فمَخُوف وممنوع ركوبه بل مهلك فلا يُحتاج إلى تعليله
وأما بحر الشهوات فكثير ارتجاجُه والقدر الذي أبيح منه على لسان العلم فيه من التشويشات هنا وهناك ما يعجز الوصف عن أقلها وهو من الجنس المندوب إليه وهو الجماع ما يترتب عليه من الكد في التكسب على العيال وربما يكون لبعض الناس سبباً لأن يقع في المحرمات من جهة الكسب ويعتذر بأن يقول العيال خلفي يطالبونني بالرزق ولا أقدر على غير هذا الوجه ثم ما يترتب عليه السؤال عنهم فإنهم رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وما فيه من إلزام نفقة البنين حتى يحتلموا من أجل شهوة واحدة إلى غير ذلك إذا تتبعته
ومن أجل الشهوة قال الله الله تَعِسَ عَبْدُ الدّينار تَعِس عَبدُ الدرهم تَعِس عبد الخَمِيصة تعس عبد بطنه تَعِس عَبدُ فَرْجِه ٣ فلولا الشهوة التي حملته على ذلك ما دخل من حرية الطبع إلى رِقّ الشَّهَوات ثم مع ذلك يحجبه عن الوصول إلى مقام الخصوص فإنهم قالوا رضي الله عنهم تَرْك الشهواتِ قَرْعُ الباب وقال العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ أَوَلَيْكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقْوَى ٤ قالوا أزال عنها الشهوات ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول إنّي لأطأ النساء وما بي إليهن شهوة فقالوا وَلِمَ ذلك يا أمير المؤمنين قال رجاءَ أن يُخرِجَ الله من ظهري مَن يُكاثرُ به محمَّدٌ الأمم يومَ القيامة
فانظر إلى هذا السيّدِ كيف انقلبت له هذه الشهوة - التي هي أكبر شهواتِ البشر - عبادةً محضة فما بالك بغيرها
۱ الجلس ما يُبْسَط في البيت على الأرض من حُرّ الثياب والمتاع والمراد ملازمة البيت والانعزال عن جميع
الناس
الوَسَق حمل البعير أو العربة أو السفينة
۳ رواه البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه و الخميصة ثوب أسود أو أحمر له أعلام وكأنه كناية
عن بهرجة الثياب والافتتان برونقها وجمالها
٤ سورة الحجرات من الآية ۳
3
٢٤٩

يؤيد هذا قوله جلّ جلاله على لسان نبيّه عليه السلام لا يزال العبد يتقرَّبُ إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمَعُ به وبصَرَه الذي يُبصِرُ به ويَدَه التي يبطش بها ۱ قال العلماء في معناه لم تَبقَ له جارحةً يصرفها إلا بالله والله فذهبت شهواته
وأما بحر النفوس فإنه لا غاية له نعلمها نحن لكن ركوبه من أجل المركوبات لكن إذا كانت السفينة على ما شُرعَ ونُدِب من أن يكون إنشاؤها من عُودِ الإخلاص وملأحوها وجميعُ خدامها من أهل التواضع والافتقار لقوله عليه السلام أوحِيَ إليَّ أن تَواضعوا ولا يفخَرُ بعضكُم على بعض ورياحُها صدقُ اللَّجَاً فإنه عنوان النجاح وبضائع أهلها التقوى فإن الله عزّ وجل يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۳ فإذا رُكِب على هذا الوضع نيل فيه من الربح
والفوائد ما لا يعلمه إلا الله الكريم الوهّاب
وأما بحر العلم فكما تقدم في بحر النفوس إلا أنه لا بد لراكبه من إطالة المقام فيه حتى يقوى بصر بصيرته فيبصر هواه فيرجع له منه قوةٌ في المزاج فحينئذ يبصر ما فيه من الأنوار والعبر والعجائب التي لا يبصرها غيره إلا أنه لا بد له من المُقام بعد إبصار تلك المعاني ليحصل له تهذيب النفس وزيادة في اليقين وقد قال تعلموا اليقين فإنّي أتعلَّمُه ٤
وأما بحر المعرفة فأعظم وأكبرُ وفيه من الفوائد أعظم ممّا في البحر قبله ويُركَب بمثل ما يُركب البحر الذي قبله إلا أنه لا بد أن يُتَزَوَّدَ فيه من ماء بحر العلم لئلا تذهب روحه بشدة حرارة هوائه فأكثر ركابه ما هلكوا إلا من أجل هذا الوجه لأن فيه من الخيرات والدرر والأسرار ما لا يُحد وفيه من المهالك لمن ترك هذا التزوّد بهذا الماء ما لا يوصف وربما قد يكون حاله أولاً من الخصوص ثم ينعكس إلى أخس الأحوال
6
وأما بحر التوحيد فيُركب بمثل ما قدمناه في البحرَينِ المتقدّمَينِ وزيادة على ذلك أنه لا يفارق ببصره شواهق جبال الشريعة الراسخة فإنه مهما قام عليه من هوائه هواء لا يعرفه ولا يكون عنده ما يتقيه به عاد إلى جانب جَبَل ذلك العِلم وإلا غرق ومن أجل ذلك غرق فيه ناس كثيرون وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعاً فإذا رجع إلى ذلك بالعِلْم ورجع عقله إليه تذكَّر فوائد ما رأى وحصل له من اجتماع ذينكَ الهواءين من حسن مزاج جوهر دينه وعرضه ما لا يصفه الواصفون
۱ انظر تخريجه في الحديث رقم ٦
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عياض بن حمار رضي الله
۳ سورة البقرة من الآية ۸
٤ تقدم تخريجه في الوجه الأول من الحديث رقم ٦
3
٢٥٠

بالنوافل
ن بها ۱
لكن إذا ها وجميعُ
ـر بعضكُم
الله عز
فَمَنْ مَنَّ الله عليه بركوب هذه البحار المباركة على الوجه الأحسن ثم رسا على جبال السنة فذلك السيد الذي إذا كان منهم واحد في إقليم رحموا جميعاً ومن ركب منها واحداً على تلك الحالة المرضية فمن راه فقد أقر الله عينه بما يعود عليه من الخير والبر والبركة فكيف به هو ومن ركب واحدا منها على غير الوجه المرضي فالغالب عليه الهلاك ومن راه خيف عليه من الفتنة والشرح في هذا يطول إلا أنه إن شاء الله سأختصر له كتاباً يكون الكلام فيه أبسط من هذا
ونبين مهالكه وكذلك بحول الله كل بحر منها جعلنا الله ممن حماه وعَلَّمَه وأسعده به بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
من الربحِ
فيه حتى الأنوار
ليحصل
بمثل ما
ة حرارة
ار ما لا
أولاً من
أنه لا
يكون
یرون
رأى
مبله دعاية
٢٥١٠
نال

1-
حديث جواز التحرّز من حرّ الحصباء في السجود
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا نصلي مع رسول الله الله فيضَعُ أحدنا طرَفَ الثوب من شدةِ الحَرِّ في مكان السجود
ظاهر الحديث جواز الشغل اليسير في الصلاة من دفع الأذى المشوّش فيها والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الفعل اليسير في الصلاة يكون معفواً عنه وإن لم يكن هناك عذر أو لا
يكون معفوا عنه إلا مع العذر وإن كان خارجاً منها
وهل العذر المنصوص عليه هو هذا العذر ليس إلا أو تَعَدّيه إلى ما يكون في الصلاة ليس إلا وما يكون خارج الصلاة لا يُلتَفَتُ إليه وإن كان عذراً
فالجواب ليس في الحديث ما يدل على ذلك لكن الفقهاء إذا علموا للحكم علة عدوه بتلك العلة حيث وجدوها مثل قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۱ عَدّوا الحكم حيثما وجدوا مشوّشاً شَوِّشَهُ منع الحكم معه حتى الحقن ۳ والجوع فنرجع هنا إلى بحثنا فإن كانت العلة هنا قلة العمل ليس إلا فعلى هذا يجوز لعذر ولغير
عذر وقد اختلفوا في الشغل اليسير في الصلاة لغير عذر هل يبطلها أم لا على قولين وإن قلنا إن العلة فيه رجاء زوال التشويش في الصلاة فعلى هذا يجوز الشغل في وإن كثر - ما لم يتفاحش فإنه إذا تفاحش خرجت عن أن تكون صلاة ولذلك لم يختلفوا أن الشغل اليسير إذا كان لإصلاحها أنها لا تبطل واختلفوا إذا كثر ولم يتفاحش على قولين ولم يختلفوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث رقم ۱۰
حقن الدم حبسه واحتقن المريض احتبس بوله ومنه قوله عليه السلام لا صلاة لحاقن
٢٥٢

أنها تبطل إذا تفاحش وقد حدّ التفاحش بمثل أن يأكل أو يشرب قدر ما يقارب الشبع ومنهم من فرق بين ما أجير له فعله في الصلاة وبين ما لا يجوز له كما هو منصوص في كتب الفروع
وإن قلنا إن العلة قد تكون لمجموعهما أن يكون عذراً وأن تكون في إصلاح الصلاة وهل يُراعى في الشغل أيضاً الكثرة أو القلة موضع خلاف ما لم يتفاحش أيضاً لكن الذي يعطيه البحث على نص الحديث أنه إذا كان الذي يُفعَل أقل بالنسبة إلى ما هو الخلل الواقع في الصلاة يُفعل وإن كان فعله نقصاً من كمال الصلاة لم يُفعَل ويكون ذلك بِحَسَبِ الأشخاص والأمكنة والأزمنة فرُبَّ شيء يحمله شخص ولا يحمله غيره ورب شيء يوجد عنه بدل وآخر لا بدل منه يؤخذ ذلك من الحديث
الوجه الثاني قوله كنا نصلي مع رسول الله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ في مكان السجود لأن معهم هنا علتين إحداهما الصلاة خلف رسول الله له و لو لا بدل منها وحرّ الأرض الذي يمنع الخشوع في الصلاة وهو من باب شرط الكمال - على مذهب - ويقابله اتقاء الأرض بفضل الثياب فما يفعلونه بالنسبة لما يفوتهم قليل وعلى هذا التعليل فقس لكن يبقى علينا بحث آخر وهو الشيء المفعول هل لا ۱ نفعله إلا ألا نجد منه بَدَلاً أو
نفعله مع وجود البدل أو هو جائز مع وجود البدل وفعل البدل أولى
الأولى
مثاله أنا نقول لا نتقي بفضل ثيابنا إلا حين لا نجد شيئاً نتقي به الأرض أو هو من باب
فإن نظرنا في الحديث أجزناه مع وجود غيره وفعل غيره يكون الأولى ولا أظنّ أحداً اختلف في أن هذا هو المستحب
وإن نظرنا لما يُعلم من حال الصحابة رضي الله عنهم فهم لم يكن لهم من الدنيا إلا قدر الضرورة وأنهم في الغالب ليس لهم فضل في ثيابهم قلنا لا يجوز مع وجود غيره لكن الحكم للفظ الحديث لا لغيره ولعل هذا الحديث لم يكن إلا من بعدما ظهر الإسلام وكَثُر عندهم الخير
فلا يُترك اللفظ المقطوع به بِشيءٍ محتمل
الوجه الثالث قوله كنا يعطي الجمع لأنهم كانوا الكُلُّ على ذلك فالإخبار عن الجميع
أقعد في الحكم مما يكون عن الواحد الوجه الرابع قوله مع رسول الله الله إخبار هنا أيضاً بالفعل لأنهم كانوا يفعلون مع النبي
1 يريد ألا
٢٥٣

وهو عليه السلام يقول إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم أمامي 1 فإقرارهم على ذلك حكم منه عليه السلام وما كان من تقرير الحكم بالفعل أعظمُ ممّا يكونُ بالقول ويترتب على ذلك من الفقه الاقتداء به الله في الأفعال والأقوال على حد سواء
وهل يكون ذلك في غيره أم لا يكون ذلك حتى يُعلم أن ذلك على لسان العلم لأنه عليه السلام في ذاته معصوم قطعاً وغيره لا تُعْرَف عصمته هذا على لسان العلم
وأما بعض أهل الطريق فيَرَوْن اتباع مشايخهم لأنهم يُحسنون الظن بهم وكذلك وظيفة المبتدي أو العامّي مع العالم لأنهم لا يعرفون لسان العلم فهم أولى لهم أن يتبعوا عالماً من أن
يتبعوا الهوى

وقد أخبرني بعض مشايخي رضي الله عنه أنه كان يخدم شيخه في مرضه الذي مات فيه وأنه كان ابتُلي بسرعة الهِراقة فمشى يوماً إلى بيت الخلاء مسرعاً فلما قضى حاجته ناداني فقال ائتني بالماء فلما خرج قال لي يا بني ! الكلامُ في بيتِ الخلاء لا يجوز وإنما فعلته للضرورة لأني لم أقدر أن أتكلّم لما حفزني الأمر لأنه رحمه الله علم أن الشخص كان ممن
يُقتدى به
ويؤخذ ذلك أيضاً من فعل عمَرَ رضي الله عنه حين أمَرَ بعض أهل البيت وكان قد أحرَمَ في ثوب مصبوغ أمَرَه بَنَزْعِهِ وهو مما يجوز الإحرام فيه لأنه كان مصبوغاً بِمَدر ۳ كما جاء في الحديث لكن لما كان يُشبِه المَزَعْفَرَ والمزعفرُ لا يجوز فيه الإحرام قال له رضي الله عنه إنكم أيها الرَّهْطُ أئِمَّةٌ يَقتَدِي بكمُ الناس فعلله بأنهم يُقتدى بأفعالهم كما يُقتدى بأقوالهم ولذلك قال بعض العلماء إن العالم إذا كان عاملاً اتبع الناس علمه وإذا كان غير عامل اتَّبع الناس فِعله ولم يتَّبعوا عِلمه فلم ينتفع بعلمه لا في نفسه ولا في غيره
ولما دخلت البطالاتُ واتباع الشهوات في بعض العلماء وقع الخلل في العَوَامَ لاقتدائهم بهم
في الأفعال وإن بقي منهم من يعمل - وهو الأقل - أخرجوهم إلى طريقِ التَزهّد والتّشديد
1 لعله مركب من حديثين الأول هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري وقد رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه والثاني إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف فإني أراكم من أمامي ومن خلفي رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه الهراقة مثل الإراقة وهي بمعنى صب الماء أو البول ولعلها قريبة من معنى الزحار وهو استطلاق البطن ۳ المدر الطين
٢٥٤

ويدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم موت العالم تلمة في الإسلام ۱ فموتُه الحسّي خيرٌ من موته المعنوي فإِنَّ مَوْتَه الحِسِيَّ تَبقَى مآثِرُه وقد يتأسى به النّاس وموتُه المعنوي هو الثَّلْمَةُ الحقيقية لأنه يقطع الناس بعمله السوء عن باب مولاهم فيُخافُ أن يكون الويل له لأن مولانا جلّ جلاله يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الشر وخلقتُ له أهلاً فالويل لمن خلقته للشر وأجريتُ الشر على يديه فقد فعل هذا بنفسه شرًا وجرّ الناس بالاقتداء به إلى شرّ

ويؤخذ منه جواز ذكر ما يفعله الشخص من أفعال البرّ إذا كان يعلم أنه يُقتدى به أو ما يُوصِل به حكماً أو يحصل به وجها من وجوه الخير
ولذلك قال أهل الصوفة إنه لا يجوز ذكرُ ما يَرِدُ على السادة من الأحوال إلا بين أبناء جنسهم الذين تكون فيهم الأهلية للترقي ولا تجوز بين العوام إلا لضرورة تعيّنَ عليهم فِعْلُها مثلما حكي عن بعضهم أنه كان ماشياً على الساحل فإذا بمركب قد أقبل موسقاً بالخمر لوالي الموضع وكان ظالماً لا يطيقه أحد فطلع للمركب حين أرسى وأخذ بيده عصاً وجعل يكسر كلّ جرَّة وجدها ملأى بالخمر فلم يُطِق أحد أن يقف له فمرَّ كذلك عليها إلى أن بقي له جرة واحدة فتركها ولم يكسرها ورجع فطلعت النواتية إلى الوالي فأخبروه الخبر فتعجب من ذلك كل العجب لكونه جسر على شيئه وتدّى عليه ثم إنه لما تعدى ترك تلك الواحدة فأرسل وراءه فأحضر فقال له ما حملك على ما فعلت فقال فعلتُ ما بَدَا لي فافعل ما بدا لك فقال لم تركتَ الواحدة ولم تكسرها فقال أدركتني أولاً غَيْرَة الإسلام فدَخَلتُ فكسرتُ ما كسرتُ امتثالاً للأمر فلما أن بقيت تلك الواحدة قامت معي النَّفْسُ وقالت أنتَ ممن يُغيّرُ المنكر فخفتُ أن يكونَ كسرها فيه حظ نفس فتركتها فقال الوالي اتركوه يفعل ما بدا له ما بيننا وبين هذا معاملة وإنما فعل ذلك للضرورة التي وقعت له ولا يكون ذلك من باب التزكية وقد نهى عزّ وجلّ عن ذلك بقوله فَلَا تُزَكُوا أَنفُسَكُمْ ۳
الوجه الخامس فيه دليل على جواز أن يكون في الثوب فضلة عن الضرورة ما لم تنته إلى المكروه أو الحرام يؤخذ ذلك من قوله طرف الثوب فلا يكون طرف الثوب يُسجد عليه ويبقى البدن مستوراً إلا وفيه فضلةٌ عن الضرورة لأن الضرورة هي سَترُ العَوْرَتَينِ المثقَلَة والمخفّفة وما عداهما مباح وبعضه مستحب فيحتاج إذاً لمعرفة المندوب من اللباس والمباح والحرام
۱ جزء من حديث أخرجه البزار عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نعرف مصدره ۳ سورة النجم من الآية ٣٢
٢٥٥

فأما الحرام فهو مِثلُ لُبس الحرير للذكور وكذلك اللبس للفخر والخيلاء لتحريمه ذلك
ومن
وما كان من الإزار أو الثوب تحت الكعبين لقوله ما تحت الكعبين ففي النار ۱ لبس ثوباً ليشتهر به لقوله مَن لَبِس ثوب شُهرة البَسَه الله يومَ القيامة ثوبَ ذلُّ وصَغار ثم أشعَلَه عليه ناراً وكل ما يشبه ذلك وأما المكروه فمثل تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء والتشبه بالأعاجم للنهي عنه ومثله العمائم التي ليست بذؤابة لأنه قيل إنها عمائم قوم لوط وقيل عمائم الشياطين ذكره ابن رشد ۳ في مقدماته وغيره من العلماء
والمندوب مثل ثوب العيد والجمعة لقوله له ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته 4 وما أشبه ذلك
والمباح ما اتخذه الإنسان لترفه أو للتجمّل بالقصد الحسَن بغير وجه محذور شرعاً وما في معناهما
ويؤخذ منه أن الوجه أعلى الحواس يؤخذ ذلك من قوله في موضع السجود لأنه موضع الوجه وهو أعلى الآراب التي قال أُمرت أن أسجد على سبعة آراب الوجه واليدين والركبتين وأطراف الأصابعه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

33
رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة والنسائي عن أبي هريرة والإمام أحمد والطبراني عن سمرة بن جندب
رضي الله عنهم بلفظ اخر
لعله معنى لحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ ابن رشد محمد بن أحمد بن رشد ابو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية وهو جد ابن رشد الفيلسوف له تأليف منها المقدمات الممهدات - في الأحكام الشرعية والبيان والتحصيل - في الفقه - والفتاوى واختصار المبسوطة توفي بقرطبة سنة ٥٢٠هـ/ ١١٢٦م
٤ أورده الهيثمي في موارد الظمآن / ٥٦٨/ وابن خزيمة في صحيحه برقم / ١٧٦٥/ ٥ الآراب جمع إرب العضو رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما
٢٥٦

عن
حديث كراهة النخامة في المسجد
أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي الله رأى نُخامة ۱ في القِبلة فحَكَّها بيده ورُيْيَ منه كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُني كراهيته لذلك وشِدَّتُه عليه وقال إنَّ أحدكم إذا قام يصلّي فإنّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة فلا يَبْرُقَنَّ في قِبْلَتِه ولكن عن يساره أو تحتَ قَدَمِه ثم أخذ طرف ردائه فبَزَقَ فيه ورَدَّ بعضَهُ على بعض وقال أو يَفْعَلُ هكذا
ظاهر الحديث كراهية النُّخامة في القبلة للمصلّي وجوازها تحتَ القَدَم وعن اليسار وفي طَرَف الرداء وحكها فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول رؤيته عليه السلام النُّخامةَ في القِبلة فيه دليل على أنه عليه السلام عند دخوله المسجد كان يتصفّحه بالنَّظرِ يميناً وشمالاً وأماماً ولولا ذلك لما كان يراها ولو كان
مشغولاً بما هو فيه من الحضور والترقي لما رآها
وفيه من الفقه أن نَظَرَهُ عليه السلام المسجد على طريق التعظيم له لكونه منسوباً إلى

المولى الجليل ومحبوساً على عبادته وهو أيضاً مما تحت إيالته وهو يُسأل عنه فإن كلَّ ما يكون الشخص يتصرف فيه من مال أو أهل أو وجه من وجوه التصرفات كانت المنفعة في ذلك تعود عليه أو ذلك مما تُعبّد به أعني أنه هو الذي ينظر فيه عن طريق ما كُلّفه والمنفعة فيه عامة مثل وجوب النظر على الإمام في شأن المساجد والطرقات وما أشبه ذلك والمنفعة فيها عامة وقد قال الله عزّ وجلّ في شأن المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ۳ قال العلماء رفْعُها صِيانَتُها
۱ النخامة ما يلفظه الإنسان من البلغم إيالته إشرافه أو ولايته من آل على القوم إيالة وَلِيَهُمْ
۳ سورة النور من الآية ٣٦
٢٥٧

ورفعها وصيانتها يوجب النظر لها والتأمل لئلا يلحقها خلل وسيدنا المشرع لذلك فهو
أحرَصُ الناس على ذلك فظهر ما وجهناه
ويزيد ذلك تحضيضاً قوله صلى الله عليه وسلم عُرِضَتْ عَلَيَّ أجورُ أمتي حتى القَذَاةُ يُخرِجُها الرجلُ من المسجد وهذا مما يحرّض على النظر إليه والاهتمام به فإنه لا يرى ذلك المقدار إلا بنظر
وتأمل
ويترتب على هذا من الفقه أن الإمام إذا دخل المسجد يلتفت إليه بنية الاهتمام به وكراهة أن يَحدُث فيه حَدَةٌ فيكون الإمام مأجوراً على ذلك أو أن يلقى به أذى فيزيله الإمام فهي نيّة خير ومن نوى نية خير كان عليها مأجوراً فكيف إذا كان ذلك موافقاً لفعله
وهل يكون ذلك مطلوباً لرب المنزل لكونه مسترعى عليه فبالعِلّة التي عللنا أولاً يكون ذلك لأن الباب واحد لكن في المساجد اكد لتعظيمها فإنها من الشعائر وتعظيم الشعائر من التقوى بمقتضى الكتاب ولا يكون تعظيمها لما يعظم أهل الكتاب كنائسهم وَبِيَعَهم بالبناء والزخرفة فقد جاء نهيه عن ذلك وجعله من شروط الساعة وقد ظهر في زماننا ذلك يزخرفونها في المباني والكسوات ثم يَرِدُونَها للحكايات والأكل واللغط والبيع والشراء وهذا بضد ما كان عليه والخلفاء بعده والسادة بعدهم
وهنا بحث هل يجوز إذا كانت في الجدار الذي ليس في القبلة وهل يجوز لغير المصلي وإن كانت ليست في جداره فالجواب عن الأول إن جعلنا التعليل الذي الله ل في القبلة بأن قال إنه يناجي ربه أنها العلة في الكراهة فهو يقتضي الجواز في غير القبلة
وإن قلنا إن العلة ما جعل الله عزّ وجلّ للبيوت التي نسبها إلى نفسه من التعظيم وهذا معروف من الكتاب والسنة والإجماع - فيكون ما علله عليه السلام للقبلة زيادة في الاحترام وهو الأظهر يؤيد ما قلناه قوله عليه السلام النخامة في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنُها وهذا عام في جميع أجزاء المساجد كلها من حائط وأرض وغيرهما وهو الجواب في المسألتين المتقدمتين ولهذا المعنى لما رأى بعض المباركين شخصاً يبصق في المسجد فقال له لا تأثم فجاوبه الفاعل كفارتُها دفنُها فقال له رضي الله عنه أنا أنهاك عن المعصية وأنت تجاوبني ترك الذنب خير من طلب المغفرة بالكفّارة

جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه والقذاة ما يقع في العين أو الشراب أي من الوسخ الدقيق
رواه مسلم بلفظ البزاق في المسجد عن أنس رضي الله عنه
٢٥٨

رجل من
إلا بنظر
راهة أن
لهي تية
يكون
تر من
بالبناء لك بضد
سلي
مان
ـذا
و
دـ
وقد رأيت بعض العلماء الذين يُقتدى بهم في العلم والفتوى يكره أن يبصق في مكان كان بقرب المسجد ولم يكن ذلك من رحاب المسجد ولا فنائه وكان هو قاعدا في اخره لكونه يبتدىء البصاق في المسجد وإن كانت تلك النّخامة لا تقع فيه خيفة من ذلك الشيء اليسير الذي لا ينفك يخرج معها غالباً مثل رؤوس الإبر وقد تقع في المسجد ولا تصل حيث تصل النخامة فأعجبني ذلك الاحترام منه وفي الحديث الذي أوردناه شاهد على المنع
وهنا بحث وهو لم قال دفنها ولم يقل تغطيتها فالجواب عنه لو قال تغطيتها لكان
الضرر ببقائها أكثر بدليل أنه إذا غطاها وخرج جاء غيره فربّما قعد على موضعها أو سجد عليها فيلحقه منها بلل في ثوبه وكذلك في وجهه وأكثر الناس لا يحتمل ذلك وربما يكون ذلك سبباً أن يقع له كراهية في المسجد وقد يتخلف عنه وقد جاء أن الذي قلبه متعلق بالمساجد من السبعة الذين يظلهم الله تحت عرشه يوم القيامة وكيف تكون حال من تقع له فيها كراهية يخاف عليه
وفيه علة أخرى ربما في أيام الحر إذا كثرت قد يتولد منها رائحة إذا كانت مغطاة تغطية يسيرة يتأذى بها وقد نُهينا أن ندخل المسجد برائحة قذرة وربما يجتمع لتلك الرائحة الذباب واجتماعه مما يتأذى منه فيتضاعف الضرر بذلك أكثر مما كان أولاً وقد تكبر من أجل ذلك الخطيئة وصاحبها لا يشعر وإذا كان الدفن فلا يقع بها هذا الضرر لأن الدفن قد علم بالعرف أنه التعمق في باطن الأرض وإكثار التراب على الشيء المدفون فإن بإكثار التراب على الشيء المدفون تندفع مادة أذيته ويكون كثرة التراب عليه بحسبه من كبر جرمه أو سيلانه فإذا كثر عليه التراب انقطعت مادة الرائحة ومادة البلل الذي يكون فيه وغير ذلك من المستقذرات ويبقى وجه الأرض على حاله من الحسن والطهارة
فلهذه العلة - والله أعلم - أخبر بـ دفنها ولم يقل بـ تغطيتها وهذا الدفن إذا كان المسجد تراباً رخواً أو رملاً فأما إن كان أرضاً صلبة أو مبلطاً أو مفروشاً بالحصى فممنوع لعدم
التكفير وهو الدفن
الوجه الثاني قوله فحكها بيده فيه من الفقه وجوه منها الدليل على تواضعه عليه السلام الله سبحانه ومنها أنه أكبر في النهي وأبلغ في احترام المساجد
ومنها أن الفاعل للبر لا ينبغي أن يزهد في شيء منه لأنه إذا كان إخراجه مثل القذاة يكون مأجوراً فيه فكيف بمثل هذه ومثل هذا ما ذكر عن بعض الصحابة أن ابناً وأباه اقترعا على من يخرج مع سيدنا منهما في بعض غزواته فخرجت قرعة الابن فقال له الأب ايزني بها يا بني فقال له الجنّة هذه يا أبتاه لا أوثرك بها فخرج فاستشهد بين يدي رسول الله
٢٥٩

ومنها أيضاً الحثّ على تكسب الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً منها وقد قال مولانا جل جلاله ﴿ وَلَا تَمْتُن تَستَكير ۱ قال بعض العلماء في معناه أي عن الخير وتقول معي
ما يكفيني والخطاب له عليه السلام والمراد أمته
الوجه الثالث قوله وَرُني منه كراهية أو رئي كراهيته لذلك هذا شك من الراوي لما رأى من قرائن الأحوال التي تدل على أحد المحتمَلات أو تنبيه منه على مجموعها لأنه احتمل الأمر ثلاثة وجوه ويترتب على كل وجه منها وجه من الفقه والوجوه أحدها أن يكون وجد هو الكراهية لذلك فرئيت في وجهه ويترتب على ذلك من الفقه أن المؤمن إذا رأى مكروهاً تغير لذلك ويكون تغيره بقدر إيمانه فلمّا كان سيدنا و أكثر الناس إيماناً تغير من ذلك المكروه حتى رئي في وجهه
وهنا بحث هل كان ذلك التغير لما انتهك من حرمة القبلة كما علله عليه السلام أو لما يترتب على فاعله من الإثم وكان هو و قد طبع على الرّحمة للعالمين كافة لقول الله عزّ وجلّ فَلَا نَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَتٍ فكيف على المؤمنين أو على مجموعهما۳ ﴿
وهو الأظهر
ومثل ذلك ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ
من المؤمنين واكدها ما يكون في الدين لأنها الخسارة العظمى فكيف بمجموعهما ٤ وفي مثل هذه الصفات المباركة فاق أهل الصوفة غيرهم يروى من مثل هذا أن بعضهم كان له شريك في بعض الأشياء فطلبه يوماً فقيل له إنه على مخالفة فقال هكذا يكون وأنا حي فتوضأ ودخل الخلوة وعهد أنه لا يخرج حتى يشفعه الله فيه فلما فرغ ذلك الشريك من مخالفته قيل له إن شريكك يطلبك فأتاه فقيل له إنه دخل الخلوة من أجلك وما كنت عليه فقال لهم قولوا له يخرج فوالله ما أعود لها وتاب وحسنت حالته
واحتمل أن يكون أظهر الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من إعلام الدين فيلزم على ذلك إظهار الكراهية عند رؤية شيء من المكروهات وهي السنّة
۱ سورة المدثر الآية ٦ سورة فاطر من الآية ۸
۳ الضمير يعود على ما انتهك من حرمة القبلة وعلى ما يترتب على فاعله من الإثم
٤ الضمير يعود على ما ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ من
المؤمنين
٢٦٠

ولانا جل
ـقـول معي
ي لما رأى تمل الأمر
هو
روهاً تغير
المكروه
أو لما
الله عز

ـهما ٣
ـلى أحدٍ
ـهم كـ
كان
نا حتي
خالفته
فيلزم
حد من
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أنه وجد الكراهية بوضع الطبع المبارك وتعمد الزيادة فيها ليقتدي
به مَن وَجَدَها ومن لم يجدها وهو أظهر الوجوه
ويترتب على ذلك من الفقه أن وجود الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من علامة الدين والإيمان وقد نص الله على ذلك في الحديث في تغيير المنكر فقال عند عدم الاستطاعة فَمَنْ لم يستطع فبقليه وذلك أضعَفُ الإيمان ۱ وتكون الزيادة فيه سنة واقتداء به ولأجل هذا أشار الراوي كما تقدم
وقوله وشدته عليه هذا الضمير يعود على الفاعل لها أو على فعل المكروه نفسه
الوجه الرابع قوله إذا قام يصلّي فإنَّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة الشك هنا من الراوي فعلى القول بالمناجاة فما هي هنا لأن المناجاة لغةً كلامُ سَرِ بين اثنين فصاعداً وهنا المتكلم واحد فكيف تكون المناجاة وقد بيّن هذا المعنى بعض السادة المتبعين على لسان العلم والسنة فقيل له كيف حالك فقال بخير أنا بين أمرين في العبادة فتارة أناجي مولاي بدعائي وتسبيحي وتارة يناجيني بتلاوتي كتابه فأنا القارىء وهو المخاطِبُ لي
الوجه الخامس قوله صلى الله عليه وسلم فإنما يناجي ربه فيه دليل لأهل السنّة الذين يقولون إن القرآن كلام الله وإن القراءة كلام القارىء والمتْلُو كلام الله والصفة لا تفارق الموصوف فعلى هذا تكون الصلاة مناجاة حقيقةً فإنها مشتملة على قراءة وتسبيح ودعاء فالتسبيح والدعاء من العبد إلى الرب والقراءة من الرب إلى العبد المنيا التعليله ولهذا المعنى يقول أهل الصفاء والأحوال المباركة إنهم إذا تلوا بالحضور خرجوا بقوة اليقين والتصديق عن حركات الحروف وسمعوا بغير واسطة وهذا لا يعرفه إلا أهل الذوق الذين سلكوا على حدود السنّة وقليل ما هم
الوجه السادس هو قوله عليه السلام ربّه بينه وبين القبلة فهذا دليل على أن دعوى أهل التجسيم والحلول باطلة وأن الحلول والتحيّز في حقه تعالى مستحيل فإنه لو كان جلّ جلاله كما زعموا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً - بالحلول على العرش فكيف يكون هناك ويكون بين المصلي وبين قبلته وكم من المصلين في الزمن الفرد في أقطار الأرض مختلفين متباينين من جهتين من جهة التباعد وجهة تضاد الأقطار فيلزم على ذلك تعداده أو تجزؤه وهذا محال بالإجماع منا ومنهم فلم يبق إلا التأويل فكما نتأول هنا نتأول في غيره من الآثار والآي
۱ جزء من حديث رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
٢٦١

فنرجع الآن لما فيه من الفائدة - أعني في هذا اللفظ - وهو قوله بينه وبين القبلة هذه الكناية تنبىء عن قُربِ خير المولى إلى المصلي وعظم إحاطته به لأنه إذا كان بينه وبين القبلة لم يغب عنه من حركاته ولا سكناته شيء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ ۱ كناية أيضاً على أن إحاطته بالأشياء جلّ جلاله جزئياتها وكلياتها على قرب أو بعد أو سرّ أو علانية على اختلاف العوالم على حد واحد لا يغيب عنه سبحانه منها شيء

الوجه السابع فيه من الحكمة أن العبادة لمّا كانت من محدث متحيز والمعبود غير متحيّز ولا محدث ـ فلا يمكن للمتحيّز الفاني التساوي ولا القرب من الجليل القديم غير المتحيز وهو الغني عن عبادة العابدين وهم المحتاجون إليه وإلى خدمته - أقام لهم أعلاماً للتعبد محدثةً من جنسهم ونسبها إلى ذاته الجليلة تشريفاً ورفعة لها ولعباده وقبل ذلك منهم ورضي به عنهم ولذلك قال تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ اللهِ ٢ وذلك لما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وقد كان مات ناس ممن صلوا إلى بيت المقدس ولم يلحقوا الصلاة إلى بيت الله الحرام فشق ذلك على أهلهم لما غلب على ظنونهم من أن الجدار هو المقصود فأنزل الله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا الله معناه حيثما قصدتموه بالتعبد والامتثال وجدتموه يتفضل عليكم ويتقبل
أعمالكم ويحسن الجزاء عليها
فلما نسبت تلك الجهة إليه عزّ وجلّ وجب بمقتضى الحكمة أو ندب أن تحترم أشدّ الحرمة من أجل ما أضيفت إليه ولذلك قال بعض المحبين
وما حُبُّ الدّيار شَغَفْنَ قَلبي ولكن حُبُّ مَن سَكَن الدّيارا ٣
فحب مخلوق لمخلوق من أجل حلول محبوبه في تلك الديار عظم الديار فأهل التحقيق من أجل الإضافة الشريفة عظموا كل علم من أعلام تلك الإضافة العلية ولذلك كان أهل المعاملات يتنعمون بأنواع العبادات كما يتنعم أهل الدنيا بالشهوات فلما كان المسجد من أجل الحرمة التشريفية وقعت الكراهية والمنع ولو كان غير ذلك لكان الحد الضرب أو القتل
1 سورة ق من الآية ١٦ سورة البقرة من الآية ١١٥
۳ هذا البيت منسوب إلى قيس بن المُلوّح العامري المشهور بـ مجنون ليلى وقبله
أمر على الديار ديار ليلى
وقال القدماء هما بيتان لا ثالث لهما انظر الخزانة للبغدادي ١٦٩/٢ وتزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق أقبل ذا الجدار وذا الجدارا للأنطاكي ص ۱۷ وديون الصبابة لابن أبي حجلة التلمساني ص ١٦ وديوان مجنون ليلى - جمع وتحقيق عبد السلام أحمد فراج ص ۱۷۰
٢٦٢

ـده
ية
6
وهذا المعنى أيضاً تأكيد للحجة التي أوردنا قبل على أهل التحييز والحلول تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً
الوجه الثامن قوله عن يساره فيه دليل على أن حرمة اليمين مستصحبة في كل الوجوه الوجه التاسع قوله أو تحت قدمه فيه أيضاً دليل على ترفيع اليد على القدم إذ لم يقل أو
في يده
الوجه العاشر قوله ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا فيه وجوه من الفقه منها الدليل على طهارة النخامة لكونه عليه السلام جعلها في ردائه وأمر المصلي أن يفعله وإنما منعها من القبلة لأنها مما يُستقذَر وليس يلزم أن كل ما
يُستَقْذَر نَجِسٌ
الوجه الحادي عشر فيه رَدّ على الذين يقولون إن كل ما تستقذره النفس حرام واحتجوا
1,
بقوله تعالى وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْتَ ۱ وهذا حجة عليهم وفيه التسوية بين الثلاثة وجوه المذكورة لأنه خُيْرَ فيها إلا إذا كانت الاثنتان بتلك الشروط المذكورة قبل وإلا فلم يبق إلا طرف الرداء ليس إلا
وهنا بحث هل يفعل ذلك أعني جَعلها في الرداء دون طيّ عليها وحك لها فنقول لا ينبغي ذلك لوجهين أحدهما وهو كافٍ فعله عليه السلام ذلك فإنه جاء على وجه التعليم ووجه آخر أنه إذا لم يفعل ذلك جاء البحث فيه كالبحث في الدفن سواء بل هذا أشد لأنه يلحق الشخص منه مُثلَةٌ في زيّه وهي ممنوعة ويستقذره من يراه وقد يتأذى به وإذا فعل كما فعله عليه السلام لم يبق لها أثر وكانت مثل الدفن سواء فذهب أثرها
وهل يكون ذلك في الرداء ليس إلا فالجواب لا فرق بين الرداء وغيره من الثياب وليس أيضاً كل الناس يجد الرداء والفائدة إذا فعلت في أي الثياب فقد حصلت
وهنا بحث لم فعل عليه السلام هذا بردائه وقال أو يفعل هكذا ولم يقله دون فعل فالجواب أنه فعل ذلك ليبين كيفية الفعل لأن التعليم بالفعل والمثال أبلغ من القول وَحْدَه ويترتب على ذلك من الفقه حسن المبالغة في التعليم وهو من السنة
ولوجه آخر وهو أنه لو قاله عليه السلام ولم يفعله لكان بعض الناس يعاف ذلك أو يعيبه
1 سورة الأعراف من الآية ١٥٧
٢٦٣

ففعله عليه السلام ذلك يذهِب هاتين العلتين ويترتب على ذلك من الفقه أن التقبيح والتحسين إنما هو بالشرع لا بالعقل
الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن رمي النخامة خير من بلعها يؤخذ ذلك من أمره عليه
السلام برميها على أحد تلك الثلاثة الوجوه ولو كان بلعها أحسن لقال أو يبلعها لكن بقي هنا بحث آخر هل يكون بلعها ممنوعاً أو مكروهاً فإن قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن النهي يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها حراماً ويكون فيه حجة لمن يقول إنها تفطر الصائم وإن قلنا إنّ النّهي لا يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها مكروهاً وهل يكون بلعها مفسداً للصوم أم لا يقتضي الخلاف
والله الموفق للصواب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٢٦٤

-٧-
حديث حبه صلى الله عليه وسلّم التَّيَمُّن
عَن عائشةَ رضي الله عنها قالت كانَ النبي يحبّ التيمن ما استطاع في شأنه كُلَّه في طهوره وترجُله وتنقله
*
ظاهر الحديث حبّ النبيُّ لا الله اليمن في شأنه كله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قولها كان فيه دليل على أن إخبارها بهذا الحديث كان بعد وفاته الوجه الثاني فيه دليل على أن عدم الاستطاعة عذر في ترك المستحبّ وكذلك في الفرائض فإذا كان في الفرائض فمن باب أولى
وهنا بحث فإذا كان الأمر معلوماً في الفرائض هكذا فلم ذكرت هذا في المستحبّ فالجواب أن إخبارها باستحباب ذلك في كل الوجوه حتى توفي عليه السلام إنما هو تأكيد في فعل المستحبّ لأنه لا يمنعه منه إلا ما يمنعه من الفرض لأن الدِّينَ مطلوبٌ فَرْضُه ونفله وندبه على حد سواء كلّ منه على جهته وأنه لا يترك ذلك اختياراً وهو أصل كبير في الفقه وقد تقدم مثله الوجه الثالث قولها في شأنه هذا أمر مجمل ثم ذكرت ثلاثة وجوه فما الفائدة في ذلك فالجواب هو أنها لما ذكرت الشأن وهو أمر مجمل - كما ذكرنا - فلو سكتت واكتفت بذلك لاختلفت التقديرات فيه فلما أتت رضي الله عنها بذكر تلك الثلاثة كان فيه دليل على فقهها الوجه الرابع فيه زوال الإلباس لأنها ذكرت الطُّهور وهو أعلى المفروضات لأنه عليه السلام قال فيه إنه شَطْرُ الإيمان ۱ وذكرت الترجُل وهو أَكَدُ السُّنَن وذكرت التنقل وهو
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن مالك الأشعري رضي الله عنه بلفظ الطهور شطر الإيمان الترجل المشي على الأقدام أو النزول عن الدّابة

٢٦٥

من أرفع المباحات فبينت أنه لا الله وكان على ذلك الشأن في جميع المفروضات والمستحبّات والمباحات فحصرت أفعاله عليه السلام في كل الأشياء
ويترتب عليه من الفقه أن من الأحسن في الإخبار والتعليم الإجمال أولاً من أجل الحفظ ثم التفصيل بَعْدُ من أجل التفهيم
وهنا بحث في قولها كان يحب لِمَ عبّرت بهذا وما الحكمة في حبه فالجواب عن كونها عبرت بذلك لأنها تشعر أن ذلك ليس مِمّا أَمَرَ به من أجل ألا يعتقد أحدٌ أنها مِمَّا فُرِض واحتمل أن تكون مما سَنَّ فأزالت بقولها يحبّ كل الاحتمالات
وأما ما الحكمة في كونه الله يحبه فإنما كان ذلك إيثاراً لما آثره الحكيم بحكمته والله أعلم وذلك لما رأى عليه السلام ما فضَّل الله اليمين وأهله وما أثنى عليهم فأحبَّ هو عليه السلام ما أثره العليم الحكيم فيكون من باب التناهي في تعظيم الشعائر حتى يجد ذلك وُلُوعاً في فؤاده المبارك فيكون ذلك دالاً على قوة الإيمان
فمن وجد حباً لذلك كما وجده فليشكر الله على ما منحه من ذلك وإن لم يجد فيتَّبِعُ ويستعمل أسبابه ويتشبه بالمحبين ولذلك قال بعض الحكماء إن التشبه بالكرام فلاح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى شخصاً قرأ سجدة كهيعص وسجد فقال له هذا هو السجود فأين البكاء إذا لم تبكوا فتباكوا
الوجه الخامس يترتب على ذلك من الفقه أن التشبه بأهل الخير من الخير إذا كان حباً فيهم من أجل الله عزّ وجلّ وأن التشبه بأهل الشر من الشرّ

يعضد ذلك ما نَهَى عنه الا الله من التشبه بأهل الكتاب وقد وَرَد عنه عليه السلام من تشبه بقوم فهو منهم 1
مَنَّ الله علينا بأحوالهم حالاً ومقالاً
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان
رضي الله عنهما
٢٦٦

حديث المسافر إذا قدم من سفره يبدأ بالمسجد
عن كعب بن مالك رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا قَدِمَ من سَفَرٍ بَدَأ بالمسجِدِ

فصَلَّى فيه
ظاهر الحديث أن من السنَّة إذا قَدِم المسافر من سَفَرٍ أن يبدأ بالمسجد قبلَ منزله والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل هذا في كل وقت أو في بعض الأوقات فالجواب أنه إذا كان في الأوقات المنهي عنها التي لا يمكن الصلاة فيها فلا يستحبّ إذ ذاك دخوله للبلد من أجل عدم الصلاة التي من أجلها تؤتى المساجد لأنه إن كان المسافر في سفره على السنّة فلا يكون دخول المصر الذي فيه منزله إلا في وقت يجوز له فيه الصلاة لأن النبي لم يكن يدخل المدينة إذا قدم من سفره إلاّ ضحوة النهار ۱ وكان ينهى أن يأتي أحد أهله طروق ٢ - أي ليلاً - وكان أيضاً إذا خرج ركع
في المسجد وحينئذ يخرج وهل ذلك تعبُّد أو معقول المعنى فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فالجواب - والله أعلم - أنه على طريق التبرك وإظهار الافتقار لا لأنه كان إذا خرج إلى السفر يقول أنتَ الصاحب في السَّفَر والخليفةُ في الأهلِ والمالِ ۳ وسفره عليه السلام لم يكن إلا في جهادٍ أو حجّ وإذا رجع قال ايبون تائبون عابدون لربنا حامدون صَدَقَ الله وعده ونَصَر عَبْدَه وهَزَمَ الأحزاب وحده ٤ وإعلانه عليه السلام بالقول عند الخروج والدخول إظهار
۱ رواه ابن جرير عن كعب بن مالك رضي الله عنه رواه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه الإمام مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ۳ رواه الترمذي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه ٤ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

٢٦٧

للتعلق بالله واللَّجا والتبرؤ إلى الله في الأفعال والأقوال كذلك تفضيله عليه السلام بيتَ ربَّه على سائر الأماكن فيكون الحالُ مثل المقال
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه أن المؤمن ينبغي أن يكون فعله يُصَدِّق قولَه وقد ذم الله سبحانه المؤمنين الذين ليسوا كذلك بقوله يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱
الوجه الثالث فيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بأفعاله عليه السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من إخبار هذا السيّد بذلك فلو لم يكن كذلك لما كان لإخباره بذلك فائدة ولا كان لروايته أيضاً فائدة
وقد اختلف العلماء في أفعاله الله هل تُحمل على الوجوب أو على الندب أو على التوقف حتى يدل الدليل على أحد الوجهين ولم يقل أحد بترك الاقتداء به فيها وترك العمل بها الوجه الرابع في الحديث دليل على التبرك بكل ما جعلت له حرمة وترفع إلا أنه يكون ذلك على لسان العلم فيؤخذ وجه التبرك من كون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ بالمسجد تبركاً فكذلك كلّ ما جَعَل الله فيه وجهاً ما من الخير والدليل على أن ذلك يكون على لسان العلم أنه لم يفعل فيه إلا الصلاة التي من أجلها رُفِعَ فكذلك يلزم في غيره ألا يكون تعظيمه والتبرك به إلا على
الوجه المشروع ولهذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر الناس احتراماً لما جعل له حرمة وأن يكون ذلك الاحترام على لسان العلم - كما تقدّم - حتى إنه يذكر عن بعض الأكابر ۳ منهم أنه دخل المسجد فنسي وقدم رجله اليسرى فوقع مغشياً عليه لشدّة الحياء من الله لكونه وقعت منه مخالفة للسنة في دخول بيت ربه لأن السنة في دخول المسجد تقديم الرّجل اليمنى وقد قال العلماء من نسي فقدم اليسرى أُخْرِجَ ليدخل باليمنى وهو معذور بالنسيان فانظر إلى احترام هذا السيد كيف كان وهو فيما وقع منه معذور على لسان العلم فناهيك في غيره
وفقنا الله لما مَنَّ به عليهم وأسعدنا به بمنّه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الصف الآية ٢
رُفع بُني وأنشيء ومنه قوله تعالى و في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُقِ والأصال رجال لا تلهيهِمْ نِعَرَةٌ ولا بيع مَن ذِكْرِ اللهِ سورة النور ٣٦ - ٣٧
۳ يريد به الشيخ الجليل أبا علي بن السماط كما بين ذلك ابن الحاج في كتابه المدخل ١٨٤/٣
٢٦٨

حديث صلاة الملائكة على المصلي ما دام في مصلاه

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنَّ الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدِث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحَمْهُ
ظاهر الحديث دوام صلاة الملائكة على المصلّي ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه وتستغفر له وتترحم عليه والكلام عليه من وجوه
من حيث
الوجه الأول هل هذا على عمومه في كل مصلِّ كانت صلاته تامة أو غير تامة فإن نظرنا اللغةُ قلنا لكل مصل وليس بالقوي وإن نظرنا من جهة الشرع لماذا جعلت الصلاة وما هي الصلاة التي سماها الشارع و لا صلاة فإنه قد قال للذي لم يتم ركوعه ولا سجوده في الصلاة ارجع فَصَلَّ فإنك لم تُصَلَّ ۱ فجعله مُصلّياً لغةً ولم يجعله مصلّياً شرعاً وقال عليه السلام فيها إذا كانت الصلاة غير مقبولة طويت كالثوب الخَلَق وضرب بها وجه صاحبها وقال عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ۳
له
فمن لم يصل شرعاً وضُرب بصلاته وجهه ولم يزدد من الله إلا بعداً كيف تدعو الملائكة أو تستغفر له هذا محال شرعاً وعقلاً فمن جهة الشرع قوله تعالى أَوْلَتَيكَ يَلْعَمُهُمُ اللهُ عَهُمُ العِنُونَ ٤ فمن كان الله يلعنه واللاعنون كيف يُستغفر له ومن جهة العقل فمن
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه مروي بالمعنى لجزء من حديث أخرجه أبو داود والطيالسي والبيهقي في الشعب عن عبادة بن الصامت رضي الله
عنه والخَلق البالي
۳ رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤ سورة البقرة من الآية ١٥٩
٢٦٩

يقتضي
عليه السـ
في
عمله العقاب كيف يكون له دعوة من الملائكة أو استغفار فيكون قوله عليه مصلاه الذي صلّى فيه في حق المصلّي للصلاة الشرعية المثاب عليها لا التي تلعنه وبقي هنا بحث هل من قبل منه بعض صلاته ولم يقبل البعض هل يتناوله ذلك الخير أم لا فالظاهر - والله أعلم - أنه يُرجى له ذلك بدليل أنه يوم القيامة تُكمّل له صلاته من نافلته فهذا من أثر ذلك الدعاء لأنه عزّ وجلّ تفضَّل عليه وقبل مكانَ ما نَقَصَه من الفرض نفلاً يؤخذ ذلك من قولهم اللهم اغفِرْ له لأنه لا تكون المغفرة إلا لخلل وقع ومن صيغة قولهم اللهم ارحمه دل على أن هناك عملا يوجب الرحمة
الوجه الثاني فيه دليل على فضيلة الصلاة على غيرها يؤخذ ذلك من كون الملائكة تبقى تستغفر له بعد فراغه منها وإن كان في شغل آخر ما دام في موضع إيقاعها فيه ولم يأت مثل ذلك
في غيرها من العبادات
الوجه الثالث فيه دليل لمن يُفضّل الصالحين من بني آدمَ على الملائكة لأنهم يكونون في
أشغالهم والملائكة تستغفر لهم
وهنا بحث في قوله في مُصَلاهُ هل يعني به الموضعَ الذي أوقع فيه الصلاة الذي هو موضع سجوده وقيامه أو البيت أو المنزل الذي جعله لمُصَلاه فالجمهور على أنه موضع سجوده وقيامه وقال بعضهم - وأظنه القاضي عياض ۱ ـ إنه البيت الذي اتخذه مسجداً لصلاته وإن لم يجلس في الموضع الذي أَوْقَعَ فيه الصلاة مثاله أنه إذا صلّى في المسجد ثم انتقل من الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد أنه يبقى تدعو له الملائكة وهو قول كثير بين مُجمع عليه
وقول واحد
نكرة
الوجه الرابع قوله ما لم يُحْدِث هو الحَدَث الذي ينقض الطهارة
وهنا بحث هل ذلك في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً الظاهر ذلك لأنه أتى بها
الوجه الخامس فيه دليل على أن السنّة في البشرى أن تكون بالأقل ثم تختم بالأعلى لأنه أبلغ في المسرّة يؤخذ ذلك من إجماله عليه السلام البشارة أولاً وتبيينها آخراً لأن الملائكة احتمل أن يكون دعاؤهم بالأعلى من الأمور أو الأقل لكن حصل بذلك سرور لأنه زيادة خير والذي أتى في التفسير هي المغفرة والرحمة فمن غُفِرَ له ورُحِمَ فهي أعلى الجوائز
۱ القاضي عياض ترجمته في الحديث ۷۸

فهذا
ذلك
دل
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تتبعها طاعة أخرى فهي مدخولة ۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تبعها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرم مواضعَ الخير

يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظا
فالتّيسير منه عزَّ وجلَّ للخير من علامة الخير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
2/6
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
في عقله أو حَسَبه دَخَل
۷۱

سلام في
خير أم
فهذا
هذ ذلك
نه دل
تبقى
ذلك
في
هو
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تَتْبَعُها طاعة أخرى
فهي مدخولة۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تَبِعَها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرِم مواضعَ الخير
يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظًّا فالتيسير منه عزّ وجلَّ للخير من علامةِ الخير
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

3
26
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
۷۱
في عقله أو حَسَبه دَخَل
ده

- قال ابن سيرين
حديث سجود السهم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العَشِيِّ ١ سمّاها أبو هريرة ولكن نَسيتُ أنا - قال فصلى بنا ركعتين ثم سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبانُ ووضع يده اليمنى على اليسرى وشَبَّك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفّه اليسرى وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد فقالوا أقُصِرت الصّلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن

يكلّماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين ٣ قال يا رسول الله أنسيت أم قُصِرت الصّلاة قال لم أَنسَ ولم تُقصَر فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا٤ نعم فتقدم وصلّى ما ترك ثم سلّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبّر ثم كبر وسجَدَ مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلّم فيقول نُبِّتُ أنّ عمران بن حصين ٥ قال ثمّ سَلَّمَ
ظاهر الحديث جواز العمل القليل في الصلاة والكلام القليل لا يمنع من إتمامها إذا كان
۱ ابن سيرين محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء إمام وقته في علوم الدين بالبصرة تابعي مولده ووفاته في البصرة وكان فقيهاً وراوية للحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا توفي سنة ١١٠ هـ / ٧٢٩ م
السَّرَعان أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ۳ ذو اليدين سترد ترجمته في الوجه العشرين من شرح هذا الحديث وسيميز بينه وبين ذي الشهادتين ٤ فقالوا الضمير عائد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عمران بن حصين من علماء الصحابة كانت معه راية خزاعة يوم فتح مكة وبعثه عمر إلى أهل البصرة لِيُفقههم وولاه زياد قضاءها وتوفي بها وهو ممن اعتزل حرب صفين له في كتب الحديث ١٣٠ حديثاً
0
توفي سنة ٥٢ هـ/ ٦٧٢م

ذلك على وجه النسيان أو عامداً مع من نَسِي إذا كان ممن صلاته مرتبطة بصلاته كإمام مع مأموم
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن السلام ساهياً لا يُخرج من الصَّلاة يؤخذ ذلك من قوله فرجع وأتم ما بقي ولم يذكر أنه كبر
الوجه الثاني فيه دليل على أن الإمام يرجع لكلام الجماعة ولا يرجع لكلام الواحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أكما يقول ذو اليدين ولما أخبره أبو بكر وعمر رجع إلى قولهما وإنما قلنا إن الإخبار كان من أبي بكر وعمر ولفظ الحديث على العموم من جهة ما تعطيه قوة الكلام لأن راوي الحديث اعتذر أولاً عن سكوتهما لهيبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان غيرهما الذي
كان منه الإخبار لَذَكَره واعتذر عنهما ثانية فهذا يظهر ما خصصناه أنّ هذا الإخبار كان منهما
الوجه الثالث فيه دليل على التسليم لأهل الفضل فيما فعلوه لمن لم يعلم أهم على الصواب في ذلك الأمر أم ليس يؤخذ ذلك من خروج السَّرَعان وهم يقولون أقصرت الصلاة ولم يعتب عليهم النبي الله ولأن النسخ في حياته عليه الصلاة والسلام ممكن وأما الغَيْر فمستحيل فلا يُسَلَّم له إلا فيما لم يكن خَرْقاً للإجماع وأما إذا أمكن له تأويل سُلّم له على أحد المحتمَلات إن كان غير مقطوع به
الوجه الرابع يؤخذ منه مراجعة المفضول للفاضل إذا رأى منه ما لا يعرفه إلا أنه يكون بأدب يؤخذ ذلك من مراجعة ذي اليدين النبي ا و بذلك الأدب
الوجه الخامس يؤخذ منه إكبار ذي الفضل وإن رأى منه ما لا يعرف إلا أن الرائي تلزمه ملازمته حتى يتبين له ما صدر منه على أي وجه يُحْمَل يؤخذ ذلك من فعل أبي بكر وعمر لأنهما عَلِما ما عَلِمه ذو اليدين إلا أنّهما حملتهما الهيبة له على ألا يكلّماء وحملهما ما تزايد من الأمر على ألا يفارقاه حتى يعرفا الحكم ويدل على جواز ذلك كله تسليمه للكل في صلاته ولو كان أحد الأحوال غير جائز لقال في ذلك شيئاً لأنه المشرع ولا يؤخّر البيان عن وقت الحاجة الوجه السادس فيه دليل على أنه إذا سأل الفاضل المفضول هل وقع منه شيء فيه خلل أن يخبره بما وقع كما وقع يؤخذ ذلك من سؤال رسول الله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
فأخبراه بما وقع
۱ يقصد المؤلف رحمه الله أن النسخ في حياته ولا خلاف فيه وادعاء النسخ من غيره يقبل من أهله ما لم يكن فيه خرق لإجماع أو مخالفة لمقطوع به

من
الوجه السابع فيه دليل على أن القدرة تفعل ما شاءت مع إبقاء الحكمة يؤخذ ذلك نسیان محمد و في هذا الموضع وقد كان من شيمه المباركة أنه عند النوم تنام عينه ولا ينام

قلبه ١ وهنا وقت الحضور نسي بعض الصلاة لكن نسيانه هنا لوجهين عظيمين أحدهما قد نص هو عليه وهو قوله عليه السلام إنَّما أَنْسَى أو أُنْسَى لأَسُنَّ ٢ فلما كان هو عليه السلام المشرع والمقتدى به وله الأجر في كل الأعمال التي يُقتَدَى به فيها إلى يوم القيامة جاء النسيان هنا أرفعَ من الحضور فهي في حقه تكرمة


وهذا النسيان يُحتاج فيه إلى بحث وهو ما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى وما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى أو أُنْسَى
والجواب إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن تظهر عليه السلام عليه أوصاف البشرية وبظهور أوصاف البشرية عليه يثبت أن تلك الأمور الزائدة على ذلك دالّة على خصوصيته عليه السلام ورفع منزلته
وإن كان على معنى قوله عليه السلام أو أُنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن القدرة تُجْرِي الخيراتِ والأحكام على يديه عليه السلام بالأقوال والأفعال باختياره وبغير اختياره ليظهر لذلك قدر العناية به وتصديقاً لما قاله وتحدّى به وادّعاه
لذلك لم يقع منه عليه السلام النّسيان إلا في ثلاثة مواضع في الأفعال قدر ما احتاج الحكم إليه وهو هذا الحديث وقام من اثنتين وقام إلى خامسة وفي الأقوال مرة قدر ما احتاج الحكم إليه وهو أنه عليه السلام أسقط آية من سورة المُلك ولم يقع منه نسيان غير ما ذكر
والوجه الآخر وهو بالتقدير من حالة استغراقه عليه السلام في الحضور والأدب حتى ذَهَلَ عن العدد
الوجه الثامن فيه دليل على أن تبيين الحكم بالفعل أرفعُ منه بالقول ولولا ذلك لكان حكم في الشهر بالقول كما قال عليه السلام مَن نَسِي شيئاً في صلاته فَلْيَبْنِ على اليقين ۳ الوجه التاسع فيه دليل على لطف الله بعبيده ورفقه بهم يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام جعل تعليمه حكم السهو لأمته بالفعل ولو عَلَّمَهم بالقول لكان كافياً لكن لما كان الذي يسهو
۱ هو معنى لحديث تقدم تخريجه في الحديث رقم ۰ رواه الإمام مالك في السهو بلفظ اخر
۳ هو معنى الحديث أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه
٢٧٤

بعده من أصحابه رضي الله عنهم والمُبارَكين من أمته يجدون لذلك حُزناً في أنفسهم لكونهم وقع منهم في أجَلّ العبادات ما لم يقع من نبيهم فجاء ۱ فعله عليه السلام لهم بالتعليم من باب إذهاب الحُزْن عنهم وهو عين الرفق والرحمة
الوجه العاشر فيه دليل على فضل الصحابة رضي ! عنهم وتحريهم في النقل يؤخذ ذلك من قوله إحدى صلاتي العشي وتبرئة صاحبه من النسيان وإضافته إلى نفسه كما وقع الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز القيام إثر الصلاة يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم فقام فساقه بالفاء التي تعطي التعقيب والتّسبيب
الوجه الثاني عشر فيه جواز جعل الشيء النظيف في المسجد ما لم يكن مؤبداً يؤخذ ذلك من إخباره أن الخشبة كانت معترضة في المسجد
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاتكاء في المسجد على ما يجوز الاتكاء عليه يؤخذ ذلك من إخباره بأنه اتكأ على الخشبة
الوجه الرابع عشر يؤخذ منه جواز التشبيك بين الأصابع يؤخذ ذلك من قوله شبك بين
أصابعه
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز وضع اليدين بعضهما على بعض يؤخذ ذلك من الإخبار عنه عليه السلام أنه جعل يديه بعضهما على بعض الوجه السادس عشر يؤخذ منه كثرة اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بجميع أحوال النبي وحبهم فيه يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان فلولا كثرة اشتغالهم به لما كانوا ينظرون إلى مثل هذا أو غيره
الوجه السابع عشر يؤخذ منه عدم الحكم بالمحتمل يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان لأنه رأى صفة تشبه صفة الغضب وقد لا يكون هو عليه السلام في ذلك الحال غضبان بل يكون مشغولاً فكره في شيء آخر فلم يقطع بشيء محتمل
الوجه الثامن عشر يؤخذ منه جواز وضع الخدود على الأيدي يؤخذ ذلك من إخباره أنه
جمل خده على ظهر كفه وقوله وخرجت السرعان هم الذين سارعوا إلى الخروج الوجه التاسع عشر فيه دليل على جواز تسمية الشخص بما قد غلب عليه المعرفة به يؤخذ ذلك من قوله ل أكَما يقول ذو اليدين ولو كان من باب اللقب لما أخبر هو به
۱ هنا جواب لما زاد فيه الفاء

الوجه العشرون فيه دليل على طلب البينة فيما لا يعرف وإن كان القائل صادقاً يؤخذ ذلك

من سؤال سيدنا ل للعمرين ۱ في تصديق ما قال ذو اليدين وهو الذي سماه سيدنا ذا ٣ فلما أخبره بما لا يعلم طلب منه البيّنة على قوله
الشهادتين
الوجه الحادي والعشرون يؤخذ منه أنه لا يجوز لمن نسي من صلاته شيئاً أن يؤخر فعله يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لما أخبره العمران لم يتأخَّر وعاد إلى صلاته لأنه قال فتقدَّمَ وصلَّى فأتى بالفاء التي تعطي التعقيب
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على جواز حذف بعض الكلام إذا كان هناك ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله فتقدم وصلّى ٤ ولم يقل ما صلّى لأن ذلك مفهوم في الحديث
الوجه الثالث والعشرون يؤخذ منه الحجة لمذهب مالك الذي يقول إن سجود السهو إذا كان عن زيادة يكون بعد السلام يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم ثم سجد فلم يسجد هنا ـ وهو موضع زيادة - إلا بعد السلام
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على أن سنة سجود السهو لا تتأخر مع الذكر عن وقت
الفراغ من الصلاة لأنه أخبر أنه عليه السلام سجد إثْرَ السَّلام
الوجه الخامس والعشرون يؤخذ منه أن سنة سجدتي السهو أن التكبير فيهما في الخفض والرَّفع كما هو في غيرها من الصلاة يؤخذ ذلك من وصفه السجود بذلك الوجه السادس والعشرون يؤخذ منه أنه يسلّم من سجدتي السهو كما يسلّم من الصلاة لإخباره بذلك فقال فسلّم
1 العُمران أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما غُلّب عمر لأنه أخف الاسمين ذو اليدين رجل من بني سليم يقال له الخرباق حجازي شهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد راه وَهَمَ في صلاته وخاطبه وهو ليس ذو الشمالين المقتول ببدر وأن قصة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر كما وَهَمَ الزهري
الاستيعاب ٤٧٥
۳ أما ذو الشهادتين فهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من الأوس جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح وكان مع علي رضي الله عنه بصفين فلما قتل عمّار بن ياسر جرّد سيفه فقاتل حتى قتل وكانت صفين سبع وثلاثين الاستيعاب ٤٨٨/١ ومن هذا يتضح أن المؤلف رحمه الله عدّ ذا اليدين ذا الشهادتين مع
سنة
أنهما شخصان مختلفان
٤ يريد أنه لم يقل هذا بعد نعم
٢٧٦

لكن هنا بحث السهو في الصلاة مع كثرته خير وصاحبه معذور والالتفات مع قلته لا يجوز وصاحبه لا يُعذَر وقال عليه السلام هي خُلْسَة يختَلِسُها الشيطانُ من صلاة أحَدِكم ۱ فالجواب لمّا كان الالتفات أصله حظ النفس لم يَجُز مع قلته وجُعِل حظ الشيطان ولمّا كان السَّهو أصلُه اشتغالُ الخاطر بتؤفية تمام العمل أو بمكر من الشيطان عُذر وكُمِّل له ما كان الخاطر معموراً به الوجه السابع والعشرون هنا إشارة صوفية وهي أن مَن كان مشغولاً بعمله جُبِرَ خَلَلُه وإن
كاده عدوه نُصِرَ عليه ومن ضيَّعَ المراقبة في حالِهِ شاركه فيه عَدُوُّه
يا هذا أتريد صلاح الدين وراحة النفس هيهات كيف تجتمع الشموسُ والظُّلَمُ وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري والخُلسة الفرصة والضمير هي يعود على الالتفاتة
۷۷

حديث الشترة للمصلي والمرورُ بين يَدَيْه

عن أبي سعيد الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا صلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يَسْتُرُهُ من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فَلْيَدْفَعْه فإن أبي
فلْيقاتِلْه فإنَّما هو شيطان
*
ظاهر الحديث جواز مقاتلة الذي يمر بين المصلِّي وسُترته والكلام عليه من وجوه الوجه الأول معرفة السترة المُجْزِئَة وكيفية الصلاة إليها ومعرفة هذه المقاتلة ووقتها
وكيفيتها
فأما السترة فعلى وجهين متَّفَقٌ عليها ومختلف فالمتفق عليها هي قَدْر مؤخَّرةِ الرَّحْل وهي قَدْرُ عَظْمِ الذراع وغِلَظِ الرُّمح لأنها صِفَةُ العَنَزَة ۱ التي كان بلال رضي الله عنه يَضَعُها بين يدي النبي الله و في السفر إذا أراد الصلاة وما دون ذلك مختلف فيه وهو مذكور في كتب الفروع وأما كيفية الصَّلاة إليها فتكون إلى الجانب الأيمن ولا يُصمد إليها لأن فيها تَشَبُّهاً بعبادة الأصنام وكل شيءٍ فيه شَبَه في مكروه أو محرَّم كَرِهت الشريعة التشبّه به
وأما المقاتلة وكيفيتها فاختلف الناس فيها اختلافاً كثيراً حتى إنَّ مَن تغالى فى ذلك من بعض العلماء قال إن قتلَهُ فدَمُه هَدر والصحيح منها ما يدلّ عليه تعليل الشارع في آخر الحديث وإن كان لم نسمعه ممن تقدم لأنه عليه السلام قال فإنّما هو شيطان فتكون المقاتلة كمن يقاتل الشيطانَ ومقاتلةُ الشيطان بالأفعال اليسيرة مثل الكتب أو الرُّقية لأن العمل اليسير في الصلاة من
1 العترة أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زُج كزج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير
۷۸

أجل الضرورة جائز فإذا قاتله قتالاً شديداً يُخرجه عن حَدّ الصلاة فقد رجع المصلي شيطاناً ثانياً بل يرجع تركه واشتغل بالصلاة أشدَّ منه ولذلك قال علماؤنا المحققون يدفعه دفعاً لطيفاً لا يخرِجُه من الصلاة فإن أبى أن
وهنا بحث هل المقاتلة من أجل خلل يقع للمصلّي في صلاته أو هو من أجل المار الظاهر - والله أعلم - أنه من أجل المارّ وإن كان ليس في الحديث من أين يؤخذ واحد منهما لكن هو مُسْتَقْرى من خارج وهو أنه عليه السلام قد قال في حق المارّ لأن يقف أربعين خريفاً خيرٌ له من أن يَمُرَّ بين يَدَيِ المصلّي ۱ وقال عليه السلام في حق المصلي إِنَّ الصلاةَ لا يقطَعُها ۳ شي ٢ فلم يجىء أنه إن مَرَّ أحدٌ بين يديه أنَّ صلاته غيرُ مُجزئة لم يقل بذلك من له بال من العلماء فبان ما قلناه أنه في حق الغير لأن المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد ولذلك قال عليه السلام فيهما كالبنيان وقيل كالبنيان يشد بعضه بعضاً ۳
ومثل ذلك إجماع العلماء أنه لا يجوز للمصلي أن يرى نَفْساً تذهب وهو قادر على نجاتها ويتركها ويشتغل بصلاته فإن فعل فهو آثم غير أنه إن كان الفعل في ذلك يسيراً لم يخرجه من صلاته واستمر عليها وأجزأته وإن كان كثيراً ابتدأ صلاته ولا إثم عليه في قطعها
الوجه الثاني فيه دليل على أن السترة تكون بكل شيء يؤخذ ذلك من قوله إلى شيء فأتى به نكرة ومن أجل ذلك وقع الخلاف بین العلماء فمن تعلق بعموم اللفظ ولم يَر فعله مخصصاً في الإجزاء أجاز السُّترةَ بكل شيء وقال فعله ذلك يكون من باب الاستحباب ومن جعل فعله عليه السلام مبيناً للإجزاء قال أقل من ذلك لا يجزي ـ وهو الحق ـ ومما يقوّي هذا الوجه ما جاء عنه حين سُئل عن سترة المصلي قال قَدْر مؤخرةِ الرَّحل 1 الوجه الثالث فيه دليل على أن السترة لا تكون إلا حيث لا يؤمن المرور وأما حيث يؤمن
المرور فلا يؤخذ ذلك من قوله يستره من الناس
الوجه الرابع فيه دليل على أن الظاهر يستدل به على الباطن حيث لا يمكن وصولنا إلى الباطن يؤخذ ذلك من قوله أراد وإرادته لا تُعلم إلا إذا رأيناه قريباً من السترة فدل حاله على ما في نيته ونحن الآن ممنوعون من الكلام فعملنا بمقتضى ما دلّ عليه حاله
۱ رواه الإمام أحمد وابن ماجه والضياء عن زيد بن خالد رضي الله عنه رواه الطبراني والدارقطني عن أبي أمامة رضي الله عنه
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه ٤ أخرجه مسلم وأصحاب السنن

الوجه الخامس فيه دليل على ألا يُقطع بالشيء في الحكم إلا بالدليل الذي لا يحتمل التأويل يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يُسَمِّه شيطاناً إلا بعد الدفع ولم يرجع فإن رجع
فليس بشيطان
ووجه الفقه في ذلك أنه قد يكون مشغول الخاطر لم يَرَ المصلّي أو يكونُ لم يتبين له أنه يصلي أو غير ذلك من الأعذار فإذا دفعه ولم يرجع فلم يبق إذ ذاك عذر وحكمنا له بأنه شيطان
على تحقيق ويقين
ويترتب على هذا من الفقه وجه آخر وهو أن حكم المحتمل ليس كحكم المقطوع به ولا يُضيع أيضاً حكم المحتمل لأنه إن ضُيّع ترتب عليه مفاسد كثيرة يؤخذ ذلك من كونه أَمَرَ أولاً بالدفع لاحتمال أن يكون ساهياً أو ناسياً فإن كان من أحد احتمالات فرجع حصل المقصود وإلا قاتلناه وحكمنا له أنه شيطان

الوجه السادس فيه دليل على أنه لا يُحتَرَم إلا من يحترم يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يجعل حرمة عدم المرور ومَنْعِه وأمر بقتال مَن فَعَله إلا للمصلّي الذي جعل السترة ولم يجعل ذلك لغيره ممن ضيّع الحكم في تركه السترة حين صلاته ومما يزيد ذلك بياناً قول الفضيل بن عياض من خاف الله خوّف الله منه كلَّ شيءٍ ومن لم يَخفِ الله خوَّفه الله من كل شيء فحُرمةٌ
بحرمة جزاء وفاقاً
الوجه السابع فيه دليل على أن السترة لا تكون إلا من الناس لا من غيرهم يؤخذ ذلك من قوله من الناس وهذا مما يقوي ما ذكرناه أولاً أنه لو كان في حق المصلّي لكان يُؤمر بدفع كل من يمر بين يديه من الناس وغيرهم
الوجه الثامن فيه دليل صوفي وهو أن الحرمة عندهم خير من العمل
يؤخذ ذلك من حكمه الا الله لمن احتَرَم صلاته بجعل السُّترة جَعَل له الإِمْرَةَ على المارّ بين يديه ودَفْعَه ومقاتلته بقوله عليه السلام فإن أبى فلْيقاتِلْه وفسَّقَ المتعدي عليه حتى
شيطاناً
جعله
الوجه التاسع فيه دليل على أن يحكم للشخص بمقتضى فِعله في الوقت ولا يُنظَر لِما تقدم يؤخذ ذلك من قوله فإنما هو شيطان على الإطلاق ولم يفرّق بين من كان قبل ذلك على تقوى أو غيرها
الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يجعلون الحكم للحال لا لغيره حتى قالوا لا

زمل جع
أنه
بان
ـرَ
تكن في كل أنفاسك إلا على ما تحبُّ أن تموت عليه كراهة أن يأتيك الموتُ في ذلك النَّفس ومَن أدخل حُسْنَ حاله في خبر كانَ فكأنَّه ما كان
كلنا نعرف الحق والصواب لكن لما اثزنا شهواتِ النفوس تعذّر علينا اتخاذه حالاً
جعَلَنا الله ممَّن سهَّل عليه الوصول بتحصيل الأصول والفروع آمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۸۱

حديث فتنة الأهل والمال وكفارتها
عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه تُكفّرُها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي
ظاهر الحديث يدل على أن هذه الفتنة الخاصة وهي المذكورة في الحديث تكفّرها الأربعةُ المذكورة الصّومُ والصَّلاة والصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلام عليه من وجوه الوجه الأول ما هذه الفتنة وما حَدُّها وهل هذه خاصَّةٌ بالرّجال دونَ النّساء أو هي من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى وهل هذه المذكورة من العبادات هي المفروضات أو غيرها وهل لا يقعُ ۱ التكفير إلا بمجموعها أو يكون بواحدٍ إن وقع منها
فالجواب عن الأول وهو ما هذه الفتنة فالفتنة فى اللغة هي الاختبار فقد تكون للخير مين وقد تكون لضده كما قال جل جلاله ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ فتكون في هنا بمعنى الباء والعرب تبدل الحروف بعضها عن بعض فيكون معناه فتنة الرجل بأهله والاختبار بأهله
على وجوه
منها هل يُوفي لهم - وهم جميع المذكورين - الحق الذي يجب لهم عليه أم لا لأنه راعٍ عليهم ومسؤول عن رعايتهم
فإن لم يأت بالواجب منها فليس هذا مما يكفّره فعل الطاعات بدليل قوله للذي سأله إذا قُتِلتُ في سبيل الله صابراً محتسباً مُقْبِلاً غيرَ مُذبرٍ يكفر الله عني خطاياي قال نعم إلا
1 يريد أو لا يقع
سورة الأنبياء من الآية ٣٥
۸

به وولده
الأربعة
الدَّيْن ١ وهذا من جملة الديون وقال عليه السلام من كانت له مَظْلِمةٌ لأخيه من عِرضِهِ أو شيءٌ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم ٢ وهذا بإجماع أن الحقوق إذا وجبت لا يُسْقِطها إلا الأداء أو التحلل فإن كان ما تركه من حقوقهم من طريق المندوبات فليس من ترك مندوباً عليه إثم فيحتاج إلى تكفير
ويبقى وجه آخر وهو تعلق القلب بهم وهو على قسمين إما تعلّق مُفرِط حتى يشغله عن حق من الحقوق فليس هذا مما يدخل تحت ما تكفّره الطاعات بل يدخل تحت وعيده عزّ وجلّ في قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَبَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَنَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ
إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِو ۳
وإن كان مما لا يشغله عن توفية حق من حقوق الله تعالى فهذا النوع - والله أعلم - هو الذي تكفّره أفعال الطاعات لأنه لما اجتمع له في قلبه هواه فيما ذكر وحق الله عزّ وجلّ وقدّم حق الله فتلك المراعاة التي وفّق لها كانت كفارة لشغله بغير مولاه
وجوه
هي من
وهل
أنه لم يحف
للخير
يشهد لذلك قوله إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه العمل فيه خير من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه والعلم فيه خير من العمل ٤ وكان حين يقسم بين عياله يَعدِل بينَهنَّ ولم يكن ذلك فرضاً عليه وذلك من خصائصه عليه السلام الخاصة به إلا على واحدة منهن وعليهن أجمعين ومازال عليه السلام يعدل بينهن ثم يقول بعد ذلك هذا جهدي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك٦ وهو معنى ميل القلب إلى البعض دون البعض في وجه ما وقوله هذا على وجه التأديب لنا لأنه لا يميل

بمعنى بأهله
انه راع
للذي
م إلا

۱ مروي بالمعنى لما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي عن أبي قتادة رضي الله عنه وفي المطبوعة
والنسخ قتل
مروي بالمعنى لما أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه والمَظْلِمة الظلامة والتحلل هو المسامحة تقول تحللت فلاناً واستحللته طلبت منه الحِلَّ من حقه
۳ سورة التوبة من الآية ٢٤
20 3 3
٤ أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف انظر العراقي على الإحياء
1/1
٥ لم يَحِف لم يظلم ولم يَجُرْ من حاف يَحيف حيفاً لفظه اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم عن السيدة عائشة رضي الله عنها

الميل الذي نميله نحن بدليل قوله عليه السلام لما عاتبه أهله في أثرة۱ عائشة رضي الله عنها فظن الجاهل بحاله عليه السلام الجليلة - على ما يقدر ـ أن ذلك كان الشبابها وحسنها فقال عليه السلام مجاوباً لهن لم يوح إلي في فراش إحداكن إلا في فراشها فبين أن أثرتها عليهن هي لما خصها الله به من المكانة عنده عزّ وجلّ والرّفعة
وأما قولنا ۳ هل هذا خاص بهذه الأربعة أو هو من باب التنبيه بالأغلب على الأقل احتمل لكن الظاهر أنه من باب التنبيه بالأغلب على الأقل - كما قدمنا في غير ما حديث ـ وهو أن العلة التي أُنيط بها الحكم إذا وجدت لَزِم الحكم وهو إجماع من أهل السنة فكل ما يشغل ـ كما قسمنا أولاً - عن حق من حقوق الله تعالى فهو وبال على صاحبه وكل ما كان للنفس به تعلق ولم يشغل عن حق من حقوق الله تعالى فتوفيةُ الحقوقِ المأمور بها كفارة لها بمقتضى ما بينا من الكتاب والسنة والآي والأحاديث في ذلك كثيرة وفيما ذكرت كفاية لمن فهم
وأما قولنا هل هذا خاص بالرجال دون النساء فقد قال هنَّ شقائق الرجال 1 معناه في لزوم الأحكام وإنما هذا - كما قدمنا ـ من باب التنبيه بالأغلب يؤيد ذلك قوله ما تركت بعدي فتنة هي أضرُّ على الرجال من النساء ٥ ولم يقل ذلك٦ في المرأة لأن الرجال في هذا المعنى أشدّ وأما الولد فقد تكون المرأة في ذلك أشدّ من الرجل لكن لما لم يكن لها الحكم عليه مثل الأب فذكر الأعلى وأما المال وغير ذلك فالرجال والنساء في ذلك سواء إلا أنه هو الأغلب في الرجال لأنهم يحكمون ولا يُحكم عليهم والنساء في الغالب محكوم عليهن فلذلك ـ والله أعلم - ذكر الرجال دون النساء
وأما قولنا هل الواحدة من ذلك تكفر أو المجموع فالجواب عن هذا كالجواب عن الوجوه المتقدمة لأن هذا من باب التنبيه بالأعلى على غيره لأنه عليه السلام ذكر من أفعال الأبدان أعلاها وهو الصوم والصلاة وقد قال جلّ جلاله في حقها ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ٧ ومن حقوق الأموال أعلاها وهي الصدقة ومن الأقوال أعلاها وهو الأمر
1 أثرة عائشة تفضيلها
رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ۳ هذا القول يتضمّنه أول ما جاء به المؤلف بعد ذكر الحديث وليس نصاً فيه ٤ إنما النساء شقائق الرجال أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها والبزار
عن أنس بن مالك رضي الله عنه
٥ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه
1 أي الفتنة وكفارتها ۷ سورة البقرة من الآية ٤٥
٢٨٤

الله
نها
أن
ـل
أن
كما
من

L
والنهي فمن فعل هذه لم يمكنه أن يترك الباقي ولا يقدرُ ولو أراد ذلك وقد قال عمر رضي الله
عنه إذا رأيت الحسنة فاعلم أن لها أُخيَاتٍ وكذلك السيئة
وأما هل الواحدة تكفر أو المجموع بل المجموع مع ما بقي من الواجبات والدوام على ذلك بدليل قوله من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ۱ ومن ترك شيئاً من الواجبات فقد أتى فاحشة ومنكراً ومن أتاهما فقد بَعد من الله ومن بَعد كيف يكفّر عنه شيءٌ مما ذكر الذي هو فيه أعظم مما نحن بسبيله
الوجه الثاني فيه دليل على فصاحة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف جمع هذه الفوائد بهذه
العبارة الرائقة
الوجه الثالث فيه دليل لأهل الصوفة الذين يؤثرون عمل القلوب على عمل الأبدان لأنه عليه السلام قد جعل شغل القلب بما ذكر مما يحتاج إلى تكفير ولا يكفّر إلا ما يُرضَى الوجه الرابع فيه دليل لهم على ترك الشهوات ومجاهدة النفس عليها لأن سبب الوقوع في هذه وما هو أكبر منها إنما هو غلبة الشهوات
الوجه الخامس يؤخذ من مفهوم الحديث إشارة لطيفة كأنه عليه السلام يحذر عن هذه فإن الهروب منها فيه السلامة ولا يعدل السلامة شيء فمن قدر عليها مع توفية ما عليه من الحقوق وإبقاء مقامه الخاص مع مولاه فهذا عند أهل الحقيقة والشريعة أوحد زمانه وإلا فالضعيف عند أهل الحقيقة هو الهارب عن المخالطة والضعيف عند أهل الفقه هو الذي لا يقدر أن يخرج عن المخالطة أعني ما لم يكن من أهل المقام الأول الذي أجمعوا عليه
إذا عرفت الرشاد وطرقه وأصغيت إلى حظ النفس توعرت عليك عند السلوك الطريق وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٢٨٥

حديث تعاقب الملائكة الكرام الكاتبيـ

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنَّهار ويجتمعون في صَلاةِ الفجرِ وصَلاةِ العَصْر ثم يَعرُجُ الذين باتوا فيكم فَيَسألُهُمْ ربُّهم وهو أعلَمُ بهم كيف عِبادي فيقولون تركناهم وهم
يُصَلُّون وأتيناهُم وهم يُصَلُّون
ظاهر الحديث يدل على تعاقب الملائكة فينا بالليل والنهار واجتماعهم في صلاة الصبح والعصر وسؤال مولانا جل جلاله عن عبيده والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول أن يقال لِمَ سأل مولانا جل جلاله عن آخر الأعمال لا غير وأن يقال لِمَ جاوبت الملائكة بأكثَرَ مما سُئلوا وأن يقال مَن هؤلاء العبيد المسؤول عنهم وأن يقال لِمَ خُصَّت هذه الأوقاتُ بالسؤال دون غيرها وأن يقال ما الفائدة لنا بالإخبار بهذا وما يترتب عليه
من الفقه
هناك
فالجواب عن الأول أنه قد أخبر الله أن الأعمال بخواتيمها ۱ فالحكم هـ
هنا كالحكم
وأما كون الملائكة أجابوا بأكثر مما سُئلوا فلأنهم علموا أنه سؤال موجب للرّحمة والإفضال فزادوا في موجب ذلك بأن قالوا وأتيناهم وهم يصلون ويترتب على هذا من الفقه وجهان أحدهما أن أعلى العبادات الصلاة لأنه عليها وقع السؤال والجواب والوجه الآخر أن الملائكة تفرح بعمل العبد الصالح وأنهم يحبون له رحمة المولى على ذلك وحسن جزائه ولولا ذلك لما زادوا من عند أنفسهم ما لم يسألوا عنه

٢٨٦
1 رواه الخطيب البغدادي

وأما من هم هؤلاء العبيد المشار إليهم بهذا التخصيص العظيم وهو كونه جل جلاله أضافهم إلى نفسه - وذكرُهُ لهم رحمة لأنه قد أخبر في كتابه أن ذكره لعبده رحمة له في سورة عليها السلام بقوله عزّ وجلّ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ١ - فهم الذين وصفهم الله عزّ وجلّ في كتابه بقوله سبحانه إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ
مریم
وأما قولنا لم خُصَّت هذه الأوقاتُ بالسؤال فيها عن غيرها فمن باب التشريف لأن الله عزّ وجلّ يُشَرِّف من يشاء من خلقه حيواناً كان أو جماداً أو ما شاء
ويترتب عليه من الفقه وجهان
الوجه الأول أن هذين الوقتين أشرف الأوقات وقد دلت عليه آثار كثيرة منها قوله كناية عن مولانا جل جلاله اذكرني ساعة بعد الصبح وساعة بعد العَصْر أكْفِكَ ما بينهما ۳ ومنها أن الرزق يقسم من بعد صلاة الصبح فمن كان في ذلك الوقت في طاعة زيد في رزقه ولهذا نرى أرزاق أهل التعبد مباركة والبركة أكبر الزيادات وقد جاء فيمن حلف بعد العصر حانثاً وعيد عليه شديد ومنها قوله استعينوا بالغَدْوَة والرَّوْحَة ٤ فلولا فضلهما لما دلّ عليهما
والوجه الثاني أن الصلاة التي تقع فيهما تكون أفضل الصلوات لأن الوقت المسؤول عنه مرقع على غيره والصلاة مس ول عنها من بين غيرها من الصلوات فتكون بهذا التأويل هي الصلاةَ الوسطى التي أمرنا بالمحافظة عليها فتكون صلاةً وُسطى في زمان الليل وصلاةً وسطى في زمان النهار لأن الصلاة الوسطى اختلف العلماء فيها على أحَدَ عَشَرَ وجهاً ما من وجه إلا وقد قال الخصم فيه مطعناً واعتُرِضَ عليه وأرجو لما قرَّرناه أن هذا أقلها اعتراضاً
وزيادة في ذلك مما تقدم من البحث في هذا الحديث وافق عليه بعض الطلبة فالأكثر منهم سلموا واستحسنوا إلا شخصاً واحداً اعترض على قولنا إنها الصلاة الوسطى اعتراضاً ليس بالحسن فعزَّ ذلك على بعض من له تعلق بالمتكلم ٥ بتلك البحوث فلما كان في الليل رأى ٦ رسول الله ل في النوم والمتكلم بين يديه وهو يقول له يا رسول الله ظَهَر لي في هذا الحديث وذكر له تلك البحوث واعترَضَ شخص عليَّ في الصلاة وما ذكرتُ فيها من أنها
1 سورة مريم الآية ٢ سورة الحجر من الآية ٤٢
۳ أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي
ع رواه البخاري وهو الحديث ٦ في هذا الكتاب
5 كأن المؤلف ابن أبي جمرة يقصد نفسه بكلمة المتكلم ٦ الضمير يعود على البعض الذي له تعلق بالمتكلم

۸۷

ل

الوسطى فجاوبه الرسولُ عليه السلام بأن قال له حَسَن ما قلتَ وما ظهر لك حق فلمّا أصبح أخبر الرائي للمتكلم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا أجازها سيدنا فلا أبالي
بِمَن رَدُّها
وقولنا ما الفائدة فيه وما يترتب على ذلك من الفقه فالفوائد كثيرة وما يترتب على ذلك
من الفقه كذلك فما فيه من الفوائد الإخبار لنا بما نحن فيه من الضبط وكيفيته ويترتب على هذا من الفقه أن ننتبه إلى أنفسنا ونحفظ أوامر ربنا ونواهيه هذا وظيفة العوام وأما الخواص فالفرح والسرور بهذه الأوقات كقدوم رُسُلِ المَلِكِ إليهم وسؤاله عنهم فهذه أعلى المسرات عندهم ولهذا المعنى ذكر عن بعضهم أنه كان دابه إذا كان آخرُ صلاة الليل و تفرغ منها يلبس أحسَنَ ثيابه ويجلس على أحسن فراشه ويقول مرحباً بِرُسُلِ ربّي الكرام بسم الله اكتُبا فيبقى في ذكرٍ وتلاوة حتى تجيبه أوقات الصلوات فيصلي حتى يعود إلى آخر صلاةِ النهار ويفعل مثل ذلك بالليل ذلك كان حاله
الوجه الثاني فيه من الفوائد أيضاً العلم بحبّ الملائكة لنا ويترتب عليه من الفقه الأنسُ
بهم والحبُّ لهم وهو ممّا يقرب إلى الله عزّ وجلّ
وفيه الإخبار بالغيوب وهو من أكبر الفوائد ويترتب عليه من الفقه زيادة الإيمان
فيتحصل له المنحة الكبرى والمحبّة العظمى التي مدح بها أهلَ الإيمان بقوله جلّ جلاله يؤمنون بالغيب ٣
ويترتب عليه من الفوائد الإخبار بحرمة هاتين الصلاتين لما كان يجتمع فيهما أربعة من الملائكة وفي غيرهما اثنان اثنان ويترتب عليه من الفقه المحافظة عليهما والاهتمام بهما الزيادة ترفيع سيدنا بالإخبار بذلك لأنه لما زاد اطلاعه عليه السلام على أمور الغيب والعلم بها والإخبار عنها زاد ترفيعه عليه السلام ويترتب عليه من الفقه زيادة ترفيعنا له عليه السلام وما زدنا له زدنا إلى مولانا قرباً
الوجه الثالث فيه من الفائدة معرفة ترفيع هذه الأمة على غيرها لأنه لم يخبر بهذا إلا عناية بها ويترتب عليه من الفقه شكر هذه النعمة التي خصصنا بها والشكر يقتضي المزيد بالوعد
1 يريد المتكلم وزاد اللام للتقوية الضمير يعود على المتكلم الذي هو المؤلف رحمه الله
۳ سورة البقرة من الآية
بلج 0
85
3
۸۸

فلما
أبالي
ذلك
وظيفة
نهم
لميل ـرام صلاة
أُنسُ
مان
الَّذِينَ
ـة من
ـماء
عليه
عناية
وعد
الجميل قال تعالى لَإِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فإن قال قائل ما معنى فيكم أهي إلى جنس المؤمنين منكم أو غيركم أو هي الكم فإن كانت للجميع فكذلك كان من كان قبلكم فالجواب عنه كالجواب قبل لأن هذه النعمة أعم من الأولى
الوجه الرابع فيه من الفوائد العلم باهتمام الله عزّ وجلّ بعبيده ويترتب عليه من الفقه إذا علمنا ذلك قوة اليقين وهو أعلى الدرجات
الوجه الخامس فيه من الفائدة أنه عند سماع ذلك تعرف قدر إيمانك من ضعفه وقوته ويترتب عليه من الفقه أنك إذا رأيته قويا وزادك ذلك حَنا على العمل حَصَل لك بشارة أن فيك من القوم نسبةً وإن لم تَرَ ذلك يزيد عندك شيئاً إلا سَمْعَك له كسَمْعِكَ أخبار النّاس عرفت أنك من المساكين الذين يُخاف عليهم فتدارك نفسك بالمعالجة وهذا وجه كبير من الفقه
الوجه السادس فيه فائدة كبرى فإنه يدل على جملة صفاتِ الحق عزّ وجلّ وهي الدلالة على أنه عزّ وجلّ متكلّم وأن كلامه لا يُشبه كلامَ المخلوقين وأنه عزّ وجلّ موجودٌ حقًّا وأنه ليس في مكان وأنه تعالى مُدْرِكٌ لجميع الأشياء
فأما الدليل من الحديث على كلامه عزّ وجلّ فمن قوله كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادي فهذا نص
وأما الدليل على أن كلامه ليس ككلام المخلوقين فمن قوة الكلام في الحديث لأنه عليه السلام أخبر أن الملائكة تأتي في الزمان الفرد من جميع أقطار الأرض بأعمال جميع العباد وفيهم البر والفاجر والمؤمن والكافر وهذا عدد لا يُحصيه العقل ولا يَضْبِطه في هذا القدر من الزمان لا بالوهم ولا بالكيف فيسأل من هذا الجمع العظيمِ الحَفَظَةَ الذين أتوا من عند الخصوص من عباده دون غيرهم فدل ذلك على أنه جل جلاله يخاطِب حَفَظَةَ كلُّ شخص منفردين فيحصل الخطاب للجمع الكثير في الزمان الفرد على الانفراد مزدوجين مزدوجين على حد واحد لا يشبه هذا كلام المخلوقين ولا يتوهمه عقل ولا يُكَيَّف
ومما يقوي ما قلناه قوله إذا صعد الحافظان عليهما السلام بعمل العبد وأول الصحيفة مُبيضُ بالحَسَنات وآخِرُها كذلك قال الله عزّ وجلّ أَشْهِدُكم يا ملائكتي أنني قد غفرت ما بينهما من السيئات فتبقى الصحيفةُ بيضاء نقية وإن كان أحد طرفيها مختلطاً بالحسنات
والسيئات أقرت على ما هي عليه ٢
1 سورة إبراهيم من الآية أخرجه أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر

فلما
بالي
ذلك
ليفة

الجميل قال تعالى لَإِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فإن قال قائل ما معنى فيكم أهي إلى المؤمنين منكم أو غيركم أو هي لكم فإن كانت للجميع فكذلك كان من كان قبلكم فالجواب عنه كالجواب قبلُ لأن هذه النعمة أعمُّ من الأولى
جنس
الوجه الرابع فيه من الفوائد العلم باهتمام الله عزّ وجلّ بعبيده ويترتب عليه من الفقه إذا علمنا ذلك قوة اليقين وهو أعلى الدرجات
الوجه الخامس فيه من الفائدة أنه عند سماع ذلك تعرف قدر إيمانك من ضعفه وقوته ويترتب عليه من الفقه أنك إذا رأيته قويا وزادك ذلك حَنَّا على العمل حصل لك بشارة أن فيك من القوم نسبةً وإن لم تَرَ ذلك يزيد عندك شيئاً إلا سَمْعَك له كسَمْعِكَ أخبار النّاس عرفت أنك من المساكين الذين يُخاف عليهم فتدارك نفسك بالمعالجة وهذا وجه كبيرٌ من الفقه
الوجه السادس فيه فائدة كبرى فإنه يدل على جملة صفاتِ الحق عزّ وجلّ وهي الدلالة على أنه عزّ وجلّ متكلّم وأن كلامه لا يُشبه كلام المخلوقين وأنه عزّ وجلّ موجود حقا وأنه ليس في مكان وأنه تعالى مُدْرِكٌ لجميع الأشياء
فأما الدليل من الحديث على كلامه عزّ وجلّ فمن قوله كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادي فهذا نص وأما الدليل على أن كلامه ليس ككلام المخلوقين فمن قوة الكلام في الحديث لأنه عليه السلام أخبَرَ أن الملائكة تأتي في الزمان الفَرْد من جميع أقطار الأرض بأعمال جميع العباد وفيهم البَرُّ والفاجر والمؤمن والكافر وهذا عدد لا يُحصيه العقل ولا يَضْبِطه في هذا القَدْر من الزمان لا بالوهم ولا بالكيف فيسأل من هذا الجمع العظيمِ الحَفَظَةَ الذين أتوا من عند الخصوص من عباده دون غيرهم فدَلّ ذلك على أنه جلّ جلاله يخاطِب حَفَظَةَ كلُّ شخص منفردين فيحصلُ الخطاب للجمع الكثير في الزمان الفرد على الانفراد مزدوجين مزدوجين على حد واحد لا يشبه هذا كلام المخلوقين ولا يتوهمه عقل ولا يُكَيَّف
ومما يقوّي ما قلناه قوله إذا صعد الحافظانِ عليهما السلام بعمل العبد وأولُ الصحيفة مُبْيَضُ بالحَسَنات وآخِرُها كذلك قال الله عزّ وجلّ أُشْهِدُكم يا ملائكتي أنني قد غفَرْتُ ما بينهما من السيئات فتبقى الصحيفةُ بيضاءَ نقيّة وإن كان أحد طرفيها مختلطاً بالحسنات
والسيئات أقرت على ما هي عليه

۱ سورة إبراهيم من الآية ٧
أخرجه أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر

وأما الدليل على وجود نفْس الربوبية فهو الكلام لأن الكلامَ لا يكون إلا من موجودٍ قطعاً وأما الدليل على أنه عزّ وجلّ ليس في جهة فلأنه الله ذكر الصعود والخطاب ولم
يتعرض إلى الجهة فدَلّ أنه لا يتحيّز
وأما الدليل على إدراكه سبحانه لجميع المُدرَكَاتِ فلكونه عزّ وجلّ يخصص حفَظَةً أهل الخصوص من بين غيرهم بهذا الخطاب ويترتب على هذا من الفقه معرفة الحق عزّ وجلّ وزيادة اليقين بوجوده تعالى وقوة الإيمان ويترتب عليه الثواب الجزيل فإن أكبر الوصول إليه عزّ وجلّ المعرفةُ به وتنزيهه
جعلنا الله ممّن مَنْ عليه به وحفظه عليه بمنه
الوجه السابع هنا بحث متى يكون عروجهم لأنه عليه السلام قال ثم يعرج الذين باتوا فيكم ورواية أخرى كانوا فيكم فأما في صلاة الصبح فبعد الشروع فيها أو الانتظار لها بدليل قولهم تركناهم وهم يصلّون وأما قولنا وهم ينتظرونها أي ينتظرون إيقاعها لقوله عليه السلام لا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ۱
وأما الذين يعرجون آخر النهار فاحتمل أن يكون مثل الصبح واحتمل أن يكون عند العشاء الآخرة على رواية باتو فيكم لأن المشهور من اللغة أنهم يسمّون الزمان من الزوال إلى المغرب مساءً ومن المغرب إلى الصبح مبيتاً فإذا صعدوا بعد العشاء فقد أخذوا جزءاً من المبيت والعرب تطلق اسم الكلِّ على البعض كما يقولون جاء زيد يوم الخميس وما وقع مجيئه إلا في جزء منه وأما على رواية كانوا فيكم فيحتمل مثل الصبح وقد يحتمل مثل ذلك على رواية باتوا فيكم لأن العرب تسمّي الشيء بما يقرب منه وإن كان قد جاءت رواية ضعيفة أن العرب تسمّي الزمان من الزوال إلى الصبح مبيتاً
وقد يبقى ما قلناه من احتمال تأخيرهم بالصعود إلى العشاء الآخرة لأنه من أحد محتملاتها ٢ وهو الذي نبه عليه أهل الصنعة النَّحوِيَّة في بابها عند كلامهم عليها وعلى أخواتها من حروف العطف وهي للمُهلة فهذه المهلة احتملت أن تكون مقارنة للأوقات التي حُدَّت للصلاة فإنها مؤيدة أو إلى أزيد من ذلك
فأما في الصبح فلا تحتمل أزيد منه لأنه ليس لنا ما نطرق له ذلك وما طرقنا الاحتمال في
الكلام عن حرف العطف ثم ۱ جزء من حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
35

الطرف الآخر إلا على رواية باتوا فيكم لاتساع الزمان في ذلك ولهذا تجب المحافظة فـ كما قاله أهل المعرفة من العلماء ليصلَّى الوسطى بالقطع
الجميع
في
وقولهم وأتيناهم وهم يصلّون الوجه فيه كالوجه الذي قبله من أنهم أتوهم وهم في نفس الصلاة أو هم ينتظرونها لكن الأظهر - والله أعلم - أنهم في الوقت الذي يكون نزولهم صعود الآخرين وتكون ثُمّ للانتقال من حال إلى حال ليس بينهما شيء آخر وهو من أحد وجوهها
المستعملة فيها
ومما يقوي هذا من خارج ۱ ما ورد أن مَلَكَ اليمين موكل على ملك الشمال ولو بقيا هذا المقدار من الزمان وهو من العصر فإن نزولهم فيه محقق إلى العشاء الآخرة لأنه قدر ثلث يوم فكيف يصح أن تجيء الأخبار بصيغة الانفراد عن ملك اليمين والشمال مطلقاً ولقولنا مما
استشهدنا به قبل لقوله إذا صعد الحافظان ولم يذكر في الصعود بالصحيفة إلا اثنين ومن طريق آخر لو قعدا يكتبان الاثنان منفردان والآخران منفردان في هذا الزمان لكان يؤول الأول إلى تكرار العمل على العبد وهذا على صفة العدل محال ولو كانا أيضاً يقعدان في هذا الزمان الخاص ولا يكتبان فهذا على مقتضى الحكمة محال
ثان لأن الحكمة لا عمل فيها لغير فائدة
و دليل آخر لو كان كذلك - أعني بقاءهم إلى العِشاء الآخرة - لكان السيد بين لنا هذا لأنه يترتب عليه فوائد وأحكام وأقل من هذا لم يُغفله وأخبَرَنا به لِمَا طُبع عليه من
والنُّصح
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الشفقة
بلد
۱ من خارج أي من حديث آخر غير موضوع البحث
۹۱

حديث من ني صلاةَ فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرها

عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال مَنْ نَسِيَ صلاةٌ فَلْيُصَلِّها إذا أَنَسِ ذَكَرَها لا كفَّارَةَ لَها إلا ذلك أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
ظاهر الحديث إيقاعُ الصلاةِ المَنْسِيَّة عند ذكرها والكلام عليه وجوه
الوجه الأول هل الصلاة يعني بها واحدة ليس إلا أو صلاة من حيث الجملة وإن كثرت وهل تقدم على الوقتية وإن خرج وقت الوقتية أم لا وهل يجوز تأخيرها يسيراً كما يجوز تأخيرُ الوقتية أم لا والكفارة هنا هل هي عن ذنب مأخوذ به أو ليس
فالجواب عن الأول احتمل الوجهين معاً فأما الواحدة - وهو أن تكون واحدة - فيلزم منه إن كانت أكثر فلا تصلّى ولا قائل بذلك فبطل هذا الاحتمال وبقي أنها صلاة من حيث الجملة - كانت واحدةً أو أكثر - فإنها تصلى
وأما هل تقدم على الوقتية أم لا فإن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا بذلك لأنه عليه السلام قال فليصلها فذلك وقت لها على ما جاء في رواية أخرى فقد عيّنه عليه السلام بالإشارة إليه وإن نظرنا إلى أن الأمر إذا احتمل معنيين أحدهما يوجب حكماً وليس فيه خلل بالحكم الآخر والثاني يوجب حكماً ويلحق في الحكم الآخر خلل فنأخذ الذي يوجب الحكم ولا يقع في الحكم الآخر خلل من طريق الترجيح مثل ما قلنا آنفاً إذا نظرنا بتعيين الوقت بالإشارة إليه أوجبنا فعلها وإن خرج وقت الوقتية فلحق الخلل في الوقتية لخروجها عن وقتها وقد جاء في رواية أخرى فذلك وقت لها أي جائز فعلها وإن كان وقتها المفروض لها قد خرج فصاحبها معذور في ذلك بعلة النسيان أو كان قد دخل وقت جواز فعلها ودخل على الأخرى التي تعين وقتها بتعيين الشارع عليه السلام أولاً وهو الأصل فكانت الأولى أولى بالتقديم ولا يلحقها
۹

نقص وتبقى صاحبة العذر متأخرةً عنها والشارع عليه السلام قد جَبَر ذلك الخلل بقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخَطَأُ والنسيان ۱
فمن أجل هذه التقديرات اختلف العلماء في تقديم المنسيَّة على الوقتية فمذهب الشافعي رحمه الله ومَن تَبِعه على تقديم الوقتية على المنسيّة ومذهب مالك ومن تبعه على تقديم المنسيَّة على الوقتية إلا أنه يشترط أن تكون يسيرة فإن كانت كثيرة فالوقتية مقدَّمة وادعوا الإجماع في ذلك وكذلك ادعوا الإجماع في تخصيص الحديث لأن اللفظ يقتضي العموم فلو أبقوه على ذلك لآل الأمر إلى أن تخرج الوقتية عن وقتها ويعود حكمها حكم المنسيات وهذا خلل كبير فانتسخ هذا بالإجماع والإجماع لا يُعتَرَض عليه
وبقي الخلاف في حد القليل من الكثير فأقلُّ من صلاة يوم عندهم في حكم القليل وأكثر من صلاة يوم في حكم الكثير وصلاة يوم مختلف فيه
وأما قولنا هل يجوز تأخيرها عند الذكر بغير عذر شرعي أو حضور أداء الوقتية على الخلاف المتقدم فلا أعرف فيه خلافاً أنه لا يجوز لأنه مشار إليه غير محدود كما فعل عليه السلام في الوقتيات حين قال ما بين هذين الوقتين وقت فدل بترك التحديد لهذه لأن الأمر فيها بخلاف المحدود وقتها

وأما قولنا هل هذه هي الكفارة لذنب وقع فليس هنا ذنب واقع لما قدمنا أولاً من قوله أو نَسِيَها فيكون معنى قوله عليه السلام لا كفّارة لها إلا ذلك أن لو كان هناك ذنب يؤخذ به كقوله عزّ وجلّ في كتابه فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا ۳ قال العلماء في معنى فجزاؤه إن جازاه
واحتمل أن يكون أراد بالذكر أنَّ الذنب فيها ذنب من كونها ذنباً لغةً لكونه أخرج ما أُمِرَ به عن وقته وإن كان صاحِبُه لا يؤاخَذُ به وأن جَبْرَه يُسمَّى كفارة وإن لم يكن هناك ذنب لأن هذا
تغطية لذلك الخلل واحتمل أن يريد أن ذلك الخلل الذي وقع لا ينجير بفعل من أفعال البِرّ - وإن كَبُرَ - إلا بأدائها في هذا الوقت المشار إليه فيكون فيه على هذا التأويل وجهان من الفقه الواحد منع البدل بغيرها من القُرَبِ والآخر ألا تؤخّر عن ذلك الوقت ولهذا المعنى يرجح مذهب مالك ومن تبعه
على غيره
۱ أخرجه الطبراني في الكبير عن ثوبان رضي الله عنه قطعة من حديث رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم / ٦١٤ / بلفظ الوقت بين هذين
۳ سورة النساء من الآية ٩٣

الوجه الثاني فيه دليل لقول من يقول إن شرع من تقدم شرع لنا يؤخذ ذلك من قوله وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِي ۱ وهذا الخطاب كان لِمَنْ تقدَّم من الأمم
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن شرعَ من تقدم ليس بشرع لنا إلا إذا وافق شرعنا يؤخذ ذلك من أنه لم يحتج بالآي إلا حين قرر الحكم فكأنه ذكره لما يُساوي ما أمرنا به لما أمِر به من قبلنا ويترتب على هذا الوجه أن معرفة الشرائع المتقدمة من المحمود شرعاً وإن لم يكن فيه حكم لنا ولولا ذلك ما ذكره

الوجه الرابع هنا إشارة صوفية لأنهم يقولون أعلى الأعمال الأذكار لأن ذكر اللسان يوجب ذكر الأحكام وهو أجلُّ الأذكار كما قال عمر رضي الله عنه ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكره باللسان والغفلة سببها النسيان فما حُرِم مَنْ حُرِم إِلا مَنْ الغفلة ولا سعد من سعد إلا بالذكر والحضور وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۳
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
تی
۱ سورة طه من الآية ١٤ زاد اللام في المفعول به للتقوية ۳ سورة العنكبوت من الآية ٤٥
٢٩٤
المالية عن بقية

حديث الأذان في البادية وفضله
عن عبدِ الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه رضي الله عنهما أنه أخبره أن أبا سعيد الخُدْرِي قال له إنّي أراكَ تحبُّ الغَنَمَ والبادية فإذا كنتَ في غَنَمك أو باديَتِك فأذنتَ بالصَّلاة فارفَعْ صوتَكَ بالنداء فإنه لا يَسْمَعُ مَدى صَوْتِ المَوْذُنِ جِن ولا إنس ولا شَيْءٌ إلا شَهِدَ له يَوْمَ القِيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ظاهر الحديث أنّ كلَّ من يَسمعُ صوت المؤذنِ يَشهدُ له يومَ القيامة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قوله لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جنُ ولا شيء هل يعني بـ شيء كلّ حيوان أو جمادٍ أو حيوان ليس إلا فالظاهر أنه كلُّ جماد وغير ذلك لقوله ولا شيء لأنه يقع على الجماد وغيره ولا سيما وقد جاء في حديث آخر مَدَر وشَجَر
وهنا بحث وهو أن يقال ما الفائدة في شهادة هؤلاء وما يترتب عليه للفاعل من الخير فالجواب - والله أعلم - أنه يكون له من الثواب بقدر ثواب عمل من سمعه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام من دعا إلى هدى فله أجرُه وأجرُ مَن عمل به ۱ وجاء أن بقاع الأرض تنادِي َكلَّ يوم بعضُها بعضاً هل عَبَرَ اليوم عليكِ مَنْ ذَكَرَ الله فإن عَبَرَ عليها ذاكرُ الله افتخرت على صاحبتها ٢ فيكون بندائه داعياً إلى ذكرِ الله فله بقَدْر أَجرِ مَن ذَكَر الله من أجل أذانه
فإن قال قائل ليس هذا ذكراً بل هو إعلام بوقت الصلاة قيل له صدقت إذ إنّ فيه أجلَّ الأذكار وهو الإقرار بالألوهية ونفي ضدها ومن مشروعيته الحكاية على من سمعه فهو إعلام بالصلاة ودعاء إلى أفضل الأعمال - وهي الصلاة - فوجَبَ له بذلك من الأجر ما ذكرنا
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك رضي الله عنه

0

683
۹۵

الوجه الثاني فيه دليل على أن الجماداتِ تسمع وقد اختلف العلماء فيما جاء من الأخبار عن الجمادات في مثل هذا والتسبيح في مثل قوله تعالى ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِيَدِهِ ۱ فمن قائل يقول إن ذلك بلسان حالها ومن قائل يقول إنه يوضع فيها حياةٌ وحينئذ تسبح ومنهم مَن حَمَلها على ظاهرها وقال إن القدرة صالحة وهو الحق لا سيما مع قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَفَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ﴾ ٢ قال أهل التحقيق من العلماء إنَّه ما من حجرٍ يَهيل أو جبل يَخِرُّ ۳ إلا من خشية الله عزّ وجلّ وهو الحق فلو كان ذلك كلُّه بلسان الحال - كما زعمَتْ تلك الطائفة - فما تكون فائدة الإخبار بذلك لنا ونحن نعلم كل ذلك بعلم الضرورة فيكون الإخبار به كتحصيل الحاصل وهذا في حق الحكيم مُحَالٌ
الوجه الثالث فيه دليل على أن الجماداتِ تشهد يوم القيامة بالذي وقع فيها من الخير وضده وجاء ذلك في حديث غير هذا أنَّ البقعَ تَشهدُ بما فُعِل عليها ولو لم يكن في ذلك إلا ما جاء في حديث عذاب القبر لأن الأرض تقول للمؤمن ما أحبَّ ما كنتَ فيه وأنتَ تمشي على ظهري فكيف اليوم وأنتَ في بطني والكافر بضد ذلك والآي والأحاديث في ذلك كثيرة والقدرة صالحة وبذلك تترتب الفائدة على الإخبار بهذا
والذي يتحكم على القدرة ويقول لا يتكلم ولا يفهم إلا من له حياة وعقل ليس له في ذلك دليل شرعي وإنما أخذ ذلك من علم العقل والقدرة لا تنحصر بالعقل وقد قال جل جلاله ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ٤ وقد تقدم لنا في ذلك أول الكتاب بحث أغنى عن إعادته هنا الوجه الرابع فيه دليل على أن الحيوان والجماد يفرح بالصالحين وقد جاء في معنى قوله تعالى ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ٥ أنّ الأرض التي كان المؤمنُ يتعبد فيها أو الباب الذي كان عمله يصعد منه إلى السماء يبكيان عليه أربعين يوماً
وفيه تحضيض على العبادة في البرّية لأنه إذا أخبر بمثل هذا الأجر اجتهد في ذلك وقد جاء أنه من كان في بَريَّة وأذن وأقام صلى خلفه أمثالُ الجبال من الملائكة وإن أقام ولم يؤذن
صلّى وراءه الملكان ليس إلا
۱ سورة الإسراء من الآية ٤٤ سورة البقرة من الآية ٧٤
۳ هال عليه التراب وأهاله صبّه والمراد هنا انحدار الحجر و خر الجبل سقط
٤ سورة النحل من الآية ٨ ٥ سورة الدخان من الآية ۹
د العالي
٢٩٦

من
من
الى
وقد جاء أن الصلاة في البريّة بسبعين صلاةً فيُحصل مما جاء في الأخبار في البرية والتعبدِ فيها مما ذكرنا وغيره وما جاء في الحاضرة وشهودِ الجماعات وملازمة المساجد وغير ذلك مما عظيم بِحَسَب الوعدِ الحق جاء في التعبد فيها وأنواعه أن المؤمن إذا كان على حكم الكتاب والسنة أينما كان كان في خير
الوجه الخامس فيه دليل على أن مَن أكثَرَ من شيءٍ نسب إليه حُبّه يؤخذ ذلك من قول هذا السيد ١ لصاحبه لأنه لم يكن يعرف هل ۳ هو مولع بالبادية إلا من كثرة لزومه إياها ولذلك قال أراك بحسب رؤية الحال ولم يقل له بالعلم القطعي
الوجه السادس فيه دليل على أن من أحب شيئاً من متاع الدنيا ولم يمنعه عن حقوق دينه من واجبها وندبها أن ذلك ۳ جائز يؤخذ ذلك من إقرار هذا السيد صاحبه على ما رأى منه من الحب ونبهه ٤ على الحض على الندب وهو الأذان والصلاة فيه
الوجه السابع فيه دليل على أن الأغراض تكون مختلفة والصُّحبة متحدة وذلك مأخوذ من إقرار كلّ واحدٍ من هذين صاحبَهُ على حاله لأن كلا منهما على لسان العلم في حاله مَثَل ذلك قصة مالك رضي الله عنه مع صاحبه المتعبد حين أرسل المتعبد إليه يندبه إلى ترك ما هو فيه من الاجتهاد في العلم وينقطع إلى التعبّد فكان من جواب الإمام له أن قال أنت على خير وأنا على خير وما أنا تارك ما أنا فيه ولا أنت كذلك فبقيا على صحبتهما مع بقاء حالِ كلِّ منهما على
حاله الخاص
0
الوجه الثامن يؤخذ منه أن نصيحة كل شخص بما يقتضيه حاله يؤخذ ذلك من إرشاد هذا السيد صاحبه إلى المندوب الذي يليق بحاله وهو الصلاة بالأذان ولم يقل له مثل ملازمة المساجد ونحوها مما لا يمكن إلا لمن ٦ يسكن الحاضرة فكان يُدخل عليه تشويشاً لكونه لا يقدر على
فعله مع ما هو فيه
الوجه التاسع فيه دليل على فضل الصَّدر الأول يؤخذ ذلك من اشتغال بعضهم ببعض
ولولا ذلك لما أرشد هذا السيّد أخاه إلى ذلك
۱ السيد - هنا هو أبو سعيد الخدري وصاحبه أبو صعصعة رضي الله عنهما
٢ أي ما فهل للنفي
۳ أي ذلك الحب
٤ الجملة معطوفة على المصدر إقرار
٥ الجملة معطوفة على المصدر ترك
٦ اللام زائدة للتقوية

0
0
6
الوجه العاشر فيه دليل على أن لكل شخص ما هو أجمع لخاطره يؤخذ ذلك من إرشاد هذا صاحبه إلى الأذانِ دون غيره من المندوبات للعلة التي عللناها قبل
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن الصَّدرَ الأول كانوا يحافظون على المندوبات كما يحافظون على الواجبات يؤخذ ذلك من قوله إذا أذنتَ فدل على أنه لم يكن يعلمُ من صاحبه أنه يتركُ المندوب - وهو الأذان - لأن الأذان على خمسة أقسام واجب ومحرّم ومندوب ومكروه ومباح على ما قسمه أهل الفقه وبيَّنوه فهذا النوع من المندوب منه وإنما نَبَّهه على الزيادة في المندوب وهو مدُّ الصوت
الوجه الثاني عشر فيه دليل لأهل الصوفة لأن أهم الأشياء عندهم الدين فلولا ما كان الصَّدرُ الأول كذلك ما كان يوصي صاحبه بما تقدَّم وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا تلاقوا يقول بعضهم لبعض تَعَالَ نُؤْمِن ۱ أي نتذاكر فيما يقوى به إيماننا
وقد كان لي بعضُ الأصحاب وكان ممن ارتفع قدره في الطريقين العلم والحال إذا تلاقينا بعد السّلام يبادرني يسألني فأول ما يَسأَل عنه يقول كيف دينك كيف حالك مع ربك كيف قلبك وحينئذ يسأل عن غير ذلك من الأحوال فكنت أنفَصِلُ عنه وأجدُ صدري قد انشرح والإيمان أجد فيه الزيادة محسوسة لصدقه وتقديمه أولاً الأهم تشبهاً بالصَّدر الأول

وهكذا ينبغي أن تكون أخوّة الإيمان ولذلك قال جل جلاله ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَذٍ بَعْضُهُمْ
البعض عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ فمن ليس ثوبَ التَّقَى ظهرت عليه بَشائِرُهُ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه وابن الأثير في أسد الغابة /۳۵/۳ سورة الزخرف الآية ٦٧
۹۸

-TY-
حديث فضل الأذان والصف الأول والعتمة والصُّبح
عن أبي هريرةَ رضيَ الله عَنْهُ أَنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لَو يَعلَمُ النَّاسُ ما في النداء والصفٌ الأولِ ثمَّ لم يَجِدُوا إلا أن يَستَهمُوا ۱ عليه لاستَهَمُوا ولو يعلمون ما في
التَّهجير ٢ لاستَبَقُوا إليه ولَو يَعلَمونَ ما في العَتَمَةِ۳ والصُّبحِ لأَتَوْهُما ولو حبوا ٤
*
*
ظاهر الحديث يدل على الحثّ على النداء والصف الأول والتهجير وعلى صلاة العتمة والصبح في الجماعات والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول أن مشروعية الأذان لا تجوز إلا واحداً بعد واحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لاستهموا عليه فلو كان يجوز جماعةٌ لَما احتاجوا أن يَستَهموا عليه لأن الاستهام لا يكون إلا على شيءٍ لا يَسَعُ الكُلّ ولا يكون أحد أولى به من غيره ويزيد ذلك بياناً فعله لأنه عليه السلام لم يُرو أنه أذَّنَ في زمانه مؤذنان جملة وإنما كان بلال ٥ وابن أم مكتوم ٦
۱ استَهَمَ ضرب بالسهام اقترع
٢ التهجير التبكير إلى الصلوات وهو المضي في أوقاتها وليس من الهاجرة ۳ العتمة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة ٤ الحبو المشي على اليدين والبطن
٥ بلال الحبشي ابن رباح أبو عبد الله مؤذن رسول الله و خازنه على بيت ماله من مولّدي السراة وأحد السابقين إلى الإسلام وكان شديد السمرة نحيفاً طوالاً خفيف العارضين له شعر كثيف وشهد المشاهد كلها مع رسول الله له ولما توفي رسول الله أذن بلال ولم يؤذن بعد ذلك وأقام حتى خرجت البعوث إلى الشام فسار معهم وتوفي في دمشق سنة ۰ هـ / ٦٤١م روى له البخاري ومسلم ٤٤ حديثاً وفي طبقات ابن سعد ١٦٩/٣ عن مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسميّة أم عمّار فأما رسول الله فمنعه عمه وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذ الآخرون فأليسوا أدراع الحديد ثم صُهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ وطَعَن أبو جهل سُمَيَّةَ فقتلها فكانت أول شهيدة في الإسلام وأما بلال فجعلوا في عنقه حبلاً وأمروا صبيانهم فاشتدوا به جرياً بين أخشبي مكة وهو يقول أَحَدٌ أَحَدٌ ورآه أبو بكر بعد ذلك فاشتراه منهم وأعتقه ٦ ابن أم مكتوم هو عمرو بن قيس صحابي شجاع كان ضرير البصر أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة بعد =
۹۹

يؤذن بلال وبعده ابن أم مكتوم ولذلك قال عليه السلام إذا أذن بلال فكُلُوا واشربوا حتى ينادي ابنُ أم مكتوم ۱ وكان نداؤُه على الفجر وكذلك الخلفاء والصحابة بعده رضوان الله عليهم فالأذان الذي أُحدث اليوم بالجماعاتِ بدعة مَحضَة وإنما أحدثه بنو أمية واتباع السنة
أولى وأوجب
الوجه الثاني فيه دليل على المنافسة في أفعال البرّ وليس ذلك مما يدخله نقص ولا رياء فيه يؤخذ ذلك من قوله لاستهموا عليه وقال مولانا جلّ جلاله ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٢
الوجه الثالث فيه دليل على أنّ النفوس - في الغالب - لا يحملها على الأعمال إلا معرفة ما
يوم
لها من الحظ يؤخذ ذلك من قوله لو يعلم الناس لأن فيه إشارة إلى عظيم الأجر وإن كان قد ذكره في غير ما موضع منها قوله عليه السلام المؤذنون أَطْوَلُ النَّاسِ أَعناقاً القيامة ۳ وقوله عليه السلام فيهم إنّهم على كَثِيب من المِسْك ٤ وغير ذلك فلما كان هذا الحديثُ على طريق الحض عليه عَرَضَ لعظيم الأجرِ ولم يُبيّنه
ويترتب عليه من الفقه أن المخبر يكون إخباره على الوجهِ الذي يغلب على ظنه أن الفائدة فيه أعظم لأنه عليه السلام هنا أجمَلَ وفي الأحاديث الأخَرِ فَسَّرَ فلا تكون التفرقة بينها ـ والله أعلم - إلا بهذا الوجه
الوجه الرابع فيه دليل على أن الصف الأول هو في المسجد لأن العلماء اختلفوا ما معنى الصف فمنهم من قال إنه في المسجد ومنهم من قال إنه فيما تكتبه الملائكة على باب المسجد لأنه جاء أنها تكتب الأول فالأول فإذا خطب الإمامُ طُوِيتِ الصّحف وقعدت ٥ ونَصُّ الحديث ينفي أن يُريد كَتبَ الملائكة لأن كتب الملائكة لا نراه ولا نعلمه - أعني
تسمع
وقعة بدر وكان يؤذن الرسول الله الا الله مع بلال وكان النبي عليه السلام يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة فقاتل - وهو أعمى - ورجع بعدها إلى المدينة فتوفي فيها سنة ٢٣هـ / ٦٤٣م وكانت وفاته قبيل وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1 أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي
سورة المطففين من الآية ٦
٢٦
۳ أخرجه الطبراني عن أبي محذورة رضي الله عنه ومسلم عن معاوية رضي الله عنه ٤ لم نقف على مصدره والكثيب التل
0

أبي هريرة رضي الله عنه مروي بالمعنى لحديث أخرجه الإمام أحمد والضياء في المختارة عن أبي سعيد رضي الله عنه ورواه مسلم عن
۳۰۰

وآخرون قد تبقى عليهم التبعات فيسبب الله لهم من يشفع فيهم وهؤلاء من نوع
الملطوف بهم
وآخرون تَفْضُل عليهم صغائر فيلطف بهم ويُعفى عنهم لمتضمَّن الوعد الجميل وهو قوله تعالى ﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلَا كريما ۱
وآخرون لهم سيئات كبائر وصغائر فيأمر الله عزّ وجلّ الملائكة أن يبدلوا لهم صغائرهم حسنات فإذا رأوها قالوا يا ربَّنا كانت لنا كبائر ولم نرها هنا طمعاً أن تبدَّل لهم الكبائر بالحسنات فأولئك كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم في كتابه بقوله ﴿ فَأُوْلَتيك يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَات ٢ وهؤلاء ممن تفضّل الله عليهم وآخرون تَرجَح حسناتهم سيئاتهم وأولئك هم المفلحون
وآخرون لم يحاسبوا البنة إلا من قبورهم إلى قصورهم كما جاءت بذلك الآثار مثل الشهداء
وغيرهم
وآخرون يُناقشون الحساب فأولئك الذين يهلكون أي يُعذَّبون لأن الهلاك هنا الذي هو كناية عن العدم ليس بموجود هناك وهذا مثل قوله تعالى ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِنت ۳ أي يأتيه أن لو كان يأتيه مثله في دار الدنيا لكان يموت فهنا يقاسي مثل الموت من كل جهة وليس بميت وفي هذا الهلاك يأتيه من الأمور المهلكة أن لو كان في دار الفناء لكان يهلك بها وهنا يقاسي مثل الهلاك وليس بهالك والهالكون هنا أي المعذَّبون على أحوال مختلفة بقدر أحوالهم كلُّ شخص بِقَدْر حاله

الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة أن من سمع شيئاً لا يعرفه فليراجع فيه حتى يعرفه يؤخذ ذلك من قوله كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه فلو لم يكن ذلك من سنن الإسلام لما أقرَّها عليه السلام في حقها خذوا عنها شَطْرَ دينكم ٤ لكن هذا
۱ سورة النساء من الآية ۳۱

سورة الفرقان من الآية ۷۰ ۳ سورة إبراهيم من الآية ١٧
٤ قال الحافظ ابن حجر في تخريج كتاب مختصر ابن الحاجب لا أعرف له إسناداً ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرّجه وذكر ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي فلم يعرفاه وقال السيوطي في الدرّ لم أقف عليه هـ من كشف الخفا ١/ ٣٧٤
۰۱
فيه
الله
فش
لى
6

ليس على العموم وإنما ذلك لمن فيه أهلية وأما العوام فوظيفتهم السؤال - كما تقدم - في
الأحاديث قبل
الوجه الثالث وفيه أن تكون المراجعة بحسن الأدب يؤخذ ذلك من قولها أوليس يقول الله تعالى فسوف يحاسَبُ حساباً يسيراً فلم تُظهِرْ صورة الإنكار ولكن عرضت بالآي ليجتمع لها في ذلك وجوه من الفقه منها تفسير الآية ممن يعرفها حقًا ومنها معرفة كيفية الجمع بينها وبين متن الحديث فاجتمع لها في ذلك ما أرادت وهو كونه عليه السلام بَيَّن لها معنى الاي وكيفية الجمع بين الآي والحديث
الوجه الرابع فيه دليل على تخصيص الكتاب بالسنة لأن هذا الحديث خصَّص تلك الآية
رحمه الله
بوجه ما لقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض ويؤخذ منه الدليل لمذهب مالك رحمه حيث يرى بأن جَمْع الآثار أولى من نسخها لأن الجمع يقتضي زيادة حكم والنَّسخ يقتضي نفي حكم هذا ما لم يُعلَم النسخ لأنه إذا عُلِم النسخ فلا جمع وذلك مثل ما فعل في الحديثين إنّما الماءُ من الماء ۱ وإذا جاوز الخِتانُ الخِتانَ فقد وَجَب الغُسْل فحمل قوله عليه السلام إذا جاوز الختان الختان على الجماع وحمل قوله عليه السلام إنما الماء من الماء على الاحتلام وما أشبهه وما نحن بسبيله مثله
الوجه الخامس يؤخذ منه أن الاستبداد مع حضور المعلم ممنوع وإنما الاستبداد بالتأويل مع الغيبة عنه يؤخذ ذلك من استدلالها بالآية حين سمعت ما ذكر عليه السلام فلم تستبد برأيها مع حضوره عليه السلام لأنه هو المشرّع والمعلّم فالتشريع خاص به والتعليم موروث عنه الوجه السادس فيه دليل على أن التفرقة بين اللفظين لافتراق الحكم جائزة بقرينة ما يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام مَن حوسب عُذب وقوله تعالى ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۳ فاللفظ واحد في الحساب ووقعت التفرقة بينهما بالصفة لأنه عليه السلام قال في الواحد لو لم يُيَسَّر عليه لهلك فوصفه بالتيسير وفي الآخر أضاف إليه الهلاك فليس من يُيَسّر عليه يَهْلِك الوجه السابع فيه دليل على أن بساط الحال يستدل به على حقيقة المعنى لأنه قال فَأَما
۱ رواه مسلم في كتاب الحيض
رواه مسلم في كتاب الحيض ورواه الإمام أحمد والترمذي عن السيدة عائشة عليها السلام مرفوعاً ولفظه عند مسلم إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ومَسَ الختان الختان فقد وجَبَ الغُسْلُ
۳ سورة الانشقاق الآية
۰

لا
مَن أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۱ فدل بذلك أن مَن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه فليس بمحاسب حساباً يسيراً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بأن أمْرَ الله عزّ وجلّ قد نفذ أنّ من أوتي كتابه باليمين يُحاسَبُ حساباً يسيراً وأخبر عليه السلام في نفوذ الأمر فيمن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه بالمناقشة
ويَرِد هنا سؤال على قوله شيئاً لا تعرفه هل هو على العموم فيما يكون من أمور الدنيا والآخرة أو هو خاص بمعنى أمور الآخرة ليس إلا
والجواب أن هذا على العموم لأنه من الشَّيَم العالية وشمائل السؤدد المنيفة وتلك السيدة كانت ممن لهنّ صفاتُ السُّؤدد العَلِيَّة والرتبة السنيّة وقد قيل قيمة المرء ما يُحْسِن وقد قال عليّ رضي الله عنه لمّا لقي أعرابيا فأعجبه حاله فقال له بِمَ نلتَ هذه الحالة فقال لم أسمع شيئاً لا أعرفه إلا بحثتُ فيه حتى أعرفه ولم أعرف شيئاً فامتنعت أن أُعلمه من لا يعرفه فقال له بهذا سُدْتَ وقد قالوا من دَرَسَ رَأْسَ ومن عرف ارتفع
وهنا بحث في قوله لا تعرفه إلا راجعت فيه ولم لم يقل أنكرته
والجواب أن المراجعة تَرَدُّدُ الأمر ليتبيَّنَ حقه من باطله والإنكار دَفَعُهُ مرة واحدة ومن له عقل لا ينفي شيئاً لا يعرفه حتى يراجع فيه ويعرف حقه من باطله لئلا يكون فيه حق أو منفعة فإن كان فيه حق أو منفعة قبله وإلا ردّه على بصيرة
ومن
علامات الجهل ردّ الشيء عند الجهل لأنه قد يكون فيه مصلحة لا يعرفها فيكون رده و جهله سبباً لحرمانه من تلك المنفعة ولذلك قال السادة العلماء مَنْ جَهِل شيئاً عاداه هذا إذا كان الأمر من خلاف كلام النبوة وأما ما يكون من كلام النبوة فالمراجعة فيه ليتبين ما فيه من الأنوار والحكم والفوائد لأنه خيرٌ كله
الوجه التاسع فيه دليل على منع بعض البحوث التي لبعض الناس في زماننا هذا لأن ما قصد بعضهم إلا قطع خصمه فيكون جوابه ممنوع أو لا أسلم وهو لا يعلم حقيقة ما قال صاحبه فحُرِم الفائدة لجهله بأدب البحث وقد قال الشافعي رحمه الله والسادة العلماء ما
۱ سورة الانشقاق الآيتان ۷ و ۸

بنى علماء الأصول على هذه العبارة أحكاماً كثيرة وهي من قواعدهم الأساسية الكبيرة والأمر - هنا - بالمعنى لا باللفظ إذ الموضوع يتعلق بمفهوم المخالفة وهل هي حجة وما هنا دليل لمن يحتج به
۰۳

باحثتُ أحداً فاخترت أن يكون الحق يجري على لساني ليس إلا وإنما قصدي أن يُظهر الله الحق على لسان من شاء من ألسنتنا ۱ لأن الحكمة ضالة المؤمن فمن أُتِيَ بها فرح بها
ويترتب عليه من الفقه على من يَرُدّ قبل أن يعرف مقالة خصمه وجهان لأنه لا يخلو أن يكون ما قاله المتكلم حقا فيراجعه بقوله ممنوع أو لا أسلّم فيدخل بذلك في عموم قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ فهذا حرام ممنوع أو يكون ما قاله خصمه منكراً لا يجوز فيرده قبل أن يعرفه وتغيير المنكر لا يجوز إلا بعد المعرفة بأنه مُنْكَر هذه المسألة بإجماع وهو أنه لا يجوز تغيير المنكر حتى يعلم أنه منكر فكيف يقدم هذا المُنْكِرُ على هذين الوجهين وفيهما من الخطر ما فيهما ولا سيما إذا انضاف لذلك حظوظ النفس وطلب الظهور والفخر فشقاوة على شقاوة أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
ومما يقرب من هذا الوجه من القبح - وهو عند بعض أهل هذا الوقت من النبلِ والكيس وبِئْسَ الحال ـ وهو ۳ أن يسمع مِمَّنْ مَنَّ الله عليه بالعلم وجهاً من العلوم لا يعرفه هو فيأتي إليه يسأله أن يبحث معه في ذلك الوجه لكي يُشعِره أنه يعرفه ولا يريد أن يتنازل إليه أن يقول له عَلِمْني تلك المسألة - فهذا فيه وجوه محذورة منها الكذب لأنه يخبر بلسان حاله أنه يعرف ذلك الشيء وليس كذلك وفيه استنقاص بمن هو أعلم منه في ذلك الحال وتلك المسألة وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تَحْقِرَنَ أحداً آتاه الله علماً فإن الله لم يَحْقِرُه حين آتاه العلم وقد قال أئمة الدين وأن تتواضعوا لمن تعلّمونه وتتواضعوا لمن تتعلمون منه فإن التواضع من أدب العلم ومن ترك أدب العلم قل أن يَحْظى به أو يناله على وجهه بل يُحْرَمُه ٤
فانظر إلى حسن العبارة في قوله لا تعرفه فدل على أن المراجعة تَعَلُّم لا إنكار فلما راجعت وعرفت أمسكت فتلك الفائدة التي قصدت والفائدة عند أصحاب البحث المتقدم ذكرهم قطع الخصم بـلا أسلم أو ممنوع لأنه يقال فلان قطع فلاناً أو أسكت فلاناً فإنا لله وإنا إليه راجعون على قلب الحقائق وردّ المعروفِ منكراً والمنكَرِ معروفاً
الوجه العاشر فيه دليل على أن زيادة البحث إذا كان بأدبه زادت الفائدة يؤخذ ذلك من أنها لما سمعت قوله عليه السلام راجعت بالأدب - كما تقدم - فازداد لها بذلك فائدة أن خصص لها
۱ انظر تفصيل نظرات الإمام الشافعي في اداب العلم والتعلم في الإحياء ۳۸۱
سورة التوبة من الاية ۳
۳ كذا والصواب إسقاط وهو
٤ راجع إحياء علوم الدين - كتاب ذم الكبر والعجب - ٣/ ٣٥٥ - ٣٩٨

٢٠٤

ذلك العام بقوله عليه السلام مَن نوقش الحساب هَلَك ثم خصص لها ذلك العموم بقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض
الوجه الحادي عشر في الحديث إشارة صوفية لأن تلك المناقشة هي التي حملتهم على الزهد في متاع الدنيا وقد أشار عليه السلام إليه في حديث آخر حين قال له رجل أوصني ولا تُشْطط فقال له عليه السلام لا تقل شيئاً تَستَعْذِرُ عنه في القيامة ۱ فعملوا في القول على هذه الوصية ليكون قولهم صدقاً ويكون حسابهم تجاوزاً وعرضاً
جعلنا الله ممن تجاوز عنه وسَلك به مسلكهم الرشيد وسَننهم السديد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۰۵

<-1
حديث القتال في سبيل
عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما القتال في سبيل الله فإن أحدنا يقاتل غَضَباً ويقاتل حَمِيَّةً فرفع إليه رأسه قال - وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً - فقال مَنْ قاتَلَ لتكونَ كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

الله
ظاهر الحديث يدل على أن القتال في سبيل الله لا يكون إلا بنيّة أن تكون كلمةُ الله هي العُليا
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على أن من الأدب والسنَّة تقدمَةَ مناداة المسؤول بأعلى أسمائه على الحاجة لأنه قال أولاً قبل أن يذكر حاجته يا رسول الله و رسول الله أعلى
أسمائه عليه السلام الوجه الثاني فيه دليل على جواز مناداة المفضول للفاضل لحاجته أو في أمر أشكل عليه لأن هذا الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه - وأصحابه أفضل ذلك الزمان بعده عليه السلام - فلم يُنكر عليه واحد منهم رفع صوته بينهم وعليهم وانفراده بسؤاله فيما احتاج إليه دونهم ولو كان ذلك غير جائز لما أقره الشارع عليه السلام على شيء من ذلك
الوجه الثالث قوله ما القتال في سبيل الله فيه دليل على إبداء العلل الواردة للعارف بها ليبين فيها الفاسد من الصالح لأن هذا الأعرابي قال أولاً ما القتال في سبيل الله ثم بيّن بعد ذلك وجوه القتال التي كانت عادة العرب يقاتلون عليها
الوجه الرابع فيه دليل على جواز حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله وهو يريد ما صفة القتال الذي يكون في سبيل الله فحذف الصفة للاختصار الوجه الخامس فيه دليل على أن من السنَّة تقديم العلم على العمل يؤخذ ذلك من قوله ما
القتال في سبيل الله ليعلم كيف يقاتل في سبيل الله
0
٢٠٦

الوجه السادس فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بأن الفرض لا بد له من حد يُحَدُّ به من الكتاب أو السنة أو منهما معاً كي يُعرَف بذلك يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله ليعرف الصفة التي إذا فعلها وفّى ما أمر به
الوجه السابع فيه دليل على إيجاب النية في العمل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لتكون كلمة الله هي العليا فأضرب عن الصفة وأجاب عن النية
الوجه الثامن فيه دليل على أن تخصيص الظواهر لا يكون إلا بالنيات يؤخذ ذلك من قوله بعد تعداد السائل الوجوه التي يقاتلون عليها من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فدل على أن الشأن النية لا الصورة الظاهرة
وهنا بحث هل قوله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لغيرها مما ذكر في صلى الله عليه وسلم الحديث ولا تكون الله إلا إذا عري المقصود عما سواه وأنه لا يبالي بتلك المقاصد إذا كان مقصده الأصلي فيها لتكون كلمة الله هي العليا ولهذا قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يُرى في طريق المسجد ولا يحب أن يُرى في طريق السوق لا يضره ذلك إذا كان عند الشروع الله خالصاً فالجواب أن هذا الأمر هنا احتمل وجوهاً لكل واحد منها حكم أحدها - وهو أعلاها بلا خلاف ـ وهو أن يكون الله عزّ وجلّ ولا يكون هناك غير ذلك الثاني أن يكون المثير للقتال أحد الوجوه المذكورة في هذا الحديث أو الزيادة التي في غيره وهي أن يقاتل طبعاً ثم عند الشروع فيه يجرد النية لأن تكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الذي يعطيه نص الحديث لأن المثير للشيء لا يُلتَفَتُ إليه إذا لم يُستصحب به الحال حتى يكون الفعل له لأن الحكم للأحدث فالأحدث
الثالث أن يكون القتال لذلك المؤثر والله معاً فهذا ليس من الله في شيء لما جاء أن الله جل جلاله إذا كان في العمل شرك لغيره يقول الله يوم القيامة لصاحب العمل أنا أغنى الشركاء اذهب فاطلب الأجر من غيري الرابع أن يكون لأحد الوجوه المذكورة لا غير فهذا له ما يقتضيه فعله ونيَّتُه من إثم أو
إباحة بحسب قواعد الشرع في كل قضية الوجه التاسع فيه دليل على أن من السنّة أن يواجه المسؤول السائل بوجهه عند الجواب يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه ثم استعذر عن رفع رأسه ل ل ا ل له بأن قال وما رَفَع إليه رأسه
إلا أنه كان قائماً

رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ورواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

عليه
الوجه العاشر فيه دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقتدون بأفعاله السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه فلولا أنهم كانوا يقتدون بأفعاله ما كانت حاجة إلى ذكر رفع رأسه لأنه ليس ذلك من لازم الجواب
عليه
الوجه الحادي عشر فيه دليل على وقار النبي صلى الله عليه وسلم وعلم الصحابة بذلك لأنه السلام كان لا يلتفت إلا عن حاجة لا عَبئاً فلولا ما كان كذلك ما احتاج الراوي أن يبديَ العلّة التي من أجلها رفع النبي رأسه وهي أن السائل كان قائماً
الوجه الثاني عشر فيه دليل على حفظ الجوارح حتى لا يكون تصرفها إلا عن ضرورة لا عبثاً لما تقدم في تعليل رفع رأسه عليه السلام
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن المخبر إذا أخبر بشيء لا يُعرَف فعليه أن يستدل عليه بما يُصَدَّق به حديثه يؤخذ ذلك من تعليل الصحابي سبب رفع رأسه عليه السلام لأنه لو لم يقل ذلك لكان ذلك سبباً ألا يقبل الصحابة قوله أو يتوقفوا فيه لِعِلمهم بخلاف ذلك فبين العلة لأن تصديق مقالته هنا حقيقتها تقعيد قاعدة شرعية فكان احتياطه رضي الله عنه من أجل ذلك لا من
أجل نفسه
الوجه الرابع عشر فيه دليل على جواز السؤال على كل الأحوال قاعداً أو قائماً لأن ذكرَه هنا القيام عند السؤال أو تعليله لذلك دالّ على أن المعروف عندهم كان الجلوس فلما أخبر هنا بالقيام دل على جوازه على كل حال ولو كان عندهم ذلك مما قد عرفوه لكان ذلك إخباراً

بتحصيل حاصل والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن ذلك

الوجه الخامس عشر فيه دليل على منع القتال على حطام الدنيا
الوجه السادس عشر فيه دليل على منع القتال على أن يكون لسفك دماء الكفار غيظاً عليهم يؤخذ ذائِكَ الحكمان من قوله عليه السلام لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا
الوجه السابع عشر هنا إشارة صوفية لأن الجهاد عندهم هو جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر كما أخبر في غير هذا الحديث حين رجع من الجهاد فقال للصحابة هبطتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ۱ والجهاد الأكبر هو جهاد النفس فتكون مجاهدتهم لها لأن تكون كلمة الله أيضاً هي العليا وصفتها كما أخبر عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام لا
۱ رواه البيهقي في الزهد الكبير عن جابر رضي الله عنه ورواه الخطيب في تاريخ بغداد بلفظ مختلف وللشيخ عدنان الغشيم رسالة في هذا الحديث ورجاله
۰۸

يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر
به ويده التي يبطش بها ۱ هذا هو طريق السادة الفضلاء منهم
وأما الذي يقوله أهلُ الجهل نواصِلُ و نجاهد حتى نرى شيئاً من خرق العادات والكرامات فأولئك عندهم جهال ومنهم من قال إنهم يدخلون تحت قوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وأي فائدة في ذلك على هذا الوجه والله عزّ وجلّ يقول في كتابه مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۳ ثم تلمح إلى قوله عزّ وجل وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 1 يتبين لك ما أخبرتك به ﴿
وفقنا الله لذلك بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة الحج من الآية ۱۱ والمعنى يَعبُدُهُ في السَّرَاءِ لا في الضَّرَا

سورة النساء من الآية ١٤٧ ٤ سورة العنكبوت من الآية ٦٩

سی
۱۳

حديث الرجل يخيّل إليه أنه يجد ريحاً وهو في الصـ
عن عباد بن تميم عن عمه
نه ١
رضى الله عنهما أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرجلُ ۳ الذي يخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء ٤ في الصلاة فقال لا ينفتل ٥ ـ أو لا ينصرف - حتى يسمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يقطع الصلاة من يخيّل إليه شيء حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الشيء هل هو على العموم أو شيء مخصوص اللفظ بنفسه محتمل لكن القرينة التي في آخر الحديث تشعر أنه شيء مخصوص وهو قوله حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً فدل أن الشيء هنا هو من النوع الذي هاتان الصفتان وصفه وهو الريح بصوت أو بغير
صوت
الوجه الثاني يَرِدُ هنا سؤال وهو هل هذا الحكم مختص بالرّيح وحده أو هو له ولغيره من الأحداث ٦
فالظاهر تعديه إلى غيره من الأحداث بدليل قول سعيد بن المسيب لو سال على فخذي ما
۱ عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري سمّاه مسلم وغيره في روايتهم لهذا الحديث شكا الضمير يعود على الراوي الذي هو عبد الله بن زيد وفي رواية لمسلم شُكِيَ ببناء الفعل للمجهول ولم
يسم الراوي
۳ الرجل بالضم على الحكاية
٤ الشيء أي الحدث خارجاً منه
٥ لا ينقتل بالجزم على النهي وبالرفع على أن لا نافية
٦ الأحداث ج حَدَث وهو عند الفقهاء نجاسة حكمية معنوية ترتفع بالوضوء أو بالغُسل أو التّيَمُّم
۱۰

حتى أقضي صلاتي فدل ذلك على أن الحكم إذا كان العبد في الصلاة ويتخيل له أتي
نوع من أنواع الأحداث الناقضة للطهارة أنه لا يقطع صلاته إلا بيقين
الوجه الثالث فيه من الفقه أن الشك لا يقدح في اليقين إذا كان في الصلاة اتفاقاً لنص الشارع عليه السلام على ذلك وعَمَلِ التابعي رضي الله عنه ويقصد ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ ﴾ ١ فمنع الشارع عليه السلام بمقتضى الحديث التطرق إلى فساد الأعمال بالشك أو الظنّ سَداً للذريعة وتعظيماً للعمل
الوجه الرابع هنا إشارة لطيفة وذلك أنه لما كان العبد قد توجه إلى الحضرة العَلِيّة فلا يلتفت إلى البشرية وعوارضها فإنه خلل في الحال فإن جاءه أمر متحقق فهو حكم رباني وَجَبَ الامتثال له ولذلك نهى ل ل ا ل ا ل عن الصلاة مع مدافعة فعة الأخبَتَيْنِ
وبقي الكلام على خارج الصلاة يكون الشك قادحاً في اليقين أم لا مثال ذلك أن يكون الرجل تيقن بالطهارة وشَكٍّ في الحدّث
اختلف العلماء في ذلك فذهب مالك رحمه الله ومن تتبعه من العلماء إلى أنه يَقْدَح ولا
يستفتح الصلاةَ إلا بطهارة مُتَيَقَّنة لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ۳ وقال غيره لا يقدح الشك في اليقين
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان
أحدهما أن الخاطر اليسير المشوّش في الصلاة معفو عنه
الثاني أنْ تَحَدُّثَ النفس في الصلاة بما يصلحها جائز يؤخذ ذلك من قوله يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء فإذا تخيل له قيل له أنظر ما الذي أُمِرتَ به وما الحكم عليك فيه وذلك حديث مع النفس لأجل تقرير الحكم وينبغي تعديه إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض للمصلي أن ينظر في حكم الله عليه ما هو حتى يخرج على مقتضاه ولذلك قال بعض أهل العلم صلاةٌ بسهو خيرٌ من سبعين صلاةً بغيرِ سَهْرٍ قيل وكيف قال لأن الصلاة إذا كانت بغير سهو احتملت القبول وغيره وإذا كانت بالسهو وخرج على لسان العلم فقد أرغم أنف الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم فتلك
1 سورة محمد من الاية ۳۳
الأخبثان البول والغائط والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله
عنها ۳ سورة البينة من الآية ٥
41

ترغيم للشيطان ۱ وما يُرغم أنفَ الشيطان يُرجَى معه رضا الرحمن فَفَضَلَتْ غيرَها بتلك الصفة

الوجه السادس في هذا إشارة إلى فضل العلم الشرعي لأنه لا يعلم ذلك إلا بالعلم وكذلك يتعدى هذا الحكم إلى جميع الأحكام وهو أنه يؤمر أولاً بالإخلاص تقريراً على لسان العلم في
كل الأشياء فإن عَرَضه عارض نظر فيه بلسان العلم وعمل بما يؤمر به وذلك كله عبادة الوجه السابع فيه دليل على الإشارة والتكنية عن الأشياء المستقذرات ولا يُفصَح بها
يؤخذ ذلك من قوله يجد الشيء فكنّى عن الحدث بـ الشيء
الوجه الثامن فيه دليل على أن ذكر المستقذرات عند الضرورة لا شيء فيه يؤخذ ذلك من قوله حتى يسمع صوتاً أو يَجِد ريحاً لأنه عند ضرورة تبيين الحكم ذكر مشافهة ما كنى عنه أولاً الوجه التاسع هنا سؤال وهو لمَ قال الرجل ولم يذكر النساء والجواب أنه لما علم أن النساء شقائق الرجال اجتزأ بالأعلى عن الأدنى لأن الذَّكَر -
طريق اللغة ـ أعلى لأنهم إذا اجتمع مذكر ومؤنث غَلّبوا المذكر على المؤنث
الوجه العاشر قوله لا ينفتل أو لا ينصرف هل ذلك بمعنى واحد أو بمعنيين
الظاهر أنهما بمعنيين لأن الانفتال هو ميل ما عن الموضع الذي هو فيه والانصراف كناية عن الذهاب بالكلية ففي العبارة - بهذين الوجهين - إشارة إلى أنه يبقى على حاله ولا يخلّ منها بشيء لا كثير ولا يسير الوجه الحادي عشر فيه من الإشارة لأهل القلوب ألا يلتفتوا إلى الشكوك ولا إلى العوارض لا قليلا ولا كثيراً ولذلك يقولون إن الملتفت عندهم هالك

الوجه الثاني عشر هنا سؤال وهو لمَ قال يجد ريحاً ولم يقل يشم ريحاً كما قال
يسمع صوتاً
والجواب أن الحدَثَ إذا كان بصوت سمع فلا يحتاج إلى زيادة صفة لأن الصوت أعلى وإن كان دون ذلك سُمع وإذا لم يكن له صوت فإما أن يُشتَمَّ من حينه - ولذلك قال يجد ريحاً - وإما أن يلتمس المحلَّ فيجد في العضو الذي يمس به المحل رائحة من صفة الحدث فيقوم ذلك مقام التحقيق بالحدث فأخبر هنا بأقل ما يستدل به من الشم عليه الوجه الثالث عشر فيه من الفقه أن مَسَّ الدُّبُر لا ينقض الطهارة خلافاً للشافعي رحمه
0

1 لم نعرف مصدره

الله فلا يعتبر بتلك الريح حتى يكون معها ما يشمّ فإنه ما لا صوت فيه فلا بد من الشم فإنه اليقين
في هذا الموضع
الوجه الرابع عشر فيه أيضاً بشارة لهم بأن دفع تلك العوارض لا تُخرجهم عن حالهم
الخاص
جعلنا الله ممّن خصه بالخير واختصه به لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

-14-
قتادة۱
حديث البول والاستنجاء والشرب
عن أبي قتادة ۱ رضي الله عنه عن النبي أنه قال إذا بال أحدكم فلا يأخذَنَّ

ذَكَرَهُ بِيمينه ولا يَسْتَنْجي بيمينه ولا يَتَنَفَّس في الإناء
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول ألا يأخذ ذكره بيمينه الثاني ألا يستنجي بيمينه الثالث ألا يتنفس في الإناء والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا تعبّد غير معقول المعنى أو هو معقول المعنى
وقد تقدم أن أمور الشرع كلها لا بد لها من معنى بمقتضى حكمة الحكيم لكن منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه ونخبر عنه بالتعبد ليس إلا فأما هنا بفضل الله فالمعنى ظاهر لأن اليمين لما جعل للأكل والشرب وما يقرب منه جُعِل اليسار لضد ذلك وهي الفضلات وما يتعلق بذلك وما يقرب منه فمس الذكر والاستنجاء من ذلك القبيل وأيضاً فلما كان أهل اليمين في الآخرة هم أهل الجنان والنعيم جُعِل في هذه الدار لذلك النوع ولمّا كان أهل الشمال في الآخرة أهل المعاصي والنكال جعل هنا لما يتولّد عن المعاصي وما شاكلها لأن أول ما وقعت المعصية من البشر تولد عنها الحدث وكذلك المعبرون للرؤيا يعبرون لمن رأى شيئاً من الأحداث أنها دالة على المعاصي الوجه الثاني هنا إشارة إلى أن المراد من المكلّف معرفة حكمة الحكيم في الأشياء واتباعها ولذلك قال عليه السلام حين جاء إلى السعي بين الصفا والمروة نبدأ بما بدأ الله
1 أبو قتادة هو الحارث أو النعمان أو عمرو بن ربعي الأنصاري الخزرجي السلمي صحابي من الأبطال الولاة وكان يقال له فارس رسول الله وفي حديث أخرجه مسلم خير فرساننا أبو قتادة شهد الوقائع مع النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء من وقعة أحد ولما ولي عبد الملك بن مروان إمرة المدينة أرسل إليه ليريه مواقف النبيل فانطلق معه وأراه ولما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه ولاه مكة وشهد معه صفين ومات في المدينة
سنة ٥٤ هـ/ ٦٧٤ م

به ۱ وإن كانت الواو لا تعطي رتبة في كلام العرب لكن لما عَلِم صاحب النور ۳ أن الحكيم
لا يبتدىء بشيء إلا لحكمة فاتبع مقتضى حكمة الحكيم
الوجه الثالث هنا إشارة إلى معنى قوله ولا يتنفس في الإناء فإن قلنا - كما تقدم - ما الحكمة في ذلك ففيه وجهان أحدهما في حق الشارب لعله عند تنفسه في الإناء يشرق بالماء والثاني في حق الغير لعله يتعلق من نَفْسِهِ شيء ما في الإناء فيستقذره الغير وفيه أيضاً إظهار الشهامة وقلة النّهمةِ 4 في الشراب وفيه أيضاً تفرقة ٥ الشراب أقرب إلى الري وفيه إشارة لعله ينتبه لما ندب إليه من قطع الشراب ثلاثاً فيحصل له ما رغب فيه من الخير لأنه جاء عنه أن مَن شرب الماءَ ونوى به العون على الطاعة وسمّى ثم قطع وحمد يفعل ذلك ثلاث مرات أن الماء يسبّح في جوفه ما بقي في جوفه ٦
ويترتب على هذا من الفقه أن يُقدَّم أولاً النهي عن الأشياء المحذورات وحينئذ يشار إلى زيادة الخير يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء نهياً منه عليه السلام وقال في الذي يشربه ثلاثاً ـ كما تقدم - على طريق الإرشاد من فعل كذا

·

الوجه الرابع فيه دليل على أن مجاوِر الشيء يُعطَى حكمه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ففي حين كان الذَّكَر مجاوراً للبول منعَ أخذُهُ باليمين وفي غير ذلك من الزمان لم يمنع منه يؤيد ذلك قوله عليه السلام حين سأله السائل ۷ في مسٌ ذَكَرِه فقال وهل هو إلا بضعةٌ منك ۸ فدلّ على جواز أخذه كسائر جسده ولهذه الإشارات - أعني أن المستخبثات كلها تكون بالشمال - قال أهل المعرفة بالخواطر إن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال شمال القلب
ويحتاج الآن أن نعرف شمال القلب أين هو فعندهم ۹ أن شمال القلب مخالف لشمال
۱ رواه مسلم في الحج والنسائي والإمام أحمد والإمام مالك وابن الجارود وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وابن حبان
يريد أن الواو لمجرد الجمع كما يقول النحاة
۳ صاحب النور في هذا السياق تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن أن يراد بها العالم بالشَّريعة كما تقدم
٤ النهمة الشهوة في الشيء الحاجة ٥ تفرقة تجزئة من فرّقت الشيء تفريقاً وتفرقةً
٦ لم نعرف مصدره
۷ يريد وفي غير ذلك من الأوضاع أي في غير حالة التبوّل
۸ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني و البضعة الجزء أو القطعة
۹ فعندهم أي عند أهل المعرفة بالخواطر

٢١٥

الجثة لأنهم يقولون وجه القلب ويعنون بوجهه الباب - الذي هو للغيوب مفتوحاً - هو إلى جهة الصُّلب فمن ذلك الباب هو يمين القلب ومنه يشاهدون ما يشاهدون من أمر المكاشفات والكرامات وما سوى ذلك مما خص الله عزّ وجلّ به أولياءه على مقتضى الحكمة كما دلت
عليه أدلة الشرع

ولجهل من جهل هذا المعنى الذي أشرنا إليه لما أن سمع أن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال والملك يأتي من جهة اليمين جعل ما سمع على وضع البِنْيَّة ١ فانعكس عليه الأم لأن الخواطر عندهم أربعة ملكي وشيطاني - وهما من حيث أشرنا أولاً - ونفساني وهو من أمام القلب وربّاني وهو من داخل القلب

وهنا بحث وهو هل النهي هنا على التحريم أو على الكراهة محتمل والظاهر أنه على الكراهة وهذه الكراهة مع عدم العذر وأما أصحاب الأعذار فلا يدخلون في هذا الباب مثل الذي ليس له إلا يمين أو له في اليسار عذر يمنع من التصرف للعذر الذي منعه وهي أيضاً أعني الأشياء أمر بها هنا سنة كما جاء في الحديث أنه و كانت يمينه لطعامه وشرابه وشماله لغير ذلك فتأكد ما أخبر به هنا بما كان يفعله هو
التي
الوجه الخامس فيه دليل على أن من الفصاحة الاختصار إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء لأن مفهومه إذا شرب لا غير
الوجه السادس فيه دليل على أن المعطوف يكون مثل المعطوف عليه في الوجوب أو غير ذلك وهو أيضاً من الفصاحة يؤخذ ذلك من أنه لما نهى أولاً عطف ما بعده عليه ولم يُعِدِ النهي
الوجه السابع يرد هنا بحث هل النهي مقصور على هذه الأشياء أو يتعدى حيث وجدنا العلة فعلى القول بأنه تعبدي فلا يتعدى وإذا قلنا بفهم العلة - كما أبدينا - فحيث وجدنا العلة عدينا الحكم وهذا هو الأظهر والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ أي على الشكل الظاهري لجسم الإنسان
٢١٦

<-19-
حديث الرأفة بالحيوان
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي الله أن رجلاً رأى كلباً يأكل النّرى من العطش فأخذ الرجل خُفّه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة
*
ظاهر الحديث يدل على أن إدخال الرجل الجنة بإروائه الكلب والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل هذا خاص بهذا الحيوان وهذا الرجل أو هو عام في جميع الحيوان والمخلوقات احتمل لكن الأظهر فيه العموم يؤيد ذلك قوله الله في حديث غير هذا في كل كبد حتى أجر ۱ فعَمَّ جميع الحيوان وقال تعالى في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا والآي والأحاديث في ذلك كثيرة
الوجه الثاني فيه دليل على معرفة الحال بالقرينة يؤخذ ذلك من قوله رأى كلباً يأكل الثرى لأن أكله الثرى لا يكون إلا دليلاً على العطش
الوجه الثالث فيه دليل على أن الحاجة تُخرِج الحيوان - عاقلاً كان أو غير عاقل ـ عن مألوفه وعادته يُؤخَذ ذلك من أكل الكلب الثرى - وهو التراب المبلول بالماء ـ من أجل ما يجد فيه من أثر الماء وليس يفعل ذلك عند استقامة مزاجه
ويؤخذ من ذلك أن ما قرب من الشيء يُعطى حكمه عند عدمه عقلاً وطبعاً فعقلاً في غير ما موضع من العقل والشرع وأما الطبع ففي هذا الموضع لأن الكلاب وجميع الحيوان - غير بني ادم والجن - لا عقل لهم لكن طبعوا على معرفة منافعهم فالذي يجدون فيه منفعتهم أنسوا به وإذا لم يجدوه ووجدوا ما يقرب منه استعملوه يؤخذ ذلك من أكل الكلب الثرى لأنه يجد بالماء التبريد فلما عدمه ووجد في الثرى ما يقرب منه في التبريد استعمله ولم يبال بثقل الثرى
1 حَرَّحَرُّ عطش فهو حَرّان وهي حرّى والحديث رواه مسلم في كتاب السلام بلفظ اخر سورة المائدة من الآية ۳

ويترتب عليه من معرفة الحكمة أن الثقيل عند الحاجة إليه يخف ويلزم ضده أن الخفيف عند الاستغناء عنه يثقل ولهذا المعنى خفت المجاهدة على أهل الحقيقة لاحتياجهم لمولاهم وتحققهم بذلك وثقلت على أهل الدنيا لحبهم للدنيا وكثرة احتياجهم إليها وثقلت عليهم العبادة التي ١ لمعرفتهم بما فيها ولذلك قال عزّ وجلّ في
م بها أهل المعرفة وخفت عليهم

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٢
ويؤخذ منه الدلالة على لطفه عزّ وجلّ بجميع خلقه يؤخذ ذلك من إلهامه الكلب أكل الثرى حتى يكون ذلك سبباً لرحمة الرائي له حتى يرويه بالماء
ويؤخذ منه أن من أحسن الصفات إيصال الخير لجميع الخلق يؤخذ ذلك من جزيل الثواب على هذا الفعل اليسير وإخبار النبي بذلك ليتأسى المؤمنون بهذه الصفة المقرّبة الوجه الرابع فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن التعريض بالشيء كالمنطوق به
يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بهذا الحديث لأن إخباره يدور بين أمرين إما أن يخبر به لغير فائدة - وأعوذ بالله أن يخطر ذلك على قلب أحد - ومن خطر ذلك بقلبه فليس بمؤمن لأن الله عزّ وجلّ يقول وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ ۳ وهذا عموم
وإما أن يكون لفائدة أو فوائد جملة وهو الحق فظهر ما أشرنا إليه من الفائدة قبل وما فيه من الفوائد بعد لأنه عزّ وجلّ قص علينا في كتابه العزيز القصص وقال ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نَشَيْتُ بِهِ فَؤَادَكَ ٤ وقال ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَهُمْ أَنفُسَهُمْ ٥ الآية وقال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ٦ فكذلك قال فقهاء الدين إن القصص طلب منا مقتضاها بالضمن والأمثال كذلك ولذلك قال عز وجلّ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَلِمُونَ ٧
الوجه الخامس فيه دليل على أن من أكبر القُرَب الخَيْرُ المتعدي يؤخذ ذلك من حسن
۱ وخفت عليهم الضمير يعود على أهل المعرفة وليس على أهل الدنيا
سورة البقرة من الآية ٤٥
۳ سورة النجم من الآية ٤ سورة هود من الآية ۱۰ ٥ سورة الحشر من الآية ۱۹ ٦ سورة يوسف من الآية ۱۰۹ ۷ سورة العنكبوت من الآية ٤٣

تحققهم
دة التي
كتابه
ب أكل
نواب
به
نلبه
ليه

الجزاء على هذه الفعلة اليسيرة مع هذا الحيوان الذي قد أمرتنا الشريعة بقتله فكيف بمن هو عاقل
مكلف وكيف بمن هو صالح منهم وهذا إذا تتبعته يتعدد كثيراً وعلى هذا فَقِسْ
الوجه السادس فيه دليل على التحضيض على جميع أعمال الخير إذ لا يُدْرَى بمَ تكون
السعادة إذ بهذا حصلت تلك السعادة وهي دخول الجنة فلا يضيع منها شيء الوجه السابع فيه دليل على أن الإخلاص هو الموجب لكثرة الأجر يؤخذ ذلك من شرح حال الحديث لأن هذا الحال المذكور وهو كونه كان في البرية وسقى هذا الكلب ولم يكن هناك أحد يبصره فكان خالصاً حقيقة يزيد هذا بياناً قوله م في صدقة السر حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه ۱
الوجه الثامن فيه دليل على أن كمال الأجر يكون بكمال العمل يؤخذ ذلك من قوله حتى أرواه فلما أكمل له ريه أكمل الله له نعمته عليه وهو دخوله الجنة وقد قال الخير كله بحذافيره في الجنة ٢
ويؤخذ منه تغليب فساد هذه الدار إذا كان في إصلاح تلك الدار يؤخذ ذلك من غَرْف الرجل الماء بخفه لأن الماء مما يفسد الخف فلما كان في إصلاح الآخرة فهو صلاح
E
ويؤخذ منه تعب الفاضل للمفضول إذا احتاج المفضول إليه يؤخذ ذلك من تعب الرجل في إسقاء الكلب عند حاجته إليه وإحسان المولى على ذلك وبنو ادم أفضل من غيرهم من الحيوان ما عدا الملائكة ففيهم خلاف
الوجه التاسع قوله عليه السلام فشكر الله له هل الشكر من الكلب الله أو هل هو من الله لعبده احتمل فإذا قلنا إن الشكر يكون بالقول أو بالحال احتمل والقدرة صالحة وإذا قلنا إن الشكر من الله لعبده فما معناه فيكون الشكر هنا بمعنى القبول فكأنه عليه السلام يقول قبل الله عمله فأثابه عليه بالجنة واحتمل جميع الوجوه فإن القدرة صالحة
وفقنا الله لما فيه رضاه بلا محنة بمنه
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث أوله سبعة يظلهم الله في ظله رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة
رضي الله عنه
لم نعرف مصدره
۱۹

حديث النعاس في الصلاة
عن
عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نَعَس أحدكم وهو يصلي
لعله
يستغفر
فَلْيرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري
فيسب نفسه
ظاهر الحديث يدل على النهي عن الصلاة وهو نائم والكلام عليه من وجوه الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن للعالم أن يُعلَّمَ وإن لم يُسْأَل يؤخَذُ ذلك من قوله إذا نعس أحدكم ابتداء دون أن يسأل وهنا سؤال هل هذا على عمومه كان النوم يسيراً أو كثيراً احتمل لكن الظاهر الخصوص وهو كثرة النوم لأنه إذا كان كثيراً من حيث أن يختلط عليه ما يقول ولا يعرفه كما أخبر في الحديث آخراً حين علله بالسب
الوجه الثاني فيه دليل على صحة أن الصلاة مجزية لأنه إنما علل الله و خيفة أن يَسُبّ الوجه الثالث فيه دليل لمالك الذي يقول بسد الذريعة لأنه قال لعله يسبّ ۱ لأنه أمر محتمل فترك الفعل للأمر المحتمل وهنا سؤال وهو ما معنى قوله فيست هل هو بمعنى السب المعهود لغة أو هو بمعنى غيره
الظاهر أنه ليس بمعنى السب المعهود لأن السب المعهود أن يقول الشخص لغيره أو لنفسه يا فاعل كذا أو يا من هو كذا من أشياء رَدِيَّةٍ ينسبه إلى القول بها أو بفعلها ولو كان كذلك فماذا يكون الخوف منه فما يكون منه خوف أن يكون متكلماً في صلاته وإذا كان متكلماً
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيَسُبٌ نَفْسَه

۰

في صلاته بطلت عليه صلاته وهو لا يشعر فيظن أنه قد صلى وليس كذلك وبقيت ذمته
متعمرة ١
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه يؤاخذ بفساد العمل وإن لم يشعر ويرد عليه من
البحث قوله إن الله تجاوز عن أمتي خطأها ونسيانها وما استكرهوا عليه ٢ فالجواب عن ذلك أنه لا يكون في ذلك الخطأ ـ على طريق الغفلة والنسيان - مأثوماً ولا يجزئه أيضاً الشيء المحتمل عما أمر به لأنه مأمور بالتوفية فلا يترك العمل حتى يعلم أنه قد وَفَّى ومهما لم يتحقق ذلك فهو مطلوب بالعمل ولذلك قال علماؤنا رضي الله عنهم إن من خاف فوات وقت من أوقات الصلوات وهو مثقل بنوم يصلّي وهو يجاهد نفسه جهده ثم ينام فإذا استيقظ من نومه عَرَض صلاته كلها على قلبه من أولها إلى آخرها فإن عقلها كلها ورآها حسنة أجزأته صلاته وإن رأى فيها خللاً أو لم يُحَقِّقْ ركناً من أركانها أو شَكٍّ فيه أعادها لأن الذمة لا تبرأ
إلا بيقين
واحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون السب هنا معنى الدعاء على نفسه بسوء فيكون الضرر أكثر من الأول لأنه يجتمع فيه الوجه المتقدم ووجه ثان وهو أن تكون تلك الساعة مما يستجاب فيها الدعاء فتكون تلك الدعوة سبب هلاكه ولأجل ذلك نهى عليه السلام أن يدعو أحد على
أهله أو ماله
أفعاله
ويترتب على ذلك من الفقه وجوه منها أن يكون الشخص يتحفظ على كلامه وجميع لئلا تكون منه غفلة في شيء فيكون ذلك سبب هلاكه وهو لا يشعر ولذلك قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً ٤
الوجه الرابع فيه من الفقه أن القدرة لا تنحصر بشيء من الأشياء ولا بفعل يؤخذ ذلك من أن الدعاء قد جاء أنه لا يقبل إلا بشروط وفي هذه المواضع التي ذكرناها وغيرها مما أخبرت به الشريعة يستجاب بغیر شرط ٥ فسبحان من حكمته لا تتناهى
۱ متعمّرة مشغولة ملأى بالواجب عكس المتفرغة أو الفارغة بعد أداء الواجب
رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ مأثوماً من اتمه أي جعل عليه الإثم ومأثوم اسم مفعول
٤ رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه 0 جاء في إحياء علوم الدين في باب اداب الدعاء وفضله
اداب الدعاء عشرة
الأول أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة ووقت السحر من الليل

الوجه الخامس فيه إشارة صوفية وهو أن ترك الآداب في محل القرب من الجفاء يؤخذ ذلك من قوله لعله يسبّ نفسه ۱ لأن الصلاة محل قرب والسبّ في موضع القرب جفاء وهنا بحث هل يشمل هذا كل سبّ أو ليس فالجواب أنه ليس على العموم لأن من السبّ ما يُقَرِّبُ في هذا الموضع وهو مثل قوله لأبي بكر رضي الله عنه حين سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت ٢ الحديث وهذا اللفظ مما ينطلق عليه اسم
سَبِّ لكنه لما فيه من معنى الاضطرار والفاقة إلى الكريم المتفضل وطلب الرحمة من عنده بسبب عَدَم موجبها من سوء أفعال العبودية كان مدحاً
ويرد علينا سؤال وهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت رؤوسهم تخفق من النوم ثم يخرج رسول الله فيصلون ۳
فالجواب أن من بعض فوائد الإقامة ذهاب النوم والغفلة وحضور القلب لأنه إذا قال المقيم للصلاة الله أكبَرُ ثار جيش الإيمان وتيقظ من الغفلات على اختلافها
ويقول أشهد أن لا إله إلا الله تَنَوَّرَ القلبُ وجاء العَوْن
أشهد أن محمداً رسول الله ثَلج اليقين وانتشرت الرحمة
الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كساعة زحف الصفوف في سبيل الله وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات
المكتوبة وعند السجود
الثالث أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يُرى بياض إبطيه ثم يمسح بهما وجهه ولا يرفع بصره إلى
السماء
الرابع أن يجعل صوته عند الدعاء بين المخافتة والجهر
الخامس ألا يتكلف السجع فإن الداعي ينبغي أن يكون حاله حال متضرع والتكلف لا يناسبه ويقتصر على
المأثور من أدعية الرسول الله المتوازنة
السادس أن يكون في حالة تضرع وخشوع ورغبة ورهبة السابع أن يجزم الدعاء ويُعْظِمَ الرغبة ويتيقن بالإجابة الثامن أن يلح بالدعاء ويكرره ثلاثاً ولا يستبطىء الإجابة
التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله عزّ وجلّ فلا يبدأ بالسؤال ويثني بعد حمد الله بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل
حاجته ثم يختتم بالصلاة على النبي يا الله
العاشر أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً ويرد المظالم ويقبل على الله بصدق وإخلاص
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيسب نفسه
رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق وابن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهم أجمعين
۳ رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه

ل
حَيَّ على الصلاة قوي العزم
حَيَّ على الفلاح أحدثت الجد وحسن العبادة
الله أكبر تكرر الإعظام وجاءت الهيبة
لا إله إلا الله استسلمت النفوس وراحت الأوهام وتكامل جد الباطن بتكرر الهيبة والإخلاص والظاهر بالإذعان والانقياد
فإن بقي على كَمالِ تَحَليه كما وصفنا لم يعد النوم إليه وإن أدركه ريح الغفلة جاءته عاهة النوم فحلت أحكام الشريعة عقدة صفقة القربة وهي الصلاة وأباحت له النوم وأنذرته بأداء ما تعمرت به الذمة إلى وقت التخليص من عاهة النوم بعد تنظيف المحل بالطهارة التامة ولهذا قال في الصلاة ۱ ولم يقل قبل
وهنا سؤال في قوله حتى يذهب عنه النوم وإن خرج عنه الوقت أو معناه ما لم يخرج الوقت احتمل لكن الأخذ بالأحوط أولى وإن كان الاحتمالان على حدّ واحد فينبغي أن يكون فيه تلك الأربعة وجوه ۳ التي بينها العلماء لكن الأمور من خارج تؤكد براءة الذمة وهو الأحوط
مثل فعله في الوادي وغيره

الوجه السادس فيه دليل على أن النائم لا يُسقط عنه النوم التكليف يؤخذ ذلك من قوله فليرقد حتى يذهب عنه النوم وهنا بحث هل بنفس الاستيقاظ تجب عليه الصلاة على أي حالة كان من خِفْةٍ أو ثِقَل
احتمل الوجهين معاً إذ يكون معنى قوله عليه السلام يذهب معنى نفس الاستيقاظ لأن عند التيقظ يَعْدَم ضده 4 أو يزيد ثقلا وإن استيقظ لأنه إذا استيقظ - والعلة التي من أجلها
1 كذا ولفظ الحديث إذا نعس أحدكم وهو يصلي

لعله يقصد بالأربعة وجوه هل تصلّى ۱ في الوقت أو بعده ۳ أو قضاء ٤ أو أداء روى البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب الأذان بعد ذهاب الوقت عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال سرنا مع النبي ليلة فقال بعض القوم لو عَرَّست بنا يا رسول الله قال أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي الا الله وقد طلع حاجب الشمس فقال يا بلال این ما قلت قال ما ألقيت عليَّ نَومة مثلها قط قال إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردّها عليكم حين شاء يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت
قام فصلى
٤ يريد بـ الضد النوم
0

أبحنا له النوم باقية - فالشيء الذي خفنا منه باقي توقعه والفقه يقتضي التفرقة بينهما وذلك أنا أولاً قد أتتنا العاهة وهي النوم وليس لنا شيء ندفعه به فجاز لنا النوم كما تقدم
وإن احتمل الثقل أن يكون حقيقةً كالأول واحتمل أن يكون وهميا فينبغي أن يستعمل الدواء وهو الوضوء لأنه من مُذهبات النوم ولذلك قال رحم الله امْرَأَ قام من الليل وأيقظ أهله فإن أبَت نَضَح الماءَ في وجهها ورَحِم الله امرأةً قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى ا نَضَحَت الماء في وجهه ۱ فإن ذهب النوم حصل المقصود وأخذنا في أداء العبادة وإن بقي الأمر على ما كان عليه من ثقل النوم نظرنا فإن كان في الوقت سَعَةٌ راجعنا النوم امتثالاً للأمر وإن كان الوقت ضيقاً فعلنا ما ذكرنا أولاً عن العلماء وهو أن يصلي ويُجهد نفسَه ثم ينام فإذا استيقظ فَعَل ما تقدم ذكره لأنه اجتمع لنا أمران أحدهما إيقاع الصلاة في وقتها والوقت قد انحتم وثقل النوم وإباحة النوم لأجله لكن يغلب أقل الضررين فإن خروج الوقت مع الذكر والقدرة على الأداء يتعلّق عليه العقاب والصلاة مع النوم متوقع الضرر معه وهو السَّب ـ على أحد المحتملات ـ وقد لا يقع والإقدام على المتوقع خير من المقطوع به
فإن قال الخصم قد جاء العذر من الوعيد الذي قلتم قلنا ليس الأمر كذلك لأن الأمر إذا نُصَّ عليه لا يرتفع بالمحتمل لأن الوعيد على إخراج الصلاة عن وقتها مع القدرة والإمكان قد ثبت وقوله فَلْيرقد حتى يَذهَب عنه النوم احتمل أن يكون وإن خرج الوقت أو يكون ما لم يخرج الوقت فلما احتمل الوجهين فالأظهر أنه لا يسقط والأصح ما تقدم ذكره من
التقسيم والله الموفق
الوجه السابع فيه دليل على جواز الاستغفار في الصلاة لقوله يستغفر لكن ليس على عمومه في جميع أركان الصلاة ولكن في المواضع التي يجوز ذلك أبين أَبْيَن
وهنا بحث لم علل بسب نفسه ولم يذكر سب غيره فالجواب أن النفس لا تقدّم في الغالب إلا نفسها فإن كان يسبق السبُّ منها لغيرها فهو نادر وإن وقع فيكون هنا غير مأثوم في حق الغير ويبقى ما هو فيه من بطلان العمل كما ذكرنا أولاً بلا زيادة ولما لم يكن السب للغير فيه زيادة بل هو أقل ضرراً لأنه إن كان دعا - على أحد المحتملات - لم يعد عليه شيء فجاء من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى الوجه الثامن فيه دليل على ألا يخالط الطاعة مكروه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٢٢٤

فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه فترك الصلاة في الوقت لاحتمال أن يقع السب في حال النوم وهو لم يقصد فكيف أن لو كان مقصوداً
ويترتب على ذلك من الفقه كثرة التشديد على الحضور في الصلاة حالاً ومقالاً يؤيد ذلك
قوله إن الله لا يقبل صلاة امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ۱
وهنا بحث وهو أنه طول نومه إذا لم يستيقظ يكون معذوراً غير مأثوم وإن خرج الوقت وبحث آخر هل له أن ينام قبل الصلاة أو ليس
يوم
فالجواب عن ذلك لا يخلو إما أن يكون ذلك نهاراً أو ليلاً
القائلة
فإن كان نهاراً فله ذلك بمقتضى السنّة وبما اعتاده الطبع فأما من طريق السنة فما جاء في وهي قريب وقت الظهر لقوله عليه السلام قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ٢ وأما من طريق ما جبلت عليه الطباع فإنها لا تكثر النوم بالنهار لأنه جعل لها للسعي كما أنها لا تكثر السهر بالليل لأنه جعل لها سكناً وما أحكمته حكمة الحكيم فلا يتبدل إلا لموجب وذلك نادر والنادر لا حكم له وهو أيضاً مبني على أثر القدرة وبه صحت الدلالة على القدرة وهو أصل في الإيمان الذي ترتب عليه الأحكام
وأما في الليل مثل النوم بين العشاءين فالذي أنقله عن العلماء الأجلة الذين لقيتهم وهم أيضاً كذلك نقلوه أن الذي يريد النوم بين العشاءين لحاجة له فلا يخلو أن يكون له من يوقظه لصلاة العشاء أو ليس فإن كان له من يوقظه فله ذلك وكذلك إن كان يعلم هو من نفسه أنه يستيقظ لذلك الوقت لعادة يعلمها من نفسه فله ذلك أيضاً وإن كان يعلم من نفسه أنه لا يستيقظ إلا بعد خروج الوقت فليس له ذلك وكذلك إن كان جاهلاً بعادته وليس في الحديث ما يدل على هذا لكن لما كان الموضع يحتاج إليه ذكرناه وهنا بحث في قوله عليه السلام فليرقد هل يرقد في موضع مصلاه على حاله ولا يقطع صلاته أو يقطع الصلاة ويرجع ينام حيث شاء احتمل لكن الظاهر أن ينام حيث هو على حاله يؤخذ ذلك من خارج من قوله إذا نام العبد وهو في الصلاة يقول الحق جلّ جلاله يا ملائكتي أما ترون عبدي جسده نائم بالأرض وروحه عندي ۳
1 رواه الحكيم الترمذي في النوادر بلفظ لا يقبل الله صلاة امرىء لا يشهد فيها قلبه ما يشهد فيها بدنه وعزاه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء لمحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرش
مرسلا
انظر مجمع الزوائد ۸/ ١١٢ وكنز العمال ٧ / ٢١٤٧٧
۳ لم نعرف مصدره
٢٢٥

حتى
وبحث آخر هل ذلك النوم ينقض الطهارة أم لا ۱ ليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك لكن العلماء اختلفوا في النوم في الصلاة اختلافاً كثيراً على حسب هيئته فمنهم من قال إن النوم في الصلاة لا ينقض الطهارة واحتجوا بما جاء أن سيدنا محمدا نام وهو ساجد علم منه النوم حقيقة فقيل له نمت فقال لا نوم في الصلاة ۳ والجمهور يجعلون ذلك - إن صح الحديث - من الخاص به عليه السلام لانه ل ا ا ا ا و كانت تنام عيناه ۳ ولا ينام قلبه الوجه التاسع فيه إشارة إلى التيقظ والحزم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا نعس أحدكم لأنه أمر عند ظهور المبادىء وهو النعاس الذي اخره النوم الثقيل الذي لا يعرف معه ما يقول أو يترك العمل وهو طاعة خيفة الخلل فما بالك بغيره ولذلك قال عليه السلام المؤمن كَيْسٌ حَذِرٌ فَطِنٌ ٤ وكذلك كان بعض أهل الصوفة إذا رأى أدنى غبار في خلق عياله أو دابته أو عادته أسرع إلى التوبة والطاعة وفتش على خبايا نفسه حتى يجد الغفلة التي وقعت منه فيُزيلها فيستقيم حاله ومنها قصة الشيخ الذي لم يكن يتكلم في أمور الدنيا حتى خطر له يوماً فيها خاطر فإذا بجندي بالباب يستأذن فأذن له فدخل وجلس بإزائه يحدثه في أمور الدنيا فتعجب الشيخ من
۱ في ذلك ثمانية مذاهب
١- ينقض الوضوء بكل حال لحديث علي رضي الله عنه من نام فليتوضأ وهو مذهب آل البيت والحسن

البصري
٢ - لا ينقض الوضوء بكل حال لحديث أنس رضي الله عنه كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تخفق رؤوسهم ينتظرون العشاء الآخر ثم يصلون ولا يتوضأون
٣ - لا ينقض الوضوء إذا كان على هيئة المصلي لحديث إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة وهو مذهب أبي حنيفة
٤ - لا ينقض الوضوء إذا كان متمكناً في مقعده لحديث العين وكاء السَّهِ الدبر فمن نام فليتوضأ وهو مذهب علماء الحديث ومذهب الشافعي
ه - لا ينقض الوضوء إلا إذا سقط الجنب على الأرض لحديث حذيفة نمت فأخذني له من ورائي احتضنه فالتفت فإذا أنا برسول الله فقلت هل عليّ الوضوء فقال لا حتى تضع جنبك
٦ - لا ينقض الوضوء إلا نوم الراكع والساجد لأنه مظنّة الانتقاض وهو مذهب أحمد - لا ينقض الوضوء إلا نوم الساجد لأنه مظنّة النقض أكثر وهو رواية في مذهب أحمد
۸ - لا ينقض الوضوء في الصلاة بل خارجها وهو مذهب زيد بن علي من نيل الأوطار للشوكاني ۱۹۰/۱
و ۱۹۱
لم نعرف مصدره
۳ رواه البخاري والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
٤ رواه القضاعي عن أنس رضي الله عنه
٢٢٦

من
إن
حتی
إن
ـه ما
إلى
إذا
من
ن
ـو
ذلك فرجع إلى نفسه لينظر من حيث أُتِي فإذا هو قد ألهم للخاطر الذي مر به في شأن الدنيا فقال من هنا أتيتُ فاستغفر من ذلك وتاب وإذا بالجندي قد قام من حينه وخرج ويؤيد ذلك قوله جل جلاله إِنَّ اللهَ لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ 1 هذا في نوم ا العادة وأما نوم أهل الدنيا فلا تكون اليقظة منه إلا عند الموت لقوله عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لأنهم رأوا الحق وعاينوا الحقائق فنوم أهل الدنيا جهل وغلبة شهوة وغفلة إلا من علمه الله وأيقظه وهم أهل الجد والتشمير والصدق والتصديق كما قال أبو بكر رضي الله عنه لو كُشِف الغطاء ما ازددتُ يقيناً وكذلك جميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
جعلنا الله منهم بلا محنة بحرمتهم عنده
الوجه العاشر قوله عليه السلام فليرقد حتى يذهب عنه النوم إشارة إلى امتثال الحكمة لأن الحكمة مضت أن النوم لا يذهب بالسكون حتى يصل وقته الذي قدر له فيذهب وحده كما جاء وحده وفي النوم وذهابه إظهار القدرة الجليلة بينما المرء مجموع الذهن والقوى إذ أتاه النوم بغتة
وهو لا يشعر وقد يكون بعض الأوقات لا يعجبه ذلك لمنفعة أو أرب يريد تحصيلها فيمنعه منها

الوجه الحادي عشر فيه دليل على عجز المخلوق وافتقاره بينما هو بحرصه وزعمه في تحصيل مآربه إذ أتاه ما لا يقدر على دفعه ويترك الحرص والحذر والتحصن ويستسلم بغير اختياره قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ۳ والنوم والنسيان شاهدان على نقص المحدّث وافتقاره ولذلك قال العلماء في قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ٤ قالوا أحسَنَ خَلْقَه ثم أرسل عليه النوم والنسيان فإذا استيقظ رجع لحرصه كأنه ما زال فلا يزال الأمر يتكرر عليه على مرور الليالي والأيام وهو مقيم على دعواه كأن لم يقعد ولا نام وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ ٥ طَبَّقت الغفلة بل رَانَ على القلب حتى رجع بصر بصيرته خفاء لا يرى شمس هذه الآي
ومن هنا فضل أهل الصوفة غيرهم لأنهم لما رأوا تلك الأحوال وهي حال موت النوم وإن كانوا هم أقل الناس نوماً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا فألزموا أنفسهم في حال اليقظة
۱ سورة الرعد من الآية ۱۱
من كلام سيدنا علي كرم الله وجهه
۳ سورة الأنبياء من الآية ٤٢
٤ سورة التين الآيتان ٤ و ٥ ٥ سورة الذاريات الآية ٢١

الاستسلام وهو حالهم في النوم فذلك منهم يقظة لأنهم حكموا باستصحاب الحال وذلك مقال أهل العلم وهم كانوا أولى به لكن لمّا كانت دواعي شهواتهم حثيثة الطلب تفقهوا في المقال وشغلتهم تلك الحلاوة في المقال عن فهم الحال وهل حَسنُ المقال مع قبح الحال إلا
بهرجة يندم صاحبها عند محك الانتقاد
الوجه الثاني عشر فيه دليل على عظم لطف المولى بجميع العبيد بَراً أو فاجراً مكلفاً أو غيره لأن النوم راحة للأبدان فلو تُرك النوم لاحتياجهم لكان بعض أهل الحرص لا يختارون النوم فيكون في ذلك هلاكهم فكان المولى سبحانه هو الذي أرسل ذلك بنفسه لا بواسطة ملك مقرب ولا غيره حيث قال في كتابه ﴿ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّنَكُم بِأَلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ۱
1,
الوجه الثالث عشر فيه دليل على استغناء الله تعالى عن عبادة العباد وتنزيهه أن تضره معصية عاص لأنه لو كان شيء من ذلك ما كان يرسل الراحة على عبده المخالف له بنفسه الجليلة وهو يَنْضَرُّ بها ولا كان يدخل التعطيل على العامل وهو ينتفع بعمله تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً فسبحانه ما أرحمه بعباده وأغناه عنهم ! خاتمة وعظية كم أنادِي إلى الهدى من لا يفهم وأعِظُ أَطْرُوشَ العقل وهو بالهوى مُغْرَم ! فإدمان الهوى على الضعف للجسم إسقام فخلّص سَقَمَ بَدَن دِينك النحيف بنقوع التوبة النصوح فتركيب الأسقام في البدن النحيف سل ۳ وهو يوجب الهلاك لك
ويلك ما لك أيقظان أنت أم نائم
أيقظنا الله وإياك من سِنَةِ الغفلة وأحيا قلوبنا بنسيم المحبة وشدّ ضعفَ حواس أدياننا
بأمراق الطاعة فهو المتفضّل المنّان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الأنعام من الآية ٦٠
السل مرض معروف

۸

حديث غسل المني من الثوب
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي ل ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً وفي رواية أخرى بقعاً بقعاً
ظاهر الحديث يدل على غسل المني والكلام عليه وجوه
الوجه الأول أن غسله يدل على نجاسته وهو مذهب مالك رضي الله عنه ومن تبعه وهل نجاسته من نفسه أو بالمجاورة بحث اخر هو في كتب الفقه
الوجه الثاني فيه دليل على جواز النيابة في الفروض التي ليست في الأبدان يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل المنيَّ
الوجه الثالث فيه دليل على جواز ذِكْرِ ما يُخْجِل ذِكرُه إذا دعت الضرورة إليه يؤخذ ذلك من ذكرها المني لأنه مما يخجل ذكره لأنه يدل على ما قد جاء الكتاب والسنة بالكناية عنه أما الكتاب فقوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ٢ ومن السنة قوله عليه السلام حتى تذوقي مُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ۳ لكن من أجل تقرير الأحكام ذكَرَتْه ولذلك قال

1 للحديث هذا روايات عدة وكلها عن سليمان بن يسار عن عائشة ففي رواية قالت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي إلخ وفي رواية سألت عائشة عن المني يصيب الثوب فقالت كنت أغسله من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة إلى آخر الحديث وفي رواية أنها كانت تغسل المني إلخ وهي التي اختارها الشارح ويعلق ابن حجر على الرواية الأخيرة فيقول قوله أنها كانت يحتمل أن يكون مذكورا بالمعنى من لفظها أي

قالت كنت أغسل ليشاكل قولها ثم أراه أو حذف لفظ قالت قبل قولها ثم أراه
سورة البقرة من الآية ۱۸۷
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن السيدة
عائشة رضي الله عنها
۹

نِعْمَ النساء نساء الأنصار لم يَمْنَعْهُنَّ الحياءُ أن يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين ۱
الوجه الرابع فيه دليل على التيسير في أمر النجاسات وإنما نحن مكلفون بما رأينا ولا نتوغل على النفس بالمحتمَلات لأنها لم تغسل إلا المني الذي رأت ومحتمل أن ضرب في
موضع آخر من الثوب نفسه أو غيره
يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام النَّضَحُ طَهورٌ لا شك فيه ۳ لأن فائدة النَّضح ما هي إلا لزوال ذلك الأثر الذي يحيك في النفس أو اغتفار النجاسة التي ليست بمتحققة أو لهما معاً لأنه إن كانت النجاسة وصلت للثوب فليس الرش بالماء يزيل عينها وإن كانت لم تصل فليس الماء يزيد في طهارة الثوب شيئاً
الوجه الخامس فيه دليل على رفع حكم النجاسة وإن بقي لونها إذا غسلت بالماء وذهب عينها يؤخذ ذلك من قولها ثم أراه بُقعاً بُقعاً
الوجه السادس فيه دليل على أن المؤمن في حال حَدَثِ الجماع في اليقظة أو في النوم طاهر العين ٤ وثوبه طاهر يجوز له الصلاة فيه ما لم ير فيه شيئاً فإن رأى غَسَل يؤخذ ذلك من قولها مِن ثوب رسول الله ولا يصيب الثوبَ المَنِيُّ إلا بأحد وجهين إما بجماع وإما باحتلام وإنما الطَّهورُ ٥ على الجُنُب تعبد وذلك مذهب أهل السنة
الوجه السابع فيه دليل على جواز خدمة المرأة زوجها إذا رضيت ذلك وإن كانت ذات بال يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل فإن الغسل من جملة الخدمة وأي رفعة مثل رفعة
هذه السيدة
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه موقوفاً عن عائشة رضي الله عنها ضرب بمعنى انتشر ومنه ضرب في الأرض انطلق مسافرا وضمير الشأن اسم أن المخففة ۳ مروي بالمعنى وأصله رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الحكم بن سفيان رضي
الله عنه
٤ العين ذات الشيء وكنهه وللكلمة معانٍ أخرى كثيرة
٥ الظهور الماء الطاهر الذي يتطهر به

٦ ذات بال ذات شأن وأمر ذو بال أي شريف يُحتفل له ويهتم به

عن عائشة رضي
حديث غسل دم الحيض
رضي الله عنها قالت كانت إحدانا تحيضُ ثم تَقْرُصُ الدَّمَ مِن ثَوْبِها عند طهرها فتغسِلُه وتَنْضَحُ على سائرِهِ ثم تُصَلّي فيه
*
ظاهر الحديث يدل على غسل دم الحيض والصلاة في الثوب الذي حاضت فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قولها كانت إحدانا تحيض ولم تخبر عن نفسها فما وجه ذلك فالجواب أن الإخبار عن الجميع يقتضي تقرير الحكم وهو على الكلّ على حد سواء فلو أخبرت عن نفسها لاحتمل الأمر أن يكون ذلك خاصا بها أو يكون لعذر ما فأتت بالوجه الذي لا يحتمل التأويل الوجه الثاني يؤخذ منه من الفقه أن الإخبار عن الأشياء يجب أن يكون بأبين الوجوه ويؤخذ منه جواز الإفصاح بالمستقذرات وإن كانت السنة قد جاءت بالكناية عنها لكن من أجل تقرير الأحكام كما تقدم في الحديث قبل لا يمكن إلا الإفصاح بها يؤخذ ذلك من ذكرها الحيض وإضافته لهن رضي الله عنهن
الوجه الثالث يؤخذ منه أن زوال النجاسة لا يتعين إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من قولها إنها لم تكن تغسل الدم إلا عند الظهر ويؤخذ منه أن دم الحيض كغيره من الدماء سواء وهو حجة على من يقول إنه أشد من غيره من الدماء يؤخذ ذلك من غسلها له ليس إلا كغسل المني
قبله وغيره من النجاسات الوجه الرابع قولها ثم تقرص الدم فلأنه أيسر في زواله وهذا معلوم حسّاً لأن النجاسة إذا كان لها جرم فحكُها أولاً ثم غسلها كان أسهل لأنه إذا صبّ عليها ماء ولم تقرص كان أكثر في الانتشار لها في الثوب ويترتب عليه من الفقه وجوه منها أن الأحسن - بل السنّة - في غسل النجاسة التي لها عين قائمة فركها قبل غسلها

الوجه الخامس يؤخذ منه أن السنّة في الأمور أن يؤخذ الأيسر منها لأن هذا الوجه لما كان

الأيسر في زوال النجاسة فَعَلَته وأخبرت به لكي يُقتَدَى بذلك في هذا وفي كل الأمور ويؤيد ذلك في حديث غير هذا قولها فيه ما خُيّر رسولُ الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ۱
الوجه السادس فيه دليل على نضح ما شك فيه يؤخذ ذلك من قولها وتنضح على سائره
وهنا بحث لم قالت في الحيضة بالنضح ولم تذكر ذلك في المني فالجواب عن ذلك لمّا كان زمن المني يسيراً عُفي عنه ولما كان زمان الحيض كثيراً جعل فيه النضح ولأنه أيضاً يدل على العفو كما تقدم البحث في الحديث قبله وإن كان يعطي بغلبة الظن أن طول الأيام مع استصحاب حال الحيضة والنجاسة ظاهرة في الثوب حتى تيبس لأنه لا يمكن الفرك في الدم إلا مع يبسه فقد يضرب ۳ في موضع آخر قبل يُبْسِه

ولوجه آخر لأن أول الحيض دم خاتر ٤ وآخره صفرة وكدرة كما جاء في الموطأ والصفرة والكدرة لا يتعلق منهما شيء يقتضي الفرك فدل بذلك أن الدم بقي في الثوب من أول الحيض أو من أثنائه أو من مجموعهما حتى إلى وقت الظهر ٥ ويغلب على الظن إصابته ٥ أعني أن موضع الدم يضرب في البدن وقد يكون البدن عرقاناً ٦ فيتعلق به شيء منه ثم يُمسح في موضع ثان من الثوب أو يضرب موضع الدم في غيره من الثوب نفسه لكن لما لم يكن مَرْيْتاً تُجوّز ۷ عنا في ذلك
وهل هذا في كل ثوب كان أبيض أو مصبوغاً الحديث ظاهره العموم
ويؤخذ منه جواز ترك النجاسة في الثوب في غير وقت العبادات وأن ذلك ليس بممنوع وهل ذلك - أعني بقاءها في زمان غير زمان العبادة - على الإطلاق أو ليس وأعني بالإطلاق كانت النجاسة مما تنفك عن الشخص أوليست مما تنفك عنه كدم الحيضة لأن التي ليست تنفك لو كلفنا بزوالها لكان فيه مشقة
1 رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
سائره باقيه
۳ يضرب في موضع آخر يصيب موضعاً آخر أو يذهب إليه
٤ خاتر غليظ ثخين ه كذا بزيادة إلى
٦ كذا بالتنوين والقياس أنه ممنوع من الصرف وعرقان فيه عرق كثير والعرق رشح الجلد
۷ أي تُجووز وعُفي

فالجواب - والله أعلم - أن الجواز على حد واحد بدليل قولها في حديث آخر عن غسل المني أنها كانت تفركه ولا يكون الفرك إلا مع اليُبْس فلو لم يكن ذلك جائزاً لما كان يقع ذلك من رسول الله وإلا كانت هي تعلل هنا تأخير الغسل لأن هذا موضع تقرير الحكم الوجه السابع فيه دليل على أن الصلاة لا تصح من الحائض إلا بعد رفع الدم وزوال النجاسة
والطهر بالماء يؤخذ ذلك من وصفها لهذه الأحوال وحينئذ تصلي
وهل هذا على الوجوب أو الندب أما الطهور فواجب إذا أمكن وإلا بَدَلُه وأما رفع الدم فواجب بالنص والإجماع وأما زوال النجاسة فمختلف فيه هل هو فرض أو سُنّة مع
إمكان زوالها
ويدل أيضاً على سقوطها - أعني الصلاة - عن الحائض لأن وجوب الشيء يستلزم سقوط ضده ويقوي ذلك النص والإجماع
وهنا سؤال لم قالت ثوبها ولم تقل درعها أو غير ذلك من أسماء الثياب فالجواب أن الإخبار بالأعم أفصح وأبينُ في الحكم لأنها لو قالت اسم ثوب من الثياب كنا نلحق باقي الثياب به بالقياس والذين لا يقولون بالقياس يقصرون الحكم على الذي نطقت به ليس إلا كما هي عادتهم في جميع الأحكام يقصرون الحكم على المنطوق به ليس إلا فلمّا كانت الفائدة في العام الذي يجمع أنواع الثياب أتت به عاماً
ويترتب عليه من الفقه أن على المخير بشيء يتعلق به حُكْم أن يخبر بأعم ما يكون في ذلك وإن كان مع الاختصار فحسن
الوجه الثامن يؤخذ منه أيضاً أن بَدَن الحائض وعَرَقها طاهر لأن البَدَن بالضرورة لا بدَّ له مع طول الأيام من العرق فلو كان غير طاهر لغسلت الثوبَ ولم تنضحه
وقولها تنضح على سائره هل على هنا على بابها أو هي زائدة الظاهر أنها على بابها وليست بزائدة لأنها إذا كانت على بابها فهي إشارة إلى تعليم كيفية الفعل في النضح وإذا كانت زائدة فلا فائدة فيها فحيث رأينا الزيادة علمنا أن ذلك هو المقصود ممَّن هو أقل منها فكيف من تلك السيدة لأن صفة النضح الذي جعل طهور الماء شرطاً فيه هو أن يبل الشخص يده بالماء ويرش
على الثوب ولا يلصق يده بالثوب ولذلك قالت على وهذا الوجه هو المختار فيه لا غير
وبعض الناس يبل يده ويلصقها بالثوب وحينئذ يجرها على الثوب أو يأخذ الماء ويسكبه لا على الثوب وقد قال علماؤنا إن من خالف الصفة الأولى - التي ذكرنا - فإن ذلك النضح
۳۳

ومن
يؤخذ
يجزئه وأن حكمه حكم من صلى بالنجاسة فمن قال في إزالتها إنها فرض يعيد أبداً قال إنها سُنَّة يعيد في الوقت لأنه من خالف ما أمر به لا يجزئه غيره الوجه التاسع فيه دليل على أن حكم النضح حيث أُمر به كحكم الغسل حيث أُمر به ذلك من قولها وتنضح على سائره فشَرِكت ۱ الحكم بين الغسل والنضح وحينئذ قالت ثم تصلي فأتت بـ ثم التي للتحويل من حال إلى حال فلم تشرع في الصلاة إلا بعد الفراغ من النضح والغسل وفيه تقوية لما ذكرناه من قول علمائنا رضي الله عنهم والله الموفق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ شرکه شاركه من باب علم
٢٣٤
ن الله حال
سخت

حديث كيفية الاغتسال من الحيض
عن عائشةَ رضي رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار قالت للنبي يا رسول الله كيف أغتسل من الحيض قال خُذي فِرصَةً مُمَسَّكَةٌ ۱ فتوضئي بها ثلاثاً ثم إن النبي استحيا فأعرض بوجهه أو قال توضئي بها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتُها بما يريد
النبي
ظاهر الحديث أن دم الحيض له رائحة لا يذهبها الماء وحدَه والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل قصدت بقولها الطهور الشرعيَّ أو اللغويَّ احتمل سؤال السائلة الوجهين معاً والظاهر أنها لم تسأل عن كيفية الطهور وإنما احتمل سؤالها معنيين أحدهما عن كيفية الطهر هل ما تعلم منه هو المُجْزِىء وهو الكمال فيه أم ذلك هو
المجزىء وبقي عليها شيء إن فعلته كان زيادةَ كَمالٍ فيه والوجه الآخر أن تسأل عن الطّهر اللغوي هل هو في ذلك المحل كغيره أو يختص ذلك المحل بزيادة أخرى
هذا هو الظاهر من المعنيين يؤخذ ذلك من جواب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله خذي فِرْصَةً مُمَسَّكةً فتوضئي بها ثلاثاً لأن الفرْصة قطعة ثوب وممسَّكة مطيَّبة وليس هذا صفة الطهور بالماء لا الشرعي ولا اللغوي فبهذا عَلِمنا أن النبي لا لا اله فَهِمَ عنها خلاف ظاهر اللفظ بقرينة الحال وقرينة الحال - بالإجماع - إذا تحققت أخرجت اللفظ عن ظاهره إلى ما دلّت عليه القرينة ولذلك قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعيدنا لا بالألفاظ وهذا النوع كثير في الكتاب والسنّة
۱ الفِرْصَة القطعة من الثوب أو القماش والممسكة المطيبة بالمسك توضئي - هنا - تنظفي
٢٣٥

الوجه الثاني قوله عليه السلام فتوضئي بها ثلاثاً أي تنظفي مأخوذ من الوضاءة وهو الحُسن فيكون ظاهر الحديث أن السنة للحائض إذا طهرت وتطهرت أن تُطَيِّب ذلك المحل الذي هو موضع الأذى وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو الندب وهل هذا مطلق لمن لها زوج أو لا زوج لها وهل هذا العلة أو ليس لعلة وهل هذا مع الإمكان وغيره أو مع الإمكان ليس إلا فالجواب أما على الوجوب فلا أعلم أحداً قال به وليس هنا أيضاً قرينة تدل عليه فلم يبق
إلا أن يكون ندباً
وأما هل يكون ذلك مطلقاً أو لا فإن قلنا إنه تعبد غيرُ معقول المعنى فيكون مطلقاً وإن قلنا إنه معقول المعنى فما تلك العلة
قيل إنما ذلك من أجل الزوج لأن دم الحيض نَتِن ويبقى الأيام المتوالية على ذلك المحل فيكتسب منه رائحة فربما يتأذى منها الزوج فتكون تلك الكراهية التي يجدها سبباً للفرقة وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم وقيل إن المحل يلحقه من الدم رِخوا وإن الطيب يصلح ذلك منه وفيه أقاويل تشبه
هذا فعلى هذا يكون لذات الزوج مندوباً

ويبقى الكلام لغير ذات الزوج يكون فيه أقاويل على ما يظهر والله أعلم إن كان ذلك مما يحرك عندها شهوة الجماع فلا تفعل وإن كان ذلك مما لا يحرك عندها من ذلك شيئاً فحسن أن تفعل لأن الطيب من السنة لا سيما لمنفعة تلحق كما قدمناه على أحد الوجوه
وأما مع الإمكان أو عدمه فلا تكلف في الفرائض إلا قدر إمكانها فكيف في المندوبات وقوله فرصة فلأن ذلك المحل لا يمكن تطيبُهُ باليد وإن فُعِلَ فلا تكون له فائدة والفائدة - كما ذكرنا - هي رفع الأذى عن ذلك المحل
وقوله ثلاثاً مبالغة في التطييب
وقولها ثم إن النبي استحيا هذا دال على حسن خلقه عليه السلام
الوجه الثالث فيه دليل على أن الأمور التي لا يمكن معرفة الحكم فيها إلا بذكرها على ما هي عليه - وإن كان ذكرها يخجل أو يكره - فلا بد منه من أجل الضرورة
۱ رِخْو من رَخا يَرخو أَو من رَخِيَ يَرحَى بمعنى اتَّسَع يقال عَيش رِخو ويطلق على كل هَضٌ لين من كل شيء
٢٣٦

حل
ج
ـق
ن
الوجه الرابع يؤخذ منه أن الاستحياء يُعلم بالإعراض بالوجه يؤخذ ذلك من فعله وفيه من الفقه أنه إذا فعل ذلك عرفه منه الرائي فتركه من ذلك الأمر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الحياء لا يظهر إلا بعد القدر المجزىء من الحكم يؤخذ
ذلك من أنه له لم يفعل ذلك إلا بعد فراغه من الكلام بتقرير الحكم ولذلك أنت بـ ثم الوجه السادس فيه من الفقه أنه إذا كان الإعراض عند الكلام بإلقاء الحكم يحصل للسائل من ذلك تشويش فقد لا يفهم ما قيل له فتذهب الفائدة فحين أعرض بوجهه أو قال توضئي بها لأنه فَهِمَ عنها أنها لم تفهمه فأتى بقرينة تنبىء أن هذا الوضوء المذكور هو في المحل الذي إذا ذُكِر كان فيه حياء ليعبر بالحال عن المقال وقولها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي ففهمت تلك السيدة رضي الله عنها قبل السائلة فحيئنذ أخبرتها
الوجه السابع يؤخذ منه تعليم المفضول بين يدي الفاضل لكن بعد ما يلقي الفاضل الحكم فيكون ذلك من باب الخدمة له لا سيما في أمر يكون الفاضل يخجل منه والمفضول ليس ذلك مما يخجله لأن تحدّث النساء فيما بينهن لا يقع منه خجل كما يقع من حديث الرجال معهن لا سيما في هذا المحل الخاص
الوجه الثامن فيه دليل على حمل العذر لمن لا يفهم والسنة أن يُرفق به في التعليم يؤخذ ذلك من أن النبي ا لَمَّا لم تفهم عنه السائلة وجاوبتها عائشة رضي الله عنها أقرَّ ذلك ولم يقل فيه شيئاً ولو لم يكن كذلك لقال ما فيه من الحكم يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام
علموا وارفقوا ۱ وهو الرفق والإعذار
ويؤخذ منه جواز الحكم بالإشارة إذا فُهم المعنى يؤخذ ذلك من قولها فأخبرتها بما يريد
رسول الله ولم تذكره الوجه التاسع فيه دليل على أن من الشرع أن يوصل بالفعل دون القول إلى ما يريد القائل إذا ألا تراجع في ذلك الأمر رسول الله أكثر مما تقدم وأقرها النبي ل على ذلك وليس فيه منقصة لا للفاعل
أمكن ذلك يؤخذ ذلك من قولها أخذتُها فجذبتها لأن أخذها قام مقام النهي
ولا للمفعول به
الوجه العاشر فيه دليل على جواز القبول من المفضول بحضرة الفاضل يؤخذ ذلك من بيان عائشة رضي الله عنها ما بَيَّنَتْهُ لها و لم تراجع النبي و و و و و وأجاز ذلك هو عليه السلام
1 لعله مروي بالمعنى لحديث علموا ويسّروا ولا تعسروا ولا تنفّروا فإذا غضب أحدكم فليسكت رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله عنهما

الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن المرء مطلوب منه ستر عيوبه وإن كانت مما جبل
عليها يؤخذ ذلك من أمره ا للسائلة أن تُذهب أثر تلك الرائحة التي هي مما جبلت عليه وتسترها بالطيب لكن الفقه فيه ألا يكون الستر إلا بما تجيزه الشريعة تحرزاً من أن يكون بتدليس أو كذب أو محرم فذلك ممنوع ويقوي ما قلناه قوله عليه السلام للسائل حين أوصاه إذا
غضبت فاسكت ۱ لأن الغضب شَيْن والسكوت له ستر وذلك في الشرع إذا تتبعته كثير ولذلك اتخذ أهل الصوفة التحلي بعدم الانتصار لأنفسهم لأن حظوظ النفس شَيْن في العقلاء فستروها بالعزم على عدم الانتصار لها حتى إنه ذكر عن بعضهم أن شخصاً سَبّه فأعرض عنه فقال له أنت أعني قال له السيد عنك أعرض ومثل هذا عنهم كثير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

لسنا
1 رواه البخاري في الأدب المفرد / ۱۳ و ٢٤٥/ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ۳/۸ والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ۱۷۰/۳ والطبراني في المعجم الكبير ٣٣/١١
كذا والصواب إياك أعني
۳۸

- ٢٤
حديث خلق الجنين في بطن أمه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال إن الله تعالى وكَلَ بالرَّحِم مَلَكاً يقول يا ربِّ نُطْفةً يا ربِّ عَلَقَةً يا ربِّ مُضْغَةً فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال ذكر أم أنثى شقيٌّ أم سعيد فما الرزقُ فما الأجَل فيُكتب في بطنِ
مَلَكاً ينادي إلى الحق سبحانه
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ وَكَّلَ بالرَّحِم وهو الذي لا يخفى عليه شيء عند كل وقت في حين تطوير المولود من حالة إلى حالة يخبر بتلك الحال إلى تمام حكم الله في كمال خلقه في الرَّحِم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا على عمومه من ظاهر أحكامه كله أو ليس
وهل يمكن الاستدلال على معرفة الحكمة في ذلك وما الحكمة في تعريفنا بهذا وما يترتب علينا بذلك من الأحكام الشرعية
فأما الجواب على هل هذا الحديث على ظاهره في جميع أحكامه فليس على ظاهره في كل أحكامه لما يعارضه من الآثار والآي لكن الفقه في الجمع بينهما بفضل الله فأما الآثار فمنها ما جاء أن الله سبحانه إذا أراد أن يخلق من بين الذكر والأنثى مولوداً أنه يُبقي الماء في الرحم ذلك المقدار الذي شاء الله ۱ وقد أخبر به في حديث آخر وهو أن الماء إذا وقع في الرحم يتطور كما أخبر الله تعالى في كتابه ۳ ومثله على لسان نبيه عليه السلام في
۱ الآيات القرآنية المتصلة بخلق الإنسان كثيرة منها يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى الحجرات/ ۱۳ و يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الحج / ٥ الخ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينِ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نَطْفَةٌ في قرار تكي أن خَلَقْنَا الظُّفَةَ عَلَقَدْ

۳۹

كل حالة أربعين يوماً إلى أن يُنفَخَ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً فإذا فرغت الأربعون يوماً الأولى - وهي المقدار الذي أشرنا إليه بقولنا ذلك المقدار الذي شاء الله - يبعث الله ملكاً فيأخذ من أي موضع شاء الله أن تكون تربة ذلك المولود منها فيأخذ من تلك التربة غباراً بين أصابعه فيدخل في الرّحِم فيُعجَن ذلك التراب بذلك الماء في الرحم وجاء أثر آخر أنه إذا كملت تلك الأيام مع التطوير بعث الله ملكاً فيصوره ويصور جوارحه على نحو ما يؤمر
وجاء حديث آخر أن الله يبعث مَلَكاً إلى الرحم عند ما تتم الثلاث تطويرات ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيا أو سعيداً ۳ وفي حديث آخر ينادي الملَكُ المُوَكَّلُ بالرَّحِم عند فراغ التطويرات فيقول يا رب مخلقة أم غيرُ مخلقة فيقول ربك ما شاء فيقول يا رب شقي أو سعيد فيقول ربك ما شاء فيقول ما الرزقُ ما الأَجَلُ فيكتب قبل نفخ الروح 4
وأما الآي فقوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ ٥ وقوله تعالى فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنبيَّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ٦
فيجب الإيمان بمجموع الآي والأحاديث فيجتمع معنى وجه الآية والأحاديث بالوجه الذي يجتمع به وجه الآي التي جاءت في كيفية الموت لأن مولانا سبحانه أخبر في بعض الآي بقوله وهو
فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا وَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَلِقِينَ المؤمنون ١٢ - ١٤ 1 لم نقف على مصدره ولكن الآيات التي تشير إلى أصل الإنسان كثيرة منها وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ مِنْ حما مسنون الحجر ٢٦ و خَلَقَ الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ كَالْفَخَارِ الرحمن ١٤ و﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ وَادَمَ خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ آل عمران ٥٩ و يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْتَنكر من تراب الحج ٥ و هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ غافر ٦٧ ﴿ أخرج مسلم عن حذيفة بن أسيد قال سمعت رسول الله الله بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك قال زهير حسبت قال يخلقها فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا ربّ أسَوِيّ أو غيرُ سَوِيّ فيجعله الله سَوِيًّا أو غيرَ سَوِيّ ثم يقول يا ربّ ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيًّا أو سعيدا وزهير هو أحد رجال الإسناد وهو زهير بن معاوية بن خديج ۳ رواه الحميدي والبخاري والبيهقي في الاعتقاد والأسماء والصفات والسنن الكبرى عن عبد الله بن مسعود رضي

الله عنه بلفظ آخر
هو حديث الباب الذي يشرحه المؤلف مع شيء من التصرف ببعض الألفاظ
٥ سورة ال عمران من الآية ٦
٢ O
٢٤٠
٦ سورة الحج من الآية ٥

أصدق القائلين قُلْ يَتَوَفَّنَكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكلَ بِكُم ۱ وقال في آية أخرى و الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فأضاف القبض في الواحدة إلى ملك الموت وفي الآية الأخرى إلى نفسه جلّ جلاله ويتصور الجمع بين الآيتين أنه أخبر في الآية الأولى في قوله مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكَلَ بِكُم ﴾ بمقتضى الحكمة والقبض الآخر الذي أضافه إلى نفسه بمقتضى القدرة لأن ملك الموت وغيره من جميع المخلوقين أفعالهم كسب لهم بمقتضى الحكمة وخَلْق الله بمقتضى الاختراع والخلق لا
خالق إلا الله
ولذلك قال أهل السنة إن أفعال العباد خَلْق للرَّب وكسب للعبد كما تقدم في الحديث قبل ومثل ذلك الجمع بين الأحاديث والآي فإنه جاء في الأحاديث أنه أخبر بمقتضى الحكمة - وهو واسطة الملك - وفي الاي بمقتضى القدرة وهو الاختراع والإنشاء ولذلك جاء أن الحفظة إذا صعدت بعمل العبد يقول الحق سبحانه اعرضوه على اللوح المحفوظ فيوجد على حد سواء
قال بعض الناس ما الحكمة في ذلك وهو مع ذلك علمه في كل وقت لا يَعْزُبُ عنه فعلُ المَلكِ ولا غيره فالجواب هذا تعبّد تعبَّدَ الله به الملائكة والله عزّ وجلّ يتعبد مِن خلقه من شاء كيف شاء ولحِكمٍ أُخَر لا تُحْصَر
وأما جمع الأحاديث فهو أن الله عزّ وجلّ وكَّلَ بالرَّحِم ملكاً كما وكَّل بالمعدة ملكاً وبالطعام ملكاً وبالشراب ملكاً وبحفظ العبد ملكاً وكذلك لكل حاسة من الحواس ملكاً كما جاء في بعض الآثار غير الشم فما سمعت فيه شيئاً ويحتمل أن يكون ولم أره فالقدرة صالحة ويكون ملَك مُوَكَّلاً بِسَوَقان التراب وعَجْن الماءِ به ومَلَكُ آخرُ مُوَكَّلُ بتصويره تعبداً ومَلَك يكون إتيانه عند مناداة الملك الموكَّل بالرَّحم لأن زمان التطوير قد فرغ فتكون فائدة إخباره أن يأتي الملك الموكل بالتصوير إذ ذاك فيمتثل ما يُؤْمَر به أو يقال له غير مخلقة فلا يأتي ملك التصوير
فإن أتى ملك التصوير وفرغ مما أُمر كما أمر لأنه قد جاء أن الملك إذا جاء للتصوير نُصِب له سبعون وفي حديث آخر ألف من جدوده - على ما رواه أبو داود - ثم يلقي الله تعالى شَبَهَه على من يشاء منهم ۳ فإذا فرغ التصوير نادى الملك الموكَّل بالرَّحِم فيأتي مَلَك آخرُ بالأربع
۱ سورة السجدة من الآية ۱۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
۳ أخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أنه إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها
٢٤١

كلمات فيجاوب المخبر عن كل واحدة واحدةً ويكتب والكاتب هنا لا نعرفه فلعله بعض الملائكة المذكورين أو غيرهم والله أعلم فيحصل الجمع على هذا التأويل ويكون عدد الملائكة الذي يجتمعون في الرَّحم عند خلق المولود من أوله إلى آخره أربعة وبقي البحث على الكتبِ هل يكون في الشخص نفسه أو في شيء اخر محتمل والقدرة صالحة فإن هذه الأحاديث كلها أخبار والأخبار لا يدخلها نسخ فيكون الحق سبحانه يخص من المخلوقين من هذه الوجوه ما شاء لمن شاء إظهاراً لِعِظَم القدرة بجميل بديع الحكمة وبعد الفراغ من هذا كله على أي وجه شاءه الله من تلك الوجوه ينفخ فيه الروح لكن قد جاء بيان هذا في حديث غيره وهو قوله عليه السلام ويَخرُج الملك بعد الكتب من الرَّحم بالصَّحيفة
في يده ۱
وقد جاءت في كيفية بدء خلقنا اثار بخلاف هذا الترتيب منها أنه قال عليه السلام إذا وقع ماء الرجل في الرَّحم تطاير في عروق المرأة أربعين يوماً وبعد ذلك يجتمع في الرَّحم وقد جاء عنه عليه السلام أنه عند فراغ الأربعين يوماً الأولى يكون تصوير النطفة بما شاءته القدرة وأما الجواب المعرفة ما الحكمة في ذلك هل لنا سبيل إلى معرفتها أو إلى شيء منها فما أخبرنا بها إلا لنتدبر ما الحكمة فيها فمن الحكمة في ذلك ما يحصل لمن مُنَّ عليه بتصديقها من قوة الإيمان الذي زيادة ذرة فيه خير من عمل الدهر يشهد لذلك قول سيدنا وله تَفكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدهر ۳ وإنما ذلك لما يتحصل فيها من قوة الإيمان كما يتحصل بمعرفة هذه ووجه آخر وهو أن نعرف للحكمة قدرها إذ ذاك أمر قد تقدر في جميع العوالم فيكون من
باب التحضيض عليها والتعظيم لشأنها
ويترتب على ذلك من الفقه أنه بمقتضى الحكمة استدللنا على القدرة وبالقدرة وعِظَمِها استدللنا على الحكمة فوجب بمقتضى الإيمان والتكليف والنظر والاستدلال الإيمان بمجموعهما والتعظيم لهما والإذعان لمن هذه مِن بعض صفاته كما أمر وقهر وحَكَم بالتعظيم
والإجلال والإكبار والتنزيه
۱ لعل المؤلف - يرحمه الله - أراد بما أورده معنى هذا الحديث إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة مجتها الأرحام دماً وإن كانت مخلقة قال يا ربّ فما صفة هذه النطفة ذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها أشقي أم سعيد قال فيقال له انطلق إلى الكتاب فاسْتَنسِخ منه صفة هذه النطفة قال فينطلق الملك فيستنسخها فلا تزال معه حتى يأتي على اخرها أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
سلف تخريجه في الحديث ۱
٢٤٢

لكة
الوجه الثاني فيه دليل على أن وجود الحق حق وإدراكه غير ممكن يؤخذ ذلك من أن
الملائكة بالإجماع أجسام وتراهم يدخل النفر منهم فينا ولا ندركهم ولا نشعر بهم وهم يتصرفون فينا ولا نعلم فكيف خالقنا وخالقهم فإن بقطعيات العقول لا يشبه الصانع الصنعة
الوجه الثالث فيه من الأدلة الإيمانية إذا تؤملت جمل كثيرة
وأما الجواب على ما الحكمة في الإخبار بذلك لنا وما يترتب عليه من الأحكام الشرعية فمنها التعريف لنا ببدء خلقنا وضعفنا ولطفه بنا وتَغْطِيَتِهِ بألطافه لنا وتسخير الملائكة الكرام لنا في كل الأحوال التي كنا عليها في حال يُعقل أو لا يعقل كما قال عزّ وجلّ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۱ على طريقة المَنْ وهذا استدعاء لطيف في طلب العبادة وانشراح الصدور لها فإنه إذا رأى العبد قدر هذا اللطف به من هذا المولى الجليل الغني المستغني سَهُلت عليه العبادة ورغب في الحظوة عند هذا المَلِك الذي قد كرَّمه قبل أن يعرفه ويعبُده فكيف به إذا عبده وسمع قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ أُولَيْكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ذاب حياءً وحباً واشتياقاً ورغبة ورهبة
الوجه الرابع ومما يترتب عليه من الأحكام الشرعية أن حكم الحاكم إذا نفذ ومضى لا يردّ يؤخذ ذلك من قوله أنه لا ينفخ الروح إلا بعد الكتب فيكون الحكم قد نفذ ومضى وهو في عالم اخر فلا يخرج لعالم الحياة إلا على حكم قد تمّ وفرغ فلا يطمع أحد في نقضه وهو موضع تحقيق الخوف والرجاء مع العمل أو تركه جعلنا الله ممن سبقت له السعادة بمنّه
ثم نرجع إلى ألفاظ الحديث بعون الله فقوله إن الله وكل أي جعله عليه مراقباً أين يكون فيه أو عليه القدرة صالحة للوجهين
الوجه الخامس قوله يقول في الكلام حذف معناه عندما يخلق الله النطفة وقوله يا ربّ نُطفَةٌ النطفة الماء اليسير في الإناء وهنا أيضاً حذف آخر لا يتم الكلام إلا به معناه نطفة حدثت في الرحم ثم ينادي عند تطورها بقدرة الله علقة العلقة قطعة من الدّم
الوجه السادس قوله يا رب علقة فيه محذوف ثالث معناه أي انتقلت أي انقلبت علقةً الوجه السابع قوله ثم يقول يا رب مضغة فيه محذوف رابع معناه انتقلت العلقة
مضغة والمضغة الشيء الذي يمضغ وليس فيه تشكيل
۱ سورة الجاثية من الآية ١٣
سورة البينة الآية ٧
٢٤٣

الوجه الثامن قوله فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قوة الكلام تعطى أن الله سبحانه إذا لم
يرد خلقه ينفذ فيه ما شاء من أمره إما أن يمجه الرحم وإما أن يبقى على حاله حتى ينفذ فيه ما شاء الحكيم فإن أراد الله خلقه - ولا يعرف الملك إرادة الله فيه إلا إذا ظهرت كما تقدم في الوجوه الثلاثة - فعند ذلك يأمر الله عزّ وجلّ بتصويره للملك الموكل بذلك - كما تقدم قبل - فيسأل أذكر أم أنثى
فهل لا يسأل ۱ إلا بهاتين الصيغتين لا غير ويكون الجواب بما قدر من ذكر أو أنثى أو خنثى بيناً أو مُشكلاً إلى غير ذلك مما قد رأيناه عياناً في جميع المخلوقين ويترتب على سؤاله بهاتين اللفظتين أن الكلام والعمل إنما يكون على الأغلب مما جرت به الحكمة أو يكون سيدنا عبر بهاتين اللفظتين من باب التنبيه بالأعم على الأخص احتمل لكن الظاهر في الإخبار أنه ليس كغيره من الأحكام لأنه شيء يوقف عنده ويؤمن به ليس إلا
ويترتب على هذا الإخبار بهذه التطويرات التي بدأ خَلْقَنا بها إلهنا وقدّره الله تعالى فينا وفي جميع خلقه قطع تسليط العقول عن إدراك قدرته إلا الذي من علينا بالوصول إليه كما أمرنا ومنع الطمع ممن هذه قدرته أن يحاط به أو بوصفه تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً
وبين لنا ما النسبة بين ما كان حقيقيًا من تلك التطويرات على ضعفها وما نحن عليه عند بلوغ الاحتلام والتكليف وما اجتمعت عليه هذه الصورة الحيوانية الإنسانية من عظم ومخ ولحم وعصب وعروق وشعر وجلد ودم وكبد وقوة وعقل وفكرة وشهوة وتصرّف وبطش وجميع ما فيها من حسن الصنعة كما قال عزّ وجلّ لَقَد خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ٢

ثم أين نسبة ذلك الحال الأول من هذا الحال وأين ذلك الخلق من هذه الخلقة كما قال

عزّ وجلّ في شأن الثمر عند تناهي طيبه انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ ٣ معنى ذلك
أين
انظروا إلى حال الثمر إذا برز من الشجرة ثم انظروه عند تناهي طیبه این نسبته في هذا الحال من نسبته أولاً أو من نسبة منبته فرأينا النسبة بين الحالين متباينة فكأنه عزّ وجلّ يقول بمدلول قوة الكلام ألا تعرفون أن ذلك بالقدرة لا بالأصل ولا بالماء فاعتبروا بمن هذه قدرته وأذعنوا إليه وأسلموا

333
ثم بعد ذلك يأتي حال الكِبَر وتنعكس تلك القوة ضعفاً ويدخل عليه النقص في جميع
يريد أفلا يسأل لأن هل لا تدخل على لا
سورة التين الآية ٤ ۳ سورة الأنعام من الآية ۹۹
٢٤٤

أحواله مع إبقاء الخلقة على قالبها كما أخبر عزّ وجلّ ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةٌ ۱ فأهل الاعتبار اعتبروا وأهل التذكار اذكروا وبقي أهل الغفلات عمهات الجهالات لا يبصرون إلا على قدر شهوتهم وهم في العلوم بعضهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً وغيرهم كما أخبر عزّ وجل إن هُم إِلَّا كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ولذلك قال جل جلاله وَكَأَن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ ۳
أي غافلون
الوجه التاسع قوله شقي أو سعيد لا ثالث لهما لكن الشقاوة تفترق على أنواع بعضها أعظم من بعض والسعادة أيضاً كذلك
الوجه العاشر قوله فما الرزق فما الأجل هنا بحث لِمَ أتى في الرزق والأجل بالفاء التي تعطي التعقيب دون غيرها من الحروف
لأنه
فالجواب - والله أعلم - أن أول ما يشتغل الملك بالخَلق وتقريره على ما شاءه الحكيم مع الشقاوة والسعادة وحينئذ أتى ذكر الرزق والأجل اخراً وهذا ترتيب بمقتضى الحكمة بديع الذي يكون الأهم والمتقدم بحسب الإرادة قَدَّمَ خَلْقَه أولاً وعليه يترتب التذكير والتأنيث أو غيرهما من الصفات وعليه أيضاً تقع الشقاوة أو السعادة ثم الرزق الذي هو متقدم على الأجل كما أخبر عليه السلام لن تموتَ نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطَّلَب ٤ ثم أخر الأجل فإذا كان الأمر قد تَمَّ فعَلامَ الحرص في طلب الرزق وقد تم الأمر لا يزاد ولا ينقص فيرجع الرزق والأجل والسعادة وغيرها كالتذكير والتأنيث لا يتبدل
وَلفَهم هذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم ولم يلتفتوا إلى غيرهم بشيء وبقوا مُعوّلين على من هو المتصرف فيهم اللطيف بهم كما لم تطمع النفوس في انقلاب الذكورية إلى ضدها أو ضدها إليها كذلك لم تطمع نفوسهم في الرزق ولا في الأجل ولا في السعادة في التبديل أصلاً وما بقوا إلا مشتغلين بما أمروا حتى إن بعضهم قال إن كان عَبَده لِخوفِ نارٍ أو رغبةً في جنة حَشَره الله مع فرعون وهامان بل قال أعبده لأنه أهل لأن يُعبَد ٥ وهو الحق لمن فَهِم
۱ سورة الروم من الآية ٥٤ سورة الفرقان من الآية ٤٤ ۳ سورة يوسف الآية ١٠٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ٥ هذا القول مروي على لسان رابعة العدوية
٢٤٥

وكفى في ذلك قصة العابد في بني إسرائيل الذي أخبره نبيه أنه من أهل النار فزاد في عبادته فأوحى الله لذلك النبي أن قل له يفعل ما شاء فإنه من أهل الجنة لازدرائه بنفسه

وأما من طريق الرزق فقال بعضهم إذا كان الفقير يُنظر في رزقه فإن الله يحسن عزاءه في طريقه وكفى في ذلك ما اختاره سيدنا محمد اله الا هو أنه قال أجوع يوماً فأتضرع وأشبع يوماً فأشكر ۳ وقال يمن بن رزق رحمه الله إذا كان الماضي لا يرجع والمقدور لا يتبدل فاطراح
الهم سعادة معجلة
الوجه الحادي عشر قوله فيكتب في بطن أمه يكون المعنى فيكتب وهو في بطن أمه وهنا بحث هل ذلك الكتب يكون قبل نفخ الروح أو بعده لكن قبل خروجه من بطن أمه ليس
في الموضع ما يدل على شيء منها لكن قد جاء في حديث آخر أنه يكتب ثم ينفخ فيه الروح ويترتب على هذا الإخبار من الفقه أن السعادة والشقاوة قد تكون بلا عمل ولا حياة في هذه الدار يؤخذ ذلك من قوله ثم ينفخ فيه الروح بعد كتب السعادة أو ضدها وقد رأينا من يموت في البطن قبل الخروج إلى هذه الدار وقد يخرج ولا يبلغ زمان العمل لا على طريق الوجوب ـ وهو البلوغ - ولا على طريق الندب وهو ما دون ذلك ويعضد هذا التأويل قوله عليه السلام في الأطفال الله أعلم بما كانوا عاملين ۳ لأن العلماء اختلفوا فيمن يموت قبل بلوغه التكليف على أي قدر كان من السن اختلافاً كثيراً لأن الأحاديث جاءت فيهم على أنواع فمنها قوله عليه السلام فيهم عصفور من عصافير الجنة 4 ثم قال فيهم هم من آبائهم ثم قوله عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وعلى هذه الآثار أكثر أهل السنة لا سيما مع ما في هذا الحديث الذي نحن فيه مما يقوي هذا المعنى وتكون تلك الآثار الآخر على الخصوص في هذين المعنيين فهذا المعنى يزيد تأكيداً لما ذهب إليه أهل الصوفة
جعلنا الله ممن سُعِد وحُمِي وفَهِم وعَمِل وقبل بِمَنْهِ لا ربَّ سِواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لعل معنى ينظر يُؤخّر أي من يتأخر رزقه فعزاؤه في طريقه وسلوكه الروحي و الفقير عند أهل الله يأتي بمعنى الفقير إلى الله أو بمعنى الصوفي فهو إنسان لا يهمه التقتير عليه ويجد سلوانه في الطريق الذي

أكرمه الله به بالعطاء المعنوي والإيماني

أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك الشر ولم
يعمله إلى آخر الحديث
٢٤٦

حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صليا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشُقّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله ل لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثلُ النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثلُ النجوم بأيهِمُ اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه وهو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا ل وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغيّر الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بِجَرْيِ العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة

٢٤٧

150-
حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صلَّيا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشقَّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثل النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه له هو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنّته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغير الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهّال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بجزي العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة
0
٢٤٧

ذكر بعض العلماء أنه إذا علم الشخص من نفسه أنه يميد حتى يَؤول أمره إلى تعطيل الصلاة أو
الخلل بشيء منها أنه لا يجوز له ركوبه وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى
فبهذين النوعين وما يشبههما إذا وقعت ولم تدخل عليها يجوز أن تصلي معها قاعداً إذا لم تقدر على القيام وهو المعني بـ المشقة هنا لأن العلماء لا يطلقون المشقة إلا على ما يكون مشقة شرعية يتعلق من أجلها حكم ما بخلاف أهل الصوفة فإنهم يطلقون المشقة على كل شيء يتغير به الخاطر قل أو جَلَّ الوجه الثاني قوله تدور معها يعني للقبلة حيثما دارت السفينة لأن الرياح تختلف بعض الأوقات على السفن فيكون مثلاً مقدَّمها إلى القبلة ثم تأتي ريح أخرى تديرها شرقاً أو غرباً أو لغير ذلك من النواحي فيكون المصلي في السفينة يدور إلى القبلة في الصلاة الواحدة إن احتاج لذلك مراراً لأنه شغل يسير معفو عنه والقبلة مطلوبة أو جِهَتُها حتماً لأنا معنا العلم بها والقدرة على ذلك ونحن الآن متمكنون من ذلك عارفون بها فلا يسعنا غير ذلك سواء كان المصلي قائماً أو قاعداً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز ركوب البحر فإن العلماء اختلفوا في ركوبه هل هو جائز مطلقاً أو لا يكون إلا للحاج والمجاهد فيه اختلاف بينهم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع ركوبه إلا لحاج أو مجاهد ويقول خَلْقٌ عظيم يركبه خَلْقٌ ضعيف ولولا آية في كتاب الله لكنت أضرب بالدرة من يركبه وركوبه لا يجوز إلا على الوجه المشروع في الحال وفي الزمان أما في الزمان فلا يجوز ركوبه عند ارتجاجه لقوله عليه السلام مَن ركب البحر في ارتجاجه فقد برىء من الذمة ۱
وأما في الأحوال من صفة المركب ووصفه إلى غير ذلك فلا يركب إلا على ما جرت به العادة إن كان ذلك هو المعروف عادة الذي تكون معه السلامة غالباً فإن لم يكن كذلك كان داخله أو
راكبه ممن يُلقي نفسه إلى التهلكة وقد جاء في ذلك ما جاء فهذا الحكم في البحر المعهودِ حِسّاً وأما البحور المعنوية التي ذكرها الناس فالركوب في كل بحر منها يجوز بحسب السنة فيه والبحور المعنوية سبعة بحر الدنيا وبحر الهوى وبحر الشهوات وبحر النفوس وبحر وبحر المعرفة وبحر التوحيد العلم
فبحر الدنيا ساحله الآخرة وركوبه في مركب الأمر والنهي
۱ رواه الإمام أحمد عن بعض أصحاب النبي
وعُدَده أنواع التعبدات
٢٤٨

وأوقات ركوبه عند عدم ارتجاجه وارتجاجه الفتن ولذلك حكمت السنة أن تكون في ذلك الوقت جلساً من أحلاس بيتك أو تكون بأصل شجرة وتفارق جميع الناس حتى يأتيك الموت وأنت على ما أنت عليه ورياحه العزائم فعلى قدر قوة عزيمتك يكون جَري سفينتك ورأسها العقل فعلى قدر عقلك يكون إتقان جريها وملاحوها خواطرك فعلى قدر حسنها تكون سلامتها ومسالكها العلم فعلى قدر علمك يكون حسن تصرفها ووَسَقها بضائع أعمالك فيكون الخلاص من البحر بقدر جودة السفينة وخدامها والربح أو الخسارة بحسب البضائع
وأما بحر الهوى فمَخُوف وممنوع ركوبه بل مهلك فلا يُحتاج إلى تعليله
وأما بحر الشهوات فكثير ارتجاجُه والقدر الذي أبيح منه على لسان العلم فيه من التشويشات هنا وهناك ما يعجز الوصف عن أقلها وهو من الجنس المندوب إليه وهو الجماع ما يترتب عليه من الكد في التكسب على العيال وربما يكون لبعض الناس سبباً لأن يقع في المحرمات من جهة الكسب ويعتذر بأن يقول العيال خلفي يطالبونني بالرزق ولا أقدر على غير هذا الوجه ثم ما يترتب عليه السؤال عنهم فإنهم رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وما فيه من إلزام نفقة البنين حتى يحتلموا من أجل شهوة واحدة إلى غير ذلك إذا تتبعته
ومن أجل الشهوة قال الله الله تَعِسَ عَبْدُ الدّينار تَعِس عَبدُ الدرهم تَعِس عبد الخَمِيصة تعس عبد بطنه تَعِس عَبدُ فَرْجِه ٣ فلولا الشهوة التي حملته على ذلك ما دخل من حرية الطبع إلى رِقّ الشَّهَوات ثم مع ذلك يحجبه عن الوصول إلى مقام الخصوص فإنهم قالوا رضي الله عنهم تَرْك الشهواتِ قَرْعُ الباب وقال العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ أَوَلَيْكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقْوَى ٤ قالوا أزال عنها الشهوات ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول إنّي لأطأ النساء وما بي إليهن شهوة فقالوا وَلِمَ ذلك يا أمير المؤمنين قال رجاءَ أن يُخرِجَ الله من ظهري مَن يُكاثرُ به محمَّدٌ الأمم يومَ القيامة
فانظر إلى هذا السيّدِ كيف انقلبت له هذه الشهوة - التي هي أكبر شهواتِ البشر - عبادةً محضة فما بالك بغيرها
۱ الجلس ما يُبْسَط في البيت على الأرض من حُرّ الثياب والمتاع والمراد ملازمة البيت والانعزال عن جميع
الناس
الوَسَق حمل البعير أو العربة أو السفينة
۳ رواه البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه و الخميصة ثوب أسود أو أحمر له أعلام وكأنه كناية
عن بهرجة الثياب والافتتان برونقها وجمالها
٤ سورة الحجرات من الآية ۳
3
٢٤٩

يؤيد هذا قوله جلّ جلاله على لسان نبيّه عليه السلام لا يزال العبد يتقرَّبُ إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمَعُ به وبصَرَه الذي يُبصِرُ به ويَدَه التي يبطش بها ۱ قال العلماء في معناه لم تَبقَ له جارحةً يصرفها إلا بالله والله فذهبت شهواته
وأما بحر النفوس فإنه لا غاية له نعلمها نحن لكن ركوبه من أجل المركوبات لكن إذا كانت السفينة على ما شُرعَ ونُدِب من أن يكون إنشاؤها من عُودِ الإخلاص وملأحوها وجميعُ خدامها من أهل التواضع والافتقار لقوله عليه السلام أوحِيَ إليَّ أن تَواضعوا ولا يفخَرُ بعضكُم على بعض ورياحُها صدقُ اللَّجَاً فإنه عنوان النجاح وبضائع أهلها التقوى فإن الله عزّ وجل يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۳ فإذا رُكِب على هذا الوضع نيل فيه من الربح
والفوائد ما لا يعلمه إلا الله الكريم الوهّاب
وأما بحر العلم فكما تقدم في بحر النفوس إلا أنه لا بد لراكبه من إطالة المقام فيه حتى يقوى بصر بصيرته فيبصر هواه فيرجع له منه قوةٌ في المزاج فحينئذ يبصر ما فيه من الأنوار والعبر والعجائب التي لا يبصرها غيره إلا أنه لا بد له من المُقام بعد إبصار تلك المعاني ليحصل له تهذيب النفس وزيادة في اليقين وقد قال تعلموا اليقين فإنّي أتعلَّمُه ٤
وأما بحر المعرفة فأعظم وأكبرُ وفيه من الفوائد أعظم ممّا في البحر قبله ويُركَب بمثل ما يُركب البحر الذي قبله إلا أنه لا بد أن يُتَزَوَّدَ فيه من ماء بحر العلم لئلا تذهب روحه بشدة حرارة هوائه فأكثر ركابه ما هلكوا إلا من أجل هذا الوجه لأن فيه من الخيرات والدرر والأسرار ما لا يُحد وفيه من المهالك لمن ترك هذا التزوّد بهذا الماء ما لا يوصف وربما قد يكون حاله أولاً من الخصوص ثم ينعكس إلى أخس الأحوال
6
وأما بحر التوحيد فيُركب بمثل ما قدمناه في البحرَينِ المتقدّمَينِ وزيادة على ذلك أنه لا يفارق ببصره شواهق جبال الشريعة الراسخة فإنه مهما قام عليه من هوائه هواء لا يعرفه ولا يكون عنده ما يتقيه به عاد إلى جانب جَبَل ذلك العِلم وإلا غرق ومن أجل ذلك غرق فيه ناس كثيرون وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعاً فإذا رجع إلى ذلك بالعِلْم ورجع عقله إليه تذكَّر فوائد ما رأى وحصل له من اجتماع ذينكَ الهواءين من حسن مزاج جوهر دينه وعرضه ما لا يصفه الواصفون
۱ انظر تخريجه في الحديث رقم ٦
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عياض بن حمار رضي الله
۳ سورة البقرة من الآية ۸
٤ تقدم تخريجه في الوجه الأول من الحديث رقم ٦
3
٢٥٠

بالنوافل
ن بها ۱
لكن إذا ها وجميعُ
ـر بعضكُم
الله عز
فَمَنْ مَنَّ الله عليه بركوب هذه البحار المباركة على الوجه الأحسن ثم رسا على جبال السنة فذلك السيد الذي إذا كان منهم واحد في إقليم رحموا جميعاً ومن ركب منها واحداً على تلك الحالة المرضية فمن راه فقد أقر الله عينه بما يعود عليه من الخير والبر والبركة فكيف به هو ومن ركب واحدا منها على غير الوجه المرضي فالغالب عليه الهلاك ومن راه خيف عليه من الفتنة والشرح في هذا يطول إلا أنه إن شاء الله سأختصر له كتاباً يكون الكلام فيه أبسط من هذا
ونبين مهالكه وكذلك بحول الله كل بحر منها جعلنا الله ممن حماه وعَلَّمَه وأسعده به بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
من الربحِ
فيه حتى الأنوار
ليحصل
بمثل ما
ة حرارة
ار ما لا
أولاً من
أنه لا
يكون
یرون
رأى
مبله دعاية
٢٥١٠
نال

1-
حديث جواز التحرّز من حرّ الحصباء في السجود
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا نصلي مع رسول الله الله فيضَعُ أحدنا طرَفَ الثوب من شدةِ الحَرِّ في مكان السجود
ظاهر الحديث جواز الشغل اليسير في الصلاة من دفع الأذى المشوّش فيها والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الفعل اليسير في الصلاة يكون معفواً عنه وإن لم يكن هناك عذر أو لا
يكون معفوا عنه إلا مع العذر وإن كان خارجاً منها
وهل العذر المنصوص عليه هو هذا العذر ليس إلا أو تَعَدّيه إلى ما يكون في الصلاة ليس إلا وما يكون خارج الصلاة لا يُلتَفَتُ إليه وإن كان عذراً
فالجواب ليس في الحديث ما يدل على ذلك لكن الفقهاء إذا علموا للحكم علة عدوه بتلك العلة حيث وجدوها مثل قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۱ عَدّوا الحكم حيثما وجدوا مشوّشاً شَوِّشَهُ منع الحكم معه حتى الحقن ۳ والجوع فنرجع هنا إلى بحثنا فإن كانت العلة هنا قلة العمل ليس إلا فعلى هذا يجوز لعذر ولغير
عذر وقد اختلفوا في الشغل اليسير في الصلاة لغير عذر هل يبطلها أم لا على قولين وإن قلنا إن العلة فيه رجاء زوال التشويش في الصلاة فعلى هذا يجوز الشغل في وإن كثر - ما لم يتفاحش فإنه إذا تفاحش خرجت عن أن تكون صلاة ولذلك لم يختلفوا أن الشغل اليسير إذا كان لإصلاحها أنها لا تبطل واختلفوا إذا كثر ولم يتفاحش على قولين ولم يختلفوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث رقم ۱۰
حقن الدم حبسه واحتقن المريض احتبس بوله ومنه قوله عليه السلام لا صلاة لحاقن
٢٥٢

أنها تبطل إذا تفاحش وقد حدّ التفاحش بمثل أن يأكل أو يشرب قدر ما يقارب الشبع ومنهم من فرق بين ما أجير له فعله في الصلاة وبين ما لا يجوز له كما هو منصوص في كتب الفروع
وإن قلنا إن العلة قد تكون لمجموعهما أن يكون عذراً وأن تكون في إصلاح الصلاة وهل يُراعى في الشغل أيضاً الكثرة أو القلة موضع خلاف ما لم يتفاحش أيضاً لكن الذي يعطيه البحث على نص الحديث أنه إذا كان الذي يُفعَل أقل بالنسبة إلى ما هو الخلل الواقع في الصلاة يُفعل وإن كان فعله نقصاً من كمال الصلاة لم يُفعَل ويكون ذلك بِحَسَبِ الأشخاص والأمكنة والأزمنة فرُبَّ شيء يحمله شخص ولا يحمله غيره ورب شيء يوجد عنه بدل وآخر لا بدل منه يؤخذ ذلك من الحديث
الوجه الثاني قوله كنا نصلي مع رسول الله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ في مكان السجود لأن معهم هنا علتين إحداهما الصلاة خلف رسول الله له و لو لا بدل منها وحرّ الأرض الذي يمنع الخشوع في الصلاة وهو من باب شرط الكمال - على مذهب - ويقابله اتقاء الأرض بفضل الثياب فما يفعلونه بالنسبة لما يفوتهم قليل وعلى هذا التعليل فقس لكن يبقى علينا بحث آخر وهو الشيء المفعول هل لا ۱ نفعله إلا ألا نجد منه بَدَلاً أو
نفعله مع وجود البدل أو هو جائز مع وجود البدل وفعل البدل أولى
الأولى
مثاله أنا نقول لا نتقي بفضل ثيابنا إلا حين لا نجد شيئاً نتقي به الأرض أو هو من باب
فإن نظرنا في الحديث أجزناه مع وجود غيره وفعل غيره يكون الأولى ولا أظنّ أحداً اختلف في أن هذا هو المستحب
وإن نظرنا لما يُعلم من حال الصحابة رضي الله عنهم فهم لم يكن لهم من الدنيا إلا قدر الضرورة وأنهم في الغالب ليس لهم فضل في ثيابهم قلنا لا يجوز مع وجود غيره لكن الحكم للفظ الحديث لا لغيره ولعل هذا الحديث لم يكن إلا من بعدما ظهر الإسلام وكَثُر عندهم الخير
فلا يُترك اللفظ المقطوع به بِشيءٍ محتمل
الوجه الثالث قوله كنا يعطي الجمع لأنهم كانوا الكُلُّ على ذلك فالإخبار عن الجميع
أقعد في الحكم مما يكون عن الواحد الوجه الرابع قوله مع رسول الله الله إخبار هنا أيضاً بالفعل لأنهم كانوا يفعلون مع النبي
1 يريد ألا
٢٥٣

وهو عليه السلام يقول إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم أمامي 1 فإقرارهم على ذلك حكم منه عليه السلام وما كان من تقرير الحكم بالفعل أعظمُ ممّا يكونُ بالقول ويترتب على ذلك من الفقه الاقتداء به الله في الأفعال والأقوال على حد سواء
وهل يكون ذلك في غيره أم لا يكون ذلك حتى يُعلم أن ذلك على لسان العلم لأنه عليه السلام في ذاته معصوم قطعاً وغيره لا تُعْرَف عصمته هذا على لسان العلم
وأما بعض أهل الطريق فيَرَوْن اتباع مشايخهم لأنهم يُحسنون الظن بهم وكذلك وظيفة المبتدي أو العامّي مع العالم لأنهم لا يعرفون لسان العلم فهم أولى لهم أن يتبعوا عالماً من أن
يتبعوا الهوى

وقد أخبرني بعض مشايخي رضي الله عنه أنه كان يخدم شيخه في مرضه الذي مات فيه وأنه كان ابتُلي بسرعة الهِراقة فمشى يوماً إلى بيت الخلاء مسرعاً فلما قضى حاجته ناداني فقال ائتني بالماء فلما خرج قال لي يا بني ! الكلامُ في بيتِ الخلاء لا يجوز وإنما فعلته للضرورة لأني لم أقدر أن أتكلّم لما حفزني الأمر لأنه رحمه الله علم أن الشخص كان ممن
يُقتدى به
ويؤخذ ذلك أيضاً من فعل عمَرَ رضي الله عنه حين أمَرَ بعض أهل البيت وكان قد أحرَمَ في ثوب مصبوغ أمَرَه بَنَزْعِهِ وهو مما يجوز الإحرام فيه لأنه كان مصبوغاً بِمَدر ۳ كما جاء في الحديث لكن لما كان يُشبِه المَزَعْفَرَ والمزعفرُ لا يجوز فيه الإحرام قال له رضي الله عنه إنكم أيها الرَّهْطُ أئِمَّةٌ يَقتَدِي بكمُ الناس فعلله بأنهم يُقتدى بأفعالهم كما يُقتدى بأقوالهم ولذلك قال بعض العلماء إن العالم إذا كان عاملاً اتبع الناس علمه وإذا كان غير عامل اتَّبع الناس فِعله ولم يتَّبعوا عِلمه فلم ينتفع بعلمه لا في نفسه ولا في غيره
ولما دخلت البطالاتُ واتباع الشهوات في بعض العلماء وقع الخلل في العَوَامَ لاقتدائهم بهم
في الأفعال وإن بقي منهم من يعمل - وهو الأقل - أخرجوهم إلى طريقِ التَزهّد والتّشديد
1 لعله مركب من حديثين الأول هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري وقد رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه والثاني إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف فإني أراكم من أمامي ومن خلفي رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه الهراقة مثل الإراقة وهي بمعنى صب الماء أو البول ولعلها قريبة من معنى الزحار وهو استطلاق البطن ۳ المدر الطين
٢٥٤

ويدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم موت العالم تلمة في الإسلام ۱ فموتُه الحسّي خيرٌ من موته المعنوي فإِنَّ مَوْتَه الحِسِيَّ تَبقَى مآثِرُه وقد يتأسى به النّاس وموتُه المعنوي هو الثَّلْمَةُ الحقيقية لأنه يقطع الناس بعمله السوء عن باب مولاهم فيُخافُ أن يكون الويل له لأن مولانا جلّ جلاله يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الشر وخلقتُ له أهلاً فالويل لمن خلقته للشر وأجريتُ الشر على يديه فقد فعل هذا بنفسه شرًا وجرّ الناس بالاقتداء به إلى شرّ

ويؤخذ منه جواز ذكر ما يفعله الشخص من أفعال البرّ إذا كان يعلم أنه يُقتدى به أو ما يُوصِل به حكماً أو يحصل به وجها من وجوه الخير
ولذلك قال أهل الصوفة إنه لا يجوز ذكرُ ما يَرِدُ على السادة من الأحوال إلا بين أبناء جنسهم الذين تكون فيهم الأهلية للترقي ولا تجوز بين العوام إلا لضرورة تعيّنَ عليهم فِعْلُها مثلما حكي عن بعضهم أنه كان ماشياً على الساحل فإذا بمركب قد أقبل موسقاً بالخمر لوالي الموضع وكان ظالماً لا يطيقه أحد فطلع للمركب حين أرسى وأخذ بيده عصاً وجعل يكسر كلّ جرَّة وجدها ملأى بالخمر فلم يُطِق أحد أن يقف له فمرَّ كذلك عليها إلى أن بقي له جرة واحدة فتركها ولم يكسرها ورجع فطلعت النواتية إلى الوالي فأخبروه الخبر فتعجب من ذلك كل العجب لكونه جسر على شيئه وتدّى عليه ثم إنه لما تعدى ترك تلك الواحدة فأرسل وراءه فأحضر فقال له ما حملك على ما فعلت فقال فعلتُ ما بَدَا لي فافعل ما بدا لك فقال لم تركتَ الواحدة ولم تكسرها فقال أدركتني أولاً غَيْرَة الإسلام فدَخَلتُ فكسرتُ ما كسرتُ امتثالاً للأمر فلما أن بقيت تلك الواحدة قامت معي النَّفْسُ وقالت أنتَ ممن يُغيّرُ المنكر فخفتُ أن يكونَ كسرها فيه حظ نفس فتركتها فقال الوالي اتركوه يفعل ما بدا له ما بيننا وبين هذا معاملة وإنما فعل ذلك للضرورة التي وقعت له ولا يكون ذلك من باب التزكية وقد نهى عزّ وجلّ عن ذلك بقوله فَلَا تُزَكُوا أَنفُسَكُمْ ۳
الوجه الخامس فيه دليل على جواز أن يكون في الثوب فضلة عن الضرورة ما لم تنته إلى المكروه أو الحرام يؤخذ ذلك من قوله طرف الثوب فلا يكون طرف الثوب يُسجد عليه ويبقى البدن مستوراً إلا وفيه فضلةٌ عن الضرورة لأن الضرورة هي سَترُ العَوْرَتَينِ المثقَلَة والمخفّفة وما عداهما مباح وبعضه مستحب فيحتاج إذاً لمعرفة المندوب من اللباس والمباح والحرام
۱ جزء من حديث أخرجه البزار عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نعرف مصدره ۳ سورة النجم من الآية ٣٢
٢٥٥

فأما الحرام فهو مِثلُ لُبس الحرير للذكور وكذلك اللبس للفخر والخيلاء لتحريمه ذلك
ومن
وما كان من الإزار أو الثوب تحت الكعبين لقوله ما تحت الكعبين ففي النار ۱ لبس ثوباً ليشتهر به لقوله مَن لَبِس ثوب شُهرة البَسَه الله يومَ القيامة ثوبَ ذلُّ وصَغار ثم أشعَلَه عليه ناراً وكل ما يشبه ذلك وأما المكروه فمثل تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء والتشبه بالأعاجم للنهي عنه ومثله العمائم التي ليست بذؤابة لأنه قيل إنها عمائم قوم لوط وقيل عمائم الشياطين ذكره ابن رشد ۳ في مقدماته وغيره من العلماء
والمندوب مثل ثوب العيد والجمعة لقوله له ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته 4 وما أشبه ذلك
والمباح ما اتخذه الإنسان لترفه أو للتجمّل بالقصد الحسَن بغير وجه محذور شرعاً وما في معناهما
ويؤخذ منه أن الوجه أعلى الحواس يؤخذ ذلك من قوله في موضع السجود لأنه موضع الوجه وهو أعلى الآراب التي قال أُمرت أن أسجد على سبعة آراب الوجه واليدين والركبتين وأطراف الأصابعه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

33
رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة والنسائي عن أبي هريرة والإمام أحمد والطبراني عن سمرة بن جندب
رضي الله عنهم بلفظ اخر
لعله معنى لحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ ابن رشد محمد بن أحمد بن رشد ابو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية وهو جد ابن رشد الفيلسوف له تأليف منها المقدمات الممهدات - في الأحكام الشرعية والبيان والتحصيل - في الفقه - والفتاوى واختصار المبسوطة توفي بقرطبة سنة ٥٢٠هـ/ ١١٢٦م
٤ أورده الهيثمي في موارد الظمآن / ٥٦٨/ وابن خزيمة في صحيحه برقم / ١٧٦٥/ ٥ الآراب جمع إرب العضو رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما
٢٥٦

عن
حديث كراهة النخامة في المسجد
أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي الله رأى نُخامة ۱ في القِبلة فحَكَّها بيده ورُيْيَ منه كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُني كراهيته لذلك وشِدَّتُه عليه وقال إنَّ أحدكم إذا قام يصلّي فإنّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة فلا يَبْرُقَنَّ في قِبْلَتِه ولكن عن يساره أو تحتَ قَدَمِه ثم أخذ طرف ردائه فبَزَقَ فيه ورَدَّ بعضَهُ على بعض وقال أو يَفْعَلُ هكذا
ظاهر الحديث كراهية النُّخامة في القبلة للمصلّي وجوازها تحتَ القَدَم وعن اليسار وفي طَرَف الرداء وحكها فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول رؤيته عليه السلام النُّخامةَ في القِبلة فيه دليل على أنه عليه السلام عند دخوله المسجد كان يتصفّحه بالنَّظرِ يميناً وشمالاً وأماماً ولولا ذلك لما كان يراها ولو كان
مشغولاً بما هو فيه من الحضور والترقي لما رآها
وفيه من الفقه أن نَظَرَهُ عليه السلام المسجد على طريق التعظيم له لكونه منسوباً إلى

المولى الجليل ومحبوساً على عبادته وهو أيضاً مما تحت إيالته وهو يُسأل عنه فإن كلَّ ما يكون الشخص يتصرف فيه من مال أو أهل أو وجه من وجوه التصرفات كانت المنفعة في ذلك تعود عليه أو ذلك مما تُعبّد به أعني أنه هو الذي ينظر فيه عن طريق ما كُلّفه والمنفعة فيه عامة مثل وجوب النظر على الإمام في شأن المساجد والطرقات وما أشبه ذلك والمنفعة فيها عامة وقد قال الله عزّ وجلّ في شأن المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ۳ قال العلماء رفْعُها صِيانَتُها
۱ النخامة ما يلفظه الإنسان من البلغم إيالته إشرافه أو ولايته من آل على القوم إيالة وَلِيَهُمْ
۳ سورة النور من الآية ٣٦
٢٥٧

ورفعها وصيانتها يوجب النظر لها والتأمل لئلا يلحقها خلل وسيدنا المشرع لذلك فهو
أحرَصُ الناس على ذلك فظهر ما وجهناه
ويزيد ذلك تحضيضاً قوله صلى الله عليه وسلم عُرِضَتْ عَلَيَّ أجورُ أمتي حتى القَذَاةُ يُخرِجُها الرجلُ من المسجد وهذا مما يحرّض على النظر إليه والاهتمام به فإنه لا يرى ذلك المقدار إلا بنظر
وتأمل
ويترتب على هذا من الفقه أن الإمام إذا دخل المسجد يلتفت إليه بنية الاهتمام به وكراهة أن يَحدُث فيه حَدَةٌ فيكون الإمام مأجوراً على ذلك أو أن يلقى به أذى فيزيله الإمام فهي نيّة خير ومن نوى نية خير كان عليها مأجوراً فكيف إذا كان ذلك موافقاً لفعله
وهل يكون ذلك مطلوباً لرب المنزل لكونه مسترعى عليه فبالعِلّة التي عللنا أولاً يكون ذلك لأن الباب واحد لكن في المساجد اكد لتعظيمها فإنها من الشعائر وتعظيم الشعائر من التقوى بمقتضى الكتاب ولا يكون تعظيمها لما يعظم أهل الكتاب كنائسهم وَبِيَعَهم بالبناء والزخرفة فقد جاء نهيه عن ذلك وجعله من شروط الساعة وقد ظهر في زماننا ذلك يزخرفونها في المباني والكسوات ثم يَرِدُونَها للحكايات والأكل واللغط والبيع والشراء وهذا بضد ما كان عليه والخلفاء بعده والسادة بعدهم
وهنا بحث هل يجوز إذا كانت في الجدار الذي ليس في القبلة وهل يجوز لغير المصلي وإن كانت ليست في جداره فالجواب عن الأول إن جعلنا التعليل الذي الله ل في القبلة بأن قال إنه يناجي ربه أنها العلة في الكراهة فهو يقتضي الجواز في غير القبلة
وإن قلنا إن العلة ما جعل الله عزّ وجلّ للبيوت التي نسبها إلى نفسه من التعظيم وهذا معروف من الكتاب والسنة والإجماع - فيكون ما علله عليه السلام للقبلة زيادة في الاحترام وهو الأظهر يؤيد ما قلناه قوله عليه السلام النخامة في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنُها وهذا عام في جميع أجزاء المساجد كلها من حائط وأرض وغيرهما وهو الجواب في المسألتين المتقدمتين ولهذا المعنى لما رأى بعض المباركين شخصاً يبصق في المسجد فقال له لا تأثم فجاوبه الفاعل كفارتُها دفنُها فقال له رضي الله عنه أنا أنهاك عن المعصية وأنت تجاوبني ترك الذنب خير من طلب المغفرة بالكفّارة

جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه والقذاة ما يقع في العين أو الشراب أي من الوسخ الدقيق
رواه مسلم بلفظ البزاق في المسجد عن أنس رضي الله عنه
٢٥٨

رجل من
إلا بنظر
راهة أن
لهي تية
يكون
تر من
بالبناء لك بضد
سلي
مان
ـذا
و
دـ
وقد رأيت بعض العلماء الذين يُقتدى بهم في العلم والفتوى يكره أن يبصق في مكان كان بقرب المسجد ولم يكن ذلك من رحاب المسجد ولا فنائه وكان هو قاعدا في اخره لكونه يبتدىء البصاق في المسجد وإن كانت تلك النّخامة لا تقع فيه خيفة من ذلك الشيء اليسير الذي لا ينفك يخرج معها غالباً مثل رؤوس الإبر وقد تقع في المسجد ولا تصل حيث تصل النخامة فأعجبني ذلك الاحترام منه وفي الحديث الذي أوردناه شاهد على المنع
وهنا بحث وهو لم قال دفنها ولم يقل تغطيتها فالجواب عنه لو قال تغطيتها لكان
الضرر ببقائها أكثر بدليل أنه إذا غطاها وخرج جاء غيره فربّما قعد على موضعها أو سجد عليها فيلحقه منها بلل في ثوبه وكذلك في وجهه وأكثر الناس لا يحتمل ذلك وربما يكون ذلك سبباً أن يقع له كراهية في المسجد وقد يتخلف عنه وقد جاء أن الذي قلبه متعلق بالمساجد من السبعة الذين يظلهم الله تحت عرشه يوم القيامة وكيف تكون حال من تقع له فيها كراهية يخاف عليه
وفيه علة أخرى ربما في أيام الحر إذا كثرت قد يتولد منها رائحة إذا كانت مغطاة تغطية يسيرة يتأذى بها وقد نُهينا أن ندخل المسجد برائحة قذرة وربما يجتمع لتلك الرائحة الذباب واجتماعه مما يتأذى منه فيتضاعف الضرر بذلك أكثر مما كان أولاً وقد تكبر من أجل ذلك الخطيئة وصاحبها لا يشعر وإذا كان الدفن فلا يقع بها هذا الضرر لأن الدفن قد علم بالعرف أنه التعمق في باطن الأرض وإكثار التراب على الشيء المدفون فإن بإكثار التراب على الشيء المدفون تندفع مادة أذيته ويكون كثرة التراب عليه بحسبه من كبر جرمه أو سيلانه فإذا كثر عليه التراب انقطعت مادة الرائحة ومادة البلل الذي يكون فيه وغير ذلك من المستقذرات ويبقى وجه الأرض على حاله من الحسن والطهارة
فلهذه العلة - والله أعلم - أخبر بـ دفنها ولم يقل بـ تغطيتها وهذا الدفن إذا كان المسجد تراباً رخواً أو رملاً فأما إن كان أرضاً صلبة أو مبلطاً أو مفروشاً بالحصى فممنوع لعدم
التكفير وهو الدفن
الوجه الثاني قوله فحكها بيده فيه من الفقه وجوه منها الدليل على تواضعه عليه السلام الله سبحانه ومنها أنه أكبر في النهي وأبلغ في احترام المساجد
ومنها أن الفاعل للبر لا ينبغي أن يزهد في شيء منه لأنه إذا كان إخراجه مثل القذاة يكون مأجوراً فيه فكيف بمثل هذه ومثل هذا ما ذكر عن بعض الصحابة أن ابناً وأباه اقترعا على من يخرج مع سيدنا منهما في بعض غزواته فخرجت قرعة الابن فقال له الأب ايزني بها يا بني فقال له الجنّة هذه يا أبتاه لا أوثرك بها فخرج فاستشهد بين يدي رسول الله
٢٥٩

ومنها أيضاً الحثّ على تكسب الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً منها وقد قال مولانا جل جلاله ﴿ وَلَا تَمْتُن تَستَكير ۱ قال بعض العلماء في معناه أي عن الخير وتقول معي
ما يكفيني والخطاب له عليه السلام والمراد أمته
الوجه الثالث قوله وَرُني منه كراهية أو رئي كراهيته لذلك هذا شك من الراوي لما رأى من قرائن الأحوال التي تدل على أحد المحتمَلات أو تنبيه منه على مجموعها لأنه احتمل الأمر ثلاثة وجوه ويترتب على كل وجه منها وجه من الفقه والوجوه أحدها أن يكون وجد هو الكراهية لذلك فرئيت في وجهه ويترتب على ذلك من الفقه أن المؤمن إذا رأى مكروهاً تغير لذلك ويكون تغيره بقدر إيمانه فلمّا كان سيدنا و أكثر الناس إيماناً تغير من ذلك المكروه حتى رئي في وجهه
وهنا بحث هل كان ذلك التغير لما انتهك من حرمة القبلة كما علله عليه السلام أو لما يترتب على فاعله من الإثم وكان هو و قد طبع على الرّحمة للعالمين كافة لقول الله عزّ وجلّ فَلَا نَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَتٍ فكيف على المؤمنين أو على مجموعهما۳ ﴿
وهو الأظهر
ومثل ذلك ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ
من المؤمنين واكدها ما يكون في الدين لأنها الخسارة العظمى فكيف بمجموعهما ٤ وفي مثل هذه الصفات المباركة فاق أهل الصوفة غيرهم يروى من مثل هذا أن بعضهم كان له شريك في بعض الأشياء فطلبه يوماً فقيل له إنه على مخالفة فقال هكذا يكون وأنا حي فتوضأ ودخل الخلوة وعهد أنه لا يخرج حتى يشفعه الله فيه فلما فرغ ذلك الشريك من مخالفته قيل له إن شريكك يطلبك فأتاه فقيل له إنه دخل الخلوة من أجلك وما كنت عليه فقال لهم قولوا له يخرج فوالله ما أعود لها وتاب وحسنت حالته
واحتمل أن يكون أظهر الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من إعلام الدين فيلزم على ذلك إظهار الكراهية عند رؤية شيء من المكروهات وهي السنّة
۱ سورة المدثر الآية ٦ سورة فاطر من الآية ۸
۳ الضمير يعود على ما انتهك من حرمة القبلة وعلى ما يترتب على فاعله من الإثم
٤ الضمير يعود على ما ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ من
المؤمنين
٢٦٠

ولانا جل
ـقـول معي
ي لما رأى تمل الأمر
هو
روهاً تغير
المكروه
أو لما
الله عز

ـهما ٣
ـلى أحدٍ
ـهم كـ
كان
نا حتي
خالفته
فيلزم
حد من
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أنه وجد الكراهية بوضع الطبع المبارك وتعمد الزيادة فيها ليقتدي
به مَن وَجَدَها ومن لم يجدها وهو أظهر الوجوه
ويترتب على ذلك من الفقه أن وجود الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من علامة الدين والإيمان وقد نص الله على ذلك في الحديث في تغيير المنكر فقال عند عدم الاستطاعة فَمَنْ لم يستطع فبقليه وذلك أضعَفُ الإيمان ۱ وتكون الزيادة فيه سنة واقتداء به ولأجل هذا أشار الراوي كما تقدم
وقوله وشدته عليه هذا الضمير يعود على الفاعل لها أو على فعل المكروه نفسه
الوجه الرابع قوله إذا قام يصلّي فإنَّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة الشك هنا من الراوي فعلى القول بالمناجاة فما هي هنا لأن المناجاة لغةً كلامُ سَرِ بين اثنين فصاعداً وهنا المتكلم واحد فكيف تكون المناجاة وقد بيّن هذا المعنى بعض السادة المتبعين على لسان العلم والسنة فقيل له كيف حالك فقال بخير أنا بين أمرين في العبادة فتارة أناجي مولاي بدعائي وتسبيحي وتارة يناجيني بتلاوتي كتابه فأنا القارىء وهو المخاطِبُ لي
الوجه الخامس قوله صلى الله عليه وسلم فإنما يناجي ربه فيه دليل لأهل السنّة الذين يقولون إن القرآن كلام الله وإن القراءة كلام القارىء والمتْلُو كلام الله والصفة لا تفارق الموصوف فعلى هذا تكون الصلاة مناجاة حقيقةً فإنها مشتملة على قراءة وتسبيح ودعاء فالتسبيح والدعاء من العبد إلى الرب والقراءة من الرب إلى العبد المنيا التعليله ولهذا المعنى يقول أهل الصفاء والأحوال المباركة إنهم إذا تلوا بالحضور خرجوا بقوة اليقين والتصديق عن حركات الحروف وسمعوا بغير واسطة وهذا لا يعرفه إلا أهل الذوق الذين سلكوا على حدود السنّة وقليل ما هم
الوجه السادس هو قوله عليه السلام ربّه بينه وبين القبلة فهذا دليل على أن دعوى أهل التجسيم والحلول باطلة وأن الحلول والتحيّز في حقه تعالى مستحيل فإنه لو كان جلّ جلاله كما زعموا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً - بالحلول على العرش فكيف يكون هناك ويكون بين المصلي وبين قبلته وكم من المصلين في الزمن الفرد في أقطار الأرض مختلفين متباينين من جهتين من جهة التباعد وجهة تضاد الأقطار فيلزم على ذلك تعداده أو تجزؤه وهذا محال بالإجماع منا ومنهم فلم يبق إلا التأويل فكما نتأول هنا نتأول في غيره من الآثار والآي
۱ جزء من حديث رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
٢٦١

فنرجع الآن لما فيه من الفائدة - أعني في هذا اللفظ - وهو قوله بينه وبين القبلة هذه الكناية تنبىء عن قُربِ خير المولى إلى المصلي وعظم إحاطته به لأنه إذا كان بينه وبين القبلة لم يغب عنه من حركاته ولا سكناته شيء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ ۱ كناية أيضاً على أن إحاطته بالأشياء جلّ جلاله جزئياتها وكلياتها على قرب أو بعد أو سرّ أو علانية على اختلاف العوالم على حد واحد لا يغيب عنه سبحانه منها شيء

الوجه السابع فيه من الحكمة أن العبادة لمّا كانت من محدث متحيز والمعبود غير متحيّز ولا محدث ـ فلا يمكن للمتحيّز الفاني التساوي ولا القرب من الجليل القديم غير المتحيز وهو الغني عن عبادة العابدين وهم المحتاجون إليه وإلى خدمته - أقام لهم أعلاماً للتعبد محدثةً من جنسهم ونسبها إلى ذاته الجليلة تشريفاً ورفعة لها ولعباده وقبل ذلك منهم ورضي به عنهم ولذلك قال تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ اللهِ ٢ وذلك لما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وقد كان مات ناس ممن صلوا إلى بيت المقدس ولم يلحقوا الصلاة إلى بيت الله الحرام فشق ذلك على أهلهم لما غلب على ظنونهم من أن الجدار هو المقصود فأنزل الله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا الله معناه حيثما قصدتموه بالتعبد والامتثال وجدتموه يتفضل عليكم ويتقبل
أعمالكم ويحسن الجزاء عليها
فلما نسبت تلك الجهة إليه عزّ وجلّ وجب بمقتضى الحكمة أو ندب أن تحترم أشدّ الحرمة من أجل ما أضيفت إليه ولذلك قال بعض المحبين
وما حُبُّ الدّيار شَغَفْنَ قَلبي ولكن حُبُّ مَن سَكَن الدّيارا ٣
فحب مخلوق لمخلوق من أجل حلول محبوبه في تلك الديار عظم الديار فأهل التحقيق من أجل الإضافة الشريفة عظموا كل علم من أعلام تلك الإضافة العلية ولذلك كان أهل المعاملات يتنعمون بأنواع العبادات كما يتنعم أهل الدنيا بالشهوات فلما كان المسجد من أجل الحرمة التشريفية وقعت الكراهية والمنع ولو كان غير ذلك لكان الحد الضرب أو القتل
1 سورة ق من الآية ١٦ سورة البقرة من الآية ١١٥
۳ هذا البيت منسوب إلى قيس بن المُلوّح العامري المشهور بـ مجنون ليلى وقبله
أمر على الديار ديار ليلى
وقال القدماء هما بيتان لا ثالث لهما انظر الخزانة للبغدادي ١٦٩/٢ وتزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق أقبل ذا الجدار وذا الجدارا للأنطاكي ص ۱۷ وديون الصبابة لابن أبي حجلة التلمساني ص ١٦ وديوان مجنون ليلى - جمع وتحقيق عبد السلام أحمد فراج ص ۱۷۰
٢٦٢

ـده
ية
6
وهذا المعنى أيضاً تأكيد للحجة التي أوردنا قبل على أهل التحييز والحلول تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً
الوجه الثامن قوله عن يساره فيه دليل على أن حرمة اليمين مستصحبة في كل الوجوه الوجه التاسع قوله أو تحت قدمه فيه أيضاً دليل على ترفيع اليد على القدم إذ لم يقل أو
في يده
الوجه العاشر قوله ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا فيه وجوه من الفقه منها الدليل على طهارة النخامة لكونه عليه السلام جعلها في ردائه وأمر المصلي أن يفعله وإنما منعها من القبلة لأنها مما يُستقذَر وليس يلزم أن كل ما
يُستَقْذَر نَجِسٌ
الوجه الحادي عشر فيه رَدّ على الذين يقولون إن كل ما تستقذره النفس حرام واحتجوا
1,
بقوله تعالى وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْتَ ۱ وهذا حجة عليهم وفيه التسوية بين الثلاثة وجوه المذكورة لأنه خُيْرَ فيها إلا إذا كانت الاثنتان بتلك الشروط المذكورة قبل وإلا فلم يبق إلا طرف الرداء ليس إلا
وهنا بحث هل يفعل ذلك أعني جَعلها في الرداء دون طيّ عليها وحك لها فنقول لا ينبغي ذلك لوجهين أحدهما وهو كافٍ فعله عليه السلام ذلك فإنه جاء على وجه التعليم ووجه آخر أنه إذا لم يفعل ذلك جاء البحث فيه كالبحث في الدفن سواء بل هذا أشد لأنه يلحق الشخص منه مُثلَةٌ في زيّه وهي ممنوعة ويستقذره من يراه وقد يتأذى به وإذا فعل كما فعله عليه السلام لم يبق لها أثر وكانت مثل الدفن سواء فذهب أثرها
وهل يكون ذلك في الرداء ليس إلا فالجواب لا فرق بين الرداء وغيره من الثياب وليس أيضاً كل الناس يجد الرداء والفائدة إذا فعلت في أي الثياب فقد حصلت
وهنا بحث لم فعل عليه السلام هذا بردائه وقال أو يفعل هكذا ولم يقله دون فعل فالجواب أنه فعل ذلك ليبين كيفية الفعل لأن التعليم بالفعل والمثال أبلغ من القول وَحْدَه ويترتب على ذلك من الفقه حسن المبالغة في التعليم وهو من السنة
ولوجه آخر وهو أنه لو قاله عليه السلام ولم يفعله لكان بعض الناس يعاف ذلك أو يعيبه
1 سورة الأعراف من الآية ١٥٧
٢٦٣

ففعله عليه السلام ذلك يذهِب هاتين العلتين ويترتب على ذلك من الفقه أن التقبيح والتحسين إنما هو بالشرع لا بالعقل
الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن رمي النخامة خير من بلعها يؤخذ ذلك من أمره عليه
السلام برميها على أحد تلك الثلاثة الوجوه ولو كان بلعها أحسن لقال أو يبلعها لكن بقي هنا بحث آخر هل يكون بلعها ممنوعاً أو مكروهاً فإن قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن النهي يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها حراماً ويكون فيه حجة لمن يقول إنها تفطر الصائم وإن قلنا إنّ النّهي لا يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها مكروهاً وهل يكون بلعها مفسداً للصوم أم لا يقتضي الخلاف
والله الموفق للصواب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٢٦٤

-٧-
حديث حبه صلى الله عليه وسلّم التَّيَمُّن
عَن عائشةَ رضي الله عنها قالت كانَ النبي يحبّ التيمن ما استطاع في شأنه كُلَّه في طهوره وترجُله وتنقله
*
ظاهر الحديث حبّ النبيُّ لا الله اليمن في شأنه كله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قولها كان فيه دليل على أن إخبارها بهذا الحديث كان بعد وفاته الوجه الثاني فيه دليل على أن عدم الاستطاعة عذر في ترك المستحبّ وكذلك في الفرائض فإذا كان في الفرائض فمن باب أولى
وهنا بحث فإذا كان الأمر معلوماً في الفرائض هكذا فلم ذكرت هذا في المستحبّ فالجواب أن إخبارها باستحباب ذلك في كل الوجوه حتى توفي عليه السلام إنما هو تأكيد في فعل المستحبّ لأنه لا يمنعه منه إلا ما يمنعه من الفرض لأن الدِّينَ مطلوبٌ فَرْضُه ونفله وندبه على حد سواء كلّ منه على جهته وأنه لا يترك ذلك اختياراً وهو أصل كبير في الفقه وقد تقدم مثله الوجه الثالث قولها في شأنه هذا أمر مجمل ثم ذكرت ثلاثة وجوه فما الفائدة في ذلك فالجواب هو أنها لما ذكرت الشأن وهو أمر مجمل - كما ذكرنا - فلو سكتت واكتفت بذلك لاختلفت التقديرات فيه فلما أتت رضي الله عنها بذكر تلك الثلاثة كان فيه دليل على فقهها الوجه الرابع فيه زوال الإلباس لأنها ذكرت الطُّهور وهو أعلى المفروضات لأنه عليه السلام قال فيه إنه شَطْرُ الإيمان ۱ وذكرت الترجُل وهو أَكَدُ السُّنَن وذكرت التنقل وهو
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن مالك الأشعري رضي الله عنه بلفظ الطهور شطر الإيمان الترجل المشي على الأقدام أو النزول عن الدّابة

٢٦٥

من أرفع المباحات فبينت أنه لا الله وكان على ذلك الشأن في جميع المفروضات والمستحبّات والمباحات فحصرت أفعاله عليه السلام في كل الأشياء
ويترتب عليه من الفقه أن من الأحسن في الإخبار والتعليم الإجمال أولاً من أجل الحفظ ثم التفصيل بَعْدُ من أجل التفهيم
وهنا بحث في قولها كان يحب لِمَ عبّرت بهذا وما الحكمة في حبه فالجواب عن كونها عبرت بذلك لأنها تشعر أن ذلك ليس مِمّا أَمَرَ به من أجل ألا يعتقد أحدٌ أنها مِمَّا فُرِض واحتمل أن تكون مما سَنَّ فأزالت بقولها يحبّ كل الاحتمالات
وأما ما الحكمة في كونه الله يحبه فإنما كان ذلك إيثاراً لما آثره الحكيم بحكمته والله أعلم وذلك لما رأى عليه السلام ما فضَّل الله اليمين وأهله وما أثنى عليهم فأحبَّ هو عليه السلام ما أثره العليم الحكيم فيكون من باب التناهي في تعظيم الشعائر حتى يجد ذلك وُلُوعاً في فؤاده المبارك فيكون ذلك دالاً على قوة الإيمان
فمن وجد حباً لذلك كما وجده فليشكر الله على ما منحه من ذلك وإن لم يجد فيتَّبِعُ ويستعمل أسبابه ويتشبه بالمحبين ولذلك قال بعض الحكماء إن التشبه بالكرام فلاح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى شخصاً قرأ سجدة كهيعص وسجد فقال له هذا هو السجود فأين البكاء إذا لم تبكوا فتباكوا
الوجه الخامس يترتب على ذلك من الفقه أن التشبه بأهل الخير من الخير إذا كان حباً فيهم من أجل الله عزّ وجلّ وأن التشبه بأهل الشر من الشرّ

يعضد ذلك ما نَهَى عنه الا الله من التشبه بأهل الكتاب وقد وَرَد عنه عليه السلام من تشبه بقوم فهو منهم 1
مَنَّ الله علينا بأحوالهم حالاً ومقالاً
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان
رضي الله عنهما
٢٦٦

حديث المسافر إذا قدم من سفره يبدأ بالمسجد
عن كعب بن مالك رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا قَدِمَ من سَفَرٍ بَدَأ بالمسجِدِ

فصَلَّى فيه
ظاهر الحديث أن من السنَّة إذا قَدِم المسافر من سَفَرٍ أن يبدأ بالمسجد قبلَ منزله والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل هذا في كل وقت أو في بعض الأوقات فالجواب أنه إذا كان في الأوقات المنهي عنها التي لا يمكن الصلاة فيها فلا يستحبّ إذ ذاك دخوله للبلد من أجل عدم الصلاة التي من أجلها تؤتى المساجد لأنه إن كان المسافر في سفره على السنّة فلا يكون دخول المصر الذي فيه منزله إلا في وقت يجوز له فيه الصلاة لأن النبي لم يكن يدخل المدينة إذا قدم من سفره إلاّ ضحوة النهار ۱ وكان ينهى أن يأتي أحد أهله طروق ٢ - أي ليلاً - وكان أيضاً إذا خرج ركع
في المسجد وحينئذ يخرج وهل ذلك تعبُّد أو معقول المعنى فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فالجواب - والله أعلم - أنه على طريق التبرك وإظهار الافتقار لا لأنه كان إذا خرج إلى السفر يقول أنتَ الصاحب في السَّفَر والخليفةُ في الأهلِ والمالِ ۳ وسفره عليه السلام لم يكن إلا في جهادٍ أو حجّ وإذا رجع قال ايبون تائبون عابدون لربنا حامدون صَدَقَ الله وعده ونَصَر عَبْدَه وهَزَمَ الأحزاب وحده ٤ وإعلانه عليه السلام بالقول عند الخروج والدخول إظهار
۱ رواه ابن جرير عن كعب بن مالك رضي الله عنه رواه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه الإمام مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ۳ رواه الترمذي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه ٤ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

٢٦٧

للتعلق بالله واللَّجا والتبرؤ إلى الله في الأفعال والأقوال كذلك تفضيله عليه السلام بيتَ ربَّه على سائر الأماكن فيكون الحالُ مثل المقال
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه أن المؤمن ينبغي أن يكون فعله يُصَدِّق قولَه وقد ذم الله سبحانه المؤمنين الذين ليسوا كذلك بقوله يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱
الوجه الثالث فيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بأفعاله عليه السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من إخبار هذا السيّد بذلك فلو لم يكن كذلك لما كان لإخباره بذلك فائدة ولا كان لروايته أيضاً فائدة
وقد اختلف العلماء في أفعاله الله هل تُحمل على الوجوب أو على الندب أو على التوقف حتى يدل الدليل على أحد الوجهين ولم يقل أحد بترك الاقتداء به فيها وترك العمل بها الوجه الرابع في الحديث دليل على التبرك بكل ما جعلت له حرمة وترفع إلا أنه يكون ذلك على لسان العلم فيؤخذ وجه التبرك من كون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ بالمسجد تبركاً فكذلك كلّ ما جَعَل الله فيه وجهاً ما من الخير والدليل على أن ذلك يكون على لسان العلم أنه لم يفعل فيه إلا الصلاة التي من أجلها رُفِعَ فكذلك يلزم في غيره ألا يكون تعظيمه والتبرك به إلا على
الوجه المشروع ولهذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر الناس احتراماً لما جعل له حرمة وأن يكون ذلك الاحترام على لسان العلم - كما تقدّم - حتى إنه يذكر عن بعض الأكابر ۳ منهم أنه دخل المسجد فنسي وقدم رجله اليسرى فوقع مغشياً عليه لشدّة الحياء من الله لكونه وقعت منه مخالفة للسنة في دخول بيت ربه لأن السنة في دخول المسجد تقديم الرّجل اليمنى وقد قال العلماء من نسي فقدم اليسرى أُخْرِجَ ليدخل باليمنى وهو معذور بالنسيان فانظر إلى احترام هذا السيد كيف كان وهو فيما وقع منه معذور على لسان العلم فناهيك في غيره
وفقنا الله لما مَنَّ به عليهم وأسعدنا به بمنّه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الصف الآية ٢
رُفع بُني وأنشيء ومنه قوله تعالى و في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُقِ والأصال رجال لا تلهيهِمْ نِعَرَةٌ ولا بيع مَن ذِكْرِ اللهِ سورة النور ٣٦ - ٣٧
۳ يريد به الشيخ الجليل أبا علي بن السماط كما بين ذلك ابن الحاج في كتابه المدخل ١٨٤/٣
٢٦٨

حديث صلاة الملائكة على المصلي ما دام في مصلاه

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنَّ الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدِث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحَمْهُ
ظاهر الحديث دوام صلاة الملائكة على المصلّي ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه وتستغفر له وتترحم عليه والكلام عليه من وجوه
من حيث
الوجه الأول هل هذا على عمومه في كل مصلِّ كانت صلاته تامة أو غير تامة فإن نظرنا اللغةُ قلنا لكل مصل وليس بالقوي وإن نظرنا من جهة الشرع لماذا جعلت الصلاة وما هي الصلاة التي سماها الشارع و لا صلاة فإنه قد قال للذي لم يتم ركوعه ولا سجوده في الصلاة ارجع فَصَلَّ فإنك لم تُصَلَّ ۱ فجعله مُصلّياً لغةً ولم يجعله مصلّياً شرعاً وقال عليه السلام فيها إذا كانت الصلاة غير مقبولة طويت كالثوب الخَلَق وضرب بها وجه صاحبها وقال عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ۳
له
فمن لم يصل شرعاً وضُرب بصلاته وجهه ولم يزدد من الله إلا بعداً كيف تدعو الملائكة أو تستغفر له هذا محال شرعاً وعقلاً فمن جهة الشرع قوله تعالى أَوْلَتَيكَ يَلْعَمُهُمُ اللهُ عَهُمُ العِنُونَ ٤ فمن كان الله يلعنه واللاعنون كيف يُستغفر له ومن جهة العقل فمن
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه مروي بالمعنى لجزء من حديث أخرجه أبو داود والطيالسي والبيهقي في الشعب عن عبادة بن الصامت رضي الله
عنه والخَلق البالي
۳ رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤ سورة البقرة من الآية ١٥٩
٢٦٩

يقتضي
عليه السـ
في
عمله العقاب كيف يكون له دعوة من الملائكة أو استغفار فيكون قوله عليه مصلاه الذي صلّى فيه في حق المصلّي للصلاة الشرعية المثاب عليها لا التي تلعنه وبقي هنا بحث هل من قبل منه بعض صلاته ولم يقبل البعض هل يتناوله ذلك الخير أم لا فالظاهر - والله أعلم - أنه يُرجى له ذلك بدليل أنه يوم القيامة تُكمّل له صلاته من نافلته فهذا من أثر ذلك الدعاء لأنه عزّ وجلّ تفضَّل عليه وقبل مكانَ ما نَقَصَه من الفرض نفلاً يؤخذ ذلك من قولهم اللهم اغفِرْ له لأنه لا تكون المغفرة إلا لخلل وقع ومن صيغة قولهم اللهم ارحمه دل على أن هناك عملا يوجب الرحمة
الوجه الثاني فيه دليل على فضيلة الصلاة على غيرها يؤخذ ذلك من كون الملائكة تبقى تستغفر له بعد فراغه منها وإن كان في شغل آخر ما دام في موضع إيقاعها فيه ولم يأت مثل ذلك
في غيرها من العبادات
الوجه الثالث فيه دليل لمن يُفضّل الصالحين من بني آدمَ على الملائكة لأنهم يكونون في
أشغالهم والملائكة تستغفر لهم
وهنا بحث في قوله في مُصَلاهُ هل يعني به الموضعَ الذي أوقع فيه الصلاة الذي هو موضع سجوده وقيامه أو البيت أو المنزل الذي جعله لمُصَلاه فالجمهور على أنه موضع سجوده وقيامه وقال بعضهم - وأظنه القاضي عياض ۱ ـ إنه البيت الذي اتخذه مسجداً لصلاته وإن لم يجلس في الموضع الذي أَوْقَعَ فيه الصلاة مثاله أنه إذا صلّى في المسجد ثم انتقل من الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد أنه يبقى تدعو له الملائكة وهو قول كثير بين مُجمع عليه
وقول واحد
نكرة
الوجه الرابع قوله ما لم يُحْدِث هو الحَدَث الذي ينقض الطهارة
وهنا بحث هل ذلك في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً الظاهر ذلك لأنه أتى بها
الوجه الخامس فيه دليل على أن السنّة في البشرى أن تكون بالأقل ثم تختم بالأعلى لأنه أبلغ في المسرّة يؤخذ ذلك من إجماله عليه السلام البشارة أولاً وتبيينها آخراً لأن الملائكة احتمل أن يكون دعاؤهم بالأعلى من الأمور أو الأقل لكن حصل بذلك سرور لأنه زيادة خير والذي أتى في التفسير هي المغفرة والرحمة فمن غُفِرَ له ورُحِمَ فهي أعلى الجوائز
۱ القاضي عياض ترجمته في الحديث ۷۸

فهذا
ذلك
دل
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تتبعها طاعة أخرى فهي مدخولة ۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تبعها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرم مواضعَ الخير

يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظا
فالتّيسير منه عزَّ وجلَّ للخير من علامة الخير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
2/6
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
في عقله أو حَسَبه دَخَل
۷۱

سلام في
خير أم
فهذا
هذ ذلك
نه دل
تبقى
ذلك
في
هو
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تَتْبَعُها طاعة أخرى
فهي مدخولة۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تَبِعَها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرِم مواضعَ الخير
يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظًّا فالتيسير منه عزّ وجلَّ للخير من علامةِ الخير
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

3
26
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
۷۱
في عقله أو حَسَبه دَخَل
ده

- قال ابن سيرين
حديث سجود السهم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العَشِيِّ ١ سمّاها أبو هريرة ولكن نَسيتُ أنا - قال فصلى بنا ركعتين ثم سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبانُ ووضع يده اليمنى على اليسرى وشَبَّك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفّه اليسرى وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد فقالوا أقُصِرت الصّلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن

يكلّماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين ٣ قال يا رسول الله أنسيت أم قُصِرت الصّلاة قال لم أَنسَ ولم تُقصَر فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا٤ نعم فتقدم وصلّى ما ترك ثم سلّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبّر ثم كبر وسجَدَ مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلّم فيقول نُبِّتُ أنّ عمران بن حصين ٥ قال ثمّ سَلَّمَ
ظاهر الحديث جواز العمل القليل في الصلاة والكلام القليل لا يمنع من إتمامها إذا كان
۱ ابن سيرين محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء إمام وقته في علوم الدين بالبصرة تابعي مولده ووفاته في البصرة وكان فقيهاً وراوية للحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا توفي سنة ١١٠ هـ / ٧٢٩ م
السَّرَعان أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ۳ ذو اليدين سترد ترجمته في الوجه العشرين من شرح هذا الحديث وسيميز بينه وبين ذي الشهادتين ٤ فقالوا الضمير عائد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عمران بن حصين من علماء الصحابة كانت معه راية خزاعة يوم فتح مكة وبعثه عمر إلى أهل البصرة لِيُفقههم وولاه زياد قضاءها وتوفي بها وهو ممن اعتزل حرب صفين له في كتب الحديث ١٣٠ حديثاً
0
توفي سنة ٥٢ هـ/ ٦٧٢م

ذلك على وجه النسيان أو عامداً مع من نَسِي إذا كان ممن صلاته مرتبطة بصلاته كإمام مع مأموم
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن السلام ساهياً لا يُخرج من الصَّلاة يؤخذ ذلك من قوله فرجع وأتم ما بقي ولم يذكر أنه كبر
الوجه الثاني فيه دليل على أن الإمام يرجع لكلام الجماعة ولا يرجع لكلام الواحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أكما يقول ذو اليدين ولما أخبره أبو بكر وعمر رجع إلى قولهما وإنما قلنا إن الإخبار كان من أبي بكر وعمر ولفظ الحديث على العموم من جهة ما تعطيه قوة الكلام لأن راوي الحديث اعتذر أولاً عن سكوتهما لهيبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان غيرهما الذي
كان منه الإخبار لَذَكَره واعتذر عنهما ثانية فهذا يظهر ما خصصناه أنّ هذا الإخبار كان منهما
الوجه الثالث فيه دليل على التسليم لأهل الفضل فيما فعلوه لمن لم يعلم أهم على الصواب في ذلك الأمر أم ليس يؤخذ ذلك من خروج السَّرَعان وهم يقولون أقصرت الصلاة ولم يعتب عليهم النبي الله ولأن النسخ في حياته عليه الصلاة والسلام ممكن وأما الغَيْر فمستحيل فلا يُسَلَّم له إلا فيما لم يكن خَرْقاً للإجماع وأما إذا أمكن له تأويل سُلّم له على أحد المحتمَلات إن كان غير مقطوع به
الوجه الرابع يؤخذ منه مراجعة المفضول للفاضل إذا رأى منه ما لا يعرفه إلا أنه يكون بأدب يؤخذ ذلك من مراجعة ذي اليدين النبي ا و بذلك الأدب
الوجه الخامس يؤخذ منه إكبار ذي الفضل وإن رأى منه ما لا يعرف إلا أن الرائي تلزمه ملازمته حتى يتبين له ما صدر منه على أي وجه يُحْمَل يؤخذ ذلك من فعل أبي بكر وعمر لأنهما عَلِما ما عَلِمه ذو اليدين إلا أنّهما حملتهما الهيبة له على ألا يكلّماء وحملهما ما تزايد من الأمر على ألا يفارقاه حتى يعرفا الحكم ويدل على جواز ذلك كله تسليمه للكل في صلاته ولو كان أحد الأحوال غير جائز لقال في ذلك شيئاً لأنه المشرع ولا يؤخّر البيان عن وقت الحاجة الوجه السادس فيه دليل على أنه إذا سأل الفاضل المفضول هل وقع منه شيء فيه خلل أن يخبره بما وقع كما وقع يؤخذ ذلك من سؤال رسول الله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
فأخبراه بما وقع
۱ يقصد المؤلف رحمه الله أن النسخ في حياته ولا خلاف فيه وادعاء النسخ من غيره يقبل من أهله ما لم يكن فيه خرق لإجماع أو مخالفة لمقطوع به

من
الوجه السابع فيه دليل على أن القدرة تفعل ما شاءت مع إبقاء الحكمة يؤخذ ذلك نسیان محمد و في هذا الموضع وقد كان من شيمه المباركة أنه عند النوم تنام عينه ولا ينام

قلبه ١ وهنا وقت الحضور نسي بعض الصلاة لكن نسيانه هنا لوجهين عظيمين أحدهما قد نص هو عليه وهو قوله عليه السلام إنَّما أَنْسَى أو أُنْسَى لأَسُنَّ ٢ فلما كان هو عليه السلام المشرع والمقتدى به وله الأجر في كل الأعمال التي يُقتَدَى به فيها إلى يوم القيامة جاء النسيان هنا أرفعَ من الحضور فهي في حقه تكرمة


وهذا النسيان يُحتاج فيه إلى بحث وهو ما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى وما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى أو أُنْسَى
والجواب إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن تظهر عليه السلام عليه أوصاف البشرية وبظهور أوصاف البشرية عليه يثبت أن تلك الأمور الزائدة على ذلك دالّة على خصوصيته عليه السلام ورفع منزلته
وإن كان على معنى قوله عليه السلام أو أُنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن القدرة تُجْرِي الخيراتِ والأحكام على يديه عليه السلام بالأقوال والأفعال باختياره وبغير اختياره ليظهر لذلك قدر العناية به وتصديقاً لما قاله وتحدّى به وادّعاه
لذلك لم يقع منه عليه السلام النّسيان إلا في ثلاثة مواضع في الأفعال قدر ما احتاج الحكم إليه وهو هذا الحديث وقام من اثنتين وقام إلى خامسة وفي الأقوال مرة قدر ما احتاج الحكم إليه وهو أنه عليه السلام أسقط آية من سورة المُلك ولم يقع منه نسيان غير ما ذكر
والوجه الآخر وهو بالتقدير من حالة استغراقه عليه السلام في الحضور والأدب حتى ذَهَلَ عن العدد
الوجه الثامن فيه دليل على أن تبيين الحكم بالفعل أرفعُ منه بالقول ولولا ذلك لكان حكم في الشهر بالقول كما قال عليه السلام مَن نَسِي شيئاً في صلاته فَلْيَبْنِ على اليقين ۳ الوجه التاسع فيه دليل على لطف الله بعبيده ورفقه بهم يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام جعل تعليمه حكم السهو لأمته بالفعل ولو عَلَّمَهم بالقول لكان كافياً لكن لما كان الذي يسهو
۱ هو معنى لحديث تقدم تخريجه في الحديث رقم ۰ رواه الإمام مالك في السهو بلفظ اخر
۳ هو معنى الحديث أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه
٢٧٤

بعده من أصحابه رضي الله عنهم والمُبارَكين من أمته يجدون لذلك حُزناً في أنفسهم لكونهم وقع منهم في أجَلّ العبادات ما لم يقع من نبيهم فجاء ۱ فعله عليه السلام لهم بالتعليم من باب إذهاب الحُزْن عنهم وهو عين الرفق والرحمة
الوجه العاشر فيه دليل على فضل الصحابة رضي ! عنهم وتحريهم في النقل يؤخذ ذلك من قوله إحدى صلاتي العشي وتبرئة صاحبه من النسيان وإضافته إلى نفسه كما وقع الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز القيام إثر الصلاة يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم فقام فساقه بالفاء التي تعطي التعقيب والتّسبيب
الوجه الثاني عشر فيه جواز جعل الشيء النظيف في المسجد ما لم يكن مؤبداً يؤخذ ذلك من إخباره أن الخشبة كانت معترضة في المسجد
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاتكاء في المسجد على ما يجوز الاتكاء عليه يؤخذ ذلك من إخباره بأنه اتكأ على الخشبة
الوجه الرابع عشر يؤخذ منه جواز التشبيك بين الأصابع يؤخذ ذلك من قوله شبك بين
أصابعه
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز وضع اليدين بعضهما على بعض يؤخذ ذلك من الإخبار عنه عليه السلام أنه جعل يديه بعضهما على بعض الوجه السادس عشر يؤخذ منه كثرة اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بجميع أحوال النبي وحبهم فيه يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان فلولا كثرة اشتغالهم به لما كانوا ينظرون إلى مثل هذا أو غيره
الوجه السابع عشر يؤخذ منه عدم الحكم بالمحتمل يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان لأنه رأى صفة تشبه صفة الغضب وقد لا يكون هو عليه السلام في ذلك الحال غضبان بل يكون مشغولاً فكره في شيء آخر فلم يقطع بشيء محتمل
الوجه الثامن عشر يؤخذ منه جواز وضع الخدود على الأيدي يؤخذ ذلك من إخباره أنه
جمل خده على ظهر كفه وقوله وخرجت السرعان هم الذين سارعوا إلى الخروج الوجه التاسع عشر فيه دليل على جواز تسمية الشخص بما قد غلب عليه المعرفة به يؤخذ ذلك من قوله ل أكَما يقول ذو اليدين ولو كان من باب اللقب لما أخبر هو به
۱ هنا جواب لما زاد فيه الفاء

الوجه العشرون فيه دليل على طلب البينة فيما لا يعرف وإن كان القائل صادقاً يؤخذ ذلك

من سؤال سيدنا ل للعمرين ۱ في تصديق ما قال ذو اليدين وهو الذي سماه سيدنا ذا ٣ فلما أخبره بما لا يعلم طلب منه البيّنة على قوله
الشهادتين
الوجه الحادي والعشرون يؤخذ منه أنه لا يجوز لمن نسي من صلاته شيئاً أن يؤخر فعله يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لما أخبره العمران لم يتأخَّر وعاد إلى صلاته لأنه قال فتقدَّمَ وصلَّى فأتى بالفاء التي تعطي التعقيب
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على جواز حذف بعض الكلام إذا كان هناك ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله فتقدم وصلّى ٤ ولم يقل ما صلّى لأن ذلك مفهوم في الحديث
الوجه الثالث والعشرون يؤخذ منه الحجة لمذهب مالك الذي يقول إن سجود السهو إذا كان عن زيادة يكون بعد السلام يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم ثم سجد فلم يسجد هنا ـ وهو موضع زيادة - إلا بعد السلام
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على أن سنة سجود السهو لا تتأخر مع الذكر عن وقت
الفراغ من الصلاة لأنه أخبر أنه عليه السلام سجد إثْرَ السَّلام
الوجه الخامس والعشرون يؤخذ منه أن سنة سجدتي السهو أن التكبير فيهما في الخفض والرَّفع كما هو في غيرها من الصلاة يؤخذ ذلك من وصفه السجود بذلك الوجه السادس والعشرون يؤخذ منه أنه يسلّم من سجدتي السهو كما يسلّم من الصلاة لإخباره بذلك فقال فسلّم
1 العُمران أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما غُلّب عمر لأنه أخف الاسمين ذو اليدين رجل من بني سليم يقال له الخرباق حجازي شهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد راه وَهَمَ في صلاته وخاطبه وهو ليس ذو الشمالين المقتول ببدر وأن قصة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر كما وَهَمَ الزهري
الاستيعاب ٤٧٥
۳ أما ذو الشهادتين فهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من الأوس جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح وكان مع علي رضي الله عنه بصفين فلما قتل عمّار بن ياسر جرّد سيفه فقاتل حتى قتل وكانت صفين سبع وثلاثين الاستيعاب ٤٨٨/١ ومن هذا يتضح أن المؤلف رحمه الله عدّ ذا اليدين ذا الشهادتين مع
سنة
أنهما شخصان مختلفان
٤ يريد أنه لم يقل هذا بعد نعم
٢٧٦

لكن هنا بحث السهو في الصلاة مع كثرته خير وصاحبه معذور والالتفات مع قلته لا يجوز وصاحبه لا يُعذَر وقال عليه السلام هي خُلْسَة يختَلِسُها الشيطانُ من صلاة أحَدِكم ۱ فالجواب لمّا كان الالتفات أصله حظ النفس لم يَجُز مع قلته وجُعِل حظ الشيطان ولمّا كان السَّهو أصلُه اشتغالُ الخاطر بتؤفية تمام العمل أو بمكر من الشيطان عُذر وكُمِّل له ما كان الخاطر معموراً به الوجه السابع والعشرون هنا إشارة صوفية وهي أن مَن كان مشغولاً بعمله جُبِرَ خَلَلُه وإن
كاده عدوه نُصِرَ عليه ومن ضيَّعَ المراقبة في حالِهِ شاركه فيه عَدُوُّه
يا هذا أتريد صلاح الدين وراحة النفس هيهات كيف تجتمع الشموسُ والظُّلَمُ وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري والخُلسة الفرصة والضمير هي يعود على الالتفاتة
۷۷

حديث الشترة للمصلي والمرورُ بين يَدَيْه

عن أبي سعيد الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا صلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يَسْتُرُهُ من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فَلْيَدْفَعْه فإن أبي
فلْيقاتِلْه فإنَّما هو شيطان
*
ظاهر الحديث جواز مقاتلة الذي يمر بين المصلِّي وسُترته والكلام عليه من وجوه الوجه الأول معرفة السترة المُجْزِئَة وكيفية الصلاة إليها ومعرفة هذه المقاتلة ووقتها
وكيفيتها
فأما السترة فعلى وجهين متَّفَقٌ عليها ومختلف فالمتفق عليها هي قَدْر مؤخَّرةِ الرَّحْل وهي قَدْرُ عَظْمِ الذراع وغِلَظِ الرُّمح لأنها صِفَةُ العَنَزَة ۱ التي كان بلال رضي الله عنه يَضَعُها بين يدي النبي الله و في السفر إذا أراد الصلاة وما دون ذلك مختلف فيه وهو مذكور في كتب الفروع وأما كيفية الصَّلاة إليها فتكون إلى الجانب الأيمن ولا يُصمد إليها لأن فيها تَشَبُّهاً بعبادة الأصنام وكل شيءٍ فيه شَبَه في مكروه أو محرَّم كَرِهت الشريعة التشبّه به
وأما المقاتلة وكيفيتها فاختلف الناس فيها اختلافاً كثيراً حتى إنَّ مَن تغالى فى ذلك من بعض العلماء قال إن قتلَهُ فدَمُه هَدر والصحيح منها ما يدلّ عليه تعليل الشارع في آخر الحديث وإن كان لم نسمعه ممن تقدم لأنه عليه السلام قال فإنّما هو شيطان فتكون المقاتلة كمن يقاتل الشيطانَ ومقاتلةُ الشيطان بالأفعال اليسيرة مثل الكتب أو الرُّقية لأن العمل اليسير في الصلاة من
1 العترة أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زُج كزج الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير
۷۸

أجل الضرورة جائز فإذا قاتله قتالاً شديداً يُخرجه عن حَدّ الصلاة فقد رجع المصلي شيطاناً ثانياً بل يرجع تركه واشتغل بالصلاة أشدَّ منه ولذلك قال علماؤنا المحققون يدفعه دفعاً لطيفاً لا يخرِجُه من الصلاة فإن أبى أن
وهنا بحث هل المقاتلة من أجل خلل يقع للمصلّي في صلاته أو هو من أجل المار الظاهر - والله أعلم - أنه من أجل المارّ وإن كان ليس في الحديث من أين يؤخذ واحد منهما لكن هو مُسْتَقْرى من خارج وهو أنه عليه السلام قد قال في حق المارّ لأن يقف أربعين خريفاً خيرٌ له من أن يَمُرَّ بين يَدَيِ المصلّي ۱ وقال عليه السلام في حق المصلي إِنَّ الصلاةَ لا يقطَعُها ۳ شي ٢ فلم يجىء أنه إن مَرَّ أحدٌ بين يديه أنَّ صلاته غيرُ مُجزئة لم يقل بذلك من له بال من العلماء فبان ما قلناه أنه في حق الغير لأن المؤمن مع المؤمن كالشيء الواحد ولذلك قال عليه السلام فيهما كالبنيان وقيل كالبنيان يشد بعضه بعضاً ۳
ومثل ذلك إجماع العلماء أنه لا يجوز للمصلي أن يرى نَفْساً تذهب وهو قادر على نجاتها ويتركها ويشتغل بصلاته فإن فعل فهو آثم غير أنه إن كان الفعل في ذلك يسيراً لم يخرجه من صلاته واستمر عليها وأجزأته وإن كان كثيراً ابتدأ صلاته ولا إثم عليه في قطعها
الوجه الثاني فيه دليل على أن السترة تكون بكل شيء يؤخذ ذلك من قوله إلى شيء فأتى به نكرة ومن أجل ذلك وقع الخلاف بین العلماء فمن تعلق بعموم اللفظ ولم يَر فعله مخصصاً في الإجزاء أجاز السُّترةَ بكل شيء وقال فعله ذلك يكون من باب الاستحباب ومن جعل فعله عليه السلام مبيناً للإجزاء قال أقل من ذلك لا يجزي ـ وهو الحق ـ ومما يقوّي هذا الوجه ما جاء عنه حين سُئل عن سترة المصلي قال قَدْر مؤخرةِ الرَّحل 1 الوجه الثالث فيه دليل على أن السترة لا تكون إلا حيث لا يؤمن المرور وأما حيث يؤمن
المرور فلا يؤخذ ذلك من قوله يستره من الناس
الوجه الرابع فيه دليل على أن الظاهر يستدل به على الباطن حيث لا يمكن وصولنا إلى الباطن يؤخذ ذلك من قوله أراد وإرادته لا تُعلم إلا إذا رأيناه قريباً من السترة فدل حاله على ما في نيته ونحن الآن ممنوعون من الكلام فعملنا بمقتضى ما دلّ عليه حاله
۱ رواه الإمام أحمد وابن ماجه والضياء عن زيد بن خالد رضي الله عنه رواه الطبراني والدارقطني عن أبي أمامة رضي الله عنه
۳ رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه ٤ أخرجه مسلم وأصحاب السنن

الوجه الخامس فيه دليل على ألا يُقطع بالشيء في الحكم إلا بالدليل الذي لا يحتمل التأويل يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يُسَمِّه شيطاناً إلا بعد الدفع ولم يرجع فإن رجع
فليس بشيطان
ووجه الفقه في ذلك أنه قد يكون مشغول الخاطر لم يَرَ المصلّي أو يكونُ لم يتبين له أنه يصلي أو غير ذلك من الأعذار فإذا دفعه ولم يرجع فلم يبق إذ ذاك عذر وحكمنا له بأنه شيطان
على تحقيق ويقين
ويترتب على هذا من الفقه وجه آخر وهو أن حكم المحتمل ليس كحكم المقطوع به ولا يُضيع أيضاً حكم المحتمل لأنه إن ضُيّع ترتب عليه مفاسد كثيرة يؤخذ ذلك من كونه أَمَرَ أولاً بالدفع لاحتمال أن يكون ساهياً أو ناسياً فإن كان من أحد احتمالات فرجع حصل المقصود وإلا قاتلناه وحكمنا له أنه شيطان

الوجه السادس فيه دليل على أنه لا يُحتَرَم إلا من يحترم يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يجعل حرمة عدم المرور ومَنْعِه وأمر بقتال مَن فَعَله إلا للمصلّي الذي جعل السترة ولم يجعل ذلك لغيره ممن ضيّع الحكم في تركه السترة حين صلاته ومما يزيد ذلك بياناً قول الفضيل بن عياض من خاف الله خوّف الله منه كلَّ شيءٍ ومن لم يَخفِ الله خوَّفه الله من كل شيء فحُرمةٌ
بحرمة جزاء وفاقاً
الوجه السابع فيه دليل على أن السترة لا تكون إلا من الناس لا من غيرهم يؤخذ ذلك من قوله من الناس وهذا مما يقوي ما ذكرناه أولاً أنه لو كان في حق المصلّي لكان يُؤمر بدفع كل من يمر بين يديه من الناس وغيرهم
الوجه الثامن فيه دليل صوفي وهو أن الحرمة عندهم خير من العمل
يؤخذ ذلك من حكمه الا الله لمن احتَرَم صلاته بجعل السُّترة جَعَل له الإِمْرَةَ على المارّ بين يديه ودَفْعَه ومقاتلته بقوله عليه السلام فإن أبى فلْيقاتِلْه وفسَّقَ المتعدي عليه حتى
شيطاناً
جعله
الوجه التاسع فيه دليل على أن يحكم للشخص بمقتضى فِعله في الوقت ولا يُنظَر لِما تقدم يؤخذ ذلك من قوله فإنما هو شيطان على الإطلاق ولم يفرّق بين من كان قبل ذلك على تقوى أو غيرها
الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يجعلون الحكم للحال لا لغيره حتى قالوا لا

زمل جع
أنه
بان
ـرَ
تكن في كل أنفاسك إلا على ما تحبُّ أن تموت عليه كراهة أن يأتيك الموتُ في ذلك النَّفس ومَن أدخل حُسْنَ حاله في خبر كانَ فكأنَّه ما كان
كلنا نعرف الحق والصواب لكن لما اثزنا شهواتِ النفوس تعذّر علينا اتخاذه حالاً
جعَلَنا الله ممَّن سهَّل عليه الوصول بتحصيل الأصول والفروع آمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۸۱

حديث فتنة الأهل والمال وكفارتها
عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده وجارِه تُكفّرُها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي
ظاهر الحديث يدل على أن هذه الفتنة الخاصة وهي المذكورة في الحديث تكفّرها الأربعةُ المذكورة الصّومُ والصَّلاة والصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلام عليه من وجوه الوجه الأول ما هذه الفتنة وما حَدُّها وهل هذه خاصَّةٌ بالرّجال دونَ النّساء أو هي من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى وهل هذه المذكورة من العبادات هي المفروضات أو غيرها وهل لا يقعُ ۱ التكفير إلا بمجموعها أو يكون بواحدٍ إن وقع منها
فالجواب عن الأول وهو ما هذه الفتنة فالفتنة فى اللغة هي الاختبار فقد تكون للخير مين وقد تكون لضده كما قال جل جلاله ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ فتكون في هنا بمعنى الباء والعرب تبدل الحروف بعضها عن بعض فيكون معناه فتنة الرجل بأهله والاختبار بأهله
على وجوه
منها هل يُوفي لهم - وهم جميع المذكورين - الحق الذي يجب لهم عليه أم لا لأنه راعٍ عليهم ومسؤول عن رعايتهم
فإن لم يأت بالواجب منها فليس هذا مما يكفّره فعل الطاعات بدليل قوله للذي سأله إذا قُتِلتُ في سبيل الله صابراً محتسباً مُقْبِلاً غيرَ مُذبرٍ يكفر الله عني خطاياي قال نعم إلا
1 يريد أو لا يقع
سورة الأنبياء من الآية ٣٥
۸

به وولده
الأربعة
الدَّيْن ١ وهذا من جملة الديون وقال عليه السلام من كانت له مَظْلِمةٌ لأخيه من عِرضِهِ أو شيءٌ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم ٢ وهذا بإجماع أن الحقوق إذا وجبت لا يُسْقِطها إلا الأداء أو التحلل فإن كان ما تركه من حقوقهم من طريق المندوبات فليس من ترك مندوباً عليه إثم فيحتاج إلى تكفير
ويبقى وجه آخر وهو تعلق القلب بهم وهو على قسمين إما تعلّق مُفرِط حتى يشغله عن حق من الحقوق فليس هذا مما يدخل تحت ما تكفّره الطاعات بل يدخل تحت وعيده عزّ وجلّ في قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَبَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَنَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ
إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِو ۳
وإن كان مما لا يشغله عن توفية حق من حقوق الله تعالى فهذا النوع - والله أعلم - هو الذي تكفّره أفعال الطاعات لأنه لما اجتمع له في قلبه هواه فيما ذكر وحق الله عزّ وجلّ وقدّم حق الله فتلك المراعاة التي وفّق لها كانت كفارة لشغله بغير مولاه
وجوه
هي من
وهل
أنه لم يحف
للخير
يشهد لذلك قوله إنكم أصبحتم في زمن كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه العمل فيه خير من العلم وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه قليل معطوه كثير سائلوه والعلم فيه خير من العمل ٤ وكان حين يقسم بين عياله يَعدِل بينَهنَّ ولم يكن ذلك فرضاً عليه وذلك من خصائصه عليه السلام الخاصة به إلا على واحدة منهن وعليهن أجمعين ومازال عليه السلام يعدل بينهن ثم يقول بعد ذلك هذا جهدي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك٦ وهو معنى ميل القلب إلى البعض دون البعض في وجه ما وقوله هذا على وجه التأديب لنا لأنه لا يميل

بمعنى بأهله
انه راع
للذي
م إلا

۱ مروي بالمعنى لما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي عن أبي قتادة رضي الله عنه وفي المطبوعة
والنسخ قتل
مروي بالمعنى لما أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه والمَظْلِمة الظلامة والتحلل هو المسامحة تقول تحللت فلاناً واستحللته طلبت منه الحِلَّ من حقه
۳ سورة التوبة من الآية ٢٤
20 3 3
٤ أخرجه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف انظر العراقي على الإحياء
1/1
٥ لم يَحِف لم يظلم ولم يَجُرْ من حاف يَحيف حيفاً لفظه اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه والحاكم عن السيدة عائشة رضي الله عنها

الميل الذي نميله نحن بدليل قوله عليه السلام لما عاتبه أهله في أثرة۱ عائشة رضي الله عنها فظن الجاهل بحاله عليه السلام الجليلة - على ما يقدر ـ أن ذلك كان الشبابها وحسنها فقال عليه السلام مجاوباً لهن لم يوح إلي في فراش إحداكن إلا في فراشها فبين أن أثرتها عليهن هي لما خصها الله به من المكانة عنده عزّ وجلّ والرّفعة
وأما قولنا ۳ هل هذا خاص بهذه الأربعة أو هو من باب التنبيه بالأغلب على الأقل احتمل لكن الظاهر أنه من باب التنبيه بالأغلب على الأقل - كما قدمنا في غير ما حديث ـ وهو أن العلة التي أُنيط بها الحكم إذا وجدت لَزِم الحكم وهو إجماع من أهل السنة فكل ما يشغل ـ كما قسمنا أولاً - عن حق من حقوق الله تعالى فهو وبال على صاحبه وكل ما كان للنفس به تعلق ولم يشغل عن حق من حقوق الله تعالى فتوفيةُ الحقوقِ المأمور بها كفارة لها بمقتضى ما بينا من الكتاب والسنة والآي والأحاديث في ذلك كثيرة وفيما ذكرت كفاية لمن فهم
وأما قولنا هل هذا خاص بالرجال دون النساء فقد قال هنَّ شقائق الرجال 1 معناه في لزوم الأحكام وإنما هذا - كما قدمنا ـ من باب التنبيه بالأغلب يؤيد ذلك قوله ما تركت بعدي فتنة هي أضرُّ على الرجال من النساء ٥ ولم يقل ذلك٦ في المرأة لأن الرجال في هذا المعنى أشدّ وأما الولد فقد تكون المرأة في ذلك أشدّ من الرجل لكن لما لم يكن لها الحكم عليه مثل الأب فذكر الأعلى وأما المال وغير ذلك فالرجال والنساء في ذلك سواء إلا أنه هو الأغلب في الرجال لأنهم يحكمون ولا يُحكم عليهم والنساء في الغالب محكوم عليهن فلذلك ـ والله أعلم - ذكر الرجال دون النساء
وأما قولنا هل الواحدة من ذلك تكفر أو المجموع فالجواب عن هذا كالجواب عن الوجوه المتقدمة لأن هذا من باب التنبيه بالأعلى على غيره لأنه عليه السلام ذكر من أفعال الأبدان أعلاها وهو الصوم والصلاة وقد قال جلّ جلاله في حقها ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ٧ ومن حقوق الأموال أعلاها وهي الصدقة ومن الأقوال أعلاها وهو الأمر
1 أثرة عائشة تفضيلها
رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ۳ هذا القول يتضمّنه أول ما جاء به المؤلف بعد ذكر الحديث وليس نصاً فيه ٤ إنما النساء شقائق الرجال أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها والبزار
عن أنس بن مالك رضي الله عنه
٥ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه
1 أي الفتنة وكفارتها ۷ سورة البقرة من الآية ٤٥
٢٨٤

الله
نها
أن
ـل
أن
كما
من

L
والنهي فمن فعل هذه لم يمكنه أن يترك الباقي ولا يقدرُ ولو أراد ذلك وقد قال عمر رضي الله
عنه إذا رأيت الحسنة فاعلم أن لها أُخيَاتٍ وكذلك السيئة
وأما هل الواحدة تكفر أو المجموع بل المجموع مع ما بقي من الواجبات والدوام على ذلك بدليل قوله من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ۱ ومن ترك شيئاً من الواجبات فقد أتى فاحشة ومنكراً ومن أتاهما فقد بَعد من الله ومن بَعد كيف يكفّر عنه شيءٌ مما ذكر الذي هو فيه أعظم مما نحن بسبيله
الوجه الثاني فيه دليل على فصاحة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف جمع هذه الفوائد بهذه
العبارة الرائقة
الوجه الثالث فيه دليل لأهل الصوفة الذين يؤثرون عمل القلوب على عمل الأبدان لأنه عليه السلام قد جعل شغل القلب بما ذكر مما يحتاج إلى تكفير ولا يكفّر إلا ما يُرضَى الوجه الرابع فيه دليل لهم على ترك الشهوات ومجاهدة النفس عليها لأن سبب الوقوع في هذه وما هو أكبر منها إنما هو غلبة الشهوات
الوجه الخامس يؤخذ من مفهوم الحديث إشارة لطيفة كأنه عليه السلام يحذر عن هذه فإن الهروب منها فيه السلامة ولا يعدل السلامة شيء فمن قدر عليها مع توفية ما عليه من الحقوق وإبقاء مقامه الخاص مع مولاه فهذا عند أهل الحقيقة والشريعة أوحد زمانه وإلا فالضعيف عند أهل الحقيقة هو الهارب عن المخالطة والضعيف عند أهل الفقه هو الذي لا يقدر أن يخرج عن المخالطة أعني ما لم يكن من أهل المقام الأول الذي أجمعوا عليه
إذا عرفت الرشاد وطرقه وأصغيت إلى حظ النفس توعرت عليك عند السلوك الطريق وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٢٨٥

حديث تعاقب الملائكة الكرام الكاتبيـ

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنَّهار ويجتمعون في صَلاةِ الفجرِ وصَلاةِ العَصْر ثم يَعرُجُ الذين باتوا فيكم فَيَسألُهُمْ ربُّهم وهو أعلَمُ بهم كيف عِبادي فيقولون تركناهم وهم
يُصَلُّون وأتيناهُم وهم يُصَلُّون
ظاهر الحديث يدل على تعاقب الملائكة فينا بالليل والنهار واجتماعهم في صلاة الصبح والعصر وسؤال مولانا جل جلاله عن عبيده والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول أن يقال لِمَ سأل مولانا جل جلاله عن آخر الأعمال لا غير وأن يقال لِمَ جاوبت الملائكة بأكثَرَ مما سُئلوا وأن يقال مَن هؤلاء العبيد المسؤول عنهم وأن يقال لِمَ خُصَّت هذه الأوقاتُ بالسؤال دون غيرها وأن يقال ما الفائدة لنا بالإخبار بهذا وما يترتب عليه
من الفقه
هناك
فالجواب عن الأول أنه قد أخبر الله أن الأعمال بخواتيمها ۱ فالحكم هـ
هنا كالحكم
وأما كون الملائكة أجابوا بأكثر مما سُئلوا فلأنهم علموا أنه سؤال موجب للرّحمة والإفضال فزادوا في موجب ذلك بأن قالوا وأتيناهم وهم يصلون ويترتب على هذا من الفقه وجهان أحدهما أن أعلى العبادات الصلاة لأنه عليها وقع السؤال والجواب والوجه الآخر أن الملائكة تفرح بعمل العبد الصالح وأنهم يحبون له رحمة المولى على ذلك وحسن جزائه ولولا ذلك لما زادوا من عند أنفسهم ما لم يسألوا عنه

٢٨٦
1 رواه الخطيب البغدادي

وأما من هم هؤلاء العبيد المشار إليهم بهذا التخصيص العظيم وهو كونه جل جلاله أضافهم إلى نفسه - وذكرُهُ لهم رحمة لأنه قد أخبر في كتابه أن ذكره لعبده رحمة له في سورة عليها السلام بقوله عزّ وجلّ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ١ - فهم الذين وصفهم الله عزّ وجلّ في كتابه بقوله سبحانه إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ
مریم
وأما قولنا لم خُصَّت هذه الأوقاتُ بالسؤال فيها عن غيرها فمن باب التشريف لأن الله عزّ وجلّ يُشَرِّف من يشاء من خلقه حيواناً كان أو جماداً أو ما شاء
ويترتب عليه من الفقه وجهان
الوجه الأول أن هذين الوقتين أشرف الأوقات وقد دلت عليه آثار كثيرة منها قوله كناية عن مولانا جل جلاله اذكرني ساعة بعد الصبح وساعة بعد العَصْر أكْفِكَ ما بينهما ۳ ومنها أن الرزق يقسم من بعد صلاة الصبح فمن كان في ذلك الوقت في طاعة زيد في رزقه ولهذا نرى أرزاق أهل التعبد مباركة والبركة أكبر الزيادات وقد جاء فيمن حلف بعد العصر حانثاً وعيد عليه شديد ومنها قوله استعينوا بالغَدْوَة والرَّوْحَة ٤ فلولا فضلهما لما دلّ عليهما
والوجه الثاني أن الصلاة التي تقع فيهما تكون أفضل الصلوات لأن الوقت المسؤول عنه مرقع على غيره والصلاة مس ول عنها من بين غيرها من الصلوات فتكون بهذا التأويل هي الصلاةَ الوسطى التي أمرنا بالمحافظة عليها فتكون صلاةً وُسطى في زمان الليل وصلاةً وسطى في زمان النهار لأن الصلاة الوسطى اختلف العلماء فيها على أحَدَ عَشَرَ وجهاً ما من وجه إلا وقد قال الخصم فيه مطعناً واعتُرِضَ عليه وأرجو لما قرَّرناه أن هذا أقلها اعتراضاً
وزيادة في ذلك مما تقدم من البحث في هذا الحديث وافق عليه بعض الطلبة فالأكثر منهم سلموا واستحسنوا إلا شخصاً واحداً اعترض على قولنا إنها الصلاة الوسطى اعتراضاً ليس بالحسن فعزَّ ذلك على بعض من له تعلق بالمتكلم ٥ بتلك البحوث فلما كان في الليل رأى ٦ رسول الله ل في النوم والمتكلم بين يديه وهو يقول له يا رسول الله ظَهَر لي في هذا الحديث وذكر له تلك البحوث واعترَضَ شخص عليَّ في الصلاة وما ذكرتُ فيها من أنها
1 سورة مريم الآية ٢ سورة الحجر من الآية ٤٢
۳ أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي
ع رواه البخاري وهو الحديث ٦ في هذا الكتاب
5 كأن المؤلف ابن أبي جمرة يقصد نفسه بكلمة المتكلم ٦ الضمير يعود على البعض الذي له تعلق بالمتكلم

۸۷

ل

الوسطى فجاوبه الرسولُ عليه السلام بأن قال له حَسَن ما قلتَ وما ظهر لك حق فلمّا أصبح أخبر الرائي للمتكلم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا أجازها سيدنا فلا أبالي
بِمَن رَدُّها
وقولنا ما الفائدة فيه وما يترتب على ذلك من الفقه فالفوائد كثيرة وما يترتب على ذلك
من الفقه كذلك فما فيه من الفوائد الإخبار لنا بما نحن فيه من الضبط وكيفيته ويترتب على هذا من الفقه أن ننتبه إلى أنفسنا ونحفظ أوامر ربنا ونواهيه هذا وظيفة العوام وأما الخواص فالفرح والسرور بهذه الأوقات كقدوم رُسُلِ المَلِكِ إليهم وسؤاله عنهم فهذه أعلى المسرات عندهم ولهذا المعنى ذكر عن بعضهم أنه كان دابه إذا كان آخرُ صلاة الليل و تفرغ منها يلبس أحسَنَ ثيابه ويجلس على أحسن فراشه ويقول مرحباً بِرُسُلِ ربّي الكرام بسم الله اكتُبا فيبقى في ذكرٍ وتلاوة حتى تجيبه أوقات الصلوات فيصلي حتى يعود إلى آخر صلاةِ النهار ويفعل مثل ذلك بالليل ذلك كان حاله
الوجه الثاني فيه من الفوائد أيضاً العلم بحبّ الملائكة لنا ويترتب عليه من الفقه الأنسُ
بهم والحبُّ لهم وهو ممّا يقرب إلى الله عزّ وجلّ
وفيه الإخبار بالغيوب وهو من أكبر الفوائد ويترتب عليه من الفقه زيادة الإيمان
فيتحصل له المنحة الكبرى والمحبّة العظمى التي مدح بها أهلَ الإيمان بقوله جلّ جلاله يؤمنون بالغيب ٣
ويترتب عليه من الفوائد الإخبار بحرمة هاتين الصلاتين لما كان يجتمع فيهما أربعة من الملائكة وفي غيرهما اثنان اثنان ويترتب عليه من الفقه المحافظة عليهما والاهتمام بهما الزيادة ترفيع سيدنا بالإخبار بذلك لأنه لما زاد اطلاعه عليه السلام على أمور الغيب والعلم بها والإخبار عنها زاد ترفيعه عليه السلام ويترتب عليه من الفقه زيادة ترفيعنا له عليه السلام وما زدنا له زدنا إلى مولانا قرباً
الوجه الثالث فيه من الفائدة معرفة ترفيع هذه الأمة على غيرها لأنه لم يخبر بهذا إلا عناية بها ويترتب عليه من الفقه شكر هذه النعمة التي خصصنا بها والشكر يقتضي المزيد بالوعد
1 يريد المتكلم وزاد اللام للتقوية الضمير يعود على المتكلم الذي هو المؤلف رحمه الله
۳ سورة البقرة من الآية
بلج 0
85
3
۸۸

فلما
أبالي
ذلك
وظيفة
نهم
لميل ـرام صلاة
أُنسُ
مان
الَّذِينَ
ـة من
ـماء
عليه
عناية
وعد
الجميل قال تعالى لَإِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فإن قال قائل ما معنى فيكم أهي إلى جنس المؤمنين منكم أو غيركم أو هي الكم فإن كانت للجميع فكذلك كان من كان قبلكم فالجواب عنه كالجواب قبل لأن هذه النعمة أعم من الأولى
الوجه الرابع فيه من الفوائد العلم باهتمام الله عزّ وجلّ بعبيده ويترتب عليه من الفقه إذا علمنا ذلك قوة اليقين وهو أعلى الدرجات
الوجه الخامس فيه من الفائدة أنه عند سماع ذلك تعرف قدر إيمانك من ضعفه وقوته ويترتب عليه من الفقه أنك إذا رأيته قويا وزادك ذلك حَنا على العمل حَصَل لك بشارة أن فيك من القوم نسبةً وإن لم تَرَ ذلك يزيد عندك شيئاً إلا سَمْعَك له كسَمْعِكَ أخبار النّاس عرفت أنك من المساكين الذين يُخاف عليهم فتدارك نفسك بالمعالجة وهذا وجه كبير من الفقه
الوجه السادس فيه فائدة كبرى فإنه يدل على جملة صفاتِ الحق عزّ وجلّ وهي الدلالة على أنه عزّ وجلّ متكلّم وأن كلامه لا يُشبه كلامَ المخلوقين وأنه عزّ وجلّ موجودٌ حقًّا وأنه ليس في مكان وأنه تعالى مُدْرِكٌ لجميع الأشياء
فأما الدليل من الحديث على كلامه عزّ وجلّ فمن قوله كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادي فهذا نص
وأما الدليل على أن كلامه ليس ككلام المخلوقين فمن قوة الكلام في الحديث لأنه عليه السلام أخبر أن الملائكة تأتي في الزمان الفرد من جميع أقطار الأرض بأعمال جميع العباد وفيهم البر والفاجر والمؤمن والكافر وهذا عدد لا يُحصيه العقل ولا يَضْبِطه في هذا القدر من الزمان لا بالوهم ولا بالكيف فيسأل من هذا الجمع العظيمِ الحَفَظَةَ الذين أتوا من عند الخصوص من عباده دون غيرهم فدل ذلك على أنه جل جلاله يخاطِب حَفَظَةَ كلُّ شخص منفردين فيحصل الخطاب للجمع الكثير في الزمان الفرد على الانفراد مزدوجين مزدوجين على حد واحد لا يشبه هذا كلام المخلوقين ولا يتوهمه عقل ولا يُكَيَّف
ومما يقوي ما قلناه قوله إذا صعد الحافظان عليهما السلام بعمل العبد وأول الصحيفة مُبيضُ بالحَسَنات وآخِرُها كذلك قال الله عزّ وجلّ أَشْهِدُكم يا ملائكتي أنني قد غفرت ما بينهما من السيئات فتبقى الصحيفةُ بيضاء نقية وإن كان أحد طرفيها مختلطاً بالحسنات
والسيئات أقرت على ما هي عليه ٢
1 سورة إبراهيم من الآية أخرجه أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر

فلما
بالي
ذلك
ليفة

الجميل قال تعالى لَإِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فإن قال قائل ما معنى فيكم أهي إلى المؤمنين منكم أو غيركم أو هي لكم فإن كانت للجميع فكذلك كان من كان قبلكم فالجواب عنه كالجواب قبلُ لأن هذه النعمة أعمُّ من الأولى
جنس
الوجه الرابع فيه من الفوائد العلم باهتمام الله عزّ وجلّ بعبيده ويترتب عليه من الفقه إذا علمنا ذلك قوة اليقين وهو أعلى الدرجات
الوجه الخامس فيه من الفائدة أنه عند سماع ذلك تعرف قدر إيمانك من ضعفه وقوته ويترتب عليه من الفقه أنك إذا رأيته قويا وزادك ذلك حَنَّا على العمل حصل لك بشارة أن فيك من القوم نسبةً وإن لم تَرَ ذلك يزيد عندك شيئاً إلا سَمْعَك له كسَمْعِكَ أخبار النّاس عرفت أنك من المساكين الذين يُخاف عليهم فتدارك نفسك بالمعالجة وهذا وجه كبيرٌ من الفقه
الوجه السادس فيه فائدة كبرى فإنه يدل على جملة صفاتِ الحق عزّ وجلّ وهي الدلالة على أنه عزّ وجلّ متكلّم وأن كلامه لا يُشبه كلام المخلوقين وأنه عزّ وجلّ موجود حقا وأنه ليس في مكان وأنه تعالى مُدْرِكٌ لجميع الأشياء
فأما الدليل من الحديث على كلامه عزّ وجلّ فمن قوله كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادي فهذا نص وأما الدليل على أن كلامه ليس ككلام المخلوقين فمن قوة الكلام في الحديث لأنه عليه السلام أخبَرَ أن الملائكة تأتي في الزمان الفَرْد من جميع أقطار الأرض بأعمال جميع العباد وفيهم البَرُّ والفاجر والمؤمن والكافر وهذا عدد لا يُحصيه العقل ولا يَضْبِطه في هذا القَدْر من الزمان لا بالوهم ولا بالكيف فيسأل من هذا الجمع العظيمِ الحَفَظَةَ الذين أتوا من عند الخصوص من عباده دون غيرهم فدَلّ ذلك على أنه جلّ جلاله يخاطِب حَفَظَةَ كلُّ شخص منفردين فيحصلُ الخطاب للجمع الكثير في الزمان الفرد على الانفراد مزدوجين مزدوجين على حد واحد لا يشبه هذا كلام المخلوقين ولا يتوهمه عقل ولا يُكَيَّف
ومما يقوّي ما قلناه قوله إذا صعد الحافظانِ عليهما السلام بعمل العبد وأولُ الصحيفة مُبْيَضُ بالحَسَنات وآخِرُها كذلك قال الله عزّ وجلّ أُشْهِدُكم يا ملائكتي أنني قد غفَرْتُ ما بينهما من السيئات فتبقى الصحيفةُ بيضاءَ نقيّة وإن كان أحد طرفيها مختلطاً بالحسنات
والسيئات أقرت على ما هي عليه

۱ سورة إبراهيم من الآية ٧
أخرجه أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه بلفظ آخر

وأما الدليل على وجود نفْس الربوبية فهو الكلام لأن الكلامَ لا يكون إلا من موجودٍ قطعاً وأما الدليل على أنه عزّ وجلّ ليس في جهة فلأنه الله ذكر الصعود والخطاب ولم
يتعرض إلى الجهة فدَلّ أنه لا يتحيّز
وأما الدليل على إدراكه سبحانه لجميع المُدرَكَاتِ فلكونه عزّ وجلّ يخصص حفَظَةً أهل الخصوص من بين غيرهم بهذا الخطاب ويترتب على هذا من الفقه معرفة الحق عزّ وجلّ وزيادة اليقين بوجوده تعالى وقوة الإيمان ويترتب عليه الثواب الجزيل فإن أكبر الوصول إليه عزّ وجلّ المعرفةُ به وتنزيهه
جعلنا الله ممّن مَنْ عليه به وحفظه عليه بمنه
الوجه السابع هنا بحث متى يكون عروجهم لأنه عليه السلام قال ثم يعرج الذين باتوا فيكم ورواية أخرى كانوا فيكم فأما في صلاة الصبح فبعد الشروع فيها أو الانتظار لها بدليل قولهم تركناهم وهم يصلّون وأما قولنا وهم ينتظرونها أي ينتظرون إيقاعها لقوله عليه السلام لا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ۱
وأما الذين يعرجون آخر النهار فاحتمل أن يكون مثل الصبح واحتمل أن يكون عند العشاء الآخرة على رواية باتو فيكم لأن المشهور من اللغة أنهم يسمّون الزمان من الزوال إلى المغرب مساءً ومن المغرب إلى الصبح مبيتاً فإذا صعدوا بعد العشاء فقد أخذوا جزءاً من المبيت والعرب تطلق اسم الكلِّ على البعض كما يقولون جاء زيد يوم الخميس وما وقع مجيئه إلا في جزء منه وأما على رواية كانوا فيكم فيحتمل مثل الصبح وقد يحتمل مثل ذلك على رواية باتوا فيكم لأن العرب تسمّي الشيء بما يقرب منه وإن كان قد جاءت رواية ضعيفة أن العرب تسمّي الزمان من الزوال إلى الصبح مبيتاً
وقد يبقى ما قلناه من احتمال تأخيرهم بالصعود إلى العشاء الآخرة لأنه من أحد محتملاتها ٢ وهو الذي نبه عليه أهل الصنعة النَّحوِيَّة في بابها عند كلامهم عليها وعلى أخواتها من حروف العطف وهي للمُهلة فهذه المهلة احتملت أن تكون مقارنة للأوقات التي حُدَّت للصلاة فإنها مؤيدة أو إلى أزيد من ذلك
فأما في الصبح فلا تحتمل أزيد منه لأنه ليس لنا ما نطرق له ذلك وما طرقنا الاحتمال في
الكلام عن حرف العطف ثم ۱ جزء من حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
35

الطرف الآخر إلا على رواية باتوا فيكم لاتساع الزمان في ذلك ولهذا تجب المحافظة فـ كما قاله أهل المعرفة من العلماء ليصلَّى الوسطى بالقطع
الجميع
في
وقولهم وأتيناهم وهم يصلّون الوجه فيه كالوجه الذي قبله من أنهم أتوهم وهم في نفس الصلاة أو هم ينتظرونها لكن الأظهر - والله أعلم - أنهم في الوقت الذي يكون نزولهم صعود الآخرين وتكون ثُمّ للانتقال من حال إلى حال ليس بينهما شيء آخر وهو من أحد وجوهها
المستعملة فيها
ومما يقوي هذا من خارج ۱ ما ورد أن مَلَكَ اليمين موكل على ملك الشمال ولو بقيا هذا المقدار من الزمان وهو من العصر فإن نزولهم فيه محقق إلى العشاء الآخرة لأنه قدر ثلث يوم فكيف يصح أن تجيء الأخبار بصيغة الانفراد عن ملك اليمين والشمال مطلقاً ولقولنا مما
استشهدنا به قبل لقوله إذا صعد الحافظان ولم يذكر في الصعود بالصحيفة إلا اثنين ومن طريق آخر لو قعدا يكتبان الاثنان منفردان والآخران منفردان في هذا الزمان لكان يؤول الأول إلى تكرار العمل على العبد وهذا على صفة العدل محال ولو كانا أيضاً يقعدان في هذا الزمان الخاص ولا يكتبان فهذا على مقتضى الحكمة محال
ثان لأن الحكمة لا عمل فيها لغير فائدة
و دليل آخر لو كان كذلك - أعني بقاءهم إلى العِشاء الآخرة - لكان السيد بين لنا هذا لأنه يترتب عليه فوائد وأحكام وأقل من هذا لم يُغفله وأخبَرَنا به لِمَا طُبع عليه من
والنُّصح
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الشفقة
بلد
۱ من خارج أي من حديث آخر غير موضوع البحث
۹۱

حديث من ني صلاةَ فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرها

عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال مَنْ نَسِيَ صلاةٌ فَلْيُصَلِّها إذا أَنَسِ ذَكَرَها لا كفَّارَةَ لَها إلا ذلك أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
ظاهر الحديث إيقاعُ الصلاةِ المَنْسِيَّة عند ذكرها والكلام عليه وجوه
الوجه الأول هل الصلاة يعني بها واحدة ليس إلا أو صلاة من حيث الجملة وإن كثرت وهل تقدم على الوقتية وإن خرج وقت الوقتية أم لا وهل يجوز تأخيرها يسيراً كما يجوز تأخيرُ الوقتية أم لا والكفارة هنا هل هي عن ذنب مأخوذ به أو ليس
فالجواب عن الأول احتمل الوجهين معاً فأما الواحدة - وهو أن تكون واحدة - فيلزم منه إن كانت أكثر فلا تصلّى ولا قائل بذلك فبطل هذا الاحتمال وبقي أنها صلاة من حيث الجملة - كانت واحدةً أو أكثر - فإنها تصلى
وأما هل تقدم على الوقتية أم لا فإن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا بذلك لأنه عليه السلام قال فليصلها فذلك وقت لها على ما جاء في رواية أخرى فقد عيّنه عليه السلام بالإشارة إليه وإن نظرنا إلى أن الأمر إذا احتمل معنيين أحدهما يوجب حكماً وليس فيه خلل بالحكم الآخر والثاني يوجب حكماً ويلحق في الحكم الآخر خلل فنأخذ الذي يوجب الحكم ولا يقع في الحكم الآخر خلل من طريق الترجيح مثل ما قلنا آنفاً إذا نظرنا بتعيين الوقت بالإشارة إليه أوجبنا فعلها وإن خرج وقت الوقتية فلحق الخلل في الوقتية لخروجها عن وقتها وقد جاء في رواية أخرى فذلك وقت لها أي جائز فعلها وإن كان وقتها المفروض لها قد خرج فصاحبها معذور في ذلك بعلة النسيان أو كان قد دخل وقت جواز فعلها ودخل على الأخرى التي تعين وقتها بتعيين الشارع عليه السلام أولاً وهو الأصل فكانت الأولى أولى بالتقديم ولا يلحقها
۹

نقص وتبقى صاحبة العذر متأخرةً عنها والشارع عليه السلام قد جَبَر ذلك الخلل بقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخَطَأُ والنسيان ۱
فمن أجل هذه التقديرات اختلف العلماء في تقديم المنسيَّة على الوقتية فمذهب الشافعي رحمه الله ومَن تَبِعه على تقديم الوقتية على المنسيّة ومذهب مالك ومن تبعه على تقديم المنسيَّة على الوقتية إلا أنه يشترط أن تكون يسيرة فإن كانت كثيرة فالوقتية مقدَّمة وادعوا الإجماع في ذلك وكذلك ادعوا الإجماع في تخصيص الحديث لأن اللفظ يقتضي العموم فلو أبقوه على ذلك لآل الأمر إلى أن تخرج الوقتية عن وقتها ويعود حكمها حكم المنسيات وهذا خلل كبير فانتسخ هذا بالإجماع والإجماع لا يُعتَرَض عليه
وبقي الخلاف في حد القليل من الكثير فأقلُّ من صلاة يوم عندهم في حكم القليل وأكثر من صلاة يوم في حكم الكثير وصلاة يوم مختلف فيه
وأما قولنا هل يجوز تأخيرها عند الذكر بغير عذر شرعي أو حضور أداء الوقتية على الخلاف المتقدم فلا أعرف فيه خلافاً أنه لا يجوز لأنه مشار إليه غير محدود كما فعل عليه السلام في الوقتيات حين قال ما بين هذين الوقتين وقت فدل بترك التحديد لهذه لأن الأمر فيها بخلاف المحدود وقتها

وأما قولنا هل هذه هي الكفارة لذنب وقع فليس هنا ذنب واقع لما قدمنا أولاً من قوله أو نَسِيَها فيكون معنى قوله عليه السلام لا كفّارة لها إلا ذلك أن لو كان هناك ذنب يؤخذ به كقوله عزّ وجلّ في كتابه فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا ۳ قال العلماء في معنى فجزاؤه إن جازاه
واحتمل أن يكون أراد بالذكر أنَّ الذنب فيها ذنب من كونها ذنباً لغةً لكونه أخرج ما أُمِرَ به عن وقته وإن كان صاحِبُه لا يؤاخَذُ به وأن جَبْرَه يُسمَّى كفارة وإن لم يكن هناك ذنب لأن هذا
تغطية لذلك الخلل واحتمل أن يريد أن ذلك الخلل الذي وقع لا ينجير بفعل من أفعال البِرّ - وإن كَبُرَ - إلا بأدائها في هذا الوقت المشار إليه فيكون فيه على هذا التأويل وجهان من الفقه الواحد منع البدل بغيرها من القُرَبِ والآخر ألا تؤخّر عن ذلك الوقت ولهذا المعنى يرجح مذهب مالك ومن تبعه
على غيره
۱ أخرجه الطبراني في الكبير عن ثوبان رضي الله عنه قطعة من حديث رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم / ٦١٤ / بلفظ الوقت بين هذين
۳ سورة النساء من الآية ٩٣

الوجه الثاني فيه دليل لقول من يقول إن شرع من تقدم شرع لنا يؤخذ ذلك من قوله وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِي ۱ وهذا الخطاب كان لِمَنْ تقدَّم من الأمم
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن شرعَ من تقدم ليس بشرع لنا إلا إذا وافق شرعنا يؤخذ ذلك من أنه لم يحتج بالآي إلا حين قرر الحكم فكأنه ذكره لما يُساوي ما أمرنا به لما أمِر به من قبلنا ويترتب على هذا الوجه أن معرفة الشرائع المتقدمة من المحمود شرعاً وإن لم يكن فيه حكم لنا ولولا ذلك ما ذكره

الوجه الرابع هنا إشارة صوفية لأنهم يقولون أعلى الأعمال الأذكار لأن ذكر اللسان يوجب ذكر الأحكام وهو أجلُّ الأذكار كما قال عمر رضي الله عنه ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكره باللسان والغفلة سببها النسيان فما حُرِم مَنْ حُرِم إِلا مَنْ الغفلة ولا سعد من سعد إلا بالذكر والحضور وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۳
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
تی
۱ سورة طه من الآية ١٤ زاد اللام في المفعول به للتقوية ۳ سورة العنكبوت من الآية ٤٥
٢٩٤
المالية عن بقية

حديث الأذان في البادية وفضله
عن عبدِ الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه رضي الله عنهما أنه أخبره أن أبا سعيد الخُدْرِي قال له إنّي أراكَ تحبُّ الغَنَمَ والبادية فإذا كنتَ في غَنَمك أو باديَتِك فأذنتَ بالصَّلاة فارفَعْ صوتَكَ بالنداء فإنه لا يَسْمَعُ مَدى صَوْتِ المَوْذُنِ جِن ولا إنس ولا شَيْءٌ إلا شَهِدَ له يَوْمَ القِيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ظاهر الحديث أنّ كلَّ من يَسمعُ صوت المؤذنِ يَشهدُ له يومَ القيامة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قوله لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جنُ ولا شيء هل يعني بـ شيء كلّ حيوان أو جمادٍ أو حيوان ليس إلا فالظاهر أنه كلُّ جماد وغير ذلك لقوله ولا شيء لأنه يقع على الجماد وغيره ولا سيما وقد جاء في حديث آخر مَدَر وشَجَر
وهنا بحث وهو أن يقال ما الفائدة في شهادة هؤلاء وما يترتب عليه للفاعل من الخير فالجواب - والله أعلم - أنه يكون له من الثواب بقدر ثواب عمل من سمعه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام من دعا إلى هدى فله أجرُه وأجرُ مَن عمل به ۱ وجاء أن بقاع الأرض تنادِي َكلَّ يوم بعضُها بعضاً هل عَبَرَ اليوم عليكِ مَنْ ذَكَرَ الله فإن عَبَرَ عليها ذاكرُ الله افتخرت على صاحبتها ٢ فيكون بندائه داعياً إلى ذكرِ الله فله بقَدْر أَجرِ مَن ذَكَر الله من أجل أذانه
فإن قال قائل ليس هذا ذكراً بل هو إعلام بوقت الصلاة قيل له صدقت إذ إنّ فيه أجلَّ الأذكار وهو الإقرار بالألوهية ونفي ضدها ومن مشروعيته الحكاية على من سمعه فهو إعلام بالصلاة ودعاء إلى أفضل الأعمال - وهي الصلاة - فوجَبَ له بذلك من الأجر ما ذكرنا
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك رضي الله عنه

0

683
۹۵

الوجه الثاني فيه دليل على أن الجماداتِ تسمع وقد اختلف العلماء فيما جاء من الأخبار عن الجمادات في مثل هذا والتسبيح في مثل قوله تعالى ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِيَدِهِ ۱ فمن قائل يقول إن ذلك بلسان حالها ومن قائل يقول إنه يوضع فيها حياةٌ وحينئذ تسبح ومنهم مَن حَمَلها على ظاهرها وقال إن القدرة صالحة وهو الحق لا سيما مع قوله عزّ وجلّ وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَفَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ﴾ ٢ قال أهل التحقيق من العلماء إنَّه ما من حجرٍ يَهيل أو جبل يَخِرُّ ۳ إلا من خشية الله عزّ وجلّ وهو الحق فلو كان ذلك كلُّه بلسان الحال - كما زعمَتْ تلك الطائفة - فما تكون فائدة الإخبار بذلك لنا ونحن نعلم كل ذلك بعلم الضرورة فيكون الإخبار به كتحصيل الحاصل وهذا في حق الحكيم مُحَالٌ
الوجه الثالث فيه دليل على أن الجماداتِ تشهد يوم القيامة بالذي وقع فيها من الخير وضده وجاء ذلك في حديث غير هذا أنَّ البقعَ تَشهدُ بما فُعِل عليها ولو لم يكن في ذلك إلا ما جاء في حديث عذاب القبر لأن الأرض تقول للمؤمن ما أحبَّ ما كنتَ فيه وأنتَ تمشي على ظهري فكيف اليوم وأنتَ في بطني والكافر بضد ذلك والآي والأحاديث في ذلك كثيرة والقدرة صالحة وبذلك تترتب الفائدة على الإخبار بهذا
والذي يتحكم على القدرة ويقول لا يتكلم ولا يفهم إلا من له حياة وعقل ليس له في ذلك دليل شرعي وإنما أخذ ذلك من علم العقل والقدرة لا تنحصر بالعقل وقد قال جل جلاله ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ٤ وقد تقدم لنا في ذلك أول الكتاب بحث أغنى عن إعادته هنا الوجه الرابع فيه دليل على أن الحيوان والجماد يفرح بالصالحين وقد جاء في معنى قوله تعالى ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ٥ أنّ الأرض التي كان المؤمنُ يتعبد فيها أو الباب الذي كان عمله يصعد منه إلى السماء يبكيان عليه أربعين يوماً
وفيه تحضيض على العبادة في البرّية لأنه إذا أخبر بمثل هذا الأجر اجتهد في ذلك وقد جاء أنه من كان في بَريَّة وأذن وأقام صلى خلفه أمثالُ الجبال من الملائكة وإن أقام ولم يؤذن
صلّى وراءه الملكان ليس إلا
۱ سورة الإسراء من الآية ٤٤ سورة البقرة من الآية ٧٤
۳ هال عليه التراب وأهاله صبّه والمراد هنا انحدار الحجر و خر الجبل سقط
٤ سورة النحل من الآية ٨ ٥ سورة الدخان من الآية ۹
د العالي
٢٩٦

من
من
الى
وقد جاء أن الصلاة في البريّة بسبعين صلاةً فيُحصل مما جاء في الأخبار في البرية والتعبدِ فيها مما ذكرنا وغيره وما جاء في الحاضرة وشهودِ الجماعات وملازمة المساجد وغير ذلك مما عظيم بِحَسَب الوعدِ الحق جاء في التعبد فيها وأنواعه أن المؤمن إذا كان على حكم الكتاب والسنة أينما كان كان في خير
الوجه الخامس فيه دليل على أن مَن أكثَرَ من شيءٍ نسب إليه حُبّه يؤخذ ذلك من قول هذا السيد ١ لصاحبه لأنه لم يكن يعرف هل ۳ هو مولع بالبادية إلا من كثرة لزومه إياها ولذلك قال أراك بحسب رؤية الحال ولم يقل له بالعلم القطعي
الوجه السادس فيه دليل على أن من أحب شيئاً من متاع الدنيا ولم يمنعه عن حقوق دينه من واجبها وندبها أن ذلك ۳ جائز يؤخذ ذلك من إقرار هذا السيد صاحبه على ما رأى منه من الحب ونبهه ٤ على الحض على الندب وهو الأذان والصلاة فيه
الوجه السابع فيه دليل على أن الأغراض تكون مختلفة والصُّحبة متحدة وذلك مأخوذ من إقرار كلّ واحدٍ من هذين صاحبَهُ على حاله لأن كلا منهما على لسان العلم في حاله مَثَل ذلك قصة مالك رضي الله عنه مع صاحبه المتعبد حين أرسل المتعبد إليه يندبه إلى ترك ما هو فيه من الاجتهاد في العلم وينقطع إلى التعبّد فكان من جواب الإمام له أن قال أنت على خير وأنا على خير وما أنا تارك ما أنا فيه ولا أنت كذلك فبقيا على صحبتهما مع بقاء حالِ كلِّ منهما على
حاله الخاص
0
الوجه الثامن يؤخذ منه أن نصيحة كل شخص بما يقتضيه حاله يؤخذ ذلك من إرشاد هذا السيد صاحبه إلى المندوب الذي يليق بحاله وهو الصلاة بالأذان ولم يقل له مثل ملازمة المساجد ونحوها مما لا يمكن إلا لمن ٦ يسكن الحاضرة فكان يُدخل عليه تشويشاً لكونه لا يقدر على
فعله مع ما هو فيه
الوجه التاسع فيه دليل على فضل الصَّدر الأول يؤخذ ذلك من اشتغال بعضهم ببعض
ولولا ذلك لما أرشد هذا السيّد أخاه إلى ذلك
۱ السيد - هنا هو أبو سعيد الخدري وصاحبه أبو صعصعة رضي الله عنهما
٢ أي ما فهل للنفي
۳ أي ذلك الحب
٤ الجملة معطوفة على المصدر إقرار
٥ الجملة معطوفة على المصدر ترك
٦ اللام زائدة للتقوية

0
0
6
الوجه العاشر فيه دليل على أن لكل شخص ما هو أجمع لخاطره يؤخذ ذلك من إرشاد هذا صاحبه إلى الأذانِ دون غيره من المندوبات للعلة التي عللناها قبل
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن الصَّدرَ الأول كانوا يحافظون على المندوبات كما يحافظون على الواجبات يؤخذ ذلك من قوله إذا أذنتَ فدل على أنه لم يكن يعلمُ من صاحبه أنه يتركُ المندوب - وهو الأذان - لأن الأذان على خمسة أقسام واجب ومحرّم ومندوب ومكروه ومباح على ما قسمه أهل الفقه وبيَّنوه فهذا النوع من المندوب منه وإنما نَبَّهه على الزيادة في المندوب وهو مدُّ الصوت
الوجه الثاني عشر فيه دليل لأهل الصوفة لأن أهم الأشياء عندهم الدين فلولا ما كان الصَّدرُ الأول كذلك ما كان يوصي صاحبه بما تقدَّم وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا تلاقوا يقول بعضهم لبعض تَعَالَ نُؤْمِن ۱ أي نتذاكر فيما يقوى به إيماننا
وقد كان لي بعضُ الأصحاب وكان ممن ارتفع قدره في الطريقين العلم والحال إذا تلاقينا بعد السّلام يبادرني يسألني فأول ما يَسأَل عنه يقول كيف دينك كيف حالك مع ربك كيف قلبك وحينئذ يسأل عن غير ذلك من الأحوال فكنت أنفَصِلُ عنه وأجدُ صدري قد انشرح والإيمان أجد فيه الزيادة محسوسة لصدقه وتقديمه أولاً الأهم تشبهاً بالصَّدر الأول

وهكذا ينبغي أن تكون أخوّة الإيمان ولذلك قال جل جلاله ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَذٍ بَعْضُهُمْ
البعض عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ فمن ليس ثوبَ التَّقَى ظهرت عليه بَشائِرُهُ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه وابن الأثير في أسد الغابة /۳۵/۳ سورة الزخرف الآية ٦٧
۹۸

-TY-
حديث فضل الأذان والصف الأول والعتمة والصُّبح
عن أبي هريرةَ رضيَ الله عَنْهُ أَنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لَو يَعلَمُ النَّاسُ ما في النداء والصفٌ الأولِ ثمَّ لم يَجِدُوا إلا أن يَستَهمُوا ۱ عليه لاستَهَمُوا ولو يعلمون ما في
التَّهجير ٢ لاستَبَقُوا إليه ولَو يَعلَمونَ ما في العَتَمَةِ۳ والصُّبحِ لأَتَوْهُما ولو حبوا ٤
*
*
ظاهر الحديث يدل على الحثّ على النداء والصف الأول والتهجير وعلى صلاة العتمة والصبح في الجماعات والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول أن مشروعية الأذان لا تجوز إلا واحداً بعد واحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لاستهموا عليه فلو كان يجوز جماعةٌ لَما احتاجوا أن يَستَهموا عليه لأن الاستهام لا يكون إلا على شيءٍ لا يَسَعُ الكُلّ ولا يكون أحد أولى به من غيره ويزيد ذلك بياناً فعله لأنه عليه السلام لم يُرو أنه أذَّنَ في زمانه مؤذنان جملة وإنما كان بلال ٥ وابن أم مكتوم ٦
۱ استَهَمَ ضرب بالسهام اقترع
٢ التهجير التبكير إلى الصلوات وهو المضي في أوقاتها وليس من الهاجرة ۳ العتمة ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة ٤ الحبو المشي على اليدين والبطن
٥ بلال الحبشي ابن رباح أبو عبد الله مؤذن رسول الله و خازنه على بيت ماله من مولّدي السراة وأحد السابقين إلى الإسلام وكان شديد السمرة نحيفاً طوالاً خفيف العارضين له شعر كثيف وشهد المشاهد كلها مع رسول الله له ولما توفي رسول الله أذن بلال ولم يؤذن بعد ذلك وأقام حتى خرجت البعوث إلى الشام فسار معهم وتوفي في دمشق سنة ۰ هـ / ٦٤١م روى له البخاري ومسلم ٤٤ حديثاً وفي طبقات ابن سعد ١٦٩/٣ عن مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله وأبو بكر وبلال وخباب وصهيب وعمار وسميّة أم عمّار فأما رسول الله فمنعه عمه وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذ الآخرون فأليسوا أدراع الحديد ثم صُهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ وطَعَن أبو جهل سُمَيَّةَ فقتلها فكانت أول شهيدة في الإسلام وأما بلال فجعلوا في عنقه حبلاً وأمروا صبيانهم فاشتدوا به جرياً بين أخشبي مكة وهو يقول أَحَدٌ أَحَدٌ ورآه أبو بكر بعد ذلك فاشتراه منهم وأعتقه ٦ ابن أم مكتوم هو عمرو بن قيس صحابي شجاع كان ضرير البصر أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة بعد =
۹۹

يؤذن بلال وبعده ابن أم مكتوم ولذلك قال عليه السلام إذا أذن بلال فكُلُوا واشربوا حتى ينادي ابنُ أم مكتوم ۱ وكان نداؤُه على الفجر وكذلك الخلفاء والصحابة بعده رضوان الله عليهم فالأذان الذي أُحدث اليوم بالجماعاتِ بدعة مَحضَة وإنما أحدثه بنو أمية واتباع السنة
أولى وأوجب
الوجه الثاني فيه دليل على المنافسة في أفعال البرّ وليس ذلك مما يدخله نقص ولا رياء فيه يؤخذ ذلك من قوله لاستهموا عليه وقال مولانا جلّ جلاله ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٢
الوجه الثالث فيه دليل على أنّ النفوس - في الغالب - لا يحملها على الأعمال إلا معرفة ما
يوم
لها من الحظ يؤخذ ذلك من قوله لو يعلم الناس لأن فيه إشارة إلى عظيم الأجر وإن كان قد ذكره في غير ما موضع منها قوله عليه السلام المؤذنون أَطْوَلُ النَّاسِ أَعناقاً القيامة ۳ وقوله عليه السلام فيهم إنّهم على كَثِيب من المِسْك ٤ وغير ذلك فلما كان هذا الحديثُ على طريق الحض عليه عَرَضَ لعظيم الأجرِ ولم يُبيّنه
ويترتب عليه من الفقه أن المخبر يكون إخباره على الوجهِ الذي يغلب على ظنه أن الفائدة فيه أعظم لأنه عليه السلام هنا أجمَلَ وفي الأحاديث الأخَرِ فَسَّرَ فلا تكون التفرقة بينها ـ والله أعلم - إلا بهذا الوجه
الوجه الرابع فيه دليل على أن الصف الأول هو في المسجد لأن العلماء اختلفوا ما معنى الصف فمنهم من قال إنه في المسجد ومنهم من قال إنه فيما تكتبه الملائكة على باب المسجد لأنه جاء أنها تكتب الأول فالأول فإذا خطب الإمامُ طُوِيتِ الصّحف وقعدت ٥ ونَصُّ الحديث ينفي أن يُريد كَتبَ الملائكة لأن كتب الملائكة لا نراه ولا نعلمه - أعني
تسمع
وقعة بدر وكان يؤذن الرسول الله الا الله مع بلال وكان النبي عليه السلام يستخلفه على المدينة يصلي بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة فقاتل - وهو أعمى - ورجع بعدها إلى المدينة فتوفي فيها سنة ٢٣هـ / ٦٤٣م وكانت وفاته قبيل وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1 أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي
سورة المطففين من الآية ٦
٢٦
۳ أخرجه الطبراني عن أبي محذورة رضي الله عنه ومسلم عن معاوية رضي الله عنه ٤ لم نقف على مصدره والكثيب التل
0

أبي هريرة رضي الله عنه مروي بالمعنى لحديث أخرجه الإمام أحمد والضياء في المختارة عن أبي سعيد رضي الله عنه ورواه مسلم عن
۳۰۰

وآخرون قد تبقى عليهم التبعات فيسبب الله لهم من يشفع فيهم وهؤلاء من نوع
الملطوف بهم
وآخرون تَفْضُل عليهم صغائر فيلطف بهم ويُعفى عنهم لمتضمَّن الوعد الجميل وهو قوله تعالى ﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلَا كريما ۱
وآخرون لهم سيئات كبائر وصغائر فيأمر الله عزّ وجلّ الملائكة أن يبدلوا لهم صغائرهم حسنات فإذا رأوها قالوا يا ربَّنا كانت لنا كبائر ولم نرها هنا طمعاً أن تبدَّل لهم الكبائر بالحسنات فأولئك كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم في كتابه بقوله ﴿ فَأُوْلَتيك يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَات ٢ وهؤلاء ممن تفضّل الله عليهم وآخرون تَرجَح حسناتهم سيئاتهم وأولئك هم المفلحون
وآخرون لم يحاسبوا البنة إلا من قبورهم إلى قصورهم كما جاءت بذلك الآثار مثل الشهداء
وغيرهم
وآخرون يُناقشون الحساب فأولئك الذين يهلكون أي يُعذَّبون لأن الهلاك هنا الذي هو كناية عن العدم ليس بموجود هناك وهذا مثل قوله تعالى ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِنت ۳ أي يأتيه أن لو كان يأتيه مثله في دار الدنيا لكان يموت فهنا يقاسي مثل الموت من كل جهة وليس بميت وفي هذا الهلاك يأتيه من الأمور المهلكة أن لو كان في دار الفناء لكان يهلك بها وهنا يقاسي مثل الهلاك وليس بهالك والهالكون هنا أي المعذَّبون على أحوال مختلفة بقدر أحوالهم كلُّ شخص بِقَدْر حاله

الوجه الثاني فيه دليل على أن من السنة أن من سمع شيئاً لا يعرفه فليراجع فيه حتى يعرفه يؤخذ ذلك من قوله كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه فلو لم يكن ذلك من سنن الإسلام لما أقرَّها عليه السلام في حقها خذوا عنها شَطْرَ دينكم ٤ لكن هذا
۱ سورة النساء من الآية ۳۱

سورة الفرقان من الآية ۷۰ ۳ سورة إبراهيم من الآية ١٧
٤ قال الحافظ ابن حجر في تخريج كتاب مختصر ابن الحاجب لا أعرف له إسناداً ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرّجه وذكر ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي فلم يعرفاه وقال السيوطي في الدرّ لم أقف عليه هـ من كشف الخفا ١/ ٣٧٤
۰۱
فيه
الله
فش
لى
6

ليس على العموم وإنما ذلك لمن فيه أهلية وأما العوام فوظيفتهم السؤال - كما تقدم - في
الأحاديث قبل
الوجه الثالث وفيه أن تكون المراجعة بحسن الأدب يؤخذ ذلك من قولها أوليس يقول الله تعالى فسوف يحاسَبُ حساباً يسيراً فلم تُظهِرْ صورة الإنكار ولكن عرضت بالآي ليجتمع لها في ذلك وجوه من الفقه منها تفسير الآية ممن يعرفها حقًا ومنها معرفة كيفية الجمع بينها وبين متن الحديث فاجتمع لها في ذلك ما أرادت وهو كونه عليه السلام بَيَّن لها معنى الاي وكيفية الجمع بين الآي والحديث
الوجه الرابع فيه دليل على تخصيص الكتاب بالسنة لأن هذا الحديث خصَّص تلك الآية
رحمه الله
بوجه ما لقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض ويؤخذ منه الدليل لمذهب مالك رحمه حيث يرى بأن جَمْع الآثار أولى من نسخها لأن الجمع يقتضي زيادة حكم والنَّسخ يقتضي نفي حكم هذا ما لم يُعلَم النسخ لأنه إذا عُلِم النسخ فلا جمع وذلك مثل ما فعل في الحديثين إنّما الماءُ من الماء ۱ وإذا جاوز الخِتانُ الخِتانَ فقد وَجَب الغُسْل فحمل قوله عليه السلام إذا جاوز الختان الختان على الجماع وحمل قوله عليه السلام إنما الماء من الماء على الاحتلام وما أشبهه وما نحن بسبيله مثله
الوجه الخامس يؤخذ منه أن الاستبداد مع حضور المعلم ممنوع وإنما الاستبداد بالتأويل مع الغيبة عنه يؤخذ ذلك من استدلالها بالآية حين سمعت ما ذكر عليه السلام فلم تستبد برأيها مع حضوره عليه السلام لأنه هو المشرّع والمعلّم فالتشريع خاص به والتعليم موروث عنه الوجه السادس فيه دليل على أن التفرقة بين اللفظين لافتراق الحكم جائزة بقرينة ما يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام مَن حوسب عُذب وقوله تعالى ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۳ فاللفظ واحد في الحساب ووقعت التفرقة بينهما بالصفة لأنه عليه السلام قال في الواحد لو لم يُيَسَّر عليه لهلك فوصفه بالتيسير وفي الآخر أضاف إليه الهلاك فليس من يُيَسّر عليه يَهْلِك الوجه السابع فيه دليل على أن بساط الحال يستدل به على حقيقة المعنى لأنه قال فَأَما
۱ رواه مسلم في كتاب الحيض
رواه مسلم في كتاب الحيض ورواه الإمام أحمد والترمذي عن السيدة عائشة عليها السلام مرفوعاً ولفظه عند مسلم إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ومَسَ الختان الختان فقد وجَبَ الغُسْلُ
۳ سورة الانشقاق الآية
۰

لا
مَن أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ۱ فدل بذلك أن مَن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه فليس بمحاسب حساباً يسيراً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بأن أمْرَ الله عزّ وجلّ قد نفذ أنّ من أوتي كتابه باليمين يُحاسَبُ حساباً يسيراً وأخبر عليه السلام في نفوذ الأمر فيمن لم يُؤْتَ كتابه بيمينه بالمناقشة
ويَرِد هنا سؤال على قوله شيئاً لا تعرفه هل هو على العموم فيما يكون من أمور الدنيا والآخرة أو هو خاص بمعنى أمور الآخرة ليس إلا
والجواب أن هذا على العموم لأنه من الشَّيَم العالية وشمائل السؤدد المنيفة وتلك السيدة كانت ممن لهنّ صفاتُ السُّؤدد العَلِيَّة والرتبة السنيّة وقد قيل قيمة المرء ما يُحْسِن وقد قال عليّ رضي الله عنه لمّا لقي أعرابيا فأعجبه حاله فقال له بِمَ نلتَ هذه الحالة فقال لم أسمع شيئاً لا أعرفه إلا بحثتُ فيه حتى أعرفه ولم أعرف شيئاً فامتنعت أن أُعلمه من لا يعرفه فقال له بهذا سُدْتَ وقد قالوا من دَرَسَ رَأْسَ ومن عرف ارتفع
وهنا بحث في قوله لا تعرفه إلا راجعت فيه ولم لم يقل أنكرته
والجواب أن المراجعة تَرَدُّدُ الأمر ليتبيَّنَ حقه من باطله والإنكار دَفَعُهُ مرة واحدة ومن له عقل لا ينفي شيئاً لا يعرفه حتى يراجع فيه ويعرف حقه من باطله لئلا يكون فيه حق أو منفعة فإن كان فيه حق أو منفعة قبله وإلا ردّه على بصيرة
ومن
علامات الجهل ردّ الشيء عند الجهل لأنه قد يكون فيه مصلحة لا يعرفها فيكون رده و جهله سبباً لحرمانه من تلك المنفعة ولذلك قال السادة العلماء مَنْ جَهِل شيئاً عاداه هذا إذا كان الأمر من خلاف كلام النبوة وأما ما يكون من كلام النبوة فالمراجعة فيه ليتبين ما فيه من الأنوار والحكم والفوائد لأنه خيرٌ كله
الوجه التاسع فيه دليل على منع بعض البحوث التي لبعض الناس في زماننا هذا لأن ما قصد بعضهم إلا قطع خصمه فيكون جوابه ممنوع أو لا أسلم وهو لا يعلم حقيقة ما قال صاحبه فحُرِم الفائدة لجهله بأدب البحث وقد قال الشافعي رحمه الله والسادة العلماء ما
۱ سورة الانشقاق الآيتان ۷ و ۸

بنى علماء الأصول على هذه العبارة أحكاماً كثيرة وهي من قواعدهم الأساسية الكبيرة والأمر - هنا - بالمعنى لا باللفظ إذ الموضوع يتعلق بمفهوم المخالفة وهل هي حجة وما هنا دليل لمن يحتج به
۰۳

باحثتُ أحداً فاخترت أن يكون الحق يجري على لساني ليس إلا وإنما قصدي أن يُظهر الله الحق على لسان من شاء من ألسنتنا ۱ لأن الحكمة ضالة المؤمن فمن أُتِيَ بها فرح بها
ويترتب عليه من الفقه على من يَرُدّ قبل أن يعرف مقالة خصمه وجهان لأنه لا يخلو أن يكون ما قاله المتكلم حقا فيراجعه بقوله ممنوع أو لا أسلّم فيدخل بذلك في عموم قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ فهذا حرام ممنوع أو يكون ما قاله خصمه منكراً لا يجوز فيرده قبل أن يعرفه وتغيير المنكر لا يجوز إلا بعد المعرفة بأنه مُنْكَر هذه المسألة بإجماع وهو أنه لا يجوز تغيير المنكر حتى يعلم أنه منكر فكيف يقدم هذا المُنْكِرُ على هذين الوجهين وفيهما من الخطر ما فيهما ولا سيما إذا انضاف لذلك حظوظ النفس وطلب الظهور والفخر فشقاوة على شقاوة أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
ومما يقرب من هذا الوجه من القبح - وهو عند بعض أهل هذا الوقت من النبلِ والكيس وبِئْسَ الحال ـ وهو ۳ أن يسمع مِمَّنْ مَنَّ الله عليه بالعلم وجهاً من العلوم لا يعرفه هو فيأتي إليه يسأله أن يبحث معه في ذلك الوجه لكي يُشعِره أنه يعرفه ولا يريد أن يتنازل إليه أن يقول له عَلِمْني تلك المسألة - فهذا فيه وجوه محذورة منها الكذب لأنه يخبر بلسان حاله أنه يعرف ذلك الشيء وليس كذلك وفيه استنقاص بمن هو أعلم منه في ذلك الحال وتلك المسألة وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تَحْقِرَنَ أحداً آتاه الله علماً فإن الله لم يَحْقِرُه حين آتاه العلم وقد قال أئمة الدين وأن تتواضعوا لمن تعلّمونه وتتواضعوا لمن تتعلمون منه فإن التواضع من أدب العلم ومن ترك أدب العلم قل أن يَحْظى به أو يناله على وجهه بل يُحْرَمُه ٤
فانظر إلى حسن العبارة في قوله لا تعرفه فدل على أن المراجعة تَعَلُّم لا إنكار فلما راجعت وعرفت أمسكت فتلك الفائدة التي قصدت والفائدة عند أصحاب البحث المتقدم ذكرهم قطع الخصم بـلا أسلم أو ممنوع لأنه يقال فلان قطع فلاناً أو أسكت فلاناً فإنا لله وإنا إليه راجعون على قلب الحقائق وردّ المعروفِ منكراً والمنكَرِ معروفاً
الوجه العاشر فيه دليل على أن زيادة البحث إذا كان بأدبه زادت الفائدة يؤخذ ذلك من أنها لما سمعت قوله عليه السلام راجعت بالأدب - كما تقدم - فازداد لها بذلك فائدة أن خصص لها
۱ انظر تفصيل نظرات الإمام الشافعي في اداب العلم والتعلم في الإحياء ۳۸۱
سورة التوبة من الاية ۳
۳ كذا والصواب إسقاط وهو
٤ راجع إحياء علوم الدين - كتاب ذم الكبر والعجب - ٣/ ٣٥٥ - ٣٩٨

٢٠٤

ذلك العام بقوله عليه السلام مَن نوقش الحساب هَلَك ثم خصص لها ذلك العموم بقوله عليه السلام إنما ذلك العَرْض
الوجه الحادي عشر في الحديث إشارة صوفية لأن تلك المناقشة هي التي حملتهم على الزهد في متاع الدنيا وقد أشار عليه السلام إليه في حديث آخر حين قال له رجل أوصني ولا تُشْطط فقال له عليه السلام لا تقل شيئاً تَستَعْذِرُ عنه في القيامة ۱ فعملوا في القول على هذه الوصية ليكون قولهم صدقاً ويكون حسابهم تجاوزاً وعرضاً
جعلنا الله ممن تجاوز عنه وسَلك به مسلكهم الرشيد وسَننهم السديد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 لم نعرف مصدره
۰۵

<-1
حديث القتال في سبيل
عن أبي موسى رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما القتال في سبيل الله فإن أحدنا يقاتل غَضَباً ويقاتل حَمِيَّةً فرفع إليه رأسه قال - وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً - فقال مَنْ قاتَلَ لتكونَ كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

الله
ظاهر الحديث يدل على أن القتال في سبيل الله لا يكون إلا بنيّة أن تكون كلمةُ الله هي العُليا
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله يا رسول الله فيه دليل على أن من الأدب والسنَّة تقدمَةَ مناداة المسؤول بأعلى أسمائه على الحاجة لأنه قال أولاً قبل أن يذكر حاجته يا رسول الله و رسول الله أعلى
أسمائه عليه السلام الوجه الثاني فيه دليل على جواز مناداة المفضول للفاضل لحاجته أو في أمر أشكل عليه لأن هذا الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه - وأصحابه أفضل ذلك الزمان بعده عليه السلام - فلم يُنكر عليه واحد منهم رفع صوته بينهم وعليهم وانفراده بسؤاله فيما احتاج إليه دونهم ولو كان ذلك غير جائز لما أقره الشارع عليه السلام على شيء من ذلك
الوجه الثالث قوله ما القتال في سبيل الله فيه دليل على إبداء العلل الواردة للعارف بها ليبين فيها الفاسد من الصالح لأن هذا الأعرابي قال أولاً ما القتال في سبيل الله ثم بيّن بعد ذلك وجوه القتال التي كانت عادة العرب يقاتلون عليها
الوجه الرابع فيه دليل على جواز حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله وهو يريد ما صفة القتال الذي يكون في سبيل الله فحذف الصفة للاختصار الوجه الخامس فيه دليل على أن من السنَّة تقديم العلم على العمل يؤخذ ذلك من قوله ما
القتال في سبيل الله ليعلم كيف يقاتل في سبيل الله
0
٢٠٦

الوجه السادس فيه دليل لمذهب مالك رحمه الله حيث يقول بأن الفرض لا بد له من حد يُحَدُّ به من الكتاب أو السنة أو منهما معاً كي يُعرَف بذلك يؤخذ ذلك من قوله ما القتال في سبيل الله ليعرف الصفة التي إذا فعلها وفّى ما أمر به
الوجه السابع فيه دليل على إيجاب النية في العمل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لتكون كلمة الله هي العليا فأضرب عن الصفة وأجاب عن النية
الوجه الثامن فيه دليل على أن تخصيص الظواهر لا يكون إلا بالنيات يؤخذ ذلك من قوله بعد تعداد السائل الوجوه التي يقاتلون عليها من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فدل على أن الشأن النية لا الصورة الظاهرة
وهنا بحث هل قوله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لغيرها مما ذكر في صلى الله عليه وسلم الحديث ولا تكون الله إلا إذا عري المقصود عما سواه وأنه لا يبالي بتلك المقاصد إذا كان مقصده الأصلي فيها لتكون كلمة الله هي العليا ولهذا قال مالك رحمه الله في الرجل يحب أن يُرى في طريق المسجد ولا يحب أن يُرى في طريق السوق لا يضره ذلك إذا كان عند الشروع الله خالصاً فالجواب أن هذا الأمر هنا احتمل وجوهاً لكل واحد منها حكم أحدها - وهو أعلاها بلا خلاف ـ وهو أن يكون الله عزّ وجلّ ولا يكون هناك غير ذلك الثاني أن يكون المثير للقتال أحد الوجوه المذكورة في هذا الحديث أو الزيادة التي في غيره وهي أن يقاتل طبعاً ثم عند الشروع فيه يجرد النية لأن تكون كلمة الله هي العليا فهذا هو الذي يعطيه نص الحديث لأن المثير للشيء لا يُلتَفَتُ إليه إذا لم يُستصحب به الحال حتى يكون الفعل له لأن الحكم للأحدث فالأحدث
الثالث أن يكون القتال لذلك المؤثر والله معاً فهذا ليس من الله في شيء لما جاء أن الله جل جلاله إذا كان في العمل شرك لغيره يقول الله يوم القيامة لصاحب العمل أنا أغنى الشركاء اذهب فاطلب الأجر من غيري الرابع أن يكون لأحد الوجوه المذكورة لا غير فهذا له ما يقتضيه فعله ونيَّتُه من إثم أو
إباحة بحسب قواعد الشرع في كل قضية الوجه التاسع فيه دليل على أن من السنّة أن يواجه المسؤول السائل بوجهه عند الجواب يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه ثم استعذر عن رفع رأسه ل ل ا ل له بأن قال وما رَفَع إليه رأسه
إلا أنه كان قائماً

رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ورواه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان

عليه
الوجه العاشر فيه دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقتدون بأفعاله السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من قوله فرفع إليه رأسه فلولا أنهم كانوا يقتدون بأفعاله ما كانت حاجة إلى ذكر رفع رأسه لأنه ليس ذلك من لازم الجواب
عليه
الوجه الحادي عشر فيه دليل على وقار النبي صلى الله عليه وسلم وعلم الصحابة بذلك لأنه السلام كان لا يلتفت إلا عن حاجة لا عَبئاً فلولا ما كان كذلك ما احتاج الراوي أن يبديَ العلّة التي من أجلها رفع النبي رأسه وهي أن السائل كان قائماً
الوجه الثاني عشر فيه دليل على حفظ الجوارح حتى لا يكون تصرفها إلا عن ضرورة لا عبثاً لما تقدم في تعليل رفع رأسه عليه السلام
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أن المخبر إذا أخبر بشيء لا يُعرَف فعليه أن يستدل عليه بما يُصَدَّق به حديثه يؤخذ ذلك من تعليل الصحابي سبب رفع رأسه عليه السلام لأنه لو لم يقل ذلك لكان ذلك سبباً ألا يقبل الصحابة قوله أو يتوقفوا فيه لِعِلمهم بخلاف ذلك فبين العلة لأن تصديق مقالته هنا حقيقتها تقعيد قاعدة شرعية فكان احتياطه رضي الله عنه من أجل ذلك لا من
أجل نفسه
الوجه الرابع عشر فيه دليل على جواز السؤال على كل الأحوال قاعداً أو قائماً لأن ذكرَه هنا القيام عند السؤال أو تعليله لذلك دالّ على أن المعروف عندهم كان الجلوس فلما أخبر هنا بالقيام دل على جوازه على كل حال ولو كان عندهم ذلك مما قد عرفوه لكان ذلك إخباراً

بتحصيل حاصل والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن ذلك

الوجه الخامس عشر فيه دليل على منع القتال على حطام الدنيا
الوجه السادس عشر فيه دليل على منع القتال على أن يكون لسفك دماء الكفار غيظاً عليهم يؤخذ ذائِكَ الحكمان من قوله عليه السلام لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا
الوجه السابع عشر هنا إشارة صوفية لأن الجهاد عندهم هو جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر كما أخبر في غير هذا الحديث حين رجع من الجهاد فقال للصحابة هبطتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ۱ والجهاد الأكبر هو جهاد النفس فتكون مجاهدتهم لها لأن تكون كلمة الله أيضاً هي العليا وصفتها كما أخبر عزّ وجلّ على لسان نبيه عليه السلام لا
۱ رواه البيهقي في الزهد الكبير عن جابر رضي الله عنه ورواه الخطيب في تاريخ بغداد بلفظ مختلف وللشيخ عدنان الغشيم رسالة في هذا الحديث ورجاله
۰۸

يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر
به ويده التي يبطش بها ۱ هذا هو طريق السادة الفضلاء منهم
وأما الذي يقوله أهلُ الجهل نواصِلُ و نجاهد حتى نرى شيئاً من خرق العادات والكرامات فأولئك عندهم جهال ومنهم من قال إنهم يدخلون تحت قوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وأي فائدة في ذلك على هذا الوجه والله عزّ وجلّ يقول في كتابه مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۳ ثم تلمح إلى قوله عزّ وجل وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 1 يتبين لك ما أخبرتك به ﴿
وفقنا الله لذلك بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه سورة الحج من الآية ۱۱ والمعنى يَعبُدُهُ في السَّرَاءِ لا في الضَّرَا

سورة النساء من الآية ١٤٧ ٤ سورة العنكبوت من الآية ٦٩

سی
۱۳

حديث الرجل يخيّل إليه أنه يجد ريحاً وهو في الصـ
عن عباد بن تميم عن عمه
نه ١
رضى الله عنهما أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرجلُ ۳ الذي يخيَّلُ إليه أنه يجد الشيء ٤ في الصلاة فقال لا ينفتل ٥ ـ أو لا ينصرف - حتى يسمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً
ظاهر الحديث يدل على أنه لا يقطع الصلاة من يخيّل إليه شيء حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الشيء هل هو على العموم أو شيء مخصوص اللفظ بنفسه محتمل لكن القرينة التي في آخر الحديث تشعر أنه شيء مخصوص وهو قوله حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً فدل أن الشيء هنا هو من النوع الذي هاتان الصفتان وصفه وهو الريح بصوت أو بغير
صوت
الوجه الثاني يَرِدُ هنا سؤال وهو هل هذا الحكم مختص بالرّيح وحده أو هو له ولغيره من الأحداث ٦
فالظاهر تعديه إلى غيره من الأحداث بدليل قول سعيد بن المسيب لو سال على فخذي ما
۱ عمه هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري سمّاه مسلم وغيره في روايتهم لهذا الحديث شكا الضمير يعود على الراوي الذي هو عبد الله بن زيد وفي رواية لمسلم شُكِيَ ببناء الفعل للمجهول ولم
يسم الراوي
۳ الرجل بالضم على الحكاية
٤ الشيء أي الحدث خارجاً منه
٥ لا ينقتل بالجزم على النهي وبالرفع على أن لا نافية
٦ الأحداث ج حَدَث وهو عند الفقهاء نجاسة حكمية معنوية ترتفع بالوضوء أو بالغُسل أو التّيَمُّم
۱۰

حتى أقضي صلاتي فدل ذلك على أن الحكم إذا كان العبد في الصلاة ويتخيل له أتي
نوع من أنواع الأحداث الناقضة للطهارة أنه لا يقطع صلاته إلا بيقين
الوجه الثالث فيه من الفقه أن الشك لا يقدح في اليقين إذا كان في الصلاة اتفاقاً لنص الشارع عليه السلام على ذلك وعَمَلِ التابعي رضي الله عنه ويقصد ذلك لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَلَا تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ ﴾ ١ فمنع الشارع عليه السلام بمقتضى الحديث التطرق إلى فساد الأعمال بالشك أو الظنّ سَداً للذريعة وتعظيماً للعمل
الوجه الرابع هنا إشارة لطيفة وذلك أنه لما كان العبد قد توجه إلى الحضرة العَلِيّة فلا يلتفت إلى البشرية وعوارضها فإنه خلل في الحال فإن جاءه أمر متحقق فهو حكم رباني وَجَبَ الامتثال له ولذلك نهى ل ل ا ل ا ل عن الصلاة مع مدافعة فعة الأخبَتَيْنِ
وبقي الكلام على خارج الصلاة يكون الشك قادحاً في اليقين أم لا مثال ذلك أن يكون الرجل تيقن بالطهارة وشَكٍّ في الحدّث
اختلف العلماء في ذلك فذهب مالك رحمه الله ومن تتبعه من العلماء إلى أنه يَقْدَح ولا
يستفتح الصلاةَ إلا بطهارة مُتَيَقَّنة لقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ۳ وقال غيره لا يقدح الشك في اليقين
الوجه الخامس في هذا من الفقه وجهان
أحدهما أن الخاطر اليسير المشوّش في الصلاة معفو عنه
الثاني أنْ تَحَدُّثَ النفس في الصلاة بما يصلحها جائز يؤخذ ذلك من قوله يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء فإذا تخيل له قيل له أنظر ما الذي أُمِرتَ به وما الحكم عليك فيه وذلك حديث مع النفس لأجل تقرير الحكم وينبغي تعديه إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض للمصلي أن ينظر في حكم الله عليه ما هو حتى يخرج على مقتضاه ولذلك قال بعض أهل العلم صلاةٌ بسهو خيرٌ من سبعين صلاةً بغيرِ سَهْرٍ قيل وكيف قال لأن الصلاة إذا كانت بغير سهو احتملت القبول وغيره وإذا كانت بالسهو وخرج على لسان العلم فقد أرغم أنف الشيطان كما قال صلى الله عليه وسلم فتلك
1 سورة محمد من الاية ۳۳
الأخبثان البول والغائط والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن السيدة عائشة رضي الله
عنها ۳ سورة البينة من الآية ٥
41

ترغيم للشيطان ۱ وما يُرغم أنفَ الشيطان يُرجَى معه رضا الرحمن فَفَضَلَتْ غيرَها بتلك الصفة

الوجه السادس في هذا إشارة إلى فضل العلم الشرعي لأنه لا يعلم ذلك إلا بالعلم وكذلك يتعدى هذا الحكم إلى جميع الأحكام وهو أنه يؤمر أولاً بالإخلاص تقريراً على لسان العلم في
كل الأشياء فإن عَرَضه عارض نظر فيه بلسان العلم وعمل بما يؤمر به وذلك كله عبادة الوجه السابع فيه دليل على الإشارة والتكنية عن الأشياء المستقذرات ولا يُفصَح بها
يؤخذ ذلك من قوله يجد الشيء فكنّى عن الحدث بـ الشيء
الوجه الثامن فيه دليل على أن ذكر المستقذرات عند الضرورة لا شيء فيه يؤخذ ذلك من قوله حتى يسمع صوتاً أو يَجِد ريحاً لأنه عند ضرورة تبيين الحكم ذكر مشافهة ما كنى عنه أولاً الوجه التاسع هنا سؤال وهو لمَ قال الرجل ولم يذكر النساء والجواب أنه لما علم أن النساء شقائق الرجال اجتزأ بالأعلى عن الأدنى لأن الذَّكَر -
طريق اللغة ـ أعلى لأنهم إذا اجتمع مذكر ومؤنث غَلّبوا المذكر على المؤنث
الوجه العاشر قوله لا ينفتل أو لا ينصرف هل ذلك بمعنى واحد أو بمعنيين
الظاهر أنهما بمعنيين لأن الانفتال هو ميل ما عن الموضع الذي هو فيه والانصراف كناية عن الذهاب بالكلية ففي العبارة - بهذين الوجهين - إشارة إلى أنه يبقى على حاله ولا يخلّ منها بشيء لا كثير ولا يسير الوجه الحادي عشر فيه من الإشارة لأهل القلوب ألا يلتفتوا إلى الشكوك ولا إلى العوارض لا قليلا ولا كثيراً ولذلك يقولون إن الملتفت عندهم هالك

الوجه الثاني عشر هنا سؤال وهو لمَ قال يجد ريحاً ولم يقل يشم ريحاً كما قال
يسمع صوتاً
والجواب أن الحدَثَ إذا كان بصوت سمع فلا يحتاج إلى زيادة صفة لأن الصوت أعلى وإن كان دون ذلك سُمع وإذا لم يكن له صوت فإما أن يُشتَمَّ من حينه - ولذلك قال يجد ريحاً - وإما أن يلتمس المحلَّ فيجد في العضو الذي يمس به المحل رائحة من صفة الحدث فيقوم ذلك مقام التحقيق بالحدث فأخبر هنا بأقل ما يستدل به من الشم عليه الوجه الثالث عشر فيه من الفقه أن مَسَّ الدُّبُر لا ينقض الطهارة خلافاً للشافعي رحمه
0

1 لم نعرف مصدره

الله فلا يعتبر بتلك الريح حتى يكون معها ما يشمّ فإنه ما لا صوت فيه فلا بد من الشم فإنه اليقين
في هذا الموضع
الوجه الرابع عشر فيه أيضاً بشارة لهم بأن دفع تلك العوارض لا تُخرجهم عن حالهم
الخاص
جعلنا الله ممّن خصه بالخير واختصه به لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

-14-
قتادة۱
حديث البول والاستنجاء والشرب
عن أبي قتادة ۱ رضي الله عنه عن النبي أنه قال إذا بال أحدكم فلا يأخذَنَّ

ذَكَرَهُ بِيمينه ولا يَسْتَنْجي بيمينه ولا يَتَنَفَّس في الإناء
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام الأول ألا يأخذ ذكره بيمينه الثاني ألا يستنجي بيمينه الثالث ألا يتنفس في الإناء والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا تعبّد غير معقول المعنى أو هو معقول المعنى
وقد تقدم أن أمور الشرع كلها لا بد لها من معنى بمقتضى حكمة الحكيم لكن منها ما نعرفه ومنها ما لا نعرفه ونخبر عنه بالتعبد ليس إلا فأما هنا بفضل الله فالمعنى ظاهر لأن اليمين لما جعل للأكل والشرب وما يقرب منه جُعِل اليسار لضد ذلك وهي الفضلات وما يتعلق بذلك وما يقرب منه فمس الذكر والاستنجاء من ذلك القبيل وأيضاً فلما كان أهل اليمين في الآخرة هم أهل الجنان والنعيم جُعِل في هذه الدار لذلك النوع ولمّا كان أهل الشمال في الآخرة أهل المعاصي والنكال جعل هنا لما يتولّد عن المعاصي وما شاكلها لأن أول ما وقعت المعصية من البشر تولد عنها الحدث وكذلك المعبرون للرؤيا يعبرون لمن رأى شيئاً من الأحداث أنها دالة على المعاصي الوجه الثاني هنا إشارة إلى أن المراد من المكلّف معرفة حكمة الحكيم في الأشياء واتباعها ولذلك قال عليه السلام حين جاء إلى السعي بين الصفا والمروة نبدأ بما بدأ الله
1 أبو قتادة هو الحارث أو النعمان أو عمرو بن ربعي الأنصاري الخزرجي السلمي صحابي من الأبطال الولاة وكان يقال له فارس رسول الله وفي حديث أخرجه مسلم خير فرساننا أبو قتادة شهد الوقائع مع النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء من وقعة أحد ولما ولي عبد الملك بن مروان إمرة المدينة أرسل إليه ليريه مواقف النبيل فانطلق معه وأراه ولما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه ولاه مكة وشهد معه صفين ومات في المدينة
سنة ٥٤ هـ/ ٦٧٤ م

به ۱ وإن كانت الواو لا تعطي رتبة في كلام العرب لكن لما عَلِم صاحب النور ۳ أن الحكيم
لا يبتدىء بشيء إلا لحكمة فاتبع مقتضى حكمة الحكيم
الوجه الثالث هنا إشارة إلى معنى قوله ولا يتنفس في الإناء فإن قلنا - كما تقدم - ما الحكمة في ذلك ففيه وجهان أحدهما في حق الشارب لعله عند تنفسه في الإناء يشرق بالماء والثاني في حق الغير لعله يتعلق من نَفْسِهِ شيء ما في الإناء فيستقذره الغير وفيه أيضاً إظهار الشهامة وقلة النّهمةِ 4 في الشراب وفيه أيضاً تفرقة ٥ الشراب أقرب إلى الري وفيه إشارة لعله ينتبه لما ندب إليه من قطع الشراب ثلاثاً فيحصل له ما رغب فيه من الخير لأنه جاء عنه أن مَن شرب الماءَ ونوى به العون على الطاعة وسمّى ثم قطع وحمد يفعل ذلك ثلاث مرات أن الماء يسبّح في جوفه ما بقي في جوفه ٦
ويترتب على هذا من الفقه أن يُقدَّم أولاً النهي عن الأشياء المحذورات وحينئذ يشار إلى زيادة الخير يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء نهياً منه عليه السلام وقال في الذي يشربه ثلاثاً ـ كما تقدم - على طريق الإرشاد من فعل كذا

·

الوجه الرابع فيه دليل على أن مجاوِر الشيء يُعطَى حكمه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ففي حين كان الذَّكَر مجاوراً للبول منعَ أخذُهُ باليمين وفي غير ذلك من الزمان لم يمنع منه يؤيد ذلك قوله عليه السلام حين سأله السائل ۷ في مسٌ ذَكَرِه فقال وهل هو إلا بضعةٌ منك ۸ فدلّ على جواز أخذه كسائر جسده ولهذه الإشارات - أعني أن المستخبثات كلها تكون بالشمال - قال أهل المعرفة بالخواطر إن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال شمال القلب
ويحتاج الآن أن نعرف شمال القلب أين هو فعندهم ۹ أن شمال القلب مخالف لشمال
۱ رواه مسلم في الحج والنسائي والإمام أحمد والإمام مالك وابن الجارود وأبو داود والترمذي وابن ماجه
وابن حبان
يريد أن الواو لمجرد الجمع كما يقول النحاة
۳ صاحب النور في هذا السياق تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن أن يراد بها العالم بالشَّريعة كما تقدم
٤ النهمة الشهوة في الشيء الحاجة ٥ تفرقة تجزئة من فرّقت الشيء تفريقاً وتفرقةً
٦ لم نعرف مصدره
۷ يريد وفي غير ذلك من الأوضاع أي في غير حالة التبوّل
۸ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والدارقطني و البضعة الجزء أو القطعة
۹ فعندهم أي عند أهل المعرفة بالخواطر

٢١٥

الجثة لأنهم يقولون وجه القلب ويعنون بوجهه الباب - الذي هو للغيوب مفتوحاً - هو إلى جهة الصُّلب فمن ذلك الباب هو يمين القلب ومنه يشاهدون ما يشاهدون من أمر المكاشفات والكرامات وما سوى ذلك مما خص الله عزّ وجلّ به أولياءه على مقتضى الحكمة كما دلت
عليه أدلة الشرع

ولجهل من جهل هذا المعنى الذي أشرنا إليه لما أن سمع أن خاطر الشيطان يأتي من جهة الشمال والملك يأتي من جهة اليمين جعل ما سمع على وضع البِنْيَّة ١ فانعكس عليه الأم لأن الخواطر عندهم أربعة ملكي وشيطاني - وهما من حيث أشرنا أولاً - ونفساني وهو من أمام القلب وربّاني وهو من داخل القلب

وهنا بحث وهو هل النهي هنا على التحريم أو على الكراهة محتمل والظاهر أنه على الكراهة وهذه الكراهة مع عدم العذر وأما أصحاب الأعذار فلا يدخلون في هذا الباب مثل الذي ليس له إلا يمين أو له في اليسار عذر يمنع من التصرف للعذر الذي منعه وهي أيضاً أعني الأشياء أمر بها هنا سنة كما جاء في الحديث أنه و كانت يمينه لطعامه وشرابه وشماله لغير ذلك فتأكد ما أخبر به هنا بما كان يفعله هو
التي
الوجه الخامس فيه دليل على أن من الفصاحة الاختصار إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله ولا يتنفس في الإناء لأن مفهومه إذا شرب لا غير
الوجه السادس فيه دليل على أن المعطوف يكون مثل المعطوف عليه في الوجوب أو غير ذلك وهو أيضاً من الفصاحة يؤخذ ذلك من أنه لما نهى أولاً عطف ما بعده عليه ولم يُعِدِ النهي
الوجه السابع يرد هنا بحث هل النهي مقصور على هذه الأشياء أو يتعدى حيث وجدنا العلة فعلى القول بأنه تعبدي فلا يتعدى وإذا قلنا بفهم العلة - كما أبدينا - فحيث وجدنا العلة عدينا الحكم وهذا هو الأظهر والله أعلم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ أي على الشكل الظاهري لجسم الإنسان
٢١٦

<-19-
حديث الرأفة بالحيوان
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي الله أن رجلاً رأى كلباً يأكل النّرى من العطش فأخذ الرجل خُفّه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة
*
ظاهر الحديث يدل على أن إدخال الرجل الجنة بإروائه الكلب والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل هذا خاص بهذا الحيوان وهذا الرجل أو هو عام في جميع الحيوان والمخلوقات احتمل لكن الأظهر فيه العموم يؤيد ذلك قوله الله في حديث غير هذا في كل كبد حتى أجر ۱ فعَمَّ جميع الحيوان وقال تعالى في كتابه ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا والآي والأحاديث في ذلك كثيرة
الوجه الثاني فيه دليل على معرفة الحال بالقرينة يؤخذ ذلك من قوله رأى كلباً يأكل الثرى لأن أكله الثرى لا يكون إلا دليلاً على العطش
الوجه الثالث فيه دليل على أن الحاجة تُخرِج الحيوان - عاقلاً كان أو غير عاقل ـ عن مألوفه وعادته يُؤخَذ ذلك من أكل الكلب الثرى - وهو التراب المبلول بالماء ـ من أجل ما يجد فيه من أثر الماء وليس يفعل ذلك عند استقامة مزاجه
ويؤخذ من ذلك أن ما قرب من الشيء يُعطى حكمه عند عدمه عقلاً وطبعاً فعقلاً في غير ما موضع من العقل والشرع وأما الطبع ففي هذا الموضع لأن الكلاب وجميع الحيوان - غير بني ادم والجن - لا عقل لهم لكن طبعوا على معرفة منافعهم فالذي يجدون فيه منفعتهم أنسوا به وإذا لم يجدوه ووجدوا ما يقرب منه استعملوه يؤخذ ذلك من أكل الكلب الثرى لأنه يجد بالماء التبريد فلما عدمه ووجد في الثرى ما يقرب منه في التبريد استعمله ولم يبال بثقل الثرى
1 حَرَّحَرُّ عطش فهو حَرّان وهي حرّى والحديث رواه مسلم في كتاب السلام بلفظ اخر سورة المائدة من الآية ۳

ويترتب عليه من معرفة الحكمة أن الثقيل عند الحاجة إليه يخف ويلزم ضده أن الخفيف عند الاستغناء عنه يثقل ولهذا المعنى خفت المجاهدة على أهل الحقيقة لاحتياجهم لمولاهم وتحققهم بذلك وثقلت على أهل الدنيا لحبهم للدنيا وكثرة احتياجهم إليها وثقلت عليهم العبادة التي ١ لمعرفتهم بما فيها ولذلك قال عزّ وجلّ في
م بها أهل المعرفة وخفت عليهم

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٢
ويؤخذ منه الدلالة على لطفه عزّ وجلّ بجميع خلقه يؤخذ ذلك من إلهامه الكلب أكل الثرى حتى يكون ذلك سبباً لرحمة الرائي له حتى يرويه بالماء
ويؤخذ منه أن من أحسن الصفات إيصال الخير لجميع الخلق يؤخذ ذلك من جزيل الثواب على هذا الفعل اليسير وإخبار النبي بذلك ليتأسى المؤمنون بهذه الصفة المقرّبة الوجه الرابع فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن التعريض بالشيء كالمنطوق به
يؤخذ ذلك من إخباره عليه السلام بهذا الحديث لأن إخباره يدور بين أمرين إما أن يخبر به لغير فائدة - وأعوذ بالله أن يخطر ذلك على قلب أحد - ومن خطر ذلك بقلبه فليس بمؤمن لأن الله عزّ وجلّ يقول وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ ۳ وهذا عموم
وإما أن يكون لفائدة أو فوائد جملة وهو الحق فظهر ما أشرنا إليه من الفائدة قبل وما فيه من الفوائد بعد لأنه عزّ وجلّ قص علينا في كتابه العزيز القصص وقال ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نَشَيْتُ بِهِ فَؤَادَكَ ٤ وقال ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَهُمْ أَنفُسَهُمْ ٥ الآية وقال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ٦ فكذلك قال فقهاء الدين إن القصص طلب منا مقتضاها بالضمن والأمثال كذلك ولذلك قال عز وجلّ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَلِمُونَ ٧
الوجه الخامس فيه دليل على أن من أكبر القُرَب الخَيْرُ المتعدي يؤخذ ذلك من حسن
۱ وخفت عليهم الضمير يعود على أهل المعرفة وليس على أهل الدنيا
سورة البقرة من الآية ٤٥
۳ سورة النجم من الآية ٤ سورة هود من الآية ۱۰ ٥ سورة الحشر من الآية ۱۹ ٦ سورة يوسف من الآية ۱۰۹ ۷ سورة العنكبوت من الآية ٤٣

تحققهم
دة التي
كتابه
ب أكل
نواب
به
نلبه
ليه

الجزاء على هذه الفعلة اليسيرة مع هذا الحيوان الذي قد أمرتنا الشريعة بقتله فكيف بمن هو عاقل
مكلف وكيف بمن هو صالح منهم وهذا إذا تتبعته يتعدد كثيراً وعلى هذا فَقِسْ
الوجه السادس فيه دليل على التحضيض على جميع أعمال الخير إذ لا يُدْرَى بمَ تكون
السعادة إذ بهذا حصلت تلك السعادة وهي دخول الجنة فلا يضيع منها شيء الوجه السابع فيه دليل على أن الإخلاص هو الموجب لكثرة الأجر يؤخذ ذلك من شرح حال الحديث لأن هذا الحال المذكور وهو كونه كان في البرية وسقى هذا الكلب ولم يكن هناك أحد يبصره فكان خالصاً حقيقة يزيد هذا بياناً قوله م في صدقة السر حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه ۱
الوجه الثامن فيه دليل على أن كمال الأجر يكون بكمال العمل يؤخذ ذلك من قوله حتى أرواه فلما أكمل له ريه أكمل الله له نعمته عليه وهو دخوله الجنة وقد قال الخير كله بحذافيره في الجنة ٢
ويؤخذ منه تغليب فساد هذه الدار إذا كان في إصلاح تلك الدار يؤخذ ذلك من غَرْف الرجل الماء بخفه لأن الماء مما يفسد الخف فلما كان في إصلاح الآخرة فهو صلاح
E
ويؤخذ منه تعب الفاضل للمفضول إذا احتاج المفضول إليه يؤخذ ذلك من تعب الرجل في إسقاء الكلب عند حاجته إليه وإحسان المولى على ذلك وبنو ادم أفضل من غيرهم من الحيوان ما عدا الملائكة ففيهم خلاف
الوجه التاسع قوله عليه السلام فشكر الله له هل الشكر من الكلب الله أو هل هو من الله لعبده احتمل فإذا قلنا إن الشكر يكون بالقول أو بالحال احتمل والقدرة صالحة وإذا قلنا إن الشكر من الله لعبده فما معناه فيكون الشكر هنا بمعنى القبول فكأنه عليه السلام يقول قبل الله عمله فأثابه عليه بالجنة واحتمل جميع الوجوه فإن القدرة صالحة
وفقنا الله لما فيه رضاه بلا محنة بمنه
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ جزء من حديث أوله سبعة يظلهم الله في ظله رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة
رضي الله عنه
لم نعرف مصدره
۱۹

حديث النعاس في الصلاة
عن
عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نَعَس أحدكم وهو يصلي
لعله
يستغفر
فَلْيرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري
فيسب نفسه
ظاهر الحديث يدل على النهي عن الصلاة وهو نائم والكلام عليه من وجوه الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن للعالم أن يُعلَّمَ وإن لم يُسْأَل يؤخَذُ ذلك من قوله إذا نعس أحدكم ابتداء دون أن يسأل وهنا سؤال هل هذا على عمومه كان النوم يسيراً أو كثيراً احتمل لكن الظاهر الخصوص وهو كثرة النوم لأنه إذا كان كثيراً من حيث أن يختلط عليه ما يقول ولا يعرفه كما أخبر في الحديث آخراً حين علله بالسب
الوجه الثاني فيه دليل على صحة أن الصلاة مجزية لأنه إنما علل الله و خيفة أن يَسُبّ الوجه الثالث فيه دليل لمالك الذي يقول بسد الذريعة لأنه قال لعله يسبّ ۱ لأنه أمر محتمل فترك الفعل للأمر المحتمل وهنا سؤال وهو ما معنى قوله فيست هل هو بمعنى السب المعهود لغة أو هو بمعنى غيره
الظاهر أنه ليس بمعنى السب المعهود لأن السب المعهود أن يقول الشخص لغيره أو لنفسه يا فاعل كذا أو يا من هو كذا من أشياء رَدِيَّةٍ ينسبه إلى القول بها أو بفعلها ولو كان كذلك فماذا يكون الخوف منه فما يكون منه خوف أن يكون متكلماً في صلاته وإذا كان متكلماً
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيَسُبٌ نَفْسَه

۰

في صلاته بطلت عليه صلاته وهو لا يشعر فيظن أنه قد صلى وليس كذلك وبقيت ذمته
متعمرة ١
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه يؤاخذ بفساد العمل وإن لم يشعر ويرد عليه من
البحث قوله إن الله تجاوز عن أمتي خطأها ونسيانها وما استكرهوا عليه ٢ فالجواب عن ذلك أنه لا يكون في ذلك الخطأ ـ على طريق الغفلة والنسيان - مأثوماً ولا يجزئه أيضاً الشيء المحتمل عما أمر به لأنه مأمور بالتوفية فلا يترك العمل حتى يعلم أنه قد وَفَّى ومهما لم يتحقق ذلك فهو مطلوب بالعمل ولذلك قال علماؤنا رضي الله عنهم إن من خاف فوات وقت من أوقات الصلوات وهو مثقل بنوم يصلّي وهو يجاهد نفسه جهده ثم ينام فإذا استيقظ من نومه عَرَض صلاته كلها على قلبه من أولها إلى آخرها فإن عقلها كلها ورآها حسنة أجزأته صلاته وإن رأى فيها خللاً أو لم يُحَقِّقْ ركناً من أركانها أو شَكٍّ فيه أعادها لأن الذمة لا تبرأ
إلا بيقين
واحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون السب هنا معنى الدعاء على نفسه بسوء فيكون الضرر أكثر من الأول لأنه يجتمع فيه الوجه المتقدم ووجه ثان وهو أن تكون تلك الساعة مما يستجاب فيها الدعاء فتكون تلك الدعوة سبب هلاكه ولأجل ذلك نهى عليه السلام أن يدعو أحد على
أهله أو ماله
أفعاله
ويترتب على ذلك من الفقه وجوه منها أن يكون الشخص يتحفظ على كلامه وجميع لئلا تكون منه غفلة في شيء فيكون ذلك سبب هلاكه وهو لا يشعر ولذلك قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر لا يبالي بها يهوي بها في النار سبعين خريفاً ٤
الوجه الرابع فيه من الفقه أن القدرة لا تنحصر بشيء من الأشياء ولا بفعل يؤخذ ذلك من أن الدعاء قد جاء أنه لا يقبل إلا بشروط وفي هذه المواضع التي ذكرناها وغيرها مما أخبرت به الشريعة يستجاب بغیر شرط ٥ فسبحان من حكمته لا تتناهى
۱ متعمّرة مشغولة ملأى بالواجب عكس المتفرغة أو الفارغة بعد أداء الواجب
رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما ۳ مأثوماً من اتمه أي جعل عليه الإثم ومأثوم اسم مفعول
٤ رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه 0 جاء في إحياء علوم الدين في باب اداب الدعاء وفضله
اداب الدعاء عشرة
الأول أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة ووقت السحر من الليل

الوجه الخامس فيه إشارة صوفية وهو أن ترك الآداب في محل القرب من الجفاء يؤخذ ذلك من قوله لعله يسبّ نفسه ۱ لأن الصلاة محل قرب والسبّ في موضع القرب جفاء وهنا بحث هل يشمل هذا كل سبّ أو ليس فالجواب أنه ليس على العموم لأن من السبّ ما يُقَرِّبُ في هذا الموضع وهو مثل قوله لأبي بكر رضي الله عنه حين سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت ٢ الحديث وهذا اللفظ مما ينطلق عليه اسم
سَبِّ لكنه لما فيه من معنى الاضطرار والفاقة إلى الكريم المتفضل وطلب الرحمة من عنده بسبب عَدَم موجبها من سوء أفعال العبودية كان مدحاً
ويرد علينا سؤال وهو أن الصحابة رضي الله عنهم كانت رؤوسهم تخفق من النوم ثم يخرج رسول الله فيصلون ۳
فالجواب أن من بعض فوائد الإقامة ذهاب النوم والغفلة وحضور القلب لأنه إذا قال المقيم للصلاة الله أكبَرُ ثار جيش الإيمان وتيقظ من الغفلات على اختلافها
ويقول أشهد أن لا إله إلا الله تَنَوَّرَ القلبُ وجاء العَوْن
أشهد أن محمداً رسول الله ثَلج اليقين وانتشرت الرحمة
الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كساعة زحف الصفوف في سبيل الله وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات
المكتوبة وعند السجود
الثالث أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يُرى بياض إبطيه ثم يمسح بهما وجهه ولا يرفع بصره إلى
السماء
الرابع أن يجعل صوته عند الدعاء بين المخافتة والجهر
الخامس ألا يتكلف السجع فإن الداعي ينبغي أن يكون حاله حال متضرع والتكلف لا يناسبه ويقتصر على
المأثور من أدعية الرسول الله المتوازنة
السادس أن يكون في حالة تضرع وخشوع ورغبة ورهبة السابع أن يجزم الدعاء ويُعْظِمَ الرغبة ويتيقن بالإجابة الثامن أن يلح بالدعاء ويكرره ثلاثاً ولا يستبطىء الإجابة
التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله عزّ وجلّ فلا يبدأ بالسؤال ويثني بعد حمد الله بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل
حاجته ثم يختتم بالصلاة على النبي يا الله
العاشر أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً ويرد المظالم ويقبل على الله بصدق وإخلاص
1 كذا ولفظ الحديث لعله يستغفر فيسب نفسه
رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق وابن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهم أجمعين
۳ رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه

ل
حَيَّ على الصلاة قوي العزم
حَيَّ على الفلاح أحدثت الجد وحسن العبادة
الله أكبر تكرر الإعظام وجاءت الهيبة
لا إله إلا الله استسلمت النفوس وراحت الأوهام وتكامل جد الباطن بتكرر الهيبة والإخلاص والظاهر بالإذعان والانقياد
فإن بقي على كَمالِ تَحَليه كما وصفنا لم يعد النوم إليه وإن أدركه ريح الغفلة جاءته عاهة النوم فحلت أحكام الشريعة عقدة صفقة القربة وهي الصلاة وأباحت له النوم وأنذرته بأداء ما تعمرت به الذمة إلى وقت التخليص من عاهة النوم بعد تنظيف المحل بالطهارة التامة ولهذا قال في الصلاة ۱ ولم يقل قبل
وهنا سؤال في قوله حتى يذهب عنه النوم وإن خرج عنه الوقت أو معناه ما لم يخرج الوقت احتمل لكن الأخذ بالأحوط أولى وإن كان الاحتمالان على حدّ واحد فينبغي أن يكون فيه تلك الأربعة وجوه ۳ التي بينها العلماء لكن الأمور من خارج تؤكد براءة الذمة وهو الأحوط
مثل فعله في الوادي وغيره

الوجه السادس فيه دليل على أن النائم لا يُسقط عنه النوم التكليف يؤخذ ذلك من قوله فليرقد حتى يذهب عنه النوم وهنا بحث هل بنفس الاستيقاظ تجب عليه الصلاة على أي حالة كان من خِفْةٍ أو ثِقَل
احتمل الوجهين معاً إذ يكون معنى قوله عليه السلام يذهب معنى نفس الاستيقاظ لأن عند التيقظ يَعْدَم ضده 4 أو يزيد ثقلا وإن استيقظ لأنه إذا استيقظ - والعلة التي من أجلها
1 كذا ولفظ الحديث إذا نعس أحدكم وهو يصلي

لعله يقصد بالأربعة وجوه هل تصلّى ۱ في الوقت أو بعده ۳ أو قضاء ٤ أو أداء روى البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب الأذان بعد ذهاب الوقت عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال سرنا مع النبي ليلة فقال بعض القوم لو عَرَّست بنا يا رسول الله قال أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال أنا أوقظكم فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي الا الله وقد طلع حاجب الشمس فقال يا بلال این ما قلت قال ما ألقيت عليَّ نَومة مثلها قط قال إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردّها عليكم حين شاء يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت
قام فصلى
٤ يريد بـ الضد النوم
0

أبحنا له النوم باقية - فالشيء الذي خفنا منه باقي توقعه والفقه يقتضي التفرقة بينهما وذلك أنا أولاً قد أتتنا العاهة وهي النوم وليس لنا شيء ندفعه به فجاز لنا النوم كما تقدم
وإن احتمل الثقل أن يكون حقيقةً كالأول واحتمل أن يكون وهميا فينبغي أن يستعمل الدواء وهو الوضوء لأنه من مُذهبات النوم ولذلك قال رحم الله امْرَأَ قام من الليل وأيقظ أهله فإن أبَت نَضَح الماءَ في وجهها ورَحِم الله امرأةً قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى ا نَضَحَت الماء في وجهه ۱ فإن ذهب النوم حصل المقصود وأخذنا في أداء العبادة وإن بقي الأمر على ما كان عليه من ثقل النوم نظرنا فإن كان في الوقت سَعَةٌ راجعنا النوم امتثالاً للأمر وإن كان الوقت ضيقاً فعلنا ما ذكرنا أولاً عن العلماء وهو أن يصلي ويُجهد نفسَه ثم ينام فإذا استيقظ فَعَل ما تقدم ذكره لأنه اجتمع لنا أمران أحدهما إيقاع الصلاة في وقتها والوقت قد انحتم وثقل النوم وإباحة النوم لأجله لكن يغلب أقل الضررين فإن خروج الوقت مع الذكر والقدرة على الأداء يتعلّق عليه العقاب والصلاة مع النوم متوقع الضرر معه وهو السَّب ـ على أحد المحتملات ـ وقد لا يقع والإقدام على المتوقع خير من المقطوع به
فإن قال الخصم قد جاء العذر من الوعيد الذي قلتم قلنا ليس الأمر كذلك لأن الأمر إذا نُصَّ عليه لا يرتفع بالمحتمل لأن الوعيد على إخراج الصلاة عن وقتها مع القدرة والإمكان قد ثبت وقوله فَلْيرقد حتى يَذهَب عنه النوم احتمل أن يكون وإن خرج الوقت أو يكون ما لم يخرج الوقت فلما احتمل الوجهين فالأظهر أنه لا يسقط والأصح ما تقدم ذكره من
التقسيم والله الموفق
الوجه السابع فيه دليل على جواز الاستغفار في الصلاة لقوله يستغفر لكن ليس على عمومه في جميع أركان الصلاة ولكن في المواضع التي يجوز ذلك أبين أَبْيَن
وهنا بحث لم علل بسب نفسه ولم يذكر سب غيره فالجواب أن النفس لا تقدّم في الغالب إلا نفسها فإن كان يسبق السبُّ منها لغيرها فهو نادر وإن وقع فيكون هنا غير مأثوم في حق الغير ويبقى ما هو فيه من بطلان العمل كما ذكرنا أولاً بلا زيادة ولما لم يكن السب للغير فيه زيادة بل هو أقل ضرراً لأنه إن كان دعا - على أحد المحتملات - لم يعد عليه شيء فجاء من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى الوجه الثامن فيه دليل على ألا يخالط الطاعة مكروه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
٢٢٤

فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه فترك الصلاة في الوقت لاحتمال أن يقع السب في حال النوم وهو لم يقصد فكيف أن لو كان مقصوداً
ويترتب على ذلك من الفقه كثرة التشديد على الحضور في الصلاة حالاً ومقالاً يؤيد ذلك
قوله إن الله لا يقبل صلاة امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ۱
وهنا بحث وهو أنه طول نومه إذا لم يستيقظ يكون معذوراً غير مأثوم وإن خرج الوقت وبحث آخر هل له أن ينام قبل الصلاة أو ليس
يوم
فالجواب عن ذلك لا يخلو إما أن يكون ذلك نهاراً أو ليلاً
القائلة
فإن كان نهاراً فله ذلك بمقتضى السنّة وبما اعتاده الطبع فأما من طريق السنة فما جاء في وهي قريب وقت الظهر لقوله عليه السلام قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ٢ وأما من طريق ما جبلت عليه الطباع فإنها لا تكثر النوم بالنهار لأنه جعل لها للسعي كما أنها لا تكثر السهر بالليل لأنه جعل لها سكناً وما أحكمته حكمة الحكيم فلا يتبدل إلا لموجب وذلك نادر والنادر لا حكم له وهو أيضاً مبني على أثر القدرة وبه صحت الدلالة على القدرة وهو أصل في الإيمان الذي ترتب عليه الأحكام
وأما في الليل مثل النوم بين العشاءين فالذي أنقله عن العلماء الأجلة الذين لقيتهم وهم أيضاً كذلك نقلوه أن الذي يريد النوم بين العشاءين لحاجة له فلا يخلو أن يكون له من يوقظه لصلاة العشاء أو ليس فإن كان له من يوقظه فله ذلك وكذلك إن كان يعلم هو من نفسه أنه يستيقظ لذلك الوقت لعادة يعلمها من نفسه فله ذلك أيضاً وإن كان يعلم من نفسه أنه لا يستيقظ إلا بعد خروج الوقت فليس له ذلك وكذلك إن كان جاهلاً بعادته وليس في الحديث ما يدل على هذا لكن لما كان الموضع يحتاج إليه ذكرناه وهنا بحث في قوله عليه السلام فليرقد هل يرقد في موضع مصلاه على حاله ولا يقطع صلاته أو يقطع الصلاة ويرجع ينام حيث شاء احتمل لكن الظاهر أن ينام حيث هو على حاله يؤخذ ذلك من خارج من قوله إذا نام العبد وهو في الصلاة يقول الحق جلّ جلاله يا ملائكتي أما ترون عبدي جسده نائم بالأرض وروحه عندي ۳
1 رواه الحكيم الترمذي في النوادر بلفظ لا يقبل الله صلاة امرىء لا يشهد فيها قلبه ما يشهد فيها بدنه وعزاه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء لمحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من رواية عثمان بن أبي دهرش
مرسلا
انظر مجمع الزوائد ۸/ ١١٢ وكنز العمال ٧ / ٢١٤٧٧
۳ لم نعرف مصدره
٢٢٥

حتى
وبحث آخر هل ذلك النوم ينقض الطهارة أم لا ۱ ليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك لكن العلماء اختلفوا في النوم في الصلاة اختلافاً كثيراً على حسب هيئته فمنهم من قال إن النوم في الصلاة لا ينقض الطهارة واحتجوا بما جاء أن سيدنا محمدا نام وهو ساجد علم منه النوم حقيقة فقيل له نمت فقال لا نوم في الصلاة ۳ والجمهور يجعلون ذلك - إن صح الحديث - من الخاص به عليه السلام لانه ل ا ا ا ا و كانت تنام عيناه ۳ ولا ينام قلبه الوجه التاسع فيه إشارة إلى التيقظ والحزم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا نعس أحدكم لأنه أمر عند ظهور المبادىء وهو النعاس الذي اخره النوم الثقيل الذي لا يعرف معه ما يقول أو يترك العمل وهو طاعة خيفة الخلل فما بالك بغيره ولذلك قال عليه السلام المؤمن كَيْسٌ حَذِرٌ فَطِنٌ ٤ وكذلك كان بعض أهل الصوفة إذا رأى أدنى غبار في خلق عياله أو دابته أو عادته أسرع إلى التوبة والطاعة وفتش على خبايا نفسه حتى يجد الغفلة التي وقعت منه فيُزيلها فيستقيم حاله ومنها قصة الشيخ الذي لم يكن يتكلم في أمور الدنيا حتى خطر له يوماً فيها خاطر فإذا بجندي بالباب يستأذن فأذن له فدخل وجلس بإزائه يحدثه في أمور الدنيا فتعجب الشيخ من
۱ في ذلك ثمانية مذاهب
١- ينقض الوضوء بكل حال لحديث علي رضي الله عنه من نام فليتوضأ وهو مذهب آل البيت والحسن

البصري
٢ - لا ينقض الوضوء بكل حال لحديث أنس رضي الله عنه كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تخفق رؤوسهم ينتظرون العشاء الآخر ثم يصلون ولا يتوضأون
٣ - لا ينقض الوضوء إذا كان على هيئة المصلي لحديث إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة وهو مذهب أبي حنيفة
٤ - لا ينقض الوضوء إذا كان متمكناً في مقعده لحديث العين وكاء السَّهِ الدبر فمن نام فليتوضأ وهو مذهب علماء الحديث ومذهب الشافعي
ه - لا ينقض الوضوء إلا إذا سقط الجنب على الأرض لحديث حذيفة نمت فأخذني له من ورائي احتضنه فالتفت فإذا أنا برسول الله فقلت هل عليّ الوضوء فقال لا حتى تضع جنبك
٦ - لا ينقض الوضوء إلا نوم الراكع والساجد لأنه مظنّة الانتقاض وهو مذهب أحمد - لا ينقض الوضوء إلا نوم الساجد لأنه مظنّة النقض أكثر وهو رواية في مذهب أحمد
۸ - لا ينقض الوضوء في الصلاة بل خارجها وهو مذهب زيد بن علي من نيل الأوطار للشوكاني ۱۹۰/۱
و ۱۹۱
لم نعرف مصدره
۳ رواه البخاري والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
٤ رواه القضاعي عن أنس رضي الله عنه
٢٢٦

من
إن
حتی
إن
ـه ما
إلى
إذا
من
ن
ـو
ذلك فرجع إلى نفسه لينظر من حيث أُتِي فإذا هو قد ألهم للخاطر الذي مر به في شأن الدنيا فقال من هنا أتيتُ فاستغفر من ذلك وتاب وإذا بالجندي قد قام من حينه وخرج ويؤيد ذلك قوله جل جلاله إِنَّ اللهَ لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ 1 هذا في نوم ا العادة وأما نوم أهل الدنيا فلا تكون اليقظة منه إلا عند الموت لقوله عليه السلام الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا لأنهم رأوا الحق وعاينوا الحقائق فنوم أهل الدنيا جهل وغلبة شهوة وغفلة إلا من علمه الله وأيقظه وهم أهل الجد والتشمير والصدق والتصديق كما قال أبو بكر رضي الله عنه لو كُشِف الغطاء ما ازددتُ يقيناً وكذلك جميع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
جعلنا الله منهم بلا محنة بحرمتهم عنده
الوجه العاشر قوله عليه السلام فليرقد حتى يذهب عنه النوم إشارة إلى امتثال الحكمة لأن الحكمة مضت أن النوم لا يذهب بالسكون حتى يصل وقته الذي قدر له فيذهب وحده كما جاء وحده وفي النوم وذهابه إظهار القدرة الجليلة بينما المرء مجموع الذهن والقوى إذ أتاه النوم بغتة
وهو لا يشعر وقد يكون بعض الأوقات لا يعجبه ذلك لمنفعة أو أرب يريد تحصيلها فيمنعه منها

الوجه الحادي عشر فيه دليل على عجز المخلوق وافتقاره بينما هو بحرصه وزعمه في تحصيل مآربه إذ أتاه ما لا يقدر على دفعه ويترك الحرص والحذر والتحصن ويستسلم بغير اختياره قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ۳ والنوم والنسيان شاهدان على نقص المحدّث وافتقاره ولذلك قال العلماء في قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدتَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ ٤ قالوا أحسَنَ خَلْقَه ثم أرسل عليه النوم والنسيان فإذا استيقظ رجع لحرصه كأنه ما زال فلا يزال الأمر يتكرر عليه على مرور الليالي والأيام وهو مقيم على دعواه كأن لم يقعد ولا نام وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ ٥ طَبَّقت الغفلة بل رَانَ على القلب حتى رجع بصر بصيرته خفاء لا يرى شمس هذه الآي
ومن هنا فضل أهل الصوفة غيرهم لأنهم لما رأوا تلك الأحوال وهي حال موت النوم وإن كانوا هم أقل الناس نوماً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا فألزموا أنفسهم في حال اليقظة
۱ سورة الرعد من الآية ۱۱
من كلام سيدنا علي كرم الله وجهه
۳ سورة الأنبياء من الآية ٤٢
٤ سورة التين الآيتان ٤ و ٥ ٥ سورة الذاريات الآية ٢١

الاستسلام وهو حالهم في النوم فذلك منهم يقظة لأنهم حكموا باستصحاب الحال وذلك مقال أهل العلم وهم كانوا أولى به لكن لمّا كانت دواعي شهواتهم حثيثة الطلب تفقهوا في المقال وشغلتهم تلك الحلاوة في المقال عن فهم الحال وهل حَسنُ المقال مع قبح الحال إلا
بهرجة يندم صاحبها عند محك الانتقاد
الوجه الثاني عشر فيه دليل على عظم لطف المولى بجميع العبيد بَراً أو فاجراً مكلفاً أو غيره لأن النوم راحة للأبدان فلو تُرك النوم لاحتياجهم لكان بعض أهل الحرص لا يختارون النوم فيكون في ذلك هلاكهم فكان المولى سبحانه هو الذي أرسل ذلك بنفسه لا بواسطة ملك مقرب ولا غيره حيث قال في كتابه ﴿ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّنَكُم بِأَلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ۱
1,
الوجه الثالث عشر فيه دليل على استغناء الله تعالى عن عبادة العباد وتنزيهه أن تضره معصية عاص لأنه لو كان شيء من ذلك ما كان يرسل الراحة على عبده المخالف له بنفسه الجليلة وهو يَنْضَرُّ بها ولا كان يدخل التعطيل على العامل وهو ينتفع بعمله تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً فسبحانه ما أرحمه بعباده وأغناه عنهم ! خاتمة وعظية كم أنادِي إلى الهدى من لا يفهم وأعِظُ أَطْرُوشَ العقل وهو بالهوى مُغْرَم ! فإدمان الهوى على الضعف للجسم إسقام فخلّص سَقَمَ بَدَن دِينك النحيف بنقوع التوبة النصوح فتركيب الأسقام في البدن النحيف سل ۳ وهو يوجب الهلاك لك
ويلك ما لك أيقظان أنت أم نائم
أيقظنا الله وإياك من سِنَةِ الغفلة وأحيا قلوبنا بنسيم المحبة وشدّ ضعفَ حواس أدياننا
بأمراق الطاعة فهو المتفضّل المنّان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الأنعام من الآية ٦٠
السل مرض معروف

۸

حديث غسل المني من الثوب
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي ل ثم أراه فيه بقعة أو بقعاً وفي رواية أخرى بقعاً بقعاً
ظاهر الحديث يدل على غسل المني والكلام عليه وجوه
الوجه الأول أن غسله يدل على نجاسته وهو مذهب مالك رضي الله عنه ومن تبعه وهل نجاسته من نفسه أو بالمجاورة بحث اخر هو في كتب الفقه
الوجه الثاني فيه دليل على جواز النيابة في الفروض التي ليست في الأبدان يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل المنيَّ
الوجه الثالث فيه دليل على جواز ذِكْرِ ما يُخْجِل ذِكرُه إذا دعت الضرورة إليه يؤخذ ذلك من ذكرها المني لأنه مما يخجل ذكره لأنه يدل على ما قد جاء الكتاب والسنة بالكناية عنه أما الكتاب فقوله تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ٢ ومن السنة قوله عليه السلام حتى تذوقي مُسَيْلَتَه ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ۳ لكن من أجل تقرير الأحكام ذكَرَتْه ولذلك قال

1 للحديث هذا روايات عدة وكلها عن سليمان بن يسار عن عائشة ففي رواية قالت كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي إلخ وفي رواية سألت عائشة عن المني يصيب الثوب فقالت كنت أغسله من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة إلى آخر الحديث وفي رواية أنها كانت تغسل المني إلخ وهي التي اختارها الشارح ويعلق ابن حجر على الرواية الأخيرة فيقول قوله أنها كانت يحتمل أن يكون مذكورا بالمعنى من لفظها أي

قالت كنت أغسل ليشاكل قولها ثم أراه أو حذف لفظ قالت قبل قولها ثم أراه
سورة البقرة من الآية ۱۸۷
۳ رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن السيدة
عائشة رضي الله عنها
۹

نِعْمَ النساء نساء الأنصار لم يَمْنَعْهُنَّ الحياءُ أن يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين ۱
الوجه الرابع فيه دليل على التيسير في أمر النجاسات وإنما نحن مكلفون بما رأينا ولا نتوغل على النفس بالمحتمَلات لأنها لم تغسل إلا المني الذي رأت ومحتمل أن ضرب في
موضع آخر من الثوب نفسه أو غيره
يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام النَّضَحُ طَهورٌ لا شك فيه ۳ لأن فائدة النَّضح ما هي إلا لزوال ذلك الأثر الذي يحيك في النفس أو اغتفار النجاسة التي ليست بمتحققة أو لهما معاً لأنه إن كانت النجاسة وصلت للثوب فليس الرش بالماء يزيل عينها وإن كانت لم تصل فليس الماء يزيد في طهارة الثوب شيئاً
الوجه الخامس فيه دليل على رفع حكم النجاسة وإن بقي لونها إذا غسلت بالماء وذهب عينها يؤخذ ذلك من قولها ثم أراه بُقعاً بُقعاً
الوجه السادس فيه دليل على أن المؤمن في حال حَدَثِ الجماع في اليقظة أو في النوم طاهر العين ٤ وثوبه طاهر يجوز له الصلاة فيه ما لم ير فيه شيئاً فإن رأى غَسَل يؤخذ ذلك من قولها مِن ثوب رسول الله ولا يصيب الثوبَ المَنِيُّ إلا بأحد وجهين إما بجماع وإما باحتلام وإنما الطَّهورُ ٥ على الجُنُب تعبد وذلك مذهب أهل السنة
الوجه السابع فيه دليل على جواز خدمة المرأة زوجها إذا رضيت ذلك وإن كانت ذات بال يؤخذ ذلك من قولها كنت أغسل فإن الغسل من جملة الخدمة وأي رفعة مثل رفعة
هذه السيدة
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه موقوفاً عن عائشة رضي الله عنها ضرب بمعنى انتشر ومنه ضرب في الأرض انطلق مسافرا وضمير الشأن اسم أن المخففة ۳ مروي بالمعنى وأصله رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الحكم بن سفيان رضي
الله عنه
٤ العين ذات الشيء وكنهه وللكلمة معانٍ أخرى كثيرة
٥ الظهور الماء الطاهر الذي يتطهر به

٦ ذات بال ذات شأن وأمر ذو بال أي شريف يُحتفل له ويهتم به

عن عائشة رضي
حديث غسل دم الحيض
رضي الله عنها قالت كانت إحدانا تحيضُ ثم تَقْرُصُ الدَّمَ مِن ثَوْبِها عند طهرها فتغسِلُه وتَنْضَحُ على سائرِهِ ثم تُصَلّي فيه
*
ظاهر الحديث يدل على غسل دم الحيض والصلاة في الثوب الذي حاضت فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قولها كانت إحدانا تحيض ولم تخبر عن نفسها فما وجه ذلك فالجواب أن الإخبار عن الجميع يقتضي تقرير الحكم وهو على الكلّ على حد سواء فلو أخبرت عن نفسها لاحتمل الأمر أن يكون ذلك خاصا بها أو يكون لعذر ما فأتت بالوجه الذي لا يحتمل التأويل الوجه الثاني يؤخذ منه من الفقه أن الإخبار عن الأشياء يجب أن يكون بأبين الوجوه ويؤخذ منه جواز الإفصاح بالمستقذرات وإن كانت السنة قد جاءت بالكناية عنها لكن من أجل تقرير الأحكام كما تقدم في الحديث قبل لا يمكن إلا الإفصاح بها يؤخذ ذلك من ذكرها الحيض وإضافته لهن رضي الله عنهن
الوجه الثالث يؤخذ منه أن زوال النجاسة لا يتعين إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من قولها إنها لم تكن تغسل الدم إلا عند الظهر ويؤخذ منه أن دم الحيض كغيره من الدماء سواء وهو حجة على من يقول إنه أشد من غيره من الدماء يؤخذ ذلك من غسلها له ليس إلا كغسل المني
قبله وغيره من النجاسات الوجه الرابع قولها ثم تقرص الدم فلأنه أيسر في زواله وهذا معلوم حسّاً لأن النجاسة إذا كان لها جرم فحكُها أولاً ثم غسلها كان أسهل لأنه إذا صبّ عليها ماء ولم تقرص كان أكثر في الانتشار لها في الثوب ويترتب عليه من الفقه وجوه منها أن الأحسن - بل السنّة - في غسل النجاسة التي لها عين قائمة فركها قبل غسلها

الوجه الخامس يؤخذ منه أن السنّة في الأمور أن يؤخذ الأيسر منها لأن هذا الوجه لما كان

الأيسر في زوال النجاسة فَعَلَته وأخبرت به لكي يُقتَدَى بذلك في هذا وفي كل الأمور ويؤيد ذلك في حديث غير هذا قولها فيه ما خُيّر رسولُ الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ۱
الوجه السادس فيه دليل على نضح ما شك فيه يؤخذ ذلك من قولها وتنضح على سائره
وهنا بحث لم قالت في الحيضة بالنضح ولم تذكر ذلك في المني فالجواب عن ذلك لمّا كان زمن المني يسيراً عُفي عنه ولما كان زمان الحيض كثيراً جعل فيه النضح ولأنه أيضاً يدل على العفو كما تقدم البحث في الحديث قبله وإن كان يعطي بغلبة الظن أن طول الأيام مع استصحاب حال الحيضة والنجاسة ظاهرة في الثوب حتى تيبس لأنه لا يمكن الفرك في الدم إلا مع يبسه فقد يضرب ۳ في موضع آخر قبل يُبْسِه

ولوجه آخر لأن أول الحيض دم خاتر ٤ وآخره صفرة وكدرة كما جاء في الموطأ والصفرة والكدرة لا يتعلق منهما شيء يقتضي الفرك فدل بذلك أن الدم بقي في الثوب من أول الحيض أو من أثنائه أو من مجموعهما حتى إلى وقت الظهر ٥ ويغلب على الظن إصابته ٥ أعني أن موضع الدم يضرب في البدن وقد يكون البدن عرقاناً ٦ فيتعلق به شيء منه ثم يُمسح في موضع ثان من الثوب أو يضرب موضع الدم في غيره من الثوب نفسه لكن لما لم يكن مَرْيْتاً تُجوّز ۷ عنا في ذلك
وهل هذا في كل ثوب كان أبيض أو مصبوغاً الحديث ظاهره العموم
ويؤخذ منه جواز ترك النجاسة في الثوب في غير وقت العبادات وأن ذلك ليس بممنوع وهل ذلك - أعني بقاءها في زمان غير زمان العبادة - على الإطلاق أو ليس وأعني بالإطلاق كانت النجاسة مما تنفك عن الشخص أوليست مما تنفك عنه كدم الحيضة لأن التي ليست تنفك لو كلفنا بزوالها لكان فيه مشقة
1 رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
سائره باقيه
۳ يضرب في موضع آخر يصيب موضعاً آخر أو يذهب إليه
٤ خاتر غليظ ثخين ه كذا بزيادة إلى
٦ كذا بالتنوين والقياس أنه ممنوع من الصرف وعرقان فيه عرق كثير والعرق رشح الجلد
۷ أي تُجووز وعُفي

فالجواب - والله أعلم - أن الجواز على حد واحد بدليل قولها في حديث آخر عن غسل المني أنها كانت تفركه ولا يكون الفرك إلا مع اليُبْس فلو لم يكن ذلك جائزاً لما كان يقع ذلك من رسول الله وإلا كانت هي تعلل هنا تأخير الغسل لأن هذا موضع تقرير الحكم الوجه السابع فيه دليل على أن الصلاة لا تصح من الحائض إلا بعد رفع الدم وزوال النجاسة
والطهر بالماء يؤخذ ذلك من وصفها لهذه الأحوال وحينئذ تصلي
وهل هذا على الوجوب أو الندب أما الطهور فواجب إذا أمكن وإلا بَدَلُه وأما رفع الدم فواجب بالنص والإجماع وأما زوال النجاسة فمختلف فيه هل هو فرض أو سُنّة مع
إمكان زوالها
ويدل أيضاً على سقوطها - أعني الصلاة - عن الحائض لأن وجوب الشيء يستلزم سقوط ضده ويقوي ذلك النص والإجماع
وهنا سؤال لم قالت ثوبها ولم تقل درعها أو غير ذلك من أسماء الثياب فالجواب أن الإخبار بالأعم أفصح وأبينُ في الحكم لأنها لو قالت اسم ثوب من الثياب كنا نلحق باقي الثياب به بالقياس والذين لا يقولون بالقياس يقصرون الحكم على الذي نطقت به ليس إلا كما هي عادتهم في جميع الأحكام يقصرون الحكم على المنطوق به ليس إلا فلمّا كانت الفائدة في العام الذي يجمع أنواع الثياب أتت به عاماً
ويترتب عليه من الفقه أن على المخير بشيء يتعلق به حُكْم أن يخبر بأعم ما يكون في ذلك وإن كان مع الاختصار فحسن
الوجه الثامن يؤخذ منه أيضاً أن بَدَن الحائض وعَرَقها طاهر لأن البَدَن بالضرورة لا بدَّ له مع طول الأيام من العرق فلو كان غير طاهر لغسلت الثوبَ ولم تنضحه
وقولها تنضح على سائره هل على هنا على بابها أو هي زائدة الظاهر أنها على بابها وليست بزائدة لأنها إذا كانت على بابها فهي إشارة إلى تعليم كيفية الفعل في النضح وإذا كانت زائدة فلا فائدة فيها فحيث رأينا الزيادة علمنا أن ذلك هو المقصود ممَّن هو أقل منها فكيف من تلك السيدة لأن صفة النضح الذي جعل طهور الماء شرطاً فيه هو أن يبل الشخص يده بالماء ويرش
على الثوب ولا يلصق يده بالثوب ولذلك قالت على وهذا الوجه هو المختار فيه لا غير
وبعض الناس يبل يده ويلصقها بالثوب وحينئذ يجرها على الثوب أو يأخذ الماء ويسكبه لا على الثوب وقد قال علماؤنا إن من خالف الصفة الأولى - التي ذكرنا - فإن ذلك النضح
۳۳

ومن
يؤخذ
يجزئه وأن حكمه حكم من صلى بالنجاسة فمن قال في إزالتها إنها فرض يعيد أبداً قال إنها سُنَّة يعيد في الوقت لأنه من خالف ما أمر به لا يجزئه غيره الوجه التاسع فيه دليل على أن حكم النضح حيث أُمر به كحكم الغسل حيث أُمر به ذلك من قولها وتنضح على سائره فشَرِكت ۱ الحكم بين الغسل والنضح وحينئذ قالت ثم تصلي فأتت بـ ثم التي للتحويل من حال إلى حال فلم تشرع في الصلاة إلا بعد الفراغ من النضح والغسل وفيه تقوية لما ذكرناه من قول علمائنا رضي الله عنهم والله الموفق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ شرکه شاركه من باب علم
٢٣٤
ن الله حال
سخت

حديث كيفية الاغتسال من الحيض
عن عائشةَ رضي رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار قالت للنبي يا رسول الله كيف أغتسل من الحيض قال خُذي فِرصَةً مُمَسَّكَةٌ ۱ فتوضئي بها ثلاثاً ثم إن النبي استحيا فأعرض بوجهه أو قال توضئي بها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتُها بما يريد
النبي
ظاهر الحديث أن دم الحيض له رائحة لا يذهبها الماء وحدَه والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل قصدت بقولها الطهور الشرعيَّ أو اللغويَّ احتمل سؤال السائلة الوجهين معاً والظاهر أنها لم تسأل عن كيفية الطهور وإنما احتمل سؤالها معنيين أحدهما عن كيفية الطهر هل ما تعلم منه هو المُجْزِىء وهو الكمال فيه أم ذلك هو
المجزىء وبقي عليها شيء إن فعلته كان زيادةَ كَمالٍ فيه والوجه الآخر أن تسأل عن الطّهر اللغوي هل هو في ذلك المحل كغيره أو يختص ذلك المحل بزيادة أخرى
هذا هو الظاهر من المعنيين يؤخذ ذلك من جواب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله خذي فِرْصَةً مُمَسَّكةً فتوضئي بها ثلاثاً لأن الفرْصة قطعة ثوب وممسَّكة مطيَّبة وليس هذا صفة الطهور بالماء لا الشرعي ولا اللغوي فبهذا عَلِمنا أن النبي لا لا اله فَهِمَ عنها خلاف ظاهر اللفظ بقرينة الحال وقرينة الحال - بالإجماع - إذا تحققت أخرجت اللفظ عن ظاهره إلى ما دلّت عليه القرينة ولذلك قال مالك رحمه الله بالمعاني استُعيدنا لا بالألفاظ وهذا النوع كثير في الكتاب والسنّة
۱ الفِرْصَة القطعة من الثوب أو القماش والممسكة المطيبة بالمسك توضئي - هنا - تنظفي
٢٣٥

الوجه الثاني قوله عليه السلام فتوضئي بها ثلاثاً أي تنظفي مأخوذ من الوضاءة وهو الحُسن فيكون ظاهر الحديث أن السنة للحائض إذا طهرت وتطهرت أن تُطَيِّب ذلك المحل الذي هو موضع الأذى وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو الندب وهل هذا مطلق لمن لها زوج أو لا زوج لها وهل هذا العلة أو ليس لعلة وهل هذا مع الإمكان وغيره أو مع الإمكان ليس إلا فالجواب أما على الوجوب فلا أعلم أحداً قال به وليس هنا أيضاً قرينة تدل عليه فلم يبق
إلا أن يكون ندباً
وأما هل يكون ذلك مطلقاً أو لا فإن قلنا إنه تعبد غيرُ معقول المعنى فيكون مطلقاً وإن قلنا إنه معقول المعنى فما تلك العلة
قيل إنما ذلك من أجل الزوج لأن دم الحيض نَتِن ويبقى الأيام المتوالية على ذلك المحل فيكتسب منه رائحة فربما يتأذى منها الزوج فتكون تلك الكراهية التي يجدها سبباً للفرقة وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم وقيل إن المحل يلحقه من الدم رِخوا وإن الطيب يصلح ذلك منه وفيه أقاويل تشبه
هذا فعلى هذا يكون لذات الزوج مندوباً

ويبقى الكلام لغير ذات الزوج يكون فيه أقاويل على ما يظهر والله أعلم إن كان ذلك مما يحرك عندها شهوة الجماع فلا تفعل وإن كان ذلك مما لا يحرك عندها من ذلك شيئاً فحسن أن تفعل لأن الطيب من السنة لا سيما لمنفعة تلحق كما قدمناه على أحد الوجوه
وأما مع الإمكان أو عدمه فلا تكلف في الفرائض إلا قدر إمكانها فكيف في المندوبات وقوله فرصة فلأن ذلك المحل لا يمكن تطيبُهُ باليد وإن فُعِلَ فلا تكون له فائدة والفائدة - كما ذكرنا - هي رفع الأذى عن ذلك المحل
وقوله ثلاثاً مبالغة في التطييب
وقولها ثم إن النبي استحيا هذا دال على حسن خلقه عليه السلام
الوجه الثالث فيه دليل على أن الأمور التي لا يمكن معرفة الحكم فيها إلا بذكرها على ما هي عليه - وإن كان ذكرها يخجل أو يكره - فلا بد منه من أجل الضرورة
۱ رِخْو من رَخا يَرخو أَو من رَخِيَ يَرحَى بمعنى اتَّسَع يقال عَيش رِخو ويطلق على كل هَضٌ لين من كل شيء
٢٣٦

حل
ج
ـق
ن
الوجه الرابع يؤخذ منه أن الاستحياء يُعلم بالإعراض بالوجه يؤخذ ذلك من فعله وفيه من الفقه أنه إذا فعل ذلك عرفه منه الرائي فتركه من ذلك الأمر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الحياء لا يظهر إلا بعد القدر المجزىء من الحكم يؤخذ
ذلك من أنه له لم يفعل ذلك إلا بعد فراغه من الكلام بتقرير الحكم ولذلك أنت بـ ثم الوجه السادس فيه من الفقه أنه إذا كان الإعراض عند الكلام بإلقاء الحكم يحصل للسائل من ذلك تشويش فقد لا يفهم ما قيل له فتذهب الفائدة فحين أعرض بوجهه أو قال توضئي بها لأنه فَهِمَ عنها أنها لم تفهمه فأتى بقرينة تنبىء أن هذا الوضوء المذكور هو في المحل الذي إذا ذُكِر كان فيه حياء ليعبر بالحال عن المقال وقولها فأخذتُها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي ففهمت تلك السيدة رضي الله عنها قبل السائلة فحيئنذ أخبرتها
الوجه السابع يؤخذ منه تعليم المفضول بين يدي الفاضل لكن بعد ما يلقي الفاضل الحكم فيكون ذلك من باب الخدمة له لا سيما في أمر يكون الفاضل يخجل منه والمفضول ليس ذلك مما يخجله لأن تحدّث النساء فيما بينهن لا يقع منه خجل كما يقع من حديث الرجال معهن لا سيما في هذا المحل الخاص
الوجه الثامن فيه دليل على حمل العذر لمن لا يفهم والسنة أن يُرفق به في التعليم يؤخذ ذلك من أن النبي ا لَمَّا لم تفهم عنه السائلة وجاوبتها عائشة رضي الله عنها أقرَّ ذلك ولم يقل فيه شيئاً ولو لم يكن كذلك لقال ما فيه من الحكم يزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام
علموا وارفقوا ۱ وهو الرفق والإعذار
ويؤخذ منه جواز الحكم بالإشارة إذا فُهم المعنى يؤخذ ذلك من قولها فأخبرتها بما يريد
رسول الله ولم تذكره الوجه التاسع فيه دليل على أن من الشرع أن يوصل بالفعل دون القول إلى ما يريد القائل إذا ألا تراجع في ذلك الأمر رسول الله أكثر مما تقدم وأقرها النبي ل على ذلك وليس فيه منقصة لا للفاعل
أمكن ذلك يؤخذ ذلك من قولها أخذتُها فجذبتها لأن أخذها قام مقام النهي
ولا للمفعول به
الوجه العاشر فيه دليل على جواز القبول من المفضول بحضرة الفاضل يؤخذ ذلك من بيان عائشة رضي الله عنها ما بَيَّنَتْهُ لها و لم تراجع النبي و و و و و وأجاز ذلك هو عليه السلام
1 لعله مروي بالمعنى لحديث علموا ويسّروا ولا تعسروا ولا تنفّروا فإذا غضب أحدكم فليسكت رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس رضي الله عنهما

الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن المرء مطلوب منه ستر عيوبه وإن كانت مما جبل
عليها يؤخذ ذلك من أمره ا للسائلة أن تُذهب أثر تلك الرائحة التي هي مما جبلت عليه وتسترها بالطيب لكن الفقه فيه ألا يكون الستر إلا بما تجيزه الشريعة تحرزاً من أن يكون بتدليس أو كذب أو محرم فذلك ممنوع ويقوي ما قلناه قوله عليه السلام للسائل حين أوصاه إذا
غضبت فاسكت ۱ لأن الغضب شَيْن والسكوت له ستر وذلك في الشرع إذا تتبعته كثير ولذلك اتخذ أهل الصوفة التحلي بعدم الانتصار لأنفسهم لأن حظوظ النفس شَيْن في العقلاء فستروها بالعزم على عدم الانتصار لها حتى إنه ذكر عن بعضهم أن شخصاً سَبّه فأعرض عنه فقال له أنت أعني قال له السيد عنك أعرض ومثل هذا عنهم كثير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

لسنا
1 رواه البخاري في الأدب المفرد / ۱۳ و ٢٤٥/ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ۳/۸ والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ۱۷۰/۳ والطبراني في المعجم الكبير ٣٣/١١
كذا والصواب إياك أعني
۳۸

- ٢٤
حديث خلق الجنين في بطن أمه
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال إن الله تعالى وكَلَ بالرَّحِم مَلَكاً يقول يا ربِّ نُطْفةً يا ربِّ عَلَقَةً يا ربِّ مُضْغَةً فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال ذكر أم أنثى شقيٌّ أم سعيد فما الرزقُ فما الأجَل فيُكتب في بطنِ
مَلَكاً ينادي إلى الحق سبحانه
ظاهر الحديث الإخبار بأن الله عزّ وجلّ وَكَّلَ بالرَّحِم وهو الذي لا يخفى عليه شيء عند كل وقت في حين تطوير المولود من حالة إلى حالة يخبر بتلك الحال إلى تمام حكم الله في كمال خلقه في الرَّحِم والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا على عمومه من ظاهر أحكامه كله أو ليس
وهل يمكن الاستدلال على معرفة الحكمة في ذلك وما الحكمة في تعريفنا بهذا وما يترتب علينا بذلك من الأحكام الشرعية
فأما الجواب على هل هذا الحديث على ظاهره في جميع أحكامه فليس على ظاهره في كل أحكامه لما يعارضه من الآثار والآي لكن الفقه في الجمع بينهما بفضل الله فأما الآثار فمنها ما جاء أن الله سبحانه إذا أراد أن يخلق من بين الذكر والأنثى مولوداً أنه يُبقي الماء في الرحم ذلك المقدار الذي شاء الله ۱ وقد أخبر به في حديث آخر وهو أن الماء إذا وقع في الرحم يتطور كما أخبر الله تعالى في كتابه ۳ ومثله على لسان نبيه عليه السلام في
۱ الآيات القرآنية المتصلة بخلق الإنسان كثيرة منها يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى الحجرات/ ۱۳ و يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الحج / ٥ الخ قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينِ ثُمَّ جَعَلْتَهُ نَطْفَةٌ في قرار تكي أن خَلَقْنَا الظُّفَةَ عَلَقَدْ

۳۹

كل حالة أربعين يوماً إلى أن يُنفَخَ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً فإذا فرغت الأربعون يوماً الأولى - وهي المقدار الذي أشرنا إليه بقولنا ذلك المقدار الذي شاء الله - يبعث الله ملكاً فيأخذ من أي موضع شاء الله أن تكون تربة ذلك المولود منها فيأخذ من تلك التربة غباراً بين أصابعه فيدخل في الرّحِم فيُعجَن ذلك التراب بذلك الماء في الرحم وجاء أثر آخر أنه إذا كملت تلك الأيام مع التطوير بعث الله ملكاً فيصوره ويصور جوارحه على نحو ما يؤمر
وجاء حديث آخر أن الله يبعث مَلَكاً إلى الرحم عند ما تتم الثلاث تطويرات ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقيا أو سعيداً ۳ وفي حديث آخر ينادي الملَكُ المُوَكَّلُ بالرَّحِم عند فراغ التطويرات فيقول يا رب مخلقة أم غيرُ مخلقة فيقول ربك ما شاء فيقول يا رب شقي أو سعيد فيقول ربك ما شاء فيقول ما الرزقُ ما الأَجَلُ فيكتب قبل نفخ الروح 4
وأما الآي فقوله تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ ٥ وقوله تعالى فَإِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ تُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لنبيَّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ٦
فيجب الإيمان بمجموع الآي والأحاديث فيجتمع معنى وجه الآية والأحاديث بالوجه الذي يجتمع به وجه الآي التي جاءت في كيفية الموت لأن مولانا سبحانه أخبر في بعض الآي بقوله وهو
فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا وَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَلِقِينَ المؤمنون ١٢ - ١٤ 1 لم نقف على مصدره ولكن الآيات التي تشير إلى أصل الإنسان كثيرة منها وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ مِنْ حما مسنون الحجر ٢٦ و خَلَقَ الإِنسَنَ مِن صَلْصَلٍ كَالْفَخَارِ الرحمن ١٤ و﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ وَادَمَ خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ آل عمران ٥٩ و يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْتَنكر من تراب الحج ٥ و هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ غافر ٦٧ ﴿ أخرج مسلم عن حذيفة بن أسيد قال سمعت رسول الله الله بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك قال زهير حسبت قال يخلقها فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا ربّ أسَوِيّ أو غيرُ سَوِيّ فيجعله الله سَوِيًّا أو غيرَ سَوِيّ ثم يقول يا ربّ ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيًّا أو سعيدا وزهير هو أحد رجال الإسناد وهو زهير بن معاوية بن خديج ۳ رواه الحميدي والبخاري والبيهقي في الاعتقاد والأسماء والصفات والسنن الكبرى عن عبد الله بن مسعود رضي

الله عنه بلفظ آخر
هو حديث الباب الذي يشرحه المؤلف مع شيء من التصرف ببعض الألفاظ
٥ سورة ال عمران من الآية ٦
٢ O
٢٤٠
٦ سورة الحج من الآية ٥

أصدق القائلين قُلْ يَتَوَفَّنَكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكلَ بِكُم ۱ وقال في آية أخرى و الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فأضاف القبض في الواحدة إلى ملك الموت وفي الآية الأخرى إلى نفسه جلّ جلاله ويتصور الجمع بين الآيتين أنه أخبر في الآية الأولى في قوله مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وَكَلَ بِكُم ﴾ بمقتضى الحكمة والقبض الآخر الذي أضافه إلى نفسه بمقتضى القدرة لأن ملك الموت وغيره من جميع المخلوقين أفعالهم كسب لهم بمقتضى الحكمة وخَلْق الله بمقتضى الاختراع والخلق لا
خالق إلا الله
ولذلك قال أهل السنة إن أفعال العباد خَلْق للرَّب وكسب للعبد كما تقدم في الحديث قبل ومثل ذلك الجمع بين الأحاديث والآي فإنه جاء في الأحاديث أنه أخبر بمقتضى الحكمة - وهو واسطة الملك - وفي الاي بمقتضى القدرة وهو الاختراع والإنشاء ولذلك جاء أن الحفظة إذا صعدت بعمل العبد يقول الحق سبحانه اعرضوه على اللوح المحفوظ فيوجد على حد سواء
قال بعض الناس ما الحكمة في ذلك وهو مع ذلك علمه في كل وقت لا يَعْزُبُ عنه فعلُ المَلكِ ولا غيره فالجواب هذا تعبّد تعبَّدَ الله به الملائكة والله عزّ وجلّ يتعبد مِن خلقه من شاء كيف شاء ولحِكمٍ أُخَر لا تُحْصَر
وأما جمع الأحاديث فهو أن الله عزّ وجلّ وكَّلَ بالرَّحِم ملكاً كما وكَّل بالمعدة ملكاً وبالطعام ملكاً وبالشراب ملكاً وبحفظ العبد ملكاً وكذلك لكل حاسة من الحواس ملكاً كما جاء في بعض الآثار غير الشم فما سمعت فيه شيئاً ويحتمل أن يكون ولم أره فالقدرة صالحة ويكون ملَك مُوَكَّلاً بِسَوَقان التراب وعَجْن الماءِ به ومَلَكُ آخرُ مُوَكَّلُ بتصويره تعبداً ومَلَك يكون إتيانه عند مناداة الملك الموكَّل بالرَّحم لأن زمان التطوير قد فرغ فتكون فائدة إخباره أن يأتي الملك الموكل بالتصوير إذ ذاك فيمتثل ما يُؤْمَر به أو يقال له غير مخلقة فلا يأتي ملك التصوير
فإن أتى ملك التصوير وفرغ مما أُمر كما أمر لأنه قد جاء أن الملك إذا جاء للتصوير نُصِب له سبعون وفي حديث آخر ألف من جدوده - على ما رواه أبو داود - ثم يلقي الله تعالى شَبَهَه على من يشاء منهم ۳ فإذا فرغ التصوير نادى الملك الموكَّل بالرَّحِم فيأتي مَلَك آخرُ بالأربع
۱ سورة السجدة من الآية ۱۱ سورة الزمر من الآية ٤٢
۳ أخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أنه إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها
٢٤١

كلمات فيجاوب المخبر عن كل واحدة واحدةً ويكتب والكاتب هنا لا نعرفه فلعله بعض الملائكة المذكورين أو غيرهم والله أعلم فيحصل الجمع على هذا التأويل ويكون عدد الملائكة الذي يجتمعون في الرَّحم عند خلق المولود من أوله إلى آخره أربعة وبقي البحث على الكتبِ هل يكون في الشخص نفسه أو في شيء اخر محتمل والقدرة صالحة فإن هذه الأحاديث كلها أخبار والأخبار لا يدخلها نسخ فيكون الحق سبحانه يخص من المخلوقين من هذه الوجوه ما شاء لمن شاء إظهاراً لِعِظَم القدرة بجميل بديع الحكمة وبعد الفراغ من هذا كله على أي وجه شاءه الله من تلك الوجوه ينفخ فيه الروح لكن قد جاء بيان هذا في حديث غيره وهو قوله عليه السلام ويَخرُج الملك بعد الكتب من الرَّحم بالصَّحيفة
في يده ۱
وقد جاءت في كيفية بدء خلقنا اثار بخلاف هذا الترتيب منها أنه قال عليه السلام إذا وقع ماء الرجل في الرَّحم تطاير في عروق المرأة أربعين يوماً وبعد ذلك يجتمع في الرَّحم وقد جاء عنه عليه السلام أنه عند فراغ الأربعين يوماً الأولى يكون تصوير النطفة بما شاءته القدرة وأما الجواب المعرفة ما الحكمة في ذلك هل لنا سبيل إلى معرفتها أو إلى شيء منها فما أخبرنا بها إلا لنتدبر ما الحكمة فيها فمن الحكمة في ذلك ما يحصل لمن مُنَّ عليه بتصديقها من قوة الإيمان الذي زيادة ذرة فيه خير من عمل الدهر يشهد لذلك قول سيدنا وله تَفكَّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة الدهر ۳ وإنما ذلك لما يتحصل فيها من قوة الإيمان كما يتحصل بمعرفة هذه ووجه آخر وهو أن نعرف للحكمة قدرها إذ ذاك أمر قد تقدر في جميع العوالم فيكون من
باب التحضيض عليها والتعظيم لشأنها
ويترتب على ذلك من الفقه أنه بمقتضى الحكمة استدللنا على القدرة وبالقدرة وعِظَمِها استدللنا على الحكمة فوجب بمقتضى الإيمان والتكليف والنظر والاستدلال الإيمان بمجموعهما والتعظيم لهما والإذعان لمن هذه مِن بعض صفاته كما أمر وقهر وحَكَم بالتعظيم
والإجلال والإكبار والتنزيه
۱ لعل المؤلف - يرحمه الله - أراد بما أورده معنى هذا الحديث إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة مجتها الأرحام دماً وإن كانت مخلقة قال يا ربّ فما صفة هذه النطفة ذكر أم أنثى ما رزقها ما أجلها أشقي أم سعيد قال فيقال له انطلق إلى الكتاب فاسْتَنسِخ منه صفة هذه النطفة قال فينطلق الملك فيستنسخها فلا تزال معه حتى يأتي على اخرها أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
سلف تخريجه في الحديث ۱
٢٤٢

لكة
الوجه الثاني فيه دليل على أن وجود الحق حق وإدراكه غير ممكن يؤخذ ذلك من أن
الملائكة بالإجماع أجسام وتراهم يدخل النفر منهم فينا ولا ندركهم ولا نشعر بهم وهم يتصرفون فينا ولا نعلم فكيف خالقنا وخالقهم فإن بقطعيات العقول لا يشبه الصانع الصنعة
الوجه الثالث فيه من الأدلة الإيمانية إذا تؤملت جمل كثيرة
وأما الجواب على ما الحكمة في الإخبار بذلك لنا وما يترتب عليه من الأحكام الشرعية فمنها التعريف لنا ببدء خلقنا وضعفنا ولطفه بنا وتَغْطِيَتِهِ بألطافه لنا وتسخير الملائكة الكرام لنا في كل الأحوال التي كنا عليها في حال يُعقل أو لا يعقل كما قال عزّ وجلّ ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۱ على طريقة المَنْ وهذا استدعاء لطيف في طلب العبادة وانشراح الصدور لها فإنه إذا رأى العبد قدر هذا اللطف به من هذا المولى الجليل الغني المستغني سَهُلت عليه العبادة ورغب في الحظوة عند هذا المَلِك الذي قد كرَّمه قبل أن يعرفه ويعبُده فكيف به إذا عبده وسمع قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ أُولَيْكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة ذاب حياءً وحباً واشتياقاً ورغبة ورهبة
الوجه الرابع ومما يترتب عليه من الأحكام الشرعية أن حكم الحاكم إذا نفذ ومضى لا يردّ يؤخذ ذلك من قوله أنه لا ينفخ الروح إلا بعد الكتب فيكون الحكم قد نفذ ومضى وهو في عالم اخر فلا يخرج لعالم الحياة إلا على حكم قد تمّ وفرغ فلا يطمع أحد في نقضه وهو موضع تحقيق الخوف والرجاء مع العمل أو تركه جعلنا الله ممن سبقت له السعادة بمنّه
ثم نرجع إلى ألفاظ الحديث بعون الله فقوله إن الله وكل أي جعله عليه مراقباً أين يكون فيه أو عليه القدرة صالحة للوجهين
الوجه الخامس قوله يقول في الكلام حذف معناه عندما يخلق الله النطفة وقوله يا ربّ نُطفَةٌ النطفة الماء اليسير في الإناء وهنا أيضاً حذف آخر لا يتم الكلام إلا به معناه نطفة حدثت في الرحم ثم ينادي عند تطورها بقدرة الله علقة العلقة قطعة من الدّم
الوجه السادس قوله يا رب علقة فيه محذوف ثالث معناه أي انتقلت أي انقلبت علقةً الوجه السابع قوله ثم يقول يا رب مضغة فيه محذوف رابع معناه انتقلت العلقة
مضغة والمضغة الشيء الذي يمضغ وليس فيه تشكيل
۱ سورة الجاثية من الآية ١٣
سورة البينة الآية ٧
٢٤٣

الوجه الثامن قوله فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قوة الكلام تعطى أن الله سبحانه إذا لم
يرد خلقه ينفذ فيه ما شاء من أمره إما أن يمجه الرحم وإما أن يبقى على حاله حتى ينفذ فيه ما شاء الحكيم فإن أراد الله خلقه - ولا يعرف الملك إرادة الله فيه إلا إذا ظهرت كما تقدم في الوجوه الثلاثة - فعند ذلك يأمر الله عزّ وجلّ بتصويره للملك الموكل بذلك - كما تقدم قبل - فيسأل أذكر أم أنثى
فهل لا يسأل ۱ إلا بهاتين الصيغتين لا غير ويكون الجواب بما قدر من ذكر أو أنثى أو خنثى بيناً أو مُشكلاً إلى غير ذلك مما قد رأيناه عياناً في جميع المخلوقين ويترتب على سؤاله بهاتين اللفظتين أن الكلام والعمل إنما يكون على الأغلب مما جرت به الحكمة أو يكون سيدنا عبر بهاتين اللفظتين من باب التنبيه بالأعم على الأخص احتمل لكن الظاهر في الإخبار أنه ليس كغيره من الأحكام لأنه شيء يوقف عنده ويؤمن به ليس إلا
ويترتب على هذا الإخبار بهذه التطويرات التي بدأ خَلْقَنا بها إلهنا وقدّره الله تعالى فينا وفي جميع خلقه قطع تسليط العقول عن إدراك قدرته إلا الذي من علينا بالوصول إليه كما أمرنا ومنع الطمع ممن هذه قدرته أن يحاط به أو بوصفه تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً
وبين لنا ما النسبة بين ما كان حقيقيًا من تلك التطويرات على ضعفها وما نحن عليه عند بلوغ الاحتلام والتكليف وما اجتمعت عليه هذه الصورة الحيوانية الإنسانية من عظم ومخ ولحم وعصب وعروق وشعر وجلد ودم وكبد وقوة وعقل وفكرة وشهوة وتصرّف وبطش وجميع ما فيها من حسن الصنعة كما قال عزّ وجلّ لَقَد خَلَقْنَا الْإِنسَنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ٢

ثم أين نسبة ذلك الحال الأول من هذا الحال وأين ذلك الخلق من هذه الخلقة كما قال

عزّ وجلّ في شأن الثمر عند تناهي طيبه انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ ٣ معنى ذلك
أين
انظروا إلى حال الثمر إذا برز من الشجرة ثم انظروه عند تناهي طیبه این نسبته في هذا الحال من نسبته أولاً أو من نسبة منبته فرأينا النسبة بين الحالين متباينة فكأنه عزّ وجلّ يقول بمدلول قوة الكلام ألا تعرفون أن ذلك بالقدرة لا بالأصل ولا بالماء فاعتبروا بمن هذه قدرته وأذعنوا إليه وأسلموا

333
ثم بعد ذلك يأتي حال الكِبَر وتنعكس تلك القوة ضعفاً ويدخل عليه النقص في جميع
يريد أفلا يسأل لأن هل لا تدخل على لا
سورة التين الآية ٤ ۳ سورة الأنعام من الآية ۹۹
٢٤٤

أحواله مع إبقاء الخلقة على قالبها كما أخبر عزّ وجلّ ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةٌ ۱ فأهل الاعتبار اعتبروا وأهل التذكار اذكروا وبقي أهل الغفلات عمهات الجهالات لا يبصرون إلا على قدر شهوتهم وهم في العلوم بعضهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً وغيرهم كما أخبر عزّ وجل إن هُم إِلَّا كَالأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ولذلك قال جل جلاله وَكَأَن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ ۳
أي غافلون
الوجه التاسع قوله شقي أو سعيد لا ثالث لهما لكن الشقاوة تفترق على أنواع بعضها أعظم من بعض والسعادة أيضاً كذلك
الوجه العاشر قوله فما الرزق فما الأجل هنا بحث لِمَ أتى في الرزق والأجل بالفاء التي تعطي التعقيب دون غيرها من الحروف
لأنه
فالجواب - والله أعلم - أن أول ما يشتغل الملك بالخَلق وتقريره على ما شاءه الحكيم مع الشقاوة والسعادة وحينئذ أتى ذكر الرزق والأجل اخراً وهذا ترتيب بمقتضى الحكمة بديع الذي يكون الأهم والمتقدم بحسب الإرادة قَدَّمَ خَلْقَه أولاً وعليه يترتب التذكير والتأنيث أو غيرهما من الصفات وعليه أيضاً تقع الشقاوة أو السعادة ثم الرزق الذي هو متقدم على الأجل كما أخبر عليه السلام لن تموتَ نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطَّلَب ٤ ثم أخر الأجل فإذا كان الأمر قد تَمَّ فعَلامَ الحرص في طلب الرزق وقد تم الأمر لا يزاد ولا ينقص فيرجع الرزق والأجل والسعادة وغيرها كالتذكير والتأنيث لا يتبدل
وَلفَهم هذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم ولم يلتفتوا إلى غيرهم بشيء وبقوا مُعوّلين على من هو المتصرف فيهم اللطيف بهم كما لم تطمع النفوس في انقلاب الذكورية إلى ضدها أو ضدها إليها كذلك لم تطمع نفوسهم في الرزق ولا في الأجل ولا في السعادة في التبديل أصلاً وما بقوا إلا مشتغلين بما أمروا حتى إن بعضهم قال إن كان عَبَده لِخوفِ نارٍ أو رغبةً في جنة حَشَره الله مع فرعون وهامان بل قال أعبده لأنه أهل لأن يُعبَد ٥ وهو الحق لمن فَهِم
۱ سورة الروم من الآية ٥٤ سورة الفرقان من الآية ٤٤ ۳ سورة يوسف الآية ١٠٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ٥ هذا القول مروي على لسان رابعة العدوية
٢٤٥

وكفى في ذلك قصة العابد في بني إسرائيل الذي أخبره نبيه أنه من أهل النار فزاد في عبادته فأوحى الله لذلك النبي أن قل له يفعل ما شاء فإنه من أهل الجنة لازدرائه بنفسه

وأما من طريق الرزق فقال بعضهم إذا كان الفقير يُنظر في رزقه فإن الله يحسن عزاءه في طريقه وكفى في ذلك ما اختاره سيدنا محمد اله الا هو أنه قال أجوع يوماً فأتضرع وأشبع يوماً فأشكر ۳ وقال يمن بن رزق رحمه الله إذا كان الماضي لا يرجع والمقدور لا يتبدل فاطراح
الهم سعادة معجلة
الوجه الحادي عشر قوله فيكتب في بطن أمه يكون المعنى فيكتب وهو في بطن أمه وهنا بحث هل ذلك الكتب يكون قبل نفخ الروح أو بعده لكن قبل خروجه من بطن أمه ليس
في الموضع ما يدل على شيء منها لكن قد جاء في حديث آخر أنه يكتب ثم ينفخ فيه الروح ويترتب على هذا الإخبار من الفقه أن السعادة والشقاوة قد تكون بلا عمل ولا حياة في هذه الدار يؤخذ ذلك من قوله ثم ينفخ فيه الروح بعد كتب السعادة أو ضدها وقد رأينا من يموت في البطن قبل الخروج إلى هذه الدار وقد يخرج ولا يبلغ زمان العمل لا على طريق الوجوب ـ وهو البلوغ - ولا على طريق الندب وهو ما دون ذلك ويعضد هذا التأويل قوله عليه السلام في الأطفال الله أعلم بما كانوا عاملين ۳ لأن العلماء اختلفوا فيمن يموت قبل بلوغه التكليف على أي قدر كان من السن اختلافاً كثيراً لأن الأحاديث جاءت فيهم على أنواع فمنها قوله عليه السلام فيهم عصفور من عصافير الجنة 4 ثم قال فيهم هم من آبائهم ثم قوله عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وعلى هذه الآثار أكثر أهل السنة لا سيما مع ما في هذا الحديث الذي نحن فيه مما يقوي هذا المعنى وتكون تلك الآثار الآخر على الخصوص في هذين المعنيين فهذا المعنى يزيد تأكيداً لما ذهب إليه أهل الصوفة
جعلنا الله ممن سُعِد وحُمِي وفَهِم وعَمِل وقبل بِمَنْهِ لا ربَّ سِواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 لعل معنى ينظر يُؤخّر أي من يتأخر رزقه فعزاؤه في طريقه وسلوكه الروحي و الفقير عند أهل الله يأتي بمعنى الفقير إلى الله أو بمعنى الصوفي فهو إنسان لا يهمه التقتير عليه ويجد سلوانه في الطريق الذي

أكرمه الله به بالعطاء المعنوي والإيماني

أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك الشر ولم
يعمله إلى آخر الحديث
٢٤٦

حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صليا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشُقّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله ل لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثلُ النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثلُ النجوم بأيهِمُ اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه وهو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا ل وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغيّر الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بِجَرْيِ العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة

٢٤٧

150-
حديث جواز الصلاة في السفينة
عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد رضي الله عنهما صلَّيا في السَّفينة قائمين وقال الحسن تُصَلِّي قائماً ما لم تَشقَّ على أصحابك تدورُ معها وإلا فقاعداً
ظاهر الحديث يدل على أن فعل الصحابة رضي الله عنهم حجّة لأنهم لا يعملون عملاً من الأعمال إلا بالتوقيف من الشارع عليه السلام ولعِلمه بذلك كما أخبره الله تعالى بالفتن التي تكون بينهم رضي الله عنهم اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أصحابك عندي مثل النجوم ۱ فحينئذ أخبر سيدنا بأن قال أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم معناه اقتديتم بي لأنه له هو إمام الهدى فإنهم لا يفعلون ما يخالف سنّته ففعلهم كله قام مقام الإخبار عن سيدنا وكذلك أقوالهم ولذلك قال الحسن رضي الله عنه تصلي قائماً ما لم تشقّ على أصحابك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله ما لم تشقّ على أصحابك ليس المفهوم من قوله تشقّ على أصحابك ما نفهم نحن من التضييق أو ما يغير الخاطر لأنه لو كان على هذا المعنى لأدى ذلك إلى تعطيل الصلاة عند ركوب البحر كما يفعله كثير من الجهّال اليوم وهذا حرام لا يجوز وإنما يكون معنى تشق قد يؤوّلُ قيامك في وقت يكون الهول في البحر والأمواج والرياح العاصفة إلى غرقهم أو زيادة سبب في الهلاك معروف بجزي العادة أو ما أشبه ذلك أو لا يمكن لك القيام إلا أن يؤدي ذلك لكشف حريم على وجه لا يجوز شرعاً ولم تكن دخلت عليه أولاً لأنه لا يجوز أن يدخل إنسان البحر وهو يعلم أنه لا يمكن له توفية ما أمر به من التعبدات على حدّها حتى إنه قد
۱ انظر تخريجه في المقدمة انظر تخريجه في المقدمة
0
٢٤٧

ذكر بعض العلماء أنه إذا علم الشخص من نفسه أنه يميد حتى يَؤول أمره إلى تعطيل الصلاة أو
الخلل بشيء منها أنه لا يجوز له ركوبه وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى
فبهذين النوعين وما يشبههما إذا وقعت ولم تدخل عليها يجوز أن تصلي معها قاعداً إذا لم تقدر على القيام وهو المعني بـ المشقة هنا لأن العلماء لا يطلقون المشقة إلا على ما يكون مشقة شرعية يتعلق من أجلها حكم ما بخلاف أهل الصوفة فإنهم يطلقون المشقة على كل شيء يتغير به الخاطر قل أو جَلَّ الوجه الثاني قوله تدور معها يعني للقبلة حيثما دارت السفينة لأن الرياح تختلف بعض الأوقات على السفن فيكون مثلاً مقدَّمها إلى القبلة ثم تأتي ريح أخرى تديرها شرقاً أو غرباً أو لغير ذلك من النواحي فيكون المصلي في السفينة يدور إلى القبلة في الصلاة الواحدة إن احتاج لذلك مراراً لأنه شغل يسير معفو عنه والقبلة مطلوبة أو جِهَتُها حتماً لأنا معنا العلم بها والقدرة على ذلك ونحن الآن متمكنون من ذلك عارفون بها فلا يسعنا غير ذلك سواء كان المصلي قائماً أو قاعداً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز ركوب البحر فإن العلماء اختلفوا في ركوبه هل هو جائز مطلقاً أو لا يكون إلا للحاج والمجاهد فيه اختلاف بينهم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع ركوبه إلا لحاج أو مجاهد ويقول خَلْقٌ عظيم يركبه خَلْقٌ ضعيف ولولا آية في كتاب الله لكنت أضرب بالدرة من يركبه وركوبه لا يجوز إلا على الوجه المشروع في الحال وفي الزمان أما في الزمان فلا يجوز ركوبه عند ارتجاجه لقوله عليه السلام مَن ركب البحر في ارتجاجه فقد برىء من الذمة ۱
وأما في الأحوال من صفة المركب ووصفه إلى غير ذلك فلا يركب إلا على ما جرت به العادة إن كان ذلك هو المعروف عادة الذي تكون معه السلامة غالباً فإن لم يكن كذلك كان داخله أو
راكبه ممن يُلقي نفسه إلى التهلكة وقد جاء في ذلك ما جاء فهذا الحكم في البحر المعهودِ حِسّاً وأما البحور المعنوية التي ذكرها الناس فالركوب في كل بحر منها يجوز بحسب السنة فيه والبحور المعنوية سبعة بحر الدنيا وبحر الهوى وبحر الشهوات وبحر النفوس وبحر وبحر المعرفة وبحر التوحيد العلم
فبحر الدنيا ساحله الآخرة وركوبه في مركب الأمر والنهي
۱ رواه الإمام أحمد عن بعض أصحاب النبي
وعُدَده أنواع التعبدات
٢٤٨

وأوقات ركوبه عند عدم ارتجاجه وارتجاجه الفتن ولذلك حكمت السنة أن تكون في ذلك الوقت جلساً من أحلاس بيتك أو تكون بأصل شجرة وتفارق جميع الناس حتى يأتيك الموت وأنت على ما أنت عليه ورياحه العزائم فعلى قدر قوة عزيمتك يكون جَري سفينتك ورأسها العقل فعلى قدر عقلك يكون إتقان جريها وملاحوها خواطرك فعلى قدر حسنها تكون سلامتها ومسالكها العلم فعلى قدر علمك يكون حسن تصرفها ووَسَقها بضائع أعمالك فيكون الخلاص من البحر بقدر جودة السفينة وخدامها والربح أو الخسارة بحسب البضائع
وأما بحر الهوى فمَخُوف وممنوع ركوبه بل مهلك فلا يُحتاج إلى تعليله
وأما بحر الشهوات فكثير ارتجاجُه والقدر الذي أبيح منه على لسان العلم فيه من التشويشات هنا وهناك ما يعجز الوصف عن أقلها وهو من الجنس المندوب إليه وهو الجماع ما يترتب عليه من الكد في التكسب على العيال وربما يكون لبعض الناس سبباً لأن يقع في المحرمات من جهة الكسب ويعتذر بأن يقول العيال خلفي يطالبونني بالرزق ولا أقدر على غير هذا الوجه ثم ما يترتب عليه السؤال عنهم فإنهم رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وما فيه من إلزام نفقة البنين حتى يحتلموا من أجل شهوة واحدة إلى غير ذلك إذا تتبعته
ومن أجل الشهوة قال الله الله تَعِسَ عَبْدُ الدّينار تَعِس عَبدُ الدرهم تَعِس عبد الخَمِيصة تعس عبد بطنه تَعِس عَبدُ فَرْجِه ٣ فلولا الشهوة التي حملته على ذلك ما دخل من حرية الطبع إلى رِقّ الشَّهَوات ثم مع ذلك يحجبه عن الوصول إلى مقام الخصوص فإنهم قالوا رضي الله عنهم تَرْك الشهواتِ قَرْعُ الباب وقال العلماء في معنى قوله تعالى ﴿ أَوَلَيْكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقْوَى ٤ قالوا أزال عنها الشهوات ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول إنّي لأطأ النساء وما بي إليهن شهوة فقالوا وَلِمَ ذلك يا أمير المؤمنين قال رجاءَ أن يُخرِجَ الله من ظهري مَن يُكاثرُ به محمَّدٌ الأمم يومَ القيامة
فانظر إلى هذا السيّدِ كيف انقلبت له هذه الشهوة - التي هي أكبر شهواتِ البشر - عبادةً محضة فما بالك بغيرها
۱ الجلس ما يُبْسَط في البيت على الأرض من حُرّ الثياب والمتاع والمراد ملازمة البيت والانعزال عن جميع
الناس
الوَسَق حمل البعير أو العربة أو السفينة
۳ رواه البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه و الخميصة ثوب أسود أو أحمر له أعلام وكأنه كناية
عن بهرجة الثياب والافتتان برونقها وجمالها
٤ سورة الحجرات من الآية ۳
3
٢٤٩

يؤيد هذا قوله جلّ جلاله على لسان نبيّه عليه السلام لا يزال العبد يتقرَّبُ إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمَعُ به وبصَرَه الذي يُبصِرُ به ويَدَه التي يبطش بها ۱ قال العلماء في معناه لم تَبقَ له جارحةً يصرفها إلا بالله والله فذهبت شهواته
وأما بحر النفوس فإنه لا غاية له نعلمها نحن لكن ركوبه من أجل المركوبات لكن إذا كانت السفينة على ما شُرعَ ونُدِب من أن يكون إنشاؤها من عُودِ الإخلاص وملأحوها وجميعُ خدامها من أهل التواضع والافتقار لقوله عليه السلام أوحِيَ إليَّ أن تَواضعوا ولا يفخَرُ بعضكُم على بعض ورياحُها صدقُ اللَّجَاً فإنه عنوان النجاح وبضائع أهلها التقوى فإن الله عزّ وجل يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۳ فإذا رُكِب على هذا الوضع نيل فيه من الربح
والفوائد ما لا يعلمه إلا الله الكريم الوهّاب
وأما بحر العلم فكما تقدم في بحر النفوس إلا أنه لا بد لراكبه من إطالة المقام فيه حتى يقوى بصر بصيرته فيبصر هواه فيرجع له منه قوةٌ في المزاج فحينئذ يبصر ما فيه من الأنوار والعبر والعجائب التي لا يبصرها غيره إلا أنه لا بد له من المُقام بعد إبصار تلك المعاني ليحصل له تهذيب النفس وزيادة في اليقين وقد قال تعلموا اليقين فإنّي أتعلَّمُه ٤
وأما بحر المعرفة فأعظم وأكبرُ وفيه من الفوائد أعظم ممّا في البحر قبله ويُركَب بمثل ما يُركب البحر الذي قبله إلا أنه لا بد أن يُتَزَوَّدَ فيه من ماء بحر العلم لئلا تذهب روحه بشدة حرارة هوائه فأكثر ركابه ما هلكوا إلا من أجل هذا الوجه لأن فيه من الخيرات والدرر والأسرار ما لا يُحد وفيه من المهالك لمن ترك هذا التزوّد بهذا الماء ما لا يوصف وربما قد يكون حاله أولاً من الخصوص ثم ينعكس إلى أخس الأحوال
6
وأما بحر التوحيد فيُركب بمثل ما قدمناه في البحرَينِ المتقدّمَينِ وزيادة على ذلك أنه لا يفارق ببصره شواهق جبال الشريعة الراسخة فإنه مهما قام عليه من هوائه هواء لا يعرفه ولا يكون عنده ما يتقيه به عاد إلى جانب جَبَل ذلك العِلم وإلا غرق ومن أجل ذلك غرق فيه ناس كثيرون وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعاً فإذا رجع إلى ذلك بالعِلْم ورجع عقله إليه تذكَّر فوائد ما رأى وحصل له من اجتماع ذينكَ الهواءين من حسن مزاج جوهر دينه وعرضه ما لا يصفه الواصفون
۱ انظر تخريجه في الحديث رقم ٦
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عياض بن حمار رضي الله
۳ سورة البقرة من الآية ۸
٤ تقدم تخريجه في الوجه الأول من الحديث رقم ٦
3
٢٥٠

بالنوافل
ن بها ۱
لكن إذا ها وجميعُ
ـر بعضكُم
الله عز
فَمَنْ مَنَّ الله عليه بركوب هذه البحار المباركة على الوجه الأحسن ثم رسا على جبال السنة فذلك السيد الذي إذا كان منهم واحد في إقليم رحموا جميعاً ومن ركب منها واحداً على تلك الحالة المرضية فمن راه فقد أقر الله عينه بما يعود عليه من الخير والبر والبركة فكيف به هو ومن ركب واحدا منها على غير الوجه المرضي فالغالب عليه الهلاك ومن راه خيف عليه من الفتنة والشرح في هذا يطول إلا أنه إن شاء الله سأختصر له كتاباً يكون الكلام فيه أبسط من هذا
ونبين مهالكه وكذلك بحول الله كل بحر منها جعلنا الله ممن حماه وعَلَّمَه وأسعده به بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
من الربحِ
فيه حتى الأنوار
ليحصل
بمثل ما
ة حرارة
ار ما لا
أولاً من
أنه لا
يكون
یرون
رأى
مبله دعاية
٢٥١٠
نال

1-
حديث جواز التحرّز من حرّ الحصباء في السجود
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا نصلي مع رسول الله الله فيضَعُ أحدنا طرَفَ الثوب من شدةِ الحَرِّ في مكان السجود
ظاهر الحديث جواز الشغل اليسير في الصلاة من دفع الأذى المشوّش فيها والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الفعل اليسير في الصلاة يكون معفواً عنه وإن لم يكن هناك عذر أو لا
يكون معفوا عنه إلا مع العذر وإن كان خارجاً منها
وهل العذر المنصوص عليه هو هذا العذر ليس إلا أو تَعَدّيه إلى ما يكون في الصلاة ليس إلا وما يكون خارج الصلاة لا يُلتَفَتُ إليه وإن كان عذراً
فالجواب ليس في الحديث ما يدل على ذلك لكن الفقهاء إذا علموا للحكم علة عدوه بتلك العلة حيث وجدوها مثل قوله عليه السلام لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ۱ عَدّوا الحكم حيثما وجدوا مشوّشاً شَوِّشَهُ منع الحكم معه حتى الحقن ۳ والجوع فنرجع هنا إلى بحثنا فإن كانت العلة هنا قلة العمل ليس إلا فعلى هذا يجوز لعذر ولغير
عذر وقد اختلفوا في الشغل اليسير في الصلاة لغير عذر هل يبطلها أم لا على قولين وإن قلنا إن العلة فيه رجاء زوال التشويش في الصلاة فعلى هذا يجوز الشغل في وإن كثر - ما لم يتفاحش فإنه إذا تفاحش خرجت عن أن تكون صلاة ولذلك لم يختلفوا أن الشغل اليسير إذا كان لإصلاحها أنها لا تبطل واختلفوا إذا كثر ولم يتفاحش على قولين ولم يختلفوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث رقم ۱۰
حقن الدم حبسه واحتقن المريض احتبس بوله ومنه قوله عليه السلام لا صلاة لحاقن
٢٥٢

أنها تبطل إذا تفاحش وقد حدّ التفاحش بمثل أن يأكل أو يشرب قدر ما يقارب الشبع ومنهم من فرق بين ما أجير له فعله في الصلاة وبين ما لا يجوز له كما هو منصوص في كتب الفروع
وإن قلنا إن العلة قد تكون لمجموعهما أن يكون عذراً وأن تكون في إصلاح الصلاة وهل يُراعى في الشغل أيضاً الكثرة أو القلة موضع خلاف ما لم يتفاحش أيضاً لكن الذي يعطيه البحث على نص الحديث أنه إذا كان الذي يُفعَل أقل بالنسبة إلى ما هو الخلل الواقع في الصلاة يُفعل وإن كان فعله نقصاً من كمال الصلاة لم يُفعَل ويكون ذلك بِحَسَبِ الأشخاص والأمكنة والأزمنة فرُبَّ شيء يحمله شخص ولا يحمله غيره ورب شيء يوجد عنه بدل وآخر لا بدل منه يؤخذ ذلك من الحديث
الوجه الثاني قوله كنا نصلي مع رسول الله فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ في مكان السجود لأن معهم هنا علتين إحداهما الصلاة خلف رسول الله له و لو لا بدل منها وحرّ الأرض الذي يمنع الخشوع في الصلاة وهو من باب شرط الكمال - على مذهب - ويقابله اتقاء الأرض بفضل الثياب فما يفعلونه بالنسبة لما يفوتهم قليل وعلى هذا التعليل فقس لكن يبقى علينا بحث آخر وهو الشيء المفعول هل لا ۱ نفعله إلا ألا نجد منه بَدَلاً أو
نفعله مع وجود البدل أو هو جائز مع وجود البدل وفعل البدل أولى
الأولى
مثاله أنا نقول لا نتقي بفضل ثيابنا إلا حين لا نجد شيئاً نتقي به الأرض أو هو من باب
فإن نظرنا في الحديث أجزناه مع وجود غيره وفعل غيره يكون الأولى ولا أظنّ أحداً اختلف في أن هذا هو المستحب
وإن نظرنا لما يُعلم من حال الصحابة رضي الله عنهم فهم لم يكن لهم من الدنيا إلا قدر الضرورة وأنهم في الغالب ليس لهم فضل في ثيابهم قلنا لا يجوز مع وجود غيره لكن الحكم للفظ الحديث لا لغيره ولعل هذا الحديث لم يكن إلا من بعدما ظهر الإسلام وكَثُر عندهم الخير
فلا يُترك اللفظ المقطوع به بِشيءٍ محتمل
الوجه الثالث قوله كنا يعطي الجمع لأنهم كانوا الكُلُّ على ذلك فالإخبار عن الجميع
أقعد في الحكم مما يكون عن الواحد الوجه الرابع قوله مع رسول الله الله إخبار هنا أيضاً بالفعل لأنهم كانوا يفعلون مع النبي
1 يريد ألا
٢٥٣

وهو عليه السلام يقول إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم أمامي 1 فإقرارهم على ذلك حكم منه عليه السلام وما كان من تقرير الحكم بالفعل أعظمُ ممّا يكونُ بالقول ويترتب على ذلك من الفقه الاقتداء به الله في الأفعال والأقوال على حد سواء
وهل يكون ذلك في غيره أم لا يكون ذلك حتى يُعلم أن ذلك على لسان العلم لأنه عليه السلام في ذاته معصوم قطعاً وغيره لا تُعْرَف عصمته هذا على لسان العلم
وأما بعض أهل الطريق فيَرَوْن اتباع مشايخهم لأنهم يُحسنون الظن بهم وكذلك وظيفة المبتدي أو العامّي مع العالم لأنهم لا يعرفون لسان العلم فهم أولى لهم أن يتبعوا عالماً من أن
يتبعوا الهوى

وقد أخبرني بعض مشايخي رضي الله عنه أنه كان يخدم شيخه في مرضه الذي مات فيه وأنه كان ابتُلي بسرعة الهِراقة فمشى يوماً إلى بيت الخلاء مسرعاً فلما قضى حاجته ناداني فقال ائتني بالماء فلما خرج قال لي يا بني ! الكلامُ في بيتِ الخلاء لا يجوز وإنما فعلته للضرورة لأني لم أقدر أن أتكلّم لما حفزني الأمر لأنه رحمه الله علم أن الشخص كان ممن
يُقتدى به
ويؤخذ ذلك أيضاً من فعل عمَرَ رضي الله عنه حين أمَرَ بعض أهل البيت وكان قد أحرَمَ في ثوب مصبوغ أمَرَه بَنَزْعِهِ وهو مما يجوز الإحرام فيه لأنه كان مصبوغاً بِمَدر ۳ كما جاء في الحديث لكن لما كان يُشبِه المَزَعْفَرَ والمزعفرُ لا يجوز فيه الإحرام قال له رضي الله عنه إنكم أيها الرَّهْطُ أئِمَّةٌ يَقتَدِي بكمُ الناس فعلله بأنهم يُقتدى بأفعالهم كما يُقتدى بأقوالهم ولذلك قال بعض العلماء إن العالم إذا كان عاملاً اتبع الناس علمه وإذا كان غير عامل اتَّبع الناس فِعله ولم يتَّبعوا عِلمه فلم ينتفع بعلمه لا في نفسه ولا في غيره
ولما دخلت البطالاتُ واتباع الشهوات في بعض العلماء وقع الخلل في العَوَامَ لاقتدائهم بهم
في الأفعال وإن بقي منهم من يعمل - وهو الأقل - أخرجوهم إلى طريقِ التَزهّد والتّشديد
1 لعله مركب من حديثين الأول هل ترون قبلتي ها هنا فوالله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري وقد رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه والثاني إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف فإني أراكم من أمامي ومن خلفي رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أنس رضي الله عنه الهراقة مثل الإراقة وهي بمعنى صب الماء أو البول ولعلها قريبة من معنى الزحار وهو استطلاق البطن ۳ المدر الطين
٢٥٤

ويدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم موت العالم تلمة في الإسلام ۱ فموتُه الحسّي خيرٌ من موته المعنوي فإِنَّ مَوْتَه الحِسِيَّ تَبقَى مآثِرُه وقد يتأسى به النّاس وموتُه المعنوي هو الثَّلْمَةُ الحقيقية لأنه يقطع الناس بعمله السوء عن باب مولاهم فيُخافُ أن يكون الويل له لأن مولانا جلّ جلاله يقول أنا الله لا إله إلا أنا خلقتُ الشر وخلقتُ له أهلاً فالويل لمن خلقته للشر وأجريتُ الشر على يديه فقد فعل هذا بنفسه شرًا وجرّ الناس بالاقتداء به إلى شرّ

ويؤخذ منه جواز ذكر ما يفعله الشخص من أفعال البرّ إذا كان يعلم أنه يُقتدى به أو ما يُوصِل به حكماً أو يحصل به وجها من وجوه الخير
ولذلك قال أهل الصوفة إنه لا يجوز ذكرُ ما يَرِدُ على السادة من الأحوال إلا بين أبناء جنسهم الذين تكون فيهم الأهلية للترقي ولا تجوز بين العوام إلا لضرورة تعيّنَ عليهم فِعْلُها مثلما حكي عن بعضهم أنه كان ماشياً على الساحل فإذا بمركب قد أقبل موسقاً بالخمر لوالي الموضع وكان ظالماً لا يطيقه أحد فطلع للمركب حين أرسى وأخذ بيده عصاً وجعل يكسر كلّ جرَّة وجدها ملأى بالخمر فلم يُطِق أحد أن يقف له فمرَّ كذلك عليها إلى أن بقي له جرة واحدة فتركها ولم يكسرها ورجع فطلعت النواتية إلى الوالي فأخبروه الخبر فتعجب من ذلك كل العجب لكونه جسر على شيئه وتدّى عليه ثم إنه لما تعدى ترك تلك الواحدة فأرسل وراءه فأحضر فقال له ما حملك على ما فعلت فقال فعلتُ ما بَدَا لي فافعل ما بدا لك فقال لم تركتَ الواحدة ولم تكسرها فقال أدركتني أولاً غَيْرَة الإسلام فدَخَلتُ فكسرتُ ما كسرتُ امتثالاً للأمر فلما أن بقيت تلك الواحدة قامت معي النَّفْسُ وقالت أنتَ ممن يُغيّرُ المنكر فخفتُ أن يكونَ كسرها فيه حظ نفس فتركتها فقال الوالي اتركوه يفعل ما بدا له ما بيننا وبين هذا معاملة وإنما فعل ذلك للضرورة التي وقعت له ولا يكون ذلك من باب التزكية وقد نهى عزّ وجلّ عن ذلك بقوله فَلَا تُزَكُوا أَنفُسَكُمْ ۳
الوجه الخامس فيه دليل على جواز أن يكون في الثوب فضلة عن الضرورة ما لم تنته إلى المكروه أو الحرام يؤخذ ذلك من قوله طرف الثوب فلا يكون طرف الثوب يُسجد عليه ويبقى البدن مستوراً إلا وفيه فضلةٌ عن الضرورة لأن الضرورة هي سَترُ العَوْرَتَينِ المثقَلَة والمخفّفة وما عداهما مباح وبعضه مستحب فيحتاج إذاً لمعرفة المندوب من اللباس والمباح والحرام
۱ جزء من حديث أخرجه البزار عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نعرف مصدره ۳ سورة النجم من الآية ٣٢
٢٥٥

فأما الحرام فهو مِثلُ لُبس الحرير للذكور وكذلك اللبس للفخر والخيلاء لتحريمه ذلك
ومن
وما كان من الإزار أو الثوب تحت الكعبين لقوله ما تحت الكعبين ففي النار ۱ لبس ثوباً ليشتهر به لقوله مَن لَبِس ثوب شُهرة البَسَه الله يومَ القيامة ثوبَ ذلُّ وصَغار ثم أشعَلَه عليه ناراً وكل ما يشبه ذلك وأما المكروه فمثل تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء والتشبه بالأعاجم للنهي عنه ومثله العمائم التي ليست بذؤابة لأنه قيل إنها عمائم قوم لوط وقيل عمائم الشياطين ذكره ابن رشد ۳ في مقدماته وغيره من العلماء
والمندوب مثل ثوب العيد والجمعة لقوله له ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته 4 وما أشبه ذلك
والمباح ما اتخذه الإنسان لترفه أو للتجمّل بالقصد الحسَن بغير وجه محذور شرعاً وما في معناهما
ويؤخذ منه أن الوجه أعلى الحواس يؤخذ ذلك من قوله في موضع السجود لأنه موضع الوجه وهو أعلى الآراب التي قال أُمرت أن أسجد على سبعة آراب الوجه واليدين والركبتين وأطراف الأصابعه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

33
رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة والنسائي عن أبي هريرة والإمام أحمد والطبراني عن سمرة بن جندب
رضي الله عنهم بلفظ اخر
لعله معنى لحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ ابن رشد محمد بن أحمد بن رشد ابو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة من أعيان المالكية وهو جد ابن رشد الفيلسوف له تأليف منها المقدمات الممهدات - في الأحكام الشرعية والبيان والتحصيل - في الفقه - والفتاوى واختصار المبسوطة توفي بقرطبة سنة ٥٢٠هـ/ ١١٢٦م
٤ أورده الهيثمي في موارد الظمآن / ٥٦٨/ وابن خزيمة في صحيحه برقم / ١٧٦٥/ ٥ الآراب جمع إرب العضو رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما
٢٥٦

عن
حديث كراهة النخامة في المسجد
أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي الله رأى نُخامة ۱ في القِبلة فحَكَّها بيده ورُيْيَ منه كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُني كراهيته لذلك وشِدَّتُه عليه وقال إنَّ أحدكم إذا قام يصلّي فإنّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة فلا يَبْرُقَنَّ في قِبْلَتِه ولكن عن يساره أو تحتَ قَدَمِه ثم أخذ طرف ردائه فبَزَقَ فيه ورَدَّ بعضَهُ على بعض وقال أو يَفْعَلُ هكذا
ظاهر الحديث كراهية النُّخامة في القبلة للمصلّي وجوازها تحتَ القَدَم وعن اليسار وفي طَرَف الرداء وحكها فيه والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول رؤيته عليه السلام النُّخامةَ في القِبلة فيه دليل على أنه عليه السلام عند دخوله المسجد كان يتصفّحه بالنَّظرِ يميناً وشمالاً وأماماً ولولا ذلك لما كان يراها ولو كان
مشغولاً بما هو فيه من الحضور والترقي لما رآها
وفيه من الفقه أن نَظَرَهُ عليه السلام المسجد على طريق التعظيم له لكونه منسوباً إلى

المولى الجليل ومحبوساً على عبادته وهو أيضاً مما تحت إيالته وهو يُسأل عنه فإن كلَّ ما يكون الشخص يتصرف فيه من مال أو أهل أو وجه من وجوه التصرفات كانت المنفعة في ذلك تعود عليه أو ذلك مما تُعبّد به أعني أنه هو الذي ينظر فيه عن طريق ما كُلّفه والمنفعة فيه عامة مثل وجوب النظر على الإمام في شأن المساجد والطرقات وما أشبه ذلك والمنفعة فيها عامة وقد قال الله عزّ وجلّ في شأن المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ۳ قال العلماء رفْعُها صِيانَتُها
۱ النخامة ما يلفظه الإنسان من البلغم إيالته إشرافه أو ولايته من آل على القوم إيالة وَلِيَهُمْ
۳ سورة النور من الآية ٣٦
٢٥٧

ورفعها وصيانتها يوجب النظر لها والتأمل لئلا يلحقها خلل وسيدنا المشرع لذلك فهو
أحرَصُ الناس على ذلك فظهر ما وجهناه
ويزيد ذلك تحضيضاً قوله صلى الله عليه وسلم عُرِضَتْ عَلَيَّ أجورُ أمتي حتى القَذَاةُ يُخرِجُها الرجلُ من المسجد وهذا مما يحرّض على النظر إليه والاهتمام به فإنه لا يرى ذلك المقدار إلا بنظر
وتأمل
ويترتب على هذا من الفقه أن الإمام إذا دخل المسجد يلتفت إليه بنية الاهتمام به وكراهة أن يَحدُث فيه حَدَةٌ فيكون الإمام مأجوراً على ذلك أو أن يلقى به أذى فيزيله الإمام فهي نيّة خير ومن نوى نية خير كان عليها مأجوراً فكيف إذا كان ذلك موافقاً لفعله
وهل يكون ذلك مطلوباً لرب المنزل لكونه مسترعى عليه فبالعِلّة التي عللنا أولاً يكون ذلك لأن الباب واحد لكن في المساجد اكد لتعظيمها فإنها من الشعائر وتعظيم الشعائر من التقوى بمقتضى الكتاب ولا يكون تعظيمها لما يعظم أهل الكتاب كنائسهم وَبِيَعَهم بالبناء والزخرفة فقد جاء نهيه عن ذلك وجعله من شروط الساعة وقد ظهر في زماننا ذلك يزخرفونها في المباني والكسوات ثم يَرِدُونَها للحكايات والأكل واللغط والبيع والشراء وهذا بضد ما كان عليه والخلفاء بعده والسادة بعدهم
وهنا بحث هل يجوز إذا كانت في الجدار الذي ليس في القبلة وهل يجوز لغير المصلي وإن كانت ليست في جداره فالجواب عن الأول إن جعلنا التعليل الذي الله ل في القبلة بأن قال إنه يناجي ربه أنها العلة في الكراهة فهو يقتضي الجواز في غير القبلة
وإن قلنا إن العلة ما جعل الله عزّ وجلّ للبيوت التي نسبها إلى نفسه من التعظيم وهذا معروف من الكتاب والسنة والإجماع - فيكون ما علله عليه السلام للقبلة زيادة في الاحترام وهو الأظهر يؤيد ما قلناه قوله عليه السلام النخامة في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنُها وهذا عام في جميع أجزاء المساجد كلها من حائط وأرض وغيرهما وهو الجواب في المسألتين المتقدمتين ولهذا المعنى لما رأى بعض المباركين شخصاً يبصق في المسجد فقال له لا تأثم فجاوبه الفاعل كفارتُها دفنُها فقال له رضي الله عنه أنا أنهاك عن المعصية وأنت تجاوبني ترك الذنب خير من طلب المغفرة بالكفّارة

جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه والقذاة ما يقع في العين أو الشراب أي من الوسخ الدقيق
رواه مسلم بلفظ البزاق في المسجد عن أنس رضي الله عنه
٢٥٨

رجل من
إلا بنظر
راهة أن
لهي تية
يكون
تر من
بالبناء لك بضد
سلي
مان
ـذا
و
دـ
وقد رأيت بعض العلماء الذين يُقتدى بهم في العلم والفتوى يكره أن يبصق في مكان كان بقرب المسجد ولم يكن ذلك من رحاب المسجد ولا فنائه وكان هو قاعدا في اخره لكونه يبتدىء البصاق في المسجد وإن كانت تلك النّخامة لا تقع فيه خيفة من ذلك الشيء اليسير الذي لا ينفك يخرج معها غالباً مثل رؤوس الإبر وقد تقع في المسجد ولا تصل حيث تصل النخامة فأعجبني ذلك الاحترام منه وفي الحديث الذي أوردناه شاهد على المنع
وهنا بحث وهو لم قال دفنها ولم يقل تغطيتها فالجواب عنه لو قال تغطيتها لكان
الضرر ببقائها أكثر بدليل أنه إذا غطاها وخرج جاء غيره فربّما قعد على موضعها أو سجد عليها فيلحقه منها بلل في ثوبه وكذلك في وجهه وأكثر الناس لا يحتمل ذلك وربما يكون ذلك سبباً أن يقع له كراهية في المسجد وقد يتخلف عنه وقد جاء أن الذي قلبه متعلق بالمساجد من السبعة الذين يظلهم الله تحت عرشه يوم القيامة وكيف تكون حال من تقع له فيها كراهية يخاف عليه
وفيه علة أخرى ربما في أيام الحر إذا كثرت قد يتولد منها رائحة إذا كانت مغطاة تغطية يسيرة يتأذى بها وقد نُهينا أن ندخل المسجد برائحة قذرة وربما يجتمع لتلك الرائحة الذباب واجتماعه مما يتأذى منه فيتضاعف الضرر بذلك أكثر مما كان أولاً وقد تكبر من أجل ذلك الخطيئة وصاحبها لا يشعر وإذا كان الدفن فلا يقع بها هذا الضرر لأن الدفن قد علم بالعرف أنه التعمق في باطن الأرض وإكثار التراب على الشيء المدفون فإن بإكثار التراب على الشيء المدفون تندفع مادة أذيته ويكون كثرة التراب عليه بحسبه من كبر جرمه أو سيلانه فإذا كثر عليه التراب انقطعت مادة الرائحة ومادة البلل الذي يكون فيه وغير ذلك من المستقذرات ويبقى وجه الأرض على حاله من الحسن والطهارة
فلهذه العلة - والله أعلم - أخبر بـ دفنها ولم يقل بـ تغطيتها وهذا الدفن إذا كان المسجد تراباً رخواً أو رملاً فأما إن كان أرضاً صلبة أو مبلطاً أو مفروشاً بالحصى فممنوع لعدم
التكفير وهو الدفن
الوجه الثاني قوله فحكها بيده فيه من الفقه وجوه منها الدليل على تواضعه عليه السلام الله سبحانه ومنها أنه أكبر في النهي وأبلغ في احترام المساجد
ومنها أن الفاعل للبر لا ينبغي أن يزهد في شيء منه لأنه إذا كان إخراجه مثل القذاة يكون مأجوراً فيه فكيف بمثل هذه ومثل هذا ما ذكر عن بعض الصحابة أن ابناً وأباه اقترعا على من يخرج مع سيدنا منهما في بعض غزواته فخرجت قرعة الابن فقال له الأب ايزني بها يا بني فقال له الجنّة هذه يا أبتاه لا أوثرك بها فخرج فاستشهد بين يدي رسول الله
٢٥٩

ومنها أيضاً الحثّ على تكسب الحسنات وإن كان صاحبها مَلِيّاً منها وقد قال مولانا جل جلاله ﴿ وَلَا تَمْتُن تَستَكير ۱ قال بعض العلماء في معناه أي عن الخير وتقول معي
ما يكفيني والخطاب له عليه السلام والمراد أمته
الوجه الثالث قوله وَرُني منه كراهية أو رئي كراهيته لذلك هذا شك من الراوي لما رأى من قرائن الأحوال التي تدل على أحد المحتمَلات أو تنبيه منه على مجموعها لأنه احتمل الأمر ثلاثة وجوه ويترتب على كل وجه منها وجه من الفقه والوجوه أحدها أن يكون وجد هو الكراهية لذلك فرئيت في وجهه ويترتب على ذلك من الفقه أن المؤمن إذا رأى مكروهاً تغير لذلك ويكون تغيره بقدر إيمانه فلمّا كان سيدنا و أكثر الناس إيماناً تغير من ذلك المكروه حتى رئي في وجهه
وهنا بحث هل كان ذلك التغير لما انتهك من حرمة القبلة كما علله عليه السلام أو لما يترتب على فاعله من الإثم وكان هو و قد طبع على الرّحمة للعالمين كافة لقول الله عزّ وجلّ فَلَا نَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَتٍ فكيف على المؤمنين أو على مجموعهما۳ ﴿
وهو الأظهر
ومثل ذلك ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ
من المؤمنين واكدها ما يكون في الدين لأنها الخسارة العظمى فكيف بمجموعهما ٤ وفي مثل هذه الصفات المباركة فاق أهل الصوفة غيرهم يروى من مثل هذا أن بعضهم كان له شريك في بعض الأشياء فطلبه يوماً فقيل له إنه على مخالفة فقال هكذا يكون وأنا حي فتوضأ ودخل الخلوة وعهد أنه لا يخرج حتى يشفعه الله فيه فلما فرغ ذلك الشريك من مخالفته قيل له إن شريكك يطلبك فأتاه فقيل له إنه دخل الخلوة من أجلك وما كنت عليه فقال لهم قولوا له يخرج فوالله ما أعود لها وتاب وحسنت حالته
واحتمل أن يكون أظهر الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من إعلام الدين فيلزم على ذلك إظهار الكراهية عند رؤية شيء من المكروهات وهي السنّة
۱ سورة المدثر الآية ٦ سورة فاطر من الآية ۸
۳ الضمير يعود على ما انتهك من حرمة القبلة وعلى ما يترتب على فاعله من الإثم
٤ الضمير يعود على ما ينبغي للمؤمنين أن يتغيروا عند انتهاك حرم الله وعند النوائب التي تطرأ على أحدٍ من
المؤمنين
٢٦٠

ولانا جل
ـقـول معي
ي لما رأى تمل الأمر
هو
روهاً تغير
المكروه
أو لما
الله عز

ـهما ٣
ـلى أحدٍ
ـهم كـ
كان
نا حتي
خالفته
فيلزم
حد من
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أنه وجد الكراهية بوضع الطبع المبارك وتعمد الزيادة فيها ليقتدي
به مَن وَجَدَها ومن لم يجدها وهو أظهر الوجوه
ويترتب على ذلك من الفقه أن وجود الكراهية لذلك من أجل قوة الزجر وأن ذلك من علامة الدين والإيمان وقد نص الله على ذلك في الحديث في تغيير المنكر فقال عند عدم الاستطاعة فَمَنْ لم يستطع فبقليه وذلك أضعَفُ الإيمان ۱ وتكون الزيادة فيه سنة واقتداء به ولأجل هذا أشار الراوي كما تقدم
وقوله وشدته عليه هذا الضمير يعود على الفاعل لها أو على فعل المكروه نفسه
الوجه الرابع قوله إذا قام يصلّي فإنَّما يناجي ربَّه أو ربُّه بينه وبين القبلة الشك هنا من الراوي فعلى القول بالمناجاة فما هي هنا لأن المناجاة لغةً كلامُ سَرِ بين اثنين فصاعداً وهنا المتكلم واحد فكيف تكون المناجاة وقد بيّن هذا المعنى بعض السادة المتبعين على لسان العلم والسنة فقيل له كيف حالك فقال بخير أنا بين أمرين في العبادة فتارة أناجي مولاي بدعائي وتسبيحي وتارة يناجيني بتلاوتي كتابه فأنا القارىء وهو المخاطِبُ لي
الوجه الخامس قوله صلى الله عليه وسلم فإنما يناجي ربه فيه دليل لأهل السنّة الذين يقولون إن القرآن كلام الله وإن القراءة كلام القارىء والمتْلُو كلام الله والصفة لا تفارق الموصوف فعلى هذا تكون الصلاة مناجاة حقيقةً فإنها مشتملة على قراءة وتسبيح ودعاء فالتسبيح والدعاء من العبد إلى الرب والقراءة من الرب إلى العبد المنيا التعليله ولهذا المعنى يقول أهل الصفاء والأحوال المباركة إنهم إذا تلوا بالحضور خرجوا بقوة اليقين والتصديق عن حركات الحروف وسمعوا بغير واسطة وهذا لا يعرفه إلا أهل الذوق الذين سلكوا على حدود السنّة وقليل ما هم
الوجه السادس هو قوله عليه السلام ربّه بينه وبين القبلة فهذا دليل على أن دعوى أهل التجسيم والحلول باطلة وأن الحلول والتحيّز في حقه تعالى مستحيل فإنه لو كان جلّ جلاله كما زعموا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً - بالحلول على العرش فكيف يكون هناك ويكون بين المصلي وبين قبلته وكم من المصلين في الزمن الفرد في أقطار الأرض مختلفين متباينين من جهتين من جهة التباعد وجهة تضاد الأقطار فيلزم على ذلك تعداده أو تجزؤه وهذا محال بالإجماع منا ومنهم فلم يبق إلا التأويل فكما نتأول هنا نتأول في غيره من الآثار والآي
۱ جزء من حديث رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
٢٦١

فنرجع الآن لما فيه من الفائدة - أعني في هذا اللفظ - وهو قوله بينه وبين القبلة هذه الكناية تنبىء عن قُربِ خير المولى إلى المصلي وعظم إحاطته به لأنه إذا كان بينه وبين القبلة لم يغب عنه من حركاته ولا سكناته شيء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ ۱ كناية أيضاً على أن إحاطته بالأشياء جلّ جلاله جزئياتها وكلياتها على قرب أو بعد أو سرّ أو علانية على اختلاف العوالم على حد واحد لا يغيب عنه سبحانه منها شيء

الوجه السابع فيه من الحكمة أن العبادة لمّا كانت من محدث متحيز والمعبود غير متحيّز ولا محدث ـ فلا يمكن للمتحيّز الفاني التساوي ولا القرب من الجليل القديم غير المتحيز وهو الغني عن عبادة العابدين وهم المحتاجون إليه وإلى خدمته - أقام لهم أعلاماً للتعبد محدثةً من جنسهم ونسبها إلى ذاته الجليلة تشريفاً ورفعة لها ولعباده وقبل ذلك منهم ورضي به عنهم ولذلك قال تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ اللهِ ٢ وذلك لما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وقد كان مات ناس ممن صلوا إلى بيت المقدس ولم يلحقوا الصلاة إلى بيت الله الحرام فشق ذلك على أهلهم لما غلب على ظنونهم من أن الجدار هو المقصود فأنزل الله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا الله معناه حيثما قصدتموه بالتعبد والامتثال وجدتموه يتفضل عليكم ويتقبل
أعمالكم ويحسن الجزاء عليها
فلما نسبت تلك الجهة إليه عزّ وجلّ وجب بمقتضى الحكمة أو ندب أن تحترم أشدّ الحرمة من أجل ما أضيفت إليه ولذلك قال بعض المحبين
وما حُبُّ الدّيار شَغَفْنَ قَلبي ولكن حُبُّ مَن سَكَن الدّيارا ٣
فحب مخلوق لمخلوق من أجل حلول محبوبه في تلك الديار عظم الديار فأهل التحقيق من أجل الإضافة الشريفة عظموا كل علم من أعلام تلك الإضافة العلية ولذلك كان أهل المعاملات يتنعمون بأنواع العبادات كما يتنعم أهل الدنيا بالشهوات فلما كان المسجد من أجل الحرمة التشريفية وقعت الكراهية والمنع ولو كان غير ذلك لكان الحد الضرب أو القتل
1 سورة ق من الآية ١٦ سورة البقرة من الآية ١١٥
۳ هذا البيت منسوب إلى قيس بن المُلوّح العامري المشهور بـ مجنون ليلى وقبله
أمر على الديار ديار ليلى
وقال القدماء هما بيتان لا ثالث لهما انظر الخزانة للبغدادي ١٦٩/٢ وتزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق أقبل ذا الجدار وذا الجدارا للأنطاكي ص ۱۷ وديون الصبابة لابن أبي حجلة التلمساني ص ١٦ وديوان مجنون ليلى - جمع وتحقيق عبد السلام أحمد فراج ص ۱۷۰
٢٦٢

ـده
ية
6
وهذا المعنى أيضاً تأكيد للحجة التي أوردنا قبل على أهل التحييز والحلول تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً
الوجه الثامن قوله عن يساره فيه دليل على أن حرمة اليمين مستصحبة في كل الوجوه الوجه التاسع قوله أو تحت قدمه فيه أيضاً دليل على ترفيع اليد على القدم إذ لم يقل أو
في يده
الوجه العاشر قوله ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه وردّ بعضه على بعض وقال أو يفعل هكذا فيه وجوه من الفقه منها الدليل على طهارة النخامة لكونه عليه السلام جعلها في ردائه وأمر المصلي أن يفعله وإنما منعها من القبلة لأنها مما يُستقذَر وليس يلزم أن كل ما
يُستَقْذَر نَجِسٌ
الوجه الحادي عشر فيه رَدّ على الذين يقولون إن كل ما تستقذره النفس حرام واحتجوا
1,
بقوله تعالى وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَيْتَ ۱ وهذا حجة عليهم وفيه التسوية بين الثلاثة وجوه المذكورة لأنه خُيْرَ فيها إلا إذا كانت الاثنتان بتلك الشروط المذكورة قبل وإلا فلم يبق إلا طرف الرداء ليس إلا
وهنا بحث هل يفعل ذلك أعني جَعلها في الرداء دون طيّ عليها وحك لها فنقول لا ينبغي ذلك لوجهين أحدهما وهو كافٍ فعله عليه السلام ذلك فإنه جاء على وجه التعليم ووجه آخر أنه إذا لم يفعل ذلك جاء البحث فيه كالبحث في الدفن سواء بل هذا أشد لأنه يلحق الشخص منه مُثلَةٌ في زيّه وهي ممنوعة ويستقذره من يراه وقد يتأذى به وإذا فعل كما فعله عليه السلام لم يبق لها أثر وكانت مثل الدفن سواء فذهب أثرها
وهل يكون ذلك في الرداء ليس إلا فالجواب لا فرق بين الرداء وغيره من الثياب وليس أيضاً كل الناس يجد الرداء والفائدة إذا فعلت في أي الثياب فقد حصلت
وهنا بحث لم فعل عليه السلام هذا بردائه وقال أو يفعل هكذا ولم يقله دون فعل فالجواب أنه فعل ذلك ليبين كيفية الفعل لأن التعليم بالفعل والمثال أبلغ من القول وَحْدَه ويترتب على ذلك من الفقه حسن المبالغة في التعليم وهو من السنة
ولوجه آخر وهو أنه لو قاله عليه السلام ولم يفعله لكان بعض الناس يعاف ذلك أو يعيبه
1 سورة الأعراف من الآية ١٥٧
٢٦٣

ففعله عليه السلام ذلك يذهِب هاتين العلتين ويترتب على ذلك من الفقه أن التقبيح والتحسين إنما هو بالشرع لا بالعقل
الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن رمي النخامة خير من بلعها يؤخذ ذلك من أمره عليه
السلام برميها على أحد تلك الثلاثة الوجوه ولو كان بلعها أحسن لقال أو يبلعها لكن بقي هنا بحث آخر هل يكون بلعها ممنوعاً أو مكروهاً فإن قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده وإن النهي يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها حراماً ويكون فيه حجة لمن يقول إنها تفطر الصائم وإن قلنا إنّ النّهي لا يعود على فساد المنهي عنه فيكون بلعها مكروهاً وهل يكون بلعها مفسداً للصوم أم لا يقتضي الخلاف
والله الموفق للصواب
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٢٦٤

-٧-
حديث حبه صلى الله عليه وسلّم التَّيَمُّن
عَن عائشةَ رضي الله عنها قالت كانَ النبي يحبّ التيمن ما استطاع في شأنه كُلَّه في طهوره وترجُله وتنقله
*
ظاهر الحديث حبّ النبيُّ لا الله اليمن في شأنه كله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قولها كان فيه دليل على أن إخبارها بهذا الحديث كان بعد وفاته الوجه الثاني فيه دليل على أن عدم الاستطاعة عذر في ترك المستحبّ وكذلك في الفرائض فإذا كان في الفرائض فمن باب أولى
وهنا بحث فإذا كان الأمر معلوماً في الفرائض هكذا فلم ذكرت هذا في المستحبّ فالجواب أن إخبارها باستحباب ذلك في كل الوجوه حتى توفي عليه السلام إنما هو تأكيد في فعل المستحبّ لأنه لا يمنعه منه إلا ما يمنعه من الفرض لأن الدِّينَ مطلوبٌ فَرْضُه ونفله وندبه على حد سواء كلّ منه على جهته وأنه لا يترك ذلك اختياراً وهو أصل كبير في الفقه وقد تقدم مثله الوجه الثالث قولها في شأنه هذا أمر مجمل ثم ذكرت ثلاثة وجوه فما الفائدة في ذلك فالجواب هو أنها لما ذكرت الشأن وهو أمر مجمل - كما ذكرنا - فلو سكتت واكتفت بذلك لاختلفت التقديرات فيه فلما أتت رضي الله عنها بذكر تلك الثلاثة كان فيه دليل على فقهها الوجه الرابع فيه زوال الإلباس لأنها ذكرت الطُّهور وهو أعلى المفروضات لأنه عليه السلام قال فيه إنه شَطْرُ الإيمان ۱ وذكرت الترجُل وهو أَكَدُ السُّنَن وذكرت التنقل وهو
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن مالك الأشعري رضي الله عنه بلفظ الطهور شطر الإيمان الترجل المشي على الأقدام أو النزول عن الدّابة

٢٦٥

من أرفع المباحات فبينت أنه لا الله وكان على ذلك الشأن في جميع المفروضات والمستحبّات والمباحات فحصرت أفعاله عليه السلام في كل الأشياء
ويترتب عليه من الفقه أن من الأحسن في الإخبار والتعليم الإجمال أولاً من أجل الحفظ ثم التفصيل بَعْدُ من أجل التفهيم
وهنا بحث في قولها كان يحب لِمَ عبّرت بهذا وما الحكمة في حبه فالجواب عن كونها عبرت بذلك لأنها تشعر أن ذلك ليس مِمّا أَمَرَ به من أجل ألا يعتقد أحدٌ أنها مِمَّا فُرِض واحتمل أن تكون مما سَنَّ فأزالت بقولها يحبّ كل الاحتمالات
وأما ما الحكمة في كونه الله يحبه فإنما كان ذلك إيثاراً لما آثره الحكيم بحكمته والله أعلم وذلك لما رأى عليه السلام ما فضَّل الله اليمين وأهله وما أثنى عليهم فأحبَّ هو عليه السلام ما أثره العليم الحكيم فيكون من باب التناهي في تعظيم الشعائر حتى يجد ذلك وُلُوعاً في فؤاده المبارك فيكون ذلك دالاً على قوة الإيمان
فمن وجد حباً لذلك كما وجده فليشكر الله على ما منحه من ذلك وإن لم يجد فيتَّبِعُ ويستعمل أسبابه ويتشبه بالمحبين ولذلك قال بعض الحكماء إن التشبه بالكرام فلاح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى شخصاً قرأ سجدة كهيعص وسجد فقال له هذا هو السجود فأين البكاء إذا لم تبكوا فتباكوا
الوجه الخامس يترتب على ذلك من الفقه أن التشبه بأهل الخير من الخير إذا كان حباً فيهم من أجل الله عزّ وجلّ وأن التشبه بأهل الشر من الشرّ

يعضد ذلك ما نَهَى عنه الا الله من التشبه بأهل الكتاب وقد وَرَد عنه عليه السلام من تشبه بقوم فهو منهم 1
مَنَّ الله علينا بأحوالهم حالاً ومقالاً
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان
رضي الله عنهما
٢٦٦

حديث المسافر إذا قدم من سفره يبدأ بالمسجد
عن كعب بن مالك رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا قَدِمَ من سَفَرٍ بَدَأ بالمسجِدِ

فصَلَّى فيه
ظاهر الحديث أن من السنَّة إذا قَدِم المسافر من سَفَرٍ أن يبدأ بالمسجد قبلَ منزله والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل هذا في كل وقت أو في بعض الأوقات فالجواب أنه إذا كان في الأوقات المنهي عنها التي لا يمكن الصلاة فيها فلا يستحبّ إذ ذاك دخوله للبلد من أجل عدم الصلاة التي من أجلها تؤتى المساجد لأنه إن كان المسافر في سفره على السنّة فلا يكون دخول المصر الذي فيه منزله إلا في وقت يجوز له فيه الصلاة لأن النبي لم يكن يدخل المدينة إذا قدم من سفره إلاّ ضحوة النهار ۱ وكان ينهى أن يأتي أحد أهله طروق ٢ - أي ليلاً - وكان أيضاً إذا خرج ركع
في المسجد وحينئذ يخرج وهل ذلك تعبُّد أو معقول المعنى فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فالجواب - والله أعلم - أنه على طريق التبرك وإظهار الافتقار لا لأنه كان إذا خرج إلى السفر يقول أنتَ الصاحب في السَّفَر والخليفةُ في الأهلِ والمالِ ۳ وسفره عليه السلام لم يكن إلا في جهادٍ أو حجّ وإذا رجع قال ايبون تائبون عابدون لربنا حامدون صَدَقَ الله وعده ونَصَر عَبْدَه وهَزَمَ الأحزاب وحده ٤ وإعلانه عليه السلام بالقول عند الخروج والدخول إظهار
۱ رواه ابن جرير عن كعب بن مالك رضي الله عنه رواه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه الإمام مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ۳ رواه الترمذي عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه ٤ رواه مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

٢٦٧

للتعلق بالله واللَّجا والتبرؤ إلى الله في الأفعال والأقوال كذلك تفضيله عليه السلام بيتَ ربَّه على سائر الأماكن فيكون الحالُ مثل المقال
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه أن المؤمن ينبغي أن يكون فعله يُصَدِّق قولَه وقد ذم الله سبحانه المؤمنين الذين ليسوا كذلك بقوله يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۱
الوجه الثالث فيه دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بأفعاله عليه السلام كما يقتدون بأقواله يؤخذ ذلك من إخبار هذا السيّد بذلك فلو لم يكن كذلك لما كان لإخباره بذلك فائدة ولا كان لروايته أيضاً فائدة
وقد اختلف العلماء في أفعاله الله هل تُحمل على الوجوب أو على الندب أو على التوقف حتى يدل الدليل على أحد الوجهين ولم يقل أحد بترك الاقتداء به فيها وترك العمل بها الوجه الرابع في الحديث دليل على التبرك بكل ما جعلت له حرمة وترفع إلا أنه يكون ذلك على لسان العلم فيؤخذ وجه التبرك من كون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ بالمسجد تبركاً فكذلك كلّ ما جَعَل الله فيه وجهاً ما من الخير والدليل على أن ذلك يكون على لسان العلم أنه لم يفعل فيه إلا الصلاة التي من أجلها رُفِعَ فكذلك يلزم في غيره ألا يكون تعظيمه والتبرك به إلا على
الوجه المشروع ولهذا المعنى كان أهل الصوفة أكثر الناس احتراماً لما جعل له حرمة وأن يكون ذلك الاحترام على لسان العلم - كما تقدّم - حتى إنه يذكر عن بعض الأكابر ۳ منهم أنه دخل المسجد فنسي وقدم رجله اليسرى فوقع مغشياً عليه لشدّة الحياء من الله لكونه وقعت منه مخالفة للسنة في دخول بيت ربه لأن السنة في دخول المسجد تقديم الرّجل اليمنى وقد قال العلماء من نسي فقدم اليسرى أُخْرِجَ ليدخل باليمنى وهو معذور بالنسيان فانظر إلى احترام هذا السيد كيف كان وهو فيما وقع منه معذور على لسان العلم فناهيك في غيره
وفقنا الله لما مَنَّ به عليهم وأسعدنا به بمنّه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة الصف الآية ٢
رُفع بُني وأنشيء ومنه قوله تعالى و في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُقِ والأصال رجال لا تلهيهِمْ نِعَرَةٌ ولا بيع مَن ذِكْرِ اللهِ سورة النور ٣٦ - ٣٧
۳ يريد به الشيخ الجليل أبا علي بن السماط كما بين ذلك ابن الحاج في كتابه المدخل ١٨٤/٣
٢٦٨

حديث صلاة الملائكة على المصلي ما دام في مصلاه

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنَّ الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدِث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحَمْهُ
ظاهر الحديث دوام صلاة الملائكة على المصلّي ما دام في مصلاه الذي صلّى فيه وتستغفر له وتترحم عليه والكلام عليه من وجوه
من حيث
الوجه الأول هل هذا على عمومه في كل مصلِّ كانت صلاته تامة أو غير تامة فإن نظرنا اللغةُ قلنا لكل مصل وليس بالقوي وإن نظرنا من جهة الشرع لماذا جعلت الصلاة وما هي الصلاة التي سماها الشارع و لا صلاة فإنه قد قال للذي لم يتم ركوعه ولا سجوده في الصلاة ارجع فَصَلَّ فإنك لم تُصَلَّ ۱ فجعله مُصلّياً لغةً ولم يجعله مصلّياً شرعاً وقال عليه السلام فيها إذا كانت الصلاة غير مقبولة طويت كالثوب الخَلَق وضرب بها وجه صاحبها وقال عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ۳
له
فمن لم يصل شرعاً وضُرب بصلاته وجهه ولم يزدد من الله إلا بعداً كيف تدعو الملائكة أو تستغفر له هذا محال شرعاً وعقلاً فمن جهة الشرع قوله تعالى أَوْلَتَيكَ يَلْعَمُهُمُ اللهُ عَهُمُ العِنُونَ ٤ فمن كان الله يلعنه واللاعنون كيف يُستغفر له ومن جهة العقل فمن
۱ رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه مروي بالمعنى لجزء من حديث أخرجه أبو داود والطيالسي والبيهقي في الشعب عن عبادة بن الصامت رضي الله
عنه والخَلق البالي
۳ رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤ سورة البقرة من الآية ١٥٩
٢٦٩

يقتضي
عليه السـ
في
عمله العقاب كيف يكون له دعوة من الملائكة أو استغفار فيكون قوله عليه مصلاه الذي صلّى فيه في حق المصلّي للصلاة الشرعية المثاب عليها لا التي تلعنه وبقي هنا بحث هل من قبل منه بعض صلاته ولم يقبل البعض هل يتناوله ذلك الخير أم لا فالظاهر - والله أعلم - أنه يُرجى له ذلك بدليل أنه يوم القيامة تُكمّل له صلاته من نافلته فهذا من أثر ذلك الدعاء لأنه عزّ وجلّ تفضَّل عليه وقبل مكانَ ما نَقَصَه من الفرض نفلاً يؤخذ ذلك من قولهم اللهم اغفِرْ له لأنه لا تكون المغفرة إلا لخلل وقع ومن صيغة قولهم اللهم ارحمه دل على أن هناك عملا يوجب الرحمة
الوجه الثاني فيه دليل على فضيلة الصلاة على غيرها يؤخذ ذلك من كون الملائكة تبقى تستغفر له بعد فراغه منها وإن كان في شغل آخر ما دام في موضع إيقاعها فيه ولم يأت مثل ذلك
في غيرها من العبادات
الوجه الثالث فيه دليل لمن يُفضّل الصالحين من بني آدمَ على الملائكة لأنهم يكونون في
أشغالهم والملائكة تستغفر لهم
وهنا بحث في قوله في مُصَلاهُ هل يعني به الموضعَ الذي أوقع فيه الصلاة الذي هو موضع سجوده وقيامه أو البيت أو المنزل الذي جعله لمُصَلاه فالجمهور على أنه موضع سجوده وقيامه وقال بعضهم - وأظنه القاضي عياض ۱ ـ إنه البيت الذي اتخذه مسجداً لصلاته وإن لم يجلس في الموضع الذي أَوْقَعَ فيه الصلاة مثاله أنه إذا صلّى في المسجد ثم انتقل من الموضع الذي صلى فيه ولم يخرج من المسجد أنه يبقى تدعو له الملائكة وهو قول كثير بين مُجمع عليه
وقول واحد
نكرة
الوجه الرابع قوله ما لم يُحْدِث هو الحَدَث الذي ينقض الطهارة
وهنا بحث هل ذلك في كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً الظاهر ذلك لأنه أتى بها
الوجه الخامس فيه دليل على أن السنّة في البشرى أن تكون بالأقل ثم تختم بالأعلى لأنه أبلغ في المسرّة يؤخذ ذلك من إجماله عليه السلام البشارة أولاً وتبيينها آخراً لأن الملائكة احتمل أن يكون دعاؤهم بالأعلى من الأمور أو الأقل لكن حصل بذلك سرور لأنه زيادة خير والذي أتى في التفسير هي المغفرة والرحمة فمن غُفِرَ له ورُحِمَ فهي أعلى الجوائز
۱ القاضي عياض ترجمته في الحديث ۷۸

فهذا
ذلك
دل
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تتبعها طاعة أخرى فهي مدخولة ۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تبعها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرم مواضعَ الخير

يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظا
فالتّيسير منه عزَّ وجلَّ للخير من علامة الخير

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
2/6
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
في عقله أو حَسَبه دَخَل
۷۱

سلام في
خير أم
فهذا
هذ ذلك
نه دل
تبقى
ذلك
في
هو
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن الطاعة إذا لم تَتْبَعُها طاعة أخرى
فهي مدخولة۱ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه فلما كانت صلاته أو بعضها - على التقسيم المتقدم - مقبولة تَبِعَها خيرٌ آخر وهو جلوسه حتى استغفرت له الملائكة فكان خيراً تبعه خير كما أشاروا
وهنا سؤال وارد ما الفائدة التي ترتبت على هذا الإخبار بهذا الحديث من طريق الفقه والتعبد فالجواب أن فيه الحثّ على ملازمة الموضع الذي صلّى فيه من أجل زيادة ذلك الخير له ولو لم يخبر به عليه السلام ما كان أحد يعلم ذلك حتى يفعله لكن انظر اليوم بعد العلم به من الذي يفعله إلا القليل النادر فدلّت الرغبة عنه بعد العلم به على الإشارة التي أشار إليها أهل خيف عليه أن يكون من أهل الضدّ الصوفة أن عدم قبول الصلاة دلّ على سرعة القيام من موضعها ودلّ على أن من حُرِم مواضعَ الخير
يبين ذلك قصة موسى عليه السلام حين قال رب هل أعرف ما لي عندك فقال يا موسى إذا أحببت الدنيا فَزَوَيْتُهَا عنك وأحببت الآخرة فيسَّرْتُها عليك فاعلم أنَّ لك عندي حظًّا فالتيسير منه عزّ وجلَّ للخير من علامةِ الخير
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

3
26
۱ المدخول المهزول والداخل في جوفه الهزال والبعير المدخول البين من الهزال ورجل مدخول إذا كان
۷۱
في عقله أو حَسَبه دَخَل
ده

- قال ابن سيرين
حديث سجود السهم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العَشِيِّ ١ سمّاها أبو هريرة ولكن نَسيتُ أنا - قال فصلى بنا ركعتين ثم سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبانُ ووضع يده اليمنى على اليسرى وشَبَّك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفّه اليسرى وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد فقالوا أقُصِرت الصّلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن

يكلّماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين ٣ قال يا رسول الله أنسيت أم قُصِرت الصّلاة قال لم أَنسَ ولم تُقصَر فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا٤ نعم فتقدم وصلّى ما ترك ثم سلّم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبّر ثم كبر وسجَدَ مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلّم فيقول نُبِّتُ أنّ عمران بن حصين ٥ قال ثمّ سَلَّمَ
ظاهر الحديث جواز العمل القليل في الصلاة والكلام القليل لا يمنع من إتمامها إذا كان
۱ ابن سيرين محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء إمام وقته في علوم الدين بالبصرة تابعي مولده ووفاته في البصرة وكان فقيهاً وراوية للحديث واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا توفي سنة ١١٠ هـ / ٧٢٩ م
السَّرَعان أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ۳ ذو اليدين سترد ترجمته في الوجه العشرين من شرح هذا الحديث وسيميز بينه وبين ذي الشهادتين ٤ فقالوا الضمير عائد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عمران بن حصين من علماء الصحابة كانت معه راية خزاعة يوم فتح مكة وبعثه عمر إلى أهل البصرة لِيُفقههم وولاه زياد قضاءها وتوفي بها وهو ممن اعتزل حرب صفين له في كتب الحديث ١٣٠ حديثاً
0
توفي سنة ٥٢ هـ/ ٦٧٢م

ذلك على وجه النسيان أو عامداً مع من نَسِي إذا كان ممن صلاته مرتبطة بصلاته كإمام مع مأموم
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن السلام ساهياً لا يُخرج من الصَّلاة يؤخذ ذلك من قوله فرجع وأتم ما بقي ولم يذكر أنه كبر
الوجه الثاني فيه دليل على أن الإمام يرجع لكلام الجماعة ولا يرجع لكلام الواحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أكما يقول ذو اليدين ولما أخبره أبو بكر وعمر رجع إلى قولهما وإنما قلنا إن الإخبار كان من أبي بكر وعمر ولفظ الحديث على العموم من جهة ما تعطيه قوة الكلام لأن راوي الحديث اعتذر أولاً عن سكوتهما لهيبتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان غيرهما الذي
كان منه الإخبار لَذَكَره واعتذر عنهما ثانية فهذا يظهر ما خصصناه أنّ هذا الإخبار كان منهما
الوجه الثالث فيه دليل على التسليم لأهل الفضل فيما فعلوه لمن لم يعلم أهم على الصواب في ذلك الأمر أم ليس يؤخذ ذلك من خروج السَّرَعان وهم يقولون أقصرت الصلاة ولم يعتب عليهم النبي الله ولأن النسخ في حياته عليه الصلاة والسلام ممكن وأما الغَيْر فمستحيل فلا يُسَلَّم له إلا فيما لم يكن خَرْقاً للإجماع وأما إذا أمكن له تأويل سُلّم له على أحد المحتمَلات إن كان غير مقطوع به
الوجه الرابع يؤخذ منه مراجعة المفضول للفاضل إذا رأى منه ما لا يعرفه إلا أنه يكون بأدب يؤخذ ذلك من مراجعة ذي اليدين النبي ا و بذلك الأدب
الوجه الخامس يؤخذ منه إكبار ذي الفضل وإن رأى منه ما لا يعرف إلا أن الرائي تلزمه ملازمته حتى يتبين له ما صدر منه على أي وجه يُحْمَل يؤخذ ذلك من فعل أبي بكر وعمر لأنهما عَلِما ما عَلِمه ذو اليدين إلا أنّهما حملتهما الهيبة له على ألا يكلّماء وحملهما ما تزايد من الأمر على ألا يفارقاه حتى يعرفا الحكم ويدل على جواز ذلك كله تسليمه للكل في صلاته ولو كان أحد الأحوال غير جائز لقال في ذلك شيئاً لأنه المشرع ولا يؤخّر البيان عن وقت الحاجة الوجه السادس فيه دليل على أنه إذا سأل الفاضل المفضول هل وقع منه شيء فيه خلل أن يخبره بما وقع كما وقع يؤخذ ذلك من سؤال رسول الله أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
فأخبراه بما وقع
۱ يقصد المؤلف رحمه الله أن النسخ في حياته ولا خلاف فيه وادعاء النسخ من غيره يقبل من أهله ما لم يكن فيه خرق لإجماع أو مخالفة لمقطوع به

من
الوجه السابع فيه دليل على أن القدرة تفعل ما شاءت مع إبقاء الحكمة يؤخذ ذلك نسیان محمد و في هذا الموضع وقد كان من شيمه المباركة أنه عند النوم تنام عينه ولا ينام

قلبه ١ وهنا وقت الحضور نسي بعض الصلاة لكن نسيانه هنا لوجهين عظيمين أحدهما قد نص هو عليه وهو قوله عليه السلام إنَّما أَنْسَى أو أُنْسَى لأَسُنَّ ٢ فلما كان هو عليه السلام المشرع والمقتدى به وله الأجر في كل الأعمال التي يُقتَدَى به فيها إلى يوم القيامة جاء النسيان هنا أرفعَ من الحضور فهي في حقه تكرمة


وهذا النسيان يُحتاج فيه إلى بحث وهو ما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى وما معنى الحكمة فيه إن كان على معنى أو أُنْسَى
والجواب إن كان على معنى قوله عليه السلام أَنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن تظهر عليه السلام عليه أوصاف البشرية وبظهور أوصاف البشرية عليه يثبت أن تلك الأمور الزائدة على ذلك دالّة على خصوصيته عليه السلام ورفع منزلته
وإن كان على معنى قوله عليه السلام أو أُنْسَى فظاهر الحكمة في ذلك أن القدرة تُجْرِي الخيراتِ والأحكام على يديه عليه السلام بالأقوال والأفعال باختياره وبغير اختياره ليظهر لذلك قدر العناية به وتصديقاً لما قاله وتحدّى به وادّعاه
لذلك لم يقع منه عليه السلام النّسيان إلا في ثلاثة مواضع في الأفعال قدر ما احتاج الحكم إليه وهو هذا الحديث وقام من اثنتين وقام إلى خامسة وفي الأقوال مرة قدر ما احتاج الحكم إليه وهو أنه عليه السلام أسقط آية من سورة المُلك ولم يقع منه نسيان غير ما ذكر
والوجه الآخر وهو بالتقدير من حالة استغراقه عليه السلام في الحضور والأدب حتى ذَهَلَ عن العدد
الوجه الثامن فيه دليل على أن تبيين الحكم بالفعل أرفعُ منه بالقول ولولا ذلك لكان حكم في الشهر بالقول كما قال عليه السلام مَن نَسِي شيئاً في صلاته فَلْيَبْنِ على اليقين ۳ الوجه التاسع فيه دليل على لطف الله بعبيده ورفقه بهم يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام جعل تعليمه حكم السهو لأمته بالفعل ولو عَلَّمَهم بالقول لكان كافياً لكن لما كان الذي يسهو
۱ هو معنى لحديث تقدم تخريجه في الحديث رقم ۰ رواه الإمام مالك في السهو بلفظ اخر
۳ هو معنى الحديث أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه
٢٧٤

بعده من أصحابه رضي الله عنهم والمُبارَكين من أمته يجدون لذلك حُزناً في أنفسهم لكونهم وقع منهم في أجَلّ العبادات ما لم يقع من نبيهم فجاء ۱ فعله عليه السلام لهم بالتعليم من باب إذهاب الحُزْن عنهم وهو عين الرفق والرحمة
الوجه العاشر فيه دليل على فضل الصحابة رضي ! عنهم وتحريهم في النقل يؤخذ ذلك من قوله إحدى صلاتي العشي وتبرئة صاحبه من النسيان وإضافته إلى نفسه كما وقع الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز القيام إثر الصلاة يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم فقام فساقه بالفاء التي تعطي التعقيب والتّسبيب
الوجه الثاني عشر فيه جواز جعل الشيء النظيف في المسجد ما لم يكن مؤبداً يؤخذ ذلك من إخباره أن الخشبة كانت معترضة في المسجد
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاتكاء في المسجد على ما يجوز الاتكاء عليه يؤخذ ذلك من إخباره بأنه اتكأ على الخشبة
الوجه الرابع عشر يؤخذ منه جواز التشبيك بين الأصابع يؤخذ ذلك من قوله شبك بين
أصابعه
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز وضع اليدين بعضهما على بعض يؤخذ ذلك من الإخبار عنه عليه السلام أنه جعل يديه بعضهما على بعض الوجه السادس عشر يؤخذ منه كثرة اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بجميع أحوال النبي وحبهم فيه يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان فلولا كثرة اشتغالهم به لما كانوا ينظرون إلى مثل هذا أو غيره
الوجه السابع عشر يؤخذ منه عدم الحكم بالمحتمل يؤخذ ذلك من قوله كأنه غضبان لأنه رأى صفة تشبه صفة الغضب وقد لا يكون هو عليه السلام في ذلك الحال غضبان بل يكون مشغولاً فكره في شيء آخر فلم يقطع بشيء محتمل
الوجه الثامن عشر يؤخذ منه جواز وضع الخدود على الأيدي يؤخذ ذلك من إخباره أنه
جمل خده على ظهر كفه وقوله وخرجت السرعان هم الذين سارعوا إلى الخروج الوجه التاسع عشر فيه دليل على جواز تسمية الشخص بما قد غلب عليه المعرفة به يؤخذ ذلك من قوله ل أكَما يقول ذو اليدين ولو كان من باب اللقب لما أخبر هو به
۱ هنا جواب لما زاد فيه الفاء

الوجه العشرون فيه دليل على طلب البينة فيما لا يعرف وإن كان القائل صادقاً يؤخذ ذلك

من سؤال سيدنا ل للعمرين ۱ في تصديق ما قال ذو اليدين وهو الذي سماه سيدنا ذا ٣ فلما أخبره بما لا يعلم طلب منه البيّنة على قوله
الشهادتين
الوجه الحادي والعشرون يؤخذ منه أنه لا يجوز لمن نسي من صلاته شيئاً أن يؤخر فعله يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لما أخبره العمران لم يتأخَّر وعاد إلى صلاته لأنه قال فتقدَّمَ وصلَّى فأتى بالفاء التي تعطي التعقيب
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على جواز حذف بعض الكلام إذا كان هناك ما يدل عليه يؤخذ ذلك من قوله فتقدم وصلّى ٤ ولم يقل ما صلّى لأن ذلك مفهوم في الحديث
الوجه الثالث والعشرون يؤخذ منه الحجة لمذهب مالك الذي يقول إن سجود السهو إذا كان عن زيادة يكون بعد السلام يؤخذ ذلك من قوله ثم سلّم ثم سجد فلم يسجد هنا ـ وهو موضع زيادة - إلا بعد السلام
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على أن سنة سجود السهو لا تتأخر مع الذكر عن وقت
الفراغ من الصلاة لأنه أخبر أنه عليه السلام سجد إثْرَ السَّلام
الوجه الخامس والعشرون يؤخذ منه أن سنة سجدتي السهو أن التكبير فيهما في الخفض والرَّفع كما هو في غيرها من الصلاة يؤخذ ذلك من وصفه السجود بذلك الوجه السادس والعشرون يؤخذ منه أنه يسلّم من سجدتي السهو كما يسلّم من الصلاة لإخباره بذلك فقال فسلّم
1 العُمران أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما غُلّب عمر لأنه أخف الاسمين ذو اليدين رجل من بني سليم يقال له الخرباق حجازي شهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد راه وَهَمَ في صلاته وخاطبه وهو ليس ذو الشمالين المقتول ببدر وأن قصة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر كما وَهَمَ الزهري
الاستيعاب ٤٧٥
۳ أما ذو الشهادتين فهو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من الأوس جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدرا وما بعدها من المشاهد وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح وكان مع علي رضي الله عنه بصفين فلما قتل عمّار بن ياسر جرّد سيفه فقاتل حتى قتل وكانت صفين سبع وثلاثين الاستيعاب ٤٨٨/١ ومن هذا يتضح أن المؤلف رحمه الله عدّ ذا اليدين ذا الشهادتين مع
سنة
أنهما شخصان مختلفان
٤ يريد أنه لم يقل هذا بعد نعم
٢٧٦

لكن هنا بحث السهو في الصلاة مع كثرته خير وصاحبه معذور والالتفات مع قلته لا يجوز وصاحبه لا يُعذَر وقال عليه السلام هي خُلْسَة يختَلِسُها الشيطانُ من صلاة أحَدِكم ۱ فالجواب لمّا كان الالتفات أصله حظ النفس لم يَجُز مع قلته وجُعِل حظ الشيطان ولمّا كان السَّهو أصلُه اشتغالُ الخاطر بتؤفية تمام العمل أو بمكر من الشيطان عُذر وكُمِّل له ما كان الخاطر معموراً به الوجه السابع والعشرون هنا إشارة صوفية وهي أن مَن كان مشغولاً بعمله جُبِرَ خَلَلُه وإن
كاده عدوه نُصِرَ عليه ومن ضيَّعَ المراقبة في حالِهِ