Go Back




...

قَدْرَ عَرْضِه - حتى نعلم كم رجلٍ يَسَعُ عَرْضُه والقُرعة لا تكون إلا على شيءٍ مُدرَك ويُعلم أنه لا يَسَعُ الكل فإنه إذا وَسِعَ الكُلَّ فلا قرعة فإذا لم يَسَعُهم حينئذٍ يُحتاج إلى القُرعة لِيُعْلَم من هو أَوْلَى به من غيره فالذي تكتبه الملائكة لا تُمكن القرعةُ عليه لعَدَمِ العلمِ بقَدْره وماذا يسع فجاء الدليل للذين يقولون إنه في المسجد
ولا نحتاج أيضاً إلى القرعة إلا إذا جئنا في فَوْرٍ واحد ٢ لأنه قد ثبت بالشَّرع أنَّ مَن سَبَق إلى شيء من المباح فهو أحق به فإذا تلاحقوا به على حد سواء قُسِم بينهم إن كان مما تأخذُهُ القسمة ويمكن ذلك فيه وإلا فمن يكون أولى به فعند ذلك يُحتاج إلى القرعة كهذا ومثله لأنه لا
يمكن القسمة فيه
وهنا بحث في قوله عليه السلام الناس هل الألف واللام للعهد أو للجنس فإذا قلنا للعهد وهم المؤمنون فيترتب عليه من الفقه أن العبيد والأحرار والإناث والذكور في ذلك سواء وأنه لا يستأذن العبيد في ذلك ساداتهم ولا النساء في ذلك أزواجهنَّ ويزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله۳ قلنا كذلك يعطى الحكم لكن لما حدثت أمور لم يبق من ذلك إلا خاص في خاص وهم الرجال دون النساء ولا من العبيد إلا من يُعرَف منه الخير لأنه يَجعلُ ذلك ذريعةً لتضييع حق سيّده ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول لو أدرك رسولُ الله ما أحدث النّساء لمنعهنّ المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل ٤

وما فعلت عاتكة زوجة عمر رضي الله عنه أنها كانت تستأذنه في الخروج إلى المسجد فيسكت فتقول له لأخرجَنّ إلا أن تمنَعَني فلا يمنعها لأجل ما عارضه من قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله فتركها يوماً خرجت إلى صلاة الصبح وتقدَّمها ووقف لها بموضع في الطريق في الظُّلمة حتى خطرت عليه فوثب عليها وقرصها في نهدها ولم يتكلم ولم يقل لها شيئاً لكي تجهل من هو الفاعل لذلك فرجعت رضي الله عنها إلى بيتها ولم تتم على مضيها إلى المسجد ثم لم تخرج بعد ذلك فقال لها عمر رضي الله عنه لِمَ تركت الخروج فقالت قد فَسَد الناس ٥ فعللت عدم خروجها إلى المسجد بفساد الناس
۱ كذا بجز كم الاستفامية وهو لغة
في فور واحد في ان واحد ۳ رواه الإمام أحمد والإمام مالك ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ٤ رواه الإمام مالك والشيخان عن السيدة عائشة رضي الله عنها موقوفاً
۵ رواه الإمام مالك في الموطأ
۳۰۱

وأجازه ذلك السيد رضي الله عنه الذي قد أمرنا باتباعه فإنه أحد العمرين وأحد الخلفاء رضي
الله عنهم
الوجه الخامس فيه دليل على التحيل في كسب أفعال الخير بكل ممكن يؤخذ ذلك من
قوله عليه السلام ثم لم يجدوا فلا يرجعون للقرعة إلا عند عدم القدرة على تحصيله ومن هنا أخذ أهل الصوفة دليلاً لهم في الحيلة على النفوس ومجاهدتها ومما يذكر عن بعضهم أنه بقي زماناً يحسن للنفس زِيَّ القوم حتى لَبِسَته فلما لبِسَتْه كان إذا أرادت أن تفعل فعلاً ليس هو من فعل القوم يقول لها لَبِسْتِ زيَّ القَوْم ثم تخالِفِينَهُم أو تريد شيئاً من حال أهل الدنيا فيقول لها هذا لا يليق لمن تزيّا بهذا الزي ومثله عنهم كثير
الوجه السادس فيه دليل على فصاحته يؤخذ ذلك من حسن تنويعه عليه السلام العبارة لمّا كان الأذان والصف الأول انحصر في فعلهما ولا يمكن الكثرة فيهما عبّر عنهما بالقرعة ولما كان التهجير كناية عن المبادرة في الزمان ومعنى التهجير هنا في يوم الجمعة - على قول أهل الفقه - ولا أعلم فيه خلافاً - والزمان ظرف يسع القليل والكثير - عبّر عنه بالتسابق فجعله تسابقاً وهو لا يحصل إلا بالجد والاجتهاد الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك رضي الله عنه الذي يقول إنَّ الأفضل في الجمعة التهجير وفَضَّل تلك القُرَب المذكورة من بَدَنَةٍ إلى بَيْضة في الساعة الواحدة في السبق على حاله فمن سبق أخذ بدنة ثم الثاني بقرة ثم كذلك حتى العاجز بيضة وجعل العبارة عن العتمة والصبح لما كان الغالب على المنع منهما النوم أو الغُسل أو العجز قال حَبْوا ية الوجه الثامن فيه دليل على المبادرة للعمل على المنشط وترك الكسل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حبوا فإن من هذا حاله فهو أعظم الكسل
الوجه التاسع فيه دليل لأهل الصوفة في أخذهم النفوسَ بالمجاهدة فإن هذا أعظمُ
المجاهدات
الوجه العاشر فيه دليل على أن ما هو من شعائر الإسلام المفروضة أن الأفضل فيه الإظهار لأن هذه المذكورة كلها من شعائر الإسلام المفروضة
ثم نرجع للقسم الثاني من الألف واللام في الناس إن كانت للجنس - وهي محتملة - فيكون فيه دليل لمن يقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهم على كفرهم لأنهم لو عَلِموا ما فيه لبادروا إلى الإسلام وعملوا هذه الأعمال ولهذا جاءت الإشارة هنا بلا تعيين أولاً ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن يُشَوَّقَ الكافر والعاصي والطائع - على حد سواء - إلى
ما أم
هناك
لو
الب
335
آن
ذلك
فراع
لأنه
الج

ما أعد الله عزّ وجلّ من الخير ويحذّر ممّا هناك من الخوف لمن لم يستَقِم لعلّه تحصل له هناك إنابة ١
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن التشويه مع حصول الأفضل في الدين أولى يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ولو حبوا فإن الحبو في حق الكبير تشويه ولا سيما لمن له منزلة فراعى هنا الدين ولم يراع التشويه
الوجه الثاني عشر فيه دليل لمن يقول إنه يصلي الجمعة وإن كان طين يُشَوِّه ثيابه ووجهه لأنهم اختلفوا إذا كان الطين كثيراً يشوه الثياب والوجه هل يكون عذراً يجوز معه التخلّف عن الجمعة على قولين وبالتفرقة فالحُجّة هنا لمن لم يجعله عذراً
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاستهام لقوله عليه السلام الاسْتَهَمُوا
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن المساجد لا يتملك منها أحد شيئاً
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أنه لا يجوز له أن يأخذ من المسجد إلا قَدْر ضرورته لأنه لو كان له أكثر من ذلك لَبَيَّنَه عليه السلام هنا لأنَّ وقت القرعة هو وقت انفِراد الحكم وتأخيرُ البيان عند الحاجة إليه لا يجوز فكونه عليه السلام أمر بالقرعة ولم يحدّ شيئاً دلّ على أنه ليس له أن يقترع إلا إذا لم يجد ما يحمله وغيره وأن ما فَضَل عن قدر ما يحتاج هو إليه فلا يدخل تحت القرعة وقد جاء هذا المعنى في حديث آخر وأنه متوعد عليه
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن المسابقة تكون حسّا ومعنى فهنا تكون معنى لا حِسا فإن المسابقة على الأقدام حِسَّا تقتضي الجَرْيَ والسرعة والجَرْي هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر لقوله عليه السلام إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن وائتوها وعليكم السكينة فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت وهنا بحث وهو أنه عليه السلام جعل العتمة والصبح على حد سواء وقد قال عليه السلام من شَهِد العتمة فكأنما قام نصف ليلة ومن شَهِدَ الصبح فكأنما قام ليلة ۳
فالجواب أن هذا لا يلزم من كونه جَعَلَها في حرمة المبادرة أنهما على حد سواء أن يكونا في الأجر إنما ساوى ما بينهما لعظم ما بينهما وبين غيرهما من الصلوات كما قال عليه السلام
۱ الإنابة التوبة
رواه الإمام أحمد والشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه ۳ أخرجه البيهقي في الشعب عن عثمان رضي الله عنه
41

بيننا وبين المنافقين شهودُ العَتَمةِ والصبح لا يستطيعونهما١ لأن الشاهدين إذا كانا عَدْلَينِ لا يلزم أن يكون أحدهما أرفع حالاً من الآخر لأنهما إذا تساويا في القدر المجزىء من العدالة فلا بأس أن يزيد أحدهما على الآخر وهذا مثله فقد زادتهاتان الصلاتان فضلا على غيرهما من الصَّلوات وبقي ارتفاعهما فيما بينهما معنى ثانياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك عن سعيد بن المسيب مرسلاً
٣٠٤

-TA-
حديث إتيان الصلاة بالسكينة
عن أبي قتادة ١ رضي الله عنه قال بينما نحن نصلي مع النبي الله إذ سَمعَ جَلبَةَ رجال فلما صلى قال ما شأنكم قالوا استَعجَلْنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسَّكِينَةِ فما أدركتم فَصَلُّوا وما فاتكم فَأَتِمُّوا
ظاهر الحديث إتيان الصلاة بالسكينة وإتمام ما فات منها والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أن الحكم الشرعي لا يكون إلا بعد تحقيق موجبه يؤخذ من قوله عليه السلام ما شأنكم فلما ذكروا استعجالهم إلى الصلاة حينئذ قال لهم الحكم في ذلك لأن استعجالهم احتمل أن يكون لما ذكروا أو لعذر عَرَض لهم لأن الحوادث لا تنحصر
الوجه الثاني فيه دليل على أن يجتهد المكلف برأيه فيما لم يكن فيه نص من الشرع يؤخذ ذلك من كون النبي ل ا ل لم ينههم إلا فيما يُستَقْبَل ولم يأمرهم بإعادة الصلاة ولا أبطَلَ عليهم عملهم فدل ذلك على جواز فعلهم فيما مضى
وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو على الندب وهل له حد معلوم أعني السَّكينة
المذكورة أم لا فالجواب على قولنا هل هو على الوجوب أو غير ذلك فصيغة الأمر مختلف فيها - على ما تقدم في غير ما موضع - لكن الأظهر هنا أنه على الندب بدليل أن التأدب والخشوع في الصلاة نفسها مختلف فيه وأكثر الفقهاء على أنه شرط كمال وقد قال في حديث آخر لا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظرُ الصَّلاة ٢ فأعظمُ حُكم الوسيلة إلى الشيء أن يجعله كالشيء نفسه فهذه الصفة في الصلاة نفسها مختلف فيها فكيف في الوسيلة
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ١٨
رواه الإمامان مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اخر
٣٠٥

ولوجه آخر لو كان على الوجوب لأشار إليه عليه السلام بزيادة ما لأنه المشرع وهذا
وقت بيان الحكم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

ولوجه آخر وهو إنما كان سرعتهم في المشي رغبة في الصلاة من أجل الأجر وطلب المزيد فيه فأراد عليه السلام إخبارهم بأنَّ لهم الأجرَ فيما أمرهم به لأن تسكن نفوسهم بذلك وهذا من الحديث الشاهد الذي أوردناه وأمّا من الحديث نفسه فلأنه عليه السلام فهِمَ منهم إظهار الجِدّ من أجل ما وقعوا فيه من الماضي فسكَّنَ خواطِرَهم بإعطاء العذر لهم في ذلك ذلك وتبيين
الحكم بعد
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن ما لَحِقَ المأمومُ من الصلاة مع الإمام إنه أولُ صلاتِه يؤخذ ذلك من قوله فَأَتِمّوا وتمامُ العمل هو آخِرُه لكن يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره فما فاتكم فاقضوا ۱ فدل هذا على أن الذي أدركه المصلي هو آخر صلاته ويقضي ما فاته والحديثان صحيحان فمن أجل ذلك اختلف العلماء في البناء والقضاء فمنهم من قال بالبناء مطلقاً ومنهم من قال بالقضاء مطلقاً ومنهم من جمع بين الحديثين وهو مالك رحمه الله ومن تبعه وقال يكون بانياً في الأفعال قاضياً في الأقوال وهو أحسن الوجوه لأن إعمال الحديثين خير من إسقاط أحدهما
لم
الوجه الرابع فيه دليل على أن التفات الخاطر إلى النوازل إذا كان في الصلاة ما لم يخرجه من الشغل بصلاته جائز وليس بمفسد للصلاة إذا كان يسيراً يؤخذ ذلك من سمعهم رضي الله عنهم وسمع رسول الله جلبة الرجال وهم في الصلاة ولم يأمرهم بإعادة ولا ذكر لهم أن في عملهم خللاً
الوجه الخامس فيه دليل على أن إمساك الحاجة في السر في الصلاة لا يفسدها إذا كان الغالب على القلب الشغل بصلاته يؤخذ ذلك من تمادي ذكر أمر الجلبة في قلب النبي ل حتى فرغ من صلاته وحينئذ سأل عنها
وجواز هذين الوجهَيْنِ " إذا عرَضَ الأمرُ وهو في نفس الصلاة ولا يتعمَّده هو يؤخذ ذلك من مجموع معنى هذا الحديث وقوله حين سُئل عن المَرْءِ يلتفت في الصلاة فقال تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم ۳ لأن الالتفات بالاختيار من المصلي دون عذرٍ طَرَاً
1 لم نقف على مصدره ٢ أي الرابع والخامس وخبر جواز هو متعلق إذا

رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ مختلفة
کل ٢
٣٠٦

عليه فإن ذلك خروج عما كان بسبيله ومن قول مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مخلصين ۱ فإذا دخل بغير إخلاص فأين تَوْفيه ما أمر به وقوله إذا دخلَ الرجلُ في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإن التفت أعرَضَ عنه ٢ فإذا دخل بغير إقبال أو معرضاً بقلبه لشغله بما كان فيه فما له وللإقبال هيهات بينهم مفازات لا يقطعها إلا المُشَمرون
فانتبه إن كنت نائماً وشَمِّرْ إن كنتَ يقظانا ۳
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن أحسن الصلاة أن يبقى من البشرية شيء ما لتلقي الخطاب وتوفية أركان ما أُمِرَ به وأحسَنُ الذِّكْر أن يفنى الذاكر في المذكور حتى لا يعرِف مَنْ على يمينه ولا مَنْ على يساره لأنه لو لم يكن ذلك كذلك ما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع يسمَعُ الجَلَبَة وفي غير الصلاة يقول عليه السلام إنَّه لَيُغان على قلبي فأستغفرُ في اليوم والليلة سبعين مرة ٤ فكيف يُغان على قلبه عليه السلام وهو من خصائصه أنه يقول تنام عيناي ولا ينام قلبي ٥
وقد اختلف الناس في معنى قوله عليه السلام يُغان على قلبي بأقاويل عديدة فانفصلنا عنها ولم نرجّح إلا ما أذكره بعد ذكر ما أجمعوا على أنه أحسنُ ما قيل فيه والانفصال عنه
إن شاء الله
فأحسن ما قالوا فيه أنه عليه السلام كان يترقّى من مقام إلى مقام فإذا ترقى من المقام الذي كان فيه إلى ما هو أعلى استغفَرَ من المقام الذي كان فيه وكأنّه الآن بالنسبة للحالة التي كانت قبل كَمَنْ غِينَ على قلبه
والانفصال عن هذا الوجه بأن تقول سَلَّمْنا هذه المقالة وهي حَسَنة إلى ليلة المعراج حين ارتقى إلى الحضرة العَلِيّة والمشاهدة بعين الرأس - على مذهب ابن عباس وهو الحق - فبعد هذا الترقي لا زيادة في الترقي
وبقي الجواب عما لِمَ كان يُغان على ذلك القلب المبارك فنقول بفضل الله إنه كان من صفته عليه السلام كما وصفه الواصف طويل الفكرة كثير الذكر قليل اللفظ ففكرته ا ا ا را
۱ سورة البينة من الآية ٥
رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ آخر
۳ كذا بالتنوين
٤ يُقال غِينَ على كذا أي غُطّي عليه ومنه الحديث فالغين ما لطف من الغطاء والحديث النبوي أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن الأغر المزني رضي الله عنه ٥ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها

۳۰۷

قد تكون في صفة من الصفات أو اسم من الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرةُ في جميع الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرة في جميع الأسماء والصفات فإذا اشتغل القلب بالفكرة في أحد الأسماء أو الصفات استولى على القلب المبارك من تعظيم ذلك ما صار عليه كالرّانِ لأن الران هو الشيء الذي يغطي القلب من حُسنٍ أو ضده
فإذا سُرِّيَ عنه من تلك الحالة الجليلة استغفر من شيئين أحدهما من شغله عن الذي بقي من الأسماء والصفات لأن كل واحد منهما يطلب حقه من التعظيم في كل نَفْسٍ يَرِدُ و الوجه الآخر هو تقصيره عن توفية حق تلك الصفة أو الاسم بوضع البشرية لأن الفاني لا يمكن أن يوفي حق الباقي قطعاً حتماً ولذلك قال له أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نفسك ۱
وهنا بحث هل ما قالوه هو الأحسنُ في الصلاة كلها على اختلاف أنواعها أو ذلك في الفرض ليس إلا الظاهر - والله أعلم - أنه في المكتوبة بالإجماع وأما النافلة فالأظهر فيها أنها من

قبيل الذكر يؤيد ذلك مسألة عليّ رضي الله عنه حين كان في فخذه سهم قد اذاه فقالوا له فيه أن ينزعوه فيأبى عليهم ويمهلهم قليلاً قليلاً فقال بعضهم لا تستطيعون أن تنزعوه إلا حين يكون في الصلاة ففعلوا ذلك فنزعوه منه وهو ساجد في النافلة فلما انصرف من الصلاة راهم محدقين به فقال ما بالكم أو تريدون نزع السهم فقالوا له ها هوذا أخذناه فقال والله ما عرفتُ بكم ومثله كثير عن المباركين
وأما الجواب على قولنا هل للسَّكينة حَدّ أو لا فقد قال العلماء إن حدّها ما لم يخرجك عن الوقار وقد روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع الإقامة وهو يأتي إلى المسجد يمد في الخطا ويخفف وقع قدمه وهذا الحال آخِرُ حالِ السَّكينة
وبقي الكلام على ما يدرك من الصلاة ما يُحسَب منه وما لا يُحسَب فقد بيّنه عليه السلام في حديث آخر وهو قوله عليه السلام ادخلوا معي على الحالة التي تجدوني عليها فإن وجدتموني راكعاً فاركعوا واحسبوها ركعة وإن وجدتموني ساجداً فاسجدوا ولا تحسبوها شيئاً ٢
الوجه السابع فيه دليل على أن الدين يسر يؤخذ ذلك من أنهم لما اهتموا بما وقع منهم من التأخير عن الصلاة فأسرعوا جعل لهم المخرج بأن قال لهم عليكم بالسكينة إلى آخره والذي يقع ذلك منه - أعني - أعنى تأخير الصلاة عن وقتها - يدخل تحت قوله جل جلاله أضاعوا
۱ رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نقف على مصدره
4
۳۰۸

ي
نه
الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيَّا ۱ وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت والله ما تركوها وإنما أخرجوها عن وقتها المختار فإذا كان الأمر في تفصيل الأوقات على هذا المعنى فكيف به في فوات شيء منها مع النبي لأن الوقت فيه خلافٌ بين العلماء والصَّلاة لا خلاف أنَّها أفضل الصلوات
معه
ويترتب على هذا الوجه من الفقه لأرباب القلوب أن الهَمَّ على عمل من الخير إذا فات بُدل منه لكن ليس البدَل كالمبدلِ منه من كل الوجوه ويؤيد هذا قوله حين سأله زيد ما علامه الله على من أحبه فقال يا زيد كيف أصبحت قال أصبحت أحب الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرت إليه وإن فاتني حزنت عليه وندمت فقال النبي فذلك علامة الله فيمن يُريد ولو أرادك لِغيرِها لَهَيَّأْكَ لها ٣
فلما قال حزنتُ عليه فحينئذ صح له ما تضمنه الحديث ويقويه أيضاً قوله عليه السلام النَّدم توبة 1 وفي هذا من الفقه معنى عجيب وهو أن نفس الندم يكون إما مذهباً للإثم إذا كان على فعل ممنوع وقع إن حملنا قوله الندم توبة على ظاهره
وإن تأولنا بأن قلنا هو أعظم الأسباب في التوبة أو أكبرُ أجزائها كقوله عليه السلام الحج عَرَفَة ٥ فعلى هذا التأويل يكون أقوى الأسباب في الخلاص مما وقع فيه وكلاهما خير عظيم ويكون لما فات من الخير جابراً كما تقدم
يزيد ذلك إيضاحاً قوله صلى الله عليه وسلم ما أمسى المؤمن فيها - يعني في الدنيا - ولا أصبح إلا حزينا ٦ لأنه بالضرورة بين أحد أمرين إما غفلة عن مندوب وإمّا سهو حتى يقع في مكروه وهذا أقلها
ويترتب أيضاً على هذا المعنى وجه من الفقه ووجه من طريق أهل الحقائق فأما الذي من الفقه فيكون وجود الحزن على فوات شيء من الخير أو الوقوع في شيء من ضده من علامة الإيمان وأما الذي هو من طريق أهل الصوفة فإن قولهم إن القلب إذا خَلا من الحُزن خَرِبَ
۱ سورة مريم من الآية ٥٩ روي هذا القول - كذلك - عن ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ۳ انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ٣٠٨/٤
٤ رواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ٥ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي في الكبرى عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه
٦ لم نقف على مصدره
۳۰۹

ويترتب عليه من طريقهم أيضاً وجه آخر وهو أنَّ مَن كان حاله هذا كان حاله حال المراقبة -
وهو أجلّ الأحوال - ولا بد لصاحب هذا الحال أن يتخلّل خوفَه رجاء وإلا كان ناقصاً عن حال الكمال بدليل قوله المؤمنُ تسُرُّه حسناته وَتَسُوؤُهُ سيّئاته ۱ فإنه إذا وَجَد من نفسه هذا الخوفَ سُرَّ به فتجتمع له علامتان من الإيمان وجود الخوف في موضعه والفرح في موضعه ولذلك قيل لبعضهم في بعض مناجاته ليكن خوفك خوف محب ومحبوب لأن المحبَّ مهما رأى أقل شيء خاف من أن يكون ذلك سبباً للبعد والمحبوبُ وإن رأى ما يوجب البُعدَ يَعلمُ أنَّ المحبوبَ لا تَضُرُّه الذنوب فلا تحزنه فيكون حاله في الزمان الواحد محبوباً مُحِبّاً وهذه أكمل
الحالات
جعلنا الله من أهلها بمنّه أمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ مروي بالمعنى لحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي أمامة رضي الله عنه وأصله إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن
۳۱۰

اقبة - حال هذا
رأى
ان
مَل
حديث القيام إلى الصلاة
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسَّكينة والوقار
ظاهر الحديث يوجب ترك القيام إلى الصلاة وإن أقيمت حتى يخرج والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول يؤخذ منه تأكيد الإقامة في الصلاة لقوله عليه السلام إذا أُقيمت الصلاة فلولا أنَّه أمرٌ مستَعْمَلُ في كل صلاة مكتوبة لما قال ذلك وهي من السنن المؤكّدة الخارجة عن الصلوات الوجه الثاني جواز الإقامة والإمام ليس بحاضر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني فلو كان حاضراً ما قال حَتَّى تَرَوني الوجه الثالث هل هذا النَّهيُ على التحريم أو الكراهة وهل هذا الفعل خاص به عليه
السلام أو ليس
الجواب عن الأول فليس هذا مما نقول فيه تلك التقسيمات التي في الأمر لأنه في أمر خارج عن الصلاة وإنما هو لفوائد منها أنه لا الله ما أراد أن يبين حكماً من أحكام الله وهو أن الإقامة ليس اتصالها بالصلاة من اللوازم وإنّما هي إخبار بأن وقت الدخول في الصّلاة قد حان فقد يكون متصلاً بها وقد يكون بينهما بَوْن ما كما أن الأذان دال على دخول وقت الصلاة وقد تُوقع الصلاةُ في أَوَّلِهِ أو بعده لكن لمّا كان الغالب من فعله عليه السلام الاتصال بها خاف أن يُعتَقَدَ أنّه من الواجب فبينه عليه السلام هنا بالقول وقد بينه في موضع آخرَ بالفعل وهو ما رُوي عنه أنَّه إذا نزَل من المنبر وأقيمت الصلاة ربَّما سارَرَه ۱ أحدٌ من الصحابة فيجاوبه وحينئذٍ يدخُل في الصلاة
۱ كذا والقياس ساره
۳۱۱

ويترتب على هذا من الفقه أنه إذا كان الإنسان في صلاة وأقيمت عليه صلاة أخرى والإمام ليس بحاضر لا يقطع صلاته وقد قال أهل العلم إنّه مَن كان في صلاة وأقيمت عليه صلاة إنه يقطع التي هو فيها ويصلّي التي أقيمت وحينئذٍ يُعيد التي كان فيها ويجتمع قولهم مع الحديث إذا كانت الإقامة كما قلناه والإمام حاضر
الوجه الرابع فيه دليل على توفيته لا لا لو تعليم جميع الأحكام يؤخذ ذلك من أن هذا الأمر
على دقته وخفائه لم يُهْمِله حتى بيَّنه قولاً وفعلاً
وفيه أيضاً وجه من وجوه الرفق وكان عليه السلام بالمؤمنين رحيماً وهو ربما يكون هناك ضعيف فيقوم عند سماع الإقامة فقد يتأخَّر عليه السلام لوجه ما فلا يَصِل ذلك الضعيف إلى الصلاة إلا وهو قد عجز عن القيام فيصلي قاعداً فيفوته القيام وقد يكون بَرْد أو حَرّ والغالب عليهم رضي الله عنهم قلّة الثياب فيلحق القائم شدة البرد والحَرّ فيكون سبباً التشويشه في الصلاة
ويترتب عليه من الفقه أن المتعبد ينظر قبل الدخول في صلاته أو تعبده ما يُصلح به حاله في
تعبده ولا يكون معه فيه تشويش
الوجه الخامس فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن الصلاة إذا أقيمت إن الناسَ بالخيار في القيام ما بين الإقامة واستفتاح الإمام الصلاة لأن الشافعي يقول يقام إلى الصلاة
عند قوله قد قامت الصلاة
الوجه السادس فيه دليل على أن يُحمّل القوي في الأحكام محمل الضعيف يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تروني فساوى بين القوي والضعيف ويؤيد ذلك قوله عليه السلام سيروا بسير أضعفكم ۱
الوجه السابع فيه دليل على لحظ القدرة في الشيء اليسير مع استصحاب الحكمة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فالحكمة هي الإخبار بحال الإقامة لأنها قد عُرِفت عَلَماً على الدخول في الصلاة الوقتيّة واللحظ إلى القدرة هو عن نهيه عليه السلام لا يقوموا حتى يروه مخافة أن يبرز من الغيب مانع يوجب تأخيره عن الخروج في الوقت فلحظ القدرة مع أحكام الحكمة من أجل المراتب لمن فهم على نحو ما قدمنا في غير
ما حديث
۱ رواه الشافعي في مسنده بلفظ سيروا على سير أضعفكم وابن ماجه والحاكم على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه

الامام
ـاة إنه
ديث
الأمر
كون ذلك
ا أو
سبباً
ة
C
الوجه الثامن فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن من أدب العبادة ألا ترجع من الأعلى إلى ما هو دونه يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني خشية أن يبرز من القدر ما يوجب تأخير الخروج فيرجعون من القيام إلى الخدمة إلى القعود فيكون نقص مرتبة في ذلك الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يجب الدخول في العبادة حتى تتم شروطها يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني لأن الإقامة - وإن كانت تُخير بالدخول في الصلاة - لكن من تمام ذلك الإمام فإذا لم يَرَوُا الإمامَ لم يجب عليهم القيام ويلزم منه عَكْسُه وهو إذا كَمُلت الموجبات فلا يجوزُ التأخيرُ لغير عذر
الوجه العاشر يؤخذ منه الالتفات والاهتمام بالإمام يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني فذلك تحضيض على ما قلنا ويترتب على ذلك الاهتمام بأمر الدين كله لأنه من تعظيم الشعائر وهو من التَّقوى
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن السنة الاهتمام بتوفية السابق وإن كان ما بعده أرفع منه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تروني لأن الصلاة - ولا بد - أرفع من الإقامة فاشتغالك أنتَ بالنّظر إليه هل خرج أم لا - وهو توفية حق الإقامة ـ أولى من الاشتغال بالصلاة التي لا تأتي إلا بعد توفية الإقامة بشروطها
وفيه وجه من الحكمة وهو أن تُوَفِّيَ لكل ذي حق حقه وإن قل ولا يَشَغَلَك حقٌّ الأعلى عن توفية حق الأقل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تَرَوْني
الوجه الثاني عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يحضون على الاشتغال بتوفية حق الوقتِ ومراعاته وإن قل لأن ذلك الالتفات - وهو أمر يسير - هو حقٌّ الوقت فلا يُشغَلُ عنه بما بعده وإن كان أعلى منه ولا يتهاون به فَيَحصل في العتب أو الذمّ
ومن كلام من نُسب إلى الخير من حافظ على توفية حقّ وقته - وإن قَلَّ ـ خَتَ حِملُه وقَلَّ هَمُّه وصَلَحَ عِلْمُه وحسن عمله وصح له اسم النبل والمعرفة وربح دنياه وآخرته وقوله عليه السلام وعليكم بالسَّكينة والوقار لأن السَّكينة والخضوع هنا من نسبة العبادة ولأن العبادة هي التواضع والانقياد ولذلك أثنى مولانا جل جلاله عليهم فقال ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۱ وقال المؤمِنُ هَيِّنٌ لَيْن فصفة
1 سورة الفرقان الآية ٦٣ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ومعنى هين ساكن متئد تئد ولين متواضع وبسيط وهي قريبة من معنى هين
۳۱۳

المؤمن أن يكون هيناً ليناً من غير ضعف ومن غير تماوت وهذه الحالة كثيراً ما نجد الشارع عليه
السلام يحضُّ عليها في غيرِ ما موضع
فانظر هنا إلى هذا الحديث لَمَّا أن حض أولاً على ألا يقوموا حتى يَرَوْه خاف أن يُسرِعوا في الالتفات عندما يسمعون الإقامة أو يسرعوا إلى القيام عند ما يَرَوْنه فقد يلحق لبعضهم من ذلك تالُمٌ لأن الجَمْعَ إذا قاموا في مرةٍ واحدةٍ مسرعين يلحق الضعيف والقوي من سرعة القيام أذى فأكمل عليه السلام الفائدة في التعليم وأبدى مقتضى الحكمة بأن قال وعليكم بالسَّكينة وهي التأني والرفق في النظر والقيام مع حضور الخاطر بما هو فيه والاهتمام به في جميع أنواع العبادات لأن تلك الحالة هي هنا سنَّة العبادة ولذلك كان عليه السلام يقول عند النَّفْر من عَرَفَة وهو قد شَنَق العضباء ۱ عليكم بالسَّكينة ويشيرُ بيده يميناً وشمالاً حتى إذا صعد جبلاً
أرخى لها قليلاً فإذا نزل عاد لِمَا كان عليه قبل
فجزاه الله عنا من مُعلّم خيراً ومن رسول ونبي خير ما جزى رسولاً ونبيًا عن أمته وحشَرَنا
في زمرته غير خزايا ولا نَدَامَى بِمَنْهِ آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 العضباء لقب ناقة النبي
ومعنى الكلمة الناقة المشقوقة الأذن ولم تكن ناقته عليه الصلاة والسلام عضباء وشنق البعير كفه بزمامه حتى الزق ذِفْرَبَيْهِ بقادمة الرحل أو رفع رأسه وهو راكبه والذفْرَى العظم
الشاخص خلف الأذن وهما ذفران
٣١٤

حديث انتظار الإمام
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال أُقيمت الصَّلاة فسَوَّى النّاسُ صفوفَهم فخرج رسولُ الله فتقدَّمَ وهو جُنُبٌ ثم قال على مَكانِكُمْ فرجَعَ فاغتَسَل ثم خرج
ورأسُه يَقْطُرُ ماءً فصلَّى بهم
ظاهر الحديث انتظار الناس بعدما سَوَّوْا صفوفهم إلى الصّلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجع
واغتسل وخرج والكلام عليه من وجوه
مثلاة
الوجه الأول أن الجماعة ينتظرون الإمام إذا طرأ عليه عذر ما لم يكونوا تَشَبَّئوا بالصلاة يُؤخَذ ذلك من قوله عَلَى مَكانِكُم فرجع فاغتسل
الوجه الثاني يؤخذ منه أنهم لا ينتظرونه إلا إذا كان شغله يسيراً يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لم يكن إلا قدر ما اغتسل
الوجه الثالث يؤخذ منه أنهم لا ينتظرون الإمام إلا إذا أمرهم بذلك يُؤخَذ ذلك من جمع هذا الحديث مع الحديث الذي ذكر فيه أنه عليه السلام خرج ليُصلح بين بعض قبائل العرب وحان وقت الصلاة فقدَّم الصَّحابة رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه الله عنه فأتاهم وهم في الصلاة فأتمَّ الصَّلاة معهم فلما فرغ قال لهم حَسَنُ ما فعلتم ١ أو كما قال عليه السلام لأنه

۱ قصة صلح الرسول الله بين بني عمرو بن عوف وعودته أثناء الصلاة وإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالناس أخرجها الإمام مالك والإمام أحمد والحميدي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطبراني في الكبير والبغوي في شرح السنة عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وتفصيل الخبر أن أناساً من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي الله في أناس من أصحابه يصلح بينهم فحضرت الصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فأذن بلال بالصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فجاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال إن النبي و حبس وقد حضرت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت فأقام الصلاة فتقدم أبو =
٣١٥

حين خرج ولم يأمرهم أن ينتظروه بالصّلاة فلما جاء وقتُ الصلاة قاموا بما به أمروا وهنا لما
أمَرَهم بأن ينتظروه امتثلوا
ويترتب عليه من الفقه ما قدَّمنا اللهم إلا أن يَعلَموا بالقطع أن شُغل الإمام يسير وإن لم يأمرهم بالانتظار فَلِحُرمته إذا كان في الوقت سَعَة ولم يخرج الوقت المختار فلينتظروه وقد قال بعض العلماء إنه إذا كان شخص يواظب على الصلاة في مسجد واحد وحان وقتُ الصلاة وهو لم يجىء إنه يُنتظَر قَدْر ما تُوقع صلاة وحينئذ يصلون لأن لملازمته حرمةً ينبغي ألا يُغفل عنها والإمام - ولا بدَّ - أكبَرُ حرمةً من هذا
ولذلك نذكر حكاية الشيخ الذي كان يأتي الصلوات فيؤذن عند باب المسجد وحيئنذ يدخُل فاعتقل يوماً عن وقته المعهود فأقام المؤذن الصلاة ودخلوا في الصلاة فجاء الشيخ وهم في الصلاة فتغيَّر خاطره لكونه فاته الأذان ولم يقل شيئاً فلما كان الليل رأى المؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له تأدب مع الشيخ فلما جاء الشيخ إلى صلاة الصبح قال للمؤذن أظننت أني ليس معي من ينتصر لي فتاب المؤذن واعتذر للشيخ وهكذا هو حال كل من صَدَق مع مولاه فإنه يَنصُره
الوجه الرابع فيه دليل على تسوية الصفوف وهو من سنّة الصلاة يؤخذ ذلك من قوله فسوّى النّاس صفوفهم فلولا ما كانت تلك سنّة معلومة ما ذكرها الصحابي رضي الله عنه وهنا بحث هل هذا الحديث معارض للذي قبله أم لا
فإن حملناه على ظاهره ففيه تعارض لأن المتقدم قال فيه لا تقوموا حتى تَرَوْني وهنا سُوبَتِ الصفوف وحينئذ خرج رسول الله ولعل هذا ومثله كان الموجِبَ لِنَهْيِهِ عليه السلام في الحديث قبل ألا يقوموا حتى يَخرُج
وإن تأوّلنا وقلنا معناه أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى النّاس صفوفهم لأن هذا في لسان العرب كثير يقدمون المؤخّر ويؤخرون المقدَّم إذا لم يقع على السامع إلباس
بكر رضي الله عنه ثم جاء النبي عليه السلام يمشي في الصفوف حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس في التصفيح أي التصفيق باليدين حتى أكثروا وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يكاد يلتفت في الصلاة فالتفت فإذا هو بالنبي عليه السلام فأشار إليه بيده فأمره يصلي كما هو فرفع يده أبو بكر فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه حتى دخل في الصف وتقدم النبي الله فصلى بالناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إذا نابكم شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من رابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله
٣١٦

كقول مولانا جلّ جلاله فَجَمَلَهُ غُنَاء أَحْوَى ۱ ومعلوم أنه لا يكون غثاء حتى يكون أولاً أحوى
فكذلك هنا لما تقرّر الحكم بألا يقوموا حتى يروه قدّم المؤخر للعلم به أنّه مؤخّر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الجُنُب لا تجب عليه الطهارة إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من أن النبي أخر الطُّهور عن وقت الجنابة حتى نسيه وخرج وهو جنب فلو كان وقوع الطهارة واجباً إثر الحدث ما أخره النبي لا لا لا حتى نسيه
الوجه السادس فيه دليل على جواز الحكم بقرينة الحال إذا لم يحتمل غير وجه واحد يؤخذ ذلك من قول الصحابى وهو جُنُب لأن الصحابي لم يعرف ذلك إلا من قرينة الحال ـ وهي ما وصفه آخراً بقوله ورأسه يقطر ماءً - لأنه لما ترك الله و الصلاة بعدما كان الناس سؤوا صفوفهم وأمرهم بانتظاره ثم خرج بأثرِ الطهور عليه لم يبق وجه يتقرر في الموضع غير الجنابة لا غير حقا ولولا ذلك ما أخبر بالقطع ويترتب عليه من الفقه أن كل وجه يُتَوصَّل إلى القطع بمدلول عليه فهو طريقٌ يَحصُل به علمٌ حقيقي يجب الحكم به
فأخبر
الوجه السابع فيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشرية ليس بمنافٍ للعبادة إذا فعل على مَشْروعِيَّتِه يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمداً الله بالإجماع أعبَدُ الناس وترى ما طُبِعَت عليه البشرية من الجماع وغيره ولم يُخِلَّ بعبادته شيئاً لأنه عليه السلام لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها وهذا هو غاية الكمال في البشريّة لأنه يرجع ما طُبع عليه تابعاً لما أُمِرَ به وقد قال مولانا جل جلاله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَجًا وَذُرِّيَّةً ٢ فمفهوم هذا - وهو ذكرُ الزَّوجة والذريَّة - لأنهما أعظمُ ما يَفْتَتِن بهم الناس والنكاح أكبرُ الشَّهوات فدلَّ على أن جميعهم صلوات الله عليهم على طبع البشرية من كل الجهات إلا أنَّهم لم يمنعهم ذلك من توفية أعلى الأحوال وهي توفيه حق النبوّة والرسالة وبهذا سقط عُذْرُ غيرِهم بألا يمنعهم شيءٌ مما طبعت عليه البشرية من توفية ما كلفتهم الربوبية فقامت الحجة الله عزّ وجلَّ على عباده
قُل فيلو الحمة الكلمة ۳
۱ سورة الأعلى الآية ٥
سورة الرعد من الآية ۳۸

۳ سورة الأنعام من الآية ١٤٩
۳۱۷

الوجه الثامن فيه دليل على عدم الحياء في الدين يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمدا لما اقتحم للجنابة لم يعتذر ولا غطّى على رأسه كي يخفي ذلك وإنما ترك الأمر على ما وقع
حتى يُقعد هذه القاعدة التي ذكرنا
الوجه التاسع فيه دليل على أن التعمق في العبادة والوسواس إما بدعة أو بلوى يؤخذ ذلك
من أن سيدنا محمدا لم يطل المكث في طهوره
يؤخذ ذلك من قوة كلام الصحابي الذي قال إنه عليه السلام تركهم قياماً ورجع فاغتسل وخرج فصلى بهم فدل أنهم بقوا قياماً ينتظرونه ولو كان لبتُه في طهوره يَطُولُ لأمرهم بالقعود وحينئذ ينتظرونه لما يُعلم من رفقه عليه السلام بأمته والتيسير عليهم في جميع الأمور مما هو قد رجع علم ضرورة لا يُحتاج فيه إلى دليل
وفعله عليه السلام ذلك فيه وجه من الفقه لأن تعلمهم يفعله أن الإسراع في الطهور والإبطاء في الصلاة هي السنة لأن التعليم بالفعل ولا سيما من المشرع عليه السلام أبلغ من القول وكذلك كان له يقصر الخطبة ويطيل الصلاة
واليوم الأمر من الأكثر ممن يدعي العلم بالضد مما ذكرنا فأنى لنا الاقتداء بمن خالف سنة رسوله أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون لا يرجع المتعبد من الأعلى إلى الأدنى يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام أمرهم أن يبقوا على حالهم ولم يأمرهم بالقعود لأنهم قد قاموا إلى التوجه فكرة أن يقول لهم ارجعوا إلى الجلوس فقال على مكانكم
الوجه الحادي عشر فيه دليل على تركه التجفيف من الطهور يؤخذ ذلك من قول الصحابي ورأسه يقطر ماءً والذي يجفف لا يقطر منه الماء وقد جاء عنه أنه جفف وجاء عنه أنه لم يجفف كما يقتضيه هذا الحديث فالوجهان على هذا جائزان وهي توسعة من الله على عبيده الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الإيمان كان في حياة رسول الله أقوى مما كان بعده يؤخذ ذلك من قول الصحابي فسَوَّى الناس صفوفهم من غير خبر منه له له و وجاء أن زمان عثمان رضي الله عنه وكل أناساً بتسوية الصفوف فلا يكبرون حتى يأتوه فيخبروه أن الصفوف قا استوت كما أخرجه مالك في مُوَطنِهِ فبان الفرق بين الإيمان في الزمانين فما بالك بإيمان
أهل وقتنا أجزل الله لنا النصيب منه بِمَنه ويترتب على هذا من الفقه أن بقدر قوة الإيمان تَخِفٌ أعمال البر يؤيد ذلك قوله تعالى
۳۱۸

ما وقع
حد ذلك
غتسل قعود
مما هو
ظهور
بلغ من
خالف
إلى
لأنهم
حابي
ته أنه
ده
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ۱ وبهذا النوع من قوة الإيمان ظهر على أيدي الصحابة رضي الله عنهم ما لم يظهر على يد غيرهم ولا قدروا عليه ثم بعدهم أهل الصوفة ما حملت أبدانهم تلك المجاهدات وظهرت لهم تلك الأحوال السنيّة إلا بقوة إيمانهم
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
كان
مان
ـوف
ـمان
ته له کا ناجا
1 سورة البقرة من الاية ٤٥
بالى
alets

<-{1
حديث سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظل عرشه
يومَ لا
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي الله قال سبعة يظلهم الله في ظله ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابًا في الله اجتمعا عليه وتفَرَّقا عليه ورجل طلبته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجَمال فقال أخافُ الله ورجلٌ تصدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شِماله ما تنفقُ يَمينُه ورجلٌ ذَكَرَ الله عزّ وجلَّ خالياً ففاضت عيناه
*
إني
ظاهر الحديث أن السبعة المذكورين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول ما معنى يُظِلُّهم وهل لا تكون ۱ هذه الخصوصية بهذا الظل إلا لهؤلاء المذكورين لا غير أو لهم نظائر
فالجواب عن الأول أن يقال معنى يظلُّهم بظله أي أنه جلّ جلاله يُعافيهم من هول ذلك اليوم العظيم وحَرِّه بظله المديد ورحمته الواسعة والكيفية لا مجال للعقل فيها لأن الآخرة يُصدق بها ولا يُتَعَرَّضُ إلى كيفيَّتها
وأما قولنا وهل هو لهؤلاء المذكورين أو أكثر فقد جاءت أحاديث أُخَر ذكر فيها آخرين وأخبر أنهم مثل هؤلاء في الظل
وهنا بحث لم جاءت الأخبار عنهم في أحاديث متفرقة فتفريق الأخبار لحكم منها أنه قد تكون الأخبار بقدر ما يحتاجه الوقت ليكون لأهل الوقت اهتمام به كما جرت عادته أنه حين سأله بعض الصحابة ما خيرُ الأعمال فقال للواحد بخلاف ما قال لغيره
1 يريد أولا تكون

ويكون الجمع بينهما بأن نقول أخبر لكل ۱ شخص بما هو الأفضل في حقه لأنه ل مثلُ الطبيب الذي يَصفُ لكل شخص من الدواء ما هو الأصلح له فطبه أي طبّ ودواؤه أي دواء ! كما
قال لعبد الله بن عمر نِعْمَ الرَّجلُ لو كان يقوم الليل ۳ فرجع عبد الله لا ينفك ملازماً قيام الليل
وقد يكون لم يعلم في الوقت إلا بالذي أخبر به في الحديث الواحد ثم بعد ذلك أخبر بالغير كما قال عليه السلام في حديث عذاب القبر ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا ۳ لأن نزول الأحكام مفرَّقةً أيسر على المكلَّف من أن تكون جملة هذا من طريق اللطف والله لطيف بعباده
وفيه وجوه أخر لأن دوام تعمير الأوقات بالأخبار بأمور الدين وبشائره وأحكامه فيه تنشيط لنفوس العبيد وإظهارٌ للرَّحمة بهم فإن تردّدَ أوامر المولى على العبيد وبشائرهم وجوائزهم ومراسلاتهم دليل على العناية بهم ولا شيء أفرح لقلوب العبيد من علمهم باعتناء المولى بهم وتكرار نِعَمِه عليهم وبهذا المعنى ذكر عن أيوب عليه السلام لمّا عافاه الله عزّ وجلَّ أنزل عليه فراشاً من ذهب مَلا كلَّ ما له من الأواني ثم رأى جرادة من ذهب تطير فجرى وراءها فأوحى الله عزّ وجلَّ إليه أَمَا أقنَعَكَ كلُّ ما أعطيتك ٤ قال بَلَى يا ربّ ولكن من يَشبَعُ من خيرِك فشكر الله له ذلك
الوجه الثاني فيه دليل على أن أعمال الخير دالة على سعادة الشخص يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله فجعل موجب الظل تلك الأعمال

الوجه الثالث فيه دليل على أن جميع أفعال البر مطلوبة منا وإن لم يكن بعضها فرضاً يؤخذ ذلك من وصفه عليه السلام ثواب الأعمال ولم يأمر بعملها لأن كثرة الربح تحض بضمنها
على المعاملة
الوجه الرابع فيه دليل على أن أمر الآخرة بضد أمر الدنيا يؤخذ ذلك من أن الدنيا ندب إلى التقليل منها كقوله عليه السلام فاتَّقوا الله وأَجْمِلوا في الطَّلَب ٥ والآخرة رغب في التكثير منها وإن كان الشخص معه من العمل ما يتخلص به وقد زاد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَلَا تَمنُن
۱ زاد اللام للتقوية
رواه الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر عن حفصة بلفظ آخر

هو جزء من الحديث رقم ۱ في هذا الكتاب ٤ أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ٥ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ومطلعه إن روح القدس نفث في روعي

تَسْتَكْير ۱ أي لا تقل معي من أعمال الخير ما يكفيني فتقلل من العمل - على أحد الأقاويل -
مما قيل في معنى الآية
الوجه الخامس فيه دليل على أن إعطاء الأجور على الأعمال لا يترتب على علة عقلية ولا علية يؤخذ ذلك من أن هذه الأعمال السبعة فيها واجب وفيها مندوب والثواب فيها على حد واحد وقد أجمعت الأمة - بمقتضى الأدلة الشرعية - على أن الفرائض أعلى من غيرها من الأعمال فلو كان الثواب عِليَّةً من العلل ما كان يسوي بين ثواب الفرض والندب وقد سوى هنا
بينهما فليس ذلك لعلة
فإن احتج محتج بأن يقول تَسَاوَوْا في أن الظل عَمَّهم وتفاوتوا فيه في عظمته وامتداده وغير ذلك من حسن أوصافه كما أن أهل الجنة يدخلون الجنة ويتفاوتون في المنازل فيها فالجواب أن الذي أخبرنا بالجنة أخبرنا بتفاوت المنازل فيها والذي أخبرنا بالظل لم يفرّق وأمور الآخرة هي غَيْب والغيب لا مجال فيه للقياس ولا للعقل وإنما الشأن فيها التصديق بها على ما جاءت به اللهم إلا أن يكون بعض ما يُستَدَل به على الزيادة في الأجر إذا نُظر من طريق الجمع بينهما فيُرجع إلى طريق الأخبار كما هو أيضاً
الوجه السادس فيه دليل على أن بعض الفرائض ثوابها أعلى من ثواب غيرها لأن الذي هنا مذكور من الفرائض ثوابه أكبرُ من غيره من الفرائض لأن المعافاة من هول ذلك اليوم أكبر الثواب لأن من عوفي منه لم يبق عليه خوف
الوجه السابع فيه دليل على أن بعض المندوبات ثوابها أعلى من ثواب بعض الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله والأكثرُ من السبعة هو من المندوب وهذا الثواب لم يأتِ مثله على بعض الفرائض
وهنا بحث كيف يمكن أن يكون بعض المندوبات أفضَلَ ثواباً من بعض الفرائض وقد قال حكاية عن مولانا لن يتقرب إلي المتقربون بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم وصيغة أحبّ تعطي الأفضلية في الفائدة فالجواب أنه ما يصح له علم ثواب المندوب إلا بعد تحصيل المفروض لأنه إذا عمل المندوب ولم يأت بالمفروض استوجب دخول النار وقد جاء أن وادياً في جهنم يُسمَّى الغيّ هو لمن ترك شيئاً من الفرائض ومن ترك المندوب فلا عقاب عليه
غير أنه فاته ثواب عظيم
1 سورة المدثر الآية ٦
انظر تخريجه في الحديث ٦ ومطلعه من عادى لي وليا

فصورة الجمع بين الوجهين أن نقول إن الفرائض أرفع لأنها بالوعد الجميل من جاء بها لا
زيادة
يدخل النار وبعض المندوب أكثرُ ثواباً من الفرض لكن ذلك الفرض - وإن كان ثوابه أقل من أجر المندوب ـ فقد فاته الفرض بأمرٍ أعظم من ذلك وهو البعد من النار وقد قال لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيماً ۱ فوقعَ الفرقُ بأن الواحد - وهو المندوب - أكثرُ ثواباً والآخرُ وهو الفرض أكثر فائدة والفائدة تحوي أشياء من المنافع عديدة وتعظيم الأجر لا يقتضي على غيره غير التفضيل في ذلك الوجه الواحد ليس إلا كقولنا مثلاً زيد أجمَلُ من عَمْرو وعمرو خير من زيد فزيد ما فضل عَمْراً إلا في الجمال ليس إلا وعمرو فاق زيداً في أشياء عديدة لقولنا هو خير منه فنسبة ما فضل عليه في الوجه الواحد بنسبة الذي زاد عليه من وجوه عديدة كنسبة صاحبين كانت خياطة ثوب أحد الصاحبين خيرا من خياطة ثوب صاحبه وثوب صاحبه
أرفع منه فأشرفهما وأرفعهما في اللباس الذي ثوبه أرفع وإن كانت خياطة ثوب صاحبه أرفع
الوجه الثامن قوله عليه السلام يوم لا ظل إلا ظله الظلال كلّها لله مِلْكٌ في الدنيا والاخرة فالحكمة في الإخبار بهذه الصيغة هنا أن ظلال الدنيا - وإن كانت له جل جلاله - فمنها ما قد جعلها عزّ وجلّ ملكاً للعبيد يتملكونها بحسب ما شرع لهم ذلك لا يتصرف فيها أحد إلا برضاهم حكماً منه بذلك مثل ظلال الحدائق المتملكة وظلال الله عزّ وجلّ لم يجعل لأحد عليها ملكاً فمن احتاج إلى شيء منها أخذَها دون عَنَت في ذلك مثل الظلال التي في القَفْرِ أو قد خرج أصحابها عنها الله عزّ وجلّ وسبَّلوها له وظلالُ الآخرة ما فيها مُباح بل كلها قد تُمُلكت بالأعمال التي عَمِلها العاملون الذين هداهم بفضله لتلك الأعمال التي ذلك ثوابها بمقتضى قوله المؤمنُ في ظلِّ صَدَقته يومَ القيامة ٢
التي قد
فليس هناك لصعلوك الأعمال ۳ ظل فكأنه عليه السلام يقول ليس هناك ظل إلا لمن عمل هنا الله فلما أضاف أعمال البر هنا إليه كما قال عزّ وجلّ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ٤ أي ما كان لوجهه فهو باقٍ يَنتفع به صاحبه في الدارين وما ليس لوجهه فهو - وإن كان نفعه موجوداً لصاحبه في هذه الدار - لم يجده هناك حيث الحاجة إليه فهو هالك أي ليس يُنتفع به وقد يتضَرَّرُ به فيكون أبلغ في الهلاك فأضاف ثوابها في الآخرة إليه ٥

۱ انظر تخريجه في الحديث ۱۱
انظر الحديث رقم ۱۳۸
۳ صعلوك الأعمال الفقير إلى الأعمال الصالحة المقبولة في الآخرة
٤ سورة القصص من الآية ۸۸
٥ أي في قوله وجهه حيث أضاف الأعمال أعمال البر إليه تعالى
۳۳
L

الوجه التاسع فيه إشارتان عجيبتان إحداهما الإرشاد إلى الإخلاص في العمل ولهذا قال بعض الفقراء الصدق والإخلاص علامة الخلاص والثاني هي رد الفرع إلى أصله بإضافة الفرع الذي هو الظل إليه كما كان الأصل في الدنيا مضافاً إليه وهو من بديع الحكمة ويترتب على هذا من الفقه الحث على الأعمال الخالصة التي توجب هناك ذلك الظل
المبارك جعلنا الله ممَّن أجزل له منه الحظ بمَنِّه
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة القادر جل جلاله يؤخذ ذلك من أن الأعمال هنا
معان وهناك بهذا الخبر الصدق جواهر محسوسات
وهنا بحث هل هذه السبعة خصت بهذا الثواب تعبداً لا يُعقل لها معنى أو هي معقولة المعنى فإن قلنا إنها تعبّد غير معقولة المعنى فلا بحث وإن قلنا إن معناها معقول فما هو فالجواب - والله أعلم - أن العلة فيها على وجهين
أحدهما قوة قهر النفس والهوى وهو من أكبر الموجبات لخير الدنيا والآخرة لأنه جل جلاله قال وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۱ وقال رجعتم من الجهاد
الأصغر إلى الجهادِ الأكبر وهو جهاد النفس و الوجه الآخر هو حقيقة الإخلاص وقد قال جل جلاله وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۳ وقال إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قالوا وما إتقانه يا رسول الله قال يُخلصه من الرياء والبدعة ٤ وترك الرياء هو عين الإخلاص وكلتا العلتين الحامل عليهما خوفُ الله عزّ وجلّ فاختَبِرْها واحدةً واحدةً تجد ذلك
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام الإمام العادل فلأنه لا يمنَعُهُ من الظلم ولا يَفْهَرُ نفسه على العدل مع تمكنه من الظلم لقدرته عليه من طريق الحكم وقدرته على قهر غيره ولا أحد يقدر أن يصده عنه عنه إلا شدة خوفه من الله وقد جاء الحديث عن الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات فلما مات فعلوا به ذلك فجمعه الله وقال له لِمَ فعلتَ هذا قال من خشيتك يا رب فغفر له فشدة خوفه كان منجِياً له الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام وشاب نشأ في عبادة ربه فلأن العبادة هي قهر النفس وخروجها عن راحتها وحملها على المجاهدات والدوام على ذلك
۱ سورة النازعات من الآية ٤٠ وتمام الآية ٤١ انظر تخريجه في الحديث ١٦ ومطلعه قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَم
۳ سورة البينة من الآية ٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ومطلعه إن الله يحب إذا عمل العبد عملاً أن يحكمه
قوة شهوات
٣٢٤

لهذا
سافة
ظلَّ
هنا

14
النفوس زمان الشباب فما حمله على ذلك إلا الخوف الشديد ولهذا المعنى يُروى عن بعض أنه كان يأوي إلى فراشه فلا يقدر على النوم فيقول اللهم إنك تعلم أن خوف نارك
المتعبدين
منعني
الكَرَى ثم يقوم فيصلي حتى يصبح الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام ورجل قلبه معلق بالمساجد فحقيقة الإخلاص توجب تعلق القلوب بالعبادات وأرفع ما تكون الصلاة في المساجد فهو مشغول بأرفع العبادات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يسمّى حمامة المسجد لكثرة ملازمته إياه
الوجه الرابع عشر قوله عليه السلام ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه فهو يوجب شدة الإخلاص منهما حتى لم يبق للنفس شهوة ولا ميل لشيء من الأشياء إلا لله و بالله الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام ورجل دعته امرأة ذات مَنصِب وجَمال فقال
إني أخاف الله فهذا لِعِظَم قَهْرِ النفس عن هواها والحامل على ذلك شدة الخوف من الله وهنا بحث وهو لِمَ قال عن المرأة مع هذين الوصفين اللذين فيها لأن ذات المرأة وحدها من أكبر الفتن وقد قال ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء١ فذكر الوصفين كل واحد منهما من أقوى البواعث في شهوات الجماع والرغبة فيها وقد قال تزَوَّجُ المرأة لجمالها وحسبها لأن ما ترغب النفوس في واحد طبعاً إذا اجتمع أكثر من واحد كان أشد في الرغبة فيه وقوة الشهوة فمن أجل ذلك عَظُم الأجرُ لتاركه
ومثل ذلك يذكر عن بعض أهل الصوفة كان بعضهم ممسكين في الخلوة وبعضهم غير ممسكين ثم فتح عليهم بطعام طيب فقال الشيخ قدَّموا أهل الخلوة فخرج بعضهم عنه لإخوانه قبل أن يعرف ما هو وقام بعضهم فكشف الطعام حتى عاينه وعرف ما هو ثم بعد ذلك خرج عنه وقام بعضهم فعاينه ورفع منه لقمة لفيه حتى عرف طعمه بها وتأكدت عنده قوة الشهوة لذوقه طيب الطعام ثم بعد ذلك خرج عنه فكان زهد الأكل اختياراً للطعام أعظم منزلة لقوة شهوته وقهره لها الوجه السادس عشر قوله عليه السلام ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تُنفِقُ يمينه فهذا تحقيق في الإخلاص ومثل ذلك يُرْوَى عن بعض أهل الصوفة أنه كان قلما يقبل شيئاً فلما كان ليلةً بعد العشاء الآخرة فإذا رجل يقرع الباب فخرج إليه فإذا هو رجل من جيرانه وكان صانعاً في الخياطة
۱ تقدم تخريجه في الحديث ۳۳
رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٣٢٥

فقال له خطتُ اليوم بكذا وكذا واشتريتُ به هذا الطعام معه وما يُحتاج إليه في البيت ورأيت أنها من جهةٍ حلال ارتضيتُها لك وهذا ليل مظلم ووالله ما عرفتُ أحداً ولا راني أحد حين جتك وها هوذا ثم رَمَى ما كان بيده بالباب وولى فما حَمَلَه على هذا الإخفاء العظيم إلا رغبه
في الإخلاص في العمل
عند
الوجه السابع عشر قوله عليه السلام ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً ففَاضَت عيناه فلأنه اجتمع له الوصفان الخوفُ والإخلاص وهذه الأوصاف الحميدة لا يقع منها شيء إلا ذهاب أوصاف النفس وعلى قدر غيبتها يكون الفتح ولذلك قال بعض من نسب إلى القوم إذا رأيت نفسك لم تَرَ غيرَها وإذا لم تَرَها لم يبق لك شيءٌ إلا رأيته فارغب في رؤية ما لا تُحصيه ومن المحاسن ما لا تعرف منه ذرّة بالإعراض عما لا يساوي في الحقيقة ذرَّة فإذا كنت بهذا الوصف عاد الورى بأسره لا يعدل منك ذَرَّة
عدا
وبقيت بحوث منها
البحث الأول هل الإمام العادل هنا الذي له الحكم على الخاصة والعامة وله البَيْعَة أو
الإمام كل من كان مسترعى رعية قلت أو كَثُرَتْ لقوله عليه السلام كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيَّتِه احتمل لكن الأظهر الذي له البَيْعَة ولا
ننفي
الآخر بالأصالة
البحث الثاني قوله في الشاب الذي نشأ في عبادة ربِّهِ هل هو مقيَّد أو مطلق ظاهره مطلق وهو مقيد بأصول الشريعة وهي كثيرة فمنها ما تقدم ذكره من قوله إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يُنْقِنَه قيل وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة وإلا كان هباءً منثوراً البحث الثالث قوله في الرجل الذي قلبه متعلق بالمساجد فليس على عمومه أعني أن الرجل يكون قلبه متعلقاً بكل مسجد في الدنيا فإن هذا المعنى لا فائدة فيه ولا يمكن أيضاً أن يتعلق قلب أحد بما لم يرَ ولم يسمع ولم يعرف فما بقي إلا أنه تحرز بقوله بـ المساجد ولم يقل بـالمسجد لأن هذا الاسم من أسماء الغلبة للكعبة أو لمسجده ل لأنه إذا سمع السامع من الشارع عليه السلام هذا الفضل العظيم لم يسبق لقلبه إلا أحد هذين المسجدين فعدل عن وصف المسجد بالفرد إلى الجمع وهو الجنس ويكون المعنى أي مسجد كان من جملة المساجد كما قال مولانا جل جلاله ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ لجنس الفقراء والمساكين فإذا أعطى إنسان صدقته لمسكين واحد فقد وقعت في مستحقها وأجزأته
۱ سورة التوبة من الآية ٦٠

أي
٣٢٦

ރ
حسین
ند
ذا
عن فرضه ويكون معنى تعلق قلبه بها أنه إذا خرج منه بقي قلبه متعلقاً به أن يعود إليه لأداء الصلاة التي تأتي بعد وإنما المساجد لما بنيت له
وفيه من الفقه أن هذا الذي قلبه متعلق بالمساجد إنما هو زائد على ثواب صلاته لأن ثواب الصلاة قد جاء ما حَدُّه في الجماعة وما حده في الوحدة وجاء ثواب الخُطى إلى المساجد وما قدْرُه وانتظار الصلاة وما قدر الأجر في ذلك فما بقي من مقابلة هذا الثواب العظيم إلا تلك النية المباركة وقد قال نيه المؤمنِ أبلَغُ من عمله ۱ لأن تلك النية المباركة هي نتيجة قوة
خالص إيمانه

البحث الرابع قوله في الرجلين اللذين تحابا في الله هل يكون ذلك على عمومه - أعني إذا تحابا في الله إلا أنه يجد كل واحد منهما منفعة من صاحبه أو يرجوها منه إما في العاجلة أو الآجلة مثال ذلك أن يصحب أحدهما الآخر ويجد به عَوْناً على شيء من دنياه حسًا أو معنى أو يقول يكون لي عُدّةً في الآخرة يشفَع لي أو ما أشبه ذلك - أو لا يكون له ذلك الظلّ إلا حتى تكون صحبتهما الله عزّ وجلّ لا لغيره احتمل والظاهر - والله أعلم - أن يكون الله خالصاً لا لِحَظ دُنْيَوِيٌّ ولا أُخْرَوِيّ كما روي في الهدية عن عبد الله بن عمر أنه قال من كانت هِبْتُه لوجه صاحبه فله ذلك وليس له على الله ثواب ومن كانت هِبَتُه لوجه الناس فله ذلك ومن كانت هِبَتُه للثواب فإما أثابه الموهوب له أو يَرُدُّ هِبَتَه وإن كانت خالصة الله فتلك التي يُثيبه الله عليها
ويقوّي ذلك ما قاله عن مولانا جل جلاله يقول يوم القيامة لمن خلط في عمله
لغير الله شيئاً أنا أغْنَى الشركاء إذهب فخُذِ الأجر من غيرِي الذي شَرِكتَه فيه
فالمتحابون في الله على ثلاثة وجوه
إما أن يكونا تحابا في الله مع رجاء حطام في هذه الدار معنويا كان أو حسنًا فهذا طالب حاجة وَهِمَّتُه في دنياه فليس له إلا حاجته قضيت أو لم تُقضَ كما قال الله مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
والثاني أن تكون صحبته الله مع رجاء حظِّ أَخْرَوِيّ حسّا كان أو معنى فهذا أيضاً طالب حاجة لكن نفسه أرفع من الأول وهو الأكثر عند المنتسبين للخير فله حاجته قضيت أو لم
تُقضَ
۱ سلف تخريجه في الحديث
رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
0

والثالث الذي تكون صحبته الله ليس إلا فهذا الذي يَصْدُق عليه اسم المتحابين في الله على حقيقة اللفظ وإذا كان كذلك لا يغيّره من أخيه شيءٌ يَصدر له منه وإذا كان على غير هذا الوجه فقلما يثبت عند الامتحان فإذا كانت نية أحدهما الله ونية الآخر لغير ذلك فلكل امرىء ما نَوَى
وقد ذكر عن بعض من اصطحبا الله أنه جفا أحد الأخوين أخاً له فقال الذي جُفي عليه للآخر امْضِ يا أخي فاحضر مجلس فلان من أهل الصوفة في الوقت فامتثل ما قال له صاحبه فلما حضر المجلس تكلم ذلك السيد في ذلك المجلس على ما كان وقع من ذلك الشخص لصاحبه وتبين له من المجلس أنه تعدّى على أخيه وجفاه فتاب واستغفر وعزم أن يعود فيقبل أقدام صاحبه لعله يعفو عنه فلما دخل على صاحبه أخبره بالذي جاء بسببه فقال له يا أخي افعل ذلك مع نفسك فإني ما صحبتك إلا الله خالصاً فكيف يعزّ عليَّ ما يصدر منك وإنما وجهتك في حق نفسك لا غير

البحث الخامس قوله طلبته امرأة ذات منصب وجمال هنا من الفقه أن من السنّة الكناية عن الشيء القبيح شرعاً والإعراض عن تسميته يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام طلبته والطلب هنا يعني طلبت منه وقوع الفاحشة المحرمة فكنى بطلبته عن هذا الأمر الممنوع شرعاً
ولم يفصح به
البحث السادس قوله أخفاها هل هذا على العموم - أعني صدقة الواجب والتطوّع - أو معناه الخصوص فيريد بهذا صدقة التطوّع لا غير صيغة اللفظ محتملة لكن الذي قاله العلماء أن أفعال البرّ كلها الفرضُ منها الأفضلُ فيه ظهوره والتطوّع كله الأفضل فيه إخفاؤه لأنه قال صلاة المرء في بيته أفضل له إلا المكتوبة ۱ فإذا كانت الصلاة ـ التي هي رأس الدين كذلك فالغير من باب أولى وسيأتي الكلام على هذا في موضعه من الكتاب - إن شاء الله البحث السابع قوله ذَكَرَ الله خالياً ففاضت عيناه هل يعني بقوله خالياً حسّاً أو معنى أو مجموعهما وأعني بقولنا حِسّاً أن يكون في موضع وحده ليس معه أحد من بني آدم وأعني بقولنا معنى أنه لا يكون الموجب لبكائه إلا خوف الله عزّ وجلّ ليس إلا ومجموعهما وهو
حين يكون وحده ولا يكون موجب بكائه إلا خوفَ الله
فأما إذا كان الوجهان معاً فلا شك أن هذا أكمل الأحوال
وأما إذا كان خلياً من دون البشر ووافق بكاؤه فكرة أخرى ليست من الله ولا من ذكره
۱ رواه البخاري والنسائي وابن حنبل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولفظه صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
۳۸

جد
ما

بشيء فلا خلاف أن هذا الحال ليس المشار إليه هنا وهي حالة مذمومة لأنه مُراء إذ أظهر أنه
من أجل الله لكن خرج الدمع بحكم الوفاق عند ذكر الله في الخارج وهو في الحقيقة غير ذلك وأما الوجه الثالث وهو أن يكون ذكره في جمع وذكر الله وقلبه خال مما سواه وكان ذلك الذكر هو المؤثر لخروج الدمع فيرجى أن يكون من هؤلاء المباركين لأنه يَصْدُق عليه خالياً معنى فإذا وقع وجه ما محتمل رُجي والمتحقق مقطوع به وهو الجميع كما تقدم وهنا بحث آخر وهو هل قوله ذكَرَ الله هل يكون الذِّكْرُ المعني هنا باللسان والشفتين أو بالقلب وإن لم يتحرك اللسان أو بأيهما كان يُسمَّى ذاكراً فالجواب أنه ينطلق على كل واحد من هذه الوجوه أن يوصف صاحبها ۱ بالذكر بدليل قول سيدنا في الحديث الصحيح كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن ذَكَرَني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومن ذكرني في مَلاً ذكرتُه في ملأ خير منهم فقد سمّاهما ذاكِرَيْنِ والطفيلي يتعلق بأقل من هذا وأما على مذهب أهل الصوفة فذكر القلب عندهم أفضل وأما على ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذِكْرُه عند الأمر والنهي فذكره عند الأمر والنهي خير له من اللسان لأنه قال ذِكْرُ الله عند أَمْرِهِ ونهيه خير له من ذكره باللسان
فالجواب عن قول عمر رضي الله عنه نعم إن ذكر الله عند أمره ونهيه خيرٌ من ذكره باللسان لكن لا يتناوله هذا الحديث ويُرجَى أن يكون حاله أرفعَ من هذا
وأما ما قاله أهل الصوفة فعلى ملاحظة قول سيدنا بَضْعَةٌ في الجسد إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسد ألا وهي القلب ۳ فعلى هذا يترجّح قولهم على قول غيرهم والشأن العمل على الخروج عن الخلاف والأخذ بالكمال في كل الأحوال
جعلنا الله مِمَّن مَنَّ عليه بذلك بِمَنْه امين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

1 الصواب صاحبه أخرجه عبد الله بن المبارك عن خالد بن معدان في الزهد والرقائق
۳ جزء من حديث رواه الشيخان وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما
۳۹

حديث تقديم العشاء على الصلاة
عن عائشة ١ رضي رضي الله عنها عن النبي ل قال إذا وُضِعَ العَشاءُ وأُقيمتِ الصَّلاةُ
فابدؤوا بالعشاء
ظاهر الحديث يدل على جواز تقديم العشاء إذا وُضِعت وإن أقيمت الصلاة والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الأمر هنا على الوجوب أو الندب أو الإباحة أو هو على جهة التوسعة ليتأتى بذلك للمكلَّف العمل بفقه الحال فالذي يكون لحاله أرفَعَ يفعل فالأمر محتمل للجميع لكن الأظهر - والله أعلم - أن يكون هذا توسعة ليكون المكلف في كل وقت يأخذ بالأصلح في دينه فإن كان مَثَلاً وُضعت العشاء وله بها حاجة أكيدة من حيث أن قدَّم الصلاة عليها كان خاطره فيها أعني في عشائه أو به ضعف عن توفية أركان صلاته فإذا تعشّى وجد بها قوة على توفية صلاته فهذا وما أشبَهَه تقديمُ العَشاء في حقه أفضل وإن كان ممن لا شهوة له في عَشائه وقواه مجموعة أو أنه يخاف إن تعشى يلحقه ما يلحق بعض الناس إثر الطعام من الكسل فهذا وشبهه تقديم الصلاة خير له وإن كان مِمَّنِ الأمرُ عنده سِيّان قدَّم العَشاء أو الصلاة لم يظهر له ترجيح بينهما فهنا ينظر لوقت الصلاة فإن كانت مَغرِباً فالأولى تقديمها لأنه الوقتُ المُجمع على فضيلته وإن كانت العِشاء فلا يخلو أن يدرك جماعة أخرى أو ليس فإن كان يدرك جماعة أخرى فتقديم العشاء أفضل لأن تأخير الصلاة وترك الشغل بعدها أفضل وإن كان لا يدرك جماعة أخرى فتقديم الصلاة أولى لأنه من صلاها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكما رجحنا بالنسبة إلى

۱ انظر ترجمتها في الحديث ۱
۳۳۰

النظر إلى حاله فكذلك يلزمه الترجيح لنظر الغير إن كانت عشاءُ غيره ملتزمةً مع عشائه۱ لقوله كُلُّكُمْ رَاعٍ وكلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ
وُضِع
الوجه الثاني فيه دليل على أن وقت المغرب ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء لأن العشاء ما لها من أوقات الصلوات بِجَرْيِ العادة عندهم إلا صلاة المغرب وصلاة العشاء والغالب منها موافقتها لصلاة المغرب بدليلين أحدهما ما عرف من حال الصحابة رضى الله عليهم من كثرة دوام صومهم والاخر من الحديث من قوله عليه السلام وأقيمت الصلاة
وإقامة الصلاة لا يسمعها إلا من يكون في المسجد وما قرب من المسجد وهذا اللفظ عام يتناول من يكون في المسجد ومن لا يكون في المسجد بقُرْب أو بُعْد وهو الأكثر وكيف يسمع الإقامة من ليس في المسجد وهو بالبُعد منه فإذاً لا يمكن لأن الإقامة فيما عدا المغرب ـ إذ ليس لها زمان معيَّن يعرف به وقتها - لأنه قد جاء عن سيدنا أنه مرةً يُوقع الصلاة في أول الوقت وأخرى في أول الوقت والوقت متمكن ۳ والخلفاء بعده كانوا يقعدون في آخر المسجد فلا يقيمون الصلاة حتى يتجمع الناس فدل ذلك على عدم تعيين وقت الإقامة ولم يختلف النقل عن سيدنا وعن الخلفاء بعده ومن بعدهم إلى هلم جرًا أن المغرب لا تتأخر الإقامة عن وقت الأذان بها فكان سَمْعُ الأَذان سَمْعَ إقامتها فبان بهذين الدليلين أن الظاهر - من الإشارة بالصلاة في الحديث - صلاة المغرب وثبت بهذا الظاهر أن صلاة المغرب لها وقت ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فابدؤوا بالعشاء فلو لم يكن وقتها ممتدا ما أمرهم بترك الصلاة حتى يخرج وقتها وهم ذاكرون وقادرون الوجه الثالث فيه دليل على أن الأفضل في صلاة المغرب أولُ وقتها يؤخذ ذلك من قوله إذا أقيمت الصلاة فلولا دوامه عليه السلام - على أن إثْرَ الأذان لها تُقام حتى رجع ذلك لها عَلَماً لا يحتاج فيه لغيره - لما أخبر بِسَمْعِ الأذان عن سَمْعِ الإقامة وما دام عليه الا الله وهو الأفضل
بلا خلاف
الوجه الرابع يؤخذ من هذا من الفقه أن العادة إذا كانت لا تنخرم قامت في الإفصاح بها وأغنت عن النطق بما دلت عليه بلا إفصاح به
2
10
مقام
۱ لعله يعني أنه إذا كانت الوليمة أو المأدبة جماعية في أسرة وكانت الجماعة مرتبطة به وقلوبهم مشغولة بالطعام فيقدر لهم حالهم وهذا من فقه الحال
جزء من حديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ أي متسع
۳۳۱

ويؤخذ منه من الفقه أن من لازم شيئاً من الأشياء لا ينفك عنه كان وصفه بذلك الشيء زيادة
بيان في تعريفه
يؤخذ ذلك من أن الأذان شرع للإعلام بدخول وقت الصلاة والإقامة شرعت للإعلام للدخول في الصّلاة فلما لازمت الإقامة في المغرب للأذانِ زادت في تعريفه وصفاً لأنه يُعلم به الأمران معاً ويُخبَر عنهما بأحدهما ويصدق عليه كما فعل هنا سيدنا الذي أخبر ـ
بالإقامة كما تقدم
عنه
الوجه الخامس هنا بحث لم قال إذا وضع العشاء ولم يقل إذا كان وقت العشاء وبحث آخر هل هذا خاص بالعشاء لا يمكن في غيرها أو هو جائز في العشاء وغيرها ويكون ذكر العشاء هنا من باب التنبيه بالأعمّ على الأخص
فالجواب عن الأول أن وضع العشاء وهو جعلُها بين يدي صاحبها سبب لتحريك الشهوة للطعام مما يوجب تعلّق القلب به وتعلّقُ القلب به يوجب عدم الحضور في الصّلاة وعدم الإخلاص وعدم الخشوع وهذه الأشياء هي من الأسباب الموجبة لعدم قبول الصلاة فلما كان حضور طعامه علةً يتوقع منها عدم القبول قيل له داوِ علتَك بأكلك طعامك وحينئذ تقدّم لصلاتك لأن مولانا جل جلاله يقول ﴿ فَإِذَا فَرَغَتَ فَأَنصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ١ قال علماؤنا إذا فرغت من أمور ضروراتك فإن القلب أبداً متعلق بضروراته فإذا فرغ منها حَسُنَ الدّخول في العبادة وكما رُوي عن عبد الله بن عمر أنه إذا كان صائماً ورأى من بعض جواريه ما يعجبه إذا كان وقت المغرب يأكل ويجامع ويتطهر وحينئذ يصلي فهذا السيد عرف معنى الآي والحديث ولذلك كان أَتْبَعَ الناس للسنة فإذا دخل وقت العشاء ولم تكن قُدِّمت له فيجب على ذلك تقديمُ الصلاة لأنه يجتمع له تضييع لا هو يأكل طعاماً ولا هو يؤدي ما عليه من صلاته الوجه السادس يترتب عليه من الفقه أن الحق للمتقدم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
إذا وضع العشاء لأن وضع العَشاء مقدَّم على الصلاة فكان الحق لها الوجه السابع فيه دليل لأهل الخواطر لأنهم يقولون الحكم للخاطر الأول وأما قولنا هل هذا خاص بالعشاء ليس إلا أو هو فيها وفي غيرها فالجواب إن قلنا إن هذا تعبد غير معقول المعنى فيكون مقصوراً على ما جاء فيه لا غير وإن قلنا إنه لعلة وهو الأظهر - والله أعلم - فإذا فهمنا العلة عدينا الحكم والعلة والله
۱ سورة الشرح الآيتان ۷ و ۸

۳۳

ـادة
به

أعلم هنا إن كانت ما أشرنا إليها قبل من تعلق القلب بالطعام ليس إلا فإذا كان هذا جائزاً في المغرب مع ضيق الوقت فمن باب أحرى في غيرها
وإن قلنا إن قوة الشهوة للطعام لا تراعى إلا مع الصوم فيكون موقوفاً على وجود هاتين العلتين الصوم وتعلق القلب بالطعام
وإن قلنا إنما احتيج هذا في المغرب وحدَها لكون العمل على ألا تؤخّر وأن غيرها من الصلوات لك أن تؤخرها إلى أي وقت شئت من أجزاء وقتها المختار بغير علة أكل ولا غيره
فلا بحث
الوجه الثامن فيه دليل على أن من السنّة المحافظة على المندوبات ولا تُترك إلا لضرورة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة وصلاة المرء في الجماعة من المندوبات على رأي أكثر جماعة أهل العلم ودلَّ أنه إذا لم يكن له عذر لا يترك المندوب لأنه لم يُبح له تركُ الصلاة إلا من أجل علّة الطعام وتَقدُّمه
وهنا بحث في قوله عليه السلام إذا وضع العشاء هل هذا على ظاهره أعني أنها توضع بين يدي صاحبها أو يكون وضعها بمعنى أنها قد استوت فلا يمنع من تقدُّمها وأكلها إلا الصلاة لأن العرب تسمي الشيء بما يقرب منه احتمل الوجهين ونجد أيضاً العلة مع وجودها في الوقت سواء كانت بين يدي صاحبها أو حاضرة في المنزل ليست بين يديه موجودةً في النفس
ذلك التعلق
الوجه التاسع فيه دليل على أن المتبع للسنة تَصرُّفه كلُّه طاعةٌ مأجورٌ عليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا وُضِع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء لأن المتبع للسنة لا يبدأ هنا بالعشاء إلا لأمر الشارع عليه السلام بها فيكون مأجوراً لكونه ما وقع أكله لهذه العشاء إلا للأمر بها وغيره لم يأكل عشاءه إلا اختياراً منه ورعياً لشهوته إليها وكثير من يأكل للأمر ومَن يأكل للشهوة وكذلك يكونان في جميع أمورهما كلٌّ على مقتضى حاله

الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين تركوا ملاحظة الشهوة وعملوا على ذلك حتى لم يبق لهم منها شيء لأنها هي أو جبت تأخر العبادة فإذا عُدِمت أوقعَتِ العبادة في
وقتها المختار
التي
الوجه الحادي عشر فيه دليل على رفق المولى بعبيده وأنه عزّ وجلّ غنيّ عن عبادتهم يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بتقديم العشاء على الصلاة لأن الغذاء مما تشتهيه النفوس وتستريح به وتتنعم والعبادة إنما فيها التعب في الغالب من أحوال الناس لأن أهل الخصوص
۳۳۳

يتنعمون بالعبادة كما يتنعم غيرهم بالأطعمة الطيبة ولهذا المعنى ذكر عن إبراهيم بن أدهم ۱ أنه قال مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قالوا وما نعيمها قال لذة الطاعة خرجوا ولم يذوقوها فلا دنيا لهم ولا آخرة وقد كان سيدنا يقول أرحنا بها یا بلال ٢ يعني الصلاة الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الأحكام الشرعية أتت على الغالب من أحوال الناس يؤخذ ذلك من تقديم العشاء على الصلاة لأنه جُبلت النفوس بالميل إلى طعامها هذا هو الغالب من أحوال الناس فجاء الأمر على الحكم الغالب
الوجه الثالث عشر يؤخذ منه أن الخطاب العام يشترك فيه أهل الخصوص والعوام والخطاب الذي هو للخواص لا يشاركهم فيه العوام مثل هذا الأمر هنا اشترك فيه الكل ومثل المحسنين لم يدخل مع المحسنين غيرهم

وأما الدليل على كونه عزّ وجلّ مستغنياً عن عبادة العابدين فلأنه لو كان محتاجاً إليها لم يكن عزّ وجلّ يسامحهم في تأخيرها عن وقتها واشتغالهم بما فيه راحة نفوسهم الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن أمور الدنيا ما تستباح عند أهل الإرادة إلا أن تكون عوناً على الآخرة يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يبح لهم تقديم الطعام الذي هو من حظوظ النفوس - وحظوظ النفوس كلها دنيوية - إلا من أجل حُسن الصلاة وإتمامها والصلاة أُخروية فأعظم أمور الدنيا هو الأكل الذي الكلُّ محتاجون إليه وغيره قد يستغنى عنه ولا يضر والأكل إذا عدم أوجب العدم في العادة المستمرة وهو عون على أعلى أمور الآخرة وهي الصلاة لأنه قال بين المؤمن والكافر ترك الصلاة ۳ فنبه عليه السلام في الحكم الأعلى من أمور الدنيا على الأعلى من أمور الآخرة فالغير هنا في حكم التَّبَع لهما فهما من باب التنبيه بالأعلى على
الأدنى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ انظر ترجمته في الحديث ۱ ٢ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من الصحابة
۳ أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه بلفظ بين الإيمان والكفر ترك الصلاة وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بلفظ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة
٣٣٤

حديث تخفيف الصلاة
عن ۱ أنس بن مالك ١ رضي الله عنه يقول ما صليت وراءَ إمام قط أخفَّ صلاةً ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمعُ بكاءَ الصَّبِيِّ فيخفِّفُ مخافة أن تُفتَنَ أمه
ظاهر الحديث تخفيف صلاة النبي الله مع إتمامها ورَعْيُه في تخفيفها أيضاً حقَّ الغير والكلام عليه من وجوه
كذلك
الوجه الأول تبيين هذا التخفيف والإتمام وهل هذه الحالة دائمة منه عليه السلام أو ليس
فالجواب عن الأول أن تخفيف الصلاة يكون بتقصير القراءة وقد يكون بتقصير القيام وقد يكون بتقصير أركانها كلها إلا أنه يُشتَرَط ألا يُخِلَّ بواحدٍ منها فإنه إذا أخَلَّ بواحد منها
فليست بصلاة
وما يُفهم التخفيف حتى نذكر شيئاً من عاداتهم المنقولة عنهم في طول صلاتهم لأن الله تعالى قد أمر بإطالة الصلاة في كتابه حيث يقول ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَنِتِينَ ﴾ ٢ والقُنوت في الصّلاة لغة هو طول القيام فيها وما كان النّبي ولا الصحابة يتركون ما هو أقلُّ من هذا فكيف بهذا الأمرِ الجَلي و ما تورّمت قدماه لا لا لا لا لا لا لا لو لا القيام في الصلاة وقد نُقل عن الصحابة وعن
1 أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي أبو حمزة صاحَبَ رسول الله عليه السلام وخَدَمَهُ عشر سنين فما عتب عليه في فعل ولا ترك روي له عن النبي عليه السلام ۸٦ حديثاً اتفق الشيخان منها على ۱٦٨ حديثاً وكان أكثر الصحابة نسلاً بدعوة الرسول عليه السلام بطلب أمه أم سليم بعد أن صلى في بيتها فقال اللهم ارزقه مالاً وولدا وبارك له وقد دفن من أبنائه لصلبه حتى مقدم الحجاج للبصرة بضعة وعشرون ومئة وجاوز عمره المئة توفي بالبصرة سنة ٩٣ هـ / ۷۱م طبقات ابن سعد ۱۰۷
سورة البقرة من الآية ۳۸
٣٣٥

السلف رضي الله عنهم أنهم يكونون في الركعة فيخرج الرجل إلى البقيع ويرجع إلى المسجد وهم في الركعة الواحدة لم يتموها وأن الرجل منهم كان يدعو في سجوده بعدما يسبّحُ الله سبحانه ويصلي على النبي ويستغفر لنفسه ولأبويه ولسبعين من أصحابه وقرابته ويُسميهم
بأسمائهم وأسماء ابائهم وقبائلهم
وحديث معاذ بن جبل أنه صلى المغرِبَ بقومه بسورة البقرة فقال له رسول الله أَفَتَّان أنت يا معاذ ۱ وإنما قال له ذلك لأنّ صلاة المغرب السنَّةُ فيها التخفيف من أجل أن ذلك وقت إفطار الصائم ووقتُ الضرورات أيضاً وكان بالمؤمنين رحيماً
وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصلي الصبح بسورة البقرة في الركعتين معاً فأبو بكر رضي الله عنه وعن جميعهم فهم عن النبي ل فجعل التطويل في محله والكل سادة ل
على خير
وما روي عن عثمان رضي الله عنه حيث قال بعض الصحابة ما حفظت سورة يوسف إلا من عثمان لكثرة ما كان يردّدها في صلاة الصبح
وقد جاء في الموطا عن أمّ الفضل بنت الحارث أنها سمعت عبد الله بن عباس ۳ يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا ٤ فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتِكَ هذه السورة إنها لآخرُ ما سمعتُ رسول الله يقرأ بها في المغرب
۱ جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أما معاذ فهو معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي عليه السلام وأحد الذين شهدوا المشاهد كلها مع الرسول الكريم وبعثه عليه السلام بعد غزوة تبوك قاضياً ومرشداً لأهل اليمن روي له ١٥٧ حديثاً ومن كلام عمر لولا معاذ لهلك عمر ينوّه بعلمه
انظر طبقات ابن سعد ۳/ ۱۰ والحديث ۱۳۷ من هذا الكتاب
أم الفضل بنت الحارث هي لبابة بنت الحارث الهلالية وتعرف بلبابة الكبرى تمييزاً لها عن أخت لأبيها اسمها لبابة وتعرف بالصغرى وأم الفضل هي زوجة العباس بن عبد المطلب من نبيلات النساء ومنجباتهن ولدت من العباس سبعة أحدهم عبد الله بن عباس أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة وكان الرسول الكريم يزورها ويقيل في بيتها روت ۳۰ حديثاً منها ٣ في الصحيحين توفيت نحو سنة ٣٠ هـ / ٦٥٠ الأعلام ١٠٢/٦ ۳ عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة الصحابي الجليل ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوة فلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة وشهد مع عليّ الجمل وصفّين وكفّ بصره في آخر عمره فسكن الطائف وبها توفي له في الصحيحين ١٦٦٠ حديثاً الأعلام ۸/٤

٤ سورة المرسلات الآية ١ 5 جزء من حديث أوله أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتك أنها لآخر اية إلخ أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
٣٣٦

وكانت قراءته عليه السلام بطيئة حسنةً كما نعتها الواصف لها قال كانت قراءته عليه السلام لو شئتُ أن أعدَّ حروفَها لَعَددتُها فبتقرير هذه الآثار علمنا أنه عليه السلام ما كان نهيه لمعاذ على الإطلاق وإنما كان لكونه طوَّلَ ذلك التطويل في المغرب وقد ثبت بالسنّة خلَفاً عن سلف أن العمل جرى على أن المستحب في صلاة المغرب أن تكون أخفَّ الصلوات ولولا ذلك ما كان أبو بكر رضي الله عنه يصلي في الصبح بالبقرة كما ذكرنا

فلما كان المتعاهَدَ منهم في الصّلاة التَّطويلُ فإذا كانت هناك علة كما ذكر من بكاء الصبي أو ما يشبه ذلك خفَّف عليه السلام حتى خرج بذلك التخفيف عن العادة الجارية لهم كما قال بعض الصحابة ما رأيتُ رسول الله صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاةَ الصّبح يوم النحر بالمُزْدَلِفة ۱ وليس يعني بـ ميقاتها أنه صلاها قبل الوقت الذي وُقت لها ذلك محال وإنما يعني لغير وقتها الذي كان عليه السّلام يصليها فيه فإنّه كان بعد طلوع الفجر كما جاء عنه أنه يركع ركعتي الفجر ثم يضطجع ما شاء الله ثم يخرج ويصلّي في هذا اليوم عند أول انصداع الفجر وهو أول الوقت كان يصليها فقد أخرجها عن ذلك الوقت المعلوم لها وهو التأخير اليسير كما شرحناه وهذا مثل ذلك سواء لأنه من أجل تلك القرينة خفَّفَ
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه جواز تحويل النيّة في أضعاف الصّلاة إلى خلاف ما دخل عليه من زيادة أو نقص لكن بشرط ألا ينقص من الحد المجزىء شيئاً ومن أجل ذلك تحرّز الصحابي رضي الله عنه بأن قال ولا أَتَمَّ وفي هذا التحرُّزِ من الصحابي دليل على فضلهم وصدقهم في نقلهم
ويترتب أيضاً عليه من الفقه أنه لما كانت الصّلاة - وهي رأسُ الدِّين - يجوز فيها تحويل النية من الأعلى إلى الأدنى مع إحراز الكمال فكذلك تكون القاعدة في جميع أمور الدين أن يكون الشأن العمل على حالة الكمال ولا يرجع لقذر الإجزاء إلا عند الأعذار وإذا رجع إلى قدر الإجزاء يحافظ ألا ينقص من الواجبات شيئاً
وعلى هذا البيان المتقدّم من أحوالهم فقد اختلفت الأحوال وظهر النقص وقد رأيتُ بعض من يُنسَب في الوقت إلى العلم - وهو ممن يُقتدى به - لا يكمل الواجب من بعض أركان صلاته فإنا لله وإنا إليه راجعون على تضييع العلم وحقيقته وتضييع العمل وتمامه ولهذا المعنى
1 أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع اختلاف يسير في اللفظ والمقصود بقوله بعض
الصحابة عبد الله بن مسعود
۳۳۷

قال رزین

الأسماء على غير
رحمه الله ما أوقع الناسَ في الأمور المحذورات إلا وضعُهم المسميات المعروفة أولاً لأنا الآن إذا أخذنا بالتخفيف في صلواتنا خرجنا عن حدّ الإجزاء لأن المطوّل منا في صلاته لا يصِلُ بجهده إلا إلى الإجزاء بالنيّة فإن نقص منه شيئاً خرج عن بابه
الذي طلب
ويترتب على تخفيفها من أجل بكاء الصبيّ رَعْيُ حقوق الغير كما تراعي حقوق نفسك فتخفيفها من أجل الصبي كمال فيها فإنّه حصل له في صلاته القدر المجزىء وبذلُ الكمال لجَبْرِ صلاة أم الصبي ليرفع الفتنة عنها بتعجيل الصلاة وجَبرِ الصبي نفسه فجاء الجَبرُ هنا متعدّياً وهو الأكمل
وأما على قضرها من غير بكاء الصبي فتبيين منه ل للقدر المجزىء في العمل كما بيّنه بالقول وتبيين مقادير الأحكام أرفع الأعمال ويترتب على هذا من الفقه أنه كان في كلّ الأحوال على أتمها وأعلاها
وأما الجواب على حدّ إتمامها فنعرفه بحده حين قال للمصلي ارجع فصل فإنّك تُصَلّ فعل ذلك معه ثلاثاً ثم قال له عليه السلام لما أن سأله التعليم إذا قمتَ للصَّلاةِ فكبّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركغ حتى تطمئِنَّ راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وبقوله عليه السلام كلّ ركعة لم تقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۳ لأن التمام في الصلاة في ثلاثة أشياء في الإجزاء وفي القراءة وفي إكمال الأركان وفي إكمال عددِ الرَّكعات ويكون ذلك بعد تحقيق دخول وقتها
الوجه الثالث فيه دليل على تحرّي الصّحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا يقتدون في الكمال بأتم الحالات وفي الإجزاء لا يأتون به إلا ومع ذلك زيادة خيفَة أن ينقصهم من الإجزاء شيء ما ولا يتحقق الإجزاء في الأقل إلا بالقطع بالزّيادة اليسيرة فيه ما لم تكن تلك الزيادة محظورة في الشرع مثل مَنْعنا الرابعة في الوضوء ٤ أو تكون تلك الزيادة لم يفعل هو منها شيئاً لئلا نخرج بها إلى البدعة وقد جاء فيها من الدم ما جاء لقوله من أحدث في أمرنا ما
۱ انظر ترجمته في الحديث ۳ انظر تخريجه في الحديث ۳۰
۳ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنا ٤ المراد المرة الرابعة بعد الغسل ثلاثاً
۳۳۸

ليس منه فهو رَةٌ ۱ وقوله عليه السلام كلُّ بدعة ضلالة وما أشبهه ومثل ذلك اجتماع الناس للدعاء بعد الصلوات فهذا وما أشبهة من البدع لأنه لم يأتِ أن النبي ا ولا مَنْ بَعدَه من الصحابة والتابعين فعلوا ذلك ويترتب على تقصيرها من غير عذر أنّه جائز وأن الأفضل ما كان يداوم هو عليه ومَن بعده من السَّلَفِ الصّالح
الوجه الرابع فيه دليل على فضل العلم لأنه به يُعرف حدّ الإجزاء فيما كلف وحدّ الكمال لأنه يأتي بالأشياء على ما أُمِرَ بها لأن الجاهل قد يجعل الكمال واجباً فيكون زاد في فرائض الله تعالى أو يكون يجعل زيادة الكمال بدعة فيكون أيضاً يجعل في دين الله ما ليس فيه أو يكون يجعل حدَّ حد الإجزاء هو الكمال ثم يأخذ في أنقص منه ويجعله من باب التخفيف وهو العضال وقد كَثر في وقتنا ومثلُ هذا ينبغي في جميع أمور الدين أن يعرف الشخص القَدْرَ الذي يجب عليه وما هو قَدْرُ الزّيادة المستحبَّة ولذلك قال طلب العلم فريضة على كل مسلم ۳ قال العلماء كلّ ما كان عليك فعله فرْضاً فالعلم عليك به فرض لأنه لا يمكن أن يُوَفِّيَ
ما عليه مَنْ جهله
الدّاء
الوجه الخامس فيه دليل على جواز صلاة النساء مع الرّجال لكن ذلك اليوم ممنوع ومنع ذلك من زمان الخلفاء ومما يروى في ذلك الوقت قول عائشة رضي الله عنها لو أدرك رسول الله ما أحدث النّساء لَمَنَعَهُنَّ المساجدَ كما مُنِعَه نساء بني إسرائيل ٤ وقول زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنها لما امتنعت من الخروج إلى المسجد فسألها عمر عن عمر عن ذلك فقالت فَسَدَ الناس ٥ وأقرّها عمر على ذلك فجاء فعلها رضي الله عنها على مقتضى هذا الحديث الذي نحن بسبيله لأنها تركت الأكمل في صلاتها وهو الخروج إلى المسجد للعلة الواردة وهي ما ذكرته من فساد الناس فدلّ على أنهم رجالاً ونساءً أعرف بأحكام الله تعالى منا وهم الذين استعملوا الأحاديث والآي على ما هي عليه بغير زيادة ولا نقص
1 أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها جزء من حديث مطلعه أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ۳ روي من عدة طرق وعن عدد من الصحابة الكرام منها ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب عن أنس وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود والطبراني في الأوسط عن ابن عباس وفي رواية أخرى عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنهم جميعاً ٤ انظر تخريجه في الحديث ۳۷
5 كانت زوجة عمر رضي الله عنه خرجت إلى المسجد عند صلاة الفجر لحديث لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وكمن لها عمر في طريق عودتها من المسجد فتصدى لها متخفياً وقرصها في صدرها وفي اليوم الثاني قال لها ألا تخرجين لصلاة الجماعة في المسجد فقالت له فسد الناس
۳۳۹

الوجه السادس فيه دليل على جواز دخول الصبي الصغير المسجد ويعارضنا قوله جَنّبوا مساجدَكم صبيانَكم ومجانينكم ويسوغ الجمع بينهما بأن نمنع دخولهم في غير الصلاة ونجيز دخولهم في أوقاتِ الصَّلاة من أجل الضرورة مع التحفظ
الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك في الأخذ بسَد الذريعة يؤخذ ذلك من قوله مخافة أن تُفتَنَ أُمه وقد لا تقع منها فتنة فلما كان الأمر محتملاً أخذ عليه السلام بالأحوط وهو سَدّ
الذريعة
الوجه الثامن فيه دليل على أن الفكرة في الصلاة في الأمر إذا وقع - وهو فيها - أنه جائز يؤخذ ذلك من قوله لَيَسْمَعُ بكاء الصبي فيخفّف لأن سمعه له ونظره له فكرةٌ في أمر ليس من الصَّلاة إلا أنه يلزم منه أن يكون يسيراً لا يخلّ بالصلاة يؤخذ ذلك من قوله ولا أتم فلو كان مما يشغله عن الصلاة ما أتمها
الوجه التاسع فيه دليل على جواز النظر في حكم من الأحكام إذا احتيج إليه وإن كان في العبادة والعمل إن أمكن مع إبقاء العبادة دون نقص من واجبها يؤخذ ذلك من تقصيره عليه السلام الصلاة من أجل بكاء الصبي وقد دخل على العمل وهو التطويل فيها فإن تقصيره لها عمل من الأعمال ونَظرُ حكم من الأحكام فاجتمع فيه ستة أشياء الالتفات للواقع والفكرة في الحكم والعمل الممكن فيها والرابع حق الغير والخامس سَدّ الذريعة والسادس حَملُ القوي على ما يقتضيه حالُ الضعيف إذا كانا في الأمر متلازمين ومثله قوله سيروا بسَيْرِ أضعفكم
وأما الجواب على قولنا هل كانت تلك الحالة دائمة أم لا فالجواب أنها لم تكن دائمة وإن كان قد أشرنا إلى ذلك عند تبيين أحوالهم ولم يكن ذلك موضعَه وإنما وصفُ الحال أحوج إليه
وهنا أذكر الدليل على عدم دوام ذلك فيكون في موضعه والأول يقوّيه وهو أيضاً يصدّقه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۳ فكل ما هو في الأمور حق فهو يصدّق

جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي عن مكحول عن وائلة وأبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله
عنهم
رواه الشافعي في مسنده والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وقال على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة

۳ سورة النساء من الآية ۸
٣٤٠

بعضه بعضاً فإن الشَّبَه بينهما من أجل أن الحقَّ فيه واحد والحق لا يتغيَّر فالدليل على ما جاء أنّ ما من سورة في القرآن إلا وقد صَلَّى الله بها في الصلاة وفي القرآن ـ كما هو
معلوم - الطوالُ من السُّوَر والقصار وما بين ذلك فدل ذلك على ما قلناه ويترتب على هذا من الفقه العلم بسَعَة السنّة لأنه لو لم يفعل هو ذلك كان الناس يتحرون الذي كان هو يفعله
الوجه العاشر فيه دليل على رحمته عليه السلام بأمته و لأنه لا هل هو فعل ذلك فالجَلْد الكيسُ قد أخذ بجزء وافر من السنّة والعاجز المسكين لم يُحرم من حظ ما من السنّة وما بينهما سَعَة وتوسط في الخير الذي هو السنة
الوجه الحادي عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب وهو عندهم من أعلى الأحوال يؤخذ ذلك من رعيه عليه السلام فتنة أم الصبي والصبي أيضاً نفسه إلا أنه بقيد لا يعرفه إلا السادة الأفذاذ وهو ألا ينقصه من حاله الخاص فيما بينه وبين مولاه شيء

يؤخذ ذلك من قوله ولا أتمَّ لأن حالة عبادته المجزىء منها لم ينقص منها شيء ولهذا المعنى قال بعض السادة منهم من الغرائب صوفي سني ٢ وهو إذا وقع قطب الوقت وتاج الوجود وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
مَنّ الله بفضله علينا بما به مَنْ عليهم بمنّه آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 يقول ابن أبي جمرة في موضع آخر هو أعلى الأحوال وفي الحديث اطلبوني عند المنكسرة قلوبهم من
أجلي صوفي سني أي ملتزم بالسنّة باطناً وظاهراً
٣٤١

-{{-
حديث أصل صلاة التراويح
عَن زيد بن ثابت ۱ أنَّهُ قالَ من حَصيرٍ في رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا ليالي فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ من أَصحابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِم جَعَل يَقعُدُ فَخَرجَ إليهم فقالَ قَد عرَفتُ الذي رَأيتُ من صَنيعكُم فَصلُّوا أيُّها النَّاسُ في بُيُوتِكُم فإنَّ أفضلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرءِ فِي بَيْتِهِ إلا المكتوبة
ي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله اتَّخَذَ حُجرَةٌ قَالَ حَسِبْتُ
ظاهر الحديث جواز صلاة النافلة في المسجد والأفضل فيها صلاتها في البيوت والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول جواز اتخاذ الحجرة في المسجد إلا أنها لا تكون بناء ولا شيئاً يثبت يؤخذ ذلك من قوله اتخذ حجرةً من حصير لأن اتخاذها تغيير للمسجد والمسجد جنس ولا يجوز تغييره وإذا كان مثل الحصير أو الثوب بقي المسجد على حاله لم يتغيّر وذلك الثوب تستمر له به الخلوة ويَحْسُنُ به حاله لأنه يكون أجمعَ له في عبادته
ويترتب على ذلك من الفقه أن يتسبب المرء فيما يكون له أجمعَ لخاطره في عبادته ما لم يكن التسبب بدعة ممنوعة لأنه جاء أن الله جل جلاله يقول يوم القيامة لصاحب البدعة هَبْ أني أغفر لك فيما بيني وبينك فالذين أضللت كيف أفعل بهم

زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من أكابر الصحابة وأعلمهم بالفرائض وكان كاتب الوحي ردّه الرسول عليه السلام يوم بدر لصغر سنه وكان عمره حين الهجرة أحد عشر عاماً وكان يكتب المراسلات للنبي عليه السلام ولأبي بكر وعمر وهو أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي عليه السلام ثم في عهد أبي بكر الصديق ثم نسخه لعثمان نسخاً أرسلها إلى الأمصار روى عن النبي ۹ حديثاً وروى عنه الصحابة والتابعون رثاه ابن عباس يوم موته فقال دُفن اليوم علم كثير توفي في المدينة المنورة سنة ٤٥ هـ / ٦٦٥م الأعلام ٩٥/٣
٣٤٢

وليد الوجه الثاني فيه دليل على أن قيام رمضان في المساجد سنة وليس ببدعة لأنه لما فعله فهو سنة ويعارضنا قول عمر رضي الله عنه نِعمت البدعة هذه ۱ فما يصح أن تسمى هذه بدعة وقد فُعِلَتْ وإنّما البدعة لغةً ما فعله الشخص ولم يفعله غيره قبله ولا يمكن أن نقول ء بدعة وليس فيه ما يتضمنه هذا الاسم
وزوال الإشكال أن نقول إنما سمّاها عمر بدعة لأنه لما جمعهم على القارىء الواحد وَحَدَّ لهم أن يصلي بهم إحدى عشرة ركعة فسمى ذلك التحديد بالإحدى عشرة بدعة وسماها نعمت البدعة لأنه ما جعله حدّها لهم إلا أنه اقتدى في ذلك التحديد بما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ل لم يزد في تنفّله في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة فمن أجل اتباعه للنبي في ذلك قال لها نعمت البدعة
وهنا أيضاً تعارض آخر وهو كونه الله صلى النافلة في المسجد ثم قال آخر الحديث فإن أفضلَ الصَّلاة صَلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة و هو ل لا يفعل من الأمور إلا الأفضل فالجواب أن نقول إن التنفل - ما عدا التهجد في رمضان - الأفضل فيه أن يكون في البيوت وإن تهجد رمضان الأفضلُ فيه أن يكون في المسجد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في حديث غير هذا خفت أن تُفرَضَ عليكم فلا تُطيقون فلما توفي هو الله ارتفع الفَرْض ففعل عمر رضي الله عنه الأفضل لمّا أَمِنَ العِلَّة
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه إذا كان منعُ الشيء من أجل علة فارتفعت العلة جاز فعله لأن الموجب للحذر قد زال
الوجه الثالث فيه دليل على جواز أن يأتم شخص بغيره والإمام لا يعلم به يؤخذ ذلك من أن النبي ما جعل الحجرة إلا أنه يُصلي وحدَه ثم انتَمَّ به من ائتم فلمّا عَلِم بذلك لم ينكره وعدم الإنكار منه عليه السلام بعد العلم دليلٌ على الجواز
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الحائل بين الإمام والمأموم يؤخذ ذلك من كونهم ائتموا
به عليه السلام وبينهم الحصير
الوجه الخامس فيه دليل على أفضلية رمضان يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام اختصه بهذه العبادة دون غيره من الأشهر

۱ أخرجه الإمام مالك وعبد الرزاق والبخاري وابن خزيمة والبيهقي والفريابي في السنن من كلام عمر رضي الله عنه جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأوله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد إلخ وقوله فلا تطيقون أي فأنتم لا تطيقون ذلك
٣٤٣

الوجه السادس فيه دليل على أن تعظيم الأيام الشريفة والبقع لا يكون تعظيمها إلا بأنواع العبادات يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام ما أظهر تعظيم هذا الشهر إلا بزيادة في التعبد الوجه السابع ويؤخذ منه فضل سيدنا لأنه لما رأى اعتناء مولانا جل جلاله يُدارِسه
بتعظيمه لهذه اللّيالي بأن جعل جبريل عليه السّلام ينزل عليه كل ليلة من رمضان فيها القرآن ولم يفعل ذلك في غيره من الأشهر زادَ هو عليه السلام من تلقاء نفسه زيادةً للحرمة وهو أن زاد فيه صلاة لم يفعلها في غيره وأظهَرَها لأمته بالفعل لأن يقتدوا به فهذا

تعظيم الشعائر وقد قال تعالى وَمَن يُعَظِّمْ شَعَبَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وبقدْر تَقْوى القلوب تكونُ الفضيلة ولا أحَدَ أَشدُّ تقوى من سيدنا
وقوله ليالي تعطي الكثرة وتكثيره عليه السلام الليالي وبعد ذلك قال لهم ما قال دال على تعظيمه عليه السلام للأمر والاهتمام به يؤخذ ذلك مما استقرِي من الأحاديث أنه لا لا لا إذا كان الأمر عنده له بال يكرّر القولَ به ثلاثاً فلمّا كان هنا التعليم بالفعل كرّره بالفعل أيضاً كما كان يكرّر بالقول كقوله عليه السّلام يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذُ بنَ جَبَل هل تدري ما حقُّ الله على عباده وما حقُّ العبادِ على الله فإنه عليه السلام لم يخبره حتى ناداه ثلاثاً وهو في كل مرة يجيبه وكقوله عليه السلام في حَجَّة الوداع أي بلد هذا أي يوم هذا أيُّ شهرٍ هذا ۳ فأعاد عليه السلام السؤال ثلاثاً وهذا كثير في السنة
الوجه الثامن فيه دليل على أن قرينة الحال إذا كانت محتملة فلا بد من البيان بالقول ولا يجوز الاقتصار عليها يؤخذ ذلك من أنه لما أن قعد و بعد أن صلّى الليالي احتمل جلوسه أن يكون عن ضعف أو نهي أو غير ذلك فاحتاج أن يبين بالكلام ما أوجَبَ الجلوس
الوجه التاسع يؤخذ منه أن القرينة إذا كانت لا تحتمل إلا وجهاً واحداً قامت مقامَ الإفصاح وجاز الاقتصارُ عليها فيما يقتضيه مدلولها على الإفصاح بذلك يؤخذ ذلك من أنه عليه السّلام لما صلّى وصلوا معه لم يَحْتَج أن يقول لهم في ذلك شيئاً لأن نفس الصلاة دلّت على تعظيم
الشعائر نضًا لا احتمال فيه
۱ سورة الحج من الآية ٣٢
سعد والحكيم
أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن معاذ رضي الله عنه ۳ حديث مطوّل من خطب النبي الا الله في يوم النحر أوله أيها الناس أخرجه الإمام أحمد وابن الترمذي عن العداء بن خالد رضي الله عنه والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه والبزار عن وابصة رضي الله عنه
٣٤٤

إذا جاءت علةٌ تدلُّ على ترفيعه
الوجه العاشر فيه دليل على أن المفضول قد يرجع فـ يؤخذ ذلك من جلوسه صلى الله عليه وسلم عن وقت هذه العبادة والعبادة في هذا الوقت أفضل فلما كان جلوسه عليه السلام من أجل التعليم وتقعيد الأحكام أرفع العبادات فمن أجل زيادة هذه العلة رجع المفضولُ فاضلاً
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أنه إذا اجتمعت للعبد عبادتان لا يمكن في الزمان الجمعُ أخذ الأعلى يؤخذ ذلك من كونه و اثر القعود على الخروج إلى الصلاة لأنه أفضل إذ هو لتقعيد الحكم وبيانه
بينهما
الوجه الثاني عشر فيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم في نقلهم يؤخذ ذلك من قوله حسبت لما وقع له شك قال حسبت
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أنه لم يُصَلِّ هذه الصَّلاةَ معه إلا البعض من الصحابة يؤخذ ذلك من قوله ناس من أصحابه
وهنا بحث في قوله لما علم بهم كيف يجتمع هذا مع قوله عليه السلام قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم والانفصال عنه أن نقول إن معنى علم بهم هنا أحد وجهين إما أن يكون أخبره بصلاتهم معه أحدٌ منهم أو من غيرهم فتكون علم بمعنى الإخبار أو يكون لما رأى من التزام القيام معه فظاهرُ حالهم يقتضي فظاهرُ حالهم يقتضي أنهم عزموا على دوام العمل معه عليه السلام فيكون عَلِم بمعنى تَحَقَّق من قرينة حالهم الدوام

ومما يزيد هذا المعنى إيضاحاً ما جاء أنّه أوّلَ ليلة صلّى معه قلائل ثم حدثوا في اليوم من صبيحة الليلة فكثر الناس فكانوا في كل ليلة يتزايدون ويكثرون فهذا أقوى دليل على العلم بأنهم قد عزموا على الدوام معه وهو عليه السلام من أول ليلة قد عرفهم وما تزايد فيهم كل ليلة ويترتب على هذا من الفقه أنه من داوم على شيءٍ نُسب إليه وحكم له أنه من أهله
وقوله جعل يقعد فخرج إليهم معنى ذلك أنه عليه السلام قعد عن الخروج حتى ذهب الوقت الذي كانت عادته عليه السلام يخرج إلى تلك الحجرة ويصلي فيها فخرج عقب ذلك الوقت إليهم لأنه أتى بالفاء التي تعطي التعقيب دون مهلة وخرج إليهم لا للحجرة التي كان يصلي فيها يؤخذ ذلك من قوله إليهم لأن تقرير الحكم لا يكون إلا بالمشافهة
الوجه الرابع عشر فيه إشارة صوفية وهي أن صاحب الحال المتمسك بالأحكام هو في تجل ومخاطَبات وهذه كانت حال سيّدنا و عند تلاوة القرآن إذا مَرَّ بآيةِ رحمةٍ سأل الله وإذا مَرَّ بآية عذاب استجار وإذا مرَّ بآية تدلّ على صفة من صفاته جلّ جلاله من خلق وقدرة وعظمة
٣٤٥
واع
1-

سبح فكان عليه السّلام كلّ آية تمرّ به يتصف بالوصف الذي يحبّ لمن يخاطب في الحال بتلك الآية ويجاوب بما يقتضيه الأدب ومثل ذلك قال عليه السلام للصحابة رضي الله عنهم حين قرأ عليهم الرحمن وهم سكوت فقال لهم ألا تقولون ما قالت الجنّ حين سمعوها قالوا وما قالت قال كلّما قلت فَبِأَي الَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِبَانِ يقولون وَلا بواحدة منها يا ربَّنا
فانظر حسن تعليمه وإرشاده لحسن الأدب مع الربوبية مع غنائه عن الكلّ وجلاله
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز أخذ ما لا بد منه من الدنيا وهو أيضاً عَوْن على التزود للآخرة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فصلوا أيها الناس في بيوتكم فلولا جواز اتِّخاذ البيوت ما قال لهم صلوا في بيوتكم فإضافتها إليهم تقتضي جواز اتخاذها وأنها عَوْن على الآخرة لأنه يخلو فيها بعبادته ومناجاة معبوده بلا مشوّش يشوّش عليه وكذلك ما يكون من غيرها من ضرورات البشرية إذا كان على لسان العلم والقَصْدُ به العون على الطاعة حالاً لا دعوى فإنه في الحقيقة كله اخِرُه محمود وقوله فإن أفضل الصّلاة تكون الألف واللام هنا للجنس الوجه السادس عشر فيه دليل على جواز الصّلاة المكتوبة في البيوت يؤخذ ذلك من قوله
أفضل لأن باب أفضل لا يكون مع المنع
وفيه من الفقه أن النافلة تجوز في البيت وفي المسجد وهي في البيت أفضل إلا ما كان من تهجد رمضان كما قلنا أولاً هذا إذا لم تكن هناك علة فإن كانت هناك علة رجع المفضول فاضلاً مثال ذلك أن يكون للشخص في منزله من يشوّش عليه ولا يمكن له معه صلاة فالمسجد إذ ذاك أفضل له وتجوز الفريضة في البيت وفي المسجد وهي في المسجد أفضل هذا إذا لم تكن هناك علة أيضاً فإن كانت هناك علة مثل أن يكون مغصوباً أو إمامه فاسقاً أو ما أشبه ذلك فهي إذ ذاك في البيت أفضل وكذلك فعل السلف حين فَسَق بعض الأئمة كانوا يصلون في بيوتهم ويصلون معهم نافلة
الوجه السابع عشر فيه دليل لمن يقول إن الفرض والمكتوب وتلك الخمسة الألقاب ۳
۱ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما رواه البزار وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بألفاظ تختلف وما أورده المؤلف رضي الله عنه ۳ وتلك الخمسة الألقاب لعله يريد من تلك الألقاب الخمسة ومن معاني الفرض التوقيت فَمَن فرض فيهن الحج والتقدير - ومنه علم الفرائض - المقادير السهام والتفصيل سُورَةُ أَنزَلْنَهَا وَفَرَضْنَهَا والوجوب خمس صلوات مكتوبة والتخصيص مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَمْ أو لعله يريد إن الفرض والمكتوب - وما في كلمة الفرض من مدلولات وألقاب هي في الفرض إلخ
٣٤٦

حال
هم
وا
ملی
ـاذ
ما
في الفرض على حد واحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إلا المكتوبة وهي المفروضة فعبّر إلا
عليه السلام بصيغة الكتب عن الفرض
الوجه الثامن عشر وفيه دليل على طلب المندوبات يؤخذ ذلك من قوله صلوا فإن هذا أمر وأقل أحواله الندب
الوجه التاسع عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن إخفاء الحالة هو الأكمل في الأحوال يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام صلاة المرء في بيته أفضلُ إلا المكتوبة ۱ لأن زيادة التنقل بعد أداء الفريضة زيادة في الإيمان كما قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وبها الزيادة في الإيمان حال من أكبر الأحوال وقد نص عليه السلام على أن إخفاءه أفضل فصح ما تأولناه وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومَوْلاك موضعَ شكواكَ
رضي الله عَنَّا بِهم ومَنَّ علينا بما به مَنْ عليهم لا ربَّ سواه ولا مَرْجُو إلا إياه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الحدا
1 أخرجه النسائي والطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ أفضل الصلاة صلاة المرء إلخ ابن أبي زيد هو عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد النفزاوي القيرواني فقيه مالكي ويلقب بقطب المذهب وبمالك الأصغر له تصانيف كثيرة منها كتاب النوادر الذي أجزاؤه تزيد على المئة توفي بالقيروان سنة ٣٨٦
هـ / ٩٩٦ م الأعلام ٢٣٠/٤
٣٤٧

حديث جواز المشي في الصلاة
عَن أَبِي بَكْرَة ١ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّهُ انتهى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَركَعَ قَبلَ أَن صلى الله عليه وسلم يَصِلَ إِلَى الصَّفٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ زَادَكَ الله حِرصاً وَلاَ تَعُدْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز المشي اليسير في الصلاة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل يكون المشي اليسير فيها كلّها أعني في حالاتها كلها أو لا يكون ذلك إلا في هذا الموضع وهو الركوع ليس إلا
فإن قلنا إن سبب الجواز معقول المعنى وهو قلة العمل فيها فيجوز في كل حالاتها كلها ما لم تقترن به علة مانعة ولذلك قال العلماء إنّه يجوز المشي اليسير في كل حالات الصلاة من قيام وركوع وجلوس ولا يجوز ساجداً لأنه فيه أمران أحدهما التشويه والمثلة وذلك في الشرع ممنوع والثاني توقع الضرر بل هو من قبيل المقطوع به لأنه يتأذى بذلك والأذِيَّة أيضاً
ممنوعة
وإن قلنا لا نفهم علته فلا يجوز إلا في هذه الحالة وهذا مذهب أهل الظاهر الذين يستعملون الأحكام حيث وردت ليس إلا

وقوله انتهى إلى النبي أي قرب منه لأن العرب تسمي الشيء بما قَرُب منه
الطائف
يع بن الحارث الثقفي أبو بكرة صحابي من أهل الطائف كني بذلك لأنه تدلى من حصن ببكرة وكان أسلم وعجز عن الخروج من الحصن إلا بهذه الوسيلة روى عن النبي ۳ حديثاً اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أي من الفريقين كان صالحاً عابداً قال الحسن البصري لم يكن أعلم منه ومن عمران بن الحصين توفي بالبصرة سنة ٥٢هـ ٦٧٢ الأعلام ۱۷۹
المثلة التشنيع
٣٤٨

ويترتب على هذا من الفقه ألا يبعد الإمام عن الجماعة وقد نص العلماء على ذلك في
الإمام لَمّا ذكروا شروط الإمامة في الصلاة ذكروا ألا يبعد من الجماعة وعلّلوا ذلك بعلل منها ربما تكون في ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإذا كان بالقرب منهم رأوها فيخبرونه وربما سها فسبحوا له فلم يسمعهم فيجذبونه بثوبه وربما أحدث هو فيمد يده ويستخلف من يُتِمّ بالقوم فإذا كان بالبُعدِ احتاج أن يستخلف بالقول وفيه بين العلماء خلاف ويؤخذ منه أنه إن ذكر شيئاً من العبادات في الصلاة وتمادى في ذلك أنه إن لم يخل بشيء منها جاز والحجة في هذا وبما استدللنا عليه من هذا الحديث ذكر النبي ذلك وتمادي ذكره إلى بعد فراغه من الصلاة ا ل ويترتب على ذلك من الفقه أن المرء إذا كان في أمر لا بدَّ له فيه من عمل ولا يمكنه التأخير فيه ولا علم له بما يصنع أنه يجتهد ويعمل بما يغلب على ظنّه فإذا كان بعد يسأل العلماء فإن وافق عمله لسان العلم فحسن مجزىء وإلا جَبَرَ الخَلَلَ الذي وقع منه على لسان العلم
ولا يدخل هنا الخلاف الذي ذكروا فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أم لا على ثلاثة أقوال لأن ذلك الذي يعمل العمل بالجهل هو متمكن من السؤال ولم يسأل وهذا لم يكن متمكناً من السؤال ولا يمكن له التَّرْك وهو لا يعلم كما فعل أبو بكرةَ في هذا الحديث
الوجه الثاني قوله زادك الله حرصاً ولا تَعُد دعاؤه عليه السلام له بالحرص حض على العبادة معناه زادك الله حرصاً في اجتهادك في طلب الأعلى في العبادات لأنه لو صلى حيث أحرم أجْزَ أَنه صَلاتُه ولمّا كان الصف الأول أرفعَ والقرب من النبي ل أرفع ما في الصف الأول فأراد هو أن يأخذ الأفضل من الصفوف ومن الأماكن من الصف الأول
ويترتب عليه من الفقه أن قوة الباعث هي الحاملة على العبادات وهذا دليل لأهل الصوفة
الذين يقولون إنما حملت الرجال الهِمَمُ لا الأبدان
وقوله ولا تعد أي لا تَعُد للتأخير حتى تحتاج إلى أن تَدِبَّ في صلاتك
الوجه الثالث فيه دليل على أن المستحبّ في الأكمل أن يُعمل عليه قبل الشروع في العمل
وهذا المثل الساري قَبْلَ الرَّمْيِ تُراسُ السِّهام ۱
۱ جاء في الأمثال قبل الرَّماء تُملأ الكنائن ويضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها كما جاء كذلك قولهم قبل الرمي تراش السهام وهو في المعنى ذاته وتراش تركب عليها الريش من قولهم راش السهم رَيْشاً
وارتاشه انظر المستقصى في الأمثال للزمخشري ۱۸٦/٢ و ۱۸۷
٣٤٩

الوجه الرابع وفيه دليل لأهل الصوفة الذين قدَّموا قبل الأعمال الزّهدَ في الدنيا لأنه الباعث على تمكن أسباب الكمال في العبادات وإلى الفوز بحَوْزِ أَسْنِمَتِها ولذلك حكي عن عيسى عليه السلام لما كان في سياحته لَقِيَ قبل الصُّبح رجلاً نائماً فوكَزَهُ برجله وقال له قم فقد سبقك العابدون فقال له دغني يا روح الله أنام فقد عبَدتُه بعبادة ليس على وجه الأرض مثلها أو بأحب العبادة إليه فقال له عليه السلام وما هي قال الزّهد في الدنيا فقال عيسى عليه السلام نَم نومة العروس في خدرها فقد فُقت العابدين الوجه الخامس يؤخذ منه الدعاء للشخص وإن لم يطلبه إذا رأى فيه لذلك أهلية لأنه يُعان به على ما هو بسبيله يؤخذ ذلك من دعاء سيدنا ل لأبي بكرةَ ولم يسأله ذلك لما رأى في
من دلائل الخير
وهنا بحث لِمَ دعا له بزيادة الحرص وقال له ولا تَعُد ولم يقل لا جعلك الله تعود لمثلها فالجواب أن دعاءه عليه السلام بزيادة الحرص عون على الخير ولو دعا له بألا يعود ودعاء سيدنا مستجاب ـ فقد يكون دعاؤه يمنعه من أنواع من الخير لأنه قد يتأخر عن صلاة الجماعة في وقت ما لما يكون له أفضل مثل تمريض مريض لا يكون له مَن يمرّضه أو حضور ميت لا يكون له من يقوم به أو خروج لغزو أو ما أشبه ذلك من أنواع الخير فلما احتمل دعاؤه عليه السلام أن يكون فيه عون على الخير أو مَنْع منه لم يَدعُ له ونَدَبه إلى الأفضل وحيث كان الدعاء خيراً كله دعا له وإن لم يسأله

ويترتب على هذا من الفقه ألا يدعو أحد بدعاء إلا حتى ١ يعلم ما يترتب عليه ويتيقن أنه خير كله سواء كان لنفسه أو لغيره
الوجه السادس فيه دليل على حُسنِ ما طَبَع الله عزّ وجلّ عليه نبيه من حُسنِ السجايا يؤخذ ذلك من كونه عليه السّلام أتى على البديهة بهذا الجواب الذي يتضمن هذه الفوائد التي لا تفهم إلا بعد النظر والتثبت والتّوفيق
وفيه زيادة بيان وإيضاح لقول مولانا جلّ جلاله اطلبوني عند المنكَسِرَةِ قلوبهم من أجلي لأنه سبحانه لا يَحُلّ في شيء وإنما معناه رحمتي أعلى من دعائه فلما انكسر قلب الصحابي رضي الله
الله
فدعا له بالخير
1 كذا بزيادة إلا قبل حتى
حالة على المنكسرة قلوبهم وأي رحمة
بما فعل دون علم سخر له
٣٥٠

الباعث
عليه
سبقك
بأحب
م نَمْ
ه يُعان
ى فيه
تعود
يعود صلاة
الوجه السابع فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب يؤخذ ذلك من دعاء
الله عنهم دعاؤه لهم
سيدنا و لهذا الصحابي لأن أفضلَ السّرور عندهم رضي فجَبَرَه وبإدخال السرور عليه لما رأى من انكسار قلبه عند إخباره بما صنَع وهو لا يعلم ما
حكم الله فيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
العة
ضور
اؤه
كان
سن ـده
مة
٣٥١
ولت كالة

-2-
حديث وجوب توفية أركان الصلاة
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيُّ فَرَدَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقالَ ارجعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لم تُصَلَّ ثَلاثاً فَقالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيّاً ما أُحِسنُ غَيْرَهُ فَعَلَّمْنِي فَقَالَ إِذا قُمتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبَر ثُمَّ اقرأ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ اركَع حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارفع حَتَّى تَعتَدِلَ قَائِماً ثُمَّ اسجُد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ ارفَع حَتى تَطْمَئِنَّ جَالِساً ثُمَّ اسجد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ افعَل ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلّها
*
ظاهر الحديث يوجب توفية أركان الصلاة من قيام وركوع وغيره من شأنها ومن لم يفعل لم تُجْزِهِ صلاته والكلام عليه من وجوه
1 أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر أحفظ من روى الحديث بدعاء النبي له وكان اسمه في الجاهلية عبد شمس وسماه الرسول عليه السلام عبد الرحمن وكنّاه أبا هريرة إذ كانت له هرة يحملها في ثيابه روي له ٥٣٠٠ حديث في مسند بقي بن مخلد وكان أبو هريرة شكا سوء حفظه إلى الرسول عليه السلام فأمره ببسط ردائه ودعا فقال اللهم أسألك علماً لا ينسى فقال امين وكان مع الرسول عليه السلام في حضره وسفره وحجه وغزواته توفي سنة ٥٩ هـ الإصابة لابن حجر هذا من حجة الأحناف في عدم فرضية الفاتحة وعلى هذا الآية الكريمة فَاقْرَءُوا مَا تَيْسَرَ مِنْةُ وَعَاثوا أما فأخذ بحديث الخداج ولو مقتدياً بجهرية والحنابلة خيروا المقتدي في الصلاة السرية ومنعوها في الجهرية أيضاً لآية وَإِذَا قُرِئَ الْقُرَهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا والإجماع على أن هذه الآية نزلت في القراءة بالصلاة فالاستماع في الجهرية والإنصات في السرّية وهو أقوى أدلة الأحناف
الشافعي
٣٥٢

الوجه الأول وجوب القراءة في الصلاة بغير تعيين يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام اقرأ ما تَيَسَّر معك من القرآن
وهنا بحث وهو أنه يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره كلُّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۱ وحديث آخر كلُّ ركعة والنَّسْخ لا يعلم فيهما ويسوّغ الجمع بينهما بأن نقدّر هنا محذوفاً والموضعُ يحتمله فيكون التقدير ما تيسر معك من القرآن بعدَ أم القرآن وهو مذهب جمهور الفقهاء لأنه احتمل هذا الحديث أن يكون قبل نزول أم القرآن فيكون على ظاهره بلا تأويل
واحتمل أن يكون ذلك بعد نزول أمّ القرآن وتقرير الحكم بإثباتها في الصلاة فرجع الحكم بها معلوماً كما أن الصلاة معلومة والمحتمل لا يعارض به النص ويكون إذ ذاك الجمع كما قدمناه
أولاً والاحتمال الأول بعيد لأن أمَّ القرآن مكيَّة وهذا الحديث مدني والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على الأمر بتكبيرة الإحرام يؤخذ ذلك من قوله إذا قمت إلى الصَّلاة فكبر ويؤخذ منه أن التكبير كان عندهم معروفاً في الصّلاة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فكبر ولم يعلمه صفة التكبير ولو لم يكن معلوماً ما جاز السكوت عنه عند الحاجة إليه
وهنا بحث وهو أن يقال ما هو حدّ الاستواء اختلف العلماء في ذلك الحد فمنهم من
قال قدر ثلاث تسبيحات ومنهم من قال غير ذلك ومنهم من لم يجعل له حدا إلا ما حده ل هنا وهو قول مالك رحمه الله تعالى ومن تبعه وهو الأظهر لأن الذي أعطي البلاغة والنّور والحكمة أخبرنا بالأمر الذي يأخذ كل النّاس منه القَدْرَ الذي فيه إجزاء فَرضهم لأن الناس فيهم الخفيف البدن الخفيفُ الحركة فهذا بأقل من ثلاث تسبيحات ۳ تعتدل منه جميع ومنهم الثّقيلُ البَدَن الثّقيلُ الحركة فهذا بمقدار الثلاث تسبيحات لا يتم له فَرضُه ومنهم ما بين ذلك وهم أيضاً في النطق بالتسبيح مختلفون
مفاصله
الوجه الثالث فيه أيضاً من الحكمة معنى لطيف لأنه لما نهى عن والتفقير ۳ في الدّعاء لأنه إذا كان الداعي مشغول الخاطر بتفقير دعائه ذهب منه المقصود من الدعاء وهو حضور القلب فلم يحصل على فائدة ما أراده من الإجابة لعدم شرط الحضور
1 أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه من الفقهاء من قال بفرض التسبيحات في الركوع والسجود وهذا الحديث حجة عليه إذ لو كانت فرضاً لعلمه

إياها
۳ التفقير التكسير والمراد هنا التقطيع وجعله فقرات متوازنة
C
3
٣٥٣

فنهى ل عن هذا رحمة بأمته ويشبه هذا من طريق الحكمة لأن الصلاة المطلوب منها أمران الظاهر وتوفيته وقد بيّنا العلة فى ذلك آنفاً والباطن وهو الحضور والخشوع مختلف فيه بين العلماء هل هو فرض في الصلاة أو شرط كمال وشَغلُ الخاطر بهذه التسبيحات ينافي الخشوع والحضور فمن أجل هذه العلة لم يحد فى ذلك حدا إلا حقيقة الاعتدال فمن فهم هذا المعنى أبقى الحد فيه على ما حده له وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
وهنا بحث وهو ما الحكمة بأن جعل مفتاح الصلاة الله أكبر ثم فَصَل بهذه الصيغة
المباركة بين أركان الصلاة
فالجواب إن قلنا إن هذا تعبُّد غير معقول المعنى فلا بحث وإن قلنا وهو الحق إن الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة فما الحكمة هنا فنقول والله أعلم لما كانت الصلاة توجهاً إلى المولى الجليل ومناجاة له كما أخبر الصادق لا في قوله فإنما يناجي ربه ولقوله عليه السلام إذا دخل العبد في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه الكريم وقد قال عزّ وجلّ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ۳ وقد جرت الحكمة أنه لا يُدخل على الملوك إلا بالإذن وعند الإذن منهم يدخل عليهم الداخل بحضور قلبه ويلتزم الأدب ويعرف على من هو داخل فجعل التكبير هنا دالاً على الإذن للوقوف بين يدي المولى الجليل ليُحضر قلبه ويعرف بين يدي من هو وجاء الإذن بهذا الاسم العلم الذي لم يشاركه فيه أحد من خلقه حتى يكون سبباً لحضور حقيقة التوجه إذا ذاك
الوجه الرابع فيه تنبيه على رفض ما كان يأخذ فيه قبل الصلاة كما جاء في نداء الصبح للصلاة الصلاة خيرٌ من النوم لأن النوم مما تستطيبه النفوس فأشعرنا بأن ما دُعِيَت إليه من الصلاة خيرٌ وأطيب مما هي فيه فكذلك قوله الله أكبر فإنه يقول لك بضمن الحكمة ما كنتَ فيه أو ما أنتَ فيه من خير أو ضده أو عبادة من العبادات أو نوع من أنواع المباحات الله أكبَرُ أي ما دعاك الله إليه أكبَرُ مما أنت فيه فاضرِب عنه وأقبل على مولاك تجده خيراً لك في الحال والمآل
ولذلك قال عز وجل في حقها ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٤ فإن مَن ليس من الخاشعين إذا جاءت الصلاة كانت قاطعة له عما كان بسبيله وهذا على النفوس من أكبر الأشياء
1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم جزء من حديث أخرجه البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ اخر
۳ سورة البقرة من الآية ١١٥
٤ سورة البقرة من الآية ٤٥
٣٥٤

أخف الأشياء عليهم وأحبها إليهم لما
وأما الخاشعون فإنهم ينتظرونها انتظار فرح بها وهي / يجدون فيها من النعيم والقرب والخلو بالمحبوب ولذلك قال وجُعِلت قرة عيني في الصلاة 1 وقد نقل عن بعض الرجال أنه قال تعبت بالصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة وما ذاك إلا لما لم يحصل له مقامُ الخاشعين تعِب فلما ذاق طعم الخشوع جاءه ذلك النعيم
والخير التام
وأما الحكمة في الفصل به بين أركان الصلاة فإنه إما تحقيق لرجاء أو تحقيق لخوف أو تحقيق لوعد أو وعيد أو لنفي إعجاب أو وسوسة مثال الرجاء أن يكون قد ابتهل في الركن الذي كان فيه من الصلاة بدعاء فيما يرجو به خيراً فجاء بعده الله أكبر بشرى لبلوغ ما أمله من فضله عزّ وجلّ في إجابة دعائه أو خوف إن كان في دعائه خائفاً من شيء فجاء بعده الله أكبر أي هو أولى بالخوف فإذا خفته فلا تخف غيره أو كان قد قرأ آية وعدٍ أو وعيد فجاء بعده الله أكبر تحقيق لمقتضى ما قرأ أو نفي إعجاب إن وقع للنفس أنها قد وفَّت ما عليها وأن لها بذلك حقًا على الربوبية واجباً فجاء بعده الله أكبر أي حقٌّ الله أكبر كما جاء وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۳ معناه ذكره لك في الأزل أنْ جَعَلَك من الذاكرين له ﴿ أكبر من ذِكرِك أنتَ الآن له
الوجه الخامس فيه دليل على أن الأدب - إذا دُخِل المسجد - أن تقدم الصلاة وبعدها يكون السلام على الغير يؤخذ ذلك من قوله دخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي ا ولم يقل له النبي في ذلك شيئاً فإقراره عليه السلام له على ذلك حُكم به وذلك في الأحاديث إذا
استقريت كثير
الوجه السادس فيه دليل على حرمة العبادة وأنه لا يُكلّم من هو فيها ولا يُعَلِّم وإن أفسدها يؤخذ ذلك من أن النبي لما رأى الرجل يصلي وهو لا يحسن صلاته لم يقل له الله شيئاً حتى فرغ وأتى إليه فقال له عليه السلام ارجع فصل والصلاة التي صلّى إن كانت فريضة يترتب على ذلك من الفقه أنه إذا نقص من توفية أركان الصلاة شيء لم تجز وإن كانت نافلة يترتب عليها من الفقه أنه من دخل في نافلة وأنقص منها شيئاً أو أفسدها باختياره أنه يأتي يبدلها والحجة في ذلك لمالك رحمه الله تعالى الذي يقول إن النافلة تجبّر كما يجبر الفرض ومن
۱ جزء من حديث أوله حُب إلي من دنياكم ثلاث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في الكبرى
عن أنس رضي الله عنه به الضمير يعود على التكبير وهو قول المصلي الله أكبر
۳ سورة العنكبوت من الآية ٤٥

٣٥٥

دخل فيها وجب عليه إتمامها لأنه قال فَصَلَّ وليس فى الحديث ما يدل على أنها فرض
فالأظهر أنها تحيّة المسجد
الوجه السابع فيه دليل على أن تكرار العمل بغير تمام لا يُعد شيئاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصلِّ ثلاثاً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول إن العالم لا يتعين عليه أن يعلم حتى يُسأل يؤخذ ذلك
من أن سيدنا لم يعلمه حتى قال له فَعَلّمْني
الوجه التاسع يؤخذ منه ألا يُحكم بشيء محتمل حتى يُبحث عن حقيقته يؤخذ ذلك من أن النبي ا ا ا ا ا ل ل ل لم ينتقد عليه ولم يعبه وما قال له إلا ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ لأن قلة توفيته للصلاة احتمل أن يكون ذهوله لشغل بال أو لجهل كما ذكر عن نفسه فلما وقع الاحتمال لم يزده عليه السلام على الإخبار بعدم الإجزاء شيئاً
الوجه العاشر فيه دليل على جواز النظر للمتعبد إلا أن يكون مواجهاً له فلا ينظر إليه لأنه إذا نظر إليه وهو مواجه له شوّش عليه - ذكَرَه بعض العلماء - أو لِيُدِرْ وجهه عنه يؤخذ ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له ارجع فصل فإنك لم تصل إلا أنه نظر إليه طول مقامه يصلي ولولا ذلك
ما علم حاله
ويترتب على ذلك من الفقه أن لكل راعٍ أن يتفقدَ مَنْ تحت رعايته في أمر دينهم هل يوفون أم لا فإنه مسؤول عنهم ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله إن أهم أموركم عندي
الصلاة
الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز السّلام بعد الصّلاة وإن كنتَ قد سلّمتَ قبلها يؤخذ ذلك من أنه كلما جاء من تلك الصلاة التي ردّه النبي ا إليها أعاد السلام عليه و الله ولم ينكر عليه وعدم إنكاره عليه السلام دال على الجواز وهنا إشارة من طريقة أهل التحقيق في المعاملات لأن الدخول في الصلاة خروج من هذا العالم إلى العالم العلوي بسره فلما سلّم من الصلاة فهو رجوع إلى هذا العالم فهو الآن قادم من عالم إلى عالم آخر فلَزِم أو جاز أو ندب إلى السّلام وما هو أقل من هذا الاعتبار
روي عن الصحابة رضي ال عنهم أنهم كانوا إذا كان الواحد منهم يمشي مع أخيه وحال بينهما شجرة أو شيء ثم تراجعا من ذلك الأمر اليسير سلّم أحدهما على صاحبه ۱ لأن الفُرقة -
۱ مروي بالمعنى وأصله إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه "
٣٥٦

عليه
ذلك
أن
فيته
ـن
وإن كانت يسيرة - فقد انقطع استصحاب الحال وجاء أمر اخر فينبغي أن يبدأ بالسلام لما فيه من الأجر والخير والبركة فهؤلاء رضي الله عنهم كانوا يعرفون مقدار ما نُدِبوا إليه وأن خواطرهم عاملة بذلك ولو فعله اليوم أحد لكان ينكر عليه فإنا لله وإنا إليه راجعون على الغفلة التي قد توالت فما يفيق سكران الغفلة إلا وشمس القيامة قد بزغت فأنى لنا بجبر ما ضاع من العمل الوجه الثاني عشر فيه دليل على فضل الصحابة وعدم التصنع عندهم رضي يؤخذ ذلك من قوله والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني لأنه تواضع ولم يكفه الإخبار
إلا حتى
الله عنهم
1 أكده باليمين وقد قال العلماء لا يُحرم طالب العلم إلا من وجهين إما من الكبر أو من الحياء فإن الدين ليس فيه كبر ولا حياء في قول حقٌّ أو تعليمه ولذلك قال نِعْمَ النِّساءُ نِساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياءُ مِن أنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين
الوجه الثالث عشر فيه دليل لأهل الصوفة لأن فضيحة النفس بما فيها موت لها وموتها حياتها موت النفوس حياتها من أحبَّ أن يحيا يموت
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
فليسلم عليه أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه
1 كذا بإقحام إلا انظر تخريجه في الحديث ۱
٣٥٧

-44-
احلة رياء حية
حديث رد المأموم على الإمام بالحمد في الرفع
کا
عَن أَبي هُرِيرَةَ رَضي الله عنه أَنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمامُ سمع الله لِمَن حَمِدَه فقُولوا اللَّهُمَّ ربَّنا لك الحمدُ ۱ فإنَّهُ مَن وافق قوله قول الملائِكَة غُفِرَ لهُ ما تقدم مِن
ذَنْبِهِ
ظاهر الحديث أن من وافق تحميده عند قول الإمام سمع الله لمن حمده قول الملائكة غفر له والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله عليه السلام وافق قوله قول الملائكة هل في الزمان أو في الإخلاص أو في مجموعهما محتمل والأظهر موافقتها في الزمان والإخلاص لأنه لم يبق محتمل آخر وبقي الوجهان على طريق الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وهنا بحث في قوله عليه السلام قول الملائكة هل يعني به ملائكة معروفين فتكون الألف واللام للعهد أو يعني به جنس الملائكة فتكون للجنس احتمل لكن جاء حديث آخر قول الملائكة في السماء فدلّ على أنها للعهد وأنهم ملائكة في السماء
ومما يقوي هذا ما جاء عنه في قوله يا مَنْ أَظْهَر الجميل وستر القبيح إن الله عزّ وجلّ خلق تحت العرش تماثيل على صفة كل شخص من بني آدم فإذا تحرّك الآدمي بأي نوع تحرك ذلك التمثالُ بمثل ما تحرّك به الآدمي لكن - بفضل الله - إن كان تحرَّك الآدمي بطاعة تحرّك ذلك التمثال بمثلها فأبصرته الملائكة فاستغفَرَتْ له ودعت له وإن كان بمخالفة أو مكروه ستّر
1 للحديث روايات عدة منها ولك الحمد ومنها بدون اللهم وقد أخذ الأحناف بجمع الروايات اللهم ربنا
ولك الحمد وقالوا هو الأفضل
٣٥٨

من
كة
الله عزّ وجلّ حركة ذلك التمثال عن الملائكة فلا يَرُونه حين يتحرّك بالمعصية۱ فسبحان مَنْ هذا حِلمُهُ بعد عِلمِهِ
الوجه الثاني فيه دليل على عظم قدرة الله عزّ وجلّ يؤخذ ذلك من أن هذا العالم على كثرته تكون الملائكة في العالم العلوي يراقبونهم واحداً واحداً
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن بني ادم الصالحين أشرف من الملائكة يؤخذ ذلك من كون العالم العلوي مترقبين لهم ويُؤمنون على دعائهم واحداً واحداً

الوجه الرابع فيه دليل على زيادة شرف هذا الركن من بين أركان الصلاة لأنه لم يجيء أن الملائكة تشارك الآدمي في هذه العبادة بالموافقة إلا في هذا الركن وتأمينهم عند آخر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ بقولهم آمين فهذا أيضاً دليل على فضل السورة لأنه لم يجىء أنها تُؤمّن على القراءة في شيء إلا على خاتمة الفاتحة وهذا الموضع - وهو تحميدها - على قول الإمام سمع الله لمن حَمِده دال على تعظيمها من بين الأركان والأقوال
الوجه الخامس فيه دليل على فضل صلاة الجماعة على غيرها يؤخذ ذلك من أنها لا تؤمن وتحمد على قول الفَذَ امين عند قوله سمع الله لِمَن حَمِده وإنما تفعل ذلك للإمام ليس إلا وفي هذا الموضع دليل بقوة الكلام على المحافظة عليها لأنه لما أخبر بما فيها من الأجور كأنه بقوة الكلام يقول لا تغفل عنها وحافظ عليها
وهنا بحث لطيف وهو ما الحكمة بأن خُص هذا الموضع وحده بهذا التشريف فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فنقول - والله أعلم - لمّا جاء أن الركوع منعت فيه القراءة ومُنع فيه من الدعاء وشرع فيه تعظيم الرب عزّ وجلّ وقد قال تعالى على لسان نبيه من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ فلمّا كان هؤلاء امتثلوا ما أمروا به في حال الركوع بترك كل شيء واشتغلوا بتعظيمه جلّ جلاله تفضّل عزّ وجلّ عليهم بأن جعل لهم في هذا الموطن - الذي هو رفعُ الرأس من هذا التعظيم لجلاله - هذا
۱ مركب من أكثر من حديث أوّله ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة راه ضاحكاً مستبشراً وبشره بأن الله أرسله إلى النبي عليه السلام بهدية وهي كلمات من كنوز عرشه ودعاء أوّله ي من أظهر الجميل وستر القبيح إلخ أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد وابن شاهين في الترغيب في الذكر وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الله عنه الشعب عن ابن عمر رضي الله عنهما وعبد الرزاق عن جابر رضي
٣٥٩

الخير العظيم وأمر نبيَّه أن يخبرهم به ليعرفوا قدرها من نعمة لأنه ليس في جميع الثواب
هي
أعظم من المغفرة كما قررناه في الأحاديث قبل وفيه معنى آخر لطيف وهو لمّا جاء قول إمامهم سمع الله لمن حمده أي إنه قد سمع حمدكم إياه وجازاكم عليه بمقتضى وعده الجميل - وهو قوله عزّ وجلّ مَن شَغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين - جاء جوابهم اللهم ربَّنا لك الحمد وهذا شكر على تلك النعمة لأن الحمد يقوم مقام الشكر وهو أعلى وجوه الشكر وقد قال جل جلاله لين شكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فلما شكروا زيدت لهم المغفرة فجاءت زيادة الكريم توفية لوعده الجميل وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ وكانت الزيادة خيراً من العمل لأن الزيادة بمقتضى الفضل وإن كان الكل من الخير بفضله سبحانه لكن الزيادة ليست بمقابلة شيء من الأعمال فهي فضل صرف فجاءت بأعظم الأشياء ولذلك قال جلّ جلاله ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۳ وهذا أجلّ البشارات وأجل السرور لأن ما هو مقتضى فضل ذي الجلال والإكرام لا يبقى معه هم ولا نَصَب ولا حظ من خير إلا وقد أجزل لمن منّ عليه بهذه النعمة جعلنا الله من أهلها بفضله ولذلك قال عزّ وجلّ وَسَتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ لأنه إذا كان السؤال من المسكين إلى الجليل وهو ليس بملتفت لعمله كان أنجح في الاستجابة ولا ينتبه إليها إلا من خص بها جعلنا الله منهم بفضله
الوجه السادس وهنا إشارة صوفية لأنهم لما رأوا هذه الإشارة وغيرها تقتضي تفضيل ترك الحظوظ على غيرها عملوا على الخروج من حظوظ النفوس جملة من غير تفصيل واشتغلوا بذكر الصَّمد الجليل فأورثهم عزّ وجلّ العزّ الرفيع بأن شرفهم فقال عزّ وجلّ في محكم التنزيل لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ ٥ وقال عز وجل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْمَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ٦
فَهمنا الله ما فَهَّمهم وَجَعلنا في الأحوال معهم لا ربَّ سواه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة إبراهيم من الآية سورة التوبة من الآية ۱۱۱ ۳ سورة النساء من الآية ۱۷۳ ٤ سورة النساء من الآية ۳

٥ سورة النور من الآية ٣٧ ٦ سورة الكهف من الآية ۸

ـن
ت
144-
حديث رؤية المولى عز وجل

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ قالَ هل تُمارون ۱ في القمر ليلةَ البدرِ ليس دونَهُ سحابٌ قالوا لاَ يا رسولَ الله قال فهل تُمارونَ في الشَّمس ليس دونَها سحابٌ قالوا لا يا رسول الله قال فإنَّكُم تَرَوْنَهُ كذلك يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ فيقولُ مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبعُ القمر ومنهم من يتبعُ الطواغيت وتبقى هذه الأُمَّةُ فيها
منافقوها
فيأتيهم الله عز وجل فيقولُ أنا ربُّكُم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فيدعوهم فيُضرَبُ الصِّراط بين ظهراني ٢ جهنم فأكون أول من يجوز ۳ من الرسُلِ بأُمتِهِ ولا يتكلّمُ أحدٌ يومئذٍ إلا الرُّسُلُ وكلامُ الرُّسل يومئذ اللهمَّ سَلّمْ سلّمْ
وفي جهنَّمَ كلاليب مثلُ شَوكِ السَعْدانِ ٤ هل رأيتُم شَوكَ السَعْدانِ قالوا نعم قال فإنّها مثلُ شوكِ السَّعْدانِ غير أنّهُ لا يَعلمُ قَدْرَ عِظَمِها إلا الله عزّ وجلَّ فَتَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم فمنهم من يُوبَق ٥ بعمله ومنهم من يُخَرْدَل ٦ ثم ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النارِ أَمَرَ الله الملائكة أن يُخرِجوا مَن كان يَعبدُ الله فيُخرجونهم ويعرفونهم بآثارِ السجود وحرَّمَ الله على النار أن تأكل َأثَرَ السجودِ
۱ هل تُمارُون هل تَشْكُون أو تتردَّدون
بين ظهراني جهنم على وسطها ۳ يجوز يجتاز ويقطع من طرف لآخر
4 شوك السعدان السعدان نبت ذو شوك وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطباً فإذا يبس كلح وقسا فتعافه
٥ يوبَق بعمله يهلك بسبب عمله السيّىء
1 يخردل يُصرع ويرمى
٣٦١

فيُخرجون من النارِ فكلُّ ابنِ آدمَ تأكُله النارُ إلا أثَرَ السُّجودِ فيُخرجون من النارِ قد امتَحَشُوا ١ فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ ٢ ۱ ثمَّ يَفرُخُ الله سبحانه وتعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخرُ أهل النارِ دخولاً الجنّةَ مُقبلاً بوجهه قِبَلَ النّارِ فيقولُ يا ربّ اصرِف وجهي عن النارِ فقد قَشَبَني ۳ ريحُها وأحرقني ذكاؤها 4 فيقولُ هل عسَيْتَ إِن فُعِل ذلك بكَ أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعِزَّتِكَ فيعطي الله عزّ وجلّ ما شاء من عهد وميثاق فيصرِفُ اللهُ وجهَهُ عن النار
فإذا أَقبَلَ به على الجنّةِ رأى بَهْجَتَها سكت ما شاء الله أن يَسْكَتَ ثم قال يا ربِّ قدمني عند باب الجنة فيقولُ الله أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنتَ سألت فيقولُ يا ربِّ لا أكونُ أشقى خلقِكَ فيقولُ فما عسيتَ إن أُعطيتَ ذلك الا تسأل غيره فيقولُ لاَ وعِزَّتِكَ لا أسألُ غير ذلكَ فيعطي ربَّهُ ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنَّةِ
6
فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النَّضْرةِ والسُّرورِ فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أن يسكت فيقولُ يا رب أدخلني الجنّةَ فيقولُ الله عزّ وجلَّ وَيْحَكَ يا ابن آدم ما أغْدَرَكَ! أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسألَ غير الذي أُعطيت فيقول يا ربِّ لا تجعلني أشقى خلقك فيَضحَكُ الله عزّ وجلّ منه ثم يأذَنُ الله له في دخول الجنة فيقولُ تَمَنَّ فيتمنى حتى إذا انقطعت أُمنِيَّتُه قال الله عزّ وجلَّ زِدْ من كذا وكذا أقبلَ يُذَكَّرهُ ربُّهُ حتى إذا انتهت به الأماني قال الله سبحانه لكَ ذلكَ ومثله معه وعن أبي سعيد ٥ إِنِّي سمعته يقولُ لك ذلك وعَشَرَةُ أمثاله
۱ امتحشوا تقشر جلدهم عن لحمهم احترقوا
حميل السيل ما حمله السيل من غثاء وطين والحبة بزور العشب والبقول البرية التي لا تؤكل والحَبَّة
البذور التي تؤكل ۳ قشبني اذاني ٤ ذكاؤها جمرها الملتهب
5 أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الخدري أنصاري خزرجي من ملازمي الرسول عليه السلام روى عنه ۱۱۷۰ حديثاً توفي في المدينة سنة ٧٤هـ / ۱۹۳م الأعلام / ۱۳۸۳

٣٦٢

ظاهر الحديث تحقيق رؤية ربنا جل جلاله يوم القيامة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قوله عليه السلام هل تُمارُون معناه هل تَشُكّون وعلى الرواية الأخرى هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب فهذه من الأشياء التي لا يشك أحد أن القمر موجود مزئي ولو سكت عليه السلام واقتصر على هذا المثال لكان في البيان والتحقيق كافياً ثم أكده عليه السلام بأن قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب وفي ابتدائه عليه السلام أولاً بالقمر ثم بالشمس بعده من الحكمة وجوه منها اتباع الأب الجليل وهو إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام كما اتبعه عليه السلام في الملة اقتدى به في الدليل فكان دليل الخليل على إثبات وجود الربوبية واستدلال الحبيب بمقتضى ذلك الدليل نفسه على إثبات الرؤية فكل استدلّ بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بالوجود والمحبة لا تقع إلا برؤية المحبوب
الوجه الثاني فيه من الحكمة أن رؤية القمر يُقِرُّ بها كلُّ مَن يبصر ولو كان من ضعف بصره ما عسى أن يكون فعند تمام البدر دون سحاب يبصره ضرورةً وبقي مَن لا بصرَ له يكون عنده وجود رؤية القمر تقليدا والشمس يشهد بوجود رؤيتها من له بصر ومَن لا بصر له فإن الأعمى يلقاه حَرُّها وإذا قابلها وقت الظهيرة وليس دونها سحاب أحس بإدراكها بزيادة يجدها على ما يخبرونه بذلك فأكدها بأشدَّ من الأوَّل ويكون معنى المثال في تحقيق الرؤية لا في الكيفية لأن القمر والشمس متحيّزان ۱ والحق سبحانه وتعالى ليس بمتحيز وليس أيضاً
شيء من مخلوقاته يشبهه هذا بدليل العقل والنقل
فأما من طريق العقل فبالإجماع منهم أن الصنعة لا تشبه الصانع والشمس والقمر خَلقُ من
خلقه عزّ وجلّ فليس بينهما شَبَةٌ بوجه من الوجوه وأما من طريق النقل فما جاء في التنزيل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وإنما العرب تشبّه الشيء بالشيء لشبه ما يكون فيه كقولهم زيد مثل الأسد والبشر ليس بينه وبين الأسد في الخلقة مماثلة وإنما شبهوه به لكثرة شدّته ومثل ذلك قولهم فلان مِثْلُ القمر ولا شبه في الخِلْقة بينهما وإنما شبهوه به لحُسنه هذا في المحدثات التي بينها نسبة الحدوث فكيف بمن لا نسبة بينه وبين خَلْقه جلّ جلاله
۱ التحيز التلبث والتمكث والتلوّي والتقلب ومثله التحوّز والمتحيّز المتحول من مكان إلى مكان أو
المتنحي ومنه قوله تعالى أَوْ مُتَحَيّذًا إِلَى فِشَر
سورة الشورى من الآية ۱۱

٣٦٣

وهذا مثل ما يقول الناس بعضهم لبعض إذا سأل أحدهم الآخر في أمر هل هو حق أم لا فيحلف له أنه حق كما أنت موجود فى الوجود لأن علم الضرورة لا يشك أحد فيه فردَّ لهم علم الإيمان بالرؤية التي هي من قبيل التصديق بالغيب من قبيل علم الضرورة الذي هو مقطوع به لا يخالف فيه أحد في الوجود وعلم الضرورة هو كعلمك بأن السماء فوقك موجودة وأن الأرض تحتك موجودة وأنك فيها موجود الآن وكذلك ما أدركته من جميع الموجودات تشهد بالقطع الذي لا ارتياب فيه بأنها موجودة حِسّاً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز الاستدلال بالعلم النظري على علم الضرورة وبنائه عليه وفيه من الفقه أيضاً أن يخاطب كل شخص بما يفهمه لأن العرب فهموا عنه عليه السلام المعنى الذي أشرنا إليه ولو كانوا غير عرب لم يبين لهم عليه السلام إلا بما كانوا يفهمون عنه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام خاطبوا الناس على قدر عقولهم ۱ أي على قدر ما يفهمون وعلى رواية تُضَامُّون أي لا تتضاغطون لأن القمر إذا ارتقب في أول ليلة تضاغط الناس على من أبصره لكي يُرِيهم إياه ويتعبون في إدامة النظر إليه وبعضهم يتعب وقد لا يراه لضعف بصره وإذا كان ليلة كماله لم يتضاغط أحد مع أحد ولا يتعب أحد في رؤيته بل يكون قد كسا نوره جميع الأرض وانشرحت له الصدور فيكون معنى هذا الوجه مثل الأول في تحقيق الرؤية وزيادة معنى ثانٍ أنكم أيها المؤمنون كلكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر عند كماله دون سحاب والشمس دون سحاب بلا تعب كذلك ترون ربكم حقًّا لا شك في ذلك كما يشهد له
آخر الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام ترونه كذلك عائد على تحقيق الرؤية التي أخبر بها عليه السلام من أنهم لا يشكون في القمر ولا في الشمس بتلك الصفة فيقول كذلك ترونه حقًا بلا ريب ولا امتراء
وهنا تنبيه وهو أنه لا يلزم من الرؤية التحديد ولا الإحاطة لأن بعض مخلوقاته سبحانه نراها ونعلم بالقطع أنها محدودة ولكن لا نحيط نحن بها مثل السماء والأرض نحن تدرك كل واحدة منهما ونبصرها ولا نحيط بها ونحن نعلم بالضرورة أنها محصورة محدودة فكيف بمن ليس كمثله شيء تنبيه ثاني وهو أنه لا يلزم أيضاً من الرؤية الجهة لأنا نرى من خلقه كثيراً وليسوا هم في جهة مثل الليل والنهار فإنا نبصرهما وليسا في جهة فكيف بمن ليس كمثله شيء
۱ رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً بعبارة أمرنا أن نخاطب الناس إلخ
٣٦٤

تنبيه آخر أيضاً وهو أنه لا يلزم من الرؤية إدراك جميع الصفات فإنا نبصر من بعض مخلوقاته ما نبصره ولا ندرك منه حقيقة صفته كالماء فإنا نبصره ونشربه ولا نعلم له لوناً لأنه كلما جعل في شيء يكون لونه لون ذلك الشيء وحقيقة لونه القائمة به لا يدركها أحد ولم يقدر أحد من المحققين أن يخبر عنها بلون ما فكيف بمن ليس كمثله شيء
فتحصل من ذلك كله تحقيق رؤيته جل جلاله بلا ريب مع نفي الكيفية بلا ريب أيضاً الوجه الخامس قوله عليه السلام يُحشَرُ الناسُ يوم القيامة أي يُجمع كما قال عزّ وجلّ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَ ابنِ حَشْرِينَ ۱ أي مَن يجمع الناس
وفيه من الفقه الإيمان بالبعث بعد الموت وبكل ما ورد من الأخبار في ذلك اليوم العظيم والتصديق بذلك أنه حق كما أخبر عليه السلام ولا يُتَعَرَّضُ أيضاً إلى الكيفية في كل ما جاء من أمر الساعة فإنه أمر لا تسعه العقول وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان وإنما يجب الجزم بالتصديق كما أخبر عليه السلام لأن قدرة القادر لا يُعجِزُها ممكن بل تفعل ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السادس قوله عليه السلام فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه شيء يعمّ جميع الأشياء مدركة كانت أو غير مدركة فالمدرَك منها مثل الشمس والقمر والنجوم والأوثان على اختلافها وغير المدرك منها مثل الملائكة وهوى النفوس لقوله عزّ وجلّ أَفَرَهَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَمُ
هونه ٢ وما أشبهها

وفي قوله عليه السلام أولاً من كان يعبد شيئاً ثم ذكر الشمس والقمر ثم عمّم بذكر الطواغيت دليل على أن كل ما يُعبد من دون الله - كائناً ما كان - هو من جملة الطواغيت فلو سكت عليه السلام عند قوله شيئاً لكان احتمل ما بيَّنه بالمثال وهو ما سوى الله من مخلوقاته واحتمل أن يريد مَن عَبَدَ الله فإنه يُبَدِّ ۳ في ذلك الوقت على جميعِ مَن عُبد من دون الله فيتبعه كل من كان يعبده فإنّ شيئاً يصدق على المولى جل جلاله وعلى غيره من مخلوقاته ولذلك قال عزّ وجلّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى فهو جلّ جلاله شيء وليس كمثلِهِ شَيْءٌ وذكر عليه السلام الشمس والقمر لأنهما أعظم المخلوقات المدركات التي عُبدت من دون
1 سورة الأعراف من الآية ۱۱۱ سورة الجاثية من الآية ٢٣ ۳ يُبدأ يُقدَّم ويُفضّل
٣٦٥

الله ثم عاد عليه السلام إلى إجمال الأوثان بقوله الطواغيت فأزال بهذا الاحتمال الثاني وصع به
الوجه الأول كما ذكرناه ويترتب على هذا من آداب الفقه أن مِن حُسنِ الكلام إذا كان في كلام المتكلم ما يقع فيه أو ه احتمال للوجه الذي أراده أو لغيره أن يأتي بمثال أو إشارة يذهب بها ذلك المحتمل
بعضه
ويحقق ما أراده
ويترتب عليه من الحكم الا يُحكم على المتكلّم إلا بما يقتضيه جميع كلامه من أوله إلى
آخره ولا يلزم البعض ويترك البعض إذا كان الكلام مرتبطاً بعضُه ببعض الوجه السابع فيه دليل على أن الحكم يوم القيامة ليس الشخصُ فيه ـ كما هو هنا ـ باختيار نفسه يؤخذ ذلك من قوله مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه ثم لا يَسَعُه إلا الاتِّباع وإن كان يُفضي به - كما هو متحقق - إلى الهلاك وهنا الأمر قد ورد والمتبعون على اختلاف فمتبع بالجملة وتارك بالجملة أيضاً وما بينهما والحكمة في ذلك - والله أعلم - لمّا كانت هذه الدار يجتمع فيها الحق والباطل كان أهلها على ذلك الوضع ولما كانت تلك حق كلُّها كان الكلّ فيها على
مقتضى وضعها
وهنا بحث وهو أنه قد أخبر أنه من كان يعبد شيئاً اتَّبعه وسكت ولم يخبر عن استقرارهم أين يكون فسكوته عليه السلام عن غاية الاستقرار يؤخذ ذلك من مفهوم الكلام وهو أنه لما أخبر عليه السلام بأنهم طواغيت وقد عُلِم بقواعد الشرع أن الطواغيت كلها في النار فللعلم بذلك سكت عنه عليه السلام وإن كان قد بيّنه في حديث آخر فإنه عليه السلام ذكر فيه أنهم يردون جميعاً النار الأوثان وعُبّادُها وقد نبه عزّ وجلّ على ذلك في كتابه بقوله عالى في فرعون - وهو واحد ممن عُبد من دون الله - ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ
الْمَوْرُودُ ۱
فال

الوجه الثامن قوله عليه السلام وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها وهنا بحث في الأمة هل الألف واللام للجنس يعني أمة التوحيد من الثَّقَلَيْنِ من أول العالم إلى آخره أو للعهد يعني به أمة محمد عليه السلام لا غير احتمل والأظهر أنها للجنس بدليل ما عدا عباد الطواغيت وهم جميع الرسل وأممهم من الجن والإنس أي أنهم لا يتبعون وثناً وإن كان فيهم المنافقون وهم غير مؤمنين لكنهم لما ادعوا أنهم مؤمنون أبقوا مع المؤمنين
۱ سورة هود من الآية ۹۸
٣٦٦
نجر

به
الوجه التاسع قوله عليه السلام حتى يأتينا ربنا تمحيص ثانٍ لحقيقة دعوى الإيمان فهناك يتميز الخبيث من الطيب وفي هذا الموضع دليل على فضل الإيمان لأنه لما تلبس هؤلاء
المنافقون بدعوى الإيمان أبقيت عليهم حرمة ما في ذلك الوقت العظيم من أجل تلك الدعوى
الوجه العاشر قوله عليه السلام فيأتيهم الله عزّ وجلّ الإتيان هنا بمعنى الظهور لأن الإتيان في اللغة يكون بمعنى المجيء والانتقال كما تقول أتى زيد وقد يكون بمعنى الظهور كقولهم أتى الأمر الذي قلتم بمعنى ظهر وأتى الحق أي ظهر ومثله قوله عليه السلام لا يبقى العدل بعدي إلا يسيراً فإذا طلع الجَوْرُ ذهب من العدل مثله والجَور ليس هو جرماً يطلع ويبرز وإنما هو بمعنى ظهوره فيكون الإيمان بالإتيان مع عدم الكيفية والأوصاف اللائقة بالمحدثات كلها
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام فيقول أنا ربكم هذا أيضاً يجب الإيمان به مع نفي الكيفية لأن مولانا سبحانه لا يتكلم بحرف ولا بصوت وإنما هذا ميسر بلغة سيّدنا محمد كما يسر القرآن الذي هو كلامه عزّ وجلّ فيَسَّر لهم إذ ذاك كلامَ مولانا جلّ جلاله بلغة العرب كما يسر لهم كلامه في الدنيا باللسان العربي
و احتمل أن يكون عزّ وجلّ يكلمهم بكلامه الذي هو صفته عزّ وجلّ كما كَلَّم موسى عليه السلام وفهمه له كيف شاء وتكون يسرت العبارة هنا لسيدنا محمد بلغته كما يسّر القرآن بلغته بمقتضى الحكمة والكيفية في الموضعين غير ملحوظة بل منفيّة نفياً كليا
ويترتب على ذلك من الفقه الإيمان القطعي بالكلام المذكور مع عدم الكيفية وكذلك في كل موضع يقع الكلام في ذاته الجليلة سبحانه وفي صفة من صفاته لا سبيل للنظر في الكيفية في شيء من ذلك
الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه هذا أدل دليل على أن إدراكات الحواس خَلقٌ من خَلق الله يخلق عزّ وجلّ فيها ما يشاء كيف يشاء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يأتيهم فيقول أنا ربكم على المعنى المتقدم فمع الرؤية والكلام لم تقع لهم معرفة لأن حجابهم جُعِل من عند أنفسهم
و نضرب بذلك مثلاً في عالم المخلوقين - وللهِ المَثَلُ الأعلى - مَثَل قرص الشمس إذا أقبلت وقيل لضعيف البصر انظر الشمس وهو يعلم بالقطع أن عين الشمس إذا لم يكن دونها سحاب أنها مستنيرة فإذا نظر إليها ببصره رأى فيها طرقاً حُمْراً وصُفْراً وسُوداً فيقول ليست هذه الشمس التي أعلم فيقال له منك عدم حقيقة الإدراك فينازع في ذلك فيقال له داو بصرك ثم تعال
٣٦٧

فحينئذ
وأبصرها فإذا داوى بصره وعاد إلى نظرها رآها على حال كمالها من الحُسن والضياء يسلّم أن حجابه كان من عند نفسه هذا في مخلوق مع مخلوق فكيف مع من لَيْسَ كَمِثْلِهِ فالحُجُبُ كلها التي لنا منا بمقتضى القدرة والحكمة الربانية
من عند
الوجه الثالث عشر فيه تعلّق لأهل الصوفة الذين يقولون بأن الحجبَ كلّها أنفسهم فمَن صح له منهم الخروج الكلّي عنها فقد وَصلَ وعَرف وخاطب وخُوطب وأبصَرَ وبُصْرَ لكن مع التزام حدود الإكبار والإعظام وتقرير القواعد الشرعية والتنزيه اللائق بالجلال الوجه الرابع عشر قوله هذا مكاننا أي لا نبرح منه وقوله حتى يأتينا ربنا أي كما وعدنا في دار الدنيا
ويؤخذ هنا من الفقه أنه على قدر حال علمك في هذه الدار يكون حالك في تلك الدار ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قيل له عن فتاني القبر قال أيكون معي عقلي قيل نعم قال لا أبالي وذلك لعلمه أن علمه يكون على أكمل حالات الإيمان فلذلك قال إذا بقي معي ما عقلته من الإيمان فأنا ناج لا شك فيه وإنما خاف من تبديل الحال ولذلك قال أهل العلم بالمعرفة والشريعة إن التجلي هناك في دار الكرامة يكون تفاوت الناس فيه على قدر معرفتهم في هذه الدار بالإجلال والإعظام
وقوله فإذا جاء ربنا عرفناه معناه فإذا تجلى لنا وعرَّفنا نفسَه عرفناه لأن المؤمنين هنا يعرفون أن قدرته جلّ جلاله عظيمة تفعل ما شاءت كيف شاءت
وهنا بحث هل كل الناس يقولون ذلك على لسان واحد أو أهل الخصوص والمعرفة هم الذين يجاوبون ويُخاطبون والغير في حكم التَّبع كما هو الأمر في هذه الدار لأن العرب إذا تكلّم البعض من الجمع قالوا قال القوم الأمر محتمل للوجهين معاً والقدرة صالحة أن تعطي هناك للعامي من حسن الجواب والأدب كما تعطيه للذي قد مُنَّ عليه بالمعرفة هنا
وفيه بشارة عظيمة وهي الإخبار بإبقاء الإيمان وهذا القدر من الاتصال حتى يقع الخطاب بين هذا العبد الذي هو على ما هو عليه من الحقارة مع هذا المولى الجليل مع ما هو عليه من الاستغناء والجلال ولذلك رُوي عن بعض المتعبدات أنها كانت تفرح بالموت وتقول أوليس يخاطبني ويقول لي يا أمَةَ السّوءِ فعلت كذا وكذا فذلك غاية مطلبي
وقوله فيأتيهم الله أي يتجلى لهم وقوله فيقول أنا ربُّكم هو على ما تقدم من القول قبله من البيان وقوله فيقولون أنت ربُّنا فحين مَنَّ عزّ وجلّ عليهم بالمعرفة عرفوه وقوله فيدعوهم هنا أي يدعوهم إلى الاتباع لما جاء في حديث غير هذا وقوله فيتبعونه أي يتبعون
٣٦٨

بننذ
مند
ما
حيث يُؤمرون وقد جاء أن هذا الموطن - أعني موطن الاتباع - يكون التفرقة بين المؤمنين والمنافقين حتى يقال لهم ارجعوا وراءكم فيلتفتون فيضرب بينهم بسُورٍ كما أخبر جلّ جلاله في كتابه فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ١ وقد جاء أيضاً مثله في حديث غير هذا
1,
الوجه الخامس عشر فيه من الفقه أنه عند الاختبار يتبين حقيقة الحقائق ويترتب عليه من الفائدة بعد الإيمان القطعي به أن يختبر المرء هنا حال إيمانه حتى يعلم من أي الفِرَق هو ولذلك قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
وَلْتَعلَمْ أن حُكم الله عَدْل وما أمرنا به حق وأن الحكم لا يتبدل فلا تمهل نفسك وتطمع
في الخلاص بضد موجبه فهو عين الحمق
وهنا سؤال وهو أن يقال ما الحكمة في تجلّي مولانا لنا أولاً ولم يُعطنا المعرفة وفي
الثانية يتجلى لنا ويمنّ علينا بالمعرفة ولم لا يتجلى لنا عندما اتبعت كل أمة ما عبدت فإن قلنا هذا مما استأثر الحق عزّ وجلّ به ولا سبيل لنا لمعرفة الحكمة في ذلك فلا بحث وإن قلنا إن الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وما أخبرنا إلا أن نتفكر ونعتبر ونتصبر وهو الأظهر والله أعلم فما الحكمة في أنه - عزّ وجلّ ـ تجلّى لنا مرتين ومنعنا في الأولى المَيْز ومَنَّ به علينا في الثانية فنقول والله أعلم لأن يكون بدء الخير وهو التجلي والكلام بما كنا عرفناه به في الدنيا أنه ليس كمثله شيء وأن كل ما فينا من حواس وما فينا من إدراك خَلقٌ له عزّ وجلّ فعرفنا أولاً بالصفة التي ابتدأنا بها في الخلق أولاً وآخراً وهي صفة القدرة المتصرفة فينا مع إبقاء صفات دعوانا فيما جبلنا عليه أولاً بأول بمقتضى الحكمة
وأما كونه - عزّ وجلّ ـ أخر التجلّي حتى لم يبق إلا هذه الأمة فيها منافقوها على البحث المتقدم وهم جميع الرسل وأممهم جنّاً وإنساً فذلك - والله أعلم - ليُظهِر لهم قدر النعمة عليهم إذ يعاينون ذلك الجمع الكثير كلهم يَرِدون النار ثم يمنّ عليهم بعد ذلك بالتجلي والخطاب فيقدرون إذ ذاك على قدر المنة بمقتضى الحكمة كما جعل - عزّ وجلّ - بين الجنة والنار طيقانا ۳ يُبصِرُ أهل الجنة منها أهل النار وما هم فيه فيكبرُ عندهم قدرُ النعمة التي هم فيها لأن النعمة لا
تُعرف إلا بمعرفة ضدّها
۱ سورة الحديد من الآية ۱۳ أخرجه ابن المبارك وسعيد بن منصور والإمام أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر
من كلام عمر رضي الله عنه ۳ الطيقان مفردها طاق وهو ما عُطِف وجُعِل كالقوس من الأبنية
٣٦٩

جعلنا الله من أهل نعمه في الدارين بمنه
وقوله يضرب الصراط بين ظهراني جهنم يُضرَب الصراط أي يُنصَب كما تقول ضربت الحبل أي نصبته وقد جاءت صفة الصراط أنه أدق من الشعرة وأحَدُّ من السيف وأنه سبع عقبات وأن طول كل عقبة مقدار ثلاثة آلاف سَنَة على أحد الأقاويل
وقوله بين ظهراني جهنم أي على وسط جهنم لأن الحروف عند العرب يُبدل بعضها من بعض وهو من فصيح الكلام كقوله عليه السلام في حديث الإسراء أتينا على السماء السادسة معناه إلى السماء السادسة وتقول العرب فلان بين ظهراني القوم أي في وسط القوم فيكون المعنى فيُنصَبُ على وسط جهنم وقد جاء أن النار تدور بالناس في المحشر كما يدور الخاتم بالإصبع وأن الشمس من فوقهم وليس لهم طريق إلى الجنة إلا على الصراط إذا
نُصِب وصفته كما تقدم ويترتب على ذلك من الفقه الإيمان بالصِّراطِ أنّه حق وأنه الآن مخلوق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يُضرَب فلو لم يكن مخلوقاً لأخبر أنه يُخلق فلما أخبر عليه السلام في غير هذا الحديث به وبصفته وتحقق وجوده أخبرنا هنا بأمر قد عُلِم ولو لم يكن كذلك لأَخبَرَ به حتى يُعرَف هذا الاسم على ماذا يقع والصراط في اللغة هو الطريق قال تعالى ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا ﴾ ۱ أي طريقي
الوجه السادس عشر يؤخذ منه الدليل على عظيم قدرة القادر جلّ جلاله يؤخذ ذلك من كيفية وصف هذا الصراط وعِظَمِ النار التي هي بِقَدْر طُوله وهذا الترتيب العجيب الوجه السابع عشر فيه دليل لمذهب أهل السنّة الذين يقولون بأن النار مخلوقة موجودة
الآن لأن الصراط لا يُضرب على شيء إلا أن يكون مخلوقاً موجوداً حِسّاً
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أنه لا يخرج إلى المحشر من جميع النيران إلا جهنم وحدها لأن النار - كما أخبر عزّ وجلّ - في الكتاب وكما أخبر عليه السلام في الحديث سبعة فالأولى منها جهنم وهي التي يدخلها المذنبون من أمة محمّد عليه السلام وغيرهم من المؤمنين
المذنبين فمنهم من يقع فيها من على الصراط ومنهم من يدخل من بابها أعاذنا الله منها بفضله
وهنا بحث وهو لم خُصت هذه من جميع دَرَكات النار بالخروج إلى المحشر دون غيرها فالجواب أنه لما أحكمت الحكمة الربانية أن الصراط لا يجوز عليه إلا أهل الإيمان وأن الكفار لا
0 204
۳۷۰
1 سورة الأنعام من الآية ١٥٣

يعبرون عليه فإنه إنما جُعل طريقاً إلى الجنة والكفار ليسوا من أهلها فلا يعبرون عليه وإنما يدخلون ما أعد لهم من الدّرَكات على أبوابها ومن أهل الإيمان من لا يكون دخوله النار إلا أن يقع من على الصراط فلم يُنصَب الصراط إلا على النار التي هي مختصة بأهل الإيمان لئلا يقع أحد من المؤمنين في نار ليست له حُكْمٌ عَدْلٌ بمقتضى حكمة الحكيم الذي ليس كمثله شيء الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن أمور الآخرة ليست على وضع أمور الدنيا في غالب أمرها يؤخذ ذلك من أن الصراط بهذه الصفة - يتحمل جواز جميع المؤمنين في مقدار بعض يوم من أيام الدنيا لأنه جاء أن الحق - سبحانه - يفرغ من الفصل بين العباد في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ١ والجواز على الصّراط في جزء من ذلك النصف والعادة في هذه الدار أن ذلك القدر من
9
٩٦ وص
۱ قول المؤلف الشيخ ابن أبي جمرة أن الحق - سبحانه يفرغ من الفصل بين العباد في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا موافق لما جاء به بعض المفسرين منهم الجلال السيوطي والجلال المحلي فقد جاء في تفسيرهما في شرح قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ - سورة إبراهيم من الآية ٥١ يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك وعلق القاضي الشيخ محمد أحمد كنعان في كتابه قرة العينين على تفسير الجلالين بما يلي لقد سها الجلال السيوطي بوصفه النهار بأنه من أيام الدنيا وكرّر ذلك في ثلاثة مواضع أخرى ص ٤٠ وص ۱۷ ومثله فعل الجلال المَحَلي ٦١٩ والصواب أن الله تعالى يحاسب الخلق كلهم في مقدار نصف نهار أما مقدار هذا النهار فقد جاء مبيناً في قوله تعالى ﴿ تَمْرُحُ الْمَلَيْكَةُ وَالرُّوحُ اليوفي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُرُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وهو يوم القيامة فيتم الحساب في نصف هذا اليوم لما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقوم الناس لربّ العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة يُهوّن ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب ويؤيده ما رواه الشيخان في عقاب مانعي الزكاة في المحشر وفيه قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة
رضي
وإما إلى النار
ص
وروى ابن المبارك في الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه قال لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقبل هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أي المؤمنون في الجنة والكفار في النار
فيوم القيامة طويل جدا على الفاسقين وهو أطول على الكافرين وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَفِرِينَ عَسِيرًا ولكنه يهون على المؤمنين كل بحسب عمله فمنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم سبعون ألفاً من أمة محمد كما في حديث رواه الشيخان ويكون قصيراً على الفقراء من المسلمين فيدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمئة عام كما في حديث رواه الترمذي وصححه الحاكم وفي رواية لمسلم قبل أربعين عاماً بينما الأغنياء محبوسون للحساب على مالهم من أين اكتسبوه وفيم أنفقوه
أما ما رواه أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي الله أنه قال إني لأرجو ألا تعجز عند ربّها أن يؤخرهم نصف يوم قيل لسعد وكم نصف يوم قال خمسمئة عام فهو محمول على قرب قيام الساعة على الصحيح وليس على يوم الحساب لذلك أورده أبو داود في باب قرب الساعة والمعنى يمهلهم من زماني هذا إلى انتهاء خمسمئة سنة بحيث لا يكون أقل من ذلك إلى قيام الساعة ولو زاد
فلا مضايقة فيه
۳۷۱

الرقة والحدة لا يقدر أن يحمل من الثقل شيئاً فكيف بثقل ذلك العالم العظيم ولأن الطريق الواسعة أيضاً في هذه الدار لا يمرّ عليها من الجمع الكثير إلا اليسير فكيف مع تلك الرّقة والدقة وأيضاً فإن الطريق الضيّق هنا إذا كان على مهواة لا يملك أحد أن يستطيع المرور عليه وهناك أهل النجاة يمرون عليه وما عندهم من ذلك خبر كما أخبر الصادق لا فسبحان مَنْ هذه قُدْرتُه الوجه العشرون قوله عليه السلام فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته فيه دليل لما ذكرناه ۱ أولاً لأنه عليه السلام عنى بـ الأمة جميع الموحدين من ادم عليه السلام إلى
·
محمد عليه الصّلاة والسلام
الوجه الحادي والعشرون فيه دليل على فضل سيدنا محمد على جميع الرسل عليهم السلام وفضل أمته على سائر الأمم يؤخذ ذلك من تقدمه عليه السلام بأمته في الجواز
على الصراط
وقوله عليه السلام ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل يعني حين الجواز على الصراط لا في اليوم كله بدليل ما جاء في كلام الناس أنهم يطلبون الشفاعة ويمشون من رسول إلى رسول وما يحتاج الناس بعضهم مع بعض عند الحساب ومن كلامهم في هذا الحديث مع مولانا - جلّ جلاله - حين يقول لهم أنا ربكم
ويوم القيامة يوم واحد والأهوال فيه مواطن فعبَّر عن كل موطن باليوم وهذا سائغ في لسان العرب من تسميتهم البعض بالكلّ والكلّ بالبعض كما تقول جاء زيد يوم الخميس وما جاء من اليوم إلا في ساعة واحدة وبهذا المعنى يجتمع كل ما جاء من الأخبار في يوم القيامة لأنها كلها أخبار والأخبار لا يدخلها نسخ وهي كلها حق
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على شدة الهول في ذلك الموطن بدليل أنه لا يقدر أحد أن يتكلم لأنه لا يمنع من الكلام - لا سيما من الدعاء - إلا الهول العظيم ومما يدل على ذلك كلام الرسل - عليهم السلام - الذي هو دعاء بالسلامة وهم الآمنون
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الدعاء هناك يُرجى قبوله والخير من أَجَلّه ولولا
ذلك لما كانت الرسل - صلوات الله عليهم - يَدْعُون
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على فضيلة هذه الصيغة في الدعاء وهي قولهم عليهم
۱ في الوجه الثامن من شرح هذا الحديث

مة
ن
اة
L
السلام اللهم سَلّمْ سَلَّمْ فلولا ذلك لما كانوا يدعون بها في هذا الموضع العظيم وقيل إن
معناها أسألك بجميع ما سُئلت به
الوجه الخامس والعشرون قوله عليه السلام في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ فيه من الفقه التشبيه في الأخبار إذا عرف ما يُشَبَّه به أنه أبلغ في البيان لأن شوك السعدان كثير في البرية له أطراف شديدة الحدة إذا تعلقت بشيء قلما ۱ تنفصل عنه إلا وقد أخذت منه فإذا كانت هذه هنا على هذه الصفة مع وُسع الأرض ودقتها هنا فكيف هناك مع ذلك العظم وضيق الطريق فانظر ما أبدع هذا التشبيه ! وإن الذي تتعلق به إما ترميه في النار وإما تُخَرْدِلهُ كما أخبر عليه السلام وفيه أنها - وإن كانت بهذه الصفة - لا يكون تعلُّقها بأحد إلا بقدر ذنوبه فهو بمعنى التخردل ويكون تشبيه التخردل بقدر الذنوب التي من أجلها تعلقت فاحذر أيها المسكين هنا تنج هناك ولذلك جاء عنه أن النار تقول للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نور وجهك لَهَبي
فشتان ما بينهما
الوجه السادس والعشرون فيه دليل على عظم القدرة لأن تلك الكلاليب لم يذكر عليه
السلام أنها في أيدي زبانية وإنما ذكر أنها في جهنم دون محرّك يحركها إلا القدرة الوجه السابع والعشرون فيه دليل على أن المعلم يسأل من علمه بما يعرف أنه يعرفه حتى يتيقن بالتحقيق أنه قد علم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هل رأيتم شوك السعدان حتى قالوا نعم وهو عليه السلام يعلم أنهم يعرفونها لكن الحكمة حتى يتيقن من أنهم قد عرفوا تمام المعرفة
الوجه الثامن والعشرون فيه دليل على أن عدم التحديد في الموضع المخوف أبلغ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا يعلم قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ فلو وصف عليه السلام قدْرَ عظمها ما كان أوقع في نفس من تعلق به مثل ما إذا ردَّه إلى علم الله
وقوله تخطف الناس أي تجذبهم إلى جهنم من أجل أعمالهم الخبيثة كما تقدمت الإشارة انفاً وقوله فمنهم أي من الناس وقوله من يوبَق بعمله أي يُهلك بسبب عمله السُّوء كقوله
1
يريد فقلما
مروي بالمعنى أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن يعلى بن منبه رضي الله عنه وأوله تقول النار للمؤمن
۳۷۳

عز وجل أَو يُويقهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعْفُ عَن كَثِير وقوله ومنهم من يخردل أي تأخذ تلك الكلاليب منه بقدر ذنوبه وقوله ثم ينجو فيكون الناس على هذا الخبر الصدق ثلاثة أصناف ناج بلا تشويش وهو ما قدمنا ذكره الذي تقول له النار جُزْ يا مؤمن ومنهم الذي توبقه أعماله
فيهلك وما بين ذلك الذي يخردل ثم ينجو
وهؤلاء ليسوا على صفة واحدة بل منهم الكثير التخردل ومنهم القليل وما بين ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بقدر أعمالهم ومعلوم بالضرورة أن أعمال الناس ليست على حد واحد وكذلك الفرقة الناجية ليست على حد واحد في العذاب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بقدر أعمالهم وقوله عليه السلام ثم ينجو يعطي المفهوم هنا أن المُخردَل لا ينجو إلا بعد بطء لأن
ثُمَّ تعطي المهلة في الزمان فلا يكون زمان نجاته إلا بعد طول أو تعب ويعطي أن ضِدّه - الناجون ـ تكون نجاتهم بسرعة وقد جاء ذلك في قوله عليه السلام إن من المؤمنين من يَجوزُ على الصراط مثل البرق ومنهم مثل الريح ومنهم مثل الجواد السابق ومنهم مثل أشدّ الرجال جرياً ومنهم مَشيا ٢ وهذا أدلّ دليل لما قدمناه آنفاً وهو أن الثلاثة أصناف ليسوا على حد
واحد
وقوله حتى إذا أراد الله رحمةً من أراد من أهل النار أي أنه وصل الوقت الذي سبق في علم الله وإرادته أن يرحم من سبقت له الرحمة في ذلك الوقت من أهل النار لأن الإرادة من الله ليست كإرادتنا تحدث بعد أن لم تكن تعالى الله أن تكون صفاته تُشبه صفاتِ المُحْدَثين
الوجه التاسع والعشرون فيه دليل على أن من كان من أهل الإيمان وإن كان في أي حالة لا يقطع إياسه من رحمة أرحم الراحمين فلعله ممن سبق له من الخير سابقة وقد قال جلّ جلاله ﴿ إِنَّهُ لَا يَأْيْتَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ۳ وقد روي أن عمر بن عبد العزيز رأى في النوم أن القيامة قد قامت وحوسب الخلفاء فأُمِرَ بهم ذات اليمين حتى وصل الأمر إليه فحوسب فأمر به ذات اليمين فهو سائر مع الملائكة فلقي في الطريق مثل الجيفة فقال للملائكة من هذا قالوا اسأله فهو يخبرك فَوَكَزه برجله وقال له من أنت
رضي
الله عنه
96
0
۱ سورة الشورى من الاية ٣٤

جزء من حديث أخرجه الشيخان من حديث الرؤية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
۳ سورة يوسف من الاية ۸۷
٣٧٤

فقال له أنا الحجاج فقال له ما فعل الله بك فقال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة وقتلني بسعيد ابن جُبَيْر ۱ سبعين قتلة وأنا أنتظر ما ينتظر الموحدون
وقوله أمر الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله أي قوماً ممن كانوا يعبدون بدليل قوله في حديث آخر إنه يخرج أولاً من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان وفي الثانية أدنى حبة من الإيمان وفي الثالثة أدنى أدنى حبّة من الإيمان فاحتمل هنا أن يكون أراد أن يخبر بالكل عن البعض وأراد أن يخبر عن جميع المخرجين وإن كانوا في مرار عدة اختصاراً ولكونه عليه السلام قد أخبر به في مكان آخر مفصَّلاً فإن الفصيح يختصر في أخباره ليُحفَظ عنه ويطول ليفهم بحسن البيان عنه وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتي من كلا النوعين أكملهما وأعلاهما وقوله أن يُخرجوا من كان يعبد الله معناه من كان مؤمناً لأن المؤمنين ينطلق عليهم اسم عباد وإن كان منهم المذنب لأنه قد عبد الله أي أنه قد أقرَّ له سبحانه بالألوهية ولم يجعل له شريكاً ولا عبد شيئاً من دونه لأنه لو كانت عبادته على ما يُعرَف من اللغة الاصطلاحية ما دخل النار والعرب تسمّي الكل بالبعض والبعض بالكل
وهنا دليل لمذهب أهل السنة الذين يقولون إن النار لا تُحرق بذاتها وإنما الحرق خَلقٌ من خَلْق الله تعالى يُصيبُ به مَن يشاء فلو كانت تُحرق بذاتها لأحرقت الملائكة وغيرهم وأحرقت مواضع السجود كما تحرق سائر الجسد فبان بتبعيض حرقها أن ذلك ليس بمجرد وجود جوهرها بل ذلك بحسب ما يخلق فيها
وقوله ويعرفونهم بأثر السجود وحرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود هنا بحوث منها أن يقال هل أثر السجود لا تأكله النار ممن كان مؤمناً سجد أو لم يسجد فإن قلنا بذلك فقد أخرجنا اللفظ عن موضعه لأنه - عليه السلام - قال يعرفونهم بأثر السجود وأثر الشيء لغةً لا يكون إلا بعد ما مرّ عليه ذلك الشيء لاسيما مع قوله عليه السلام بين المؤمن والكافر تَرْكُ
الله
1 سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي كان أعلم التابعين أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر رضي عنهم وكان ابن عباس يقول إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه أتسألونني وفيكم ابن دهماء يعني سعيدا ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على عبد الملك بن مروان كان سعيد معه إلى أن قتل عبد الرحمن فقبض عليه واليها خالد القسري وأرسله إلى الحجاج فقتله بواسط قال عنه أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيداً وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه ت ٩٥هـ / ٨٩٢م الأعلام ١٤٥/٣ مذهب أهل السنة أن الله عزّ وجلّ خالق الأفعال كلها فالنار لا تحرق إلا إذا وضع الله فيها قوة الإحراق بدليل سلبه قوة الإحراق من النار التي أعدت لحرق سيدنا إبراهيم الخليل قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ورمي بها فلم تصب منه شيئاً وكذلك السكين لا تقطع إذا سحب الله منها قوة القطع وكذلك الخبز لا يشبع إذا سلب الله منه قوة الإشباع ومثله الماء لا يروي إذا سلب الله منه قوة الإرواء وهكذا
3
٣٧٥

الصلاة ۱ لأنه لو صلى صلاة واحدةً فقد حصل في العضو أثر صلاة وإنما بَحْثنا على من لم يصل لا واحدة ولا أكثر وعلى هذا التوجيه يكون الخوف على من ترك الصلاة أشد لأنه يُخاف عليه التبديل
عند الموت وإن مات على الشهادة فيخاف عليه ألا يخرج مع هؤلاء المؤمنين لعدم العلامة عنده وهنا حديث يعارضنا وهو قول جبريل للنبي من مات من أمتك يَشهدُ أن لا إله إلا الله دخل الجنّة قال وإِنْ فَعلَ كذا وكذا قال وإنْ فَعلَ كذا وكذا ۳ والانفصال عنه أن نقول أشدّ الخوف على تارك الصلاة عند الموت فإن مات مُقرّاً بها مُخلِصاً بها لا يُخرج مع هؤلاء أصحاب العلامة وإنما يُخرج مع أصحاب القبضة التي يقبض الله - عزّ وجلّ - كما جاء في الحديث أن الله - عزّ وجل - بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين في العصاة الذين يكونون في جهنم فيُخرجونهم منها ولم يبق إذ ذاك في النار إلا مَن حَبَسه القرآن فيقول الله عزّ وجلّ قد شفعت الرسُلُ وشفَعت الأنبياء وشفَعت الملائكةُ وشفَعت العلماء وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيقبض في النار قبضة فيُخرج في تلك القبضة كلَّ من حَبَسَه القرآن ۳ فيكون هؤلاء في جملتهم وسيأتي الكلام على جملتهم في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله
وهنا بحث في قوله عليه السلام حرَّم هل هذا إخبار عن منع مولانا - جلّ جلاله - الحَرقَ أن يصل إلى تلك الأعضاء بالقدرة أو أن النارَ يُخاطبها الحق سبحانه فالذي أذن لها أن تحرقه تحرقه وما حرمه عليها لا تعتدي عليه وهل هذا الخطاب لها - وهي من جملة الجواهر التي لا فهم لها ولا عقل - فتفهم عن الله كيف شاء أو أنها عند الخطاب يوضع فيها إدراك بما تفهم عن الله وأنها تخاطب بالمقابلة والقدرة هي المتصرّفة أو أنها تفهم وتعقل وأن الحَرقَ منها لكن بقدرة الله تعالى فتكون مثل بني آدم أفعالهم كَسْبٌ لهم وهي في الحقيقة خَلْقٌ لربهم وهم
عليها مثابون ومعاقبون
احتمل كل الوجوه لكن الأظهر أن الحرق منها بدليل ما جاء أن النار اشتكت إلى ربّها
E
فقالت أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنَفَسَينِ في كل عام نَفَسٍ في الشّتاء ونَفَسٍ في الصيف وما جاء أنها تخاطب سيدنا محمداً ل وفي المحشر والأحاديث في كلامها كثيرة وما جاء أنها تلقط الناس في المحشر وتعرف أهلها بما جَعلَ الله من العلامة فيهم
1 أصل الحديث بين الرجل والشرك ترك الصلاة أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما
مروي بالمعنى أخرجه البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
۳ حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود في النار
٤ جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب صفة النار عن أبي هريرة رضي الله
٣٧٦

بديل
الله
شد

الوجه الثلاثون فيه دليل على فضل العبادة إذ مع استيجاب العقاب لا تُعذَّب تلك المواضع وهنا إشارة صوفية لما علم أهل الصوفة بأن مواضع العبادات لها حُرمة - بمقتضى هذا الحديث - بقوله لا يجتمع في جوف امرىء غبار في سبيل الله ودخان جهنّم حتى يعودَ اللبن في الضرع وما جاء في الآثار من مثل هذه المعاني الجليلة جعلوا قلوبهم وجميع أبدانهم كلها صرفاً للعبادة فاستوجبوا بذلك بحُسنِ الوعد الجميل المقامَ الرفيع في الدارَينِ وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٢

الوجه الحادي والثلاثون قوله عليه السلام فَيُخرجون من النار فكلّ ابنِ آدمَ تأكُله النارُ إلا أثر السجود هنا بحث وهو لِمَ كرَّر القول إن ابن ادم تأكله النار إلا أثر السجود وهو عليه السلام قد أخبر أولاً أن مواضع السجود قد حرَّمها الله عزّ وجلّ على النار فيكون تكراراً لغير فائدة وحاشى سيدنا محمداً ل أن يقول شيئاً لغير فائدة
فالجواب أن نقول ما كرَّر عليه السلام ذكرَ النارِ أنها لا تأكل مواضع السجود من ابن ادم بعد ذكر خروجهم إلا لزيادة فائدة ثانية وهي أن النار ليست مثلنا حُرّمت الأشياء علينا فمِنّا المُجتَنِبُ لما حرم عليه ومنا الواقع فيه وأن النارَ طائعةٌ جميعها لا تتعدى على ما حُرّم عليها حتى يُخرجوا منها وهي لم تتعدَّ فيهم ما أُمِرَت به
وفيه معنى زائد على ذلك وهو أن النار أكبر جرماً منا وأشدُّ وهي لا تَعصِي ونحن على حقارتنا وضعفنا نَعصي وفيه معنى شديدٌ من التوبيخ للمخالفين لأمر الله - عزّ وجلّ ـ كما قال جلّ
جلاله في كتابه عَلَيْهَا مَلَيْكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ۳ قوله تعالى لَا يَعْصُونَ مع ما فيه من الإرهاب معنى مثل هذا من التوبيخ لأنهم مع غلظتهم وشدتهم لا يعصون الله وأنتم مع ضعفكم وقذارتكم تعصون مليككم فيجتمع فيه الترهيب
والتوبيخ
وقوله فيخرجون من النار قد امتحَشوا أي ذهب ما لهم من اللحم ويا ليتهم عُدِموا لأنهم لو عُدِموا لكانوا استراحوا وقوله فيُصَبّ عليهم ماءُ الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَمِيل السيل الحِبَّة هي كل بذر ما عدا المطعوم فإن كل ما هو مطعوم قيل له حَبّة بفتح الحاء وكل ما ليس بمطعوم مثل العشب في البرية وما أشبهه قيل له حِبّة بكسر الحاء لغة
1 أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله
سورة المطففين من الآية ٢٦
۳ سورة التحريم من الآية ٦
۳۷۷

وفي هذا من الفائدة الإخبارُ بالحكمة وهي أن ما ينبت من اللحم بماء الحياة لا يفنى وفيه الإخبار بسرعة ما يحيا من الأشياء عند وضع ماء الحياة عليه بقدرة الله تعالى كما أخبر عن السامري حين أبصَرَ جبريل عليه السلام حين أتى إلى موسى عليه السلام على فرس الحياة فراها لا تضع حافرها على شيءٍ إلا اخضَرَّ في الوقت فأخذ من أثرها فجاء من قصته ما أخبر الله عزّ وجلّ في كتابه لما وضعها في الحُلِيّ وقال له كنْ عِجلا عاد في الحين عجلاً له خوار كما أخبر هنا في هذه الدار التي خُلِقت للفناء فكيف في تلك الدار التي هي مثل ذلك الماء للحياة والبقاء وهذا من أقوى الأدلة على قدرة الله سبحانه وتعالى
الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل على عِظَم ما أودَع الله - عز وجل - في هذا السيد من المعرفة بأمور الدنيا والآخرة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام شبَّه سرعة نباتهم بنباتِ الحِبَّة في حَمِيل السَّيل إذ مع السَّيل تكون أسرع في النبات في الأرض من غيرها لأنه يجتمع فيه التراب الرّخْوُ الذي يجذبه السيل وكثرة نَداوته فلولا معرفته عليه السلام بأمور الدارين لما كان من كلامه
هذا التشبيه العجيب الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على استصحاب الحكمة والقدرة معاً في تلك الدار كما هما في هذه الدار يؤخذ ذلك من أنه لم ينبت لهم لحم إلا حتى ٢ صُبَّ عليهم ماء الحياة والقدرة صالحة على أن تنبت لهم اللحم دون سبب فهذا أثر الحكمة وكونهم في النار تأكل لحومهم وتَمْحَشُهم ولا تأكل أثر السجود أثر للقدرة فسبحان من أقام ما في الدارين بقدرته وصرَّف ما فيهما من الأشياء بحكمته
وقوله ثم يفرغ الله سبحانه من القضاء بين العباد يعني بين هؤلاء المذكورين وغيرهم إلا هذا الشخص المذكور بعد فيكون الحكم فيه كما أخبر وأتى بـ ثم التي تقتضي المهلة لأن هؤلاء الذين يُخرجون من النار - كما أخبر عليه السلام انفاً ـ لم يُخرجوا من النار حتى مكثوا فيها ما شاء الله بعد يوم الحساب الذي حكم فيه بين العباد وهذا أيضاً من تمام الحكم للوعد الجميل في هذه الدار من مات على الإسلام فلا بُدَّ له من دخول الجنة لأن حساب يوم القيامة سريع وهذا فيه بطاء من أجل توفية المقدور على هؤلاء فلما كان أوله مرتبطاً بآخره اقتضى طولاً فأتى عليه السلام بـ ثم التي تدل على ذلك
۱ السامري رجل من بني إسرائيل قصَّ الله عزّ وجلّ علينا قصته في سورة طه من الآية ۸۳ إلى الآية ۹۸ واسم السامري موسى بن ظفر صنع من حلي بني إسرائيل العجل الذي عبدوه في غياب موسى عليه السلام وابتلاء الله بترك مخالطة الناس وكان إذا مسه أحد أصيب بالحمّى كذا بإقحام إلا

۳۷۸

الوجه الرابع والثلاثون قوله عليه السلام ويبقى رجل بين الجنة والنار المعنى أنه ليس هو أحدهما وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون وهو الحق إن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان جواهر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بين الجنة والنار
في
الوجه الخامس والثلاثون قوله عليه السلام وهو اخِرُ أهل النار دخولاً الجنة فلا تكون المسافة إلا في المحسوسات ولا الدخول إلا في محسوس أيضاً وفيه دليل على أن بين الدارين في الآخرة مسافة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في حديث غيره إن لها أربع جدارات غلظ كلّ جدارٍ أربعون سَنَة ۱
الوجه السادس والثلاثون قوله عليه السلام يقول يا ربِّ اصرف وجهي عن النار فقد قشَبَني ريحُها أي تأذيتُ بريحها والقَشَب النَّتَن يقال ما أقشَبَ بيتهم ! أي ما أنتَنَه وأَقذَرَه وفيه دليل على أن دار الذنوب والمعاصي تُنتن وأن الشخص يتألم به التألم الشديد وفي الحديث أن رجلاً يُرمى في النار وله ريح منتنة فيتألم لها أهل النار فيقولون يا فلان ما شأنك أليس كنتَ تأمرُنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنتُ أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر واتيه ٣ وقيل فيه وجوه غير هذا وهذا أنسبها من أجل أن الجنة ريحها طيب وهو من أكبر نعيمها فكذلك النار ريحُها نتن وهو من أكبر عذابها

وهنا بحث كيف يُتَنَجَّس بالرائحة وقد اختلف العلماء في الرائحة النَّجِسة على المَحلّ هل تسلب الطهارة إذا كانت لا حالة قولان
الوجه السابع والثلاثون قوله عليه السلام وأحرقني ذكاؤُها فيه دليل على عِظَم حَرّ النار وعظم نتنها إذ إنها بعد أربع جدارات يقشِبُه ريحُها ويحرقه ذكاؤها فكيف حال من هو فيها وهنا بحث وهو أنه يُعارضنا حديث هَنَّاد الذي قال له الله فيه هو اخر أهل النار خروجاً منها واخِرُ أهل الجنة دخولاً ۳ وقد قال عليه السلام عن هذا المذكور مثل ما قال عن ذلك المدة فنقول والله الموفق إن الجمع بين الحديثين أن هذا اخر أهل النار الخارجين عنها لأن
الصلاة ولاية واشعة ت
1 رواه الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ السُرادِقِ النار أربعة جُدر كِثَفُ كل جدار مسيرة أربعين سنة
أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ۳ رواه البخاري في كتاب التوحيد والرقاق ومسلم عن عبد الله بن مسعود بدون تسمية وجاءت تسميته بـ جهينة في كتاب أفراد مالك للدارقطني و غرائب مالك للخطيب البغدادي وقال الدارقطني إنه حديث باطل ونقل الحافظ في الفتح عن السهيلي أنه جاءت تسميته بـ هناد ولم نجد لهذه التسمية رواية فيما توفر بين
أيدينا من مراجع
۳۷۹

التقسيم يُعطي أنهم على ضربَينِ داخل فيها وخارج عنها - كما أخبر عليه السلام ـ لأنه أخبر عن هذا أنه من أهل النار لأنه أقرب إليها من الجنة والعرب تسمي الشيء بما يقرب منه ولولا قربه منها لما أحرقه ذكاؤها وهناد داخل فيها فهناد اخر من يخرج منها واخر من يدخل الجنة من الخارجين منها والذي هو مذكور في هذا الحديث هو اخر من يدخل الجنة من أهل
النار الذين هم خارجون عنها الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على قوّة الرجاء في إجابة الدعاء وإن لم يكن الداعي أهلاً للإجابة يؤخذ ذلك من أن هذا السائل قد صح أنه من أهل النار ومن هو من أهل النار فهو من المبعدين مقطوع به ثم يتفضل - عزّ وجلّ - عليه ويُنيله رحمته فكيف مَن هو في حال الاحتمال لأن الناس كلهم في هذه الدار محتملون للسعادة وغيرها فهو أقوى رجاءً في رحمة
أرحم الراحمين

الوجه التاسع والثلاثون فيه دليل اخر في قوة الرجاء في قضاء حاجة من لا يعرف من الأدعية شيئاً إذا ذكرها لمولاه يؤخذ ذلك من أن هذا لم يَدعُ بشيء من الأدعية وإنما طلب حاجته وشكا
ضُرَّه بأن قال اصرِف وجهي عن النار وذكر ما هو فيه فأجيب في مسألته وكُشِف ضُرُّه
وقد دخلت مرة على بعض أهل الخير - رحمه الله - وهو ينادي يقول ارحمني والسلام وهو مستغرق في حاله فقلت ما هذا السؤال فقال لي دعني فإني تفكرت في الدنيا وما فيها من البلاء والهموم وفي الآخرة وما فيها من المحن والأهوال فلم أدر بماذا أدعو ولا كم ذا أعدد فقلت ارحمني والسّلام فوجدتُ حلاوة لكلامه في الوقت وإلى هلمّ جرّاً كلما ذكرته وجدتُ تلك الحلاوة فعلمتُ أن الله - سبحانه وتعالى - استجاب له بفضله لما رزقه في الوقت من الصدق مع مولاه من الله علينا بذلك بمنّه
ويُقوّي هذا الرجاء الذي أشرنا إليه قوله جلّ جلاله ﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۱ وقوله فيقول فهل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك معناه فهل تطلب زيادة إن فُعِل ذلك بك كما قال جلّ جلاله فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ قيل معناه تريدون وبدل تريدون هنا قوله أن تسأل غير ذلك ومعناه فيقول الحق سبحانه وما سكت عن ذكره هنا إلا لأن خطاب العبد كان له أولاً فهو
۱ سورة الزمر من الآية ٥٣ سورة محمد من الآية
۳۸۰

أخبر
منه
يدخل
أهل
أهلا
و من
حال
دعية
شكا
هو
من
د
تُ
ق
ن
سبحانه المجاوبُ له ولو كان غيرُه هو الذي جاوبه لذكره لأن عادة التخاطب ألا يجاوب إلا
الذي خوطب فإن كان خلاف ذلك ذكره لخروجه من العادة المعلومة
الوجه الأربعون قوله فيقول لا وعِزَّتِك هنا إشارة صوفية وهي أن فرحه أوجب مبادرته باليمين فعلى مذهب الصوفية يكون فرحه بالمخاطبة أكبر من قضاء الحاجة لأنهم يقولون مَن لم يَرَ النعمة إلا في قضاء الحاجة فذلك محجوب وإنما النعمة في التفات الموالي وجوابهم وأهل الحجاب يقولون هنا فرحه بحاجته أوجَبَ له مبادَرَتَه باليمين
الوجه الواحد والأربعون قوله فيعطي الله - عزّ وجلّ ـ ما شاء من عهد وميثاق هنا دليل على أن العهد آكد في المواثيق من الأيمان لأن المولى - سبحانه - لم يقنعه منه ما أقسم به حتى أخذ عليه العهد والميثاق والعلة في ذلك قد ذكرها العلماء وهي أن الأيمان جُعِل فيها المخرج الكفّارة بعد الحنث أو قبله والعهد لم يُجعَل له مَخرَج بل زيد فيه تأكيد لقوله عزّ وجلّ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسئولا 1
وهي
وقوله فإذا أقبل بوجهه على الجنة على هنا بمعنى إلى فإذا أقبل أي قرب بوجهه إلى الجنة وقوله رأى بهجتها أي حُسنَها كما أن ذكاء النّار وقشَبَها ينال من خارجها فكذلك الجنّة يُرى حُسنُها ويُنال خيرُها من خارجها لأن كلَّ إناء بالذي فيه يرشَحُ
الوجه الثاني والأربعون قوله سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال يا رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنت سألت هنا دليل على طمع ابن ادم يؤخذ ذلك من كونه لمّا عوفي من ذلك البلاء ورأى الخير لم يقدر أن يصبر عنه لما طبع عليه فنسي العهود بغلبة الطمع وسأل القرب إلى الخير وهو باب
الجنة ولعل وعسى
الوجه الثالث والأربعون فيه دليل على أن الضعيف لا يسأل إلا على قدر ضعفه يؤخذ ذلك من سؤاله أولاً بأن يُعافى من قربه من النار ولم يتجاسر أن يطلب ما طلب ثانية فلو نظر لمن يطلب منه لَطَلَب أولاً الذي طلب آخراً الوجه الرابع والأربعون فيه دليل على قناعة النفس عند اليأس باليسير يؤخذ ذلك من أنه لم يطمع في الجنة لعمله المقارب وطمع بأن يعافى من النار ليس إلا
وهنا إشارة صوفية لأنهم يقولون إقطعِ النفس عن المباح ما كان ضرورياً كان أو غير
۱ سورة الإسراء من الآية ٣٤
۳۸۱

ضروري يقع الصلح معها على اليسير من القدر الضروري وتقنع به وتفرح مثال ذلك أن تمنعها الأكل مرة واحدة يقع الصلح معها بكسيرات تقيم بها ظهرها كما قال حسبُ ابن آدم لقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه ۱ فإن بقيَتْ على طمعها فلا تُقنعها الدنيا بأسرها كما قال لو أن لا بن ادم
واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثاً ٢ وقد قال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير الوجه الخامس والأربعون فيه دليل على لُطف الله عزّ وجلّ ببني ادم ومَعذِرَته لهم لما يعلم من ضعفهم يؤخذ ذلك من كونه - جلّ جلاله - قبل منه أولاً العهود والمواثيق وهو - عز وجل - يَعلَمُ أنه لا يصبر عما يرى من الخير ولا بد له أن ينكث ومثل ذلك قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ۳ لأن هذا معنى لطيف لما أتى بقوله وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ إثر الإخبار بقبول التّوبة
وقد جاء في الكتاب في غير ما موضع أنه - عزّ وجل - عالم بما نفعل وهذا من شرط
الإيمان بأنه عزّ وجلّ عالم بما نحن فاعلون لأن من التائبين من يُوفي ومنهم من يَنكُث وهو -
سبحانه - عالم بمن يُوفي وبمن ينكث لكن قبلها من الكلِّ على حد واحد ويُثيبهم عليها
ويمدحهم على ذلك
وكفى في ذلك ما جاء عن بعض بني إسرائيل أنه كان يُوقِعُ الذَّنب ثم يتوب ثم يوقع الذنب ثم يتوبُ حتى قالت الملائكة ربَّنا ألا ترى هذا العبد كيف يهزأ يُوقِعُ الذنب ثم يتوب فقال جلّ جلاله ملائكتي ألا ترَوْن عبدي يعلم أن له ربّاً يأخذ بالذنب ويقبل التوبة وعِزّتي لا أزال أقبل توبته ما تاب إليَّ ٤ ولولا فضله - عزّ وجلّ ـ لكان يفضح الناكث ويقول له لا أقبل توبتك فإنك تَنكُث وقد قال المؤمنُ التواب يبقى له فضلةٌ من عمله يدخل بها الجنة
وقوله فيقول يا ربّ لا أكون أشقَى خَلقِك هنا بحث وهو كيف يكون أشقى خلقه

۱ جزء من حديث مروي بالمعنى أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله عنه والشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما والبخاري عن ابن الزبير رضي الله عنهما وابن ماجه عن أبي هريرة وأخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه والإمام أحمد عن أبي واقد رضي الله عنه

۳ سورة الشورى الآية ٢٥ ٤ أورده البخاري في كتاب التوحيد ومسلم في باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه عن أبي هريرة رضي واللفظ فيهما مخالف لما أورده الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه
الله عنه
۳۸

وهو - عزّ وجلّ - قد عافاه من النار والقرب منها وقد قال له الله لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيما ولم يجىء أن أحدا رأى الجنة ثم حُرمها لأن الكفار من محشرهم يمرون إلى النار فعلى هذا التأويل يكون أشقى الخلق كونه رأى الجنة ولم يدخلها
واحتمل وجهاً آخر وهو أنه مَن مَنَّ الله عليه بأن عافاه من النار أدخله الجنة لقوله والذي نفسي بيده ليس بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنة أو النار فإذا كان هذا بقرب الباب فيكون أشقى خلقه المرحومين فيكون اللفظ عاما ومعناه الخصوص وهذا في كلام العرب كثير لأن من عوفي من النار ومجاورتها فقد رُحم ودخل في جملة الفائزين كما قال لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيماً
الوجه السادس والأربعون فيه دليل على كثرة تحيل بني ادم فيما يُصلحهم يؤخذ ذلك من أنه طلب أولاً أن يُبعد من النار لعله يُحصل نسبةً لطيفة في أهل الخير وهذا من تدقيق الحيل على العليم الخبير فكيف مع غيره ولذلك قال آخر المسألة فيضحك الله منه
الوجه السابع والأربعون فيه دليل على أن ما هنا للشخص من العقل والفكرة والتحيل باقٍ هناك فإنه يُبعث على ما كان عليه يؤخذ ذلك من هذه الحيلة اللطيفة وما جاء من تحاج الروح والنفس وغير ذلك من الأحاديث مما يشبه ذلك
الوجه الثامن والأربعون قوله فيقول ما عَسَيتَ الكلام عليه كالذي قبله وقوله إن أعطيت ذلك ألا تسأل غيره حتى يقدم إلى باب الجنة الكلام عليه كالكلام قبل وقوله فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها أي حُسنَها وقوله وما فيها من النضرة والسرور أي حسن المنظر وما تُسَرّ النفس به إذا رأته من أنواع النعيم ومن حُسن السُّرور كما أخبر - عزّ وجلّ ـ به في الكتاب العزيز في قوله عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ١ أو تكون الزهرة كناية عما فيها من الزهر والفواكه والنَّضْرة كناية عن حسن نظامها ويجمع كل هذا وأكثر منه قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى لَهُم مِّن قُرَّة

وقوله فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول يا رب أدخلني الجنة جاء البحث المتقدم في التحيل وما طبع عليه من كثرة الطلب والتحصيل فيما ليس مثل ذلك فكيف بما لا تطيق الألسن أن تَصِفَه فكذلك النفوس لا تطيق الصَّبرَ عنه وهنا بقيت الصفة التي طبع عليها وهي أنه لا ينظر إلا
1 سورة الواقعة من الآية ١٥ سورة السجدة من الآية ١٧
۳۸۳

إلى تحصيل الأقرب فالأقرب لَمَّا طلب أولاً أن يُبعد من النار فأسعِفَ في ذلك ثم قرب إلى بار
الجنة فلم يبقَ بعد القرب إلا الدخول فطلبه فهو على حالته الدنيوية لم يتغير
وقوله فيقول الله وَيْحَكَ يا ابن ادم ما أغدرك ! هذا زجر أشدّ من الأول لتكرار النكث ثلاث مرات وبقي هو على كلامه الأول لم يزد عليه وهو قوله لا تجعلني أشقى خلقك
وفيه من الفقه أنه إذا فتح على شخص من وجه ما يلتزمه لأنه لمّا قُبِلَ هذا منه في الأولى وما بعدها وأسعف من أجله في طلبه استصحبَ ذلك الحال وقد قال مَن رُزِقَ من باب فَلْيَلْزَمْهُ ۱ فامتثل هذا الأمر هنا ولو التزم الأمر في الدنيا ما احتاج إلى هذا وكونه - عزّ وجلّ - زاد هنا قوله ما أغدَرَك يؤخذ من ذلك ألا يُنسب الشيء للشخص ويُعرف به حتى يتكرر منه وأقل عدد التكرار الذي ينسب به إليه ثلاث لأن الواحدة والاثنتين قد تكونان غلطاً أو نسياناً أو إحداهما غلطاً والأخرى نسياناً ولا تكون الثالثة إلا تعمّداً فيتحقق أن ما وقع قبلها كان مقصوداً من خير أو غيره يؤخذ ذلك من أن مولانا - جلّ جلاله - لم يقل له ما أعْدَرَك إلا في الثالثة
الوجه التاسع والأربعون هنا بحث وهو لم سمّى هنا ابن آدم فيه إشارة لطيفة لأن عدم الوفاء هو الأصل والغالب فينا إلا من عصم الله والتزكية هي من طريق الفضل ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا والنفس أمارة بالسُّوء إلا ما رحم ربي لكنه توبيخ بحسن لطف لأن توبيخ الكريم دال على كثرة إعطائه وتوبيخ اللئيم دال على عظم منعه ولذلك جاء أن مولانا - سبحانه - يحاسب المؤمنَ يوم القيامة سِرًّا ليس بينه وبينه ترجمان يقول له يا عبدي فعلت كذا فيعترف العبد لمولاه بذلك حتى يظن أنه هالك لكثرة ذنوبه فيقول الله تعالى أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ۳
وفائدة ذلك من الحكمة أنه لو قال سبحانه اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي ما قنع بذلك كما جاء عن بعض بني إسرائيل أنه كان في جزيرة منقطعة في وسط البحر ليس معه فيها أحد مشتغل بعبادة الله لا يَفْتُر وأنبت الله له في تلك الجزيرة شجرة رمان تنبت له في كل يوم رمانة يأكلها وأجرى الله له عيناً من ماء فبقي على تلك الحالة خمسمائة سنة ثم سأل ربه - عز
۱ رواه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه سورة النور من الاية ۱

جزء من حديث مروي بالمعنى أخرجه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي عنهما أوله إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس
٣٨٤

ن
وجل - أن يقبضه ساجدا فأتحفه الله بذلك ثم بعد هذا أخبر عنه - عليه السلام - أن يؤتى يوم القيامة به فيقول الله عزّ وجلّ اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي فيقول يا ربّ بل بعملي فيأمر الله - عز وجل - الملائكة أن يحاسبوه على شكر نعمة حاسة البصر فيحاسبونه فما تفي عبادته الخمسمائة سنة بذلك ويبقى ما عداه لم يوف منه بشيء فيقول يا رب أدخلني الجنة برحمتك فيقول - عزّ وجلّ - له نِعْمَ العبد كنتَ اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي

فإذا قرره على ذنوبه اجتمع له الفرح بمغفرة الذنوب وبستره الذي لم يُفضح وبما وَهَبَ له من النعيم فكثرت النعمة عنده فرضي عن المنعِم وذلك من جملة الإنعام من المنعِم أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٢ وهنا كذلك لما أراد الله - عزّ وجلّ ـ بفضله أن ينعمه بدخول دار الكرامة أكثر له في التوبيخ وقرّره على غدره أصلاً وفرعاً ومستصحباً في الدارين

الوجه الخمسون فيه دليل على الطمع في فضله - جل جلاله - لأنه ذكره - سبحانه - أيضاً قدرَ نعمته عليه بالعفو هنا وتغمَّده بفضله وبصفحه عنه عما جرى فكذلك استصحب لك أنتَ ذلك الفضل بمجرد الفضل لِيَصِحَ أن النعمة إنما هي بمجرد الفضل من الرب ليس إلا إما بهداية وإما بعفو وتجاوز أو بمجموعهما لمن شاء كيف شاء لا يُسأل عما يفعل
واستصحاب العبد صنة الرجاء - وإن رأى من المولى ما عسى أن يرى - هي صفة الإيمان لأنه - عزّ وجلّ ـ يقول لَا يَأَيْتَسُ مِن زَوْعِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ۳ فتلك الصفة أيضاً - التي كانت هنا ـ من الرجاء في أصل أبيه أبقيت عليه حتى كَمُلَت له بها السعادة وهو دخول الجنة مَنَّ الله بها علينا بلا محنة بفضله فهو الولي الحميد
الوجه الواحد والخمسون هنا بحث وهو لِمَ قال في الآخرة يقول الله ولم يقل ذلك في المرتين المتقدّمتين فالجواب أنه لما كثر الترداد بطرق الاحتمال أتى بذكر الله تعالى لزوال احتمال يقع وتحقيقاً لما قلناه وتأكيداً
وقوله فيضحك الله معنى الضَّحِك من المولى - سبحانه - ليس كمثل الضَّحِك منا الذي هو
1 جزء من حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي والحاكم وتعقب البيهقي في الشعب والعقيلي في الضعفاء والحافظ في لسان الميزان وقال لم يصح هذا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الله عنه وسماه البيهقي حديث العابد والرمانة وأوله خرج من عندي خليلي جبريل عليه السلام انفاً فقال يا محمد والذي بعثني بالحق إن الله لعبدا من عباده عبد الله خمسمائة سنة إلخ
سورة الملك من الآية ١٤ ۳ سورة يوسف من الآية ۸۷
٣٨٥

الاضطراب والخِفّة وإنّما هو إشارة إلى ما يصدر من الملوك عند الضَّحِك من كثرة الإحسان وما يكون فيه أيضاً من الإشارة إلى التعجب كما تقدم تعالى الله أن تكون صفاته تشبه صفاتِ المحدثات وإنما خوطبنا بما نفهم على عادتنا وقوله ثم يأذن في دخول الجنة أي ينعم بذلك
ويُبيح له الدخول وقوله فيقول تَمَنَّ قد جاء من طريق آخر أنه إذا دخل يرى الناس قد أخذوا منازلهم فيقول - عزّ وجلّ ـ له تَمَنّ فيتمنى حتى تنقطع أمنيته وناهيك من تمني طماع إذ رأى خيراً كثيراً وهو يعلم أن القائل له تمَنَّ غنيّ كريم وقوله حتى إذا انقطعت أمنيته أي لم يبق له شيء يطلبه إلا أعطيه فلا تسأل عن قدره وقوله قال الله سبحانه لك ذلك ومثله معه أي ضعفين مما سأل
وقوله عن أبي سعيد يقول ذلك لك وعشرة أمثاله هذه صفة كرم مَن ليس كمثله شيء وتحقيق لقوله عزّ وجلّ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ۱ فالأصل بفضله والزيادة من فضله لكن لما كان الأصل خالطه وصفٌ ما من العبد إما من عبادة وإمّا من سؤال - وهو محل النقص - وكانت الزيادة لمجرد الفضل لا مقابل لها من محل النقص - وهي العبودية - كانت أضعافاً مضاعفة من
الأصل
ولذلك كان من وصيّة بعض السادة الفقراء لا تيأسوا من مسألة الفضل فإنه أنجح في المقصد حتى إن بعض من كان يُحسِنُ الظَّنَّ بالفقراء سمعها فأخذها بصدق وسأل بها في حاجة له وزاد فيها وزيادة من فضلك كما يليق بفضلك فرأى فيها من العجائب العجب العجاب ثم قيل له هذه الزيادة ما سبقك بها أحد
بفضله
مَنَّ الله علينا بخير الدارَينِ بلا محنة بفضله كما يليقُ بفضله والزيادة بفضله كما يليق
وفائدة هذا الحديث الإيمان الجزم بما فيه من أمور الآخرة وقوة الرجاء في فضل الله وكثرة الخوف من مَكْر الله وبذل الجهد هنا في أسباب السعادة بينما المرء في زمن المهلة ويجعل ما هو مذكور كأنه قد وقع وهذه إشارة صوفية وهي عندهم أعلى الأحوال لأنهم يقولون اطو المسافة واترك الرعونة وقد وصلت وقد نبَّة المولى - سبحانه - على ذلك في كتابه حيث قال أَفَرَيْتَ إِن
۱ سورة النساء من الآية ۱۷۳
٣٨٦

ــاتِ
مك
قول
وهو
ـره
۶
لما
من
جة
متَعْنَهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَمُونَ ۱ وما غرَّ أهل الدنيا إلا بعد الأمر عندهم فبه طال الأمل وقسَتِ القلوب ورغبوا في العاجلة وزهدوا في الآخرة جعلنا الله ممن قصر أمله وحسَّنَ عمَله بمنّه وفضله
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليماً
يق
اجرامل
مل
الله
1 سورة الشعراء الآيات ۰۵ - ۰۷

۳۸۷

حديث جواز الدعاء في الصلاة
عن أبي بكرِ الصِّدِّيقِ۱ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّهُ قالَ لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمْني دُعاء أدعُو بهِ في صَلاتِي قَالَ قُلِ اللّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفسي ظُلماً كثيراً ولا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلا أَنْتَ فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةٌ مِن عِندِكَ وارحمني إِنَّكَ أنت الغَفُورُ الرَّحِيمُ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز الدعاء في الصلاة وفضل هذا الدعاء المذكور والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول طلب التعليم من الفاضل وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه علمني دعاء وهو معلوم أنه يعرف من الأدعية ما لا يعرف غيره من وجهين من أجل فصاحته وقوة إيمانه ومن أجل كثرة ملازمته لرسول الله لكن رغب في زيادة بركة النبي صلى الله عليه وسلم
وهنا بحث وهو لم قال في صلاتي ولم يقل أدعو به على الإطلاق فالجواب أنه إنما قال ذلك لأن الشارع عليه السلام حض على الدعاء في الصلاة بقوله عليه السلام أقرَبُ ما يكون العبد من الله إذا كان في الصلاة وأقرب ما يكون في الصلاة إذا كان ساجداً فأكثروا فيه الدعاء فقمين أن يُستجاب لكم أي حقيق
۱ هو عبد الله بن أبي قحافة أبو بكر الصديق أول خليفة الرسول الله وصاحبه في الغار وفي الهجرة وبنته عائشة زوجة النبي عليه السلام لقب بالصدّيق لما قال لأبي جهل في الإسراء والمعراج لئن قالها لقد صدق وهو أمير الحج في حياة الرسول الكريم سنة تسع وهو الذي استخلف عمر بن الخطاب بعده وكان موقفه في حرب الردة وبعيد وفاة الرسول عليه السلام لا نظير له وقد كاد عمر بن الخطاب يفقد صوابه بوفاة النبي عليه السلام ويقول علي بن أبي طالب لقد استخلفه الرسول وأنا صحيح غير مريض ومقيم غير مسافر ولو شاء لدعاني وقد رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيا نا توفي عن ثلاث وستين سنة كعمر الرسول عليه السلام تماماً وقد
صلى إماماً على السيدة فاطمة بطلب زوجها سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ مختلف
۳۸۸

دعاء أدعُو بَ إِلا أَنْتَ
والكلام عليه
خذ ذلك من ف غيره من سب في زيادة
ب أنه إنّما
أقرَبُ ما فأكثروا فيه
هجرة وبنته
ـقد صدق
ن موقفه في عليه ة النبي ر ولو شاء
تماماً وقد
الوجه الثاني يترتب على هذا من الفقه أن ينظر المرء في عبادته إلى الأرفع ويتسبب فيه بمقتضى الحكمة الشرعية وإن كان الدعاء - كما تقدم في الحديث قبل - جائزاً أن يكون طلباً مجرَّداً يُرجَى فيه النُّجح - كما أبدينا - لكن الأفضل أن يُستعمل من موجباتِ الرحمة من الألفاظ والأزمنة والأماكن وما أشبه ذلك أرفَعُها قد دلّت أصول الشريعة على ذلك كله وكَفَى في ذلك إشارة قوله عزّ وجلّ فَإِذَا فَرَغْتَ فَأَنصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ۱ فهذه كلها أسبابٌ في رجاء قبول الدعاء لأن التفرغ من الأسباب يحصل منه حضورُ القلب والإخلاص والرغبةً يحصل منها دوام التذلل وتكرار الألفاظ المستعطفة والانتصاب - وهو الصلاة - يستدعي جميعَ وجوه القُرَب فإنها أعلاها فإذا أمر بالأعلى فغيرُه في الضّمن
الوجه الثالث قوله عليه السلام قال قل اللهم إني ظلمت نفسي إلى آخر الحديث هنا بحث وهو أي نسبة بين هذه الألفاظ وبين نسبة ما طلب الطالب لأن المعروف من الأدعية الشرعية أنها ألفاظ تقتضي بمتضمنها حرمة شيء من الأشياء وصفةً من الصفات الجليلة والأسماء الرفيعة كقوله جلّ جلاله وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وكقوله إن اسم الله الأعظم ما دعا به أحدٌ إلا أجيبَ دُعاؤُه ۳ وكقوله إذ سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ٤ والآثار في هذا المعنى كثيرة والأدعية المأثورة عنه و الله كثيرة فالجواب عن ذلك
من وجوه
الأول أن النبي لا فهم من أبي بكر رضي الله عنه ما قصد بقوله أدعو به في صلاتي أنه أراد دعاء الإجابة فيه في معنى المقطوع بها ويحصل له به خير الدنيا والآخرة بمقتضى الحكمة الشرعية فأجابه الله بهذه الإشارة العجيبة كأنه عليه السلام يقول ليس على الله حق واجبٌ حَتم وإنما هي أسباب يُسعِد بها من يشاء ويَحرِم من يشاء فمن أسعده فمن عنده وبفضله فاطلب أعلى الأشياء وهي المغفرة - كما تقدم البحث فيها في الأحاديث قبل من الأصول وهو الفضل - ولا تُعلق خاطرَك بغير ذلك
وهذا كما أخبر عن نفسه المكرمة حيث قال عليه السلام لن يُدخل أحداً عمله الجنةَ قالوا ولا أنتَ يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته ٥ وهو عليه السلام
۱ سورة الشرح الآيتان ۷ و ۸ سورة الأعراف من الآية ۱۸۰ ۳ أخرجه السيوطي في جمع الجوامع برقم ٦١٨٥
٤ لم نقف على مصدره
0 أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه
33
۳۸۹

الذي جاء بأثر الحكمة وقال عليه السلام خمس صلوات افترضهن الله على عباده فمن جاء بهن لم ينتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهداً أن يدخله الجنة ۱ والجمع بين هذين الحديثين أن نقول الوعد بالخلاص لمن جاء بالأعمال ـ كما مر - مقام العوام وهو وعد حق يوفي لهم به ﴿ وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۳ وبقي الخلاص ٢
بمقتضى الأعمال هو مقام الخواص مثل سيدنا الذي هو من خواص الخواص والتابعون له بإحسان إلى يوم الدين وأبو بكر رضي الله عنه من الخواص وكيف لا وقد قال ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا بصلاة ولكن بشيء وقر في صدره۳ والمطلب الذي طلبه من النبي الا الله وهو مقام العوام فكأنه عليه السلام يقول له بالضمن أنت من قوم ليس هذا مَقامَهم بل نجيبك على ما يقتضيه مَقامُك وهو مقام الخواص الذين يجمعون بين الشريعة والحقيقة فالشريعة هي الأعمال والدعاء والمحافظة على ذلك والحقيقة هي ألا يرى شيئاً من الخير في الدارين إلا بمجرد الفضل لا غير ويترتب على هذا من الفقه أن يُحمَل كلُّ إنسان على ما يقتضيه
حاله وإن لم يكن هو يطلب ذلك وقد قال عليه السلام أنزِلُوا الناس منازِلَهم ٤ وهذا عام ووجه آخر وهو أنه عليه السلام جعله يطلب مقصده من عند مولاه عزّ وجلّ لأنه إذا كان من عنده سبحانه بلا واسطة من محل النقص - وهي العبودية - كان أكمل ثم نَجَّحَ له المسألة بذكر هذين الاسمين الجليلين وهما الغفور والرّحيم الذي ٥ مقتضى أحدهما أنه يُعطي إذا سُئِل - وقد سأله مما عنده فكان أجدر في تحصيل ما طلب - والاسم الآخر يقتضي المغفرة ومن غفر له فقد رُحِم ومن رُحِم أيضاً فقد غُفِرَ له

واحتمل وجهاً آخر وهو أن الدعاء متوقف قبوله على المشيئة لقوله عزّ وجلّ بَلْ إِيَّاهُ تدعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ ٦ فجعل عزّ وجلّ الإجابة مرجوة غير مقطوع بها وقال
تلف
۱ مروي بالمعنى أخرجه الإمام مالك والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبادة
بن الصامت رضي الله عنه سورة التوبة من الاية ۱۱۱
۳ قال الحافظ العراقي لم أجده مرفوعاً وهو عند أبي يعلى والحكيم الترمذي عن عائشة رضي الله عنها وقال في النوادر إنه من قول بكر بن عبد الله المزني
٤ رواه مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها تعليقاً بلفظ أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ووصله أبو نعيم في المستخرج وأبو داود وابن خزيمة والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الأدب والعسكري في الأمثال وغيرهم من
حديث ميمون بن أبي شبيب رضي الله عنه
٥ يريد اللذين ٦ سورة الأنعام من الآية ٤١
۳۹۰

فمن جاء أن يدخله
كما مز -
الخلاص
وقد قال ـب الذي
يس هذا
الشريعة من الخير
يقتضيه

لأنه إذا ـجَّحَ له يُعطي غفرة
ـل إِيَّاهُ
وقال
عبادة
وقال
في
393
عز وجل في المضطر أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۱ فأوجب تعالى ـ بفضله ـ إجابة المضطر بالوعد الجميل وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ٢ فَنَقَلَه عليه السلام من صيغة الدعاء الذي

صاحِبُهُ بين الخوف والرجاء إلى حالة الاضطرار التي الإجابةُ فيها مضمونة
وحقيقة الاضطرار تؤخذ من قوله ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً أي ليس لي حيلة في رفعه فهذه حالة الافتقار لأن من لم يقدر أن يقوم بما يغفر ذنوبه فهو مضطر حقيقي لأنه لو كان معه ذنب كبير وكان معه شيء كثير مما يكفر به الذنوب ما قال اغفر لي مغفرة من عندك أي ليس لي موجب لها فصح بمتضمن هذين اللفظين حقيقة الافتقار المحض فحصل له ما طلب وفي النفس حاجات وفيكَ فَطانة فداكُما أبي وأمي من معلم ومتعلم ما أحسنَ آثارهما وأَنْوَرَ
بواطنَهما وأجلَّ أحوالهما أعاد الله علينا من بركاتهما بمنّه
الوجه الرابع هنا بحث في قول هذا السيد رضي الله عنه ظلمت نفسي الله عنه ظلمت نفسي ظلماً كثيراً هل هو حقيقة أو مجاز فأما أن يكون مجازاً فهذا مستحيل أن يقول النبي شيئاً يوجب المغفرة فيكون مجازاً ولا أبو بكر أيضاً يخاطب المولى الجليل بالمجاز عند موطن الرغبة فلم يبق إلا أن يكون حقيقة وإذا كان حقيقة فما هو لأن ما كان قبل الإسلام لا يؤاخذ به وبعد الإسلام هو السيد القدوة في الخير فما هذا الذنب
فالجواب وهو ما تقدم في الحديث قبل عند قول الله تعالى يا ابن آدم ما أغدَرَك ! فما كان من خير في الدنيا وفي الآخرة فهو من فضله جل جلاله إما بهداية لموجب ذلك من الأفعال التي نصبتها الحكمة الإلهية لذلك أو بمجرد العفو والفضل بلا موجب من عمل
يؤيد ما قلناه قوله تعالى ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۳ وقوله عزّ وجلّ ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ٤ وقوله عزّ وجلّ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ ري ٥ فأخبر الصادق عليه السلام الصديق رضي الله عنه أن يُقر بالأصل وهو الاعتراف بما طبعت النفس عليه وهو حقيقة الحق ويطلب الخير التام - وهي المغفرة والرحمة - من عند
الغفور الرحيم

66333
1 سورة النمل من الآية ٦٢ سورة التوبة من الاية ۱۱۱ ۳ سورة النحل من الاية ٥٣ ٤ سورة النور من الآية ۱ سورة يوسف من الآية ٥٣
0

63388
۳۹
ولذلك يقول بعض من يُنسَب إلى الخير كلَّ شيءٍ يَكبُرُ في هذه الدار إما حسّاً وإما معنى إلا النفس عند أهل التحقيق والمعرفة كلما زادت معرفتهم زادت النفس عندهم حقارة وذلة وهذا الحديث شاهد على ما قاله لأنه إذا كان الذي تناهى في الصدق والتصديق رضي الله عنه رُدّ إلى
هذا الاعتراف العظيم - كما أبديناه - فهل بقي من النفس عند هذا السيد شيء له قدر معاذ الله فمن أراد الخلاص والإخلاص فَلْينسج على منواله ضَمَّنا الله في سلكهم بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً

حديث رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة
عَنِ ابنِ عباس ۱ رَضِي الله عنهُما أَنَّ رَفعَ الصَّوتِ بالذكرِ حينَ ينصرفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم
ظاهر الحديث يدل على أن الناس كانوا على عهد رسول الله لا إذا انصرفوا من المكتوبة يُسمَع رَفع صوتهم بالذكر والكلام عليه من وجوه
منها تبيين الكيفية فيه وهل كان ذلك عاما في الخمس أو هو خاص ببعضها
أما الجواب على أنه عام أو خاص فمحتمل لهما معاً والأظهر أنه خاص والدليل على خصوصيته يُؤخذ من أحاديث منها ما رُوي أن النبي الله كان إذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بوجهه المُكرَّم على الصحابة رضي الله عنهم فيقول هل رأى منكم أحد الليلَةَ رُؤيا فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله من الحديث وبقي يحدثهم ٣ فإذا بقي هو ـ عليه السلام - يحدثهم فلا شك أن الخلفاء والأكثر من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجلسون معه لاسيَّما أهلُ الصفة ٤ من الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يكونوا يخرجون من المسجد إلا عند حاجة البشر وكانوا يديمون الجلوس في المسجد بل كان أكثر الصحابة ينتظرون الصلاة بعد الصلاة لما فيها من الأجر كما أخبر لا بقوله فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فذلِكُمُ الرّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباطُ ٥ ثلاثاً

۱ سلفت ترجمته في الحديث ٤٣ المكتوبة هي الصلاة المفروضة ۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والبغوي في شرح السنّة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه انظر الحديث ٦٩ ٤ أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه وكان أبو هريرة واحدا منهم
0
جزء من حديث طويل أوله ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا أخرجه الإمام مالك ومسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

۳۹۳

فلم يبقَ أن ينطبق عموم هذا الحديث إلا على الخصوص وهو ما جاء في حديث ذي اليدين في قوله خرج السَّرْعان وهم الذين لهم الأشغال الضروريات فيذكرون إثْرَ الصلاة لما جاء فيه لئلا يفوتهم شيءٌ من المندوبات فيخرجون مسرعين فمن أجل سرعتهم وهم كلهم - رضي الله عنهم - محافظون على المندوبات وإعلانهم بذلك من أجل أنه إذا كان أحدُهُم خارجاً وهو يذكر سِراً قد يأتي من يُكلِّمه أو يَشغَله فيَحتَرِم ١ الذكر فإذا كان ذكره جهراً من أجل ۱ هذه العلة كان
أفضل لأنه جاء عنه ل له أن الذِّكْرَ الخفي يفضل الذكرَ الجَليَّ بسبعين درجة هذا إذا كانا جميعاً لغير علة لما قد يُداخل الجهر من الرياء وأما مع هذه العلة التي هي إن لم يَجهَر به فاته الذِّكْرُ بالجملة فالجهر إذ ذاك أفضَلُ وقد يكون - والله أعلم - سبب وقوله لالالالا
الذِّكْرُ الخفِيُّ يَفضُل الجَليَّ بسبعين درجة خوف دوامهم على الجهر كما ذكر راوي الحديث واحتمل أن يكون ذلك من العرب الذين كان إسلامهم عن قريب فلم يُنْهَوا عن ذلك لما فيه من التأنيس لهم والتحبيب للإيمان وأخبر الغير بالأفضل ليعملوا عليه مع الإمكان وسكت للبعض على الإعلان ليدل على الجواز فيكون فيه لأهل البدايات وأهل الأعذار أسوة فالدين يُسر وأما الكلام على الكيفية في الذكر هنا فيحتمل وجوهاً

منها ما قدمنا الكلام فيه وهو مخافة أن يفوتهم الذكرُ المأثور إثر الصلوات وهو ثلاث وثلاثون من التسبيح ومثله تحميد ومثله تكبير وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له واحتمل أن يكون الذكر المأثور عند الخروج من المسجد وهو قول الخارج بعدما يقدم رجله اليسرى في الخروج بسم الله اللهم افتح لي أبواب فضلك ۳ لأنها هي السنّة وهو الأظهر ويبقى الحديث على ظاهره وتكون فائدة إظهارهم لذلك أن يتعلم هذه السنّة من لم يعلمها ويتذكر صاحب الشغل الضروري إذا سمعها فيكون له الأجر في الذكر من وجهين من الذكر وما يتعدى به للغير من الخير لأنه قصد بإعلانه التعليم والإلهام كما قال عمر رضي تعالى عنه حين سأله سيدنا صلى الله عليه وسلم الم ترفَعُ صوتك بالقراءة بالليل فأجاب بأن قال أوقظ الوَسْنانَ وأطرُدُ الشيطانَ فأقره النبي على ذلك بعد أن أمره بالخفض قليلاً والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعملون شيئاً من الأعمال إلا بنية صالحة وعِلْمٍ من الكتاب والسنَّة
نفس
الله
۱ احترم الشية مبيعه وتأتي بمعنى ها به وَرَعَى حُرْمَته واجتمع المعنيان في قولهم لا تحترم فتحترم أي لا
تهب فيفوتك الخير

أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وضعفه عن عائشة رضي الله عنها بلفظ يفضل الذكرُ الخفي الخ ۳ أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث السيدة فاطمة عليها السلام
٣٩٤

ويترتب على هذا الوجه من الفقه تقديمُ النيّة على العمل وقد قال خير العمل ما
تقدَّمته النية ۱ وأن العامل بعمل من الأعمال إذا قدر أن يجتمع له فيه نيات من الخير عدة فليفعل لأنه أكثرُ أجراً إلا أنه يُشترط أن يكون ذلك العمل غير واجب فإنه إن كان واجباً وأضاف إليه في نيته نية عمل آخر فإن فيه خلافاً بين العلماء هل يُجزِتُه عن فَرْضِه وما نوى معاً أو لا يجزئه عن واحدٍ منهما أو يُجزئه عن الأقل أو يُجزئه عن الأعلى أربعة أقوال هذا ما لم يكن قارناً في الحج والعُمْرة فإن هذا الموضعَ وحدَهُ مُجمّع على إجزائه للعملين معاً بشرط إراقة الدم كما هو مذكور في كتب الفروع فينبغي - إن كان فرضاً - أن يُفرد نيته خروجاً من الخلاف من أجل أن تبقى ذمته على أحد الأقاويل عامرة بما كُلِّف من أداء فَرضِه
قامة
ويقوي ما تقدم ذكره من أنه مخصوص بصلاة الصبح أنه إذا أتى مُطلقٌ ومقيَّد يُحمَل المُطلق على المقيَّد ويكون مخصصاً له وإذا كان كذلك فالعمل من ذلك الوقت إلى هَلُم جراً عليه لأن الغالب من الناس اليوم إذا خرجوا من صلاة الصبح جهروا بالذكر لأن الوقت وقتُ خلوة في الطرق من الناس إلا الذين خرجوا من الصلاة وخروجهم من الصلاة لا يكون إلا متفرقين غالباً والنفوس في ذلك الوقت منوَّرة متنعمة بالذكر وكانت بيوتهم رضي الله عنهم وبسطة فكان يُسمع ذكرهم من المنازل وأهل المنازل منهم مستيقظون لا يحبسهم في المنازل إلا الأعذار وما منع الناس اليوم من سماع الذكر في ذلك الوقت إلا تعليةُ المباني وكثرةُ النوم والغفلة فيكون معنى إخبار ابن عباس رضي الله عنه بهذا من أجل أن يعتقد معتقد أن إظهار الذكر ذلك الوقت مفضول بالنسبة إلى الذكر الخفي لأنه إذا كان في الطريق وهو وحده فلا فرق إذ ذاك بين الطريق وبين بيته وتنبيه ۳ منه أيضاً على التأكيد بالاشتغال بالذكر في ذلك الوقت وكثرة الحَضُّ عليه لأنه يزيد في الرزق فإن الرزق يُقسَم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فالذي كان في ذلك الوقت مشغولاً في عبادة يكون رزقه أوسعَ على ما جاء به الأثر
ويترتب على ما في الدليل من الفقه أن الطاعة إذا كانت سبباً لزيادة الرزق فالاشتغال بها ولى لأنه بها يحصل خير الدنيا والآخرة وقد جاءت الآثار أيضاً في هذا النوع كثيرة ولذلك كان أهل الضفّة أقل اهتماماً في طلب الرزق لتيقنهم بهذا وأمثاله وكانوا أحظى حالاً في الدارين إلا أن هنا شرطاً وهو أن يكون شغله بالطاعة خالصاً لله - عزّ وجلّ - لا من أجل الرزق فإنه إذا كانت طاعته من أجل الرزق فلا دنيا ولا آخرة وفي معناه قيل إن الخير بالطاعات منوط وصاحبها
1 لم نقف على مصدره القامة من الإنسان طوله بسطة زيادة ۳ وتنبيه العطف على المصدر المؤول أن يعتقد

٣٩٥

بالبركات موصوف والمعاصي صاحبها ممقوت وداراه بالبلايا محفوفتان وقيل أيضاً بالطاعات مُربحتان واتقاء السوء بهما معروف
وهذا البحث على أن الذكر كان منهم عند خروجهم من المسجد وأما إن حملنا الانصراف المذكور على خروجهم من صلاة المكتوبة فلا حاجة إلى هذا البحث كله وقد قال ابن بطال ۱ رحمه الله - في شرح البخاري لما أن تكلم على هذا الحديث قال يحتمل أن يكون هذا عند الجهاد في بلاد العدو فإن كان على هذا فالعمل عليه إلى الآن لأن السنة أن المجاهدين إذا انصرفوا من المكتوبة في الخَمْس يرفعون أصواتهم بالذكر ليُرهبوا بذلك العدو وإن لم يكن محمولاً على هذا فهو منسوخ بالإجماع ۳ والإجماع لا يحتج عليه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ ابن بطال هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال أبو الحسن عالم بالحديث من أهل قرطبة له شرح
البخاري توفي سنة ٤٤٩هـ / ١٠٥٧م الأعلام ٩٦/٥ ٢ يريد أن رفع الصوت بالذكر عند الخروج من المسجد منسوخ وأما رفعه بعد المكتوبة في الجهاد فغير منسوخ
٣٩٦

1911
حديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيت
عَن عَبد الله بن عُمَر ۱ رَضِيَ الله عَنهُما يَقولُ سَمِعتُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ كُلكم راع وكُلُّكُمْ مَسئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ راعٍ في أهلهِ ومسؤول عَن رَعِيَّهِ والمَرأَةُ راعية في بيتِ زَوجِها وَمَسؤولَة عَن رَعِيَّتَها وَالخادِمُ راعٍ في مالِ سَيِّدِهِ ومسؤول عن رعيَّتِهِ قال وحَسِبْتُ أَنْ قَد قالَ وَالرَّجُلُ راعٍ في مالِ أَبِيهِ ومَسؤول عَن رَعِيَّهِ وَكُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّهِ
ظاهر الحديث يدل على أن كل من استرعي على شيءٍ يُسأل عنه والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أن يقال ما معنى الرعاية وهل هي مقصورة على المذكورين في الحديث أو تتعدى بالحكم وما هو منها واجب وما هو منها مندوب
فأما الكلام على الرعاية فهي بمعنى الحفظ والأمانة ومنه قولهم رعاك الله أي حفظك وراعي الغنم أي الحافظ لها والأمين عليها
الوجه الثاني وهل يتعدى لأكثر مما في الحديث أم لا

فإن قلنا بفهم العلة فحيثما وجدنا تلك العلة عدينا الحُكم ويكون الحديث من باب التنبيه بالأقل على الأكثر إذ هي الأمانة والحفظ وقواعد الشريعة من هذا كثيرة تدل عليه بالنص والضمن فتكون فائدة الإخبار بهذا الحديث تنبيهاً على المذكورين لأنه أمر يُعقل لأن الناس لا يحسبون الراعي لهم إلا الخليفة ليس إلا وأن غيره ممن ذكر بَعد لا يدخل عندهم في باب الرعاية
۱ عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن صحابي من أعز بيوتات قريش في الجاهلية كان جريئاً جهيراً نشأ في الإسلام وهاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة ومولده ووفاته فيها أفتى الناس في الإسلام ستين سنة له في كتب الحديث ٢٦٣٠ حديثاً توفي سنة ٧٣هـ / ٦٩٢م الأعلام ٢٤٦/٤
عدينا الحكم صرفناه إلى غيره وطبقناه عليه
۳۹۷

ولا في باب الأمانة لأن الرجل يقول أهلي قد أبيحوا لي وليس لهم قبلي شيء غير الذي يجب علي من نفقة أو غير ذلك مما جرت به العادة وهي مسؤولة عن نفسها ولا يفكر أن عليه شيئاً مما يزيد على ذلك والابن يقول مال أبي ما عَلَيَّ أنا منه بل هو الحاكم عليَّ وتقول الزوجة مثل ذلك والعبد مثلهم فتضيع بين ذلك الحقوق ويُسألون عنها وهم قد أغفلوها فجاء التنبيه على ذلك من باب توفية النصح لمن استرعي وهو - عليه السلام - أكبر الرعاة توفية وبقي غير هذه من الأمانات تدل عليها هذه وما يجب لكل واحد منهم على صاحبه فيما يخص صاحبَ الرعاية الكبرى الذي له البيعة وقد تقدم الكلام فيه في حديث عُبَادة بن الصامت ۱ وأما ما بعده فنذكر فيه بحسب ما يفتح الله - عز وجل - به
الوجه الثالث قوله عليه السلام والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته الأهل هنا مبهم فما يعني به لأن الأهل ينطلق على الزوجة كما قال أسامة رضي الله تعالى عنه حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك فقال أهلك يا رسول الله عَنَى به
عائشة رضي الله عنها واحتمل أن يريد بالأهل مَن لزم الرجلَ نفقته شرعاً كقول نوح عليه السلام إِنَّ ابْنِي مِنْ أهلي ۳ وكقول مولانا - جلّ جلاله - في قصة أيوب عليه السلام وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَمُ وَمَثْلَهُم مَّعَهُمْ وكانوا زوجته وبنيه والعبد أيضاً داخل في الأهل لأنه من جملة الرعية بدليل قوله عليه السلام في سلمان ٤ هو من أهل البيت وكان عبدا ولأنه مما أبيح له النظر إلى زينة سيدته كما أبيح لذوي المحارم لقوله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ ٥
1 عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد صحابي من المشهورين بالورع شهد العقبة وكان أحد النقباء كما شهد بدرا وسائر المشاهد ثم حضر فتح مصر وهو أول من ولي القضاء بفلسطين ومات بالرملة أو ببيت المقدس روى ۱۸۱ حديثاً اتفق الشيخان على ستة منها وكان من سادات الصحابة توفي سنة ٣٤هـ / ٦٥٤م الأعلام ۳۰٤
سورة هود من الاية ٤٥ ۳ سورة ص من الاية ٤٣
٤ سلمان الفارسي صحابي من مقدميهم أصله من مجوس أصبهان عاش عمراً طويلاً ورحل إلى الشام فالموصل فنصيبين فعمورية وقرأ كتب الفرس والروم واليهود وقصد بلاد العرب فلقيه ركب من بني كلب فاستخدموه ثم استعبدوه وباعوه فاشتراه رجل من قريظة فجاء به إلى المدينة وعلم سلمان بخبر الإسلام فقصد النبي الله بقباء كلامه ولازمه أياماً وأسلم وأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه وكان قوي الجسم صحيح الرأي وهو الذي أشار على الرسول الكريم بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وقال فيه عليه السلام سلمان منا أهل البيت له في كتب الحديث ٦٠ حديثاً توفي سنة ٣٦هـ / ٦٥٦م الأعلام ۳ ۱۷۰ ٥ سورة النور من الآية ٣١
وسمع
۳۹۸

يجب
أمها
مثل
على
من
عاية
فيه
الله
به
ين

احتمل الوجهين معاً لكنّ الأظهر أن يكون الأعم منهما فإن الفائدة فيه أعم ولأنه عليه السلام قال في آخر الحديث والرجل راع في مال أبيه ولم يذكر أن الأب راع في مال ابنه فلما كان الابن من جميع من دخل في قوله عليه السلام أهله لم يُعِد ذكرَه ومثل ذلك في العبد والزوجة وذكرهم عليه السلام لنعلم أنه - وإن كان صاحب البيت مسؤولاً عنهم - فإن كل واحد
منهم مسؤول أيضاً على قدر ما يَخُصُّه على ما يُذكَر بعد
فأما ما يجب على الرجل من الحق في زوجته وولده وعبيده فمنه ما هو عند الناس كلهم عالمهم وجاهلهم معروف كالكسوة والنفقة والسكنى لاخفاء به وهذا بعضُ من كلّ فإن الذي يجب عليه زائداً على ذلك حفظهم في دينهم حتى يحملهم عليه فرضه وندبه كل على وجهه وهواكد من النفقة والكسوة بدليل أن الكسوة والنفقة قد تسقط عنه بالعُسر والإرشاد إلى الدِّين وتعليمه لا يَسقط عنه بوجه وما لا يَسقط أكد ضرورةً مما يسقط لكن لما رأى الناس الحكام يحكمون في النفقة والكسوة وما يتعلق بالأمور الدنيوية ولم يحكموا في غيرها على الرعاة لم يبقوا يجعلون الواجب إلا ما حكم فيه ليس إلا وغاية الذين ينسبون إلى العلم والخير - في الأغلب منهم - ينسبون ما زاد على ما حكم به أن الكلام فيه من قبيل المندوب الذي إذا فعلوه كانوا مأجورين وإن لم يفعلوه لم يأثموا وهذا جهل محض وغلط ظاهر بدليل الكتاب والسنة وقول الأئمة أما الكتاب فقوله جلّ جلاله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ ١ وقوله عزّ وجلّ وَأمْر أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَأَصْطَبِرْ عَلَيْهَا
وأما الحديث فقد روي أن الرجل إذا كان له الولد وبلغوا وفرّط فيهم حتى وقعوا في المحذور فإن عليه من الإثم قدْرَ ما عليهم وأيضاً قوله عليه السلام في الصلاة مُرُوهُم بها لِسَبع واضرِبُوهم عليها لِعَشْرِ ۳ وليس هذا في الصلاة وحدها بل هي هنا من باب التنبيه بالأعلى
على الأدنى
وأما قول الأئمة فما ذكره ابن أبي زيد ٤ في رسالته وغيره قال ويُضربون على الصلاة العشر كما جاء وكذلك في غيرها من الواجبات
وقد اختلف العلماء فيما يفعله الوليّ بمن هو في ولايته من خير ويجبره عليه وذلك قبل
1 سورة التحريم من الآية ٦
سورة طه من الاية ۱۳
۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما
٤ سلفت ترجمته في الحديث ٤٤
۳۹۹

بلوغه من المأجور على ذلك العمل على ثلاثة أقوال منها أن الوليَّ هو المأجور والآخر أنّ الصبي هو المأجور لأنه هو الفاعل لذلك الفعل والآخر أنهما معاً مأجوران وهو الأصح بدليل قول سيدنا محمد للمرأة إذ رفعت له الصبي وهي في المِحَفَّة في حَجّة الوداع فقالت با رسول الله الهذا حَجّ فقال نعم ولَكِ أجرٌ ۱
وأما في العبيد فقول سيدنا إن زنت الأمة فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها وإن زنت في الثالثة أو الرابعة فبيعوها ولو بضفيرِ حَبْل ومثله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كان معها قوم يسكنون في بعض ملك لها فرأت يوماً في بعض الأماكن أثراً لتلك الخطوط التي يلعب عليها النرد فأمرت بإخراجهم إن بقوا على ذلك الحال ولهذا قال العلماء لا يجوز للمرء أن يؤجر شيئاً من ماله ممن يعلم أنه يعمل فيه محرَّماً من المحرَّمات ومما يؤيد ذلك أيضاً قوله عزّ وجلّ في كتابه وَلَا تُكْرِهُوا فَنَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ۳ أي الزنى فكما يحرم عليه أن يؤاجرَ أَمَتَه في الزِّنى ولا يحل له أن يأخذ ذلك الشيء فكذلك غيره من المال ومما يقوّي ما قلناه ما كتبه عمر رضي الله عنه إلى عماله إن أهمّ أموركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع

فالضابط في هذا أعني جميع ما يجب على الرجل من الحقوق في أهله بعد ما تقرر عليه
بالحكم في علم الخاص والعام كما تقدم ذكره أن نقول
كل ما هو على الرجل واجب فهو عليه واجب أن يحمل أهله عليه إن كانوا كباراً إلا ما أسقطته الشريعة عنهم كالجُمُعة مثلاً عن المرأة وعن العبد مما قد تقرر بالشرع وهو مذكور في كتب الفقه وإن كانوا غير بالغين فيكون مندوباً كما تقدم ما هو عليه أيضاً مندوب يحملهم عليه مع إعلامه لهم أنه مندوب كما كانت الخلفاء رضي الله عنهم يفعلون في تسوية الصفوف ويبينون أولاً في الخطبة أنه ليس من الواجبات ثم يوكّلون أناساً يجبرون الناس على تسويتها ولا يدخلون في الصلاة حتى يعلموا بأنها قد استوت وتمام البحث على هذا الفصل يأتي في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى - ولا يسامحهم في ترك شيء من ذلك
ثم نرجع الآن نبين ما السبب في كون الحكام حكموا في مثل النفقة والكسوة وما أشبه ذلك حتى رَجحَ عند الناس أنه فرض - بلا شك - عندهم لما تكرر ذلك واستمر العمل به ولم يحكموا
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم بلفظ مختلف
۳ سورة النور من الاية ٣٣
٤٠٠

ان الله السنة
رياء
فَسِ
ـة ما
قد
ـوم
ـذا

قَدْرَ عَرْضِه - حتى نعلم كم رجلٍ يَسَعُ عَرْضُه والقُرعة لا تكون إلا على شيءٍ مُدرَك ويُعلم أنه لا يَسَعُ الكل فإنه إذا وَسِعَ الكُلَّ فلا قرعة فإذا لم يَسَعُهم حينئذٍ يُحتاج إلى القُرعة لِيُعْلَم من هو أَوْلَى به من غيره فالذي تكتبه الملائكة لا تُمكن القرعةُ عليه لعَدَمِ العلمِ بقَدْره وماذا يسع فجاء الدليل للذين يقولون إنه في المسجد
ولا نحتاج أيضاً إلى القرعة إلا إذا جئنا في فَوْرٍ واحد ٢ لأنه قد ثبت بالشَّرع أنَّ مَن سَبَق إلى شيء من المباح فهو أحق به فإذا تلاحقوا به على حد سواء قُسِم بينهم إن كان مما تأخذُهُ القسمة ويمكن ذلك فيه وإلا فمن يكون أولى به فعند ذلك يُحتاج إلى القرعة كهذا ومثله لأنه لا
يمكن القسمة فيه
وهنا بحث في قوله عليه السلام الناس هل الألف واللام للعهد أو للجنس فإذا قلنا للعهد وهم المؤمنون فيترتب عليه من الفقه أن العبيد والأحرار والإناث والذكور في ذلك سواء وأنه لا يستأذن العبيد في ذلك ساداتهم ولا النساء في ذلك أزواجهنَّ ويزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله۳ قلنا كذلك يعطى الحكم لكن لما حدثت أمور لم يبق من ذلك إلا خاص في خاص وهم الرجال دون النساء ولا من العبيد إلا من يُعرَف منه الخير لأنه يَجعلُ ذلك ذريعةً لتضييع حق سيّده ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول لو أدرك رسولُ الله ما أحدث النّساء لمنعهنّ المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل ٤

وما فعلت عاتكة زوجة عمر رضي الله عنه أنها كانت تستأذنه في الخروج إلى المسجد فيسكت فتقول له لأخرجَنّ إلا أن تمنَعَني فلا يمنعها لأجل ما عارضه من قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله فتركها يوماً خرجت إلى صلاة الصبح وتقدَّمها ووقف لها بموضع في الطريق في الظُّلمة حتى خطرت عليه فوثب عليها وقرصها في نهدها ولم يتكلم ولم يقل لها شيئاً لكي تجهل من هو الفاعل لذلك فرجعت رضي الله عنها إلى بيتها ولم تتم على مضيها إلى المسجد ثم لم تخرج بعد ذلك فقال لها عمر رضي الله عنه لِمَ تركت الخروج فقالت قد فَسَد الناس ٥ فعللت عدم خروجها إلى المسجد بفساد الناس
۱ كذا بجز كم الاستفامية وهو لغة
في فور واحد في ان واحد ۳ رواه الإمام أحمد والإمام مالك ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ٤ رواه الإمام مالك والشيخان عن السيدة عائشة رضي الله عنها موقوفاً
۵ رواه الإمام مالك في الموطأ
۳۰۱

وأجازه ذلك السيد رضي الله عنه الذي قد أمرنا باتباعه فإنه أحد العمرين وأحد الخلفاء رضي
الله عنهم
الوجه الخامس فيه دليل على التحيل في كسب أفعال الخير بكل ممكن يؤخذ ذلك من
قوله عليه السلام ثم لم يجدوا فلا يرجعون للقرعة إلا عند عدم القدرة على تحصيله ومن هنا أخذ أهل الصوفة دليلاً لهم في الحيلة على النفوس ومجاهدتها ومما يذكر عن بعضهم أنه بقي زماناً يحسن للنفس زِيَّ القوم حتى لَبِسَته فلما لبِسَتْه كان إذا أرادت أن تفعل فعلاً ليس هو من فعل القوم يقول لها لَبِسْتِ زيَّ القَوْم ثم تخالِفِينَهُم أو تريد شيئاً من حال أهل الدنيا فيقول لها هذا لا يليق لمن تزيّا بهذا الزي ومثله عنهم كثير
الوجه السادس فيه دليل على فصاحته يؤخذ ذلك من حسن تنويعه عليه السلام العبارة لمّا كان الأذان والصف الأول انحصر في فعلهما ولا يمكن الكثرة فيهما عبّر عنهما بالقرعة ولما كان التهجير كناية عن المبادرة في الزمان ومعنى التهجير هنا في يوم الجمعة - على قول أهل الفقه - ولا أعلم فيه خلافاً - والزمان ظرف يسع القليل والكثير - عبّر عنه بالتسابق فجعله تسابقاً وهو لا يحصل إلا بالجد والاجتهاد الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك رضي الله عنه الذي يقول إنَّ الأفضل في الجمعة التهجير وفَضَّل تلك القُرَب المذكورة من بَدَنَةٍ إلى بَيْضة في الساعة الواحدة في السبق على حاله فمن سبق أخذ بدنة ثم الثاني بقرة ثم كذلك حتى العاجز بيضة وجعل العبارة عن العتمة والصبح لما كان الغالب على المنع منهما النوم أو الغُسل أو العجز قال حَبْوا ية الوجه الثامن فيه دليل على المبادرة للعمل على المنشط وترك الكسل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حبوا فإن من هذا حاله فهو أعظم الكسل
الوجه التاسع فيه دليل لأهل الصوفة في أخذهم النفوسَ بالمجاهدة فإن هذا أعظمُ
المجاهدات
الوجه العاشر فيه دليل على أن ما هو من شعائر الإسلام المفروضة أن الأفضل فيه الإظهار لأن هذه المذكورة كلها من شعائر الإسلام المفروضة
ثم نرجع للقسم الثاني من الألف واللام في الناس إن كانت للجنس - وهي محتملة - فيكون فيه دليل لمن يقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهم على كفرهم لأنهم لو عَلِموا ما فيه لبادروا إلى الإسلام وعملوا هذه الأعمال ولهذا جاءت الإشارة هنا بلا تعيين أولاً ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن يُشَوَّقَ الكافر والعاصي والطائع - على حد سواء - إلى
ما أم
هناك
لو
الب
335
آن
ذلك
فراع
لأنه
الج

ما أعد الله عزّ وجلّ من الخير ويحذّر ممّا هناك من الخوف لمن لم يستَقِم لعلّه تحصل له هناك إنابة ١
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن التشويه مع حصول الأفضل في الدين أولى يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ولو حبوا فإن الحبو في حق الكبير تشويه ولا سيما لمن له منزلة فراعى هنا الدين ولم يراع التشويه
الوجه الثاني عشر فيه دليل لمن يقول إنه يصلي الجمعة وإن كان طين يُشَوِّه ثيابه ووجهه لأنهم اختلفوا إذا كان الطين كثيراً يشوه الثياب والوجه هل يكون عذراً يجوز معه التخلّف عن الجمعة على قولين وبالتفرقة فالحُجّة هنا لمن لم يجعله عذراً
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاستهام لقوله عليه السلام الاسْتَهَمُوا
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن المساجد لا يتملك منها أحد شيئاً
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أنه لا يجوز له أن يأخذ من المسجد إلا قَدْر ضرورته لأنه لو كان له أكثر من ذلك لَبَيَّنَه عليه السلام هنا لأنَّ وقت القرعة هو وقت انفِراد الحكم وتأخيرُ البيان عند الحاجة إليه لا يجوز فكونه عليه السلام أمر بالقرعة ولم يحدّ شيئاً دلّ على أنه ليس له أن يقترع إلا إذا لم يجد ما يحمله وغيره وأن ما فَضَل عن قدر ما يحتاج هو إليه فلا يدخل تحت القرعة وقد جاء هذا المعنى في حديث آخر وأنه متوعد عليه
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن المسابقة تكون حسّا ومعنى فهنا تكون معنى لا حِسا فإن المسابقة على الأقدام حِسَّا تقتضي الجَرْيَ والسرعة والجَرْي هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر لقوله عليه السلام إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن وائتوها وعليكم السكينة فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت وهنا بحث وهو أنه عليه السلام جعل العتمة والصبح على حد سواء وقد قال عليه السلام من شَهِد العتمة فكأنما قام نصف ليلة ومن شَهِدَ الصبح فكأنما قام ليلة ۳
فالجواب أن هذا لا يلزم من كونه جَعَلَها في حرمة المبادرة أنهما على حد سواء أن يكونا في الأجر إنما ساوى ما بينهما لعظم ما بينهما وبين غيرهما من الصلوات كما قال عليه السلام
۱ الإنابة التوبة
رواه الإمام أحمد والشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه ۳ أخرجه البيهقي في الشعب عن عثمان رضي الله عنه
41

بيننا وبين المنافقين شهودُ العَتَمةِ والصبح لا يستطيعونهما١ لأن الشاهدين إذا كانا عَدْلَينِ لا يلزم أن يكون أحدهما أرفع حالاً من الآخر لأنهما إذا تساويا في القدر المجزىء من العدالة فلا بأس أن يزيد أحدهما على الآخر وهذا مثله فقد زادتهاتان الصلاتان فضلا على غيرهما من الصَّلوات وبقي ارتفاعهما فيما بينهما معنى ثانياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك عن سعيد بن المسيب مرسلاً
٣٠٤

-TA-
حديث إتيان الصلاة بالسكينة
عن أبي قتادة ١ رضي الله عنه قال بينما نحن نصلي مع النبي الله إذ سَمعَ جَلبَةَ رجال فلما صلى قال ما شأنكم قالوا استَعجَلْنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسَّكِينَةِ فما أدركتم فَصَلُّوا وما فاتكم فَأَتِمُّوا
ظاهر الحديث إتيان الصلاة بالسكينة وإتمام ما فات منها والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أن الحكم الشرعي لا يكون إلا بعد تحقيق موجبه يؤخذ من قوله عليه السلام ما شأنكم فلما ذكروا استعجالهم إلى الصلاة حينئذ قال لهم الحكم في ذلك لأن استعجالهم احتمل أن يكون لما ذكروا أو لعذر عَرَض لهم لأن الحوادث لا تنحصر
الوجه الثاني فيه دليل على أن يجتهد المكلف برأيه فيما لم يكن فيه نص من الشرع يؤخذ ذلك من كون النبي ل ا ل لم ينههم إلا فيما يُستَقْبَل ولم يأمرهم بإعادة الصلاة ولا أبطَلَ عليهم عملهم فدل ذلك على جواز فعلهم فيما مضى
وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو على الندب وهل له حد معلوم أعني السَّكينة
المذكورة أم لا فالجواب على قولنا هل هو على الوجوب أو غير ذلك فصيغة الأمر مختلف فيها - على ما تقدم في غير ما موضع - لكن الأظهر هنا أنه على الندب بدليل أن التأدب والخشوع في الصلاة نفسها مختلف فيه وأكثر الفقهاء على أنه شرط كمال وقد قال في حديث آخر لا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظرُ الصَّلاة ٢ فأعظمُ حُكم الوسيلة إلى الشيء أن يجعله كالشيء نفسه فهذه الصفة في الصلاة نفسها مختلف فيها فكيف في الوسيلة
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ١٨
رواه الإمامان مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اخر
٣٠٥

ولوجه آخر لو كان على الوجوب لأشار إليه عليه السلام بزيادة ما لأنه المشرع وهذا
وقت بيان الحكم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

ولوجه آخر وهو إنما كان سرعتهم في المشي رغبة في الصلاة من أجل الأجر وطلب المزيد فيه فأراد عليه السلام إخبارهم بأنَّ لهم الأجرَ فيما أمرهم به لأن تسكن نفوسهم بذلك وهذا من الحديث الشاهد الذي أوردناه وأمّا من الحديث نفسه فلأنه عليه السلام فهِمَ منهم إظهار الجِدّ من أجل ما وقعوا فيه من الماضي فسكَّنَ خواطِرَهم بإعطاء العذر لهم في ذلك ذلك وتبيين
الحكم بعد
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن ما لَحِقَ المأمومُ من الصلاة مع الإمام إنه أولُ صلاتِه يؤخذ ذلك من قوله فَأَتِمّوا وتمامُ العمل هو آخِرُه لكن يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره فما فاتكم فاقضوا ۱ فدل هذا على أن الذي أدركه المصلي هو آخر صلاته ويقضي ما فاته والحديثان صحيحان فمن أجل ذلك اختلف العلماء في البناء والقضاء فمنهم من قال بالبناء مطلقاً ومنهم من قال بالقضاء مطلقاً ومنهم من جمع بين الحديثين وهو مالك رحمه الله ومن تبعه وقال يكون بانياً في الأفعال قاضياً في الأقوال وهو أحسن الوجوه لأن إعمال الحديثين خير من إسقاط أحدهما
لم
الوجه الرابع فيه دليل على أن التفات الخاطر إلى النوازل إذا كان في الصلاة ما لم يخرجه من الشغل بصلاته جائز وليس بمفسد للصلاة إذا كان يسيراً يؤخذ ذلك من سمعهم رضي الله عنهم وسمع رسول الله جلبة الرجال وهم في الصلاة ولم يأمرهم بإعادة ولا ذكر لهم أن في عملهم خللاً
الوجه الخامس فيه دليل على أن إمساك الحاجة في السر في الصلاة لا يفسدها إذا كان الغالب على القلب الشغل بصلاته يؤخذ ذلك من تمادي ذكر أمر الجلبة في قلب النبي ل حتى فرغ من صلاته وحينئذ سأل عنها
وجواز هذين الوجهَيْنِ " إذا عرَضَ الأمرُ وهو في نفس الصلاة ولا يتعمَّده هو يؤخذ ذلك من مجموع معنى هذا الحديث وقوله حين سُئل عن المَرْءِ يلتفت في الصلاة فقال تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم ۳ لأن الالتفات بالاختيار من المصلي دون عذرٍ طَرَاً
1 لم نقف على مصدره ٢ أي الرابع والخامس وخبر جواز هو متعلق إذا

رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ مختلفة
کل ٢
٣٠٦

عليه فإن ذلك خروج عما كان بسبيله ومن قول مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مخلصين ۱ فإذا دخل بغير إخلاص فأين تَوْفيه ما أمر به وقوله إذا دخلَ الرجلُ في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإن التفت أعرَضَ عنه ٢ فإذا دخل بغير إقبال أو معرضاً بقلبه لشغله بما كان فيه فما له وللإقبال هيهات بينهم مفازات لا يقطعها إلا المُشَمرون
فانتبه إن كنت نائماً وشَمِّرْ إن كنتَ يقظانا ۳
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن أحسن الصلاة أن يبقى من البشرية شيء ما لتلقي الخطاب وتوفية أركان ما أُمِرَ به وأحسَنُ الذِّكْر أن يفنى الذاكر في المذكور حتى لا يعرِف مَنْ على يمينه ولا مَنْ على يساره لأنه لو لم يكن ذلك كذلك ما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع يسمَعُ الجَلَبَة وفي غير الصلاة يقول عليه السلام إنَّه لَيُغان على قلبي فأستغفرُ في اليوم والليلة سبعين مرة ٤ فكيف يُغان على قلبه عليه السلام وهو من خصائصه أنه يقول تنام عيناي ولا ينام قلبي ٥
وقد اختلف الناس في معنى قوله عليه السلام يُغان على قلبي بأقاويل عديدة فانفصلنا عنها ولم نرجّح إلا ما أذكره بعد ذكر ما أجمعوا على أنه أحسنُ ما قيل فيه والانفصال عنه
إن شاء الله
فأحسن ما قالوا فيه أنه عليه السلام كان يترقّى من مقام إلى مقام فإذا ترقى من المقام الذي كان فيه إلى ما هو أعلى استغفَرَ من المقام الذي كان فيه وكأنّه الآن بالنسبة للحالة التي كانت قبل كَمَنْ غِينَ على قلبه
والانفصال عن هذا الوجه بأن تقول سَلَّمْنا هذه المقالة وهي حَسَنة إلى ليلة المعراج حين ارتقى إلى الحضرة العَلِيّة والمشاهدة بعين الرأس - على مذهب ابن عباس وهو الحق - فبعد هذا الترقي لا زيادة في الترقي
وبقي الجواب عما لِمَ كان يُغان على ذلك القلب المبارك فنقول بفضل الله إنه كان من صفته عليه السلام كما وصفه الواصف طويل الفكرة كثير الذكر قليل اللفظ ففكرته ا ا ا را
۱ سورة البينة من الآية ٥
رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ آخر
۳ كذا بالتنوين
٤ يُقال غِينَ على كذا أي غُطّي عليه ومنه الحديث فالغين ما لطف من الغطاء والحديث النبوي أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن الأغر المزني رضي الله عنه ٥ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها

۳۰۷

قد تكون في صفة من الصفات أو اسم من الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرةُ في جميع الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرة في جميع الأسماء والصفات فإذا اشتغل القلب بالفكرة في أحد الأسماء أو الصفات استولى على القلب المبارك من تعظيم ذلك ما صار عليه كالرّانِ لأن الران هو الشيء الذي يغطي القلب من حُسنٍ أو ضده
فإذا سُرِّيَ عنه من تلك الحالة الجليلة استغفر من شيئين أحدهما من شغله عن الذي بقي من الأسماء والصفات لأن كل واحد منهما يطلب حقه من التعظيم في كل نَفْسٍ يَرِدُ و الوجه الآخر هو تقصيره عن توفية حق تلك الصفة أو الاسم بوضع البشرية لأن الفاني لا يمكن أن يوفي حق الباقي قطعاً حتماً ولذلك قال له أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نفسك ۱
وهنا بحث هل ما قالوه هو الأحسنُ في الصلاة كلها على اختلاف أنواعها أو ذلك في الفرض ليس إلا الظاهر - والله أعلم - أنه في المكتوبة بالإجماع وأما النافلة فالأظهر فيها أنها من

قبيل الذكر يؤيد ذلك مسألة عليّ رضي الله عنه حين كان في فخذه سهم قد اذاه فقالوا له فيه أن ينزعوه فيأبى عليهم ويمهلهم قليلاً قليلاً فقال بعضهم لا تستطيعون أن تنزعوه إلا حين يكون في الصلاة ففعلوا ذلك فنزعوه منه وهو ساجد في النافلة فلما انصرف من الصلاة راهم محدقين به فقال ما بالكم أو تريدون نزع السهم فقالوا له ها هوذا أخذناه فقال والله ما عرفتُ بكم ومثله كثير عن المباركين
وأما الجواب على قولنا هل للسَّكينة حَدّ أو لا فقد قال العلماء إن حدّها ما لم يخرجك عن الوقار وقد روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع الإقامة وهو يأتي إلى المسجد يمد في الخطا ويخفف وقع قدمه وهذا الحال آخِرُ حالِ السَّكينة
وبقي الكلام على ما يدرك من الصلاة ما يُحسَب منه وما لا يُحسَب فقد بيّنه عليه السلام في حديث آخر وهو قوله عليه السلام ادخلوا معي على الحالة التي تجدوني عليها فإن وجدتموني راكعاً فاركعوا واحسبوها ركعة وإن وجدتموني ساجداً فاسجدوا ولا تحسبوها شيئاً ٢
الوجه السابع فيه دليل على أن الدين يسر يؤخذ ذلك من أنهم لما اهتموا بما وقع منهم من التأخير عن الصلاة فأسرعوا جعل لهم المخرج بأن قال لهم عليكم بالسكينة إلى آخره والذي يقع ذلك منه - أعني - أعنى تأخير الصلاة عن وقتها - يدخل تحت قوله جل جلاله أضاعوا
۱ رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نقف على مصدره
4
۳۰۸

ي
نه
الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيَّا ۱ وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت والله ما تركوها وإنما أخرجوها عن وقتها المختار فإذا كان الأمر في تفصيل الأوقات على هذا المعنى فكيف به في فوات شيء منها مع النبي لأن الوقت فيه خلافٌ بين العلماء والصَّلاة لا خلاف أنَّها أفضل الصلوات
معه
ويترتب على هذا الوجه من الفقه لأرباب القلوب أن الهَمَّ على عمل من الخير إذا فات بُدل منه لكن ليس البدَل كالمبدلِ منه من كل الوجوه ويؤيد هذا قوله حين سأله زيد ما علامه الله على من أحبه فقال يا زيد كيف أصبحت قال أصبحت أحب الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرت إليه وإن فاتني حزنت عليه وندمت فقال النبي فذلك علامة الله فيمن يُريد ولو أرادك لِغيرِها لَهَيَّأْكَ لها ٣
فلما قال حزنتُ عليه فحينئذ صح له ما تضمنه الحديث ويقويه أيضاً قوله عليه السلام النَّدم توبة 1 وفي هذا من الفقه معنى عجيب وهو أن نفس الندم يكون إما مذهباً للإثم إذا كان على فعل ممنوع وقع إن حملنا قوله الندم توبة على ظاهره
وإن تأولنا بأن قلنا هو أعظم الأسباب في التوبة أو أكبرُ أجزائها كقوله عليه السلام الحج عَرَفَة ٥ فعلى هذا التأويل يكون أقوى الأسباب في الخلاص مما وقع فيه وكلاهما خير عظيم ويكون لما فات من الخير جابراً كما تقدم
يزيد ذلك إيضاحاً قوله صلى الله عليه وسلم ما أمسى المؤمن فيها - يعني في الدنيا - ولا أصبح إلا حزينا ٦ لأنه بالضرورة بين أحد أمرين إما غفلة عن مندوب وإمّا سهو حتى يقع في مكروه وهذا أقلها
ويترتب أيضاً على هذا المعنى وجه من الفقه ووجه من طريق أهل الحقائق فأما الذي من الفقه فيكون وجود الحزن على فوات شيء من الخير أو الوقوع في شيء من ضده من علامة الإيمان وأما الذي هو من طريق أهل الصوفة فإن قولهم إن القلب إذا خَلا من الحُزن خَرِبَ
۱ سورة مريم من الآية ٥٩ روي هذا القول - كذلك - عن ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ۳ انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ٣٠٨/٤
٤ رواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ٥ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي في الكبرى عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه
٦ لم نقف على مصدره
۳۰۹

ويترتب عليه من طريقهم أيضاً وجه آخر وهو أنَّ مَن كان حاله هذا كان حاله حال المراقبة -
وهو أجلّ الأحوال - ولا بد لصاحب هذا الحال أن يتخلّل خوفَه رجاء وإلا كان ناقصاً عن حال الكمال بدليل قوله المؤمنُ تسُرُّه حسناته وَتَسُوؤُهُ سيّئاته ۱ فإنه إذا وَجَد من نفسه هذا الخوفَ سُرَّ به فتجتمع له علامتان من الإيمان وجود الخوف في موضعه والفرح في موضعه ولذلك قيل لبعضهم في بعض مناجاته ليكن خوفك خوف محب ومحبوب لأن المحبَّ مهما رأى أقل شيء خاف من أن يكون ذلك سبباً للبعد والمحبوبُ وإن رأى ما يوجب البُعدَ يَعلمُ أنَّ المحبوبَ لا تَضُرُّه الذنوب فلا تحزنه فيكون حاله في الزمان الواحد محبوباً مُحِبّاً وهذه أكمل
الحالات
جعلنا الله من أهلها بمنّه أمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ مروي بالمعنى لحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي أمامة رضي الله عنه وأصله إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن
۳۱۰

اقبة - حال هذا
رأى
ان
مَل
حديث القيام إلى الصلاة
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسَّكينة والوقار
ظاهر الحديث يوجب ترك القيام إلى الصلاة وإن أقيمت حتى يخرج والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول يؤخذ منه تأكيد الإقامة في الصلاة لقوله عليه السلام إذا أُقيمت الصلاة فلولا أنَّه أمرٌ مستَعْمَلُ في كل صلاة مكتوبة لما قال ذلك وهي من السنن المؤكّدة الخارجة عن الصلوات الوجه الثاني جواز الإقامة والإمام ليس بحاضر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني فلو كان حاضراً ما قال حَتَّى تَرَوني الوجه الثالث هل هذا النَّهيُ على التحريم أو الكراهة وهل هذا الفعل خاص به عليه
السلام أو ليس
الجواب عن الأول فليس هذا مما نقول فيه تلك التقسيمات التي في الأمر لأنه في أمر خارج عن الصلاة وإنما هو لفوائد منها أنه لا الله ما أراد أن يبين حكماً من أحكام الله وهو أن الإقامة ليس اتصالها بالصلاة من اللوازم وإنّما هي إخبار بأن وقت الدخول في الصّلاة قد حان فقد يكون متصلاً بها وقد يكون بينهما بَوْن ما كما أن الأذان دال على دخول وقت الصلاة وقد تُوقع الصلاةُ في أَوَّلِهِ أو بعده لكن لمّا كان الغالب من فعله عليه السلام الاتصال بها خاف أن يُعتَقَدَ أنّه من الواجب فبينه عليه السلام هنا بالقول وقد بينه في موضع آخرَ بالفعل وهو ما رُوي عنه أنَّه إذا نزَل من المنبر وأقيمت الصلاة ربَّما سارَرَه ۱ أحدٌ من الصحابة فيجاوبه وحينئذٍ يدخُل في الصلاة
۱ كذا والقياس ساره
۳۱۱

ويترتب على هذا من الفقه أنه إذا كان الإنسان في صلاة وأقيمت عليه صلاة أخرى والإمام ليس بحاضر لا يقطع صلاته وقد قال أهل العلم إنّه مَن كان في صلاة وأقيمت عليه صلاة إنه يقطع التي هو فيها ويصلّي التي أقيمت وحينئذٍ يُعيد التي كان فيها ويجتمع قولهم مع الحديث إذا كانت الإقامة كما قلناه والإمام حاضر
الوجه الرابع فيه دليل على توفيته لا لا لو تعليم جميع الأحكام يؤخذ ذلك من أن هذا الأمر
على دقته وخفائه لم يُهْمِله حتى بيَّنه قولاً وفعلاً
وفيه أيضاً وجه من وجوه الرفق وكان عليه السلام بالمؤمنين رحيماً وهو ربما يكون هناك ضعيف فيقوم عند سماع الإقامة فقد يتأخَّر عليه السلام لوجه ما فلا يَصِل ذلك الضعيف إلى الصلاة إلا وهو قد عجز عن القيام فيصلي قاعداً فيفوته القيام وقد يكون بَرْد أو حَرّ والغالب عليهم رضي الله عنهم قلّة الثياب فيلحق القائم شدة البرد والحَرّ فيكون سبباً التشويشه في الصلاة
ويترتب عليه من الفقه أن المتعبد ينظر قبل الدخول في صلاته أو تعبده ما يُصلح به حاله في
تعبده ولا يكون معه فيه تشويش
الوجه الخامس فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن الصلاة إذا أقيمت إن الناسَ بالخيار في القيام ما بين الإقامة واستفتاح الإمام الصلاة لأن الشافعي يقول يقام إلى الصلاة
عند قوله قد قامت الصلاة
الوجه السادس فيه دليل على أن يُحمّل القوي في الأحكام محمل الضعيف يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تروني فساوى بين القوي والضعيف ويؤيد ذلك قوله عليه السلام سيروا بسير أضعفكم ۱
الوجه السابع فيه دليل على لحظ القدرة في الشيء اليسير مع استصحاب الحكمة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فالحكمة هي الإخبار بحال الإقامة لأنها قد عُرِفت عَلَماً على الدخول في الصلاة الوقتيّة واللحظ إلى القدرة هو عن نهيه عليه السلام لا يقوموا حتى يروه مخافة أن يبرز من الغيب مانع يوجب تأخيره عن الخروج في الوقت فلحظ القدرة مع أحكام الحكمة من أجل المراتب لمن فهم على نحو ما قدمنا في غير
ما حديث
۱ رواه الشافعي في مسنده بلفظ سيروا على سير أضعفكم وابن ماجه والحاكم على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه

الامام
ـاة إنه
ديث
الأمر
كون ذلك
ا أو
سبباً
ة
C
الوجه الثامن فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن من أدب العبادة ألا ترجع من الأعلى إلى ما هو دونه يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني خشية أن يبرز من القدر ما يوجب تأخير الخروج فيرجعون من القيام إلى الخدمة إلى القعود فيكون نقص مرتبة في ذلك الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يجب الدخول في العبادة حتى تتم شروطها يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني لأن الإقامة - وإن كانت تُخير بالدخول في الصلاة - لكن من تمام ذلك الإمام فإذا لم يَرَوُا الإمامَ لم يجب عليهم القيام ويلزم منه عَكْسُه وهو إذا كَمُلت الموجبات فلا يجوزُ التأخيرُ لغير عذر
الوجه العاشر يؤخذ منه الالتفات والاهتمام بالإمام يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني فذلك تحضيض على ما قلنا ويترتب على ذلك الاهتمام بأمر الدين كله لأنه من تعظيم الشعائر وهو من التَّقوى
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن السنة الاهتمام بتوفية السابق وإن كان ما بعده أرفع منه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تروني لأن الصلاة - ولا بد - أرفع من الإقامة فاشتغالك أنتَ بالنّظر إليه هل خرج أم لا - وهو توفية حق الإقامة ـ أولى من الاشتغال بالصلاة التي لا تأتي إلا بعد توفية الإقامة بشروطها
وفيه وجه من الحكمة وهو أن تُوَفِّيَ لكل ذي حق حقه وإن قل ولا يَشَغَلَك حقٌّ الأعلى عن توفية حق الأقل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تَرَوْني
الوجه الثاني عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يحضون على الاشتغال بتوفية حق الوقتِ ومراعاته وإن قل لأن ذلك الالتفات - وهو أمر يسير - هو حقٌّ الوقت فلا يُشغَلُ عنه بما بعده وإن كان أعلى منه ولا يتهاون به فَيَحصل في العتب أو الذمّ
ومن كلام من نُسب إلى الخير من حافظ على توفية حقّ وقته - وإن قَلَّ ـ خَتَ حِملُه وقَلَّ هَمُّه وصَلَحَ عِلْمُه وحسن عمله وصح له اسم النبل والمعرفة وربح دنياه وآخرته وقوله عليه السلام وعليكم بالسَّكينة والوقار لأن السَّكينة والخضوع هنا من نسبة العبادة ولأن العبادة هي التواضع والانقياد ولذلك أثنى مولانا جل جلاله عليهم فقال ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۱ وقال المؤمِنُ هَيِّنٌ لَيْن فصفة
1 سورة الفرقان الآية ٦٣ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ومعنى هين ساكن متئد تئد ولين متواضع وبسيط وهي قريبة من معنى هين
۳۱۳

المؤمن أن يكون هيناً ليناً من غير ضعف ومن غير تماوت وهذه الحالة كثيراً ما نجد الشارع عليه
السلام يحضُّ عليها في غيرِ ما موضع
فانظر هنا إلى هذا الحديث لَمَّا أن حض أولاً على ألا يقوموا حتى يَرَوْه خاف أن يُسرِعوا في الالتفات عندما يسمعون الإقامة أو يسرعوا إلى القيام عند ما يَرَوْنه فقد يلحق لبعضهم من ذلك تالُمٌ لأن الجَمْعَ إذا قاموا في مرةٍ واحدةٍ مسرعين يلحق الضعيف والقوي من سرعة القيام أذى فأكمل عليه السلام الفائدة في التعليم وأبدى مقتضى الحكمة بأن قال وعليكم بالسَّكينة وهي التأني والرفق في النظر والقيام مع حضور الخاطر بما هو فيه والاهتمام به في جميع أنواع العبادات لأن تلك الحالة هي هنا سنَّة العبادة ولذلك كان عليه السلام يقول عند النَّفْر من عَرَفَة وهو قد شَنَق العضباء ۱ عليكم بالسَّكينة ويشيرُ بيده يميناً وشمالاً حتى إذا صعد جبلاً
أرخى لها قليلاً فإذا نزل عاد لِمَا كان عليه قبل
فجزاه الله عنا من مُعلّم خيراً ومن رسول ونبي خير ما جزى رسولاً ونبيًا عن أمته وحشَرَنا
في زمرته غير خزايا ولا نَدَامَى بِمَنْهِ آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 العضباء لقب ناقة النبي
ومعنى الكلمة الناقة المشقوقة الأذن ولم تكن ناقته عليه الصلاة والسلام عضباء وشنق البعير كفه بزمامه حتى الزق ذِفْرَبَيْهِ بقادمة الرحل أو رفع رأسه وهو راكبه والذفْرَى العظم
الشاخص خلف الأذن وهما ذفران
٣١٤

حديث انتظار الإمام
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال أُقيمت الصَّلاة فسَوَّى النّاسُ صفوفَهم فخرج رسولُ الله فتقدَّمَ وهو جُنُبٌ ثم قال على مَكانِكُمْ فرجَعَ فاغتَسَل ثم خرج
ورأسُه يَقْطُرُ ماءً فصلَّى بهم
ظاهر الحديث انتظار الناس بعدما سَوَّوْا صفوفهم إلى الصّلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجع
واغتسل وخرج والكلام عليه من وجوه
مثلاة
الوجه الأول أن الجماعة ينتظرون الإمام إذا طرأ عليه عذر ما لم يكونوا تَشَبَّئوا بالصلاة يُؤخَذ ذلك من قوله عَلَى مَكانِكُم فرجع فاغتسل
الوجه الثاني يؤخذ منه أنهم لا ينتظرونه إلا إذا كان شغله يسيراً يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لم يكن إلا قدر ما اغتسل
الوجه الثالث يؤخذ منه أنهم لا ينتظرون الإمام إلا إذا أمرهم بذلك يُؤخَذ ذلك من جمع هذا الحديث مع الحديث الذي ذكر فيه أنه عليه السلام خرج ليُصلح بين بعض قبائل العرب وحان وقت الصلاة فقدَّم الصَّحابة رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه الله عنه فأتاهم وهم في الصلاة فأتمَّ الصَّلاة معهم فلما فرغ قال لهم حَسَنُ ما فعلتم ١ أو كما قال عليه السلام لأنه

۱ قصة صلح الرسول الله بين بني عمرو بن عوف وعودته أثناء الصلاة وإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالناس أخرجها الإمام مالك والإمام أحمد والحميدي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطبراني في الكبير والبغوي في شرح السنة عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وتفصيل الخبر أن أناساً من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي الله في أناس من أصحابه يصلح بينهم فحضرت الصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فأذن بلال بالصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فجاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال إن النبي و حبس وقد حضرت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت فأقام الصلاة فتقدم أبو =
٣١٥

حين خرج ولم يأمرهم أن ينتظروه بالصّلاة فلما جاء وقتُ الصلاة قاموا بما به أمروا وهنا لما
أمَرَهم بأن ينتظروه امتثلوا
ويترتب عليه من الفقه ما قدَّمنا اللهم إلا أن يَعلَموا بالقطع أن شُغل الإمام يسير وإن لم يأمرهم بالانتظار فَلِحُرمته إذا كان في الوقت سَعَة ولم يخرج الوقت المختار فلينتظروه وقد قال بعض العلماء إنه إذا كان شخص يواظب على الصلاة في مسجد واحد وحان وقتُ الصلاة وهو لم يجىء إنه يُنتظَر قَدْر ما تُوقع صلاة وحينئذ يصلون لأن لملازمته حرمةً ينبغي ألا يُغفل عنها والإمام - ولا بدَّ - أكبَرُ حرمةً من هذا
ولذلك نذكر حكاية الشيخ الذي كان يأتي الصلوات فيؤذن عند باب المسجد وحيئنذ يدخُل فاعتقل يوماً عن وقته المعهود فأقام المؤذن الصلاة ودخلوا في الصلاة فجاء الشيخ وهم في الصلاة فتغيَّر خاطره لكونه فاته الأذان ولم يقل شيئاً فلما كان الليل رأى المؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له تأدب مع الشيخ فلما جاء الشيخ إلى صلاة الصبح قال للمؤذن أظننت أني ليس معي من ينتصر لي فتاب المؤذن واعتذر للشيخ وهكذا هو حال كل من صَدَق مع مولاه فإنه يَنصُره
الوجه الرابع فيه دليل على تسوية الصفوف وهو من سنّة الصلاة يؤخذ ذلك من قوله فسوّى النّاس صفوفهم فلولا ما كانت تلك سنّة معلومة ما ذكرها الصحابي رضي الله عنه وهنا بحث هل هذا الحديث معارض للذي قبله أم لا
فإن حملناه على ظاهره ففيه تعارض لأن المتقدم قال فيه لا تقوموا حتى تَرَوْني وهنا سُوبَتِ الصفوف وحينئذ خرج رسول الله ولعل هذا ومثله كان الموجِبَ لِنَهْيِهِ عليه السلام في الحديث قبل ألا يقوموا حتى يَخرُج
وإن تأوّلنا وقلنا معناه أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى النّاس صفوفهم لأن هذا في لسان العرب كثير يقدمون المؤخّر ويؤخرون المقدَّم إذا لم يقع على السامع إلباس
بكر رضي الله عنه ثم جاء النبي عليه السلام يمشي في الصفوف حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس في التصفيح أي التصفيق باليدين حتى أكثروا وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يكاد يلتفت في الصلاة فالتفت فإذا هو بالنبي عليه السلام فأشار إليه بيده فأمره يصلي كما هو فرفع يده أبو بكر فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه حتى دخل في الصف وتقدم النبي الله فصلى بالناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إذا نابكم شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من رابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله
٣١٦

كقول مولانا جلّ جلاله فَجَمَلَهُ غُنَاء أَحْوَى ۱ ومعلوم أنه لا يكون غثاء حتى يكون أولاً أحوى
فكذلك هنا لما تقرّر الحكم بألا يقوموا حتى يروه قدّم المؤخر للعلم به أنّه مؤخّر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الجُنُب لا تجب عليه الطهارة إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من أن النبي أخر الطُّهور عن وقت الجنابة حتى نسيه وخرج وهو جنب فلو كان وقوع الطهارة واجباً إثر الحدث ما أخره النبي لا لا لا حتى نسيه
الوجه السادس فيه دليل على جواز الحكم بقرينة الحال إذا لم يحتمل غير وجه واحد يؤخذ ذلك من قول الصحابى وهو جُنُب لأن الصحابي لم يعرف ذلك إلا من قرينة الحال ـ وهي ما وصفه آخراً بقوله ورأسه يقطر ماءً - لأنه لما ترك الله و الصلاة بعدما كان الناس سؤوا صفوفهم وأمرهم بانتظاره ثم خرج بأثرِ الطهور عليه لم يبق وجه يتقرر في الموضع غير الجنابة لا غير حقا ولولا ذلك ما أخبر بالقطع ويترتب عليه من الفقه أن كل وجه يُتَوصَّل إلى القطع بمدلول عليه فهو طريقٌ يَحصُل به علمٌ حقيقي يجب الحكم به
فأخبر
الوجه السابع فيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشرية ليس بمنافٍ للعبادة إذا فعل على مَشْروعِيَّتِه يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمداً الله بالإجماع أعبَدُ الناس وترى ما طُبِعَت عليه البشرية من الجماع وغيره ولم يُخِلَّ بعبادته شيئاً لأنه عليه السلام لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها وهذا هو غاية الكمال في البشريّة لأنه يرجع ما طُبع عليه تابعاً لما أُمِرَ به وقد قال مولانا جل جلاله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَجًا وَذُرِّيَّةً ٢ فمفهوم هذا - وهو ذكرُ الزَّوجة والذريَّة - لأنهما أعظمُ ما يَفْتَتِن بهم الناس والنكاح أكبرُ الشَّهوات فدلَّ على أن جميعهم صلوات الله عليهم على طبع البشرية من كل الجهات إلا أنَّهم لم يمنعهم ذلك من توفية أعلى الأحوال وهي توفيه حق النبوّة والرسالة وبهذا سقط عُذْرُ غيرِهم بألا يمنعهم شيءٌ مما طبعت عليه البشرية من توفية ما كلفتهم الربوبية فقامت الحجة الله عزّ وجلَّ على عباده
قُل فيلو الحمة الكلمة ۳
۱ سورة الأعلى الآية ٥
سورة الرعد من الآية ۳۸

۳ سورة الأنعام من الآية ١٤٩
۳۱۷

الوجه الثامن فيه دليل على عدم الحياء في الدين يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمدا لما اقتحم للجنابة لم يعتذر ولا غطّى على رأسه كي يخفي ذلك وإنما ترك الأمر على ما وقع
حتى يُقعد هذه القاعدة التي ذكرنا
الوجه التاسع فيه دليل على أن التعمق في العبادة والوسواس إما بدعة أو بلوى يؤخذ ذلك
من أن سيدنا محمدا لم يطل المكث في طهوره
يؤخذ ذلك من قوة كلام الصحابي الذي قال إنه عليه السلام تركهم قياماً ورجع فاغتسل وخرج فصلى بهم فدل أنهم بقوا قياماً ينتظرونه ولو كان لبتُه في طهوره يَطُولُ لأمرهم بالقعود وحينئذ ينتظرونه لما يُعلم من رفقه عليه السلام بأمته والتيسير عليهم في جميع الأمور مما هو قد رجع علم ضرورة لا يُحتاج فيه إلى دليل
وفعله عليه السلام ذلك فيه وجه من الفقه لأن تعلمهم يفعله أن الإسراع في الطهور والإبطاء في الصلاة هي السنة لأن التعليم بالفعل ولا سيما من المشرع عليه السلام أبلغ من القول وكذلك كان له يقصر الخطبة ويطيل الصلاة
واليوم الأمر من الأكثر ممن يدعي العلم بالضد مما ذكرنا فأنى لنا الاقتداء بمن خالف سنة رسوله أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون لا يرجع المتعبد من الأعلى إلى الأدنى يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام أمرهم أن يبقوا على حالهم ولم يأمرهم بالقعود لأنهم قد قاموا إلى التوجه فكرة أن يقول لهم ارجعوا إلى الجلوس فقال على مكانكم
الوجه الحادي عشر فيه دليل على تركه التجفيف من الطهور يؤخذ ذلك من قول الصحابي ورأسه يقطر ماءً والذي يجفف لا يقطر منه الماء وقد جاء عنه أنه جفف وجاء عنه أنه لم يجفف كما يقتضيه هذا الحديث فالوجهان على هذا جائزان وهي توسعة من الله على عبيده الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الإيمان كان في حياة رسول الله أقوى مما كان بعده يؤخذ ذلك من قول الصحابي فسَوَّى الناس صفوفهم من غير خبر منه له له و وجاء أن زمان عثمان رضي الله عنه وكل أناساً بتسوية الصفوف فلا يكبرون حتى يأتوه فيخبروه أن الصفوف قا استوت كما أخرجه مالك في مُوَطنِهِ فبان الفرق بين الإيمان في الزمانين فما بالك بإيمان
أهل وقتنا أجزل الله لنا النصيب منه بِمَنه ويترتب على هذا من الفقه أن بقدر قوة الإيمان تَخِفٌ أعمال البر يؤيد ذلك قوله تعالى
۳۱۸

ما وقع
حد ذلك
غتسل قعود
مما هو
ظهور
بلغ من
خالف
إلى
لأنهم
حابي
ته أنه
ده
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ۱ وبهذا النوع من قوة الإيمان ظهر على أيدي الصحابة رضي الله عنهم ما لم يظهر على يد غيرهم ولا قدروا عليه ثم بعدهم أهل الصوفة ما حملت أبدانهم تلك المجاهدات وظهرت لهم تلك الأحوال السنيّة إلا بقوة إيمانهم
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
كان
مان
ـوف
ـمان
ته له کا ناجا
1 سورة البقرة من الاية ٤٥
بالى
alets

<-{1
حديث سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظل عرشه
يومَ لا
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي الله قال سبعة يظلهم الله في ظله ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابًا في الله اجتمعا عليه وتفَرَّقا عليه ورجل طلبته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجَمال فقال أخافُ الله ورجلٌ تصدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شِماله ما تنفقُ يَمينُه ورجلٌ ذَكَرَ الله عزّ وجلَّ خالياً ففاضت عيناه
*
إني
ظاهر الحديث أن السبعة المذكورين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول ما معنى يُظِلُّهم وهل لا تكون ۱ هذه الخصوصية بهذا الظل إلا لهؤلاء المذكورين لا غير أو لهم نظائر
فالجواب عن الأول أن يقال معنى يظلُّهم بظله أي أنه جلّ جلاله يُعافيهم من هول ذلك اليوم العظيم وحَرِّه بظله المديد ورحمته الواسعة والكيفية لا مجال للعقل فيها لأن الآخرة يُصدق بها ولا يُتَعَرَّضُ إلى كيفيَّتها
وأما قولنا وهل هو لهؤلاء المذكورين أو أكثر فقد جاءت أحاديث أُخَر ذكر فيها آخرين وأخبر أنهم مثل هؤلاء في الظل
وهنا بحث لم جاءت الأخبار عنهم في أحاديث متفرقة فتفريق الأخبار لحكم منها أنه قد تكون الأخبار بقدر ما يحتاجه الوقت ليكون لأهل الوقت اهتمام به كما جرت عادته أنه حين سأله بعض الصحابة ما خيرُ الأعمال فقال للواحد بخلاف ما قال لغيره
1 يريد أولا تكون

ويكون الجمع بينهما بأن نقول أخبر لكل ۱ شخص بما هو الأفضل في حقه لأنه ل مثلُ الطبيب الذي يَصفُ لكل شخص من الدواء ما هو الأصلح له فطبه أي طبّ ودواؤه أي دواء ! كما
قال لعبد الله بن عمر نِعْمَ الرَّجلُ لو كان يقوم الليل ۳ فرجع عبد الله لا ينفك ملازماً قيام الليل
وقد يكون لم يعلم في الوقت إلا بالذي أخبر به في الحديث الواحد ثم بعد ذلك أخبر بالغير كما قال عليه السلام في حديث عذاب القبر ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا ۳ لأن نزول الأحكام مفرَّقةً أيسر على المكلَّف من أن تكون جملة هذا من طريق اللطف والله لطيف بعباده
وفيه وجوه أخر لأن دوام تعمير الأوقات بالأخبار بأمور الدين وبشائره وأحكامه فيه تنشيط لنفوس العبيد وإظهارٌ للرَّحمة بهم فإن تردّدَ أوامر المولى على العبيد وبشائرهم وجوائزهم ومراسلاتهم دليل على العناية بهم ولا شيء أفرح لقلوب العبيد من علمهم باعتناء المولى بهم وتكرار نِعَمِه عليهم وبهذا المعنى ذكر عن أيوب عليه السلام لمّا عافاه الله عزّ وجلَّ أنزل عليه فراشاً من ذهب مَلا كلَّ ما له من الأواني ثم رأى جرادة من ذهب تطير فجرى وراءها فأوحى الله عزّ وجلَّ إليه أَمَا أقنَعَكَ كلُّ ما أعطيتك ٤ قال بَلَى يا ربّ ولكن من يَشبَعُ من خيرِك فشكر الله له ذلك
الوجه الثاني فيه دليل على أن أعمال الخير دالة على سعادة الشخص يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله فجعل موجب الظل تلك الأعمال

الوجه الثالث فيه دليل على أن جميع أفعال البر مطلوبة منا وإن لم يكن بعضها فرضاً يؤخذ ذلك من وصفه عليه السلام ثواب الأعمال ولم يأمر بعملها لأن كثرة الربح تحض بضمنها
على المعاملة
الوجه الرابع فيه دليل على أن أمر الآخرة بضد أمر الدنيا يؤخذ ذلك من أن الدنيا ندب إلى التقليل منها كقوله عليه السلام فاتَّقوا الله وأَجْمِلوا في الطَّلَب ٥ والآخرة رغب في التكثير منها وإن كان الشخص معه من العمل ما يتخلص به وقد زاد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَلَا تَمنُن
۱ زاد اللام للتقوية
رواه الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر عن حفصة بلفظ آخر

هو جزء من الحديث رقم ۱ في هذا الكتاب ٤ أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ٥ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ومطلعه إن روح القدس نفث في روعي

تَسْتَكْير ۱ أي لا تقل معي من أعمال الخير ما يكفيني فتقلل من العمل - على أحد الأقاويل -
مما قيل في معنى الآية
الوجه الخامس فيه دليل على أن إعطاء الأجور على الأعمال لا يترتب على علة عقلية ولا علية يؤخذ ذلك من أن هذه الأعمال السبعة فيها واجب وفيها مندوب والثواب فيها على حد واحد وقد أجمعت الأمة - بمقتضى الأدلة الشرعية - على أن الفرائض أعلى من غيرها من الأعمال فلو كان الثواب عِليَّةً من العلل ما كان يسوي بين ثواب الفرض والندب وقد سوى هنا
بينهما فليس ذلك لعلة
فإن احتج محتج بأن يقول تَسَاوَوْا في أن الظل عَمَّهم وتفاوتوا فيه في عظمته وامتداده وغير ذلك من حسن أوصافه كما أن أهل الجنة يدخلون الجنة ويتفاوتون في المنازل فيها فالجواب أن الذي أخبرنا بالجنة أخبرنا بتفاوت المنازل فيها والذي أخبرنا بالظل لم يفرّق وأمور الآخرة هي غَيْب والغيب لا مجال فيه للقياس ولا للعقل وإنما الشأن فيها التصديق بها على ما جاءت به اللهم إلا أن يكون بعض ما يُستَدَل به على الزيادة في الأجر إذا نُظر من طريق الجمع بينهما فيُرجع إلى طريق الأخبار كما هو أيضاً
الوجه السادس فيه دليل على أن بعض الفرائض ثوابها أعلى من ثواب غيرها لأن الذي هنا مذكور من الفرائض ثوابه أكبرُ من غيره من الفرائض لأن المعافاة من هول ذلك اليوم أكبر الثواب لأن من عوفي منه لم يبق عليه خوف
الوجه السابع فيه دليل على أن بعض المندوبات ثوابها أعلى من ثواب بعض الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله والأكثرُ من السبعة هو من المندوب وهذا الثواب لم يأتِ مثله على بعض الفرائض
وهنا بحث كيف يمكن أن يكون بعض المندوبات أفضَلَ ثواباً من بعض الفرائض وقد قال حكاية عن مولانا لن يتقرب إلي المتقربون بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم وصيغة أحبّ تعطي الأفضلية في الفائدة فالجواب أنه ما يصح له علم ثواب المندوب إلا بعد تحصيل المفروض لأنه إذا عمل المندوب ولم يأت بالمفروض استوجب دخول النار وقد جاء أن وادياً في جهنم يُسمَّى الغيّ هو لمن ترك شيئاً من الفرائض ومن ترك المندوب فلا عقاب عليه
غير أنه فاته ثواب عظيم
1 سورة المدثر الآية ٦
انظر تخريجه في الحديث ٦ ومطلعه من عادى لي وليا

فصورة الجمع بين الوجهين أن نقول إن الفرائض أرفع لأنها بالوعد الجميل من جاء بها لا
زيادة
يدخل النار وبعض المندوب أكثرُ ثواباً من الفرض لكن ذلك الفرض - وإن كان ثوابه أقل من أجر المندوب ـ فقد فاته الفرض بأمرٍ أعظم من ذلك وهو البعد من النار وقد قال لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيماً ۱ فوقعَ الفرقُ بأن الواحد - وهو المندوب - أكثرُ ثواباً والآخرُ وهو الفرض أكثر فائدة والفائدة تحوي أشياء من المنافع عديدة وتعظيم الأجر لا يقتضي على غيره غير التفضيل في ذلك الوجه الواحد ليس إلا كقولنا مثلاً زيد أجمَلُ من عَمْرو وعمرو خير من زيد فزيد ما فضل عَمْراً إلا في الجمال ليس إلا وعمرو فاق زيداً في أشياء عديدة لقولنا هو خير منه فنسبة ما فضل عليه في الوجه الواحد بنسبة الذي زاد عليه من وجوه عديدة كنسبة صاحبين كانت خياطة ثوب أحد الصاحبين خيرا من خياطة ثوب صاحبه وثوب صاحبه
أرفع منه فأشرفهما وأرفعهما في اللباس الذي ثوبه أرفع وإن كانت خياطة ثوب صاحبه أرفع
الوجه الثامن قوله عليه السلام يوم لا ظل إلا ظله الظلال كلّها لله مِلْكٌ في الدنيا والاخرة فالحكمة في الإخبار بهذه الصيغة هنا أن ظلال الدنيا - وإن كانت له جل جلاله - فمنها ما قد جعلها عزّ وجلّ ملكاً للعبيد يتملكونها بحسب ما شرع لهم ذلك لا يتصرف فيها أحد إلا برضاهم حكماً منه بذلك مثل ظلال الحدائق المتملكة وظلال الله عزّ وجلّ لم يجعل لأحد عليها ملكاً فمن احتاج إلى شيء منها أخذَها دون عَنَت في ذلك مثل الظلال التي في القَفْرِ أو قد خرج أصحابها عنها الله عزّ وجلّ وسبَّلوها له وظلالُ الآخرة ما فيها مُباح بل كلها قد تُمُلكت بالأعمال التي عَمِلها العاملون الذين هداهم بفضله لتلك الأعمال التي ذلك ثوابها بمقتضى قوله المؤمنُ في ظلِّ صَدَقته يومَ القيامة ٢
التي قد
فليس هناك لصعلوك الأعمال ۳ ظل فكأنه عليه السلام يقول ليس هناك ظل إلا لمن عمل هنا الله فلما أضاف أعمال البر هنا إليه كما قال عزّ وجلّ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ٤ أي ما كان لوجهه فهو باقٍ يَنتفع به صاحبه في الدارين وما ليس لوجهه فهو - وإن كان نفعه موجوداً لصاحبه في هذه الدار - لم يجده هناك حيث الحاجة إليه فهو هالك أي ليس يُنتفع به وقد يتضَرَّرُ به فيكون أبلغ في الهلاك فأضاف ثوابها في الآخرة إليه ٥

۱ انظر تخريجه في الحديث ۱۱
انظر الحديث رقم ۱۳۸
۳ صعلوك الأعمال الفقير إلى الأعمال الصالحة المقبولة في الآخرة
٤ سورة القصص من الآية ۸۸
٥ أي في قوله وجهه حيث أضاف الأعمال أعمال البر إليه تعالى
۳۳
L

الوجه التاسع فيه إشارتان عجيبتان إحداهما الإرشاد إلى الإخلاص في العمل ولهذا قال بعض الفقراء الصدق والإخلاص علامة الخلاص والثاني هي رد الفرع إلى أصله بإضافة الفرع الذي هو الظل إليه كما كان الأصل في الدنيا مضافاً إليه وهو من بديع الحكمة ويترتب على هذا من الفقه الحث على الأعمال الخالصة التي توجب هناك ذلك الظل
المبارك جعلنا الله ممَّن أجزل له منه الحظ بمَنِّه
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة القادر جل جلاله يؤخذ ذلك من أن الأعمال هنا
معان وهناك بهذا الخبر الصدق جواهر محسوسات
وهنا بحث هل هذه السبعة خصت بهذا الثواب تعبداً لا يُعقل لها معنى أو هي معقولة المعنى فإن قلنا إنها تعبّد غير معقولة المعنى فلا بحث وإن قلنا إن معناها معقول فما هو فالجواب - والله أعلم - أن العلة فيها على وجهين
أحدهما قوة قهر النفس والهوى وهو من أكبر الموجبات لخير الدنيا والآخرة لأنه جل جلاله قال وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۱ وقال رجعتم من الجهاد
الأصغر إلى الجهادِ الأكبر وهو جهاد النفس و الوجه الآخر هو حقيقة الإخلاص وقد قال جل جلاله وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۳ وقال إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قالوا وما إتقانه يا رسول الله قال يُخلصه من الرياء والبدعة ٤ وترك الرياء هو عين الإخلاص وكلتا العلتين الحامل عليهما خوفُ الله عزّ وجلّ فاختَبِرْها واحدةً واحدةً تجد ذلك
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام الإمام العادل فلأنه لا يمنَعُهُ من الظلم ولا يَفْهَرُ نفسه على العدل مع تمكنه من الظلم لقدرته عليه من طريق الحكم وقدرته على قهر غيره ولا أحد يقدر أن يصده عنه عنه إلا شدة خوفه من الله وقد جاء الحديث عن الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات فلما مات فعلوا به ذلك فجمعه الله وقال له لِمَ فعلتَ هذا قال من خشيتك يا رب فغفر له فشدة خوفه كان منجِياً له الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام وشاب نشأ في عبادة ربه فلأن العبادة هي قهر النفس وخروجها عن راحتها وحملها على المجاهدات والدوام على ذلك
۱ سورة النازعات من الآية ٤٠ وتمام الآية ٤١ انظر تخريجه في الحديث ١٦ ومطلعه قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَم
۳ سورة البينة من الآية ٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ومطلعه إن الله يحب إذا عمل العبد عملاً أن يحكمه
قوة شهوات
٣٢٤

لهذا
سافة
ظلَّ
هنا

14
النفوس زمان الشباب فما حمله على ذلك إلا الخوف الشديد ولهذا المعنى يُروى عن بعض أنه كان يأوي إلى فراشه فلا يقدر على النوم فيقول اللهم إنك تعلم أن خوف نارك
المتعبدين
منعني
الكَرَى ثم يقوم فيصلي حتى يصبح الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام ورجل قلبه معلق بالمساجد فحقيقة الإخلاص توجب تعلق القلوب بالعبادات وأرفع ما تكون الصلاة في المساجد فهو مشغول بأرفع العبادات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يسمّى حمامة المسجد لكثرة ملازمته إياه
الوجه الرابع عشر قوله عليه السلام ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه فهو يوجب شدة الإخلاص منهما حتى لم يبق للنفس شهوة ولا ميل لشيء من الأشياء إلا لله و بالله الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام ورجل دعته امرأة ذات مَنصِب وجَمال فقال
إني أخاف الله فهذا لِعِظَم قَهْرِ النفس عن هواها والحامل على ذلك شدة الخوف من الله وهنا بحث وهو لِمَ قال عن المرأة مع هذين الوصفين اللذين فيها لأن ذات المرأة وحدها من أكبر الفتن وقد قال ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء١ فذكر الوصفين كل واحد منهما من أقوى البواعث في شهوات الجماع والرغبة فيها وقد قال تزَوَّجُ المرأة لجمالها وحسبها لأن ما ترغب النفوس في واحد طبعاً إذا اجتمع أكثر من واحد كان أشد في الرغبة فيه وقوة الشهوة فمن أجل ذلك عَظُم الأجرُ لتاركه
ومثل ذلك يذكر عن بعض أهل الصوفة كان بعضهم ممسكين في الخلوة وبعضهم غير ممسكين ثم فتح عليهم بطعام طيب فقال الشيخ قدَّموا أهل الخلوة فخرج بعضهم عنه لإخوانه قبل أن يعرف ما هو وقام بعضهم فكشف الطعام حتى عاينه وعرف ما هو ثم بعد ذلك خرج عنه وقام بعضهم فعاينه ورفع منه لقمة لفيه حتى عرف طعمه بها وتأكدت عنده قوة الشهوة لذوقه طيب الطعام ثم بعد ذلك خرج عنه فكان زهد الأكل اختياراً للطعام أعظم منزلة لقوة شهوته وقهره لها الوجه السادس عشر قوله عليه السلام ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تُنفِقُ يمينه فهذا تحقيق في الإخلاص ومثل ذلك يُرْوَى عن بعض أهل الصوفة أنه كان قلما يقبل شيئاً فلما كان ليلةً بعد العشاء الآخرة فإذا رجل يقرع الباب فخرج إليه فإذا هو رجل من جيرانه وكان صانعاً في الخياطة
۱ تقدم تخريجه في الحديث ۳۳
رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٣٢٥

فقال له خطتُ اليوم بكذا وكذا واشتريتُ به هذا الطعام معه وما يُحتاج إليه في البيت ورأيت أنها من جهةٍ حلال ارتضيتُها لك وهذا ليل مظلم ووالله ما عرفتُ أحداً ولا راني أحد حين جتك وها هوذا ثم رَمَى ما كان بيده بالباب وولى فما حَمَلَه على هذا الإخفاء العظيم إلا رغبه
في الإخلاص في العمل
عند
الوجه السابع عشر قوله عليه السلام ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً ففَاضَت عيناه فلأنه اجتمع له الوصفان الخوفُ والإخلاص وهذه الأوصاف الحميدة لا يقع منها شيء إلا ذهاب أوصاف النفس وعلى قدر غيبتها يكون الفتح ولذلك قال بعض من نسب إلى القوم إذا رأيت نفسك لم تَرَ غيرَها وإذا لم تَرَها لم يبق لك شيءٌ إلا رأيته فارغب في رؤية ما لا تُحصيه ومن المحاسن ما لا تعرف منه ذرّة بالإعراض عما لا يساوي في الحقيقة ذرَّة فإذا كنت بهذا الوصف عاد الورى بأسره لا يعدل منك ذَرَّة
عدا
وبقيت بحوث منها
البحث الأول هل الإمام العادل هنا الذي له الحكم على الخاصة والعامة وله البَيْعَة أو
الإمام كل من كان مسترعى رعية قلت أو كَثُرَتْ لقوله عليه السلام كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيَّتِه احتمل لكن الأظهر الذي له البَيْعَة ولا
ننفي
الآخر بالأصالة
البحث الثاني قوله في الشاب الذي نشأ في عبادة ربِّهِ هل هو مقيَّد أو مطلق ظاهره مطلق وهو مقيد بأصول الشريعة وهي كثيرة فمنها ما تقدم ذكره من قوله إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يُنْقِنَه قيل وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة وإلا كان هباءً منثوراً البحث الثالث قوله في الرجل الذي قلبه متعلق بالمساجد فليس على عمومه أعني أن الرجل يكون قلبه متعلقاً بكل مسجد في الدنيا فإن هذا المعنى لا فائدة فيه ولا يمكن أيضاً أن يتعلق قلب أحد بما لم يرَ ولم يسمع ولم يعرف فما بقي إلا أنه تحرز بقوله بـ المساجد ولم يقل بـالمسجد لأن هذا الاسم من أسماء الغلبة للكعبة أو لمسجده ل لأنه إذا سمع السامع من الشارع عليه السلام هذا الفضل العظيم لم يسبق لقلبه إلا أحد هذين المسجدين فعدل عن وصف المسجد بالفرد إلى الجمع وهو الجنس ويكون المعنى أي مسجد كان من جملة المساجد كما قال مولانا جل جلاله ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ لجنس الفقراء والمساكين فإذا أعطى إنسان صدقته لمسكين واحد فقد وقعت في مستحقها وأجزأته
۱ سورة التوبة من الآية ٦٠

أي
٣٢٦

ރ
حسین
ند
ذا
عن فرضه ويكون معنى تعلق قلبه بها أنه إذا خرج منه بقي قلبه متعلقاً به أن يعود إليه لأداء الصلاة التي تأتي بعد وإنما المساجد لما بنيت له
وفيه من الفقه أن هذا الذي قلبه متعلق بالمساجد إنما هو زائد على ثواب صلاته لأن ثواب الصلاة قد جاء ما حَدُّه في الجماعة وما حده في الوحدة وجاء ثواب الخُطى إلى المساجد وما قدْرُه وانتظار الصلاة وما قدر الأجر في ذلك فما بقي من مقابلة هذا الثواب العظيم إلا تلك النية المباركة وقد قال نيه المؤمنِ أبلَغُ من عمله ۱ لأن تلك النية المباركة هي نتيجة قوة
خالص إيمانه

البحث الرابع قوله في الرجلين اللذين تحابا في الله هل يكون ذلك على عمومه - أعني إذا تحابا في الله إلا أنه يجد كل واحد منهما منفعة من صاحبه أو يرجوها منه إما في العاجلة أو الآجلة مثال ذلك أن يصحب أحدهما الآخر ويجد به عَوْناً على شيء من دنياه حسًا أو معنى أو يقول يكون لي عُدّةً في الآخرة يشفَع لي أو ما أشبه ذلك - أو لا يكون له ذلك الظلّ إلا حتى تكون صحبتهما الله عزّ وجلّ لا لغيره احتمل والظاهر - والله أعلم - أن يكون الله خالصاً لا لِحَظ دُنْيَوِيٌّ ولا أُخْرَوِيّ كما روي في الهدية عن عبد الله بن عمر أنه قال من كانت هِبْتُه لوجه صاحبه فله ذلك وليس له على الله ثواب ومن كانت هِبَتُه لوجه الناس فله ذلك ومن كانت هِبَتُه للثواب فإما أثابه الموهوب له أو يَرُدُّ هِبَتَه وإن كانت خالصة الله فتلك التي يُثيبه الله عليها
ويقوّي ذلك ما قاله عن مولانا جل جلاله يقول يوم القيامة لمن خلط في عمله
لغير الله شيئاً أنا أغْنَى الشركاء إذهب فخُذِ الأجر من غيرِي الذي شَرِكتَه فيه
فالمتحابون في الله على ثلاثة وجوه
إما أن يكونا تحابا في الله مع رجاء حطام في هذه الدار معنويا كان أو حسنًا فهذا طالب حاجة وَهِمَّتُه في دنياه فليس له إلا حاجته قضيت أو لم تُقضَ كما قال الله مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
والثاني أن تكون صحبته الله مع رجاء حظِّ أَخْرَوِيّ حسّا كان أو معنى فهذا أيضاً طالب حاجة لكن نفسه أرفع من الأول وهو الأكثر عند المنتسبين للخير فله حاجته قضيت أو لم
تُقضَ
۱ سلف تخريجه في الحديث
رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
0

والثالث الذي تكون صحبته الله ليس إلا فهذا الذي يَصْدُق عليه اسم المتحابين في الله على حقيقة اللفظ وإذا كان كذلك لا يغيّره من أخيه شيءٌ يَصدر له منه وإذا كان على غير هذا الوجه فقلما يثبت عند الامتحان فإذا كانت نية أحدهما الله ونية الآخر لغير ذلك فلكل امرىء ما نَوَى
وقد ذكر عن بعض من اصطحبا الله أنه جفا أحد الأخوين أخاً له فقال الذي جُفي عليه للآخر امْضِ يا أخي فاحضر مجلس فلان من أهل الصوفة في الوقت فامتثل ما قال له صاحبه فلما حضر المجلس تكلم ذلك السيد في ذلك المجلس على ما كان وقع من ذلك الشخص لصاحبه وتبين له من المجلس أنه تعدّى على أخيه وجفاه فتاب واستغفر وعزم أن يعود فيقبل أقدام صاحبه لعله يعفو عنه فلما دخل على صاحبه أخبره بالذي جاء بسببه فقال له يا أخي افعل ذلك مع نفسك فإني ما صحبتك إلا الله خالصاً فكيف يعزّ عليَّ ما يصدر منك وإنما وجهتك في حق نفسك لا غير

البحث الخامس قوله طلبته امرأة ذات منصب وجمال هنا من الفقه أن من السنّة الكناية عن الشيء القبيح شرعاً والإعراض عن تسميته يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام طلبته والطلب هنا يعني طلبت منه وقوع الفاحشة المحرمة فكنى بطلبته عن هذا الأمر الممنوع شرعاً
ولم يفصح به
البحث السادس قوله أخفاها هل هذا على العموم - أعني صدقة الواجب والتطوّع - أو معناه الخصوص فيريد بهذا صدقة التطوّع لا غير صيغة اللفظ محتملة لكن الذي قاله العلماء أن أفعال البرّ كلها الفرضُ منها الأفضلُ فيه ظهوره والتطوّع كله الأفضل فيه إخفاؤه لأنه قال صلاة المرء في بيته أفضل له إلا المكتوبة ۱ فإذا كانت الصلاة ـ التي هي رأس الدين كذلك فالغير من باب أولى وسيأتي الكلام على هذا في موضعه من الكتاب - إن شاء الله البحث السابع قوله ذَكَرَ الله خالياً ففاضت عيناه هل يعني بقوله خالياً حسّاً أو معنى أو مجموعهما وأعني بقولنا حِسّاً أن يكون في موضع وحده ليس معه أحد من بني آدم وأعني بقولنا معنى أنه لا يكون الموجب لبكائه إلا خوف الله عزّ وجلّ ليس إلا ومجموعهما وهو
حين يكون وحده ولا يكون موجب بكائه إلا خوفَ الله
فأما إذا كان الوجهان معاً فلا شك أن هذا أكمل الأحوال
وأما إذا كان خلياً من دون البشر ووافق بكاؤه فكرة أخرى ليست من الله ولا من ذكره
۱ رواه البخاري والنسائي وابن حنبل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولفظه صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
۳۸

جد
ما

بشيء فلا خلاف أن هذا الحال ليس المشار إليه هنا وهي حالة مذمومة لأنه مُراء إذ أظهر أنه
من أجل الله لكن خرج الدمع بحكم الوفاق عند ذكر الله في الخارج وهو في الحقيقة غير ذلك وأما الوجه الثالث وهو أن يكون ذكره في جمع وذكر الله وقلبه خال مما سواه وكان ذلك الذكر هو المؤثر لخروج الدمع فيرجى أن يكون من هؤلاء المباركين لأنه يَصْدُق عليه خالياً معنى فإذا وقع وجه ما محتمل رُجي والمتحقق مقطوع به وهو الجميع كما تقدم وهنا بحث آخر وهو هل قوله ذكَرَ الله هل يكون الذِّكْرُ المعني هنا باللسان والشفتين أو بالقلب وإن لم يتحرك اللسان أو بأيهما كان يُسمَّى ذاكراً فالجواب أنه ينطلق على كل واحد من هذه الوجوه أن يوصف صاحبها ۱ بالذكر بدليل قول سيدنا في الحديث الصحيح كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن ذَكَرَني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومن ذكرني في مَلاً ذكرتُه في ملأ خير منهم فقد سمّاهما ذاكِرَيْنِ والطفيلي يتعلق بأقل من هذا وأما على مذهب أهل الصوفة فذكر القلب عندهم أفضل وأما على ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذِكْرُه عند الأمر والنهي فذكره عند الأمر والنهي خير له من اللسان لأنه قال ذِكْرُ الله عند أَمْرِهِ ونهيه خير له من ذكره باللسان
فالجواب عن قول عمر رضي الله عنه نعم إن ذكر الله عند أمره ونهيه خيرٌ من ذكره باللسان لكن لا يتناوله هذا الحديث ويُرجَى أن يكون حاله أرفعَ من هذا
وأما ما قاله أهل الصوفة فعلى ملاحظة قول سيدنا بَضْعَةٌ في الجسد إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسد ألا وهي القلب ۳ فعلى هذا يترجّح قولهم على قول غيرهم والشأن العمل على الخروج عن الخلاف والأخذ بالكمال في كل الأحوال
جعلنا الله مِمَّن مَنَّ عليه بذلك بِمَنْه امين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

1 الصواب صاحبه أخرجه عبد الله بن المبارك عن خالد بن معدان في الزهد والرقائق
۳ جزء من حديث رواه الشيخان وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما
۳۹

حديث تقديم العشاء على الصلاة
عن عائشة ١ رضي رضي الله عنها عن النبي ل قال إذا وُضِعَ العَشاءُ وأُقيمتِ الصَّلاةُ
فابدؤوا بالعشاء
ظاهر الحديث يدل على جواز تقديم العشاء إذا وُضِعت وإن أقيمت الصلاة والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الأمر هنا على الوجوب أو الندب أو الإباحة أو هو على جهة التوسعة ليتأتى بذلك للمكلَّف العمل بفقه الحال فالذي يكون لحاله أرفَعَ يفعل فالأمر محتمل للجميع لكن الأظهر - والله أعلم - أن يكون هذا توسعة ليكون المكلف في كل وقت يأخذ بالأصلح في دينه فإن كان مَثَلاً وُضعت العشاء وله بها حاجة أكيدة من حيث أن قدَّم الصلاة عليها كان خاطره فيها أعني في عشائه أو به ضعف عن توفية أركان صلاته فإذا تعشّى وجد بها قوة على توفية صلاته فهذا وما أشبَهَه تقديمُ العَشاء في حقه أفضل وإن كان ممن لا شهوة له في عَشائه وقواه مجموعة أو أنه يخاف إن تعشى يلحقه ما يلحق بعض الناس إثر الطعام من الكسل فهذا وشبهه تقديم الصلاة خير له وإن كان مِمَّنِ الأمرُ عنده سِيّان قدَّم العَشاء أو الصلاة لم يظهر له ترجيح بينهما فهنا ينظر لوقت الصلاة فإن كانت مَغرِباً فالأولى تقديمها لأنه الوقتُ المُجمع على فضيلته وإن كانت العِشاء فلا يخلو أن يدرك جماعة أخرى أو ليس فإن كان يدرك جماعة أخرى فتقديم العشاء أفضل لأن تأخير الصلاة وترك الشغل بعدها أفضل وإن كان لا يدرك جماعة أخرى فتقديم الصلاة أولى لأنه من صلاها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكما رجحنا بالنسبة إلى

۱ انظر ترجمتها في الحديث ۱
۳۳۰

النظر إلى حاله فكذلك يلزمه الترجيح لنظر الغير إن كانت عشاءُ غيره ملتزمةً مع عشائه۱ لقوله كُلُّكُمْ رَاعٍ وكلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ
وُضِع
الوجه الثاني فيه دليل على أن وقت المغرب ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء لأن العشاء ما لها من أوقات الصلوات بِجَرْيِ العادة عندهم إلا صلاة المغرب وصلاة العشاء والغالب منها موافقتها لصلاة المغرب بدليلين أحدهما ما عرف من حال الصحابة رضى الله عليهم من كثرة دوام صومهم والاخر من الحديث من قوله عليه السلام وأقيمت الصلاة
وإقامة الصلاة لا يسمعها إلا من يكون في المسجد وما قرب من المسجد وهذا اللفظ عام يتناول من يكون في المسجد ومن لا يكون في المسجد بقُرْب أو بُعْد وهو الأكثر وكيف يسمع الإقامة من ليس في المسجد وهو بالبُعد منه فإذاً لا يمكن لأن الإقامة فيما عدا المغرب ـ إذ ليس لها زمان معيَّن يعرف به وقتها - لأنه قد جاء عن سيدنا أنه مرةً يُوقع الصلاة في أول الوقت وأخرى في أول الوقت والوقت متمكن ۳ والخلفاء بعده كانوا يقعدون في آخر المسجد فلا يقيمون الصلاة حتى يتجمع الناس فدل ذلك على عدم تعيين وقت الإقامة ولم يختلف النقل عن سيدنا وعن الخلفاء بعده ومن بعدهم إلى هلم جرًا أن المغرب لا تتأخر الإقامة عن وقت الأذان بها فكان سَمْعُ الأَذان سَمْعَ إقامتها فبان بهذين الدليلين أن الظاهر - من الإشارة بالصلاة في الحديث - صلاة المغرب وثبت بهذا الظاهر أن صلاة المغرب لها وقت ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فابدؤوا بالعشاء فلو لم يكن وقتها ممتدا ما أمرهم بترك الصلاة حتى يخرج وقتها وهم ذاكرون وقادرون الوجه الثالث فيه دليل على أن الأفضل في صلاة المغرب أولُ وقتها يؤخذ ذلك من قوله إذا أقيمت الصلاة فلولا دوامه عليه السلام - على أن إثْرَ الأذان لها تُقام حتى رجع ذلك لها عَلَماً لا يحتاج فيه لغيره - لما أخبر بِسَمْعِ الأذان عن سَمْعِ الإقامة وما دام عليه الا الله وهو الأفضل
بلا خلاف
الوجه الرابع يؤخذ من هذا من الفقه أن العادة إذا كانت لا تنخرم قامت في الإفصاح بها وأغنت عن النطق بما دلت عليه بلا إفصاح به
2
10
مقام
۱ لعله يعني أنه إذا كانت الوليمة أو المأدبة جماعية في أسرة وكانت الجماعة مرتبطة به وقلوبهم مشغولة بالطعام فيقدر لهم حالهم وهذا من فقه الحال
جزء من حديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ أي متسع
۳۳۱

ويؤخذ منه من الفقه أن من لازم شيئاً من الأشياء لا ينفك عنه كان وصفه بذلك الشيء زيادة
بيان في تعريفه
يؤخذ ذلك من أن الأذان شرع للإعلام بدخول وقت الصلاة والإقامة شرعت للإعلام للدخول في الصّلاة فلما لازمت الإقامة في المغرب للأذانِ زادت في تعريفه وصفاً لأنه يُعلم به الأمران معاً ويُخبَر عنهما بأحدهما ويصدق عليه كما فعل هنا سيدنا الذي أخبر ـ
بالإقامة كما تقدم
عنه
الوجه الخامس هنا بحث لم قال إذا وضع العشاء ولم يقل إذا كان وقت العشاء وبحث آخر هل هذا خاص بالعشاء لا يمكن في غيرها أو هو جائز في العشاء وغيرها ويكون ذكر العشاء هنا من باب التنبيه بالأعمّ على الأخص
فالجواب عن الأول أن وضع العشاء وهو جعلُها بين يدي صاحبها سبب لتحريك الشهوة للطعام مما يوجب تعلّق القلب به وتعلّقُ القلب به يوجب عدم الحضور في الصّلاة وعدم الإخلاص وعدم الخشوع وهذه الأشياء هي من الأسباب الموجبة لعدم قبول الصلاة فلما كان حضور طعامه علةً يتوقع منها عدم القبول قيل له داوِ علتَك بأكلك طعامك وحينئذ تقدّم لصلاتك لأن مولانا جل جلاله يقول ﴿ فَإِذَا فَرَغَتَ فَأَنصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ١ قال علماؤنا إذا فرغت من أمور ضروراتك فإن القلب أبداً متعلق بضروراته فإذا فرغ منها حَسُنَ الدّخول في العبادة وكما رُوي عن عبد الله بن عمر أنه إذا كان صائماً ورأى من بعض جواريه ما يعجبه إذا كان وقت المغرب يأكل ويجامع ويتطهر وحينئذ يصلي فهذا السيد عرف معنى الآي والحديث ولذلك كان أَتْبَعَ الناس للسنة فإذا دخل وقت العشاء ولم تكن قُدِّمت له فيجب على ذلك تقديمُ الصلاة لأنه يجتمع له تضييع لا هو يأكل طعاماً ولا هو يؤدي ما عليه من صلاته الوجه السادس يترتب عليه من الفقه أن الحق للمتقدم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
إذا وضع العشاء لأن وضع العَشاء مقدَّم على الصلاة فكان الحق لها الوجه السابع فيه دليل لأهل الخواطر لأنهم يقولون الحكم للخاطر الأول وأما قولنا هل هذا خاص بالعشاء ليس إلا أو هو فيها وفي غيرها فالجواب إن قلنا إن هذا تعبد غير معقول المعنى فيكون مقصوراً على ما جاء فيه لا غير وإن قلنا إنه لعلة وهو الأظهر - والله أعلم - فإذا فهمنا العلة عدينا الحكم والعلة والله
۱ سورة الشرح الآيتان ۷ و ۸

۳۳

ـادة
به

أعلم هنا إن كانت ما أشرنا إليها قبل من تعلق القلب بالطعام ليس إلا فإذا كان هذا جائزاً في المغرب مع ضيق الوقت فمن باب أحرى في غيرها
وإن قلنا إن قوة الشهوة للطعام لا تراعى إلا مع الصوم فيكون موقوفاً على وجود هاتين العلتين الصوم وتعلق القلب بالطعام
وإن قلنا إنما احتيج هذا في المغرب وحدَها لكون العمل على ألا تؤخّر وأن غيرها من الصلوات لك أن تؤخرها إلى أي وقت شئت من أجزاء وقتها المختار بغير علة أكل ولا غيره
فلا بحث
الوجه الثامن فيه دليل على أن من السنّة المحافظة على المندوبات ولا تُترك إلا لضرورة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة وصلاة المرء في الجماعة من المندوبات على رأي أكثر جماعة أهل العلم ودلَّ أنه إذا لم يكن له عذر لا يترك المندوب لأنه لم يُبح له تركُ الصلاة إلا من أجل علّة الطعام وتَقدُّمه
وهنا بحث في قوله عليه السلام إذا وضع العشاء هل هذا على ظاهره أعني أنها توضع بين يدي صاحبها أو يكون وضعها بمعنى أنها قد استوت فلا يمنع من تقدُّمها وأكلها إلا الصلاة لأن العرب تسمي الشيء بما يقرب منه احتمل الوجهين ونجد أيضاً العلة مع وجودها في الوقت سواء كانت بين يدي صاحبها أو حاضرة في المنزل ليست بين يديه موجودةً في النفس
ذلك التعلق
الوجه التاسع فيه دليل على أن المتبع للسنة تَصرُّفه كلُّه طاعةٌ مأجورٌ عليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا وُضِع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء لأن المتبع للسنة لا يبدأ هنا بالعشاء إلا لأمر الشارع عليه السلام بها فيكون مأجوراً لكونه ما وقع أكله لهذه العشاء إلا للأمر بها وغيره لم يأكل عشاءه إلا اختياراً منه ورعياً لشهوته إليها وكثير من يأكل للأمر ومَن يأكل للشهوة وكذلك يكونان في جميع أمورهما كلٌّ على مقتضى حاله

الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين تركوا ملاحظة الشهوة وعملوا على ذلك حتى لم يبق لهم منها شيء لأنها هي أو جبت تأخر العبادة فإذا عُدِمت أوقعَتِ العبادة في
وقتها المختار
التي
الوجه الحادي عشر فيه دليل على رفق المولى بعبيده وأنه عزّ وجلّ غنيّ عن عبادتهم يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بتقديم العشاء على الصلاة لأن الغذاء مما تشتهيه النفوس وتستريح به وتتنعم والعبادة إنما فيها التعب في الغالب من أحوال الناس لأن أهل الخصوص
۳۳۳

يتنعمون بالعبادة كما يتنعم غيرهم بالأطعمة الطيبة ولهذا المعنى ذكر عن إبراهيم بن أدهم ۱ أنه قال مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قالوا وما نعيمها قال لذة الطاعة خرجوا ولم يذوقوها فلا دنيا لهم ولا آخرة وقد كان سيدنا يقول أرحنا بها یا بلال ٢ يعني الصلاة الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الأحكام الشرعية أتت على الغالب من أحوال الناس يؤخذ ذلك من تقديم العشاء على الصلاة لأنه جُبلت النفوس بالميل إلى طعامها هذا هو الغالب من أحوال الناس فجاء الأمر على الحكم الغالب
الوجه الثالث عشر يؤخذ منه أن الخطاب العام يشترك فيه أهل الخصوص والعوام والخطاب الذي هو للخواص لا يشاركهم فيه العوام مثل هذا الأمر هنا اشترك فيه الكل ومثل المحسنين لم يدخل مع المحسنين غيرهم

وأما الدليل على كونه عزّ وجلّ مستغنياً عن عبادة العابدين فلأنه لو كان محتاجاً إليها لم يكن عزّ وجلّ يسامحهم في تأخيرها عن وقتها واشتغالهم بما فيه راحة نفوسهم الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن أمور الدنيا ما تستباح عند أهل الإرادة إلا أن تكون عوناً على الآخرة يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يبح لهم تقديم الطعام الذي هو من حظوظ النفوس - وحظوظ النفوس كلها دنيوية - إلا من أجل حُسن الصلاة وإتمامها والصلاة أُخروية فأعظم أمور الدنيا هو الأكل الذي الكلُّ محتاجون إليه وغيره قد يستغنى عنه ولا يضر والأكل إذا عدم أوجب العدم في العادة المستمرة وهو عون على أعلى أمور الآخرة وهي الصلاة لأنه قال بين المؤمن والكافر ترك الصلاة ۳ فنبه عليه السلام في الحكم الأعلى من أمور الدنيا على الأعلى من أمور الآخرة فالغير هنا في حكم التَّبَع لهما فهما من باب التنبيه بالأعلى على
الأدنى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ انظر ترجمته في الحديث ۱ ٢ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من الصحابة
۳ أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه بلفظ بين الإيمان والكفر ترك الصلاة وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بلفظ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة
٣٣٤

حديث تخفيف الصلاة
عن ۱ أنس بن مالك ١ رضي الله عنه يقول ما صليت وراءَ إمام قط أخفَّ صلاةً ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمعُ بكاءَ الصَّبِيِّ فيخفِّفُ مخافة أن تُفتَنَ أمه
ظاهر الحديث تخفيف صلاة النبي الله مع إتمامها ورَعْيُه في تخفيفها أيضاً حقَّ الغير والكلام عليه من وجوه
كذلك
الوجه الأول تبيين هذا التخفيف والإتمام وهل هذه الحالة دائمة منه عليه السلام أو ليس
فالجواب عن الأول أن تخفيف الصلاة يكون بتقصير القراءة وقد يكون بتقصير القيام وقد يكون بتقصير أركانها كلها إلا أنه يُشتَرَط ألا يُخِلَّ بواحدٍ منها فإنه إذا أخَلَّ بواحد منها
فليست بصلاة
وما يُفهم التخفيف حتى نذكر شيئاً من عاداتهم المنقولة عنهم في طول صلاتهم لأن الله تعالى قد أمر بإطالة الصلاة في كتابه حيث يقول ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَنِتِينَ ﴾ ٢ والقُنوت في الصّلاة لغة هو طول القيام فيها وما كان النّبي ولا الصحابة يتركون ما هو أقلُّ من هذا فكيف بهذا الأمرِ الجَلي و ما تورّمت قدماه لا لا لا لا لا لا لا لو لا القيام في الصلاة وقد نُقل عن الصحابة وعن
1 أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي أبو حمزة صاحَبَ رسول الله عليه السلام وخَدَمَهُ عشر سنين فما عتب عليه في فعل ولا ترك روي له عن النبي عليه السلام ۸٦ حديثاً اتفق الشيخان منها على ۱٦٨ حديثاً وكان أكثر الصحابة نسلاً بدعوة الرسول عليه السلام بطلب أمه أم سليم بعد أن صلى في بيتها فقال اللهم ارزقه مالاً وولدا وبارك له وقد دفن من أبنائه لصلبه حتى مقدم الحجاج للبصرة بضعة وعشرون ومئة وجاوز عمره المئة توفي بالبصرة سنة ٩٣ هـ / ۷۱م طبقات ابن سعد ۱۰۷
سورة البقرة من الآية ۳۸
٣٣٥

السلف رضي الله عنهم أنهم يكونون في الركعة فيخرج الرجل إلى البقيع ويرجع إلى المسجد وهم في الركعة الواحدة لم يتموها وأن الرجل منهم كان يدعو في سجوده بعدما يسبّحُ الله سبحانه ويصلي على النبي ويستغفر لنفسه ولأبويه ولسبعين من أصحابه وقرابته ويُسميهم
بأسمائهم وأسماء ابائهم وقبائلهم
وحديث معاذ بن جبل أنه صلى المغرِبَ بقومه بسورة البقرة فقال له رسول الله أَفَتَّان أنت يا معاذ ۱ وإنما قال له ذلك لأنّ صلاة المغرب السنَّةُ فيها التخفيف من أجل أن ذلك وقت إفطار الصائم ووقتُ الضرورات أيضاً وكان بالمؤمنين رحيماً
وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصلي الصبح بسورة البقرة في الركعتين معاً فأبو بكر رضي الله عنه وعن جميعهم فهم عن النبي ل فجعل التطويل في محله والكل سادة ل
على خير
وما روي عن عثمان رضي الله عنه حيث قال بعض الصحابة ما حفظت سورة يوسف إلا من عثمان لكثرة ما كان يردّدها في صلاة الصبح
وقد جاء في الموطا عن أمّ الفضل بنت الحارث أنها سمعت عبد الله بن عباس ۳ يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا ٤ فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتِكَ هذه السورة إنها لآخرُ ما سمعتُ رسول الله يقرأ بها في المغرب
۱ جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أما معاذ فهو معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي عليه السلام وأحد الذين شهدوا المشاهد كلها مع الرسول الكريم وبعثه عليه السلام بعد غزوة تبوك قاضياً ومرشداً لأهل اليمن روي له ١٥٧ حديثاً ومن كلام عمر لولا معاذ لهلك عمر ينوّه بعلمه
انظر طبقات ابن سعد ۳/ ۱۰ والحديث ۱۳۷ من هذا الكتاب
أم الفضل بنت الحارث هي لبابة بنت الحارث الهلالية وتعرف بلبابة الكبرى تمييزاً لها عن أخت لأبيها اسمها لبابة وتعرف بالصغرى وأم الفضل هي زوجة العباس بن عبد المطلب من نبيلات النساء ومنجباتهن ولدت من العباس سبعة أحدهم عبد الله بن عباس أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة وكان الرسول الكريم يزورها ويقيل في بيتها روت ۳۰ حديثاً منها ٣ في الصحيحين توفيت نحو سنة ٣٠ هـ / ٦٥٠ الأعلام ١٠٢/٦ ۳ عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة الصحابي الجليل ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوة فلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة وشهد مع عليّ الجمل وصفّين وكفّ بصره في آخر عمره فسكن الطائف وبها توفي له في الصحيحين ١٦٦٠ حديثاً الأعلام ۸/٤

٤ سورة المرسلات الآية ١ 5 جزء من حديث أوله أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتك أنها لآخر اية إلخ أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
٣٣٦

وكانت قراءته عليه السلام بطيئة حسنةً كما نعتها الواصف لها قال كانت قراءته عليه السلام لو شئتُ أن أعدَّ حروفَها لَعَددتُها فبتقرير هذه الآثار علمنا أنه عليه السلام ما كان نهيه لمعاذ على الإطلاق وإنما كان لكونه طوَّلَ ذلك التطويل في المغرب وقد ثبت بالسنّة خلَفاً عن سلف أن العمل جرى على أن المستحب في صلاة المغرب أن تكون أخفَّ الصلوات ولولا ذلك ما كان أبو بكر رضي الله عنه يصلي في الصبح بالبقرة كما ذكرنا

فلما كان المتعاهَدَ منهم في الصّلاة التَّطويلُ فإذا كانت هناك علة كما ذكر من بكاء الصبي أو ما يشبه ذلك خفَّف عليه السلام حتى خرج بذلك التخفيف عن العادة الجارية لهم كما قال بعض الصحابة ما رأيتُ رسول الله صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاةَ الصّبح يوم النحر بالمُزْدَلِفة ۱ وليس يعني بـ ميقاتها أنه صلاها قبل الوقت الذي وُقت لها ذلك محال وإنما يعني لغير وقتها الذي كان عليه السّلام يصليها فيه فإنّه كان بعد طلوع الفجر كما جاء عنه أنه يركع ركعتي الفجر ثم يضطجع ما شاء الله ثم يخرج ويصلّي في هذا اليوم عند أول انصداع الفجر وهو أول الوقت كان يصليها فقد أخرجها عن ذلك الوقت المعلوم لها وهو التأخير اليسير كما شرحناه وهذا مثل ذلك سواء لأنه من أجل تلك القرينة خفَّفَ
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه جواز تحويل النيّة في أضعاف الصّلاة إلى خلاف ما دخل عليه من زيادة أو نقص لكن بشرط ألا ينقص من الحد المجزىء شيئاً ومن أجل ذلك تحرّز الصحابي رضي الله عنه بأن قال ولا أَتَمَّ وفي هذا التحرُّزِ من الصحابي دليل على فضلهم وصدقهم في نقلهم
ويترتب أيضاً عليه من الفقه أنه لما كانت الصّلاة - وهي رأسُ الدِّين - يجوز فيها تحويل النية من الأعلى إلى الأدنى مع إحراز الكمال فكذلك تكون القاعدة في جميع أمور الدين أن يكون الشأن العمل على حالة الكمال ولا يرجع لقذر الإجزاء إلا عند الأعذار وإذا رجع إلى قدر الإجزاء يحافظ ألا ينقص من الواجبات شيئاً
وعلى هذا البيان المتقدّم من أحوالهم فقد اختلفت الأحوال وظهر النقص وقد رأيتُ بعض من يُنسَب في الوقت إلى العلم - وهو ممن يُقتدى به - لا يكمل الواجب من بعض أركان صلاته فإنا لله وإنا إليه راجعون على تضييع العلم وحقيقته وتضييع العمل وتمامه ولهذا المعنى
1 أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع اختلاف يسير في اللفظ والمقصود بقوله بعض
الصحابة عبد الله بن مسعود
۳۳۷

قال رزین

الأسماء على غير
رحمه الله ما أوقع الناسَ في الأمور المحذورات إلا وضعُهم المسميات المعروفة أولاً لأنا الآن إذا أخذنا بالتخفيف في صلواتنا خرجنا عن حدّ الإجزاء لأن المطوّل منا في صلاته لا يصِلُ بجهده إلا إلى الإجزاء بالنيّة فإن نقص منه شيئاً خرج عن بابه
الذي طلب
ويترتب على تخفيفها من أجل بكاء الصبيّ رَعْيُ حقوق الغير كما تراعي حقوق نفسك فتخفيفها من أجل الصبي كمال فيها فإنّه حصل له في صلاته القدر المجزىء وبذلُ الكمال لجَبْرِ صلاة أم الصبي ليرفع الفتنة عنها بتعجيل الصلاة وجَبرِ الصبي نفسه فجاء الجَبرُ هنا متعدّياً وهو الأكمل
وأما على قضرها من غير بكاء الصبي فتبيين منه ل للقدر المجزىء في العمل كما بيّنه بالقول وتبيين مقادير الأحكام أرفع الأعمال ويترتب على هذا من الفقه أنه كان في كلّ الأحوال على أتمها وأعلاها
وأما الجواب على حدّ إتمامها فنعرفه بحده حين قال للمصلي ارجع فصل فإنّك تُصَلّ فعل ذلك معه ثلاثاً ثم قال له عليه السلام لما أن سأله التعليم إذا قمتَ للصَّلاةِ فكبّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركغ حتى تطمئِنَّ راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وبقوله عليه السلام كلّ ركعة لم تقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۳ لأن التمام في الصلاة في ثلاثة أشياء في الإجزاء وفي القراءة وفي إكمال الأركان وفي إكمال عددِ الرَّكعات ويكون ذلك بعد تحقيق دخول وقتها
الوجه الثالث فيه دليل على تحرّي الصّحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا يقتدون في الكمال بأتم الحالات وفي الإجزاء لا يأتون به إلا ومع ذلك زيادة خيفَة أن ينقصهم من الإجزاء شيء ما ولا يتحقق الإجزاء في الأقل إلا بالقطع بالزّيادة اليسيرة فيه ما لم تكن تلك الزيادة محظورة في الشرع مثل مَنْعنا الرابعة في الوضوء ٤ أو تكون تلك الزيادة لم يفعل هو منها شيئاً لئلا نخرج بها إلى البدعة وقد جاء فيها من الدم ما جاء لقوله من أحدث في أمرنا ما
۱ انظر ترجمته في الحديث ۳ انظر تخريجه في الحديث ۳۰
۳ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنا ٤ المراد المرة الرابعة بعد الغسل ثلاثاً
۳۳۸

ليس منه فهو رَةٌ ۱ وقوله عليه السلام كلُّ بدعة ضلالة وما أشبهه ومثل ذلك اجتماع الناس للدعاء بعد الصلوات فهذا وما أشبهة من البدع لأنه لم يأتِ أن النبي ا ولا مَنْ بَعدَه من الصحابة والتابعين فعلوا ذلك ويترتب على تقصيرها من غير عذر أنّه جائز وأن الأفضل ما كان يداوم هو عليه ومَن بعده من السَّلَفِ الصّالح
الوجه الرابع فيه دليل على فضل العلم لأنه به يُعرف حدّ الإجزاء فيما كلف وحدّ الكمال لأنه يأتي بالأشياء على ما أُمِرَ بها لأن الجاهل قد يجعل الكمال واجباً فيكون زاد في فرائض الله تعالى أو يكون يجعل زيادة الكمال بدعة فيكون أيضاً يجعل في دين الله ما ليس فيه أو يكون يجعل حدَّ حد الإجزاء هو الكمال ثم يأخذ في أنقص منه ويجعله من باب التخفيف وهو العضال وقد كَثر في وقتنا ومثلُ هذا ينبغي في جميع أمور الدين أن يعرف الشخص القَدْرَ الذي يجب عليه وما هو قَدْرُ الزّيادة المستحبَّة ولذلك قال طلب العلم فريضة على كل مسلم ۳ قال العلماء كلّ ما كان عليك فعله فرْضاً فالعلم عليك به فرض لأنه لا يمكن أن يُوَفِّيَ
ما عليه مَنْ جهله
الدّاء
الوجه الخامس فيه دليل على جواز صلاة النساء مع الرّجال لكن ذلك اليوم ممنوع ومنع ذلك من زمان الخلفاء ومما يروى في ذلك الوقت قول عائشة رضي الله عنها لو أدرك رسول الله ما أحدث النّساء لَمَنَعَهُنَّ المساجدَ كما مُنِعَه نساء بني إسرائيل ٤ وقول زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنها لما امتنعت من الخروج إلى المسجد فسألها عمر عن عمر عن ذلك فقالت فَسَدَ الناس ٥ وأقرّها عمر على ذلك فجاء فعلها رضي الله عنها على مقتضى هذا الحديث الذي نحن بسبيله لأنها تركت الأكمل في صلاتها وهو الخروج إلى المسجد للعلة الواردة وهي ما ذكرته من فساد الناس فدلّ على أنهم رجالاً ونساءً أعرف بأحكام الله تعالى منا وهم الذين استعملوا الأحاديث والآي على ما هي عليه بغير زيادة ولا نقص
1 أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها جزء من حديث مطلعه أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ۳ روي من عدة طرق وعن عدد من الصحابة الكرام منها ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب عن أنس وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود والطبراني في الأوسط عن ابن عباس وفي رواية أخرى عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنهم جميعاً ٤ انظر تخريجه في الحديث ۳۷
5 كانت زوجة عمر رضي الله عنه خرجت إلى المسجد عند صلاة الفجر لحديث لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وكمن لها عمر في طريق عودتها من المسجد فتصدى لها متخفياً وقرصها في صدرها وفي اليوم الثاني قال لها ألا تخرجين لصلاة الجماعة في المسجد فقالت له فسد الناس
۳۳۹

الوجه السادس فيه دليل على جواز دخول الصبي الصغير المسجد ويعارضنا قوله جَنّبوا مساجدَكم صبيانَكم ومجانينكم ويسوغ الجمع بينهما بأن نمنع دخولهم في غير الصلاة ونجيز دخولهم في أوقاتِ الصَّلاة من أجل الضرورة مع التحفظ
الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك في الأخذ بسَد الذريعة يؤخذ ذلك من قوله مخافة أن تُفتَنَ أُمه وقد لا تقع منها فتنة فلما كان الأمر محتملاً أخذ عليه السلام بالأحوط وهو سَدّ
الذريعة
الوجه الثامن فيه دليل على أن الفكرة في الصلاة في الأمر إذا وقع - وهو فيها - أنه جائز يؤخذ ذلك من قوله لَيَسْمَعُ بكاء الصبي فيخفّف لأن سمعه له ونظره له فكرةٌ في أمر ليس من الصَّلاة إلا أنه يلزم منه أن يكون يسيراً لا يخلّ بالصلاة يؤخذ ذلك من قوله ولا أتم فلو كان مما يشغله عن الصلاة ما أتمها
الوجه التاسع فيه دليل على جواز النظر في حكم من الأحكام إذا احتيج إليه وإن كان في العبادة والعمل إن أمكن مع إبقاء العبادة دون نقص من واجبها يؤخذ ذلك من تقصيره عليه السلام الصلاة من أجل بكاء الصبي وقد دخل على العمل وهو التطويل فيها فإن تقصيره لها عمل من الأعمال ونَظرُ حكم من الأحكام فاجتمع فيه ستة أشياء الالتفات للواقع والفكرة في الحكم والعمل الممكن فيها والرابع حق الغير والخامس سَدّ الذريعة والسادس حَملُ القوي على ما يقتضيه حالُ الضعيف إذا كانا في الأمر متلازمين ومثله قوله سيروا بسَيْرِ أضعفكم
وأما الجواب على قولنا هل كانت تلك الحالة دائمة أم لا فالجواب أنها لم تكن دائمة وإن كان قد أشرنا إلى ذلك عند تبيين أحوالهم ولم يكن ذلك موضعَه وإنما وصفُ الحال أحوج إليه
وهنا أذكر الدليل على عدم دوام ذلك فيكون في موضعه والأول يقوّيه وهو أيضاً يصدّقه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۳ فكل ما هو في الأمور حق فهو يصدّق

جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي عن مكحول عن وائلة وأبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله
عنهم
رواه الشافعي في مسنده والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وقال على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة

۳ سورة النساء من الآية ۸
٣٤٠

بعضه بعضاً فإن الشَّبَه بينهما من أجل أن الحقَّ فيه واحد والحق لا يتغيَّر فالدليل على ما جاء أنّ ما من سورة في القرآن إلا وقد صَلَّى الله بها في الصلاة وفي القرآن ـ كما هو
معلوم - الطوالُ من السُّوَر والقصار وما بين ذلك فدل ذلك على ما قلناه ويترتب على هذا من الفقه العلم بسَعَة السنّة لأنه لو لم يفعل هو ذلك كان الناس يتحرون الذي كان هو يفعله
الوجه العاشر فيه دليل على رحمته عليه السلام بأمته و لأنه لا هل هو فعل ذلك فالجَلْد الكيسُ قد أخذ بجزء وافر من السنّة والعاجز المسكين لم يُحرم من حظ ما من السنّة وما بينهما سَعَة وتوسط في الخير الذي هو السنة
الوجه الحادي عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب وهو عندهم من أعلى الأحوال يؤخذ ذلك من رعيه عليه السلام فتنة أم الصبي والصبي أيضاً نفسه إلا أنه بقيد لا يعرفه إلا السادة الأفذاذ وهو ألا ينقصه من حاله الخاص فيما بينه وبين مولاه شيء

يؤخذ ذلك من قوله ولا أتمَّ لأن حالة عبادته المجزىء منها لم ينقص منها شيء ولهذا المعنى قال بعض السادة منهم من الغرائب صوفي سني ٢ وهو إذا وقع قطب الوقت وتاج الوجود وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
مَنّ الله بفضله علينا بما به مَنْ عليهم بمنّه آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 يقول ابن أبي جمرة في موضع آخر هو أعلى الأحوال وفي الحديث اطلبوني عند المنكسرة قلوبهم من
أجلي صوفي سني أي ملتزم بالسنّة باطناً وظاهراً
٣٤١

-{{-
حديث أصل صلاة التراويح
عَن زيد بن ثابت ۱ أنَّهُ قالَ من حَصيرٍ في رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا ليالي فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ من أَصحابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِم جَعَل يَقعُدُ فَخَرجَ إليهم فقالَ قَد عرَفتُ الذي رَأيتُ من صَنيعكُم فَصلُّوا أيُّها النَّاسُ في بُيُوتِكُم فإنَّ أفضلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرءِ فِي بَيْتِهِ إلا المكتوبة
ي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله اتَّخَذَ حُجرَةٌ قَالَ حَسِبْتُ
ظاهر الحديث جواز صلاة النافلة في المسجد والأفضل فيها صلاتها في البيوت والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول جواز اتخاذ الحجرة في المسجد إلا أنها لا تكون بناء ولا شيئاً يثبت يؤخذ ذلك من قوله اتخذ حجرةً من حصير لأن اتخاذها تغيير للمسجد والمسجد جنس ولا يجوز تغييره وإذا كان مثل الحصير أو الثوب بقي المسجد على حاله لم يتغيّر وذلك الثوب تستمر له به الخلوة ويَحْسُنُ به حاله لأنه يكون أجمعَ له في عبادته
ويترتب على ذلك من الفقه أن يتسبب المرء فيما يكون له أجمعَ لخاطره في عبادته ما لم يكن التسبب بدعة ممنوعة لأنه جاء أن الله جل جلاله يقول يوم القيامة لصاحب البدعة هَبْ أني أغفر لك فيما بيني وبينك فالذين أضللت كيف أفعل بهم

زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من أكابر الصحابة وأعلمهم بالفرائض وكان كاتب الوحي ردّه الرسول عليه السلام يوم بدر لصغر سنه وكان عمره حين الهجرة أحد عشر عاماً وكان يكتب المراسلات للنبي عليه السلام ولأبي بكر وعمر وهو أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي عليه السلام ثم في عهد أبي بكر الصديق ثم نسخه لعثمان نسخاً أرسلها إلى الأمصار روى عن النبي ۹ حديثاً وروى عنه الصحابة والتابعون رثاه ابن عباس يوم موته فقال دُفن اليوم علم كثير توفي في المدينة المنورة سنة ٤٥ هـ / ٦٦٥م الأعلام ٩٥/٣
٣٤٢

وليد الوجه الثاني فيه دليل على أن قيام رمضان في المساجد سنة وليس ببدعة لأنه لما فعله فهو سنة ويعارضنا قول عمر رضي الله عنه نِعمت البدعة هذه ۱ فما يصح أن تسمى هذه بدعة وقد فُعِلَتْ وإنّما البدعة لغةً ما فعله الشخص ولم يفعله غيره قبله ولا يمكن أن نقول ء بدعة وليس فيه ما يتضمنه هذا الاسم
وزوال الإشكال أن نقول إنما سمّاها عمر بدعة لأنه لما جمعهم على القارىء الواحد وَحَدَّ لهم أن يصلي بهم إحدى عشرة ركعة فسمى ذلك التحديد بالإحدى عشرة بدعة وسماها نعمت البدعة لأنه ما جعله حدّها لهم إلا أنه اقتدى في ذلك التحديد بما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ل لم يزد في تنفّله في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة فمن أجل اتباعه للنبي في ذلك قال لها نعمت البدعة
وهنا أيضاً تعارض آخر وهو كونه الله صلى النافلة في المسجد ثم قال آخر الحديث فإن أفضلَ الصَّلاة صَلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة و هو ل لا يفعل من الأمور إلا الأفضل فالجواب أن نقول إن التنفل - ما عدا التهجد في رمضان - الأفضل فيه أن يكون في البيوت وإن تهجد رمضان الأفضلُ فيه أن يكون في المسجد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في حديث غير هذا خفت أن تُفرَضَ عليكم فلا تُطيقون فلما توفي هو الله ارتفع الفَرْض ففعل عمر رضي الله عنه الأفضل لمّا أَمِنَ العِلَّة
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه إذا كان منعُ الشيء من أجل علة فارتفعت العلة جاز فعله لأن الموجب للحذر قد زال
الوجه الثالث فيه دليل على جواز أن يأتم شخص بغيره والإمام لا يعلم به يؤخذ ذلك من أن النبي ما جعل الحجرة إلا أنه يُصلي وحدَه ثم انتَمَّ به من ائتم فلمّا عَلِم بذلك لم ينكره وعدم الإنكار منه عليه السلام بعد العلم دليلٌ على الجواز
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الحائل بين الإمام والمأموم يؤخذ ذلك من كونهم ائتموا
به عليه السلام وبينهم الحصير
الوجه الخامس فيه دليل على أفضلية رمضان يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام اختصه بهذه العبادة دون غيره من الأشهر

۱ أخرجه الإمام مالك وعبد الرزاق والبخاري وابن خزيمة والبيهقي والفريابي في السنن من كلام عمر رضي الله عنه جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأوله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد إلخ وقوله فلا تطيقون أي فأنتم لا تطيقون ذلك
٣٤٣

الوجه السادس فيه دليل على أن تعظيم الأيام الشريفة والبقع لا يكون تعظيمها إلا بأنواع العبادات يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام ما أظهر تعظيم هذا الشهر إلا بزيادة في التعبد الوجه السابع ويؤخذ منه فضل سيدنا لأنه لما رأى اعتناء مولانا جل جلاله يُدارِسه
بتعظيمه لهذه اللّيالي بأن جعل جبريل عليه السّلام ينزل عليه كل ليلة من رمضان فيها القرآن ولم يفعل ذلك في غيره من الأشهر زادَ هو عليه السلام من تلقاء نفسه زيادةً للحرمة وهو أن زاد فيه صلاة لم يفعلها في غيره وأظهَرَها لأمته بالفعل لأن يقتدوا به فهذا

تعظيم الشعائر وقد قال تعالى وَمَن يُعَظِّمْ شَعَبَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وبقدْر تَقْوى القلوب تكونُ الفضيلة ولا أحَدَ أَشدُّ تقوى من سيدنا
وقوله ليالي تعطي الكثرة وتكثيره عليه السلام الليالي وبعد ذلك قال لهم ما قال دال على تعظيمه عليه السلام للأمر والاهتمام به يؤخذ ذلك مما استقرِي من الأحاديث أنه لا لا لا إذا كان الأمر عنده له بال يكرّر القولَ به ثلاثاً فلمّا كان هنا التعليم بالفعل كرّره بالفعل أيضاً كما كان يكرّر بالقول كقوله عليه السّلام يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذُ بنَ جَبَل هل تدري ما حقُّ الله على عباده وما حقُّ العبادِ على الله فإنه عليه السلام لم يخبره حتى ناداه ثلاثاً وهو في كل مرة يجيبه وكقوله عليه السلام في حَجَّة الوداع أي بلد هذا أي يوم هذا أيُّ شهرٍ هذا ۳ فأعاد عليه السلام السؤال ثلاثاً وهذا كثير في السنة
الوجه الثامن فيه دليل على أن قرينة الحال إذا كانت محتملة فلا بد من البيان بالقول ولا يجوز الاقتصار عليها يؤخذ ذلك من أنه لما أن قعد و بعد أن صلّى الليالي احتمل جلوسه أن يكون عن ضعف أو نهي أو غير ذلك فاحتاج أن يبين بالكلام ما أوجَبَ الجلوس
الوجه التاسع يؤخذ منه أن القرينة إذا كانت لا تحتمل إلا وجهاً واحداً قامت مقامَ الإفصاح وجاز الاقتصارُ عليها فيما يقتضيه مدلولها على الإفصاح بذلك يؤخذ ذلك من أنه عليه السّلام لما صلّى وصلوا معه لم يَحْتَج أن يقول لهم في ذلك شيئاً لأن نفس الصلاة دلّت على تعظيم
الشعائر نضًا لا احتمال فيه
۱ سورة الحج من الآية ٣٢
سعد والحكيم
أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن معاذ رضي الله عنه ۳ حديث مطوّل من خطب النبي الا الله في يوم النحر أوله أيها الناس أخرجه الإمام أحمد وابن الترمذي عن العداء بن خالد رضي الله عنه والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه والبزار عن وابصة رضي الله عنه
٣٤٤

إذا جاءت علةٌ تدلُّ على ترفيعه
الوجه العاشر فيه دليل على أن المفضول قد يرجع فـ يؤخذ ذلك من جلوسه صلى الله عليه وسلم عن وقت هذه العبادة والعبادة في هذا الوقت أفضل فلما كان جلوسه عليه السلام من أجل التعليم وتقعيد الأحكام أرفع العبادات فمن أجل زيادة هذه العلة رجع المفضولُ فاضلاً
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أنه إذا اجتمعت للعبد عبادتان لا يمكن في الزمان الجمعُ أخذ الأعلى يؤخذ ذلك من كونه و اثر القعود على الخروج إلى الصلاة لأنه أفضل إذ هو لتقعيد الحكم وبيانه
بينهما
الوجه الثاني عشر فيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم في نقلهم يؤخذ ذلك من قوله حسبت لما وقع له شك قال حسبت
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أنه لم يُصَلِّ هذه الصَّلاةَ معه إلا البعض من الصحابة يؤخذ ذلك من قوله ناس من أصحابه
وهنا بحث في قوله لما علم بهم كيف يجتمع هذا مع قوله عليه السلام قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم والانفصال عنه أن نقول إن معنى علم بهم هنا أحد وجهين إما أن يكون أخبره بصلاتهم معه أحدٌ منهم أو من غيرهم فتكون علم بمعنى الإخبار أو يكون لما رأى من التزام القيام معه فظاهرُ حالهم يقتضي فظاهرُ حالهم يقتضي أنهم عزموا على دوام العمل معه عليه السلام فيكون عَلِم بمعنى تَحَقَّق من قرينة حالهم الدوام

ومما يزيد هذا المعنى إيضاحاً ما جاء أنّه أوّلَ ليلة صلّى معه قلائل ثم حدثوا في اليوم من صبيحة الليلة فكثر الناس فكانوا في كل ليلة يتزايدون ويكثرون فهذا أقوى دليل على العلم بأنهم قد عزموا على الدوام معه وهو عليه السلام من أول ليلة قد عرفهم وما تزايد فيهم كل ليلة ويترتب على هذا من الفقه أنه من داوم على شيءٍ نُسب إليه وحكم له أنه من أهله
وقوله جعل يقعد فخرج إليهم معنى ذلك أنه عليه السلام قعد عن الخروج حتى ذهب الوقت الذي كانت عادته عليه السلام يخرج إلى تلك الحجرة ويصلي فيها فخرج عقب ذلك الوقت إليهم لأنه أتى بالفاء التي تعطي التعقيب دون مهلة وخرج إليهم لا للحجرة التي كان يصلي فيها يؤخذ ذلك من قوله إليهم لأن تقرير الحكم لا يكون إلا بالمشافهة
الوجه الرابع عشر فيه إشارة صوفية وهي أن صاحب الحال المتمسك بالأحكام هو في تجل ومخاطَبات وهذه كانت حال سيّدنا و عند تلاوة القرآن إذا مَرَّ بآيةِ رحمةٍ سأل الله وإذا مَرَّ بآية عذاب استجار وإذا مرَّ بآية تدلّ على صفة من صفاته جلّ جلاله من خلق وقدرة وعظمة
٣٤٥
واع
1-

سبح فكان عليه السّلام كلّ آية تمرّ به يتصف بالوصف الذي يحبّ لمن يخاطب في الحال بتلك الآية ويجاوب بما يقتضيه الأدب ومثل ذلك قال عليه السلام للصحابة رضي الله عنهم حين قرأ عليهم الرحمن وهم سكوت فقال لهم ألا تقولون ما قالت الجنّ حين سمعوها قالوا وما قالت قال كلّما قلت فَبِأَي الَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِبَانِ يقولون وَلا بواحدة منها يا ربَّنا
فانظر حسن تعليمه وإرشاده لحسن الأدب مع الربوبية مع غنائه عن الكلّ وجلاله
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز أخذ ما لا بد منه من الدنيا وهو أيضاً عَوْن على التزود للآخرة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فصلوا أيها الناس في بيوتكم فلولا جواز اتِّخاذ البيوت ما قال لهم صلوا في بيوتكم فإضافتها إليهم تقتضي جواز اتخاذها وأنها عَوْن على الآخرة لأنه يخلو فيها بعبادته ومناجاة معبوده بلا مشوّش يشوّش عليه وكذلك ما يكون من غيرها من ضرورات البشرية إذا كان على لسان العلم والقَصْدُ به العون على الطاعة حالاً لا دعوى فإنه في الحقيقة كله اخِرُه محمود وقوله فإن أفضل الصّلاة تكون الألف واللام هنا للجنس الوجه السادس عشر فيه دليل على جواز الصّلاة المكتوبة في البيوت يؤخذ ذلك من قوله
أفضل لأن باب أفضل لا يكون مع المنع
وفيه من الفقه أن النافلة تجوز في البيت وفي المسجد وهي في البيت أفضل إلا ما كان من تهجد رمضان كما قلنا أولاً هذا إذا لم تكن هناك علة فإن كانت هناك علة رجع المفضول فاضلاً مثال ذلك أن يكون للشخص في منزله من يشوّش عليه ولا يمكن له معه صلاة فالمسجد إذ ذاك أفضل له وتجوز الفريضة في البيت وفي المسجد وهي في المسجد أفضل هذا إذا لم تكن هناك علة أيضاً فإن كانت هناك علة مثل أن يكون مغصوباً أو إمامه فاسقاً أو ما أشبه ذلك فهي إذ ذاك في البيت أفضل وكذلك فعل السلف حين فَسَق بعض الأئمة كانوا يصلون في بيوتهم ويصلون معهم نافلة
الوجه السابع عشر فيه دليل لمن يقول إن الفرض والمكتوب وتلك الخمسة الألقاب ۳
۱ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما رواه البزار وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بألفاظ تختلف وما أورده المؤلف رضي الله عنه ۳ وتلك الخمسة الألقاب لعله يريد من تلك الألقاب الخمسة ومن معاني الفرض التوقيت فَمَن فرض فيهن الحج والتقدير - ومنه علم الفرائض - المقادير السهام والتفصيل سُورَةُ أَنزَلْنَهَا وَفَرَضْنَهَا والوجوب خمس صلوات مكتوبة والتخصيص مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَمْ أو لعله يريد إن الفرض والمكتوب - وما في كلمة الفرض من مدلولات وألقاب هي في الفرض إلخ
٣٤٦

حال
هم
وا
ملی
ـاذ
ما
في الفرض على حد واحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إلا المكتوبة وهي المفروضة فعبّر إلا
عليه السلام بصيغة الكتب عن الفرض
الوجه الثامن عشر وفيه دليل على طلب المندوبات يؤخذ ذلك من قوله صلوا فإن هذا أمر وأقل أحواله الندب
الوجه التاسع عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن إخفاء الحالة هو الأكمل في الأحوال يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام صلاة المرء في بيته أفضلُ إلا المكتوبة ۱ لأن زيادة التنقل بعد أداء الفريضة زيادة في الإيمان كما قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وبها الزيادة في الإيمان حال من أكبر الأحوال وقد نص عليه السلام على أن إخفاءه أفضل فصح ما تأولناه وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومَوْلاك موضعَ شكواكَ
رضي الله عَنَّا بِهم ومَنَّ علينا بما به مَنْ عليهم لا ربَّ سواه ولا مَرْجُو إلا إياه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الحدا
1 أخرجه النسائي والطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ أفضل الصلاة صلاة المرء إلخ ابن أبي زيد هو عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد النفزاوي القيرواني فقيه مالكي ويلقب بقطب المذهب وبمالك الأصغر له تصانيف كثيرة منها كتاب النوادر الذي أجزاؤه تزيد على المئة توفي بالقيروان سنة ٣٨٦
هـ / ٩٩٦ م الأعلام ٢٣٠/٤
٣٤٧

حديث جواز المشي في الصلاة
عَن أَبِي بَكْرَة ١ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّهُ انتهى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَركَعَ قَبلَ أَن صلى الله عليه وسلم يَصِلَ إِلَى الصَّفٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ زَادَكَ الله حِرصاً وَلاَ تَعُدْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز المشي اليسير في الصلاة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل يكون المشي اليسير فيها كلّها أعني في حالاتها كلها أو لا يكون ذلك إلا في هذا الموضع وهو الركوع ليس إلا
فإن قلنا إن سبب الجواز معقول المعنى وهو قلة العمل فيها فيجوز في كل حالاتها كلها ما لم تقترن به علة مانعة ولذلك قال العلماء إنّه يجوز المشي اليسير في كل حالات الصلاة من قيام وركوع وجلوس ولا يجوز ساجداً لأنه فيه أمران أحدهما التشويه والمثلة وذلك في الشرع ممنوع والثاني توقع الضرر بل هو من قبيل المقطوع به لأنه يتأذى بذلك والأذِيَّة أيضاً
ممنوعة
وإن قلنا لا نفهم علته فلا يجوز إلا في هذه الحالة وهذا مذهب أهل الظاهر الذين يستعملون الأحكام حيث وردت ليس إلا

وقوله انتهى إلى النبي أي قرب منه لأن العرب تسمي الشيء بما قَرُب منه
الطائف
يع بن الحارث الثقفي أبو بكرة صحابي من أهل الطائف كني بذلك لأنه تدلى من حصن ببكرة وكان أسلم وعجز عن الخروج من الحصن إلا بهذه الوسيلة روى عن النبي ۳ حديثاً اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أي من الفريقين كان صالحاً عابداً قال الحسن البصري لم يكن أعلم منه ومن عمران بن الحصين توفي بالبصرة سنة ٥٢هـ ٦٧٢ الأعلام ۱۷۹
المثلة التشنيع
٣٤٨

ويترتب على هذا من الفقه ألا يبعد الإمام عن الجماعة وقد نص العلماء على ذلك في
الإمام لَمّا ذكروا شروط الإمامة في الصلاة ذكروا ألا يبعد من الجماعة وعلّلوا ذلك بعلل منها ربما تكون في ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإذا كان بالقرب منهم رأوها فيخبرونه وربما سها فسبحوا له فلم يسمعهم فيجذبونه بثوبه وربما أحدث هو فيمد يده ويستخلف من يُتِمّ بالقوم فإذا كان بالبُعدِ احتاج أن يستخلف بالقول وفيه بين العلماء خلاف ويؤخذ منه أنه إن ذكر شيئاً من العبادات في الصلاة وتمادى في ذلك أنه إن لم يخل بشيء منها جاز والحجة في هذا وبما استدللنا عليه من هذا الحديث ذكر النبي ذلك وتمادي ذكره إلى بعد فراغه من الصلاة ا ل ويترتب على ذلك من الفقه أن المرء إذا كان في أمر لا بدَّ له فيه من عمل ولا يمكنه التأخير فيه ولا علم له بما يصنع أنه يجتهد ويعمل بما يغلب على ظنّه فإذا كان بعد يسأل العلماء فإن وافق عمله لسان العلم فحسن مجزىء وإلا جَبَرَ الخَلَلَ الذي وقع منه على لسان العلم
ولا يدخل هنا الخلاف الذي ذكروا فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أم لا على ثلاثة أقوال لأن ذلك الذي يعمل العمل بالجهل هو متمكن من السؤال ولم يسأل وهذا لم يكن متمكناً من السؤال ولا يمكن له التَّرْك وهو لا يعلم كما فعل أبو بكرةَ في هذا الحديث
الوجه الثاني قوله زادك الله حرصاً ولا تَعُد دعاؤه عليه السلام له بالحرص حض على العبادة معناه زادك الله حرصاً في اجتهادك في طلب الأعلى في العبادات لأنه لو صلى حيث أحرم أجْزَ أَنه صَلاتُه ولمّا كان الصف الأول أرفعَ والقرب من النبي ل أرفع ما في الصف الأول فأراد هو أن يأخذ الأفضل من الصفوف ومن الأماكن من الصف الأول
ويترتب عليه من الفقه أن قوة الباعث هي الحاملة على العبادات وهذا دليل لأهل الصوفة
الذين يقولون إنما حملت الرجال الهِمَمُ لا الأبدان
وقوله ولا تعد أي لا تَعُد للتأخير حتى تحتاج إلى أن تَدِبَّ في صلاتك
الوجه الثالث فيه دليل على أن المستحبّ في الأكمل أن يُعمل عليه قبل الشروع في العمل
وهذا المثل الساري قَبْلَ الرَّمْيِ تُراسُ السِّهام ۱
۱ جاء في الأمثال قبل الرَّماء تُملأ الكنائن ويضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها كما جاء كذلك قولهم قبل الرمي تراش السهام وهو في المعنى ذاته وتراش تركب عليها الريش من قولهم راش السهم رَيْشاً
وارتاشه انظر المستقصى في الأمثال للزمخشري ۱۸٦/٢ و ۱۸۷
٣٤٩

الوجه الرابع وفيه دليل لأهل الصوفة الذين قدَّموا قبل الأعمال الزّهدَ في الدنيا لأنه الباعث على تمكن أسباب الكمال في العبادات وإلى الفوز بحَوْزِ أَسْنِمَتِها ولذلك حكي عن عيسى عليه السلام لما كان في سياحته لَقِيَ قبل الصُّبح رجلاً نائماً فوكَزَهُ برجله وقال له قم فقد سبقك العابدون فقال له دغني يا روح الله أنام فقد عبَدتُه بعبادة ليس على وجه الأرض مثلها أو بأحب العبادة إليه فقال له عليه السلام وما هي قال الزّهد في الدنيا فقال عيسى عليه السلام نَم نومة العروس في خدرها فقد فُقت العابدين الوجه الخامس يؤخذ منه الدعاء للشخص وإن لم يطلبه إذا رأى فيه لذلك أهلية لأنه يُعان به على ما هو بسبيله يؤخذ ذلك من دعاء سيدنا ل لأبي بكرةَ ولم يسأله ذلك لما رأى في
من دلائل الخير
وهنا بحث لِمَ دعا له بزيادة الحرص وقال له ولا تَعُد ولم يقل لا جعلك الله تعود لمثلها فالجواب أن دعاءه عليه السلام بزيادة الحرص عون على الخير ولو دعا له بألا يعود ودعاء سيدنا مستجاب ـ فقد يكون دعاؤه يمنعه من أنواع من الخير لأنه قد يتأخر عن صلاة الجماعة في وقت ما لما يكون له أفضل مثل تمريض مريض لا يكون له مَن يمرّضه أو حضور ميت لا يكون له من يقوم به أو خروج لغزو أو ما أشبه ذلك من أنواع الخير فلما احتمل دعاؤه عليه السلام أن يكون فيه عون على الخير أو مَنْع منه لم يَدعُ له ونَدَبه إلى الأفضل وحيث كان الدعاء خيراً كله دعا له وإن لم يسأله

ويترتب على هذا من الفقه ألا يدعو أحد بدعاء إلا حتى ١ يعلم ما يترتب عليه ويتيقن أنه خير كله سواء كان لنفسه أو لغيره
الوجه السادس فيه دليل على حُسنِ ما طَبَع الله عزّ وجلّ عليه نبيه من حُسنِ السجايا يؤخذ ذلك من كونه عليه السّلام أتى على البديهة بهذا الجواب الذي يتضمن هذه الفوائد التي لا تفهم إلا بعد النظر والتثبت والتّوفيق
وفيه زيادة بيان وإيضاح لقول مولانا جلّ جلاله اطلبوني عند المنكَسِرَةِ قلوبهم من أجلي لأنه سبحانه لا يَحُلّ في شيء وإنما معناه رحمتي أعلى من دعائه فلما انكسر قلب الصحابي رضي الله
الله
فدعا له بالخير
1 كذا بزيادة إلا قبل حتى
حالة على المنكسرة قلوبهم وأي رحمة
بما فعل دون علم سخر له
٣٥٠

الباعث
عليه
سبقك
بأحب
م نَمْ
ه يُعان
ى فيه
تعود
يعود صلاة
الوجه السابع فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب يؤخذ ذلك من دعاء
الله عنهم دعاؤه لهم
سيدنا و لهذا الصحابي لأن أفضلَ السّرور عندهم رضي فجَبَرَه وبإدخال السرور عليه لما رأى من انكسار قلبه عند إخباره بما صنَع وهو لا يعلم ما
حكم الله فيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
العة
ضور
اؤه
كان
سن ـده
مة
٣٥١
ولت كالة

-2-
حديث وجوب توفية أركان الصلاة
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيُّ فَرَدَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقالَ ارجعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لم تُصَلَّ ثَلاثاً فَقالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيّاً ما أُحِسنُ غَيْرَهُ فَعَلَّمْنِي فَقَالَ إِذا قُمتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبَر ثُمَّ اقرأ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ اركَع حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارفع حَتَّى تَعتَدِلَ قَائِماً ثُمَّ اسجُد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ ارفَع حَتى تَطْمَئِنَّ جَالِساً ثُمَّ اسجد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ افعَل ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلّها
*
ظاهر الحديث يوجب توفية أركان الصلاة من قيام وركوع وغيره من شأنها ومن لم يفعل لم تُجْزِهِ صلاته والكلام عليه من وجوه
1 أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر أحفظ من روى الحديث بدعاء النبي له وكان اسمه في الجاهلية عبد شمس وسماه الرسول عليه السلام عبد الرحمن وكنّاه أبا هريرة إذ كانت له هرة يحملها في ثيابه روي له ٥٣٠٠ حديث في مسند بقي بن مخلد وكان أبو هريرة شكا سوء حفظه إلى الرسول عليه السلام فأمره ببسط ردائه ودعا فقال اللهم أسألك علماً لا ينسى فقال امين وكان مع الرسول عليه السلام في حضره وسفره وحجه وغزواته توفي سنة ٥٩ هـ الإصابة لابن حجر هذا من حجة الأحناف في عدم فرضية الفاتحة وعلى هذا الآية الكريمة فَاقْرَءُوا مَا تَيْسَرَ مِنْةُ وَعَاثوا أما فأخذ بحديث الخداج ولو مقتدياً بجهرية والحنابلة خيروا المقتدي في الصلاة السرية ومنعوها في الجهرية أيضاً لآية وَإِذَا قُرِئَ الْقُرَهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا والإجماع على أن هذه الآية نزلت في القراءة بالصلاة فالاستماع في الجهرية والإنصات في السرّية وهو أقوى أدلة الأحناف
الشافعي
٣٥٢

الوجه الأول وجوب القراءة في الصلاة بغير تعيين يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام اقرأ ما تَيَسَّر معك من القرآن
وهنا بحث وهو أنه يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره كلُّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۱ وحديث آخر كلُّ ركعة والنَّسْخ لا يعلم فيهما ويسوّغ الجمع بينهما بأن نقدّر هنا محذوفاً والموضعُ يحتمله فيكون التقدير ما تيسر معك من القرآن بعدَ أم القرآن وهو مذهب جمهور الفقهاء لأنه احتمل هذا الحديث أن يكون قبل نزول أم القرآن فيكون على ظاهره بلا تأويل
واحتمل أن يكون ذلك بعد نزول أمّ القرآن وتقرير الحكم بإثباتها في الصلاة فرجع الحكم بها معلوماً كما أن الصلاة معلومة والمحتمل لا يعارض به النص ويكون إذ ذاك الجمع كما قدمناه
أولاً والاحتمال الأول بعيد لأن أمَّ القرآن مكيَّة وهذا الحديث مدني والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على الأمر بتكبيرة الإحرام يؤخذ ذلك من قوله إذا قمت إلى الصَّلاة فكبر ويؤخذ منه أن التكبير كان عندهم معروفاً في الصّلاة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فكبر ولم يعلمه صفة التكبير ولو لم يكن معلوماً ما جاز السكوت عنه عند الحاجة إليه
وهنا بحث وهو أن يقال ما هو حدّ الاستواء اختلف العلماء في ذلك الحد فمنهم من
قال قدر ثلاث تسبيحات ومنهم من قال غير ذلك ومنهم من لم يجعل له حدا إلا ما حده ل هنا وهو قول مالك رحمه الله تعالى ومن تبعه وهو الأظهر لأن الذي أعطي البلاغة والنّور والحكمة أخبرنا بالأمر الذي يأخذ كل النّاس منه القَدْرَ الذي فيه إجزاء فَرضهم لأن الناس فيهم الخفيف البدن الخفيفُ الحركة فهذا بأقل من ثلاث تسبيحات ۳ تعتدل منه جميع ومنهم الثّقيلُ البَدَن الثّقيلُ الحركة فهذا بمقدار الثلاث تسبيحات لا يتم له فَرضُه ومنهم ما بين ذلك وهم أيضاً في النطق بالتسبيح مختلفون
مفاصله
الوجه الثالث فيه أيضاً من الحكمة معنى لطيف لأنه لما نهى عن والتفقير ۳ في الدّعاء لأنه إذا كان الداعي مشغول الخاطر بتفقير دعائه ذهب منه المقصود من الدعاء وهو حضور القلب فلم يحصل على فائدة ما أراده من الإجابة لعدم شرط الحضور
1 أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه من الفقهاء من قال بفرض التسبيحات في الركوع والسجود وهذا الحديث حجة عليه إذ لو كانت فرضاً لعلمه

إياها
۳ التفقير التكسير والمراد هنا التقطيع وجعله فقرات متوازنة
C
3
٣٥٣

فنهى ل عن هذا رحمة بأمته ويشبه هذا من طريق الحكمة لأن الصلاة المطلوب منها أمران الظاهر وتوفيته وقد بيّنا العلة فى ذلك آنفاً والباطن وهو الحضور والخشوع مختلف فيه بين العلماء هل هو فرض في الصلاة أو شرط كمال وشَغلُ الخاطر بهذه التسبيحات ينافي الخشوع والحضور فمن أجل هذه العلة لم يحد فى ذلك حدا إلا حقيقة الاعتدال فمن فهم هذا المعنى أبقى الحد فيه على ما حده له وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
وهنا بحث وهو ما الحكمة بأن جعل مفتاح الصلاة الله أكبر ثم فَصَل بهذه الصيغة
المباركة بين أركان الصلاة
فالجواب إن قلنا إن هذا تعبُّد غير معقول المعنى فلا بحث وإن قلنا وهو الحق إن الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة فما الحكمة هنا فنقول والله أعلم لما كانت الصلاة توجهاً إلى المولى الجليل ومناجاة له كما أخبر الصادق لا في قوله فإنما يناجي ربه ولقوله عليه السلام إذا دخل العبد في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه الكريم وقد قال عزّ وجلّ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ۳ وقد جرت الحكمة أنه لا يُدخل على الملوك إلا بالإذن وعند الإذن منهم يدخل عليهم الداخل بحضور قلبه ويلتزم الأدب ويعرف على من هو داخل فجعل التكبير هنا دالاً على الإذن للوقوف بين يدي المولى الجليل ليُحضر قلبه ويعرف بين يدي من هو وجاء الإذن بهذا الاسم العلم الذي لم يشاركه فيه أحد من خلقه حتى يكون سبباً لحضور حقيقة التوجه إذا ذاك
الوجه الرابع فيه تنبيه على رفض ما كان يأخذ فيه قبل الصلاة كما جاء في نداء الصبح للصلاة الصلاة خيرٌ من النوم لأن النوم مما تستطيبه النفوس فأشعرنا بأن ما دُعِيَت إليه من الصلاة خيرٌ وأطيب مما هي فيه فكذلك قوله الله أكبر فإنه يقول لك بضمن الحكمة ما كنتَ فيه أو ما أنتَ فيه من خير أو ضده أو عبادة من العبادات أو نوع من أنواع المباحات الله أكبَرُ أي ما دعاك الله إليه أكبَرُ مما أنت فيه فاضرِب عنه وأقبل على مولاك تجده خيراً لك في الحال والمآل
ولذلك قال عز وجل في حقها ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٤ فإن مَن ليس من الخاشعين إذا جاءت الصلاة كانت قاطعة له عما كان بسبيله وهذا على النفوس من أكبر الأشياء
1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم جزء من حديث أخرجه البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ اخر
۳ سورة البقرة من الآية ١١٥
٤ سورة البقرة من الآية ٤٥
٣٥٤

أخف الأشياء عليهم وأحبها إليهم لما
وأما الخاشعون فإنهم ينتظرونها انتظار فرح بها وهي / يجدون فيها من النعيم والقرب والخلو بالمحبوب ولذلك قال وجُعِلت قرة عيني في الصلاة 1 وقد نقل عن بعض الرجال أنه قال تعبت بالصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة وما ذاك إلا لما لم يحصل له مقامُ الخاشعين تعِب فلما ذاق طعم الخشوع جاءه ذلك النعيم
والخير التام
وأما الحكمة في الفصل به بين أركان الصلاة فإنه إما تحقيق لرجاء أو تحقيق لخوف أو تحقيق لوعد أو وعيد أو لنفي إعجاب أو وسوسة مثال الرجاء أن يكون قد ابتهل في الركن الذي كان فيه من الصلاة بدعاء فيما يرجو به خيراً فجاء بعده الله أكبر بشرى لبلوغ ما أمله من فضله عزّ وجلّ في إجابة دعائه أو خوف إن كان في دعائه خائفاً من شيء فجاء بعده الله أكبر أي هو أولى بالخوف فإذا خفته فلا تخف غيره أو كان قد قرأ آية وعدٍ أو وعيد فجاء بعده الله أكبر تحقيق لمقتضى ما قرأ أو نفي إعجاب إن وقع للنفس أنها قد وفَّت ما عليها وأن لها بذلك حقًا على الربوبية واجباً فجاء بعده الله أكبر أي حقٌّ الله أكبر كما جاء وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۳ معناه ذكره لك في الأزل أنْ جَعَلَك من الذاكرين له ﴿ أكبر من ذِكرِك أنتَ الآن له
الوجه الخامس فيه دليل على أن الأدب - إذا دُخِل المسجد - أن تقدم الصلاة وبعدها يكون السلام على الغير يؤخذ ذلك من قوله دخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي ا ولم يقل له النبي في ذلك شيئاً فإقراره عليه السلام له على ذلك حُكم به وذلك في الأحاديث إذا
استقريت كثير
الوجه السادس فيه دليل على حرمة العبادة وأنه لا يُكلّم من هو فيها ولا يُعَلِّم وإن أفسدها يؤخذ ذلك من أن النبي لما رأى الرجل يصلي وهو لا يحسن صلاته لم يقل له الله شيئاً حتى فرغ وأتى إليه فقال له عليه السلام ارجع فصل والصلاة التي صلّى إن كانت فريضة يترتب على ذلك من الفقه أنه إذا نقص من توفية أركان الصلاة شيء لم تجز وإن كانت نافلة يترتب عليها من الفقه أنه من دخل في نافلة وأنقص منها شيئاً أو أفسدها باختياره أنه يأتي يبدلها والحجة في ذلك لمالك رحمه الله تعالى الذي يقول إن النافلة تجبّر كما يجبر الفرض ومن
۱ جزء من حديث أوله حُب إلي من دنياكم ثلاث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في الكبرى
عن أنس رضي الله عنه به الضمير يعود على التكبير وهو قول المصلي الله أكبر
۳ سورة العنكبوت من الآية ٤٥

٣٥٥

دخل فيها وجب عليه إتمامها لأنه قال فَصَلَّ وليس فى الحديث ما يدل على أنها فرض
فالأظهر أنها تحيّة المسجد
الوجه السابع فيه دليل على أن تكرار العمل بغير تمام لا يُعد شيئاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصلِّ ثلاثاً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول إن العالم لا يتعين عليه أن يعلم حتى يُسأل يؤخذ ذلك
من أن سيدنا لم يعلمه حتى قال له فَعَلّمْني
الوجه التاسع يؤخذ منه ألا يُحكم بشيء محتمل حتى يُبحث عن حقيقته يؤخذ ذلك من أن النبي ا ا ا ا ا ل ل ل لم ينتقد عليه ولم يعبه وما قال له إلا ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ لأن قلة توفيته للصلاة احتمل أن يكون ذهوله لشغل بال أو لجهل كما ذكر عن نفسه فلما وقع الاحتمال لم يزده عليه السلام على الإخبار بعدم الإجزاء شيئاً
الوجه العاشر فيه دليل على جواز النظر للمتعبد إلا أن يكون مواجهاً له فلا ينظر إليه لأنه إذا نظر إليه وهو مواجه له شوّش عليه - ذكَرَه بعض العلماء - أو لِيُدِرْ وجهه عنه يؤخذ ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له ارجع فصل فإنك لم تصل إلا أنه نظر إليه طول مقامه يصلي ولولا ذلك
ما علم حاله
ويترتب على ذلك من الفقه أن لكل راعٍ أن يتفقدَ مَنْ تحت رعايته في أمر دينهم هل يوفون أم لا فإنه مسؤول عنهم ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله إن أهم أموركم عندي
الصلاة
الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز السّلام بعد الصّلاة وإن كنتَ قد سلّمتَ قبلها يؤخذ ذلك من أنه كلما جاء من تلك الصلاة التي ردّه النبي ا إليها أعاد السلام عليه و الله ولم ينكر عليه وعدم إنكاره عليه السلام دال على الجواز وهنا إشارة من طريقة أهل التحقيق في المعاملات لأن الدخول في الصلاة خروج من هذا العالم إلى العالم العلوي بسره فلما سلّم من الصلاة فهو رجوع إلى هذا العالم فهو الآن قادم من عالم إلى عالم آخر فلَزِم أو جاز أو ندب إلى السّلام وما هو أقل من هذا الاعتبار
روي عن الصحابة رضي ال عنهم أنهم كانوا إذا كان الواحد منهم يمشي مع أخيه وحال بينهما شجرة أو شيء ثم تراجعا من ذلك الأمر اليسير سلّم أحدهما على صاحبه ۱ لأن الفُرقة -
۱ مروي بالمعنى وأصله إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه "
٣٥٦

عليه
ذلك
أن
فيته
ـن
وإن كانت يسيرة - فقد انقطع استصحاب الحال وجاء أمر اخر فينبغي أن يبدأ بالسلام لما فيه من الأجر والخير والبركة فهؤلاء رضي الله عنهم كانوا يعرفون مقدار ما نُدِبوا إليه وأن خواطرهم عاملة بذلك ولو فعله اليوم أحد لكان ينكر عليه فإنا لله وإنا إليه راجعون على الغفلة التي قد توالت فما يفيق سكران الغفلة إلا وشمس القيامة قد بزغت فأنى لنا بجبر ما ضاع من العمل الوجه الثاني عشر فيه دليل على فضل الصحابة وعدم التصنع عندهم رضي يؤخذ ذلك من قوله والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني لأنه تواضع ولم يكفه الإخبار
إلا حتى
الله عنهم
1 أكده باليمين وقد قال العلماء لا يُحرم طالب العلم إلا من وجهين إما من الكبر أو من الحياء فإن الدين ليس فيه كبر ولا حياء في قول حقٌّ أو تعليمه ولذلك قال نِعْمَ النِّساءُ نِساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياءُ مِن أنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين
الوجه الثالث عشر فيه دليل لأهل الصوفة لأن فضيحة النفس بما فيها موت لها وموتها حياتها موت النفوس حياتها من أحبَّ أن يحيا يموت
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
فليسلم عليه أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه
1 كذا بإقحام إلا انظر تخريجه في الحديث ۱
٣٥٧

-44-
احلة رياء حية
حديث رد المأموم على الإمام بالحمد في الرفع
کا
عَن أَبي هُرِيرَةَ رَضي الله عنه أَنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمامُ سمع الله لِمَن حَمِدَه فقُولوا اللَّهُمَّ ربَّنا لك الحمدُ ۱ فإنَّهُ مَن وافق قوله قول الملائِكَة غُفِرَ لهُ ما تقدم مِن
ذَنْبِهِ
ظاهر الحديث أن من وافق تحميده عند قول الإمام سمع الله لمن حمده قول الملائكة غفر له والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله عليه السلام وافق قوله قول الملائكة هل في الزمان أو في الإخلاص أو في مجموعهما محتمل والأظهر موافقتها في الزمان والإخلاص لأنه لم يبق محتمل آخر وبقي الوجهان على طريق الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وهنا بحث في قوله عليه السلام قول الملائكة هل يعني به ملائكة معروفين فتكون الألف واللام للعهد أو يعني به جنس الملائكة فتكون للجنس احتمل لكن جاء حديث آخر قول الملائكة في السماء فدلّ على أنها للعهد وأنهم ملائكة في السماء
ومما يقوي هذا ما جاء عنه في قوله يا مَنْ أَظْهَر الجميل وستر القبيح إن الله عزّ وجلّ خلق تحت العرش تماثيل على صفة كل شخص من بني آدم فإذا تحرّك الآدمي بأي نوع تحرك ذلك التمثالُ بمثل ما تحرّك به الآدمي لكن - بفضل الله - إن كان تحرَّك الآدمي بطاعة تحرّك ذلك التمثال بمثلها فأبصرته الملائكة فاستغفَرَتْ له ودعت له وإن كان بمخالفة أو مكروه ستّر
1 للحديث روايات عدة منها ولك الحمد ومنها بدون اللهم وقد أخذ الأحناف بجمع الروايات اللهم ربنا
ولك الحمد وقالوا هو الأفضل
٣٥٨

من
كة
الله عزّ وجلّ حركة ذلك التمثال عن الملائكة فلا يَرُونه حين يتحرّك بالمعصية۱ فسبحان مَنْ هذا حِلمُهُ بعد عِلمِهِ
الوجه الثاني فيه دليل على عظم قدرة الله عزّ وجلّ يؤخذ ذلك من أن هذا العالم على كثرته تكون الملائكة في العالم العلوي يراقبونهم واحداً واحداً
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن بني ادم الصالحين أشرف من الملائكة يؤخذ ذلك من كون العالم العلوي مترقبين لهم ويُؤمنون على دعائهم واحداً واحداً

الوجه الرابع فيه دليل على زيادة شرف هذا الركن من بين أركان الصلاة لأنه لم يجيء أن الملائكة تشارك الآدمي في هذه العبادة بالموافقة إلا في هذا الركن وتأمينهم عند آخر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ بقولهم آمين فهذا أيضاً دليل على فضل السورة لأنه لم يجىء أنها تُؤمّن على القراءة في شيء إلا على خاتمة الفاتحة وهذا الموضع - وهو تحميدها - على قول الإمام سمع الله لمن حَمِده دال على تعظيمها من بين الأركان والأقوال
الوجه الخامس فيه دليل على فضل صلاة الجماعة على غيرها يؤخذ ذلك من أنها لا تؤمن وتحمد على قول الفَذَ امين عند قوله سمع الله لِمَن حَمِده وإنما تفعل ذلك للإمام ليس إلا وفي هذا الموضع دليل بقوة الكلام على المحافظة عليها لأنه لما أخبر بما فيها من الأجور كأنه بقوة الكلام يقول لا تغفل عنها وحافظ عليها
وهنا بحث لطيف وهو ما الحكمة بأن خُص هذا الموضع وحده بهذا التشريف فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فنقول - والله أعلم - لمّا جاء أن الركوع منعت فيه القراءة ومُنع فيه من الدعاء وشرع فيه تعظيم الرب عزّ وجلّ وقد قال تعالى على لسان نبيه من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ فلمّا كان هؤلاء امتثلوا ما أمروا به في حال الركوع بترك كل شيء واشتغلوا بتعظيمه جلّ جلاله تفضّل عزّ وجلّ عليهم بأن جعل لهم في هذا الموطن - الذي هو رفعُ الرأس من هذا التعظيم لجلاله - هذا
۱ مركب من أكثر من حديث أوّله ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة راه ضاحكاً مستبشراً وبشره بأن الله أرسله إلى النبي عليه السلام بهدية وهي كلمات من كنوز عرشه ودعاء أوّله ي من أظهر الجميل وستر القبيح إلخ أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد وابن شاهين في الترغيب في الذكر وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الله عنه الشعب عن ابن عمر رضي الله عنهما وعبد الرزاق عن جابر رضي
٣٥٩

الخير العظيم وأمر نبيَّه أن يخبرهم به ليعرفوا قدرها من نعمة لأنه ليس في جميع الثواب
هي
أعظم من المغفرة كما قررناه في الأحاديث قبل وفيه معنى آخر لطيف وهو لمّا جاء قول إمامهم سمع الله لمن حمده أي إنه قد سمع حمدكم إياه وجازاكم عليه بمقتضى وعده الجميل - وهو قوله عزّ وجلّ مَن شَغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين - جاء جوابهم اللهم ربَّنا لك الحمد وهذا شكر على تلك النعمة لأن الحمد يقوم مقام الشكر وهو أعلى وجوه الشكر وقد قال جل جلاله لين شكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فلما شكروا زيدت لهم المغفرة فجاءت زيادة الكريم توفية لوعده الجميل وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ وكانت الزيادة خيراً من العمل لأن الزيادة بمقتضى الفضل وإن كان الكل من الخير بفضله سبحانه لكن الزيادة ليست بمقابلة شيء من الأعمال فهي فضل صرف فجاءت بأعظم الأشياء ولذلك قال جلّ جلاله ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۳ وهذا أجلّ البشارات وأجل السرور لأن ما هو مقتضى فضل ذي الجلال والإكرام لا يبقى معه هم ولا نَصَب ولا حظ من خير إلا وقد أجزل لمن منّ عليه بهذه النعمة جعلنا الله من أهلها بفضله ولذلك قال عزّ وجلّ وَسَتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ لأنه إذا كان السؤال من المسكين إلى الجليل وهو ليس بملتفت لعمله كان أنجح في الاستجابة ولا ينتبه إليها إلا من خص بها جعلنا الله منهم بفضله
الوجه السادس وهنا إشارة صوفية لأنهم لما رأوا هذه الإشارة وغيرها تقتضي تفضيل ترك الحظوظ على غيرها عملوا على الخروج من حظوظ النفوس جملة من غير تفصيل واشتغلوا بذكر الصَّمد الجليل فأورثهم عزّ وجلّ العزّ الرفيع بأن شرفهم فقال عزّ وجلّ في محكم التنزيل لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ ٥ وقال عز وجل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْمَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ٦
فَهمنا الله ما فَهَّمهم وَجَعلنا في الأحوال معهم لا ربَّ سواه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة إبراهيم من الآية سورة التوبة من الآية ۱۱۱ ۳ سورة النساء من الآية ۱۷۳ ٤ سورة النساء من الآية ۳

٥ سورة النور من الآية ٣٧ ٦ سورة الكهف من الآية ۸

ـن
ت
144-
حديث رؤية المولى عز وجل

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ قالَ هل تُمارون ۱ في القمر ليلةَ البدرِ ليس دونَهُ سحابٌ قالوا لاَ يا رسولَ الله قال فهل تُمارونَ في الشَّمس ليس دونَها سحابٌ قالوا لا يا رسول الله قال فإنَّكُم تَرَوْنَهُ كذلك يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ فيقولُ مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبعُ القمر ومنهم من يتبعُ الطواغيت وتبقى هذه الأُمَّةُ فيها
منافقوها
فيأتيهم الله عز وجل فيقولُ أنا ربُّكُم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فيدعوهم فيُضرَبُ الصِّراط بين ظهراني ٢ جهنم فأكون أول من يجوز ۳ من الرسُلِ بأُمتِهِ ولا يتكلّمُ أحدٌ يومئذٍ إلا الرُّسُلُ وكلامُ الرُّسل يومئذ اللهمَّ سَلّمْ سلّمْ
وفي جهنَّمَ كلاليب مثلُ شَوكِ السَعْدانِ ٤ هل رأيتُم شَوكَ السَعْدانِ قالوا نعم قال فإنّها مثلُ شوكِ السَّعْدانِ غير أنّهُ لا يَعلمُ قَدْرَ عِظَمِها إلا الله عزّ وجلَّ فَتَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم فمنهم من يُوبَق ٥ بعمله ومنهم من يُخَرْدَل ٦ ثم ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النارِ أَمَرَ الله الملائكة أن يُخرِجوا مَن كان يَعبدُ الله فيُخرجونهم ويعرفونهم بآثارِ السجود وحرَّمَ الله على النار أن تأكل َأثَرَ السجودِ
۱ هل تُمارُون هل تَشْكُون أو تتردَّدون
بين ظهراني جهنم على وسطها ۳ يجوز يجتاز ويقطع من طرف لآخر
4 شوك السعدان السعدان نبت ذو شوك وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطباً فإذا يبس كلح وقسا فتعافه
٥ يوبَق بعمله يهلك بسبب عمله السيّىء
1 يخردل يُصرع ويرمى
٣٦١

فيُخرجون من النارِ فكلُّ ابنِ آدمَ تأكُله النارُ إلا أثَرَ السُّجودِ فيُخرجون من النارِ قد امتَحَشُوا ١ فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ ٢ ۱ ثمَّ يَفرُخُ الله سبحانه وتعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخرُ أهل النارِ دخولاً الجنّةَ مُقبلاً بوجهه قِبَلَ النّارِ فيقولُ يا ربّ اصرِف وجهي عن النارِ فقد قَشَبَني ۳ ريحُها وأحرقني ذكاؤها 4 فيقولُ هل عسَيْتَ إِن فُعِل ذلك بكَ أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعِزَّتِكَ فيعطي الله عزّ وجلّ ما شاء من عهد وميثاق فيصرِفُ اللهُ وجهَهُ عن النار
فإذا أَقبَلَ به على الجنّةِ رأى بَهْجَتَها سكت ما شاء الله أن يَسْكَتَ ثم قال يا ربِّ قدمني عند باب الجنة فيقولُ الله أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنتَ سألت فيقولُ يا ربِّ لا أكونُ أشقى خلقِكَ فيقولُ فما عسيتَ إن أُعطيتَ ذلك الا تسأل غيره فيقولُ لاَ وعِزَّتِكَ لا أسألُ غير ذلكَ فيعطي ربَّهُ ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنَّةِ
6
فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النَّضْرةِ والسُّرورِ فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أن يسكت فيقولُ يا رب أدخلني الجنّةَ فيقولُ الله عزّ وجلَّ وَيْحَكَ يا ابن آدم ما أغْدَرَكَ! أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسألَ غير الذي أُعطيت فيقول يا ربِّ لا تجعلني أشقى خلقك فيَضحَكُ الله عزّ وجلّ منه ثم يأذَنُ الله له في دخول الجنة فيقولُ تَمَنَّ فيتمنى حتى إذا انقطعت أُمنِيَّتُه قال الله عزّ وجلَّ زِدْ من كذا وكذا أقبلَ يُذَكَّرهُ ربُّهُ حتى إذا انتهت به الأماني قال الله سبحانه لكَ ذلكَ ومثله معه وعن أبي سعيد ٥ إِنِّي سمعته يقولُ لك ذلك وعَشَرَةُ أمثاله
۱ امتحشوا تقشر جلدهم عن لحمهم احترقوا
حميل السيل ما حمله السيل من غثاء وطين والحبة بزور العشب والبقول البرية التي لا تؤكل والحَبَّة
البذور التي تؤكل ۳ قشبني اذاني ٤ ذكاؤها جمرها الملتهب
5 أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الخدري أنصاري خزرجي من ملازمي الرسول عليه السلام روى عنه ۱۱۷۰ حديثاً توفي في المدينة سنة ٧٤هـ / ۱۹۳م الأعلام / ۱۳۸۳

٣٦٢

ظاهر الحديث تحقيق رؤية ربنا جل جلاله يوم القيامة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قوله عليه السلام هل تُمارُون معناه هل تَشُكّون وعلى الرواية الأخرى هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب فهذه من الأشياء التي لا يشك أحد أن القمر موجود مزئي ولو سكت عليه السلام واقتصر على هذا المثال لكان في البيان والتحقيق كافياً ثم أكده عليه السلام بأن قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب وفي ابتدائه عليه السلام أولاً بالقمر ثم بالشمس بعده من الحكمة وجوه منها اتباع الأب الجليل وهو إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام كما اتبعه عليه السلام في الملة اقتدى به في الدليل فكان دليل الخليل على إثبات وجود الربوبية واستدلال الحبيب بمقتضى ذلك الدليل نفسه على إثبات الرؤية فكل استدلّ بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بالوجود والمحبة لا تقع إلا برؤية المحبوب
الوجه الثاني فيه من الحكمة أن رؤية القمر يُقِرُّ بها كلُّ مَن يبصر ولو كان من ضعف بصره ما عسى أن يكون فعند تمام البدر دون سحاب يبصره ضرورةً وبقي مَن لا بصرَ له يكون عنده وجود رؤية القمر تقليدا والشمس يشهد بوجود رؤيتها من له بصر ومَن لا بصر له فإن الأعمى يلقاه حَرُّها وإذا قابلها وقت الظهيرة وليس دونها سحاب أحس بإدراكها بزيادة يجدها على ما يخبرونه بذلك فأكدها بأشدَّ من الأوَّل ويكون معنى المثال في تحقيق الرؤية لا في الكيفية لأن القمر والشمس متحيّزان ۱ والحق سبحانه وتعالى ليس بمتحيز وليس أيضاً
شيء من مخلوقاته يشبهه هذا بدليل العقل والنقل
فأما من طريق العقل فبالإجماع منهم أن الصنعة لا تشبه الصانع والشمس والقمر خَلقُ من
خلقه عزّ وجلّ فليس بينهما شَبَةٌ بوجه من الوجوه وأما من طريق النقل فما جاء في التنزيل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وإنما العرب تشبّه الشيء بالشيء لشبه ما يكون فيه كقولهم زيد مثل الأسد والبشر ليس بينه وبين الأسد في الخلقة مماثلة وإنما شبهوه به لكثرة شدّته ومثل ذلك قولهم فلان مِثْلُ القمر ولا شبه في الخِلْقة بينهما وإنما شبهوه به لحُسنه هذا في المحدثات التي بينها نسبة الحدوث فكيف بمن لا نسبة بينه وبين خَلْقه جلّ جلاله
۱ التحيز التلبث والتمكث والتلوّي والتقلب ومثله التحوّز والمتحيّز المتحول من مكان إلى مكان أو
المتنحي ومنه قوله تعالى أَوْ مُتَحَيّذًا إِلَى فِشَر
سورة الشورى من الآية ۱۱

٣٦٣

وهذا مثل ما يقول الناس بعضهم لبعض إذا سأل أحدهم الآخر في أمر هل هو حق أم لا فيحلف له أنه حق كما أنت موجود فى الوجود لأن علم الضرورة لا يشك أحد فيه فردَّ لهم علم الإيمان بالرؤية التي هي من قبيل التصديق بالغيب من قبيل علم الضرورة الذي هو مقطوع به لا يخالف فيه أحد في الوجود وعلم الضرورة هو كعلمك بأن السماء فوقك موجودة وأن الأرض تحتك موجودة وأنك فيها موجود الآن وكذلك ما أدركته من جميع الموجودات تشهد بالقطع الذي لا ارتياب فيه بأنها موجودة حِسّاً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز الاستدلال بالعلم النظري على علم الضرورة وبنائه عليه وفيه من الفقه أيضاً أن يخاطب كل شخص بما يفهمه لأن العرب فهموا عنه عليه السلام المعنى الذي أشرنا إليه ولو كانوا غير عرب لم يبين لهم عليه السلام إلا بما كانوا يفهمون عنه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام خاطبوا الناس على قدر عقولهم ۱ أي على قدر ما يفهمون وعلى رواية تُضَامُّون أي لا تتضاغطون لأن القمر إذا ارتقب في أول ليلة تضاغط الناس على من أبصره لكي يُرِيهم إياه ويتعبون في إدامة النظر إليه وبعضهم يتعب وقد لا يراه لضعف بصره وإذا كان ليلة كماله لم يتضاغط أحد مع أحد ولا يتعب أحد في رؤيته بل يكون قد كسا نوره جميع الأرض وانشرحت له الصدور فيكون معنى هذا الوجه مثل الأول في تحقيق الرؤية وزيادة معنى ثانٍ أنكم أيها المؤمنون كلكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر عند كماله دون سحاب والشمس دون سحاب بلا تعب كذلك ترون ربكم حقًّا لا شك في ذلك كما يشهد له
آخر الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام ترونه كذلك عائد على تحقيق الرؤية التي أخبر بها عليه السلام من أنهم لا يشكون في القمر ولا في الشمس بتلك الصفة فيقول كذلك ترونه حقًا بلا ريب ولا امتراء
وهنا تنبيه وهو أنه لا يلزم من الرؤية التحديد ولا الإحاطة لأن بعض مخلوقاته سبحانه نراها ونعلم بالقطع أنها محدودة ولكن لا نحيط نحن بها مثل السماء والأرض نحن تدرك كل واحدة منهما ونبصرها ولا نحيط بها ونحن نعلم بالضرورة أنها محصورة محدودة فكيف بمن ليس كمثله شيء تنبيه ثاني وهو أنه لا يلزم أيضاً من الرؤية الجهة لأنا نرى من خلقه كثيراً وليسوا هم في جهة مثل الليل والنهار فإنا نبصرهما وليسا في جهة فكيف بمن ليس كمثله شيء
۱ رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً بعبارة أمرنا أن نخاطب الناس إلخ
٣٦٤

تنبيه آخر أيضاً وهو أنه لا يلزم من الرؤية إدراك جميع الصفات فإنا نبصر من بعض مخلوقاته ما نبصره ولا ندرك منه حقيقة صفته كالماء فإنا نبصره ونشربه ولا نعلم له لوناً لأنه كلما جعل في شيء يكون لونه لون ذلك الشيء وحقيقة لونه القائمة به لا يدركها أحد ولم يقدر أحد من المحققين أن يخبر عنها بلون ما فكيف بمن ليس كمثله شيء
فتحصل من ذلك كله تحقيق رؤيته جل جلاله بلا ريب مع نفي الكيفية بلا ريب أيضاً الوجه الخامس قوله عليه السلام يُحشَرُ الناسُ يوم القيامة أي يُجمع كما قال عزّ وجلّ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَ ابنِ حَشْرِينَ ۱ أي مَن يجمع الناس
وفيه من الفقه الإيمان بالبعث بعد الموت وبكل ما ورد من الأخبار في ذلك اليوم العظيم والتصديق بذلك أنه حق كما أخبر عليه السلام ولا يُتَعَرَّضُ أيضاً إلى الكيفية في كل ما جاء من أمر الساعة فإنه أمر لا تسعه العقول وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان وإنما يجب الجزم بالتصديق كما أخبر عليه السلام لأن قدرة القادر لا يُعجِزُها ممكن بل تفعل ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السادس قوله عليه السلام فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه شيء يعمّ جميع الأشياء مدركة كانت أو غير مدركة فالمدرَك منها مثل الشمس والقمر والنجوم والأوثان على اختلافها وغير المدرك منها مثل الملائكة وهوى النفوس لقوله عزّ وجلّ أَفَرَهَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَمُ
هونه ٢ وما أشبهها

وفي قوله عليه السلام أولاً من كان يعبد شيئاً ثم ذكر الشمس والقمر ثم عمّم بذكر الطواغيت دليل على أن كل ما يُعبد من دون الله - كائناً ما كان - هو من جملة الطواغيت فلو سكت عليه السلام عند قوله شيئاً لكان احتمل ما بيَّنه بالمثال وهو ما سوى الله من مخلوقاته واحتمل أن يريد مَن عَبَدَ الله فإنه يُبَدِّ ۳ في ذلك الوقت على جميعِ مَن عُبد من دون الله فيتبعه كل من كان يعبده فإنّ شيئاً يصدق على المولى جل جلاله وعلى غيره من مخلوقاته ولذلك قال عزّ وجلّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى فهو جلّ جلاله شيء وليس كمثلِهِ شَيْءٌ وذكر عليه السلام الشمس والقمر لأنهما أعظم المخلوقات المدركات التي عُبدت من دون
1 سورة الأعراف من الآية ۱۱۱ سورة الجاثية من الآية ٢٣ ۳ يُبدأ يُقدَّم ويُفضّل
٣٦٥

الله ثم عاد عليه السلام إلى إجمال الأوثان بقوله الطواغيت فأزال بهذا الاحتمال الثاني وصع به
الوجه الأول كما ذكرناه ويترتب على هذا من آداب الفقه أن مِن حُسنِ الكلام إذا كان في كلام المتكلم ما يقع فيه أو ه احتمال للوجه الذي أراده أو لغيره أن يأتي بمثال أو إشارة يذهب بها ذلك المحتمل
بعضه
ويحقق ما أراده
ويترتب عليه من الحكم الا يُحكم على المتكلّم إلا بما يقتضيه جميع كلامه من أوله إلى
آخره ولا يلزم البعض ويترك البعض إذا كان الكلام مرتبطاً بعضُه ببعض الوجه السابع فيه دليل على أن الحكم يوم القيامة ليس الشخصُ فيه ـ كما هو هنا ـ باختيار نفسه يؤخذ ذلك من قوله مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه ثم لا يَسَعُه إلا الاتِّباع وإن كان يُفضي به - كما هو متحقق - إلى الهلاك وهنا الأمر قد ورد والمتبعون على اختلاف فمتبع بالجملة وتارك بالجملة أيضاً وما بينهما والحكمة في ذلك - والله أعلم - لمّا كانت هذه الدار يجتمع فيها الحق والباطل كان أهلها على ذلك الوضع ولما كانت تلك حق كلُّها كان الكلّ فيها على
مقتضى وضعها
وهنا بحث وهو أنه قد أخبر أنه من كان يعبد شيئاً اتَّبعه وسكت ولم يخبر عن استقرارهم أين يكون فسكوته عليه السلام عن غاية الاستقرار يؤخذ ذلك من مفهوم الكلام وهو أنه لما أخبر عليه السلام بأنهم طواغيت وقد عُلِم بقواعد الشرع أن الطواغيت كلها في النار فللعلم بذلك سكت عنه عليه السلام وإن كان قد بيّنه في حديث آخر فإنه عليه السلام ذكر فيه أنهم يردون جميعاً النار الأوثان وعُبّادُها وقد نبه عزّ وجلّ على ذلك في كتابه بقوله عالى في فرعون - وهو واحد ممن عُبد من دون الله - ﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ
الْمَوْرُودُ ۱
فال

الوجه الثامن قوله عليه السلام وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها وهنا بحث في الأمة هل الألف واللام للجنس يعني أمة التوحيد من الثَّقَلَيْنِ من أول العالم إلى آخره أو للعهد يعني به أمة محمد عليه السلام لا غير احتمل والأظهر أنها للجنس بدليل ما عدا عباد الطواغيت وهم جميع الرسل وأممهم من الجن والإنس أي أنهم لا يتبعون وثناً وإن كان فيهم المنافقون وهم غير مؤمنين لكنهم لما ادعوا أنهم مؤمنون أبقوا مع المؤمنين
۱ سورة هود من الآية ۹۸
٣٦٦
نجر

به
الوجه التاسع قوله عليه السلام حتى يأتينا ربنا تمحيص ثانٍ لحقيقة دعوى الإيمان فهناك يتميز الخبيث من الطيب وفي هذا الموضع دليل على فضل الإيمان لأنه لما تلبس هؤلاء
المنافقون بدعوى الإيمان أبقيت عليهم حرمة ما في ذلك الوقت العظيم من أجل تلك الدعوى
الوجه العاشر قوله عليه السلام فيأتيهم الله عزّ وجلّ الإتيان هنا بمعنى الظهور لأن الإتيان في اللغة يكون بمعنى المجيء والانتقال كما تقول أتى زيد وقد يكون بمعنى الظهور كقولهم أتى الأمر الذي قلتم بمعنى ظهر وأتى الحق أي ظهر ومثله قوله عليه السلام لا يبقى العدل بعدي إلا يسيراً فإذا طلع الجَوْرُ ذهب من العدل مثله والجَور ليس هو جرماً يطلع ويبرز وإنما هو بمعنى ظهوره فيكون الإيمان بالإتيان مع عدم الكيفية والأوصاف اللائقة بالمحدثات كلها
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام فيقول أنا ربكم هذا أيضاً يجب الإيمان به مع نفي الكيفية لأن مولانا سبحانه لا يتكلم بحرف ولا بصوت وإنما هذا ميسر بلغة سيّدنا محمد كما يسر القرآن الذي هو كلامه عزّ وجلّ فيَسَّر لهم إذ ذاك كلامَ مولانا جلّ جلاله بلغة العرب كما يسر لهم كلامه في الدنيا باللسان العربي
و احتمل أن يكون عزّ وجلّ يكلمهم بكلامه الذي هو صفته عزّ وجلّ كما كَلَّم موسى عليه السلام وفهمه له كيف شاء وتكون يسرت العبارة هنا لسيدنا محمد بلغته كما يسّر القرآن بلغته بمقتضى الحكمة والكيفية في الموضعين غير ملحوظة بل منفيّة نفياً كليا
ويترتب على ذلك من الفقه الإيمان القطعي بالكلام المذكور مع عدم الكيفية وكذلك في كل موضع يقع الكلام في ذاته الجليلة سبحانه وفي صفة من صفاته لا سبيل للنظر في الكيفية في شيء من ذلك
الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه هذا أدل دليل على أن إدراكات الحواس خَلقٌ من خَلق الله يخلق عزّ وجلّ فيها ما يشاء كيف يشاء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يأتيهم فيقول أنا ربكم على المعنى المتقدم فمع الرؤية والكلام لم تقع لهم معرفة لأن حجابهم جُعِل من عند أنفسهم
و نضرب بذلك مثلاً في عالم المخلوقين - وللهِ المَثَلُ الأعلى - مَثَل قرص الشمس إذا أقبلت وقيل لضعيف البصر انظر الشمس وهو يعلم بالقطع أن عين الشمس إذا لم يكن دونها سحاب أنها مستنيرة فإذا نظر إليها ببصره رأى فيها طرقاً حُمْراً وصُفْراً وسُوداً فيقول ليست هذه الشمس التي أعلم فيقال له منك عدم حقيقة الإدراك فينازع في ذلك فيقال له داو بصرك ثم تعال
٣٦٧

فحينئذ
وأبصرها فإذا داوى بصره وعاد إلى نظرها رآها على حال كمالها من الحُسن والضياء يسلّم أن حجابه كان من عند نفسه هذا في مخلوق مع مخلوق فكيف مع من لَيْسَ كَمِثْلِهِ فالحُجُبُ كلها التي لنا منا بمقتضى القدرة والحكمة الربانية
من عند
الوجه الثالث عشر فيه تعلّق لأهل الصوفة الذين يقولون بأن الحجبَ كلّها أنفسهم فمَن صح له منهم الخروج الكلّي عنها فقد وَصلَ وعَرف وخاطب وخُوطب وأبصَرَ وبُصْرَ لكن مع التزام حدود الإكبار والإعظام وتقرير القواعد الشرعية والتنزيه اللائق بالجلال الوجه الرابع عشر قوله هذا مكاننا أي لا نبرح منه وقوله حتى يأتينا ربنا أي كما وعدنا في دار الدنيا
ويؤخذ هنا من الفقه أنه على قدر حال علمك في هذه الدار يكون حالك في تلك الدار ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قيل له عن فتاني القبر قال أيكون معي عقلي قيل نعم قال لا أبالي وذلك لعلمه أن علمه يكون على أكمل حالات الإيمان فلذلك قال إذا بقي معي ما عقلته من الإيمان فأنا ناج لا شك فيه وإنما خاف من تبديل الحال ولذلك قال أهل العلم بالمعرفة والشريعة إن التجلي هناك في دار الكرامة يكون تفاوت الناس فيه على قدر معرفتهم في هذه الدار بالإجلال والإعظام
وقوله فإذا جاء ربنا عرفناه معناه فإذا تجلى لنا وعرَّفنا نفسَه عرفناه لأن المؤمنين هنا يعرفون أن قدرته جلّ جلاله عظيمة تفعل ما شاءت كيف شاءت
وهنا بحث هل كل الناس يقولون ذلك على لسان واحد أو أهل الخصوص والمعرفة هم الذين يجاوبون ويُخاطبون والغير في حكم التَّبع كما هو الأمر في هذه الدار لأن العرب إذا تكلّم البعض من الجمع قالوا قال القوم الأمر محتمل للوجهين معاً والقدرة صالحة أن تعطي هناك للعامي من حسن الجواب والأدب كما تعطيه للذي قد مُنَّ عليه بالمعرفة هنا
وفيه بشارة عظيمة وهي الإخبار بإبقاء الإيمان وهذا القدر من الاتصال حتى يقع الخطاب بين هذا العبد الذي هو على ما هو عليه من الحقارة مع هذا المولى الجليل مع ما هو عليه من الاستغناء والجلال ولذلك رُوي عن بعض المتعبدات أنها كانت تفرح بالموت وتقول أوليس يخاطبني ويقول لي يا أمَةَ السّوءِ فعلت كذا وكذا فذلك غاية مطلبي
وقوله فيأتيهم الله أي يتجلى لهم وقوله فيقول أنا ربُّكم هو على ما تقدم من القول قبله من البيان وقوله فيقولون أنت ربُّنا فحين مَنَّ عزّ وجلّ عليهم بالمعرفة عرفوه وقوله فيدعوهم هنا أي يدعوهم إلى الاتباع لما جاء في حديث غير هذا وقوله فيتبعونه أي يتبعون
٣٦٨

بننذ
مند
ما
حيث يُؤمرون وقد جاء أن هذا الموطن - أعني موطن الاتباع - يكون التفرقة بين المؤمنين والمنافقين حتى يقال لهم ارجعوا وراءكم فيلتفتون فيضرب بينهم بسُورٍ كما أخبر جلّ جلاله في كتابه فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ١ وقد جاء أيضاً مثله في حديث غير هذا
1,
الوجه الخامس عشر فيه من الفقه أنه عند الاختبار يتبين حقيقة الحقائق ويترتب عليه من الفائدة بعد الإيمان القطعي به أن يختبر المرء هنا حال إيمانه حتى يعلم من أي الفِرَق هو ولذلك قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
وَلْتَعلَمْ أن حُكم الله عَدْل وما أمرنا به حق وأن الحكم لا يتبدل فلا تمهل نفسك وتطمع
في الخلاص بضد موجبه فهو عين الحمق
وهنا سؤال وهو أن يقال ما الحكمة في تجلّي مولانا لنا أولاً ولم يُعطنا المعرفة وفي
الثانية يتجلى لنا ويمنّ علينا بالمعرفة ولم لا يتجلى لنا عندما اتبعت كل أمة ما عبدت فإن قلنا هذا مما استأثر الحق عزّ وجلّ به ولا سبيل لنا لمعرفة الحكمة في ذلك فلا بحث وإن قلنا إن الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وما أخبرنا إلا أن نتفكر ونعتبر ونتصبر وهو الأظهر والله أعلم فما الحكمة في أنه - عزّ وجلّ ـ تجلّى لنا مرتين ومنعنا في الأولى المَيْز ومَنَّ به علينا في الثانية فنقول والله أعلم لأن يكون بدء الخير وهو التجلي والكلام بما كنا عرفناه به في الدنيا أنه ليس كمثله شيء وأن كل ما فينا من حواس وما فينا من إدراك خَلقٌ له عزّ وجلّ فعرفنا أولاً بالصفة التي ابتدأنا بها في الخلق أولاً وآخراً وهي صفة القدرة المتصرفة فينا مع إبقاء صفات دعوانا فيما جبلنا عليه أولاً بأول بمقتضى الحكمة
وأما كونه - عزّ وجلّ ـ أخر التجلّي حتى لم يبق إلا هذه الأمة فيها منافقوها على البحث المتقدم وهم جميع الرسل وأممهم جنّاً وإنساً فذلك - والله أعلم - ليُظهِر لهم قدر النعمة عليهم إذ يعاينون ذلك الجمع الكثير كلهم يَرِدون النار ثم يمنّ عليهم بعد ذلك بالتجلي والخطاب فيقدرون إذ ذاك على قدر المنة بمقتضى الحكمة كما جعل - عزّ وجلّ - بين الجنة والنار طيقانا ۳ يُبصِرُ أهل الجنة منها أهل النار وما هم فيه فيكبرُ عندهم قدرُ النعمة التي هم فيها لأن النعمة لا
تُعرف إلا بمعرفة ضدّها
۱ سورة الحديد من الآية ۱۳ أخرجه ابن المبارك وسعيد بن منصور والإمام أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر
من كلام عمر رضي الله عنه ۳ الطيقان مفردها طاق وهو ما عُطِف وجُعِل كالقوس من الأبنية
٣٦٩

جعلنا الله من أهل نعمه في الدارين بمنه
وقوله يضرب الصراط بين ظهراني جهنم يُضرَب الصراط أي يُنصَب كما تقول ضربت الحبل أي نصبته وقد جاءت صفة الصراط أنه أدق من الشعرة وأحَدُّ من السيف وأنه سبع عقبات وأن طول كل عقبة مقدار ثلاثة آلاف سَنَة على أحد الأقاويل
وقوله بين ظهراني جهنم أي على وسط جهنم لأن الحروف عند العرب يُبدل بعضها من بعض وهو من فصيح الكلام كقوله عليه السلام في حديث الإسراء أتينا على السماء السادسة معناه إلى السماء السادسة وتقول العرب فلان بين ظهراني القوم أي في وسط القوم فيكون المعنى فيُنصَبُ على وسط جهنم وقد جاء أن النار تدور بالناس في المحشر كما يدور الخاتم بالإصبع وأن الشمس من فوقهم وليس لهم طريق إلى الجنة إلا على الصراط إذا
نُصِب وصفته كما تقدم ويترتب على ذلك من الفقه الإيمان بالصِّراطِ أنّه حق وأنه الآن مخلوق يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام يُضرَب فلو لم يكن مخلوقاً لأخبر أنه يُخلق فلما أخبر عليه السلام في غير هذا الحديث به وبصفته وتحقق وجوده أخبرنا هنا بأمر قد عُلِم ولو لم يكن كذلك لأَخبَرَ به حتى يُعرَف هذا الاسم على ماذا يقع والصراط في اللغة هو الطريق قال تعالى ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا ﴾ ۱ أي طريقي
الوجه السادس عشر يؤخذ منه الدليل على عظيم قدرة القادر جلّ جلاله يؤخذ ذلك من كيفية وصف هذا الصراط وعِظَمِ النار التي هي بِقَدْر طُوله وهذا الترتيب العجيب الوجه السابع عشر فيه دليل لمذهب أهل السنّة الذين يقولون بأن النار مخلوقة موجودة
الآن لأن الصراط لا يُضرب على شيء إلا أن يكون مخلوقاً موجوداً حِسّاً
الوجه الثامن عشر فيه دليل على أنه لا يخرج إلى المحشر من جميع النيران إلا جهنم وحدها لأن النار - كما أخبر عزّ وجلّ - في الكتاب وكما أخبر عليه السلام في الحديث سبعة فالأولى منها جهنم وهي التي يدخلها المذنبون من أمة محمّد عليه السلام وغيرهم من المؤمنين
المذنبين فمنهم من يقع فيها من على الصراط ومنهم من يدخل من بابها أعاذنا الله منها بفضله
وهنا بحث وهو لم خُصت هذه من جميع دَرَكات النار بالخروج إلى المحشر دون غيرها فالجواب أنه لما أحكمت الحكمة الربانية أن الصراط لا يجوز عليه إلا أهل الإيمان وأن الكفار لا
0 204
۳۷۰
1 سورة الأنعام من الآية ١٥٣

يعبرون عليه فإنه إنما جُعل طريقاً إلى الجنة والكفار ليسوا من أهلها فلا يعبرون عليه وإنما يدخلون ما أعد لهم من الدّرَكات على أبوابها ومن أهل الإيمان من لا يكون دخوله النار إلا أن يقع من على الصراط فلم يُنصَب الصراط إلا على النار التي هي مختصة بأهل الإيمان لئلا يقع أحد من المؤمنين في نار ليست له حُكْمٌ عَدْلٌ بمقتضى حكمة الحكيم الذي ليس كمثله شيء الوجه التاسع عشر فيه دليل على أن أمور الآخرة ليست على وضع أمور الدنيا في غالب أمرها يؤخذ ذلك من أن الصراط بهذه الصفة - يتحمل جواز جميع المؤمنين في مقدار بعض يوم من أيام الدنيا لأنه جاء أن الحق - سبحانه - يفرغ من الفصل بين العباد في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ١ والجواز على الصّراط في جزء من ذلك النصف والعادة في هذه الدار أن ذلك القدر من
9
٩٦ وص
۱ قول المؤلف الشيخ ابن أبي جمرة أن الحق - سبحانه يفرغ من الفصل بين العباد في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا موافق لما جاء به بعض المفسرين منهم الجلال السيوطي والجلال المحلي فقد جاء في تفسيرهما في شرح قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ - سورة إبراهيم من الآية ٥١ يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك وعلق القاضي الشيخ محمد أحمد كنعان في كتابه قرة العينين على تفسير الجلالين بما يلي لقد سها الجلال السيوطي بوصفه النهار بأنه من أيام الدنيا وكرّر ذلك في ثلاثة مواضع أخرى ص ٤٠ وص ۱۷ ومثله فعل الجلال المَحَلي ٦١٩ والصواب أن الله تعالى يحاسب الخلق كلهم في مقدار نصف نهار أما مقدار هذا النهار فقد جاء مبيناً في قوله تعالى ﴿ تَمْرُحُ الْمَلَيْكَةُ وَالرُّوحُ اليوفي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُرُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وهو يوم القيامة فيتم الحساب في نصف هذا اليوم لما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقوم الناس لربّ العالمين مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة يُهوّن ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب ويؤيده ما رواه الشيخان في عقاب مانعي الزكاة في المحشر وفيه قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة
رضي
وإما إلى النار
ص
وروى ابن المبارك في الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه قال لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقبل هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أي المؤمنون في الجنة والكفار في النار
فيوم القيامة طويل جدا على الفاسقين وهو أطول على الكافرين وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَفِرِينَ عَسِيرًا ولكنه يهون على المؤمنين كل بحسب عمله فمنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم سبعون ألفاً من أمة محمد كما في حديث رواه الشيخان ويكون قصيراً على الفقراء من المسلمين فيدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمئة عام كما في حديث رواه الترمذي وصححه الحاكم وفي رواية لمسلم قبل أربعين عاماً بينما الأغنياء محبوسون للحساب على مالهم من أين اكتسبوه وفيم أنفقوه
أما ما رواه أحمد وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي الله أنه قال إني لأرجو ألا تعجز عند ربّها أن يؤخرهم نصف يوم قيل لسعد وكم نصف يوم قال خمسمئة عام فهو محمول على قرب قيام الساعة على الصحيح وليس على يوم الحساب لذلك أورده أبو داود في باب قرب الساعة والمعنى يمهلهم من زماني هذا إلى انتهاء خمسمئة سنة بحيث لا يكون أقل من ذلك إلى قيام الساعة ولو زاد
فلا مضايقة فيه
۳۷۱

الرقة والحدة لا يقدر أن يحمل من الثقل شيئاً فكيف بثقل ذلك العالم العظيم ولأن الطريق الواسعة أيضاً في هذه الدار لا يمرّ عليها من الجمع الكثير إلا اليسير فكيف مع تلك الرّقة والدقة وأيضاً فإن الطريق الضيّق هنا إذا كان على مهواة لا يملك أحد أن يستطيع المرور عليه وهناك أهل النجاة يمرون عليه وما عندهم من ذلك خبر كما أخبر الصادق لا فسبحان مَنْ هذه قُدْرتُه الوجه العشرون قوله عليه السلام فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته فيه دليل لما ذكرناه ۱ أولاً لأنه عليه السلام عنى بـ الأمة جميع الموحدين من ادم عليه السلام إلى
·
محمد عليه الصّلاة والسلام
الوجه الحادي والعشرون فيه دليل على فضل سيدنا محمد على جميع الرسل عليهم السلام وفضل أمته على سائر الأمم يؤخذ ذلك من تقدمه عليه السلام بأمته في الجواز
على الصراط
وقوله عليه السلام ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل يعني حين الجواز على الصراط لا في اليوم كله بدليل ما جاء في كلام الناس أنهم يطلبون الشفاعة ويمشون من رسول إلى رسول وما يحتاج الناس بعضهم مع بعض عند الحساب ومن كلامهم في هذا الحديث مع مولانا - جلّ جلاله - حين يقول لهم أنا ربكم
ويوم القيامة يوم واحد والأهوال فيه مواطن فعبَّر عن كل موطن باليوم وهذا سائغ في لسان العرب من تسميتهم البعض بالكلّ والكلّ بالبعض كما تقول جاء زيد يوم الخميس وما جاء من اليوم إلا في ساعة واحدة وبهذا المعنى يجتمع كل ما جاء من الأخبار في يوم القيامة لأنها كلها أخبار والأخبار لا يدخلها نسخ وهي كلها حق
الوجه الثاني والعشرون فيه دليل على شدة الهول في ذلك الموطن بدليل أنه لا يقدر أحد أن يتكلم لأنه لا يمنع من الكلام - لا سيما من الدعاء - إلا الهول العظيم ومما يدل على ذلك كلام الرسل - عليهم السلام - الذي هو دعاء بالسلامة وهم الآمنون
الوجه الثالث والعشرون فيه دليل على أن الدعاء هناك يُرجى قبوله والخير من أَجَلّه ولولا
ذلك لما كانت الرسل - صلوات الله عليهم - يَدْعُون
الوجه الرابع والعشرون فيه دليل على فضيلة هذه الصيغة في الدعاء وهي قولهم عليهم
۱ في الوجه الثامن من شرح هذا الحديث

مة
ن
اة
L
السلام اللهم سَلّمْ سَلَّمْ فلولا ذلك لما كانوا يدعون بها في هذا الموضع العظيم وقيل إن
معناها أسألك بجميع ما سُئلت به
الوجه الخامس والعشرون قوله عليه السلام في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ فيه من الفقه التشبيه في الأخبار إذا عرف ما يُشَبَّه به أنه أبلغ في البيان لأن شوك السعدان كثير في البرية له أطراف شديدة الحدة إذا تعلقت بشيء قلما ۱ تنفصل عنه إلا وقد أخذت منه فإذا كانت هذه هنا على هذه الصفة مع وُسع الأرض ودقتها هنا فكيف هناك مع ذلك العظم وضيق الطريق فانظر ما أبدع هذا التشبيه ! وإن الذي تتعلق به إما ترميه في النار وإما تُخَرْدِلهُ كما أخبر عليه السلام وفيه أنها - وإن كانت بهذه الصفة - لا يكون تعلُّقها بأحد إلا بقدر ذنوبه فهو بمعنى التخردل ويكون تشبيه التخردل بقدر الذنوب التي من أجلها تعلقت فاحذر أيها المسكين هنا تنج هناك ولذلك جاء عنه أن النار تقول للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نور وجهك لَهَبي
فشتان ما بينهما
الوجه السادس والعشرون فيه دليل على عظم القدرة لأن تلك الكلاليب لم يذكر عليه
السلام أنها في أيدي زبانية وإنما ذكر أنها في جهنم دون محرّك يحركها إلا القدرة الوجه السابع والعشرون فيه دليل على أن المعلم يسأل من علمه بما يعرف أنه يعرفه حتى يتيقن بالتحقيق أنه قد علم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هل رأيتم شوك السعدان حتى قالوا نعم وهو عليه السلام يعلم أنهم يعرفونها لكن الحكمة حتى يتيقن من أنهم قد عرفوا تمام المعرفة
الوجه الثامن والعشرون فيه دليل على أن عدم التحديد في الموضع المخوف أبلغ يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا يعلم قدر عظمها إلا الله عزّ وجلّ فلو وصف عليه السلام قدْرَ عظمها ما كان أوقع في نفس من تعلق به مثل ما إذا ردَّه إلى علم الله
وقوله تخطف الناس أي تجذبهم إلى جهنم من أجل أعمالهم الخبيثة كما تقدمت الإشارة انفاً وقوله فمنهم أي من الناس وقوله من يوبَق بعمله أي يُهلك بسبب عمله السُّوء كقوله
1
يريد فقلما
مروي بالمعنى أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن يعلى بن منبه رضي الله عنه وأوله تقول النار للمؤمن
۳۷۳

عز وجل أَو يُويقهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعْفُ عَن كَثِير وقوله ومنهم من يخردل أي تأخذ تلك الكلاليب منه بقدر ذنوبه وقوله ثم ينجو فيكون الناس على هذا الخبر الصدق ثلاثة أصناف ناج بلا تشويش وهو ما قدمنا ذكره الذي تقول له النار جُزْ يا مؤمن ومنهم الذي توبقه أعماله
فيهلك وما بين ذلك الذي يخردل ثم ينجو
وهؤلاء ليسوا على صفة واحدة بل منهم الكثير التخردل ومنهم القليل وما بين ذلك يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بقدر أعمالهم ومعلوم بالضرورة أن أعمال الناس ليست على حد واحد وكذلك الفرقة الناجية ليست على حد واحد في العذاب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بقدر أعمالهم وقوله عليه السلام ثم ينجو يعطي المفهوم هنا أن المُخردَل لا ينجو إلا بعد بطء لأن
ثُمَّ تعطي المهلة في الزمان فلا يكون زمان نجاته إلا بعد طول أو تعب ويعطي أن ضِدّه - الناجون ـ تكون نجاتهم بسرعة وقد جاء ذلك في قوله عليه السلام إن من المؤمنين من يَجوزُ على الصراط مثل البرق ومنهم مثل الريح ومنهم مثل الجواد السابق ومنهم مثل أشدّ الرجال جرياً ومنهم مَشيا ٢ وهذا أدلّ دليل لما قدمناه آنفاً وهو أن الثلاثة أصناف ليسوا على حد
واحد
وقوله حتى إذا أراد الله رحمةً من أراد من أهل النار أي أنه وصل الوقت الذي سبق في علم الله وإرادته أن يرحم من سبقت له الرحمة في ذلك الوقت من أهل النار لأن الإرادة من الله ليست كإرادتنا تحدث بعد أن لم تكن تعالى الله أن تكون صفاته تُشبه صفاتِ المُحْدَثين
الوجه التاسع والعشرون فيه دليل على أن من كان من أهل الإيمان وإن كان في أي حالة لا يقطع إياسه من رحمة أرحم الراحمين فلعله ممن سبق له من الخير سابقة وقد قال جلّ جلاله ﴿ إِنَّهُ لَا يَأْيْتَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ۳ وقد روي أن عمر بن عبد العزيز رأى في النوم أن القيامة قد قامت وحوسب الخلفاء فأُمِرَ بهم ذات اليمين حتى وصل الأمر إليه فحوسب فأمر به ذات اليمين فهو سائر مع الملائكة فلقي في الطريق مثل الجيفة فقال للملائكة من هذا قالوا اسأله فهو يخبرك فَوَكَزه برجله وقال له من أنت
رضي
الله عنه
96
0
۱ سورة الشورى من الاية ٣٤

جزء من حديث أخرجه الشيخان من حديث الرؤية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
۳ سورة يوسف من الاية ۸۷
٣٧٤

فقال له أنا الحجاج فقال له ما فعل الله بك فقال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة وقتلني بسعيد ابن جُبَيْر ۱ سبعين قتلة وأنا أنتظر ما ينتظر الموحدون
وقوله أمر الملائكة أن يُخرجوا من كان يعبد الله أي قوماً ممن كانوا يعبدون بدليل قوله في حديث آخر إنه يخرج أولاً من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان وفي الثانية أدنى حبة من الإيمان وفي الثالثة أدنى أدنى حبّة من الإيمان فاحتمل هنا أن يكون أراد أن يخبر بالكل عن البعض وأراد أن يخبر عن جميع المخرجين وإن كانوا في مرار عدة اختصاراً ولكونه عليه السلام قد أخبر به في مكان آخر مفصَّلاً فإن الفصيح يختصر في أخباره ليُحفَظ عنه ويطول ليفهم بحسن البيان عنه وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتي من كلا النوعين أكملهما وأعلاهما وقوله أن يُخرجوا من كان يعبد الله معناه من كان مؤمناً لأن المؤمنين ينطلق عليهم اسم عباد وإن كان منهم المذنب لأنه قد عبد الله أي أنه قد أقرَّ له سبحانه بالألوهية ولم يجعل له شريكاً ولا عبد شيئاً من دونه لأنه لو كانت عبادته على ما يُعرَف من اللغة الاصطلاحية ما دخل النار والعرب تسمّي الكل بالبعض والبعض بالكل
وهنا دليل لمذهب أهل السنة الذين يقولون إن النار لا تُحرق بذاتها وإنما الحرق خَلقٌ من خَلْق الله تعالى يُصيبُ به مَن يشاء فلو كانت تُحرق بذاتها لأحرقت الملائكة وغيرهم وأحرقت مواضع السجود كما تحرق سائر الجسد فبان بتبعيض حرقها أن ذلك ليس بمجرد وجود جوهرها بل ذلك بحسب ما يخلق فيها
وقوله ويعرفونهم بأثر السجود وحرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود هنا بحوث منها أن يقال هل أثر السجود لا تأكله النار ممن كان مؤمناً سجد أو لم يسجد فإن قلنا بذلك فقد أخرجنا اللفظ عن موضعه لأنه - عليه السلام - قال يعرفونهم بأثر السجود وأثر الشيء لغةً لا يكون إلا بعد ما مرّ عليه ذلك الشيء لاسيما مع قوله عليه السلام بين المؤمن والكافر تَرْكُ
الله
1 سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي كان أعلم التابعين أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر رضي عنهم وكان ابن عباس يقول إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه أتسألونني وفيكم ابن دهماء يعني سعيدا ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على عبد الملك بن مروان كان سعيد معه إلى أن قتل عبد الرحمن فقبض عليه واليها خالد القسري وأرسله إلى الحجاج فقتله بواسط قال عنه أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيداً وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه ت ٩٥هـ / ٨٩٢م الأعلام ١٤٥/٣ مذهب أهل السنة أن الله عزّ وجلّ خالق الأفعال كلها فالنار لا تحرق إلا إذا وضع الله فيها قوة الإحراق بدليل سلبه قوة الإحراق من النار التي أعدت لحرق سيدنا إبراهيم الخليل قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ورمي بها فلم تصب منه شيئاً وكذلك السكين لا تقطع إذا سحب الله منها قوة القطع وكذلك الخبز لا يشبع إذا سلب الله منه قوة الإشباع ومثله الماء لا يروي إذا سلب الله منه قوة الإرواء وهكذا
3
٣٧٥

الصلاة ۱ لأنه لو صلى صلاة واحدةً فقد حصل في العضو أثر صلاة وإنما بَحْثنا على من لم يصل لا واحدة ولا أكثر وعلى هذا التوجيه يكون الخوف على من ترك الصلاة أشد لأنه يُخاف عليه التبديل
عند الموت وإن مات على الشهادة فيخاف عليه ألا يخرج مع هؤلاء المؤمنين لعدم العلامة عنده وهنا حديث يعارضنا وهو قول جبريل للنبي من مات من أمتك يَشهدُ أن لا إله إلا الله دخل الجنّة قال وإِنْ فَعلَ كذا وكذا قال وإنْ فَعلَ كذا وكذا ۳ والانفصال عنه أن نقول أشدّ الخوف على تارك الصلاة عند الموت فإن مات مُقرّاً بها مُخلِصاً بها لا يُخرج مع هؤلاء أصحاب العلامة وإنما يُخرج مع أصحاب القبضة التي يقبض الله - عزّ وجلّ - كما جاء في الحديث أن الله - عزّ وجل - بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين في العصاة الذين يكونون في جهنم فيُخرجونهم منها ولم يبق إذ ذاك في النار إلا مَن حَبَسه القرآن فيقول الله عزّ وجلّ قد شفعت الرسُلُ وشفَعت الأنبياء وشفَعت الملائكةُ وشفَعت العلماء وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيقبض في النار قبضة فيُخرج في تلك القبضة كلَّ من حَبَسَه القرآن ۳ فيكون هؤلاء في جملتهم وسيأتي الكلام على جملتهم في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله
وهنا بحث في قوله عليه السلام حرَّم هل هذا إخبار عن منع مولانا - جلّ جلاله - الحَرقَ أن يصل إلى تلك الأعضاء بالقدرة أو أن النارَ يُخاطبها الحق سبحانه فالذي أذن لها أن تحرقه تحرقه وما حرمه عليها لا تعتدي عليه وهل هذا الخطاب لها - وهي من جملة الجواهر التي لا فهم لها ولا عقل - فتفهم عن الله كيف شاء أو أنها عند الخطاب يوضع فيها إدراك بما تفهم عن الله وأنها تخاطب بالمقابلة والقدرة هي المتصرّفة أو أنها تفهم وتعقل وأن الحَرقَ منها لكن بقدرة الله تعالى فتكون مثل بني آدم أفعالهم كَسْبٌ لهم وهي في الحقيقة خَلْقٌ لربهم وهم
عليها مثابون ومعاقبون
احتمل كل الوجوه لكن الأظهر أن الحرق منها بدليل ما جاء أن النار اشتكت إلى ربّها
E
فقالت أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنَفَسَينِ في كل عام نَفَسٍ في الشّتاء ونَفَسٍ في الصيف وما جاء أنها تخاطب سيدنا محمداً ل وفي المحشر والأحاديث في كلامها كثيرة وما جاء أنها تلقط الناس في المحشر وتعرف أهلها بما جَعلَ الله من العلامة فيهم
1 أصل الحديث بين الرجل والشرك ترك الصلاة أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد
الله رضي الله عنهما
مروي بالمعنى أخرجه البخاري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
۳ حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود في النار
٤ جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب صفة النار عن أبي هريرة رضي الله
٣٧٦

بديل
الله
شد

الوجه الثلاثون فيه دليل على فضل العبادة إذ مع استيجاب العقاب لا تُعذَّب تلك المواضع وهنا إشارة صوفية لما علم أهل الصوفة بأن مواضع العبادات لها حُرمة - بمقتضى هذا الحديث - بقوله لا يجتمع في جوف امرىء غبار في سبيل الله ودخان جهنّم حتى يعودَ اللبن في الضرع وما جاء في الآثار من مثل هذه المعاني الجليلة جعلوا قلوبهم وجميع أبدانهم كلها صرفاً للعبادة فاستوجبوا بذلك بحُسنِ الوعد الجميل المقامَ الرفيع في الدارَينِ وَفي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٢

الوجه الحادي والثلاثون قوله عليه السلام فَيُخرجون من النار فكلّ ابنِ آدمَ تأكُله النارُ إلا أثر السجود هنا بحث وهو لِمَ كرَّر القول إن ابن ادم تأكله النار إلا أثر السجود وهو عليه السلام قد أخبر أولاً أن مواضع السجود قد حرَّمها الله عزّ وجلّ على النار فيكون تكراراً لغير فائدة وحاشى سيدنا محمداً ل أن يقول شيئاً لغير فائدة
فالجواب أن نقول ما كرَّر عليه السلام ذكرَ النارِ أنها لا تأكل مواضع السجود من ابن ادم بعد ذكر خروجهم إلا لزيادة فائدة ثانية وهي أن النار ليست مثلنا حُرّمت الأشياء علينا فمِنّا المُجتَنِبُ لما حرم عليه ومنا الواقع فيه وأن النارَ طائعةٌ جميعها لا تتعدى على ما حُرّم عليها حتى يُخرجوا منها وهي لم تتعدَّ فيهم ما أُمِرَت به
وفيه معنى زائد على ذلك وهو أن النار أكبر جرماً منا وأشدُّ وهي لا تَعصِي ونحن على حقارتنا وضعفنا نَعصي وفيه معنى شديدٌ من التوبيخ للمخالفين لأمر الله - عزّ وجلّ ـ كما قال جلّ
جلاله في كتابه عَلَيْهَا مَلَيْكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ ۳ قوله تعالى لَا يَعْصُونَ مع ما فيه من الإرهاب معنى مثل هذا من التوبيخ لأنهم مع غلظتهم وشدتهم لا يعصون الله وأنتم مع ضعفكم وقذارتكم تعصون مليككم فيجتمع فيه الترهيب
والتوبيخ
وقوله فيخرجون من النار قد امتحَشوا أي ذهب ما لهم من اللحم ويا ليتهم عُدِموا لأنهم لو عُدِموا لكانوا استراحوا وقوله فيُصَبّ عليهم ماءُ الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَمِيل السيل الحِبَّة هي كل بذر ما عدا المطعوم فإن كل ما هو مطعوم قيل له حَبّة بفتح الحاء وكل ما ليس بمطعوم مثل العشب في البرية وما أشبهه قيل له حِبّة بكسر الحاء لغة
1 أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله
سورة المطففين من الآية ٢٦
۳ سورة التحريم من الآية ٦
۳۷۷

وفي هذا من الفائدة الإخبارُ بالحكمة وهي أن ما ينبت من اللحم بماء الحياة لا يفنى وفيه الإخبار بسرعة ما يحيا من الأشياء عند وضع ماء الحياة عليه بقدرة الله تعالى كما أخبر عن السامري حين أبصَرَ جبريل عليه السلام حين أتى إلى موسى عليه السلام على فرس الحياة فراها لا تضع حافرها على شيءٍ إلا اخضَرَّ في الوقت فأخذ من أثرها فجاء من قصته ما أخبر الله عزّ وجلّ في كتابه لما وضعها في الحُلِيّ وقال له كنْ عِجلا عاد في الحين عجلاً له خوار كما أخبر هنا في هذه الدار التي خُلِقت للفناء فكيف في تلك الدار التي هي مثل ذلك الماء للحياة والبقاء وهذا من أقوى الأدلة على قدرة الله سبحانه وتعالى
الوجه الثاني والثلاثون فيه دليل على عِظَم ما أودَع الله - عز وجل - في هذا السيد من المعرفة بأمور الدنيا والآخرة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام شبَّه سرعة نباتهم بنباتِ الحِبَّة في حَمِيل السَّيل إذ مع السَّيل تكون أسرع في النبات في الأرض من غيرها لأنه يجتمع فيه التراب الرّخْوُ الذي يجذبه السيل وكثرة نَداوته فلولا معرفته عليه السلام بأمور الدارين لما كان من كلامه
هذا التشبيه العجيب الوجه الثالث والثلاثون فيه دليل على استصحاب الحكمة والقدرة معاً في تلك الدار كما هما في هذه الدار يؤخذ ذلك من أنه لم ينبت لهم لحم إلا حتى ٢ صُبَّ عليهم ماء الحياة والقدرة صالحة على أن تنبت لهم اللحم دون سبب فهذا أثر الحكمة وكونهم في النار تأكل لحومهم وتَمْحَشُهم ولا تأكل أثر السجود أثر للقدرة فسبحان من أقام ما في الدارين بقدرته وصرَّف ما فيهما من الأشياء بحكمته
وقوله ثم يفرغ الله سبحانه من القضاء بين العباد يعني بين هؤلاء المذكورين وغيرهم إلا هذا الشخص المذكور بعد فيكون الحكم فيه كما أخبر وأتى بـ ثم التي تقتضي المهلة لأن هؤلاء الذين يُخرجون من النار - كما أخبر عليه السلام انفاً ـ لم يُخرجوا من النار حتى مكثوا فيها ما شاء الله بعد يوم الحساب الذي حكم فيه بين العباد وهذا أيضاً من تمام الحكم للوعد الجميل في هذه الدار من مات على الإسلام فلا بُدَّ له من دخول الجنة لأن حساب يوم القيامة سريع وهذا فيه بطاء من أجل توفية المقدور على هؤلاء فلما كان أوله مرتبطاً بآخره اقتضى طولاً فأتى عليه السلام بـ ثم التي تدل على ذلك
۱ السامري رجل من بني إسرائيل قصَّ الله عزّ وجلّ علينا قصته في سورة طه من الآية ۸۳ إلى الآية ۹۸ واسم السامري موسى بن ظفر صنع من حلي بني إسرائيل العجل الذي عبدوه في غياب موسى عليه السلام وابتلاء الله بترك مخالطة الناس وكان إذا مسه أحد أصيب بالحمّى كذا بإقحام إلا

۳۷۸

الوجه الرابع والثلاثون قوله عليه السلام ويبقى رجل بين الجنة والنار المعنى أنه ليس هو أحدهما وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون وهو الحق إن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان جواهر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بين الجنة والنار
في
الوجه الخامس والثلاثون قوله عليه السلام وهو اخِرُ أهل النار دخولاً الجنة فلا تكون المسافة إلا في المحسوسات ولا الدخول إلا في محسوس أيضاً وفيه دليل على أن بين الدارين في الآخرة مسافة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في حديث غيره إن لها أربع جدارات غلظ كلّ جدارٍ أربعون سَنَة ۱
الوجه السادس والثلاثون قوله عليه السلام يقول يا ربِّ اصرف وجهي عن النار فقد قشَبَني ريحُها أي تأذيتُ بريحها والقَشَب النَّتَن يقال ما أقشَبَ بيتهم ! أي ما أنتَنَه وأَقذَرَه وفيه دليل على أن دار الذنوب والمعاصي تُنتن وأن الشخص يتألم به التألم الشديد وفي الحديث أن رجلاً يُرمى في النار وله ريح منتنة فيتألم لها أهل النار فيقولون يا فلان ما شأنك أليس كنتَ تأمرُنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنتُ أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر واتيه ٣ وقيل فيه وجوه غير هذا وهذا أنسبها من أجل أن الجنة ريحها طيب وهو من أكبر نعيمها فكذلك النار ريحُها نتن وهو من أكبر عذابها

وهنا بحث كيف يُتَنَجَّس بالرائحة وقد اختلف العلماء في الرائحة النَّجِسة على المَحلّ هل تسلب الطهارة إذا كانت لا حالة قولان
الوجه السابع والثلاثون قوله عليه السلام وأحرقني ذكاؤُها فيه دليل على عِظَم حَرّ النار وعظم نتنها إذ إنها بعد أربع جدارات يقشِبُه ريحُها ويحرقه ذكاؤها فكيف حال من هو فيها وهنا بحث وهو أنه يُعارضنا حديث هَنَّاد الذي قال له الله فيه هو اخر أهل النار خروجاً منها واخِرُ أهل الجنة دخولاً ۳ وقد قال عليه السلام عن هذا المذكور مثل ما قال عن ذلك المدة فنقول والله الموفق إن الجمع بين الحديثين أن هذا اخر أهل النار الخارجين عنها لأن
الصلاة ولاية واشعة ت
1 رواه الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ السُرادِقِ النار أربعة جُدر كِثَفُ كل جدار مسيرة أربعين سنة
أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ۳ رواه البخاري في كتاب التوحيد والرقاق ومسلم عن عبد الله بن مسعود بدون تسمية وجاءت تسميته بـ جهينة في كتاب أفراد مالك للدارقطني و غرائب مالك للخطيب البغدادي وقال الدارقطني إنه حديث باطل ونقل الحافظ في الفتح عن السهيلي أنه جاءت تسميته بـ هناد ولم نجد لهذه التسمية رواية فيما توفر بين
أيدينا من مراجع
۳۷۹

التقسيم يُعطي أنهم على ضربَينِ داخل فيها وخارج عنها - كما أخبر عليه السلام ـ لأنه أخبر عن هذا أنه من أهل النار لأنه أقرب إليها من الجنة والعرب تسمي الشيء بما يقرب منه ولولا قربه منها لما أحرقه ذكاؤها وهناد داخل فيها فهناد اخر من يخرج منها واخر من يدخل الجنة من الخارجين منها والذي هو مذكور في هذا الحديث هو اخر من يدخل الجنة من أهل
النار الذين هم خارجون عنها الوجه الثامن والثلاثون فيه دليل على قوّة الرجاء في إجابة الدعاء وإن لم يكن الداعي أهلاً للإجابة يؤخذ ذلك من أن هذا السائل قد صح أنه من أهل النار ومن هو من أهل النار فهو من المبعدين مقطوع به ثم يتفضل - عزّ وجلّ - عليه ويُنيله رحمته فكيف مَن هو في حال الاحتمال لأن الناس كلهم في هذه الدار محتملون للسعادة وغيرها فهو أقوى رجاءً في رحمة
أرحم الراحمين

الوجه التاسع والثلاثون فيه دليل اخر في قوة الرجاء في قضاء حاجة من لا يعرف من الأدعية شيئاً إذا ذكرها لمولاه يؤخذ ذلك من أن هذا لم يَدعُ بشيء من الأدعية وإنما طلب حاجته وشكا
ضُرَّه بأن قال اصرِف وجهي عن النار وذكر ما هو فيه فأجيب في مسألته وكُشِف ضُرُّه
وقد دخلت مرة على بعض أهل الخير - رحمه الله - وهو ينادي يقول ارحمني والسلام وهو مستغرق في حاله فقلت ما هذا السؤال فقال لي دعني فإني تفكرت في الدنيا وما فيها من البلاء والهموم وفي الآخرة وما فيها من المحن والأهوال فلم أدر بماذا أدعو ولا كم ذا أعدد فقلت ارحمني والسّلام فوجدتُ حلاوة لكلامه في الوقت وإلى هلمّ جرّاً كلما ذكرته وجدتُ تلك الحلاوة فعلمتُ أن الله - سبحانه وتعالى - استجاب له بفضله لما رزقه في الوقت من الصدق مع مولاه من الله علينا بذلك بمنّه
ويُقوّي هذا الرجاء الذي أشرنا إليه قوله جلّ جلاله ﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۱ وقوله فيقول فهل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك معناه فهل تطلب زيادة إن فُعِل ذلك بك كما قال جلّ جلاله فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ قيل معناه تريدون وبدل تريدون هنا قوله أن تسأل غير ذلك ومعناه فيقول الحق سبحانه وما سكت عن ذكره هنا إلا لأن خطاب العبد كان له أولاً فهو
۱ سورة الزمر من الآية ٥٣ سورة محمد من الآية
۳۸۰

أخبر
منه
يدخل
أهل
أهلا
و من
حال
دعية
شكا
هو
من
د
تُ
ق
ن
سبحانه المجاوبُ له ولو كان غيرُه هو الذي جاوبه لذكره لأن عادة التخاطب ألا يجاوب إلا
الذي خوطب فإن كان خلاف ذلك ذكره لخروجه من العادة المعلومة
الوجه الأربعون قوله فيقول لا وعِزَّتِك هنا إشارة صوفية وهي أن فرحه أوجب مبادرته باليمين فعلى مذهب الصوفية يكون فرحه بالمخاطبة أكبر من قضاء الحاجة لأنهم يقولون مَن لم يَرَ النعمة إلا في قضاء الحاجة فذلك محجوب وإنما النعمة في التفات الموالي وجوابهم وأهل الحجاب يقولون هنا فرحه بحاجته أوجَبَ له مبادَرَتَه باليمين
الوجه الواحد والأربعون قوله فيعطي الله - عزّ وجلّ ـ ما شاء من عهد وميثاق هنا دليل على أن العهد آكد في المواثيق من الأيمان لأن المولى - سبحانه - لم يقنعه منه ما أقسم به حتى أخذ عليه العهد والميثاق والعلة في ذلك قد ذكرها العلماء وهي أن الأيمان جُعِل فيها المخرج الكفّارة بعد الحنث أو قبله والعهد لم يُجعَل له مَخرَج بل زيد فيه تأكيد لقوله عزّ وجلّ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسئولا 1
وهي
وقوله فإذا أقبل بوجهه على الجنة على هنا بمعنى إلى فإذا أقبل أي قرب بوجهه إلى الجنة وقوله رأى بهجتها أي حُسنَها كما أن ذكاء النّار وقشَبَها ينال من خارجها فكذلك الجنّة يُرى حُسنُها ويُنال خيرُها من خارجها لأن كلَّ إناء بالذي فيه يرشَحُ
الوجه الثاني والأربعون قوله سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال يا رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنت سألت هنا دليل على طمع ابن ادم يؤخذ ذلك من كونه لمّا عوفي من ذلك البلاء ورأى الخير لم يقدر أن يصبر عنه لما طبع عليه فنسي العهود بغلبة الطمع وسأل القرب إلى الخير وهو باب
الجنة ولعل وعسى
الوجه الثالث والأربعون فيه دليل على أن الضعيف لا يسأل إلا على قدر ضعفه يؤخذ ذلك من سؤاله أولاً بأن يُعافى من قربه من النار ولم يتجاسر أن يطلب ما طلب ثانية فلو نظر لمن يطلب منه لَطَلَب أولاً الذي طلب آخراً الوجه الرابع والأربعون فيه دليل على قناعة النفس عند اليأس باليسير يؤخذ ذلك من أنه لم يطمع في الجنة لعمله المقارب وطمع بأن يعافى من النار ليس إلا
وهنا إشارة صوفية لأنهم يقولون إقطعِ النفس عن المباح ما كان ضرورياً كان أو غير
۱ سورة الإسراء من الآية ٣٤
۳۸۱

ضروري يقع الصلح معها على اليسير من القدر الضروري وتقنع به وتفرح مثال ذلك أن تمنعها الأكل مرة واحدة يقع الصلح معها بكسيرات تقيم بها ظهرها كما قال حسبُ ابن آدم لقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه ۱ فإن بقيَتْ على طمعها فلا تُقنعها الدنيا بأسرها كما قال لو أن لا بن ادم
واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثاً ٢ وقد قال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير الوجه الخامس والأربعون فيه دليل على لُطف الله عزّ وجلّ ببني ادم ومَعذِرَته لهم لما يعلم من ضعفهم يؤخذ ذلك من كونه - جلّ جلاله - قبل منه أولاً العهود والمواثيق وهو - عز وجل - يَعلَمُ أنه لا يصبر عما يرى من الخير ولا بد له أن ينكث ومثل ذلك قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ۳ لأن هذا معنى لطيف لما أتى بقوله وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ إثر الإخبار بقبول التّوبة
وقد جاء في الكتاب في غير ما موضع أنه - عزّ وجل - عالم بما نفعل وهذا من شرط
الإيمان بأنه عزّ وجلّ عالم بما نحن فاعلون لأن من التائبين من يُوفي ومنهم من يَنكُث وهو -
سبحانه - عالم بمن يُوفي وبمن ينكث لكن قبلها من الكلِّ على حد واحد ويُثيبهم عليها
ويمدحهم على ذلك
وكفى في ذلك ما جاء عن بعض بني إسرائيل أنه كان يُوقِعُ الذَّنب ثم يتوب ثم يوقع الذنب ثم يتوبُ حتى قالت الملائكة ربَّنا ألا ترى هذا العبد كيف يهزأ يُوقِعُ الذنب ثم يتوب فقال جلّ جلاله ملائكتي ألا ترَوْن عبدي يعلم أن له ربّاً يأخذ بالذنب ويقبل التوبة وعِزّتي لا أزال أقبل توبته ما تاب إليَّ ٤ ولولا فضله - عزّ وجلّ ـ لكان يفضح الناكث ويقول له لا أقبل توبتك فإنك تَنكُث وقد قال المؤمنُ التواب يبقى له فضلةٌ من عمله يدخل بها الجنة
وقوله فيقول يا ربّ لا أكون أشقَى خَلقِك هنا بحث وهو كيف يكون أشقى خلقه

۱ جزء من حديث مروي بالمعنى أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله عنه والشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما والبخاري عن ابن الزبير رضي الله عنهما وابن ماجه عن أبي هريرة وأخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه والإمام أحمد عن أبي واقد رضي الله عنه

۳ سورة الشورى الآية ٢٥ ٤ أورده البخاري في كتاب التوحيد ومسلم في باب سعة رحمة الله وأنها تغلب غضبه عن أبي هريرة رضي واللفظ فيهما مخالف لما أورده الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه
الله عنه
۳۸

وهو - عزّ وجلّ - قد عافاه من النار والقرب منها وقد قال له الله لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيما ولم يجىء أن أحدا رأى الجنة ثم حُرمها لأن الكفار من محشرهم يمرون إلى النار فعلى هذا التأويل يكون أشقى الخلق كونه رأى الجنة ولم يدخلها
واحتمل وجهاً آخر وهو أنه مَن مَنَّ الله عليه بأن عافاه من النار أدخله الجنة لقوله والذي نفسي بيده ليس بعد الدنيا من دارٍ إلا الجنة أو النار فإذا كان هذا بقرب الباب فيكون أشقى خلقه المرحومين فيكون اللفظ عاما ومعناه الخصوص وهذا في كلام العرب كثير لأن من عوفي من النار ومجاورتها فقد رُحم ودخل في جملة الفائزين كما قال لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيماً
الوجه السادس والأربعون فيه دليل على كثرة تحيل بني ادم فيما يُصلحهم يؤخذ ذلك من أنه طلب أولاً أن يُبعد من النار لعله يُحصل نسبةً لطيفة في أهل الخير وهذا من تدقيق الحيل على العليم الخبير فكيف مع غيره ولذلك قال آخر المسألة فيضحك الله منه
الوجه السابع والأربعون فيه دليل على أن ما هنا للشخص من العقل والفكرة والتحيل باقٍ هناك فإنه يُبعث على ما كان عليه يؤخذ ذلك من هذه الحيلة اللطيفة وما جاء من تحاج الروح والنفس وغير ذلك من الأحاديث مما يشبه ذلك
الوجه الثامن والأربعون قوله فيقول ما عَسَيتَ الكلام عليه كالذي قبله وقوله إن أعطيت ذلك ألا تسأل غيره حتى يقدم إلى باب الجنة الكلام عليه كالكلام قبل وقوله فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها أي حُسنَها وقوله وما فيها من النضرة والسرور أي حسن المنظر وما تُسَرّ النفس به إذا رأته من أنواع النعيم ومن حُسن السُّرور كما أخبر - عزّ وجلّ ـ به في الكتاب العزيز في قوله عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ١ أو تكون الزهرة كناية عما فيها من الزهر والفواكه والنَّضْرة كناية عن حسن نظامها ويجمع كل هذا وأكثر منه قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى لَهُم مِّن قُرَّة

وقوله فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول يا رب أدخلني الجنة جاء البحث المتقدم في التحيل وما طبع عليه من كثرة الطلب والتحصيل فيما ليس مثل ذلك فكيف بما لا تطيق الألسن أن تَصِفَه فكذلك النفوس لا تطيق الصَّبرَ عنه وهنا بقيت الصفة التي طبع عليها وهي أنه لا ينظر إلا
1 سورة الواقعة من الآية ١٥ سورة السجدة من الآية ١٧
۳۸۳

إلى تحصيل الأقرب فالأقرب لَمَّا طلب أولاً أن يُبعد من النار فأسعِفَ في ذلك ثم قرب إلى بار
الجنة فلم يبقَ بعد القرب إلا الدخول فطلبه فهو على حالته الدنيوية لم يتغير
وقوله فيقول الله وَيْحَكَ يا ابن ادم ما أغدرك ! هذا زجر أشدّ من الأول لتكرار النكث ثلاث مرات وبقي هو على كلامه الأول لم يزد عليه وهو قوله لا تجعلني أشقى خلقك
وفيه من الفقه أنه إذا فتح على شخص من وجه ما يلتزمه لأنه لمّا قُبِلَ هذا منه في الأولى وما بعدها وأسعف من أجله في طلبه استصحبَ ذلك الحال وقد قال مَن رُزِقَ من باب فَلْيَلْزَمْهُ ۱ فامتثل هذا الأمر هنا ولو التزم الأمر في الدنيا ما احتاج إلى هذا وكونه - عزّ وجلّ - زاد هنا قوله ما أغدَرَك يؤخذ من ذلك ألا يُنسب الشيء للشخص ويُعرف به حتى يتكرر منه وأقل عدد التكرار الذي ينسب به إليه ثلاث لأن الواحدة والاثنتين قد تكونان غلطاً أو نسياناً أو إحداهما غلطاً والأخرى نسياناً ولا تكون الثالثة إلا تعمّداً فيتحقق أن ما وقع قبلها كان مقصوداً من خير أو غيره يؤخذ ذلك من أن مولانا - جلّ جلاله - لم يقل له ما أعْدَرَك إلا في الثالثة
الوجه التاسع والأربعون هنا بحث وهو لم سمّى هنا ابن آدم فيه إشارة لطيفة لأن عدم الوفاء هو الأصل والغالب فينا إلا من عصم الله والتزكية هي من طريق الفضل ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا والنفس أمارة بالسُّوء إلا ما رحم ربي لكنه توبيخ بحسن لطف لأن توبيخ الكريم دال على كثرة إعطائه وتوبيخ اللئيم دال على عظم منعه ولذلك جاء أن مولانا - سبحانه - يحاسب المؤمنَ يوم القيامة سِرًّا ليس بينه وبينه ترجمان يقول له يا عبدي فعلت كذا فيعترف العبد لمولاه بذلك حتى يظن أنه هالك لكثرة ذنوبه فيقول الله تعالى أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ۳
وفائدة ذلك من الحكمة أنه لو قال سبحانه اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي ما قنع بذلك كما جاء عن بعض بني إسرائيل أنه كان في جزيرة منقطعة في وسط البحر ليس معه فيها أحد مشتغل بعبادة الله لا يَفْتُر وأنبت الله له في تلك الجزيرة شجرة رمان تنبت له في كل يوم رمانة يأكلها وأجرى الله له عيناً من ماء فبقي على تلك الحالة خمسمائة سنة ثم سأل ربه - عز
۱ رواه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه سورة النور من الاية ۱

جزء من حديث مروي بالمعنى أخرجه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي عنهما أوله إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس
٣٨٤

ن
وجل - أن يقبضه ساجدا فأتحفه الله بذلك ثم بعد هذا أخبر عنه - عليه السلام - أن يؤتى يوم القيامة به فيقول الله عزّ وجلّ اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي فيقول يا ربّ بل بعملي فيأمر الله - عز وجل - الملائكة أن يحاسبوه على شكر نعمة حاسة البصر فيحاسبونه فما تفي عبادته الخمسمائة سنة بذلك ويبقى ما عداه لم يوف منه بشيء فيقول يا رب أدخلني الجنة برحمتك فيقول - عزّ وجلّ - له نِعْمَ العبد كنتَ اذهبوا بعبدي إلى الجنة برحمتي

فإذا قرره على ذنوبه اجتمع له الفرح بمغفرة الذنوب وبستره الذي لم يُفضح وبما وَهَبَ له من النعيم فكثرت النعمة عنده فرضي عن المنعِم وذلك من جملة الإنعام من المنعِم أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ٢ وهنا كذلك لما أراد الله - عزّ وجلّ ـ بفضله أن ينعمه بدخول دار الكرامة أكثر له في التوبيخ وقرّره على غدره أصلاً وفرعاً ومستصحباً في الدارين

الوجه الخمسون فيه دليل على الطمع في فضله - جل جلاله - لأنه ذكره - سبحانه - أيضاً قدرَ نعمته عليه بالعفو هنا وتغمَّده بفضله وبصفحه عنه عما جرى فكذلك استصحب لك أنتَ ذلك الفضل بمجرد الفضل لِيَصِحَ أن النعمة إنما هي بمجرد الفضل من الرب ليس إلا إما بهداية وإما بعفو وتجاوز أو بمجموعهما لمن شاء كيف شاء لا يُسأل عما يفعل
واستصحاب العبد صنة الرجاء - وإن رأى من المولى ما عسى أن يرى - هي صفة الإيمان لأنه - عزّ وجلّ ـ يقول لَا يَأَيْتَسُ مِن زَوْعِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ ۳ فتلك الصفة أيضاً - التي كانت هنا ـ من الرجاء في أصل أبيه أبقيت عليه حتى كَمُلَت له بها السعادة وهو دخول الجنة مَنَّ الله بها علينا بلا محنة بفضله فهو الولي الحميد
الوجه الواحد والخمسون هنا بحث وهو لِمَ قال في الآخرة يقول الله ولم يقل ذلك في المرتين المتقدّمتين فالجواب أنه لما كثر الترداد بطرق الاحتمال أتى بذكر الله تعالى لزوال احتمال يقع وتحقيقاً لما قلناه وتأكيداً
وقوله فيضحك الله معنى الضَّحِك من المولى - سبحانه - ليس كمثل الضَّحِك منا الذي هو
1 جزء من حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي والحاكم وتعقب البيهقي في الشعب والعقيلي في الضعفاء والحافظ في لسان الميزان وقال لم يصح هذا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه الله عنه وسماه البيهقي حديث العابد والرمانة وأوله خرج من عندي خليلي جبريل عليه السلام انفاً فقال يا محمد والذي بعثني بالحق إن الله لعبدا من عباده عبد الله خمسمائة سنة إلخ
سورة الملك من الآية ١٤ ۳ سورة يوسف من الآية ۸۷
٣٨٥

الاضطراب والخِفّة وإنّما هو إشارة إلى ما يصدر من الملوك عند الضَّحِك من كثرة الإحسان وما يكون فيه أيضاً من الإشارة إلى التعجب كما تقدم تعالى الله أن تكون صفاته تشبه صفاتِ المحدثات وإنما خوطبنا بما نفهم على عادتنا وقوله ثم يأذن في دخول الجنة أي ينعم بذلك
ويُبيح له الدخول وقوله فيقول تَمَنَّ قد جاء من طريق آخر أنه إذا دخل يرى الناس قد أخذوا منازلهم فيقول - عزّ وجلّ ـ له تَمَنّ فيتمنى حتى تنقطع أمنيته وناهيك من تمني طماع إذ رأى خيراً كثيراً وهو يعلم أن القائل له تمَنَّ غنيّ كريم وقوله حتى إذا انقطعت أمنيته أي لم يبق له شيء يطلبه إلا أعطيه فلا تسأل عن قدره وقوله قال الله سبحانه لك ذلك ومثله معه أي ضعفين مما سأل
وقوله عن أبي سعيد يقول ذلك لك وعشرة أمثاله هذه صفة كرم مَن ليس كمثله شيء وتحقيق لقوله عزّ وجلّ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ۱ فالأصل بفضله والزيادة من فضله لكن لما كان الأصل خالطه وصفٌ ما من العبد إما من عبادة وإمّا من سؤال - وهو محل النقص - وكانت الزيادة لمجرد الفضل لا مقابل لها من محل النقص - وهي العبودية - كانت أضعافاً مضاعفة من
الأصل
ولذلك كان من وصيّة بعض السادة الفقراء لا تيأسوا من مسألة الفضل فإنه أنجح في المقصد حتى إن بعض من كان يُحسِنُ الظَّنَّ بالفقراء سمعها فأخذها بصدق وسأل بها في حاجة له وزاد فيها وزيادة من فضلك كما يليق بفضلك فرأى فيها من العجائب العجب العجاب ثم قيل له هذه الزيادة ما سبقك بها أحد
بفضله
مَنَّ الله علينا بخير الدارَينِ بلا محنة بفضله كما يليقُ بفضله والزيادة بفضله كما يليق
وفائدة هذا الحديث الإيمان الجزم بما فيه من أمور الآخرة وقوة الرجاء في فضل الله وكثرة الخوف من مَكْر الله وبذل الجهد هنا في أسباب السعادة بينما المرء في زمن المهلة ويجعل ما هو مذكور كأنه قد وقع وهذه إشارة صوفية وهي عندهم أعلى الأحوال لأنهم يقولون اطو المسافة واترك الرعونة وقد وصلت وقد نبَّة المولى - سبحانه - على ذلك في كتابه حيث قال أَفَرَيْتَ إِن
۱ سورة النساء من الآية ۱۷۳
٣٨٦

ــاتِ
مك
قول
وهو
ـره
۶
لما
من
جة
متَعْنَهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَمُونَ ۱ وما غرَّ أهل الدنيا إلا بعد الأمر عندهم فبه طال الأمل وقسَتِ القلوب ورغبوا في العاجلة وزهدوا في الآخرة جعلنا الله ممن قصر أمله وحسَّنَ عمَله بمنّه وفضله
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليماً
يق
اجرامل
مل
الله
1 سورة الشعراء الآيات ۰۵ - ۰۷

۳۸۷

حديث جواز الدعاء في الصلاة
عن أبي بكرِ الصِّدِّيقِ۱ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّهُ قالَ لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمْني دُعاء أدعُو بهِ في صَلاتِي قَالَ قُلِ اللّهمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفسي ظُلماً كثيراً ولا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلا أَنْتَ فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةٌ مِن عِندِكَ وارحمني إِنَّكَ أنت الغَفُورُ الرَّحِيمُ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز الدعاء في الصلاة وفضل هذا الدعاء المذكور والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول طلب التعليم من الفاضل وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه علمني دعاء وهو معلوم أنه يعرف من الأدعية ما لا يعرف غيره من وجهين من أجل فصاحته وقوة إيمانه ومن أجل كثرة ملازمته لرسول الله لكن رغب في زيادة بركة النبي صلى الله عليه وسلم
وهنا بحث وهو لم قال في صلاتي ولم يقل أدعو به على الإطلاق فالجواب أنه إنما قال ذلك لأن الشارع عليه السلام حض على الدعاء في الصلاة بقوله عليه السلام أقرَبُ ما يكون العبد من الله إذا كان في الصلاة وأقرب ما يكون في الصلاة إذا كان ساجداً فأكثروا فيه الدعاء فقمين أن يُستجاب لكم أي حقيق
۱ هو عبد الله بن أبي قحافة أبو بكر الصديق أول خليفة الرسول الله وصاحبه في الغار وفي الهجرة وبنته عائشة زوجة النبي عليه السلام لقب بالصدّيق لما قال لأبي جهل في الإسراء والمعراج لئن قالها لقد صدق وهو أمير الحج في حياة الرسول الكريم سنة تسع وهو الذي استخلف عمر بن الخطاب بعده وكان موقفه في حرب الردة وبعيد وفاة الرسول عليه السلام لا نظير له وقد كاد عمر بن الخطاب يفقد صوابه بوفاة النبي عليه السلام ويقول علي بن أبي طالب لقد استخلفه الرسول وأنا صحيح غير مريض ومقيم غير مسافر ولو شاء لدعاني وقد رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيا نا توفي عن ثلاث وستين سنة كعمر الرسول عليه السلام تماماً وقد
صلى إماماً على السيدة فاطمة بطلب زوجها سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ مختلف
۳۸۸

دعاء أدعُو بَ إِلا أَنْتَ
والكلام عليه
خذ ذلك من ف غيره من سب في زيادة
ب أنه إنّما
أقرَبُ ما فأكثروا فيه
هجرة وبنته
ـقد صدق
ن موقفه في عليه ة النبي ر ولو شاء
تماماً وقد
الوجه الثاني يترتب على هذا من الفقه أن ينظر المرء في عبادته إلى الأرفع ويتسبب فيه بمقتضى الحكمة الشرعية وإن كان الدعاء - كما تقدم في الحديث قبل - جائزاً أن يكون طلباً مجرَّداً يُرجَى فيه النُّجح - كما أبدينا - لكن الأفضل أن يُستعمل من موجباتِ الرحمة من الألفاظ والأزمنة والأماكن وما أشبه ذلك أرفَعُها قد دلّت أصول الشريعة على ذلك كله وكَفَى في ذلك إشارة قوله عزّ وجلّ فَإِذَا فَرَغْتَ فَأَنصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ۱ فهذه كلها أسبابٌ في رجاء قبول الدعاء لأن التفرغ من الأسباب يحصل منه حضورُ القلب والإخلاص والرغبةً يحصل منها دوام التذلل وتكرار الألفاظ المستعطفة والانتصاب - وهو الصلاة - يستدعي جميعَ وجوه القُرَب فإنها أعلاها فإذا أمر بالأعلى فغيرُه في الضّمن
الوجه الثالث قوله عليه السلام قال قل اللهم إني ظلمت نفسي إلى آخر الحديث هنا بحث وهو أي نسبة بين هذه الألفاظ وبين نسبة ما طلب الطالب لأن المعروف من الأدعية الشرعية أنها ألفاظ تقتضي بمتضمنها حرمة شيء من الأشياء وصفةً من الصفات الجليلة والأسماء الرفيعة كقوله جلّ جلاله وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وكقوله إن اسم الله الأعظم ما دعا به أحدٌ إلا أجيبَ دُعاؤُه ۳ وكقوله إذ سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم ٤ والآثار في هذا المعنى كثيرة والأدعية المأثورة عنه و الله كثيرة فالجواب عن ذلك
من وجوه
الأول أن النبي لا فهم من أبي بكر رضي الله عنه ما قصد بقوله أدعو به في صلاتي أنه أراد دعاء الإجابة فيه في معنى المقطوع بها ويحصل له به خير الدنيا والآخرة بمقتضى الحكمة الشرعية فأجابه الله بهذه الإشارة العجيبة كأنه عليه السلام يقول ليس على الله حق واجبٌ حَتم وإنما هي أسباب يُسعِد بها من يشاء ويَحرِم من يشاء فمن أسعده فمن عنده وبفضله فاطلب أعلى الأشياء وهي المغفرة - كما تقدم البحث فيها في الأحاديث قبل من الأصول وهو الفضل - ولا تُعلق خاطرَك بغير ذلك
وهذا كما أخبر عن نفسه المكرمة حيث قال عليه السلام لن يُدخل أحداً عمله الجنةَ قالوا ولا أنتَ يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته ٥ وهو عليه السلام
۱ سورة الشرح الآيتان ۷ و ۸ سورة الأعراف من الآية ۱۸۰ ۳ أخرجه السيوطي في جمع الجوامع برقم ٦١٨٥
٤ لم نقف على مصدره
0 أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه
33
۳۸۹

الذي جاء بأثر الحكمة وقال عليه السلام خمس صلوات افترضهن الله على عباده فمن جاء بهن لم ينتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهداً أن يدخله الجنة ۱ والجمع بين هذين الحديثين أن نقول الوعد بالخلاص لمن جاء بالأعمال ـ كما مر - مقام العوام وهو وعد حق يوفي لهم به ﴿ وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ۳ وبقي الخلاص ٢
بمقتضى الأعمال هو مقام الخواص مثل سيدنا الذي هو من خواص الخواص والتابعون له بإحسان إلى يوم الدين وأبو بكر رضي الله عنه من الخواص وكيف لا وقد قال ما فَضَلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا بصلاة ولكن بشيء وقر في صدره۳ والمطلب الذي طلبه من النبي الا الله وهو مقام العوام فكأنه عليه السلام يقول له بالضمن أنت من قوم ليس هذا مَقامَهم بل نجيبك على ما يقتضيه مَقامُك وهو مقام الخواص الذين يجمعون بين الشريعة والحقيقة فالشريعة هي الأعمال والدعاء والمحافظة على ذلك والحقيقة هي ألا يرى شيئاً من الخير في الدارين إلا بمجرد الفضل لا غير ويترتب على هذا من الفقه أن يُحمَل كلُّ إنسان على ما يقتضيه
حاله وإن لم يكن هو يطلب ذلك وقد قال عليه السلام أنزِلُوا الناس منازِلَهم ٤ وهذا عام ووجه آخر وهو أنه عليه السلام جعله يطلب مقصده من عند مولاه عزّ وجلّ لأنه إذا كان من عنده سبحانه بلا واسطة من محل النقص - وهي العبودية - كان أكمل ثم نَجَّحَ له المسألة بذكر هذين الاسمين الجليلين وهما الغفور والرّحيم الذي ٥ مقتضى أحدهما أنه يُعطي إذا سُئِل - وقد سأله مما عنده فكان أجدر في تحصيل ما طلب - والاسم الآخر يقتضي المغفرة ومن غفر له فقد رُحِم ومن رُحِم أيضاً فقد غُفِرَ له

واحتمل وجهاً آخر وهو أن الدعاء متوقف قبوله على المشيئة لقوله عزّ وجلّ بَلْ إِيَّاهُ تدعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ ٦ فجعل عزّ وجلّ الإجابة مرجوة غير مقطوع بها وقال
تلف
۱ مروي بالمعنى أخرجه الإمام مالك والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبادة
بن الصامت رضي الله عنه سورة التوبة من الاية ۱۱۱
۳ قال الحافظ العراقي لم أجده مرفوعاً وهو عند أبي يعلى والحكيم الترمذي عن عائشة رضي الله عنها وقال في النوادر إنه من قول بكر بن عبد الله المزني
٤ رواه مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها تعليقاً بلفظ أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ووصله أبو نعيم في المستخرج وأبو داود وابن خزيمة والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الأدب والعسكري في الأمثال وغيرهم من
حديث ميمون بن أبي شبيب رضي الله عنه
٥ يريد اللذين ٦ سورة الأنعام من الآية ٤١
۳۹۰

فمن جاء أن يدخله
كما مز -
الخلاص
وقد قال ـب الذي
يس هذا
الشريعة من الخير
يقتضيه

لأنه إذا ـجَّحَ له يُعطي غفرة
ـل إِيَّاهُ
وقال
عبادة
وقال
في
393
عز وجل في المضطر أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۱ فأوجب تعالى ـ بفضله ـ إجابة المضطر بالوعد الجميل وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ٢ فَنَقَلَه عليه السلام من صيغة الدعاء الذي

صاحِبُهُ بين الخوف والرجاء إلى حالة الاضطرار التي الإجابةُ فيها مضمونة
وحقيقة الاضطرار تؤخذ من قوله ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً أي ليس لي حيلة في رفعه فهذه حالة الافتقار لأن من لم يقدر أن يقوم بما يغفر ذنوبه فهو مضطر حقيقي لأنه لو كان معه ذنب كبير وكان معه شيء كثير مما يكفر به الذنوب ما قال اغفر لي مغفرة من عندك أي ليس لي موجب لها فصح بمتضمن هذين اللفظين حقيقة الافتقار المحض فحصل له ما طلب وفي النفس حاجات وفيكَ فَطانة فداكُما أبي وأمي من معلم ومتعلم ما أحسنَ آثارهما وأَنْوَرَ
بواطنَهما وأجلَّ أحوالهما أعاد الله علينا من بركاتهما بمنّه
الوجه الرابع هنا بحث في قول هذا السيد رضي الله عنه ظلمت نفسي الله عنه ظلمت نفسي ظلماً كثيراً هل هو حقيقة أو مجاز فأما أن يكون مجازاً فهذا مستحيل أن يقول النبي شيئاً يوجب المغفرة فيكون مجازاً ولا أبو بكر أيضاً يخاطب المولى الجليل بالمجاز عند موطن الرغبة فلم يبق إلا أن يكون حقيقة وإذا كان حقيقة فما هو لأن ما كان قبل الإسلام لا يؤاخذ به وبعد الإسلام هو السيد القدوة في الخير فما هذا الذنب
فالجواب وهو ما تقدم في الحديث قبل عند قول الله تعالى يا ابن آدم ما أغدَرَك ! فما كان من خير في الدنيا وفي الآخرة فهو من فضله جل جلاله إما بهداية لموجب ذلك من الأفعال التي نصبتها الحكمة الإلهية لذلك أو بمجرد العفو والفضل بلا موجب من عمل
يؤيد ما قلناه قوله تعالى ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۳ وقوله عزّ وجلّ ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ٤ وقوله عزّ وجلّ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ ري ٥ فأخبر الصادق عليه السلام الصديق رضي الله عنه أن يُقر بالأصل وهو الاعتراف بما طبعت النفس عليه وهو حقيقة الحق ويطلب الخير التام - وهي المغفرة والرحمة - من عند
الغفور الرحيم

66333
1 سورة النمل من الآية ٦٢ سورة التوبة من الاية ۱۱۱ ۳ سورة النحل من الاية ٥٣ ٤ سورة النور من الآية ۱ سورة يوسف من الآية ٥٣
0

63388
۳۹
ولذلك يقول بعض من يُنسَب إلى الخير كلَّ شيءٍ يَكبُرُ في هذه الدار إما حسّاً وإما معنى إلا النفس عند أهل التحقيق والمعرفة كلما زادت معرفتهم زادت النفس عندهم حقارة وذلة وهذا الحديث شاهد على ما قاله لأنه إذا كان الذي تناهى في الصدق والتصديق رضي الله عنه رُدّ إلى
هذا الاعتراف العظيم - كما أبديناه - فهل بقي من النفس عند هذا السيد شيء له قدر معاذ الله فمن أراد الخلاص والإخلاص فَلْينسج على منواله ضَمَّنا الله في سلكهم بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً

حديث رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة
عَنِ ابنِ عباس ۱ رَضِي الله عنهُما أَنَّ رَفعَ الصَّوتِ بالذكرِ حينَ ينصرفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلّم
ظاهر الحديث يدل على أن الناس كانوا على عهد رسول الله لا إذا انصرفوا من المكتوبة يُسمَع رَفع صوتهم بالذكر والكلام عليه من وجوه
منها تبيين الكيفية فيه وهل كان ذلك عاما في الخمس أو هو خاص ببعضها
أما الجواب على أنه عام أو خاص فمحتمل لهما معاً والأظهر أنه خاص والدليل على خصوصيته يُؤخذ من أحاديث منها ما رُوي أن النبي الله كان إذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بوجهه المُكرَّم على الصحابة رضي الله عنهم فيقول هل رأى منكم أحد الليلَةَ رُؤيا فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله من الحديث وبقي يحدثهم ٣ فإذا بقي هو ـ عليه السلام - يحدثهم فلا شك أن الخلفاء والأكثر من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجلسون معه لاسيَّما أهلُ الصفة ٤ من الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يكونوا يخرجون من المسجد إلا عند حاجة البشر وكانوا يديمون الجلوس في المسجد بل كان أكثر الصحابة ينتظرون الصلاة بعد الصلاة لما فيها من الأجر كما أخبر لا بقوله فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فذلِكُمُ الرّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباطُ ٥ ثلاثاً

۱ سلفت ترجمته في الحديث ٤٣ المكتوبة هي الصلاة المفروضة ۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والبغوي في شرح السنّة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه انظر الحديث ٦٩ ٤ أهل الصفة هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه وكان أبو هريرة واحدا منهم
0
جزء من حديث طويل أوله ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا أخرجه الإمام مالك ومسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

۳۹۳

فلم يبقَ أن ينطبق عموم هذا الحديث إلا على الخصوص وهو ما جاء في حديث ذي اليدين في قوله خرج السَّرْعان وهم الذين لهم الأشغال الضروريات فيذكرون إثْرَ الصلاة لما جاء فيه لئلا يفوتهم شيءٌ من المندوبات فيخرجون مسرعين فمن أجل سرعتهم وهم كلهم - رضي الله عنهم - محافظون على المندوبات وإعلانهم بذلك من أجل أنه إذا كان أحدُهُم خارجاً وهو يذكر سِراً قد يأتي من يُكلِّمه أو يَشغَله فيَحتَرِم ١ الذكر فإذا كان ذكره جهراً من أجل ۱ هذه العلة كان
أفضل لأنه جاء عنه ل له أن الذِّكْرَ الخفي يفضل الذكرَ الجَليَّ بسبعين درجة هذا إذا كانا جميعاً لغير علة لما قد يُداخل الجهر من الرياء وأما مع هذه العلة التي هي إن لم يَجهَر به فاته الذِّكْرُ بالجملة فالجهر إذ ذاك أفضَلُ وقد يكون - والله أعلم - سبب وقوله لالالالا
الذِّكْرُ الخفِيُّ يَفضُل الجَليَّ بسبعين درجة خوف دوامهم على الجهر كما ذكر راوي الحديث واحتمل أن يكون ذلك من العرب الذين كان إسلامهم عن قريب فلم يُنْهَوا عن ذلك لما فيه من التأنيس لهم والتحبيب للإيمان وأخبر الغير بالأفضل ليعملوا عليه مع الإمكان وسكت للبعض على الإعلان ليدل على الجواز فيكون فيه لأهل البدايات وأهل الأعذار أسوة فالدين يُسر وأما الكلام على الكيفية في الذكر هنا فيحتمل وجوهاً

منها ما قدمنا الكلام فيه وهو مخافة أن يفوتهم الذكرُ المأثور إثر الصلوات وهو ثلاث وثلاثون من التسبيح ومثله تحميد ومثله تكبير وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له واحتمل أن يكون الذكر المأثور عند الخروج من المسجد وهو قول الخارج بعدما يقدم رجله اليسرى في الخروج بسم الله اللهم افتح لي أبواب فضلك ۳ لأنها هي السنّة وهو الأظهر ويبقى الحديث على ظاهره وتكون فائدة إظهارهم لذلك أن يتعلم هذه السنّة من لم يعلمها ويتذكر صاحب الشغل الضروري إذا سمعها فيكون له الأجر في الذكر من وجهين من الذكر وما يتعدى به للغير من الخير لأنه قصد بإعلانه التعليم والإلهام كما قال عمر رضي تعالى عنه حين سأله سيدنا صلى الله عليه وسلم الم ترفَعُ صوتك بالقراءة بالليل فأجاب بأن قال أوقظ الوَسْنانَ وأطرُدُ الشيطانَ فأقره النبي على ذلك بعد أن أمره بالخفض قليلاً والصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعملون شيئاً من الأعمال إلا بنية صالحة وعِلْمٍ من الكتاب والسنَّة
نفس
الله
۱ احترم الشية مبيعه وتأتي بمعنى ها به وَرَعَى حُرْمَته واجتمع المعنيان في قولهم لا تحترم فتحترم أي لا
تهب فيفوتك الخير

أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وضعفه عن عائشة رضي الله عنها بلفظ يفضل الذكرُ الخفي الخ ۳ أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث السيدة فاطمة عليها السلام
٣٩٤

ويترتب على هذا الوجه من الفقه تقديمُ النيّة على العمل وقد قال خير العمل ما
تقدَّمته النية ۱ وأن العامل بعمل من الأعمال إذا قدر أن يجتمع له فيه نيات من الخير عدة فليفعل لأنه أكثرُ أجراً إلا أنه يُشترط أن يكون ذلك العمل غير واجب فإنه إن كان واجباً وأضاف إليه في نيته نية عمل آخر فإن فيه خلافاً بين العلماء هل يُجزِتُه عن فَرْضِه وما نوى معاً أو لا يجزئه عن واحدٍ منهما أو يُجزئه عن الأقل أو يُجزئه عن الأعلى أربعة أقوال هذا ما لم يكن قارناً في الحج والعُمْرة فإن هذا الموضعَ وحدَهُ مُجمّع على إجزائه للعملين معاً بشرط إراقة الدم كما هو مذكور في كتب الفروع فينبغي - إن كان فرضاً - أن يُفرد نيته خروجاً من الخلاف من أجل أن تبقى ذمته على أحد الأقاويل عامرة بما كُلِّف من أداء فَرضِه
قامة
ويقوي ما تقدم ذكره من أنه مخصوص بصلاة الصبح أنه إذا أتى مُطلقٌ ومقيَّد يُحمَل المُطلق على المقيَّد ويكون مخصصاً له وإذا كان كذلك فالعمل من ذلك الوقت إلى هَلُم جراً عليه لأن الغالب من الناس اليوم إذا خرجوا من صلاة الصبح جهروا بالذكر لأن الوقت وقتُ خلوة في الطرق من الناس إلا الذين خرجوا من الصلاة وخروجهم من الصلاة لا يكون إلا متفرقين غالباً والنفوس في ذلك الوقت منوَّرة متنعمة بالذكر وكانت بيوتهم رضي الله عنهم وبسطة فكان يُسمع ذكرهم من المنازل وأهل المنازل منهم مستيقظون لا يحبسهم في المنازل إلا الأعذار وما منع الناس اليوم من سماع الذكر في ذلك الوقت إلا تعليةُ المباني وكثرةُ النوم والغفلة فيكون معنى إخبار ابن عباس رضي الله عنه بهذا من أجل أن يعتقد معتقد أن إظهار الذكر ذلك الوقت مفضول بالنسبة إلى الذكر الخفي لأنه إذا كان في الطريق وهو وحده فلا فرق إذ ذاك بين الطريق وبين بيته وتنبيه ۳ منه أيضاً على التأكيد بالاشتغال بالذكر في ذلك الوقت وكثرة الحَضُّ عليه لأنه يزيد في الرزق فإن الرزق يُقسَم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فالذي كان في ذلك الوقت مشغولاً في عبادة يكون رزقه أوسعَ على ما جاء به الأثر
ويترتب على ما في الدليل من الفقه أن الطاعة إذا كانت سبباً لزيادة الرزق فالاشتغال بها ولى لأنه بها يحصل خير الدنيا والآخرة وقد جاءت الآثار أيضاً في هذا النوع كثيرة ولذلك كان أهل الضفّة أقل اهتماماً في طلب الرزق لتيقنهم بهذا وأمثاله وكانوا أحظى حالاً في الدارين إلا أن هنا شرطاً وهو أن يكون شغله بالطاعة خالصاً لله - عزّ وجلّ - لا من أجل الرزق فإنه إذا كانت طاعته من أجل الرزق فلا دنيا ولا آخرة وفي معناه قيل إن الخير بالطاعات منوط وصاحبها
1 لم نقف على مصدره القامة من الإنسان طوله بسطة زيادة ۳ وتنبيه العطف على المصدر المؤول أن يعتقد

٣٩٥

بالبركات موصوف والمعاصي صاحبها ممقوت وداراه بالبلايا محفوفتان وقيل أيضاً بالطاعات مُربحتان واتقاء السوء بهما معروف
وهذا البحث على أن الذكر كان منهم عند خروجهم من المسجد وأما إن حملنا الانصراف المذكور على خروجهم من صلاة المكتوبة فلا حاجة إلى هذا البحث كله وقد قال ابن بطال ۱ رحمه الله - في شرح البخاري لما أن تكلم على هذا الحديث قال يحتمل أن يكون هذا عند الجهاد في بلاد العدو فإن كان على هذا فالعمل عليه إلى الآن لأن السنة أن المجاهدين إذا انصرفوا من المكتوبة في الخَمْس يرفعون أصواتهم بالذكر ليُرهبوا بذلك العدو وإن لم يكن محمولاً على هذا فهو منسوخ بالإجماع ۳ والإجماع لا يحتج عليه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ ابن بطال هو علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال أبو الحسن عالم بالحديث من أهل قرطبة له شرح
البخاري توفي سنة ٤٤٩هـ / ١٠٥٧م الأعلام ٩٦/٥ ٢ يريد أن رفع الصوت بالذكر عند الخروج من المسجد منسوخ وأما رفعه بعد المكتوبة في الجهاد فغير منسوخ
٣٩٦

1911
حديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيت
عَن عَبد الله بن عُمَر ۱ رَضِيَ الله عَنهُما يَقولُ سَمِعتُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ كُلكم راع وكُلُّكُمْ مَسئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ الإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ راعٍ في أهلهِ ومسؤول عَن رَعِيَّهِ والمَرأَةُ راعية في بيتِ زَوجِها وَمَسؤولَة عَن رَعِيَّتَها وَالخادِمُ راعٍ في مالِ سَيِّدِهِ ومسؤول عن رعيَّتِهِ قال وحَسِبْتُ أَنْ قَد قالَ وَالرَّجُلُ راعٍ في مالِ أَبِيهِ ومَسؤول عَن رَعِيَّهِ وَكُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّهِ
ظاهر الحديث يدل على أن كل من استرعي على شيءٍ يُسأل عنه والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أن يقال ما معنى الرعاية وهل هي مقصورة على المذكورين في الحديث أو تتعدى بالحكم وما هو منها واجب وما هو منها مندوب
فأما الكلام على الرعاية فهي بمعنى الحفظ والأمانة ومنه قولهم رعاك الله أي حفظك وراعي الغنم أي الحافظ لها والأمين عليها
الوجه الثاني وهل يتعدى لأكثر مما في الحديث أم لا

فإن قلنا بفهم العلة فحيثما وجدنا تلك العلة عدينا الحُكم ويكون الحديث من باب التنبيه بالأقل على الأكثر إذ هي الأمانة والحفظ وقواعد الشريعة من هذا كثيرة تدل عليه بالنص والضمن فتكون فائدة الإخبار بهذا الحديث تنبيهاً على المذكورين لأنه أمر يُعقل لأن الناس لا يحسبون الراعي لهم إلا الخليفة ليس إلا وأن غيره ممن ذكر بَعد لا يدخل عندهم في باب الرعاية
۱ عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن صحابي من أعز بيوتات قريش في الجاهلية كان جريئاً جهيراً نشأ في الإسلام وهاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة ومولده ووفاته فيها أفتى الناس في الإسلام ستين سنة له في كتب الحديث ٢٦٣٠ حديثاً توفي سنة ٧٣هـ / ٦٩٢م الأعلام ٢٤٦/٤
عدينا الحكم صرفناه إلى غيره وطبقناه عليه
۳۹۷

ولا في باب الأمانة لأن الرجل يقول أهلي قد أبيحوا لي وليس لهم قبلي شيء غير الذي يجب علي من نفقة أو غير ذلك مما جرت به العادة وهي مسؤولة عن نفسها ولا يفكر أن عليه شيئاً مما يزيد على ذلك والابن يقول مال أبي ما عَلَيَّ أنا منه بل هو الحاكم عليَّ وتقول الزوجة مثل ذلك والعبد مثلهم فتضيع بين ذلك الحقوق ويُسألون عنها وهم قد أغفلوها فجاء التنبيه على ذلك من باب توفية النصح لمن استرعي وهو - عليه السلام - أكبر الرعاة توفية وبقي غير هذه من الأمانات تدل عليها هذه وما يجب لكل واحد منهم على صاحبه فيما يخص صاحبَ الرعاية الكبرى الذي له البيعة وقد تقدم الكلام فيه في حديث عُبَادة بن الصامت ۱ وأما ما بعده فنذكر فيه بحسب ما يفتح الله - عز وجل - به
الوجه الثالث قوله عليه السلام والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته الأهل هنا مبهم فما يعني به لأن الأهل ينطلق على الزوجة كما قال أسامة رضي الله تعالى عنه حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك فقال أهلك يا رسول الله عَنَى به
عائشة رضي الله عنها واحتمل أن يريد بالأهل مَن لزم الرجلَ نفقته شرعاً كقول نوح عليه السلام إِنَّ ابْنِي مِنْ أهلي ۳ وكقول مولانا - جلّ جلاله - في قصة أيوب عليه السلام وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَمُ وَمَثْلَهُم مَّعَهُمْ وكانوا زوجته وبنيه والعبد أيضاً داخل في الأهل لأنه من جملة الرعية بدليل قوله عليه السلام في سلمان ٤ هو من أهل البيت وكان عبدا ولأنه مما أبيح له النظر إلى زينة سيدته كما أبيح لذوي المحارم لقوله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ ٥
1 عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد صحابي من المشهورين بالورع شهد العقبة وكان أحد النقباء كما شهد بدرا وسائر المشاهد ثم حضر فتح مصر وهو أول من ولي القضاء بفلسطين ومات بالرملة أو ببيت المقدس روى ۱۸۱ حديثاً اتفق الشيخان على ستة منها وكان من سادات الصحابة توفي سنة ٣٤هـ / ٦٥٤م الأعلام ۳۰٤
سورة هود من الاية ٤٥ ۳ سورة ص من الاية ٤٣
٤ سلمان الفارسي صحابي من مقدميهم أصله من مجوس أصبهان عاش عمراً طويلاً ورحل إلى الشام فالموصل فنصيبين فعمورية وقرأ كتب الفرس والروم واليهود وقصد بلاد العرب فلقيه ركب من بني كلب فاستخدموه ثم استعبدوه وباعوه فاشتراه رجل من قريظة فجاء به إلى المدينة وعلم سلمان بخبر الإسلام فقصد النبي الله بقباء كلامه ولازمه أياماً وأسلم وأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه وكان قوي الجسم صحيح الرأي وهو الذي أشار على الرسول الكريم بحفر خندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وقال فيه عليه السلام سلمان منا أهل البيت له في كتب الحديث ٦٠ حديثاً توفي سنة ٣٦هـ / ٦٥٦م الأعلام ۳ ۱۷۰ ٥ سورة النور من الآية ٣١
وسمع
۳۹۸

يجب
أمها
مثل
على
من
عاية
فيه
الله
به
ين

احتمل الوجهين معاً لكنّ الأظهر أن يكون الأعم منهما فإن الفائدة فيه أعم ولأنه عليه السلام قال في آخر الحديث والرجل راع في مال أبيه ولم يذكر أن الأب راع في مال ابنه فلما كان الابن من جميع من دخل في قوله عليه السلام أهله لم يُعِد ذكرَه ومثل ذلك في العبد والزوجة وذكرهم عليه السلام لنعلم أنه - وإن كان صاحب البيت مسؤولاً عنهم - فإن كل واحد
منهم مسؤول أيضاً على قدر ما يَخُصُّه على ما يُذكَر بعد
فأما ما يجب على الرجل من الحق في زوجته وولده وعبيده فمنه ما هو عند الناس كلهم عالمهم وجاهلهم معروف كالكسوة والنفقة والسكنى لاخفاء به وهذا بعضُ من كلّ فإن الذي يجب عليه زائداً على ذلك حفظهم في دينهم حتى يحملهم عليه فرضه وندبه كل على وجهه وهواكد من النفقة والكسوة بدليل أن الكسوة والنفقة قد تسقط عنه بالعُسر والإرشاد إلى الدِّين وتعليمه لا يَسقط عنه بوجه وما لا يَسقط أكد ضرورةً مما يسقط لكن لما رأى الناس الحكام يحكمون في النفقة والكسوة وما يتعلق بالأمور الدنيوية ولم يحكموا في غيرها على الرعاة لم يبقوا يجعلون الواجب إلا ما حكم فيه ليس إلا وغاية الذين ينسبون إلى العلم والخير - في الأغلب منهم - ينسبون ما زاد على ما حكم به أن الكلام فيه من قبيل المندوب الذي إذا فعلوه كانوا مأجورين وإن لم يفعلوه لم يأثموا وهذا جهل محض وغلط ظاهر بدليل الكتاب والسنة وقول الأئمة أما الكتاب فقوله جلّ جلاله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ ١ وقوله عزّ وجلّ وَأمْر أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَأَصْطَبِرْ عَلَيْهَا
وأما الحديث فقد روي أن الرجل إذا كان له الولد وبلغوا وفرّط فيهم حتى وقعوا في المحذور فإن عليه من الإثم قدْرَ ما عليهم وأيضاً قوله عليه السلام في الصلاة مُرُوهُم بها لِسَبع واضرِبُوهم عليها لِعَشْرِ ۳ وليس هذا في الصلاة وحدها بل هي هنا من باب التنبيه بالأعلى
على الأدنى
وأما قول الأئمة فما ذكره ابن أبي زيد ٤ في رسالته وغيره قال ويُضربون على الصلاة العشر كما جاء وكذلك في غيرها من الواجبات
وقد اختلف العلماء فيما يفعله الوليّ بمن هو في ولايته من خير ويجبره عليه وذلك قبل
1 سورة التحريم من الآية ٦
سورة طه من الاية ۱۳
۳ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما
٤ سلفت ترجمته في الحديث ٤٤
۳۹۹

بلوغه من المأجور على ذلك العمل على ثلاثة أقوال منها أن الوليَّ هو المأجور والآخر أنّ الصبي هو المأجور لأنه هو الفاعل لذلك الفعل والآخر أنهما معاً مأجوران وهو الأصح بدليل قول سيدنا محمد للمرأة إذ رفعت له الصبي وهي في المِحَفَّة في حَجّة الوداع فقالت با رسول الله الهذا حَجّ فقال نعم ولَكِ أجرٌ ۱
وأما في العبيد فقول سيدنا إن زنت الأمة فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها وإن زنت في الثالثة أو الرابعة فبيعوها ولو بضفيرِ حَبْل ومثله ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كان معها قوم يسكنون في بعض ملك لها فرأت يوماً في بعض الأماكن أثراً لتلك الخطوط التي يلعب عليها النرد فأمرت بإخراجهم إن بقوا على ذلك الحال ولهذا قال العلماء لا يجوز للمرء أن يؤجر شيئاً من ماله ممن يعلم أنه يعمل فيه محرَّماً من المحرَّمات ومما يؤيد ذلك أيضاً قوله عزّ وجلّ في كتابه وَلَا تُكْرِهُوا فَنَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ۳ أي الزنى فكما يحرم عليه أن يؤاجرَ أَمَتَه في الزِّنى ولا يحل له أن يأخذ ذلك الشيء فكذلك غيره من المال ومما يقوّي ما قلناه ما كتبه عمر رضي الله عنه إلى عماله إن أهمّ أموركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع

فالضابط في هذا أعني جميع ما يجب على الرجل من الحقوق في أهله بعد ما تقرر عليه
بالحكم في علم الخاص والعام كما تقدم ذكره أن نقول
كل ما هو على الرجل واجب فهو عليه واجب أن يحمل أهله عليه إن كانوا كباراً إلا ما أسقطته الشريعة عنهم كالجُمُعة مثلاً عن المرأة وعن العبد مما قد تقرر بالشرع وهو مذكور في كتب الفقه وإن كانوا غير بالغين فيكون مندوباً كما تقدم ما هو عليه أيضاً مندوب يحملهم عليه مع إعلامه لهم أنه مندوب كما كانت الخلفاء رضي الله عنهم يفعلون في تسوية الصفوف ويبينون أولاً في الخطبة أنه ليس من الواجبات ثم يوكّلون أناساً يجبرون الناس على تسويتها ولا يدخلون في الصلاة حتى يعلموا بأنها قد استوت وتمام البحث على هذا الفصل يأتي في موضعه من الكتاب - إن شاء الله تعالى - ولا يسامحهم في ترك شيء من ذلك
ثم نرجع الآن نبين ما السبب في كون الحكام حكموا في مثل النفقة والكسوة وما أشبه ذلك حتى رَجحَ عند الناس أنه فرض - بلا شك - عندهم لما تكرر ذلك واستمر العمل به ولم يحكموا
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم بلفظ مختلف
۳ سورة النور من الاية ٣٣
٤٠٠

ان الله السنة
رياء
فَسِ
ـة ما
قد
ـوم
ـذا

قَدْرَ عَرْضِه - حتى نعلم كم رجلٍ يَسَعُ عَرْضُه والقُرعة لا تكون إلا على شيءٍ مُدرَك ويُعلم أنه لا يَسَعُ الكل فإنه إذا وَسِعَ الكُلَّ فلا قرعة فإذا لم يَسَعُهم حينئذٍ يُحتاج إلى القُرعة لِيُعْلَم من هو أَوْلَى به من غيره فالذي تكتبه الملائكة لا تُمكن القرعةُ عليه لعَدَمِ العلمِ بقَدْره وماذا يسع فجاء الدليل للذين يقولون إنه في المسجد
ولا نحتاج أيضاً إلى القرعة إلا إذا جئنا في فَوْرٍ واحد ٢ لأنه قد ثبت بالشَّرع أنَّ مَن سَبَق إلى شيء من المباح فهو أحق به فإذا تلاحقوا به على حد سواء قُسِم بينهم إن كان مما تأخذُهُ القسمة ويمكن ذلك فيه وإلا فمن يكون أولى به فعند ذلك يُحتاج إلى القرعة كهذا ومثله لأنه لا
يمكن القسمة فيه
وهنا بحث في قوله عليه السلام الناس هل الألف واللام للعهد أو للجنس فإذا قلنا للعهد وهم المؤمنون فيترتب عليه من الفقه أن العبيد والأحرار والإناث والذكور في ذلك سواء وأنه لا يستأذن العبيد في ذلك ساداتهم ولا النساء في ذلك أزواجهنَّ ويزيد ذلك إيضاحاً قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله۳ قلنا كذلك يعطى الحكم لكن لما حدثت أمور لم يبق من ذلك إلا خاص في خاص وهم الرجال دون النساء ولا من العبيد إلا من يُعرَف منه الخير لأنه يَجعلُ ذلك ذريعةً لتضييع حق سيّده ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول لو أدرك رسولُ الله ما أحدث النّساء لمنعهنّ المساجد كما مُنِعَهُ نساء بني إسرائيل ٤

وما فعلت عاتكة زوجة عمر رضي الله عنه أنها كانت تستأذنه في الخروج إلى المسجد فيسكت فتقول له لأخرجَنّ إلا أن تمنَعَني فلا يمنعها لأجل ما عارضه من قوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله فتركها يوماً خرجت إلى صلاة الصبح وتقدَّمها ووقف لها بموضع في الطريق في الظُّلمة حتى خطرت عليه فوثب عليها وقرصها في نهدها ولم يتكلم ولم يقل لها شيئاً لكي تجهل من هو الفاعل لذلك فرجعت رضي الله عنها إلى بيتها ولم تتم على مضيها إلى المسجد ثم لم تخرج بعد ذلك فقال لها عمر رضي الله عنه لِمَ تركت الخروج فقالت قد فَسَد الناس ٥ فعللت عدم خروجها إلى المسجد بفساد الناس
۱ كذا بجز كم الاستفامية وهو لغة
في فور واحد في ان واحد ۳ رواه الإمام أحمد والإمام مالك ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ٤ رواه الإمام مالك والشيخان عن السيدة عائشة رضي الله عنها موقوفاً
۵ رواه الإمام مالك في الموطأ
۳۰۱

وأجازه ذلك السيد رضي الله عنه الذي قد أمرنا باتباعه فإنه أحد العمرين وأحد الخلفاء رضي
الله عنهم
الوجه الخامس فيه دليل على التحيل في كسب أفعال الخير بكل ممكن يؤخذ ذلك من
قوله عليه السلام ثم لم يجدوا فلا يرجعون للقرعة إلا عند عدم القدرة على تحصيله ومن هنا أخذ أهل الصوفة دليلاً لهم في الحيلة على النفوس ومجاهدتها ومما يذكر عن بعضهم أنه بقي زماناً يحسن للنفس زِيَّ القوم حتى لَبِسَته فلما لبِسَتْه كان إذا أرادت أن تفعل فعلاً ليس هو من فعل القوم يقول لها لَبِسْتِ زيَّ القَوْم ثم تخالِفِينَهُم أو تريد شيئاً من حال أهل الدنيا فيقول لها هذا لا يليق لمن تزيّا بهذا الزي ومثله عنهم كثير
الوجه السادس فيه دليل على فصاحته يؤخذ ذلك من حسن تنويعه عليه السلام العبارة لمّا كان الأذان والصف الأول انحصر في فعلهما ولا يمكن الكثرة فيهما عبّر عنهما بالقرعة ولما كان التهجير كناية عن المبادرة في الزمان ومعنى التهجير هنا في يوم الجمعة - على قول أهل الفقه - ولا أعلم فيه خلافاً - والزمان ظرف يسع القليل والكثير - عبّر عنه بالتسابق فجعله تسابقاً وهو لا يحصل إلا بالجد والاجتهاد الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك رضي الله عنه الذي يقول إنَّ الأفضل في الجمعة التهجير وفَضَّل تلك القُرَب المذكورة من بَدَنَةٍ إلى بَيْضة في الساعة الواحدة في السبق على حاله فمن سبق أخذ بدنة ثم الثاني بقرة ثم كذلك حتى العاجز بيضة وجعل العبارة عن العتمة والصبح لما كان الغالب على المنع منهما النوم أو الغُسل أو العجز قال حَبْوا ية الوجه الثامن فيه دليل على المبادرة للعمل على المنشط وترك الكسل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حبوا فإن من هذا حاله فهو أعظم الكسل
الوجه التاسع فيه دليل لأهل الصوفة في أخذهم النفوسَ بالمجاهدة فإن هذا أعظمُ
المجاهدات
الوجه العاشر فيه دليل على أن ما هو من شعائر الإسلام المفروضة أن الأفضل فيه الإظهار لأن هذه المذكورة كلها من شعائر الإسلام المفروضة
ثم نرجع للقسم الثاني من الألف واللام في الناس إن كانت للجنس - وهي محتملة - فيكون فيه دليل لمن يقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهم على كفرهم لأنهم لو عَلِموا ما فيه لبادروا إلى الإسلام وعملوا هذه الأعمال ولهذا جاءت الإشارة هنا بلا تعيين أولاً ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن يُشَوَّقَ الكافر والعاصي والطائع - على حد سواء - إلى
ما أم
هناك
لو
الب
335
آن
ذلك
فراع
لأنه
الج

ما أعد الله عزّ وجلّ من الخير ويحذّر ممّا هناك من الخوف لمن لم يستَقِم لعلّه تحصل له هناك إنابة ١
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن التشويه مع حصول الأفضل في الدين أولى يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ولو حبوا فإن الحبو في حق الكبير تشويه ولا سيما لمن له منزلة فراعى هنا الدين ولم يراع التشويه
الوجه الثاني عشر فيه دليل لمن يقول إنه يصلي الجمعة وإن كان طين يُشَوِّه ثيابه ووجهه لأنهم اختلفوا إذا كان الطين كثيراً يشوه الثياب والوجه هل يكون عذراً يجوز معه التخلّف عن الجمعة على قولين وبالتفرقة فالحُجّة هنا لمن لم يجعله عذراً
الوجه الثالث عشر فيه دليل على جواز الاستهام لقوله عليه السلام الاسْتَهَمُوا
الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن المساجد لا يتملك منها أحد شيئاً
الوجه الخامس عشر فيه دليل على أنه لا يجوز له أن يأخذ من المسجد إلا قَدْر ضرورته لأنه لو كان له أكثر من ذلك لَبَيَّنَه عليه السلام هنا لأنَّ وقت القرعة هو وقت انفِراد الحكم وتأخيرُ البيان عند الحاجة إليه لا يجوز فكونه عليه السلام أمر بالقرعة ولم يحدّ شيئاً دلّ على أنه ليس له أن يقترع إلا إذا لم يجد ما يحمله وغيره وأن ما فَضَل عن قدر ما يحتاج هو إليه فلا يدخل تحت القرعة وقد جاء هذا المعنى في حديث آخر وأنه متوعد عليه
الوجه السادس عشر فيه دليل على أن المسابقة تكون حسّا ومعنى فهنا تكون معنى لا حِسا فإن المسابقة على الأقدام حِسَّا تقتضي الجَرْيَ والسرعة والجَرْي هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر لقوله عليه السلام إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعَوْن وائتوها وعليكم السكينة فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت وهنا بحث وهو أنه عليه السلام جعل العتمة والصبح على حد سواء وقد قال عليه السلام من شَهِد العتمة فكأنما قام نصف ليلة ومن شَهِدَ الصبح فكأنما قام ليلة ۳
فالجواب أن هذا لا يلزم من كونه جَعَلَها في حرمة المبادرة أنهما على حد سواء أن يكونا في الأجر إنما ساوى ما بينهما لعظم ما بينهما وبين غيرهما من الصلوات كما قال عليه السلام
۱ الإنابة التوبة
رواه الإمام أحمد والشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه ۳ أخرجه البيهقي في الشعب عن عثمان رضي الله عنه
41

بيننا وبين المنافقين شهودُ العَتَمةِ والصبح لا يستطيعونهما١ لأن الشاهدين إذا كانا عَدْلَينِ لا يلزم أن يكون أحدهما أرفع حالاً من الآخر لأنهما إذا تساويا في القدر المجزىء من العدالة فلا بأس أن يزيد أحدهما على الآخر وهذا مثله فقد زادتهاتان الصلاتان فضلا على غيرهما من الصَّلوات وبقي ارتفاعهما فيما بينهما معنى ثانياً
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ رواه الإمام مالك عن سعيد بن المسيب مرسلاً
٣٠٤

-TA-
حديث إتيان الصلاة بالسكينة
عن أبي قتادة ١ رضي الله عنه قال بينما نحن نصلي مع النبي الله إذ سَمعَ جَلبَةَ رجال فلما صلى قال ما شأنكم قالوا استَعجَلْنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسَّكِينَةِ فما أدركتم فَصَلُّوا وما فاتكم فَأَتِمُّوا
ظاهر الحديث إتيان الصلاة بالسكينة وإتمام ما فات منها والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أن الحكم الشرعي لا يكون إلا بعد تحقيق موجبه يؤخذ من قوله عليه السلام ما شأنكم فلما ذكروا استعجالهم إلى الصلاة حينئذ قال لهم الحكم في ذلك لأن استعجالهم احتمل أن يكون لما ذكروا أو لعذر عَرَض لهم لأن الحوادث لا تنحصر
الوجه الثاني فيه دليل على أن يجتهد المكلف برأيه فيما لم يكن فيه نص من الشرع يؤخذ ذلك من كون النبي ل ا ل لم ينههم إلا فيما يُستَقْبَل ولم يأمرهم بإعادة الصلاة ولا أبطَلَ عليهم عملهم فدل ذلك على جواز فعلهم فيما مضى
وهنا بحث هل هذا على الوجوب أو على الندب وهل له حد معلوم أعني السَّكينة
المذكورة أم لا فالجواب على قولنا هل هو على الوجوب أو غير ذلك فصيغة الأمر مختلف فيها - على ما تقدم في غير ما موضع - لكن الأظهر هنا أنه على الندب بدليل أن التأدب والخشوع في الصلاة نفسها مختلف فيه وأكثر الفقهاء على أنه شرط كمال وقد قال في حديث آخر لا يزال العبد في صلاة ما دام ينتظرُ الصَّلاة ٢ فأعظمُ حُكم الوسيلة إلى الشيء أن يجعله كالشيء نفسه فهذه الصفة في الصلاة نفسها مختلف فيها فكيف في الوسيلة
۱ تقدمت ترجمته في الحديث ١٨
رواه الإمامان مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اخر
٣٠٥

ولوجه آخر لو كان على الوجوب لأشار إليه عليه السلام بزيادة ما لأنه المشرع وهذا
وقت بيان الحكم وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

ولوجه آخر وهو إنما كان سرعتهم في المشي رغبة في الصلاة من أجل الأجر وطلب المزيد فيه فأراد عليه السلام إخبارهم بأنَّ لهم الأجرَ فيما أمرهم به لأن تسكن نفوسهم بذلك وهذا من الحديث الشاهد الذي أوردناه وأمّا من الحديث نفسه فلأنه عليه السلام فهِمَ منهم إظهار الجِدّ من أجل ما وقعوا فيه من الماضي فسكَّنَ خواطِرَهم بإعطاء العذر لهم في ذلك ذلك وتبيين
الحكم بعد
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن ما لَحِقَ المأمومُ من الصلاة مع الإمام إنه أولُ صلاتِه يؤخذ ذلك من قوله فَأَتِمّوا وتمامُ العمل هو آخِرُه لكن يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره فما فاتكم فاقضوا ۱ فدل هذا على أن الذي أدركه المصلي هو آخر صلاته ويقضي ما فاته والحديثان صحيحان فمن أجل ذلك اختلف العلماء في البناء والقضاء فمنهم من قال بالبناء مطلقاً ومنهم من قال بالقضاء مطلقاً ومنهم من جمع بين الحديثين وهو مالك رحمه الله ومن تبعه وقال يكون بانياً في الأفعال قاضياً في الأقوال وهو أحسن الوجوه لأن إعمال الحديثين خير من إسقاط أحدهما
لم
الوجه الرابع فيه دليل على أن التفات الخاطر إلى النوازل إذا كان في الصلاة ما لم يخرجه من الشغل بصلاته جائز وليس بمفسد للصلاة إذا كان يسيراً يؤخذ ذلك من سمعهم رضي الله عنهم وسمع رسول الله جلبة الرجال وهم في الصلاة ولم يأمرهم بإعادة ولا ذكر لهم أن في عملهم خللاً
الوجه الخامس فيه دليل على أن إمساك الحاجة في السر في الصلاة لا يفسدها إذا كان الغالب على القلب الشغل بصلاته يؤخذ ذلك من تمادي ذكر أمر الجلبة في قلب النبي ل حتى فرغ من صلاته وحينئذ سأل عنها
وجواز هذين الوجهَيْنِ " إذا عرَضَ الأمرُ وهو في نفس الصلاة ولا يتعمَّده هو يؤخذ ذلك من مجموع معنى هذا الحديث وقوله حين سُئل عن المَرْءِ يلتفت في الصلاة فقال تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم ۳ لأن الالتفات بالاختيار من المصلي دون عذرٍ طَرَاً
1 لم نقف على مصدره ٢ أي الرابع والخامس وخبر جواز هو متعلق إذا

رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ مختلفة
کل ٢
٣٠٦

عليه فإن ذلك خروج عما كان بسبيله ومن قول مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مخلصين ۱ فإذا دخل بغير إخلاص فأين تَوْفيه ما أمر به وقوله إذا دخلَ الرجلُ في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإن التفت أعرَضَ عنه ٢ فإذا دخل بغير إقبال أو معرضاً بقلبه لشغله بما كان فيه فما له وللإقبال هيهات بينهم مفازات لا يقطعها إلا المُشَمرون
فانتبه إن كنت نائماً وشَمِّرْ إن كنتَ يقظانا ۳
الوجه السادس فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن أحسن الصلاة أن يبقى من البشرية شيء ما لتلقي الخطاب وتوفية أركان ما أُمِرَ به وأحسَنُ الذِّكْر أن يفنى الذاكر في المذكور حتى لا يعرِف مَنْ على يمينه ولا مَنْ على يساره لأنه لو لم يكن ذلك كذلك ما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع يسمَعُ الجَلَبَة وفي غير الصلاة يقول عليه السلام إنَّه لَيُغان على قلبي فأستغفرُ في اليوم والليلة سبعين مرة ٤ فكيف يُغان على قلبه عليه السلام وهو من خصائصه أنه يقول تنام عيناي ولا ينام قلبي ٥
وقد اختلف الناس في معنى قوله عليه السلام يُغان على قلبي بأقاويل عديدة فانفصلنا عنها ولم نرجّح إلا ما أذكره بعد ذكر ما أجمعوا على أنه أحسنُ ما قيل فيه والانفصال عنه
إن شاء الله
فأحسن ما قالوا فيه أنه عليه السلام كان يترقّى من مقام إلى مقام فإذا ترقى من المقام الذي كان فيه إلى ما هو أعلى استغفَرَ من المقام الذي كان فيه وكأنّه الآن بالنسبة للحالة التي كانت قبل كَمَنْ غِينَ على قلبه
والانفصال عن هذا الوجه بأن تقول سَلَّمْنا هذه المقالة وهي حَسَنة إلى ليلة المعراج حين ارتقى إلى الحضرة العَلِيّة والمشاهدة بعين الرأس - على مذهب ابن عباس وهو الحق - فبعد هذا الترقي لا زيادة في الترقي
وبقي الجواب عما لِمَ كان يُغان على ذلك القلب المبارك فنقول بفضل الله إنه كان من صفته عليه السلام كما وصفه الواصف طويل الفكرة كثير الذكر قليل اللفظ ففكرته ا ا ا را
۱ سورة البينة من الآية ٥
رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ آخر
۳ كذا بالتنوين
٤ يُقال غِينَ على كذا أي غُطّي عليه ومنه الحديث فالغين ما لطف من الغطاء والحديث النبوي أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن الأغر المزني رضي الله عنه ٥ أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها

۳۰۷

قد تكون في صفة من الصفات أو اسم من الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرةُ في جميع الأسماء ولا يمكن في الزمان الفرد الفكرة في جميع الأسماء والصفات فإذا اشتغل القلب بالفكرة في أحد الأسماء أو الصفات استولى على القلب المبارك من تعظيم ذلك ما صار عليه كالرّانِ لأن الران هو الشيء الذي يغطي القلب من حُسنٍ أو ضده
فإذا سُرِّيَ عنه من تلك الحالة الجليلة استغفر من شيئين أحدهما من شغله عن الذي بقي من الأسماء والصفات لأن كل واحد منهما يطلب حقه من التعظيم في كل نَفْسٍ يَرِدُ و الوجه الآخر هو تقصيره عن توفية حق تلك الصفة أو الاسم بوضع البشرية لأن الفاني لا يمكن أن يوفي حق الباقي قطعاً حتماً ولذلك قال له أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نفسك ۱
وهنا بحث هل ما قالوه هو الأحسنُ في الصلاة كلها على اختلاف أنواعها أو ذلك في الفرض ليس إلا الظاهر - والله أعلم - أنه في المكتوبة بالإجماع وأما النافلة فالأظهر فيها أنها من

قبيل الذكر يؤيد ذلك مسألة عليّ رضي الله عنه حين كان في فخذه سهم قد اذاه فقالوا له فيه أن ينزعوه فيأبى عليهم ويمهلهم قليلاً قليلاً فقال بعضهم لا تستطيعون أن تنزعوه إلا حين يكون في الصلاة ففعلوا ذلك فنزعوه منه وهو ساجد في النافلة فلما انصرف من الصلاة راهم محدقين به فقال ما بالكم أو تريدون نزع السهم فقالوا له ها هوذا أخذناه فقال والله ما عرفتُ بكم ومثله كثير عن المباركين
وأما الجواب على قولنا هل للسَّكينة حَدّ أو لا فقد قال العلماء إن حدّها ما لم يخرجك عن الوقار وقد روي عن ابن عمر أنه كان إذا سمع الإقامة وهو يأتي إلى المسجد يمد في الخطا ويخفف وقع قدمه وهذا الحال آخِرُ حالِ السَّكينة
وبقي الكلام على ما يدرك من الصلاة ما يُحسَب منه وما لا يُحسَب فقد بيّنه عليه السلام في حديث آخر وهو قوله عليه السلام ادخلوا معي على الحالة التي تجدوني عليها فإن وجدتموني راكعاً فاركعوا واحسبوها ركعة وإن وجدتموني ساجداً فاسجدوا ولا تحسبوها شيئاً ٢
الوجه السابع فيه دليل على أن الدين يسر يؤخذ ذلك من أنهم لما اهتموا بما وقع منهم من التأخير عن الصلاة فأسرعوا جعل لهم المخرج بأن قال لهم عليكم بالسكينة إلى آخره والذي يقع ذلك منه - أعني - أعنى تأخير الصلاة عن وقتها - يدخل تحت قوله جل جلاله أضاعوا
۱ رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها
لم نقف على مصدره
4
۳۰۸

ي
نه
الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيَّا ۱ وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت والله ما تركوها وإنما أخرجوها عن وقتها المختار فإذا كان الأمر في تفصيل الأوقات على هذا المعنى فكيف به في فوات شيء منها مع النبي لأن الوقت فيه خلافٌ بين العلماء والصَّلاة لا خلاف أنَّها أفضل الصلوات
معه
ويترتب على هذا الوجه من الفقه لأرباب القلوب أن الهَمَّ على عمل من الخير إذا فات بُدل منه لكن ليس البدَل كالمبدلِ منه من كل الوجوه ويؤيد هذا قوله حين سأله زيد ما علامه الله على من أحبه فقال يا زيد كيف أصبحت قال أصبحت أحب الخير وأهله وإن قدرتُ عليه بادرت إليه وإن فاتني حزنت عليه وندمت فقال النبي فذلك علامة الله فيمن يُريد ولو أرادك لِغيرِها لَهَيَّأْكَ لها ٣
فلما قال حزنتُ عليه فحينئذ صح له ما تضمنه الحديث ويقويه أيضاً قوله عليه السلام النَّدم توبة 1 وفي هذا من الفقه معنى عجيب وهو أن نفس الندم يكون إما مذهباً للإثم إذا كان على فعل ممنوع وقع إن حملنا قوله الندم توبة على ظاهره
وإن تأولنا بأن قلنا هو أعظم الأسباب في التوبة أو أكبرُ أجزائها كقوله عليه السلام الحج عَرَفَة ٥ فعلى هذا التأويل يكون أقوى الأسباب في الخلاص مما وقع فيه وكلاهما خير عظيم ويكون لما فات من الخير جابراً كما تقدم
يزيد ذلك إيضاحاً قوله صلى الله عليه وسلم ما أمسى المؤمن فيها - يعني في الدنيا - ولا أصبح إلا حزينا ٦ لأنه بالضرورة بين أحد أمرين إما غفلة عن مندوب وإمّا سهو حتى يقع في مكروه وهذا أقلها
ويترتب أيضاً على هذا المعنى وجه من الفقه ووجه من طريق أهل الحقائق فأما الذي من الفقه فيكون وجود الحزن على فوات شيء من الخير أو الوقوع في شيء من ضده من علامة الإيمان وأما الذي هو من طريق أهل الصوفة فإن قولهم إن القلب إذا خَلا من الحُزن خَرِبَ
۱ سورة مريم من الآية ٥٩ روي هذا القول - كذلك - عن ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ۳ انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ٣٠٨/٤
٤ رواه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ٥ رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي في الكبرى عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه
٦ لم نقف على مصدره
۳۰۹

ويترتب عليه من طريقهم أيضاً وجه آخر وهو أنَّ مَن كان حاله هذا كان حاله حال المراقبة -
وهو أجلّ الأحوال - ولا بد لصاحب هذا الحال أن يتخلّل خوفَه رجاء وإلا كان ناقصاً عن حال الكمال بدليل قوله المؤمنُ تسُرُّه حسناته وَتَسُوؤُهُ سيّئاته ۱ فإنه إذا وَجَد من نفسه هذا الخوفَ سُرَّ به فتجتمع له علامتان من الإيمان وجود الخوف في موضعه والفرح في موضعه ولذلك قيل لبعضهم في بعض مناجاته ليكن خوفك خوف محب ومحبوب لأن المحبَّ مهما رأى أقل شيء خاف من أن يكون ذلك سبباً للبعد والمحبوبُ وإن رأى ما يوجب البُعدَ يَعلمُ أنَّ المحبوبَ لا تَضُرُّه الذنوب فلا تحزنه فيكون حاله في الزمان الواحد محبوباً مُحِبّاً وهذه أكمل
الحالات
جعلنا الله من أهلها بمنّه أمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ مروي بالمعنى لحديث أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة عن أبي أمامة رضي الله عنه وأصله إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن
۳۱۰

اقبة - حال هذا
رأى
ان
مَل
حديث القيام إلى الصلاة
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسَّكينة والوقار
ظاهر الحديث يوجب ترك القيام إلى الصلاة وإن أقيمت حتى يخرج والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول يؤخذ منه تأكيد الإقامة في الصلاة لقوله عليه السلام إذا أُقيمت الصلاة فلولا أنَّه أمرٌ مستَعْمَلُ في كل صلاة مكتوبة لما قال ذلك وهي من السنن المؤكّدة الخارجة عن الصلوات الوجه الثاني جواز الإقامة والإمام ليس بحاضر يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني فلو كان حاضراً ما قال حَتَّى تَرَوني الوجه الثالث هل هذا النَّهيُ على التحريم أو الكراهة وهل هذا الفعل خاص به عليه
السلام أو ليس
الجواب عن الأول فليس هذا مما نقول فيه تلك التقسيمات التي في الأمر لأنه في أمر خارج عن الصلاة وإنما هو لفوائد منها أنه لا الله ما أراد أن يبين حكماً من أحكام الله وهو أن الإقامة ليس اتصالها بالصلاة من اللوازم وإنّما هي إخبار بأن وقت الدخول في الصّلاة قد حان فقد يكون متصلاً بها وقد يكون بينهما بَوْن ما كما أن الأذان دال على دخول وقت الصلاة وقد تُوقع الصلاةُ في أَوَّلِهِ أو بعده لكن لمّا كان الغالب من فعله عليه السلام الاتصال بها خاف أن يُعتَقَدَ أنّه من الواجب فبينه عليه السلام هنا بالقول وقد بينه في موضع آخرَ بالفعل وهو ما رُوي عنه أنَّه إذا نزَل من المنبر وأقيمت الصلاة ربَّما سارَرَه ۱ أحدٌ من الصحابة فيجاوبه وحينئذٍ يدخُل في الصلاة
۱ كذا والقياس ساره
۳۱۱

ويترتب على هذا من الفقه أنه إذا كان الإنسان في صلاة وأقيمت عليه صلاة أخرى والإمام ليس بحاضر لا يقطع صلاته وقد قال أهل العلم إنّه مَن كان في صلاة وأقيمت عليه صلاة إنه يقطع التي هو فيها ويصلّي التي أقيمت وحينئذٍ يُعيد التي كان فيها ويجتمع قولهم مع الحديث إذا كانت الإقامة كما قلناه والإمام حاضر
الوجه الرابع فيه دليل على توفيته لا لا لو تعليم جميع الأحكام يؤخذ ذلك من أن هذا الأمر
على دقته وخفائه لم يُهْمِله حتى بيَّنه قولاً وفعلاً
وفيه أيضاً وجه من وجوه الرفق وكان عليه السلام بالمؤمنين رحيماً وهو ربما يكون هناك ضعيف فيقوم عند سماع الإقامة فقد يتأخَّر عليه السلام لوجه ما فلا يَصِل ذلك الضعيف إلى الصلاة إلا وهو قد عجز عن القيام فيصلي قاعداً فيفوته القيام وقد يكون بَرْد أو حَرّ والغالب عليهم رضي الله عنهم قلّة الثياب فيلحق القائم شدة البرد والحَرّ فيكون سبباً التشويشه في الصلاة
ويترتب عليه من الفقه أن المتعبد ينظر قبل الدخول في صلاته أو تعبده ما يُصلح به حاله في
تعبده ولا يكون معه فيه تشويش
الوجه الخامس فيه دليل لمالك رحمه الله الذي يقول إن الصلاة إذا أقيمت إن الناسَ بالخيار في القيام ما بين الإقامة واستفتاح الإمام الصلاة لأن الشافعي يقول يقام إلى الصلاة
عند قوله قد قامت الصلاة
الوجه السادس فيه دليل على أن يُحمّل القوي في الأحكام محمل الضعيف يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تروني فساوى بين القوي والضعيف ويؤيد ذلك قوله عليه السلام سيروا بسير أضعفكم ۱
الوجه السابع فيه دليل على لحظ القدرة في الشيء اليسير مع استصحاب الحكمة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فالحكمة هي الإخبار بحال الإقامة لأنها قد عُرِفت عَلَماً على الدخول في الصلاة الوقتيّة واللحظ إلى القدرة هو عن نهيه عليه السلام لا يقوموا حتى يروه مخافة أن يبرز من الغيب مانع يوجب تأخيره عن الخروج في الوقت فلحظ القدرة مع أحكام الحكمة من أجل المراتب لمن فهم على نحو ما قدمنا في غير
ما حديث
۱ رواه الشافعي في مسنده بلفظ سيروا على سير أضعفكم وابن ماجه والحاكم على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه

الامام
ـاة إنه
ديث
الأمر
كون ذلك
ا أو
سبباً
ة
C
الوجه الثامن فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن من أدب العبادة ألا ترجع من الأعلى إلى ما هو دونه يؤخذ ذلك من نهيه عليه السلام لا تقوموا حتى تَرَوني خشية أن يبرز من القدر ما يوجب تأخير الخروج فيرجعون من القيام إلى الخدمة إلى القعود فيكون نقص مرتبة في ذلك الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يجب الدخول في العبادة حتى تتم شروطها يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني لأن الإقامة - وإن كانت تُخير بالدخول في الصلاة - لكن من تمام ذلك الإمام فإذا لم يَرَوُا الإمامَ لم يجب عليهم القيام ويلزم منه عَكْسُه وهو إذا كَمُلت الموجبات فلا يجوزُ التأخيرُ لغير عذر
الوجه العاشر يؤخذ منه الالتفات والاهتمام بالإمام يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام حتى تروني فذلك تحضيض على ما قلنا ويترتب على ذلك الاهتمام بأمر الدين كله لأنه من تعظيم الشعائر وهو من التَّقوى
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أن السنة الاهتمام بتوفية السابق وإن كان ما بعده أرفع منه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لا تقوموا حتى تروني لأن الصلاة - ولا بد - أرفع من الإقامة فاشتغالك أنتَ بالنّظر إليه هل خرج أم لا - وهو توفية حق الإقامة ـ أولى من الاشتغال بالصلاة التي لا تأتي إلا بعد توفية الإقامة بشروطها
وفيه وجه من الحكمة وهو أن تُوَفِّيَ لكل ذي حق حقه وإن قل ولا يَشَغَلَك حقٌّ الأعلى عن توفية حق الأقل يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فلا تقوموا حتى تَرَوْني
الوجه الثاني عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يحضون على الاشتغال بتوفية حق الوقتِ ومراعاته وإن قل لأن ذلك الالتفات - وهو أمر يسير - هو حقٌّ الوقت فلا يُشغَلُ عنه بما بعده وإن كان أعلى منه ولا يتهاون به فَيَحصل في العتب أو الذمّ
ومن كلام من نُسب إلى الخير من حافظ على توفية حقّ وقته - وإن قَلَّ ـ خَتَ حِملُه وقَلَّ هَمُّه وصَلَحَ عِلْمُه وحسن عمله وصح له اسم النبل والمعرفة وربح دنياه وآخرته وقوله عليه السلام وعليكم بالسَّكينة والوقار لأن السَّكينة والخضوع هنا من نسبة العبادة ولأن العبادة هي التواضع والانقياد ولذلك أثنى مولانا جل جلاله عليهم فقال ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ۱ وقال المؤمِنُ هَيِّنٌ لَيْن فصفة
1 سورة الفرقان الآية ٦٣ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ومعنى هين ساكن متئد تئد ولين متواضع وبسيط وهي قريبة من معنى هين
۳۱۳

المؤمن أن يكون هيناً ليناً من غير ضعف ومن غير تماوت وهذه الحالة كثيراً ما نجد الشارع عليه
السلام يحضُّ عليها في غيرِ ما موضع
فانظر هنا إلى هذا الحديث لَمَّا أن حض أولاً على ألا يقوموا حتى يَرَوْه خاف أن يُسرِعوا في الالتفات عندما يسمعون الإقامة أو يسرعوا إلى القيام عند ما يَرَوْنه فقد يلحق لبعضهم من ذلك تالُمٌ لأن الجَمْعَ إذا قاموا في مرةٍ واحدةٍ مسرعين يلحق الضعيف والقوي من سرعة القيام أذى فأكمل عليه السلام الفائدة في التعليم وأبدى مقتضى الحكمة بأن قال وعليكم بالسَّكينة وهي التأني والرفق في النظر والقيام مع حضور الخاطر بما هو فيه والاهتمام به في جميع أنواع العبادات لأن تلك الحالة هي هنا سنَّة العبادة ولذلك كان عليه السلام يقول عند النَّفْر من عَرَفَة وهو قد شَنَق العضباء ۱ عليكم بالسَّكينة ويشيرُ بيده يميناً وشمالاً حتى إذا صعد جبلاً
أرخى لها قليلاً فإذا نزل عاد لِمَا كان عليه قبل
فجزاه الله عنا من مُعلّم خيراً ومن رسول ونبي خير ما جزى رسولاً ونبيًا عن أمته وحشَرَنا
في زمرته غير خزايا ولا نَدَامَى بِمَنْهِ آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 العضباء لقب ناقة النبي
ومعنى الكلمة الناقة المشقوقة الأذن ولم تكن ناقته عليه الصلاة والسلام عضباء وشنق البعير كفه بزمامه حتى الزق ذِفْرَبَيْهِ بقادمة الرحل أو رفع رأسه وهو راكبه والذفْرَى العظم
الشاخص خلف الأذن وهما ذفران
٣١٤

حديث انتظار الإمام
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال أُقيمت الصَّلاة فسَوَّى النّاسُ صفوفَهم فخرج رسولُ الله فتقدَّمَ وهو جُنُبٌ ثم قال على مَكانِكُمْ فرجَعَ فاغتَسَل ثم خرج
ورأسُه يَقْطُرُ ماءً فصلَّى بهم
ظاهر الحديث انتظار الناس بعدما سَوَّوْا صفوفهم إلى الصّلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجع
واغتسل وخرج والكلام عليه من وجوه
مثلاة
الوجه الأول أن الجماعة ينتظرون الإمام إذا طرأ عليه عذر ما لم يكونوا تَشَبَّئوا بالصلاة يُؤخَذ ذلك من قوله عَلَى مَكانِكُم فرجع فاغتسل
الوجه الثاني يؤخذ منه أنهم لا ينتظرونه إلا إذا كان شغله يسيراً يؤخذ ذلك من فعله عليه السلام لأنه لم يكن إلا قدر ما اغتسل
الوجه الثالث يؤخذ منه أنهم لا ينتظرون الإمام إلا إذا أمرهم بذلك يُؤخَذ ذلك من جمع هذا الحديث مع الحديث الذي ذكر فيه أنه عليه السلام خرج ليُصلح بين بعض قبائل العرب وحان وقت الصلاة فقدَّم الصَّحابة رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه الله عنه فأتاهم وهم في الصلاة فأتمَّ الصَّلاة معهم فلما فرغ قال لهم حَسَنُ ما فعلتم ١ أو كما قال عليه السلام لأنه

۱ قصة صلح الرسول الله بين بني عمرو بن عوف وعودته أثناء الصلاة وإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالناس أخرجها الإمام مالك والإمام أحمد والحميدي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطبراني في الكبير والبغوي في شرح السنة عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه وتفصيل الخبر أن أناساً من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي الله في أناس من أصحابه يصلح بينهم فحضرت الصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فأذن بلال بالصلاة ولم يأت النبي عليه السلام فجاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال إن النبي و حبس وقد حضرت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت فأقام الصلاة فتقدم أبو =
٣١٥

حين خرج ولم يأمرهم أن ينتظروه بالصّلاة فلما جاء وقتُ الصلاة قاموا بما به أمروا وهنا لما
أمَرَهم بأن ينتظروه امتثلوا
ويترتب عليه من الفقه ما قدَّمنا اللهم إلا أن يَعلَموا بالقطع أن شُغل الإمام يسير وإن لم يأمرهم بالانتظار فَلِحُرمته إذا كان في الوقت سَعَة ولم يخرج الوقت المختار فلينتظروه وقد قال بعض العلماء إنه إذا كان شخص يواظب على الصلاة في مسجد واحد وحان وقتُ الصلاة وهو لم يجىء إنه يُنتظَر قَدْر ما تُوقع صلاة وحينئذ يصلون لأن لملازمته حرمةً ينبغي ألا يُغفل عنها والإمام - ولا بدَّ - أكبَرُ حرمةً من هذا
ولذلك نذكر حكاية الشيخ الذي كان يأتي الصلوات فيؤذن عند باب المسجد وحيئنذ يدخُل فاعتقل يوماً عن وقته المعهود فأقام المؤذن الصلاة ودخلوا في الصلاة فجاء الشيخ وهم في الصلاة فتغيَّر خاطره لكونه فاته الأذان ولم يقل شيئاً فلما كان الليل رأى المؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له تأدب مع الشيخ فلما جاء الشيخ إلى صلاة الصبح قال للمؤذن أظننت أني ليس معي من ينتصر لي فتاب المؤذن واعتذر للشيخ وهكذا هو حال كل من صَدَق مع مولاه فإنه يَنصُره
الوجه الرابع فيه دليل على تسوية الصفوف وهو من سنّة الصلاة يؤخذ ذلك من قوله فسوّى النّاس صفوفهم فلولا ما كانت تلك سنّة معلومة ما ذكرها الصحابي رضي الله عنه وهنا بحث هل هذا الحديث معارض للذي قبله أم لا
فإن حملناه على ظاهره ففيه تعارض لأن المتقدم قال فيه لا تقوموا حتى تَرَوْني وهنا سُوبَتِ الصفوف وحينئذ خرج رسول الله ولعل هذا ومثله كان الموجِبَ لِنَهْيِهِ عليه السلام في الحديث قبل ألا يقوموا حتى يَخرُج
وإن تأوّلنا وقلنا معناه أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى النّاس صفوفهم لأن هذا في لسان العرب كثير يقدمون المؤخّر ويؤخرون المقدَّم إذا لم يقع على السامع إلباس
بكر رضي الله عنه ثم جاء النبي عليه السلام يمشي في الصفوف حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس في التصفيح أي التصفيق باليدين حتى أكثروا وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يكاد يلتفت في الصلاة فالتفت فإذا هو بالنبي عليه السلام فأشار إليه بيده فأمره يصلي كما هو فرفع يده أبو بكر فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه حتى دخل في الصف وتقدم النبي الله فصلى بالناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إذا نابكم شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من رابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله
٣١٦

كقول مولانا جلّ جلاله فَجَمَلَهُ غُنَاء أَحْوَى ۱ ومعلوم أنه لا يكون غثاء حتى يكون أولاً أحوى
فكذلك هنا لما تقرّر الحكم بألا يقوموا حتى يروه قدّم المؤخر للعلم به أنّه مؤخّر
الوجه الخامس فيه دليل على أن الجُنُب لا تجب عليه الطهارة إلا عند العبادة يؤخذ ذلك من أن النبي أخر الطُّهور عن وقت الجنابة حتى نسيه وخرج وهو جنب فلو كان وقوع الطهارة واجباً إثر الحدث ما أخره النبي لا لا لا حتى نسيه
الوجه السادس فيه دليل على جواز الحكم بقرينة الحال إذا لم يحتمل غير وجه واحد يؤخذ ذلك من قول الصحابى وهو جُنُب لأن الصحابي لم يعرف ذلك إلا من قرينة الحال ـ وهي ما وصفه آخراً بقوله ورأسه يقطر ماءً - لأنه لما ترك الله و الصلاة بعدما كان الناس سؤوا صفوفهم وأمرهم بانتظاره ثم خرج بأثرِ الطهور عليه لم يبق وجه يتقرر في الموضع غير الجنابة لا غير حقا ولولا ذلك ما أخبر بالقطع ويترتب عليه من الفقه أن كل وجه يُتَوصَّل إلى القطع بمدلول عليه فهو طريقٌ يَحصُل به علمٌ حقيقي يجب الحكم به
فأخبر
الوجه السابع فيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشرية ليس بمنافٍ للعبادة إذا فعل على مَشْروعِيَّتِه يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمداً الله بالإجماع أعبَدُ الناس وترى ما طُبِعَت عليه البشرية من الجماع وغيره ولم يُخِلَّ بعبادته شيئاً لأنه عليه السلام لم يكن يأتيها إلا على مشروعيتها وهذا هو غاية الكمال في البشريّة لأنه يرجع ما طُبع عليه تابعاً لما أُمِرَ به وقد قال مولانا جل جلاله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَجًا وَذُرِّيَّةً ٢ فمفهوم هذا - وهو ذكرُ الزَّوجة والذريَّة - لأنهما أعظمُ ما يَفْتَتِن بهم الناس والنكاح أكبرُ الشَّهوات فدلَّ على أن جميعهم صلوات الله عليهم على طبع البشرية من كل الجهات إلا أنَّهم لم يمنعهم ذلك من توفية أعلى الأحوال وهي توفيه حق النبوّة والرسالة وبهذا سقط عُذْرُ غيرِهم بألا يمنعهم شيءٌ مما طبعت عليه البشرية من توفية ما كلفتهم الربوبية فقامت الحجة الله عزّ وجلَّ على عباده
قُل فيلو الحمة الكلمة ۳
۱ سورة الأعلى الآية ٥
سورة الرعد من الآية ۳۸

۳ سورة الأنعام من الآية ١٤٩
۳۱۷

الوجه الثامن فيه دليل على عدم الحياء في الدين يؤخذ ذلك من أن سيدنا محمدا لما اقتحم للجنابة لم يعتذر ولا غطّى على رأسه كي يخفي ذلك وإنما ترك الأمر على ما وقع
حتى يُقعد هذه القاعدة التي ذكرنا
الوجه التاسع فيه دليل على أن التعمق في العبادة والوسواس إما بدعة أو بلوى يؤخذ ذلك
من أن سيدنا محمدا لم يطل المكث في طهوره
يؤخذ ذلك من قوة كلام الصحابي الذي قال إنه عليه السلام تركهم قياماً ورجع فاغتسل وخرج فصلى بهم فدل أنهم بقوا قياماً ينتظرونه ولو كان لبتُه في طهوره يَطُولُ لأمرهم بالقعود وحينئذ ينتظرونه لما يُعلم من رفقه عليه السلام بأمته والتيسير عليهم في جميع الأمور مما هو قد رجع علم ضرورة لا يُحتاج فيه إلى دليل
وفعله عليه السلام ذلك فيه وجه من الفقه لأن تعلمهم يفعله أن الإسراع في الطهور والإبطاء في الصلاة هي السنة لأن التعليم بالفعل ولا سيما من المشرع عليه السلام أبلغ من القول وكذلك كان له يقصر الخطبة ويطيل الصلاة
واليوم الأمر من الأكثر ممن يدعي العلم بالضد مما ذكرنا فأنى لنا الاقتداء بمن خالف سنة رسوله أعاذنا الله من ذلك بِمَنْهِ
الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون لا يرجع المتعبد من الأعلى إلى الأدنى يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام أمرهم أن يبقوا على حالهم ولم يأمرهم بالقعود لأنهم قد قاموا إلى التوجه فكرة أن يقول لهم ارجعوا إلى الجلوس فقال على مكانكم
الوجه الحادي عشر فيه دليل على تركه التجفيف من الطهور يؤخذ ذلك من قول الصحابي ورأسه يقطر ماءً والذي يجفف لا يقطر منه الماء وقد جاء عنه أنه جفف وجاء عنه أنه لم يجفف كما يقتضيه هذا الحديث فالوجهان على هذا جائزان وهي توسعة من الله على عبيده الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الإيمان كان في حياة رسول الله أقوى مما كان بعده يؤخذ ذلك من قول الصحابي فسَوَّى الناس صفوفهم من غير خبر منه له له و وجاء أن زمان عثمان رضي الله عنه وكل أناساً بتسوية الصفوف فلا يكبرون حتى يأتوه فيخبروه أن الصفوف قا استوت كما أخرجه مالك في مُوَطنِهِ فبان الفرق بين الإيمان في الزمانين فما بالك بإيمان
أهل وقتنا أجزل الله لنا النصيب منه بِمَنه ويترتب على هذا من الفقه أن بقدر قوة الإيمان تَخِفٌ أعمال البر يؤيد ذلك قوله تعالى
۳۱۸

ما وقع
حد ذلك
غتسل قعود
مما هو
ظهور
بلغ من
خالف
إلى
لأنهم
حابي
ته أنه
ده
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ۱ وبهذا النوع من قوة الإيمان ظهر على أيدي الصحابة رضي الله عنهم ما لم يظهر على يد غيرهم ولا قدروا عليه ثم بعدهم أهل الصوفة ما حملت أبدانهم تلك المجاهدات وظهرت لهم تلك الأحوال السنيّة إلا بقوة إيمانهم
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
كان
مان
ـوف
ـمان
ته له کا ناجا
1 سورة البقرة من الاية ٤٥
بالى
alets

<-{1
حديث سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظل عرشه
يومَ لا
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي الله قال سبعة يظلهم الله في ظله ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابًا في الله اجتمعا عليه وتفَرَّقا عليه ورجل طلبته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجَمال فقال أخافُ الله ورجلٌ تصدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخفاها حتى لا تَعلَمَ شِماله ما تنفقُ يَمينُه ورجلٌ ذَكَرَ الله عزّ وجلَّ خالياً ففاضت عيناه
*
إني
ظاهر الحديث أن السبعة المذكورين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله والكلام عليه من وجوه الوجه الأول ما معنى يُظِلُّهم وهل لا تكون ۱ هذه الخصوصية بهذا الظل إلا لهؤلاء المذكورين لا غير أو لهم نظائر
فالجواب عن الأول أن يقال معنى يظلُّهم بظله أي أنه جلّ جلاله يُعافيهم من هول ذلك اليوم العظيم وحَرِّه بظله المديد ورحمته الواسعة والكيفية لا مجال للعقل فيها لأن الآخرة يُصدق بها ولا يُتَعَرَّضُ إلى كيفيَّتها
وأما قولنا وهل هو لهؤلاء المذكورين أو أكثر فقد جاءت أحاديث أُخَر ذكر فيها آخرين وأخبر أنهم مثل هؤلاء في الظل
وهنا بحث لم جاءت الأخبار عنهم في أحاديث متفرقة فتفريق الأخبار لحكم منها أنه قد تكون الأخبار بقدر ما يحتاجه الوقت ليكون لأهل الوقت اهتمام به كما جرت عادته أنه حين سأله بعض الصحابة ما خيرُ الأعمال فقال للواحد بخلاف ما قال لغيره
1 يريد أولا تكون

ويكون الجمع بينهما بأن نقول أخبر لكل ۱ شخص بما هو الأفضل في حقه لأنه ل مثلُ الطبيب الذي يَصفُ لكل شخص من الدواء ما هو الأصلح له فطبه أي طبّ ودواؤه أي دواء ! كما
قال لعبد الله بن عمر نِعْمَ الرَّجلُ لو كان يقوم الليل ۳ فرجع عبد الله لا ينفك ملازماً قيام الليل
وقد يكون لم يعلم في الوقت إلا بالذي أخبر به في الحديث الواحد ثم بعد ذلك أخبر بالغير كما قال عليه السلام في حديث عذاب القبر ما من شيء لم أكن أريتُه إلا رأيتُه في مقامي هذا ۳ لأن نزول الأحكام مفرَّقةً أيسر على المكلَّف من أن تكون جملة هذا من طريق اللطف والله لطيف بعباده
وفيه وجوه أخر لأن دوام تعمير الأوقات بالأخبار بأمور الدين وبشائره وأحكامه فيه تنشيط لنفوس العبيد وإظهارٌ للرَّحمة بهم فإن تردّدَ أوامر المولى على العبيد وبشائرهم وجوائزهم ومراسلاتهم دليل على العناية بهم ولا شيء أفرح لقلوب العبيد من علمهم باعتناء المولى بهم وتكرار نِعَمِه عليهم وبهذا المعنى ذكر عن أيوب عليه السلام لمّا عافاه الله عزّ وجلَّ أنزل عليه فراشاً من ذهب مَلا كلَّ ما له من الأواني ثم رأى جرادة من ذهب تطير فجرى وراءها فأوحى الله عزّ وجلَّ إليه أَمَا أقنَعَكَ كلُّ ما أعطيتك ٤ قال بَلَى يا ربّ ولكن من يَشبَعُ من خيرِك فشكر الله له ذلك
الوجه الثاني فيه دليل على أن أعمال الخير دالة على سعادة الشخص يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله فجعل موجب الظل تلك الأعمال

الوجه الثالث فيه دليل على أن جميع أفعال البر مطلوبة منا وإن لم يكن بعضها فرضاً يؤخذ ذلك من وصفه عليه السلام ثواب الأعمال ولم يأمر بعملها لأن كثرة الربح تحض بضمنها
على المعاملة
الوجه الرابع فيه دليل على أن أمر الآخرة بضد أمر الدنيا يؤخذ ذلك من أن الدنيا ندب إلى التقليل منها كقوله عليه السلام فاتَّقوا الله وأَجْمِلوا في الطَّلَب ٥ والآخرة رغب في التكثير منها وإن كان الشخص معه من العمل ما يتخلص به وقد زاد ذلك إيضاحاً قوله تعالى وَلَا تَمنُن
۱ زاد اللام للتقوية
رواه الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر عن حفصة بلفظ آخر

هو جزء من الحديث رقم ۱ في هذا الكتاب ٤ أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ٥ انظر تخريجه في الحديث ۱۱ ومطلعه إن روح القدس نفث في روعي

تَسْتَكْير ۱ أي لا تقل معي من أعمال الخير ما يكفيني فتقلل من العمل - على أحد الأقاويل -
مما قيل في معنى الآية
الوجه الخامس فيه دليل على أن إعطاء الأجور على الأعمال لا يترتب على علة عقلية ولا علية يؤخذ ذلك من أن هذه الأعمال السبعة فيها واجب وفيها مندوب والثواب فيها على حد واحد وقد أجمعت الأمة - بمقتضى الأدلة الشرعية - على أن الفرائض أعلى من غيرها من الأعمال فلو كان الثواب عِليَّةً من العلل ما كان يسوي بين ثواب الفرض والندب وقد سوى هنا
بينهما فليس ذلك لعلة
فإن احتج محتج بأن يقول تَسَاوَوْا في أن الظل عَمَّهم وتفاوتوا فيه في عظمته وامتداده وغير ذلك من حسن أوصافه كما أن أهل الجنة يدخلون الجنة ويتفاوتون في المنازل فيها فالجواب أن الذي أخبرنا بالجنة أخبرنا بتفاوت المنازل فيها والذي أخبرنا بالظل لم يفرّق وأمور الآخرة هي غَيْب والغيب لا مجال فيه للقياس ولا للعقل وإنما الشأن فيها التصديق بها على ما جاءت به اللهم إلا أن يكون بعض ما يُستَدَل به على الزيادة في الأجر إذا نُظر من طريق الجمع بينهما فيُرجع إلى طريق الأخبار كما هو أيضاً
الوجه السادس فيه دليل على أن بعض الفرائض ثوابها أعلى من ثواب غيرها لأن الذي هنا مذكور من الفرائض ثوابه أكبرُ من غيره من الفرائض لأن المعافاة من هول ذلك اليوم أكبر الثواب لأن من عوفي منه لم يبق عليه خوف
الوجه السابع فيه دليل على أن بعض المندوبات ثوابها أعلى من ثواب بعض الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام سبعة يظلهم الله والأكثرُ من السبعة هو من المندوب وهذا الثواب لم يأتِ مثله على بعض الفرائض
وهنا بحث كيف يمكن أن يكون بعض المندوبات أفضَلَ ثواباً من بعض الفرائض وقد قال حكاية عن مولانا لن يتقرب إلي المتقربون بأحبَّ من أداء ما افترضتُ عليهم وصيغة أحبّ تعطي الأفضلية في الفائدة فالجواب أنه ما يصح له علم ثواب المندوب إلا بعد تحصيل المفروض لأنه إذا عمل المندوب ولم يأت بالمفروض استوجب دخول النار وقد جاء أن وادياً في جهنم يُسمَّى الغيّ هو لمن ترك شيئاً من الفرائض ومن ترك المندوب فلا عقاب عليه
غير أنه فاته ثواب عظيم
1 سورة المدثر الآية ٦
انظر تخريجه في الحديث ٦ ومطلعه من عادى لي وليا

فصورة الجمع بين الوجهين أن نقول إن الفرائض أرفع لأنها بالوعد الجميل من جاء بها لا
زيادة
يدخل النار وبعض المندوب أكثرُ ثواباً من الفرض لكن ذلك الفرض - وإن كان ثوابه أقل من أجر المندوب ـ فقد فاته الفرض بأمرٍ أعظم من ذلك وهو البعد من النار وقد قال لو لم يكن إلا النجاة من النار لكان فوزاً عظيماً ۱ فوقعَ الفرقُ بأن الواحد - وهو المندوب - أكثرُ ثواباً والآخرُ وهو الفرض أكثر فائدة والفائدة تحوي أشياء من المنافع عديدة وتعظيم الأجر لا يقتضي على غيره غير التفضيل في ذلك الوجه الواحد ليس إلا كقولنا مثلاً زيد أجمَلُ من عَمْرو وعمرو خير من زيد فزيد ما فضل عَمْراً إلا في الجمال ليس إلا وعمرو فاق زيداً في أشياء عديدة لقولنا هو خير منه فنسبة ما فضل عليه في الوجه الواحد بنسبة الذي زاد عليه من وجوه عديدة كنسبة صاحبين كانت خياطة ثوب أحد الصاحبين خيرا من خياطة ثوب صاحبه وثوب صاحبه
أرفع منه فأشرفهما وأرفعهما في اللباس الذي ثوبه أرفع وإن كانت خياطة ثوب صاحبه أرفع
الوجه الثامن قوله عليه السلام يوم لا ظل إلا ظله الظلال كلّها لله مِلْكٌ في الدنيا والاخرة فالحكمة في الإخبار بهذه الصيغة هنا أن ظلال الدنيا - وإن كانت له جل جلاله - فمنها ما قد جعلها عزّ وجلّ ملكاً للعبيد يتملكونها بحسب ما شرع لهم ذلك لا يتصرف فيها أحد إلا برضاهم حكماً منه بذلك مثل ظلال الحدائق المتملكة وظلال الله عزّ وجلّ لم يجعل لأحد عليها ملكاً فمن احتاج إلى شيء منها أخذَها دون عَنَت في ذلك مثل الظلال التي في القَفْرِ أو قد خرج أصحابها عنها الله عزّ وجلّ وسبَّلوها له وظلالُ الآخرة ما فيها مُباح بل كلها قد تُمُلكت بالأعمال التي عَمِلها العاملون الذين هداهم بفضله لتلك الأعمال التي ذلك ثوابها بمقتضى قوله المؤمنُ في ظلِّ صَدَقته يومَ القيامة ٢
التي قد
فليس هناك لصعلوك الأعمال ۳ ظل فكأنه عليه السلام يقول ليس هناك ظل إلا لمن عمل هنا الله فلما أضاف أعمال البر هنا إليه كما قال عزّ وجلّ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ٤ أي ما كان لوجهه فهو باقٍ يَنتفع به صاحبه في الدارين وما ليس لوجهه فهو - وإن كان نفعه موجوداً لصاحبه في هذه الدار - لم يجده هناك حيث الحاجة إليه فهو هالك أي ليس يُنتفع به وقد يتضَرَّرُ به فيكون أبلغ في الهلاك فأضاف ثوابها في الآخرة إليه ٥

۱ انظر تخريجه في الحديث ۱۱
انظر الحديث رقم ۱۳۸
۳ صعلوك الأعمال الفقير إلى الأعمال الصالحة المقبولة في الآخرة
٤ سورة القصص من الآية ۸۸
٥ أي في قوله وجهه حيث أضاف الأعمال أعمال البر إليه تعالى
۳۳
L

الوجه التاسع فيه إشارتان عجيبتان إحداهما الإرشاد إلى الإخلاص في العمل ولهذا قال بعض الفقراء الصدق والإخلاص علامة الخلاص والثاني هي رد الفرع إلى أصله بإضافة الفرع الذي هو الظل إليه كما كان الأصل في الدنيا مضافاً إليه وهو من بديع الحكمة ويترتب على هذا من الفقه الحث على الأعمال الخالصة التي توجب هناك ذلك الظل
المبارك جعلنا الله ممَّن أجزل له منه الحظ بمَنِّه
الوجه العاشر فيه دليل على عظم قدرة القادر جل جلاله يؤخذ ذلك من أن الأعمال هنا
معان وهناك بهذا الخبر الصدق جواهر محسوسات
وهنا بحث هل هذه السبعة خصت بهذا الثواب تعبداً لا يُعقل لها معنى أو هي معقولة المعنى فإن قلنا إنها تعبّد غير معقولة المعنى فلا بحث وإن قلنا إن معناها معقول فما هو فالجواب - والله أعلم - أن العلة فيها على وجهين
أحدهما قوة قهر النفس والهوى وهو من أكبر الموجبات لخير الدنيا والآخرة لأنه جل جلاله قال وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ۱ وقال رجعتم من الجهاد
الأصغر إلى الجهادِ الأكبر وهو جهاد النفس و الوجه الآخر هو حقيقة الإخلاص وقد قال جل جلاله وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۳ وقال إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه قالوا وما إتقانه يا رسول الله قال يُخلصه من الرياء والبدعة ٤ وترك الرياء هو عين الإخلاص وكلتا العلتين الحامل عليهما خوفُ الله عزّ وجلّ فاختَبِرْها واحدةً واحدةً تجد ذلك
الوجه الحادي عشر قوله عليه السلام الإمام العادل فلأنه لا يمنَعُهُ من الظلم ولا يَفْهَرُ نفسه على العدل مع تمكنه من الظلم لقدرته عليه من طريق الحكم وقدرته على قهر غيره ولا أحد يقدر أن يصده عنه عنه إلا شدة خوفه من الله وقد جاء الحديث عن الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات فلما مات فعلوا به ذلك فجمعه الله وقال له لِمَ فعلتَ هذا قال من خشيتك يا رب فغفر له فشدة خوفه كان منجِياً له الوجه الثاني عشر قوله عليه السلام وشاب نشأ في عبادة ربه فلأن العبادة هي قهر النفس وخروجها عن راحتها وحملها على المجاهدات والدوام على ذلك
۱ سورة النازعات من الآية ٤٠ وتمام الآية ٤١ انظر تخريجه في الحديث ١٦ ومطلعه قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَم
۳ سورة البينة من الآية ٥
٤ انظر تخريجه في الحديث ومطلعه إن الله يحب إذا عمل العبد عملاً أن يحكمه
قوة شهوات
٣٢٤

لهذا
سافة
ظلَّ
هنا

14
النفوس زمان الشباب فما حمله على ذلك إلا الخوف الشديد ولهذا المعنى يُروى عن بعض أنه كان يأوي إلى فراشه فلا يقدر على النوم فيقول اللهم إنك تعلم أن خوف نارك
المتعبدين
منعني
الكَرَى ثم يقوم فيصلي حتى يصبح الوجه الثالث عشر قوله عليه السلام ورجل قلبه معلق بالمساجد فحقيقة الإخلاص توجب تعلق القلوب بالعبادات وأرفع ما تكون الصلاة في المساجد فهو مشغول بأرفع العبادات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يسمّى حمامة المسجد لكثرة ملازمته إياه
الوجه الرابع عشر قوله عليه السلام ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه فهو يوجب شدة الإخلاص منهما حتى لم يبق للنفس شهوة ولا ميل لشيء من الأشياء إلا لله و بالله الوجه الخامس عشر قوله عليه السلام ورجل دعته امرأة ذات مَنصِب وجَمال فقال
إني أخاف الله فهذا لِعِظَم قَهْرِ النفس عن هواها والحامل على ذلك شدة الخوف من الله وهنا بحث وهو لِمَ قال عن المرأة مع هذين الوصفين اللذين فيها لأن ذات المرأة وحدها من أكبر الفتن وقد قال ما تركتُ بعدي فتنةً هي أضرُّ على الرجال من النساء١ فذكر الوصفين كل واحد منهما من أقوى البواعث في شهوات الجماع والرغبة فيها وقد قال تزَوَّجُ المرأة لجمالها وحسبها لأن ما ترغب النفوس في واحد طبعاً إذا اجتمع أكثر من واحد كان أشد في الرغبة فيه وقوة الشهوة فمن أجل ذلك عَظُم الأجرُ لتاركه
ومثل ذلك يذكر عن بعض أهل الصوفة كان بعضهم ممسكين في الخلوة وبعضهم غير ممسكين ثم فتح عليهم بطعام طيب فقال الشيخ قدَّموا أهل الخلوة فخرج بعضهم عنه لإخوانه قبل أن يعرف ما هو وقام بعضهم فكشف الطعام حتى عاينه وعرف ما هو ثم بعد ذلك خرج عنه وقام بعضهم فعاينه ورفع منه لقمة لفيه حتى عرف طعمه بها وتأكدت عنده قوة الشهوة لذوقه طيب الطعام ثم بعد ذلك خرج عنه فكان زهد الأكل اختياراً للطعام أعظم منزلة لقوة شهوته وقهره لها الوجه السادس عشر قوله عليه السلام ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تُنفِقُ يمينه فهذا تحقيق في الإخلاص ومثل ذلك يُرْوَى عن بعض أهل الصوفة أنه كان قلما يقبل شيئاً فلما كان ليلةً بعد العشاء الآخرة فإذا رجل يقرع الباب فخرج إليه فإذا هو رجل من جيرانه وكان صانعاً في الخياطة
۱ تقدم تخريجه في الحديث ۳۳
رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
٣٢٥

فقال له خطتُ اليوم بكذا وكذا واشتريتُ به هذا الطعام معه وما يُحتاج إليه في البيت ورأيت أنها من جهةٍ حلال ارتضيتُها لك وهذا ليل مظلم ووالله ما عرفتُ أحداً ولا راني أحد حين جتك وها هوذا ثم رَمَى ما كان بيده بالباب وولى فما حَمَلَه على هذا الإخفاء العظيم إلا رغبه
في الإخلاص في العمل
عند
الوجه السابع عشر قوله عليه السلام ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً ففَاضَت عيناه فلأنه اجتمع له الوصفان الخوفُ والإخلاص وهذه الأوصاف الحميدة لا يقع منها شيء إلا ذهاب أوصاف النفس وعلى قدر غيبتها يكون الفتح ولذلك قال بعض من نسب إلى القوم إذا رأيت نفسك لم تَرَ غيرَها وإذا لم تَرَها لم يبق لك شيءٌ إلا رأيته فارغب في رؤية ما لا تُحصيه ومن المحاسن ما لا تعرف منه ذرّة بالإعراض عما لا يساوي في الحقيقة ذرَّة فإذا كنت بهذا الوصف عاد الورى بأسره لا يعدل منك ذَرَّة
عدا
وبقيت بحوث منها
البحث الأول هل الإمام العادل هنا الذي له الحكم على الخاصة والعامة وله البَيْعَة أو
الإمام كل من كان مسترعى رعية قلت أو كَثُرَتْ لقوله عليه السلام كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيَّتِه احتمل لكن الأظهر الذي له البَيْعَة ولا
ننفي
الآخر بالأصالة
البحث الثاني قوله في الشاب الذي نشأ في عبادة ربِّهِ هل هو مقيَّد أو مطلق ظاهره مطلق وهو مقيد بأصول الشريعة وهي كثيرة فمنها ما تقدم ذكره من قوله إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يُنْقِنَه قيل وما إتقانه قال يخلصه من الرياء والبدعة وإلا كان هباءً منثوراً البحث الثالث قوله في الرجل الذي قلبه متعلق بالمساجد فليس على عمومه أعني أن الرجل يكون قلبه متعلقاً بكل مسجد في الدنيا فإن هذا المعنى لا فائدة فيه ولا يمكن أيضاً أن يتعلق قلب أحد بما لم يرَ ولم يسمع ولم يعرف فما بقي إلا أنه تحرز بقوله بـ المساجد ولم يقل بـالمسجد لأن هذا الاسم من أسماء الغلبة للكعبة أو لمسجده ل لأنه إذا سمع السامع من الشارع عليه السلام هذا الفضل العظيم لم يسبق لقلبه إلا أحد هذين المسجدين فعدل عن وصف المسجد بالفرد إلى الجمع وهو الجنس ويكون المعنى أي مسجد كان من جملة المساجد كما قال مولانا جل جلاله ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ لجنس الفقراء والمساكين فإذا أعطى إنسان صدقته لمسكين واحد فقد وقعت في مستحقها وأجزأته
۱ سورة التوبة من الآية ٦٠

أي
٣٢٦

ރ
حسین
ند
ذا
عن فرضه ويكون معنى تعلق قلبه بها أنه إذا خرج منه بقي قلبه متعلقاً به أن يعود إليه لأداء الصلاة التي تأتي بعد وإنما المساجد لما بنيت له
وفيه من الفقه أن هذا الذي قلبه متعلق بالمساجد إنما هو زائد على ثواب صلاته لأن ثواب الصلاة قد جاء ما حَدُّه في الجماعة وما حده في الوحدة وجاء ثواب الخُطى إلى المساجد وما قدْرُه وانتظار الصلاة وما قدر الأجر في ذلك فما بقي من مقابلة هذا الثواب العظيم إلا تلك النية المباركة وقد قال نيه المؤمنِ أبلَغُ من عمله ۱ لأن تلك النية المباركة هي نتيجة قوة
خالص إيمانه

البحث الرابع قوله في الرجلين اللذين تحابا في الله هل يكون ذلك على عمومه - أعني إذا تحابا في الله إلا أنه يجد كل واحد منهما منفعة من صاحبه أو يرجوها منه إما في العاجلة أو الآجلة مثال ذلك أن يصحب أحدهما الآخر ويجد به عَوْناً على شيء من دنياه حسًا أو معنى أو يقول يكون لي عُدّةً في الآخرة يشفَع لي أو ما أشبه ذلك - أو لا يكون له ذلك الظلّ إلا حتى تكون صحبتهما الله عزّ وجلّ لا لغيره احتمل والظاهر - والله أعلم - أن يكون الله خالصاً لا لِحَظ دُنْيَوِيٌّ ولا أُخْرَوِيّ كما روي في الهدية عن عبد الله بن عمر أنه قال من كانت هِبْتُه لوجه صاحبه فله ذلك وليس له على الله ثواب ومن كانت هِبَتُه لوجه الناس فله ذلك ومن كانت هِبَتُه للثواب فإما أثابه الموهوب له أو يَرُدُّ هِبَتَه وإن كانت خالصة الله فتلك التي يُثيبه الله عليها
ويقوّي ذلك ما قاله عن مولانا جل جلاله يقول يوم القيامة لمن خلط في عمله
لغير الله شيئاً أنا أغْنَى الشركاء إذهب فخُذِ الأجر من غيرِي الذي شَرِكتَه فيه
فالمتحابون في الله على ثلاثة وجوه
إما أن يكونا تحابا في الله مع رجاء حطام في هذه الدار معنويا كان أو حسنًا فهذا طالب حاجة وَهِمَّتُه في دنياه فليس له إلا حاجته قضيت أو لم تُقضَ كما قال الله مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه
والثاني أن تكون صحبته الله مع رجاء حظِّ أَخْرَوِيّ حسّا كان أو معنى فهذا أيضاً طالب حاجة لكن نفسه أرفع من الأول وهو الأكثر عند المنتسبين للخير فله حاجته قضيت أو لم
تُقضَ
۱ سلف تخريجه في الحديث
رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ مختلف
0

والثالث الذي تكون صحبته الله ليس إلا فهذا الذي يَصْدُق عليه اسم المتحابين في الله على حقيقة اللفظ وإذا كان كذلك لا يغيّره من أخيه شيءٌ يَصدر له منه وإذا كان على غير هذا الوجه فقلما يثبت عند الامتحان فإذا كانت نية أحدهما الله ونية الآخر لغير ذلك فلكل امرىء ما نَوَى
وقد ذكر عن بعض من اصطحبا الله أنه جفا أحد الأخوين أخاً له فقال الذي جُفي عليه للآخر امْضِ يا أخي فاحضر مجلس فلان من أهل الصوفة في الوقت فامتثل ما قال له صاحبه فلما حضر المجلس تكلم ذلك السيد في ذلك المجلس على ما كان وقع من ذلك الشخص لصاحبه وتبين له من المجلس أنه تعدّى على أخيه وجفاه فتاب واستغفر وعزم أن يعود فيقبل أقدام صاحبه لعله يعفو عنه فلما دخل على صاحبه أخبره بالذي جاء بسببه فقال له يا أخي افعل ذلك مع نفسك فإني ما صحبتك إلا الله خالصاً فكيف يعزّ عليَّ ما يصدر منك وإنما وجهتك في حق نفسك لا غير

البحث الخامس قوله طلبته امرأة ذات منصب وجمال هنا من الفقه أن من السنّة الكناية عن الشيء القبيح شرعاً والإعراض عن تسميته يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام طلبته والطلب هنا يعني طلبت منه وقوع الفاحشة المحرمة فكنى بطلبته عن هذا الأمر الممنوع شرعاً
ولم يفصح به
البحث السادس قوله أخفاها هل هذا على العموم - أعني صدقة الواجب والتطوّع - أو معناه الخصوص فيريد بهذا صدقة التطوّع لا غير صيغة اللفظ محتملة لكن الذي قاله العلماء أن أفعال البرّ كلها الفرضُ منها الأفضلُ فيه ظهوره والتطوّع كله الأفضل فيه إخفاؤه لأنه قال صلاة المرء في بيته أفضل له إلا المكتوبة ۱ فإذا كانت الصلاة ـ التي هي رأس الدين كذلك فالغير من باب أولى وسيأتي الكلام على هذا في موضعه من الكتاب - إن شاء الله البحث السابع قوله ذَكَرَ الله خالياً ففاضت عيناه هل يعني بقوله خالياً حسّاً أو معنى أو مجموعهما وأعني بقولنا حِسّاً أن يكون في موضع وحده ليس معه أحد من بني آدم وأعني بقولنا معنى أنه لا يكون الموجب لبكائه إلا خوف الله عزّ وجلّ ليس إلا ومجموعهما وهو
حين يكون وحده ولا يكون موجب بكائه إلا خوفَ الله
فأما إذا كان الوجهان معاً فلا شك أن هذا أكمل الأحوال
وأما إذا كان خلياً من دون البشر ووافق بكاؤه فكرة أخرى ليست من الله ولا من ذكره
۱ رواه البخاري والنسائي وابن حنبل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولفظه صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
۳۸

جد
ما

بشيء فلا خلاف أن هذا الحال ليس المشار إليه هنا وهي حالة مذمومة لأنه مُراء إذ أظهر أنه
من أجل الله لكن خرج الدمع بحكم الوفاق عند ذكر الله في الخارج وهو في الحقيقة غير ذلك وأما الوجه الثالث وهو أن يكون ذكره في جمع وذكر الله وقلبه خال مما سواه وكان ذلك الذكر هو المؤثر لخروج الدمع فيرجى أن يكون من هؤلاء المباركين لأنه يَصْدُق عليه خالياً معنى فإذا وقع وجه ما محتمل رُجي والمتحقق مقطوع به وهو الجميع كما تقدم وهنا بحث آخر وهو هل قوله ذكَرَ الله هل يكون الذِّكْرُ المعني هنا باللسان والشفتين أو بالقلب وإن لم يتحرك اللسان أو بأيهما كان يُسمَّى ذاكراً فالجواب أنه ينطلق على كل واحد من هذه الوجوه أن يوصف صاحبها ۱ بالذكر بدليل قول سيدنا في الحديث الصحيح كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن ذَكَرَني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومن ذكرني في مَلاً ذكرتُه في ملأ خير منهم فقد سمّاهما ذاكِرَيْنِ والطفيلي يتعلق بأقل من هذا وأما على مذهب أهل الصوفة فذكر القلب عندهم أفضل وأما على ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذِكْرُه عند الأمر والنهي فذكره عند الأمر والنهي خير له من اللسان لأنه قال ذِكْرُ الله عند أَمْرِهِ ونهيه خير له من ذكره باللسان
فالجواب عن قول عمر رضي الله عنه نعم إن ذكر الله عند أمره ونهيه خيرٌ من ذكره باللسان لكن لا يتناوله هذا الحديث ويُرجَى أن يكون حاله أرفعَ من هذا
وأما ما قاله أهل الصوفة فعلى ملاحظة قول سيدنا بَضْعَةٌ في الجسد إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسد ألا وهي القلب ۳ فعلى هذا يترجّح قولهم على قول غيرهم والشأن العمل على الخروج عن الخلاف والأخذ بالكمال في كل الأحوال
جعلنا الله مِمَّن مَنَّ عليه بذلك بِمَنْه امين والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

1 الصواب صاحبه أخرجه عبد الله بن المبارك عن خالد بن معدان في الزهد والرقائق
۳ جزء من حديث رواه الشيخان وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما
۳۹

حديث تقديم العشاء على الصلاة
عن عائشة ١ رضي رضي الله عنها عن النبي ل قال إذا وُضِعَ العَشاءُ وأُقيمتِ الصَّلاةُ
فابدؤوا بالعشاء
ظاهر الحديث يدل على جواز تقديم العشاء إذا وُضِعت وإن أقيمت الصلاة والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول هل الأمر هنا على الوجوب أو الندب أو الإباحة أو هو على جهة التوسعة ليتأتى بذلك للمكلَّف العمل بفقه الحال فالذي يكون لحاله أرفَعَ يفعل فالأمر محتمل للجميع لكن الأظهر - والله أعلم - أن يكون هذا توسعة ليكون المكلف في كل وقت يأخذ بالأصلح في دينه فإن كان مَثَلاً وُضعت العشاء وله بها حاجة أكيدة من حيث أن قدَّم الصلاة عليها كان خاطره فيها أعني في عشائه أو به ضعف عن توفية أركان صلاته فإذا تعشّى وجد بها قوة على توفية صلاته فهذا وما أشبَهَه تقديمُ العَشاء في حقه أفضل وإن كان ممن لا شهوة له في عَشائه وقواه مجموعة أو أنه يخاف إن تعشى يلحقه ما يلحق بعض الناس إثر الطعام من الكسل فهذا وشبهه تقديم الصلاة خير له وإن كان مِمَّنِ الأمرُ عنده سِيّان قدَّم العَشاء أو الصلاة لم يظهر له ترجيح بينهما فهنا ينظر لوقت الصلاة فإن كانت مَغرِباً فالأولى تقديمها لأنه الوقتُ المُجمع على فضيلته وإن كانت العِشاء فلا يخلو أن يدرك جماعة أخرى أو ليس فإن كان يدرك جماعة أخرى فتقديم العشاء أفضل لأن تأخير الصلاة وترك الشغل بعدها أفضل وإن كان لا يدرك جماعة أخرى فتقديم الصلاة أولى لأنه من صلاها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكما رجحنا بالنسبة إلى

۱ انظر ترجمتها في الحديث ۱
۳۳۰

النظر إلى حاله فكذلك يلزمه الترجيح لنظر الغير إن كانت عشاءُ غيره ملتزمةً مع عشائه۱ لقوله كُلُّكُمْ رَاعٍ وكلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ
وُضِع
الوجه الثاني فيه دليل على أن وقت المغرب ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعَشاء لأن العشاء ما لها من أوقات الصلوات بِجَرْيِ العادة عندهم إلا صلاة المغرب وصلاة العشاء والغالب منها موافقتها لصلاة المغرب بدليلين أحدهما ما عرف من حال الصحابة رضى الله عليهم من كثرة دوام صومهم والاخر من الحديث من قوله عليه السلام وأقيمت الصلاة
وإقامة الصلاة لا يسمعها إلا من يكون في المسجد وما قرب من المسجد وهذا اللفظ عام يتناول من يكون في المسجد ومن لا يكون في المسجد بقُرْب أو بُعْد وهو الأكثر وكيف يسمع الإقامة من ليس في المسجد وهو بالبُعد منه فإذاً لا يمكن لأن الإقامة فيما عدا المغرب ـ إذ ليس لها زمان معيَّن يعرف به وقتها - لأنه قد جاء عن سيدنا أنه مرةً يُوقع الصلاة في أول الوقت وأخرى في أول الوقت والوقت متمكن ۳ والخلفاء بعده كانوا يقعدون في آخر المسجد فلا يقيمون الصلاة حتى يتجمع الناس فدل ذلك على عدم تعيين وقت الإقامة ولم يختلف النقل عن سيدنا وعن الخلفاء بعده ومن بعدهم إلى هلم جرًا أن المغرب لا تتأخر الإقامة عن وقت الأذان بها فكان سَمْعُ الأَذان سَمْعَ إقامتها فبان بهذين الدليلين أن الظاهر - من الإشارة بالصلاة في الحديث - صلاة المغرب وثبت بهذا الظاهر أن صلاة المغرب لها وقت ممتد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فابدؤوا بالعشاء فلو لم يكن وقتها ممتدا ما أمرهم بترك الصلاة حتى يخرج وقتها وهم ذاكرون وقادرون الوجه الثالث فيه دليل على أن الأفضل في صلاة المغرب أولُ وقتها يؤخذ ذلك من قوله إذا أقيمت الصلاة فلولا دوامه عليه السلام - على أن إثْرَ الأذان لها تُقام حتى رجع ذلك لها عَلَماً لا يحتاج فيه لغيره - لما أخبر بِسَمْعِ الأذان عن سَمْعِ الإقامة وما دام عليه الا الله وهو الأفضل
بلا خلاف
الوجه الرابع يؤخذ من هذا من الفقه أن العادة إذا كانت لا تنخرم قامت في الإفصاح بها وأغنت عن النطق بما دلت عليه بلا إفصاح به
2
10
مقام
۱ لعله يعني أنه إذا كانت الوليمة أو المأدبة جماعية في أسرة وكانت الجماعة مرتبطة به وقلوبهم مشغولة بالطعام فيقدر لهم حالهم وهذا من فقه الحال
جزء من حديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ أي متسع
۳۳۱

ويؤخذ منه من الفقه أن من لازم شيئاً من الأشياء لا ينفك عنه كان وصفه بذلك الشيء زيادة
بيان في تعريفه
يؤخذ ذلك من أن الأذان شرع للإعلام بدخول وقت الصلاة والإقامة شرعت للإعلام للدخول في الصّلاة فلما لازمت الإقامة في المغرب للأذانِ زادت في تعريفه وصفاً لأنه يُعلم به الأمران معاً ويُخبَر عنهما بأحدهما ويصدق عليه كما فعل هنا سيدنا الذي أخبر ـ
بالإقامة كما تقدم
عنه
الوجه الخامس هنا بحث لم قال إذا وضع العشاء ولم يقل إذا كان وقت العشاء وبحث آخر هل هذا خاص بالعشاء لا يمكن في غيرها أو هو جائز في العشاء وغيرها ويكون ذكر العشاء هنا من باب التنبيه بالأعمّ على الأخص
فالجواب عن الأول أن وضع العشاء وهو جعلُها بين يدي صاحبها سبب لتحريك الشهوة للطعام مما يوجب تعلّق القلب به وتعلّقُ القلب به يوجب عدم الحضور في الصّلاة وعدم الإخلاص وعدم الخشوع وهذه الأشياء هي من الأسباب الموجبة لعدم قبول الصلاة فلما كان حضور طعامه علةً يتوقع منها عدم القبول قيل له داوِ علتَك بأكلك طعامك وحينئذ تقدّم لصلاتك لأن مولانا جل جلاله يقول ﴿ فَإِذَا فَرَغَتَ فَأَنصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَأَرْغَب ١ قال علماؤنا إذا فرغت من أمور ضروراتك فإن القلب أبداً متعلق بضروراته فإذا فرغ منها حَسُنَ الدّخول في العبادة وكما رُوي عن عبد الله بن عمر أنه إذا كان صائماً ورأى من بعض جواريه ما يعجبه إذا كان وقت المغرب يأكل ويجامع ويتطهر وحينئذ يصلي فهذا السيد عرف معنى الآي والحديث ولذلك كان أَتْبَعَ الناس للسنة فإذا دخل وقت العشاء ولم تكن قُدِّمت له فيجب على ذلك تقديمُ الصلاة لأنه يجتمع له تضييع لا هو يأكل طعاماً ولا هو يؤدي ما عليه من صلاته الوجه السادس يترتب عليه من الفقه أن الحق للمتقدم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
إذا وضع العشاء لأن وضع العَشاء مقدَّم على الصلاة فكان الحق لها الوجه السابع فيه دليل لأهل الخواطر لأنهم يقولون الحكم للخاطر الأول وأما قولنا هل هذا خاص بالعشاء ليس إلا أو هو فيها وفي غيرها فالجواب إن قلنا إن هذا تعبد غير معقول المعنى فيكون مقصوراً على ما جاء فيه لا غير وإن قلنا إنه لعلة وهو الأظهر - والله أعلم - فإذا فهمنا العلة عدينا الحكم والعلة والله
۱ سورة الشرح الآيتان ۷ و ۸

۳۳

ـادة
به

أعلم هنا إن كانت ما أشرنا إليها قبل من تعلق القلب بالطعام ليس إلا فإذا كان هذا جائزاً في المغرب مع ضيق الوقت فمن باب أحرى في غيرها
وإن قلنا إن قوة الشهوة للطعام لا تراعى إلا مع الصوم فيكون موقوفاً على وجود هاتين العلتين الصوم وتعلق القلب بالطعام
وإن قلنا إنما احتيج هذا في المغرب وحدَها لكون العمل على ألا تؤخّر وأن غيرها من الصلوات لك أن تؤخرها إلى أي وقت شئت من أجزاء وقتها المختار بغير علة أكل ولا غيره
فلا بحث
الوجه الثامن فيه دليل على أن من السنّة المحافظة على المندوبات ولا تُترك إلا لضرورة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا أقيمت الصلاة وصلاة المرء في الجماعة من المندوبات على رأي أكثر جماعة أهل العلم ودلَّ أنه إذا لم يكن له عذر لا يترك المندوب لأنه لم يُبح له تركُ الصلاة إلا من أجل علّة الطعام وتَقدُّمه
وهنا بحث في قوله عليه السلام إذا وضع العشاء هل هذا على ظاهره أعني أنها توضع بين يدي صاحبها أو يكون وضعها بمعنى أنها قد استوت فلا يمنع من تقدُّمها وأكلها إلا الصلاة لأن العرب تسمي الشيء بما يقرب منه احتمل الوجهين ونجد أيضاً العلة مع وجودها في الوقت سواء كانت بين يدي صاحبها أو حاضرة في المنزل ليست بين يديه موجودةً في النفس
ذلك التعلق
الوجه التاسع فيه دليل على أن المتبع للسنة تَصرُّفه كلُّه طاعةٌ مأجورٌ عليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إذا وُضِع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء لأن المتبع للسنة لا يبدأ هنا بالعشاء إلا لأمر الشارع عليه السلام بها فيكون مأجوراً لكونه ما وقع أكله لهذه العشاء إلا للأمر بها وغيره لم يأكل عشاءه إلا اختياراً منه ورعياً لشهوته إليها وكثير من يأكل للأمر ومَن يأكل للشهوة وكذلك يكونان في جميع أمورهما كلٌّ على مقتضى حاله

الوجه العاشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين تركوا ملاحظة الشهوة وعملوا على ذلك حتى لم يبق لهم منها شيء لأنها هي أو جبت تأخر العبادة فإذا عُدِمت أوقعَتِ العبادة في
وقتها المختار
التي
الوجه الحادي عشر فيه دليل على رفق المولى بعبيده وأنه عزّ وجلّ غنيّ عن عبادتهم يؤخذ ذلك من أمره عليه السلام بتقديم العشاء على الصلاة لأن الغذاء مما تشتهيه النفوس وتستريح به وتتنعم والعبادة إنما فيها التعب في الغالب من أحوال الناس لأن أهل الخصوص
۳۳۳

يتنعمون بالعبادة كما يتنعم غيرهم بالأطعمة الطيبة ولهذا المعنى ذكر عن إبراهيم بن أدهم ۱ أنه قال مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا من نعيمها شيئاً قالوا وما نعيمها قال لذة الطاعة خرجوا ولم يذوقوها فلا دنيا لهم ولا آخرة وقد كان سيدنا يقول أرحنا بها یا بلال ٢ يعني الصلاة الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الأحكام الشرعية أتت على الغالب من أحوال الناس يؤخذ ذلك من تقديم العشاء على الصلاة لأنه جُبلت النفوس بالميل إلى طعامها هذا هو الغالب من أحوال الناس فجاء الأمر على الحكم الغالب
الوجه الثالث عشر يؤخذ منه أن الخطاب العام يشترك فيه أهل الخصوص والعوام والخطاب الذي هو للخواص لا يشاركهم فيه العوام مثل هذا الأمر هنا اشترك فيه الكل ومثل المحسنين لم يدخل مع المحسنين غيرهم

وأما الدليل على كونه عزّ وجلّ مستغنياً عن عبادة العابدين فلأنه لو كان محتاجاً إليها لم يكن عزّ وجلّ يسامحهم في تأخيرها عن وقتها واشتغالهم بما فيه راحة نفوسهم الوجه الرابع عشر فيه دليل على أن أمور الدنيا ما تستباح عند أهل الإرادة إلا أن تكون عوناً على الآخرة يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام لم يبح لهم تقديم الطعام الذي هو من حظوظ النفوس - وحظوظ النفوس كلها دنيوية - إلا من أجل حُسن الصلاة وإتمامها والصلاة أُخروية فأعظم أمور الدنيا هو الأكل الذي الكلُّ محتاجون إليه وغيره قد يستغنى عنه ولا يضر والأكل إذا عدم أوجب العدم في العادة المستمرة وهو عون على أعلى أمور الآخرة وهي الصلاة لأنه قال بين المؤمن والكافر ترك الصلاة ۳ فنبه عليه السلام في الحكم الأعلى من أمور الدنيا على الأعلى من أمور الآخرة فالغير هنا في حكم التَّبَع لهما فهما من باب التنبيه بالأعلى على
الأدنى
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ انظر ترجمته في الحديث ۱ ٢ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود عن رجل من الصحابة
۳ أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه بلفظ بين الإيمان والكفر ترك الصلاة وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن جابر بلفظ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة
٣٣٤

حديث تخفيف الصلاة
عن ۱ أنس بن مالك ١ رضي الله عنه يقول ما صليت وراءَ إمام قط أخفَّ صلاةً ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمعُ بكاءَ الصَّبِيِّ فيخفِّفُ مخافة أن تُفتَنَ أمه
ظاهر الحديث تخفيف صلاة النبي الله مع إتمامها ورَعْيُه في تخفيفها أيضاً حقَّ الغير والكلام عليه من وجوه
كذلك
الوجه الأول تبيين هذا التخفيف والإتمام وهل هذه الحالة دائمة منه عليه السلام أو ليس
فالجواب عن الأول أن تخفيف الصلاة يكون بتقصير القراءة وقد يكون بتقصير القيام وقد يكون بتقصير أركانها كلها إلا أنه يُشتَرَط ألا يُخِلَّ بواحدٍ منها فإنه إذا أخَلَّ بواحد منها
فليست بصلاة
وما يُفهم التخفيف حتى نذكر شيئاً من عاداتهم المنقولة عنهم في طول صلاتهم لأن الله تعالى قد أمر بإطالة الصلاة في كتابه حيث يقول ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَنِتِينَ ﴾ ٢ والقُنوت في الصّلاة لغة هو طول القيام فيها وما كان النّبي ولا الصحابة يتركون ما هو أقلُّ من هذا فكيف بهذا الأمرِ الجَلي و ما تورّمت قدماه لا لا لا لا لا لا لا لو لا القيام في الصلاة وقد نُقل عن الصحابة وعن
1 أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي أبو حمزة صاحَبَ رسول الله عليه السلام وخَدَمَهُ عشر سنين فما عتب عليه في فعل ولا ترك روي له عن النبي عليه السلام ۸٦ حديثاً اتفق الشيخان منها على ۱٦٨ حديثاً وكان أكثر الصحابة نسلاً بدعوة الرسول عليه السلام بطلب أمه أم سليم بعد أن صلى في بيتها فقال اللهم ارزقه مالاً وولدا وبارك له وقد دفن من أبنائه لصلبه حتى مقدم الحجاج للبصرة بضعة وعشرون ومئة وجاوز عمره المئة توفي بالبصرة سنة ٩٣ هـ / ۷۱م طبقات ابن سعد ۱۰۷
سورة البقرة من الآية ۳۸
٣٣٥

السلف رضي الله عنهم أنهم يكونون في الركعة فيخرج الرجل إلى البقيع ويرجع إلى المسجد وهم في الركعة الواحدة لم يتموها وأن الرجل منهم كان يدعو في سجوده بعدما يسبّحُ الله سبحانه ويصلي على النبي ويستغفر لنفسه ولأبويه ولسبعين من أصحابه وقرابته ويُسميهم
بأسمائهم وأسماء ابائهم وقبائلهم
وحديث معاذ بن جبل أنه صلى المغرِبَ بقومه بسورة البقرة فقال له رسول الله أَفَتَّان أنت يا معاذ ۱ وإنما قال له ذلك لأنّ صلاة المغرب السنَّةُ فيها التخفيف من أجل أن ذلك وقت إفطار الصائم ووقتُ الضرورات أيضاً وكان بالمؤمنين رحيماً
وما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصلي الصبح بسورة البقرة في الركعتين معاً فأبو بكر رضي الله عنه وعن جميعهم فهم عن النبي ل فجعل التطويل في محله والكل سادة ل
على خير
وما روي عن عثمان رضي الله عنه حيث قال بعض الصحابة ما حفظت سورة يوسف إلا من عثمان لكثرة ما كان يردّدها في صلاة الصبح
وقد جاء في الموطا عن أمّ الفضل بنت الحارث أنها سمعت عبد الله بن عباس ۳ يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا ٤ فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتِكَ هذه السورة إنها لآخرُ ما سمعتُ رسول الله يقرأ بها في المغرب
۱ جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أما معاذ فهو معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي عليه السلام وأحد الذين شهدوا المشاهد كلها مع الرسول الكريم وبعثه عليه السلام بعد غزوة تبوك قاضياً ومرشداً لأهل اليمن روي له ١٥٧ حديثاً ومن كلام عمر لولا معاذ لهلك عمر ينوّه بعلمه
انظر طبقات ابن سعد ۳/ ۱۰ والحديث ۱۳۷ من هذا الكتاب
أم الفضل بنت الحارث هي لبابة بنت الحارث الهلالية وتعرف بلبابة الكبرى تمييزاً لها عن أخت لأبيها اسمها لبابة وتعرف بالصغرى وأم الفضل هي زوجة العباس بن عبد المطلب من نبيلات النساء ومنجباتهن ولدت من العباس سبعة أحدهم عبد الله بن عباس أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة وكان الرسول الكريم يزورها ويقيل في بيتها روت ۳۰ حديثاً منها ٣ في الصحيحين توفيت نحو سنة ٣٠ هـ / ٦٥٠ الأعلام ١٠٢/٦ ۳ عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة الصحابي الجليل ولد بمكة ونشأ في بدء عصر النبوة فلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه الأحاديث الصحيحة وشهد مع عليّ الجمل وصفّين وكفّ بصره في آخر عمره فسكن الطائف وبها توفي له في الصحيحين ١٦٦٠ حديثاً الأعلام ۸/٤

٤ سورة المرسلات الآية ١ 5 جزء من حديث أوله أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلَتِ عُرفا فقالت له يا بني لقد ذكرتني بقراءتك أنها لآخر اية إلخ أخرجه الإمام مالك وأحمد والبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
٣٣٦

وكانت قراءته عليه السلام بطيئة حسنةً كما نعتها الواصف لها قال كانت قراءته عليه السلام لو شئتُ أن أعدَّ حروفَها لَعَددتُها فبتقرير هذه الآثار علمنا أنه عليه السلام ما كان نهيه لمعاذ على الإطلاق وإنما كان لكونه طوَّلَ ذلك التطويل في المغرب وقد ثبت بالسنّة خلَفاً عن سلف أن العمل جرى على أن المستحب في صلاة المغرب أن تكون أخفَّ الصلوات ولولا ذلك ما كان أبو بكر رضي الله عنه يصلي في الصبح بالبقرة كما ذكرنا

فلما كان المتعاهَدَ منهم في الصّلاة التَّطويلُ فإذا كانت هناك علة كما ذكر من بكاء الصبي أو ما يشبه ذلك خفَّف عليه السلام حتى خرج بذلك التخفيف عن العادة الجارية لهم كما قال بعض الصحابة ما رأيتُ رسول الله صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاةَ الصّبح يوم النحر بالمُزْدَلِفة ۱ وليس يعني بـ ميقاتها أنه صلاها قبل الوقت الذي وُقت لها ذلك محال وإنما يعني لغير وقتها الذي كان عليه السّلام يصليها فيه فإنّه كان بعد طلوع الفجر كما جاء عنه أنه يركع ركعتي الفجر ثم يضطجع ما شاء الله ثم يخرج ويصلّي في هذا اليوم عند أول انصداع الفجر وهو أول الوقت كان يصليها فقد أخرجها عن ذلك الوقت المعلوم لها وهو التأخير اليسير كما شرحناه وهذا مثل ذلك سواء لأنه من أجل تلك القرينة خفَّفَ
الوجه الثاني يترتب عليه من الفقه جواز تحويل النيّة في أضعاف الصّلاة إلى خلاف ما دخل عليه من زيادة أو نقص لكن بشرط ألا ينقص من الحد المجزىء شيئاً ومن أجل ذلك تحرّز الصحابي رضي الله عنه بأن قال ولا أَتَمَّ وفي هذا التحرُّزِ من الصحابي دليل على فضلهم وصدقهم في نقلهم
ويترتب أيضاً عليه من الفقه أنه لما كانت الصّلاة - وهي رأسُ الدِّين - يجوز فيها تحويل النية من الأعلى إلى الأدنى مع إحراز الكمال فكذلك تكون القاعدة في جميع أمور الدين أن يكون الشأن العمل على حالة الكمال ولا يرجع لقذر الإجزاء إلا عند الأعذار وإذا رجع إلى قدر الإجزاء يحافظ ألا ينقص من الواجبات شيئاً
وعلى هذا البيان المتقدّم من أحوالهم فقد اختلفت الأحوال وظهر النقص وقد رأيتُ بعض من يُنسَب في الوقت إلى العلم - وهو ممن يُقتدى به - لا يكمل الواجب من بعض أركان صلاته فإنا لله وإنا إليه راجعون على تضييع العلم وحقيقته وتضييع العمل وتمامه ولهذا المعنى
1 أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع اختلاف يسير في اللفظ والمقصود بقوله بعض
الصحابة عبد الله بن مسعود
۳۳۷

قال رزین

الأسماء على غير
رحمه الله ما أوقع الناسَ في الأمور المحذورات إلا وضعُهم المسميات المعروفة أولاً لأنا الآن إذا أخذنا بالتخفيف في صلواتنا خرجنا عن حدّ الإجزاء لأن المطوّل منا في صلاته لا يصِلُ بجهده إلا إلى الإجزاء بالنيّة فإن نقص منه شيئاً خرج عن بابه
الذي طلب
ويترتب على تخفيفها من أجل بكاء الصبيّ رَعْيُ حقوق الغير كما تراعي حقوق نفسك فتخفيفها من أجل الصبي كمال فيها فإنّه حصل له في صلاته القدر المجزىء وبذلُ الكمال لجَبْرِ صلاة أم الصبي ليرفع الفتنة عنها بتعجيل الصلاة وجَبرِ الصبي نفسه فجاء الجَبرُ هنا متعدّياً وهو الأكمل
وأما على قضرها من غير بكاء الصبي فتبيين منه ل للقدر المجزىء في العمل كما بيّنه بالقول وتبيين مقادير الأحكام أرفع الأعمال ويترتب على هذا من الفقه أنه كان في كلّ الأحوال على أتمها وأعلاها
وأما الجواب على حدّ إتمامها فنعرفه بحده حين قال للمصلي ارجع فصل فإنّك تُصَلّ فعل ذلك معه ثلاثاً ثم قال له عليه السلام لما أن سأله التعليم إذا قمتَ للصَّلاةِ فكبّر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركغ حتى تطمئِنَّ راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وبقوله عليه السلام كلّ ركعة لم تقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۳ لأن التمام في الصلاة في ثلاثة أشياء في الإجزاء وفي القراءة وفي إكمال الأركان وفي إكمال عددِ الرَّكعات ويكون ذلك بعد تحقيق دخول وقتها
الوجه الثالث فيه دليل على تحرّي الصّحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا يقتدون في الكمال بأتم الحالات وفي الإجزاء لا يأتون به إلا ومع ذلك زيادة خيفَة أن ينقصهم من الإجزاء شيء ما ولا يتحقق الإجزاء في الأقل إلا بالقطع بالزّيادة اليسيرة فيه ما لم تكن تلك الزيادة محظورة في الشرع مثل مَنْعنا الرابعة في الوضوء ٤ أو تكون تلك الزيادة لم يفعل هو منها شيئاً لئلا نخرج بها إلى البدعة وقد جاء فيها من الدم ما جاء لقوله من أحدث في أمرنا ما
۱ انظر ترجمته في الحديث ۳ انظر تخريجه في الحديث ۳۰
۳ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنا ٤ المراد المرة الرابعة بعد الغسل ثلاثاً
۳۳۸

ليس منه فهو رَةٌ ۱ وقوله عليه السلام كلُّ بدعة ضلالة وما أشبهه ومثل ذلك اجتماع الناس للدعاء بعد الصلوات فهذا وما أشبهة من البدع لأنه لم يأتِ أن النبي ا ولا مَنْ بَعدَه من الصحابة والتابعين فعلوا ذلك ويترتب على تقصيرها من غير عذر أنّه جائز وأن الأفضل ما كان يداوم هو عليه ومَن بعده من السَّلَفِ الصّالح
الوجه الرابع فيه دليل على فضل العلم لأنه به يُعرف حدّ الإجزاء فيما كلف وحدّ الكمال لأنه يأتي بالأشياء على ما أُمِرَ بها لأن الجاهل قد يجعل الكمال واجباً فيكون زاد في فرائض الله تعالى أو يكون يجعل زيادة الكمال بدعة فيكون أيضاً يجعل في دين الله ما ليس فيه أو يكون يجعل حدَّ حد الإجزاء هو الكمال ثم يأخذ في أنقص منه ويجعله من باب التخفيف وهو العضال وقد كَثر في وقتنا ومثلُ هذا ينبغي في جميع أمور الدين أن يعرف الشخص القَدْرَ الذي يجب عليه وما هو قَدْرُ الزّيادة المستحبَّة ولذلك قال طلب العلم فريضة على كل مسلم ۳ قال العلماء كلّ ما كان عليك فعله فرْضاً فالعلم عليك به فرض لأنه لا يمكن أن يُوَفِّيَ
ما عليه مَنْ جهله
الدّاء
الوجه الخامس فيه دليل على جواز صلاة النساء مع الرّجال لكن ذلك اليوم ممنوع ومنع ذلك من زمان الخلفاء ومما يروى في ذلك الوقت قول عائشة رضي الله عنها لو أدرك رسول الله ما أحدث النّساء لَمَنَعَهُنَّ المساجدَ كما مُنِعَه نساء بني إسرائيل ٤ وقول زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنها لما امتنعت من الخروج إلى المسجد فسألها عمر عن عمر عن ذلك فقالت فَسَدَ الناس ٥ وأقرّها عمر على ذلك فجاء فعلها رضي الله عنها على مقتضى هذا الحديث الذي نحن بسبيله لأنها تركت الأكمل في صلاتها وهو الخروج إلى المسجد للعلة الواردة وهي ما ذكرته من فساد الناس فدلّ على أنهم رجالاً ونساءً أعرف بأحكام الله تعالى منا وهم الذين استعملوا الأحاديث والآي على ما هي عليه بغير زيادة ولا نقص
1 أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها جزء من حديث مطلعه أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ۳ روي من عدة طرق وعن عدد من الصحابة الكرام منها ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب عن أنس وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود والطبراني في الأوسط عن ابن عباس وفي رواية أخرى عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنهم جميعاً ٤ انظر تخريجه في الحديث ۳۷
5 كانت زوجة عمر رضي الله عنه خرجت إلى المسجد عند صلاة الفجر لحديث لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وكمن لها عمر في طريق عودتها من المسجد فتصدى لها متخفياً وقرصها في صدرها وفي اليوم الثاني قال لها ألا تخرجين لصلاة الجماعة في المسجد فقالت له فسد الناس
۳۳۹

الوجه السادس فيه دليل على جواز دخول الصبي الصغير المسجد ويعارضنا قوله جَنّبوا مساجدَكم صبيانَكم ومجانينكم ويسوغ الجمع بينهما بأن نمنع دخولهم في غير الصلاة ونجيز دخولهم في أوقاتِ الصَّلاة من أجل الضرورة مع التحفظ
الوجه السابع فيه دليل لمذهب مالك في الأخذ بسَد الذريعة يؤخذ ذلك من قوله مخافة أن تُفتَنَ أُمه وقد لا تقع منها فتنة فلما كان الأمر محتملاً أخذ عليه السلام بالأحوط وهو سَدّ
الذريعة
الوجه الثامن فيه دليل على أن الفكرة في الصلاة في الأمر إذا وقع - وهو فيها - أنه جائز يؤخذ ذلك من قوله لَيَسْمَعُ بكاء الصبي فيخفّف لأن سمعه له ونظره له فكرةٌ في أمر ليس من الصَّلاة إلا أنه يلزم منه أن يكون يسيراً لا يخلّ بالصلاة يؤخذ ذلك من قوله ولا أتم فلو كان مما يشغله عن الصلاة ما أتمها
الوجه التاسع فيه دليل على جواز النظر في حكم من الأحكام إذا احتيج إليه وإن كان في العبادة والعمل إن أمكن مع إبقاء العبادة دون نقص من واجبها يؤخذ ذلك من تقصيره عليه السلام الصلاة من أجل بكاء الصبي وقد دخل على العمل وهو التطويل فيها فإن تقصيره لها عمل من الأعمال ونَظرُ حكم من الأحكام فاجتمع فيه ستة أشياء الالتفات للواقع والفكرة في الحكم والعمل الممكن فيها والرابع حق الغير والخامس سَدّ الذريعة والسادس حَملُ القوي على ما يقتضيه حالُ الضعيف إذا كانا في الأمر متلازمين ومثله قوله سيروا بسَيْرِ أضعفكم
وأما الجواب على قولنا هل كانت تلك الحالة دائمة أم لا فالجواب أنها لم تكن دائمة وإن كان قد أشرنا إلى ذلك عند تبيين أحوالهم ولم يكن ذلك موضعَه وإنما وصفُ الحال أحوج إليه
وهنا أذكر الدليل على عدم دوام ذلك فيكون في موضعه والأول يقوّيه وهو أيضاً يصدّقه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ۳ فكل ما هو في الأمور حق فهو يصدّق

جزء من حديث أخرجه الطبراني في الكبير والبيهقي عن مكحول عن وائلة وأبي الدرداء وأبي أمامة رضي الله
عنهم
رواه الشافعي في مسنده والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وقال على شرط مسلم وابن خزيمة وصححه والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله عنه بألفاظ مختلفة

۳ سورة النساء من الآية ۸
٣٤٠

بعضه بعضاً فإن الشَّبَه بينهما من أجل أن الحقَّ فيه واحد والحق لا يتغيَّر فالدليل على ما جاء أنّ ما من سورة في القرآن إلا وقد صَلَّى الله بها في الصلاة وفي القرآن ـ كما هو
معلوم - الطوالُ من السُّوَر والقصار وما بين ذلك فدل ذلك على ما قلناه ويترتب على هذا من الفقه العلم بسَعَة السنّة لأنه لو لم يفعل هو ذلك كان الناس يتحرون الذي كان هو يفعله
الوجه العاشر فيه دليل على رحمته عليه السلام بأمته و لأنه لا هل هو فعل ذلك فالجَلْد الكيسُ قد أخذ بجزء وافر من السنّة والعاجز المسكين لم يُحرم من حظ ما من السنّة وما بينهما سَعَة وتوسط في الخير الذي هو السنة
الوجه الحادي عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب وهو عندهم من أعلى الأحوال يؤخذ ذلك من رعيه عليه السلام فتنة أم الصبي والصبي أيضاً نفسه إلا أنه بقيد لا يعرفه إلا السادة الأفذاذ وهو ألا ينقصه من حاله الخاص فيما بينه وبين مولاه شيء

يؤخذ ذلك من قوله ولا أتمَّ لأن حالة عبادته المجزىء منها لم ينقص منها شيء ولهذا المعنى قال بعض السادة منهم من الغرائب صوفي سني ٢ وهو إذا وقع قطب الوقت وتاج الوجود وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
مَنّ الله بفضله علينا بما به مَنْ عليهم بمنّه آمين
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 يقول ابن أبي جمرة في موضع آخر هو أعلى الأحوال وفي الحديث اطلبوني عند المنكسرة قلوبهم من
أجلي صوفي سني أي ملتزم بالسنّة باطناً وظاهراً
٣٤١

-{{-
حديث أصل صلاة التراويح
عَن زيد بن ثابت ۱ أنَّهُ قالَ من حَصيرٍ في رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا ليالي فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ من أَصحابِهِ فَلَمَّا عَلِمَ بِهِم جَعَل يَقعُدُ فَخَرجَ إليهم فقالَ قَد عرَفتُ الذي رَأيتُ من صَنيعكُم فَصلُّوا أيُّها النَّاسُ في بُيُوتِكُم فإنَّ أفضلَ الصَّلاةِ صَلاةُ المَرءِ فِي بَيْتِهِ إلا المكتوبة
ي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله اتَّخَذَ حُجرَةٌ قَالَ حَسِبْتُ
ظاهر الحديث جواز صلاة النافلة في المسجد والأفضل فيها صلاتها في البيوت والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول جواز اتخاذ الحجرة في المسجد إلا أنها لا تكون بناء ولا شيئاً يثبت يؤخذ ذلك من قوله اتخذ حجرةً من حصير لأن اتخاذها تغيير للمسجد والمسجد جنس ولا يجوز تغييره وإذا كان مثل الحصير أو الثوب بقي المسجد على حاله لم يتغيّر وذلك الثوب تستمر له به الخلوة ويَحْسُنُ به حاله لأنه يكون أجمعَ له في عبادته
ويترتب على ذلك من الفقه أن يتسبب المرء فيما يكون له أجمعَ لخاطره في عبادته ما لم يكن التسبب بدعة ممنوعة لأنه جاء أن الله جل جلاله يقول يوم القيامة لصاحب البدعة هَبْ أني أغفر لك فيما بيني وبينك فالذين أضللت كيف أفعل بهم

زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من أكابر الصحابة وأعلمهم بالفرائض وكان كاتب الوحي ردّه الرسول عليه السلام يوم بدر لصغر سنه وكان عمره حين الهجرة أحد عشر عاماً وكان يكتب المراسلات للنبي عليه السلام ولأبي بكر وعمر وهو أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي عليه السلام ثم في عهد أبي بكر الصديق ثم نسخه لعثمان نسخاً أرسلها إلى الأمصار روى عن النبي ۹ حديثاً وروى عنه الصحابة والتابعون رثاه ابن عباس يوم موته فقال دُفن اليوم علم كثير توفي في المدينة المنورة سنة ٤٥ هـ / ٦٦٥م الأعلام ٩٥/٣
٣٤٢

وليد الوجه الثاني فيه دليل على أن قيام رمضان في المساجد سنة وليس ببدعة لأنه لما فعله فهو سنة ويعارضنا قول عمر رضي الله عنه نِعمت البدعة هذه ۱ فما يصح أن تسمى هذه بدعة وقد فُعِلَتْ وإنّما البدعة لغةً ما فعله الشخص ولم يفعله غيره قبله ولا يمكن أن نقول ء بدعة وليس فيه ما يتضمنه هذا الاسم
وزوال الإشكال أن نقول إنما سمّاها عمر بدعة لأنه لما جمعهم على القارىء الواحد وَحَدَّ لهم أن يصلي بهم إحدى عشرة ركعة فسمى ذلك التحديد بالإحدى عشرة بدعة وسماها نعمت البدعة لأنه ما جعله حدّها لهم إلا أنه اقتدى في ذلك التحديد بما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ل لم يزد في تنفّله في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة فمن أجل اتباعه للنبي في ذلك قال لها نعمت البدعة
وهنا أيضاً تعارض آخر وهو كونه الله صلى النافلة في المسجد ثم قال آخر الحديث فإن أفضلَ الصَّلاة صَلاةُ المرء في بيته إلا المكتوبة و هو ل لا يفعل من الأمور إلا الأفضل فالجواب أن نقول إن التنفل - ما عدا التهجد في رمضان - الأفضل فيه أن يكون في البيوت وإن تهجد رمضان الأفضلُ فيه أن يكون في المسجد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام في حديث غير هذا خفت أن تُفرَضَ عليكم فلا تُطيقون فلما توفي هو الله ارتفع الفَرْض ففعل عمر رضي الله عنه الأفضل لمّا أَمِنَ العِلَّة
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أنه إذا كان منعُ الشيء من أجل علة فارتفعت العلة جاز فعله لأن الموجب للحذر قد زال
الوجه الثالث فيه دليل على جواز أن يأتم شخص بغيره والإمام لا يعلم به يؤخذ ذلك من أن النبي ما جعل الحجرة إلا أنه يُصلي وحدَه ثم انتَمَّ به من ائتم فلمّا عَلِم بذلك لم ينكره وعدم الإنكار منه عليه السلام بعد العلم دليلٌ على الجواز
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الحائل بين الإمام والمأموم يؤخذ ذلك من كونهم ائتموا
به عليه السلام وبينهم الحصير
الوجه الخامس فيه دليل على أفضلية رمضان يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام اختصه بهذه العبادة دون غيره من الأشهر

۱ أخرجه الإمام مالك وعبد الرزاق والبخاري وابن خزيمة والبيهقي والفريابي في السنن من كلام عمر رضي الله عنه جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأوله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد إلخ وقوله فلا تطيقون أي فأنتم لا تطيقون ذلك
٣٤٣

الوجه السادس فيه دليل على أن تعظيم الأيام الشريفة والبقع لا يكون تعظيمها إلا بأنواع العبادات يؤخذ ذلك من أنه عليه السلام ما أظهر تعظيم هذا الشهر إلا بزيادة في التعبد الوجه السابع ويؤخذ منه فضل سيدنا لأنه لما رأى اعتناء مولانا جل جلاله يُدارِسه
بتعظيمه لهذه اللّيالي بأن جعل جبريل عليه السّلام ينزل عليه كل ليلة من رمضان فيها القرآن ولم يفعل ذلك في غيره من الأشهر زادَ هو عليه السلام من تلقاء نفسه زيادةً للحرمة وهو أن زاد فيه صلاة لم يفعلها في غيره وأظهَرَها لأمته بالفعل لأن يقتدوا به فهذا

تعظيم الشعائر وقد قال تعالى وَمَن يُعَظِّمْ شَعَبَرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ۱ وبقدْر تَقْوى القلوب تكونُ الفضيلة ولا أحَدَ أَشدُّ تقوى من سيدنا
وقوله ليالي تعطي الكثرة وتكثيره عليه السلام الليالي وبعد ذلك قال لهم ما قال دال على تعظيمه عليه السلام للأمر والاهتمام به يؤخذ ذلك مما استقرِي من الأحاديث أنه لا لا لا إذا كان الأمر عنده له بال يكرّر القولَ به ثلاثاً فلمّا كان هنا التعليم بالفعل كرّره بالفعل أيضاً كما كان يكرّر بالقول كقوله عليه السّلام يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذ فقال لَبَّيْكَ يا رسول الله وسَعْدَيْكَ فقال يا معاذُ بنَ جَبَل هل تدري ما حقُّ الله على عباده وما حقُّ العبادِ على الله فإنه عليه السلام لم يخبره حتى ناداه ثلاثاً وهو في كل مرة يجيبه وكقوله عليه السلام في حَجَّة الوداع أي بلد هذا أي يوم هذا أيُّ شهرٍ هذا ۳ فأعاد عليه السلام السؤال ثلاثاً وهذا كثير في السنة
الوجه الثامن فيه دليل على أن قرينة الحال إذا كانت محتملة فلا بد من البيان بالقول ولا يجوز الاقتصار عليها يؤخذ ذلك من أنه لما أن قعد و بعد أن صلّى الليالي احتمل جلوسه أن يكون عن ضعف أو نهي أو غير ذلك فاحتاج أن يبين بالكلام ما أوجَبَ الجلوس
الوجه التاسع يؤخذ منه أن القرينة إذا كانت لا تحتمل إلا وجهاً واحداً قامت مقامَ الإفصاح وجاز الاقتصارُ عليها فيما يقتضيه مدلولها على الإفصاح بذلك يؤخذ ذلك من أنه عليه السّلام لما صلّى وصلوا معه لم يَحْتَج أن يقول لهم في ذلك شيئاً لأن نفس الصلاة دلّت على تعظيم
الشعائر نضًا لا احتمال فيه
۱ سورة الحج من الآية ٣٢
سعد والحكيم
أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن معاذ رضي الله عنه ۳ حديث مطوّل من خطب النبي الا الله في يوم النحر أوله أيها الناس أخرجه الإمام أحمد وابن الترمذي عن العداء بن خالد رضي الله عنه والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه والبزار عن وابصة رضي الله عنه
٣٤٤

إذا جاءت علةٌ تدلُّ على ترفيعه
الوجه العاشر فيه دليل على أن المفضول قد يرجع فـ يؤخذ ذلك من جلوسه صلى الله عليه وسلم عن وقت هذه العبادة والعبادة في هذا الوقت أفضل فلما كان جلوسه عليه السلام من أجل التعليم وتقعيد الأحكام أرفع العبادات فمن أجل زيادة هذه العلة رجع المفضولُ فاضلاً
الوجه الحادي عشر فيه دليل على أنه إذا اجتمعت للعبد عبادتان لا يمكن في الزمان الجمعُ أخذ الأعلى يؤخذ ذلك من كونه و اثر القعود على الخروج إلى الصلاة لأنه أفضل إذ هو لتقعيد الحكم وبيانه
بينهما
الوجه الثاني عشر فيه دليل على صدق الصحابة رضي الله عنهم في نقلهم يؤخذ ذلك من قوله حسبت لما وقع له شك قال حسبت
الوجه الثالث عشر فيه دليل على أنه لم يُصَلِّ هذه الصَّلاةَ معه إلا البعض من الصحابة يؤخذ ذلك من قوله ناس من أصحابه
وهنا بحث في قوله لما علم بهم كيف يجتمع هذا مع قوله عليه السلام قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم والانفصال عنه أن نقول إن معنى علم بهم هنا أحد وجهين إما أن يكون أخبره بصلاتهم معه أحدٌ منهم أو من غيرهم فتكون علم بمعنى الإخبار أو يكون لما رأى من التزام القيام معه فظاهرُ حالهم يقتضي فظاهرُ حالهم يقتضي أنهم عزموا على دوام العمل معه عليه السلام فيكون عَلِم بمعنى تَحَقَّق من قرينة حالهم الدوام

ومما يزيد هذا المعنى إيضاحاً ما جاء أنّه أوّلَ ليلة صلّى معه قلائل ثم حدثوا في اليوم من صبيحة الليلة فكثر الناس فكانوا في كل ليلة يتزايدون ويكثرون فهذا أقوى دليل على العلم بأنهم قد عزموا على الدوام معه وهو عليه السلام من أول ليلة قد عرفهم وما تزايد فيهم كل ليلة ويترتب على هذا من الفقه أنه من داوم على شيءٍ نُسب إليه وحكم له أنه من أهله
وقوله جعل يقعد فخرج إليهم معنى ذلك أنه عليه السلام قعد عن الخروج حتى ذهب الوقت الذي كانت عادته عليه السلام يخرج إلى تلك الحجرة ويصلي فيها فخرج عقب ذلك الوقت إليهم لأنه أتى بالفاء التي تعطي التعقيب دون مهلة وخرج إليهم لا للحجرة التي كان يصلي فيها يؤخذ ذلك من قوله إليهم لأن تقرير الحكم لا يكون إلا بالمشافهة
الوجه الرابع عشر فيه إشارة صوفية وهي أن صاحب الحال المتمسك بالأحكام هو في تجل ومخاطَبات وهذه كانت حال سيّدنا و عند تلاوة القرآن إذا مَرَّ بآيةِ رحمةٍ سأل الله وإذا مَرَّ بآية عذاب استجار وإذا مرَّ بآية تدلّ على صفة من صفاته جلّ جلاله من خلق وقدرة وعظمة
٣٤٥
واع
1-

سبح فكان عليه السّلام كلّ آية تمرّ به يتصف بالوصف الذي يحبّ لمن يخاطب في الحال بتلك الآية ويجاوب بما يقتضيه الأدب ومثل ذلك قال عليه السلام للصحابة رضي الله عنهم حين قرأ عليهم الرحمن وهم سكوت فقال لهم ألا تقولون ما قالت الجنّ حين سمعوها قالوا وما قالت قال كلّما قلت فَبِأَي الَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِبَانِ يقولون وَلا بواحدة منها يا ربَّنا
فانظر حسن تعليمه وإرشاده لحسن الأدب مع الربوبية مع غنائه عن الكلّ وجلاله
الوجه الخامس عشر فيه دليل على جواز أخذ ما لا بد منه من الدنيا وهو أيضاً عَوْن على التزود للآخرة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فصلوا أيها الناس في بيوتكم فلولا جواز اتِّخاذ البيوت ما قال لهم صلوا في بيوتكم فإضافتها إليهم تقتضي جواز اتخاذها وأنها عَوْن على الآخرة لأنه يخلو فيها بعبادته ومناجاة معبوده بلا مشوّش يشوّش عليه وكذلك ما يكون من غيرها من ضرورات البشرية إذا كان على لسان العلم والقَصْدُ به العون على الطاعة حالاً لا دعوى فإنه في الحقيقة كله اخِرُه محمود وقوله فإن أفضل الصّلاة تكون الألف واللام هنا للجنس الوجه السادس عشر فيه دليل على جواز الصّلاة المكتوبة في البيوت يؤخذ ذلك من قوله
أفضل لأن باب أفضل لا يكون مع المنع
وفيه من الفقه أن النافلة تجوز في البيت وفي المسجد وهي في البيت أفضل إلا ما كان من تهجد رمضان كما قلنا أولاً هذا إذا لم تكن هناك علة فإن كانت هناك علة رجع المفضول فاضلاً مثال ذلك أن يكون للشخص في منزله من يشوّش عليه ولا يمكن له معه صلاة فالمسجد إذ ذاك أفضل له وتجوز الفريضة في البيت وفي المسجد وهي في المسجد أفضل هذا إذا لم تكن هناك علة أيضاً فإن كانت هناك علة مثل أن يكون مغصوباً أو إمامه فاسقاً أو ما أشبه ذلك فهي إذ ذاك في البيت أفضل وكذلك فعل السلف حين فَسَق بعض الأئمة كانوا يصلون في بيوتهم ويصلون معهم نافلة
الوجه السابع عشر فيه دليل لمن يقول إن الفرض والمكتوب وتلك الخمسة الألقاب ۳
۱ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما رواه البزار وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بألفاظ تختلف وما أورده المؤلف رضي الله عنه ۳ وتلك الخمسة الألقاب لعله يريد من تلك الألقاب الخمسة ومن معاني الفرض التوقيت فَمَن فرض فيهن الحج والتقدير - ومنه علم الفرائض - المقادير السهام والتفصيل سُورَةُ أَنزَلْنَهَا وَفَرَضْنَهَا والوجوب خمس صلوات مكتوبة والتخصيص مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٌ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَمْ أو لعله يريد إن الفرض والمكتوب - وما في كلمة الفرض من مدلولات وألقاب هي في الفرض إلخ
٣٤٦

حال
هم
وا
ملی
ـاذ
ما
في الفرض على حد واحد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إلا المكتوبة وهي المفروضة فعبّر إلا
عليه السلام بصيغة الكتب عن الفرض
الوجه الثامن عشر وفيه دليل على طلب المندوبات يؤخذ ذلك من قوله صلوا فإن هذا أمر وأقل أحواله الندب
الوجه التاسع عشر فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون إن إخفاء الحالة هو الأكمل في الأحوال يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام صلاة المرء في بيته أفضلُ إلا المكتوبة ۱ لأن زيادة التنقل بعد أداء الفريضة زيادة في الإيمان كما قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون فيها النقص وبها الزيادة في الإيمان حال من أكبر الأحوال وقد نص عليه السلام على أن إخفاءه أفضل فصح ما تأولناه وقد قال بعضهم اجعل قلبك خزانة سرك ومَوْلاك موضعَ شكواكَ
رضي الله عَنَّا بِهم ومَنَّ علينا بما به مَنْ عليهم لا ربَّ سواه ولا مَرْجُو إلا إياه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
الحدا
1 أخرجه النسائي والطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ أفضل الصلاة صلاة المرء إلخ ابن أبي زيد هو عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد النفزاوي القيرواني فقيه مالكي ويلقب بقطب المذهب وبمالك الأصغر له تصانيف كثيرة منها كتاب النوادر الذي أجزاؤه تزيد على المئة توفي بالقيروان سنة ٣٨٦
هـ / ٩٩٦ م الأعلام ٢٣٠/٤
٣٤٧

حديث جواز المشي في الصلاة
عَن أَبِي بَكْرَة ١ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّهُ انتهى إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَاكِعٌ فَركَعَ قَبلَ أَن صلى الله عليه وسلم يَصِلَ إِلَى الصَّفٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ فَقَالَ زَادَكَ الله حِرصاً وَلاَ تَعُدْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز المشي اليسير في الصلاة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول هل يكون المشي اليسير فيها كلّها أعني في حالاتها كلها أو لا يكون ذلك إلا في هذا الموضع وهو الركوع ليس إلا
فإن قلنا إن سبب الجواز معقول المعنى وهو قلة العمل فيها فيجوز في كل حالاتها كلها ما لم تقترن به علة مانعة ولذلك قال العلماء إنّه يجوز المشي اليسير في كل حالات الصلاة من قيام وركوع وجلوس ولا يجوز ساجداً لأنه فيه أمران أحدهما التشويه والمثلة وذلك في الشرع ممنوع والثاني توقع الضرر بل هو من قبيل المقطوع به لأنه يتأذى بذلك والأذِيَّة أيضاً
ممنوعة
وإن قلنا لا نفهم علته فلا يجوز إلا في هذه الحالة وهذا مذهب أهل الظاهر الذين يستعملون الأحكام حيث وردت ليس إلا

وقوله انتهى إلى النبي أي قرب منه لأن العرب تسمي الشيء بما قَرُب منه
الطائف
يع بن الحارث الثقفي أبو بكرة صحابي من أهل الطائف كني بذلك لأنه تدلى من حصن ببكرة وكان أسلم وعجز عن الخروج من الحصن إلا بهذه الوسيلة روى عن النبي ۳ حديثاً اعتزل يوم الجمل فلم يقاتل مع أي من الفريقين كان صالحاً عابداً قال الحسن البصري لم يكن أعلم منه ومن عمران بن الحصين توفي بالبصرة سنة ٥٢هـ ٦٧٢ الأعلام ۱۷۹
المثلة التشنيع
٣٤٨

ويترتب على هذا من الفقه ألا يبعد الإمام عن الجماعة وقد نص العلماء على ذلك في
الإمام لَمّا ذكروا شروط الإمامة في الصلاة ذكروا ألا يبعد من الجماعة وعلّلوا ذلك بعلل منها ربما تكون في ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإذا كان بالقرب منهم رأوها فيخبرونه وربما سها فسبحوا له فلم يسمعهم فيجذبونه بثوبه وربما أحدث هو فيمد يده ويستخلف من يُتِمّ بالقوم فإذا كان بالبُعدِ احتاج أن يستخلف بالقول وفيه بين العلماء خلاف ويؤخذ منه أنه إن ذكر شيئاً من العبادات في الصلاة وتمادى في ذلك أنه إن لم يخل بشيء منها جاز والحجة في هذا وبما استدللنا عليه من هذا الحديث ذكر النبي ذلك وتمادي ذكره إلى بعد فراغه من الصلاة ا ل ويترتب على ذلك من الفقه أن المرء إذا كان في أمر لا بدَّ له فيه من عمل ولا يمكنه التأخير فيه ولا علم له بما يصنع أنه يجتهد ويعمل بما يغلب على ظنّه فإذا كان بعد يسأل العلماء فإن وافق عمله لسان العلم فحسن مجزىء وإلا جَبَرَ الخَلَلَ الذي وقع منه على لسان العلم
ولا يدخل هنا الخلاف الذي ذكروا فيمن عمل عملاً بغير علم ووافق عمله لسان العلم هل يكون مأجوراً أم لا على ثلاثة أقوال لأن ذلك الذي يعمل العمل بالجهل هو متمكن من السؤال ولم يسأل وهذا لم يكن متمكناً من السؤال ولا يمكن له التَّرْك وهو لا يعلم كما فعل أبو بكرةَ في هذا الحديث
الوجه الثاني قوله زادك الله حرصاً ولا تَعُد دعاؤه عليه السلام له بالحرص حض على العبادة معناه زادك الله حرصاً في اجتهادك في طلب الأعلى في العبادات لأنه لو صلى حيث أحرم أجْزَ أَنه صَلاتُه ولمّا كان الصف الأول أرفعَ والقرب من النبي ل أرفع ما في الصف الأول فأراد هو أن يأخذ الأفضل من الصفوف ومن الأماكن من الصف الأول
ويترتب عليه من الفقه أن قوة الباعث هي الحاملة على العبادات وهذا دليل لأهل الصوفة
الذين يقولون إنما حملت الرجال الهِمَمُ لا الأبدان
وقوله ولا تعد أي لا تَعُد للتأخير حتى تحتاج إلى أن تَدِبَّ في صلاتك
الوجه الثالث فيه دليل على أن المستحبّ في الأكمل أن يُعمل عليه قبل الشروع في العمل
وهذا المثل الساري قَبْلَ الرَّمْيِ تُراسُ السِّهام ۱
۱ جاء في الأمثال قبل الرَّماء تُملأ الكنائن ويضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها كما جاء كذلك قولهم قبل الرمي تراش السهام وهو في المعنى ذاته وتراش تركب عليها الريش من قولهم راش السهم رَيْشاً
وارتاشه انظر المستقصى في الأمثال للزمخشري ۱۸٦/٢ و ۱۸۷
٣٤٩

الوجه الرابع وفيه دليل لأهل الصوفة الذين قدَّموا قبل الأعمال الزّهدَ في الدنيا لأنه الباعث على تمكن أسباب الكمال في العبادات وإلى الفوز بحَوْزِ أَسْنِمَتِها ولذلك حكي عن عيسى عليه السلام لما كان في سياحته لَقِيَ قبل الصُّبح رجلاً نائماً فوكَزَهُ برجله وقال له قم فقد سبقك العابدون فقال له دغني يا روح الله أنام فقد عبَدتُه بعبادة ليس على وجه الأرض مثلها أو بأحب العبادة إليه فقال له عليه السلام وما هي قال الزّهد في الدنيا فقال عيسى عليه السلام نَم نومة العروس في خدرها فقد فُقت العابدين الوجه الخامس يؤخذ منه الدعاء للشخص وإن لم يطلبه إذا رأى فيه لذلك أهلية لأنه يُعان به على ما هو بسبيله يؤخذ ذلك من دعاء سيدنا ل لأبي بكرةَ ولم يسأله ذلك لما رأى في
من دلائل الخير
وهنا بحث لِمَ دعا له بزيادة الحرص وقال له ولا تَعُد ولم يقل لا جعلك الله تعود لمثلها فالجواب أن دعاءه عليه السلام بزيادة الحرص عون على الخير ولو دعا له بألا يعود ودعاء سيدنا مستجاب ـ فقد يكون دعاؤه يمنعه من أنواع من الخير لأنه قد يتأخر عن صلاة الجماعة في وقت ما لما يكون له أفضل مثل تمريض مريض لا يكون له مَن يمرّضه أو حضور ميت لا يكون له من يقوم به أو خروج لغزو أو ما أشبه ذلك من أنواع الخير فلما احتمل دعاؤه عليه السلام أن يكون فيه عون على الخير أو مَنْع منه لم يَدعُ له ونَدَبه إلى الأفضل وحيث كان الدعاء خيراً كله دعا له وإن لم يسأله

ويترتب على هذا من الفقه ألا يدعو أحد بدعاء إلا حتى ١ يعلم ما يترتب عليه ويتيقن أنه خير كله سواء كان لنفسه أو لغيره
الوجه السادس فيه دليل على حُسنِ ما طَبَع الله عزّ وجلّ عليه نبيه من حُسنِ السجايا يؤخذ ذلك من كونه عليه السّلام أتى على البديهة بهذا الجواب الذي يتضمن هذه الفوائد التي لا تفهم إلا بعد النظر والتثبت والتّوفيق
وفيه زيادة بيان وإيضاح لقول مولانا جلّ جلاله اطلبوني عند المنكَسِرَةِ قلوبهم من أجلي لأنه سبحانه لا يَحُلّ في شيء وإنما معناه رحمتي أعلى من دعائه فلما انكسر قلب الصحابي رضي الله
الله
فدعا له بالخير
1 كذا بزيادة إلا قبل حتى
حالة على المنكسرة قلوبهم وأي رحمة
بما فعل دون علم سخر له
٣٥٠

الباعث
عليه
سبقك
بأحب
م نَمْ
ه يُعان
ى فيه
تعود
يعود صلاة
الوجه السابع فيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون بجبر القلوب يؤخذ ذلك من دعاء
الله عنهم دعاؤه لهم
سيدنا و لهذا الصحابي لأن أفضلَ السّرور عندهم رضي فجَبَرَه وبإدخال السرور عليه لما رأى من انكسار قلبه عند إخباره بما صنَع وهو لا يعلم ما
حكم الله فيه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
العة
ضور
اؤه
كان
سن ـده
مة
٣٥١
ولت كالة

-2-
حديث وجوب توفية أركان الصلاة
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ المَسجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيُّ فَرَدَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقالَ ارجعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَم تُصَلِّ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لم تُصَلَّ ثَلاثاً فَقالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيّاً ما أُحِسنُ غَيْرَهُ فَعَلَّمْنِي فَقَالَ إِذا قُمتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبَر ثُمَّ اقرأ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ ثُمَّ اركَع حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثُمَّ ارفع حَتَّى تَعتَدِلَ قَائِماً ثُمَّ اسجُد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ ارفَع حَتى تَطْمَئِنَّ جَالِساً ثُمَّ اسجد حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثُمَّ افعَل ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلّها
*
ظاهر الحديث يوجب توفية أركان الصلاة من قيام وركوع وغيره من شأنها ومن لم يفعل لم تُجْزِهِ صلاته والكلام عليه من وجوه
1 أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر أحفظ من روى الحديث بدعاء النبي له وكان اسمه في الجاهلية عبد شمس وسماه الرسول عليه السلام عبد الرحمن وكنّاه أبا هريرة إذ كانت له هرة يحملها في ثيابه روي له ٥٣٠٠ حديث في مسند بقي بن مخلد وكان أبو هريرة شكا سوء حفظه إلى الرسول عليه السلام فأمره ببسط ردائه ودعا فقال اللهم أسألك علماً لا ينسى فقال امين وكان مع الرسول عليه السلام في حضره وسفره وحجه وغزواته توفي سنة ٥٩ هـ الإصابة لابن حجر هذا من حجة الأحناف في عدم فرضية الفاتحة وعلى هذا الآية الكريمة فَاقْرَءُوا مَا تَيْسَرَ مِنْةُ وَعَاثوا أما فأخذ بحديث الخداج ولو مقتدياً بجهرية والحنابلة خيروا المقتدي في الصلاة السرية ومنعوها في الجهرية أيضاً لآية وَإِذَا قُرِئَ الْقُرَهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا والإجماع على أن هذه الآية نزلت في القراءة بالصلاة فالاستماع في الجهرية والإنصات في السرّية وهو أقوى أدلة الأحناف
الشافعي
٣٥٢

الوجه الأول وجوب القراءة في الصلاة بغير تعيين يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام اقرأ ما تَيَسَّر معك من القرآن
وهنا بحث وهو أنه يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غيره كلُّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج ۱ وحديث آخر كلُّ ركعة والنَّسْخ لا يعلم فيهما ويسوّغ الجمع بينهما بأن نقدّر هنا محذوفاً والموضعُ يحتمله فيكون التقدير ما تيسر معك من القرآن بعدَ أم القرآن وهو مذهب جمهور الفقهاء لأنه احتمل هذا الحديث أن يكون قبل نزول أم القرآن فيكون على ظاهره بلا تأويل
واحتمل أن يكون ذلك بعد نزول أمّ القرآن وتقرير الحكم بإثباتها في الصلاة فرجع الحكم بها معلوماً كما أن الصلاة معلومة والمحتمل لا يعارض به النص ويكون إذ ذاك الجمع كما قدمناه
أولاً والاحتمال الأول بعيد لأن أمَّ القرآن مكيَّة وهذا الحديث مدني والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على الأمر بتكبيرة الإحرام يؤخذ ذلك من قوله إذا قمت إلى الصَّلاة فكبر ويؤخذ منه أن التكبير كان عندهم معروفاً في الصّلاة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فكبر ولم يعلمه صفة التكبير ولو لم يكن معلوماً ما جاز السكوت عنه عند الحاجة إليه
وهنا بحث وهو أن يقال ما هو حدّ الاستواء اختلف العلماء في ذلك الحد فمنهم من
قال قدر ثلاث تسبيحات ومنهم من قال غير ذلك ومنهم من لم يجعل له حدا إلا ما حده ل هنا وهو قول مالك رحمه الله تعالى ومن تبعه وهو الأظهر لأن الذي أعطي البلاغة والنّور والحكمة أخبرنا بالأمر الذي يأخذ كل النّاس منه القَدْرَ الذي فيه إجزاء فَرضهم لأن الناس فيهم الخفيف البدن الخفيفُ الحركة فهذا بأقل من ثلاث تسبيحات ۳ تعتدل منه جميع ومنهم الثّقيلُ البَدَن الثّقيلُ الحركة فهذا بمقدار الثلاث تسبيحات لا يتم له فَرضُه ومنهم ما بين ذلك وهم أيضاً في النطق بالتسبيح مختلفون
مفاصله
الوجه الثالث فيه أيضاً من الحكمة معنى لطيف لأنه لما نهى عن والتفقير ۳ في الدّعاء لأنه إذا كان الداعي مشغول الخاطر بتفقير دعائه ذهب منه المقصود من الدعاء وهو حضور القلب فلم يحصل على فائدة ما أراده من الإجابة لعدم شرط الحضور
1 أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه من الفقهاء من قال بفرض التسبيحات في الركوع والسجود وهذا الحديث حجة عليه إذ لو كانت فرضاً لعلمه

إياها
۳ التفقير التكسير والمراد هنا التقطيع وجعله فقرات متوازنة
C
3
٣٥٣

فنهى ل عن هذا رحمة بأمته ويشبه هذا من طريق الحكمة لأن الصلاة المطلوب منها أمران الظاهر وتوفيته وقد بيّنا العلة فى ذلك آنفاً والباطن وهو الحضور والخشوع مختلف فيه بين العلماء هل هو فرض في الصلاة أو شرط كمال وشَغلُ الخاطر بهذه التسبيحات ينافي الخشوع والحضور فمن أجل هذه العلة لم يحد فى ذلك حدا إلا حقيقة الاعتدال فمن فهم هذا المعنى أبقى الحد فيه على ما حده له وهو فضل الله يؤتيه من يشاء
وهنا بحث وهو ما الحكمة بأن جعل مفتاح الصلاة الله أكبر ثم فَصَل بهذه الصيغة
المباركة بين أركان الصلاة
فالجواب إن قلنا إن هذا تعبُّد غير معقول المعنى فلا بحث وإن قلنا وهو الحق إن الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة فما الحكمة هنا فنقول والله أعلم لما كانت الصلاة توجهاً إلى المولى الجليل ومناجاة له كما أخبر الصادق لا في قوله فإنما يناجي ربه ولقوله عليه السلام إذا دخل العبد في الصلاة أقبل الله عليه بوجهه الكريم وقد قال عزّ وجلّ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ۳ وقد جرت الحكمة أنه لا يُدخل على الملوك إلا بالإذن وعند الإذن منهم يدخل عليهم الداخل بحضور قلبه ويلتزم الأدب ويعرف على من هو داخل فجعل التكبير هنا دالاً على الإذن للوقوف بين يدي المولى الجليل ليُحضر قلبه ويعرف بين يدي من هو وجاء الإذن بهذا الاسم العلم الذي لم يشاركه فيه أحد من خلقه حتى يكون سبباً لحضور حقيقة التوجه إذا ذاك
الوجه الرابع فيه تنبيه على رفض ما كان يأخذ فيه قبل الصلاة كما جاء في نداء الصبح للصلاة الصلاة خيرٌ من النوم لأن النوم مما تستطيبه النفوس فأشعرنا بأن ما دُعِيَت إليه من الصلاة خيرٌ وأطيب مما هي فيه فكذلك قوله الله أكبر فإنه يقول لك بضمن الحكمة ما كنتَ فيه أو ما أنتَ فيه من خير أو ضده أو عبادة من العبادات أو نوع من أنواع المباحات الله أكبَرُ أي ما دعاك الله إليه أكبَرُ مما أنت فيه فاضرِب عنه وأقبل على مولاك تجده خيراً لك في الحال والمآل
ولذلك قال عز وجل في حقها ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلَّا عَلَى الْخَشِمِينَ ﴾ ٤ فإن مَن ليس من الخاشعين إذا جاءت الصلاة كانت قاطعة له عما كان بسبيله وهذا على النفوس من أكبر الأشياء
1 أخرجه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم جزء من حديث أخرجه البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ اخر
۳ سورة البقرة من الآية ١١٥
٤ سورة البقرة من الآية ٤٥
٣٥٤

أخف الأشياء عليهم وأحبها إليهم لما
وأما الخاشعون فإنهم ينتظرونها انتظار فرح بها وهي / يجدون فيها من النعيم والقرب والخلو بالمحبوب ولذلك قال وجُعِلت قرة عيني في الصلاة 1 وقد نقل عن بعض الرجال أنه قال تعبت بالصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة وما ذاك إلا لما لم يحصل له مقامُ الخاشعين تعِب فلما ذاق طعم الخشوع جاءه ذلك النعيم
والخير التام
وأما الحكمة في الفصل به بين أركان الصلاة فإنه إما تحقيق لرجاء أو تحقيق لخوف أو تحقيق لوعد أو وعيد أو لنفي إعجاب أو وسوسة مثال الرجاء أن يكون قد ابتهل في الركن الذي كان فيه من الصلاة بدعاء فيما يرجو به خيراً فجاء بعده الله أكبر بشرى لبلوغ ما أمله من فضله عزّ وجلّ في إجابة دعائه أو خوف إن كان في دعائه خائفاً من شيء فجاء بعده الله أكبر أي هو أولى بالخوف فإذا خفته فلا تخف غيره أو كان قد قرأ آية وعدٍ أو وعيد فجاء بعده الله أكبر تحقيق لمقتضى ما قرأ أو نفي إعجاب إن وقع للنفس أنها قد وفَّت ما عليها وأن لها بذلك حقًا على الربوبية واجباً فجاء بعده الله أكبر أي حقٌّ الله أكبر كما جاء وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۳ معناه ذكره لك في الأزل أنْ جَعَلَك من الذاكرين له ﴿ أكبر من ذِكرِك أنتَ الآن له
الوجه الخامس فيه دليل على أن الأدب - إذا دُخِل المسجد - أن تقدم الصلاة وبعدها يكون السلام على الغير يؤخذ ذلك من قوله دخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي ا ولم يقل له النبي في ذلك شيئاً فإقراره عليه السلام له على ذلك حُكم به وذلك في الأحاديث إذا
استقريت كثير
الوجه السادس فيه دليل على حرمة العبادة وأنه لا يُكلّم من هو فيها ولا يُعَلِّم وإن أفسدها يؤخذ ذلك من أن النبي لما رأى الرجل يصلي وهو لا يحسن صلاته لم يقل له الله شيئاً حتى فرغ وأتى إليه فقال له عليه السلام ارجع فصل والصلاة التي صلّى إن كانت فريضة يترتب على ذلك من الفقه أنه إذا نقص من توفية أركان الصلاة شيء لم تجز وإن كانت نافلة يترتب عليها من الفقه أنه من دخل في نافلة وأنقص منها شيئاً أو أفسدها باختياره أنه يأتي يبدلها والحجة في ذلك لمالك رحمه الله تعالى الذي يقول إن النافلة تجبّر كما يجبر الفرض ومن
۱ جزء من حديث أوله حُب إلي من دنياكم ثلاث أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في الكبرى
عن أنس رضي الله عنه به الضمير يعود على التكبير وهو قول المصلي الله أكبر
۳ سورة العنكبوت من الآية ٤٥

٣٥٥

دخل فيها وجب عليه إتمامها لأنه قال فَصَلَّ وليس فى الحديث ما يدل على أنها فرض
فالأظهر أنها تحيّة المسجد
الوجه السابع فيه دليل على أن تكرار العمل بغير تمام لا يُعد شيئاً يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصلِّ ثلاثاً
الوجه الثامن فيه دليل لمن يقول إن العالم لا يتعين عليه أن يعلم حتى يُسأل يؤخذ ذلك
من أن سيدنا لم يعلمه حتى قال له فَعَلّمْني
الوجه التاسع يؤخذ منه ألا يُحكم بشيء محتمل حتى يُبحث عن حقيقته يؤخذ ذلك من أن النبي ا ا ا ا ا ل ل ل لم ينتقد عليه ولم يعبه وما قال له إلا ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ لأن قلة توفيته للصلاة احتمل أن يكون ذهوله لشغل بال أو لجهل كما ذكر عن نفسه فلما وقع الاحتمال لم يزده عليه السلام على الإخبار بعدم الإجزاء شيئاً
الوجه العاشر فيه دليل على جواز النظر للمتعبد إلا أن يكون مواجهاً له فلا ينظر إليه لأنه إذا نظر إليه وهو مواجه له شوّش عليه - ذكَرَه بعض العلماء - أو لِيُدِرْ وجهه عنه يؤخذ ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له ارجع فصل فإنك لم تصل إلا أنه نظر إليه طول مقامه يصلي ولولا ذلك
ما علم حاله
ويترتب على ذلك من الفقه أن لكل راعٍ أن يتفقدَ مَنْ تحت رعايته في أمر دينهم هل يوفون أم لا فإنه مسؤول عنهم ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى عماله إن أهم أموركم عندي
الصلاة
الوجه الحادي عشر يؤخذ منه جواز السّلام بعد الصّلاة وإن كنتَ قد سلّمتَ قبلها يؤخذ ذلك من أنه كلما جاء من تلك الصلاة التي ردّه النبي ا إليها أعاد السلام عليه و الله ولم ينكر عليه وعدم إنكاره عليه السلام دال على الجواز وهنا إشارة من طريقة أهل التحقيق في المعاملات لأن الدخول في الصلاة خروج من هذا العالم إلى العالم العلوي بسره فلما سلّم من الصلاة فهو رجوع إلى هذا العالم فهو الآن قادم من عالم إلى عالم آخر فلَزِم أو جاز أو ندب إلى السّلام وما هو أقل من هذا الاعتبار
روي عن الصحابة رضي ال عنهم أنهم كانوا إذا كان الواحد منهم يمشي مع أخيه وحال بينهما شجرة أو شيء ثم تراجعا من ذلك الأمر اليسير سلّم أحدهما على صاحبه ۱ لأن الفُرقة -
۱ مروي بالمعنى وأصله إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو حائط أو حجر ثم لقيه "
٣٥٦

عليه
ذلك
أن
فيته
ـن
وإن كانت يسيرة - فقد انقطع استصحاب الحال وجاء أمر اخر فينبغي أن يبدأ بالسلام لما فيه من الأجر والخير والبركة فهؤلاء رضي الله عنهم كانوا يعرفون مقدار ما نُدِبوا إليه وأن خواطرهم عاملة بذلك ولو فعله اليوم أحد لكان ينكر عليه فإنا لله وإنا إليه راجعون على الغفلة التي قد توالت فما يفيق سكران الغفلة إلا وشمس القيامة قد بزغت فأنى لنا بجبر ما ضاع من العمل الوجه الثاني عشر فيه دليل على فضل الصحابة وعدم التصنع عندهم رضي يؤخذ ذلك من قوله والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني لأنه تواضع ولم يكفه الإخبار
إلا حتى
الله عنهم
1 أكده باليمين وقد قال العلماء لا يُحرم طالب العلم إلا من وجهين إما من الكبر أو من الحياء فإن الدين ليس فيه كبر ولا حياء في قول حقٌّ أو تعليمه ولذلك قال نِعْمَ النِّساءُ نِساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياءُ مِن أنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّين
الوجه الثالث عشر فيه دليل لأهل الصوفة لأن فضيحة النفس بما فيها موت لها وموتها حياتها موت النفوس حياتها من أحبَّ أن يحيا يموت
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
فليسلم عليه أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه
1 كذا بإقحام إلا انظر تخريجه في الحديث ۱
٣٥٧

-44-
احلة رياء حية
حديث رد المأموم على الإمام بالحمد في الرفع
کا
عَن أَبي هُرِيرَةَ رَضي الله عنه أَنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمامُ سمع الله لِمَن حَمِدَه فقُولوا اللَّهُمَّ ربَّنا لك الحمدُ ۱ فإنَّهُ مَن وافق قوله قول الملائِكَة غُفِرَ لهُ ما تقدم مِن
ذَنْبِهِ
ظاهر الحديث أن من وافق تحميده عند قول الإمام سمع الله لمن حمده قول الملائكة غفر له والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول ما معنى قوله عليه السلام وافق قوله قول الملائكة هل في الزمان أو في الإخلاص أو في مجموعهما محتمل والأظهر موافقتها في الزمان والإخلاص لأنه لم يبق محتمل آخر وبقي الوجهان على طريق الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وهنا بحث في قوله عليه السلام قول الملائكة هل يعني به ملائكة معروفين فتكون الألف واللام للعهد أو يعني به جنس الملائكة فتكون للجنس احتمل لكن جاء حديث آخر قول الملائكة في السماء فدلّ على أنها للعهد وأنهم ملائكة في السماء
ومما يقوي هذا ما جاء عنه في قوله يا مَنْ أَظْهَر الجميل وستر القبيح إن الله عزّ وجلّ خلق تحت العرش تماثيل على صفة كل شخص من بني آدم فإذا تحرّك الآدمي بأي نوع تحرك ذلك التمثالُ بمثل ما تحرّك به الآدمي لكن - بفضل الله - إن كان تحرَّك الآدمي بطاعة تحرّك ذلك التمثال بمثلها فأبصرته الملائكة فاستغفَرَتْ له ودعت له وإن كان بمخالفة أو مكروه ستّر
1 للحديث روايات عدة منها ولك الحمد ومنها بدون اللهم وقد أخذ الأحناف بجمع الروايات اللهم ربنا
ولك الحمد وقالوا هو الأفضل
٣٥٨

من
كة
الله عزّ وجلّ حركة ذلك التمثال عن الملائكة فلا يَرُونه حين يتحرّك بالمعصية۱ فسبحان مَنْ هذا حِلمُهُ بعد عِلمِهِ
الوجه الثاني فيه دليل على عظم قدرة الله عزّ وجلّ يؤخذ ذلك من أن هذا العالم على كثرته تكون الملائكة في العالم العلوي يراقبونهم واحداً واحداً
الوجه الثالث فيه دليل لمن يقول إن بني ادم الصالحين أشرف من الملائكة يؤخذ ذلك من كون العالم العلوي مترقبين لهم ويُؤمنون على دعائهم واحداً واحداً

الوجه الرابع فيه دليل على زيادة شرف هذا الركن من بين أركان الصلاة لأنه لم يجيء أن الملائكة تشارك الآدمي في هذه العبادة بالموافقة إلا في هذا الركن وتأمينهم عند آخر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ بقولهم آمين فهذا أيضاً دليل على فضل السورة لأنه لم يجىء أنها تُؤمّن على القراءة في شيء إلا على خاتمة الفاتحة وهذا الموضع - وهو تحميدها - على قول الإمام سمع الله لمن حَمِده دال على تعظيمها من بين الأركان والأقوال
الوجه الخامس فيه دليل على فضل صلاة الجماعة على غيرها يؤخذ ذلك من أنها لا تؤمن وتحمد على قول الفَذَ امين عند قوله سمع الله لِمَن حَمِده وإنما تفعل ذلك للإمام ليس إلا وفي هذا الموضع دليل بقوة الكلام على المحافظة عليها لأنه لما أخبر بما فيها من الأجور كأنه بقوة الكلام يقول لا تغفل عنها وحافظ عليها
وهنا بحث لطيف وهو ما الحكمة بأن خُص هذا الموضع وحده بهذا التشريف فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه لحكمة فما هي فنقول - والله أعلم - لمّا جاء أن الركوع منعت فيه القراءة ومُنع فيه من الدعاء وشرع فيه تعظيم الرب عزّ وجلّ وقد قال تعالى على لسان نبيه من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ فلمّا كان هؤلاء امتثلوا ما أمروا به في حال الركوع بترك كل شيء واشتغلوا بتعظيمه جلّ جلاله تفضّل عزّ وجلّ عليهم بأن جعل لهم في هذا الموطن - الذي هو رفعُ الرأس من هذا التعظيم لجلاله - هذا
۱ مركب من أكثر من حديث أوّله ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من أن جبريل عليه السلام جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة راه ضاحكاً مستبشراً وبشره بأن الله أرسله إلى النبي عليه السلام بهدية وهي كلمات من كنوز عرشه ودعاء أوّله ي من أظهر الجميل وستر القبيح إلخ أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد وابن شاهين في الترغيب في الذكر وأبو نعيم في المعرفة والبيهقي في الله عنه الشعب عن ابن عمر رضي الله عنهما وعبد الرزاق عن جابر رضي
٣٥٩

الخير العظيم وأمر نبيَّه أن يخبرهم به ليعرفوا قدرها من نعمة لأنه ليس في جميع الثواب
هي
أعظم من المغفرة كما قررناه في الأحاديث قبل وفيه معنى آخر لطيف وهو لمّا جاء قول إمامهم سمع الله لمن حمده أي إنه قد سمع حمدكم إياه وجازاكم عليه بمقتضى وعده الجميل - وهو قوله عزّ وجلّ مَن شَغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين - جاء جوابهم اللهم ربَّنا لك الحمد وهذا شكر على تلك النعمة لأن الحمد يقوم مقام الشكر وهو أعلى وجوه الشكر وقد قال جل جلاله لين شكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۱ فلما شكروا زيدت لهم المغفرة فجاءت زيادة الكريم توفية لوعده الجميل وَمَنْ أَوْفَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ وكانت الزيادة خيراً من العمل لأن الزيادة بمقتضى الفضل وإن كان الكل من الخير بفضله سبحانه لكن الزيادة ليست بمقابلة شيء من الأعمال فهي فضل صرف فجاءت بأعظم الأشياء ولذلك قال جلّ جلاله ﴿وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۳ وهذا أجلّ البشارات وأجل السرور لأن ما هو مقتضى فضل ذي الجلال والإكرام لا يبقى معه هم ولا نَصَب ولا حظ من خير إلا وقد أجزل لمن منّ عليه بهذه النعمة جعلنا الله من أهلها بفضله ولذلك قال عزّ وجلّ وَسَتَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ٤ لأنه إذا كان السؤال من المسكين إلى الجليل وهو ليس بملتفت لعمله كان أنجح في الاستجابة ولا ينتبه إليها إلا من خص بها جعلنا الله منهم بفضله
الوجه السادس وهنا إشارة صوفية لأنهم لما رأوا هذه الإشارة وغيرها تقتضي تفضيل ترك الحظوظ على غيرها عملوا على الخروج من حظوظ النفوس جملة من غير تفصيل واشتغلوا بذكر الصَّمد الجليل فأورثهم عزّ وجلّ العزّ الرفيع بأن شرفهم فقال عزّ وجلّ في محكم التنزيل لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ ٥ وقال عز وجل وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْمَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ٦
فَهمنا الله ما فَهَّمهم وَجَعلنا في الأحوال معهم لا ربَّ سواه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة إبراهيم من الآية سورة التوبة من الآية ۱۱۱ ۳ سورة النساء من الآية ۱۷۳ ٤ سورة النساء من الآية ۳

٥ سورة النور من الآية ٣٧ ٦ سورة الكهف من الآية ۸

ـن
ت
144-
حديث رؤية المولى عز وجل

عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ قالَ هل تُمارون ۱ في القمر ليلةَ البدرِ ليس دونَهُ سحابٌ قالوا لاَ يا رسولَ الله قال فهل تُمارونَ في الشَّمس ليس دونَها سحابٌ قالوا لا يا رسول الله قال فإنَّكُم تَرَوْنَهُ كذلك يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ فيقولُ مَن كان يعبد شيئاً فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبعُ القمر ومنهم من يتبعُ الطواغيت وتبقى هذه الأُمَّةُ فيها
منافقوها
فيأتيهم الله عز وجل فيقولُ أنا ربُّكُم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فيدعوهم فيُضرَبُ الصِّراط بين ظهراني ٢ جهنم فأكون أول من يجوز ۳ من الرسُلِ بأُمتِهِ ولا يتكلّمُ أحدٌ يومئذٍ إلا الرُّسُلُ وكلامُ الرُّسل يومئذ اللهمَّ سَلّمْ سلّمْ
وفي جهنَّمَ كلاليب مثلُ شَوكِ السَعْدانِ ٤ هل رأيتُم شَوكَ السَعْدانِ قالوا نعم قال فإنّها مثلُ شوكِ السَّعْدانِ غير أنّهُ لا يَعلمُ قَدْرَ عِظَمِها إلا الله عزّ وجلَّ فَتَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم فمنهم من يُوبَق ٥ بعمله ومنهم من يُخَرْدَل ٦ ثم ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النارِ أَمَرَ الله الملائكة أن يُخرِجوا مَن كان يَعبدُ الله فيُخرجونهم ويعرفونهم بآثارِ السجود وحرَّمَ الله على النار أن تأكل َأثَرَ السجودِ
۱ هل تُمارُون هل تَشْكُون أو تتردَّدون
بين ظهراني جهنم على وسطها ۳ يجوز يجتاز ويقطع من طرف لآخر
4 شوك السعدان السعدان نبت ذو شوك وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطباً فإذا يبس كلح وقسا فتعافه
٥ يوبَق بعمله يهلك بسبب عمله السيّىء
1 يخردل يُصرع ويرمى
٣٦١

فيُخرجون من النارِ فكلُّ ابنِ آدمَ تأكُله النارُ إلا أثَرَ السُّجودِ فيُخرجون من النارِ قد امتَحَشُوا ١ فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ ٢ ۱ ثمَّ يَفرُخُ الله سبحانه وتعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخرُ أهل النارِ دخولاً الجنّةَ مُقبلاً بوجهه قِبَلَ النّارِ فيقولُ يا ربّ اصرِف وجهي عن النارِ فقد قَشَبَني ۳ ريحُها وأحرقني ذكاؤها 4 فيقولُ هل عسَيْتَ إِن فُعِل ذلك بكَ أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعِزَّتِكَ فيعطي الله عزّ وجلّ ما شاء من عهد وميثاق فيصرِفُ اللهُ وجهَهُ عن النار
فإذا أَقبَلَ به على الجنّةِ رأى بَهْجَتَها سكت ما شاء الله أن يَسْكَتَ ثم قال يا ربِّ قدمني عند باب الجنة فيقولُ الله أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنتَ سألت فيقولُ يا ربِّ لا أكونُ أشقى خلقِكَ فيقولُ فما عسيتَ إن أُعطيتَ ذلك الا تسأل غيره فيقولُ لاَ وعِزَّتِكَ لا أسألُ غير ذلكَ فيعطي ربَّهُ ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنَّةِ
6
فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النَّضْرةِ والسُّرورِ فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أن يسكت فيقولُ يا رب أدخلني الجنّةَ فيقولُ الله عزّ وجلَّ وَيْحَكَ يا ابن آدم ما أغْدَرَكَ! أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسألَ غير الذي أُعطيت فيقول يا ربِّ لا تجعلني أشقى خلقك فيَضحَكُ الله عزّ وجلّ منه ثم يأذَنُ الله له في دخول الجنة فيقولُ تَمَنَّ فيتمنى حتى إذا انقطعت أُمنِيَّتُه قال الله عزّ وجلَّ زِدْ من كذا وكذا أقبلَ يُذَكَّرهُ ربُّهُ حتى إذا انتهت به الأماني قال الله سبحانه لكَ ذلكَ ومثله معه وعن أبي سعيد ٥ إِنِّي سمعته يقولُ لك ذلك وعَشَرَةُ أمثاله
۱ امتحشوا تقشر جلدهم عن لحمهم احترقوا
حميل السيل ما حمله السيل من غثاء وطين والحبة بزور العشب والبقول البرية التي لا تؤكل والحَبَّة
البذور التي تؤكل ۳ قشبني اذاني ٤ ذكاؤها جمرها الملتهب
5 أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك الخدري أنصاري خزرجي من ملازمي الرسول عليه السلام روى عنه ۱۱۷۰ حديثاً توفي في المدينة سنة ٧٤هـ / ۱۹۳م الأعلام / ۱۳۸۳

٣٦٢

ظاهر الحديث تحقيق رؤية ربنا جل جلاله يوم القيامة والكلام عليه من وجوه الوجه الأول قوله عليه السلام هل تُمارُون معناه هل تَشُكّون وعلى الرواية الأخرى هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب فهذه من الأشياء التي لا يشك أحد أن القمر موجود مزئي ولو سكت عليه السلام واقتصر على هذا المثال لكان في البيان والتحقيق كافياً ثم أكده عليه السلام بأن قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب وفي ابتدائه عليه السلام أولاً بالقمر ثم بالشمس بعده من الحكمة وجوه منها اتباع الأب الجليل وهو إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام كما اتبعه عليه السلام في الملة اقتدى به في الدليل فكان دليل الخليل على إثبات وجود الربوبية واستدلال الحبيب بمقتضى ذلك الدليل نفسه على إثبات الرؤية فكل استدلّ بمقتضى حاله لأن الخلة تصح بالوجود والمحبة لا تقع إلا برؤية المحبوب
الوجه الثاني فيه من الحكمة أن رؤية القمر يُقِرُّ بها كلُّ مَن يبصر ولو كان من ضعف بصره ما عسى أن يكون فعند تمام البدر دون سحاب يبصره ضرورةً وبقي مَن لا بصرَ له يكون عنده وجود رؤية القمر تقليدا والشمس يشهد بوجود رؤيتها من له بصر ومَن لا بصر له فإن الأعمى يلقاه حَرُّها وإذا قابلها وقت الظهيرة وليس دونها سحاب أحس بإدراكها بزيادة يجدها على ما يخبرونه بذلك فأكدها بأشدَّ من الأوَّل ويكون معنى المثال في تحقيق الرؤية لا في الكيفية لأن القمر والشمس متحيّزان ۱ والحق سبحانه وتعالى ليس بمتحيز وليس أيضاً
شيء من مخلوقاته يشبهه هذا بدليل العقل والنقل
فأما من طريق العقل فبالإجماع منهم أن الصنعة لا تشبه الصانع والشمس والقمر خَلقُ من
خلقه عزّ وجلّ فليس بينهما شَبَةٌ بوجه من الوجوه وأما من طريق النقل فما جاء في التنزيل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ٢ وإنما العرب تشبّه الشيء بالشيء لشبه ما يكون فيه كقولهم زيد مثل الأسد والبشر ليس بينه وبين الأسد في الخلقة مماثلة وإنما شبهوه به لكثرة شدّته ومثل ذلك قولهم فلان مِثْلُ القمر ولا شبه في الخِلْقة بينهما وإنما شبهوه به لحُسنه هذا في المحدثات التي بينها نسبة الحدوث فكيف بمن لا نسبة بينه وبين خَلْقه جلّ جلاله
۱ التحيز التلبث والتمكث والتلوّي والتقلب ومثله التحوّز والمتحيّز المتحول من مكان إلى مكان أو
المتنحي ومنه قوله تعالى أَوْ مُتَحَيّذًا إِلَى فِشَر
سورة الشورى من الآية ۱۱

٣٦٣

وهذا مثل ما يقول الناس بعضهم لبعض إذا سأل أحدهم الآخر في أمر هل هو حق أم لا فيحلف له أنه حق كما أنت موجود فى الوجود لأن علم الضرورة لا يشك أحد فيه فردَّ لهم علم الإيمان بالرؤية التي هي من قبيل التصديق بالغيب من قبيل علم الضرورة الذي هو مقطوع به لا يخالف فيه أحد في الوجود وعلم الضرورة هو كعلمك بأن السماء فوقك موجودة وأن الأرض تحتك موجودة وأنك فيها موجود الآن وكذلك ما أدركته من جميع الموجودات تشهد بالقطع الذي لا ارتياب فيه بأنها موجودة حِسّاً
الوجه الثالث فيه من الفقه جواز الاستدلال بالعلم النظري على علم الضرورة وبنائه عليه وفيه من الفقه أيضاً أن يخاطب كل شخص بما يفهمه لأن العرب فهموا عنه عليه السلام المعنى الذي أشرنا إليه ولو كانوا غير عرب لم يبين لهم عليه السلام إلا بما كانوا يفهمون عنه
يؤيد ذلك قوله عليه السلام خاطبوا الناس على قدر عقولهم ۱ أي على قدر ما يفهمون وعلى رواية تُضَامُّون أي لا تتضاغطون لأن القمر إذا ارتقب في أول ليلة تضاغط الناس على من أبصره لكي يُرِيهم إياه ويتعبون في إدامة النظر إليه وبعضهم يتعب وقد لا يراه لضعف بصره وإذا كان ليلة كماله لم يتضاغط أحد مع أحد ولا يتعب أحد في رؤيته بل يكون قد كسا نوره جميع الأرض وانشرحت له الصدور فيكون معنى هذا الوجه مثل الأول في تحقيق الرؤية وزيادة معنى ثانٍ أنكم أيها المؤمنون كلكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر عند كماله دون سحاب والشمس دون سحاب بلا تعب كذلك ترون ربكم حقًّا لا شك في ذلك كما يشهد له
آخر الحديث
الوجه الرابع قوله عليه السلام ترونه كذلك عائد على تحقيق الرؤية التي أخبر بها عليه السلام من أنهم لا يشكون في القمر ولا في الشمس بتلك الصفة فيقول كذلك ترونه حقًا بلا ريب ولا امتراء
وهنا تنبيه وهو أنه لا يلزم من الرؤية التحديد ولا الإحاطة لأن بعض مخلوقاته سبحانه نراها ونعلم بالقطع أنها محدودة ولكن لا نحيط نحن بها مثل السماء والأرض نحن تدرك كل واحدة منهما ونبصرها ولا نحيط بها ونحن نعلم بالضرورة أنها محصورة محدودة فكيف بمن ليس كمثله شيء تنبيه ثاني وهو أنه لا يلزم أيضاً من الرؤية الجهة لأنا نرى من خلقه كثيراً وليسوا هم في جهة مثل الليل والنهار فإنا نبصرهما وليسا في جهة فكيف بمن ليس كمثله شيء
۱ رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً بعبارة أمرنا أن نخاطب الناس إلخ
٣٦٤

تنبيه آخر أيضاً وهو أنه لا يلزم من الرؤية إدراك جميع الصفات فإنا نبصر من بعض مخلوقاته ما نبصره ولا ندرك منه حقيقة صفته كالماء فإنا نبصره ونشربه ولا نعلم له لوناً لأنه كلما جعل في شيء يكون لونه لون ذلك الشيء وحقيقة لونه القائمة به لا يدركها أحد ولم يقدر أحد من المحققين أن يخبر عنها بلون ما فكيف بمن ليس كمثله شيء
فتحصل من ذلك كله تحقيق رؤيته جل جلاله بلا ريب مع نفي الكيفية بلا ريب أيضاً الوجه الخامس قوله عليه السلام يُحشَرُ الناسُ يوم القيامة أي يُجمع كما قال عزّ وجلّ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَ ابنِ حَشْرِينَ ۱ أي مَن يجمع الناس
وفيه من الفقه الإيمان بالبعث بعد الموت وبكل ما ورد من الأخبار في ذلك اليوم العظيم والتصديق بذلك أنه حق كما أخبر عليه السلام ولا يُتَعَرَّضُ أيضاً إلى الكيفية في كل ما جاء من أمر الساعة فإنه أمر لا تسعه العقول وطلب الكيفية فيه ضعف في الإيمان وإنما يجب الجزم بالتصديق كما أخبر عليه السلام لأن قدرة القادر لا يُعجِزُها ممكن بل تفعل ما شاءت
كيف شاءت
الوجه السادس قوله عليه السلام فيقول من كان يعبد شيئاً فليتبعه شيء يعمّ جميع الأشياء مدركة كانت أو غير مدركة فالمدرَك منها مثل الشمس والقمر والنجوم والأوثان على اختلافها وغير المدرك منها مثل الملائكة وهوى النفوس لقوله عزّ وجلّ أَفَرَهَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَمُ
هونه ٢ وما أشبهها

وفي قوله عليه السلام أولاً من كان يعبد شيئاً ثم ذكر الشمس والقمر ثم عمّم بذكر الطواغيت دليل على أن كل ما يُعبد من دون الله - كائناً ما كان - هو من جملة الطواغيت فلو سكت عليه السلام عند قوله شيئاً لكان احتمل ما بيَّنه بالمثال وهو ما سوى الله من مخلوقاته واحتمل أن يريد مَن عَبَدَ الله فإنه يُبَدِّ ۳ في ذلك الوقت على جميعِ مَن عُبد من دون الله فيتبعه كل من كان يعبده فإنّ شيئاً يصدق على المولى جل جلاله وعلى غيره من مخلوقاته ولذلك قال عزّ وجلّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى فهو جلّ جلاله شيء وليس كمثلِهِ شَيْءٌ وذكر عليه السلام الشمس والقمر لأنهما أعظم المخلوقات المدركات التي عُبدت من دون
1 سورة الأعراف من الآية ۱۱۱ سورة الجاثية من الآية ٢٣ ۳ يُبدأ يُقدَّم ويُفضّل
٣٦٥

الله ثم عاد عليه السلام إلى إجمال الأوثان بقوله الطواغيت