Go Back




ان
مح
ست
زنت
كان
ـعب
ء أن
ال
مَن
عليه
في أمور الدين وذلك أن الحاكم لا يحكم لك إلا فيما ترفعه أنت إليه من الحقوق وما لا ترفعه أنت إليه لا يحكم لك فيه مثال ذلك أن يكون لك على شخص ثلاثُ حُجج أو أربع ثم تطلبه بالحجة الواحدة بتلك الحجة الواحدة يحكم لك الحاكم ولا يلزمه أن يحكم لك ببقية الحجج وأنت لم تُبدِها له ولا طلبت ذلك منه
وكذلك ما نحن بسبيله لما كان للمسترعى على الراعي حقوق من واجبات الدين ولم يوفها له ما جاء منها على شهوة نفسه فرح بكونه لم يعطها إياه فلم يذكرها ويكون ذلك من المسترعَى من أحد وجهين إما لأنه لا يعلم بها ولو علم ما طلبها منه أو لأنه يعلمها ويفرح بكونه لم يطالبه بها وقد يكون ذلك سبباً لحبه إياه فإنه مما يعجب نفسه ۱
والآخر الذي هو من قبيل حظ الدنيا مثل الأكل والشرب والكسوة لم تسامح نفس المسترعى أن يتركها للراعي فطلبه بها فاحتاجوا إلى الحكام في ذلك وتوالى الأمر في ذلك بين الناس فرجع وجوبه مشهوراً معلوماً
ولما قلَّ طالب الأجر وكذلك فاعله وكذلك العالم به تنكر حتى رجع المتكلم به كأنه ابتدع بدعة في الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون على ثلمة وقعت في الدين بتغيير أعلامه وذهاب عماله حتى إنه أفرط الأمر إذا رؤي أحد يأمر أهله بما يتعين عليه وعليهم من أمور الدين يُنهَر ويقال له دَعه فإنما هو صبي حتى يكون في سنك وحينئذ يرجع الأمر كأن الدين دينان دِينُ للصغار ودين للكبار
ما
في
أيضاً أنه كان
یه

ولا
معه
موا
مع
رحم الله السلف لقد أخبرني بعض مشايخي - رضي الله عنهم أجمعين ـ عن بعض مشايخه أحد أصحابه قاعداً وقد جاءه ابن له صغير في المكتب فقال له قد حفظت الوحي أفأقعد أو أمشي ألعب فلم يجبه فكرر ذلك عليه مراراً فلم يجبه حتى قال له صاحبه ألا تقول له يلعب أليس ذلك من مشروعية الصغار فإن ذلك مما يصلحهم فقال له تريد أن يكون في صحيفتي اذهب فالعب لا أفعل إن فعل لا أمنعه فانظر كيف كانت التربية عندهم وكيف التحرز على ما يكتب في الصحيفة هذا فيما يتعلق بالمشروعية من الدين
وأما ما هو من قبيل ما أبيح للنفس فإن تركه لهم - ما لم يقع في الدين مفسدة - مندوب والمستحب في حقه وما يكون بينهم بعضهم مع بعض فالمستحب أيضاً أن يندبهم إلى ذلك من

1 خلاصة هذا المقطع إذا أهمل الراعي الواجبات الدينية للمسترعى وفرح الراعي بأنه لم يُطالب بها فهذه شهوة من شهوات نفس الراعي وإذا فرح المسترعى بأنه لم يطالب بواجبات تثقل على نفسه فهذه شهوة من شهوات نفس المسترعى وهذا الفرح نفسي غير ديني ولا مشروع وقد كان الصحابة في حياتهم مع رسول الله الراعي فيهم والمسترعى متضامن ومرجّح واجبات الدين على واجبات الدنيا وهذا هو الفرح الحق المبين
٤٠١

غير عزيمة عليهم ليروضهم على مكارم الأخلاق لأن تلك هي السنة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 1 ۱
والدليل على ما قلناه من أن ترك حظ النفس منه لهم مندوب في حقه قوله المؤمن يأكلُ بشهوة عياله فجعل عليه السلام ترك شهوته في الأكل لشهوتهم من علامة كمال الإيمان لأنه إذا أكل بشهوته لم يخرج بذلك من الإيمان لأنه مما هو مباح له فما لا يخرجه فعله من الإيمان فتَرْكُه من كمال الإيمان وهذا منه الهلال اليوم من باب التنبيه بالأعلى على ما سواه لأنه إذا كان الأكل الذي به أجرى الله عزّ وجلّ بمقتضى حكمته حياة هذا الجسد وهو يتكرر في اليوم والليلة دائماً والأكل بالشهوة على ما يقوله أطباء الأبدان مما يزيد في صلاح الأبدان وقد جاءت السنّة بالتطبب حتى إن الحذاق منهم قالوا إن الطعام الذي يضر في بعض الأبدان إذا أُكِل بشهوة صادقة إنه لا يضر أكله فجعل ترك ذلك لهم من علامة الإيمان الكامل فيكون مُؤثِراً صلاح دينه على صلاح بدَنِهِ بمقتضى علم الطبّ فهذا من الباب الذي أشرنا إليه آنفاً
وأما الشرط الذي ذكرناه أولاً - وهو ما لم يكن فيه ضرر في الدين ـ فمثل النكاح إذا كانت له به حاجة إن لم يفعله يكن في تركه خلل في دينه ولو كانت الزوجة لا تريد في ذلك الوقت ذلك الشأن فلا ينبغي له هنا وما أشبهه ترك ما عنده لما عندها ولذلك جعل الشرع ترك النفقة التي هي من جملة الواجبات - كما قدمناه - أولاً مع وجود النشوز وهو امتناعها من الوطء بغير عذر شرعي وأمر بالضرب لقوله جل جلاله ﴿ وَالَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ۳ والإخبار أيضاً هنا بالنكاح لأن تُوفي حقه الذي شرع له فيه وذلك أيضاً من أكبر أسباب المفاسد في الدين إن لم يفعله فهو من التنبيه بالأعلى على مقابلة الوجه الذي قبله
فانظر إلى هذا النظام العجيب في الشرع إذا تأملته كيف جعل ترك حظ النفس - إذا لم يكن فيه خلل في الدين - كيف هو على ما قدمناه وكيف تؤفيتها حظها إذا كان بتركه خلل في الدين عاد فعله معروفاً من أكد الأشياء وأوجبها لأنه إذا كان منع يوجب إسقاط واجب عاد أخذه واجباً
مع
ذلك يبيح
وزيادة في التأكيد إذا كان نشوز ممنوع شرعاً فجاء أخذها هنا حظها من أكبر العبادات وعلى هذا فقس
أخذه ممنوعاً وهو الضرب لأن ضرب الرجل امرأته دون
1 أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه
لم نقف على مصدره
۳ سورة النساء من الآية ٣٤
٤٠٢

6
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن الدين وصلاحه هو المقصود وغير ذلك في حكم

قال له
التّبع ما لم يقع به خلل في الدين ولا يؤول به ذلك إلى مباح طرفاه في الفعل والترك سِيَّان وبهذا الدليل يَرجَحُ طريق أهل الصوفة طريق غيرهم لأنهم بنوا طريقهم على ترك حظوظ النفس وحمل الأذى وترك الأذى وإدخال السرور حتى إنه يذكر عن بعضهم أنه لقيه شخص فقال له ذلك الشخص كيف حالك فقال متشوّش أو ما في معناه فلما انفصل عنه قال له أصحابه وكيف يا سيدنا تقول ذلك قال لهم إني أعلم أنه يبغضني فأردت أن أدخل عليه سروراً رعياً لأهل الطريق وقد جاء بعض المتفقهين فقال وكيف يدخل عليه سرورا بكذب وهذا لا يَحِل ما وقع فيه أكبر مما قصد وانفصل عنه بعض الناس أليس ۱ هما مسلمان معاً فقيل بلى قال فإذا كان أحدهما يبغض الآخر بغير موجب إذا كان المبغوض مسلماً حقًا ساءه حال أخيه لكون إيمانه ناقصاً لأن المؤمن يؤلمه من أخيه المؤمن ما يؤلمه من نفسه فكما يشوّشه من نفسه نقص إيمانه فكذلك من أخيه فأخبره بصدق مقتضى حاليهما وهذا من أحسن وجوه الانفصالات إلا أنه لا يعرف وجه هذا الانفصال إلا من حصل له حظ من الطريقين الحال والعلم وألا يكون في أحديهما مقلّداً
ومما يؤيد هذا ويقوّيه قوله لأن يؤدب أحدكم ولده خيرٌ له من أن يتصدق بصاع من طعام لأن الولد معلق بالقلب كما قال له الولد مبخَلَةٌ مَجبَنَة ۳ أي هو أقوى الأسباب في هاتين الحالتين الذميمتين لأن حبه يمنع من إنفاق المال ويرى أن ابنه أولى من الصدقة وإذا خرج إلى الجهاد فقلبه به مشغول بالرجوع إليه فيكون سبباً لجبنه وفراره هذا هو الغالب فجاء الحديث على الغالب من أحوال الناس والمال أيضاً معلق بالقلب لكن تعلقه بالولد أكبر وما يؤلم الولد يؤلم القلب فجاء أدبه الذي يؤلم ابنه والذي به يتألم قلبه أرفع له من صدقة صاع من طعام لأنه أشق على النفس
وهنا بحث وهو أن يقال لِمَ حدَّد الطعام بقدر الصاع فإن كان الطعام أكثر من الصاع
فيجب على هذا أن تكون الصدقة أكبر فإن تَرَكَ تأديب ابنه وتصدّق بصاعين كان له أعظم فالجواب أن نقول ليس المقصود الترك للأدب والزيادة في الصدقة وإنما المقصود تبيين الأفضلية في الأعمال لأن الأدب الشرعي للصغير إنما هو بالشيء اليسير مثل السوط مرة وفتل
1 يعني أليس الشأن أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ رواه الإمام أحمد عن راشد بن يعلى بن مرة العامري رضي الله عنه
٤٠٣
به فیلمان

الأذن مَرَّة أو ما أشبه ذلك وأقل ما جاء في الكفارات المشروعة أيضاً المُدّ كما جاء مد لكل مسكين فأقل الأشياء في الأدب - كما بينا - أرفع من أقل ما حُدَّ في الصدقات المشروعة والقدر المحدود في الصدقة المشروعة هو الذي يحصل به كمال راحة النفس وهو غاية شبعها في الغالب لأن شبعها من الطعام كَمَّل لها جميع شهوتها ومنافعها وجميع قواها على توفية مآربها إحياؤها وإحياؤها فيه ما فيه معلوم شرعاً وطبعاً فجعل أقل التألم - وهو الأدب الشرء أشق على النفس - أعلى من أرفع الأشياء وهو ما يعود إلى إحياء النفوس لكونه ليس له ذلك التألم الذي يوازي الآخر المذكور قبل في نفس الفاعل
وبه
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن أفضل العلوم فهم سرّ الحكمة في حكم الحكيم لأنه يقوى به الإيمان وفيه عون على النفس يؤيد ذلك قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۳ فإن اليقين لا يحصل في الغالب إلا بالنظر والفهم والتدبّر ولذلك قال الله صلى الله عليه وسلم تعلموا اليقين فإني أتعلمه ۳
Dil
ويجب عليه أيضاً أن يعاملهم بما يكون لهم عوناً على توفية ما يجب له عليهم ومما يدل على ذلك قول رسول الله الله لحين جاءه بعض الصحابة بهبة وهبها لبعض أولاده أن يشهد فيها قال له ألك أولاد غيره قال نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته قال لا قال أتحب أن يكونوا لك في البِرِّ سواء قال نعم قال فاعدِلْ بينهم فانظر إشارته عليه السلام بقوله أتحب أن يكونوا لكَ في البرِّ سواء ٤ فكأنه عليه السلام يقول له فعلك ينافي مطلبك فحصّ بهذا على أن يعينهم على البر
ومثله ما روي عنه حين سأله نساؤه من تحب فأعطى كل واحدة منهن دينارا سرًّا فقال صاحبة الدينار فأدخل عليهن جميعاً السرور دون تشويش على الغير لأن ذلك عون على حسن العشرة وحسن العشرة هي في حقهن لما يعود عليهن في ذلك من خير وأما في المماليك فكان عليه السلام يطحن مع الخادم ويقول لا تكلفوهنَّ ما لا يُطِقْنَ ٥
ـد الأحناف ملء الكفين أو ما يساوي ربع صاع والصاع
۱ المد مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره وهو ند الأحناف قريب من أربعة كيلوغرامات وعند الشافعية أقل من ذلك
عند
سورة المائدة من الآية ٥٠
3 أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ثور بن يزيد مرسلاً ولفظه تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني
أتعلمه
٤ أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير بلفظ آخر ٥ أخرجه البخاري ومسلم عن المعرور بن سويد بلفظ مختلف
٤٠٤

وقوله عليه السلام إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ۱ والبحث فيه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى لأنه من باب العون على توفية حق السيد وحفظ ماله
ومثله ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يكتب كتاباً وهو خليفة ومعه بعض أصحابه وكان ليلاً فنام العبد وفرغ الدهن من السراج ولم يفرغ الكتاب فقال له جليسه أيقظ الغلامَ يسكب الدهن في المصباح فقال له هو في أول نومه وقام هو رضي الله عنه وجعل الدهن في السراج ثم رجع يكتب فقال قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز ولو جئنا نتبع ما جاء في مثله لكان كثيراً واليسير يغني مع الفهم عن الكثير
الوجه الرابع قوله عليه السلام والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها انظر إلى هذه الفصاحة في الفصل والإعجاز في توفية المعنى لأن المرأة لا تباشر من حال الزوج إلا ما هو في الدار فلم تكلّف ما هو خارج الدار لكونها لا تصل إليه اتصالاً كلياً والذي يجب عليها في ذلك ما جاء مفسراً في حديث غير هذا وهو قوله عليه السلام ولكم عليهن ألا يُدْخِلْنَ أحداً دُورَكم ولا يُوطِثْن فُرُشَكم غيركم إلا بإذنكم وقوله عليه السلام تحفظ المرأة زوجها في
نفسها وماله هذا هو الواجب
وأما المندوب فقوله عليه السلام جهاد المرأة حُسنُ التَّبَغُل ۳ والجهاد على ضربين واجب ومندوب وكذلك حسن التبعل على هذين الوجهين فما كان من حفظ نفسها وماله وما أشبههما من قبيل الواجب وما كان من التَّزَيّن له وبماله إن قدرت وزيادة التحفظ عليه وعلى عرضه وما أشبه ذلك فهو من قبيل المندوب
الوجه الخامس قوله عليه السلام والخادم راع في مال سيده انظر أيضاً إلى هذا الترتيب العجيب لما أن كان العبد لا يقدر أن يتصرف على المعهود ولا يُفسد أو يصلح إلا المال قيل هو مسؤول عنه لأنه مؤتَمَن عليه هذا في الغالب فإن ائتمنه على غير ذلك وجب عليه التوفية لأن الأمر جاء على الغالب من عادة الناس ومثل ذلك نقول في الزوجة إن ملكها التصرف فيما زاد على ما في الدار وجب عليها
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
جزء من خطبة الرسول الله في حجة الوداع ۳ أورده ابن الجوزي في الموضوعات ١٥٣/٢

٤٠٥

حفظه أي توفية الأمانة فيه حتى إنه قال بعض الناس مما يجب على المرأة أن تخبر زوجها كل ما يزيد أو ينقص في دارها وفائدة ذلك أنه المطلوب بحسن النظر لهم فإذا أخبرته بالكليات والجزئيات كان نظره بحسب ذلك فعاد الخير عليهم جميعاً وكان ذلك عوناً له على توفية حقوقهم فيكون من باب العون على الخير وكذلك العبد مكلف ألا يخون سيده في شيء دَق أو جل ولا يخفي عنه أيضاً من كل ما يزيد أو ينقص شيئاً للفائدة التي ذكرناها في المرأة الوجه السادس قوله عليه السلام والرجل راع في مال أبيه هذا لا ينطبق عليه اسم رجل حتى يكون بالغاً لأنه إذا كان بالغاً وقع عليه التكليف وحينئذ يكون مسؤولاً وأما غير البالغ فليس بمسؤول وهو أيضاً إما في حضانة الأم وكفالتها أو لمن جعل الأب ذلك له فيكون غيره
المسؤول عنه فالذي يجب على الابن أيضاً أن يحفظ مال أبيه ولا يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه
وانظر إلى هذا التنبيه العجيب للابن من أجل أن يخطر له أن مال أبيه كونه يعود إليه بعد يقول ليس أنا مثل غيري فنبه عليه السلام أنه في الوقت مثل غيره ولا يجوز له التصرف إلا كما يجوز للغير وإن كان المال قد يعود له بعد ولذلك إذا سرق الابن مال الأب قطع لأنه ليس له الآن فيه شيء إلا القدر الذي جعل له من النفقة إن كان في وقت يجب له والمال ينطلق على جميع الأنواع التي تُتَمَوَّل من جميع الأموال
والذي يُندَبون إليه جميعاً ـ أعني الابن والخادم والزوجة - مثل أن يعينوه في الأشياء التي ليست عليهم ويوفروا عليه وينبهوه على المصالح التي يعرفونها لكونهم في الغالب أكثر مباشرة للأشياء منه فهم أعرف بالجزئيات الطارئة وما يترتب عليها من المصالح وغيرها أو ضابطه أن يكونوا ينظرون فيه كأنه لهم لأن ذلك من حقيقة الأمانة كما قال الله حتى يُحبَّ لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ۱ هذا في الأجانب فهؤلاء من باب أولى
وهنا بحث صوفي وهو أنهم جميعاً في الحقيقة أمناء فيه والمال للمولى الأعلى فانظر لنفسك بترك الدعوى وتوفية الأمانة واتصف بأوصاف العبودية ولا تتصف بأوصاف الربوبية بتحقيق الملك بمجرد الدعوى فمن هنا شَقِيَ مَن شقي وسَعِدَ مَن سَعِدَ
وقد كان بعض السادة يقول لأولاده لو علمتكم شيئاً واحداً أفلحتم وكان مهابا ۳ فكرر
۱ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن
ماجه عن أنس رضي الله عنه كذا والصواب مهيباً
٤٠٦

ذلك عليهم مراراً مع الأيام ولا يزيدهم على ذلك شيئاً إلى أن تجاسر بعضهم فسأله فقال لهم ادخلوا في اسم العبودية وقد حصل لكم الفوز الأكبر قالوا وما حقيقتها قال تَركُ الدعوى والاعتراض وحقيقة الامتثال والتسليم فلقد أحسن فيما إليه نَدَب
جعلنا الله عبيداً له حقا بمنّه لا ربَّ سواه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٤٠٧

61
عَن أَنَسٍ ۱
حديث التبكير والتبريد بالصلاة
يَ الله عَنهُ يَقولُ كانَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَدَّ البَردُ بَكْرَ بالصَّلاةِ وَإِذا
اشتَدَّ الحَرُّ أَبرَدَ ٢ بالصَّلاةِ يَعني الجُمعَة
ظاهر الحديث يدل على التبكير بصلاة الجمعة في البرد وتأخيرها في الحَرّ والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول الكلام على ما معنى التبكير في أي وقت هو وكذلك التأخير فأما التبكير فالمعني به أولُ الزوال لأنه ما جاء عن النبي أنه صلاها قط قبل الزوال وأما التأخير فبشيء يسير كما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا رجعوا من صلاة الجمعة يقيلون قائلةً الضحى فدل ذلك على أنه لا يكون تأخيرها كثيراً لأنه قدر ما تبدأ الرياح تهب
الوجه الثاني هنا بحث وهو ما الحكمة في التبكير بها في البرد وما الحكمة في التأخير بها أيضاً في الحر فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فما الحكمة فنقول والله أعلم لَمّا بعثه الله عزّ وجلّ رحمة للمؤمنين كما أخبر جلّ جلاله بقوله في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيرٌ ۳ فكان كلّ ما كان فيه تأذ أو شيء من التشويش يزيله عن المؤمنين فلما كان شدة البرد مما يؤلمهم لا سيما مثل أهل الصُّفّة لأن الغالب عليهم وعلى البعض من الصحابة رضي الله عنهم قلة الثياب بكر عليه السلام بها من أجل تألمهم من البرد والبرد بكرة شديد كما أن حرّ القائلة شديد فكان يُبرد بها في الحَرّ لكثرة التألم من الحَرّ أيضاً
1 أنس بن مالك النجاري الخزرجي الأنصاري أبو حمزة صاحب رسول الله و خادمه روى عنه ٢٢٨٦ حديثاً مولده بالمدينة وأسلم صغيرا وظل في خدمة الرسول الكريم إلى أن قبض ثم رحل إلى دمشق ومنها
إلى البصرة وفيها مات سنة ٩٣ هـ / ٧١٢م الأعلام ٣٦٥١
أبرد دخل في البرد والمراد تأخير القيام بالشيء حتى يبرد الحر ۳ سورة التوبة من الآية ۱۸
٤٠٨

الوجه الثالث يترتب على هذا من الفقه أن كل ما يكون للمرء فيه تشويش في الصلاة فينبغي أن يزيله لأنه مما يُحسّن صلاته لأن التشويش لا يمكن معه خشوع ولا حضور قلب وهما من أجل ما يطلب من المصلي ولذلك قال لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبَثَينِ ۱ الوجه الرابع فيه دليل على ابتداء الكلام بالألفاظ العامة ثم يخصص ذلك العام في الخبر نفسه وهو من فصيح الكلام يؤخد ذلك من كونه أتى أولاً بلفظ الصلاة عامة ثم خصصها آخراً بأن قال الجمعة وفيه من الفائدة أنه لا يؤخذ من كلام المَرْءِ بعضُه ويُترك بعضُه لأن أول الكلام قد بينه اخره وبالعكس لكن بشرط ألا يتنافى المعنى الأول مع الآخِر الوجه الخامس فيه دليل على أن سيدنا يشرع من الأمور في الدين بحسب ما يفهمه الله تعالى ويجب العمل به يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام قدّم الصلاة وأخرها ولم يخبر أن ذلك كان بوحي وكان عليه السلام إذا كان ما يأمر به أو يفعله بوحي يخبر به أولاً
وفي هذا دليل للذين يقولون في قول مولانا جلّ جلاله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ الله ٢ هو كل ما يخطر له أو يراه مصلحة أن يفعله وإن لم يكن أُوحي إليه فيه شيء لأن كل ما يتعبّد - عليه السلام - به هو من قبيل الوحي إما بالواسطة - وهو إتيان الملك به ـ وإما بِوَحي إلهام ولذلك لم يختلف أهل التوفيق والتحقيق أن اتباع السنة في أي شيء كانت هي أفضل الأعمال وأقربها إلى الله عزّ وجلّ ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ٣


الوجه السادس فيه دليل على أن المطلوب في الصلاة إخلاء القلب لأنه بيت الربّ عزّ وجل يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام يلحظ شدة البرد والحر اللذين هما ولا بد يصلان إلى القلب حتى يشتغل بذلك عما هو بسبيله فكذلك ينبغي في كل ما يشغله من أي شيء كان ومن أجل ذلك خرج أهل التوفيق عن الدنيا لأنه لا شيء أكثر تشويشاً منها ومن أجل ذلك أيضاً تركوا الشهوات وطلب المناصب لأن ذلك أيضاً من أكبر التشويشات ولذلك قال تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ 4 قال أهل التوفيق سُكارى
من حُبِّ الدنيا

1 أخرجه مسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها بلفظ الا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان
والأخبثان هما البول والغائط سورة النساء من الآية ١٠٥ سورة ال عمران من الآية ۳۱

٤ سورة النساء من الآية ٤٣
3
٤٠٩

ا
الوجه السابع فيه دليل على أنه إذا كان التشويش يسيراً لا يُبالى به لأنه قلما ينفك أحد منه إلا الخواص وقليل ما هم يؤخذ ذلك من قوله في الحرّ والبرد فوصفهما بالشدة فإذا لم تكن فيهما شدة فلا بد من تألم ما لأن البشرية خُلقت ضعيفة والضعيف كل شيء يؤثر فيه بالقدرة ولذلك قال العلماء إن الحقن ۱ إذا كان يسيراً لا يمتنع معه الخشوع فالصلاة جائزة الوجه الثامن فيه دليل على الأمر بالنظر لمصلحة العامة لأنه من أجل قلة حمل البعض ذلك الأذى الذي هو الحر والبرد لأنه بالقطع منهم من يتحملهما ويفرح بهما لما يكون له فيهما من الأجر لأن الأجر في العبادة بقدر التعب والتعب يزيد الأجر لأنه من جملة المجاهدات ولهذا كان بعض المتعبدين يصلي وِرْدَه في الحرّ في البيت وفي البرد في سطح البيت للعلة المذكورة وقد قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٢ فحمل عليه السلام الكل على عمل واحد فنقص الأجر للبعض من أجل أن غيرهم قد لا تجزئه صلاته من كثرة التشويش الذي يلحقه أو قد يلحقه منه مرض يمنعه حضور صلوات كثيرة إلا أن هنا معنى ما وهو بشرط ألا يدخل لأحد

الفريقين خلل في الدين لأن أحد الفريقين إنما نقصه زيادة في الأجر بعدما كمل له فرضه الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يؤخذ ما زاد على الواجب من العبادات من المندوبات إلا بشرط ألا يدخل على الغير نقص في فرضه يؤخذ ذلك من كونه - عليه السلام - ما حَرَم البعض زيادة الأجر كما وصفنا إلا من أجل نقص فرض الغير
الوجه العاشر فيه دليل على أن قوله عليه السلام سيروا بِسَيرِ أضعفكم ۳ أنه ليس في السفر وحده بل في كل موضع لأن هذا الحديث من ذلك القبيل لما لم يقدر البعض على حمل الأذى خفف عليه السلام عن الكل وحملهم مَحْمَلَ الضعفاء
الأرفق
ويترتب عليه من الفقه أن الإمام ينظر إلى جماعته فإن رأى فيهم مريضاً أو ضعيفاً أو يعلم صاحب حاجة يخفف فهي السنة وإن علم أنهم أقوياء في الأبدان والإيمان أخذ بهم نحو الأفضل وأطال الصلاة وكذلك ينبغي لكل من له رعاية أعلى أو أدنى أن ينظر إلى ما هو بهم في جميع الأمور يسيراً كان أو كثيراً والكمال فيه مطلوب وما يوجد هذا الحال إلا بفقه الحال وفقه الحال ـ على ما ذكره السادة الفقهاء - أنفع أنواع الفقه لأنه هو نور الفقه وزبدته مثل
1 الحقن والاحتقان هو احتباس البول وتجمعه في المثانة وهو من المزعجات والمؤلمات ويسمى صاحبة
حاقن وفي المثل لا رأي لحاقن
سورة العنكبوت من الآية ٦٩
۳ ذكره العجلوني في كشف الخفا ٥٦٣/١ والقاري في الأسرار المرفوعة ۱
٤١٠

الصَّرْف للذي يقرأ النحو ويسميه أهل الصوفة المراقبة لأنه في كل نَفَسِ مراقب ما حُكمُ الله
عليه
وقد أُخبرت عن بعض الأجلة من الفقهاء حقًّا أنه كان إذا سئل مسألة يسكت ساعة وحينئذ يجيب فسئل عن ذلك فقال انظر أيهما خيرٌ لي وحينئذ أفعل فانظر كيف جمع هذا السيد بين ثلاث الفقه العام وفقه الحال والمراقبة
ولقد أدركتُ بعض المباركين من أهل الصوفة وأنه اجتمع يوماً مع بعض الفقهاء المتبرزين للفتوى وكان فيه أهلية لذلك غير أنه كانت السلطنة تستعمله في المشاورة في الأمور لفضله فتكلم مع ذلك الفقيه وطلب منه الدعاء وكان ذلك من شأنه التنازل للفقهاء وطلب الدعاء منهم فقال له الفقيه - على طريق التواضع أيضاً - بل أنت الذي ينبغي أن تدعو لي لأنك من علماء المسلمين وفقهائهم فلم يتمالك - رحمه الله - أن غلبته الدموع حتى كادت نفسه تَزهَق من كثرة بكائه وهو يردد ويقول مِثْلي يُحسَب من العلماء والله ما يكون العالم عالماً حتى لا يخرج له نَفَس إلا لله وبالله وإنما نحن ممن يلعب في دين الله فلقد رجوت بذلك اليوم وذلك الاعتراف مع - ما كان فيه من الدين - أن الله عزّ وجلّ يرفعه بذلك في الآخرة مع المقرَّبين
جعلنا الله جميعاً هناك بفضله لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١١

حديث تحية المسجد والإمام يخطب
عَن جابِرِ بنِ عَبدِ الله ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قال جاءَ رَجُل وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمعَةِ فقالَ أَصَلَّيتَ يا فُلانُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَاركَعْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز تحية المسجد والإمام يخطب والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول الحديث الذي يعارضه وهو أن رسول الله و كان يخطب يوم الجمعة ودخل رجل فجعل يتخطى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس فقد اذيت وفي هذا الحديث دليل على منع التحية والإمام يخطب ومن أجل هذين الحديثين وقع الخلاف بين الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله
فالشافعي
أخذ بالحديث الأول وهو جواز الصلاة والإمام يخطب وعلل الحديث الثاني بأن قال إنما أمره بالجلوس من أجل علة الأذِيَّة ومالك ومن تبعه أخذ بالثاني وهو منع الصلاة مع الخطبة وعلّل هو وأصحابه بأن قالوا إن الرجل كان ربَّ الثياب فأراد النبي لا الله وأن يأمره بأن يقوم فيصلي فَيَتَصَدَّقَ عليه
وكلا العلتين - فيما يظهر والله أعلم - ليستا بالقويتين بدليل احتمالهما معاني أخر فإذا احتمل الموضع عدة معان فليس أحد المحتمَلات يكون علة يُناط بها الحكم ويكون مثل الأدلة إذا تعارضت حيث يُنظر الدليل من خارج أو يؤخذ أحد المحتمَلات من أجل الخلاف الذي في إذا تعارضت وهي أربعة أقوال فنرجع الآن نبين احتمال كل حديث
الأدلة
فأما الحديث الأول - وهو الذي قالت المالكية عنه إن النبي لا لا لا أراد أن يقوم فيتصدق عليه
۱ جابر بن عبد الله بن عمرو الخزرجي الأنصاري صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي له ولأبيه
صحبة غزا تسع عشرة غزوة روى له الشيخان ١٥٤٠ حديثاً توفي سنة ۷۸هـ /٦٩٧م
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني عن جابر رضي الله عنه
٤١٢

فهذه دعوى لا تصح إلا إذا روي عنه ذلك كما قال عليه السلام في لحم الأضاحي إنما الله نهيتكم من أجل الدافة ۱
وأما الاحتمال الذي يحتمل زائداً على هذا الوجه الذي قالوه من الاحتمالات أن يكون عليه السلام قال له ذلك وهو قاعد على المنبر لم يشرع في الخطبة بعد لأن العرب تسمي الشيء بما قرب منه واحتمل أن يكون على آخر الخطبة ويصدق عليه أن يقال وهو يخطب واحتمل أن يكون ذلك قبل أن يؤمروا بالإنصات للخطبة

واحتمل أن تكون تلك الخطبة - وإن كانت في يوم جمعة - لأمر آخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر خطب الناس وألقى إليهم ذلك الأمر وما بدا له فيه وهذا ـ والله أعلم - أظهر بدليل قوله عليه السلام للداخل أصليت يا فلان قال لا قال قم فاركع لأن هذه الخطبة لو كانت للجمعة ما قال له أصليت لأن وقت الصلاة لم يدخل لأنه بالإجماع لا يجوز لأحد أن يصلي يوم الجمعة الظهر حتى تفوته الجمعة قطعاً وأنه إن صلى والإمام يخطب ولم يصل بعد فإن صلاته لا تجزئه والذهاب يوم الجمعة للجمعة إنما يكون قبل الزوال وهو التهجير وأكثر ما يتأخر المتأخر أن يجيء والإمام يخطب كما فعل هذا فلا يتقدم له وقت يمكن له فيه صلاة فكيف يصح أن يسأله النبي الله أصليت يا فلان

فبهذا التوجيه سقط دليل الشافعية بالحديث نفسه وهو من القوة بحيث لا يخفى وهذا إن كان | المراد بقوله أصليت صلاة الفرض وأما إن كان المراد بقوله أصليت تحية المسجد - وهو الظاهر لقوله عليه السلام قم فاركع ولم يقل فَصَلِّ - فبطل هذا الجواب والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على أن صلاة الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب ممنوعة قد ثبت الحكم بذلك عندهم من أجل أن الصحابي رضي الله عنه دخل والنبي يخطب فظن أنها خطبة الجمعة فقعد ولم يُصَلّ ويكون أمرُ النبي الا الله له بالركوع فيه من الفقه وجهان الوجه الأول أن الركوع والخطيب يخطب ما عدا خطبة الجمعة جائز و الوجه الثاني احتمل أن الوقت الذي قال عليه السلام فيه أصليت كان بعد أداء العصر بدليل أنه عليه السلام لم يأمره بالركوع إلا بعد أن قال له أصليت فدل أنه لو قال الداخل له صليتُ لم يأمره بالركوع لأن الركوع بعد صلاة العصر ممنوع بل مكروه لوقت الغروب فيحرم
۱ الدافة الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلدٍ وتمام الحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا رواه ابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها التهجير إلى الجمعة وغيرها التبكير والمبادرة إلى كل شيء ومنه الحديث لو يعلم الناس ما في التهجير
لا ستبقوا إليه
٤١٣

الوجه الثالث فيه أيضاً تقوية لمنع الركوع بعد العصر ويكون ما فعله من أجل العذر فإن اعترض معترض وقال وكيف يكون الصحابي يقعد حتى يخرج وقت الجمعة ولا يصلي ولا يعلم هل صلى الناس أو لم يصلوا حتى يأتي في غير وقت الصلاة ويظن أن هذا الوقت هر وقت الجمعة
فالجواب أن هذا ليس من قبيل المحال بل هو من قبيل الممكن الجائز فإنه قد ينام الشخص إلى هلم جراً ولا يستيقظ لصلاة الظهر وقد يجيء والناس يصلون العصر ويظنه الظهر ولا يعلم حتى يرى بعد ذلك الشمس قد اصفرت فيسأل عن العصر فيقال له ذلك الذي صلينا قبل بيسير والذي صليت معنا كان العصر فقد يحلف أنه ما صلى معهم إلا بنية الظهر وكثيراً ما يقع ذلك في الأيام القصار أو يكون في شغل ضروري قد أشغل خاطره ولا يلهم إلى الصلاة إلا مع أذان العصر وهو
يظنه ظهراً حتى يأتي الله بمن ينبهه على ذلك وهذا كثير وقوعه فلا يمتنع ما قلناه
وأما حجة الشافعية بالحديث الثاني الذي قال عليه السلام فيه اجلس فقد اذيت إنما أجلسه من أجل الأذيَّة والصلاة جائزة اللهم إن سُلَّم أن الإجلاس كان من أجل الأذية فلا اعتراض عليه لأنه نص في الحديث وأما كونهم يقولون الصلاة جائزة احتمل جواز الصلاة وضده فإذا وقع الاحتمال بطل الدليل

لكن بالبحث المتقدم صح القول للمالكية ولا يكون بالاحتمال الذي ذكرناه انفاً تعارض بين الحديثين وقد خرج مسلم أنه قال من دخل يوم الجمعة والإمامُ يخطب فليركع ركعتين خفيفتين فإن صح هذا فهو نص في الباب لا يحتمل التأويل ومن أجل هذا جاء في مذهب مالك قوله على نص الحديث أنه من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين وما ذكرنا أولاً ظاهر الحديث ومعارضته بالثاني إلا تأدباً مع من تقدم لأنهم رضي الله عنهم لهم الفضل علينا ولا ينبغي لأحد أن يَجْحَد فضلهم علينا فإن ذلك غباوة وجهالة وإن كان بعض المواضع فتح فيها على من تأخر أكثر مما فُتح على من تقدم فليس ذلك مما يُخلّ بجلالة منصبهم وإنما ذلك من طريق المنّ من المولى الكريم ليبقي لمنكسر القلب بالتأخير شيئاً يجبره به ولذلك قال فلعل بعض من يبلغه أن يكونَ أوعى له من بعض من فجعل للآخر البعض والأكثر للمتقدم ولحكمة أخرى لأن تبقى عجائب الكتاب والحديث
وفوائدهما لا تنقطع إلى يوم القيامة

سمعه ۱
جزء من حديث أوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض إلخ أخرجه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه

٤١٤

فإن ملي ولا

فت هو
شخص
والذي
الأيام
ـر وهو
إنما
فلا ـصلاة
بين
تعتينِ
مالك
ذكرنا ـضل
مما
ولفائدة أخرى أن تبقى النفوس تتشوّف إلى استمطار الفضل من الفتاح العليم لقوله عزّ وجلّ

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۱ فلو كانت الفوائد قد فرغت لما كان يحصل للمخاطب المتأخر من فائدة معنى هذه الآي والأحاديث شيء وقد قال في القرآن إنه لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَقُ على كثرة الردّ
لكن هنا إشارة إلى أن ما يُفتح لمن تأخر لا يمكن أن يكون مخالفاً لجميع من تقدم غير أنه إما أن يقوي ضعيفاً من الأقوال أو ما كانوا هم رضي الله عنهم أخذوه بإجماع يأتي المتأخر فيه - إذا فتح له بدليل واضح أو زوال إشكال بحجة قائمة اشتغل من تقدم عن ذلك أما ما كان لهم به اهتمام لندارته أو ما كان ذلك الإشكال عندهم إشكالاً لقوة إيمانهم فما جاء في المتأخر مع ضعف الإيمان وقلة الفهوم عاد مثل الجبال فيظن الظان بجهله أنه أتى بشيء لم يقدر من سبقه على مثله وهذا مما قدمناه جَهل بالعلوم وبأهلها
فإن خالف ما ظهر له كلَّ من تقدم من طريق ما تقتضيه قواعد الشرع فيتهم نفسه فإن في عين كمال فهمه نقصاً لا شك فيه بدليلين أحدهما منطوق به وهو قوله عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ۳ والآخر بالإجماع أن عمل المتقدمين أقوى من عمل أهل وقتنا والعمل هو ثمرة العلم فإذا كانت شجرتان ثمر الواحدة خير وأكثر من الأخرى قطع بالجزم أن التي ثمرها أكثر وأحسن خير من الأخرى بلا خلاف في ذلك عند من له
بصيرة وعقل
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الكلام في الخطبة إذا كان فيه مصلحة في الدين يؤخذ ذلك من قطعه الخطبة بكلامه مع الرجل ويترتب عليه من الفقه أنه إذا كان المرء في عبادة ويمكنه عمل آخر بلا خلل يقع في الذي هو بسبيله جائز ما لم يمنع من ذلك وجه من وجوه الشرع ولهذا المعنى أجاز بعض الفقهاء أنه إذا كان أخذ في نافلة وقرع الباب من له في دخوله مصلحة وأنه إن تركه حتى يتم ما هو فيه أنه يروح
١
-3°
حمد
۱ سورة البقرة من الآية ۸

أوله إن جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد والدارمي والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا إنها ستكون فتنة - وفي رواية فتن - قلت ما المَخْرَج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخَبَرُ ما بعدكم إلى آخر الحديث ۳ أخرجه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ
٤١٥

عنه ولا يجده أنه يقول ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَم ١ ويرفع بها صوته ليشير إليه أنه في صلاة وهذا عندي فيه نظر لأنه ينطق بالقرآن على خلاف ما أمر به فأولى من ذلك أن يباح له اليسير من الكلام الذي فيه الخلاف من أجل الضرورة ليسلم بذلك من التهاون بالكتاب العزيز والله المرشد
للصواب بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١٦
03
۱ سورة الحجر من الآية ٤٦

حديث دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم
عَن أنس بن مالك رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أَصابَتِ النَّاسَ سَنَة ١ على عَهد النَّبِيِّ ل فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في يوم جُمعَةٍ قامَ أَعرابي فَقالَ يا رسول الله هَلَكَ المالُ وجَاعَ العِيالُ فَادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَديهِ وما نَرَى في السَّماءِ قَزَعة فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما وَضَعَهُما حَتَّى ثَارَ السَّحابُ أمثالَ الجِبالِ ثُمَّ لَم يَنزِل عَن مِنبَرِهِ حَتَّى رَأيتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ عَلَى لحيته فَمُطرنا يَومَنا ذلِكَ وَمِنَ الغَدِ وَمِن بَعدِ الغَدِ والذي يليه حتّى الجُمُعَة الأُخرى وقامَ ذَلِكَ الأَعْرابِيُّ - أو قال غيره - فَقالَ يا رَسُولَ الله تَهَدَّمَ البِناءُ وَغرِقَ المَالُ فادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَدَيه وقالَ اللَّهُمَّ حَوالَينا وَلا عَلينا فَمَا يُشيرُ بِيَدِهِ إِلَى ناحيةٍ مِنَ یه السَّمَاءِ إِلا انفَرَجَت وَصارَتِ المَدينَةُ مِثل الجَوْبَة ۳ وَسالَ الوادِي - قناة ٤ ـ شَهراً وَلَم يجيء أحد من ناحِيَةِ إِلا حَدَّثَ بالجَوْدِ ٥
6
ظاهر الحديث يدل على جواز الكلام للإمام وهو في الخطبة لأمر أكيد وجواب الإمام على ذلك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها جواز الإشارة إلى شيء يعرف بالعادة ويجزىء عن تبيينه يؤخذ ذلك من قوله سَنَة ولم يعين ما هي لأنه قد عرف بالعادة أنه أشار إلى السنين التي فيها القحط والجوع
1 السَّنَة الجدب والقحط
القزع قطع السحاب المتفرقة في السماء مفردها قَزَعة
۳ الجوبة الحفرة المستديرة المتسعة

قناة اسم مكان وهو هنا بدل من الوادي ممنوع من الصرف
٥ الجود المطر الغزير الذي لا مطر فوقه
٤١٧

ومن ذلك قوله عليه السلام اجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ اللهم اشدد وطأتك على مُضَى
اللهم
أنج الوليد بن الوليدِ وعُتْبَةَ وربيعةَ وعيَّاش والمستضعفين بمكة ۱
ويجوز الاستسقاء بالدعاء من أهل الفضل بغير خروج يؤخذ ذلك من دعاء النبي بالغيث عند قول الأعرابي له ما قال
الوجه الثاني فيه دليل على طلب الدعاء ممّن فيه أهلية للقبول عند الملمات ومن أدب الطلب بثّ الحال إليه قبل طلب الدعاء يؤخذ ذلك من قصد الأعرابي إلى النبي الله لأنه بالإجماع الأفضل فطول حياته - عليه السلام - كان لا يُقصد في المهمات غيره إجماعاً ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول للعباس عند احتياج الناس إلى المطر وخروجهم إلى الاستسقاء ويؤخذ كنا نستسقي بالنبي عليه السلام والآن نستسقي بك فإنك عمّه وأقرب الناس إليه الأدب في تقدمه تبيين الحال قبل طلب الدعاء من فعل الأعرابي ذلك وأقره النبي الوجه الثالث فيه من جهة الحكمة أنك إذا شكوت ما بك من الضرّ لمن فيه دين رقّ لك وكان دعاؤه لك بقريحة وعند تلك الرقة وجَمْعِ ذلك الخاطر المبارك تُرجَى الرحمة والإجابة الوجه الرابع فيه دليل على أن فرض الكفاية من قام به كفى إذا عرف وجه الصواب في ذلك يؤخذ ذلك من أن هذا الأعرابي لمّا لحق الناسَ ما لحقهم من القحط تعين على الكل اللجا إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله له الله لما نزل بهم وفي الوقت من هو أعلى من ذلك الأعرابي مثل الخلفاء رضي الله عنهم وجلة الصحابة فلم يتكلموا وقام ذلك الأعرابي بالوظيفة وأقره النبي على ذلك ولو لم يكن ذلك كذلك لقال له النبي ل في ذلك شيئاً يُعلم به أن الحكم ليس كذلك لأن تأخير البيان عند الحاجة لا يجوز
الوجه الخامس فيه دليل على أن طالب الحاجة ينادي إلى من يطلبها منه بأرفع أسمائه يؤخذ ذلك من أن الأعرابي نادي النبي الله و بأرفع أسمائه وهو رسول الله الوجه السادس فيه دليل من الحكمة استعطاف المطلوب منه الحاجة فإنه مما تُسَرُّ به النفس فقد يكون عوناً على قضائها لكن بشرط ألا يتعدى في ذلك لسان العلم تحرزاً من أن
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأذان باب يهوي بالتكبير حين يسجد ونصه كان رسول الله حين يرفع رأسه يقول سَمِعَ الله لمن حمده ربَّنا ولك الحمد - يدعو لرجال يسميهم بأسمائهم فيقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم
أخرجه البخاري وابن سعد وابن خزيمة وأبو عوانة وابن حبان والطبراني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له
٤١٨

يكون ما يُسَرُّ ذلك الشخص به ممنوعاً شرعاً فلا يجوز لأنه من حاول أمراً بمعصية كان له أبعد
فيما يرجو
وقوله هلك المال المال عند العرب هي الإبل كما أن المال عند أهل التجارة الذهب أو الفضة كل أحد بحسب عادته
الوجه السابع فيه دليل على رفع اليدين في دعاء الاستسقاء يؤخذ ذلك من قوله فرفع يديه ولذلك لم يُرو عن الإمام مالك رحمه الله أنه رفع يديه إلا في دعاء الاستسقاء خاصة وهل يرفع في غيره من الأدعية أم لا فيه خلاف بين العلماء
وقوله وما نرى في السماء قرعة أي شيئاً يستر من السحاب وقوله فوالذي نفسي بيده ما وضعها أي ما أتم الدعاء وقوله حتى ثار السحاب أي كثر وقوله أمثال الجبال في هذا الموضع دليل على عظم قدرة الملك الجليل يؤخذ ذلك من سرعة اختراعه عزّ وجلّ لذلك السحاب العظيم في هذا الزمن القريب جدًّا
الوجه الثامن فيه دليل على عظم حرمة النبي يؤخذ ذلك من سرعة إسعافه عليه السلام بمطلوبه في الوقت
الوجه التاسع فيه دليل على جواز مساق اليمين في الكلام وهو من أحد الأقسام الذي يسميه بعض الفقهاء لغو اليمين يؤخذ ذلك من قوله فوالذي نفسي بيده
الوجه العاشر فيه دليل على أن تغيير العادة قد تكون دالة على رحمة أو غيرها يؤخذ ذلك من أن حبس المطر قبل تغيير حاله - وهو يؤول إلى هلاك المال ـ فهذا تغيير نقمة وقد جاء إذا أبغض الله قوماً أمطر صيفهم وأصحى شتاءهم وكوْنِ ۱ تعجيل السحاب والمطر عند دعاء سيدنا تغيير عادة إلا أنها تغيير رحمة
وقوله ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته أي لم يفرغ من الخطبة حتى كثر المطر لأن المطر ينفذ من سقف المسجد لأن سقف المسجد كان من جريد النخل ولا بد أنه كان يحبس شيئاً من المطر ثم يهطل حتى يتحادر المطر على لحيته الوجه الحادي عشر وفيه من الفقه أن الخطبة أو الصلاة إذا تُلُبَسَ بهما لا يُقطعان للمطر يؤخذ ذلك من أن سيدنا نزل عليه المطر حتى تحادر على لحيته وأتم الخطبة والصلاة
٤١٩
۱ العطف على المصدر المؤوّل أن حبس

الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الدعاء من أكبر وسائل الخير يؤخذ ذلك من سرعة الفائدة بدعائه عليه السلام وقد قال من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير۱ ولهذا يقول أهل الصوفة إن الدعاء نفسه هو عين الخير وقضاء الحاجة في حكم التَّبَع لأنه مناجاة للمولى الجليل وإظهار الفقر إليه وهو خلع العبودية ۳ ولم يُخلع على عبدِ أجلُّ منها وكفى في ذلك قوله تعالى ﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ ﴾ ۳ فما حصل لهم الشرف الرفيع ولا الحماية العظيمة إلا بهذا الوصف العجيب وهو وصف العبودية وقد قال عز وجل في الضد وَأَنَّ الْكَفِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ ٤
الله عنهم -
الوجه الثالث عشر قوله فمطرنا يومنا ذلك إلى قوله الجمعة فيه دليل على أن الإعطاء يكون على قدر حرمة الشفيع فلما كان هنا الشفيع صاحب حرمة عظيمة توالت الأمطار حتى استوفوا ما أرادوا من الخير ولهذا المعنى وقال أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون ه الوجه الرابع عشر فيه دليل صوفي لأنهم يقولون قدم محبوبَكَ قبل مطلوبك تجد مرغوبك الوجه الخامس عشر قوله وقام الأعرابي أو قال غيره شكٍّ من الراوي وهنا بحث لِمَ قام في المرتين هذان الأعرابيان أو الأعرابي الواحد - على شك الراوي - ولم يتكلم من الخلفاء أحد من الصحابة فالجواب أن مقام الخلفاء والصحابة - رضي الرضى والتسليم ومقام السائل الفقر والتمسكن وقد قحطت مرة جزيرة الأندلس فأتوا لبعض الصالحين المتولهين فرغبوا منه أن يخرج للاستسقاء وكانت عادته أن يركب قصبة يظهر بذلك ما يشبه الحمق فخرج معهم معهم وأتى غيطاً للملك فقرع الباب قرعاً عنيفاً فخرج إليه الجَنّان ٦ مسرعاً فقال له ما شأنك فقال اسْقِ كلّ ما في الغيط ويسمى الغيط بالأندلس بستاناً فقال له ما أكثر فضولك ! أنا أعرَفُ بستاني إذا احتاج السقي سقيته فردّ رأسه إليهم وقال لهم سمعتم مقالته هو أعرف ببستانه فما أردتم مني إلا أن يخزيني ثم ركب قصبته وتركهم وانصرف فما رجعوا إلا وهم قد سُقوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
الخلع مفردها خلعة وتعني العطية الكريمة وتكون تكريماً من الخالع للمخلوع عليه
۳ سورة الحجر من الآية ٤٢
٤ سورة محمد من الآية ۱۱
٥ انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي ٣/ ١٧٥
٦ الجَنَّان العامل في الجنّة وهي البستان

٤٢٠

وسيدنا كان يحمل كُلاً على حاله فالضعيف يجبره والقوي يحمله وما بين ذلك يلطف به كل ذلك رحمة من الله بعبيده ليدخل في هذه السنة المباركة القوي والضعيف وكل واحد منهم متبع إلا أنه بشرط أن يكون كل واحد من القوم يعرف شربه من الحقيقة أو من الشريعة أين هو وما شروطه وما وظيفته وهنا هي الفائدة العظمى جعلنا الله ممن مَنَّ بها عليه بمنّه الوجه السادس عشر قوله فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا البحث هنا كالبحث في قوله هلك المال غير أن هنا معنى آخر وهو أنه يدعى بالصحو عند كثرة المطر ودوامه كما يدعى بطلبه عند إبطائه وعدمه لأن كلتا الحالتين ضرر والمقصود للضعيف ما
فيه رفق
الوجه السابع عشر وفي قوله عليه السلام حوالينا ولا علينا من الفقه أنه لا يطلب من رفع الأذى إلا قدر ما تحقق أنه أذى لأنه لما تهدم البناء في المدينة وغرق المال - وهي الإبل كما تقدم - لأن كثرة المطر للإبل تتوجّل فيه ولا يصلح لها به حال والجبال والصحارى ما دام المطر فيها كثرت الفائدة فيها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه وغير ذلك من المصالح فدعا أن يرفع قدر ما فيه الضرر وتبقى الجبال وما حولها لما يُرجَى فيها من الخير الوجه الثامن عشر في هذا دليل على ما أعطى الله سبحانه نبيه عليه السلام من الإدراك العظيم للخير على سرعة البديهة
الوجه التاسع عشر قوله فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب فيه دليل على عظم معجزته عليه السلام في ذلك وهو أن سخّرت السحاب له كلما أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلام لأن كلامه عليه السلام مناجاة للحق وأما السحاب فبالإشارة فلولا الأمر لها بالطاعة له عليه
السلام لما كان ذلك لأنها أيضاً ـ كما جاء - مأمورة حيث تسير وقدر ما تقيم وأين تقيم وهنا إشارة لطيفة وهي أن السحاب تفهم - على بعدها - منه الإشارة والمحروم والأطروش ۱ القلب يسمع دور المواعظ ولا ينتبه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ومن لم يكن له في

القدم سعادة فكل موعظة عليه خسران وقوله إلا انفرجت أي زالت وتنحت امتثالاً لما به أمرت وقوله وصارت المدينة مثل الجوبة معناه مثل جيب الثوب أي في ناحية منه وقوله وسال الوادي قناه شهراً أي جرى
1 الأطروش الأطرش الأصم سورة المطففين من الاية ١٤

3
4
٤٢١

الماء من المطر شهراً وهو من أبعد أمد المطر الذي يصلح الأرض التي هي متوعرة جبلية لأنه يتمكن في تلك الأيام بطولها الذي فيها لأنها بارتفاع أقطارها لا يثبت الماء عليها فيبقى فيها حرارة فإذا دام سكب المطر عليها قلت تلك الحرارة وخصبت الأرض ولذلك قال جلّ جلاله في كتابه كَمَثَلِ جَنَّتِي بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَتَانَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ۱ لأن المطر الوابل هو
الشديد فتخصب أرضها فيأتي ثمرها ضعفين مما هي العادة فيه
وقوله ولم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود أي كل الجهات دام فيها المطر وهنا إشارة وهي أن بَرَكة الجوار أفادت الأرض الرحمة وهي جماد فكيف بالحيوان ومن ذلك مجاورة أبي طالب مع عدم الاتباعية حصلت له البركة وهي كونه أقل أهل النار عذاباً لكن في المجاورة إشارة لَمّا كان فيها منفعة ما وهي ما يوجد فيها من العون بما يخرج منها لأهل الإيمان لحقتها البركة فإن كانت بزيادة ما ولو بالقرب لحقتها حرمة الاحترام

ألا ترى كيف جعل النبي ل لما قَرُبَ من المدينة بقدر اثني عشر ميلاً حرماً كحرم مكة لا يقتل صيده ولا يُعضد شجره لحرمة من جاورها ! فهو مثل الاتباع في العاقل المخاطب لأن المنفعة من كل نوع من الخلق بحسب ما يتأتى منه فإذا كانت المجاورة بنسبتها يكون الخير وأقلها عدم وجود الشر جاء في الخبر هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ۳ وإلا كان الضد ولذلك يقول أهل التحقيق إن الرجل إذا كان محققاً كان مثل النار لأن النار من استعملها وتحفظ منها وجد فيها منافع شتى كما قال عزّ وجلّ وَمَتَنَعَا لِلْمُقْوِينَ ٤ قال العلماء معناه المحتاجين ومن استعملها ولم يتحفظ منها فإنها تضره وكذلك الرجل المحقق من عرفه وتأدب معه وجد فيه منافع و من از دری به يلحقه الضرر منه وإن لم يقصد هو ذلك لأن الله عزّ وجلّ يغار له لقوله عزّ وجلّ من أهان لي وليا آذنني بالمحاربة ٥
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ٢٦٥ ولا يعضد شجره لا يقطع
۳ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله عزّ وجلّ بلفظ اخر
٤ سورة الواقعة من الآية ۷۳
0 أخرجه الطبراني في الكبير والهيثمي في معجم الزوائد والسيوطي في الحاوي للفتاوي بلفظ آخر
٤٢٢

حديث صلاة النوافل قبل الفرائض وبعدها
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُصَلِّي قَبلَ الظُّهرِ رَكعتينِ وَبَعدَها رَكَعَتَينِ وَبَعدَ المَغرِبِ رَكَعَتَينِ في بَيْتِهِ وَبَعدَ العِشاءِ رَكَعَتينِ وَكانَ لاَ
يُصَلِّي بَعدَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَنصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكَعَتَينِ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
*
*
ركعتين
الأول الإخبار بركوعه عليه السلام قبل الظهر وبعدها في المسجد
الثاني أنه عليه السلام كان لا يركع بعد المغرب في المسجد وكان يركع في بيته بعدها
الثالث أنه كان لا يركع في المسجد يوم الجمعة لا قبل ولا بعد وأنه عليه السلام كان
يركع في بيته عند انصرافه منها ركعتين والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الذي جاء عنه عليه السلام من صفة هذا التنفّل هل هو تعبد لا يعقل له
معنى أو ذلك يعقل له معنى ولمَ ترك الصبح والعصر ولم يذكرهما وما الحكمة فيهما فالجواب أما كون الصبح والعصر لم يُذكرا فقد ذُكرا في موضع آخر لأنه قد جاء لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر ۱ وقد جاءت فيهما أحاديث كثيرة وأنه عليه السلام كان يخففهما وقد ذكرت العلة في تخفيفهما وقد جاء أن العصر كان عليه السلام يركع قبلها ركعتين والأحاديث في ذلك أيضاً كثيرة وأما هل لتلك الصلاة معنى أو هي تعبّد فإن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه
۱ رواه البيهقي عن ابن عمر وعن أبي هريرة وعن سعيد بن المسيب مرسلاً واللفظ مختلف
٤٢٣

حين
لحكمة فهي - والله أعلم - الإرشاد إلى الزيادة في الخدمة كما قال عليه السلام لضمام ۱ قال له هل عليَّ غير ذلك فقال لا إلا أن تطَوَّع فكان ندبه عليه السلام إلى التطوع بالقول ثم جاء عمله عليه السلام هنا تحضيضاً على ما ندب إليه بالقول فإن عمله عليه السلام أبلغ في التعليم وتقعيد الأحكام بالفعل أبلغ وإن كان القول كافياً - كما هو معلوم من الشريعة في غير
ما موضع - وهذا وجه حسن
الوجه الثاني فيه من الفقه أن كل ما يأمر المرء به غیره ويرغبه فيه من أفعال البر ينبغي له أن يفعله هو حتى يكون له ذلك حالاً ومقالاً لئلا يدخل بذلك تحت قوله تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ٢ ولذلك قال بعض من نسب إلى الحال سيعلم صاحب فقه الكلام وصاحب فقه الحال عند هبوب رياح القيامة وانجلاء غمام الدنيا من فارس الميدان منهما
وإذا نظرنا لمجموع عددها زاد لنا معنى مع ذلك وهو معنى لطيف وهو من شيم أهل الهمم لأنا وجدنا الصلاة التي زادها هو بحسب ما وردت بها الآثار أربعاً وأربعين ركعة والوتر واحدة فذلك خمس وأربعون مع الخمسة المفروضة فذلك أصل العدد المفتَرَض أولاً وهو خمسون صلاة وطلب و لأمته أيضاً التخفيف شفقة عليهم وأخد هو في حق نفسه المكرمة بالعمل على التوفية والكمال حتى يحصل له الثبوت في قدم قوله عزّ وجلّ الَّذِى وفى ۳ وكقول موسى عليه السلام أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ٤ ثم إنه أكمل أبعد الأجلين لأن الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين هم أهل الهمم السنية وكيف لا وهم خير الخيرة من البرية

فنحتاج إذا أن نسمي تلك الأربع والأربعين وهي ركعتا الفجر والضحى - على ما انتهت الأخبار عنه أنها اثنتا عشرة ركعة - وعند الزوال بعدما كان نهى عن الصلاة في ذلك الوقت ثم رجع عليه السلام فصلّى فيه أربعاً على غلبة الظن في تيقن العدد وقبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وتحية المسجد ركعتين وبعد العشاء ركعتين وإن كانت الصلاة التي عند استواء الشمس ركعتين فيكون تمام الأربع والأربعين ما روته
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٦ سورة الصف الايتان و ۳ ۳ سورة النجم من الآية ٣٧ ٤ سورة القصص من الآية ۸
٤٢٤

حين
3334
بلغ
فال
ة
هل
ـة
حق
پی
تير
C
ها
عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يصلي على فراشه ركعتين وحينئذ ينام وقيام الليل اثنتا عشرة ركعة والوتر واحدة لأنه يُطلق على كل ركعة صلاة بدليل قوله عليه السلام إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر ۱ فقد سمى عليه السلام الواحدة صلاة ١ ويظهر فيه من الحكمة أن المولى سبحانه لما نقص من العدد واحدة زادها هو جلّ جلاله ليكمل الفضل بفضله على سيدنا صلى الله عليه وسلّم وعلى أمته جعلنا الله من صالحيها في الدارين بمنه فكما نقص العدد منها أولاً تفضلاً وتخفيفاً أكمله آخراً تفضلاً وإكمالاً
وهنا بحث لطيف وهو أنه لم جعلت هذه الأمة شهداء على الأمم بمقتضى قوله عزّ وجل في كتابه ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِنَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ۳ وقد كان من كلام موسی علیه السلام لسيدنا إني عالجت بني إسرائيل أشد ال المعالجة وإن أمتك لا تطيق ذلك فتفضل المولى جلّ جلاله بأن وفق هذا السيد للكمال في إكمال العدد المطلوب أولاً حتى يكون تزكية في الشهود فإن من شرط الشهادة التزكية والعدالة فبانت تزكية هذه الأمة بفضل الله تعالى ولم يتركها سيدنا مع ضعفها حتى تكون عدالتهم ظاهرة من أجل تحقيق الأحكام ثم لم يقتصر هو و لا الله لا على ذلك ليس إلا لأنه عليه السلام ترك لنا بابين إلى الزيادة مفتوحين
الواحد بقوله عليه السلام رحم الله عبداً صلى أربعاً قبل أربع وصلى أربعاً بعد أربع ومن صلى بين العشاءين اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة ۳ وما أشبه ذلك من الأحاديث التي جاءت في مثل هذا المعنى وهي كثيرة
والباب الثاني إشارته عليه السلام إلى تمام التزكية في باقي الأقوال والأفعال بقوله
عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ٤ فبالله عليك يا أخا الشبهات والشهوات انتبه لنفسك يسيراً ولا تحرمها هذا المقام الرفيع الجليل وتُقِمْها مقامَ الذل والتعنيت فإن من اتبعَ شهوته ذهبت مروءته وشان دينه ومن كان بهذه
1 أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما

سورة البقرة الآية ١٤٣
۳ مركب من حديثين الأول رحم الله امراً صلى قبل العصر أربعاً أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما والثاني من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوّعاً بنى الله له بيتاً في الجنة أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أم حبيبة رضي الله عنها
٤ أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤٢٥

الصفة ضاع عمله وكانت النار أولی به وقد قال لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وقمتم حتى تكونوا كالحنايا ولم يكن لكم وَرَع حاجز لم يمنعكم ذلك من النار 1 وإن الفتى إذا نبذ
شهواته طمعت نفسه في اكتساب الحور والقصور فتنبه إلى هذه الحكمة العجيبة منه في تفريقه عليه السلام هذه الصلوات على هذا الترتيب العجيب لأنه عليه السلام لو جعلها في وقت واحد أو جعلها عدداً مرتباً لا يزاد فيها ولا ينقص لكان في ذلك مشقة وربما لا يقدر عليها كثير من الناس فلما جعل عليه السلام منها ما هو مستصحب مع الصلوات المفروضة ومنها ما هو في غير وقت الصلوات إلا أنه بتوسعة مثل قيام الليل إذ الليل كله ظرف والضحى من بعد طلوع الشمس إلى الزوال فمن عجز عن قيام الليل والضحى لم يعجز عن التي هي مع الصلوات - كما تقدم - فكانت خفيفة على الناس حتى فَلم يكون من مصل يصلي فريضة ولا يتنفل قبلها ولا بعدها وإن كان فيكون في حكم النادر الذي لا حكم له
فانظر إلى هذه الإشارة اللطيفة لما طلب منا أولاً خمسين ثم ثبت الفرض على خمس فجاء الأصل خمساً ووفاء الكمال خمسين فما نقص من الأصل الذي ثبت بالحكم الحتم وهو خمس أكمل من الأصل المطلوب أولاً وهو الخمسون وسميت نفلاً لكونها غير حتم ولذلك جاء أنه إذا كان يوم القيامة يقول مولانا جلّ جلاله انظروا إلى صلاة عبدي فإن أتى بها كاملة وإلا قال عزّ وجل انظروا إن كانت له نافلة فأكملوها منها ٢ فأكمل الأصل - الذي هو الفرض - من الأصل الذي كان أولاً بالوضع فجاء قوله تعالى ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى ۳
وبقي بحثان أحدهما لم كان عليه السلام لا يصلي بعد المغرب إلا في بيته والثاني مثله في الصلاة التي بعد الجمعة

فالجواب إن قلنا إن ذلك تعبّد فلا بحث وإن قلنا إن ذلك لحكمة - وهو الحق - فما هي فنقول أما كونه عليه السلام لم يصل بعد المغرب إلا في بيته فقد أجبنا عنه في غير هذا الحديث لكن نشير الآن إلى بعضه لكون النفس متشوقة إليه وذلك أن المغرب وقت ضيّق فقد يأتي الناس إلى صلاتهم ويتركون ضروراتهم والغالب عليهم الصوم والكد في الأسباب فلو بقي
1 أخرجه السيوطي في الجامع الكبير بلفظ لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة رواه عمرو بن عساكر من طريقه وقال مالك بن دينار لم يسمع من أبي مسلم والديلمي أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ۳ سورة ق الآية ۹
٤٢٦

يد
L
ها
L
L
النبي صلى الله عليه وسلم يركع في المسجد لما خرج أحد منهم - في الغالب - فيلحقهم بذلك تألم وهو عليه السلام الذي قال في هذه الصلاة خصوصاً إذا وُضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ۱ رحمة منه لهم وقد تقدم الكلام عليه فكيف في النافلة
وأما كونه عليه السلام لم يصل أيضاً بعد الجمعة في المسجد فقد بين عمر رضي الله
عنه العلة في ذلك بمحضره عليه السلام وأجاز ذلك كما في كتاب مسلم لأنه لما حض عليه السلام على التنفل بعد الجمعة كما جاء في مسلم أيضاً قام رجل بعد الفراغ من صلاة الجمعة يركع فجبذه عمر رضي الله عنه حتى أبعده وقال له اقعد تشبه الجمعة بمن فاته من الظهر ركعتان والنبي قاعد ولم يقل شيئاً فسكوته عليه السلام دالّ على جواز ذلك الحكم وهو المشرع فلو لم يكن الحكم كذلك لتكلم عليه السلام بما يبيّن به الحكم لأن السكوت عن بيان الحكم عند الحاجة إليه لا يجوز فجاءت صلاته عليه السلام بعد الجمعة في بيته تبييناً لمن أراد أن يصلي بعدها من حيث ألا تكون الصلاة متصلة بها
وقد تكلم العلماء في التنفل بعد المغرب وبعد الجمعة في المسجد هل يجوز أم لا فأما التنفل بعد المغرب في المسجد فلم يُمنع أحد من ذلك لأن تلك العلة التي ذكرنا عن سيدنا معدومة في غيره لكن الأفضل في البيت من أجل ما في الاتباع من الفضل وقد كان من السلف من يتنفل في المسجد بعد المغرب وأما بعد الجمعة فالذي أجاز ذلك منهم قال لا يفعل حتى يخرج من باب ويرجع من آخر ومنهم من قال ينتقل من موضعه إلى موضع آخر ومنهم من قال يجلس في موضعه ساعة حتى تذهب علة الشبه التي نهى عنها - كما حكيناه انفاً ـ ولم يختلف أحد أن تنقله في البيت أفضل وفيه وجوه من الفقه
أحدها الأخذ بسد الذريعة لأنه لو فعل ذلك في زمان النبي والخلفاء رضي الله عنهم لكان الناس يقولون تلك الركعتان تمام لعدد ركعات الظهر وقد كان يؤول الأمر لأن يعتقد أنها فرض أما ترى أن بعض العلماء يقول في الخطبة إنها بدل من الركعتين وأن من فاتته الخطبة لا تجزئه الجمعة ويصلي ظهراً أربعاً وهذا بعيد أين نسبة الخطبة من الصلاة فكيف في الركوع الذي هو من جنس الصلاة ولم يجىء أن أحداً من السلف فعل ذلك
وقد صار اليوم العمل على خلاف هذا وهو ما يفعله الناس بالديار المصرية وغيرها ممن حذا حذوهم من التزامهم الركوع إثر صلاة الجمعة متصلاً بها وهو من البدع ثم إنهم زادوا في ذلك بأن سموها سُنة الجمعة وهذا مناقض للحديث الذي نحن الآن نتكلم فيه والذي أوردناه من حكم
۱ هو موضوع الحديث ٤٢
٤٢٧

النبي كما جاء في مسلم ولا أحد ممن ينسب أو ينتسب للعلم يغيّر ذلك بل يفعله ويحتج بأن يقول على ما بلغني هو وقت يجوز فيه الركوع فكأنه لم يسمع قط هذين الحديثين اللذين هما في الصحة والشهرة بحيث المنتهى أو كأنه لم يعرف قط المراد بسياقهما وما يستنبط منهما فأين
العلم وأين أهله
فإنا لله وإنا إليه راجعون على حوادث حدثت في الدين وأكثرها من هذه الطائفة المنتسبة للعلم وليس عندهم منه إلا نقل الألفاظ والتحكم من طريق الجدل والمباهاة هيهات ما العلم كذلك ولا طريقه هنالك بل هو باتباع السنة والسنن وبالنور والحكمة تقع فيه الموافقة
لمن تقدم
وفقنا الله لذلك بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٢٨
سنا

191
حديث غزاة بني قريظة
عَن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما قَالَ قالَ النَّبِيُّ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحزاب لا يُصَلِّيَنَّ أَحَد العصر إلا في بَني قُرَيْظَة ۳ فَأَدرَكَ بَعضَهُمُ المَصرُ في الطَّريقِ فَقالَ بَعضُهم لا نُصَلِّي حَتَّى نأْتِيَهَا وَقالَ بَعضُهُم بَل نُصَلِّي لَم يُرد مِنَّا ذلِكَ فَذُكِرَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَم يُعَنّف واحِداً مِنهُم
*
ظاهر الحديث أَمْرُ النبي للصحابة رضي الله عنهم بالخروج إلى بني قريظة ومبادرتهم لأمره عليه السلام والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن كل مجتهد مصيب يؤخذ ذلك من قوله أدركهم العصر في الطريق فقالوا لا نصلي حتى نأتي بني قريظة ۳ تعلقاً بظاهر صيغة الأمر ومنهم من تأول وقال ما المقصود ترك الصلاة تحفظاً على القاعدة الأصلية وإنما المقصود منا سرعة الخروج والسير وقد حانت الصلاة فنجمع بين الأمرين فكل منهم مصيب لأن المقصود من العبد بذل الجهد في امتثال ما أمر به إذا كان على الوجه المأمور به تحرزاً من تحريف التأويل لحظ نفساني فبهذا القيد يصح أن كل مجتهد مصيب
ومع ذلك لا بد أن يكون أحد الوجهين هو الأولى بدليل قول مولانا جل جلاله في قصة
1 الأحزاب جنود الكفار تألبوا وتظاهروا على حرب النبي و و و و و وهم قريش وغطفان وبنو فريظة وهي المعروفة باسم غزوة الخندق
بنو قريظة حي من يهود وهم والنضير قبيلتان من يهود خيبر فأما قريظة فقد أبيدوا النقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على رسول الله أمر بقتلهم وسبي ذراريهم واستفاءة أموالهم وأما بنو النضير فإنهم أجلوا إلى
الشام وفيهم نزلت سورة الحشر ۳ كذا ولفظ الحديث حتى نأتيها
٤٢٩

بَيْنَتَهَا سُلَيْمَنُ وَكُلًّا أَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۱ وذلك أن رجلين داود وسليمان عليهما السلام فَفَهَ في زمان داود عليه السلام كان لأحدهما زرع وللاخر غنم فرعت الغنم الزرع فتحاكما إلى داود عليه السلام فحكم بالغنم لصاحب الزرع فلما خرجا قال لهما سليمان عليه السلام ما حكم به داود فأخبراه بحكمه لصاحب الزرع بالغنم فقال لهما سليمان عليه السلام بل الحكم أن يأخذ صاحب الزرع الغنم يستغلها حتى يُخلِفَ زرعُه ويكون مثل القدر الذي رعته الغنم ويأخذ إذ ذاك صاحب الغنم غنمه فبان ما حكم به سليمان عليه السلام أنه كان هو الأرجح بدليل أنه بقي لكل واحد منهما ماله بعد تقاضي ما كان بينهما وعلى حكم داود عليه السلام كان الحكم أن يبقى صاحب الغنم دون شيء وكذلك نقول في هذه المسألة وإن كان الوجهان جائزَين فالواحد أرجح لكونه جَمَعَ بين
أصلين وكلاهما واجب والتأويل الذي يسوغ معه أداء واجبين أولى من إسقاط أحدهما الوجه الثاني فيه من الفقه أن القاعدة الثابتة المستصحبة لا تُزال بأمر محتمل لأن وقت الصلاة قاعدة قد تقررت واستصحب الحكم بها وأمرهم النبي و لا الله بألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فاحتمل الأمر - على ما تقدم - لأن يكون المقصود ذلك الوجه ولا نعرفه نحن في الحال واحتمل أن يكون المقصود الوجه الثاني وهو سرعة الخروج - كما تقدم - فكيف نزيل حكماً قد تقرر واستصحب العمل عليه بمحتمل الأمرين الأظهر أن لا والجواز قد وقع من الشارع عليه السلام فجاء في الأمر والحمد لله سَعَة
الوجه الثالث يترتب عليه من الفقه أيضاً أن المرء إذا كان عند نازلة لا يمكنه تأخيرها وليس عنده علم بحقيقة حكم الله تعالى فيها أنه يجتهد فيما يظهر له ويعمل عليه فإذا وجد من له معرفة بذلك الأمر يسأله عما فعل فإن أخبره أنه قد وافق فعله حكم الله - على مذهب أحد علماء المسلمين - فقد تخلصت ذمته وهذا خير كثير
يؤخذ ذلك من أنه لما حان وقت العصر وهم بالطريق وما كان فيهم من سأل النبي
أن
بأن يقول إن أدركنا الوقتُ في الطريق فما نفعل فلو كان فيهم من فعل ذلك لوجب على الكل يتبعوه الأمر النبي له به ذلك الواحد ولم يجز لهم مخالفته فلما لم يقع كان ذلك تخفيفاً من الله ورحمة حتى تتقعد عليه هذه القواعد المباركة فاحتاجوا إلى النظر والاجتهاد بحسب وسع كل واحد منهم في الوقت فلما اجتمعوا معه أخبروه ليجيز من فعلهم ما يجيز ويرد ما يرد فأجاز عليه السلام الفعلين معاً كما فعل عليه السلام حين صلوا في الظلمة بحسب اجتهادهم
۱ سورة الأنبياء من الآية ۷۹
٤٣٠

وعلم كل واحد منهم على موضع مُصَلاه فلما أصبحوا فإذا هم قد أخطأوا القبلة عن آخرهم فلما
أتوا النبي سألوه عن ذلك فأجاز فعلهم
أنهم

فالسؤال من الصحابة بما وقع منهم له عليه السلام كسؤال من لا يعلم حكم الله لمن يكون له به علم بعد نزول ما ينزل به ويعمل فيه بحسب اجتهاده - كما تقدم - على حدّ سؤالهما ونذكر الآن إشارة ما الموجب لخروجهم إلى بني قريظة لما يترتب عليها من الفقه وذلك لما رجعوا من الأحزاب وفيهم الجريح الشديد الجرح وجاء النبي ليزيل سلاحه وجبريل عليه السلام قد نزل وعليه سلاحه أيضاً فقال أتزيل السلاح والملائكة لم تُزِلْها ۱ وأمَرهُ عن الله أن يخرج من حينه ولا يزيل سلاحه ويأمر كل من جاء من الأحزاب من المسلمين أن يخرجوا من حينهم فخرجوا وإن الجريح منهم خرج وهو يتهادى بين اثنين لشدة جراحه وكان العدو قد طمع في المسلمين لما نالهم من الجرح والقتل وعزموا أن يأتوا المدينة فلما سمعوا بخروج المسلمين من حينهم أوقع الله عزّ وجلّ في قلوبهم الرعب ورجعوا هاربين فدفع الله عزّ وجلّ عن المسلمين ما كانوا عزموا عليه من أن يغيروا على المدينة
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن أعظم الأسباب في النصرة هو امتثال الأمر لأنه يعلم بالقطع أن أولئك المجروحين الذين خرجوا وهم يتهادون بين اثنين أنهم لا يقدرون على قتال ولا يدفعون شيئاً فلما امتثلوا وفوضوا الأمر لقدرة الأمر نصرهم الله بلا قتال ولا شيء تكلفوه لأنهم فهموا أن المقصود منهم الامتثال وأن النصر هو المنعم به تصديقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وكذلك سنة الله تعالى في عباده إلى يوم الدين من نصره ﴾ نَصَرَهُ ومن أصدقُ من الله حديثاً ونُصرة الله من عبده هي اتباع أمره واجتناب نهيه الوجه الخامس فيه دليل على أن فحوى الكلام كالنص يعمل به وفحوى الكلام هو ما يعرف من قوة الكلام وكذلك هذا لما عرفوا من قوة الكلام أنه ما المراد منهم أن يخرجوا لبني قريظة إلا للقتال لم يحتج عليه السلام ليُبين لهم شيئاً ليفهمهم المقصود هذا في الجهاد الأصغر وهو جهاد العدو وكذلك الأمر فى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وقد أشار مولانا جل جلاله لذلك بقوله وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۳ فمهما كبر الأمر
1 أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فأخرج إليهم قال فإلى أين
قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة الأعراف من الآية ۰۰
٤٣١

جعل الفرج فيه أكبر لأن أمر الشيطان والنفس أكبر فجعل في الشيطان والظفر به نفس اللجأ كما أخبر عزّ وجلّ وجعل في النصرة على النفس الأخذ في مجاهدتها على لسان العلم فقال عز وجل • سُلَنَا ١ لو جعل سبب العون على مجاهدتها حقيقة الاستعانة به
وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا عزّ وجلّ بقوله تعالى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولذلك قال بعض أهل التوفيق إذا نزلت بي نازلة من أي نوع كانت فألهمت فيها إلى
اللجا فلا أبالي بها
واللجأ يكون على وجوه فمنه الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عزّ وجلّ لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ ومنه الصدقة لقوله عليه السلام استعينوا على حوائجكم بالصدقة وادفعو البلاء بالصدقة ۳ ومنه الدعاء لقوله عليه السلام من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير فكيف بالمجموع فهم يرون كل ما هو سبب إلى الخير هو عين الخير
الوجه السادس فيه دليل صوفي لأنهم يقولون موتُ النفوس حياتها ومن أحب أن يحيا يموت لأن الصحابة رضي الله عنهم لما هانت عليهم نفوسهم وخرجوا وهم راضون بالموت في ذات الله عزّ وجلّ لأنّ من يخرج - كما وصفناهم به أولاً - فقد عزم على الموت فعند ذلك ظفروا بالنصر والأجر والأمن كذلك حال أهل التوفيق ببذل النفوس وهوانها عليهم نالوا ما نالوا ولحب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وحقَّ عليهم الهوان هنا وهناك وقد ورد في الحديث ما من عبد إلا وفي رأسه حَكَمة ٥ بيد مَلَك فإن تعاظم وارتفع ضرب الملك في رأسه وقال له اتَّضِع وَضَعك الله وإن تواضع رفعه الملك وقال له ارتفع رفعك الله مَنَّ الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 سورة العنكبوت من الآية ٦٩ سبق تخريجه في الحديث ٤٧
3 أخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله الله قال استعينوا على الرزق بالصدقة وأخرج لسيوطي في الجامع الكبير قول النبي داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة فإنها تدفع عنكم
الأعراض والأمراض
٤ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
٥ أخرجه أبو نعيم والديلمي عن أنس وأوله ما من آدمي إلا وفي رأسه حَكَمة بيد مَلَك
٤٣٢

حديث السنة يوم عيد ال
الفطر
عَن أَنسٍ رَضِيَ الله عَنه قال كانَ رَسولُ الله ل لا يَعْدُو يَومَ الفِطرِ حَتَّى يَأْكُلَ
تمراتٍ وعَنهُ مِن طَريق ثانٍ ويأكُلُهُنَّ وِتراً
*
ظاهر الحديث أن السنة في يوم الفطر ألا يغدو أحد للمصلّى إلا بعدما يفطر والمستحب أن يكون على التمر وأن يكون وتراً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا معقول المعنى أم لا فالجواب أن المعنى فيه ظاهر وهو إظهار امتثال الأمر لأنه لما أن كان صوم هذا اليوم محرَّماً والمشروع فيه الأكل فبادر للامتثال وهو الأكل ولو كان لغير ذلك لكان يأكل الشبع من الطعام
وبقي بحث على كونها تمراً وكونها وتراً۱ فأما كونها تمراً فلوجوه منها حلاوتها والحلاوة مما توافق الإيمان ويرق بها القلب وقد جاء في ذلك أثر ويترتب على هذا من الفقه استعمال الأشياء الحلوة إذا لم يوجد التمر ومنها أنها أيسر الأشياء عندهم بالمدينة وكان يحب ما تيسر من الأشياء
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن التكلف للفطر في ذلك اليوم مخالف للسنة لأنه تكون النفس مشغولة بذلك وكان هو وأصحابه رضوان الله عليهم همتهم الآخرة حتى إنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول لأهله اعملوا الطعام مشروباً ولا تعملوه مأكولاً لأن بين المأكول والمشروب كذا وكذا آية فما كانوا - رضوان الله عليهم - يأخذون من الدنيا إلا قدر الضرورة واحتمل المجموع
1 إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه
لعله يشير إلى قوله تعالى في سورة الإنسان إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كأسِ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنَا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَا كَانَ شَرُّم مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَيْهِ مِسكينًا وَيَتِيماً وَأَسِيرًا الآيات ٥ - ٨
٤٣٣

وأما كونها وتراً فيحتمل أن يكون على معنى التداوي لقوله عليه السلام من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سُمٌ ولا سِحْر ۱ ويحتمل أن تكون على وجه التبرك لقوله عليه السلام إن الله وتر يحب الوِتر فيكون استفتاحه هذه العبادة بما هو مستحب وهو الوترية كما سنّ في الاستجمار الواجب الإنقاء والسنة الوترية ٣ ويحتمل أن تكون تنبيهاً على الوحدانية ليعرف قدر نعمها في هذا اليوم على العباد كما جاء في تحريك السبابة في التشهد - في
أحد الوجوه - في أنه يعتقد بتحريكها أن الله إله واحد ويحتمل المجموع وأكثر من ذلك الوجه الثاني فيه من الفقه أن حقيقة الخير هو نفس الامتثال فيما أحبته النفسُ أو كرهته فإن جاء ما تحب في الامتثال مثل هذا الموضع وما أشبهه فهو من جملة النعم لأنها تفعل ما تحب وتكون فيه مأجورة ومما يقوّي ما قلناه ما جاء عنه عليه السلام في عيد الأضحى أنه كان يخرج للمصلى ولا يأكل شيئاً حتى يُقَرِّبَ أضحيته أو هَدْيَه وأول ما يأكل منه زيادة الكبد لأنه أقرب ما
يفعل الآدمي في يوم النحر إراقة الدم فأراد عليه السلام أن يكون فطره على ما فيه رضى مولاه وهذا بحث لم كان يأكل أولاً زيادة الكبد فذلك - والله أعلم - لكي يقع التشبه في ذلك بأهل الجنة لأنه روي أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت الذي عليه قرار الأرضين واحتمل أن يكون بدأ به لأنه كالإصبع قائم فيكون فيه إشارة إلى الوحدانية ويحتمل أن يكون بدأ به لمجموع ما ذكرناه والله أعلم
ويترتب على هذا من الفقه أيضاً أن الذي يفعله اليوم المترفون من أبناء الدنيا كونهم يقدّمون من أول ليلة العيد لحماً ويطبخون الألوان ويأكلون قبل ذبح الأضحية هذا هو فعل الذي يضحي منهم وأكثرهم مخالفون للسنة بتركها البتة ولذلك قد تنكرت معارف الشرع بالبدع والمخالفات التي أقاموها لأنفسهم ويحتجون بأن يقولوا هذه عادة الناس وكيف نقول تأسياً لمن تركوا سنة نبيهم عليه السلام ويؤثرون عادة نفوسهم الذميمة
وفي أكله عليه السلام يوم الفطر أيضاً - قبل الغدو - فائدة أخرى وهي تقرير قاعدة شرعية بالفعل لأنه - كما تقدّم لنا في غير ما موضع - أن تقعيده عليه السلام القواعد الشرعية وأحكامها
بالفعل أبلغ
وبقي بحث فيمن لم يجد ولم يقدر على التمر ولا على شيء حلو فالجواب أن نقول إنما
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه استجمر الرجل استنجى بالحمار وتطهر بها من الخَبَث عند عدم وجود الماء والسنّة الوتر في ذلك
والجمار هي الحجارة الصغيرة
٤٣٤

يؤمر بذلك مع الإمكان وعند عدم الإمكان قام العذر وصاحب العذر مسامح في الترك لكنه يفطر ولو على الماء حتى تحصل له نسبة ما في الاتباعية لأنه قد جاء عنه أنه كان إذا لم يجد تمراً وكان صائماً يفطر وإن يسر الله له بعد ذلك في شيء أكل ولا يجوز خلاف ذلك ولذلك عدمك الإمكان لما أمرت به عذر وتركك إياه مع الإمكان له وِزْر وطالب العذر مع
قيل
الإمكان مضيّع
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٣٥

-٥٨-
حديث العمل في أيام التشريق
عن ابن عباس رَضِيَ الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ قال ما العمل في أيَّام العشر صلى الله عليه وسلم أفضَلَ مِن العمل في هذِهِ قالوا ولا الجهاد قالَ وَلا رجُل خَرجَ يُخاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فلم يرجع بشيء
ظاهر الحديث يدل على أنه ليس شيء من الأعمال أفضل من الأعمال في أيام التشريق وهي الثلاثة أيام التي بعد يوم النحر والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن فيه دليلاً على أن هذه الأيام - وإن كانت أيام عيد - فإنما هي للعبادة لا للهو وما يفعل الناس فيها اليوم من أنواع البطالات فممنوع بهذا الحديث فإن احتج محتج بقوله عليه السلام لكل أمة عيد وهذا يوم عيدنا ۱ فقد بَيَّنَ عليه السلام ما هو المباح فيها أيضاً بقوله عليه السلام إنما هي أيام أكل وشرب وذكرِ الله ۳ وقال عليه السلام أفضل ما يعمل
فيها إراقة الدماء ۳
السنة
في إراقة الدماء أن يأكل مما يتقرب به ويتصدق ويهدي وقد شرع فيها أعلى العبادات وهي الذكر بقوله عليه السلام ما عمل آدمى عملاً أنجى له من ذكر الله ٤ ونفقة المال في الضحايا لقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وقد جعل فيه الصدقة من الأضحية والصدقة كما قال عليه السلام تطفىء غضب الرب ٥ والذي منع فيها
عائشة رضي الله عنها
۱ لفظه يا أبا بكر إن لكل أمة عيداً وهذا عيدنا أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن السيدة أوله أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجلّ أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن نبيشة الهذلي
رضي الله عنه
۳ رواه الترمذي وابن ماجه في الأضاحي ٤ لفظه ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب من ذكر الله أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ٥ لفظه إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه
٤٣٦

من مجاهدة النفس هو الصوم لا غير وبقي باقي العبادات مطلوب على الوجوب أو الندب لأن الفرض لا يسقط في وقت من الأوقات مع القدرة عليه لا في عيد ولا في غيره وجاء هذا الحديث يحض على طلب المندوبات وجعلها أعلى مما هي في غيرها تأكيداً لها
وهنا بحث وهو هل تفضيل الأعمال في هذه الأيام لعلة مفهومة أو تعبد ليس إلا فنقول بل لعلة وهي أنه قد تقرر من قواعد السنة المحمدية أن أوقات الغفلات العباداتُ فيها أفضل كما جاء في الصلاة التي بين العشاءين وما فيها لأنه وقت غفلة الناس وكذلك قيام الليل لما فيه من الغفلة أيضاً لأن الناس إذ ذاك في حال نوم وغفلة وكذلك صلاة الضحى لما فيها أيضاً من غفلة الناس بأسبابهم وهذا كثير فلما كانت هذه الأيام أيام أكل وراحة للنفوس فهي في الغالب
يتسلط عليها النوم الكثير والغفلة وأما اليومَ فقد زُهِد في القُرَب وجُعِلَتْ للهو والمحرمات واحتجوا بما جاء أنه دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها جوارٍ من بني النجار يضربن بالدف فاضطجع و على فراشه وحوّل ظهره إليهن وإذا بأبي بكر رضي الله عنه قد دخل فانتهرهنّ وقال أمزامير الشيطان في منزل الرسول هر فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إليه وقال له دعهن فإنه يوم عيد ۱ وهذا لا حجة فيه لأن ذلك كان أول الإسلام والخمر إذ ذاك حلال والربا حلال والقمار حلال وكثير من الفرائض لم تفرض بعد ثم جرى الأمر بخلافه ألا ترى إلى قوله عليه السلام يوم فتح مكة إنما بعثت بكسر الدف والمزمار ۳ فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها فما جاء من الأحاديث أول الإسلام في إباحة شيء ثم حرم بعد فلا حجة فيها لأنها منسوخة وقد نص عليه السلام على أن لهو المؤمن لا يكون إلا في ثلاث في رميه عن قوسه وتأديبه لفرسه وملاعبته لأهله ۳ فمن أين يكون لها رابع والأحاديث في ذلك كثيرة وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ 4 فاللهو ممنوع شرعاً في العيد وغيره إلا ما ذكرناه آنفاً وفضلت أيضاً من نوع آخر - أعني أيام التشريق - وهو أنها لما كانت أيام محنة للخليل عليه

1 أخرج مسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال مزمار الشيطان عند رسول الله فأقبل عليه رسول الله وقال دعهما وفي رواية للشيخين دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد
٢ أخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة إن الله أمرني أن أمحق المزامير والكيارات والمعازف ۳ أخرج أصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته زوجته
٤ سورة لقمان من الآية ٦
٤٣٧

السلام ثم من عليه بأن أبدلت له المحنة بمنّة وأيّ مِنّة فصارت بهاتين الصفتين أفضل الأيام والمولى سبحانه إذا مَنَّ على مَنْ مَنَّ عليه من عباده بمنّة لا يزيلها عنه فأبقى عزّ وجلّ لهم ذلك الفضل وزاد فيها بأن أبقى لهم النعمة وهي ما شرع عزّ وجلّ من القربات ورفع المحنة
عنهم وهي ما كان من ذبح الولدان
وهنا بحث في قوله عليه السلام ما العمل الألف واللام هنا هل هي للجنس فيكون فيها التساوي بين المفروضات والمندوبات على اختلافها أو هي للعهد وهي أعمال مخصوصة أما صيغة اللفظ فمحتملة للوجهين معاً فيكون فضل الفرائض فيها أفضل من غيرها كما قال عليه السلام في صلاة الصبح من شهدها في جماعة فكأنما قام ليلة وقال في العشاء من
شهدها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ۱ فترى هذه أديت في جماعة والأخرى كذلك قدر النصف في الأجر وما ذاك إلا لما فيها - أعني في صلاة الصبح - من كثرة المشقة زائداً على العتمة لأن أكثر الناس في الصبح على حال جنابة ونوم وغفلة أكثر مما في العتمة فيكون أداء الفرائض في هذه الأيام مثل ذلك سواء لما فيها من كثرة الغفلة والجنابة والأكل والراحة فتكون بهذا النظر أفضل من غيرها وذلك مثل الجهاد لأن الجهاد فيه فرض وتطوع كما هي الأعمال في هذه الأيام فيها فرض وتطوع واحتمل أن تكون للعهد وهي إشارة إلى الأحاديث التي ذكرنا أولاً من أنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى والأعم أولى من أجل كثرة الفائدة فيكون ما أوردناه أولاً من تلك الأحاديث المعنى فيها أن الذي يعمل في هذه الأيام بعد الفرائض أولى ما فيها ما ذكر عليه السلام من إراقة الدماء والذكر والصدقة ولا تمنع باقي الأعمال
ومما يقوي ما قلناه قوله عليه السلام ما عمل آدمي أفضل فجاء بها في باب الأفضلية وما جيء به في باب الأفضلية جاز عمل غيره معه وإن لم يقدر عليه فلا يخلي نفسه من الخير الزائد
على الفرائض
الوجه الثاني وفيه دليل على فضيلة الجهاد يؤخذ ذلك من قول الصحابة رضي الله عنهم ولا الجهاد فلولا أن ذلك الحكم قد تقرر منه الا الله ما سألوه عن هذا النوع وقد جاء فيه عنه عليه السلام أنه قال أعمال البر في الجهاد كبزقة في بحر
1 أخرج مسلم من حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعاً من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح
فكأنما قام ليلة
سبق الكلام عنه وقلنا قال العراقي في تخريج الإحياء ۳۰۸/ باب وجوب الأمر بالمعروف رواه الديلمي "
٤٣٨

وهنا بحث وهو لِمَ نَوَّعَ الجهاد وجعل ما هو محذور شرعاً في غيره أرفع الأشياء في الجهاد وهو قوله خرج يخاطر بنفسه وماله وهذا ممنوع في غيره لأن المخاطرة ممنوعة ثم لم يجعله أفضل إلا بعد تحقيق الهلكة بقوله فلم يرجع بشيء وقد قال جل جلاله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة ١
فالجواب أن نقول كل من زاد من نوع ما أمر به حصلت له زيادة المدحة فإن كانت زيادته من غير ذلك النوع لم تحصل له زيادة مدحة مثال ذلك التوكل هو من شرط الإيمان وما جاءت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله حق توكله وكذلك لما كان الإيثار من خصال الإيمان لم تأت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله عزّ وجلّ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ٢
وهذا إذا تتبعته كثير
فلما كانت مشروعية القتال تفضي إلى قتل النفس فزاد المخاطر فيما شرع له بارتكاب المخاطرة حصلت له الفضيلة على غيره للمعنى الذي أشرنا إليه لأن تلك الزيادة في كل موضع أمر فيه بشيء دالة على الإخلاص والصدق وهما أرفع الأعمال وطلب مرضاة الرب بتوفية ما أمر والزيادة على ذلك زيادة في استدعاء الرضا كما قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ ولهذا إذا مدح الفارس قيل فيه فارس أحمق وهو من أعلى مدحه لأن الأحمق هو

الذي يغرر بنفسه وبذلك تظهر فروسيته
الوجه الثالث وفي هذا دليل صوفي لأنهم يقولون لا تبلغ الأحوال النفسية إلا بإذهاب النفس النفيسة والمخاطرة في المجاهدات بها تبلغ الغاية فإذا كان طالب الدنيا الدنية يقول أُحاوِلُ مُلْكاً أو أموتَ فأعْذَرا ٤
من حديث جابر بإسناد ضعيف وقال الزبيدي في شرح الإحياء ۸/۷ ورواه أبو الشيخ ابن حيان من حديث أنس ولفظه في مسند الفردوس ۳۹۱٤ ما أعمال العباد كلهم عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر وفي رواية إلا كتفلة تفلها رجل في بحر لجيّ
۱ سورة البقرة من الآية ١٩٥
سورة الحشر من الآية 9
۹
۳ سورة طه من الآية ٨٤
٤ عجز بيت لامرىء القيس عندما لحق بقيصر يستعينه على استرداد ملكه والثأر لأبيه شرح ديوان امرىء القيس
للأعلم / ص ٥٦
بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دُونَهُ وأيقن أنا لاحقانِ بِقِيْصَرا فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنما نحاول ملكاً أو نَمُوتَ فنعذرا
٤٣٩

وملكها ـ على أن يحصل - ذاهب لا محالة وقد يعقب في الآخرة في الأغلب تعباً دائماً فما بالك بمن يطلب ملكاً أبدياً في حضرة قدسية في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ ۱ وقال وبـــذكــــراه عللــونـي فتقواه شعاري
دعوني يا عذالي في هواه خلعت عذاري
وزمّلوا مطايا أعمالي حثيثة للجوار وبالنفوس جودوا بلا تلعثم منكم ولا اذكار وأيقنوا بوصل الحبيب عند فيض الأدمع الغزار
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة القمر من الآية ٥٥ كذا وردت في جميع النسخ
٤٤٠

1941
حديث جواز التنفل على الدابة في السفر
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى راجليْهِ حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ يُومىء إيماءً صَلاةَ اللَّيل إِلا الفَرائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على جواز التنفل في السفر للراكب للقبلة وغيرها والكلام عليه من
الوجه الأول منها هل هو خاص بمن له راحلة أو هو لكلّ من ركب أي شيء من الدواب الظاهر - والله أعلم - أنه لكل راكب ركب ما ركب من الدواب بدليل ما جاء عنه عليه السلام أنه فعل ذلك على غير الراحلة وقد جاء أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا يتنفّلون إذا كانوا ركباناً أي شيء ركبوا من الدواب
الوجه الثاني فيه دليل لمالك رحمه الله حيث يقول إنه يتنفّل الراكب متوجهاً للقبلة أو لغير القبلة عند ابتداء صلاته وانتهائها خلافاً لمن يقول إنه أول إحرامه يُحرم للقبلة وحينئذ يصلي حيث كان توجهه من الجهات وهذا مصادم للحديث لأنه لم يفرق فيه بين أول الصلاة واخرها وهنا بحث وهو هل هذا خاص بصلاة الليل - كما ذكر في الحديث - أو هو جائز في الليل والنهار فإن قلنا إن هذا تعبّد فلا يتعدى به صلاة الليل وإن قلنا إنه لعلة وهي التخفيف عن المسافر - كما خفف عنه في المفروضة - بأن وضع عنه شطراً فيتعدى الحكم لغيره وهذا هو الأظهر وعليه جمهور الفقهاء فعلى هذا فيجوز التنفل للمسافر ليلا كان أو نهاراً وهنا بحث وهو هل هذا مطلق في كل ما يُطلق عليه اسم سَفَر أو لا يكون إلا في شيء الحدود من جميع الأسفار فالجواب أن نقول هذا موضع خلاف بين العلماء فمن قال إن الصلاة تُقصَر فى كل ما يطلق عليه اسم سفر جاز له التنفل على قاعدة مذهبه ومن قال لا يكون إلا في مسافة معلومة وحال معلوم لم يجز له التنفل هنا إلا على قاعدة مذهبه أيضاً
٤٤١

وضابط الكلام فيه أن نقول هو كالقصر كلّ فيه على مذهبه على الاختلاف الذي في قصر الصلاة فالأكثر من العلماء أنه لا تقصر الصلاة إلا في سفر لا يكون معصية لأن العاصي لا يترخص وأن يكون قدر مسيره يوماً وليلة ويكون ما نحن بسبيله تابعاً لهذا الخلاف لأنه رخصة وكذلك نص عليه العلماء ونصوا أيضاً أنه لا تكون الصلاة إلا كما هو نص الحديث ليس إلا وأن
يقصد بإيمائه وجه الأرض لا كور الراحلة على مذهب مالك رحمه الله
الوجه الثالث فيه دليل على وجوب الاتباع له عليه السلام في أفعاله لأنه لم يجىء أن
أحداً من السلف المبارك اختلف في هذه الصلاة وما نقلت إلا فعلاً الوجه الرابع فيه دليل على أن له عليه السلام أن يشرع ما شاء لأنه لم يُرو عنه أنه أخبر عن هذه الصلاة أنها بأمر من الله تعالى لأن كل ما كان بوحي أخبر به أنه وحي من الله تعالى الوجه الخامس قوله ويوتر على راحلته قد يستدل به من يرى أن الوتر نافلة كما احتج به بعض أصحاب مالك لكنّ هذا لا يتمّ به الدليل من هذا الموضع لكونه عليه السلام فعله على نحو ما فعل النوافل لأنه يحتمل أن يكون كما ذكروا ويحتمل أن يكون هذا من الفرائض التي خصت بالرخصة لأنه واحد لا ينقسم فتكون الرخصة في حقه أن يصلي على الراحلة فإذا احتمل
سقط الاحتجاج
الوجه السادس فيه دليل على فضيلة التنفل بالصلاة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام فعله في السفر وهو موضع تخفيف المفروضة وتغيير الهيئة من أجل المشقة ثم إنه عليه السلام أبقى اسم الصلاة وعملها مطلوب على نَدبيَّتِهِ كما كان
وهنا بحث وهو ما الحكمة في إبقائها مع تغيير حالها في المرض والخوف والسفر كما هو معروف ولم يسامح في تركها في حال من الأحوال مع بقاء العقل فنقول والله أعلم لوجهين أحدهما أنه لما جعلت فرقاً بين الكفر والإيمان فعلامة الإيمان مطلوبة في كل حال كما هو الإيمان مطلوب في كل حال ما عدا زوال العقل فإنه إذ ذاك غير مكلف الوجه الثاني لما جعلت صلة بين العبد وربه فالصلة بين العبد والرب محتاج إليها العبد فأبقيت عليه وخففت عليه في تنويعها بحسب عذره كما هو معلوم ولهذا المعنى قال واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجَة ۱ لأن أكبر الاستعانة للعبد الضعيف الصلة التى تكون بينه وبين مولاه فيها
يحسن عليه العائد فيما يؤمله
۱ جزء من حديث أوله إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو موضوع الحديث ٦
الم
الم
الله
ذل
الا
A
و
٤٤٢

خَلَقْتُ
ومما يشبه ما ذكرناه في شأن الصلاة ما جاء في شأن العبادة لما كان المراد منا بمقتضى الحكمة الربانية العبادة ودوامها ولذلك خلقنا كما أخبر مولانا سبحانه بقوله عزّ وجلّ وَمَا تلقت الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونو ۱ وهو عزّ وجلّ غني عن عبادتنا وعَنْ كل شيء لكن اقتضت الحكمة لأمر لا يعلمه إلا هو كما قال عزّ وجلّ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ٢ أي الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات وما تحدث فيه الناس هنا على اختلاف أقوالهم فكل يحتاج إلى دليل قطعى فى ذلك ولا يكون الدليل القطعي في ذلك إلا من طريق النبوة ولم يجىء فيما نحن بسبيله من طريق النبوة شيء فالذي يجب هنا من الإيمان هو أن نؤمن أنه عزّ وجلّ المستغني عن جميع المخلوقات بأسرها وأنه جلّ جلاله ما خلق منها ذرة ولا أكبر ولا أصغر إلا لحكمة والحكمة فيما عقل منها بطريق صحيح أو محتمل إذا لم يكن ينافي أصول الشريعة

وفيه زيادة قوة في الإيمان لأنه إذا كان الإيمان على القاعدة التي ذكرناها آنفاً وهي غناه عزّ وجلّ عن كل شيء وأن كل الأشياء لحكمة استأثر بها جلّ جلاله مع التنزيه والتقديس كما يجب فهذه زيادة - لا شك في ذلك من الله علينا بذلك بمنه
ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه وهو أن ما خلقنا إليه وأريد منا من دوام العبادة مع ما طبعنا عليه من ضعف الخلق وما فطرنا عليه من الاحتياج إلى ضرورة البشرية من أكل وشرب وغير ذلك مما نعلمه من نفوسنا بالضرورة فجمع ذلك هنا بحكمة لطيفة لا يُنتبه إليها إلا بفيض رباني وإلهام لمن ألهم إليها لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن أعلى العبادات وأنجاها من عذاب الله ذكر الله فجعل
لنا أجلّ العبادات ـ وهو ذكره عزّ وجلّ - في كل حركاتنا وسكناتنا فمنها فرض ومنها ندب والندب فيها بعضه أكد من بعض فجعل لنا ألا نأكل ولا نشرب ولا ننكح ولا نلبس ثوباً ولا نجرده ولا ندخل فراشاً ولا ندخل منزلاً ولا نخرج منه ولا ندخل موضع الحاجة ولا نخرج منه ولا نصطاد صيداً ولا نذبح شيئاً مما نأكل لحمه ولا نسافر إلى موضع ولا نتكلم كلاماً له بال إلا ونبتدىء ذلك كله بذكره عزّ وجلّ وذكر أسمائه
فمنها ما إذا لم نفعله حرم علينا ذلك الشيء ولم يحل لنا أكله مثل التسمية على الحيوان المذكى على الصيد وما أشبه ذلك لقوله تعالى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ٤
1 سورة الذاريات من الآية ٥٦
سورة الفرقان من الآية ٦ ۳ هنا جواب لما ٤ سورة الأنعام من الآية ١٢١
٤٤٣

رأحلت لنا ذكاة أهل الكتاب وإن كانوا كافرين بسيدنا محمد لكن لما أقروا به جل جلاله وذكروا اسمه عند ذكاتهم والأمر لهم كما هو لنا أبيح لنا أكل طعامهم والمجوس لما لم يعترفوا
به عزّ وجلّ لم يَحِلُّ لنا من ذكاتهم شيء لبعد النسبة
ومنها ما الذكر فيه سنة مثل دخول موضع الخلاء والمنزل والفراش وما أشبه ذلك ومنها ما الذكر فيه مستحب ومثل استفتاح الأعمال لأهلها من دنيا كانت أو أخرى بالتسمية وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أتاها صانع يصنع لها شيئاً مثل خياطة أو غيرها من ضرورات الدنيا تسأله فى أثناء عمله هل سمّيت الله عزّ وجلّ أم لا فإن قال لها إنه سمّى تركته وما هو بسبيله وإن قال لها إنه لم يفعل تقيمه عن تمام العمل لكونه لم يذكر الله أولاً وهذا وما أشبهه من قبيل المندوب وكذلك الذكر عند الاستيقاظ من النوم وشبهه فانظر إلى هذا المعنى العجيب وهذه الطريقة السهلة اللطيفة ألا يعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۱ إلا أن هذا المقام لا يحصل ولا يشم منه رائحة إلا مَن مُنَّ عليه باتباع سنته ل ثم زاد عزّ وجلّ هذا المعنى الذي أشرنا إليه تأكيداً بقوله على لسان نبيه عليه السلام مَن ذَكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومَن ذكرني في مَلا ذَكَرتُه في ملأ خير منهم ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وبقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَما وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ ٣
فانطر إلى هذه الإشارة حتى لا يكون من العبد حالة من الأحوال إلا وهو فيها في عبادة مستقلة لأنه لولا ما جاء هذا على هذا النوع لم تكن تعلم العبادة إلا في التخلي عن الدنيا مرة واحدة والاشتغال بالآخرة وهذا مع ما خلقنا عليه من الاحتياج متناف فجَمَع لنا بهذا الطريق العجيب وأرشدنا إلى جميع الخير بأيسر الأشياء وأقربها فضلاً من الله ورحمة وكل ما ذكرنا أولاً من أنه أمرنا بالتسمية عند ابتداء الأكل وغير ذلك ولم نُسَمِّ في ذلك حديثاً إنما قصدنا بذلك الإرشاد والإلهام لذلك الخير ليقدر قدره وما من وجه مما ذكرنا إلا وقد جاءت فيه أحاديث عديدة لا واحد فإن أطال الله العمر وأمكن العون منه ألفناه - إن شاء الله - في كتاب وحده ليكون أيسر لمن أراد الوقوف عليه بعونه وفضله إن شاء الله تعالى
۱ سورة الملك من الآية ١٤
أوله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني إلى آخره رواه الإمام أحمد والشيخان
والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۹۱

٤٤٤

له
رفوا
مية
ولهذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم
لأنهم لا يزالون دائماً ذاكرين متوجهين فحصل
لهم اسم الخصوص بما به خُصوا ولذلك قالوا إن كنت صادقاً في محبتنا فالحب حيث أب بذكر حبيبه يَؤُبُّ ۱ لأن دوام الذكر منادمة ومحاضرة يشهد لذلك قوله جل جلاله على لسان نبيه عليه السلام أنا جليس من ذكرني ٢ فافهم إن كنت فطِناً ما به عُنيت ومن أنت يا مسكين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ي
1 الحب المحبوب والمحبّ أب تهيأ واشتاق وقصد
أوله قال موسى أي رب أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك قال يا موسى أنا جليس من ذكرني أخرجه
ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن كعب الأحبار
٤٤٥

ذكر
حديث أشراط الساعة
عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلمِ وَتَكثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقارَبَ الزَّمانُ وتظهرَ الفِتَنُ وَيَكثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتلُ - حَتَّى يَكثُرَ فيكُم المالُ فَيَقيضَ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن الخمسة المذكورة فيه من علامة الساعة وقربها والكلام عليه من
منها هذا العلم الذي يُقبض ما المراد به هل المنقول وغيره فنقول - والله الموفق - العِلم المشار إليه هنا هو النّور الذي به الفهم عن الله و لعن رسول الله الله لأن الكتب لم تزل بل هي تكثر لكن الفهم والعمل هو الذي قلَّ كما تكلمنا عليه قبل في الحديث الذي قال عليه السلام فيه إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ۱

وقوله وتكثر الزلازل فهل هذا فيه معنى من الحكمة يفهم أو ليس لنا من طريق إلى ذلك أما وجود الحكمة فيه فلا شك فيها وأما هل نعرفها أم لا فالجواب أما بالنظر بمقتضى ما جاء في الشريعة من الحكمة أو بالعادة الجارية إذا نظرنا بمقتضاها فهي واضحة وأما بالقطع فما أحد يدري ذلك فبحسب ما استقرينا من الشرع وجدنا الحكمة فيه من وجهين الوجه الواحد أنه ما أجرى الله العادة في الزلازل إلا لوجهين الواحد انتقاماً ممن يريد كما ورد في الأخبار أن كثيراً من الناس هلكوا بها حتى إلى زماننا هذا وقد تواتر عندنا بإفريقية حين كنت بها أن موضعاً زلزل بأهله حتى ساخت بهم الأرض وكانوا أهلاً لذلك لما كان فيهم من

تتمة الحديث ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما
العذا
تتقدم
و بجے کے بچے کی پیج تاح
محل
المن
الما
وام
الي
أنا

٤٤٦

1,
الفساد و الآخر تخويفاً لأهل التخويف لأنها من جملة الآيات وقد قال عزّ وجلّ ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالآيَاتِ إِلَّا تخويفا ۱ فإذا قربت الساعة فبالقطع أن الفساد يكثر وهذا من جملة العقاب ـ كما ذكرنا ـ وليتذكر بها أيضاً من سبقت له السعادة

وأما الوجه الآخر من الحكمة فهو لما كانت القيامة بالزلزلة العظمى ـ كما أخبر جلّ جلاله ـ فَدُكَّنَا دَكَّةً وَاحِدَةً ٢ وقال جل جلاله وَلَقَدْ أَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بابا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ۳ المعنى أنهم أولاً أخذوا باليسير من العذاب إعذارا لهم لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا جاءهم العذاب المهلك فهذه سنة الحكيم أن يبدأ من العذاب بالقليل ليرجع من فيه أهلية للخير ويحق الأمر على من هُوَ له أهل فكذلك الساعة تتقدمها تلك الزلازل لأن الحكمة اقتضت الإنذار وإن كان لا ينفع من حقت الكلمة عليه فيتمادى على ما هو عليه من الفجور فيأتيه ذلك البلاء العظيم حِكْمَةٌ بَلِمَةٌ فَمَا تُنْنِ النُّذُرُ ٤ فلما كانت الساعة كما ذكرنا أولاً زلزلة واحدة تدك بها الأرض دكاً تقدمت الزلازل وكثرت حتى تكون كثرتها تخبر بوجود الزلزلة العظمى من جنسها
وقوله عليه السلام ويتقارب الزمان فيه بحث وهو هل يتقارب الزمان حسًا أو معنى محتمل والظاهر أنه اهما معاً لأنه قد جاءت الإشارة في الآثار بالمعنيين منفردين فيكون المقصود - والله أعلم - جمع المعنيين أما أحدهما وهو المعنوي فقد ظهر فنحتاج إذا إلى بيان المعنوي والحسي والإشارة التي في الآثار بهما
فأما المعنوي فهو كناية عن نقص العمر فإن رأس مال المرء عمره وربحه فيه حسن عمله وإذا قل العمل المبارك كان الزمان ناقصاً لأجل نقص الفائدة فيه مثل الشجر والثمر إذا نقص الشجر قلنا نقص الثمر قال جل جلاله وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ٥ وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول كل يوم لا أزداد فيه علماً ولا ﴾ أتخذ فيه يداً لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم وقال بقية عمر المؤمن لا ثمن لها
۱ سورة الإسراء من الآية ٥٩ سورة الحاقة من الآية ١٤ سورة المؤمنون الآيتان ٧٦ و ٧٧

4 سورة القمر من الآية ٥ ٥ سورة البقرة من الآية ١٥٥
٦ رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع العلم بسند ضعيف عن السيدة عائشة
رضي الله عنها
٤٤٧

يصلح فيها ما فسد ۱ فما يصلح ما فسد إلا بالتوبة والعمل الصالح لأنه يتدارك به نفسه وما ذاك - أعني قلة العمل - إلا لغلبة حب الدنيا على القلوب والاشتغال بها وتقدمتها على عمل الآخرة وقد نبه على هذا المعنى بقوله أنتم في زمان وذكر من صفات أهله أنهم يُبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي زمان وذكر من صفات أهله أنهم يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم وقال عليه السلام من ابتدأ بحظه من دنياه فاته حظه من اخرته ولم ينل من دنياه إلا ما كتب له ومن ابتدأ بحظه من آخرته نال من آخرته ما أحب ولم يفته من دنياه ما كتب له ۳ عليه السلام من شروط الساعة وذكر فيه ويقل العمل والأحاديث في هذا الشأن كثيرة فبان ما
قلناه من الوجه المعنوي هذا من طريق الفقه والنقل
وقال
وأما من طريق أهل المعاملات فإنهم يقولون الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك ومعناه عندهم إن لم تقطعه بالعمل قطعك بالتسويف هذا من طريق الأعمال الأخروية وأما من طريق الأعمال الدنيوية فقد ظهر أيضاً النقص فيها في جميع محاولاتها وبان أما الصناع فما منهم من يقدر أن يبلغ في صنعته مثل ما سمع عَمَّن تقدم وكذلك التجار وكذلك الفلاحون وكذلك الملوك وغير ذلك من وجوه متاع الدنيا النقص الكثير قد ظهر في جميع ذلك وما ذاك إلا من قلة توفيتهم لحقوق الله تعالى وأحكامه وتهاونهم بذلك وكثرة مكر بعضهم ببعض فارتفعت البركات من أبدانهم وأموالهم وارائهم وعاد الوبال على الجميع وهم لا يشعرون ويتعجبون من قلة البركات من أين تأتيهم وهم لم يتركوا من مجهودهم في الطلب شيئاً
فجاوبهم لسان الحال قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ٤ لأن هذه الصفات تخالف مقتضى الإيمان لأن الإيمان - كما أخبر لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ٥ وقال عليه السلام المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ٦ وقال عليه السلام الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وعلى ذلك كان السلف رضي الله عنهم
1 لم نقف على مصدره انظر تخريجه في الحديث ١٤
۳ لم نقف على مصدره
٤ سورة ال عمران من الآية ١٦٥
0 أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

۷ قطعة
لعله أراد حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعند مسلم من الخير أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قطعة من حديث أوله من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما =
ومن ستر

4
کال
الار
لي
333
قال

٤٤٨

وقد رأيت في بعض التواريخ أن أحد الملوك لَمَّا ملك بعض البلاد وجد في الخزانة حبة قمح جرمها زائد على المعروف من القمح بزيادة كثيرة فسأل عنها فلم يجد من يعرف لها خبراً إلا شيخاً كبيراً قد عُمِّر فقال أعرفها ولذلك أن شاباً وشيخاً اشتركا في زرع فلما درسا زرعهما قال أحدهما للآخر ننقل هذا الطعام إذا قسمناه بالنوبة تحمل أنت مرة وأحرس أنا نصيبي ونصيبك ثم أحمل أنا مرة أخرى وتحرس أنت نوبتك
فلما قسما جعل الشيخ يحمل مرة من نصيبه وكان ذا عيال ويقعد الشاب يحرس فإذا

غاب الشيخ يقول الشاب في نفسه هذا شيخ وله عائلة فأحتاج أن أعينه فيأخذ من نصيب نفسه ويزيد في نصيب شريكه فإذا نقل الشاب في نوبته وقعد الشيخ يحرس يقول الشيخ في نفسه هذا شاب والناس يقصدونه فأحتاج أن أعينه فيأخذ الشيخ من نصيب نفسه ويزيد في نصیب شريكه فبقي ذلك دأبهما وهما ينقلان والغَلَّة تكثر ويكبر جرمُها حتى عَيِيَا وفشلا من حمل القمح ورأياه قد كثر حتى خرج عن الحَدّ المعروف
فسأل أحدهما الآخر وحلفه أن يصدقه ما يفعل بعده فأخبر كل واحد منهما صاحبه ما يفعل في غيبته فاشتهرت المسألة حتى بلغت أميرهم فوجه لأن يرى من ذلك القمح شيئاً فلما رآه قال ينبغي أن يُجعل من هذا شيء في الخزانة فيبقى لمن بَعْدُ فيه موعظة وتذكار فلما وفيا حقيقة الإيمان من طريق الأدب عادت عليهم بركات الإيمان وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ١
وأما المحسوس فلم يظهر بعد بدليل أن ساعات الليل والنهار باقية على حالها وقد أخبر بنقصها حِسا بقوله تكون السَّنَّة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة إلى آخر الحديث فهذا مما بقي خروجه وقوله عليه السلام وتظهر الفتن هذه الألف واللام هل هي للجنس أو للعهد احتملت
الأمرين معاً
فإن كانت للجنس فكل ما ذكر عليه السلام في هذا الحديث من جملتها وكذلك جميع ما
كان العبد في عون أخيه الخ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ۱ سورة الأعراف من الآية ٩٦
لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه
٤٤٩

جاء من الأحاديث فيها إلا أن هنا بحثاً وهو ما فائدة قوله عليه السلام وتظهر الفتن وهو عليه السلام قد أخبر عنها معيّنة في أحاديثَ عِدة فالجواب أن إخباره عليه السلام بها على هذه الصيغة لوجهين أحدهما تأكيد لما أخبر عليه السلام به من الفتن أنه لا بد أن تظهر في عالم الحس قبل قيام الساعة و الوجه الآخر أنها تكثر عند قرب الساعة ويتوالى خروجها بعضها إثر بعض حتى كأنها دائمة الظهور ولا تكاد تزول كما أخبر عند كثرتها يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ويُمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا ۱
وإن كانت بمعنى العهد فتكون الإشارة إلى تلك الفتن الكبرى التي هي مع الساعة كهاتين وهي مثل الدجال وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وقد جاء أن التي تظهر
منهن أولاً يتبعها الباقي وينقضي جميعهن في ستة أشهر أعاذنا الله من جميعهن بمنّه وقوله عليه السلام ويكثر الهرج - وهو القتل يريد القتل الذي يكون بغير حق لأن القتل في الحدود رحمة للبلاد والعباد لأنه قال الأنْ يُقامَ حَدٌ من حدود الله في بقعةٍ خَيرٌ لهم من أن تُمطِرَ عليهم السّماءُ ثلاثين يوما ۳ وفي حديث ثان أربعين يوماً وما يكثر القتل في غير حق إلا لقلة العلم والدين وعند قرب الساعة يكثر ذلك وقد جاء ما يؤيد هذا وهو قوله عليه السلام حتى لا يعرف القاتل فيم قتل ولا المقتول فيمَ قُتِل ٤
وهنا بحث وهو أن هذا القتل مذكور في جملة الفتن فلم كَرَّره في هذا الحديث فالجواب أنه إنما كرره لأجل شناعته وقبحه
وقوله عليه السلام حتى يكثر فيكم المال فيفيض المال هنا المراد به الفضة والذهب لا غيرهما وإن كان ينطلق المال عند العرب على الإبل وعند كل ناس بحسب ما غلب عليهم وقد تقدم الكلام على هذا قبل فنحتاج الآن أن نبين كيفية خروجه ولماذا نخصصه بأنه الذهب والفضة فيتخصص بدليلين أحدهما من الحديث نفسه و الآخر من غيره من الأحاديث
پیله
اتنا
مالة
۱ لفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه إشارة إلى حديث بعثتُ أنا والساعة كهاتين وأشار بالوسطى والسبابة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حنبل والطبراني والدارمي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ لفظه حَدٌ يُعمَل في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمطَروا ثلاثين صباحاً أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

لفظه والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل أخرجه مسلم وتفرد به عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٥٠

ي
عة
من
لا
فأما الذي من الحديث نفسه فقوله عليه السلام يفيض فإن هذه الصفة لا تستعمل حقيقة إلا فيما يخرج من الأرض من المال والماء وقد تستعمل مجازاً في غير ذلك إلا أنه لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل والحكم أن يحمل اللفظ على ظاهره ما لم يعرض لذلك معارض شرعي ولا معارض هنا
وأما الدليل الآخر الذي يؤخذ من غيره من الأحاديث فإنه قد جاء أن الفرات ينحسر عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس حتى يقتل من المائة تسعة وتسعون وما يبقى من المائة غير واحد ۱ وقد جاء أن الأرض تخرج كنوزها إلا أنه بعدما يلقى الشح على الناس ويقل عندهم المال من أجل الشح ثم يأمر الله تعالى الأرض أن تخرج كنوزها فيمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها منه فيقال له لو جئت بها بالأمس أخذناها وأما اليوم فلا حاجة لنا بها
وأما كيفية خروجه فكما تقدم في هذين الدليلين المذكورين من خروج كنوز الأرض وجبل الذهب وهذه العلة التي هي قلة المال مع الشح موجودة في كل الأزمان لقوله عليه السلام ما طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يقول أحدهما اللهم أعط لمنفق خلفاً والآخر يقول اللهم أعط لممسك تلفا ۳
وهنا بحث إذا قلنا إن قلة المال من الشح فما موجب خروجه فالجواب أن الفتنة في خروجه أكثر مما في منعه لا سيما مع العلة التي ذكرنا أنه لا يجد لمن يعطي صدقته وأي فتنة أكبر من هذه وخروج المال أيضاً من أكبر الفتن
وفائدة هذا الحديث التصديق بما فيه من الآيات وقوة الإيمان بقدرة القادر على ذلك والعمل على الخلاص منها بما أخبر هو الا الله وحين ذكر الفتن فقيل ما تأمرنا إن أدركنا ذلك فقال الجأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات ٤ فقد ظهرت أكثرها فهل مشمر للنجاة بما أرشد إليه
الصادق المصدق
1 لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون ويقول كل رجل لعلي أكون الذي أنجو أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ۳ لفظه ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر
اللهم أعط ممسكاً تلفاً متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ سبق الكلام عنه في الحديث ٦ بأنا لم نعثر عليه بهذا اللفظ وإنما هناك أجوبة نبوية فيها الأمر بلزوم كتاب الله
وجماعة المسلمين
٤٥١٠

وهنا بحث صوفي وهو أنه لما علم أهل هذا الشأن أن النجاة من تلك الفتن العظام هو بالإيمان والأعمال الصالحات أيقنوا أن ذلك فيما هو أقل منها من باب الأحرى والأولى فلم يشغلوا نفوسهم بغير الإيمان ودوام الأعمال الصالحات ولما رأوا أن الدار لا بد من انقضائها صيروا الأول منها آخراً والآخر منها أولاً ولذلك قال إذا كانت الدار لا تبقى فمتاعها فان فاعمل لدار لا تفنى ومتاعها باق واعمر بالربح زمانك ولا تدعه خالياً والحمد الله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٢
بالما قلة نا

حديث إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً
عَن عَبدالله بن عمرو ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ قالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ألم أُخبَر أَنَّكَ تَقومُ اللَّيلَ وَتَصومُ النَّهار قُلتُ بلى إِنِّي أَفعَلُ ذلكَ قالَ فَإِنَّكَ إِن فَعلتَ ذُلِكَ هجَمَت عَينُكَ وَنَفِهَت نَفْسُكَ ٢ وَإِنَّ لنَفْسِكَ علَيكَ حَقًّا ولأهلك علَيكَ حَقًّا فَصُمْ وَأفطِرْ وَقُمْ وَنَمْ ۳
ظاهر الحديث يدل على منع دوام الصيام والقيام لأجل علة عجز البشر عن ذلك والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن الحكم لا يكون إلا على أكمل وجوه التحقق والتثبت يؤخذ ذلك من أن سيدنا لم يخبر أن هذا الشخص وهو عبد الله بن عمرو بأنه يقوم الليل ويصوم النهار إلا من بعدما استفهمه عما قيل له وإن كان سيدنا يعلم أن الذي أخبره صادق لأن الصحابة كلهم رضي الله عنهم مقامهم مقام الصدق والدين لكن لما بقي وجه من تحقيق الأمر وهو سؤال الشخص نفسه لم يتركه عليه السلام حتى سأله وتيقن ذلك منه مشافهة
وفي سؤاله عليه السلام للشخص نفسه من الفقه وجوه منها ما ذكرنا من التحقيق وليقعد قاعدة شرعية في ذلك ولأجل أن يعلم أيضاً هل كان ذلك الوقت له نية ما نواها ولم يتلفظ بها حتى تنقل عنه أو ليس ولأجل أنه قد يكون أيضاً معلقاً بشرط ما وذلك الشرط قد لا يعرفه
سنة
1 عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي صحابي من النساك وأحد العبادلة الأربعة في الفقه والحديث قال أبو هريرة ما كان أحد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه يكتب ولا أكتب وكان كثير العبادة والتلاوة وكان يشهد الحروب والغزوات ويضرب بسيفين وحمل راية أبيه يوم اليرموك وشهد صفين مع معاوية روي له ۷۰۰ حديث وقلت الرواية عنه لسكناه في مصر بخلاف أبي هريرة في المدينة المنورة توفي ٦٥ هـ / ٦٨٤م واختلفوا في مكان وفاته قيل بمكة وقيل بالطائف وقيل بعسقلان في فلسطين نَفهت نفسك أعيت وكلت راجع الحديث ١٨٤

٤٥٣

9
القائل أو يعرفه أو قاله بغير عزيمة على فعله حتى يرى على ما يعوّل عليه إلى غير ذلك من الاحتمالات فمن أجل هذا المعنى كان السؤال والله أعلم
ولذلك قال العلماء إن السنّة على أنواع عديدة فمنها سنة يجب العمل بها مع عدم تحققها - وهي الحكم بشهادة الشاهدين - لأن الغلط في حقهما ممكن والصدق كذلك إلا أنه قد أمرنا بإنفاذ الحكم بهما إذا تيقنت عدالتهما فعلى هذا فمن أنفذ حكماً من الأحكام دون ثبوت الموجب له بالإثبات التام بمقتضى الشرع فهو ضلال محض وإن وافق في الغيب عين الحق لأنه ما أمرنا أن نحكم بالغيب إلا في الإيمان به عزّ وجل حيث أمرنا به الوجه الثاني فيه دليل على جواز التحدث بما يعزم المرء عليه من أفعال البر يؤخذ ذلك من
قول النبي ل ا ل ا ل ألم أخبر فلولا أن الشخص تكلم بذلك ما كان النبي يخبر به الوجه الثالث فيه دليل على أن كل من كان مسترعى رعية صغرى أو كبرى أنه يسأل عن جزئيات رعيته وأنه يجب على من علم منها شيئاً الإخبار له بها يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ألم أخبر فلولا أنه عليه السلام سأل أو كان عندهم مقررا أنهم يخبرونه بما يعرفون من أحوالهم وأحوال إخوانهم ليعلموا حكم الله في ذلك ما أخبر و بذلك لأن هيبتهم له عليه السلام كانت
كبيرة حتى إنهم كانوا يودون أن يأتي بدوي فيسأله فيسمعون منه ما يقول له فيستفيدون الوجه الرابع فيه دليل على فصاحة الصحابة رضي الله عنهم وقلة تصنعهم وقصدهم الحقيقة في الأشياء بلا زيادة يؤخذ ذلك من حسن جوابه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يزد على أن قال إني أفعل ذلك فلم يزد على الإخبار عن حقيقة الذي سئل عنه بلا تصنع في ذلك الوجه الخامس فيه دليل على تعليل الحكم لمن فيه أهلية يؤخذ ذلك من تعليل سيدنا له بهجوم العين ونفاهة النفس التي طبعت عليه البشرية
الوجه السادس فيه دليل على أن الأولى في العبادة تقديم الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقا وهنا بحث ما حق النفس وما حق الأهل وما يعني هنا بالأهل
أما الحق الذي للنفس فقد اختلف فيه أهل الفقه وأهل المعاملات فأهل الفقه يقولون هو أن تُعطيها حظها ممّا تحتاج إليه من ضرورة البشرية وترويحها زماناً ما كما قال روحوا ساعة1 وكما قال عليه السلام إنّ المُنْبَتْ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظَهْراً
ساعة القلوب
بعد
1 أخرجه أبو داود في مراسيله عن ابن شهاب وأبو بكر بن المقري في فوائده والقضاعي عن أنس رضي الله عنه
٤٥٤

أبقى ۱ وهذا الحظ عند هؤلاء السادة الذين قالوا به بشرط أن يكون على مقتضى السنّة وأهل المعاملات يقولون حق النفس الذي لها عليك أن تَقطَعَها عما سوى مولاها
ويمكن الجمع بين القولين بأن نقول أن تقطعها عما سوى مولاها في التعلقات القلبية والأسباب الشرعية وذلك بألا يبقى للقلوب تعلق إلا بمولاها في كل الأحوال ولا تتصرف في الأسباب إلا على لسان العلم المجمع على أنه أرفع الأحوال
يشهد لهذه الطريقة من الآثار حديث معاذ ۳ مع أبي موسى ۳ إذ وجههما رسول الله إلى اليمن يعلمان الناس دينهم فتفرقا لتعليم الناس كما أمرا فلما أن اجتمعا سأل أحدهما الآخر كيف تقرأ القرآن فقال أبو موسى أقرأه قائماً وقاعداً ومضطجعاً وأتفوقه تفويقا ٤ ولا أنام وقال الآخر أما أنا فأقوم وأنام وأحتسب ٥ قومتي كما أحتسب نومتي فتنازعا في ذلك ولم يسلم أحدهما للآخر في الأفضلية حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه فقال النبي لأبي موسى هو أفقه منك يعني عن معاذ الذي كان يقوم وينام
الله وقد حكي عن بعض من نسب إلى هذه الطريقة المباركة أنه حصل له حالة مناجاة واتصال فسأل أن تدام له تلك الحالة فقيل له ألستَ أنت بشراً وهذه الحالة لا تمكن مع بقاء البشرية لكن إذا رجعت إلى أمرنا ونهينا لم تزل عندنا
وأما قولنا ما يعني هنا بالأهل فيحتمل أن يكون عنى به الأولاد والزوجة وكل من تلزمه نفقته شرعاً لأنه إن اشتغل بالعبادة تعذرت حقوقهم وهو المسؤول عنها ويحتمل أن يكون عنى بالأهل الزوجة لأن من حقها على الزوج الإصابة ٦ والصيام والقيام مما يقلل ذلك الشأن فيكون يخلّ بحق عليه وحمله على الأعم أولى لأنه أكبر في الفائدة
الوجه السابع فيه دليل على ضعف البشرية وإن تكلف المرء من العمل زيادة على قدر ما طبعت عليه نفسه يقع له الخللُ والنقص في الغالب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هجمت
دليل
1 أوله إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت الخ أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه انظر ترجمته في الحديث ٤٣ ۳ أبو موسى الأشعري عو عبد الله بن قيس صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين أحد الحكمين بعد حرب صفين كان أحسن الصحابة صوتاً له ۳۵۵ حديثاً توفي بالكوفة سنة ٤٤ هـ / ٦٦٥م
٤ أتفوقه تفويقاً أقرأه مجزاً في أوقات مختلفة
٥ احتسب الأمر ادَّخر أجره عند الله ٦ الإصابة الإتيان بالصواب ومن معانيها المجيء من عَل والإراقة القاموس وفي الحديث أن رسول الله كان يصيب من رأس بعض نسائه وهو صائم أراد التقبيل البداية والنهاية لابن الأثير وتاج العروس
٤٥٥

عينك ونَفِهت نفسك فقوة الكلام تعطي أن من طبع على مثل هذا لا يطيق أن يفعل ما هزم هذا
الصحابي عليه لضعفه عن ذلك ومثل هذا نهيه للصحابة رضي الله عنهم عن الوصال فقالوا له إنك تفعل ذلك فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني أي أنه يمده بالقوة مثل من يأكل ويشرب لأنه لو كان يأكل محسوساً ما صدق أن يقال واصَلَ
ولهذا المعنى كان بعض أهل الصوفة إذا دخل في الوصال يجعل رغيفاً من خبز تحت وسادته فلما كان في بعض الأيام قام إلى ضرورة فأخذ بعض الفقراء الرغيف من تحت الوسادة فلما رجع هذا السيّد إلى مكانه تفقد الرغيف فلم يجده فقال أين الرغيف فقالوا يا سيدنا ما حاجة مثلك لرغيف فقال لهم تأدبوا أتظنون ما ترون مني من جبلة جبلت عليها بل ذلك فضل وفيض رباني فإن رددت إلى حال البشرية وجدت الرغيف أدفع به العدو
ولهذا المعنى بنيت الأحكام على ما هو الأصل في الأشياء أو الغالب منها كمثل تحليل الميتة بعد ثلاثة أوقات لأن وضع البشرية ما تطيق بسبب ما وضعت عليه من الضعف أكبر من ذلك القدر فإن تحملت أكثر منه وقع معها الخلل وقد يكون مع ذلك الخلل موت وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ فإذا زاد المرء على ذلك شيئاً فهو من طريق المن والإفضال عليه لأنه قد جعل الله له بساطاً وهو إجراؤه عزّ وجلّ العادة الجارية لأهل ذلك الشأن بمقتضى الحكمة كما أجرى عزّ وجلّ للغير بالطعام ما أجرى لهم وهي قوة العزم وألا يلتفتوا إلى شيء سواه فمن دخل في هذا الشأن وتشبه بالقوم دون هذا البساط وقع معه الخلل وكان من باب وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى النَّهَلُكَةِ ﴾ ۳ إلا أن يكون له حسن ظن في القوم وتصديق بحالهم فيُلطف به من أجل حرمتهم إلا أنه لا بد في الغالب أن يجد شيئاً من الشدة في نفسه ثم يُحمل عنه للحرمة
الوجه الثامن فيه دليل على أن المندوب في الدين مطلوب على كل حال يؤخذ ذلك من فحوى كلامه عليه السلام بقوله صم وأفطر وقم ونم لأن فحوى الكلام عندهم كالنص المنطوق به لا أعرف في ذلك خلافاً فكأنه عليه السلام يقول له بمتضمن ذلك السكلام لا تشتغل أيضاً
بإعطاء الحقوق وتترك المندوب مرة واحدة ولكن اجمع بين فرضك وندبك
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه والبخاري عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة
وعن السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين
سورة النساء من الآية ١٤٧ ۳ سورة البقرة من الآية ۱۹٥
٤٥٦

وعلى هذا الأسلوب تجد قواعد الشريعة كلها إذا استقريتها فمن أريد به خیر بصر بعيوب نفسه فأبصَرَ رشده ولذلك قيلَ نَظَرُكَ إلى النفس حِجابٌ عما سواها وشغلك بغيرها حجاب عنها فإن اعجبت بها فاتك الحظ مما سواها وإن تعاميت عنها نلت خيرها وخير سواها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٧

حديث الاستخارة في الأمور
عَن جابر بن عبد الله ۱ رضيَ الله عَنهُما قالَ كانَ رَسولُ الله يُعلمنا الاستخارة في الأمورِ كُلها كما يُعلّمنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ يَقولُ إذا همَّ أَحدُكُم بالأمرِ فلْيَركَعْ رَكعتين مِن غيرِ الفَريضَة ثُمَّ لِيَقُلْ اللهمَّ إِنِّي أستَخيرُكَ بعلمكَ وأستَقدِرُكَ بقُدْرَتِكَ وأسألُكَ مِن فَضلِكَ العَظيمِ فَإِنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدِرُ وتعلم ولا أعلم وأنتَ علام الغيوب اللّهُمَّ إن كُنتَ تعلَمُ أنَّ هَذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لي ثُم بارك لي فيه وإن كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرِفْهُ عنِّي واصرفني عنه واقدُرْ لي الخَيْرَ حَيثُ كانَ ثُمَّ أَرْضِنِي به قالَ وَيُسَمِّي حاجتَهُ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على الحض على هذه الاستخارة المذكورة في الحديث والكلام عليه من
الوجه الأول قوله في الأمور هل هو على عمومه أو هو عام والمراد به الخصوص محتمل لكن الأظهر أنه عام والمراد به الخصوص بدليل أن الواجباتِ مطلوبة فإن أُتِي بها وإلا عوقب تاركها فلا يُستخار فيما فيه عذابٌ على تركه والمحرمات أيضاً ممنوع فعلها والعذاب معلق على فعلها وما العذاب مُعَلّق على فعله فلا استخارة فيه فالذي تكون فيه الاستخارة أمران إما نوع المباحات - وهو ما إذا أراد الشخص أن يعمل أحد مباحين ولا يعرف أيهما خيرٌ له جازت له الاستخارة لير شده مَن يَعلم الأمور وعواقبها على ما هو الأصلح في حقه - وإما نوع المندوبات وهو أن يخطر لأحدٍ أن يفعل أحد المندوبات ولا يعرف
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٥٣
٤٥٨

أنها خير له فيستخير وأما نوع المكروه فمكروه أن يُستخار فيه فعلى هذا فهو لفظ عام والمراد به الخصوص ـ كما ذكرنا - وهذا هو في اللسان كثير
وقوله كما يعلّمنا السورة من القرآن احتمل أن يكون الشبه من جهة حفظ حروفه وترتيبها ولا يبدل منها شيء بشيء كما هو القرآن يُقرأ بالفاء والواو ۱ لأن العلماء لم يختلفوا أن القرآن لا يُنقل ولا يُتلى إلا على وضعه بالفاء والواو واختلفوا في نقل الحديث فقيل هو مثل القرآن وقيل يجوز أن ينقل بالمعنى إذا فهم فيكون مراده عليه السلام بهذا الحديث أن حكمه حُكْمُ
القرآن لا يُغيَّر عن وضعه
و
واحتمل أن يكون أراد منع الزيادة على تلك الألفاظ والنقص منها
واحتمل أن يكون الشبه في عَدَم الفَرْضيّة لأن السُّورة - ما عدا أم القرآن - تعليمها من طريق المندوب لأن ما في القرآن فرضٌ تَعلَّمه إلا أم القرآن عند من يرى أنها فرض في الصلاة أم القرآن وإن كان يطلق عليها بمقتضى اللغة سورة من القرآن فقد غلب عليها اسمها المختص بها حتى إنه إذا أراد أحد أن ينص عليها ولا يسميها بهذا الاسم لا يفهم عنه وهي قد غلب عليها هذا الاسم ونحوه من الأسماء التي غلب عليها أيضاً كما غلب اسم الثريا عليها ۳ وإن كانت من جملة النجوم
واحتمل أن يكون الشبه من طريق الاهتمام بها والتحقيق ببركتها والاحترام لها واحتمل أن يكون الشبه من كونها بوحي من الله تعالى كما أن السورة من الله وليس من
عنده عليه السلام
واحتمل أن يكون الشبه في التدريس لها والمحافظة عليها والمعاهدة لذلك كما أخبر عليه السلام عن حامل القرآن أنه مثل صاحب الإبل المعقلة 4 إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقها ذهبت
سائل
واحتمل مجموع ما وجهناه وأكثر وقوله إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر هنا بحث قوله إذا هَمَّ هل هي على وضعها عند أهل الخواطر أو توسعة في المخاطبة فيريد بهم النية احتمل والأظهر - والله أعلم - أن تكون
على بابها

يعني أن القرآن يقرأ كما أنزل لا يبدل منه حرف بحرف
هي سورة الفاتحة وتسمى كذلك أم الكتاب والسبع المثاني
۳ أي على النجم المعروف بهذا الاسم ٤ الإبل المعقلة المعتقلة المحبوسة عقل البعير ضَمّ رُسعَ يده إلى عَضُدِهِ وربطها معاً بالعقال ليبقى باركاً
٤٥٩

ونحن الآن نبين ما ذكره أهل الخواطر وحينئذ نبيّن لِمَ كان ما ذكرنا هو الظاهر فأما
الخواطر عندهم فهي سِتَّة وإن كان قد ذكرناها في أول الكتاب لكن لبعدها احتاج الموضع لها فنذكر منها قدر ما تبين به الفائدة في الترجيح الذي ذكرنا فأولها الهَمَّة ثم اللمَّة ثم الخَطْرَة - وهذه الثلاثة عندهم غير مأخوذ بها - ثم نية ثم إرادة ثم عزيمة وهذه الثلاثة عندهم مأخوذ بها وبعضها أشد من بعض فيكون فائدة ترجيح الهَمَّة أن يكون الحديث على بابه لأنه أول ما يخطر له الخاطر وليس له فيه تلك الرغبة القوية فيستخير عند ذلك فيبين له بعد الاستخارة - بتوفيق
الله - الأرجح
وإنما قلنا ذلك لأنه إذا تمكن الأمر عنده حتى صار له فيه نية وإرادة فقد حصل له إليه ميل وحبّ وقد قال الله حُتُ الشيءَ يُعمِي ويُصِمٌ ۱ فهذا لا يظهر له وجه الأرشد لِمَيله للذي عَزَم عليه ولوجه آخر أيضاً لأن فيه إظهاراً لحقيقة العبودية فأول شيء يرد عليه في ذلك لجوؤه بسببه إلى مولاه فلِحرمة هذا المقام يلطف به لأنه عند أهل المعاملات أعلى المقامات واحتمل أن تكون الهَمَّة بمعنى النيّة ويكون وجه الفقه فيه أن النفس لا تخلو من الخطرات وأكثرها لا تثبت ولا يعمل عليها فلا يستخير إلا على شيء ينويه ويعزم عليه لئلا يستخير في أمر لا يعبأ به فيكون فيه سوء أدب وعلى هذا التعليل يرجح الثاني على الأول ويكون فيه معنى ما من قوله كما يعلمنا السورة من القرآن لأن القرآن لا يقرأ إلا لجَمْع القلب عليه كما قال اقرأوا القرآن ما التلَفَتْ عليه قلوبُكُم فإذا اختَلَفَتْ فقُوموا عنه
وقوله عليه السلام فليركع ركعتين من غير الفريضة هنا بحث قد جاء عنه أدعية كثيرة ولم يشترط فيها صلاة وهنا جعل من شرطها صلاة تختص بها فهل هذا تعبُّد لا يُعقل له معنى أو له معنى معقول فإن قلنا بأنه تعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فنحتاج إذاً إلى بيان الحكمة في ذلك وهذا هو الأظهر أن يكون لحكمة إذ بالقطع لا يفعل الشارع شيئاً من الأشياء
إلا لحكمة
فنقول والله أعلم إن الحكمة هنا هي أنه لما أن كان هذا الدعاء من أكبر الأشياء إذ إنه عليه السلام أراد به الجمع بين صلاح الدين والدنيا والآخرة فطالب هذه الحاجة يحتاج إلى قرع باب المَلِكِ بأدب وحالي يناسب ما يطلب ولا شيء أرفع مما يُقرع به باب المولى من الصلاة لما فيها
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي الدرداء والخرائطي في اعتلال القلوب عن أبي برزة وابن عساكر عن عبد الله بن أنس رضي الله عنهم ٢ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والنسائي والدارمي وأبو عوانة وابن حبان عن جندب رضي
٤٦٠

من الجمع بين التعظيم الله سبحانه والثناء عليه والافتقار إليه حالاً ومقالاً وذكره عزّ وجلّ وتلاوة كتابه الذي به مفاتح الخير من الشفاء والهدى والرحمة وغير ذلك مما هو فيه منصوص ويترتب على ذلك من وجوه الحكمة أن يكون طلب الأشياء بواسطة أولى بحسب ما يقتضيه نسبة مطلبه وقد مضى بين الناس في بعض أمثالهم ما يشبه هذا وهو قولهم من نصب إلى وزة أخذ وزة ومن نصب إلى عصفور أخذ عصفوراً معناه أن الشبكة التي تحبس الوز لا تحبس العصفور والتي تحبس العصفور لا تحبس الوز فقد ظهر بينهما مناسبة ما من طريق الحكمة لأن مقدمات الأشياء على اختلافها كل على ما يليق بها فهذا هو وضع الحكمة وقوله عليه السلام ثم يقول ثم هنا دالة على انتقال الفاعل من حال الصلاة عند تمامها إلى حال الدعاء لأنها تدل على المهلة وقوله عليه السلام اللهم هذه اللفظة هي من أرفع ما يستفتح به الدعاء وقد ذكرنا هذا فيما تقدم بما علل فيه
وقوله إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ معناه أن تنظر لي أنت الخيرة بعلمك الذي أحاط بجميع الأشياء لا بعلمي أنا القاصر عن جميع الأشياء
وقوله وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ أي أطلب منك أن تقدره أنت لي بقدرتك التي لا تعجز عن شيء من الأشياء لا بقدرتي أنا العاجزة عن جميع الأشياء
وقوله وأسألك من فضلك العظيم أي ما سألتك إنما أسأله من فضلك فإنه لا حقَّ واجبٌ عليك فما تفضلت به في مسألتي هذه أو في غيرها فإنما هو من فضلك العظيم و العظيم صفة لفضله عزّ وجلّ ولجميع صفاته و لذاته الجليلة
وقوله فإنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدر وتَعلَمُ ولا أعلَمُ رجعنا هنا إلى ما أبديناه أولاً بمقتضى قوة الكلام الذي أبداه لنا والفائدة في إبدائه لنا لأن الغالب من الناس عدم فهم ما تقتضيه قوة الكلام لأنه لا يعرف ذلك إلا أربابه - وهم قلائل - والدعاء يحتاج إليه من يعرف ذلك ومن لا يعرف فمن لا يعرفه فلا يحصل له بتلك الألفاظ ذلك التنازل المقصود من النفس فتسقط فائدة كبيرة من الأمر وقد تكون هي أقوى الأسباب في النجح فأعاده الله له لهذه الحكمة
وقوله وأنتَ علام الغيوب هذا زيادة في الثناء على المولى الكريم كأنه بقوة الكلام يقول أنت تعلم الغيب في مسألتي ليس علمك بالغيب فيها بحُكم الوفاق ولا لعلّة من العلل بل إنك أنت علام جميع الغيوب على حد الكمال والجلال وزيادة الثناء على المولى من أنجح الوسائل فهذا هو حقيقة الافتقار والاضطرار وهو الحق الذي لم يُبْقِ لنفسه من الدعوى شيئاً وردَّ
الأمر إلى من هو أهله وهو له حق
٤٦١

وقوله ثم قال اللهم إنما أعاد هذه اللفظة لما فيها من الخير والرغبة
وقوله إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني إنما قدَّم الدِّينَ لأنه الأهم في جميع الأمور فإنه إذا سَلم الدين فالخير حاصل تعِب صاحبه أو لم يتعب وإذا اختل الدين فلا خير بعده
وقوله ومعاشي أي في عيشي في هذه الدار
وقوله وعاقِبَةِ أمرِي أي في آخرتي
وقوله أو قال في عاجل أمري وآجِلِهِ الشك هنا من الراوي والمعنى واحد وإنما قال هذا هنا لما كان فيه وفي جميع الصحابة رضوان الله عليهم من التحري في النقل والصدق وقوله فأقدُرْه لي مأخوذ من القَدْر
وقوله وَيسِّرْه لي ثم بارك لي فيه مأخوذ من التيسير مخافة أن يترك في ذلك لنفسه وإن قدر له به فيتعب في تحصيله وقوله وإن كنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري واجله الكلام عليه كالكلام على الذي قبله لكن هنا بحث وهو أنا رأينا أن كل من لازم قوله طلب الخير وقضي له به لا يكون فيه شرّ فما فائدة إعادة قوله وإن كنتَ تَعلمُ أنّ هذا الأمر شر لي في ديني إلى تمام الكلام فنقول فائدة الإعادة لوجهين أحدهما ما ذكرناه أوّلاً وهو أن ما كان يدل بقوة الكلام أعاده نَضًا للعلة التي ذكرنا الوجه الآخر مختلف فيه هل الأمرُ بالشيء نهي عن ضده أو ليس و وجه ثالث وهو الإبلاغ في تحسين الحال
وقوله فاصرفه عني واصرفني عنه البحث هنا كالبحث فيما تقدم آنفاً
وقوله واقدُرْ لي الخير حيث كان هذه إشارة إلى تمام قدرة القادر وهو إبلاغ في التنزيه لأنه قدرته جلّ جلاله البعيد والقريبُ عنده على حالة سواء والإيمان به واجب ومن الدليل على ذلك ما نص عزّ وجلّ في كتابه من قصة عرش بلقيس الذي أتِيَ به لسليمان عليه السلام لما دعا الذي عنده علم من الكتاب في لمحة البصر وكان من البُعدِ حيث كان ومن الدليل على ذلك من طريق العقل أنه لو عجزت قدرته عزّ وجلّ عن ممكن ما صح له الكمال والكمال لا بدّ من وصفه عزّ وجلّ به فلا يعجز إذا عن شيء من الأشياء
وقوله ثم أرضني أي أرضني به لأنه إذا قضى له ما فيه الخير ولم يَرضَ فقد تنغص ومن تنغص حاله ما كَمُلت له عافية فهذا من كمال العافية أيضاً
وقد ذكر أهل الصوفة أنه من استخار في شيء فقُضي له فيه قضاء ولم يرض فإنه عندهم من الكبائر الذي يجب منه التوبة والإقلاع لأنه من سوء الأدب وما قالوه ليس يَخفَى لأنه لما رجع هذا العبد المسكين إلى هذا المولى الجليل ورغب منه أن ينظر له بنظره فكيف لا يرضى
٤٦٢

فهذه صفة تشبه النفاق بل هو النفاق نفسه لأنه أظهَرَ الفقر والافتقار والتسليم ثم أبطَنَ ضِدَّ ذلك فأين هذا الحال من قوله أستخيرك بعلمك على ما بيّناه أولاً وقد ورد في الحديث ما معناه أنه عزّ وجلّ يقول ما غضبتُ غضباً أشدَّ من غضبي على من استخارني في أمر فقضيتُ له فيه قضاء
وكرهه ۱ أو كما قال
وهنا بحث لِمَ سُمِّيت الحاجة وهو عزّ وجلّ يعلمها لأنها من جملة الغيوب فالبحث هنا كالبحث في قوله وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي لكن هنا زيادة لأنه قد يكون في إيمان بعض العوام ضعف فيلحقه الشك هل يعلم حقيقة أم لا وإن كان جهل بعض العوام بعض الصفات لا يخرجه من دائرة الإيمان على ما عليه أكثر أهل السنّة لكن لما كان هذا الموضع من المواضع التي لا يمكن فيها إلا الإيمان الجازم من أجل قضاء الحاجة أتى بما يحقق الإيمان الذي هو الأصل في هذه الفائدة لأنه فرّق بين البقاء في دائرة الإيمان وقضاء الحاجة فلقد يكون في دائرة الإيمان ولا تُقضَى له حاجة إلا أن يأتي الله بمن يشفع له ولأن دعاءه هو الشفيع له فإذا كان إيمانه ناقصاً لم ينفعه

فهذا أقوى دليل لأهل الصوفة الذين يرون بدوام الفقر والافتقار والتخلي في كل الأنفاس إذ بفقر ساعة يستفيد هذه الفائدة فما بالك به إذا كان دائماً وقد كان بعض أهل هذا الشأن إذا وقعت لبعض الفقراء حاجة فيلجأ فيها إلى الله فيتفضل عليه بقضائها فيقول له يا سيدي ما أجل
اللجأ إلى الله ! فكان جوابه رحمه الله أن يقول لِمَ تَحُودُونَ عنه حتى تحتاجوا الرجوع إليه فانظر عباراتهم كيف تخرج مع أصول الشريعة على حد سواء وإن كان بعضهم لا يعرف القاعدة في ذلك الموضع لأن النبي ل لقد قال من رُزِقَ مِن باب فَلْيَلْزَمْهُ فإذا رأى أن الخير كله في الرجوع إليه فَلِمَ يَحُودُ عنه حتى يحتاج أن يرجع إليه كما ذكر هذا السيد سواء وقد قال عليه السلام كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن شَغَلَه ذِكْرِي عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين ۳ فانظر بعين بصيرتك بباب من تقف وأي جهة تقصد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 وجدنا في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضى ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وسخطه بعد القضاء رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب
٢ أخرجه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه ٣ سبق تخريجه في الحديث ٤٧ ولفظ المؤلف كناية عن مولانا تعني أن ما سوف يورده هو حديث قدسي وللمحدثين صيغ عدة عن الحديث القدسي منها ما أورده المؤلف ومنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ومنها قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله والمؤدَّى في العبارات كلها واحد
٤٦٣

حديث ما بين بيته ومنبره لي
عَن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ الله قال ما بَينَ بَيْتِي وَمِنبَرِي رَوضَةٌ مِن رياض الجنَّةَ وَمِنبري علَى حَوضِي
ظاهر الحديث يدل على أن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة ومنبره على حوضه والكلام عليه من وجوه
منها هل تنقل تلك التربة بعينها فتكون في الجنة أو معناه أن العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة اختلف العلماء في ذلك على قولين فمن قائل بالوجه الأول ومن قائل بالوجه الثاني والأظهر - والله أعلم - الجمع بين الوجهين معاً لأن لكل وجه منهما دليلاً يعضده ويقوّيه من
جهة النظر والقياس
أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة في الجنة فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده كما كان عليه السلام بألف فيما سواه من المساجد فلهذه البقعة المذكورة زيادة على باقي البقع للمسجد زيادة على غيره كما ذكرنا
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة وكون المنبر أيضاً على الحوض - كما أخبر عليه السلام وأن الجذع في الجنة والجذع في البقعة نفسها فبالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء - على ما أذكره بعد - والذي أخبر بهذا صادق فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقع المباركة فائدة بركتها لنا والإخبار بها لتعميرها بالطاعات فإن الثواب فيها أكثر وكذلك الأيام المباركة أيضاً
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أن تكون تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما هو الحجر الأسود من الجنة وكما هو النيل والفرات من الجنة وكما أن الثمار الهندية من الورق التي هبط بها ادم عليه السلام من الجنة فاقتضت الحكمة أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة ومن ترابها و من حجرها ومن فواكهها حكمة حكيم جليل
٤٦٤

وقد روي أن أول ما خلق من العالم الآدمي طينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جبريل عليه السلام نزل مع الملائكة في جمع كبير من جلتهم فأخذوا تربة سيدنا من موضع قبره ثم صعدوا بها وعجنت بالسلسبيل ثم غمست في جميع أنهار الجنة حتى رجع لها نور عظيم وطيف بها في العالمين حتى عُرفت ثم أكبَّها ١ الله عزّ وجلّ يمين العرش حتى خلق آدم عليه السلام
وقد روي عن كعب الأحبار ۳
رضي
الله عنه أنه لما أراد الجليل جلّ جلاله أن يخلق محمداً أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها قال فهبط جبريل عليه السلام وملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى فقبض قبضة من موضع قبر رسول الله وهي بيضاء منيرة فعجنت بماء التسنيم وغمست في معين أنهار الجنة حتى صارت كالدرة البيضاء ولها نور وشعاع عظيم حتى طافت الملائكة حول العرش وحول الكرسي وفي السّماوات وفي الأرض والجبال والبحار فعرفت الملائكة وجميع الخلق محمداً عليه السلام وفضله قبل أن يعرفوا آدم عليه السلام فلما خلق الله ادم عليه السلام وضع في ظهره قبضة رسول الله فسمع ادم في ظهره نشيشا ٤ كنشيش الطير فقال ادم يا رب ما هذا النشيش فقال هذا تسبيح نور محمّد عليه السلام خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فخذه بعهدي وميثاقي ولا تودعه إلا في الأرحام الطاهرة فقال آدم أي ربّ قد أخذته بعهدك ألا أودعه إلا في المطَهَّرين من الرجال والمحصنات
من النساء فكان نور محمّد يتلألأ في ظهر ادم وكانت الملائكة تقف خلفه صفوفاً لما يرون
فلما رأى آدم ذلك قال أي رب ما لهؤلاء ينظرون خلفي صفوفاً فقال الجليل له يا ادم ينظرون إلى نور خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فقال أي رب أرنيه فأراه الله إياه فآمن به وصلى عليه مشيراً بأصبعه ومن ذلك الإشارة بالأصبع بلا إله إلا الله محمد رسول الله فقال ادم اجعل هذا النور في مقدَّمي كي تستقبلني الملائكة ولا تستديرني فجعل ذلك النور في جبهته فكان يرى في غرة ادم دارة كدارة الشمس في دَوَرَان فلكها وكالبدر في تمامه وكانت الملائكة تقف أمامه صفوفاً ينظرون إلى ذلك النور ويقولون سبحان ربنا - استحساناً لما يَرَوْن
1 أكبّ الرجل على عَمَل عَمِله إذا لزمه ولم يعدل عنه والمقصود من عبارة المؤلف أن الله تعالى جعل العجينة
التي خلق منها رسول الله يمين العرش حتى خلق ادم عليه السلام
الرواية المذكورة لم ترد في كتب السنة كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن وأسلم في زمن أبي بكر وقدم المدينة في دولة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيراً من أخبار الأمم الغابرة وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وخرج إلى الشام فسكن حمص وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين وكانت وفاته سنة ٣٢ هـ / ٦٥٢م وقد نسب إليه كثير من الإسرائيليات
٤ النشيش صوت الماء وغيره إذا غلى
٤٦٥

ثم إن آدم عليه السلام قال يا رب اجعل هذا النور في موضع أراه فجعل الله ذلك النور
في سبابته فكان آدم عليه السلام ينظر إلى ذلك النور ثم إن ادم قال يا رب هل بقي من هذا النور في ظهري شيء فقال نعم بقي نور أصحابه فقال أي رب اجعله في بقية أصابعي فجعل نور أبي بكر في الوسطى ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر ونور علي في الإبهام فكانت تلك الأنوار تتلألأ في أصابع ادم لما كان في الجنة فلما استخلفه الله وأهبط إلى الأرض ومارس أعمال الدنيا انتقلت الأنوار من أصابعه ورجعت إلى ظهره ۱

وقد ساق الفقيه الخطيب أبو الربيع رضي الله عنه في كتابه المسمى بـ شفاء الصدور من هذه الرواية أكثر من هذا فعلى هذا فيكون خلقه و من الأرض ويكون الأصل من تلك الدار المكرمة بدليل أنه لم يختلف أحد من العلماء أن الموضع الذي ضم أعضاءه ل أرفع البقع فإذا كان ما بين بيته عليه السلام وبين المنبر من الجنة فكيف يكون ذلك الموضع الذي هو فيه فعلى هذا فيكون الموضع روضةً من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان في موضعه ويكون للعامل بالعمل فيه روضةٌ في الجنة - وهو الأظهر - لوجهين أحدهما لعلو منزلته عليه السلام و الآخر ما قدمناه من الدليل ويكون بينه عليه السلام وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه وهو أنه لما خص الخليل عليه السلام بالحجر من الجنة خص الحبيب عليه السلام بالروضة من الجنة
وهنا بحث لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فحينئذ نحتاج إلى البحث والأظهر أنها لحكمة وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله عزّ وجلّ فضّله على جميع خلقه وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقري في كل أموره من بدء ظهوره عليه السلام إلى حين وفاته في الجاهلية والإسلام فمنها ما كان من شأن أمه وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء حسب ما هو مذكور معلوم ومثل ذلك حليمة السعدية وحتّى الأتان وحتى البقعة التي تجعل الأتان يدها عليها تخضَرّ من حينها وما هو من ذلك كله معلوم منقول وكان مشيه عليه السلام حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله وحيث وضع عليه السلام يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًا ومعنى ما هو منقول معروف ولما شاء الحكيم أنه عليه السلام لا بد له من بيت ولا بد له من منبر وأنه بالضرورة يكثر

۱ هذا من إسرائيليات كعب الأحبار
الواو زائدة
٤٦٦

لنور
هذا
ـي
في
إلى
ور تلك
ޖ
ـذي
عه
عليه هذا
ـلام
ـد
سبق
ما
بليه
مع
3 25 3 3
تان
كثر
تردده عليه السلام بين المنبر والبيت فالحرمة التي أعطي إذا كان من مسةٍ واحدةٍ بمباشرة أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير فكيف مع كثرة ترداده عليه السلام في البقعة الواحدة مراراً في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى حين وفاته فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفنا وهو أنها كانت من الجنة وتعود إليها وللعامل فيها مثلها فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في الدار لكانت لها ولا أعلى
مرتبة مما ذكرنا في جنسها
وهي
الآن منها
فإن احتج محتج بأن يقول فينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها لأنه عليه السلام كان يطؤها بقدمه مراراً فالجواب أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر عليه السلام مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام وأنه أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة وأن ما كان بها من الوباء والحمى رفع عنها وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولاً فإن تردده عليه السلام في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها وتردده عليه السلام فيما بين المنبر والبيت أكثر مما في سواه من سائر المسجد فالبحث تأكد بالاعتراض لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة والقرب من تلك النسمة المرفعة لا خفاء فيه فالمدينة أرفع المدن والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة وقوله عليه السلام ومنبري على حوضي هذا لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره
وأنه حق محسوس موجود على حوضه عليه السلام وفيه من الفقه الإيمان بالحوض أنه حق وأن المنبر عليه حق وأن القدرة صالحة ولا عَجْزَ فيها عن ممكن لأن هذه الأحاديث وما أشبهها فائدتها التصديق بها لأنه من متضمن الإيمان لقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بالغيب فكل ما أخبر به الصادق عليه السلام من أمور ما
له حالاً
الغيب فالإيمان به واجب وفيه أيضاً إشارة لطيفة وهي إذا كان الجماد يَشرُف به عليه السلام فكيف بالمتّبع له و مقالاً ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنِ ۳ ولهذه الإشارة كان الخلفاء رضي الله عنهم إذا جلس بإزاء أحدهما في المسجد شخص لا يعرفونه يسألونه ما عنده من القرآن فينظرون
1 أفعمت كتب الحديث بفضائل المدينة المنورة
333
سورة البقرة من الآية ٣ ۳ سورة السجدة من الآية ١٧

0
3
٤٦٧

333
له بذلك الحال وينزلونه بتلك المنزلة لأنهم إذ ذاك ما كانت عندهم الرفعة إلا بزيادة القرآن لأن
غير ذلك من الفضائل تساوَوْا فيها وتقاربوا
ولذلك لما دَوَّنَ عمر رضي الله عنه الديوان قدم أقربهم إلى النبي ل نسباً وأقدمهم القرآن حتى إنه ذكر أنه جاءه ابنه عبد الله فقال هجرة ثم باقي الناس بقدر ما عند كل شخص من له لِمَ فضلت علَيَّ عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له إن أباه أقدم في الإسلام من أبيك وأقلها
له
منزلة بعدما ذكرنا الحب الله ولرسوله ۱ لقوله الله السائل حين سأله عن الساعة فقال له ما
أعددت لها فقال والله ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله فقال له أنتَ مع
من أحببت ٢
تنبيه واحذر أن يكون حبك دعوى فإنه عليه السلام قد قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ۳ وذكر فيها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وقد تقدم الكلام عليه في أول الكتاب فرَفْعُ المنزلة بقدر الإيمان والاتباع فمهين نفسه أو مكرم لها
وفيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشر ليس من الدنيا بشيء وإنما هو اخرة كله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بيتي ومنبري لأن البيت من ضرورة العبد لأنه يستره من الناس ويُكِنه من أذى المطر والشمس ويخلو فيه لعبادة ربه فهو آخرة صرف وما كان من متاع الدنيا فكذلك كل ما كان منها مما لا بد للبشرية منه ليستعين به على اخرته فهو اخرة لكن بشرط وهو أن يكون قدر الضرورة وإلا فهو لما تشتهيه النفس فيكون نفسانياً فيخرج إلى باب آخر ولذلك قال بعض الصحابة حين أدخل عثمان رضي الله عنه بيوت أزواج النبي وفي الزيادة التي زادها في المسجد وددت أنه تركها حتى يأتي آخر هذه الأمة فيرون بيوت نبيهم أي صفة كانت وكان علوها قامة وبسطة ٤
وكذلك قوله عليه السلام ومنبري لأن المنبر مما فيه ترفع لكن لما لم يقصده عليه السلام إلا لمنفعة دينية - وهو أن يسمع جميع من حضر حكم الله عليهم - صار آخرة كله وكذلك كل ما احتاج المرء إليه من دينه لمصلحة فيه وإن كان يشبه متاع الدنيا فليس بدنيا ولتلك العلة لم يتخذ لا اله الا هو الخاتم إلا حين قيل له إن ملوك الروم لا تقرأ كتاباً حتى يكون
1 أقلها مبتدأ وخبره الحبّ ويريد أن الحب دون حفظ القرآن
أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي
۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه ٤ انظر الحديث ٥٠ ففي حاشيته شرح لمعنى القامة والبسطة
٤٦٨

لأن
ـفال
ـلها
ما
مطبوعاً فاتخذه من أجل هذه العلة ومن أجل ذلك اختلف العلماء في التختم هل هو سُنَّة مطلقة كل الناس فيها سواء أو ليس إلا لمن له أمر ليس إلا على قولين فمن لحظ العلة التي من أجلها اتخذه هو قال لا يكون سنة إلا لمن كان محتاجاً إليه والحاجة هي ما تقدم من التعليل ومَن لَحَظ نفس الفعل ولم يعلل قال كل ما فعله عليه السلام فهو سنة مطلقة
ولذلك قال من قال
الدين بالسنّة محيا
واحذر عوائد سوء
فلا تقصد في فعلك سواه
ـد أتلفت وأهلكت
ــد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
محياه
جد
تذ
٤٦٩

-٦٤-
حديث كراهة الرسول أن يبيت عنده ذهب أو يمـ
عَن عُقْبَةَ بن الحارث ۱ رَضِيَ الله عنه قالَ صَلَّيتُ مع النَّبِيِّ العَصر فَلمَّا سلَّم قام سريعاً وَدخَلَ عَلَى بَعض نِسائِهِ ثُمَّ خَرجَ ورأى مَا فِي وُجُوه القومِ مِن تَعجبهم لسرعته فَقالَ ذَكرتُ - وأنا في الصَّلاةِ - تبراً عِندَنا فكَرهتُ أن يمسي - أو يبيت ـ عِندنا
فأمَرتُ بِقسميه
*
ظاهر الحديث يدل على جواز العمل على ما يذكر المرء - وهو في الصلاة ـ إذا كان فيه صلاح لها وليس بمفسد للصلاة والكلام عليه من وجوه
منها جواز العزم على عمل طاعة وهو في أخرى لكن نحتاج إلى بيان صورة الذكر الذي لا يفسد الصلاة من الذي يفسدها وما بين ذلك والكلام في هذا بأن نذكر أولاً أنواع الخواطر التي
ترد على الشخص وهو في الصلاة وهي إما نفسانية وإما شيطانية وإما ملكية وإما ربانية فأما الربانية فهي علامة على قبول الصلاة وهي أعلى درجات المصلين وهي حقيقة المناجاة بالنسبة إلى عالمنا وهذه لها أهل يعرفونها حتى إنه كان بعض أهل هذا الشأن إذا قال له بعض أصحابه إنه دعا في الصلاة أو غيرها بدعاء في وجه ما فيقول له هل سمعت الجواب بالقبول والخطاب في الحضور أم لا فإن قال له نعم عرف أنه قد حصل له قدم ما من أهل الخصوص وإن قال له لم أسمع جعله من العوام ويقول له وكيف يكون دعاء خالص مخلص لا يسمع صاحبه جوابَ مسألته هذا محال فكان هذا عنده من قبيل المحال لأن هذا كان حاله ولهذا المعنى كان سيدنا الله يقول جعلت قرة عيني في الصلاة و أرِحْنا بها يا
۱ عقبة بن الحارث وكنيته أبو سروعة حجازي له صحبة أسلم عام الفتح انظر أسد الغابة ۱۸/٥ وتاريخ المدينة المنورة لابن شبة ٨٤١٣ جزء من حديث أوله حبب إلي من دنياكم ثلاث الخ أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في السنن الكبرى عن أنس رضي الله عنه
٤٧٠

بلال فإنه يبرد ظمأ المجاهدة بعذوبة برد شراب المناجاة فتستريح برحاؤه عليه السلام بذلك وقال عليه السلام أقْرَبُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه الدعاء فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم لما فيه من القرب والتداني وهذا خاص باربابه في الفهم والحال اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهله وإلا فلا تحرمنا التصديق به
في
وأما الملكي فهو كل ما يدعو إلى خير وهو مثل ما ذكر في هذا الحديث إما أن تفعله وإما أن يكون لك سبباً إلى الخشوع - وهو من أعلى درجات المصلين - وإما أن ينقطع به عنك الوسواس صلاتك وهو مع ذلك لا يزيد الصلاة إلا حسناً ما لم تطل المحادثة به حتى يقع به الخلل في شيء من الصلاة فإنه إذ ذاك تعاد الصلاة منه مثلما فعل عمر رضي الله عنه حين صلى المغرب بالصحابة رضوان الله عليهم ولم يقرأ فيها فذكروا له ذلك بعد فقال كيف كان الركوع والسجود فقالوا حسن قال فلا بأس إذا إني جهزت جيشاً إلى الشام وأنزلت الناسَ منازلهم وذكروا أنه أعاد الصلاة وفي إعادة الصلاة خلاف بين العلماء فيكون في إعادة الصلاة إذا أتم ركوعها وسجودها ولم يقرأ خلاف فإن نقص شيء من الركوع والسجود فلا بد من الإعادة لقوله الله ارجع فصل فإنك لم تصل ۳ لما نقص من التمكن في أركانها كما هو مذكور في الحديث
النار
وإن كان نفسانياً فإن كان مما ينافي الصلاة مثل التحدث في شهوة من الشهوات المباحة فالإعادة مندوبة لأن المقصود من الصلاة الحضور والخروج من حظوظ النفس لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ٤ أو كما قال عليه السلام فإذا كان القلب مشغولاً بتلك الشهوة فأين هو وأين الصلاة اللهم إلا أن تكون خطرةً من النفس فيتركها ولا يلتفت لها فلا تضره إن شاء الله إذا كان عند إحرامه قد أخلص فإنما نحن مكلفون بدفع الخواطر السوء في الصلاة وغيرها إلا أنها في الصلاة اكد للعلة المتقدمة وقد قال عليه السلام أحدث مع الذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية ٥ وإن كانت الشهوة محرمة فلا صلاة بالأصالة لأنه لا يجتمع فعل طاعة مع معصية فنحن قيل لنا في عدم حضور القلب ما ذكرناه آنفاً
فما بالك بهذه الصفة الذميمة
1 أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني في المعجم الكبير والهيثمي في مجمع الزوائد والخطيب البغدادي في
تاريخ بغداد عن رجل من الصحابة
۳ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقمِن خَليق جَدِير ۳ رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأصحاب السنن عن رافع بن أبي رفاعة رضي الله عنه ٤ رواه ابن الجوزي في زاد المسير ۹۰/۱ وابن عبد البر في التمهيد ۹۸/۱۰ بلفظ آخر 5 أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢٦٢/٦ و ٩٥/٧ بلفظ آخر
٤٧١

وأما إن كان شيطانياً فإن مال إليه واستصحبه وأصغى إليه فالصلاة فاسدة لأن هذا من جنس ما ذكرناه انفاً عن النفس التي تحدث بالشهوة المحرمة فإنه كل ما هو من طريق الشهوات فهو من قبيل النفساني وكلّ ما هو من قبيل المعاصي فهو من قبيل الشيطان فإن لم يلتفت إليه واستغفر وأعرض فيرجى ألا تفسد صلاته إن شاء الله تعالى
وأما الوجه الذي بين البطلان والجواز - على حسب التقسيم أولاً ـ فهو الذي يكثر من
الخواطر ويغفل عن دفعها ولا يشتغل بها أيضاً فلا دليل لنا على الفساد ولا على ضده وفيه دليل على أن عادة سيدنا الله وكانت الإقامة بعد الصلاة في المسجد يؤخذ ذلك من قوله سريعاً وتعجب الصحابة رضي الله عنهم منه لأنه لولا ما كان هذا منه عليه السلام خلاف عادته لم يتعجب منه
وفي هذا دليل على أن يكون من يدعو إلى خير يغلب ذلك الخير عليه في أكثر عادته حتى يكون حاله يصدق مقاله لأن سيدنا قد أخبر في هذا الحديث أن من قعد في مصلاه بقيت الملائكة تصلي عليه وأن انتظار الصلاة إلى الصلاة رباط فما دل عليه السلام عليه بمقاله كان الغالب على حاله فلما رأوا منه غير ذلك تعجبوا
وفيه دليل على أن مخالفة العادة تقتضي التشويش على الإخوان إذا لم يعرف السبب لذلك يؤخذ ذلك من تعجب الصحابة رضوان الله عليهم ويؤخذ منه أن من حق الصحبة العمل على زوال التشويش عن الصاحب - وإن قل - إن أمكن ذلك يؤخذ ذلك من رجوع سيدنا لا اله و إليهم وإخبارهم بسبب سرعة رجوعه إلى أهله
وفيه دليل على العمل بما يظهر من الشخص دون إفصاح ولا سؤال يؤخذ ذلك من أن سيدنا لم يخبرهم إلا بعدما رأى في وجوه القوم من التعجب
وفيه دليل على أن كل ما في القلب يظهر على الوجه ولا يخفى ذلك إلا على من لا نور له في قلبه أعني بالنور مَن وَرَّثه عليه السلام من أمته في ذلك المعنى الخاص وإلا فكل مسلم له نور بحسب حاله في إيمانه والله أعلم يؤخذ ذلك من أن سيدنا ل لما رأى ما في وجوه القوم استدل بذلك على ما كان في قلوبهم ومما يؤيد ذلك قوله عليه السلام المؤمن ينظر بنور الله ۳
1 أصله أفضل الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة ولزوم مجالس الذكر ما من عبد يصلي ثم يجلس في مجلسه إلا صلت عليه الملائكة حتى يحدث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أوله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبي سعيد الحكيم والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة وابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين
٤٧٢

من
i
فإذا نظر بنور الله لم يخف عليه من علامات الوجه ما في القلب فإن قوي إيمانه صار من أصحاب المكاشفات الذين يبصرون القلوب بأعين بصائرهم كما يبصرون الوجوه بأعين رؤوسهم وفيه دليل على جواز ذكر المعروف - إذا كان لضرورة - وأنه لا ينقله عن حالة الإخفاء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لهم رضوان الله عليهم لما رأى منهم ما ذكرناه المعروف الذي فعله من أجل صلاح خواطرهم لأنه قد جاء أن الذي يفعل المعروف سراً ثم يتحدث به ينقل له إلى ديوان العلانية ثم يتحدث به ثانية ينقل له إلى ديوان الرياء فإذا كان مثل هذا للعلة الموجودة أو ما أشبهها إذا لم يرد بذلك مدحة أو ثناء فيرجى أنه يبقى له على حاله
وقد نص أهل التوفيق على أن من مكايد الشيطان أنه إذا عمل العبد العمل سراً يقول له تحدث به لأن يُقتدى بك فيفعل ذلك حتى يخرجه إلى الباب الذي ذكرناه وهو باب الرياء وصاحب العمل لا يشعر بذلك وقد يظن أنه في ذلك مأجور فيكون جهلاً مركباً
وفيه دليل على أن للرجل أن يترك ماله عند أهله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام تبراً عندنا وكان التبر عند بعض أهله - كما أخبر أولاً أنه عليه السلام دخل على بعض أزواجه - ولم يأتِ أن سيدنا كان له شيء مَحُوز لنفسه المكرمة مغلق عليه دون أهله
وفيه دليل على جواز النيابة في المعروف يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فأمرت
بقسمته
وفيه دليل على جواز إبقاء المال على ملك صاحبه طول يومه ولا يخرجه ذلك عن مقام
الزهد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت أن يمسي - أو يبيت ـ عندنا ولم تقع منه عليه
السلام الكراهية في اليوم الواحد

وفيه دليل على أن الزهد مندوب إليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت فإن المكروه لا إثم على فاعله ويؤخذ منه جواز الاقتناء بشرط تأدية الحقوق ويؤخذ منه أن الزهذ لا يكون إلا حالاً حسّا ومعنى فأما المعنى فهو ألا يتعلق القلب به وأما الحسي فهو الخروج عنه كما فعل سيدنا هذا وفيه دليل لأهل الصوفة الذين لا يبيتون على معلوم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت أن يمسي - أو يبيت - عندنا وأما قوله أن يمسي أو يبيت الشك هنا من الراوي وقد رأيت بعض أهل هذا الشأن كان كل ما فتح عليه في يومه لا يبيت عنده منه شيء فلما كان في بعض الأيام ورد عليه جمع كبير للزيارة وأتاه فتوح كثير فقال الخديم في نفسه إن
٤٧٣

أظهرت له جميع الفتوح فإن ما يفضل من القوم يخرج عنه وهذا جمع كبير ويصبحون وليس معهم شيء يفطرون عليه فنترك منه شيئاً جيدا بحيث يكفيهم لغدهم لا يعلم به الشيخ ففعل ذلك وأخرج الباقي فأكل القوم فما فضل منهم أمر الشيخ بإخراجه من المنزل إلى الفقراء والمساكين على عادته فلما أصبح لم يأتهم شيء من الفتوح فقام الخديم ومد السماط وأخرج طعاماً كثيراً فقال له الشيخ من أين هذا فذكر له ما وقع منه ثم قال له يا سيدي لولا ما فعلت كان هذا الجمع اليوم بلا شيء فقال له الشيخ فعلك هذا منعنا من الفتوح في هذا اليوم فمن جَدْ وجَدَ ومن أخلص عومل بحسب إخلاصه فالناقد بصير والمعاملة مع وفي كريم
غني رحيم ولذلك قال من قال خذ لنفسك أي الطرق شئت فقد بان للحق بالحقيقة
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
علم
۱ يريد فما
اسفنان ميهمانان
٤٧٤
يونيا السلام ماية الدال

وليس
ففعل
فقراء
ماط
لولا
دم
كريم
علم
قضاء النافلة في وقت الكراهة
عَن كُرَيبٍ ۱ قالَ سأَلتُ أُمَّ سَلَمَةَ ٢ رضيَ الله عَنها عَنِ الرَّكعتينِ بَعدَ العَصرِ فَقالت أُمُّ سَلَمَةَ سمعتُ النبي يَنهَى عَنهُما ثُمَّ رَأيتُهُ يُصلِّيهما حِينَ صلَّى العَصر ثم النَّبِيَّ الله دخل عليَّ وَعِندي نِسوَة مِن بَني حَرامٍ مِنَ الأنصارِ فأرسلتُ إليه الجاريةَ فقُلتُ قومي بجنبه فقولي لَهُ تَقولُ لكَ أُمُّ سلمةَ يا رَسولَ الله سَمِعتُكَ تَنهى عَن هَاتَينِ الرَّكَعَتِينِ وَأراكَ تُصليهما فإن أَشارَ بيَدِهِ فَاستَأخرِي عَنهُ فَفَعَلَتِ الجاريةُ فَأَشارَ بيَدِهِ عنه فلما انصرَفَ قالَ يا بنت أبي أمية سألتِ عنِ الرَّكعتين اللتين بعدَ العَصرِ وإنَّهُ أتاني ناس مِن عَبدِ القيس فَشغلُوني عَن الرَّكعَتين اللتين بعد الظهر فهُما هاتَانِ
فَاستَأْخَرَت
ظاهر الحديث يدل على جواز الركوع بعد العصر لأجل فوات ما كان بعد الظهر من التنفل والكلام عليه من وجوه
منها هل هذا جائز لغيره عليه السلام مع وجود فوات ما كان له من عادة بعد الظهر مطلقاً بأي وجه فات أو ليس إلا بذلك الوجه الخاص وهو الشغل بمن يدخل في الإسلام لحرمته أو ذلك خاص به له أو ذلك مطلق لغيره بغير علة تحتمل
والأخير هو مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه ولا حجة له في ذلك من وجهين أحدهما أنه ليس النافلة منه الا الله كما هي من غيره فإنه قد صح عنه عليه السلام أنه كان إذا
1 كريب مولى عبد الله بن عباس ثقة أدرك عثمان وروى عن عائشة وأم الفضل أخرج له الجماعة تابعي توفي في المدينة سنة ۹۸ هـ

أم سلمة هي هند بنت سهيل المعروف بأبي أمية وبزاد الراكب إحدى زوجات النبي عليه السلام وكانت من أكمل النساء عقلاً وخلقاً وهي قديمة الإسلام هاجرت مع زوجها الأول أبي سلمة إلى الحبشة ثم رجعا إلى مكة وهاجرا إلى المدينة وولدت له أربعة أبناء ومات أبو سلمة فخطبها أبو بكر فلم تتزوجه وخطبها النبي فقبلت به وروت عنه ۳۷۸ حديثاً توفيت بالمدينة سنة ٦٢ هـ / ٦۸۱م
٤٧٥

عمل عملاً أثبته فأشبهت النافلة منه عليه السلام النذر من غيره و الوجه الثاني وهو نص الحديث لما استفهمت الجارية - بأمر أم سلمة رضى الله عنها - قال لها شغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر كما هو مذكور آخر الحديث
وقوة الكلام عند أهل الكلام كالنص سواء والعمل به واجب وقوة الكلام هنا تعطي أنه
عليه السلام ما فعلهما نقضاً لما نهى عنه من الصلاة بعد العصر ولا نسخاً للحكم بذلك هو من أجل علة ما فاته وهو عليه السلام قد ألزم نفسه المكرمة إثباتها والنهي باق كما كان والحكم به مستمر هذا لا يقدر أحد ممن يتناصف في البحث على طريقه أن ينكره وأما مذهب مالك رحمه الله فيرى أن ذلك خاص به ل لما ألزم نفسه المكرمة وأن
غيره لا يفعله تمسكاً بقاعدة النهي واستمرار الحكم بها
وأما البحث على لفظ الحديث فإنه إن كان يقع ممن يتبعه عليه السلام فيُلزم نفسه الاقتداء
به فإذا جاءه عذر يشغله عمّا كان يفعله بعد الظهر واتصل شغله به حتى خرج وقت الظهر فإنه يجوز له أن يفعله بعد العصر كما فعل هو الله لأن الله عزّ وجلّ يقول ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُ رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ١

لكن بقي هنا بحث هل هو كما قدّمنا أنه كلما كان عذر من أي وجه كان من أنواع الأعذار يجوز معه هذا الفعل وهو الركوع بعد العصر لما فات بعد الظهر أو لا يكون ذلك إلا بمثل العذر الذي وقع له وهو شغله عليه السلام بإسلام هؤلاء وتقعيد أصول الشريعة لهم الذي هو الأصل لأنه من أجل ذلك بعث محتمل لهما معاً
فإن قلنا بالعموم فنقول بالجواز ويكون هذا أعلى الأعذار وإن قصرناه على ما فعل فنمنع إلا أن يقع لأحد مثل ذلك العذر فحينئذ نجيز له ذلك وهذا نادر أن يقع لغيره عليه السلام ولا سيما في هذا الوقت لأن النادر من الناس من يقع له ذلك وقد يجد البدل منه كثيراً اللهم إلا أن نفرض أنه لا يكون له في الوقت من يقوم مقامه في ذلك فهذا نادر جداً والنادر لا حكم له وهذا الوجه - والله أعلم - حمّل الإمام مالك رضي الله عنه أن يقول هو خاص به
عليه السلام
وفيه دليل على جواز استفهام المفضول للفاضل إذا رأى منه ما لا يعرف من عادته المستمرة
۱ سورة الأحزاب من الآية ۱ كذا والصواب مالكاً

يؤخذ ذلك من سؤال أم سلمة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم فإن كل الناس في زمانه عليه السلام وغير زمانه بالنسبة إليه عليه السلام مفضولون
وفيه دليل على أن الاستفهام لا يكون إلا بعد التحقيق بالأمر الموجب له يؤخذ ذلك من قولها له عليه السلام وأراك تصليهما خوفاً أن يكون هناك أمر يخالف الظاهر كما كان وفيه دليل على أن تأخير السؤال لا ينبغي والمبادرة به هـ سلمة رضي الله عنها لما رأت ما لا تعهد من عادته عليه السلام وهي مشغولة و هو الأولى يؤخذ ذلك من أن أم كذلك أيضاً لم تؤخر السؤال حتى يفرغ عليه السلام من صلاته بل سارعت تسأل عن ذلك ولم ينكر هو عليه السلام عليها بعد

وفيه دليل على جواز النيابة في السؤال عن مسائل العلم عند الشغل يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لما لم تقدر هي أن تمضي إليه وجهت الجارية واستنابتها في السؤال عن مسائل العلم الذي هو السؤال
وفيه دليل على جواز استنابة الفاضل للمفضول في السؤال عن العلم وفي تغيير المنكر يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها استنابت الجارية ـ وهي حيث هي من أم سلمة ـ وأقر ذلك هو صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على جواز السؤال لمن هو في الصلاة لأجل أمر يفوته يؤخذ ذلك من سؤالها له
عليه السلام وهو في الصلاة لأنها لو تركته حتى يفرغ فات الأمر ولا فائدة إذا ذاك وفيه دليل على جواز الإشارة في الصلاة عن الشيء الذي يسأل عنه ولا يفسد الصلاة إلا أنه بشرط أن يكون يسيرا يؤخذ ذلك من أنه الا الله أشار بيده المباركة إلى الجارية حين كلمته وهو في الصلاة ويؤخذ منه جواز استنابة من لا يعرف الأحكام في حكم خاص إلا أنه بشرط أن يعلمه حكم الله في ذلك الأمر يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لما وجهت الجارية علمتها ما تقول وما تفعل
وفيه دليل على أن للضيف حرمة يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لم يمنعها من المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شغلها مع النسوة اللاتي أتينها للزيارة ويؤخذ منه جواز زيارة النساء بعضهن البعض لكن بشرط ألا يكون في أثناء ذلك محرم ولا مكروه بدليل قول عائشة الله عنها لو أدرك رسول الله لها ما أحدث النساء لمنعهن المساجد ۱ فإذا المساجد منعن
رضي
فمن باب الأخرى غيرها
1 سبق تخريجه في الحديث ٣٧
٤٧٧

وفيه دليل على جواز التنفل بين الأهل وهم ينظرون يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لو لم يكن النبي ل من حيث تراه ما علمت به
وفيه دليل على كراهة القرب من المصلي لغير ضرورة يؤخذ ذلك من إشارة النبي إلى الجارية أن تتأخر عنه ومعلوم أنه يحصل من ذلك تشويش ما وفيه دليل على أن أدب من يسأل من هو في الصلاة أن يقوم إلى جنبه يؤخذ ذلك من قول أم سلمة رضي الله عنها للجارية قومي إلى جنبه وفي هذا من طريق النظر أنه إذا كان السائل عن جنب المصلي رمقه بطرف عينه فيعرفه وتكون الإشارة إليه خفيفة فإذا كان قِبَلَهُ يحتاج المصلي أن يدفعه فإنه مارّ بين يديه وإن كان خلفه أو بالبعد منه قليلاً فقد لا يعرفه وإن عرفه فقد لا يتأتى له أن يصغي إليه لبعده فيكون سبباً لتشويشه وقد لا تمكن الإشارة إليه إلا بمشقة وفيه دليل على تواضعه علیه السلام وحسن خلقه لكونه خاطب الجارية بقوله يا بنت
أبي أمية
رضي
وفيه دليل على أن الحكم للظاهر من الأمور ما لم يتبين صده يؤخذ ذلك من أن أم سلمة الله عنها لما رأت ما ظاهره يوجب السؤال سألت عنه
والد
من و
الله عنها
وفيه دليل على أن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلا شيء مقطوع به يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي لما رأت سيدنا ضد ما قد اشتهر من الحكم في منع الصلاة بعد العصر وإن كان الأمر عندهم أنهم يتبعونه في أفعاله عليه السلام كما يتبعونه في أقواله لكن لما كان فعله عليه السلام هنا محتملا للنسخ والنسيان لم تقتد به في زوال حكم قد ثبت مقطوع به حتى تعرف حقيقة الأمر في ذلك
رفيه
العلم
33
بالو
وفيه دليل على جواز أخذ العلم من النساء يؤخذ ذلك من سؤال هذا الراوي أم سلمة رضي الله عنها وتعويله عليها لكن بشرط أن يكون فيها لذلك أهلية كما كان في هذه السيدة وفيه دليل على اهتمامهم رضي الله عنهم بالدين يؤخذ ذلك من أن هذا الراوي سأل عنه أم سلمة لما لم يكن له بهذا علم وكذلك كانوا جميعاً رضي الله عنهم يرحلون في الحديث الواحد الأيام العديدة ولذلك قال من قال إذا كان لك بالدين اهتمام ففي المعالي لك قدر وإن أضعته فما خَطَرك في الوجود خطر
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
وإنم
٤٧٨

-11-
سبع

سبعة أوامر وسبعة نواه
عَنِ البَراء بن عازب رضي الله عَنهُما قال أمرنا النَّبِيُّ
أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي وَنَصرِ المَظلومِ وَإبْرارِ بسبع ونهانا عن القسَمِ ورَدُّ السَّلامِ وتشميتِ العاطِسِ ونهانا عَن آنْيَةِ الفِضَّةِ وَخاتَمِ الذَّهَبِ والحريرِ وَالدِّيباج والقسي والإستبرَقِ وَعَنِ المياثِرِ
ظاهر الحديث الأمر بهذه السبعة المذكورة والنهي عن السبعة المذكورة بعد والكلام عليه
من وجوه
منها هل الأمر في الجميع على حد واحد من الوجوب أو الندب والنهي هل هو على حدّ واحد في التحريم أو الكراهة أو ليس كذلك فالجواب أما ما أمر به ففيه ما هو على الوجوب وفيه ما هو على الندب مما قد تقرر من خارج وأما نفس الأمر فإنه على الاختلاف المعلوم بين العلماء ونحن الآن نذكرها واحدة واحدة لنبيّن فيها الوجوب من الندب
فقوله باتباع الجنائز قد تقرر من قواعد الشريعة أنه من المندوب ولا أعرف أحداً يقول فيه بالوجوب لأنه جاء وصف الأجر لمن تبعها حتى دفنت وليس المقصود نفس الاتباع ليس إلا وإنما جاء من اتبعها حتى حضر دفنها فله قيراط من الأجر كما جاء في الذي يصلي عليها سواء - وهو " في التمثيل مثل جبل أُحد - ولم يجىء فيمن ترك المشي معها وعيد وهذه صورة المندوب

1 البراء بن عازب صحابي ابن صحابي أنصاري خزرجي أسلم صغيرا وغزا مع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة وروى عنه ٣٠٥ أحاديث اتفق الشيخان على حديثاً منها ولاه عثمان على الري فغزا أبهر وفتحها ثم قزوين وملكها كما افتتح زنجان سكن الكوفة ومات فيها سنة ۷۱ هـ / ٦۹۰م انظر الحديث
۹
وهو الضمير يعود على القيراط
٤٧٩

وهو أن يكون لفاعله ثواب وليس على تاركه عقاب اللهُمَّ إلا ألا يكون للميت من يصلي عليه
ولا من يحمله إلا الحاضرون في ذلك الوقت فهو حينئذ فرض قد تعين عليهم ويأثمون بتركه وكذلك عيادة المريض من قبيل المندوب أيضاً لأنه عليه السلام قال من عاد مريضاً خاض في الرحمة فإذا قعد عنده استقرت الرحمة فيه ۱ اللَّهُمَّ إلا ألا يكون له من يمرّضه فيتعين
ذلك فرضاً على الكفاية
وأما إجابة الداعي فليس على عمومها فمنها فرض ومنها مندوب ومنها مكروه
ومنها حرام
فأما الواجب منها فهي التي للنكاح لقوله عليه السلام من لم يجب الدعوة فقد عَصَى أبا القاسم لكن بشرط ألا يكون فيه لهو محرَّم شرعاً فإن كان فيه محرم شرعاً فإتيانها حرام وأما المندوب فمثل الرجل يعمل الطعام لجميع الإخوان وإدخال السرور عليهم أو طعام الحذاق ۳ أو ما أشبهه بشرط ألا يكون فيه محرَّم ولا مكروه فإن كان فيه محرم أو مكروه كان المشي إليه على نحو ما كان فيه من الكراهة أو التحريم
وأما المحرم فمثل طعام الرُّشا للحكام وما أشبهه
وأما المكروه فمثل ما يكون من الأطعمة الجائزة والمقصود بها الفخر والخيلاء فكما قيل شر الطعام طعام الولائم يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء ٤
وطعام الوليمة إذا جمعت تلك الشروط التي ذكرناها أولاً فأنت في الأكل بالخيار وما ليس فيه من الأطعمة وجه من وجوه المحرمات ولا المكروهات فهو من قبيل المباح من شاء أتى ومن شاء لم يأت فقوله هنا وإجابة الداعي عام والمقصود به الخصوص وهو ما كان منها واجباً أو مندوباً كل واحد على بابه
وأما نصر المظلوم فواجب لقوله عليه السلام انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ٥ ونصر
1 أخرجه ابن عساكر عن عثمان رضي الله عنه والإمام أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر رضي الله
عنه بلفظ آخر
الله ورسوله ومن دخل على غير دعوة دخل مسارقاً وخرج مغيراً أخرجه
لفظه من دعي فلم يجب فقد عضی أبو داود والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ لعله يريد الطعام المطبوخ بمهارة وجودة وقد يعني الطعام الذي يصنع للاحتفال بمن ختم القرآن ٤ أخرجه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر 5 جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه
٤٨٠

الظالم ردّه عن الظلم لقوله عليه السلام إذا ظهر فيكم المنكر فلم تغيروه يوشك أن يَعُمَّ الله
الكل بعذاب ۱
وأما إبرار القسم فواجب لقوله عليه السلام حق المؤمن على المؤمن أن يَبِرَّ قَسَمَه وليس أيضاً على عمومه لأن القسم بحسب ما يُقسم عليه فإن أقسم على واجب فإبراره واجب وإن أقسم على حرام فإبراره حرام مثل أن يُقسم شخص على آخر أن يأكل في رمضان أو لا يصلي يومه وما أشبه ذلك وإن أقسم على مكروه فإبراره مكروه كمن يقسم على من هو صائم صومَ تطوّع أن يأكل - على مذهب من يرى أن أكله مكروه - فيكون إبراره مكروهاً وأما على مذهب من يرى أن أكله لا يجوز فيكون إبراره لا يجوز كما قال ابن حبيب - من أصحاب مالك رحمهما الله - فيه إنه إن حلف عليه يُحنِثه ولا يجوز له إبراره وإن حلف بالطلاق والعتاق وصوم أن يغلظ من الأيمان فإنه يحنثه ويتم صوم يومه فيكون أيضاً مثل الذي قبله اللفظ عام
عسى
والمقصود الخصوص
وأما رد السلام فواجب لا خلاف أعرف فيه
وأما تشميت العاطس فمؤكد مطلوب على ما ذكره العلماء

سنة وما
وأما المنهى عنه فجميعه حرام أما انية الذهب فقد قال لا اله الا في الذي يشرب فيها كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم٤
وأما التختم بالذهب ولبس الحرير فقد قال عليه السلام فيهما هذان حرام على ذكور
أمتي ٥
والديباج والاستبرق نوعان من الحرير
1 أصله قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنا سمعنا رسول الله الله يقول إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعذابه أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي بكر رضي الله عنه
لم نقف على مصدره
۳ ابن حبيب هو عبد الملك بن حبيب الأندلسي القرطبي المالكي فقيه على مذهب المدنيين أصله من طليطلة سكن في قرطبة وزار مصر وعاد إلى الأندلس وتوفي فيها سنة ۳۸ هـ له غريب الحديث وطبقات
الفقهاء والتابعين وإعراب القرآن وكثير غيرها ٤ أخرجه مسلم وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها وزاد الطبراني إلا أن يتوب ٥ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه وابن ماجه عن ابن عمر رضي
عنهما بلفظ آخر
الله
٤٨١

وأما القسى ۱ فتياب منسوبة إلى تلك البقعة وهي من الحرير وكذلك المياثر وهي
ثياب من حرير كانوا يجعلونها على دوابهم بعضها من تحت الرحال

فالمنهي عنه أشد من المأمور به لأن المنهي عنه كله حرام كما ذكرنا والمأمور به أخف لأن فيه المندوب والواجب ولأجل هذا المعنى قال الله إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم
وما نهيتكم عنه فلا تقربوا ۳

ويظهر من الحكمة في أمره عليه السلام باتباع الجنائز وما بعده المذكور في الحديث وقوله في الحديث الذي أوردناه إذا أمرتكم إلى آخره أن كل ما فيه خير لأمته أمرهم به من أجل ما فيه من الربح العظيم فكان هذا تصديقاً لقوله عزّ وجل في حقه عليه السلام حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 4 وقوله عليه السلام فائتوا منه ما استطعتم معناه ليس كله عليكم بواجب والواجب أيضاً ليس إلا على قدر الطاقة والاستطاعة فكأنه عليه السلام يقول ما كلفتكم بالحكم اللازم إلا بقدر الاستطاعة ومما يؤيد هذا قوله تعالى لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ٥ وليس المفهوم من هذا أن تأخذ من الأمر ما تشتهيه نفسك وتترك منه ما لا تشتهيه لا يفهم هذا عامل يعرف أن الاثنين أكثر من الواحد أبداً أن يكون الهوى قد غلب على قلبه وقوله وما نهيتكم عنه فلا تقربوا فلأنه الله لم ينه إلا عن المحرّم وهذا النهي نهي لزوم ولهذا المعنى قال عليه السلام اتَّقِ محارم الله تكنْ أعَبَدَ الناس ٦ وقد جاء عنه نهي وليس بحرام وليس بمناقض لما ذكرناه انفاً ومن أجل ذلك تحرزنا بقولنا نهي لزوم لأن ما جاء عنه من من النهي ومع النهي قرينة يفهم منها الكراهية والشفقة أو وجد ما يخرجه من أن
1 القسيّ بشدّتين نسبة إلى بلدة تدعى قس وهي - كما يقول ياقوت - ناحية من بلاد الساحل قريبة إلى ديار مصر تنسب إليها الثياب القسيّة التي جاء النهي عنها وقال بعضهم أصلها القَزِّيّ نسبة إلى القزّ وأبدلت زايه سيناً ويقول ياقوت وفي بلاد الهند بين نهر وارا بلد يقال له القس مشهور يجلب منه أنواع من الثياب والمآزر الملونة وهي أفخر من كل ما يجلب من الهند من ذلك الصنف المياثر جمع ميثرة من وثر وهي مركب للعجم كان يتخذ من الحرير والديباج وميثرة الأرجوان وطاء محشوّة يترك على رحل البعير تحت الراكب وسواء كانت المياثر تعني المركب العجمي أو الوطاء المحشوّ فإنها سبيل إلى العجب والمباهاة والكبرياء
۳ جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة ومطلعه ذروني ما تركتكم ٤ سورة التوبة من الآية ۱۸ ٥ سورة البقرة من الآية ۸٦
CE

قطعة
من حديث مطلعه اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس أخرجه الإمام أحمد والترمذي والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٨٢

6
لا
يكون جزماً فليس من الذي قررناه بشيء كنهيه عليه السلام عن الوصال ۱ وما أشبهه علم
بقرينة الحال أنه نهي شفقة
وإنما مرادنا هنا أن يكون النهي بقرينة يستبين فيها الوجوب أو ليس له قرينة أصلا فإذا لم يكن له قرينة أصلاً فحكمه حكم الذي له القرينة وقد دلت على الوجوب بخلاف الأمر لأن الأمر إذا ورد ولم يكن له قرينة لا من نفس الشيء ولا من خارج فيه أربعة أقوال ـ كما تقدم الكلام فيه غير ما مرة - وفي الحديث حجة لمن يقول من المتكلمين إنما صيغة الأمر بذاتها تقتضي إدخال شيء في الوجود ليس إلا وما زاد على ذلك يستقرى من مواضع أخرى يؤخذ ذلك من كون الأمر
يدور بين واجب ومندوب

وفيه دليل لأهل الصوفة حيث يقولون إن أمر الأمر يقتضي الامتثال على أي حالة كان وإنما على العبيد امتثال أوامر الموالي ليس إلا ثم إنهم يزيدون على ذلك أنهم يرون أمر الموالي للعبيد من باب المن والتعطف لكونهم كان لهم مقدار حتى كان لهم خطاب وسؤال كما قال أبي ٢ حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقرأ عليك قال وذُكِرْتُ هناك قال نعم باسمك وباسم أبيك ۳ فبكى رضي الله عنه فرحاً لكونه وصل قدره ذلك وقد تدمع العينان من كثرة الفرح ولذلك قالت رابعة العدوية ٤ أَوَلَيْسَ يوبخني ويقول لي يا أَمَةَ السُّوءِ فعلت كذا وكذا قالوا نعم قالت
ذلك بغيتي
أُحِبُّكَ حُبّي حُبَّ الهَوَى حُبّاً لأنّكَ أهلٌ لِـــــذاكــــــا
ا الذي هــو حُبُّ الهَوى فَشُغْلِ
وأما الذي أنتَ أَهْا
له
ــه
ي بِذِكْرِ ا سِوَاكَا
ــي الحُجْبَ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
أراكــــا
1 الوصال هنا مواصلة الصوم بلا انقطاع كصوم الدهر مثلاً هو أبي بن كعب من الأنصار وبني النجار صحابي كان قبل الإسلام خبراً من أحبار اليهود وأصبح في الإسلام من كتاب الوحي وأحد من شهد مع النبي يا ليل و المشاهد كلها كما كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه قال أقرأ أمتي أبي بن كعب توفي سنة ۱ هـ / ٦٤٢ام في المدينة المنورة ۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه بلفظ مختلف والقراءة المقصودة بالحديث هي سورة البينة
٤ رابعة العدوية صالحة مشهورة من أهل البصرة ومولدها بها لها أخبار كثيرة في العبادة والنسك ولها شعر
حسن توفيت سنة ١٣٥ هـ / ٧٥٢م
٤٨٣

عنا
-٦٧-
حديث وفاة الرسول وفضل أبي
أَنَّ أَبا بكرٍ خَرج وذلِكَ بَعد وَفَاةِ رَسولِ الله

عَن ابن عبّاس رضيَ الله عَنهُم وعُمرُ يُكلَّمُ النَّاسَ فقال اجلس فأبى فقال اجلس فأبى فَتَشهَّدَ أبو بكر فمال إليه النَّاسُ وتركوا عُمرَ فقالَ أمَّا بَعد فَمن كانَ منكُم يَعْبُدُ مُحمَّداً فإنَّ محمّداً قَد ماتَ ومَن كانَ يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت قال الله عزّ وجلّ ﴿ وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۱ واللهِ لَكَأَنَّ الناس لم يكونُوا يَعلَمون أنَّ اللهَ أَنزَلَ هذهِ الآيَةَ حَتَّى تلاها أبو بكرٍ فتلَقَّاها النَّاسُ مِنْهُ فَما يُسمَعُ بشر إلا يَتلوهَا
ظاهر الحديث إيثار الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر على عمر رضي الله عنهما والكلام
عليه من وجوه
منها ما سبب اختلاف هذين السيدين رضي الله عنهما في هذا الوقت العظيم وهما حيث هما ثم كون أبي بكر رضي الله عنه تلا الآية وكأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا سمعوها إلا الساعة كما ذكر في الحديث فالجواب أن سبب اختلافهما لا يتبين إلا بعد ذكر شيء من حالهما في الوقت ومقالتهما وذكر حال كل واحد منهما الخاص به بحسب ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم
أما حال عمر رضي الله عنه في الوقت ومقالته فإنه لما أخبر أن رسول الله و و و و و و وضحت الصحابة رضي الله عنهم للأمر الذي أصابهم من ذلك جرد عمر رضي الله عنه أو أشار إلى سيفه وقال من قال إن رسول الله الله مات ضربته بسيفي هذا وإنما رفعه الله وسيعود ويقتل قوماً ويقطع أيدي قوم وهو - رضي الله عنه - لم يدخل عليه ل ولا نظر إليه
۱ سورة ال عمران الآية ١٤٤
فر
J
و
٤٨٤

وأما أبو بكر فكان خارج المدينة فلما بلغه الخبر جاء حتى دخل على النبي وكشف عن وجهه المكرم وقبل بين عينيه الكريمتين وقال فداك أبي وأمي طبت حيا وميتا ١ فخرج
وعمر رضي

الله عنه يكرر مقالته تلك أو ما يشبهها فأمره بالجلوس وتشهد هو رضي عنه وذكر متن الحديث
الله
وأما حالهما الخاص بكل منهما فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها والمراد بالشجاعة هنا الشجاعة في الدين ولذلك سماه رسول الله الفاروق لأن يوم إسلامه فرق الله تعالى به بین الحق والباطل فعبد الله جهراً وأما كثرة السَّخاء فلا تكون إلا من قوة اليقين ولذلك قال ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيءٍ وَقَرَ في صدره ۳ والذي وقر في صدره هو قوة اليقين
والذي هو قوي اليقين لا تحركه قوة الحوادث ولا يهتز لها ويبني أمره كله على التيقن والتثبت في الأشياء كلها والذي مقامه القوة في الدين - وهي الشجاعة - يبني أمره كله على الأحوط والأقوى فلما كان مقام عمر رضي الله عنه الشجاعة - وهي القوة في الدين - وقيل له توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما الناسُ فيه لم يدخل عليه وجعل رضي الله عنه الوفاة في ذلك الوقت محتملة أن تكون حقيقة أو تكون إسراءً ويعود وحال الوقت يقتضي أن يبني الأمر على الأحوط - وهو الإسراء ـ من أجل أن يزيل ما بالناس من الرجفة ويتهدنوا

فإن صح ما بنى عليه الأمر فبخ على بَحْ وإن كانت الأخرى ـ وهي الحقيقة - فيكون الناس قد سكن ما بهم لأن الأمر الصادم إذا تمادى سكنت النفوس إليه وتوطنت وانقادت ولذلك قال

الصبر عند الصدمة الأولى ٥ فهناك يتبين الثابت من غيره فإنه إذا طال الأمر صبر الناس
بغير اختيارهم هذا معروف لاخفاء فيه وهذا الوجه مَنَع عمر رضي الله عنه أن يدخل على النبي

قبل أن يكلم الناس فلو دخل رضي الله عنه فرأى الذي رأى أبو بكر رضي الله عنه من
حقيقة الموت فلا يمكنه أن يقول تلك المقالة فإنها كانت تكون كذباً وحاشاه من ذلك
1 تفصيل وفاة النبي الله ومجيء أبي بكر رضي الله عنه مسرعاً على فرسه ودخوله على النبي وهو مسجى
أخرجه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها
سبق الكلام عليه في الحديث ۱۳

0333

سبق تخريجه في الحديث ٦
بخ
كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء والمدح أو الفخر
ه رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٨٥

وقد روي عن العباس رضي الله عنه أنه لما قربت وفاة رسول الله وقد خرج من

عند الموت أجدها من محمد الهلال فهم

زيارته قال إن الرائحة التي أعرف من بني هاشم عند الموت أجدها من محمّد عند الحقيقة في يعرفون العلامة بالرائحة قبل وفاته عليه السلام ويشك أحد منهم إذا هو أبصره عند ذلك الشأن هذا لا يمكن فأخذ عمر رضي الله عنه بالحزم وهو حاله الذي جبل عليه فلما جاء صاحب اليقين الجليل لم يتضعضع لعظيم الأمر ولم يرد أن يبني كلامه مع الناس إلا بعد معرفة الحق فدخل رضي الله عنه وكشف عن وجهه المكرم ـ كما ذكرنا - فلما تبين له رضي الله عنه أنه موت حقيقي نظر حكم الله عليه وعلى إخوانه المؤمنين فإذا هو في كتابه عزّ وجلّ محكم متلوّ فَذَعَن للأمر وسلّم إليه وخرج يحمل الناس على ما يلزمهم من الله فكلُّ عمل على
مقتضى حاله الجليل
ولذلك قال عمر رضي الله عنه فلما سمعت أبا بكر تلاها ما حملتني رجلاي لأنه علم أن أبا بكر رضي الله عنه ليس هو ممن يقول إلا حقاً ولا يأمر إلا جزماً فذهب عنه ما كان ترجاه من العودة فأحدث له فرط قلق الشوق والمحبة ضعفاً في الأقدام ولو حَمَّلوني الجبال حملتها ولكن
الفراق لا يطاق
وكذلك ما ذكر عن باقي الخلفاء رضي الله عنهم عثمان وعلي فكان عثمان رضي الله عنه يدخل ويخرج ولا يتكلم وأما علي رضي الله عنه فقعد ولم يتكلم وما ذاك إلا لأنه ظهرت هنا أحوالهما المنيفة لأنه قال أنا مدينة الحياء وعثمان بابها فمن كانت صفته الحياء إذا جاء الأمر الذي يَهُولُه لا يمكنه الكلام من أجل الحياء
وقال أنا مدينة العلم وعلي بابها ۳ ومن خص بزيادة العلم بالله عزّ وجلّ إذا رأى شيئاً من آيات الله جاءه الخوف والإذعان ولا يبدي من عند نفسه شيئاً تأدباً حتى يرى ما حكم الله تعالى فيه وما المراد من الأمر هل ما يعرف بجري العادة المتقدمة أو ذلك أمر مستأنف لا يعلمه إلا هو عزّ وجلّ لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء كما أخبر وكما قال جل
1 العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي الله وجد الخلفاء العباسيين كان واسع العقل سديد الرأي وكانت له سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه وأقام بمكة يكتب إلى النبي لي
أخبار المشركين ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين كما شهد فتح مكة توفي سنة ٣٢ هـ / ٦٥٣م أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العباس قال والله إني لأرى رسول الله سيتوفى في وجعه وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت الخ
۳ أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤٨٦

خلاله هو كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۱ وإن كان ـ كما قال علماء أهل السنة - يبديه ولا ينشته فهذا بالنسبة له جل جلاله وأما بالنسبة لنا فهو إنشاء وإبداء أمر لم نعرفه قبل ولأجل هذا المعنى قال تعالى ﴿ إِنَّمَا يخشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا

فمن بكر أولاً ليسد ثلمة أهل الردة فقام هذه المقامات كان التقدم في الخلافة فاحتيج / بذلك وأمده الله بالعون فلم يمهلهم مع شدة ما كان الناس فيه فأشار عليه عمر رضي الله عنه أن يتركهم في الوقت لأجل ما الناس فيه حتى تسكن روعتهم فازداد عند ذلك شدة وحرصاً على قتالهم فقال له عمر إن الناس لا يساعدونك على ذلك فقال رضي الله عنه أقاتلهم ولو بالدبور ٤ فما فرغ من كلامه إلا والذي ذكر قد أمده الله عزّ وجلّ به وامتلأ المسجد بالدُّبُور وأنت وجوه أولئك الناس خاصة من بين أهل المسجد حتى خرجوا من أبواب المسجد فقال عمر الله عنه فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق فشرح الله رضي صدري لما شرح له صدر أبي بكر رضي الله عنهما
واحتيج عمر رضي الله عنه لتلك الفتوحات العظام حتى انتشر الإسلام وعلا في كل الأقطار واحتيج عثمان رضي الله عنه ليبين به مقام الصبر والتسليم الله والحياء منه واحتيج علي رضي الله عنه ليقاتل أهل التأويل ويبين به الحق من المحتمل كل له مقام معلوم من الله اللهم بحرمتهم علينا ندعوك بما يقربنا إليهم ويحشرنا معهم في زمرة المتقين بلا محنة في عافية بمنه
رضي
وفيه دليل على أن الكلام الذي له بال يستفتح أولاً بذكر الله يؤخذ ذلك من تشهد أبي بكر الله عنه وميل الناس بذلك إليه فلولا ما كان ذلك عندهم دالاً على استفتاح أمر له خَطَر ما
مالوا بجميعهم إليه
وفيه دليل على قوة أبي بكر في الدين وعظيم يقينه يؤخذ ذلك من ثبوته في هذا الموطن حتى استفتح كلامه بما تقتضيه سنة رسول الله ل لأن سنته عليه السلام كانت إذا كان الأمر له بال يستفتح الكلام فيه بذكر الله سبحانه والثناء عليه
الخطير
1 سورة الرحمن الآية ۹ يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فسأله أحدهم ما ذلك الشأن فقال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين ويروى عن أحد العلماء - ولعله الغزالي ـ أنه سئل عن هذه الآية والتوفيق بينها وبين أحاديث تفيد أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وأنه لا تغيير لأمر ولا تبديل فأجاب على الفور بأنها شؤون يبديها الله ولا يبتديها ويقال بأنه أجاب ثانية فقال إن المراد بالشأن سوق
المقادير إلى مواقيتها ۳ سورة فاطر من الآية ۸ ٤ الدبور جماعة النحل والزنابير مفرده دبر ودبر
٤٨٧

9
وفيه دليل على تأدب الصحابة رضي الله عنهم بعضهم مع بعض وهو أيضاً من الدين
يؤخذ ذلك من قول أبي بكر لعمر رضي الله عنهما اجلس ولم يزد عليه فيما قال شيئاً وفيه دليل على أن التأدب لا يكون إلا مع عدم الضرورات في الدين فإذا كانت الضرورة في الدين فلا أدب إذ ذاك وتركه هو الأدب يؤخذ ذلك من أن أبا بكر رضي الله عنه عنه لما لم يسمع عمر رضي الله عنه منه الله عنه منه والأمر خطير تكلم وترك الأدب معه من أجل الدين وهذا المعنى أيضاً منع عمر رضي الله عنه أن يتأدب مع أبي بكر رضي الله عنه ويسكت حين أشار إليه بالسكوت
وفيه دليل على أن من الفصاحة والبلاغة والقوة في الدين الإيجاز في الكلام عند الأمور المهمة والإبلاغ في الحجة يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه من كان يعبد محمّداً فإن محمداً قد مات إلى آخر كلامه فهذا إبلاغ في غاية واختصار
ويؤخذ منه أن أكبر الأدلة القاطعة في الدين والأحكام كتاب الله عزّ وجلّ فلولا ما كان الأمر عندهم كذلك ـ وهو الحق - ما سلموا الكل وبقوا يكررون الآية
وفيه دليل على جواز تقسيم الكلام بين الحق والباطل ليتبين به الحق يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه من كان يعبد محمّداً فإن محمداً قد مات وهو رضي الله عنه يعلم بالقطع أنه ما كان أحد منهم يعبد محمّداً ثم قال ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت فذكر ما هو محال قطعاً مع ما هو محقق عندهم حقاً تأكيداً للحق وتثبيتاً لأهله
ومن جملة
وفيه دليل على أن أكبر التسلي في المصائب ترديد كتاب الله عزّ وجل وهذا هو الحق الواضح لأن الله تعالى يقول ﴿ وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءُ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ۱ الشفاء التسلية به عند الهموم يؤخذ ذلك من كثرة ترديد الصحابة رضي الله عنهم لها كما ذكر ما يُسْمَعُ بَشَر إلا يتلوها لأنهم قد فهموا الحكم بها عندما تليت عليهم فما بقي من فائدة تكرارها إلا التسلي بها على ما هم فيه من الحزن والبرحاء وفيه من الفقه أن يُذكر الشخص بالشيء الذي كان له فيه مصلحة وإن عُلم منه أنه يعلمه لأنه عند النوازل اشتغال قلبه بما هو فيه يلهيه عما هو يعلمه ولأن الصحابة رضي الله أو أكثرهم كانوا يعرفون تلك الآية ويوم نزولها وفيماذا نزلت ولكن لشغل الخواطر بما دهمها ذهلت عما كانت تعرف فكيف حال من لا يعرف إذا نزل به ما لا يطيق ولذلك قال من
عنهم
كلهم
٤٨٨
۱ سورة الإسراء من الآية ۸

عَزّى مُصاباً فله أجرُ المصاب ۱ لأنه يُذكّره ما يجب عليه فيقِلّ حزنه فله من الأجر بقدر الأحزان التي ذهبت عن المصاب من أجل قوله أن لو كانت إصابته فصبر عليها
ومن الحكمة ما يشبه هذا قول بعضهم الناس إما عالم وهو يعلم أنه عالم فتعلموا منه وإما جاهل وهو يعلم أنه جاهل فعلموه وإما جاهل وهو يجهل أنه جاهل فاهربوا منه فليس يُرجَى له
فلاح إلا إن كان من خرق العادة وإما عالم وهو لا يعلم أنما هو عالم فذكروه تنتفعوا به وفيه من الفقه أن عند الامتحان يعرف المرء ما احتوى عليه جنانه يؤخذ ذلك من أن تلك
المصيبة العظمى وهي موته ظهر بها كل ما كان في القلوب فقوم ارتدوا وقوم ثبتوا وقوم افتتنوا بعض فتنة وتراجعوا بعد فكانت تمحيصاً للدعاوى وتصديقاً لقوله جلّ جلاله المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ﴾ ٢
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين بنوا طريقهم على الاختبار والصبر على السراء والضراء ولذلك قالوا من سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً لأن ما سواه - عزّ وجلّ - مفقود وهو الباقي جلّ جلاله الموجود
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه
سورة العنكبوت الآيات ١ - ٣
٤٨٩

-W-
جواز بكاء الرحمة على الميت
مَن أَسامَةَ بن زَيد١ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ أَرسلَت ابنةُ النَّبِيِّ لا اله إلَيهِ أَنَّ ابناً لي قُبِضَ فَانتِنَا فَأَرسلَ يُقرىءُ السَّلامَ ويَقولُ إِنَّ لِلَّهِ ما أَخذَ وله ما أعطى وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصبِرْ وَلْتَحتِسِبْ فأرسلت إليه تُقسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتينَّها فَقامَ ومَعَهُ سَعدُ بنُ عبادة ومُعاذ بن جبل ۳ وأبيُّ بنُ كَعبٍ ٤ وزَيدُ بنُ ثابت ٥ ورِجالٌ فرفع إلى رسول الله الصَّبيُّ ونفسُه تتقعقع ٦ قالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قالَ كأَنَّها شَن ۷ ـ فَفَاضَت عَيْناهُ فَقالَ سعد يا رسول الله ما هذا قالَ هذِهِ رَحمَةٌ جَعلَها الله في قُلوبِ عِبادِهِ وإنَّما يَرحم الله

من عباده الرحماء
أن ابم
3
3
1 أسامة بن زيد الصحابي ابن الصحابي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و ابن مولاه وحبّه وابن حِبّه روي لا لأسامة ۱۸ حديثاً اتفق الشيخان منها على خمسة وقد عقد له له الإمارة ودعا له وللحسن فقال اللهم إني أحبهما وأرحمهما فأحبهما وارحمهما وشفع في المخزومية فردّ عليه السلام شفاعته وغسل له وجهه ونثارة منخره بيده الشريفة لونه أسود وهو طويل وأبوه زيد أبيض وهو قصير فقال قائف هذان بعضهما من بعض بعد نظر أقدامهما فسرّ النبي بخبرة القائف له بنت اسمها فاطمة سكنت المزّة قرية في ضاحية دمشق وذهبت فاطمة إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته فقام لها وأقعدها مكانه وقضى لها حاجتها

سعد بن عبادة صحابي وسيد الخزرج وأحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام شهد العقبة وأحداً والخندق وغيرها ولما توفي الرسول طمع بالخلافة ولم يبايع أبا بكر ولما صار الأمر إلى عمر خرج إلى الشام
مهاجراً ومات بحوران سنة ٦٣٥/١٤م
۳ معاذ بن جبل سلفت ترجمته في الحديث ٤٣ ٤ أبي بن كعب سلفت ترجمته في الحديث ٦٦ ٥ زید بن ثابت سلفت ترجمته في الحديث ٤٤ ٦ تتقعقع تحدث صوتاً عند التحريك أو التحرك ۷ الشنّ القربة الخلق الصغيرة
السا
حيل
من
له
والتا
غنا
وهي
٤٩٠

Jal
مناً لي
عِنده
و د و
الله
فقال
تبهما
نثارة
کو گھر کو 3 کھو =
کشام
ظاهر الحديث يدل على جواز بكاء الرحمة وهو أيضاً دال عليها والكلام عليه من وجوه منها استحضار ذوي الفضل عند معالجة الموت يؤخذ ذلك من توجيه ابنته الا الله ليحضر موت ابنها وهو عليه السلام في وقته وفي كل وقت أفضل العباد وفيه دليل على مراجعة صاحب المصيبة بالتصبّر والتعزي يؤخذ ذلك من مراجعة النبي لها رضي الله عنها وقوله عليه السلام فَلْتصبِرْ وَلْتَحتَسِبْ
وفيه دليل على جواز الكناية عن الشيء بما يدل عليه يؤخذ ذلك من قولها رضي الله عنها أن ابناً لي قبض وهو في قيد الحياة بعد لكن لما كان يعالج سكرات الموت كَنَت عنه بالموت وفيه دليل على أن من السنّة أن يُخبر الذي يُستَدعى لماذا يراد يؤخذ ذلك من قولها أن ابناً
لي قبض فائتِنا لأنها لم تطلب منه عليه السلام الإتيان إلا بعدما أخبرته بموت ابنها وفيه دليل على جواز القسم على الفاضل ويكون من باب الرغبة لا من باب الحلف واليمين يؤخذ ذلك من قوله تقسم عليه ليأتينها
وهنا بحث هل كان مشيه عليه السلام في ثاني مرة من أجل القسم أو من أجل غيره أو من أجله ومن أجل غيره معاً وكيف امتنع عليه السلام أولاً من المشي مع ما طبع عليه السلام من حسن الشيم والرحمة للأباعد فكيف للأقارب
6
أما سبب امتناعه عليه السلام أولاً فلوجهين أحدهما أن يبين أن هذه الدعوة ليست مما هي واجبة الإجابة بخلاف دعوة النكاح و الثاني خشية أن يتعلق قلبها ـ لمكانته عليه السلام عند الله تعالى - بأنه يدفع عن الطفل شيئاً فأخبرها عليه السلام أن هذا أمر ما لأحدٍ فيه حيلة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن الله ما أخذ وله ما أعطى وكلّ عنده بأجل مسمّى وهذا من المؤخر في اللفظ المقدم في المعنى كأنه عليه السلام يقول ما أعطاك الله من الولد فهو له وأخذه أيضاً هو له فإنه لم يأخذ حتى أعطى فلما لم يكن في المعنى إلباس جاز التقديم والتأخير كما قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُنَاء أَحْوَى ١ ولا يكون قناة حتى يكون أحوى والغثاء هو اليابس فلما علم أنه لا يكون يابساً حتى يكون أخضر جاز التقديم لعدم الإلباس وهذا فى لسان العرب من الفصيح ثم أخبرها بحكم الله عليها في ذلك
وهو الصبر والاحتساب
ويذكر مالك في موطئه أن بعض العلماء كانت له زوجة يحبها فلما ماتت وَجَد عليها حتى
۱ سورة الأعلى الآيتان ٤ و ٥
٤٩١

احتجب عن الناس وكان الناس محتاجين إليه لعلمه وفضله فتأتيه المسائل فيدخل بها الخديم ويخرج بالجواب عليها فلما طال ذلك به بلغ إحدى المتعبدات حاله فأتت الباب وقالت للخديم لي إليه ضرورة ولا يمكن الكلام معه إلا مشافهة فأبى الخديم من الدخول بها إليه فذهب الناس وبقيت المرأة لم تبرح مكانها فطمع الخديم أن يصرفها عن الباب فلم تفعل
وزعمت أن لا بد لها من رؤيته فلما طال جلوسها أخبر الخديم الشيخ بأمرها فأذن لها في الدخول فقالت يا سيدي إن جيراناً لي استعرت منهم حلياً لأن أحضر به عرساً فأعاروه لي ثم تركوه لي بعد زماناً أتزين به ثم
الآن قد طلبوه ونفسي تأبى رده فقال لها لا يحل لك حبسه فإنه عارِيَّة والعارِيَّة مُؤدَّاة حكم من الله عز وجل ورسوله قالت يا سيدي كان عن يوم وتركوه عندي سنين فقال أحق وأجدر أن تسارعي في رده لأنهم زادوك على المعروف معروفاً فرامت به أن يفسح لها في ذلك في شيء وهو يغلظ عليها فقالت له يا سيدي أوليست زوجتك أنت من جملة ما استعاركها الله وأخذ متاعه فحزنك أنت واحتجابك عن الناس من ماذا فارتجع إلى نفسه وشكر ذلك لها وخرج من حينه
فكان جلوس النبي أولاً ليقعد الأحكام الشرعية مع القريب ومع البعيد على حد سواء وأما مشيه عليه السلام في ثاني مرة فإبرار للقسم وشفقة ورحمة ـ كما جبل عليها ـ وجبر لخاطرها لما أمن التوقع الأول
وفي هذا دليل لأهل الطريق الذين يقولون بجبر القلوب
وفيه دليل على أن الأجل لا يزيد ولا ينقص لقوله عليه السلام بأَجَلٍ مُسَمَّى وهنا إشارة وهي أن أهل الفضل لا يقطع الإياس من فضلهم وإن ردوا يؤخذ ذلك من ردها الرسول ثانية بعدما امتنع عليه السلام من المشي أولاً هذا طمع في فضل مخلوق فكيف في فضل من ليس كمثله شيء ولذلك جاء عنه جلّ جلاله أنه يدعوه العبد المذنب فيعرض عنه ثم يدعوه فيعرض عنه ثم يدعوه فيقول جلّ جلاله ملائكتي أما ترون عبدي يعلم أنه ليس له من يدعو غيري أشهدكم أني قد غفرت له وقبلت دعاءه
وقوله فقام رسول الله ل ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فيه من الفقه جواز المشي إلى المأتم بغير إذن بخلاف الوليمة يؤخذ ذلك من مشي هؤلاء ولم يستدعهم ولا هم أيضاً استأذنوا
معه
وفيه دليل على تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم له الله يؤخذ ذلك من كونه لما قام
هو الله مقام معه من كان هناك تعظيماً له عليه السلام
٤٩٢

ويؤخذ منه أنه لا يسمى من الجمع إلا أعيانه وذلك من الاختصار والإبلاغ في الفصاحة يؤخذ ذلك من كونه سمى الأربعة لمكانتهم وأجمل الباقي بلفظ رجال
بمعنى
وقوله ورفع الصبي إلى رسول الله له الله الرفع هنا احتمل معنيين أحدهما أن يكون كشف له عنه كقوله عليه السلام ورفع لي البيت المعمور أي أظهر لي و الثاني أن يكون بمعنى وُضِع في حِجْره من قولهم رفعت زيداً إلى الفراش أي جعلته عليه
واحتملا معاً

وقوله ونفسه تتقعقع كأنها شَنّ الشَّنْ هو الزّق البالي إذا بلي يتقشر ويتشقق فمن يأخذه يجد له صوتاً من كل نواحيه فشبه ذلك السّياق ۱ الذي كان يسوقه الصبي لشدته وكثرته بصوت هذه القِرَب البوالي التي لا ينفصل عنها ذلك الحال
وفيه دليل على أن شدة الموت أو خفته ليس فيه علامة على السعادة ولا على الشقاوة يؤخذ ذلك من كون هذا طفلاً لا تكليف عليه وهو يشدّد عليه بل هذه حكمة استأثر بها الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم في موت الفجأة إنها تعجيل لأحد الدارين وقد أخبر عليه السلام أن المؤمن تبقى له منزلة لم يبلغها بعمله فيشدد عليه الموت حتى يبلغ تلك المنزلة ۳
وقوله وفاضت عيناه يريد عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه المباركة بغير صوت وتلك الدمعة هي دمعة الرحمة كما أخبر هو صلى الله عليه وسلم
وقوله فقال له سعد يا رسول الله ما هذا هنا من الفقه وجوه

منها أن من أدب الدين أن يكون كبير القوم هو الذي يستفتح الكلام أولاً يؤخذ ذلك من أن هذا لمكانته في الصحابة رضي الله عنه وعنهم هو الذي ابتدأ الكلام والكل رأوا ما رأى هو فالتزموا الأدب بعضهم مع بعض وهو المعلوم منهم أن يتكلم الذي هو أولى أولاً ومنها أن الأدب مطلوب في السؤال يؤخذ ذلك من قول سعد ما هذا سؤال استرشاد
لا إنكار
1 السياق النزع والاحتضار مروي بالمعنى وقد أخرج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال موت الفجأة راحة

للمؤمن وأسف على الفاجر عن زيد بن أسلم عن أبيه قال إذا بقي على المؤمن من درجاته شيء لم يبلغها بعمله شدّد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وكربه درجته في الجنة وإذا كان للكافر معروف لم يُجز به هون عليه في الموت ليستكمل ثواب معروفه فيصير إلى النار الإحياء ٤٩٢/٤
٤٩٣

ويؤخذ من ذلك أن الأدب
م الأكابر أن يقدم ذكر أسمائهم أول الكلام يؤخذ ذلك من قوله
يا رسول الله ما هذا فقدم اسمه عليه السلام أولاً
ويؤخذ منه أن من حسن السؤال الإيجاز فيه يؤخذ ذلك من قوله ما هذا سؤال استرشاد
ولم يزد على ذلك شيئاً وقوله الله هذه يعني الدمعة لأنها خرجت بغير صوت وقوله عليه السلام جعلها الله فى قلوب عباده هنا من الفقه أن الذي تكلم الناس فيه في شأن الدموع وفي موجبها باطل لأنهم ذكروا فيها نحو الخمسة أو الستة أقاويل أو ما يقرب من
ذلك فمما استحسن منها أنه عَرَق القلب من خجل الذنوب وبه يطرزون تلك الأقاويل وقد أخبر هنا الصادق عليه السلام أنها خَلْقٌ من خَلْقَ الله استودعها قلوب عباده الرحماء وقوله عليه السلام فإنما يرحم الله من عباده الرّحماء دل بهذا أن هذه الدموع صادرة عن الرحمة التي في قلوب المؤمنين الذين جعلت الرحمة في قلوبهم فكما أن الفهم في العلوم صادر عن النور الذي في قلوب العملاء فكذلك هذه الدمعة صادرة عن المرحومين الذين جعلت الرحمة في قلوبهم حكمة حكيم
وقوله عليه السلام فإنما يرحم الله من عباده الرحماء هذا اللفظ يحتمل معنيين أحدهما أن يكون على ظاهره وهو منع الرحمة مما سوى الراحمين فتكون إنما على بابها لحصر الحكم في المذكور ونفيه عن غيره واحتمل أن تكون بمعنى ثبوت الحكم المذكور ولا ينتفي عن غيره كقولهم إنما الجميل يوسف أثبتوا له الجمال ولم ينفوه عن غيره وقد تكون بمعنى الاستحقاق لهم بما فيهم من الأهلية كمعنى قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَتبكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ﴾ ١ أي يحق لهم الرجاء لما وعدوا والآخرون يرجون لكن على غير سبب وقد تحتمل الوجهين معاً
والأظهر أنها لتخصيص الحكم بالمذكورين ولا ينتفي ذلك عن غيرهم بدليل أنه قد جاء إن الله نفحات من الرحمة يصيب بها من يشاء ممن فيه رحمة وغيره وقد جاء أنه تشفع الرسل والأنبياء والملائكة عليهم السلام والعلماء والصالحون ثم يقول الله عزّ وجلّ شفعت الأنبياء شفعت الملائكة شفع الصالحون وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيخرج من النار قبضة ممن حبَسَهم القرآن ۳
۱ سورة البقرة من الآية ۱۸
أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج والحكيم الترمذي وأبو نعيم في الحلية عن أنس والبيهقي في الشعب عن أبي
هريرة رضي الله عنه
۳ أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ آخر
٤٩٤

لكن إذا جعلنا هذه الرحمة بمعنى الإيمان فيكون المراد به الإيمان الكامل فهؤلاء أهل الرحمة حقيقة ويكون فيه دليل على أن هذه الرحمة لا يخص بها إلا أهل الإيمان المذكورين وهي الخشوع وقد أثنى عليهم عزّ وجلّ في كتابه حيث قال الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ ۱ فتكون على بابها لتعلق الحكم بالمذكورين ونفيها عن غيرهم خالف الإيمان على عمومه لا على خصوصه في إيجاب الرحمة لهم لقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ٢
ممن
وهنا بحث وهو أنه يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غير هذا إذا استكمل نفاق المرء كانت عيناه بحكم يده يرسلهما متى شاء فهل بينهما فرق أم لا فالجواب أمّا الظاهر فالتعارض فيه موجود لأن هذه دمعة خارجة في عالم الحس وهذه مثلها وإذا نظرنا إلى الشرط بان الحق وظهر ولم يبق بينهما تعارض
والشرط الذي بينهما أن التي هي صادرة عن استكمال النفاق يكون خروجها باختيار النفس بغير موجب وقد يمسكها عند الموجب كما يشاهد الناس على مرور الزمان من هؤلاء الغرباء
الذين يعقدون الحلق ويطلبون الناس ويصفون عن أنفسهم أنهم كانوا وكانوا وذلك كله كذب يعلم ذلك منهم من يعرفهم أصلاً وفرعاً فإذا جاءوا عند مُعَظْمِ وصفهم لذلك الكذب يبكون وتجري الدموع من أعينهم مثل القطر يظن الرائي لهم أن ذلك حق فتشفق النفوس لهم فيتصدق عليهم وهذا مروي عنهم كثيراً ولو لم يكن في هذا إلا الكتاب الذي ينسب إلى بني ساسان ووصف أحوالهم لكان كافياً فكيف والناس يرون ذلك منهم معاينة
وأما الدمعة التي هي كما أخبر الصادق - عليه السلام - فتخرج كما خرجت منه وذلك عند الموجب مثل تذكار الموت والشفقة مثل ما رأى عليه السلام من تلك النسمة وما كانت تعالج من سكرات الموت مع صغرها أو من خشيته من الله عزّ وجلّ أو ما يكون مثل ذلك من فكرته فيه كما روي عنه أنه دخل يوماً على فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي بكاء كثيراً فسألها فقالت في معنى كلامها إنها ما أبكاها شيء إلا فكرها في القبر وما فيه فهذا كله

نوع واحد يقتضيه حقيقة الإيمان الكامل ومما يدل على أنه إنما عنى و النوع لا الجنس بقوله هذه وأشار إلى الدمعة كونه عليه السلام قسم الإيمان في غير هذا الحديث على قسمين فقال الإيمان إيمانان إيمان لا يدخل
1 سورة المؤمنون الآية ٢ سورة النساء من الآية ٤٨

٤٩٥

صاحبه النار وهو الإيمان مع اتباع الأمر والنهي وهو الإيمان الكامل وإيمان لا يخلد صاحبه في النار١ وهو الإيمان الذي معه بعض المعاصي ومما يقوي ذلك أن المتكلم - وهو سعد - ومن
- ومن
كان معه حاضراً لم تدمع لأحد منهم عين إلا عينه ل ا ل لا ل ل ل ل كل كما لكل الإيمان هناك لأنه عليه وذلك السلام بالإجماع أكمل الناس إيماناً ولذلك قال عند موت ابنه إبراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب لأن الدمع والحزن هما عند الموجبات من الإيمان كما أن ترك ما يسخط الرب من الإيمان أيضاً وفيه دليل لأهل الصوفة في كثرة بكائهم لأن النبي قد جعل ذلك عَلَماً على الرحمة التي في القلوب وقد روي عن بعضهم أنه كان كثير البكاء فرمدت عيناه فأتوا له بالطبيب فقال له نداويك على شرط أنك لا تبكي ما دام بعينيك رمد فقال رضي الله عنه وأي فائدة في عين لا يُبكى بها والله لا ألتزم هذا الشرط ولا حاجة لي بدوائكم بل أموت في البكاء وهل راحة الشجي إلا في أدمعه
وفائدة هذا الحديث هي في تذكار هذا الأمر العظيم الحتم الذي لا هرب لأحد منه والأخذ في الاستعداد لذلك قبل هجومه إذ هذا السيد عليه أفضل الصلاة والسلام لا يقدر في منع هذا الأمر عن أحد من أهله ولا عن نفسه المكرمة فما بالك بالغير وهذا تصديق لقوله تعالى نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ وقد قال بعض الحكماء في شعر له ﴾
ولـــو كـــانـــت الــدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حيّاً وباقيا فحَسْبُك يا هذا إذا كنتَ عاقلاً مقيل وكن فيها لزادِك واعيا واحذر هجمات الحمام بلا زاد ويدك من التقوى خالية وكن عبداً مطيعاً فالحمام لا بدَّ
لك مفاجيء
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سبق الكلام عليه في الحديث ۱ سورة ال عمران من الآية ١٨٥
٤٩٦

141
حديث الرؤيا في تعذيب العصا
عن سمرة بن جُندَب ١ رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أقبَلَ علينا بوجهه فقالَ مَن رأى منكُمُ الليلةَ رؤيا قالَ فإن رأى أحدٌ رُؤيا قصها فيقول ما شاء الله فَسَأَلَنا يوماً فقالَ هل رأى منكم أحدٌ اللّيلةَ رؤيا قلنا لا
قال لكنّي رأيتُ الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كَلُّوب من حديد قال بعض أصحابنا عن موسى ٢ إنّه يدخله في شدقه حتى يبلُغَ قفاه ثمَّ يَفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنَعُ مثله قلت ما هذا قالا انطلق
فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر ۳ أو صخرة فيشدَخُ بها رأسه فإذا ضربه تدَهْدَهَ الحَجَر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه قلتُ مَن هذا قالا انطلق
فانطلقنا إلى ثَقب مثلِ التَّنُّور أعلاه ضيّق وأسفله واسع تتوقد تحته نار فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يَخرُجوا فإذا خَمَدَت رجعوا فيها وفيها رجال ونساء عُراة فقلت ما هذا قالا انطلق
1 سمرة بن جُندَب بن هلال الفزاري صحابي من الشجعان مات أبوه فقدمت به أمه المدينة فتزوجها رجل من الأنصار فنشأ في المدينة وروى عنه الحَسَن والشعبي وكان من الحفاظ المكثرين نزل البصرة واستخلفه زياد عليها عندما سار إلى الكوفة ولما مات زياد أقرّه معاوية عاماً ثم عزله وكان شديداً على الخوارج الحرورية وكان يثني عليه الحسنُ وابن سيرين توفي بالبصرة سنة ٥٨هـ / ٦٧٧م موسی هو راوي الحديث موسى بن إسماعيل المنقري البصري أحد أركان الحديث قال عباس الدوري سنة ٢٢٣ هـ كتبت عنه خمسة وثلاثين ألف حديث وقال آخرون ثقة وشيخ للبخاري توفي سـ
٤٩٧
۳ الفهر الحَجَر المدوّر

فأقبل
فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر قال يزيد بن هرون ووهب بن جريرٍ عن جرير بن حازم وعلى شَطُ النَّهر رجلٌ بين يَدَيْه حجارةٌ الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يَخرُج رَمى الرجلُ بحجرٍ في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجرٍ فيرجعُ كما كانَ فقلتُ ما هذا قالا انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شَجَرة عَظيمَة وَفي أصلِها شَير وصبيان وَإِذا رَجُل قَريب مِنَ الشَّجَرَةِ بَينَ يَديه نار يُوقدُها فَصعدا بي الشَّجَرَةَ فأدخلاني داراً لَم أَرَ قَط أحسنَ مِنها فيها رِجال شُيوخ وشباب وَنِساء وصبيان ثُمَّ أخرجاني مِنها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسَنُ مِنها وَأَفضَل فيها شُيوخ وشباب فَقُلتُ طَوَّفَتُمانِي اللَّيلةَ فَأخبِراني عمَّا رَأيتُ قالا نَعم أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدقَهُ فكذَّابٌ يُحدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحمَلُ عَنهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ ما رأيتَ إلى يوم القيامَةِ والذي رأيته يُشْدَخُ رأسُهُ فَرجُل علَّمه الله القرآن فَنامَ عَنهُ باللَّيلِ ولَم يَعمَل فيه بالنَّهارِ يُفعَل به إلى يوم القيامة والذي رَأيتَهُ في الثَّقَبِ فَهُمُ الرُّناةُ والذي رأيتَهُ في النَّهْرِ فَاكِلو الربا والشَّيحُ في أصلِ الشَّجَرَةِ إبراهيم والصبيانُ حَوله فأولادُ النَّاس والذي يُوقِدُ النّار مالِكٌ خازِنُ النّار والدَّارُ الأُولى التي دخلت فهي الجَنَّة دارُ عامَّةِ المُؤمنين وأما هذهِ الدَّارُ فَدارُ الشهداء وأنا جبريل وَهَذا ميكائيل فارفع رأسَكَ فَرفَعتُ رأسِي فإذا فَوقي مِثلُ السَّحابِ قالا ذلِكَ منزِلُكَ فَقُلتُ لَكَ عُمُرٌ لَم دعاني أدخُل منزلي قالا إِنَّهُ بَقي تَستَكمِلْهُ فَلو استكْمَلْتُه أتيتَ مَنْزِلَكَ
ظاهر الحديث يدل على دوام سؤال النبي الصحابة رضي الله عنهم إثر الصلاة عن
من رأى منهم رؤيا وعلى دوام تعبيرها لهم وأنه الله أخبرهم في هذا اليوم الذي لم ير منهم شيئاً ما رأى هو عليه الصلاة والسلام في نومه والكلام عليه من وجوه
أحد
منها قوله صلاة هل المراد بها العموم وهي الخمس أو واحدة منها وهي الصبح وما الحكمة في دوامه عليه السلام على ذلك ولِمَ أخبرهم عليه السلام بهذه الرؤيا فالجواب أن الظاهر من قوله صلاة أنها صلاة الصبح بدليل قوله عليه السلام من رأى منكم الليلة رُؤيا فهذا ما يكون إلا إثر صلاة الصبح
وفيه من الفقه جواز جلوس الإمام في مُصَلاهُ إذا أدار وجهه إلى الجماعة وأن ذلك يقوم مقام
٤٩٨

القيام وأن هذا هو السنّة ردًّا على من يقول إن الإمام إذا سلّم لا بد أن يقوم من موضعه حتى إن بعض من يُنسب إلى التشديد في الدين من الأئمة يقوم من حين فراغه من صلاته كأنما ضُرب بشيء يؤلمه ويجعل ذلك من الدين ويفوته بذلك خيران عظيمان
أحدهما استغفار الملائكة له ما دام في مصلاه الذي صلى فيه لقول رسول الله لا تزال الملائكةُ تُصلّي على أحدِكم ما دام في مُصلاه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدِث تقول اللَّهُمَّ اغْفِرْ له اللهم ارحمه ۱
القيام
و الثاني مخالفته لسنة رسول الله الله التي هي نص في هذا الحديث حيث قال كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه ليس إلا ولم يذكر أنه قام ولو كان لم يقبل بوجهه عليهم إلا بعد لأخبر بذلك لأنهم رضي الله عنهم بأقل من هذا من فعله عليه السلام يُخبِرون به لِيُقتَدَى به وعلى هذا أدركتُ كلَّ من لَقِيتُ بالأندلس من الأئمة المقتدى بهم في غالب الأمر يُقبلون بوجوههم على الجماعة من غير قيام
وأما دوامه عليه السلام على ذلك فلأنها من النبوة فيحض الناس على الاعتناء بها لأنه إذا كان هو يعتني بها وجب علينا اتباعه في هذا لو لم تكن من النبوة فكيف وهي من النبوة ولوجه آخر لأنها كانت بدأة الخير له عليه السلام وللمسلمين لأن أول ما بدىء به الرؤيا الصالحة في النوم - كما في الحديث أول الكتاب - وحسن العهد من الإيمان ومَنْ أولى بحسن العهد منه عليه السلام لقوة إيمانه وكماله
وأما كونه عليه السلام يفسرها لهم فذلك منه تعليم لهم وإرشاد لكيفية التعبير وهو لمن يعرفه من جملة المنن عليه كما قال يوسف عليه السلام ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَمَني رَبِّي ﴾ وكل ما عُلمه الآدمي مما لم يكن يَعلَمه فهو من جملة النعم عليه
وأما إخباره عليه السلام لهم برؤيته تلك الرؤيا فلأنها وحى لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام كلها وحي عند العلماء وما يكون وحياً فلا يجوز له كتمه لأنه حكم من الله تعالى لعباده ولأن تلك الأحكام المذكورة فيها - على ما نبيّن بعد إن شاء الله - أحكام ثابتة وفوائد جَمَّة لمن فهم فأراد الإخبار بتلك الأحكام والفوائد
وقوله عليه السلام رأيتُ الليلة رجلين زيادة تأكيد لما قدمنا من أنها صلاة الصبح وقوله
1 لفظ الحديث إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحدِث أو يقم اللهم اغفر له اللهم ارحمه أخرجه الإمام مالك وابن زنجويه والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة يوسف من الآية ٣٧
٤٩٩

عليه السلام أتياني أي جاءاني لموضعي الذي كنت فيه وقوله عليه السلام فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة الأرض المقدسة هي بيت المقدس

وهنا بحث في إخراجه عليه السلام في النوم إلى الأرض المقدسة لم خُصَّت من بين الأرض بأن أري له عليه السلام فيها تلك الأمور التي في الرؤيا ولم يكن في غيرها من الأرض فالجواب أن الحكيم - كما قدمناه أولاً - لا يعمل شيئاً من الأشياء بحكم الوفاق وإنما يعمله الحكمة عَقَلَها مَن عَقَلَها وجَهِلَها مَن جَهلها

والحكمة هنا تظهر من وجهين أحدهما لأنها هي موضع الحشر كما جاء عنه فأُرِي له عليه السلام الأمر في موضعه الذي فيه يكون و الوجه الآخر هو أن نسبة إسرائه عليه السلام في اليقظة كنسبة إسرائه في النوم لأنه حق والحق لا يتبدل فأول ما أسري به عليه السلام ليلة الإسراء إلى بيت المقدس وهذه إلى بيت المقدس فإن كانت هذه أولاً فهي تَدَرّج وهو حاله عليه السلام في سلوكه وهو أجلّ الأحوال على ما تقدم الكلام فيه وإن كانت هي الآخرة فتكون إبقاء لأثر القُرْبِ والإيناس كما يأتي في موضعه من حديث الإسراء إن شاء الله وقوله عليه السلام فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد - قال بعض أصحابنا عن موسى - إنه يُدخِل ذلك الكلّوبَ في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله قلت ما هذا قالا انطلق الكلوب حديدة ذات فَخِذَينِ معوجة الأطراف
وفيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ إذ إن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا في الغالب يؤخذ ذلك من كَوْن الشَّدق الواحد يَلتَيْم بينما يدخل الكلوب في الآخر ولو خرق الشدق في هذه الدار ما التأم إلا بعد أيام عديدة
ويترتب على هذا من الفقه أن عذاب تلك الدار أضعاف مضاعفة من عذاب هذه الدار كما قال تعالى في حقهم وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتِ ۱ وكون تلك الحديدة ١ معوجة الطرفين فلأنها أكثر في الإيلام وكونه جالساً بين يديه فلأنه أمكنُ له في التمكن من عذابه وفيه دليل على أن العذاب يكون في الجارحة التي كانت بها المعصية في الدنيا كما قال
تعالى جَزَاءً وفَاقًا ذلك من إخباره بعد في الحديث أنه يفعل بالكذاب
و
ضا
المـ
۱ سورة إبراهيم من الآية ۱۷ سورة النبأ من الآية ٢٦
ذلك

ان
مح
ست
زنت
كان
ـعب
ء أن
ال
مَن
عليه
في أمور الدين وذلك أن الحاكم لا يحكم لك إلا فيما ترفعه أنت إليه من الحقوق وما لا ترفعه أنت إليه لا يحكم لك فيه مثال ذلك أن يكون لك على شخص ثلاثُ حُجج أو أربع ثم تطلبه بالحجة الواحدة بتلك الحجة الواحدة يحكم لك الحاكم ولا يلزمه أن يحكم لك ببقية الحجج وأنت لم تُبدِها له ولا طلبت ذلك منه
وكذلك ما نحن بسبيله لما كان للمسترعى على الراعي حقوق من واجبات الدين ولم يوفها له ما جاء منها على شهوة نفسه فرح بكونه لم يعطها إياه فلم يذكرها ويكون ذلك من المسترعَى من أحد وجهين إما لأنه لا يعلم بها ولو علم ما طلبها منه أو لأنه يعلمها ويفرح بكونه لم يطالبه بها وقد يكون ذلك سبباً لحبه إياه فإنه مما يعجب نفسه ۱
والآخر الذي هو من قبيل حظ الدنيا مثل الأكل والشرب والكسوة لم تسامح نفس المسترعى أن يتركها للراعي فطلبه بها فاحتاجوا إلى الحكام في ذلك وتوالى الأمر في ذلك بين الناس فرجع وجوبه مشهوراً معلوماً
ولما قلَّ طالب الأجر وكذلك فاعله وكذلك العالم به تنكر حتى رجع المتكلم به كأنه ابتدع بدعة في الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون على ثلمة وقعت في الدين بتغيير أعلامه وذهاب عماله حتى إنه أفرط الأمر إذا رؤي أحد يأمر أهله بما يتعين عليه وعليهم من أمور الدين يُنهَر ويقال له دَعه فإنما هو صبي حتى يكون في سنك وحينئذ يرجع الأمر كأن الدين دينان دِينُ للصغار ودين للكبار
ما
في
أيضاً أنه كان
یه

ولا
معه
موا
مع
رحم الله السلف لقد أخبرني بعض مشايخي - رضي الله عنهم أجمعين ـ عن بعض مشايخه أحد أصحابه قاعداً وقد جاءه ابن له صغير في المكتب فقال له قد حفظت الوحي أفأقعد أو أمشي ألعب فلم يجبه فكرر ذلك عليه مراراً فلم يجبه حتى قال له صاحبه ألا تقول له يلعب أليس ذلك من مشروعية الصغار فإن ذلك مما يصلحهم فقال له تريد أن يكون في صحيفتي اذهب فالعب لا أفعل إن فعل لا أمنعه فانظر كيف كانت التربية عندهم وكيف التحرز على ما يكتب في الصحيفة هذا فيما يتعلق بالمشروعية من الدين
وأما ما هو من قبيل ما أبيح للنفس فإن تركه لهم - ما لم يقع في الدين مفسدة - مندوب والمستحب في حقه وما يكون بينهم بعضهم مع بعض فالمستحب أيضاً أن يندبهم إلى ذلك من

1 خلاصة هذا المقطع إذا أهمل الراعي الواجبات الدينية للمسترعى وفرح الراعي بأنه لم يُطالب بها فهذه شهوة من شهوات نفس الراعي وإذا فرح المسترعى بأنه لم يطالب بواجبات تثقل على نفسه فهذه شهوة من شهوات نفس المسترعى وهذا الفرح نفسي غير ديني ولا مشروع وقد كان الصحابة في حياتهم مع رسول الله الراعي فيهم والمسترعى متضامن ومرجّح واجبات الدين على واجبات الدنيا وهذا هو الفرح الحق المبين
٤٠١

غير عزيمة عليهم ليروضهم على مكارم الأخلاق لأن تلك هي السنة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 1 ۱
والدليل على ما قلناه من أن ترك حظ النفس منه لهم مندوب في حقه قوله المؤمن يأكلُ بشهوة عياله فجعل عليه السلام ترك شهوته في الأكل لشهوتهم من علامة كمال الإيمان لأنه إذا أكل بشهوته لم يخرج بذلك من الإيمان لأنه مما هو مباح له فما لا يخرجه فعله من الإيمان فتَرْكُه من كمال الإيمان وهذا منه الهلال اليوم من باب التنبيه بالأعلى على ما سواه لأنه إذا كان الأكل الذي به أجرى الله عزّ وجلّ بمقتضى حكمته حياة هذا الجسد وهو يتكرر في اليوم والليلة دائماً والأكل بالشهوة على ما يقوله أطباء الأبدان مما يزيد في صلاح الأبدان وقد جاءت السنّة بالتطبب حتى إن الحذاق منهم قالوا إن الطعام الذي يضر في بعض الأبدان إذا أُكِل بشهوة صادقة إنه لا يضر أكله فجعل ترك ذلك لهم من علامة الإيمان الكامل فيكون مُؤثِراً صلاح دينه على صلاح بدَنِهِ بمقتضى علم الطبّ فهذا من الباب الذي أشرنا إليه آنفاً
وأما الشرط الذي ذكرناه أولاً - وهو ما لم يكن فيه ضرر في الدين ـ فمثل النكاح إذا كانت له به حاجة إن لم يفعله يكن في تركه خلل في دينه ولو كانت الزوجة لا تريد في ذلك الوقت ذلك الشأن فلا ينبغي له هنا وما أشبهه ترك ما عنده لما عندها ولذلك جعل الشرع ترك النفقة التي هي من جملة الواجبات - كما قدمناه - أولاً مع وجود النشوز وهو امتناعها من الوطء بغير عذر شرعي وأمر بالضرب لقوله جل جلاله ﴿ وَالَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ۳ والإخبار أيضاً هنا بالنكاح لأن تُوفي حقه الذي شرع له فيه وذلك أيضاً من أكبر أسباب المفاسد في الدين إن لم يفعله فهو من التنبيه بالأعلى على مقابلة الوجه الذي قبله
فانظر إلى هذا النظام العجيب في الشرع إذا تأملته كيف جعل ترك حظ النفس - إذا لم يكن فيه خلل في الدين - كيف هو على ما قدمناه وكيف تؤفيتها حظها إذا كان بتركه خلل في الدين عاد فعله معروفاً من أكد الأشياء وأوجبها لأنه إذا كان منع يوجب إسقاط واجب عاد أخذه واجباً
مع
ذلك يبيح
وزيادة في التأكيد إذا كان نشوز ممنوع شرعاً فجاء أخذها هنا حظها من أكبر العبادات وعلى هذا فقس
أخذه ممنوعاً وهو الضرب لأن ضرب الرجل امرأته دون
1 أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه
لم نقف على مصدره
۳ سورة النساء من الآية ٣٤
٤٠٢

6
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن الدين وصلاحه هو المقصود وغير ذلك في حكم

قال له
التّبع ما لم يقع به خلل في الدين ولا يؤول به ذلك إلى مباح طرفاه في الفعل والترك سِيَّان وبهذا الدليل يَرجَحُ طريق أهل الصوفة طريق غيرهم لأنهم بنوا طريقهم على ترك حظوظ النفس وحمل الأذى وترك الأذى وإدخال السرور حتى إنه يذكر عن بعضهم أنه لقيه شخص فقال له ذلك الشخص كيف حالك فقال متشوّش أو ما في معناه فلما انفصل عنه قال له أصحابه وكيف يا سيدنا تقول ذلك قال لهم إني أعلم أنه يبغضني فأردت أن أدخل عليه سروراً رعياً لأهل الطريق وقد جاء بعض المتفقهين فقال وكيف يدخل عليه سرورا بكذب وهذا لا يَحِل ما وقع فيه أكبر مما قصد وانفصل عنه بعض الناس أليس ۱ هما مسلمان معاً فقيل بلى قال فإذا كان أحدهما يبغض الآخر بغير موجب إذا كان المبغوض مسلماً حقًا ساءه حال أخيه لكون إيمانه ناقصاً لأن المؤمن يؤلمه من أخيه المؤمن ما يؤلمه من نفسه فكما يشوّشه من نفسه نقص إيمانه فكذلك من أخيه فأخبره بصدق مقتضى حاليهما وهذا من أحسن وجوه الانفصالات إلا أنه لا يعرف وجه هذا الانفصال إلا من حصل له حظ من الطريقين الحال والعلم وألا يكون في أحديهما مقلّداً
ومما يؤيد هذا ويقوّيه قوله لأن يؤدب أحدكم ولده خيرٌ له من أن يتصدق بصاع من طعام لأن الولد معلق بالقلب كما قال له الولد مبخَلَةٌ مَجبَنَة ۳ أي هو أقوى الأسباب في هاتين الحالتين الذميمتين لأن حبه يمنع من إنفاق المال ويرى أن ابنه أولى من الصدقة وإذا خرج إلى الجهاد فقلبه به مشغول بالرجوع إليه فيكون سبباً لجبنه وفراره هذا هو الغالب فجاء الحديث على الغالب من أحوال الناس والمال أيضاً معلق بالقلب لكن تعلقه بالولد أكبر وما يؤلم الولد يؤلم القلب فجاء أدبه الذي يؤلم ابنه والذي به يتألم قلبه أرفع له من صدقة صاع من طعام لأنه أشق على النفس
وهنا بحث وهو أن يقال لِمَ حدَّد الطعام بقدر الصاع فإن كان الطعام أكثر من الصاع
فيجب على هذا أن تكون الصدقة أكبر فإن تَرَكَ تأديب ابنه وتصدّق بصاعين كان له أعظم فالجواب أن نقول ليس المقصود الترك للأدب والزيادة في الصدقة وإنما المقصود تبيين الأفضلية في الأعمال لأن الأدب الشرعي للصغير إنما هو بالشيء اليسير مثل السوط مرة وفتل
1 يعني أليس الشأن أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ رواه الإمام أحمد عن راشد بن يعلى بن مرة العامري رضي الله عنه
٤٠٣
به فیلمان

الأذن مَرَّة أو ما أشبه ذلك وأقل ما جاء في الكفارات المشروعة أيضاً المُدّ كما جاء مد لكل مسكين فأقل الأشياء في الأدب - كما بينا - أرفع من أقل ما حُدَّ في الصدقات المشروعة والقدر المحدود في الصدقة المشروعة هو الذي يحصل به كمال راحة النفس وهو غاية شبعها في الغالب لأن شبعها من الطعام كَمَّل لها جميع شهوتها ومنافعها وجميع قواها على توفية مآربها إحياؤها وإحياؤها فيه ما فيه معلوم شرعاً وطبعاً فجعل أقل التألم - وهو الأدب الشرء أشق على النفس - أعلى من أرفع الأشياء وهو ما يعود إلى إحياء النفوس لكونه ليس له ذلك التألم الذي يوازي الآخر المذكور قبل في نفس الفاعل
وبه
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن أفضل العلوم فهم سرّ الحكمة في حكم الحكيم لأنه يقوى به الإيمان وفيه عون على النفس يؤيد ذلك قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۳ فإن اليقين لا يحصل في الغالب إلا بالنظر والفهم والتدبّر ولذلك قال الله صلى الله عليه وسلم تعلموا اليقين فإني أتعلمه ۳
Dil
ويجب عليه أيضاً أن يعاملهم بما يكون لهم عوناً على توفية ما يجب له عليهم ومما يدل على ذلك قول رسول الله الله لحين جاءه بعض الصحابة بهبة وهبها لبعض أولاده أن يشهد فيها قال له ألك أولاد غيره قال نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته قال لا قال أتحب أن يكونوا لك في البِرِّ سواء قال نعم قال فاعدِلْ بينهم فانظر إشارته عليه السلام بقوله أتحب أن يكونوا لكَ في البرِّ سواء ٤ فكأنه عليه السلام يقول له فعلك ينافي مطلبك فحصّ بهذا على أن يعينهم على البر
ومثله ما روي عنه حين سأله نساؤه من تحب فأعطى كل واحدة منهن دينارا سرًّا فقال صاحبة الدينار فأدخل عليهن جميعاً السرور دون تشويش على الغير لأن ذلك عون على حسن العشرة وحسن العشرة هي في حقهن لما يعود عليهن في ذلك من خير وأما في المماليك فكان عليه السلام يطحن مع الخادم ويقول لا تكلفوهنَّ ما لا يُطِقْنَ ٥
ـد الأحناف ملء الكفين أو ما يساوي ربع صاع والصاع
۱ المد مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره وهو ند الأحناف قريب من أربعة كيلوغرامات وعند الشافعية أقل من ذلك
عند
سورة المائدة من الآية ٥٠
3 أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ثور بن يزيد مرسلاً ولفظه تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني
أتعلمه
٤ أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير بلفظ آخر ٥ أخرجه البخاري ومسلم عن المعرور بن سويد بلفظ مختلف
٤٠٤

وقوله عليه السلام إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ۱ والبحث فيه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى لأنه من باب العون على توفية حق السيد وحفظ ماله
ومثله ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يكتب كتاباً وهو خليفة ومعه بعض أصحابه وكان ليلاً فنام العبد وفرغ الدهن من السراج ولم يفرغ الكتاب فقال له جليسه أيقظ الغلامَ يسكب الدهن في المصباح فقال له هو في أول نومه وقام هو رضي الله عنه وجعل الدهن في السراج ثم رجع يكتب فقال قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز ولو جئنا نتبع ما جاء في مثله لكان كثيراً واليسير يغني مع الفهم عن الكثير
الوجه الرابع قوله عليه السلام والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها انظر إلى هذه الفصاحة في الفصل والإعجاز في توفية المعنى لأن المرأة لا تباشر من حال الزوج إلا ما هو في الدار فلم تكلّف ما هو خارج الدار لكونها لا تصل إليه اتصالاً كلياً والذي يجب عليها في ذلك ما جاء مفسراً في حديث غير هذا وهو قوله عليه السلام ولكم عليهن ألا يُدْخِلْنَ أحداً دُورَكم ولا يُوطِثْن فُرُشَكم غيركم إلا بإذنكم وقوله عليه السلام تحفظ المرأة زوجها في
نفسها وماله هذا هو الواجب
وأما المندوب فقوله عليه السلام جهاد المرأة حُسنُ التَّبَغُل ۳ والجهاد على ضربين واجب ومندوب وكذلك حسن التبعل على هذين الوجهين فما كان من حفظ نفسها وماله وما أشبههما من قبيل الواجب وما كان من التَّزَيّن له وبماله إن قدرت وزيادة التحفظ عليه وعلى عرضه وما أشبه ذلك فهو من قبيل المندوب
الوجه الخامس قوله عليه السلام والخادم راع في مال سيده انظر أيضاً إلى هذا الترتيب العجيب لما أن كان العبد لا يقدر أن يتصرف على المعهود ولا يُفسد أو يصلح إلا المال قيل هو مسؤول عنه لأنه مؤتَمَن عليه هذا في الغالب فإن ائتمنه على غير ذلك وجب عليه التوفية لأن الأمر جاء على الغالب من عادة الناس ومثل ذلك نقول في الزوجة إن ملكها التصرف فيما زاد على ما في الدار وجب عليها
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
جزء من خطبة الرسول الله في حجة الوداع ۳ أورده ابن الجوزي في الموضوعات ١٥٣/٢

٤٠٥

حفظه أي توفية الأمانة فيه حتى إنه قال بعض الناس مما يجب على المرأة أن تخبر زوجها كل ما يزيد أو ينقص في دارها وفائدة ذلك أنه المطلوب بحسن النظر لهم فإذا أخبرته بالكليات والجزئيات كان نظره بحسب ذلك فعاد الخير عليهم جميعاً وكان ذلك عوناً له على توفية حقوقهم فيكون من باب العون على الخير وكذلك العبد مكلف ألا يخون سيده في شيء دَق أو جل ولا يخفي عنه أيضاً من كل ما يزيد أو ينقص شيئاً للفائدة التي ذكرناها في المرأة الوجه السادس قوله عليه السلام والرجل راع في مال أبيه هذا لا ينطبق عليه اسم رجل حتى يكون بالغاً لأنه إذا كان بالغاً وقع عليه التكليف وحينئذ يكون مسؤولاً وأما غير البالغ فليس بمسؤول وهو أيضاً إما في حضانة الأم وكفالتها أو لمن جعل الأب ذلك له فيكون غيره
المسؤول عنه فالذي يجب على الابن أيضاً أن يحفظ مال أبيه ولا يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه
وانظر إلى هذا التنبيه العجيب للابن من أجل أن يخطر له أن مال أبيه كونه يعود إليه بعد يقول ليس أنا مثل غيري فنبه عليه السلام أنه في الوقت مثل غيره ولا يجوز له التصرف إلا كما يجوز للغير وإن كان المال قد يعود له بعد ولذلك إذا سرق الابن مال الأب قطع لأنه ليس له الآن فيه شيء إلا القدر الذي جعل له من النفقة إن كان في وقت يجب له والمال ينطلق على جميع الأنواع التي تُتَمَوَّل من جميع الأموال
والذي يُندَبون إليه جميعاً ـ أعني الابن والخادم والزوجة - مثل أن يعينوه في الأشياء التي ليست عليهم ويوفروا عليه وينبهوه على المصالح التي يعرفونها لكونهم في الغالب أكثر مباشرة للأشياء منه فهم أعرف بالجزئيات الطارئة وما يترتب عليها من المصالح وغيرها أو ضابطه أن يكونوا ينظرون فيه كأنه لهم لأن ذلك من حقيقة الأمانة كما قال الله حتى يُحبَّ لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ۱ هذا في الأجانب فهؤلاء من باب أولى
وهنا بحث صوفي وهو أنهم جميعاً في الحقيقة أمناء فيه والمال للمولى الأعلى فانظر لنفسك بترك الدعوى وتوفية الأمانة واتصف بأوصاف العبودية ولا تتصف بأوصاف الربوبية بتحقيق الملك بمجرد الدعوى فمن هنا شَقِيَ مَن شقي وسَعِدَ مَن سَعِدَ
وقد كان بعض السادة يقول لأولاده لو علمتكم شيئاً واحداً أفلحتم وكان مهابا ۳ فكرر
۱ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن
ماجه عن أنس رضي الله عنه كذا والصواب مهيباً
٤٠٦

ذلك عليهم مراراً مع الأيام ولا يزيدهم على ذلك شيئاً إلى أن تجاسر بعضهم فسأله فقال لهم ادخلوا في اسم العبودية وقد حصل لكم الفوز الأكبر قالوا وما حقيقتها قال تَركُ الدعوى والاعتراض وحقيقة الامتثال والتسليم فلقد أحسن فيما إليه نَدَب
جعلنا الله عبيداً له حقا بمنّه لا ربَّ سواه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٤٠٧

61
عَن أَنَسٍ ۱
حديث التبكير والتبريد بالصلاة
يَ الله عَنهُ يَقولُ كانَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَدَّ البَردُ بَكْرَ بالصَّلاةِ وَإِذا
اشتَدَّ الحَرُّ أَبرَدَ ٢ بالصَّلاةِ يَعني الجُمعَة
ظاهر الحديث يدل على التبكير بصلاة الجمعة في البرد وتأخيرها في الحَرّ والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول الكلام على ما معنى التبكير في أي وقت هو وكذلك التأخير فأما التبكير فالمعني به أولُ الزوال لأنه ما جاء عن النبي أنه صلاها قط قبل الزوال وأما التأخير فبشيء يسير كما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا رجعوا من صلاة الجمعة يقيلون قائلةً الضحى فدل ذلك على أنه لا يكون تأخيرها كثيراً لأنه قدر ما تبدأ الرياح تهب
الوجه الثاني هنا بحث وهو ما الحكمة في التبكير بها في البرد وما الحكمة في التأخير بها أيضاً في الحر فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فما الحكمة فنقول والله أعلم لَمّا بعثه الله عزّ وجلّ رحمة للمؤمنين كما أخبر جلّ جلاله بقوله في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيرٌ ۳ فكان كلّ ما كان فيه تأذ أو شيء من التشويش يزيله عن المؤمنين فلما كان شدة البرد مما يؤلمهم لا سيما مثل أهل الصُّفّة لأن الغالب عليهم وعلى البعض من الصحابة رضي الله عنهم قلة الثياب بكر عليه السلام بها من أجل تألمهم من البرد والبرد بكرة شديد كما أن حرّ القائلة شديد فكان يُبرد بها في الحَرّ لكثرة التألم من الحَرّ أيضاً
1 أنس بن مالك النجاري الخزرجي الأنصاري أبو حمزة صاحب رسول الله و خادمه روى عنه ٢٢٨٦ حديثاً مولده بالمدينة وأسلم صغيرا وظل في خدمة الرسول الكريم إلى أن قبض ثم رحل إلى دمشق ومنها
إلى البصرة وفيها مات سنة ٩٣ هـ / ٧١٢م الأعلام ٣٦٥١
أبرد دخل في البرد والمراد تأخير القيام بالشيء حتى يبرد الحر ۳ سورة التوبة من الآية ۱۸
٤٠٨

الوجه الثالث يترتب على هذا من الفقه أن كل ما يكون للمرء فيه تشويش في الصلاة فينبغي أن يزيله لأنه مما يُحسّن صلاته لأن التشويش لا يمكن معه خشوع ولا حضور قلب وهما من أجل ما يطلب من المصلي ولذلك قال لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبَثَينِ ۱ الوجه الرابع فيه دليل على ابتداء الكلام بالألفاظ العامة ثم يخصص ذلك العام في الخبر نفسه وهو من فصيح الكلام يؤخد ذلك من كونه أتى أولاً بلفظ الصلاة عامة ثم خصصها آخراً بأن قال الجمعة وفيه من الفائدة أنه لا يؤخذ من كلام المَرْءِ بعضُه ويُترك بعضُه لأن أول الكلام قد بينه اخره وبالعكس لكن بشرط ألا يتنافى المعنى الأول مع الآخِر الوجه الخامس فيه دليل على أن سيدنا يشرع من الأمور في الدين بحسب ما يفهمه الله تعالى ويجب العمل به يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام قدّم الصلاة وأخرها ولم يخبر أن ذلك كان بوحي وكان عليه السلام إذا كان ما يأمر به أو يفعله بوحي يخبر به أولاً
وفي هذا دليل للذين يقولون في قول مولانا جلّ جلاله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ الله ٢ هو كل ما يخطر له أو يراه مصلحة أن يفعله وإن لم يكن أُوحي إليه فيه شيء لأن كل ما يتعبّد - عليه السلام - به هو من قبيل الوحي إما بالواسطة - وهو إتيان الملك به ـ وإما بِوَحي إلهام ولذلك لم يختلف أهل التوفيق والتحقيق أن اتباع السنة في أي شيء كانت هي أفضل الأعمال وأقربها إلى الله عزّ وجلّ ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ٣


الوجه السادس فيه دليل على أن المطلوب في الصلاة إخلاء القلب لأنه بيت الربّ عزّ وجل يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام يلحظ شدة البرد والحر اللذين هما ولا بد يصلان إلى القلب حتى يشتغل بذلك عما هو بسبيله فكذلك ينبغي في كل ما يشغله من أي شيء كان ومن أجل ذلك خرج أهل التوفيق عن الدنيا لأنه لا شيء أكثر تشويشاً منها ومن أجل ذلك أيضاً تركوا الشهوات وطلب المناصب لأن ذلك أيضاً من أكبر التشويشات ولذلك قال تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ 4 قال أهل التوفيق سُكارى
من حُبِّ الدنيا

1 أخرجه مسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها بلفظ الا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان
والأخبثان هما البول والغائط سورة النساء من الآية ١٠٥ سورة ال عمران من الآية ۳۱

٤ سورة النساء من الآية ٤٣
3
٤٠٩

ا
الوجه السابع فيه دليل على أنه إذا كان التشويش يسيراً لا يُبالى به لأنه قلما ينفك أحد منه إلا الخواص وقليل ما هم يؤخذ ذلك من قوله في الحرّ والبرد فوصفهما بالشدة فإذا لم تكن فيهما شدة فلا بد من تألم ما لأن البشرية خُلقت ضعيفة والضعيف كل شيء يؤثر فيه بالقدرة ولذلك قال العلماء إن الحقن ۱ إذا كان يسيراً لا يمتنع معه الخشوع فالصلاة جائزة الوجه الثامن فيه دليل على الأمر بالنظر لمصلحة العامة لأنه من أجل قلة حمل البعض ذلك الأذى الذي هو الحر والبرد لأنه بالقطع منهم من يتحملهما ويفرح بهما لما يكون له فيهما من الأجر لأن الأجر في العبادة بقدر التعب والتعب يزيد الأجر لأنه من جملة المجاهدات ولهذا كان بعض المتعبدين يصلي وِرْدَه في الحرّ في البيت وفي البرد في سطح البيت للعلة المذكورة وقد قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٢ فحمل عليه السلام الكل على عمل واحد فنقص الأجر للبعض من أجل أن غيرهم قد لا تجزئه صلاته من كثرة التشويش الذي يلحقه أو قد يلحقه منه مرض يمنعه حضور صلوات كثيرة إلا أن هنا معنى ما وهو بشرط ألا يدخل لأحد

الفريقين خلل في الدين لأن أحد الفريقين إنما نقصه زيادة في الأجر بعدما كمل له فرضه الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يؤخذ ما زاد على الواجب من العبادات من المندوبات إلا بشرط ألا يدخل على الغير نقص في فرضه يؤخذ ذلك من كونه - عليه السلام - ما حَرَم البعض زيادة الأجر كما وصفنا إلا من أجل نقص فرض الغير
الوجه العاشر فيه دليل على أن قوله عليه السلام سيروا بِسَيرِ أضعفكم ۳ أنه ليس في السفر وحده بل في كل موضع لأن هذا الحديث من ذلك القبيل لما لم يقدر البعض على حمل الأذى خفف عليه السلام عن الكل وحملهم مَحْمَلَ الضعفاء
الأرفق
ويترتب عليه من الفقه أن الإمام ينظر إلى جماعته فإن رأى فيهم مريضاً أو ضعيفاً أو يعلم صاحب حاجة يخفف فهي السنة وإن علم أنهم أقوياء في الأبدان والإيمان أخذ بهم نحو الأفضل وأطال الصلاة وكذلك ينبغي لكل من له رعاية أعلى أو أدنى أن ينظر إلى ما هو بهم في جميع الأمور يسيراً كان أو كثيراً والكمال فيه مطلوب وما يوجد هذا الحال إلا بفقه الحال وفقه الحال ـ على ما ذكره السادة الفقهاء - أنفع أنواع الفقه لأنه هو نور الفقه وزبدته مثل
1 الحقن والاحتقان هو احتباس البول وتجمعه في المثانة وهو من المزعجات والمؤلمات ويسمى صاحبة
حاقن وفي المثل لا رأي لحاقن
سورة العنكبوت من الآية ٦٩
۳ ذكره العجلوني في كشف الخفا ٥٦٣/١ والقاري في الأسرار المرفوعة ۱
٤١٠

الصَّرْف للذي يقرأ النحو ويسميه أهل الصوفة المراقبة لأنه في كل نَفَسِ مراقب ما حُكمُ الله
عليه
وقد أُخبرت عن بعض الأجلة من الفقهاء حقًّا أنه كان إذا سئل مسألة يسكت ساعة وحينئذ يجيب فسئل عن ذلك فقال انظر أيهما خيرٌ لي وحينئذ أفعل فانظر كيف جمع هذا السيد بين ثلاث الفقه العام وفقه الحال والمراقبة
ولقد أدركتُ بعض المباركين من أهل الصوفة وأنه اجتمع يوماً مع بعض الفقهاء المتبرزين للفتوى وكان فيه أهلية لذلك غير أنه كانت السلطنة تستعمله في المشاورة في الأمور لفضله فتكلم مع ذلك الفقيه وطلب منه الدعاء وكان ذلك من شأنه التنازل للفقهاء وطلب الدعاء منهم فقال له الفقيه - على طريق التواضع أيضاً - بل أنت الذي ينبغي أن تدعو لي لأنك من علماء المسلمين وفقهائهم فلم يتمالك - رحمه الله - أن غلبته الدموع حتى كادت نفسه تَزهَق من كثرة بكائه وهو يردد ويقول مِثْلي يُحسَب من العلماء والله ما يكون العالم عالماً حتى لا يخرج له نَفَس إلا لله وبالله وإنما نحن ممن يلعب في دين الله فلقد رجوت بذلك اليوم وذلك الاعتراف مع - ما كان فيه من الدين - أن الله عزّ وجلّ يرفعه بذلك في الآخرة مع المقرَّبين
جعلنا الله جميعاً هناك بفضله لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١١

حديث تحية المسجد والإمام يخطب
عَن جابِرِ بنِ عَبدِ الله ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قال جاءَ رَجُل وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمعَةِ فقالَ أَصَلَّيتَ يا فُلانُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَاركَعْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز تحية المسجد والإمام يخطب والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول الحديث الذي يعارضه وهو أن رسول الله و كان يخطب يوم الجمعة ودخل رجل فجعل يتخطى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس فقد اذيت وفي هذا الحديث دليل على منع التحية والإمام يخطب ومن أجل هذين الحديثين وقع الخلاف بين الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله
فالشافعي
أخذ بالحديث الأول وهو جواز الصلاة والإمام يخطب وعلل الحديث الثاني بأن قال إنما أمره بالجلوس من أجل علة الأذِيَّة ومالك ومن تبعه أخذ بالثاني وهو منع الصلاة مع الخطبة وعلّل هو وأصحابه بأن قالوا إن الرجل كان ربَّ الثياب فأراد النبي لا الله وأن يأمره بأن يقوم فيصلي فَيَتَصَدَّقَ عليه
وكلا العلتين - فيما يظهر والله أعلم - ليستا بالقويتين بدليل احتمالهما معاني أخر فإذا احتمل الموضع عدة معان فليس أحد المحتمَلات يكون علة يُناط بها الحكم ويكون مثل الأدلة إذا تعارضت حيث يُنظر الدليل من خارج أو يؤخذ أحد المحتمَلات من أجل الخلاف الذي في إذا تعارضت وهي أربعة أقوال فنرجع الآن نبين احتمال كل حديث
الأدلة
فأما الحديث الأول - وهو الذي قالت المالكية عنه إن النبي لا لا لا أراد أن يقوم فيتصدق عليه
۱ جابر بن عبد الله بن عمرو الخزرجي الأنصاري صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي له ولأبيه
صحبة غزا تسع عشرة غزوة روى له الشيخان ١٥٤٠ حديثاً توفي سنة ۷۸هـ /٦٩٧م
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني عن جابر رضي الله عنه
٤١٢

فهذه دعوى لا تصح إلا إذا روي عنه ذلك كما قال عليه السلام في لحم الأضاحي إنما الله نهيتكم من أجل الدافة ۱
وأما الاحتمال الذي يحتمل زائداً على هذا الوجه الذي قالوه من الاحتمالات أن يكون عليه السلام قال له ذلك وهو قاعد على المنبر لم يشرع في الخطبة بعد لأن العرب تسمي الشيء بما قرب منه واحتمل أن يكون على آخر الخطبة ويصدق عليه أن يقال وهو يخطب واحتمل أن يكون ذلك قبل أن يؤمروا بالإنصات للخطبة

واحتمل أن تكون تلك الخطبة - وإن كانت في يوم جمعة - لأمر آخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر خطب الناس وألقى إليهم ذلك الأمر وما بدا له فيه وهذا ـ والله أعلم - أظهر بدليل قوله عليه السلام للداخل أصليت يا فلان قال لا قال قم فاركع لأن هذه الخطبة لو كانت للجمعة ما قال له أصليت لأن وقت الصلاة لم يدخل لأنه بالإجماع لا يجوز لأحد أن يصلي يوم الجمعة الظهر حتى تفوته الجمعة قطعاً وأنه إن صلى والإمام يخطب ولم يصل بعد فإن صلاته لا تجزئه والذهاب يوم الجمعة للجمعة إنما يكون قبل الزوال وهو التهجير وأكثر ما يتأخر المتأخر أن يجيء والإمام يخطب كما فعل هذا فلا يتقدم له وقت يمكن له فيه صلاة فكيف يصح أن يسأله النبي الله أصليت يا فلان

فبهذا التوجيه سقط دليل الشافعية بالحديث نفسه وهو من القوة بحيث لا يخفى وهذا إن كان | المراد بقوله أصليت صلاة الفرض وأما إن كان المراد بقوله أصليت تحية المسجد - وهو الظاهر لقوله عليه السلام قم فاركع ولم يقل فَصَلِّ - فبطل هذا الجواب والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على أن صلاة الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب ممنوعة قد ثبت الحكم بذلك عندهم من أجل أن الصحابي رضي الله عنه دخل والنبي يخطب فظن أنها خطبة الجمعة فقعد ولم يُصَلّ ويكون أمرُ النبي الا الله له بالركوع فيه من الفقه وجهان الوجه الأول أن الركوع والخطيب يخطب ما عدا خطبة الجمعة جائز و الوجه الثاني احتمل أن الوقت الذي قال عليه السلام فيه أصليت كان بعد أداء العصر بدليل أنه عليه السلام لم يأمره بالركوع إلا بعد أن قال له أصليت فدل أنه لو قال الداخل له صليتُ لم يأمره بالركوع لأن الركوع بعد صلاة العصر ممنوع بل مكروه لوقت الغروب فيحرم
۱ الدافة الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلدٍ وتمام الحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا رواه ابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها التهجير إلى الجمعة وغيرها التبكير والمبادرة إلى كل شيء ومنه الحديث لو يعلم الناس ما في التهجير
لا ستبقوا إليه
٤١٣

الوجه الثالث فيه أيضاً تقوية لمنع الركوع بعد العصر ويكون ما فعله من أجل العذر فإن اعترض معترض وقال وكيف يكون الصحابي يقعد حتى يخرج وقت الجمعة ولا يصلي ولا يعلم هل صلى الناس أو لم يصلوا حتى يأتي في غير وقت الصلاة ويظن أن هذا الوقت هر وقت الجمعة
فالجواب أن هذا ليس من قبيل المحال بل هو من قبيل الممكن الجائز فإنه قد ينام الشخص إلى هلم جراً ولا يستيقظ لصلاة الظهر وقد يجيء والناس يصلون العصر ويظنه الظهر ولا يعلم حتى يرى بعد ذلك الشمس قد اصفرت فيسأل عن العصر فيقال له ذلك الذي صلينا قبل بيسير والذي صليت معنا كان العصر فقد يحلف أنه ما صلى معهم إلا بنية الظهر وكثيراً ما يقع ذلك في الأيام القصار أو يكون في شغل ضروري قد أشغل خاطره ولا يلهم إلى الصلاة إلا مع أذان العصر وهو
يظنه ظهراً حتى يأتي الله بمن ينبهه على ذلك وهذا كثير وقوعه فلا يمتنع ما قلناه
وأما حجة الشافعية بالحديث الثاني الذي قال عليه السلام فيه اجلس فقد اذيت إنما أجلسه من أجل الأذيَّة والصلاة جائزة اللهم إن سُلَّم أن الإجلاس كان من أجل الأذية فلا اعتراض عليه لأنه نص في الحديث وأما كونهم يقولون الصلاة جائزة احتمل جواز الصلاة وضده فإذا وقع الاحتمال بطل الدليل

لكن بالبحث المتقدم صح القول للمالكية ولا يكون بالاحتمال الذي ذكرناه انفاً تعارض بين الحديثين وقد خرج مسلم أنه قال من دخل يوم الجمعة والإمامُ يخطب فليركع ركعتين خفيفتين فإن صح هذا فهو نص في الباب لا يحتمل التأويل ومن أجل هذا جاء في مذهب مالك قوله على نص الحديث أنه من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين وما ذكرنا أولاً ظاهر الحديث ومعارضته بالثاني إلا تأدباً مع من تقدم لأنهم رضي الله عنهم لهم الفضل علينا ولا ينبغي لأحد أن يَجْحَد فضلهم علينا فإن ذلك غباوة وجهالة وإن كان بعض المواضع فتح فيها على من تأخر أكثر مما فُتح على من تقدم فليس ذلك مما يُخلّ بجلالة منصبهم وإنما ذلك من طريق المنّ من المولى الكريم ليبقي لمنكسر القلب بالتأخير شيئاً يجبره به ولذلك قال فلعل بعض من يبلغه أن يكونَ أوعى له من بعض من فجعل للآخر البعض والأكثر للمتقدم ولحكمة أخرى لأن تبقى عجائب الكتاب والحديث
وفوائدهما لا تنقطع إلى يوم القيامة

سمعه ۱
جزء من حديث أوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض إلخ أخرجه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه

٤١٤

فإن ملي ولا

فت هو
شخص
والذي
الأيام
ـر وهو
إنما
فلا ـصلاة
بين
تعتينِ
مالك
ذكرنا ـضل
مما
ولفائدة أخرى أن تبقى النفوس تتشوّف إلى استمطار الفضل من الفتاح العليم لقوله عزّ وجلّ

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۱ فلو كانت الفوائد قد فرغت لما كان يحصل للمخاطب المتأخر من فائدة معنى هذه الآي والأحاديث شيء وقد قال في القرآن إنه لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَقُ على كثرة الردّ
لكن هنا إشارة إلى أن ما يُفتح لمن تأخر لا يمكن أن يكون مخالفاً لجميع من تقدم غير أنه إما أن يقوي ضعيفاً من الأقوال أو ما كانوا هم رضي الله عنهم أخذوه بإجماع يأتي المتأخر فيه - إذا فتح له بدليل واضح أو زوال إشكال بحجة قائمة اشتغل من تقدم عن ذلك أما ما كان لهم به اهتمام لندارته أو ما كان ذلك الإشكال عندهم إشكالاً لقوة إيمانهم فما جاء في المتأخر مع ضعف الإيمان وقلة الفهوم عاد مثل الجبال فيظن الظان بجهله أنه أتى بشيء لم يقدر من سبقه على مثله وهذا مما قدمناه جَهل بالعلوم وبأهلها
فإن خالف ما ظهر له كلَّ من تقدم من طريق ما تقتضيه قواعد الشرع فيتهم نفسه فإن في عين كمال فهمه نقصاً لا شك فيه بدليلين أحدهما منطوق به وهو قوله عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ۳ والآخر بالإجماع أن عمل المتقدمين أقوى من عمل أهل وقتنا والعمل هو ثمرة العلم فإذا كانت شجرتان ثمر الواحدة خير وأكثر من الأخرى قطع بالجزم أن التي ثمرها أكثر وأحسن خير من الأخرى بلا خلاف في ذلك عند من له
بصيرة وعقل
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الكلام في الخطبة إذا كان فيه مصلحة في الدين يؤخذ ذلك من قطعه الخطبة بكلامه مع الرجل ويترتب عليه من الفقه أنه إذا كان المرء في عبادة ويمكنه عمل آخر بلا خلل يقع في الذي هو بسبيله جائز ما لم يمنع من ذلك وجه من وجوه الشرع ولهذا المعنى أجاز بعض الفقهاء أنه إذا كان أخذ في نافلة وقرع الباب من له في دخوله مصلحة وأنه إن تركه حتى يتم ما هو فيه أنه يروح
١
-3°
حمد
۱ سورة البقرة من الآية ۸

أوله إن جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد والدارمي والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا إنها ستكون فتنة - وفي رواية فتن - قلت ما المَخْرَج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخَبَرُ ما بعدكم إلى آخر الحديث ۳ أخرجه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ
٤١٥

عنه ولا يجده أنه يقول ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَم ١ ويرفع بها صوته ليشير إليه أنه في صلاة وهذا عندي فيه نظر لأنه ينطق بالقرآن على خلاف ما أمر به فأولى من ذلك أن يباح له اليسير من الكلام الذي فيه الخلاف من أجل الضرورة ليسلم بذلك من التهاون بالكتاب العزيز والله المرشد
للصواب بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١٦
03
۱ سورة الحجر من الآية ٤٦

حديث دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم
عَن أنس بن مالك رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أَصابَتِ النَّاسَ سَنَة ١ على عَهد النَّبِيِّ ل فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في يوم جُمعَةٍ قامَ أَعرابي فَقالَ يا رسول الله هَلَكَ المالُ وجَاعَ العِيالُ فَادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَديهِ وما نَرَى في السَّماءِ قَزَعة فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما وَضَعَهُما حَتَّى ثَارَ السَّحابُ أمثالَ الجِبالِ ثُمَّ لَم يَنزِل عَن مِنبَرِهِ حَتَّى رَأيتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ عَلَى لحيته فَمُطرنا يَومَنا ذلِكَ وَمِنَ الغَدِ وَمِن بَعدِ الغَدِ والذي يليه حتّى الجُمُعَة الأُخرى وقامَ ذَلِكَ الأَعْرابِيُّ - أو قال غيره - فَقالَ يا رَسُولَ الله تَهَدَّمَ البِناءُ وَغرِقَ المَالُ فادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَدَيه وقالَ اللَّهُمَّ حَوالَينا وَلا عَلينا فَمَا يُشيرُ بِيَدِهِ إِلَى ناحيةٍ مِنَ یه السَّمَاءِ إِلا انفَرَجَت وَصارَتِ المَدينَةُ مِثل الجَوْبَة ۳ وَسالَ الوادِي - قناة ٤ ـ شَهراً وَلَم يجيء أحد من ناحِيَةِ إِلا حَدَّثَ بالجَوْدِ ٥
6
ظاهر الحديث يدل على جواز الكلام للإمام وهو في الخطبة لأمر أكيد وجواب الإمام على ذلك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها جواز الإشارة إلى شيء يعرف بالعادة ويجزىء عن تبيينه يؤخذ ذلك من قوله سَنَة ولم يعين ما هي لأنه قد عرف بالعادة أنه أشار إلى السنين التي فيها القحط والجوع
1 السَّنَة الجدب والقحط
القزع قطع السحاب المتفرقة في السماء مفردها قَزَعة
۳ الجوبة الحفرة المستديرة المتسعة

قناة اسم مكان وهو هنا بدل من الوادي ممنوع من الصرف
٥ الجود المطر الغزير الذي لا مطر فوقه
٤١٧

ومن ذلك قوله عليه السلام اجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ اللهم اشدد وطأتك على مُضَى
اللهم
أنج الوليد بن الوليدِ وعُتْبَةَ وربيعةَ وعيَّاش والمستضعفين بمكة ۱
ويجوز الاستسقاء بالدعاء من أهل الفضل بغير خروج يؤخذ ذلك من دعاء النبي بالغيث عند قول الأعرابي له ما قال
الوجه الثاني فيه دليل على طلب الدعاء ممّن فيه أهلية للقبول عند الملمات ومن أدب الطلب بثّ الحال إليه قبل طلب الدعاء يؤخذ ذلك من قصد الأعرابي إلى النبي الله لأنه بالإجماع الأفضل فطول حياته - عليه السلام - كان لا يُقصد في المهمات غيره إجماعاً ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول للعباس عند احتياج الناس إلى المطر وخروجهم إلى الاستسقاء ويؤخذ كنا نستسقي بالنبي عليه السلام والآن نستسقي بك فإنك عمّه وأقرب الناس إليه الأدب في تقدمه تبيين الحال قبل طلب الدعاء من فعل الأعرابي ذلك وأقره النبي الوجه الثالث فيه من جهة الحكمة أنك إذا شكوت ما بك من الضرّ لمن فيه دين رقّ لك وكان دعاؤه لك بقريحة وعند تلك الرقة وجَمْعِ ذلك الخاطر المبارك تُرجَى الرحمة والإجابة الوجه الرابع فيه دليل على أن فرض الكفاية من قام به كفى إذا عرف وجه الصواب في ذلك يؤخذ ذلك من أن هذا الأعرابي لمّا لحق الناسَ ما لحقهم من القحط تعين على الكل اللجا إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله له الله لما نزل بهم وفي الوقت من هو أعلى من ذلك الأعرابي مثل الخلفاء رضي الله عنهم وجلة الصحابة فلم يتكلموا وقام ذلك الأعرابي بالوظيفة وأقره النبي على ذلك ولو لم يكن ذلك كذلك لقال له النبي ل في ذلك شيئاً يُعلم به أن الحكم ليس كذلك لأن تأخير البيان عند الحاجة لا يجوز
الوجه الخامس فيه دليل على أن طالب الحاجة ينادي إلى من يطلبها منه بأرفع أسمائه يؤخذ ذلك من أن الأعرابي نادي النبي الله و بأرفع أسمائه وهو رسول الله الوجه السادس فيه دليل من الحكمة استعطاف المطلوب منه الحاجة فإنه مما تُسَرُّ به النفس فقد يكون عوناً على قضائها لكن بشرط ألا يتعدى في ذلك لسان العلم تحرزاً من أن
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأذان باب يهوي بالتكبير حين يسجد ونصه كان رسول الله حين يرفع رأسه يقول سَمِعَ الله لمن حمده ربَّنا ولك الحمد - يدعو لرجال يسميهم بأسمائهم فيقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم
أخرجه البخاري وابن سعد وابن خزيمة وأبو عوانة وابن حبان والطبراني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له
٤١٨

يكون ما يُسَرُّ ذلك الشخص به ممنوعاً شرعاً فلا يجوز لأنه من حاول أمراً بمعصية كان له أبعد
فيما يرجو
وقوله هلك المال المال عند العرب هي الإبل كما أن المال عند أهل التجارة الذهب أو الفضة كل أحد بحسب عادته
الوجه السابع فيه دليل على رفع اليدين في دعاء الاستسقاء يؤخذ ذلك من قوله فرفع يديه ولذلك لم يُرو عن الإمام مالك رحمه الله أنه رفع يديه إلا في دعاء الاستسقاء خاصة وهل يرفع في غيره من الأدعية أم لا فيه خلاف بين العلماء
وقوله وما نرى في السماء قرعة أي شيئاً يستر من السحاب وقوله فوالذي نفسي بيده ما وضعها أي ما أتم الدعاء وقوله حتى ثار السحاب أي كثر وقوله أمثال الجبال في هذا الموضع دليل على عظم قدرة الملك الجليل يؤخذ ذلك من سرعة اختراعه عزّ وجلّ لذلك السحاب العظيم في هذا الزمن القريب جدًّا
الوجه الثامن فيه دليل على عظم حرمة النبي يؤخذ ذلك من سرعة إسعافه عليه السلام بمطلوبه في الوقت
الوجه التاسع فيه دليل على جواز مساق اليمين في الكلام وهو من أحد الأقسام الذي يسميه بعض الفقهاء لغو اليمين يؤخذ ذلك من قوله فوالذي نفسي بيده
الوجه العاشر فيه دليل على أن تغيير العادة قد تكون دالة على رحمة أو غيرها يؤخذ ذلك من أن حبس المطر قبل تغيير حاله - وهو يؤول إلى هلاك المال ـ فهذا تغيير نقمة وقد جاء إذا أبغض الله قوماً أمطر صيفهم وأصحى شتاءهم وكوْنِ ۱ تعجيل السحاب والمطر عند دعاء سيدنا تغيير عادة إلا أنها تغيير رحمة
وقوله ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته أي لم يفرغ من الخطبة حتى كثر المطر لأن المطر ينفذ من سقف المسجد لأن سقف المسجد كان من جريد النخل ولا بد أنه كان يحبس شيئاً من المطر ثم يهطل حتى يتحادر المطر على لحيته الوجه الحادي عشر وفيه من الفقه أن الخطبة أو الصلاة إذا تُلُبَسَ بهما لا يُقطعان للمطر يؤخذ ذلك من أن سيدنا نزل عليه المطر حتى تحادر على لحيته وأتم الخطبة والصلاة
٤١٩
۱ العطف على المصدر المؤوّل أن حبس

الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الدعاء من أكبر وسائل الخير يؤخذ ذلك من سرعة الفائدة بدعائه عليه السلام وقد قال من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير۱ ولهذا يقول أهل الصوفة إن الدعاء نفسه هو عين الخير وقضاء الحاجة في حكم التَّبَع لأنه مناجاة للمولى الجليل وإظهار الفقر إليه وهو خلع العبودية ۳ ولم يُخلع على عبدِ أجلُّ منها وكفى في ذلك قوله تعالى ﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ ﴾ ۳ فما حصل لهم الشرف الرفيع ولا الحماية العظيمة إلا بهذا الوصف العجيب وهو وصف العبودية وقد قال عز وجل في الضد وَأَنَّ الْكَفِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ ٤
الله عنهم -
الوجه الثالث عشر قوله فمطرنا يومنا ذلك إلى قوله الجمعة فيه دليل على أن الإعطاء يكون على قدر حرمة الشفيع فلما كان هنا الشفيع صاحب حرمة عظيمة توالت الأمطار حتى استوفوا ما أرادوا من الخير ولهذا المعنى وقال أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون ه الوجه الرابع عشر فيه دليل صوفي لأنهم يقولون قدم محبوبَكَ قبل مطلوبك تجد مرغوبك الوجه الخامس عشر قوله وقام الأعرابي أو قال غيره شكٍّ من الراوي وهنا بحث لِمَ قام في المرتين هذان الأعرابيان أو الأعرابي الواحد - على شك الراوي - ولم يتكلم من الخلفاء أحد من الصحابة فالجواب أن مقام الخلفاء والصحابة - رضي الرضى والتسليم ومقام السائل الفقر والتمسكن وقد قحطت مرة جزيرة الأندلس فأتوا لبعض الصالحين المتولهين فرغبوا منه أن يخرج للاستسقاء وكانت عادته أن يركب قصبة يظهر بذلك ما يشبه الحمق فخرج معهم معهم وأتى غيطاً للملك فقرع الباب قرعاً عنيفاً فخرج إليه الجَنّان ٦ مسرعاً فقال له ما شأنك فقال اسْقِ كلّ ما في الغيط ويسمى الغيط بالأندلس بستاناً فقال له ما أكثر فضولك ! أنا أعرَفُ بستاني إذا احتاج السقي سقيته فردّ رأسه إليهم وقال لهم سمعتم مقالته هو أعرف ببستانه فما أردتم مني إلا أن يخزيني ثم ركب قصبته وتركهم وانصرف فما رجعوا إلا وهم قد سُقوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
الخلع مفردها خلعة وتعني العطية الكريمة وتكون تكريماً من الخالع للمخلوع عليه
۳ سورة الحجر من الآية ٤٢
٤ سورة محمد من الآية ۱۱
٥ انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي ٣/ ١٧٥
٦ الجَنَّان العامل في الجنّة وهي البستان

٤٢٠

وسيدنا كان يحمل كُلاً على حاله فالضعيف يجبره والقوي يحمله وما بين ذلك يلطف به كل ذلك رحمة من الله بعبيده ليدخل في هذه السنة المباركة القوي والضعيف وكل واحد منهم متبع إلا أنه بشرط أن يكون كل واحد من القوم يعرف شربه من الحقيقة أو من الشريعة أين هو وما شروطه وما وظيفته وهنا هي الفائدة العظمى جعلنا الله ممن مَنَّ بها عليه بمنّه الوجه السادس عشر قوله فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا البحث هنا كالبحث في قوله هلك المال غير أن هنا معنى آخر وهو أنه يدعى بالصحو عند كثرة المطر ودوامه كما يدعى بطلبه عند إبطائه وعدمه لأن كلتا الحالتين ضرر والمقصود للضعيف ما
فيه رفق
الوجه السابع عشر وفي قوله عليه السلام حوالينا ولا علينا من الفقه أنه لا يطلب من رفع الأذى إلا قدر ما تحقق أنه أذى لأنه لما تهدم البناء في المدينة وغرق المال - وهي الإبل كما تقدم - لأن كثرة المطر للإبل تتوجّل فيه ولا يصلح لها به حال والجبال والصحارى ما دام المطر فيها كثرت الفائدة فيها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه وغير ذلك من المصالح فدعا أن يرفع قدر ما فيه الضرر وتبقى الجبال وما حولها لما يُرجَى فيها من الخير الوجه الثامن عشر في هذا دليل على ما أعطى الله سبحانه نبيه عليه السلام من الإدراك العظيم للخير على سرعة البديهة
الوجه التاسع عشر قوله فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب فيه دليل على عظم معجزته عليه السلام في ذلك وهو أن سخّرت السحاب له كلما أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلام لأن كلامه عليه السلام مناجاة للحق وأما السحاب فبالإشارة فلولا الأمر لها بالطاعة له عليه
السلام لما كان ذلك لأنها أيضاً ـ كما جاء - مأمورة حيث تسير وقدر ما تقيم وأين تقيم وهنا إشارة لطيفة وهي أن السحاب تفهم - على بعدها - منه الإشارة والمحروم والأطروش ۱ القلب يسمع دور المواعظ ولا ينتبه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ومن لم يكن له في

القدم سعادة فكل موعظة عليه خسران وقوله إلا انفرجت أي زالت وتنحت امتثالاً لما به أمرت وقوله وصارت المدينة مثل الجوبة معناه مثل جيب الثوب أي في ناحية منه وقوله وسال الوادي قناه شهراً أي جرى
1 الأطروش الأطرش الأصم سورة المطففين من الاية ١٤

3
4
٤٢١

الماء من المطر شهراً وهو من أبعد أمد المطر الذي يصلح الأرض التي هي متوعرة جبلية لأنه يتمكن في تلك الأيام بطولها الذي فيها لأنها بارتفاع أقطارها لا يثبت الماء عليها فيبقى فيها حرارة فإذا دام سكب المطر عليها قلت تلك الحرارة وخصبت الأرض ولذلك قال جلّ جلاله في كتابه كَمَثَلِ جَنَّتِي بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَتَانَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ۱ لأن المطر الوابل هو
الشديد فتخصب أرضها فيأتي ثمرها ضعفين مما هي العادة فيه
وقوله ولم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود أي كل الجهات دام فيها المطر وهنا إشارة وهي أن بَرَكة الجوار أفادت الأرض الرحمة وهي جماد فكيف بالحيوان ومن ذلك مجاورة أبي طالب مع عدم الاتباعية حصلت له البركة وهي كونه أقل أهل النار عذاباً لكن في المجاورة إشارة لَمّا كان فيها منفعة ما وهي ما يوجد فيها من العون بما يخرج منها لأهل الإيمان لحقتها البركة فإن كانت بزيادة ما ولو بالقرب لحقتها حرمة الاحترام

ألا ترى كيف جعل النبي ل لما قَرُبَ من المدينة بقدر اثني عشر ميلاً حرماً كحرم مكة لا يقتل صيده ولا يُعضد شجره لحرمة من جاورها ! فهو مثل الاتباع في العاقل المخاطب لأن المنفعة من كل نوع من الخلق بحسب ما يتأتى منه فإذا كانت المجاورة بنسبتها يكون الخير وأقلها عدم وجود الشر جاء في الخبر هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ۳ وإلا كان الضد ولذلك يقول أهل التحقيق إن الرجل إذا كان محققاً كان مثل النار لأن النار من استعملها وتحفظ منها وجد فيها منافع شتى كما قال عزّ وجلّ وَمَتَنَعَا لِلْمُقْوِينَ ٤ قال العلماء معناه المحتاجين ومن استعملها ولم يتحفظ منها فإنها تضره وكذلك الرجل المحقق من عرفه وتأدب معه وجد فيه منافع و من از دری به يلحقه الضرر منه وإن لم يقصد هو ذلك لأن الله عزّ وجلّ يغار له لقوله عزّ وجلّ من أهان لي وليا آذنني بالمحاربة ٥
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ٢٦٥ ولا يعضد شجره لا يقطع
۳ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله عزّ وجلّ بلفظ اخر
٤ سورة الواقعة من الآية ۷۳
0 أخرجه الطبراني في الكبير والهيثمي في معجم الزوائد والسيوطي في الحاوي للفتاوي بلفظ آخر
٤٢٢

حديث صلاة النوافل قبل الفرائض وبعدها
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُصَلِّي قَبلَ الظُّهرِ رَكعتينِ وَبَعدَها رَكَعَتَينِ وَبَعدَ المَغرِبِ رَكَعَتَينِ في بَيْتِهِ وَبَعدَ العِشاءِ رَكَعَتينِ وَكانَ لاَ
يُصَلِّي بَعدَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَنصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكَعَتَينِ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
*
*
ركعتين
الأول الإخبار بركوعه عليه السلام قبل الظهر وبعدها في المسجد
الثاني أنه عليه السلام كان لا يركع بعد المغرب في المسجد وكان يركع في بيته بعدها
الثالث أنه كان لا يركع في المسجد يوم الجمعة لا قبل ولا بعد وأنه عليه السلام كان
يركع في بيته عند انصرافه منها ركعتين والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الذي جاء عنه عليه السلام من صفة هذا التنفّل هل هو تعبد لا يعقل له
معنى أو ذلك يعقل له معنى ولمَ ترك الصبح والعصر ولم يذكرهما وما الحكمة فيهما فالجواب أما كون الصبح والعصر لم يُذكرا فقد ذُكرا في موضع آخر لأنه قد جاء لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر ۱ وقد جاءت فيهما أحاديث كثيرة وأنه عليه السلام كان يخففهما وقد ذكرت العلة في تخفيفهما وقد جاء أن العصر كان عليه السلام يركع قبلها ركعتين والأحاديث في ذلك أيضاً كثيرة وأما هل لتلك الصلاة معنى أو هي تعبّد فإن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه
۱ رواه البيهقي عن ابن عمر وعن أبي هريرة وعن سعيد بن المسيب مرسلاً واللفظ مختلف
٤٢٣

حين
لحكمة فهي - والله أعلم - الإرشاد إلى الزيادة في الخدمة كما قال عليه السلام لضمام ۱ قال له هل عليَّ غير ذلك فقال لا إلا أن تطَوَّع فكان ندبه عليه السلام إلى التطوع بالقول ثم جاء عمله عليه السلام هنا تحضيضاً على ما ندب إليه بالقول فإن عمله عليه السلام أبلغ في التعليم وتقعيد الأحكام بالفعل أبلغ وإن كان القول كافياً - كما هو معلوم من الشريعة في غير
ما موضع - وهذا وجه حسن
الوجه الثاني فيه من الفقه أن كل ما يأمر المرء به غیره ويرغبه فيه من أفعال البر ينبغي له أن يفعله هو حتى يكون له ذلك حالاً ومقالاً لئلا يدخل بذلك تحت قوله تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ٢ ولذلك قال بعض من نسب إلى الحال سيعلم صاحب فقه الكلام وصاحب فقه الحال عند هبوب رياح القيامة وانجلاء غمام الدنيا من فارس الميدان منهما
وإذا نظرنا لمجموع عددها زاد لنا معنى مع ذلك وهو معنى لطيف وهو من شيم أهل الهمم لأنا وجدنا الصلاة التي زادها هو بحسب ما وردت بها الآثار أربعاً وأربعين ركعة والوتر واحدة فذلك خمس وأربعون مع الخمسة المفروضة فذلك أصل العدد المفتَرَض أولاً وهو خمسون صلاة وطلب و لأمته أيضاً التخفيف شفقة عليهم وأخد هو في حق نفسه المكرمة بالعمل على التوفية والكمال حتى يحصل له الثبوت في قدم قوله عزّ وجلّ الَّذِى وفى ۳ وكقول موسى عليه السلام أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ٤ ثم إنه أكمل أبعد الأجلين لأن الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين هم أهل الهمم السنية وكيف لا وهم خير الخيرة من البرية

فنحتاج إذا أن نسمي تلك الأربع والأربعين وهي ركعتا الفجر والضحى - على ما انتهت الأخبار عنه أنها اثنتا عشرة ركعة - وعند الزوال بعدما كان نهى عن الصلاة في ذلك الوقت ثم رجع عليه السلام فصلّى فيه أربعاً على غلبة الظن في تيقن العدد وقبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وتحية المسجد ركعتين وبعد العشاء ركعتين وإن كانت الصلاة التي عند استواء الشمس ركعتين فيكون تمام الأربع والأربعين ما روته
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٦ سورة الصف الايتان و ۳ ۳ سورة النجم من الآية ٣٧ ٤ سورة القصص من الآية ۸
٤٢٤

حين
3334
بلغ
فال
ة
هل
ـة
حق
پی
تير
C
ها
عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يصلي على فراشه ركعتين وحينئذ ينام وقيام الليل اثنتا عشرة ركعة والوتر واحدة لأنه يُطلق على كل ركعة صلاة بدليل قوله عليه السلام إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر ۱ فقد سمى عليه السلام الواحدة صلاة ١ ويظهر فيه من الحكمة أن المولى سبحانه لما نقص من العدد واحدة زادها هو جلّ جلاله ليكمل الفضل بفضله على سيدنا صلى الله عليه وسلّم وعلى أمته جعلنا الله من صالحيها في الدارين بمنه فكما نقص العدد منها أولاً تفضلاً وتخفيفاً أكمله آخراً تفضلاً وإكمالاً
وهنا بحث لطيف وهو أنه لم جعلت هذه الأمة شهداء على الأمم بمقتضى قوله عزّ وجل في كتابه ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِنَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ۳ وقد كان من كلام موسی علیه السلام لسيدنا إني عالجت بني إسرائيل أشد ال المعالجة وإن أمتك لا تطيق ذلك فتفضل المولى جلّ جلاله بأن وفق هذا السيد للكمال في إكمال العدد المطلوب أولاً حتى يكون تزكية في الشهود فإن من شرط الشهادة التزكية والعدالة فبانت تزكية هذه الأمة بفضل الله تعالى ولم يتركها سيدنا مع ضعفها حتى تكون عدالتهم ظاهرة من أجل تحقيق الأحكام ثم لم يقتصر هو و لا الله لا على ذلك ليس إلا لأنه عليه السلام ترك لنا بابين إلى الزيادة مفتوحين
الواحد بقوله عليه السلام رحم الله عبداً صلى أربعاً قبل أربع وصلى أربعاً بعد أربع ومن صلى بين العشاءين اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة ۳ وما أشبه ذلك من الأحاديث التي جاءت في مثل هذا المعنى وهي كثيرة
والباب الثاني إشارته عليه السلام إلى تمام التزكية في باقي الأقوال والأفعال بقوله
عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ٤ فبالله عليك يا أخا الشبهات والشهوات انتبه لنفسك يسيراً ولا تحرمها هذا المقام الرفيع الجليل وتُقِمْها مقامَ الذل والتعنيت فإن من اتبعَ شهوته ذهبت مروءته وشان دينه ومن كان بهذه
1 أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما

سورة البقرة الآية ١٤٣
۳ مركب من حديثين الأول رحم الله امراً صلى قبل العصر أربعاً أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما والثاني من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوّعاً بنى الله له بيتاً في الجنة أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أم حبيبة رضي الله عنها
٤ أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤٢٥

الصفة ضاع عمله وكانت النار أولی به وقد قال لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وقمتم حتى تكونوا كالحنايا ولم يكن لكم وَرَع حاجز لم يمنعكم ذلك من النار 1 وإن الفتى إذا نبذ
شهواته طمعت نفسه في اكتساب الحور والقصور فتنبه إلى هذه الحكمة العجيبة منه في تفريقه عليه السلام هذه الصلوات على هذا الترتيب العجيب لأنه عليه السلام لو جعلها في وقت واحد أو جعلها عدداً مرتباً لا يزاد فيها ولا ينقص لكان في ذلك مشقة وربما لا يقدر عليها كثير من الناس فلما جعل عليه السلام منها ما هو مستصحب مع الصلوات المفروضة ومنها ما هو في غير وقت الصلوات إلا أنه بتوسعة مثل قيام الليل إذ الليل كله ظرف والضحى من بعد طلوع الشمس إلى الزوال فمن عجز عن قيام الليل والضحى لم يعجز عن التي هي مع الصلوات - كما تقدم - فكانت خفيفة على الناس حتى فَلم يكون من مصل يصلي فريضة ولا يتنفل قبلها ولا بعدها وإن كان فيكون في حكم النادر الذي لا حكم له
فانظر إلى هذه الإشارة اللطيفة لما طلب منا أولاً خمسين ثم ثبت الفرض على خمس فجاء الأصل خمساً ووفاء الكمال خمسين فما نقص من الأصل الذي ثبت بالحكم الحتم وهو خمس أكمل من الأصل المطلوب أولاً وهو الخمسون وسميت نفلاً لكونها غير حتم ولذلك جاء أنه إذا كان يوم القيامة يقول مولانا جلّ جلاله انظروا إلى صلاة عبدي فإن أتى بها كاملة وإلا قال عزّ وجل انظروا إن كانت له نافلة فأكملوها منها ٢ فأكمل الأصل - الذي هو الفرض - من الأصل الذي كان أولاً بالوضع فجاء قوله تعالى ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى ۳
وبقي بحثان أحدهما لم كان عليه السلام لا يصلي بعد المغرب إلا في بيته والثاني مثله في الصلاة التي بعد الجمعة

فالجواب إن قلنا إن ذلك تعبّد فلا بحث وإن قلنا إن ذلك لحكمة - وهو الحق - فما هي فنقول أما كونه عليه السلام لم يصل بعد المغرب إلا في بيته فقد أجبنا عنه في غير هذا الحديث لكن نشير الآن إلى بعضه لكون النفس متشوقة إليه وذلك أن المغرب وقت ضيّق فقد يأتي الناس إلى صلاتهم ويتركون ضروراتهم والغالب عليهم الصوم والكد في الأسباب فلو بقي
1 أخرجه السيوطي في الجامع الكبير بلفظ لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة رواه عمرو بن عساكر من طريقه وقال مالك بن دينار لم يسمع من أبي مسلم والديلمي أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ۳ سورة ق الآية ۹
٤٢٦

يد
L
ها
L
L
النبي صلى الله عليه وسلم يركع في المسجد لما خرج أحد منهم - في الغالب - فيلحقهم بذلك تألم وهو عليه السلام الذي قال في هذه الصلاة خصوصاً إذا وُضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ۱ رحمة منه لهم وقد تقدم الكلام عليه فكيف في النافلة
وأما كونه عليه السلام لم يصل أيضاً بعد الجمعة في المسجد فقد بين عمر رضي الله
عنه العلة في ذلك بمحضره عليه السلام وأجاز ذلك كما في كتاب مسلم لأنه لما حض عليه السلام على التنفل بعد الجمعة كما جاء في مسلم أيضاً قام رجل بعد الفراغ من صلاة الجمعة يركع فجبذه عمر رضي الله عنه حتى أبعده وقال له اقعد تشبه الجمعة بمن فاته من الظهر ركعتان والنبي قاعد ولم يقل شيئاً فسكوته عليه السلام دالّ على جواز ذلك الحكم وهو المشرع فلو لم يكن الحكم كذلك لتكلم عليه السلام بما يبيّن به الحكم لأن السكوت عن بيان الحكم عند الحاجة إليه لا يجوز فجاءت صلاته عليه السلام بعد الجمعة في بيته تبييناً لمن أراد أن يصلي بعدها من حيث ألا تكون الصلاة متصلة بها
وقد تكلم العلماء في التنفل بعد المغرب وبعد الجمعة في المسجد هل يجوز أم لا فأما التنفل بعد المغرب في المسجد فلم يُمنع أحد من ذلك لأن تلك العلة التي ذكرنا عن سيدنا معدومة في غيره لكن الأفضل في البيت من أجل ما في الاتباع من الفضل وقد كان من السلف من يتنفل في المسجد بعد المغرب وأما بعد الجمعة فالذي أجاز ذلك منهم قال لا يفعل حتى يخرج من باب ويرجع من آخر ومنهم من قال ينتقل من موضعه إلى موضع آخر ومنهم من قال يجلس في موضعه ساعة حتى تذهب علة الشبه التي نهى عنها - كما حكيناه انفاً ـ ولم يختلف أحد أن تنقله في البيت أفضل وفيه وجوه من الفقه
أحدها الأخذ بسد الذريعة لأنه لو فعل ذلك في زمان النبي والخلفاء رضي الله عنهم لكان الناس يقولون تلك الركعتان تمام لعدد ركعات الظهر وقد كان يؤول الأمر لأن يعتقد أنها فرض أما ترى أن بعض العلماء يقول في الخطبة إنها بدل من الركعتين وأن من فاتته الخطبة لا تجزئه الجمعة ويصلي ظهراً أربعاً وهذا بعيد أين نسبة الخطبة من الصلاة فكيف في الركوع الذي هو من جنس الصلاة ولم يجىء أن أحداً من السلف فعل ذلك
وقد صار اليوم العمل على خلاف هذا وهو ما يفعله الناس بالديار المصرية وغيرها ممن حذا حذوهم من التزامهم الركوع إثر صلاة الجمعة متصلاً بها وهو من البدع ثم إنهم زادوا في ذلك بأن سموها سُنة الجمعة وهذا مناقض للحديث الذي نحن الآن نتكلم فيه والذي أوردناه من حكم
۱ هو موضوع الحديث ٤٢
٤٢٧

النبي كما جاء في مسلم ولا أحد ممن ينسب أو ينتسب للعلم يغيّر ذلك بل يفعله ويحتج بأن يقول على ما بلغني هو وقت يجوز فيه الركوع فكأنه لم يسمع قط هذين الحديثين اللذين هما في الصحة والشهرة بحيث المنتهى أو كأنه لم يعرف قط المراد بسياقهما وما يستنبط منهما فأين
العلم وأين أهله
فإنا لله وإنا إليه راجعون على حوادث حدثت في الدين وأكثرها من هذه الطائفة المنتسبة للعلم وليس عندهم منه إلا نقل الألفاظ والتحكم من طريق الجدل والمباهاة هيهات ما العلم كذلك ولا طريقه هنالك بل هو باتباع السنة والسنن وبالنور والحكمة تقع فيه الموافقة
لمن تقدم
وفقنا الله لذلك بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٢٨
سنا

191
حديث غزاة بني قريظة
عَن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما قَالَ قالَ النَّبِيُّ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحزاب لا يُصَلِّيَنَّ أَحَد العصر إلا في بَني قُرَيْظَة ۳ فَأَدرَكَ بَعضَهُمُ المَصرُ في الطَّريقِ فَقالَ بَعضُهم لا نُصَلِّي حَتَّى نأْتِيَهَا وَقالَ بَعضُهُم بَل نُصَلِّي لَم يُرد مِنَّا ذلِكَ فَذُكِرَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَم يُعَنّف واحِداً مِنهُم
*
ظاهر الحديث أَمْرُ النبي للصحابة رضي الله عنهم بالخروج إلى بني قريظة ومبادرتهم لأمره عليه السلام والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن كل مجتهد مصيب يؤخذ ذلك من قوله أدركهم العصر في الطريق فقالوا لا نصلي حتى نأتي بني قريظة ۳ تعلقاً بظاهر صيغة الأمر ومنهم من تأول وقال ما المقصود ترك الصلاة تحفظاً على القاعدة الأصلية وإنما المقصود منا سرعة الخروج والسير وقد حانت الصلاة فنجمع بين الأمرين فكل منهم مصيب لأن المقصود من العبد بذل الجهد في امتثال ما أمر به إذا كان على الوجه المأمور به تحرزاً من تحريف التأويل لحظ نفساني فبهذا القيد يصح أن كل مجتهد مصيب
ومع ذلك لا بد أن يكون أحد الوجهين هو الأولى بدليل قول مولانا جل جلاله في قصة
1 الأحزاب جنود الكفار تألبوا وتظاهروا على حرب النبي و و و و و وهم قريش وغطفان وبنو فريظة وهي المعروفة باسم غزوة الخندق
بنو قريظة حي من يهود وهم والنضير قبيلتان من يهود خيبر فأما قريظة فقد أبيدوا النقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على رسول الله أمر بقتلهم وسبي ذراريهم واستفاءة أموالهم وأما بنو النضير فإنهم أجلوا إلى
الشام وفيهم نزلت سورة الحشر ۳ كذا ولفظ الحديث حتى نأتيها
٤٢٩

بَيْنَتَهَا سُلَيْمَنُ وَكُلًّا أَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۱ وذلك أن رجلين داود وسليمان عليهما السلام فَفَهَ في زمان داود عليه السلام كان لأحدهما زرع وللاخر غنم فرعت الغنم الزرع فتحاكما إلى داود عليه السلام فحكم بالغنم لصاحب الزرع فلما خرجا قال لهما سليمان عليه السلام ما حكم به داود فأخبراه بحكمه لصاحب الزرع بالغنم فقال لهما سليمان عليه السلام بل الحكم أن يأخذ صاحب الزرع الغنم يستغلها حتى يُخلِفَ زرعُه ويكون مثل القدر الذي رعته الغنم ويأخذ إذ ذاك صاحب الغنم غنمه فبان ما حكم به سليمان عليه السلام أنه كان هو الأرجح بدليل أنه بقي لكل واحد منهما ماله بعد تقاضي ما كان بينهما وعلى حكم داود عليه السلام كان الحكم أن يبقى صاحب الغنم دون شيء وكذلك نقول في هذه المسألة وإن كان الوجهان جائزَين فالواحد أرجح لكونه جَمَعَ بين
أصلين وكلاهما واجب والتأويل الذي يسوغ معه أداء واجبين أولى من إسقاط أحدهما الوجه الثاني فيه من الفقه أن القاعدة الثابتة المستصحبة لا تُزال بأمر محتمل لأن وقت الصلاة قاعدة قد تقررت واستصحب الحكم بها وأمرهم النبي و لا الله بألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فاحتمل الأمر - على ما تقدم - لأن يكون المقصود ذلك الوجه ولا نعرفه نحن في الحال واحتمل أن يكون المقصود الوجه الثاني وهو سرعة الخروج - كما تقدم - فكيف نزيل حكماً قد تقرر واستصحب العمل عليه بمحتمل الأمرين الأظهر أن لا والجواز قد وقع من الشارع عليه السلام فجاء في الأمر والحمد لله سَعَة
الوجه الثالث يترتب عليه من الفقه أيضاً أن المرء إذا كان عند نازلة لا يمكنه تأخيرها وليس عنده علم بحقيقة حكم الله تعالى فيها أنه يجتهد فيما يظهر له ويعمل عليه فإذا وجد من له معرفة بذلك الأمر يسأله عما فعل فإن أخبره أنه قد وافق فعله حكم الله - على مذهب أحد علماء المسلمين - فقد تخلصت ذمته وهذا خير كثير
يؤخذ ذلك من أنه لما حان وقت العصر وهم بالطريق وما كان فيهم من سأل النبي
أن
بأن يقول إن أدركنا الوقتُ في الطريق فما نفعل فلو كان فيهم من فعل ذلك لوجب على الكل يتبعوه الأمر النبي له به ذلك الواحد ولم يجز لهم مخالفته فلما لم يقع كان ذلك تخفيفاً من الله ورحمة حتى تتقعد عليه هذه القواعد المباركة فاحتاجوا إلى النظر والاجتهاد بحسب وسع كل واحد منهم في الوقت فلما اجتمعوا معه أخبروه ليجيز من فعلهم ما يجيز ويرد ما يرد فأجاز عليه السلام الفعلين معاً كما فعل عليه السلام حين صلوا في الظلمة بحسب اجتهادهم
۱ سورة الأنبياء من الآية ۷۹
٤٣٠

وعلم كل واحد منهم على موضع مُصَلاه فلما أصبحوا فإذا هم قد أخطأوا القبلة عن آخرهم فلما
أتوا النبي سألوه عن ذلك فأجاز فعلهم
أنهم

فالسؤال من الصحابة بما وقع منهم له عليه السلام كسؤال من لا يعلم حكم الله لمن يكون له به علم بعد نزول ما ينزل به ويعمل فيه بحسب اجتهاده - كما تقدم - على حدّ سؤالهما ونذكر الآن إشارة ما الموجب لخروجهم إلى بني قريظة لما يترتب عليها من الفقه وذلك لما رجعوا من الأحزاب وفيهم الجريح الشديد الجرح وجاء النبي ليزيل سلاحه وجبريل عليه السلام قد نزل وعليه سلاحه أيضاً فقال أتزيل السلاح والملائكة لم تُزِلْها ۱ وأمَرهُ عن الله أن يخرج من حينه ولا يزيل سلاحه ويأمر كل من جاء من الأحزاب من المسلمين أن يخرجوا من حينهم فخرجوا وإن الجريح منهم خرج وهو يتهادى بين اثنين لشدة جراحه وكان العدو قد طمع في المسلمين لما نالهم من الجرح والقتل وعزموا أن يأتوا المدينة فلما سمعوا بخروج المسلمين من حينهم أوقع الله عزّ وجلّ في قلوبهم الرعب ورجعوا هاربين فدفع الله عزّ وجلّ عن المسلمين ما كانوا عزموا عليه من أن يغيروا على المدينة
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن أعظم الأسباب في النصرة هو امتثال الأمر لأنه يعلم بالقطع أن أولئك المجروحين الذين خرجوا وهم يتهادون بين اثنين أنهم لا يقدرون على قتال ولا يدفعون شيئاً فلما امتثلوا وفوضوا الأمر لقدرة الأمر نصرهم الله بلا قتال ولا شيء تكلفوه لأنهم فهموا أن المقصود منهم الامتثال وأن النصر هو المنعم به تصديقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وكذلك سنة الله تعالى في عباده إلى يوم الدين من نصره ﴾ نَصَرَهُ ومن أصدقُ من الله حديثاً ونُصرة الله من عبده هي اتباع أمره واجتناب نهيه الوجه الخامس فيه دليل على أن فحوى الكلام كالنص يعمل به وفحوى الكلام هو ما يعرف من قوة الكلام وكذلك هذا لما عرفوا من قوة الكلام أنه ما المراد منهم أن يخرجوا لبني قريظة إلا للقتال لم يحتج عليه السلام ليُبين لهم شيئاً ليفهمهم المقصود هذا في الجهاد الأصغر وهو جهاد العدو وكذلك الأمر فى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وقد أشار مولانا جل جلاله لذلك بقوله وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۳ فمهما كبر الأمر
1 أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فأخرج إليهم قال فإلى أين
قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة الأعراف من الآية ۰۰
٤٣١

جعل الفرج فيه أكبر لأن أمر الشيطان والنفس أكبر فجعل في الشيطان والظفر به نفس اللجأ كما أخبر عزّ وجلّ وجعل في النصرة على النفس الأخذ في مجاهدتها على لسان العلم فقال عز وجل • سُلَنَا ١ لو جعل سبب العون على مجاهدتها حقيقة الاستعانة به
وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا عزّ وجلّ بقوله تعالى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولذلك قال بعض أهل التوفيق إذا نزلت بي نازلة من أي نوع كانت فألهمت فيها إلى
اللجا فلا أبالي بها
واللجأ يكون على وجوه فمنه الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عزّ وجلّ لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ ومنه الصدقة لقوله عليه السلام استعينوا على حوائجكم بالصدقة وادفعو البلاء بالصدقة ۳ ومنه الدعاء لقوله عليه السلام من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير فكيف بالمجموع فهم يرون كل ما هو سبب إلى الخير هو عين الخير
الوجه السادس فيه دليل صوفي لأنهم يقولون موتُ النفوس حياتها ومن أحب أن يحيا يموت لأن الصحابة رضي الله عنهم لما هانت عليهم نفوسهم وخرجوا وهم راضون بالموت في ذات الله عزّ وجلّ لأنّ من يخرج - كما وصفناهم به أولاً - فقد عزم على الموت فعند ذلك ظفروا بالنصر والأجر والأمن كذلك حال أهل التوفيق ببذل النفوس وهوانها عليهم نالوا ما نالوا ولحب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وحقَّ عليهم الهوان هنا وهناك وقد ورد في الحديث ما من عبد إلا وفي رأسه حَكَمة ٥ بيد مَلَك فإن تعاظم وارتفع ضرب الملك في رأسه وقال له اتَّضِع وَضَعك الله وإن تواضع رفعه الملك وقال له ارتفع رفعك الله مَنَّ الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 سورة العنكبوت من الآية ٦٩ سبق تخريجه في الحديث ٤٧
3 أخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله الله قال استعينوا على الرزق بالصدقة وأخرج لسيوطي في الجامع الكبير قول النبي داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة فإنها تدفع عنكم
الأعراض والأمراض
٤ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
٥ أخرجه أبو نعيم والديلمي عن أنس وأوله ما من آدمي إلا وفي رأسه حَكَمة بيد مَلَك
٤٣٢

حديث السنة يوم عيد ال
الفطر
عَن أَنسٍ رَضِيَ الله عَنه قال كانَ رَسولُ الله ل لا يَعْدُو يَومَ الفِطرِ حَتَّى يَأْكُلَ
تمراتٍ وعَنهُ مِن طَريق ثانٍ ويأكُلُهُنَّ وِتراً
*
ظاهر الحديث أن السنة في يوم الفطر ألا يغدو أحد للمصلّى إلا بعدما يفطر والمستحب أن يكون على التمر وأن يكون وتراً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا معقول المعنى أم لا فالجواب أن المعنى فيه ظاهر وهو إظهار امتثال الأمر لأنه لما أن كان صوم هذا اليوم محرَّماً والمشروع فيه الأكل فبادر للامتثال وهو الأكل ولو كان لغير ذلك لكان يأكل الشبع من الطعام
وبقي بحث على كونها تمراً وكونها وتراً۱ فأما كونها تمراً فلوجوه منها حلاوتها والحلاوة مما توافق الإيمان ويرق بها القلب وقد جاء في ذلك أثر ويترتب على هذا من الفقه استعمال الأشياء الحلوة إذا لم يوجد التمر ومنها أنها أيسر الأشياء عندهم بالمدينة وكان يحب ما تيسر من الأشياء
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن التكلف للفطر في ذلك اليوم مخالف للسنة لأنه تكون النفس مشغولة بذلك وكان هو وأصحابه رضوان الله عليهم همتهم الآخرة حتى إنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول لأهله اعملوا الطعام مشروباً ولا تعملوه مأكولاً لأن بين المأكول والمشروب كذا وكذا آية فما كانوا - رضوان الله عليهم - يأخذون من الدنيا إلا قدر الضرورة واحتمل المجموع
1 إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه
لعله يشير إلى قوله تعالى في سورة الإنسان إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كأسِ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنَا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَا كَانَ شَرُّم مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَيْهِ مِسكينًا وَيَتِيماً وَأَسِيرًا الآيات ٥ - ٨
٤٣٣

وأما كونها وتراً فيحتمل أن يكون على معنى التداوي لقوله عليه السلام من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سُمٌ ولا سِحْر ۱ ويحتمل أن تكون على وجه التبرك لقوله عليه السلام إن الله وتر يحب الوِتر فيكون استفتاحه هذه العبادة بما هو مستحب وهو الوترية كما سنّ في الاستجمار الواجب الإنقاء والسنة الوترية ٣ ويحتمل أن تكون تنبيهاً على الوحدانية ليعرف قدر نعمها في هذا اليوم على العباد كما جاء في تحريك السبابة في التشهد - في
أحد الوجوه - في أنه يعتقد بتحريكها أن الله إله واحد ويحتمل المجموع وأكثر من ذلك الوجه الثاني فيه من الفقه أن حقيقة الخير هو نفس الامتثال فيما أحبته النفسُ أو كرهته فإن جاء ما تحب في الامتثال مثل هذا الموضع وما أشبهه فهو من جملة النعم لأنها تفعل ما تحب وتكون فيه مأجورة ومما يقوّي ما قلناه ما جاء عنه عليه السلام في عيد الأضحى أنه كان يخرج للمصلى ولا يأكل شيئاً حتى يُقَرِّبَ أضحيته أو هَدْيَه وأول ما يأكل منه زيادة الكبد لأنه أقرب ما
يفعل الآدمي في يوم النحر إراقة الدم فأراد عليه السلام أن يكون فطره على ما فيه رضى مولاه وهذا بحث لم كان يأكل أولاً زيادة الكبد فذلك - والله أعلم - لكي يقع التشبه في ذلك بأهل الجنة لأنه روي أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت الذي عليه قرار الأرضين واحتمل أن يكون بدأ به لأنه كالإصبع قائم فيكون فيه إشارة إلى الوحدانية ويحتمل أن يكون بدأ به لمجموع ما ذكرناه والله أعلم
ويترتب على هذا من الفقه أيضاً أن الذي يفعله اليوم المترفون من أبناء الدنيا كونهم يقدّمون من أول ليلة العيد لحماً ويطبخون الألوان ويأكلون قبل ذبح الأضحية هذا هو فعل الذي يضحي منهم وأكثرهم مخالفون للسنة بتركها البتة ولذلك قد تنكرت معارف الشرع بالبدع والمخالفات التي أقاموها لأنفسهم ويحتجون بأن يقولوا هذه عادة الناس وكيف نقول تأسياً لمن تركوا سنة نبيهم عليه السلام ويؤثرون عادة نفوسهم الذميمة
وفي أكله عليه السلام يوم الفطر أيضاً - قبل الغدو - فائدة أخرى وهي تقرير قاعدة شرعية بالفعل لأنه - كما تقدّم لنا في غير ما موضع - أن تقعيده عليه السلام القواعد الشرعية وأحكامها
بالفعل أبلغ
وبقي بحث فيمن لم يجد ولم يقدر على التمر ولا على شيء حلو فالجواب أن نقول إنما
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه استجمر الرجل استنجى بالحمار وتطهر بها من الخَبَث عند عدم وجود الماء والسنّة الوتر في ذلك
والجمار هي الحجارة الصغيرة
٤٣٤

يؤمر بذلك مع الإمكان وعند عدم الإمكان قام العذر وصاحب العذر مسامح في الترك لكنه يفطر ولو على الماء حتى تحصل له نسبة ما في الاتباعية لأنه قد جاء عنه أنه كان إذا لم يجد تمراً وكان صائماً يفطر وإن يسر الله له بعد ذلك في شيء أكل ولا يجوز خلاف ذلك ولذلك عدمك الإمكان لما أمرت به عذر وتركك إياه مع الإمكان له وِزْر وطالب العذر مع
قيل
الإمكان مضيّع
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٣٥

-٥٨-
حديث العمل في أيام التشريق
عن ابن عباس رَضِيَ الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ قال ما العمل في أيَّام العشر صلى الله عليه وسلم أفضَلَ مِن العمل في هذِهِ قالوا ولا الجهاد قالَ وَلا رجُل خَرجَ يُخاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فلم يرجع بشيء
ظاهر الحديث يدل على أنه ليس شيء من الأعمال أفضل من الأعمال في أيام التشريق وهي الثلاثة أيام التي بعد يوم النحر والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن فيه دليلاً على أن هذه الأيام - وإن كانت أيام عيد - فإنما هي للعبادة لا للهو وما يفعل الناس فيها اليوم من أنواع البطالات فممنوع بهذا الحديث فإن احتج محتج بقوله عليه السلام لكل أمة عيد وهذا يوم عيدنا ۱ فقد بَيَّنَ عليه السلام ما هو المباح فيها أيضاً بقوله عليه السلام إنما هي أيام أكل وشرب وذكرِ الله ۳ وقال عليه السلام أفضل ما يعمل
فيها إراقة الدماء ۳
السنة
في إراقة الدماء أن يأكل مما يتقرب به ويتصدق ويهدي وقد شرع فيها أعلى العبادات وهي الذكر بقوله عليه السلام ما عمل آدمى عملاً أنجى له من ذكر الله ٤ ونفقة المال في الضحايا لقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وقد جعل فيه الصدقة من الأضحية والصدقة كما قال عليه السلام تطفىء غضب الرب ٥ والذي منع فيها
عائشة رضي الله عنها
۱ لفظه يا أبا بكر إن لكل أمة عيداً وهذا عيدنا أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن السيدة أوله أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجلّ أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن نبيشة الهذلي
رضي الله عنه
۳ رواه الترمذي وابن ماجه في الأضاحي ٤ لفظه ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب من ذكر الله أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ٥ لفظه إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه
٤٣٦

من مجاهدة النفس هو الصوم لا غير وبقي باقي العبادات مطلوب على الوجوب أو الندب لأن الفرض لا يسقط في وقت من الأوقات مع القدرة عليه لا في عيد ولا في غيره وجاء هذا الحديث يحض على طلب المندوبات وجعلها أعلى مما هي في غيرها تأكيداً لها
وهنا بحث وهو هل تفضيل الأعمال في هذه الأيام لعلة مفهومة أو تعبد ليس إلا فنقول بل لعلة وهي أنه قد تقرر من قواعد السنة المحمدية أن أوقات الغفلات العباداتُ فيها أفضل كما جاء في الصلاة التي بين العشاءين وما فيها لأنه وقت غفلة الناس وكذلك قيام الليل لما فيه من الغفلة أيضاً لأن الناس إذ ذاك في حال نوم وغفلة وكذلك صلاة الضحى لما فيها أيضاً من غفلة الناس بأسبابهم وهذا كثير فلما كانت هذه الأيام أيام أكل وراحة للنفوس فهي في الغالب
يتسلط عليها النوم الكثير والغفلة وأما اليومَ فقد زُهِد في القُرَب وجُعِلَتْ للهو والمحرمات واحتجوا بما جاء أنه دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها جوارٍ من بني النجار يضربن بالدف فاضطجع و على فراشه وحوّل ظهره إليهن وإذا بأبي بكر رضي الله عنه قد دخل فانتهرهنّ وقال أمزامير الشيطان في منزل الرسول هر فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إليه وقال له دعهن فإنه يوم عيد ۱ وهذا لا حجة فيه لأن ذلك كان أول الإسلام والخمر إذ ذاك حلال والربا حلال والقمار حلال وكثير من الفرائض لم تفرض بعد ثم جرى الأمر بخلافه ألا ترى إلى قوله عليه السلام يوم فتح مكة إنما بعثت بكسر الدف والمزمار ۳ فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها فما جاء من الأحاديث أول الإسلام في إباحة شيء ثم حرم بعد فلا حجة فيها لأنها منسوخة وقد نص عليه السلام على أن لهو المؤمن لا يكون إلا في ثلاث في رميه عن قوسه وتأديبه لفرسه وملاعبته لأهله ۳ فمن أين يكون لها رابع والأحاديث في ذلك كثيرة وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ 4 فاللهو ممنوع شرعاً في العيد وغيره إلا ما ذكرناه آنفاً وفضلت أيضاً من نوع آخر - أعني أيام التشريق - وهو أنها لما كانت أيام محنة للخليل عليه

1 أخرج مسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال مزمار الشيطان عند رسول الله فأقبل عليه رسول الله وقال دعهما وفي رواية للشيخين دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد
٢ أخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة إن الله أمرني أن أمحق المزامير والكيارات والمعازف ۳ أخرج أصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته زوجته
٤ سورة لقمان من الآية ٦
٤٣٧

السلام ثم من عليه بأن أبدلت له المحنة بمنّة وأيّ مِنّة فصارت بهاتين الصفتين أفضل الأيام والمولى سبحانه إذا مَنَّ على مَنْ مَنَّ عليه من عباده بمنّة لا يزيلها عنه فأبقى عزّ وجلّ لهم ذلك الفضل وزاد فيها بأن أبقى لهم النعمة وهي ما شرع عزّ وجلّ من القربات ورفع المحنة
عنهم وهي ما كان من ذبح الولدان
وهنا بحث في قوله عليه السلام ما العمل الألف واللام هنا هل هي للجنس فيكون فيها التساوي بين المفروضات والمندوبات على اختلافها أو هي للعهد وهي أعمال مخصوصة أما صيغة اللفظ فمحتملة للوجهين معاً فيكون فضل الفرائض فيها أفضل من غيرها كما قال عليه السلام في صلاة الصبح من شهدها في جماعة فكأنما قام ليلة وقال في العشاء من
شهدها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ۱ فترى هذه أديت في جماعة والأخرى كذلك قدر النصف في الأجر وما ذاك إلا لما فيها - أعني في صلاة الصبح - من كثرة المشقة زائداً على العتمة لأن أكثر الناس في الصبح على حال جنابة ونوم وغفلة أكثر مما في العتمة فيكون أداء الفرائض في هذه الأيام مثل ذلك سواء لما فيها من كثرة الغفلة والجنابة والأكل والراحة فتكون بهذا النظر أفضل من غيرها وذلك مثل الجهاد لأن الجهاد فيه فرض وتطوع كما هي الأعمال في هذه الأيام فيها فرض وتطوع واحتمل أن تكون للعهد وهي إشارة إلى الأحاديث التي ذكرنا أولاً من أنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى والأعم أولى من أجل كثرة الفائدة فيكون ما أوردناه أولاً من تلك الأحاديث المعنى فيها أن الذي يعمل في هذه الأيام بعد الفرائض أولى ما فيها ما ذكر عليه السلام من إراقة الدماء والذكر والصدقة ولا تمنع باقي الأعمال
ومما يقوي ما قلناه قوله عليه السلام ما عمل آدمي أفضل فجاء بها في باب الأفضلية وما جيء به في باب الأفضلية جاز عمل غيره معه وإن لم يقدر عليه فلا يخلي نفسه من الخير الزائد
على الفرائض
الوجه الثاني وفيه دليل على فضيلة الجهاد يؤخذ ذلك من قول الصحابة رضي الله عنهم ولا الجهاد فلولا أن ذلك الحكم قد تقرر منه الا الله ما سألوه عن هذا النوع وقد جاء فيه عنه عليه السلام أنه قال أعمال البر في الجهاد كبزقة في بحر
1 أخرج مسلم من حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعاً من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح
فكأنما قام ليلة
سبق الكلام عنه وقلنا قال العراقي في تخريج الإحياء ۳۰۸/ باب وجوب الأمر بالمعروف رواه الديلمي "
٤٣٨

وهنا بحث وهو لِمَ نَوَّعَ الجهاد وجعل ما هو محذور شرعاً في غيره أرفع الأشياء في الجهاد وهو قوله خرج يخاطر بنفسه وماله وهذا ممنوع في غيره لأن المخاطرة ممنوعة ثم لم يجعله أفضل إلا بعد تحقيق الهلكة بقوله فلم يرجع بشيء وقد قال جل جلاله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة ١
فالجواب أن نقول كل من زاد من نوع ما أمر به حصلت له زيادة المدحة فإن كانت زيادته من غير ذلك النوع لم تحصل له زيادة مدحة مثال ذلك التوكل هو من شرط الإيمان وما جاءت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله حق توكله وكذلك لما كان الإيثار من خصال الإيمان لم تأت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله عزّ وجلّ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ٢
وهذا إذا تتبعته كثير
فلما كانت مشروعية القتال تفضي إلى قتل النفس فزاد المخاطر فيما شرع له بارتكاب المخاطرة حصلت له الفضيلة على غيره للمعنى الذي أشرنا إليه لأن تلك الزيادة في كل موضع أمر فيه بشيء دالة على الإخلاص والصدق وهما أرفع الأعمال وطلب مرضاة الرب بتوفية ما أمر والزيادة على ذلك زيادة في استدعاء الرضا كما قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ ولهذا إذا مدح الفارس قيل فيه فارس أحمق وهو من أعلى مدحه لأن الأحمق هو

الذي يغرر بنفسه وبذلك تظهر فروسيته
الوجه الثالث وفي هذا دليل صوفي لأنهم يقولون لا تبلغ الأحوال النفسية إلا بإذهاب النفس النفيسة والمخاطرة في المجاهدات بها تبلغ الغاية فإذا كان طالب الدنيا الدنية يقول أُحاوِلُ مُلْكاً أو أموتَ فأعْذَرا ٤
من حديث جابر بإسناد ضعيف وقال الزبيدي في شرح الإحياء ۸/۷ ورواه أبو الشيخ ابن حيان من حديث أنس ولفظه في مسند الفردوس ۳۹۱٤ ما أعمال العباد كلهم عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر وفي رواية إلا كتفلة تفلها رجل في بحر لجيّ
۱ سورة البقرة من الآية ١٩٥
سورة الحشر من الآية 9
۹
۳ سورة طه من الآية ٨٤
٤ عجز بيت لامرىء القيس عندما لحق بقيصر يستعينه على استرداد ملكه والثأر لأبيه شرح ديوان امرىء القيس
للأعلم / ص ٥٦
بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دُونَهُ وأيقن أنا لاحقانِ بِقِيْصَرا فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنما نحاول ملكاً أو نَمُوتَ فنعذرا
٤٣٩

وملكها ـ على أن يحصل - ذاهب لا محالة وقد يعقب في الآخرة في الأغلب تعباً دائماً فما بالك بمن يطلب ملكاً أبدياً في حضرة قدسية في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ ۱ وقال وبـــذكــــراه عللــونـي فتقواه شعاري
دعوني يا عذالي في هواه خلعت عذاري
وزمّلوا مطايا أعمالي حثيثة للجوار وبالنفوس جودوا بلا تلعثم منكم ولا اذكار وأيقنوا بوصل الحبيب عند فيض الأدمع الغزار
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة القمر من الآية ٥٥ كذا وردت في جميع النسخ
٤٤٠

1941
حديث جواز التنفل على الدابة في السفر
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى راجليْهِ حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ يُومىء إيماءً صَلاةَ اللَّيل إِلا الفَرائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على جواز التنفل في السفر للراكب للقبلة وغيرها والكلام عليه من
الوجه الأول منها هل هو خاص بمن له راحلة أو هو لكلّ من ركب أي شيء من الدواب الظاهر - والله أعلم - أنه لكل راكب ركب ما ركب من الدواب بدليل ما جاء عنه عليه السلام أنه فعل ذلك على غير الراحلة وقد جاء أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا يتنفّلون إذا كانوا ركباناً أي شيء ركبوا من الدواب
الوجه الثاني فيه دليل لمالك رحمه الله حيث يقول إنه يتنفّل الراكب متوجهاً للقبلة أو لغير القبلة عند ابتداء صلاته وانتهائها خلافاً لمن يقول إنه أول إحرامه يُحرم للقبلة وحينئذ يصلي حيث كان توجهه من الجهات وهذا مصادم للحديث لأنه لم يفرق فيه بين أول الصلاة واخرها وهنا بحث وهو هل هذا خاص بصلاة الليل - كما ذكر في الحديث - أو هو جائز في الليل والنهار فإن قلنا إن هذا تعبّد فلا يتعدى به صلاة الليل وإن قلنا إنه لعلة وهي التخفيف عن المسافر - كما خفف عنه في المفروضة - بأن وضع عنه شطراً فيتعدى الحكم لغيره وهذا هو الأظهر وعليه جمهور الفقهاء فعلى هذا فيجوز التنفل للمسافر ليلا كان أو نهاراً وهنا بحث وهو هل هذا مطلق في كل ما يُطلق عليه اسم سَفَر أو لا يكون إلا في شيء الحدود من جميع الأسفار فالجواب أن نقول هذا موضع خلاف بين العلماء فمن قال إن الصلاة تُقصَر فى كل ما يطلق عليه اسم سفر جاز له التنفل على قاعدة مذهبه ومن قال لا يكون إلا في مسافة معلومة وحال معلوم لم يجز له التنفل هنا إلا على قاعدة مذهبه أيضاً
٤٤١

وضابط الكلام فيه أن نقول هو كالقصر كلّ فيه على مذهبه على الاختلاف الذي في قصر الصلاة فالأكثر من العلماء أنه لا تقصر الصلاة إلا في سفر لا يكون معصية لأن العاصي لا يترخص وأن يكون قدر مسيره يوماً وليلة ويكون ما نحن بسبيله تابعاً لهذا الخلاف لأنه رخصة وكذلك نص عليه العلماء ونصوا أيضاً أنه لا تكون الصلاة إلا كما هو نص الحديث ليس إلا وأن
يقصد بإيمائه وجه الأرض لا كور الراحلة على مذهب مالك رحمه الله
الوجه الثالث فيه دليل على وجوب الاتباع له عليه السلام في أفعاله لأنه لم يجىء أن
أحداً من السلف المبارك اختلف في هذه الصلاة وما نقلت إلا فعلاً الوجه الرابع فيه دليل على أن له عليه السلام أن يشرع ما شاء لأنه لم يُرو عنه أنه أخبر عن هذه الصلاة أنها بأمر من الله تعالى لأن كل ما كان بوحي أخبر به أنه وحي من الله تعالى الوجه الخامس قوله ويوتر على راحلته قد يستدل به من يرى أن الوتر نافلة كما احتج به بعض أصحاب مالك لكنّ هذا لا يتمّ به الدليل من هذا الموضع لكونه عليه السلام فعله على نحو ما فعل النوافل لأنه يحتمل أن يكون كما ذكروا ويحتمل أن يكون هذا من الفرائض التي خصت بالرخصة لأنه واحد لا ينقسم فتكون الرخصة في حقه أن يصلي على الراحلة فإذا احتمل
سقط الاحتجاج
الوجه السادس فيه دليل على فضيلة التنفل بالصلاة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام فعله في السفر وهو موضع تخفيف المفروضة وتغيير الهيئة من أجل المشقة ثم إنه عليه السلام أبقى اسم الصلاة وعملها مطلوب على نَدبيَّتِهِ كما كان
وهنا بحث وهو ما الحكمة في إبقائها مع تغيير حالها في المرض والخوف والسفر كما هو معروف ولم يسامح في تركها في حال من الأحوال مع بقاء العقل فنقول والله أعلم لوجهين أحدهما أنه لما جعلت فرقاً بين الكفر والإيمان فعلامة الإيمان مطلوبة في كل حال كما هو الإيمان مطلوب في كل حال ما عدا زوال العقل فإنه إذ ذاك غير مكلف الوجه الثاني لما جعلت صلة بين العبد وربه فالصلة بين العبد والرب محتاج إليها العبد فأبقيت عليه وخففت عليه في تنويعها بحسب عذره كما هو معلوم ولهذا المعنى قال واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجَة ۱ لأن أكبر الاستعانة للعبد الضعيف الصلة التى تكون بينه وبين مولاه فيها
يحسن عليه العائد فيما يؤمله
۱ جزء من حديث أوله إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو موضوع الحديث ٦
الم
الم
الله
ذل
الا
A
و
٤٤٢

خَلَقْتُ
ومما يشبه ما ذكرناه في شأن الصلاة ما جاء في شأن العبادة لما كان المراد منا بمقتضى الحكمة الربانية العبادة ودوامها ولذلك خلقنا كما أخبر مولانا سبحانه بقوله عزّ وجلّ وَمَا تلقت الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونو ۱ وهو عزّ وجلّ غني عن عبادتنا وعَنْ كل شيء لكن اقتضت الحكمة لأمر لا يعلمه إلا هو كما قال عزّ وجلّ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ٢ أي الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات وما تحدث فيه الناس هنا على اختلاف أقوالهم فكل يحتاج إلى دليل قطعى فى ذلك ولا يكون الدليل القطعي في ذلك إلا من طريق النبوة ولم يجىء فيما نحن بسبيله من طريق النبوة شيء فالذي يجب هنا من الإيمان هو أن نؤمن أنه عزّ وجلّ المستغني عن جميع المخلوقات بأسرها وأنه جلّ جلاله ما خلق منها ذرة ولا أكبر ولا أصغر إلا لحكمة والحكمة فيما عقل منها بطريق صحيح أو محتمل إذا لم يكن ينافي أصول الشريعة

وفيه زيادة قوة في الإيمان لأنه إذا كان الإيمان على القاعدة التي ذكرناها آنفاً وهي غناه عزّ وجلّ عن كل شيء وأن كل الأشياء لحكمة استأثر بها جلّ جلاله مع التنزيه والتقديس كما يجب فهذه زيادة - لا شك في ذلك من الله علينا بذلك بمنه
ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه وهو أن ما خلقنا إليه وأريد منا من دوام العبادة مع ما طبعنا عليه من ضعف الخلق وما فطرنا عليه من الاحتياج إلى ضرورة البشرية من أكل وشرب وغير ذلك مما نعلمه من نفوسنا بالضرورة فجمع ذلك هنا بحكمة لطيفة لا يُنتبه إليها إلا بفيض رباني وإلهام لمن ألهم إليها لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن أعلى العبادات وأنجاها من عذاب الله ذكر الله فجعل
لنا أجلّ العبادات ـ وهو ذكره عزّ وجلّ - في كل حركاتنا وسكناتنا فمنها فرض ومنها ندب والندب فيها بعضه أكد من بعض فجعل لنا ألا نأكل ولا نشرب ولا ننكح ولا نلبس ثوباً ولا نجرده ولا ندخل فراشاً ولا ندخل منزلاً ولا نخرج منه ولا ندخل موضع الحاجة ولا نخرج منه ولا نصطاد صيداً ولا نذبح شيئاً مما نأكل لحمه ولا نسافر إلى موضع ولا نتكلم كلاماً له بال إلا ونبتدىء ذلك كله بذكره عزّ وجلّ وذكر أسمائه
فمنها ما إذا لم نفعله حرم علينا ذلك الشيء ولم يحل لنا أكله مثل التسمية على الحيوان المذكى على الصيد وما أشبه ذلك لقوله تعالى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ٤
1 سورة الذاريات من الآية ٥٦
سورة الفرقان من الآية ٦ ۳ هنا جواب لما ٤ سورة الأنعام من الآية ١٢١
٤٤٣

رأحلت لنا ذكاة أهل الكتاب وإن كانوا كافرين بسيدنا محمد لكن لما أقروا به جل جلاله وذكروا اسمه عند ذكاتهم والأمر لهم كما هو لنا أبيح لنا أكل طعامهم والمجوس لما لم يعترفوا
به عزّ وجلّ لم يَحِلُّ لنا من ذكاتهم شيء لبعد النسبة
ومنها ما الذكر فيه سنة مثل دخول موضع الخلاء والمنزل والفراش وما أشبه ذلك ومنها ما الذكر فيه مستحب ومثل استفتاح الأعمال لأهلها من دنيا كانت أو أخرى بالتسمية وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أتاها صانع يصنع لها شيئاً مثل خياطة أو غيرها من ضرورات الدنيا تسأله فى أثناء عمله هل سمّيت الله عزّ وجلّ أم لا فإن قال لها إنه سمّى تركته وما هو بسبيله وإن قال لها إنه لم يفعل تقيمه عن تمام العمل لكونه لم يذكر الله أولاً وهذا وما أشبهه من قبيل المندوب وكذلك الذكر عند الاستيقاظ من النوم وشبهه فانظر إلى هذا المعنى العجيب وهذه الطريقة السهلة اللطيفة ألا يعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۱ إلا أن هذا المقام لا يحصل ولا يشم منه رائحة إلا مَن مُنَّ عليه باتباع سنته ل ثم زاد عزّ وجلّ هذا المعنى الذي أشرنا إليه تأكيداً بقوله على لسان نبيه عليه السلام مَن ذَكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومَن ذكرني في مَلا ذَكَرتُه في ملأ خير منهم ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وبقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَما وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ ٣
فانطر إلى هذه الإشارة حتى لا يكون من العبد حالة من الأحوال إلا وهو فيها في عبادة مستقلة لأنه لولا ما جاء هذا على هذا النوع لم تكن تعلم العبادة إلا في التخلي عن الدنيا مرة واحدة والاشتغال بالآخرة وهذا مع ما خلقنا عليه من الاحتياج متناف فجَمَع لنا بهذا الطريق العجيب وأرشدنا إلى جميع الخير بأيسر الأشياء وأقربها فضلاً من الله ورحمة وكل ما ذكرنا أولاً من أنه أمرنا بالتسمية عند ابتداء الأكل وغير ذلك ولم نُسَمِّ في ذلك حديثاً إنما قصدنا بذلك الإرشاد والإلهام لذلك الخير ليقدر قدره وما من وجه مما ذكرنا إلا وقد جاءت فيه أحاديث عديدة لا واحد فإن أطال الله العمر وأمكن العون منه ألفناه - إن شاء الله - في كتاب وحده ليكون أيسر لمن أراد الوقوف عليه بعونه وفضله إن شاء الله تعالى
۱ سورة الملك من الآية ١٤
أوله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني إلى آخره رواه الإمام أحمد والشيخان
والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۹۱

٤٤٤

له
رفوا
مية
ولهذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم
لأنهم لا يزالون دائماً ذاكرين متوجهين فحصل
لهم اسم الخصوص بما به خُصوا ولذلك قالوا إن كنت صادقاً في محبتنا فالحب حيث أب بذكر حبيبه يَؤُبُّ ۱ لأن دوام الذكر منادمة ومحاضرة يشهد لذلك قوله جل جلاله على لسان نبيه عليه السلام أنا جليس من ذكرني ٢ فافهم إن كنت فطِناً ما به عُنيت ومن أنت يا مسكين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ي
1 الحب المحبوب والمحبّ أب تهيأ واشتاق وقصد
أوله قال موسى أي رب أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك قال يا موسى أنا جليس من ذكرني أخرجه
ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن كعب الأحبار
٤٤٥

ذكر
حديث أشراط الساعة
عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلمِ وَتَكثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقارَبَ الزَّمانُ وتظهرَ الفِتَنُ وَيَكثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتلُ - حَتَّى يَكثُرَ فيكُم المالُ فَيَقيضَ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن الخمسة المذكورة فيه من علامة الساعة وقربها والكلام عليه من
منها هذا العلم الذي يُقبض ما المراد به هل المنقول وغيره فنقول - والله الموفق - العِلم المشار إليه هنا هو النّور الذي به الفهم عن الله و لعن رسول الله الله لأن الكتب لم تزل بل هي تكثر لكن الفهم والعمل هو الذي قلَّ كما تكلمنا عليه قبل في الحديث الذي قال عليه السلام فيه إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ۱

وقوله وتكثر الزلازل فهل هذا فيه معنى من الحكمة يفهم أو ليس لنا من طريق إلى ذلك أما وجود الحكمة فيه فلا شك فيها وأما هل نعرفها أم لا فالجواب أما بالنظر بمقتضى ما جاء في الشريعة من الحكمة أو بالعادة الجارية إذا نظرنا بمقتضاها فهي واضحة وأما بالقطع فما أحد يدري ذلك فبحسب ما استقرينا من الشرع وجدنا الحكمة فيه من وجهين الوجه الواحد أنه ما أجرى الله العادة في الزلازل إلا لوجهين الواحد انتقاماً ممن يريد كما ورد في الأخبار أن كثيراً من الناس هلكوا بها حتى إلى زماننا هذا وقد تواتر عندنا بإفريقية حين كنت بها أن موضعاً زلزل بأهله حتى ساخت بهم الأرض وكانوا أهلاً لذلك لما كان فيهم من

تتمة الحديث ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما
العذا
تتقدم
و بجے کے بچے کی پیج تاح
محل
المن
الما
وام
الي
أنا

٤٤٦

1,
الفساد و الآخر تخويفاً لأهل التخويف لأنها من جملة الآيات وقد قال عزّ وجلّ ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالآيَاتِ إِلَّا تخويفا ۱ فإذا قربت الساعة فبالقطع أن الفساد يكثر وهذا من جملة العقاب ـ كما ذكرنا ـ وليتذكر بها أيضاً من سبقت له السعادة

وأما الوجه الآخر من الحكمة فهو لما كانت القيامة بالزلزلة العظمى ـ كما أخبر جلّ جلاله ـ فَدُكَّنَا دَكَّةً وَاحِدَةً ٢ وقال جل جلاله وَلَقَدْ أَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بابا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ۳ المعنى أنهم أولاً أخذوا باليسير من العذاب إعذارا لهم لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا جاءهم العذاب المهلك فهذه سنة الحكيم أن يبدأ من العذاب بالقليل ليرجع من فيه أهلية للخير ويحق الأمر على من هُوَ له أهل فكذلك الساعة تتقدمها تلك الزلازل لأن الحكمة اقتضت الإنذار وإن كان لا ينفع من حقت الكلمة عليه فيتمادى على ما هو عليه من الفجور فيأتيه ذلك البلاء العظيم حِكْمَةٌ بَلِمَةٌ فَمَا تُنْنِ النُّذُرُ ٤ فلما كانت الساعة كما ذكرنا أولاً زلزلة واحدة تدك بها الأرض دكاً تقدمت الزلازل وكثرت حتى تكون كثرتها تخبر بوجود الزلزلة العظمى من جنسها
وقوله عليه السلام ويتقارب الزمان فيه بحث وهو هل يتقارب الزمان حسًا أو معنى محتمل والظاهر أنه اهما معاً لأنه قد جاءت الإشارة في الآثار بالمعنيين منفردين فيكون المقصود - والله أعلم - جمع المعنيين أما أحدهما وهو المعنوي فقد ظهر فنحتاج إذا إلى بيان المعنوي والحسي والإشارة التي في الآثار بهما
فأما المعنوي فهو كناية عن نقص العمر فإن رأس مال المرء عمره وربحه فيه حسن عمله وإذا قل العمل المبارك كان الزمان ناقصاً لأجل نقص الفائدة فيه مثل الشجر والثمر إذا نقص الشجر قلنا نقص الثمر قال جل جلاله وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ٥ وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول كل يوم لا أزداد فيه علماً ولا ﴾ أتخذ فيه يداً لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم وقال بقية عمر المؤمن لا ثمن لها
۱ سورة الإسراء من الآية ٥٩ سورة الحاقة من الآية ١٤ سورة المؤمنون الآيتان ٧٦ و ٧٧

4 سورة القمر من الآية ٥ ٥ سورة البقرة من الآية ١٥٥
٦ رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع العلم بسند ضعيف عن السيدة عائشة
رضي الله عنها
٤٤٧

يصلح فيها ما فسد ۱ فما يصلح ما فسد إلا بالتوبة والعمل الصالح لأنه يتدارك به نفسه وما ذاك - أعني قلة العمل - إلا لغلبة حب الدنيا على القلوب والاشتغال بها وتقدمتها على عمل الآخرة وقد نبه على هذا المعنى بقوله أنتم في زمان وذكر من صفات أهله أنهم يُبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي زمان وذكر من صفات أهله أنهم يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم وقال عليه السلام من ابتدأ بحظه من دنياه فاته حظه من اخرته ولم ينل من دنياه إلا ما كتب له ومن ابتدأ بحظه من آخرته نال من آخرته ما أحب ولم يفته من دنياه ما كتب له ۳ عليه السلام من شروط الساعة وذكر فيه ويقل العمل والأحاديث في هذا الشأن كثيرة فبان ما
قلناه من الوجه المعنوي هذا من طريق الفقه والنقل
وقال
وأما من طريق أهل المعاملات فإنهم يقولون الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك ومعناه عندهم إن لم تقطعه بالعمل قطعك بالتسويف هذا من طريق الأعمال الأخروية وأما من طريق الأعمال الدنيوية فقد ظهر أيضاً النقص فيها في جميع محاولاتها وبان أما الصناع فما منهم من يقدر أن يبلغ في صنعته مثل ما سمع عَمَّن تقدم وكذلك التجار وكذلك الفلاحون وكذلك الملوك وغير ذلك من وجوه متاع الدنيا النقص الكثير قد ظهر في جميع ذلك وما ذاك إلا من قلة توفيتهم لحقوق الله تعالى وأحكامه وتهاونهم بذلك وكثرة مكر بعضهم ببعض فارتفعت البركات من أبدانهم وأموالهم وارائهم وعاد الوبال على الجميع وهم لا يشعرون ويتعجبون من قلة البركات من أين تأتيهم وهم لم يتركوا من مجهودهم في الطلب شيئاً
فجاوبهم لسان الحال قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ٤ لأن هذه الصفات تخالف مقتضى الإيمان لأن الإيمان - كما أخبر لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ٥ وقال عليه السلام المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ٦ وقال عليه السلام الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وعلى ذلك كان السلف رضي الله عنهم
1 لم نقف على مصدره انظر تخريجه في الحديث ١٤
۳ لم نقف على مصدره
٤ سورة ال عمران من الآية ١٦٥
0 أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

۷ قطعة
لعله أراد حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعند مسلم من الخير أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قطعة من حديث أوله من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما =
ومن ستر

4
کال
الار
لي
333
قال

٤٤٨

وقد رأيت في بعض التواريخ أن أحد الملوك لَمَّا ملك بعض البلاد وجد في الخزانة حبة قمح جرمها زائد على المعروف من القمح بزيادة كثيرة فسأل عنها فلم يجد من يعرف لها خبراً إلا شيخاً كبيراً قد عُمِّر فقال أعرفها ولذلك أن شاباً وشيخاً اشتركا في زرع فلما درسا زرعهما قال أحدهما للآخر ننقل هذا الطعام إذا قسمناه بالنوبة تحمل أنت مرة وأحرس أنا نصيبي ونصيبك ثم أحمل أنا مرة أخرى وتحرس أنت نوبتك
فلما قسما جعل الشيخ يحمل مرة من نصيبه وكان ذا عيال ويقعد الشاب يحرس فإذا

غاب الشيخ يقول الشاب في نفسه هذا شيخ وله عائلة فأحتاج أن أعينه فيأخذ من نصيب نفسه ويزيد في نصيب شريكه فإذا نقل الشاب في نوبته وقعد الشيخ يحرس يقول الشيخ في نفسه هذا شاب والناس يقصدونه فأحتاج أن أعينه فيأخذ الشيخ من نصيب نفسه ويزيد في نصیب شريكه فبقي ذلك دأبهما وهما ينقلان والغَلَّة تكثر ويكبر جرمُها حتى عَيِيَا وفشلا من حمل القمح ورأياه قد كثر حتى خرج عن الحَدّ المعروف
فسأل أحدهما الآخر وحلفه أن يصدقه ما يفعل بعده فأخبر كل واحد منهما صاحبه ما يفعل في غيبته فاشتهرت المسألة حتى بلغت أميرهم فوجه لأن يرى من ذلك القمح شيئاً فلما رآه قال ينبغي أن يُجعل من هذا شيء في الخزانة فيبقى لمن بَعْدُ فيه موعظة وتذكار فلما وفيا حقيقة الإيمان من طريق الأدب عادت عليهم بركات الإيمان وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ١
وأما المحسوس فلم يظهر بعد بدليل أن ساعات الليل والنهار باقية على حالها وقد أخبر بنقصها حِسا بقوله تكون السَّنَّة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة إلى آخر الحديث فهذا مما بقي خروجه وقوله عليه السلام وتظهر الفتن هذه الألف واللام هل هي للجنس أو للعهد احتملت
الأمرين معاً
فإن كانت للجنس فكل ما ذكر عليه السلام في هذا الحديث من جملتها وكذلك جميع ما
كان العبد في عون أخيه الخ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ۱ سورة الأعراف من الآية ٩٦
لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه
٤٤٩

جاء من الأحاديث فيها إلا أن هنا بحثاً وهو ما فائدة قوله عليه السلام وتظهر الفتن وهو عليه السلام قد أخبر عنها معيّنة في أحاديثَ عِدة فالجواب أن إخباره عليه السلام بها على هذه الصيغة لوجهين أحدهما تأكيد لما أخبر عليه السلام به من الفتن أنه لا بد أن تظهر في عالم الحس قبل قيام الساعة و الوجه الآخر أنها تكثر عند قرب الساعة ويتوالى خروجها بعضها إثر بعض حتى كأنها دائمة الظهور ولا تكاد تزول كما أخبر عند كثرتها يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ويُمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا ۱
وإن كانت بمعنى العهد فتكون الإشارة إلى تلك الفتن الكبرى التي هي مع الساعة كهاتين وهي مثل الدجال وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وقد جاء أن التي تظهر
منهن أولاً يتبعها الباقي وينقضي جميعهن في ستة أشهر أعاذنا الله من جميعهن بمنّه وقوله عليه السلام ويكثر الهرج - وهو القتل يريد القتل الذي يكون بغير حق لأن القتل في الحدود رحمة للبلاد والعباد لأنه قال الأنْ يُقامَ حَدٌ من حدود الله في بقعةٍ خَيرٌ لهم من أن تُمطِرَ عليهم السّماءُ ثلاثين يوما ۳ وفي حديث ثان أربعين يوماً وما يكثر القتل في غير حق إلا لقلة العلم والدين وعند قرب الساعة يكثر ذلك وقد جاء ما يؤيد هذا وهو قوله عليه السلام حتى لا يعرف القاتل فيم قتل ولا المقتول فيمَ قُتِل ٤
وهنا بحث وهو أن هذا القتل مذكور في جملة الفتن فلم كَرَّره في هذا الحديث فالجواب أنه إنما كرره لأجل شناعته وقبحه
وقوله عليه السلام حتى يكثر فيكم المال فيفيض المال هنا المراد به الفضة والذهب لا غيرهما وإن كان ينطلق المال عند العرب على الإبل وعند كل ناس بحسب ما غلب عليهم وقد تقدم الكلام على هذا قبل فنحتاج الآن أن نبين كيفية خروجه ولماذا نخصصه بأنه الذهب والفضة فيتخصص بدليلين أحدهما من الحديث نفسه و الآخر من غيره من الأحاديث
پیله
اتنا
مالة
۱ لفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه إشارة إلى حديث بعثتُ أنا والساعة كهاتين وأشار بالوسطى والسبابة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حنبل والطبراني والدارمي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ لفظه حَدٌ يُعمَل في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمطَروا ثلاثين صباحاً أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

لفظه والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل أخرجه مسلم وتفرد به عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٥٠

ي
عة
من
لا
فأما الذي من الحديث نفسه فقوله عليه السلام يفيض فإن هذه الصفة لا تستعمل حقيقة إلا فيما يخرج من الأرض من المال والماء وقد تستعمل مجازاً في غير ذلك إلا أنه لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل والحكم أن يحمل اللفظ على ظاهره ما لم يعرض لذلك معارض شرعي ولا معارض هنا
وأما الدليل الآخر الذي يؤخذ من غيره من الأحاديث فإنه قد جاء أن الفرات ينحسر عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس حتى يقتل من المائة تسعة وتسعون وما يبقى من المائة غير واحد ۱ وقد جاء أن الأرض تخرج كنوزها إلا أنه بعدما يلقى الشح على الناس ويقل عندهم المال من أجل الشح ثم يأمر الله تعالى الأرض أن تخرج كنوزها فيمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها منه فيقال له لو جئت بها بالأمس أخذناها وأما اليوم فلا حاجة لنا بها
وأما كيفية خروجه فكما تقدم في هذين الدليلين المذكورين من خروج كنوز الأرض وجبل الذهب وهذه العلة التي هي قلة المال مع الشح موجودة في كل الأزمان لقوله عليه السلام ما طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يقول أحدهما اللهم أعط لمنفق خلفاً والآخر يقول اللهم أعط لممسك تلفا ۳
وهنا بحث إذا قلنا إن قلة المال من الشح فما موجب خروجه فالجواب أن الفتنة في خروجه أكثر مما في منعه لا سيما مع العلة التي ذكرنا أنه لا يجد لمن يعطي صدقته وأي فتنة أكبر من هذه وخروج المال أيضاً من أكبر الفتن
وفائدة هذا الحديث التصديق بما فيه من الآيات وقوة الإيمان بقدرة القادر على ذلك والعمل على الخلاص منها بما أخبر هو الا الله وحين ذكر الفتن فقيل ما تأمرنا إن أدركنا ذلك فقال الجأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات ٤ فقد ظهرت أكثرها فهل مشمر للنجاة بما أرشد إليه
الصادق المصدق
1 لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون ويقول كل رجل لعلي أكون الذي أنجو أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ۳ لفظه ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر
اللهم أعط ممسكاً تلفاً متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ سبق الكلام عنه في الحديث ٦ بأنا لم نعثر عليه بهذا اللفظ وإنما هناك أجوبة نبوية فيها الأمر بلزوم كتاب الله
وجماعة المسلمين
٤٥١٠

وهنا بحث صوفي وهو أنه لما علم أهل هذا الشأن أن النجاة من تلك الفتن العظام هو بالإيمان والأعمال الصالحات أيقنوا أن ذلك فيما هو أقل منها من باب الأحرى والأولى فلم يشغلوا نفوسهم بغير الإيمان ودوام الأعمال الصالحات ولما رأوا أن الدار لا بد من انقضائها صيروا الأول منها آخراً والآخر منها أولاً ولذلك قال إذا كانت الدار لا تبقى فمتاعها فان فاعمل لدار لا تفنى ومتاعها باق واعمر بالربح زمانك ولا تدعه خالياً والحمد الله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٢
بالما قلة نا

حديث إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً
عَن عَبدالله بن عمرو ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ قالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ألم أُخبَر أَنَّكَ تَقومُ اللَّيلَ وَتَصومُ النَّهار قُلتُ بلى إِنِّي أَفعَلُ ذلكَ قالَ فَإِنَّكَ إِن فَعلتَ ذُلِكَ هجَمَت عَينُكَ وَنَفِهَت نَفْسُكَ ٢ وَإِنَّ لنَفْسِكَ علَيكَ حَقًّا ولأهلك علَيكَ حَقًّا فَصُمْ وَأفطِرْ وَقُمْ وَنَمْ ۳
ظاهر الحديث يدل على منع دوام الصيام والقيام لأجل علة عجز البشر عن ذلك والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن الحكم لا يكون إلا على أكمل وجوه التحقق والتثبت يؤخذ ذلك من أن سيدنا لم يخبر أن هذا الشخص وهو عبد الله بن عمرو بأنه يقوم الليل ويصوم النهار إلا من بعدما استفهمه عما قيل له وإن كان سيدنا يعلم أن الذي أخبره صادق لأن الصحابة كلهم رضي الله عنهم مقامهم مقام الصدق والدين لكن لما بقي وجه من تحقيق الأمر وهو سؤال الشخص نفسه لم يتركه عليه السلام حتى سأله وتيقن ذلك منه مشافهة
وفي سؤاله عليه السلام للشخص نفسه من الفقه وجوه منها ما ذكرنا من التحقيق وليقعد قاعدة شرعية في ذلك ولأجل أن يعلم أيضاً هل كان ذلك الوقت له نية ما نواها ولم يتلفظ بها حتى تنقل عنه أو ليس ولأجل أنه قد يكون أيضاً معلقاً بشرط ما وذلك الشرط قد لا يعرفه
سنة
1 عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي صحابي من النساك وأحد العبادلة الأربعة في الفقه والحديث قال أبو هريرة ما كان أحد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه يكتب ولا أكتب وكان كثير العبادة والتلاوة وكان يشهد الحروب والغزوات ويضرب بسيفين وحمل راية أبيه يوم اليرموك وشهد صفين مع معاوية روي له ۷۰۰ حديث وقلت الرواية عنه لسكناه في مصر بخلاف أبي هريرة في المدينة المنورة توفي ٦٥ هـ / ٦٨٤م واختلفوا في مكان وفاته قيل بمكة وقيل بالطائف وقيل بعسقلان في فلسطين نَفهت نفسك أعيت وكلت راجع الحديث ١٨٤

٤٥٣

9
القائل أو يعرفه أو قاله بغير عزيمة على فعله حتى يرى على ما يعوّل عليه إلى غير ذلك من الاحتمالات فمن أجل هذا المعنى كان السؤال والله أعلم
ولذلك قال العلماء إن السنّة على أنواع عديدة فمنها سنة يجب العمل بها مع عدم تحققها - وهي الحكم بشهادة الشاهدين - لأن الغلط في حقهما ممكن والصدق كذلك إلا أنه قد أمرنا بإنفاذ الحكم بهما إذا تيقنت عدالتهما فعلى هذا فمن أنفذ حكماً من الأحكام دون ثبوت الموجب له بالإثبات التام بمقتضى الشرع فهو ضلال محض وإن وافق في الغيب عين الحق لأنه ما أمرنا أن نحكم بالغيب إلا في الإيمان به عزّ وجل حيث أمرنا به الوجه الثاني فيه دليل على جواز التحدث بما يعزم المرء عليه من أفعال البر يؤخذ ذلك من
قول النبي ل ا ل ا ل ألم أخبر فلولا أن الشخص تكلم بذلك ما كان النبي يخبر به الوجه الثالث فيه دليل على أن كل من كان مسترعى رعية صغرى أو كبرى أنه يسأل عن جزئيات رعيته وأنه يجب على من علم منها شيئاً الإخبار له بها يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ألم أخبر فلولا أنه عليه السلام سأل أو كان عندهم مقررا أنهم يخبرونه بما يعرفون من أحوالهم وأحوال إخوانهم ليعلموا حكم الله في ذلك ما أخبر و بذلك لأن هيبتهم له عليه السلام كانت
كبيرة حتى إنهم كانوا يودون أن يأتي بدوي فيسأله فيسمعون منه ما يقول له فيستفيدون الوجه الرابع فيه دليل على فصاحة الصحابة رضي الله عنهم وقلة تصنعهم وقصدهم الحقيقة في الأشياء بلا زيادة يؤخذ ذلك من حسن جوابه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يزد على أن قال إني أفعل ذلك فلم يزد على الإخبار عن حقيقة الذي سئل عنه بلا تصنع في ذلك الوجه الخامس فيه دليل على تعليل الحكم لمن فيه أهلية يؤخذ ذلك من تعليل سيدنا له بهجوم العين ونفاهة النفس التي طبعت عليه البشرية
الوجه السادس فيه دليل على أن الأولى في العبادة تقديم الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقا وهنا بحث ما حق النفس وما حق الأهل وما يعني هنا بالأهل
أما الحق الذي للنفس فقد اختلف فيه أهل الفقه وأهل المعاملات فأهل الفقه يقولون هو أن تُعطيها حظها ممّا تحتاج إليه من ضرورة البشرية وترويحها زماناً ما كما قال روحوا ساعة1 وكما قال عليه السلام إنّ المُنْبَتْ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظَهْراً
ساعة القلوب
بعد
1 أخرجه أبو داود في مراسيله عن ابن شهاب وأبو بكر بن المقري في فوائده والقضاعي عن أنس رضي الله عنه
٤٥٤

أبقى ۱ وهذا الحظ عند هؤلاء السادة الذين قالوا به بشرط أن يكون على مقتضى السنّة وأهل المعاملات يقولون حق النفس الذي لها عليك أن تَقطَعَها عما سوى مولاها
ويمكن الجمع بين القولين بأن نقول أن تقطعها عما سوى مولاها في التعلقات القلبية والأسباب الشرعية وذلك بألا يبقى للقلوب تعلق إلا بمولاها في كل الأحوال ولا تتصرف في الأسباب إلا على لسان العلم المجمع على أنه أرفع الأحوال
يشهد لهذه الطريقة من الآثار حديث معاذ ۳ مع أبي موسى ۳ إذ وجههما رسول الله إلى اليمن يعلمان الناس دينهم فتفرقا لتعليم الناس كما أمرا فلما أن اجتمعا سأل أحدهما الآخر كيف تقرأ القرآن فقال أبو موسى أقرأه قائماً وقاعداً ومضطجعاً وأتفوقه تفويقا ٤ ولا أنام وقال الآخر أما أنا فأقوم وأنام وأحتسب ٥ قومتي كما أحتسب نومتي فتنازعا في ذلك ولم يسلم أحدهما للآخر في الأفضلية حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه فقال النبي لأبي موسى هو أفقه منك يعني عن معاذ الذي كان يقوم وينام
الله وقد حكي عن بعض من نسب إلى هذه الطريقة المباركة أنه حصل له حالة مناجاة واتصال فسأل أن تدام له تلك الحالة فقيل له ألستَ أنت بشراً وهذه الحالة لا تمكن مع بقاء البشرية لكن إذا رجعت إلى أمرنا ونهينا لم تزل عندنا
وأما قولنا ما يعني هنا بالأهل فيحتمل أن يكون عنى به الأولاد والزوجة وكل من تلزمه نفقته شرعاً لأنه إن اشتغل بالعبادة تعذرت حقوقهم وهو المسؤول عنها ويحتمل أن يكون عنى بالأهل الزوجة لأن من حقها على الزوج الإصابة ٦ والصيام والقيام مما يقلل ذلك الشأن فيكون يخلّ بحق عليه وحمله على الأعم أولى لأنه أكبر في الفائدة
الوجه السابع فيه دليل على ضعف البشرية وإن تكلف المرء من العمل زيادة على قدر ما طبعت عليه نفسه يقع له الخللُ والنقص في الغالب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هجمت
دليل
1 أوله إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت الخ أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه انظر ترجمته في الحديث ٤٣ ۳ أبو موسى الأشعري عو عبد الله بن قيس صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين أحد الحكمين بعد حرب صفين كان أحسن الصحابة صوتاً له ۳۵۵ حديثاً توفي بالكوفة سنة ٤٤ هـ / ٦٦٥م
٤ أتفوقه تفويقاً أقرأه مجزاً في أوقات مختلفة
٥ احتسب الأمر ادَّخر أجره عند الله ٦ الإصابة الإتيان بالصواب ومن معانيها المجيء من عَل والإراقة القاموس وفي الحديث أن رسول الله كان يصيب من رأس بعض نسائه وهو صائم أراد التقبيل البداية والنهاية لابن الأثير وتاج العروس
٤٥٥

عينك ونَفِهت نفسك فقوة الكلام تعطي أن من طبع على مثل هذا لا يطيق أن يفعل ما هزم هذا
الصحابي عليه لضعفه عن ذلك ومثل هذا نهيه للصحابة رضي الله عنهم عن الوصال فقالوا له إنك تفعل ذلك فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني أي أنه يمده بالقوة مثل من يأكل ويشرب لأنه لو كان يأكل محسوساً ما صدق أن يقال واصَلَ
ولهذا المعنى كان بعض أهل الصوفة إذا دخل في الوصال يجعل رغيفاً من خبز تحت وسادته فلما كان في بعض الأيام قام إلى ضرورة فأخذ بعض الفقراء الرغيف من تحت الوسادة فلما رجع هذا السيّد إلى مكانه تفقد الرغيف فلم يجده فقال أين الرغيف فقالوا يا سيدنا ما حاجة مثلك لرغيف فقال لهم تأدبوا أتظنون ما ترون مني من جبلة جبلت عليها بل ذلك فضل وفيض رباني فإن رددت إلى حال البشرية وجدت الرغيف أدفع به العدو
ولهذا المعنى بنيت الأحكام على ما هو الأصل في الأشياء أو الغالب منها كمثل تحليل الميتة بعد ثلاثة أوقات لأن وضع البشرية ما تطيق بسبب ما وضعت عليه من الضعف أكبر من ذلك القدر فإن تحملت أكثر منه وقع معها الخلل وقد يكون مع ذلك الخلل موت وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ فإذا زاد المرء على ذلك شيئاً فهو من طريق المن والإفضال عليه لأنه قد جعل الله له بساطاً وهو إجراؤه عزّ وجلّ العادة الجارية لأهل ذلك الشأن بمقتضى الحكمة كما أجرى عزّ وجلّ للغير بالطعام ما أجرى لهم وهي قوة العزم وألا يلتفتوا إلى شيء سواه فمن دخل في هذا الشأن وتشبه بالقوم دون هذا البساط وقع معه الخلل وكان من باب وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى النَّهَلُكَةِ ﴾ ۳ إلا أن يكون له حسن ظن في القوم وتصديق بحالهم فيُلطف به من أجل حرمتهم إلا أنه لا بد في الغالب أن يجد شيئاً من الشدة في نفسه ثم يُحمل عنه للحرمة
الوجه الثامن فيه دليل على أن المندوب في الدين مطلوب على كل حال يؤخذ ذلك من فحوى كلامه عليه السلام بقوله صم وأفطر وقم ونم لأن فحوى الكلام عندهم كالنص المنطوق به لا أعرف في ذلك خلافاً فكأنه عليه السلام يقول له بمتضمن ذلك السكلام لا تشتغل أيضاً
بإعطاء الحقوق وتترك المندوب مرة واحدة ولكن اجمع بين فرضك وندبك
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه والبخاري عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة
وعن السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين
سورة النساء من الآية ١٤٧ ۳ سورة البقرة من الآية ۱۹٥
٤٥٦

وعلى هذا الأسلوب تجد قواعد الشريعة كلها إذا استقريتها فمن أريد به خیر بصر بعيوب نفسه فأبصَرَ رشده ولذلك قيلَ نَظَرُكَ إلى النفس حِجابٌ عما سواها وشغلك بغيرها حجاب عنها فإن اعجبت بها فاتك الحظ مما سواها وإن تعاميت عنها نلت خيرها وخير سواها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٧

حديث الاستخارة في الأمور
عَن جابر بن عبد الله ۱ رضيَ الله عَنهُما قالَ كانَ رَسولُ الله يُعلمنا الاستخارة في الأمورِ كُلها كما يُعلّمنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ يَقولُ إذا همَّ أَحدُكُم بالأمرِ فلْيَركَعْ رَكعتين مِن غيرِ الفَريضَة ثُمَّ لِيَقُلْ اللهمَّ إِنِّي أستَخيرُكَ بعلمكَ وأستَقدِرُكَ بقُدْرَتِكَ وأسألُكَ مِن فَضلِكَ العَظيمِ فَإِنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدِرُ وتعلم ولا أعلم وأنتَ علام الغيوب اللّهُمَّ إن كُنتَ تعلَمُ أنَّ هَذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لي ثُم بارك لي فيه وإن كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرِفْهُ عنِّي واصرفني عنه واقدُرْ لي الخَيْرَ حَيثُ كانَ ثُمَّ أَرْضِنِي به قالَ وَيُسَمِّي حاجتَهُ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على الحض على هذه الاستخارة المذكورة في الحديث والكلام عليه من
الوجه الأول قوله في الأمور هل هو على عمومه أو هو عام والمراد به الخصوص محتمل لكن الأظهر أنه عام والمراد به الخصوص بدليل أن الواجباتِ مطلوبة فإن أُتِي بها وإلا عوقب تاركها فلا يُستخار فيما فيه عذابٌ على تركه والمحرمات أيضاً ممنوع فعلها والعذاب معلق على فعلها وما العذاب مُعَلّق على فعله فلا استخارة فيه فالذي تكون فيه الاستخارة أمران إما نوع المباحات - وهو ما إذا أراد الشخص أن يعمل أحد مباحين ولا يعرف أيهما خيرٌ له جازت له الاستخارة لير شده مَن يَعلم الأمور وعواقبها على ما هو الأصلح في حقه - وإما نوع المندوبات وهو أن يخطر لأحدٍ أن يفعل أحد المندوبات ولا يعرف
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٥٣
٤٥٨

أنها خير له فيستخير وأما نوع المكروه فمكروه أن يُستخار فيه فعلى هذا فهو لفظ عام والمراد به الخصوص ـ كما ذكرنا - وهذا هو في اللسان كثير
وقوله كما يعلّمنا السورة من القرآن احتمل أن يكون الشبه من جهة حفظ حروفه وترتيبها ولا يبدل منها شيء بشيء كما هو القرآن يُقرأ بالفاء والواو ۱ لأن العلماء لم يختلفوا أن القرآن لا يُنقل ولا يُتلى إلا على وضعه بالفاء والواو واختلفوا في نقل الحديث فقيل هو مثل القرآن وقيل يجوز أن ينقل بالمعنى إذا فهم فيكون مراده عليه السلام بهذا الحديث أن حكمه حُكْمُ
القرآن لا يُغيَّر عن وضعه
و
واحتمل أن يكون أراد منع الزيادة على تلك الألفاظ والنقص منها
واحتمل أن يكون الشبه في عَدَم الفَرْضيّة لأن السُّورة - ما عدا أم القرآن - تعليمها من طريق المندوب لأن ما في القرآن فرضٌ تَعلَّمه إلا أم القرآن عند من يرى أنها فرض في الصلاة أم القرآن وإن كان يطلق عليها بمقتضى اللغة سورة من القرآن فقد غلب عليها اسمها المختص بها حتى إنه إذا أراد أحد أن ينص عليها ولا يسميها بهذا الاسم لا يفهم عنه وهي قد غلب عليها هذا الاسم ونحوه من الأسماء التي غلب عليها أيضاً كما غلب اسم الثريا عليها ۳ وإن كانت من جملة النجوم
واحتمل أن يكون الشبه من طريق الاهتمام بها والتحقيق ببركتها والاحترام لها واحتمل أن يكون الشبه من كونها بوحي من الله تعالى كما أن السورة من الله وليس من
عنده عليه السلام
واحتمل أن يكون الشبه في التدريس لها والمحافظة عليها والمعاهدة لذلك كما أخبر عليه السلام عن حامل القرآن أنه مثل صاحب الإبل المعقلة 4 إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقها ذهبت
سائل
واحتمل مجموع ما وجهناه وأكثر وقوله إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر هنا بحث قوله إذا هَمَّ هل هي على وضعها عند أهل الخواطر أو توسعة في المخاطبة فيريد بهم النية احتمل والأظهر - والله أعلم - أن تكون
على بابها

يعني أن القرآن يقرأ كما أنزل لا يبدل منه حرف بحرف
هي سورة الفاتحة وتسمى كذلك أم الكتاب والسبع المثاني
۳ أي على النجم المعروف بهذا الاسم ٤ الإبل المعقلة المعتقلة المحبوسة عقل البعير ضَمّ رُسعَ يده إلى عَضُدِهِ وربطها معاً بالعقال ليبقى باركاً
٤٥٩

ونحن الآن نبين ما ذكره أهل الخواطر وحينئذ نبيّن لِمَ كان ما ذكرنا هو الظاهر فأما
الخواطر عندهم فهي سِتَّة وإن كان قد ذكرناها في أول الكتاب لكن لبعدها احتاج الموضع لها فنذكر منها قدر ما تبين به الفائدة في الترجيح الذي ذكرنا فأولها الهَمَّة ثم اللمَّة ثم الخَطْرَة - وهذه الثلاثة عندهم غير مأخوذ بها - ثم نية ثم إرادة ثم عزيمة وهذه الثلاثة عندهم مأخوذ بها وبعضها أشد من بعض فيكون فائدة ترجيح الهَمَّة أن يكون الحديث على بابه لأنه أول ما يخطر له الخاطر وليس له فيه تلك الرغبة القوية فيستخير عند ذلك فيبين له بعد الاستخارة - بتوفيق
الله - الأرجح
وإنما قلنا ذلك لأنه إذا تمكن الأمر عنده حتى صار له فيه نية وإرادة فقد حصل له إليه ميل وحبّ وقد قال الله حُتُ الشيءَ يُعمِي ويُصِمٌ ۱ فهذا لا يظهر له وجه الأرشد لِمَيله للذي عَزَم عليه ولوجه آخر أيضاً لأن فيه إظهاراً لحقيقة العبودية فأول شيء يرد عليه في ذلك لجوؤه بسببه إلى مولاه فلِحرمة هذا المقام يلطف به لأنه عند أهل المعاملات أعلى المقامات واحتمل أن تكون الهَمَّة بمعنى النيّة ويكون وجه الفقه فيه أن النفس لا تخلو من الخطرات وأكثرها لا تثبت ولا يعمل عليها فلا يستخير إلا على شيء ينويه ويعزم عليه لئلا يستخير في أمر لا يعبأ به فيكون فيه سوء أدب وعلى هذا التعليل يرجح الثاني على الأول ويكون فيه معنى ما من قوله كما يعلمنا السورة من القرآن لأن القرآن لا يقرأ إلا لجَمْع القلب عليه كما قال اقرأوا القرآن ما التلَفَتْ عليه قلوبُكُم فإذا اختَلَفَتْ فقُوموا عنه
وقوله عليه السلام فليركع ركعتين من غير الفريضة هنا بحث قد جاء عنه أدعية كثيرة ولم يشترط فيها صلاة وهنا جعل من شرطها صلاة تختص بها فهل هذا تعبُّد لا يُعقل له معنى أو له معنى معقول فإن قلنا بأنه تعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فنحتاج إذاً إلى بيان الحكمة في ذلك وهذا هو الأظهر أن يكون لحكمة إذ بالقطع لا يفعل الشارع شيئاً من الأشياء
إلا لحكمة
فنقول والله أعلم إن الحكمة هنا هي أنه لما أن كان هذا الدعاء من أكبر الأشياء إذ إنه عليه السلام أراد به الجمع بين صلاح الدين والدنيا والآخرة فطالب هذه الحاجة يحتاج إلى قرع باب المَلِكِ بأدب وحالي يناسب ما يطلب ولا شيء أرفع مما يُقرع به باب المولى من الصلاة لما فيها
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي الدرداء والخرائطي في اعتلال القلوب عن أبي برزة وابن عساكر عن عبد الله بن أنس رضي الله عنهم ٢ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والنسائي والدارمي وأبو عوانة وابن حبان عن جندب رضي
٤٦٠

من الجمع بين التعظيم الله سبحانه والثناء عليه والافتقار إليه حالاً ومقالاً وذكره عزّ وجلّ وتلاوة كتابه الذي به مفاتح الخير من الشفاء والهدى والرحمة وغير ذلك مما هو فيه منصوص ويترتب على ذلك من وجوه الحكمة أن يكون طلب الأشياء بواسطة أولى بحسب ما يقتضيه نسبة مطلبه وقد مضى بين الناس في بعض أمثالهم ما يشبه هذا وهو قولهم من نصب إلى وزة أخذ وزة ومن نصب إلى عصفور أخذ عصفوراً معناه أن الشبكة التي تحبس الوز لا تحبس العصفور والتي تحبس العصفور لا تحبس الوز فقد ظهر بينهما مناسبة ما من طريق الحكمة لأن مقدمات الأشياء على اختلافها كل على ما يليق بها فهذا هو وضع الحكمة وقوله عليه السلام ثم يقول ثم هنا دالة على انتقال الفاعل من حال الصلاة عند تمامها إلى حال الدعاء لأنها تدل على المهلة وقوله عليه السلام اللهم هذه اللفظة هي من أرفع ما يستفتح به الدعاء وقد ذكرنا هذا فيما تقدم بما علل فيه
وقوله إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ معناه أن تنظر لي أنت الخيرة بعلمك الذي أحاط بجميع الأشياء لا بعلمي أنا القاصر عن جميع الأشياء
وقوله وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ أي أطلب منك أن تقدره أنت لي بقدرتك التي لا تعجز عن شيء من الأشياء لا بقدرتي أنا العاجزة عن جميع الأشياء
وقوله وأسألك من فضلك العظيم أي ما سألتك إنما أسأله من فضلك فإنه لا حقَّ واجبٌ عليك فما تفضلت به في مسألتي هذه أو في غيرها فإنما هو من فضلك العظيم و العظيم صفة لفضله عزّ وجلّ ولجميع صفاته و لذاته الجليلة
وقوله فإنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدر وتَعلَمُ ولا أعلَمُ رجعنا هنا إلى ما أبديناه أولاً بمقتضى قوة الكلام الذي أبداه لنا والفائدة في إبدائه لنا لأن الغالب من الناس عدم فهم ما تقتضيه قوة الكلام لأنه لا يعرف ذلك إلا أربابه - وهم قلائل - والدعاء يحتاج إليه من يعرف ذلك ومن لا يعرف فمن لا يعرفه فلا يحصل له بتلك الألفاظ ذلك التنازل المقصود من النفس فتسقط فائدة كبيرة من الأمر وقد تكون هي أقوى الأسباب في النجح فأعاده الله له لهذه الحكمة
وقوله وأنتَ علام الغيوب هذا زيادة في الثناء على المولى الكريم كأنه بقوة الكلام يقول أنت تعلم الغيب في مسألتي ليس علمك بالغيب فيها بحُكم الوفاق ولا لعلّة من العلل بل إنك أنت علام جميع الغيوب على حد الكمال والجلال وزيادة الثناء على المولى من أنجح الوسائل فهذا هو حقيقة الافتقار والاضطرار وهو الحق الذي لم يُبْقِ لنفسه من الدعوى شيئاً وردَّ
الأمر إلى من هو أهله وهو له حق
٤٦١

وقوله ثم قال اللهم إنما أعاد هذه اللفظة لما فيها من الخير والرغبة
وقوله إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني إنما قدَّم الدِّينَ لأنه الأهم في جميع الأمور فإنه إذا سَلم الدين فالخير حاصل تعِب صاحبه أو لم يتعب وإذا اختل الدين فلا خير بعده
وقوله ومعاشي أي في عيشي في هذه الدار
وقوله وعاقِبَةِ أمرِي أي في آخرتي
وقوله أو قال في عاجل أمري وآجِلِهِ الشك هنا من الراوي والمعنى واحد وإنما قال هذا هنا لما كان فيه وفي جميع الصحابة رضوان الله عليهم من التحري في النقل والصدق وقوله فأقدُرْه لي مأخوذ من القَدْر
وقوله وَيسِّرْه لي ثم بارك لي فيه مأخوذ من التيسير مخافة أن يترك في ذلك لنفسه وإن قدر له به فيتعب في تحصيله وقوله وإن كنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري واجله الكلام عليه كالكلام على الذي قبله لكن هنا بحث وهو أنا رأينا أن كل من لازم قوله طلب الخير وقضي له به لا يكون فيه شرّ فما فائدة إعادة قوله وإن كنتَ تَعلمُ أنّ هذا الأمر شر لي في ديني إلى تمام الكلام فنقول فائدة الإعادة لوجهين أحدهما ما ذكرناه أوّلاً وهو أن ما كان يدل بقوة الكلام أعاده نَضًا للعلة التي ذكرنا الوجه الآخر مختلف فيه هل الأمرُ بالشيء نهي عن ضده أو ليس و وجه ثالث وهو الإبلاغ في تحسين الحال
وقوله فاصرفه عني واصرفني عنه البحث هنا كالبحث فيما تقدم آنفاً
وقوله واقدُرْ لي الخير حيث كان هذه إشارة إلى تمام قدرة القادر وهو إبلاغ في التنزيه لأنه قدرته جلّ جلاله البعيد والقريبُ عنده على حالة سواء والإيمان به واجب ومن الدليل على ذلك ما نص عزّ وجلّ في كتابه من قصة عرش بلقيس الذي أتِيَ به لسليمان عليه السلام لما دعا الذي عنده علم من الكتاب في لمحة البصر وكان من البُعدِ حيث كان ومن الدليل على ذلك من طريق العقل أنه لو عجزت قدرته عزّ وجلّ عن ممكن ما صح له الكمال والكمال لا بدّ من وصفه عزّ وجلّ به فلا يعجز إذا عن شيء من الأشياء
وقوله ثم أرضني أي أرضني به لأنه إذا قضى له ما فيه الخير ولم يَرضَ فقد تنغص ومن تنغص حاله ما كَمُلت له عافية فهذا من كمال العافية أيضاً
وقد ذكر أهل الصوفة أنه من استخار في شيء فقُضي له فيه قضاء ولم يرض فإنه عندهم من الكبائر الذي يجب منه التوبة والإقلاع لأنه من سوء الأدب وما قالوه ليس يَخفَى لأنه لما رجع هذا العبد المسكين إلى هذا المولى الجليل ورغب منه أن ينظر له بنظره فكيف لا يرضى
٤٦٢

فهذه صفة تشبه النفاق بل هو النفاق نفسه لأنه أظهَرَ الفقر والافتقار والتسليم ثم أبطَنَ ضِدَّ ذلك فأين هذا الحال من قوله أستخيرك بعلمك على ما بيّناه أولاً وقد ورد في الحديث ما معناه أنه عزّ وجلّ يقول ما غضبتُ غضباً أشدَّ من غضبي على من استخارني في أمر فقضيتُ له فيه قضاء
وكرهه ۱ أو كما قال
وهنا بحث لِمَ سُمِّيت الحاجة وهو عزّ وجلّ يعلمها لأنها من جملة الغيوب فالبحث هنا كالبحث في قوله وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي لكن هنا زيادة لأنه قد يكون في إيمان بعض العوام ضعف فيلحقه الشك هل يعلم حقيقة أم لا وإن كان جهل بعض العوام بعض الصفات لا يخرجه من دائرة الإيمان على ما عليه أكثر أهل السنّة لكن لما كان هذا الموضع من المواضع التي لا يمكن فيها إلا الإيمان الجازم من أجل قضاء الحاجة أتى بما يحقق الإيمان الذي هو الأصل في هذه الفائدة لأنه فرّق بين البقاء في دائرة الإيمان وقضاء الحاجة فلقد يكون في دائرة الإيمان ولا تُقضَى له حاجة إلا أن يأتي الله بمن يشفع له ولأن دعاءه هو الشفيع له فإذا كان إيمانه ناقصاً لم ينفعه

فهذا أقوى دليل لأهل الصوفة الذين يرون بدوام الفقر والافتقار والتخلي في كل الأنفاس إذ بفقر ساعة يستفيد هذه الفائدة فما بالك به إذا كان دائماً وقد كان بعض أهل هذا الشأن إذا وقعت لبعض الفقراء حاجة فيلجأ فيها إلى الله فيتفضل عليه بقضائها فيقول له يا سيدي ما أجل
اللجأ إلى الله ! فكان جوابه رحمه الله أن يقول لِمَ تَحُودُونَ عنه حتى تحتاجوا الرجوع إليه فانظر عباراتهم كيف تخرج مع أصول الشريعة على حد سواء وإن كان بعضهم لا يعرف القاعدة في ذلك الموضع لأن النبي ل لقد قال من رُزِقَ مِن باب فَلْيَلْزَمْهُ فإذا رأى أن الخير كله في الرجوع إليه فَلِمَ يَحُودُ عنه حتى يحتاج أن يرجع إليه كما ذكر هذا السيد سواء وقد قال عليه السلام كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن شَغَلَه ذِكْرِي عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين ۳ فانظر بعين بصيرتك بباب من تقف وأي جهة تقصد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 وجدنا في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضى ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وسخطه بعد القضاء رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب
٢ أخرجه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه ٣ سبق تخريجه في الحديث ٤٧ ولفظ المؤلف كناية عن مولانا تعني أن ما سوف يورده هو حديث قدسي وللمحدثين صيغ عدة عن الحديث القدسي منها ما أورده المؤلف ومنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ومنها قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله والمؤدَّى في العبارات كلها واحد
٤٦٣

حديث ما بين بيته ومنبره لي
عَن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ الله قال ما بَينَ بَيْتِي وَمِنبَرِي رَوضَةٌ مِن رياض الجنَّةَ وَمِنبري علَى حَوضِي
ظاهر الحديث يدل على أن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة ومنبره على حوضه والكلام عليه من وجوه
منها هل تنقل تلك التربة بعينها فتكون في الجنة أو معناه أن العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة اختلف العلماء في ذلك على قولين فمن قائل بالوجه الأول ومن قائل بالوجه الثاني والأظهر - والله أعلم - الجمع بين الوجهين معاً لأن لكل وجه منهما دليلاً يعضده ويقوّيه من
جهة النظر والقياس
أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة في الجنة فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده كما كان عليه السلام بألف فيما سواه من المساجد فلهذه البقعة المذكورة زيادة على باقي البقع للمسجد زيادة على غيره كما ذكرنا
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة وكون المنبر أيضاً على الحوض - كما أخبر عليه السلام وأن الجذع في الجنة والجذع في البقعة نفسها فبالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء - على ما أذكره بعد - والذي أخبر بهذا صادق فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقع المباركة فائدة بركتها لنا والإخبار بها لتعميرها بالطاعات فإن الثواب فيها أكثر وكذلك الأيام المباركة أيضاً
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أن تكون تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما هو الحجر الأسود من الجنة وكما هو النيل والفرات من الجنة وكما أن الثمار الهندية من الورق التي هبط بها ادم عليه السلام من الجنة فاقتضت الحكمة أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة ومن ترابها و من حجرها ومن فواكهها حكمة حكيم جليل
٤٦٤

وقد روي أن أول ما خلق من العالم الآدمي طينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جبريل عليه السلام نزل مع الملائكة في جمع كبير من جلتهم فأخذوا تربة سيدنا من موضع قبره ثم صعدوا بها وعجنت بالسلسبيل ثم غمست في جميع أنهار الجنة حتى رجع لها نور عظيم وطيف بها في العالمين حتى عُرفت ثم أكبَّها ١ الله عزّ وجلّ يمين العرش حتى خلق آدم عليه السلام
وقد روي عن كعب الأحبار ۳
رضي
الله عنه أنه لما أراد الجليل جلّ جلاله أن يخلق محمداً أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها قال فهبط جبريل عليه السلام وملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى فقبض قبضة من موضع قبر رسول الله وهي بيضاء منيرة فعجنت بماء التسنيم وغمست في معين أنهار الجنة حتى صارت كالدرة البيضاء ولها نور وشعاع عظيم حتى طافت الملائكة حول العرش وحول الكرسي وفي السّماوات وفي الأرض والجبال والبحار فعرفت الملائكة وجميع الخلق محمداً عليه السلام وفضله قبل أن يعرفوا آدم عليه السلام فلما خلق الله ادم عليه السلام وضع في ظهره قبضة رسول الله فسمع ادم في ظهره نشيشا ٤ كنشيش الطير فقال ادم يا رب ما هذا النشيش فقال هذا تسبيح نور محمّد عليه السلام خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فخذه بعهدي وميثاقي ولا تودعه إلا في الأرحام الطاهرة فقال آدم أي ربّ قد أخذته بعهدك ألا أودعه إلا في المطَهَّرين من الرجال والمحصنات
من النساء فكان نور محمّد يتلألأ في ظهر ادم وكانت الملائكة تقف خلفه صفوفاً لما يرون
فلما رأى آدم ذلك قال أي رب ما لهؤلاء ينظرون خلفي صفوفاً فقال الجليل له يا ادم ينظرون إلى نور خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فقال أي رب أرنيه فأراه الله إياه فآمن به وصلى عليه مشيراً بأصبعه ومن ذلك الإشارة بالأصبع بلا إله إلا الله محمد رسول الله فقال ادم اجعل هذا النور في مقدَّمي كي تستقبلني الملائكة ولا تستديرني فجعل ذلك النور في جبهته فكان يرى في غرة ادم دارة كدارة الشمس في دَوَرَان فلكها وكالبدر في تمامه وكانت الملائكة تقف أمامه صفوفاً ينظرون إلى ذلك النور ويقولون سبحان ربنا - استحساناً لما يَرَوْن
1 أكبّ الرجل على عَمَل عَمِله إذا لزمه ولم يعدل عنه والمقصود من عبارة المؤلف أن الله تعالى جعل العجينة
التي خلق منها رسول الله يمين العرش حتى خلق ادم عليه السلام
الرواية المذكورة لم ترد في كتب السنة كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن وأسلم في زمن أبي بكر وقدم المدينة في دولة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيراً من أخبار الأمم الغابرة وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وخرج إلى الشام فسكن حمص وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين وكانت وفاته سنة ٣٢ هـ / ٦٥٢م وقد نسب إليه كثير من الإسرائيليات
٤ النشيش صوت الماء وغيره إذا غلى
٤٦٥

ثم إن آدم عليه السلام قال يا رب اجعل هذا النور في موضع أراه فجعل الله ذلك النور
في سبابته فكان آدم عليه السلام ينظر إلى ذلك النور ثم إن ادم قال يا رب هل بقي من هذا النور في ظهري شيء فقال نعم بقي نور أصحابه فقال أي رب اجعله في بقية أصابعي فجعل نور أبي بكر في الوسطى ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر ونور علي في الإبهام فكانت تلك الأنوار تتلألأ في أصابع ادم لما كان في الجنة فلما استخلفه الله وأهبط إلى الأرض ومارس أعمال الدنيا انتقلت الأنوار من أصابعه ورجعت إلى ظهره ۱

وقد ساق الفقيه الخطيب أبو الربيع رضي الله عنه في كتابه المسمى بـ شفاء الصدور من هذه الرواية أكثر من هذا فعلى هذا فيكون خلقه و من الأرض ويكون الأصل من تلك الدار المكرمة بدليل أنه لم يختلف أحد من العلماء أن الموضع الذي ضم أعضاءه ل أرفع البقع فإذا كان ما بين بيته عليه السلام وبين المنبر من الجنة فكيف يكون ذلك الموضع الذي هو فيه فعلى هذا فيكون الموضع روضةً من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان في موضعه ويكون للعامل بالعمل فيه روضةٌ في الجنة - وهو الأظهر - لوجهين أحدهما لعلو منزلته عليه السلام و الآخر ما قدمناه من الدليل ويكون بينه عليه السلام وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه وهو أنه لما خص الخليل عليه السلام بالحجر من الجنة خص الحبيب عليه السلام بالروضة من الجنة
وهنا بحث لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فحينئذ نحتاج إلى البحث والأظهر أنها لحكمة وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله عزّ وجلّ فضّله على جميع خلقه وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقري في كل أموره من بدء ظهوره عليه السلام إلى حين وفاته في الجاهلية والإسلام فمنها ما كان من شأن أمه وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء حسب ما هو مذكور معلوم ومثل ذلك حليمة السعدية وحتّى الأتان وحتى البقعة التي تجعل الأتان يدها عليها تخضَرّ من حينها وما هو من ذلك كله معلوم منقول وكان مشيه عليه السلام حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله وحيث وضع عليه السلام يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًا ومعنى ما هو منقول معروف ولما شاء الحكيم أنه عليه السلام لا بد له من بيت ولا بد له من منبر وأنه بالضرورة يكثر

۱ هذا من إسرائيليات كعب الأحبار
الواو زائدة
٤٦٦

لنور
هذا
ـي
في
إلى
ور تلك
ޖ
ـذي
عه
عليه هذا
ـلام
ـد
سبق
ما
بليه
مع
3 25 3 3
تان
كثر
تردده عليه السلام بين المنبر والبيت فالحرمة التي أعطي إذا كان من مسةٍ واحدةٍ بمباشرة أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير فكيف مع كثرة ترداده عليه السلام في البقعة الواحدة مراراً في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى حين وفاته فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفنا وهو أنها كانت من الجنة وتعود إليها وللعامل فيها مثلها فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في الدار لكانت لها ولا أعلى
مرتبة مما ذكرنا في جنسها
وهي
الآن منها
فإن احتج محتج بأن يقول فينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها لأنه عليه السلام كان يطؤها بقدمه مراراً فالجواب أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر عليه السلام مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام وأنه أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة وأن ما كان بها من الوباء والحمى رفع عنها وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولاً فإن تردده عليه السلام في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها وتردده عليه السلام فيما بين المنبر والبيت أكثر مما في سواه من سائر المسجد فالبحث تأكد بالاعتراض لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة والقرب من تلك النسمة المرفعة لا خفاء فيه فالمدينة أرفع المدن والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة وقوله عليه السلام ومنبري على حوضي هذا لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره
وأنه حق محسوس موجود على حوضه عليه السلام وفيه من الفقه الإيمان بالحوض أنه حق وأن المنبر عليه حق وأن القدرة صالحة ولا عَجْزَ فيها عن ممكن لأن هذه الأحاديث وما أشبهها فائدتها التصديق بها لأنه من متضمن الإيمان لقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بالغيب فكل ما أخبر به الصادق عليه السلام من أمور ما
له حالاً
الغيب فالإيمان به واجب وفيه أيضاً إشارة لطيفة وهي إذا كان الجماد يَشرُف به عليه السلام فكيف بالمتّبع له و مقالاً ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنِ ۳ ولهذه الإشارة كان الخلفاء رضي الله عنهم إذا جلس بإزاء أحدهما في المسجد شخص لا يعرفونه يسألونه ما عنده من القرآن فينظرون
1 أفعمت كتب الحديث بفضائل المدينة المنورة
333
سورة البقرة من الآية ٣ ۳ سورة السجدة من الآية ١٧

0
3
٤٦٧

333
له بذلك الحال وينزلونه بتلك المنزلة لأنهم إذ ذاك ما كانت عندهم الرفعة إلا بزيادة القرآن لأن
غير ذلك من الفضائل تساوَوْا فيها وتقاربوا
ولذلك لما دَوَّنَ عمر رضي الله عنه الديوان قدم أقربهم إلى النبي ل نسباً وأقدمهم القرآن حتى إنه ذكر أنه جاءه ابنه عبد الله فقال هجرة ثم باقي الناس بقدر ما عند كل شخص من له لِمَ فضلت علَيَّ عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له إن أباه أقدم في الإسلام من أبيك وأقلها
له
منزلة بعدما ذكرنا الحب الله ولرسوله ۱ لقوله الله السائل حين سأله عن الساعة فقال له ما
أعددت لها فقال والله ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله فقال له أنتَ مع
من أحببت ٢
تنبيه واحذر أن يكون حبك دعوى فإنه عليه السلام قد قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ۳ وذكر فيها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وقد تقدم الكلام عليه في أول الكتاب فرَفْعُ المنزلة بقدر الإيمان والاتباع فمهين نفسه أو مكرم لها
وفيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشر ليس من الدنيا بشيء وإنما هو اخرة كله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بيتي ومنبري لأن البيت من ضرورة العبد لأنه يستره من الناس ويُكِنه من أذى المطر والشمس ويخلو فيه لعبادة ربه فهو آخرة صرف وما كان من متاع الدنيا فكذلك كل ما كان منها مما لا بد للبشرية منه ليستعين به على اخرته فهو اخرة لكن بشرط وهو أن يكون قدر الضرورة وإلا فهو لما تشتهيه النفس فيكون نفسانياً فيخرج إلى باب آخر ولذلك قال بعض الصحابة حين أدخل عثمان رضي الله عنه بيوت أزواج النبي وفي الزيادة التي زادها في المسجد وددت أنه تركها حتى يأتي آخر هذه الأمة فيرون بيوت نبيهم أي صفة كانت وكان علوها قامة وبسطة ٤
وكذلك قوله عليه السلام ومنبري لأن المنبر مما فيه ترفع لكن لما لم يقصده عليه السلام إلا لمنفعة دينية - وهو أن يسمع جميع من حضر حكم الله عليهم - صار آخرة كله وكذلك كل ما احتاج المرء إليه من دينه لمصلحة فيه وإن كان يشبه متاع الدنيا فليس بدنيا ولتلك العلة لم يتخذ لا اله الا هو الخاتم إلا حين قيل له إن ملوك الروم لا تقرأ كتاباً حتى يكون
1 أقلها مبتدأ وخبره الحبّ ويريد أن الحب دون حفظ القرآن
أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي
۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه ٤ انظر الحديث ٥٠ ففي حاشيته شرح لمعنى القامة والبسطة
٤٦٨

لأن
ـفال
ـلها
ما
مطبوعاً فاتخذه من أجل هذه العلة ومن أجل ذلك اختلف العلماء في التختم هل هو سُنَّة مطلقة كل الناس فيها سواء أو ليس إلا لمن له أمر ليس إلا على قولين فمن لحظ العلة التي من أجلها اتخذه هو قال لا يكون سنة إلا لمن كان محتاجاً إليه والحاجة هي ما تقدم من التعليل ومَن لَحَظ نفس الفعل ولم يعلل قال كل ما فعله عليه السلام فهو سنة مطلقة
ولذلك قال من قال
الدين بالسنّة محيا
واحذر عوائد سوء
فلا تقصد في فعلك سواه
ـد أتلفت وأهلكت
ــد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
محياه
جد
تذ
٤٦٩

-٦٤-
حديث كراهة الرسول أن يبيت عنده ذهب أو يمـ
عَن عُقْبَةَ بن الحارث ۱ رَضِيَ الله عنه قالَ صَلَّيتُ مع النَّبِيِّ العَصر فَلمَّا سلَّم قام سريعاً وَدخَلَ عَلَى بَعض نِسائِهِ ثُمَّ خَرجَ ورأى مَا فِي وُجُوه القومِ مِن تَعجبهم لسرعته فَقالَ ذَكرتُ - وأنا في الصَّلاةِ - تبراً عِندَنا فكَرهتُ أن يمسي - أو يبيت ـ عِندنا
فأمَرتُ بِقسميه
*
ظاهر الحديث يدل على جواز العمل على ما يذكر المرء - وهو في الصلاة ـ إذا كان فيه صلاح لها وليس بمفسد للصلاة والكلام عليه من وجوه
منها جواز العزم على عمل طاعة وهو في أخرى لكن نحتاج إلى بيان صورة الذكر الذي لا يفسد الصلاة من الذي يفسدها وما بين ذلك والكلام في هذا بأن نذكر أولاً أنواع الخواطر التي
ترد على الشخص وهو في الصلاة وهي إما نفسانية وإما شيطانية وإما ملكية وإما ربانية فأما الربانية فهي علامة على قبول الصلاة وهي أعلى درجات المصلين وهي حقيقة المناجاة بالنسبة إلى عالمنا وهذه لها أهل يعرفونها حتى إنه كان بعض أهل هذا الشأن إذا قال له بعض أصحابه إنه دعا في الصلاة أو غيرها بدعاء في وجه ما فيقول له هل سمعت الجواب بالقبول والخطاب في الحضور أم لا فإن قال له نعم عرف أنه قد حصل له قدم ما من أهل الخصوص وإن قال له لم أسمع جعله من العوام ويقول له وكيف يكون دعاء خالص مخلص لا يسمع صاحبه جوابَ مسألته هذا محال فكان هذا عنده من قبيل المحال لأن هذا كان حاله ولهذا المعنى كان سيدنا الله يقول جعلت قرة عيني في الصلاة و أرِحْنا بها يا
۱ عقبة بن الحارث وكنيته أبو سروعة حجازي له صحبة أسلم عام الفتح انظر أسد الغابة ۱۸/٥ وتاريخ المدينة المنورة لابن شبة ٨٤١٣ جزء من حديث أوله حبب إلي من دنياكم ثلاث الخ أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي في السنن الكبرى عن أنس رضي الله عنه
٤٧٠

بلال فإنه يبرد ظمأ المجاهدة بعذوبة برد شراب المناجاة فتستريح برحاؤه عليه السلام بذلك وقال عليه السلام أقْرَبُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه الدعاء فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم لما فيه من القرب والتداني وهذا خاص باربابه في الفهم والحال اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهله وإلا فلا تحرمنا التصديق به
في
وأما الملكي فهو كل ما يدعو إلى خير وهو مثل ما ذكر في هذا الحديث إما أن تفعله وإما أن يكون لك سبباً إلى الخشوع - وهو من أعلى درجات المصلين - وإما أن ينقطع به عنك الوسواس صلاتك وهو مع ذلك لا يزيد الصلاة إلا حسناً ما لم تطل المحادثة به حتى يقع به الخلل في شيء من الصلاة فإنه إذ ذاك تعاد الصلاة منه مثلما فعل عمر رضي الله عنه حين صلى المغرب بالصحابة رضوان الله عليهم ولم يقرأ فيها فذكروا له ذلك بعد فقال كيف كان الركوع والسجود فقالوا حسن قال فلا بأس إذا إني جهزت جيشاً إلى الشام وأنزلت الناسَ منازلهم وذكروا أنه أعاد الصلاة وفي إعادة الصلاة خلاف بين العلماء فيكون في إعادة الصلاة إذا أتم ركوعها وسجودها ولم يقرأ خلاف فإن نقص شيء من الركوع والسجود فلا بد من الإعادة لقوله الله ارجع فصل فإنك لم تصل ۳ لما نقص من التمكن في أركانها كما هو مذكور في الحديث
النار
وإن كان نفسانياً فإن كان مما ينافي الصلاة مثل التحدث في شهوة من الشهوات المباحة فالإعادة مندوبة لأن المقصود من الصلاة الحضور والخروج من حظوظ النفس لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه ٤ أو كما قال عليه السلام فإذا كان القلب مشغولاً بتلك الشهوة فأين هو وأين الصلاة اللهم إلا أن تكون خطرةً من النفس فيتركها ولا يلتفت لها فلا تضره إن شاء الله إذا كان عند إحرامه قد أخلص فإنما نحن مكلفون بدفع الخواطر السوء في الصلاة وغيرها إلا أنها في الصلاة اكد للعلة المتقدمة وقد قال عليه السلام أحدث مع الذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية ٥ وإن كانت الشهوة محرمة فلا صلاة بالأصالة لأنه لا يجتمع فعل طاعة مع معصية فنحن قيل لنا في عدم حضور القلب ما ذكرناه آنفاً
فما بالك بهذه الصفة الذميمة
1 أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والطبراني في المعجم الكبير والهيثمي في مجمع الزوائد والخطيب البغدادي في
تاريخ بغداد عن رجل من الصحابة
۳ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقمِن خَليق جَدِير ۳ رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأصحاب السنن عن رافع بن أبي رفاعة رضي الله عنه ٤ رواه ابن الجوزي في زاد المسير ۹۰/۱ وابن عبد البر في التمهيد ۹۸/۱۰ بلفظ آخر 5 أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٢٦٢/٦ و ٩٥/٧ بلفظ آخر
٤٧١

وأما إن كان شيطانياً فإن مال إليه واستصحبه وأصغى إليه فالصلاة فاسدة لأن هذا من جنس ما ذكرناه انفاً عن النفس التي تحدث بالشهوة المحرمة فإنه كل ما هو من طريق الشهوات فهو من قبيل النفساني وكلّ ما هو من قبيل المعاصي فهو من قبيل الشيطان فإن لم يلتفت إليه واستغفر وأعرض فيرجى ألا تفسد صلاته إن شاء الله تعالى
وأما الوجه الذي بين البطلان والجواز - على حسب التقسيم أولاً ـ فهو الذي يكثر من
الخواطر ويغفل عن دفعها ولا يشتغل بها أيضاً فلا دليل لنا على الفساد ولا على ضده وفيه دليل على أن عادة سيدنا الله وكانت الإقامة بعد الصلاة في المسجد يؤخذ ذلك من قوله سريعاً وتعجب الصحابة رضي الله عنهم منه لأنه لولا ما كان هذا منه عليه السلام خلاف عادته لم يتعجب منه
وفي هذا دليل على أن يكون من يدعو إلى خير يغلب ذلك الخير عليه في أكثر عادته حتى يكون حاله يصدق مقاله لأن سيدنا قد أخبر في هذا الحديث أن من قعد في مصلاه بقيت الملائكة تصلي عليه وأن انتظار الصلاة إلى الصلاة رباط فما دل عليه السلام عليه بمقاله كان الغالب على حاله فلما رأوا منه غير ذلك تعجبوا
وفيه دليل على أن مخالفة العادة تقتضي التشويش على الإخوان إذا لم يعرف السبب لذلك يؤخذ ذلك من تعجب الصحابة رضوان الله عليهم ويؤخذ منه أن من حق الصحبة العمل على زوال التشويش عن الصاحب - وإن قل - إن أمكن ذلك يؤخذ ذلك من رجوع سيدنا لا اله و إليهم وإخبارهم بسبب سرعة رجوعه إلى أهله
وفيه دليل على العمل بما يظهر من الشخص دون إفصاح ولا سؤال يؤخذ ذلك من أن سيدنا لم يخبرهم إلا بعدما رأى في وجوه القوم من التعجب
وفيه دليل على أن كل ما في القلب يظهر على الوجه ولا يخفى ذلك إلا على من لا نور له في قلبه أعني بالنور مَن وَرَّثه عليه السلام من أمته في ذلك المعنى الخاص وإلا فكل مسلم له نور بحسب حاله في إيمانه والله أعلم يؤخذ ذلك من أن سيدنا ل لما رأى ما في وجوه القوم استدل بذلك على ما كان في قلوبهم ومما يؤيد ذلك قوله عليه السلام المؤمن ينظر بنور الله ۳
1 أصله أفضل الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة ولزوم مجالس الذكر ما من عبد يصلي ثم يجلس في مجلسه إلا صلت عليه الملائكة حتى يحدث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أوله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبي سعيد الحكيم والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة وابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين
٤٧٢

من
i
فإذا نظر بنور الله لم يخف عليه من علامات الوجه ما في القلب فإن قوي إيمانه صار من أصحاب المكاشفات الذين يبصرون القلوب بأعين بصائرهم كما يبصرون الوجوه بأعين رؤوسهم وفيه دليل على جواز ذكر المعروف - إذا كان لضرورة - وأنه لا ينقله عن حالة الإخفاء يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لهم رضوان الله عليهم لما رأى منهم ما ذكرناه المعروف الذي فعله من أجل صلاح خواطرهم لأنه قد جاء أن الذي يفعل المعروف سراً ثم يتحدث به ينقل له إلى ديوان العلانية ثم يتحدث به ثانية ينقل له إلى ديوان الرياء فإذا كان مثل هذا للعلة الموجودة أو ما أشبهها إذا لم يرد بذلك مدحة أو ثناء فيرجى أنه يبقى له على حاله
وقد نص أهل التوفيق على أن من مكايد الشيطان أنه إذا عمل العبد العمل سراً يقول له تحدث به لأن يُقتدى بك فيفعل ذلك حتى يخرجه إلى الباب الذي ذكرناه وهو باب الرياء وصاحب العمل لا يشعر بذلك وقد يظن أنه في ذلك مأجور فيكون جهلاً مركباً
وفيه دليل على أن للرجل أن يترك ماله عند أهله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام تبراً عندنا وكان التبر عند بعض أهله - كما أخبر أولاً أنه عليه السلام دخل على بعض أزواجه - ولم يأتِ أن سيدنا كان له شيء مَحُوز لنفسه المكرمة مغلق عليه دون أهله
وفيه دليل على جواز النيابة في المعروف يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فأمرت
بقسمته
وفيه دليل على جواز إبقاء المال على ملك صاحبه طول يومه ولا يخرجه ذلك عن مقام
الزهد يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت أن يمسي - أو يبيت ـ عندنا ولم تقع منه عليه
السلام الكراهية في اليوم الواحد

وفيه دليل على أن الزهد مندوب إليه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت فإن المكروه لا إثم على فاعله ويؤخذ منه جواز الاقتناء بشرط تأدية الحقوق ويؤخذ منه أن الزهذ لا يكون إلا حالاً حسّا ومعنى فأما المعنى فهو ألا يتعلق القلب به وأما الحسي فهو الخروج عنه كما فعل سيدنا هذا وفيه دليل لأهل الصوفة الذين لا يبيتون على معلوم يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام كرهت أن يمسي - أو يبيت - عندنا وأما قوله أن يمسي أو يبيت الشك هنا من الراوي وقد رأيت بعض أهل هذا الشأن كان كل ما فتح عليه في يومه لا يبيت عنده منه شيء فلما كان في بعض الأيام ورد عليه جمع كبير للزيارة وأتاه فتوح كثير فقال الخديم في نفسه إن
٤٧٣

أظهرت له جميع الفتوح فإن ما يفضل من القوم يخرج عنه وهذا جمع كبير ويصبحون وليس معهم شيء يفطرون عليه فنترك منه شيئاً جيدا بحيث يكفيهم لغدهم لا يعلم به الشيخ ففعل ذلك وأخرج الباقي فأكل القوم فما فضل منهم أمر الشيخ بإخراجه من المنزل إلى الفقراء والمساكين على عادته فلما أصبح لم يأتهم شيء من الفتوح فقام الخديم ومد السماط وأخرج طعاماً كثيراً فقال له الشيخ من أين هذا فذكر له ما وقع منه ثم قال له يا سيدي لولا ما فعلت كان هذا الجمع اليوم بلا شيء فقال له الشيخ فعلك هذا منعنا من الفتوح في هذا اليوم فمن جَدْ وجَدَ ومن أخلص عومل بحسب إخلاصه فالناقد بصير والمعاملة مع وفي كريم
غني رحيم ولذلك قال من قال خذ لنفسك أي الطرق شئت فقد بان للحق بالحقيقة
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
علم
۱ يريد فما
اسفنان ميهمانان
٤٧٤
يونيا السلام ماية الدال

وليس
ففعل
فقراء
ماط
لولا
دم
كريم
علم
قضاء النافلة في وقت الكراهة
عَن كُرَيبٍ ۱ قالَ سأَلتُ أُمَّ سَلَمَةَ ٢ رضيَ الله عَنها عَنِ الرَّكعتينِ بَعدَ العَصرِ فَقالت أُمُّ سَلَمَةَ سمعتُ النبي يَنهَى عَنهُما ثُمَّ رَأيتُهُ يُصلِّيهما حِينَ صلَّى العَصر ثم النَّبِيَّ الله دخل عليَّ وَعِندي نِسوَة مِن بَني حَرامٍ مِنَ الأنصارِ فأرسلتُ إليه الجاريةَ فقُلتُ قومي بجنبه فقولي لَهُ تَقولُ لكَ أُمُّ سلمةَ يا رَسولَ الله سَمِعتُكَ تَنهى عَن هَاتَينِ الرَّكَعَتِينِ وَأراكَ تُصليهما فإن أَشارَ بيَدِهِ فَاستَأخرِي عَنهُ فَفَعَلَتِ الجاريةُ فَأَشارَ بيَدِهِ عنه فلما انصرَفَ قالَ يا بنت أبي أمية سألتِ عنِ الرَّكعتين اللتين بعدَ العَصرِ وإنَّهُ أتاني ناس مِن عَبدِ القيس فَشغلُوني عَن الرَّكعَتين اللتين بعد الظهر فهُما هاتَانِ
فَاستَأْخَرَت
ظاهر الحديث يدل على جواز الركوع بعد العصر لأجل فوات ما كان بعد الظهر من التنفل والكلام عليه من وجوه
منها هل هذا جائز لغيره عليه السلام مع وجود فوات ما كان له من عادة بعد الظهر مطلقاً بأي وجه فات أو ليس إلا بذلك الوجه الخاص وهو الشغل بمن يدخل في الإسلام لحرمته أو ذلك خاص به له أو ذلك مطلق لغيره بغير علة تحتمل
والأخير هو مذهب الشافعي رحمه الله ومن تبعه ولا حجة له في ذلك من وجهين أحدهما أنه ليس النافلة منه الا الله كما هي من غيره فإنه قد صح عنه عليه السلام أنه كان إذا
1 كريب مولى عبد الله بن عباس ثقة أدرك عثمان وروى عن عائشة وأم الفضل أخرج له الجماعة تابعي توفي في المدينة سنة ۹۸ هـ

أم سلمة هي هند بنت سهيل المعروف بأبي أمية وبزاد الراكب إحدى زوجات النبي عليه السلام وكانت من أكمل النساء عقلاً وخلقاً وهي قديمة الإسلام هاجرت مع زوجها الأول أبي سلمة إلى الحبشة ثم رجعا إلى مكة وهاجرا إلى المدينة وولدت له أربعة أبناء ومات أبو سلمة فخطبها أبو بكر فلم تتزوجه وخطبها النبي فقبلت به وروت عنه ۳۷۸ حديثاً توفيت بالمدينة سنة ٦٢ هـ / ٦۸۱م
٤٧٥

عمل عملاً أثبته فأشبهت النافلة منه عليه السلام النذر من غيره و الوجه الثاني وهو نص الحديث لما استفهمت الجارية - بأمر أم سلمة رضى الله عنها - قال لها شغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر كما هو مذكور آخر الحديث
وقوة الكلام عند أهل الكلام كالنص سواء والعمل به واجب وقوة الكلام هنا تعطي أنه
عليه السلام ما فعلهما نقضاً لما نهى عنه من الصلاة بعد العصر ولا نسخاً للحكم بذلك هو من أجل علة ما فاته وهو عليه السلام قد ألزم نفسه المكرمة إثباتها والنهي باق كما كان والحكم به مستمر هذا لا يقدر أحد ممن يتناصف في البحث على طريقه أن ينكره وأما مذهب مالك رحمه الله فيرى أن ذلك خاص به ل لما ألزم نفسه المكرمة وأن
غيره لا يفعله تمسكاً بقاعدة النهي واستمرار الحكم بها
وأما البحث على لفظ الحديث فإنه إن كان يقع ممن يتبعه عليه السلام فيُلزم نفسه الاقتداء
به فإذا جاءه عذر يشغله عمّا كان يفعله بعد الظهر واتصل شغله به حتى خرج وقت الظهر فإنه يجوز له أن يفعله بعد العصر كما فعل هو الله لأن الله عزّ وجلّ يقول ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُ رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ ١

لكن بقي هنا بحث هل هو كما قدّمنا أنه كلما كان عذر من أي وجه كان من أنواع الأعذار يجوز معه هذا الفعل وهو الركوع بعد العصر لما فات بعد الظهر أو لا يكون ذلك إلا بمثل العذر الذي وقع له وهو شغله عليه السلام بإسلام هؤلاء وتقعيد أصول الشريعة لهم الذي هو الأصل لأنه من أجل ذلك بعث محتمل لهما معاً
فإن قلنا بالعموم فنقول بالجواز ويكون هذا أعلى الأعذار وإن قصرناه على ما فعل فنمنع إلا أن يقع لأحد مثل ذلك العذر فحينئذ نجيز له ذلك وهذا نادر أن يقع لغيره عليه السلام ولا سيما في هذا الوقت لأن النادر من الناس من يقع له ذلك وقد يجد البدل منه كثيراً اللهم إلا أن نفرض أنه لا يكون له في الوقت من يقوم مقامه في ذلك فهذا نادر جداً والنادر لا حكم له وهذا الوجه - والله أعلم - حمّل الإمام مالك رضي الله عنه أن يقول هو خاص به
عليه السلام
وفيه دليل على جواز استفهام المفضول للفاضل إذا رأى منه ما لا يعرف من عادته المستمرة
۱ سورة الأحزاب من الآية ۱ كذا والصواب مالكاً

يؤخذ ذلك من سؤال أم سلمة رضي الله عنها له صلى الله عليه وسلم فإن كل الناس في زمانه عليه السلام وغير زمانه بالنسبة إليه عليه السلام مفضولون
وفيه دليل على أن الاستفهام لا يكون إلا بعد التحقيق بالأمر الموجب له يؤخذ ذلك من قولها له عليه السلام وأراك تصليهما خوفاً أن يكون هناك أمر يخالف الظاهر كما كان وفيه دليل على أن تأخير السؤال لا ينبغي والمبادرة به هـ سلمة رضي الله عنها لما رأت ما لا تعهد من عادته عليه السلام وهي مشغولة و هو الأولى يؤخذ ذلك من أن أم كذلك أيضاً لم تؤخر السؤال حتى يفرغ عليه السلام من صلاته بل سارعت تسأل عن ذلك ولم ينكر هو عليه السلام عليها بعد

وفيه دليل على جواز النيابة في السؤال عن مسائل العلم عند الشغل يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لما لم تقدر هي أن تمضي إليه وجهت الجارية واستنابتها في السؤال عن مسائل العلم الذي هو السؤال
وفيه دليل على جواز استنابة الفاضل للمفضول في السؤال عن العلم وفي تغيير المنكر يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها استنابت الجارية ـ وهي حيث هي من أم سلمة ـ وأقر ذلك هو صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل على جواز السؤال لمن هو في الصلاة لأجل أمر يفوته يؤخذ ذلك من سؤالها له
عليه السلام وهو في الصلاة لأنها لو تركته حتى يفرغ فات الأمر ولا فائدة إذا ذاك وفيه دليل على جواز الإشارة في الصلاة عن الشيء الذي يسأل عنه ولا يفسد الصلاة إلا أنه بشرط أن يكون يسيرا يؤخذ ذلك من أنه الا الله أشار بيده المباركة إلى الجارية حين كلمته وهو في الصلاة ويؤخذ منه جواز استنابة من لا يعرف الأحكام في حكم خاص إلا أنه بشرط أن يعلمه حكم الله في ذلك الأمر يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لما وجهت الجارية علمتها ما تقول وما تفعل
وفيه دليل على أن للضيف حرمة يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لم يمنعها من المشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شغلها مع النسوة اللاتي أتينها للزيارة ويؤخذ منه جواز زيارة النساء بعضهن البعض لكن بشرط ألا يكون في أثناء ذلك محرم ولا مكروه بدليل قول عائشة الله عنها لو أدرك رسول الله لها ما أحدث النساء لمنعهن المساجد ۱ فإذا المساجد منعن
رضي
فمن باب الأخرى غيرها
1 سبق تخريجه في الحديث ٣٧
٤٧٧

وفيه دليل على جواز التنفل بين الأهل وهم ينظرون يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي الله عنها لو لم يكن النبي ل من حيث تراه ما علمت به
وفيه دليل على كراهة القرب من المصلي لغير ضرورة يؤخذ ذلك من إشارة النبي إلى الجارية أن تتأخر عنه ومعلوم أنه يحصل من ذلك تشويش ما وفيه دليل على أن أدب من يسأل من هو في الصلاة أن يقوم إلى جنبه يؤخذ ذلك من قول أم سلمة رضي الله عنها للجارية قومي إلى جنبه وفي هذا من طريق النظر أنه إذا كان السائل عن جنب المصلي رمقه بطرف عينه فيعرفه وتكون الإشارة إليه خفيفة فإذا كان قِبَلَهُ يحتاج المصلي أن يدفعه فإنه مارّ بين يديه وإن كان خلفه أو بالبعد منه قليلاً فقد لا يعرفه وإن عرفه فقد لا يتأتى له أن يصغي إليه لبعده فيكون سبباً لتشويشه وقد لا تمكن الإشارة إليه إلا بمشقة وفيه دليل على تواضعه علیه السلام وحسن خلقه لكونه خاطب الجارية بقوله يا بنت
أبي أمية
رضي
وفيه دليل على أن الحكم للظاهر من الأمور ما لم يتبين صده يؤخذ ذلك من أن أم سلمة الله عنها لما رأت ما ظاهره يوجب السؤال سألت عنه
والد
من و
الله عنها
وفيه دليل على أن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلا شيء مقطوع به يؤخذ ذلك من أن أم سلمة رضي لما رأت سيدنا ضد ما قد اشتهر من الحكم في منع الصلاة بعد العصر وإن كان الأمر عندهم أنهم يتبعونه في أفعاله عليه السلام كما يتبعونه في أقواله لكن لما كان فعله عليه السلام هنا محتملا للنسخ والنسيان لم تقتد به في زوال حكم قد ثبت مقطوع به حتى تعرف حقيقة الأمر في ذلك
رفيه
العلم
33
بالو
وفيه دليل على جواز أخذ العلم من النساء يؤخذ ذلك من سؤال هذا الراوي أم سلمة رضي الله عنها وتعويله عليها لكن بشرط أن يكون فيها لذلك أهلية كما كان في هذه السيدة وفيه دليل على اهتمامهم رضي الله عنهم بالدين يؤخذ ذلك من أن هذا الراوي سأل عنه أم سلمة لما لم يكن له بهذا علم وكذلك كانوا جميعاً رضي الله عنهم يرحلون في الحديث الواحد الأيام العديدة ولذلك قال من قال إذا كان لك بالدين اهتمام ففي المعالي لك قدر وإن أضعته فما خَطَرك في الوجود خطر
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
وإنم
٤٧٨

-11-
سبع

سبعة أوامر وسبعة نواه
عَنِ البَراء بن عازب رضي الله عَنهُما قال أمرنا النَّبِيُّ
أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي وَنَصرِ المَظلومِ وَإبْرارِ بسبع ونهانا عن القسَمِ ورَدُّ السَّلامِ وتشميتِ العاطِسِ ونهانا عَن آنْيَةِ الفِضَّةِ وَخاتَمِ الذَّهَبِ والحريرِ وَالدِّيباج والقسي والإستبرَقِ وَعَنِ المياثِرِ
ظاهر الحديث الأمر بهذه السبعة المذكورة والنهي عن السبعة المذكورة بعد والكلام عليه
من وجوه
منها هل الأمر في الجميع على حد واحد من الوجوب أو الندب والنهي هل هو على حدّ واحد في التحريم أو الكراهة أو ليس كذلك فالجواب أما ما أمر به ففيه ما هو على الوجوب وفيه ما هو على الندب مما قد تقرر من خارج وأما نفس الأمر فإنه على الاختلاف المعلوم بين العلماء ونحن الآن نذكرها واحدة واحدة لنبيّن فيها الوجوب من الندب
فقوله باتباع الجنائز قد تقرر من قواعد الشريعة أنه من المندوب ولا أعرف أحداً يقول فيه بالوجوب لأنه جاء وصف الأجر لمن تبعها حتى دفنت وليس المقصود نفس الاتباع ليس إلا وإنما جاء من اتبعها حتى حضر دفنها فله قيراط من الأجر كما جاء في الذي يصلي عليها سواء - وهو " في التمثيل مثل جبل أُحد - ولم يجىء فيمن ترك المشي معها وعيد وهذه صورة المندوب

1 البراء بن عازب صحابي ابن صحابي أنصاري خزرجي أسلم صغيرا وغزا مع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة وروى عنه ٣٠٥ أحاديث اتفق الشيخان على حديثاً منها ولاه عثمان على الري فغزا أبهر وفتحها ثم قزوين وملكها كما افتتح زنجان سكن الكوفة ومات فيها سنة ۷۱ هـ / ٦۹۰م انظر الحديث
۹
وهو الضمير يعود على القيراط
٤٧٩

وهو أن يكون لفاعله ثواب وليس على تاركه عقاب اللهُمَّ إلا ألا يكون للميت من يصلي عليه
ولا من يحمله إلا الحاضرون في ذلك الوقت فهو حينئذ فرض قد تعين عليهم ويأثمون بتركه وكذلك عيادة المريض من قبيل المندوب أيضاً لأنه عليه السلام قال من عاد مريضاً خاض في الرحمة فإذا قعد عنده استقرت الرحمة فيه ۱ اللَّهُمَّ إلا ألا يكون له من يمرّضه فيتعين
ذلك فرضاً على الكفاية
وأما إجابة الداعي فليس على عمومها فمنها فرض ومنها مندوب ومنها مكروه
ومنها حرام
فأما الواجب منها فهي التي للنكاح لقوله عليه السلام من لم يجب الدعوة فقد عَصَى أبا القاسم لكن بشرط ألا يكون فيه لهو محرَّم شرعاً فإن كان فيه محرم شرعاً فإتيانها حرام وأما المندوب فمثل الرجل يعمل الطعام لجميع الإخوان وإدخال السرور عليهم أو طعام الحذاق ۳ أو ما أشبهه بشرط ألا يكون فيه محرَّم ولا مكروه فإن كان فيه محرم أو مكروه كان المشي إليه على نحو ما كان فيه من الكراهة أو التحريم
وأما المحرم فمثل طعام الرُّشا للحكام وما أشبهه
وأما المكروه فمثل ما يكون من الأطعمة الجائزة والمقصود بها الفخر والخيلاء فكما قيل شر الطعام طعام الولائم يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء ٤
وطعام الوليمة إذا جمعت تلك الشروط التي ذكرناها أولاً فأنت في الأكل بالخيار وما ليس فيه من الأطعمة وجه من وجوه المحرمات ولا المكروهات فهو من قبيل المباح من شاء أتى ومن شاء لم يأت فقوله هنا وإجابة الداعي عام والمقصود به الخصوص وهو ما كان منها واجباً أو مندوباً كل واحد على بابه
وأما نصر المظلوم فواجب لقوله عليه السلام انصر أخاك ظالماً أو مظلوما ٥ ونصر
1 أخرجه ابن عساكر عن عثمان رضي الله عنه والإمام أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر رضي الله
عنه بلفظ آخر
الله ورسوله ومن دخل على غير دعوة دخل مسارقاً وخرج مغيراً أخرجه
لفظه من دعي فلم يجب فقد عضی أبو داود والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما
۳ لعله يريد الطعام المطبوخ بمهارة وجودة وقد يعني الطعام الذي يصنع للاحتفال بمن ختم القرآن ٤ أخرجه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر 5 جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه
٤٨٠

الظالم ردّه عن الظلم لقوله عليه السلام إذا ظهر فيكم المنكر فلم تغيروه يوشك أن يَعُمَّ الله
الكل بعذاب ۱
وأما إبرار القسم فواجب لقوله عليه السلام حق المؤمن على المؤمن أن يَبِرَّ قَسَمَه وليس أيضاً على عمومه لأن القسم بحسب ما يُقسم عليه فإن أقسم على واجب فإبراره واجب وإن أقسم على حرام فإبراره حرام مثل أن يُقسم شخص على آخر أن يأكل في رمضان أو لا يصلي يومه وما أشبه ذلك وإن أقسم على مكروه فإبراره مكروه كمن يقسم على من هو صائم صومَ تطوّع أن يأكل - على مذهب من يرى أن أكله مكروه - فيكون إبراره مكروهاً وأما على مذهب من يرى أن أكله لا يجوز فيكون إبراره لا يجوز كما قال ابن حبيب - من أصحاب مالك رحمهما الله - فيه إنه إن حلف عليه يُحنِثه ولا يجوز له إبراره وإن حلف بالطلاق والعتاق وصوم أن يغلظ من الأيمان فإنه يحنثه ويتم صوم يومه فيكون أيضاً مثل الذي قبله اللفظ عام
عسى
والمقصود الخصوص
وأما رد السلام فواجب لا خلاف أعرف فيه
وأما تشميت العاطس فمؤكد مطلوب على ما ذكره العلماء

سنة وما
وأما المنهى عنه فجميعه حرام أما انية الذهب فقد قال لا اله الا في الذي يشرب فيها كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم٤
وأما التختم بالذهب ولبس الحرير فقد قال عليه السلام فيهما هذان حرام على ذكور
أمتي ٥
والديباج والاستبرق نوعان من الحرير
1 أصله قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وإنا سمعنا رسول الله الله يقول إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعذابه أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي بكر رضي الله عنه
لم نقف على مصدره
۳ ابن حبيب هو عبد الملك بن حبيب الأندلسي القرطبي المالكي فقيه على مذهب المدنيين أصله من طليطلة سكن في قرطبة وزار مصر وعاد إلى الأندلس وتوفي فيها سنة ۳۸ هـ له غريب الحديث وطبقات
الفقهاء والتابعين وإعراب القرآن وكثير غيرها ٤ أخرجه مسلم وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها وزاد الطبراني إلا أن يتوب ٥ أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه وابن ماجه عن ابن عمر رضي
عنهما بلفظ آخر
الله
٤٨١

وأما القسى ۱ فتياب منسوبة إلى تلك البقعة وهي من الحرير وكذلك المياثر وهي
ثياب من حرير كانوا يجعلونها على دوابهم بعضها من تحت الرحال

فالمنهي عنه أشد من المأمور به لأن المنهي عنه كله حرام كما ذكرنا والمأمور به أخف لأن فيه المندوب والواجب ولأجل هذا المعنى قال الله إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم
وما نهيتكم عنه فلا تقربوا ۳

ويظهر من الحكمة في أمره عليه السلام باتباع الجنائز وما بعده المذكور في الحديث وقوله في الحديث الذي أوردناه إذا أمرتكم إلى آخره أن كل ما فيه خير لأمته أمرهم به من أجل ما فيه من الربح العظيم فكان هذا تصديقاً لقوله عزّ وجل في حقه عليه السلام حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ 4 وقوله عليه السلام فائتوا منه ما استطعتم معناه ليس كله عليكم بواجب والواجب أيضاً ليس إلا على قدر الطاقة والاستطاعة فكأنه عليه السلام يقول ما كلفتكم بالحكم اللازم إلا بقدر الاستطاعة ومما يؤيد هذا قوله تعالى لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ٥ وليس المفهوم من هذا أن تأخذ من الأمر ما تشتهيه نفسك وتترك منه ما لا تشتهيه لا يفهم هذا عامل يعرف أن الاثنين أكثر من الواحد أبداً أن يكون الهوى قد غلب على قلبه وقوله وما نهيتكم عنه فلا تقربوا فلأنه الله لم ينه إلا عن المحرّم وهذا النهي نهي لزوم ولهذا المعنى قال عليه السلام اتَّقِ محارم الله تكنْ أعَبَدَ الناس ٦ وقد جاء عنه نهي وليس بحرام وليس بمناقض لما ذكرناه انفاً ومن أجل ذلك تحرزنا بقولنا نهي لزوم لأن ما جاء عنه من من النهي ومع النهي قرينة يفهم منها الكراهية والشفقة أو وجد ما يخرجه من أن
1 القسيّ بشدّتين نسبة إلى بلدة تدعى قس وهي - كما يقول ياقوت - ناحية من بلاد الساحل قريبة إلى ديار مصر تنسب إليها الثياب القسيّة التي جاء النهي عنها وقال بعضهم أصلها القَزِّيّ نسبة إلى القزّ وأبدلت زايه سيناً ويقول ياقوت وفي بلاد الهند بين نهر وارا بلد يقال له القس مشهور يجلب منه أنواع من الثياب والمآزر الملونة وهي أفخر من كل ما يجلب من الهند من ذلك الصنف المياثر جمع ميثرة من وثر وهي مركب للعجم كان يتخذ من الحرير والديباج وميثرة الأرجوان وطاء محشوّة يترك على رحل البعير تحت الراكب وسواء كانت المياثر تعني المركب العجمي أو الوطاء المحشوّ فإنها سبيل إلى العجب والمباهاة والكبرياء
۳ جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة ومطلعه ذروني ما تركتكم ٤ سورة التوبة من الآية ۱۸ ٥ سورة البقرة من الآية ۸٦
CE

قطعة
من حديث مطلعه اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس أخرجه الإمام أحمد والترمذي والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٨٢

6
لا
يكون جزماً فليس من الذي قررناه بشيء كنهيه عليه السلام عن الوصال ۱ وما أشبهه علم
بقرينة الحال أنه نهي شفقة
وإنما مرادنا هنا أن يكون النهي بقرينة يستبين فيها الوجوب أو ليس له قرينة أصلا فإذا لم يكن له قرينة أصلاً فحكمه حكم الذي له القرينة وقد دلت على الوجوب بخلاف الأمر لأن الأمر إذا ورد ولم يكن له قرينة لا من نفس الشيء ولا من خارج فيه أربعة أقوال ـ كما تقدم الكلام فيه غير ما مرة - وفي الحديث حجة لمن يقول من المتكلمين إنما صيغة الأمر بذاتها تقتضي إدخال شيء في الوجود ليس إلا وما زاد على ذلك يستقرى من مواضع أخرى يؤخذ ذلك من كون الأمر
يدور بين واجب ومندوب

وفيه دليل لأهل الصوفة حيث يقولون إن أمر الأمر يقتضي الامتثال على أي حالة كان وإنما على العبيد امتثال أوامر الموالي ليس إلا ثم إنهم يزيدون على ذلك أنهم يرون أمر الموالي للعبيد من باب المن والتعطف لكونهم كان لهم مقدار حتى كان لهم خطاب وسؤال كما قال أبي ٢ حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقرأ عليك قال وذُكِرْتُ هناك قال نعم باسمك وباسم أبيك ۳ فبكى رضي الله عنه فرحاً لكونه وصل قدره ذلك وقد تدمع العينان من كثرة الفرح ولذلك قالت رابعة العدوية ٤ أَوَلَيْسَ يوبخني ويقول لي يا أَمَةَ السُّوءِ فعلت كذا وكذا قالوا نعم قالت
ذلك بغيتي
أُحِبُّكَ حُبّي حُبَّ الهَوَى حُبّاً لأنّكَ أهلٌ لِـــــذاكــــــا
ا الذي هــو حُبُّ الهَوى فَشُغْلِ
وأما الذي أنتَ أَهْا
له
ــه
ي بِذِكْرِ ا سِوَاكَا
ــي الحُجْبَ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
أراكــــا
1 الوصال هنا مواصلة الصوم بلا انقطاع كصوم الدهر مثلاً هو أبي بن كعب من الأنصار وبني النجار صحابي كان قبل الإسلام خبراً من أحبار اليهود وأصبح في الإسلام من كتاب الوحي وأحد من شهد مع النبي يا ليل و المشاهد كلها كما كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه قال أقرأ أمتي أبي بن كعب توفي سنة ۱ هـ / ٦٤٢ام في المدينة المنورة ۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه بلفظ مختلف والقراءة المقصودة بالحديث هي سورة البينة
٤ رابعة العدوية صالحة مشهورة من أهل البصرة ومولدها بها لها أخبار كثيرة في العبادة والنسك ولها شعر
حسن توفيت سنة ١٣٥ هـ / ٧٥٢م
٤٨٣

عنا
-٦٧-
حديث وفاة الرسول وفضل أبي
أَنَّ أَبا بكرٍ خَرج وذلِكَ بَعد وَفَاةِ رَسولِ الله

عَن ابن عبّاس رضيَ الله عَنهُم وعُمرُ يُكلَّمُ النَّاسَ فقال اجلس فأبى فقال اجلس فأبى فَتَشهَّدَ أبو بكر فمال إليه النَّاسُ وتركوا عُمرَ فقالَ أمَّا بَعد فَمن كانَ منكُم يَعْبُدُ مُحمَّداً فإنَّ محمّداً قَد ماتَ ومَن كانَ يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت قال الله عزّ وجلّ ﴿ وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ۱ واللهِ لَكَأَنَّ الناس لم يكونُوا يَعلَمون أنَّ اللهَ أَنزَلَ هذهِ الآيَةَ حَتَّى تلاها أبو بكرٍ فتلَقَّاها النَّاسُ مِنْهُ فَما يُسمَعُ بشر إلا يَتلوهَا
ظاهر الحديث إيثار الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر على عمر رضي الله عنهما والكلام
عليه من وجوه
منها ما سبب اختلاف هذين السيدين رضي الله عنهما في هذا الوقت العظيم وهما حيث هما ثم كون أبي بكر رضي الله عنه تلا الآية وكأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا سمعوها إلا الساعة كما ذكر في الحديث فالجواب أن سبب اختلافهما لا يتبين إلا بعد ذكر شيء من حالهما في الوقت ومقالتهما وذكر حال كل واحد منهما الخاص به بحسب ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم
أما حال عمر رضي الله عنه في الوقت ومقالته فإنه لما أخبر أن رسول الله و و و و و و وضحت الصحابة رضي الله عنهم للأمر الذي أصابهم من ذلك جرد عمر رضي الله عنه أو أشار إلى سيفه وقال من قال إن رسول الله الله مات ضربته بسيفي هذا وإنما رفعه الله وسيعود ويقتل قوماً ويقطع أيدي قوم وهو - رضي الله عنه - لم يدخل عليه ل ولا نظر إليه
۱ سورة ال عمران الآية ١٤٤
فر
J
و
٤٨٤

وأما أبو بكر فكان خارج المدينة فلما بلغه الخبر جاء حتى دخل على النبي وكشف عن وجهه المكرم وقبل بين عينيه الكريمتين وقال فداك أبي وأمي طبت حيا وميتا ١ فخرج
وعمر رضي

الله عنه يكرر مقالته تلك أو ما يشبهها فأمره بالجلوس وتشهد هو رضي عنه وذكر متن الحديث
الله
وأما حالهما الخاص بكل منهما فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها والمراد بالشجاعة هنا الشجاعة في الدين ولذلك سماه رسول الله الفاروق لأن يوم إسلامه فرق الله تعالى به بین الحق والباطل فعبد الله جهراً وأما كثرة السَّخاء فلا تكون إلا من قوة اليقين ولذلك قال ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيءٍ وَقَرَ في صدره ۳ والذي وقر في صدره هو قوة اليقين
والذي هو قوي اليقين لا تحركه قوة الحوادث ولا يهتز لها ويبني أمره كله على التيقن والتثبت في الأشياء كلها والذي مقامه القوة في الدين - وهي الشجاعة - يبني أمره كله على الأحوط والأقوى فلما كان مقام عمر رضي الله عنه الشجاعة - وهي القوة في الدين - وقيل له توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما الناسُ فيه لم يدخل عليه وجعل رضي الله عنه الوفاة في ذلك الوقت محتملة أن تكون حقيقة أو تكون إسراءً ويعود وحال الوقت يقتضي أن يبني الأمر على الأحوط - وهو الإسراء ـ من أجل أن يزيل ما بالناس من الرجفة ويتهدنوا

فإن صح ما بنى عليه الأمر فبخ على بَحْ وإن كانت الأخرى ـ وهي الحقيقة - فيكون الناس قد سكن ما بهم لأن الأمر الصادم إذا تمادى سكنت النفوس إليه وتوطنت وانقادت ولذلك قال

الصبر عند الصدمة الأولى ٥ فهناك يتبين الثابت من غيره فإنه إذا طال الأمر صبر الناس
بغير اختيارهم هذا معروف لاخفاء فيه وهذا الوجه مَنَع عمر رضي الله عنه أن يدخل على النبي

قبل أن يكلم الناس فلو دخل رضي الله عنه فرأى الذي رأى أبو بكر رضي الله عنه من
حقيقة الموت فلا يمكنه أن يقول تلك المقالة فإنها كانت تكون كذباً وحاشاه من ذلك
1 تفصيل وفاة النبي الله ومجيء أبي بكر رضي الله عنه مسرعاً على فرسه ودخوله على النبي وهو مسجى
أخرجه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها
سبق الكلام عليه في الحديث ۱۳

0333

سبق تخريجه في الحديث ٦
بخ
كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء والمدح أو الفخر
ه رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٨٥

وقد روي عن العباس رضي الله عنه أنه لما قربت وفاة رسول الله وقد خرج من

عند الموت أجدها من محمد الهلال فهم

زيارته قال إن الرائحة التي أعرف من بني هاشم عند الموت أجدها من محمّد عند الحقيقة في يعرفون العلامة بالرائحة قبل وفاته عليه السلام ويشك أحد منهم إذا هو أبصره عند ذلك الشأن هذا لا يمكن فأخذ عمر رضي الله عنه بالحزم وهو حاله الذي جبل عليه فلما جاء صاحب اليقين الجليل لم يتضعضع لعظيم الأمر ولم يرد أن يبني كلامه مع الناس إلا بعد معرفة الحق فدخل رضي الله عنه وكشف عن وجهه المكرم ـ كما ذكرنا - فلما تبين له رضي الله عنه أنه موت حقيقي نظر حكم الله عليه وعلى إخوانه المؤمنين فإذا هو في كتابه عزّ وجلّ محكم متلوّ فَذَعَن للأمر وسلّم إليه وخرج يحمل الناس على ما يلزمهم من الله فكلُّ عمل على
مقتضى حاله الجليل
ولذلك قال عمر رضي الله عنه فلما سمعت أبا بكر تلاها ما حملتني رجلاي لأنه علم أن أبا بكر رضي الله عنه ليس هو ممن يقول إلا حقاً ولا يأمر إلا جزماً فذهب عنه ما كان ترجاه من العودة فأحدث له فرط قلق الشوق والمحبة ضعفاً في الأقدام ولو حَمَّلوني الجبال حملتها ولكن
الفراق لا يطاق
وكذلك ما ذكر عن باقي الخلفاء رضي الله عنهم عثمان وعلي فكان عثمان رضي الله عنه يدخل ويخرج ولا يتكلم وأما علي رضي الله عنه فقعد ولم يتكلم وما ذاك إلا لأنه ظهرت هنا أحوالهما المنيفة لأنه قال أنا مدينة الحياء وعثمان بابها فمن كانت صفته الحياء إذا جاء الأمر الذي يَهُولُه لا يمكنه الكلام من أجل الحياء
وقال أنا مدينة العلم وعلي بابها ۳ ومن خص بزيادة العلم بالله عزّ وجلّ إذا رأى شيئاً من آيات الله جاءه الخوف والإذعان ولا يبدي من عند نفسه شيئاً تأدباً حتى يرى ما حكم الله تعالى فيه وما المراد من الأمر هل ما يعرف بجري العادة المتقدمة أو ذلك أمر مستأنف لا يعلمه إلا هو عزّ وجلّ لأن الله عزّ وجلّ يحدث من أمره ما شاء كما أخبر وكما قال جل
1 العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي الله وجد الخلفاء العباسيين كان واسع العقل سديد الرأي وكانت له سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه وأقام بمكة يكتب إلى النبي لي
أخبار المشركين ثم هاجر إلى المدينة وشهد وقعة حنين كما شهد فتح مكة توفي سنة ٣٢ هـ / ٦٥٣م أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العباس قال والله إني لأرى رسول الله سيتوفى في وجعه وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت الخ
۳ أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤٨٦

خلاله هو كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ۱ وإن كان ـ كما قال علماء أهل السنة - يبديه ولا ينشته فهذا بالنسبة له جل جلاله وأما بالنسبة لنا فهو إنشاء وإبداء أمر لم نعرفه قبل ولأجل هذا المعنى قال تعالى ﴿ إِنَّمَا يخشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا

فمن بكر أولاً ليسد ثلمة أهل الردة فقام هذه المقامات كان التقدم في الخلافة فاحتيج / بذلك وأمده الله بالعون فلم يمهلهم مع شدة ما كان الناس فيه فأشار عليه عمر رضي الله عنه أن يتركهم في الوقت لأجل ما الناس فيه حتى تسكن روعتهم فازداد عند ذلك شدة وحرصاً على قتالهم فقال له عمر إن الناس لا يساعدونك على ذلك فقال رضي الله عنه أقاتلهم ولو بالدبور ٤ فما فرغ من كلامه إلا والذي ذكر قد أمده الله عزّ وجلّ به وامتلأ المسجد بالدُّبُور وأنت وجوه أولئك الناس خاصة من بين أهل المسجد حتى خرجوا من أبواب المسجد فقال عمر الله عنه فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق فشرح الله رضي صدري لما شرح له صدر أبي بكر رضي الله عنهما
واحتيج عمر رضي الله عنه لتلك الفتوحات العظام حتى انتشر الإسلام وعلا في كل الأقطار واحتيج عثمان رضي الله عنه ليبين به مقام الصبر والتسليم الله والحياء منه واحتيج علي رضي الله عنه ليقاتل أهل التأويل ويبين به الحق من المحتمل كل له مقام معلوم من الله اللهم بحرمتهم علينا ندعوك بما يقربنا إليهم ويحشرنا معهم في زمرة المتقين بلا محنة في عافية بمنه
رضي
وفيه دليل على أن الكلام الذي له بال يستفتح أولاً بذكر الله يؤخذ ذلك من تشهد أبي بكر الله عنه وميل الناس بذلك إليه فلولا ما كان ذلك عندهم دالاً على استفتاح أمر له خَطَر ما
مالوا بجميعهم إليه
وفيه دليل على قوة أبي بكر في الدين وعظيم يقينه يؤخذ ذلك من ثبوته في هذا الموطن حتى استفتح كلامه بما تقتضيه سنة رسول الله ل لأن سنته عليه السلام كانت إذا كان الأمر له بال يستفتح الكلام فيه بذكر الله سبحانه والثناء عليه
الخطير
1 سورة الرحمن الآية ۹ يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فسأله أحدهم ما ذلك الشأن فقال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين ويروى عن أحد العلماء - ولعله الغزالي ـ أنه سئل عن هذه الآية والتوفيق بينها وبين أحاديث تفيد أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وأنه لا تغيير لأمر ولا تبديل فأجاب على الفور بأنها شؤون يبديها الله ولا يبتديها ويقال بأنه أجاب ثانية فقال إن المراد بالشأن سوق
المقادير إلى مواقيتها ۳ سورة فاطر من الآية ۸ ٤ الدبور جماعة النحل والزنابير مفرده دبر ودبر
٤٨٧

9
وفيه دليل على تأدب الصحابة رضي الله عنهم بعضهم مع بعض وهو أيضاً من الدين
يؤخذ ذلك من قول أبي بكر لعمر رضي الله عنهما اجلس ولم يزد عليه فيما قال شيئاً وفيه دليل على أن التأدب لا يكون إلا مع عدم الضرورات في الدين فإذا كانت الضرورة في الدين فلا أدب إذ ذاك وتركه هو الأدب يؤخذ ذلك من أن أبا بكر رضي الله عنه عنه لما لم يسمع عمر رضي الله عنه منه الله عنه منه والأمر خطير تكلم وترك الأدب معه من أجل الدين وهذا المعنى أيضاً منع عمر رضي الله عنه أن يتأدب مع أبي بكر رضي الله عنه ويسكت حين أشار إليه بالسكوت
وفيه دليل على أن من الفصاحة والبلاغة والقوة في الدين الإيجاز في الكلام عند الأمور المهمة والإبلاغ في الحجة يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه من كان يعبد محمّداً فإن محمداً قد مات إلى آخر كلامه فهذا إبلاغ في غاية واختصار
ويؤخذ منه أن أكبر الأدلة القاطعة في الدين والأحكام كتاب الله عزّ وجلّ فلولا ما كان الأمر عندهم كذلك ـ وهو الحق - ما سلموا الكل وبقوا يكررون الآية
وفيه دليل على جواز تقسيم الكلام بين الحق والباطل ليتبين به الحق يؤخذ ذلك من قول أبي بكر رضي الله عنه من كان يعبد محمّداً فإن محمداً قد مات وهو رضي الله عنه يعلم بالقطع أنه ما كان أحد منهم يعبد محمّداً ثم قال ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت فذكر ما هو محال قطعاً مع ما هو محقق عندهم حقاً تأكيداً للحق وتثبيتاً لأهله
ومن جملة
وفيه دليل على أن أكبر التسلي في المصائب ترديد كتاب الله عزّ وجل وهذا هو الحق الواضح لأن الله تعالى يقول ﴿ وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءُ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ۱ الشفاء التسلية به عند الهموم يؤخذ ذلك من كثرة ترديد الصحابة رضي الله عنهم لها كما ذكر ما يُسْمَعُ بَشَر إلا يتلوها لأنهم قد فهموا الحكم بها عندما تليت عليهم فما بقي من فائدة تكرارها إلا التسلي بها على ما هم فيه من الحزن والبرحاء وفيه من الفقه أن يُذكر الشخص بالشيء الذي كان له فيه مصلحة وإن عُلم منه أنه يعلمه لأنه عند النوازل اشتغال قلبه بما هو فيه يلهيه عما هو يعلمه ولأن الصحابة رضي الله أو أكثرهم كانوا يعرفون تلك الآية ويوم نزولها وفيماذا نزلت ولكن لشغل الخواطر بما دهمها ذهلت عما كانت تعرف فكيف حال من لا يعرف إذا نزل به ما لا يطيق ولذلك قال من
عنهم
كلهم
٤٨٨
۱ سورة الإسراء من الآية ۸

عَزّى مُصاباً فله أجرُ المصاب ۱ لأنه يُذكّره ما يجب عليه فيقِلّ حزنه فله من الأجر بقدر الأحزان التي ذهبت عن المصاب من أجل قوله أن لو كانت إصابته فصبر عليها
ومن الحكمة ما يشبه هذا قول بعضهم الناس إما عالم وهو يعلم أنه عالم فتعلموا منه وإما جاهل وهو يعلم أنه جاهل فعلموه وإما جاهل وهو يجهل أنه جاهل فاهربوا منه فليس يُرجَى له
فلاح إلا إن كان من خرق العادة وإما عالم وهو لا يعلم أنما هو عالم فذكروه تنتفعوا به وفيه من الفقه أن عند الامتحان يعرف المرء ما احتوى عليه جنانه يؤخذ ذلك من أن تلك
المصيبة العظمى وهي موته ظهر بها كل ما كان في القلوب فقوم ارتدوا وقوم ثبتوا وقوم افتتنوا بعض فتنة وتراجعوا بعد فكانت تمحيصاً للدعاوى وتصديقاً لقوله جلّ جلاله المَ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ ﴾ ٢
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين بنوا طريقهم على الاختبار والصبر على السراء والضراء ولذلك قالوا من سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً لأن ما سواه - عزّ وجلّ - مفقود وهو الباقي جلّ جلاله الموجود
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه
سورة العنكبوت الآيات ١ - ٣
٤٨٩

-W-
جواز بكاء الرحمة على الميت
مَن أَسامَةَ بن زَيد١ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ أَرسلَت ابنةُ النَّبِيِّ لا اله إلَيهِ أَنَّ ابناً لي قُبِضَ فَانتِنَا فَأَرسلَ يُقرىءُ السَّلامَ ويَقولُ إِنَّ لِلَّهِ ما أَخذَ وله ما أعطى وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصبِرْ وَلْتَحتِسِبْ فأرسلت إليه تُقسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتينَّها فَقامَ ومَعَهُ سَعدُ بنُ عبادة ومُعاذ بن جبل ۳ وأبيُّ بنُ كَعبٍ ٤ وزَيدُ بنُ ثابت ٥ ورِجالٌ فرفع إلى رسول الله الصَّبيُّ ونفسُه تتقعقع ٦ قالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قالَ كأَنَّها شَن ۷ ـ فَفَاضَت عَيْناهُ فَقالَ سعد يا رسول الله ما هذا قالَ هذِهِ رَحمَةٌ جَعلَها الله في قُلوبِ عِبادِهِ وإنَّما يَرحم الله

من عباده الرحماء
أن ابم
3
3
1 أسامة بن زيد الصحابي ابن الصحابي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و ابن مولاه وحبّه وابن حِبّه روي لا لأسامة ۱۸ حديثاً اتفق الشيخان منها على خمسة وقد عقد له له الإمارة ودعا له وللحسن فقال اللهم إني أحبهما وأرحمهما فأحبهما وارحمهما وشفع في المخزومية فردّ عليه السلام شفاعته وغسل له وجهه ونثارة منخره بيده الشريفة لونه أسود وهو طويل وأبوه زيد أبيض وهو قصير فقال قائف هذان بعضهما من بعض بعد نظر أقدامهما فسرّ النبي بخبرة القائف له بنت اسمها فاطمة سكنت المزّة قرية في ضاحية دمشق وذهبت فاطمة إلى عمر بن عبد العزيز في خلافته فقام لها وأقعدها مكانه وقضى لها حاجتها

سعد بن عبادة صحابي وسيد الخزرج وأحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام شهد العقبة وأحداً والخندق وغيرها ولما توفي الرسول طمع بالخلافة ولم يبايع أبا بكر ولما صار الأمر إلى عمر خرج إلى الشام
مهاجراً ومات بحوران سنة ٦٣٥/١٤م
۳ معاذ بن جبل سلفت ترجمته في الحديث ٤٣ ٤ أبي بن كعب سلفت ترجمته في الحديث ٦٦ ٥ زید بن ثابت سلفت ترجمته في الحديث ٤٤ ٦ تتقعقع تحدث صوتاً عند التحريك أو التحرك ۷ الشنّ القربة الخلق الصغيرة
السا
حيل
من
له
والتا
غنا
وهي
٤٩٠

Jal
مناً لي
عِنده
و د و
الله
فقال
تبهما
نثارة
کو گھر کو 3 کھو =
کشام
ظاهر الحديث يدل على جواز بكاء الرحمة وهو أيضاً دال عليها والكلام عليه من وجوه منها استحضار ذوي الفضل عند معالجة الموت يؤخذ ذلك من توجيه ابنته الا الله ليحضر موت ابنها وهو عليه السلام في وقته وفي كل وقت أفضل العباد وفيه دليل على مراجعة صاحب المصيبة بالتصبّر والتعزي يؤخذ ذلك من مراجعة النبي لها رضي الله عنها وقوله عليه السلام فَلْتصبِرْ وَلْتَحتَسِبْ
وفيه دليل على جواز الكناية عن الشيء بما يدل عليه يؤخذ ذلك من قولها رضي الله عنها أن ابناً لي قبض وهو في قيد الحياة بعد لكن لما كان يعالج سكرات الموت كَنَت عنه بالموت وفيه دليل على أن من السنّة أن يُخبر الذي يُستَدعى لماذا يراد يؤخذ ذلك من قولها أن ابناً
لي قبض فائتِنا لأنها لم تطلب منه عليه السلام الإتيان إلا بعدما أخبرته بموت ابنها وفيه دليل على جواز القسم على الفاضل ويكون من باب الرغبة لا من باب الحلف واليمين يؤخذ ذلك من قوله تقسم عليه ليأتينها
وهنا بحث هل كان مشيه عليه السلام في ثاني مرة من أجل القسم أو من أجل غيره أو من أجله ومن أجل غيره معاً وكيف امتنع عليه السلام أولاً من المشي مع ما طبع عليه السلام من حسن الشيم والرحمة للأباعد فكيف للأقارب
6
أما سبب امتناعه عليه السلام أولاً فلوجهين أحدهما أن يبين أن هذه الدعوة ليست مما هي واجبة الإجابة بخلاف دعوة النكاح و الثاني خشية أن يتعلق قلبها ـ لمكانته عليه السلام عند الله تعالى - بأنه يدفع عن الطفل شيئاً فأخبرها عليه السلام أن هذا أمر ما لأحدٍ فيه حيلة يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن الله ما أخذ وله ما أعطى وكلّ عنده بأجل مسمّى وهذا من المؤخر في اللفظ المقدم في المعنى كأنه عليه السلام يقول ما أعطاك الله من الولد فهو له وأخذه أيضاً هو له فإنه لم يأخذ حتى أعطى فلما لم يكن في المعنى إلباس جاز التقديم والتأخير كما قال عزّ وجلّ في كتابه العزيز وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُنَاء أَحْوَى ١ ولا يكون قناة حتى يكون أحوى والغثاء هو اليابس فلما علم أنه لا يكون يابساً حتى يكون أخضر جاز التقديم لعدم الإلباس وهذا فى لسان العرب من الفصيح ثم أخبرها بحكم الله عليها في ذلك
وهو الصبر والاحتساب
ويذكر مالك في موطئه أن بعض العلماء كانت له زوجة يحبها فلما ماتت وَجَد عليها حتى
۱ سورة الأعلى الآيتان ٤ و ٥
٤٩١

احتجب عن الناس وكان الناس محتاجين إليه لعلمه وفضله فتأتيه المسائل فيدخل بها الخديم ويخرج بالجواب عليها فلما طال ذلك به بلغ إحدى المتعبدات حاله فأتت الباب وقالت للخديم لي إليه ضرورة ولا يمكن الكلام معه إلا مشافهة فأبى الخديم من الدخول بها إليه فذهب الناس وبقيت المرأة لم تبرح مكانها فطمع الخديم أن يصرفها عن الباب فلم تفعل
وزعمت أن لا بد لها من رؤيته فلما طال جلوسها أخبر الخديم الشيخ بأمرها فأذن لها في الدخول فقالت يا سيدي إن جيراناً لي استعرت منهم حلياً لأن أحضر به عرساً فأعاروه لي ثم تركوه لي بعد زماناً أتزين به ثم
الآن قد طلبوه ونفسي تأبى رده فقال لها لا يحل لك حبسه فإنه عارِيَّة والعارِيَّة مُؤدَّاة حكم من الله عز وجل ورسوله قالت يا سيدي كان عن يوم وتركوه عندي سنين فقال أحق وأجدر أن تسارعي في رده لأنهم زادوك على المعروف معروفاً فرامت به أن يفسح لها في ذلك في شيء وهو يغلظ عليها فقالت له يا سيدي أوليست زوجتك أنت من جملة ما استعاركها الله وأخذ متاعه فحزنك أنت واحتجابك عن الناس من ماذا فارتجع إلى نفسه وشكر ذلك لها وخرج من حينه
فكان جلوس النبي أولاً ليقعد الأحكام الشرعية مع القريب ومع البعيد على حد سواء وأما مشيه عليه السلام في ثاني مرة فإبرار للقسم وشفقة ورحمة ـ كما جبل عليها ـ وجبر لخاطرها لما أمن التوقع الأول
وفي هذا دليل لأهل الطريق الذين يقولون بجبر القلوب
وفيه دليل على أن الأجل لا يزيد ولا ينقص لقوله عليه السلام بأَجَلٍ مُسَمَّى وهنا إشارة وهي أن أهل الفضل لا يقطع الإياس من فضلهم وإن ردوا يؤخذ ذلك من ردها الرسول ثانية بعدما امتنع عليه السلام من المشي أولاً هذا طمع في فضل مخلوق فكيف في فضل من ليس كمثله شيء ولذلك جاء عنه جلّ جلاله أنه يدعوه العبد المذنب فيعرض عنه ثم يدعوه فيعرض عنه ثم يدعوه فيقول جلّ جلاله ملائكتي أما ترون عبدي يعلم أنه ليس له من يدعو غيري أشهدكم أني قد غفرت له وقبلت دعاءه
وقوله فقام رسول الله ل ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال فيه من الفقه جواز المشي إلى المأتم بغير إذن بخلاف الوليمة يؤخذ ذلك من مشي هؤلاء ولم يستدعهم ولا هم أيضاً استأذنوا
معه
وفيه دليل على تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم له الله يؤخذ ذلك من كونه لما قام
هو الله مقام معه من كان هناك تعظيماً له عليه السلام
٤٩٢

ويؤخذ منه أنه لا يسمى من الجمع إلا أعيانه وذلك من الاختصار والإبلاغ في الفصاحة يؤخذ ذلك من كونه سمى الأربعة لمكانتهم وأجمل الباقي بلفظ رجال
بمعنى
وقوله ورفع الصبي إلى رسول الله له الله الرفع هنا احتمل معنيين أحدهما أن يكون كشف له عنه كقوله عليه السلام ورفع لي البيت المعمور أي أظهر لي و الثاني أن يكون بمعنى وُضِع في حِجْره من قولهم رفعت زيداً إلى الفراش أي جعلته عليه
واحتملا معاً

وقوله ونفسه تتقعقع كأنها شَنّ الشَّنْ هو الزّق البالي إذا بلي يتقشر ويتشقق فمن يأخذه يجد له صوتاً من كل نواحيه فشبه ذلك السّياق ۱ الذي كان يسوقه الصبي لشدته وكثرته بصوت هذه القِرَب البوالي التي لا ينفصل عنها ذلك الحال
وفيه دليل على أن شدة الموت أو خفته ليس فيه علامة على السعادة ولا على الشقاوة يؤخذ ذلك من كون هذا طفلاً لا تكليف عليه وهو يشدّد عليه بل هذه حكمة استأثر بها الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم في موت الفجأة إنها تعجيل لأحد الدارين وقد أخبر عليه السلام أن المؤمن تبقى له منزلة لم يبلغها بعمله فيشدد عليه الموت حتى يبلغ تلك المنزلة ۳
وقوله وفاضت عيناه يريد عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه المباركة بغير صوت وتلك الدمعة هي دمعة الرحمة كما أخبر هو صلى الله عليه وسلم
وقوله فقال له سعد يا رسول الله ما هذا هنا من الفقه وجوه

منها أن من أدب الدين أن يكون كبير القوم هو الذي يستفتح الكلام أولاً يؤخذ ذلك من أن هذا لمكانته في الصحابة رضي الله عنه وعنهم هو الذي ابتدأ الكلام والكل رأوا ما رأى هو فالتزموا الأدب بعضهم مع بعض وهو المعلوم منهم أن يتكلم الذي هو أولى أولاً ومنها أن الأدب مطلوب في السؤال يؤخذ ذلك من قول سعد ما هذا سؤال استرشاد
لا إنكار
1 السياق النزع والاحتضار مروي بالمعنى وقد أخرج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال موت الفجأة راحة

للمؤمن وأسف على الفاجر عن زيد بن أسلم عن أبيه قال إذا بقي على المؤمن من درجاته شيء لم يبلغها بعمله شدّد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت وكربه درجته في الجنة وإذا كان للكافر معروف لم يُجز به هون عليه في الموت ليستكمل ثواب معروفه فيصير إلى النار الإحياء ٤٩٢/٤
٤٩٣

ويؤخذ من ذلك أن الأدب
م الأكابر أن يقدم ذكر أسمائهم أول الكلام يؤخذ ذلك من قوله
يا رسول الله ما هذا فقدم اسمه عليه السلام أولاً
ويؤخذ منه أن من حسن السؤال الإيجاز فيه يؤخذ ذلك من قوله ما هذا سؤال استرشاد
ولم يزد على ذلك شيئاً وقوله الله هذه يعني الدمعة لأنها خرجت بغير صوت وقوله عليه السلام جعلها الله فى قلوب عباده هنا من الفقه أن الذي تكلم الناس فيه في شأن الدموع وفي موجبها باطل لأنهم ذكروا فيها نحو الخمسة أو الستة أقاويل أو ما يقرب من
ذلك فمما استحسن منها أنه عَرَق القلب من خجل الذنوب وبه يطرزون تلك الأقاويل وقد أخبر هنا الصادق عليه السلام أنها خَلْقٌ من خَلْقَ الله استودعها قلوب عباده الرحماء وقوله عليه السلام فإنما يرحم الله من عباده الرّحماء دل بهذا أن هذه الدموع صادرة عن الرحمة التي في قلوب المؤمنين الذين جعلت الرحمة في قلوبهم فكما أن الفهم في العلوم صادر عن النور الذي في قلوب العملاء فكذلك هذه الدمعة صادرة عن المرحومين الذين جعلت الرحمة في قلوبهم حكمة حكيم
وقوله عليه السلام فإنما يرحم الله من عباده الرحماء هذا اللفظ يحتمل معنيين أحدهما أن يكون على ظاهره وهو منع الرحمة مما سوى الراحمين فتكون إنما على بابها لحصر الحكم في المذكور ونفيه عن غيره واحتمل أن تكون بمعنى ثبوت الحكم المذكور ولا ينتفي عن غيره كقولهم إنما الجميل يوسف أثبتوا له الجمال ولم ينفوه عن غيره وقد تكون بمعنى الاستحقاق لهم بما فيهم من الأهلية كمعنى قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَتبكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ﴾ ١ أي يحق لهم الرجاء لما وعدوا والآخرون يرجون لكن على غير سبب وقد تحتمل الوجهين معاً
والأظهر أنها لتخصيص الحكم بالمذكورين ولا ينتفي ذلك عن غيرهم بدليل أنه قد جاء إن الله نفحات من الرحمة يصيب بها من يشاء ممن فيه رحمة وغيره وقد جاء أنه تشفع الرسل والأنبياء والملائكة عليهم السلام والعلماء والصالحون ثم يقول الله عزّ وجلّ شفعت الأنبياء شفعت الملائكة شفع الصالحون وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيخرج من النار قبضة ممن حبَسَهم القرآن ۳
۱ سورة البقرة من الآية ۱۸
أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج والحكيم الترمذي وأبو نعيم في الحلية عن أنس والبيهقي في الشعب عن أبي
هريرة رضي الله عنه
۳ أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ آخر
٤٩٤

لكن إذا جعلنا هذه الرحمة بمعنى الإيمان فيكون المراد به الإيمان الكامل فهؤلاء أهل الرحمة حقيقة ويكون فيه دليل على أن هذه الرحمة لا يخص بها إلا أهل الإيمان المذكورين وهي الخشوع وقد أثنى عليهم عزّ وجلّ في كتابه حيث قال الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ ۱ فتكون على بابها لتعلق الحكم بالمذكورين ونفيها عن غيرهم خالف الإيمان على عمومه لا على خصوصه في إيجاب الرحمة لهم لقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ٢
ممن
وهنا بحث وهو أنه يعارضنا قوله عليه السلام في حديث غير هذا إذا استكمل نفاق المرء كانت عيناه بحكم يده يرسلهما متى شاء فهل بينهما فرق أم لا فالجواب أمّا الظاهر فالتعارض فيه موجود لأن هذه دمعة خارجة في عالم الحس وهذه مثلها وإذا نظرنا إلى الشرط بان الحق وظهر ولم يبق بينهما تعارض
والشرط الذي بينهما أن التي هي صادرة عن استكمال النفاق يكون خروجها باختيار النفس بغير موجب وقد يمسكها عند الموجب كما يشاهد الناس على مرور الزمان من هؤلاء الغرباء
الذين يعقدون الحلق ويطلبون الناس ويصفون عن أنفسهم أنهم كانوا وكانوا وذلك كله كذب يعلم ذلك منهم من يعرفهم أصلاً وفرعاً فإذا جاءوا عند مُعَظْمِ وصفهم لذلك الكذب يبكون وتجري الدموع من أعينهم مثل القطر يظن الرائي لهم أن ذلك حق فتشفق النفوس لهم فيتصدق عليهم وهذا مروي عنهم كثيراً ولو لم يكن في هذا إلا الكتاب الذي ينسب إلى بني ساسان ووصف أحوالهم لكان كافياً فكيف والناس يرون ذلك منهم معاينة
وأما الدمعة التي هي كما أخبر الصادق - عليه السلام - فتخرج كما خرجت منه وذلك عند الموجب مثل تذكار الموت والشفقة مثل ما رأى عليه السلام من تلك النسمة وما كانت تعالج من سكرات الموت مع صغرها أو من خشيته من الله عزّ وجلّ أو ما يكون مثل ذلك من فكرته فيه كما روي عنه أنه دخل يوماً على فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي بكاء كثيراً فسألها فقالت في معنى كلامها إنها ما أبكاها شيء إلا فكرها في القبر وما فيه فهذا كله

نوع واحد يقتضيه حقيقة الإيمان الكامل ومما يدل على أنه إنما عنى و النوع لا الجنس بقوله هذه وأشار إلى الدمعة كونه عليه السلام قسم الإيمان في غير هذا الحديث على قسمين فقال الإيمان إيمانان إيمان لا يدخل
1 سورة المؤمنون الآية ٢ سورة النساء من الآية ٤٨

٤٩٥

صاحبه النار وهو الإيمان مع اتباع الأمر والنهي وهو الإيمان الكامل وإيمان لا يخلد صاحبه في النار١ وهو الإيمان الذي معه بعض المعاصي ومما يقوي ذلك أن المتكلم - وهو سعد - ومن
- ومن
كان معه حاضراً لم تدمع لأحد منهم عين إلا عينه ل ا ل لا ل ل ل ل كل كما لكل الإيمان هناك لأنه عليه وذلك السلام بالإجماع أكمل الناس إيماناً ولذلك قال عند موت ابنه إبراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب لأن الدمع والحزن هما عند الموجبات من الإيمان كما أن ترك ما يسخط الرب من الإيمان أيضاً وفيه دليل لأهل الصوفة في كثرة بكائهم لأن النبي قد جعل ذلك عَلَماً على الرحمة التي في القلوب وقد روي عن بعضهم أنه كان كثير البكاء فرمدت عيناه فأتوا له بالطبيب فقال له نداويك على شرط أنك لا تبكي ما دام بعينيك رمد فقال رضي الله عنه وأي فائدة في عين لا يُبكى بها والله لا ألتزم هذا الشرط ولا حاجة لي بدوائكم بل أموت في البكاء وهل راحة الشجي إلا في أدمعه
وفائدة هذا الحديث هي في تذكار هذا الأمر العظيم الحتم الذي لا هرب لأحد منه والأخذ في الاستعداد لذلك قبل هجومه إذ هذا السيد عليه أفضل الصلاة والسلام لا يقدر في منع هذا الأمر عن أحد من أهله ولا عن نفسه المكرمة فما بالك بالغير وهذا تصديق لقوله تعالى نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ وقد قال بعض الحكماء في شعر له ﴾
ولـــو كـــانـــت الــدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حيّاً وباقيا فحَسْبُك يا هذا إذا كنتَ عاقلاً مقيل وكن فيها لزادِك واعيا واحذر هجمات الحمام بلا زاد ويدك من التقوى خالية وكن عبداً مطيعاً فالحمام لا بدَّ
لك مفاجيء
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سبق الكلام عليه في الحديث ۱ سورة ال عمران من الآية ١٨٥
٤٩٦

141
حديث الرؤيا في تعذيب العصا
عن سمرة بن جُندَب ١ رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أقبَلَ علينا بوجهه فقالَ مَن رأى منكُمُ الليلةَ رؤيا قالَ فإن رأى أحدٌ رُؤيا قصها فيقول ما شاء الله فَسَأَلَنا يوماً فقالَ هل رأى منكم أحدٌ اللّيلةَ رؤيا قلنا لا
قال لكنّي رأيتُ الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كَلُّوب من حديد قال بعض أصحابنا عن موسى ٢ إنّه يدخله في شدقه حتى يبلُغَ قفاه ثمَّ يَفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنَعُ مثله قلت ما هذا قالا انطلق
فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر ۳ أو صخرة فيشدَخُ بها رأسه فإذا ضربه تدَهْدَهَ الحَجَر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه قلتُ مَن هذا قالا انطلق
فانطلقنا إلى ثَقب مثلِ التَّنُّور أعلاه ضيّق وأسفله واسع تتوقد تحته نار فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يَخرُجوا فإذا خَمَدَت رجعوا فيها وفيها رجال ونساء عُراة فقلت ما هذا قالا انطلق
1 سمرة بن جُندَب بن هلال الفزاري صحابي من الشجعان مات أبوه فقدمت به أمه المدينة فتزوجها رجل من الأنصار فنشأ في المدينة وروى عنه الحَسَن والشعبي وكان من الحفاظ المكثرين نزل البصرة واستخلفه زياد عليها عندما سار إلى الكوفة ولما مات زياد أقرّه معاوية عاماً ثم عزله وكان شديداً على الخوارج الحرورية وكان يثني عليه الحسنُ وابن سيرين توفي بالبصرة سنة ٥٨هـ / ٦٧٧م موسی هو راوي الحديث موسى بن إسماعيل المنقري البصري أحد أركان الحديث قال عباس الدوري سنة ٢٢٣ هـ كتبت عنه خمسة وثلاثين ألف حديث وقال آخرون ثقة وشيخ للبخاري توفي سـ
٤٩٧
۳ الفهر الحَجَر المدوّر

فأقبل
فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر قال يزيد بن هرون ووهب بن جريرٍ عن جرير بن حازم وعلى شَطُ النَّهر رجلٌ بين يَدَيْه حجارةٌ الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يَخرُج رَمى الرجلُ بحجرٍ في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجرٍ فيرجعُ كما كانَ فقلتُ ما هذا قالا انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شَجَرة عَظيمَة وَفي أصلِها شَير وصبيان وَإِذا رَجُل قَريب مِنَ الشَّجَرَةِ بَينَ يَديه نار يُوقدُها فَصعدا بي الشَّجَرَةَ فأدخلاني داراً لَم أَرَ قَط أحسنَ مِنها فيها رِجال شُيوخ وشباب وَنِساء وصبيان ثُمَّ أخرجاني مِنها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسَنُ مِنها وَأَفضَل فيها شُيوخ وشباب فَقُلتُ طَوَّفَتُمانِي اللَّيلةَ فَأخبِراني عمَّا رَأيتُ قالا نَعم أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدقَهُ فكذَّابٌ يُحدِّثُ بِالكِذْبَةِ فَتُحمَلُ عَنهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ ما رأيتَ إلى يوم القيامَةِ والذي رأيته يُشْدَخُ رأسُهُ فَرجُل علَّمه الله القرآن فَنامَ عَنهُ باللَّيلِ ولَم يَعمَل فيه بالنَّهارِ يُفعَل به إلى يوم القيامة والذي رَأيتَهُ في الثَّقَبِ فَهُمُ الرُّناةُ والذي رأيتَهُ في النَّهْرِ فَاكِلو الربا والشَّيحُ في أصلِ الشَّجَرَةِ إبراهيم والصبيانُ حَوله فأولادُ النَّاس والذي يُوقِدُ النّار مالِكٌ خازِنُ النّار والدَّارُ الأُولى التي دخلت فهي الجَنَّة دارُ عامَّةِ المُؤمنين وأما هذهِ الدَّارُ فَدارُ الشهداء وأنا جبريل وَهَذا ميكائيل فارفع رأسَكَ فَرفَعتُ رأسِي فإذا فَوقي مِثلُ السَّحابِ قالا ذلِكَ منزِلُكَ فَقُلتُ لَكَ عُمُرٌ لَم دعاني أدخُل منزلي قالا إِنَّهُ بَقي تَستَكمِلْهُ فَلو استكْمَلْتُه أتيتَ مَنْزِلَكَ
ظاهر الحديث يدل على دوام سؤال النبي الصحابة رضي الله عنهم إثر الصلاة عن
من رأى منهم رؤيا وعلى دوام تعبيرها لهم وأنه الله أخبرهم في هذا اليوم الذي لم ير منهم شيئاً ما رأى هو عليه الصلاة والسلام في نومه والكلام عليه من وجوه
أحد
منها قوله صلاة هل المراد بها العموم وهي الخمس أو واحدة منها وهي الصبح وما الحكمة في دوامه عليه السلام على ذلك ولِمَ أخبرهم عليه السلام بهذه الرؤيا فالجواب أن الظاهر من قوله صلاة أنها صلاة الصبح بدليل قوله عليه السلام من رأى منكم الليلة رُؤيا فهذا ما يكون إلا إثر صلاة الصبح
وفيه من الفقه جواز جلوس الإمام في مُصَلاهُ إذا أدار وجهه إلى الجماعة وأن ذلك يقوم مقام
٤٩٨

القيام وأن هذا هو السنّة ردًّا على من يقول إن الإمام إذا سلّم لا بد أن يقوم من موضعه حتى إن بعض من يُنسب إلى التشديد في الدين من الأئمة يقوم من حين فراغه من صلاته كأنما ضُرب بشيء يؤلمه ويجعل ذلك من الدين ويفوته بذلك خيران عظيمان
أحدهما استغفار الملائكة له ما دام في مصلاه الذي صلى فيه لقول رسول الله لا تزال الملائكةُ تُصلّي على أحدِكم ما دام في مُصلاه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدِث تقول اللَّهُمَّ اغْفِرْ له اللهم ارحمه ۱
القيام
و الثاني مخالفته لسنة رسول الله الله التي هي نص في هذا الحديث حيث قال كان إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه ليس إلا ولم يذكر أنه قام ولو كان لم يقبل بوجهه عليهم إلا بعد لأخبر بذلك لأنهم رضي الله عنهم بأقل من هذا من فعله عليه السلام يُخبِرون به لِيُقتَدَى به وعلى هذا أدركتُ كلَّ من لَقِيتُ بالأندلس من الأئمة المقتدى بهم في غالب الأمر يُقبلون بوجوههم على الجماعة من غير قيام
وأما دوامه عليه السلام على ذلك فلأنها من النبوة فيحض الناس على الاعتناء بها لأنه إذا كان هو يعتني بها وجب علينا اتباعه في هذا لو لم تكن من النبوة فكيف وهي من النبوة ولوجه آخر لأنها كانت بدأة الخير له عليه السلام وللمسلمين لأن أول ما بدىء به الرؤيا الصالحة في النوم - كما في الحديث أول الكتاب - وحسن العهد من الإيمان ومَنْ أولى بحسن العهد منه عليه السلام لقوة إيمانه وكماله
وأما كونه عليه السلام يفسرها لهم فذلك منه تعليم لهم وإرشاد لكيفية التعبير وهو لمن يعرفه من جملة المنن عليه كما قال يوسف عليه السلام ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَمَني رَبِّي ﴾ وكل ما عُلمه الآدمي مما لم يكن يَعلَمه فهو من جملة النعم عليه
وأما إخباره عليه السلام لهم برؤيته تلك الرؤيا فلأنها وحى لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام كلها وحي عند العلماء وما يكون وحياً فلا يجوز له كتمه لأنه حكم من الله تعالى لعباده ولأن تلك الأحكام المذكورة فيها - على ما نبيّن بعد إن شاء الله - أحكام ثابتة وفوائد جَمَّة لمن فهم فأراد الإخبار بتلك الأحكام والفوائد
وقوله عليه السلام رأيتُ الليلة رجلين زيادة تأكيد لما قدمنا من أنها صلاة الصبح وقوله
1 لفظ الحديث إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يُحدِث أو يقم اللهم اغفر له اللهم ارحمه أخرجه الإمام مالك وابن زنجويه والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة يوسف من الآية ٣٧
٤٩٩

عليه السلام أتياني أي جاءاني لموضعي الذي كنت فيه وقوله عليه السلام فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة الأرض المقدسة هي بيت المقدس

وهنا بحث في إخراجه عليه السلام في النوم إلى الأرض المقدسة لم خُصَّت من بين الأرض بأن أري له عليه السلام فيها تلك الأمور التي في الرؤيا ولم يكن في غيرها من الأرض فالجواب أن الحكيم - كما قدمناه أولاً - لا يعمل شيئاً من الأشياء بحكم الوفاق وإنما يعمله الحكمة عَقَلَها مَن عَقَلَها وجَهِلَها مَن جَهلها

والحكمة هنا تظهر من وجهين أحدهما لأنها هي موضع الحشر كما جاء عنه فأُرِي له عليه السلام الأمر في موضعه الذي فيه يكون و الوجه الآخر هو أن نسبة إسرائه عليه السلام في اليقظة كنسبة إسرائه في النوم لأنه حق والحق لا يتبدل فأول ما أسري به عليه السلام ليلة الإسراء إلى بيت المقدس وهذه إلى بيت المقدس فإن كانت هذه أولاً فهي تَدَرّج وهو حاله عليه السلام في سلوكه وهو أجلّ الأحوال على ما تقدم الكلام فيه وإن كانت هي الآخرة فتكون إبقاء لأثر القُرْبِ والإيناس كما يأتي في موضعه من حديث الإسراء إن شاء الله وقوله عليه السلام فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد - قال بعض أصحابنا عن موسى - إنه يُدخِل ذلك الكلّوبَ في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله قلت ما هذا قالا انطلق الكلوب حديدة ذات فَخِذَينِ معوجة الأطراف
وفيه دليل على عِظَم قدرة الله عزّ وجلّ إذ إن أمور الآخرة ليست كأمور الدنيا في الغالب يؤخذ ذلك من كَوْن الشَّدق الواحد يَلتَيْم بينما يدخل الكلوب في الآخر ولو خرق الشدق في هذه الدار ما التأم إلا بعد أيام عديدة
ويترتب على هذا من الفقه أن عذاب تلك الدار أضعاف مضاعفة من عذاب هذه الدار كما قال تعالى في حقهم وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتِ ۱ وكون تلك الحديدة ١ معوجة الطرفين فلأنها أكثر في الإيلام وكونه جالساً بين يديه فلأنه أمكنُ له في التمكن من عذابه وفيه دليل على أن العذاب يكون في الجارحة التي كانت بها المعصية في الدنيا كما قال
تعالى جَزَاءً وفَاقًا ذلك من إخباره بعد في الحديث أنه يفعل بالكذاب
و
ضا
المـ
۱ سورة إبراهيم من الآية ۱۷ سورة النبأ من الآية ٢٦
ذلك

ان
مح
ست
زنت
كان
ـعب
ء أن
ال
مَن
عليه
في أمور الدين وذلك أن الحاكم لا يحكم لك إلا فيما ترفعه أنت إليه من الحقوق وما لا ترفعه أنت إليه لا يحكم لك فيه مثال ذلك أن يكون لك على شخص ثلاثُ حُجج أو أربع ثم تطلبه بالحجة الواحدة بتلك الحجة الواحدة يحكم لك الحاكم ولا يلزمه أن يحكم لك ببقية الحجج وأنت لم تُبدِها له ولا طلبت ذلك منه
وكذلك ما نحن بسبيله لما كان للمسترعى على الراعي حقوق من واجبات الدين ولم يوفها له ما جاء منها على شهوة نفسه فرح بكونه لم يعطها إياه فلم يذكرها ويكون ذلك من المسترعَى من أحد وجهين إما لأنه لا يعلم بها ولو علم ما طلبها منه أو لأنه يعلمها ويفرح بكونه لم يطالبه بها وقد يكون ذلك سبباً لحبه إياه فإنه مما يعجب نفسه ۱
والآخر الذي هو من قبيل حظ الدنيا مثل الأكل والشرب والكسوة لم تسامح نفس المسترعى أن يتركها للراعي فطلبه بها فاحتاجوا إلى الحكام في ذلك وتوالى الأمر في ذلك بين الناس فرجع وجوبه مشهوراً معلوماً
ولما قلَّ طالب الأجر وكذلك فاعله وكذلك العالم به تنكر حتى رجع المتكلم به كأنه ابتدع بدعة في الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون على ثلمة وقعت في الدين بتغيير أعلامه وذهاب عماله حتى إنه أفرط الأمر إذا رؤي أحد يأمر أهله بما يتعين عليه وعليهم من أمور الدين يُنهَر ويقال له دَعه فإنما هو صبي حتى يكون في سنك وحينئذ يرجع الأمر كأن الدين دينان دِينُ للصغار ودين للكبار
ما
في
أيضاً أنه كان
یه

ولا
معه
موا
مع
رحم الله السلف لقد أخبرني بعض مشايخي - رضي الله عنهم أجمعين ـ عن بعض مشايخه أحد أصحابه قاعداً وقد جاءه ابن له صغير في المكتب فقال له قد حفظت الوحي أفأقعد أو أمشي ألعب فلم يجبه فكرر ذلك عليه مراراً فلم يجبه حتى قال له صاحبه ألا تقول له يلعب أليس ذلك من مشروعية الصغار فإن ذلك مما يصلحهم فقال له تريد أن يكون في صحيفتي اذهب فالعب لا أفعل إن فعل لا أمنعه فانظر كيف كانت التربية عندهم وكيف التحرز على ما يكتب في الصحيفة هذا فيما يتعلق بالمشروعية من الدين
وأما ما هو من قبيل ما أبيح للنفس فإن تركه لهم - ما لم يقع في الدين مفسدة - مندوب والمستحب في حقه وما يكون بينهم بعضهم مع بعض فالمستحب أيضاً أن يندبهم إلى ذلك من

1 خلاصة هذا المقطع إذا أهمل الراعي الواجبات الدينية للمسترعى وفرح الراعي بأنه لم يُطالب بها فهذه شهوة من شهوات نفس الراعي وإذا فرح المسترعى بأنه لم يطالب بواجبات تثقل على نفسه فهذه شهوة من شهوات نفس المسترعى وهذا الفرح نفسي غير ديني ولا مشروع وقد كان الصحابة في حياتهم مع رسول الله الراعي فيهم والمسترعى متضامن ومرجّح واجبات الدين على واجبات الدنيا وهذا هو الفرح الحق المبين
٤٠١

غير عزيمة عليهم ليروضهم على مكارم الأخلاق لأن تلك هي السنة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق 1 ۱
والدليل على ما قلناه من أن ترك حظ النفس منه لهم مندوب في حقه قوله المؤمن يأكلُ بشهوة عياله فجعل عليه السلام ترك شهوته في الأكل لشهوتهم من علامة كمال الإيمان لأنه إذا أكل بشهوته لم يخرج بذلك من الإيمان لأنه مما هو مباح له فما لا يخرجه فعله من الإيمان فتَرْكُه من كمال الإيمان وهذا منه الهلال اليوم من باب التنبيه بالأعلى على ما سواه لأنه إذا كان الأكل الذي به أجرى الله عزّ وجلّ بمقتضى حكمته حياة هذا الجسد وهو يتكرر في اليوم والليلة دائماً والأكل بالشهوة على ما يقوله أطباء الأبدان مما يزيد في صلاح الأبدان وقد جاءت السنّة بالتطبب حتى إن الحذاق منهم قالوا إن الطعام الذي يضر في بعض الأبدان إذا أُكِل بشهوة صادقة إنه لا يضر أكله فجعل ترك ذلك لهم من علامة الإيمان الكامل فيكون مُؤثِراً صلاح دينه على صلاح بدَنِهِ بمقتضى علم الطبّ فهذا من الباب الذي أشرنا إليه آنفاً
وأما الشرط الذي ذكرناه أولاً - وهو ما لم يكن فيه ضرر في الدين ـ فمثل النكاح إذا كانت له به حاجة إن لم يفعله يكن في تركه خلل في دينه ولو كانت الزوجة لا تريد في ذلك الوقت ذلك الشأن فلا ينبغي له هنا وما أشبهه ترك ما عنده لما عندها ولذلك جعل الشرع ترك النفقة التي هي من جملة الواجبات - كما قدمناه - أولاً مع وجود النشوز وهو امتناعها من الوطء بغير عذر شرعي وأمر بالضرب لقوله جل جلاله ﴿ وَالَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ۳ والإخبار أيضاً هنا بالنكاح لأن تُوفي حقه الذي شرع له فيه وذلك أيضاً من أكبر أسباب المفاسد في الدين إن لم يفعله فهو من التنبيه بالأعلى على مقابلة الوجه الذي قبله
فانظر إلى هذا النظام العجيب في الشرع إذا تأملته كيف جعل ترك حظ النفس - إذا لم يكن فيه خلل في الدين - كيف هو على ما قدمناه وكيف تؤفيتها حظها إذا كان بتركه خلل في الدين عاد فعله معروفاً من أكد الأشياء وأوجبها لأنه إذا كان منع يوجب إسقاط واجب عاد أخذه واجباً
مع
ذلك يبيح
وزيادة في التأكيد إذا كان نشوز ممنوع شرعاً فجاء أخذها هنا حظها من أكبر العبادات وعلى هذا فقس
أخذه ممنوعاً وهو الضرب لأن ضرب الرجل امرأته دون
1 أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه
لم نقف على مصدره
۳ سورة النساء من الآية ٣٤
٤٠٢

6
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن الدين وصلاحه هو المقصود وغير ذلك في حكم

قال له
التّبع ما لم يقع به خلل في الدين ولا يؤول به ذلك إلى مباح طرفاه في الفعل والترك سِيَّان وبهذا الدليل يَرجَحُ طريق أهل الصوفة طريق غيرهم لأنهم بنوا طريقهم على ترك حظوظ النفس وحمل الأذى وترك الأذى وإدخال السرور حتى إنه يذكر عن بعضهم أنه لقيه شخص فقال له ذلك الشخص كيف حالك فقال متشوّش أو ما في معناه فلما انفصل عنه قال له أصحابه وكيف يا سيدنا تقول ذلك قال لهم إني أعلم أنه يبغضني فأردت أن أدخل عليه سروراً رعياً لأهل الطريق وقد جاء بعض المتفقهين فقال وكيف يدخل عليه سرورا بكذب وهذا لا يَحِل ما وقع فيه أكبر مما قصد وانفصل عنه بعض الناس أليس ۱ هما مسلمان معاً فقيل بلى قال فإذا كان أحدهما يبغض الآخر بغير موجب إذا كان المبغوض مسلماً حقًا ساءه حال أخيه لكون إيمانه ناقصاً لأن المؤمن يؤلمه من أخيه المؤمن ما يؤلمه من نفسه فكما يشوّشه من نفسه نقص إيمانه فكذلك من أخيه فأخبره بصدق مقتضى حاليهما وهذا من أحسن وجوه الانفصالات إلا أنه لا يعرف وجه هذا الانفصال إلا من حصل له حظ من الطريقين الحال والعلم وألا يكون في أحديهما مقلّداً
ومما يؤيد هذا ويقوّيه قوله لأن يؤدب أحدكم ولده خيرٌ له من أن يتصدق بصاع من طعام لأن الولد معلق بالقلب كما قال له الولد مبخَلَةٌ مَجبَنَة ۳ أي هو أقوى الأسباب في هاتين الحالتين الذميمتين لأن حبه يمنع من إنفاق المال ويرى أن ابنه أولى من الصدقة وإذا خرج إلى الجهاد فقلبه به مشغول بالرجوع إليه فيكون سبباً لجبنه وفراره هذا هو الغالب فجاء الحديث على الغالب من أحوال الناس والمال أيضاً معلق بالقلب لكن تعلقه بالولد أكبر وما يؤلم الولد يؤلم القلب فجاء أدبه الذي يؤلم ابنه والذي به يتألم قلبه أرفع له من صدقة صاع من طعام لأنه أشق على النفس
وهنا بحث وهو أن يقال لِمَ حدَّد الطعام بقدر الصاع فإن كان الطعام أكثر من الصاع
فيجب على هذا أن تكون الصدقة أكبر فإن تَرَكَ تأديب ابنه وتصدّق بصاعين كان له أعظم فالجواب أن نقول ليس المقصود الترك للأدب والزيادة في الصدقة وإنما المقصود تبيين الأفضلية في الأعمال لأن الأدب الشرعي للصغير إنما هو بالشيء اليسير مثل السوط مرة وفتل
1 يعني أليس الشأن أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ رواه الإمام أحمد عن راشد بن يعلى بن مرة العامري رضي الله عنه
٤٠٣
به فیلمان

الأذن مَرَّة أو ما أشبه ذلك وأقل ما جاء في الكفارات المشروعة أيضاً المُدّ كما جاء مد لكل مسكين فأقل الأشياء في الأدب - كما بينا - أرفع من أقل ما حُدَّ في الصدقات المشروعة والقدر المحدود في الصدقة المشروعة هو الذي يحصل به كمال راحة النفس وهو غاية شبعها في الغالب لأن شبعها من الطعام كَمَّل لها جميع شهوتها ومنافعها وجميع قواها على توفية مآربها إحياؤها وإحياؤها فيه ما فيه معلوم شرعاً وطبعاً فجعل أقل التألم - وهو الأدب الشرء أشق على النفس - أعلى من أرفع الأشياء وهو ما يعود إلى إحياء النفوس لكونه ليس له ذلك التألم الذي يوازي الآخر المذكور قبل في نفس الفاعل
وبه
ويترتب على هذا البحث من الفقه أن أفضل العلوم فهم سرّ الحكمة في حكم الحكيم لأنه يقوى به الإيمان وفيه عون على النفس يؤيد ذلك قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۳ فإن اليقين لا يحصل في الغالب إلا بالنظر والفهم والتدبّر ولذلك قال الله صلى الله عليه وسلم تعلموا اليقين فإني أتعلمه ۳
Dil
ويجب عليه أيضاً أن يعاملهم بما يكون لهم عوناً على توفية ما يجب له عليهم ومما يدل على ذلك قول رسول الله الله لحين جاءه بعض الصحابة بهبة وهبها لبعض أولاده أن يشهد فيها قال له ألك أولاد غيره قال نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته قال لا قال أتحب أن يكونوا لك في البِرِّ سواء قال نعم قال فاعدِلْ بينهم فانظر إشارته عليه السلام بقوله أتحب أن يكونوا لكَ في البرِّ سواء ٤ فكأنه عليه السلام يقول له فعلك ينافي مطلبك فحصّ بهذا على أن يعينهم على البر
ومثله ما روي عنه حين سأله نساؤه من تحب فأعطى كل واحدة منهن دينارا سرًّا فقال صاحبة الدينار فأدخل عليهن جميعاً السرور دون تشويش على الغير لأن ذلك عون على حسن العشرة وحسن العشرة هي في حقهن لما يعود عليهن في ذلك من خير وأما في المماليك فكان عليه السلام يطحن مع الخادم ويقول لا تكلفوهنَّ ما لا يُطِقْنَ ٥
ـد الأحناف ملء الكفين أو ما يساوي ربع صاع والصاع
۱ المد مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره وهو ند الأحناف قريب من أربعة كيلوغرامات وعند الشافعية أقل من ذلك
عند
سورة المائدة من الآية ٥٠
3 أخرجه أبو نعيم في الحلية عن ثور بن يزيد مرسلاً ولفظه تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني
أتعلمه
٤ أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير بلفظ آخر ٥ أخرجه البخاري ومسلم عن المعرور بن سويد بلفظ مختلف
٤٠٤

وقوله عليه السلام إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ۱ والبحث فيه في موضعه من داخل الكتاب إن شاء الله تعالى لأنه من باب العون على توفية حق السيد وحفظ ماله
ومثله ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يكتب كتاباً وهو خليفة ومعه بعض أصحابه وكان ليلاً فنام العبد وفرغ الدهن من السراج ولم يفرغ الكتاب فقال له جليسه أيقظ الغلامَ يسكب الدهن في المصباح فقال له هو في أول نومه وقام هو رضي الله عنه وجعل الدهن في السراج ثم رجع يكتب فقال قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز ولو جئنا نتبع ما جاء في مثله لكان كثيراً واليسير يغني مع الفهم عن الكثير
الوجه الرابع قوله عليه السلام والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها انظر إلى هذه الفصاحة في الفصل والإعجاز في توفية المعنى لأن المرأة لا تباشر من حال الزوج إلا ما هو في الدار فلم تكلّف ما هو خارج الدار لكونها لا تصل إليه اتصالاً كلياً والذي يجب عليها في ذلك ما جاء مفسراً في حديث غير هذا وهو قوله عليه السلام ولكم عليهن ألا يُدْخِلْنَ أحداً دُورَكم ولا يُوطِثْن فُرُشَكم غيركم إلا بإذنكم وقوله عليه السلام تحفظ المرأة زوجها في
نفسها وماله هذا هو الواجب
وأما المندوب فقوله عليه السلام جهاد المرأة حُسنُ التَّبَغُل ۳ والجهاد على ضربين واجب ومندوب وكذلك حسن التبعل على هذين الوجهين فما كان من حفظ نفسها وماله وما أشبههما من قبيل الواجب وما كان من التَّزَيّن له وبماله إن قدرت وزيادة التحفظ عليه وعلى عرضه وما أشبه ذلك فهو من قبيل المندوب
الوجه الخامس قوله عليه السلام والخادم راع في مال سيده انظر أيضاً إلى هذا الترتيب العجيب لما أن كان العبد لا يقدر أن يتصرف على المعهود ولا يُفسد أو يصلح إلا المال قيل هو مسؤول عنه لأنه مؤتَمَن عليه هذا في الغالب فإن ائتمنه على غير ذلك وجب عليه التوفية لأن الأمر جاء على الغالب من عادة الناس ومثل ذلك نقول في الزوجة إن ملكها التصرف فيما زاد على ما في الدار وجب عليها
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
جزء من خطبة الرسول الله في حجة الوداع ۳ أورده ابن الجوزي في الموضوعات ١٥٣/٢

٤٠٥

حفظه أي توفية الأمانة فيه حتى إنه قال بعض الناس مما يجب على المرأة أن تخبر زوجها كل ما يزيد أو ينقص في دارها وفائدة ذلك أنه المطلوب بحسن النظر لهم فإذا أخبرته بالكليات والجزئيات كان نظره بحسب ذلك فعاد الخير عليهم جميعاً وكان ذلك عوناً له على توفية حقوقهم فيكون من باب العون على الخير وكذلك العبد مكلف ألا يخون سيده في شيء دَق أو جل ولا يخفي عنه أيضاً من كل ما يزيد أو ينقص شيئاً للفائدة التي ذكرناها في المرأة الوجه السادس قوله عليه السلام والرجل راع في مال أبيه هذا لا ينطبق عليه اسم رجل حتى يكون بالغاً لأنه إذا كان بالغاً وقع عليه التكليف وحينئذ يكون مسؤولاً وأما غير البالغ فليس بمسؤول وهو أيضاً إما في حضانة الأم وكفالتها أو لمن جعل الأب ذلك له فيكون غيره
المسؤول عنه فالذي يجب على الابن أيضاً أن يحفظ مال أبيه ولا يأخذ منه شيئاً إلا بإذنه
وانظر إلى هذا التنبيه العجيب للابن من أجل أن يخطر له أن مال أبيه كونه يعود إليه بعد يقول ليس أنا مثل غيري فنبه عليه السلام أنه في الوقت مثل غيره ولا يجوز له التصرف إلا كما يجوز للغير وإن كان المال قد يعود له بعد ولذلك إذا سرق الابن مال الأب قطع لأنه ليس له الآن فيه شيء إلا القدر الذي جعل له من النفقة إن كان في وقت يجب له والمال ينطلق على جميع الأنواع التي تُتَمَوَّل من جميع الأموال
والذي يُندَبون إليه جميعاً ـ أعني الابن والخادم والزوجة - مثل أن يعينوه في الأشياء التي ليست عليهم ويوفروا عليه وينبهوه على المصالح التي يعرفونها لكونهم في الغالب أكثر مباشرة للأشياء منه فهم أعرف بالجزئيات الطارئة وما يترتب عليها من المصالح وغيرها أو ضابطه أن يكونوا ينظرون فيه كأنه لهم لأن ذلك من حقيقة الأمانة كما قال الله حتى يُحبَّ لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ۱ هذا في الأجانب فهؤلاء من باب أولى
وهنا بحث صوفي وهو أنهم جميعاً في الحقيقة أمناء فيه والمال للمولى الأعلى فانظر لنفسك بترك الدعوى وتوفية الأمانة واتصف بأوصاف العبودية ولا تتصف بأوصاف الربوبية بتحقيق الملك بمجرد الدعوى فمن هنا شَقِيَ مَن شقي وسَعِدَ مَن سَعِدَ
وقد كان بعض السادة يقول لأولاده لو علمتكم شيئاً واحداً أفلحتم وكان مهابا ۳ فكرر
۱ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن
ماجه عن أنس رضي الله عنه كذا والصواب مهيباً
٤٠٦

ذلك عليهم مراراً مع الأيام ولا يزيدهم على ذلك شيئاً إلى أن تجاسر بعضهم فسأله فقال لهم ادخلوا في اسم العبودية وقد حصل لكم الفوز الأكبر قالوا وما حقيقتها قال تَركُ الدعوى والاعتراض وحقيقة الامتثال والتسليم فلقد أحسن فيما إليه نَدَب
جعلنا الله عبيداً له حقا بمنّه لا ربَّ سواه آمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

٤٠٧

61
عَن أَنَسٍ ۱
حديث التبكير والتبريد بالصلاة
يَ الله عَنهُ يَقولُ كانَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَدَّ البَردُ بَكْرَ بالصَّلاةِ وَإِذا
اشتَدَّ الحَرُّ أَبرَدَ ٢ بالصَّلاةِ يَعني الجُمعَة
ظاهر الحديث يدل على التبكير بصلاة الجمعة في البرد وتأخيرها في الحَرّ والكلام عليه
من وجوه
الوجه الأول الكلام على ما معنى التبكير في أي وقت هو وكذلك التأخير فأما التبكير فالمعني به أولُ الزوال لأنه ما جاء عن النبي أنه صلاها قط قبل الزوال وأما التأخير فبشيء يسير كما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا رجعوا من صلاة الجمعة يقيلون قائلةً الضحى فدل ذلك على أنه لا يكون تأخيرها كثيراً لأنه قدر ما تبدأ الرياح تهب
الوجه الثاني هنا بحث وهو ما الحكمة في التبكير بها في البرد وما الحكمة في التأخير بها أيضاً في الحر فإن قلنا إنه تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه معقول المعنى فما الحكمة فنقول والله أعلم لَمّا بعثه الله عزّ وجلّ رحمة للمؤمنين كما أخبر جلّ جلاله بقوله في حقه بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيرٌ ۳ فكان كلّ ما كان فيه تأذ أو شيء من التشويش يزيله عن المؤمنين فلما كان شدة البرد مما يؤلمهم لا سيما مثل أهل الصُّفّة لأن الغالب عليهم وعلى البعض من الصحابة رضي الله عنهم قلة الثياب بكر عليه السلام بها من أجل تألمهم من البرد والبرد بكرة شديد كما أن حرّ القائلة شديد فكان يُبرد بها في الحَرّ لكثرة التألم من الحَرّ أيضاً
1 أنس بن مالك النجاري الخزرجي الأنصاري أبو حمزة صاحب رسول الله و خادمه روى عنه ٢٢٨٦ حديثاً مولده بالمدينة وأسلم صغيرا وظل في خدمة الرسول الكريم إلى أن قبض ثم رحل إلى دمشق ومنها
إلى البصرة وفيها مات سنة ٩٣ هـ / ٧١٢م الأعلام ٣٦٥١
أبرد دخل في البرد والمراد تأخير القيام بالشيء حتى يبرد الحر ۳ سورة التوبة من الآية ۱۸
٤٠٨

الوجه الثالث يترتب على هذا من الفقه أن كل ما يكون للمرء فيه تشويش في الصلاة فينبغي أن يزيله لأنه مما يُحسّن صلاته لأن التشويش لا يمكن معه خشوع ولا حضور قلب وهما من أجل ما يطلب من المصلي ولذلك قال لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبَثَينِ ۱ الوجه الرابع فيه دليل على ابتداء الكلام بالألفاظ العامة ثم يخصص ذلك العام في الخبر نفسه وهو من فصيح الكلام يؤخد ذلك من كونه أتى أولاً بلفظ الصلاة عامة ثم خصصها آخراً بأن قال الجمعة وفيه من الفائدة أنه لا يؤخذ من كلام المَرْءِ بعضُه ويُترك بعضُه لأن أول الكلام قد بينه اخره وبالعكس لكن بشرط ألا يتنافى المعنى الأول مع الآخِر الوجه الخامس فيه دليل على أن سيدنا يشرع من الأمور في الدين بحسب ما يفهمه الله تعالى ويجب العمل به يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام قدّم الصلاة وأخرها ولم يخبر أن ذلك كان بوحي وكان عليه السلام إذا كان ما يأمر به أو يفعله بوحي يخبر به أولاً
وفي هذا دليل للذين يقولون في قول مولانا جلّ جلاله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَنكَ الله ٢ هو كل ما يخطر له أو يراه مصلحة أن يفعله وإن لم يكن أُوحي إليه فيه شيء لأن كل ما يتعبّد - عليه السلام - به هو من قبيل الوحي إما بالواسطة - وهو إتيان الملك به ـ وإما بِوَحي إلهام ولذلك لم يختلف أهل التوفيق والتحقيق أن اتباع السنة في أي شيء كانت هي أفضل الأعمال وأقربها إلى الله عزّ وجلّ ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ٣


الوجه السادس فيه دليل على أن المطلوب في الصلاة إخلاء القلب لأنه بيت الربّ عزّ وجل يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام يلحظ شدة البرد والحر اللذين هما ولا بد يصلان إلى القلب حتى يشتغل بذلك عما هو بسبيله فكذلك ينبغي في كل ما يشغله من أي شيء كان ومن أجل ذلك خرج أهل التوفيق عن الدنيا لأنه لا شيء أكثر تشويشاً منها ومن أجل ذلك أيضاً تركوا الشهوات وطلب المناصب لأن ذلك أيضاً من أكبر التشويشات ولذلك قال تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ 4 قال أهل التوفيق سُكارى
من حُبِّ الدنيا

1 أخرجه مسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها بلفظ الا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان
والأخبثان هما البول والغائط سورة النساء من الآية ١٠٥ سورة ال عمران من الآية ۳۱

٤ سورة النساء من الآية ٤٣
3
٤٠٩

ا
الوجه السابع فيه دليل على أنه إذا كان التشويش يسيراً لا يُبالى به لأنه قلما ينفك أحد منه إلا الخواص وقليل ما هم يؤخذ ذلك من قوله في الحرّ والبرد فوصفهما بالشدة فإذا لم تكن فيهما شدة فلا بد من تألم ما لأن البشرية خُلقت ضعيفة والضعيف كل شيء يؤثر فيه بالقدرة ولذلك قال العلماء إن الحقن ۱ إذا كان يسيراً لا يمتنع معه الخشوع فالصلاة جائزة الوجه الثامن فيه دليل على الأمر بالنظر لمصلحة العامة لأنه من أجل قلة حمل البعض ذلك الأذى الذي هو الحر والبرد لأنه بالقطع منهم من يتحملهما ويفرح بهما لما يكون له فيهما من الأجر لأن الأجر في العبادة بقدر التعب والتعب يزيد الأجر لأنه من جملة المجاهدات ولهذا كان بعض المتعبدين يصلي وِرْدَه في الحرّ في البيت وفي البرد في سطح البيت للعلة المذكورة وقد قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ٢ فحمل عليه السلام الكل على عمل واحد فنقص الأجر للبعض من أجل أن غيرهم قد لا تجزئه صلاته من كثرة التشويش الذي يلحقه أو قد يلحقه منه مرض يمنعه حضور صلوات كثيرة إلا أن هنا معنى ما وهو بشرط ألا يدخل لأحد

الفريقين خلل في الدين لأن أحد الفريقين إنما نقصه زيادة في الأجر بعدما كمل له فرضه الوجه التاسع فيه دليل على أنه لا يؤخذ ما زاد على الواجب من العبادات من المندوبات إلا بشرط ألا يدخل على الغير نقص في فرضه يؤخذ ذلك من كونه - عليه السلام - ما حَرَم البعض زيادة الأجر كما وصفنا إلا من أجل نقص فرض الغير
الوجه العاشر فيه دليل على أن قوله عليه السلام سيروا بِسَيرِ أضعفكم ۳ أنه ليس في السفر وحده بل في كل موضع لأن هذا الحديث من ذلك القبيل لما لم يقدر البعض على حمل الأذى خفف عليه السلام عن الكل وحملهم مَحْمَلَ الضعفاء
الأرفق
ويترتب عليه من الفقه أن الإمام ينظر إلى جماعته فإن رأى فيهم مريضاً أو ضعيفاً أو يعلم صاحب حاجة يخفف فهي السنة وإن علم أنهم أقوياء في الأبدان والإيمان أخذ بهم نحو الأفضل وأطال الصلاة وكذلك ينبغي لكل من له رعاية أعلى أو أدنى أن ينظر إلى ما هو بهم في جميع الأمور يسيراً كان أو كثيراً والكمال فيه مطلوب وما يوجد هذا الحال إلا بفقه الحال وفقه الحال ـ على ما ذكره السادة الفقهاء - أنفع أنواع الفقه لأنه هو نور الفقه وزبدته مثل
1 الحقن والاحتقان هو احتباس البول وتجمعه في المثانة وهو من المزعجات والمؤلمات ويسمى صاحبة
حاقن وفي المثل لا رأي لحاقن
سورة العنكبوت من الآية ٦٩
۳ ذكره العجلوني في كشف الخفا ٥٦٣/١ والقاري في الأسرار المرفوعة ۱
٤١٠

الصَّرْف للذي يقرأ النحو ويسميه أهل الصوفة المراقبة لأنه في كل نَفَسِ مراقب ما حُكمُ الله
عليه
وقد أُخبرت عن بعض الأجلة من الفقهاء حقًّا أنه كان إذا سئل مسألة يسكت ساعة وحينئذ يجيب فسئل عن ذلك فقال انظر أيهما خيرٌ لي وحينئذ أفعل فانظر كيف جمع هذا السيد بين ثلاث الفقه العام وفقه الحال والمراقبة
ولقد أدركتُ بعض المباركين من أهل الصوفة وأنه اجتمع يوماً مع بعض الفقهاء المتبرزين للفتوى وكان فيه أهلية لذلك غير أنه كانت السلطنة تستعمله في المشاورة في الأمور لفضله فتكلم مع ذلك الفقيه وطلب منه الدعاء وكان ذلك من شأنه التنازل للفقهاء وطلب الدعاء منهم فقال له الفقيه - على طريق التواضع أيضاً - بل أنت الذي ينبغي أن تدعو لي لأنك من علماء المسلمين وفقهائهم فلم يتمالك - رحمه الله - أن غلبته الدموع حتى كادت نفسه تَزهَق من كثرة بكائه وهو يردد ويقول مِثْلي يُحسَب من العلماء والله ما يكون العالم عالماً حتى لا يخرج له نَفَس إلا لله وبالله وإنما نحن ممن يلعب في دين الله فلقد رجوت بذلك اليوم وذلك الاعتراف مع - ما كان فيه من الدين - أن الله عزّ وجلّ يرفعه بذلك في الآخرة مع المقرَّبين
جعلنا الله جميعاً هناك بفضله لا رب سواه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١١

حديث تحية المسجد والإمام يخطب
عَن جابِرِ بنِ عَبدِ الله ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قال جاءَ رَجُل وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ النَّاسَ يَومَ الجُمعَةِ فقالَ أَصَلَّيتَ يا فُلانُ قَالَ لاَ قَالَ قُمْ فَاركَعْ
*
ظاهر الحديث يدل على جواز تحية المسجد والإمام يخطب والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول الحديث الذي يعارضه وهو أن رسول الله و كان يخطب يوم الجمعة ودخل رجل فجعل يتخطى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس فقد اذيت وفي هذا الحديث دليل على منع التحية والإمام يخطب ومن أجل هذين الحديثين وقع الخلاف بين الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله
فالشافعي
أخذ بالحديث الأول وهو جواز الصلاة والإمام يخطب وعلل الحديث الثاني بأن قال إنما أمره بالجلوس من أجل علة الأذِيَّة ومالك ومن تبعه أخذ بالثاني وهو منع الصلاة مع الخطبة وعلّل هو وأصحابه بأن قالوا إن الرجل كان ربَّ الثياب فأراد النبي لا الله وأن يأمره بأن يقوم فيصلي فَيَتَصَدَّقَ عليه
وكلا العلتين - فيما يظهر والله أعلم - ليستا بالقويتين بدليل احتمالهما معاني أخر فإذا احتمل الموضع عدة معان فليس أحد المحتمَلات يكون علة يُناط بها الحكم ويكون مثل الأدلة إذا تعارضت حيث يُنظر الدليل من خارج أو يؤخذ أحد المحتمَلات من أجل الخلاف الذي في إذا تعارضت وهي أربعة أقوال فنرجع الآن نبين احتمال كل حديث
الأدلة
فأما الحديث الأول - وهو الذي قالت المالكية عنه إن النبي لا لا لا أراد أن يقوم فيتصدق عليه
۱ جابر بن عبد الله بن عمرو الخزرجي الأنصاري صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي له ولأبيه
صحبة غزا تسع عشرة غزوة روى له الشيخان ١٥٤٠ حديثاً توفي سنة ۷۸هـ /٦٩٧م
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والطبراني عن جابر رضي الله عنه
٤١٢

فهذه دعوى لا تصح إلا إذا روي عنه ذلك كما قال عليه السلام في لحم الأضاحي إنما الله نهيتكم من أجل الدافة ۱
وأما الاحتمال الذي يحتمل زائداً على هذا الوجه الذي قالوه من الاحتمالات أن يكون عليه السلام قال له ذلك وهو قاعد على المنبر لم يشرع في الخطبة بعد لأن العرب تسمي الشيء بما قرب منه واحتمل أن يكون على آخر الخطبة ويصدق عليه أن يقال وهو يخطب واحتمل أن يكون ذلك قبل أن يؤمروا بالإنصات للخطبة

واحتمل أن تكون تلك الخطبة - وإن كانت في يوم جمعة - لأمر آخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر خطب الناس وألقى إليهم ذلك الأمر وما بدا له فيه وهذا ـ والله أعلم - أظهر بدليل قوله عليه السلام للداخل أصليت يا فلان قال لا قال قم فاركع لأن هذه الخطبة لو كانت للجمعة ما قال له أصليت لأن وقت الصلاة لم يدخل لأنه بالإجماع لا يجوز لأحد أن يصلي يوم الجمعة الظهر حتى تفوته الجمعة قطعاً وأنه إن صلى والإمام يخطب ولم يصل بعد فإن صلاته لا تجزئه والذهاب يوم الجمعة للجمعة إنما يكون قبل الزوال وهو التهجير وأكثر ما يتأخر المتأخر أن يجيء والإمام يخطب كما فعل هذا فلا يتقدم له وقت يمكن له فيه صلاة فكيف يصح أن يسأله النبي الله أصليت يا فلان

فبهذا التوجيه سقط دليل الشافعية بالحديث نفسه وهو من القوة بحيث لا يخفى وهذا إن كان | المراد بقوله أصليت صلاة الفرض وأما إن كان المراد بقوله أصليت تحية المسجد - وهو الظاهر لقوله عليه السلام قم فاركع ولم يقل فَصَلِّ - فبطل هذا الجواب والله عزّ وجلّ أعلم الوجه الثاني فيه دليل على أن صلاة الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب ممنوعة قد ثبت الحكم بذلك عندهم من أجل أن الصحابي رضي الله عنه دخل والنبي يخطب فظن أنها خطبة الجمعة فقعد ولم يُصَلّ ويكون أمرُ النبي الا الله له بالركوع فيه من الفقه وجهان الوجه الأول أن الركوع والخطيب يخطب ما عدا خطبة الجمعة جائز و الوجه الثاني احتمل أن الوقت الذي قال عليه السلام فيه أصليت كان بعد أداء العصر بدليل أنه عليه السلام لم يأمره بالركوع إلا بعد أن قال له أصليت فدل أنه لو قال الداخل له صليتُ لم يأمره بالركوع لأن الركوع بعد صلاة العصر ممنوع بل مكروه لوقت الغروب فيحرم
۱ الدافة الجماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلدٍ وتمام الحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا رواه ابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها التهجير إلى الجمعة وغيرها التبكير والمبادرة إلى كل شيء ومنه الحديث لو يعلم الناس ما في التهجير
لا ستبقوا إليه
٤١٣

الوجه الثالث فيه أيضاً تقوية لمنع الركوع بعد العصر ويكون ما فعله من أجل العذر فإن اعترض معترض وقال وكيف يكون الصحابي يقعد حتى يخرج وقت الجمعة ولا يصلي ولا يعلم هل صلى الناس أو لم يصلوا حتى يأتي في غير وقت الصلاة ويظن أن هذا الوقت هر وقت الجمعة
فالجواب أن هذا ليس من قبيل المحال بل هو من قبيل الممكن الجائز فإنه قد ينام الشخص إلى هلم جراً ولا يستيقظ لصلاة الظهر وقد يجيء والناس يصلون العصر ويظنه الظهر ولا يعلم حتى يرى بعد ذلك الشمس قد اصفرت فيسأل عن العصر فيقال له ذلك الذي صلينا قبل بيسير والذي صليت معنا كان العصر فقد يحلف أنه ما صلى معهم إلا بنية الظهر وكثيراً ما يقع ذلك في الأيام القصار أو يكون في شغل ضروري قد أشغل خاطره ولا يلهم إلى الصلاة إلا مع أذان العصر وهو
يظنه ظهراً حتى يأتي الله بمن ينبهه على ذلك وهذا كثير وقوعه فلا يمتنع ما قلناه
وأما حجة الشافعية بالحديث الثاني الذي قال عليه السلام فيه اجلس فقد اذيت إنما أجلسه من أجل الأذيَّة والصلاة جائزة اللهم إن سُلَّم أن الإجلاس كان من أجل الأذية فلا اعتراض عليه لأنه نص في الحديث وأما كونهم يقولون الصلاة جائزة احتمل جواز الصلاة وضده فإذا وقع الاحتمال بطل الدليل

لكن بالبحث المتقدم صح القول للمالكية ولا يكون بالاحتمال الذي ذكرناه انفاً تعارض بين الحديثين وقد خرج مسلم أنه قال من دخل يوم الجمعة والإمامُ يخطب فليركع ركعتين خفيفتين فإن صح هذا فهو نص في الباب لا يحتمل التأويل ومن أجل هذا جاء في مذهب مالك قوله على نص الحديث أنه من دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين وما ذكرنا أولاً ظاهر الحديث ومعارضته بالثاني إلا تأدباً مع من تقدم لأنهم رضي الله عنهم لهم الفضل علينا ولا ينبغي لأحد أن يَجْحَد فضلهم علينا فإن ذلك غباوة وجهالة وإن كان بعض المواضع فتح فيها على من تأخر أكثر مما فُتح على من تقدم فليس ذلك مما يُخلّ بجلالة منصبهم وإنما ذلك من طريق المنّ من المولى الكريم ليبقي لمنكسر القلب بالتأخير شيئاً يجبره به ولذلك قال فلعل بعض من يبلغه أن يكونَ أوعى له من بعض من فجعل للآخر البعض والأكثر للمتقدم ولحكمة أخرى لأن تبقى عجائب الكتاب والحديث
وفوائدهما لا تنقطع إلى يوم القيامة

سمعه ۱
جزء من حديث أوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض إلخ أخرجه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه

٤١٤

فإن ملي ولا

فت هو
شخص
والذي
الأيام
ـر وهو
إنما
فلا ـصلاة
بين
تعتينِ
مالك
ذكرنا ـضل
مما
ولفائدة أخرى أن تبقى النفوس تتشوّف إلى استمطار الفضل من الفتاح العليم لقوله عزّ وجلّ

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۱ فلو كانت الفوائد قد فرغت لما كان يحصل للمخاطب المتأخر من فائدة معنى هذه الآي والأحاديث شيء وقد قال في القرآن إنه لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَقُ على كثرة الردّ
لكن هنا إشارة إلى أن ما يُفتح لمن تأخر لا يمكن أن يكون مخالفاً لجميع من تقدم غير أنه إما أن يقوي ضعيفاً من الأقوال أو ما كانوا هم رضي الله عنهم أخذوه بإجماع يأتي المتأخر فيه - إذا فتح له بدليل واضح أو زوال إشكال بحجة قائمة اشتغل من تقدم عن ذلك أما ما كان لهم به اهتمام لندارته أو ما كان ذلك الإشكال عندهم إشكالاً لقوة إيمانهم فما جاء في المتأخر مع ضعف الإيمان وقلة الفهوم عاد مثل الجبال فيظن الظان بجهله أنه أتى بشيء لم يقدر من سبقه على مثله وهذا مما قدمناه جَهل بالعلوم وبأهلها
فإن خالف ما ظهر له كلَّ من تقدم من طريق ما تقتضيه قواعد الشرع فيتهم نفسه فإن في عين كمال فهمه نقصاً لا شك فيه بدليلين أحدهما منطوق به وهو قوله عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ۳ والآخر بالإجماع أن عمل المتقدمين أقوى من عمل أهل وقتنا والعمل هو ثمرة العلم فإذا كانت شجرتان ثمر الواحدة خير وأكثر من الأخرى قطع بالجزم أن التي ثمرها أكثر وأحسن خير من الأخرى بلا خلاف في ذلك عند من له
بصيرة وعقل
الوجه الرابع فيه دليل على جواز الكلام في الخطبة إذا كان فيه مصلحة في الدين يؤخذ ذلك من قطعه الخطبة بكلامه مع الرجل ويترتب عليه من الفقه أنه إذا كان المرء في عبادة ويمكنه عمل آخر بلا خلل يقع في الذي هو بسبيله جائز ما لم يمنع من ذلك وجه من وجوه الشرع ولهذا المعنى أجاز بعض الفقهاء أنه إذا كان أخذ في نافلة وقرع الباب من له في دخوله مصلحة وأنه إن تركه حتى يتم ما هو فيه أنه يروح
١
-3°
حمد
۱ سورة البقرة من الآية ۸

أوله إن جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد والدارمي والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا إنها ستكون فتنة - وفي رواية فتن - قلت ما المَخْرَج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخَبَرُ ما بعدكم إلى آخر الحديث ۳ أخرجه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ
٤١٥

عنه ولا يجده أنه يقول ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَم ١ ويرفع بها صوته ليشير إليه أنه في صلاة وهذا عندي فيه نظر لأنه ينطق بالقرآن على خلاف ما أمر به فأولى من ذلك أن يباح له اليسير من الكلام الذي فيه الخلاف من أجل الضرورة ليسلم بذلك من التهاون بالكتاب العزيز والله المرشد
للصواب بمنّه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤١٦
03
۱ سورة الحجر من الآية ٤٦

حديث دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم
عَن أنس بن مالك رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ أَصابَتِ النَّاسَ سَنَة ١ على عَهد النَّبِيِّ ل فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في يوم جُمعَةٍ قامَ أَعرابي فَقالَ يا رسول الله هَلَكَ المالُ وجَاعَ العِيالُ فَادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَديهِ وما نَرَى في السَّماءِ قَزَعة فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما وَضَعَهُما حَتَّى ثَارَ السَّحابُ أمثالَ الجِبالِ ثُمَّ لَم يَنزِل عَن مِنبَرِهِ حَتَّى رَأيتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ عَلَى لحيته فَمُطرنا يَومَنا ذلِكَ وَمِنَ الغَدِ وَمِن بَعدِ الغَدِ والذي يليه حتّى الجُمُعَة الأُخرى وقامَ ذَلِكَ الأَعْرابِيُّ - أو قال غيره - فَقالَ يا رَسُولَ الله تَهَدَّمَ البِناءُ وَغرِقَ المَالُ فادعُ الله لَنَا فَرَفَعَ يَدَيه وقالَ اللَّهُمَّ حَوالَينا وَلا عَلينا فَمَا يُشيرُ بِيَدِهِ إِلَى ناحيةٍ مِنَ یه السَّمَاءِ إِلا انفَرَجَت وَصارَتِ المَدينَةُ مِثل الجَوْبَة ۳ وَسالَ الوادِي - قناة ٤ ـ شَهراً وَلَم يجيء أحد من ناحِيَةِ إِلا حَدَّثَ بالجَوْدِ ٥
6
ظاهر الحديث يدل على جواز الكلام للإمام وهو في الخطبة لأمر أكيد وجواب الإمام على ذلك والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها جواز الإشارة إلى شيء يعرف بالعادة ويجزىء عن تبيينه يؤخذ ذلك من قوله سَنَة ولم يعين ما هي لأنه قد عرف بالعادة أنه أشار إلى السنين التي فيها القحط والجوع
1 السَّنَة الجدب والقحط
القزع قطع السحاب المتفرقة في السماء مفردها قَزَعة
۳ الجوبة الحفرة المستديرة المتسعة

قناة اسم مكان وهو هنا بدل من الوادي ممنوع من الصرف
٥ الجود المطر الغزير الذي لا مطر فوقه
٤١٧

ومن ذلك قوله عليه السلام اجعلها عليهم سِنينَ كسِني يوسفَ اللهم اشدد وطأتك على مُضَى
اللهم
أنج الوليد بن الوليدِ وعُتْبَةَ وربيعةَ وعيَّاش والمستضعفين بمكة ۱
ويجوز الاستسقاء بالدعاء من أهل الفضل بغير خروج يؤخذ ذلك من دعاء النبي بالغيث عند قول الأعرابي له ما قال
الوجه الثاني فيه دليل على طلب الدعاء ممّن فيه أهلية للقبول عند الملمات ومن أدب الطلب بثّ الحال إليه قبل طلب الدعاء يؤخذ ذلك من قصد الأعرابي إلى النبي الله لأنه بالإجماع الأفضل فطول حياته - عليه السلام - كان لا يُقصد في المهمات غيره إجماعاً ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول للعباس عند احتياج الناس إلى المطر وخروجهم إلى الاستسقاء ويؤخذ كنا نستسقي بالنبي عليه السلام والآن نستسقي بك فإنك عمّه وأقرب الناس إليه الأدب في تقدمه تبيين الحال قبل طلب الدعاء من فعل الأعرابي ذلك وأقره النبي الوجه الثالث فيه من جهة الحكمة أنك إذا شكوت ما بك من الضرّ لمن فيه دين رقّ لك وكان دعاؤه لك بقريحة وعند تلك الرقة وجَمْعِ ذلك الخاطر المبارك تُرجَى الرحمة والإجابة الوجه الرابع فيه دليل على أن فرض الكفاية من قام به كفى إذا عرف وجه الصواب في ذلك يؤخذ ذلك من أن هذا الأعرابي لمّا لحق الناسَ ما لحقهم من القحط تعين على الكل اللجا إلى الله عزّ وجلّ وإلى رسوله له الله لما نزل بهم وفي الوقت من هو أعلى من ذلك الأعرابي مثل الخلفاء رضي الله عنهم وجلة الصحابة فلم يتكلموا وقام ذلك الأعرابي بالوظيفة وأقره النبي على ذلك ولو لم يكن ذلك كذلك لقال له النبي ل في ذلك شيئاً يُعلم به أن الحكم ليس كذلك لأن تأخير البيان عند الحاجة لا يجوز
الوجه الخامس فيه دليل على أن طالب الحاجة ينادي إلى من يطلبها منه بأرفع أسمائه يؤخذ ذلك من أن الأعرابي نادي النبي الله و بأرفع أسمائه وهو رسول الله الوجه السادس فيه دليل من الحكمة استعطاف المطلوب منه الحاجة فإنه مما تُسَرُّ به النفس فقد يكون عوناً على قضائها لكن بشرط ألا يتعدى في ذلك لسان العلم تحرزاً من أن
1 أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأذان باب يهوي بالتكبير حين يسجد ونصه كان رسول الله حين يرفع رأسه يقول سَمِعَ الله لمن حمده ربَّنا ولك الحمد - يدعو لرجال يسميهم بأسمائهم فيقول اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم
أخرجه البخاري وابن سعد وابن خزيمة وأبو عوانة وابن حبان والطبراني والبيهقي عن أنس رضي الله عنه اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له
٤١٨

يكون ما يُسَرُّ ذلك الشخص به ممنوعاً شرعاً فلا يجوز لأنه من حاول أمراً بمعصية كان له أبعد
فيما يرجو
وقوله هلك المال المال عند العرب هي الإبل كما أن المال عند أهل التجارة الذهب أو الفضة كل أحد بحسب عادته
الوجه السابع فيه دليل على رفع اليدين في دعاء الاستسقاء يؤخذ ذلك من قوله فرفع يديه ولذلك لم يُرو عن الإمام مالك رحمه الله أنه رفع يديه إلا في دعاء الاستسقاء خاصة وهل يرفع في غيره من الأدعية أم لا فيه خلاف بين العلماء
وقوله وما نرى في السماء قرعة أي شيئاً يستر من السحاب وقوله فوالذي نفسي بيده ما وضعها أي ما أتم الدعاء وقوله حتى ثار السحاب أي كثر وقوله أمثال الجبال في هذا الموضع دليل على عظم قدرة الملك الجليل يؤخذ ذلك من سرعة اختراعه عزّ وجلّ لذلك السحاب العظيم في هذا الزمن القريب جدًّا
الوجه الثامن فيه دليل على عظم حرمة النبي يؤخذ ذلك من سرعة إسعافه عليه السلام بمطلوبه في الوقت
الوجه التاسع فيه دليل على جواز مساق اليمين في الكلام وهو من أحد الأقسام الذي يسميه بعض الفقهاء لغو اليمين يؤخذ ذلك من قوله فوالذي نفسي بيده
الوجه العاشر فيه دليل على أن تغيير العادة قد تكون دالة على رحمة أو غيرها يؤخذ ذلك من أن حبس المطر قبل تغيير حاله - وهو يؤول إلى هلاك المال ـ فهذا تغيير نقمة وقد جاء إذا أبغض الله قوماً أمطر صيفهم وأصحى شتاءهم وكوْنِ ۱ تعجيل السحاب والمطر عند دعاء سيدنا تغيير عادة إلا أنها تغيير رحمة
وقوله ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته أي لم يفرغ من الخطبة حتى كثر المطر لأن المطر ينفذ من سقف المسجد لأن سقف المسجد كان من جريد النخل ولا بد أنه كان يحبس شيئاً من المطر ثم يهطل حتى يتحادر المطر على لحيته الوجه الحادي عشر وفيه من الفقه أن الخطبة أو الصلاة إذا تُلُبَسَ بهما لا يُقطعان للمطر يؤخذ ذلك من أن سيدنا نزل عليه المطر حتى تحادر على لحيته وأتم الخطبة والصلاة
٤١٩
۱ العطف على المصدر المؤوّل أن حبس

الوجه الثاني عشر فيه دليل على أن الدعاء من أكبر وسائل الخير يؤخذ ذلك من سرعة الفائدة بدعائه عليه السلام وقد قال من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير۱ ولهذا يقول أهل الصوفة إن الدعاء نفسه هو عين الخير وقضاء الحاجة في حكم التَّبَع لأنه مناجاة للمولى الجليل وإظهار الفقر إليه وهو خلع العبودية ۳ ولم يُخلع على عبدِ أجلُّ منها وكفى في ذلك قوله تعالى ﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ ﴾ ۳ فما حصل لهم الشرف الرفيع ولا الحماية العظيمة إلا بهذا الوصف العجيب وهو وصف العبودية وقد قال عز وجل في الضد وَأَنَّ الْكَفِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ ٤
الله عنهم -
الوجه الثالث عشر قوله فمطرنا يومنا ذلك إلى قوله الجمعة فيه دليل على أن الإعطاء يكون على قدر حرمة الشفيع فلما كان هنا الشفيع صاحب حرمة عظيمة توالت الأمطار حتى استوفوا ما أرادوا من الخير ولهذا المعنى وقال أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون ه الوجه الرابع عشر فيه دليل صوفي لأنهم يقولون قدم محبوبَكَ قبل مطلوبك تجد مرغوبك الوجه الخامس عشر قوله وقام الأعرابي أو قال غيره شكٍّ من الراوي وهنا بحث لِمَ قام في المرتين هذان الأعرابيان أو الأعرابي الواحد - على شك الراوي - ولم يتكلم من الخلفاء أحد من الصحابة فالجواب أن مقام الخلفاء والصحابة - رضي الرضى والتسليم ومقام السائل الفقر والتمسكن وقد قحطت مرة جزيرة الأندلس فأتوا لبعض الصالحين المتولهين فرغبوا منه أن يخرج للاستسقاء وكانت عادته أن يركب قصبة يظهر بذلك ما يشبه الحمق فخرج معهم معهم وأتى غيطاً للملك فقرع الباب قرعاً عنيفاً فخرج إليه الجَنّان ٦ مسرعاً فقال له ما شأنك فقال اسْقِ كلّ ما في الغيط ويسمى الغيط بالأندلس بستاناً فقال له ما أكثر فضولك ! أنا أعرَفُ بستاني إذا احتاج السقي سقيته فردّ رأسه إليهم وقال لهم سمعتم مقالته هو أعرف ببستانه فما أردتم مني إلا أن يخزيني ثم ركب قصبته وتركهم وانصرف فما رجعوا إلا وهم قد سُقوا
۱ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
الخلع مفردها خلعة وتعني العطية الكريمة وتكون تكريماً من الخالع للمخلوع عليه
۳ سورة الحجر من الآية ٤٢
٤ سورة محمد من الآية ۱۱
٥ انظر إتحاف السادة المتقين للزبيدي ٣/ ١٧٥
٦ الجَنَّان العامل في الجنّة وهي البستان

٤٢٠

وسيدنا كان يحمل كُلاً على حاله فالضعيف يجبره والقوي يحمله وما بين ذلك يلطف به كل ذلك رحمة من الله بعبيده ليدخل في هذه السنة المباركة القوي والضعيف وكل واحد منهم متبع إلا أنه بشرط أن يكون كل واحد من القوم يعرف شربه من الحقيقة أو من الشريعة أين هو وما شروطه وما وظيفته وهنا هي الفائدة العظمى جعلنا الله ممن مَنَّ بها عليه بمنّه الوجه السادس عشر قوله فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا البحث هنا كالبحث في قوله هلك المال غير أن هنا معنى آخر وهو أنه يدعى بالصحو عند كثرة المطر ودوامه كما يدعى بطلبه عند إبطائه وعدمه لأن كلتا الحالتين ضرر والمقصود للضعيف ما
فيه رفق
الوجه السابع عشر وفي قوله عليه السلام حوالينا ولا علينا من الفقه أنه لا يطلب من رفع الأذى إلا قدر ما تحقق أنه أذى لأنه لما تهدم البناء في المدينة وغرق المال - وهي الإبل كما تقدم - لأن كثرة المطر للإبل تتوجّل فيه ولا يصلح لها به حال والجبال والصحارى ما دام المطر فيها كثرت الفائدة فيها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه وغير ذلك من المصالح فدعا أن يرفع قدر ما فيه الضرر وتبقى الجبال وما حولها لما يُرجَى فيها من الخير الوجه الثامن عشر في هذا دليل على ما أعطى الله سبحانه نبيه عليه السلام من الإدراك العظيم للخير على سرعة البديهة
الوجه التاسع عشر قوله فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب فيه دليل على عظم معجزته عليه السلام في ذلك وهو أن سخّرت السحاب له كلما أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلام لأن كلامه عليه السلام مناجاة للحق وأما السحاب فبالإشارة فلولا الأمر لها بالطاعة له عليه
السلام لما كان ذلك لأنها أيضاً ـ كما جاء - مأمورة حيث تسير وقدر ما تقيم وأين تقيم وهنا إشارة لطيفة وهي أن السحاب تفهم - على بعدها - منه الإشارة والمحروم والأطروش ۱ القلب يسمع دور المواعظ ولا ينتبه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم ومن لم يكن له في

القدم سعادة فكل موعظة عليه خسران وقوله إلا انفرجت أي زالت وتنحت امتثالاً لما به أمرت وقوله وصارت المدينة مثل الجوبة معناه مثل جيب الثوب أي في ناحية منه وقوله وسال الوادي قناه شهراً أي جرى
1 الأطروش الأطرش الأصم سورة المطففين من الاية ١٤

3
4
٤٢١

الماء من المطر شهراً وهو من أبعد أمد المطر الذي يصلح الأرض التي هي متوعرة جبلية لأنه يتمكن في تلك الأيام بطولها الذي فيها لأنها بارتفاع أقطارها لا يثبت الماء عليها فيبقى فيها حرارة فإذا دام سكب المطر عليها قلت تلك الحرارة وخصبت الأرض ولذلك قال جلّ جلاله في كتابه كَمَثَلِ جَنَّتِي بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَتَانَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ۱ لأن المطر الوابل هو
الشديد فتخصب أرضها فيأتي ثمرها ضعفين مما هي العادة فيه
وقوله ولم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود أي كل الجهات دام فيها المطر وهنا إشارة وهي أن بَرَكة الجوار أفادت الأرض الرحمة وهي جماد فكيف بالحيوان ومن ذلك مجاورة أبي طالب مع عدم الاتباعية حصلت له البركة وهي كونه أقل أهل النار عذاباً لكن في المجاورة إشارة لَمّا كان فيها منفعة ما وهي ما يوجد فيها من العون بما يخرج منها لأهل الإيمان لحقتها البركة فإن كانت بزيادة ما ولو بالقرب لحقتها حرمة الاحترام

ألا ترى كيف جعل النبي ل لما قَرُبَ من المدينة بقدر اثني عشر ميلاً حرماً كحرم مكة لا يقتل صيده ولا يُعضد شجره لحرمة من جاورها ! فهو مثل الاتباع في العاقل المخاطب لأن المنفعة من كل نوع من الخلق بحسب ما يتأتى منه فإذا كانت المجاورة بنسبتها يكون الخير وأقلها عدم وجود الشر جاء في الخبر هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ۳ وإلا كان الضد ولذلك يقول أهل التحقيق إن الرجل إذا كان محققاً كان مثل النار لأن النار من استعملها وتحفظ منها وجد فيها منافع شتى كما قال عزّ وجلّ وَمَتَنَعَا لِلْمُقْوِينَ ٤ قال العلماء معناه المحتاجين ومن استعملها ولم يتحفظ منها فإنها تضره وكذلك الرجل المحقق من عرفه وتأدب معه وجد فيه منافع و من از دری به يلحقه الضرر منه وإن لم يقصد هو ذلك لأن الله عزّ وجلّ يغار له لقوله عزّ وجلّ من أهان لي وليا آذنني بالمحاربة ٥
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
۱ سورة البقرة من الآية ٢٦٥ ولا يعضد شجره لا يقطع
۳ أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله عزّ وجلّ بلفظ اخر
٤ سورة الواقعة من الآية ۷۳
0 أخرجه الطبراني في الكبير والهيثمي في معجم الزوائد والسيوطي في الحاوي للفتاوي بلفظ آخر
٤٢٢

حديث صلاة النوافل قبل الفرائض وبعدها
عَن عَبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُصَلِّي قَبلَ الظُّهرِ رَكعتينِ وَبَعدَها رَكَعَتَينِ وَبَعدَ المَغرِبِ رَكَعَتَينِ في بَيْتِهِ وَبَعدَ العِشاءِ رَكَعَتينِ وَكانَ لاَ
يُصَلِّي بَعدَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَنصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكَعَتَينِ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
*
*
ركعتين
الأول الإخبار بركوعه عليه السلام قبل الظهر وبعدها في المسجد
الثاني أنه عليه السلام كان لا يركع بعد المغرب في المسجد وكان يركع في بيته بعدها
الثالث أنه كان لا يركع في المسجد يوم الجمعة لا قبل ولا بعد وأنه عليه السلام كان
يركع في بيته عند انصرافه منها ركعتين والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هذا الذي جاء عنه عليه السلام من صفة هذا التنفّل هل هو تعبد لا يعقل له
معنى أو ذلك يعقل له معنى ولمَ ترك الصبح والعصر ولم يذكرهما وما الحكمة فيهما فالجواب أما كون الصبح والعصر لم يُذكرا فقد ذُكرا في موضع آخر لأنه قد جاء لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر ۱ وقد جاءت فيهما أحاديث كثيرة وأنه عليه السلام كان يخففهما وقد ذكرت العلة في تخفيفهما وقد جاء أن العصر كان عليه السلام يركع قبلها ركعتين والأحاديث في ذلك أيضاً كثيرة وأما هل لتلك الصلاة معنى أو هي تعبّد فإن قلنا إن ذلك تعبد فلا بحث وإن قلنا إنه
۱ رواه البيهقي عن ابن عمر وعن أبي هريرة وعن سعيد بن المسيب مرسلاً واللفظ مختلف
٤٢٣

حين
لحكمة فهي - والله أعلم - الإرشاد إلى الزيادة في الخدمة كما قال عليه السلام لضمام ۱ قال له هل عليَّ غير ذلك فقال لا إلا أن تطَوَّع فكان ندبه عليه السلام إلى التطوع بالقول ثم جاء عمله عليه السلام هنا تحضيضاً على ما ندب إليه بالقول فإن عمله عليه السلام أبلغ في التعليم وتقعيد الأحكام بالفعل أبلغ وإن كان القول كافياً - كما هو معلوم من الشريعة في غير
ما موضع - وهذا وجه حسن
الوجه الثاني فيه من الفقه أن كل ما يأمر المرء به غیره ويرغبه فيه من أفعال البر ينبغي له أن يفعله هو حتى يكون له ذلك حالاً ومقالاً لئلا يدخل بذلك تحت قوله تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ٢ ولذلك قال بعض من نسب إلى الحال سيعلم صاحب فقه الكلام وصاحب فقه الحال عند هبوب رياح القيامة وانجلاء غمام الدنيا من فارس الميدان منهما
وإذا نظرنا لمجموع عددها زاد لنا معنى مع ذلك وهو معنى لطيف وهو من شيم أهل الهمم لأنا وجدنا الصلاة التي زادها هو بحسب ما وردت بها الآثار أربعاً وأربعين ركعة والوتر واحدة فذلك خمس وأربعون مع الخمسة المفروضة فذلك أصل العدد المفتَرَض أولاً وهو خمسون صلاة وطلب و لأمته أيضاً التخفيف شفقة عليهم وأخد هو في حق نفسه المكرمة بالعمل على التوفية والكمال حتى يحصل له الثبوت في قدم قوله عزّ وجلّ الَّذِى وفى ۳ وكقول موسى عليه السلام أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ ٤ ثم إنه أكمل أبعد الأجلين لأن الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين هم أهل الهمم السنية وكيف لا وهم خير الخيرة من البرية

فنحتاج إذا أن نسمي تلك الأربع والأربعين وهي ركعتا الفجر والضحى - على ما انتهت الأخبار عنه أنها اثنتا عشرة ركعة - وعند الزوال بعدما كان نهى عن الصلاة في ذلك الوقت ثم رجع عليه السلام فصلّى فيه أربعاً على غلبة الظن في تيقن العدد وقبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وقبل العصر ركعتين وبعد المغرب ركعتين وتحية المسجد ركعتين وبعد العشاء ركعتين وإن كانت الصلاة التي عند استواء الشمس ركعتين فيكون تمام الأربع والأربعين ما روته
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٦ سورة الصف الايتان و ۳ ۳ سورة النجم من الآية ٣٧ ٤ سورة القصص من الآية ۸
٤٢٤

حين
3334
بلغ
فال
ة
هل
ـة
حق
پی
تير
C
ها
عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام كان يصلي على فراشه ركعتين وحينئذ ينام وقيام الليل اثنتا عشرة ركعة والوتر واحدة لأنه يُطلق على كل ركعة صلاة بدليل قوله عليه السلام إن الله زادكم صلاة إلى صلاتكم ألا وهي الوتر ۱ فقد سمى عليه السلام الواحدة صلاة ١ ويظهر فيه من الحكمة أن المولى سبحانه لما نقص من العدد واحدة زادها هو جلّ جلاله ليكمل الفضل بفضله على سيدنا صلى الله عليه وسلّم وعلى أمته جعلنا الله من صالحيها في الدارين بمنه فكما نقص العدد منها أولاً تفضلاً وتخفيفاً أكمله آخراً تفضلاً وإكمالاً
وهنا بحث لطيف وهو أنه لم جعلت هذه الأمة شهداء على الأمم بمقتضى قوله عزّ وجل في كتابه ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِنَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ۳ وقد كان من كلام موسی علیه السلام لسيدنا إني عالجت بني إسرائيل أشد ال المعالجة وإن أمتك لا تطيق ذلك فتفضل المولى جلّ جلاله بأن وفق هذا السيد للكمال في إكمال العدد المطلوب أولاً حتى يكون تزكية في الشهود فإن من شرط الشهادة التزكية والعدالة فبانت تزكية هذه الأمة بفضل الله تعالى ولم يتركها سيدنا مع ضعفها حتى تكون عدالتهم ظاهرة من أجل تحقيق الأحكام ثم لم يقتصر هو و لا الله لا على ذلك ليس إلا لأنه عليه السلام ترك لنا بابين إلى الزيادة مفتوحين
الواحد بقوله عليه السلام رحم الله عبداً صلى أربعاً قبل أربع وصلى أربعاً بعد أربع ومن صلى بين العشاءين اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة ۳ وما أشبه ذلك من الأحاديث التي جاءت في مثل هذا المعنى وهي كثيرة
والباب الثاني إشارته عليه السلام إلى تمام التزكية في باقي الأقوال والأفعال بقوله
عليه السلام من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ٤ فبالله عليك يا أخا الشبهات والشهوات انتبه لنفسك يسيراً ولا تحرمها هذا المقام الرفيع الجليل وتُقِمْها مقامَ الذل والتعنيت فإن من اتبعَ شهوته ذهبت مروءته وشان دينه ومن كان بهذه
1 أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما

سورة البقرة الآية ١٤٣
۳ مركب من حديثين الأول رحم الله امراً صلى قبل العصر أربعاً أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما والثاني من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوّعاً بنى الله له بيتاً في الجنة أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أم حبيبة رضي الله عنها
٤ أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما
٤٢٥

الصفة ضاع عمله وكانت النار أولی به وقد قال لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وقمتم حتى تكونوا كالحنايا ولم يكن لكم وَرَع حاجز لم يمنعكم ذلك من النار 1 وإن الفتى إذا نبذ
شهواته طمعت نفسه في اكتساب الحور والقصور فتنبه إلى هذه الحكمة العجيبة منه في تفريقه عليه السلام هذه الصلوات على هذا الترتيب العجيب لأنه عليه السلام لو جعلها في وقت واحد أو جعلها عدداً مرتباً لا يزاد فيها ولا ينقص لكان في ذلك مشقة وربما لا يقدر عليها كثير من الناس فلما جعل عليه السلام منها ما هو مستصحب مع الصلوات المفروضة ومنها ما هو في غير وقت الصلوات إلا أنه بتوسعة مثل قيام الليل إذ الليل كله ظرف والضحى من بعد طلوع الشمس إلى الزوال فمن عجز عن قيام الليل والضحى لم يعجز عن التي هي مع الصلوات - كما تقدم - فكانت خفيفة على الناس حتى فَلم يكون من مصل يصلي فريضة ولا يتنفل قبلها ولا بعدها وإن كان فيكون في حكم النادر الذي لا حكم له
فانظر إلى هذه الإشارة اللطيفة لما طلب منا أولاً خمسين ثم ثبت الفرض على خمس فجاء الأصل خمساً ووفاء الكمال خمسين فما نقص من الأصل الذي ثبت بالحكم الحتم وهو خمس أكمل من الأصل المطلوب أولاً وهو الخمسون وسميت نفلاً لكونها غير حتم ولذلك جاء أنه إذا كان يوم القيامة يقول مولانا جلّ جلاله انظروا إلى صلاة عبدي فإن أتى بها كاملة وإلا قال عزّ وجل انظروا إن كانت له نافلة فأكملوها منها ٢ فأكمل الأصل - الذي هو الفرض - من الأصل الذي كان أولاً بالوضع فجاء قوله تعالى ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى ۳
وبقي بحثان أحدهما لم كان عليه السلام لا يصلي بعد المغرب إلا في بيته والثاني مثله في الصلاة التي بعد الجمعة

فالجواب إن قلنا إن ذلك تعبّد فلا بحث وإن قلنا إن ذلك لحكمة - وهو الحق - فما هي فنقول أما كونه عليه السلام لم يصل بعد المغرب إلا في بيته فقد أجبنا عنه في غير هذا الحديث لكن نشير الآن إلى بعضه لكون النفس متشوقة إليه وذلك أن المغرب وقت ضيّق فقد يأتي الناس إلى صلاتهم ويتركون ضروراتهم والغالب عليهم الصوم والكد في الأسباب فلو بقي
1 أخرجه السيوطي في الجامع الكبير بلفظ لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة رواه عمرو بن عساكر من طريقه وقال مالك بن دينار لم يسمع من أبي مسلم والديلمي أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ آخر ۳ سورة ق الآية ۹
٤٢٦

يد
L
ها
L
L
النبي صلى الله عليه وسلم يركع في المسجد لما خرج أحد منهم - في الغالب - فيلحقهم بذلك تألم وهو عليه السلام الذي قال في هذه الصلاة خصوصاً إذا وُضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ۱ رحمة منه لهم وقد تقدم الكلام عليه فكيف في النافلة
وأما كونه عليه السلام لم يصل أيضاً بعد الجمعة في المسجد فقد بين عمر رضي الله
عنه العلة في ذلك بمحضره عليه السلام وأجاز ذلك كما في كتاب مسلم لأنه لما حض عليه السلام على التنفل بعد الجمعة كما جاء في مسلم أيضاً قام رجل بعد الفراغ من صلاة الجمعة يركع فجبذه عمر رضي الله عنه حتى أبعده وقال له اقعد تشبه الجمعة بمن فاته من الظهر ركعتان والنبي قاعد ولم يقل شيئاً فسكوته عليه السلام دالّ على جواز ذلك الحكم وهو المشرع فلو لم يكن الحكم كذلك لتكلم عليه السلام بما يبيّن به الحكم لأن السكوت عن بيان الحكم عند الحاجة إليه لا يجوز فجاءت صلاته عليه السلام بعد الجمعة في بيته تبييناً لمن أراد أن يصلي بعدها من حيث ألا تكون الصلاة متصلة بها
وقد تكلم العلماء في التنفل بعد المغرب وبعد الجمعة في المسجد هل يجوز أم لا فأما التنفل بعد المغرب في المسجد فلم يُمنع أحد من ذلك لأن تلك العلة التي ذكرنا عن سيدنا معدومة في غيره لكن الأفضل في البيت من أجل ما في الاتباع من الفضل وقد كان من السلف من يتنفل في المسجد بعد المغرب وأما بعد الجمعة فالذي أجاز ذلك منهم قال لا يفعل حتى يخرج من باب ويرجع من آخر ومنهم من قال ينتقل من موضعه إلى موضع آخر ومنهم من قال يجلس في موضعه ساعة حتى تذهب علة الشبه التي نهى عنها - كما حكيناه انفاً ـ ولم يختلف أحد أن تنقله في البيت أفضل وفيه وجوه من الفقه
أحدها الأخذ بسد الذريعة لأنه لو فعل ذلك في زمان النبي والخلفاء رضي الله عنهم لكان الناس يقولون تلك الركعتان تمام لعدد ركعات الظهر وقد كان يؤول الأمر لأن يعتقد أنها فرض أما ترى أن بعض العلماء يقول في الخطبة إنها بدل من الركعتين وأن من فاتته الخطبة لا تجزئه الجمعة ويصلي ظهراً أربعاً وهذا بعيد أين نسبة الخطبة من الصلاة فكيف في الركوع الذي هو من جنس الصلاة ولم يجىء أن أحداً من السلف فعل ذلك
وقد صار اليوم العمل على خلاف هذا وهو ما يفعله الناس بالديار المصرية وغيرها ممن حذا حذوهم من التزامهم الركوع إثر صلاة الجمعة متصلاً بها وهو من البدع ثم إنهم زادوا في ذلك بأن سموها سُنة الجمعة وهذا مناقض للحديث الذي نحن الآن نتكلم فيه والذي أوردناه من حكم
۱ هو موضوع الحديث ٤٢
٤٢٧

النبي كما جاء في مسلم ولا أحد ممن ينسب أو ينتسب للعلم يغيّر ذلك بل يفعله ويحتج بأن يقول على ما بلغني هو وقت يجوز فيه الركوع فكأنه لم يسمع قط هذين الحديثين اللذين هما في الصحة والشهرة بحيث المنتهى أو كأنه لم يعرف قط المراد بسياقهما وما يستنبط منهما فأين
العلم وأين أهله
فإنا لله وإنا إليه راجعون على حوادث حدثت في الدين وأكثرها من هذه الطائفة المنتسبة للعلم وليس عندهم منه إلا نقل الألفاظ والتحكم من طريق الجدل والمباهاة هيهات ما العلم كذلك ولا طريقه هنالك بل هو باتباع السنة والسنن وبالنور والحكمة تقع فيه الموافقة
لمن تقدم
وفقنا الله لذلك بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٢٨
سنا

191
حديث غزاة بني قريظة
عَن ابن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهُما قَالَ قالَ النَّبِيُّ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأحزاب لا يُصَلِّيَنَّ أَحَد العصر إلا في بَني قُرَيْظَة ۳ فَأَدرَكَ بَعضَهُمُ المَصرُ في الطَّريقِ فَقالَ بَعضُهم لا نُصَلِّي حَتَّى نأْتِيَهَا وَقالَ بَعضُهُم بَل نُصَلِّي لَم يُرد مِنَّا ذلِكَ فَذُكِرَ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَم يُعَنّف واحِداً مِنهُم
*
ظاهر الحديث أَمْرُ النبي للصحابة رضي الله عنهم بالخروج إلى بني قريظة ومبادرتهم لأمره عليه السلام والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول فيه دليل لمن يقول إن كل مجتهد مصيب يؤخذ ذلك من قوله أدركهم العصر في الطريق فقالوا لا نصلي حتى نأتي بني قريظة ۳ تعلقاً بظاهر صيغة الأمر ومنهم من تأول وقال ما المقصود ترك الصلاة تحفظاً على القاعدة الأصلية وإنما المقصود منا سرعة الخروج والسير وقد حانت الصلاة فنجمع بين الأمرين فكل منهم مصيب لأن المقصود من العبد بذل الجهد في امتثال ما أمر به إذا كان على الوجه المأمور به تحرزاً من تحريف التأويل لحظ نفساني فبهذا القيد يصح أن كل مجتهد مصيب
ومع ذلك لا بد أن يكون أحد الوجهين هو الأولى بدليل قول مولانا جل جلاله في قصة
1 الأحزاب جنود الكفار تألبوا وتظاهروا على حرب النبي و و و و و وهم قريش وغطفان وبنو فريظة وهي المعروفة باسم غزوة الخندق
بنو قريظة حي من يهود وهم والنضير قبيلتان من يهود خيبر فأما قريظة فقد أبيدوا النقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على رسول الله أمر بقتلهم وسبي ذراريهم واستفاءة أموالهم وأما بنو النضير فإنهم أجلوا إلى
الشام وفيهم نزلت سورة الحشر ۳ كذا ولفظ الحديث حتى نأتيها
٤٢٩

بَيْنَتَهَا سُلَيْمَنُ وَكُلًّا أَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۱ وذلك أن رجلين داود وسليمان عليهما السلام فَفَهَ في زمان داود عليه السلام كان لأحدهما زرع وللاخر غنم فرعت الغنم الزرع فتحاكما إلى داود عليه السلام فحكم بالغنم لصاحب الزرع فلما خرجا قال لهما سليمان عليه السلام ما حكم به داود فأخبراه بحكمه لصاحب الزرع بالغنم فقال لهما سليمان عليه السلام بل الحكم أن يأخذ صاحب الزرع الغنم يستغلها حتى يُخلِفَ زرعُه ويكون مثل القدر الذي رعته الغنم ويأخذ إذ ذاك صاحب الغنم غنمه فبان ما حكم به سليمان عليه السلام أنه كان هو الأرجح بدليل أنه بقي لكل واحد منهما ماله بعد تقاضي ما كان بينهما وعلى حكم داود عليه السلام كان الحكم أن يبقى صاحب الغنم دون شيء وكذلك نقول في هذه المسألة وإن كان الوجهان جائزَين فالواحد أرجح لكونه جَمَعَ بين
أصلين وكلاهما واجب والتأويل الذي يسوغ معه أداء واجبين أولى من إسقاط أحدهما الوجه الثاني فيه من الفقه أن القاعدة الثابتة المستصحبة لا تُزال بأمر محتمل لأن وقت الصلاة قاعدة قد تقررت واستصحب الحكم بها وأمرهم النبي و لا الله بألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فاحتمل الأمر - على ما تقدم - لأن يكون المقصود ذلك الوجه ولا نعرفه نحن في الحال واحتمل أن يكون المقصود الوجه الثاني وهو سرعة الخروج - كما تقدم - فكيف نزيل حكماً قد تقرر واستصحب العمل عليه بمحتمل الأمرين الأظهر أن لا والجواز قد وقع من الشارع عليه السلام فجاء في الأمر والحمد لله سَعَة
الوجه الثالث يترتب عليه من الفقه أيضاً أن المرء إذا كان عند نازلة لا يمكنه تأخيرها وليس عنده علم بحقيقة حكم الله تعالى فيها أنه يجتهد فيما يظهر له ويعمل عليه فإذا وجد من له معرفة بذلك الأمر يسأله عما فعل فإن أخبره أنه قد وافق فعله حكم الله - على مذهب أحد علماء المسلمين - فقد تخلصت ذمته وهذا خير كثير
يؤخذ ذلك من أنه لما حان وقت العصر وهم بالطريق وما كان فيهم من سأل النبي
أن
بأن يقول إن أدركنا الوقتُ في الطريق فما نفعل فلو كان فيهم من فعل ذلك لوجب على الكل يتبعوه الأمر النبي له به ذلك الواحد ولم يجز لهم مخالفته فلما لم يقع كان ذلك تخفيفاً من الله ورحمة حتى تتقعد عليه هذه القواعد المباركة فاحتاجوا إلى النظر والاجتهاد بحسب وسع كل واحد منهم في الوقت فلما اجتمعوا معه أخبروه ليجيز من فعلهم ما يجيز ويرد ما يرد فأجاز عليه السلام الفعلين معاً كما فعل عليه السلام حين صلوا في الظلمة بحسب اجتهادهم
۱ سورة الأنبياء من الآية ۷۹
٤٣٠

وعلم كل واحد منهم على موضع مُصَلاه فلما أصبحوا فإذا هم قد أخطأوا القبلة عن آخرهم فلما
أتوا النبي سألوه عن ذلك فأجاز فعلهم
أنهم

فالسؤال من الصحابة بما وقع منهم له عليه السلام كسؤال من لا يعلم حكم الله لمن يكون له به علم بعد نزول ما ينزل به ويعمل فيه بحسب اجتهاده - كما تقدم - على حدّ سؤالهما ونذكر الآن إشارة ما الموجب لخروجهم إلى بني قريظة لما يترتب عليها من الفقه وذلك لما رجعوا من الأحزاب وفيهم الجريح الشديد الجرح وجاء النبي ليزيل سلاحه وجبريل عليه السلام قد نزل وعليه سلاحه أيضاً فقال أتزيل السلاح والملائكة لم تُزِلْها ۱ وأمَرهُ عن الله أن يخرج من حينه ولا يزيل سلاحه ويأمر كل من جاء من الأحزاب من المسلمين أن يخرجوا من حينهم فخرجوا وإن الجريح منهم خرج وهو يتهادى بين اثنين لشدة جراحه وكان العدو قد طمع في المسلمين لما نالهم من الجرح والقتل وعزموا أن يأتوا المدينة فلما سمعوا بخروج المسلمين من حينهم أوقع الله عزّ وجلّ في قلوبهم الرعب ورجعوا هاربين فدفع الله عزّ وجلّ عن المسلمين ما كانوا عزموا عليه من أن يغيروا على المدينة
الوجه الرابع يترتب على هذا من الفقه أن أعظم الأسباب في النصرة هو امتثال الأمر لأنه يعلم بالقطع أن أولئك المجروحين الذين خرجوا وهم يتهادون بين اثنين أنهم لا يقدرون على قتال ولا يدفعون شيئاً فلما امتثلوا وفوضوا الأمر لقدرة الأمر نصرهم الله بلا قتال ولا شيء تكلفوه لأنهم فهموا أن المقصود منهم الامتثال وأن النصر هو المنعم به تصديقاً لقوله عزّ وجلّ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وكذلك سنة الله تعالى في عباده إلى يوم الدين من نصره ﴾ نَصَرَهُ ومن أصدقُ من الله حديثاً ونُصرة الله من عبده هي اتباع أمره واجتناب نهيه الوجه الخامس فيه دليل على أن فحوى الكلام كالنص يعمل به وفحوى الكلام هو ما يعرف من قوة الكلام وكذلك هذا لما عرفوا من قوة الكلام أنه ما المراد منهم أن يخرجوا لبني قريظة إلا للقتال لم يحتج عليه السلام ليُبين لهم شيئاً ليفهمهم المقصود هذا في الجهاد الأصغر وهو جهاد العدو وكذلك الأمر فى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وقد أشار مولانا جل جلاله لذلك بقوله وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۳ فمهما كبر الأمر
1 أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام فقال قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فأخرج إليهم قال فإلى أين
قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي
سورة الروم من الآية ٤٧ ۳ سورة الأعراف من الآية ۰۰
٤٣١

جعل الفرج فيه أكبر لأن أمر الشيطان والنفس أكبر فجعل في الشيطان والظفر به نفس اللجأ كما أخبر عزّ وجلّ وجعل في النصرة على النفس الأخذ في مجاهدتها على لسان العلم فقال عز وجل • سُلَنَا ١ لو جعل سبب العون على مجاهدتها حقيقة الاستعانة به
وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا عزّ وجلّ بقوله تعالى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولذلك قال بعض أهل التوفيق إذا نزلت بي نازلة من أي نوع كانت فألهمت فيها إلى
اللجا فلا أبالي بها
واللجأ يكون على وجوه فمنه الاشتغال بالذكر والتعبد وتفويض الأمر له عزّ وجلّ لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ٢ ومنه الصدقة لقوله عليه السلام استعينوا على حوائجكم بالصدقة وادفعو البلاء بالصدقة ۳ ومنه الدعاء لقوله عليه السلام من ألهم الدعاء فقد فتح عليه أبواب الخير فكيف بالمجموع فهم يرون كل ما هو سبب إلى الخير هو عين الخير
الوجه السادس فيه دليل صوفي لأنهم يقولون موتُ النفوس حياتها ومن أحب أن يحيا يموت لأن الصحابة رضي الله عنهم لما هانت عليهم نفوسهم وخرجوا وهم راضون بالموت في ذات الله عزّ وجلّ لأنّ من يخرج - كما وصفناهم به أولاً - فقد عزم على الموت فعند ذلك ظفروا بالنصر والأجر والأمن كذلك حال أهل التوفيق ببذل النفوس وهوانها عليهم نالوا ما نالوا ولحب أهل الدنيا نفوسهم هانوا وحقَّ عليهم الهوان هنا وهناك وقد ورد في الحديث ما من عبد إلا وفي رأسه حَكَمة ٥ بيد مَلَك فإن تعاظم وارتفع ضرب الملك في رأسه وقال له اتَّضِع وَضَعك الله وإن تواضع رفعه الملك وقال له ارتفع رفعك الله مَنَّ الله علينا بما به يقربنا إليه بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 سورة العنكبوت من الآية ٦٩ سبق تخريجه في الحديث ٤٧
3 أخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله الله قال استعينوا على الرزق بالصدقة وأخرج لسيوطي في الجامع الكبير قول النبي داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة فإنها تدفع عنكم
الأعراض والأمراض
٤ تقدم تخريجه في الحديث ٦ - الوجه السابع
٥ أخرجه أبو نعيم والديلمي عن أنس وأوله ما من آدمي إلا وفي رأسه حَكَمة بيد مَلَك
٤٣٢

حديث السنة يوم عيد ال
الفطر
عَن أَنسٍ رَضِيَ الله عَنه قال كانَ رَسولُ الله ل لا يَعْدُو يَومَ الفِطرِ حَتَّى يَأْكُلَ
تمراتٍ وعَنهُ مِن طَريق ثانٍ ويأكُلُهُنَّ وِتراً
*
ظاهر الحديث أن السنة في يوم الفطر ألا يغدو أحد للمصلّى إلا بعدما يفطر والمستحب أن يكون على التمر وأن يكون وتراً والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول هل هذا معقول المعنى أم لا فالجواب أن المعنى فيه ظاهر وهو إظهار امتثال الأمر لأنه لما أن كان صوم هذا اليوم محرَّماً والمشروع فيه الأكل فبادر للامتثال وهو الأكل ولو كان لغير ذلك لكان يأكل الشبع من الطعام
وبقي بحث على كونها تمراً وكونها وتراً۱ فأما كونها تمراً فلوجوه منها حلاوتها والحلاوة مما توافق الإيمان ويرق بها القلب وقد جاء في ذلك أثر ويترتب على هذا من الفقه استعمال الأشياء الحلوة إذا لم يوجد التمر ومنها أنها أيسر الأشياء عندهم بالمدينة وكان يحب ما تيسر من الأشياء
ويترتب على هذا الوجه من الفقه أن التكلف للفطر في ذلك اليوم مخالف للسنة لأنه تكون النفس مشغولة بذلك وكان هو وأصحابه رضوان الله عليهم همتهم الآخرة حتى إنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول لأهله اعملوا الطعام مشروباً ولا تعملوه مأكولاً لأن بين المأكول والمشروب كذا وكذا آية فما كانوا - رضوان الله عليهم - يأخذون من الدنيا إلا قدر الضرورة واحتمل المجموع
1 إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه
لعله يشير إلى قوله تعالى في سورة الإنسان إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كأسِ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنَا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَا كَانَ شَرُّم مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَيْهِ مِسكينًا وَيَتِيماً وَأَسِيرًا الآيات ٥ - ٨
٤٣٣

وأما كونها وتراً فيحتمل أن يكون على معنى التداوي لقوله عليه السلام من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سُمٌ ولا سِحْر ۱ ويحتمل أن تكون على وجه التبرك لقوله عليه السلام إن الله وتر يحب الوِتر فيكون استفتاحه هذه العبادة بما هو مستحب وهو الوترية كما سنّ في الاستجمار الواجب الإنقاء والسنة الوترية ٣ ويحتمل أن تكون تنبيهاً على الوحدانية ليعرف قدر نعمها في هذا اليوم على العباد كما جاء في تحريك السبابة في التشهد - في
أحد الوجوه - في أنه يعتقد بتحريكها أن الله إله واحد ويحتمل المجموع وأكثر من ذلك الوجه الثاني فيه من الفقه أن حقيقة الخير هو نفس الامتثال فيما أحبته النفسُ أو كرهته فإن جاء ما تحب في الامتثال مثل هذا الموضع وما أشبهه فهو من جملة النعم لأنها تفعل ما تحب وتكون فيه مأجورة ومما يقوّي ما قلناه ما جاء عنه عليه السلام في عيد الأضحى أنه كان يخرج للمصلى ولا يأكل شيئاً حتى يُقَرِّبَ أضحيته أو هَدْيَه وأول ما يأكل منه زيادة الكبد لأنه أقرب ما
يفعل الآدمي في يوم النحر إراقة الدم فأراد عليه السلام أن يكون فطره على ما فيه رضى مولاه وهذا بحث لم كان يأكل أولاً زيادة الكبد فذلك - والله أعلم - لكي يقع التشبه في ذلك بأهل الجنة لأنه روي أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت الذي عليه قرار الأرضين واحتمل أن يكون بدأ به لأنه كالإصبع قائم فيكون فيه إشارة إلى الوحدانية ويحتمل أن يكون بدأ به لمجموع ما ذكرناه والله أعلم
ويترتب على هذا من الفقه أيضاً أن الذي يفعله اليوم المترفون من أبناء الدنيا كونهم يقدّمون من أول ليلة العيد لحماً ويطبخون الألوان ويأكلون قبل ذبح الأضحية هذا هو فعل الذي يضحي منهم وأكثرهم مخالفون للسنة بتركها البتة ولذلك قد تنكرت معارف الشرع بالبدع والمخالفات التي أقاموها لأنفسهم ويحتجون بأن يقولوا هذه عادة الناس وكيف نقول تأسياً لمن تركوا سنة نبيهم عليه السلام ويؤثرون عادة نفوسهم الذميمة
وفي أكله عليه السلام يوم الفطر أيضاً - قبل الغدو - فائدة أخرى وهي تقرير قاعدة شرعية بالفعل لأنه - كما تقدّم لنا في غير ما موضع - أن تقعيده عليه السلام القواعد الشرعية وأحكامها
بالفعل أبلغ
وبقي بحث فيمن لم يجد ولم يقدر على التمر ولا على شيء حلو فالجواب أن نقول إنما
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه استجمر الرجل استنجى بالحمار وتطهر بها من الخَبَث عند عدم وجود الماء والسنّة الوتر في ذلك
والجمار هي الحجارة الصغيرة
٤٣٤

يؤمر بذلك مع الإمكان وعند عدم الإمكان قام العذر وصاحب العذر مسامح في الترك لكنه يفطر ولو على الماء حتى تحصل له نسبة ما في الاتباعية لأنه قد جاء عنه أنه كان إذا لم يجد تمراً وكان صائماً يفطر وإن يسر الله له بعد ذلك في شيء أكل ولا يجوز خلاف ذلك ولذلك عدمك الإمكان لما أمرت به عذر وتركك إياه مع الإمكان له وِزْر وطالب العذر مع
قيل
الإمكان مضيّع
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
٤٣٥

-٥٨-
حديث العمل في أيام التشريق
عن ابن عباس رَضِيَ الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ قال ما العمل في أيَّام العشر صلى الله عليه وسلم أفضَلَ مِن العمل في هذِهِ قالوا ولا الجهاد قالَ وَلا رجُل خَرجَ يُخاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فلم يرجع بشيء
ظاهر الحديث يدل على أنه ليس شيء من الأعمال أفضل من الأعمال في أيام التشريق وهي الثلاثة أيام التي بعد يوم النحر والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن فيه دليلاً على أن هذه الأيام - وإن كانت أيام عيد - فإنما هي للعبادة لا للهو وما يفعل الناس فيها اليوم من أنواع البطالات فممنوع بهذا الحديث فإن احتج محتج بقوله عليه السلام لكل أمة عيد وهذا يوم عيدنا ۱ فقد بَيَّنَ عليه السلام ما هو المباح فيها أيضاً بقوله عليه السلام إنما هي أيام أكل وشرب وذكرِ الله ۳ وقال عليه السلام أفضل ما يعمل
فيها إراقة الدماء ۳
السنة
في إراقة الدماء أن يأكل مما يتقرب به ويتصدق ويهدي وقد شرع فيها أعلى العبادات وهي الذكر بقوله عليه السلام ما عمل آدمى عملاً أنجى له من ذكر الله ٤ ونفقة المال في الضحايا لقوله عليه السلام تنافسوا في أثمانها فإنها مطاياكم إلى الجنة وقد جعل فيه الصدقة من الأضحية والصدقة كما قال عليه السلام تطفىء غضب الرب ٥ والذي منع فيها
عائشة رضي الله عنها
۱ لفظه يا أبا بكر إن لكل أمة عيداً وهذا عيدنا أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن السيدة أوله أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجلّ أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن نبيشة الهذلي
رضي الله عنه
۳ رواه الترمذي وابن ماجه في الأضاحي ٤ لفظه ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب من ذكر الله أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ٥ لفظه إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه
٤٣٦

من مجاهدة النفس هو الصوم لا غير وبقي باقي العبادات مطلوب على الوجوب أو الندب لأن الفرض لا يسقط في وقت من الأوقات مع القدرة عليه لا في عيد ولا في غيره وجاء هذا الحديث يحض على طلب المندوبات وجعلها أعلى مما هي في غيرها تأكيداً لها
وهنا بحث وهو هل تفضيل الأعمال في هذه الأيام لعلة مفهومة أو تعبد ليس إلا فنقول بل لعلة وهي أنه قد تقرر من قواعد السنة المحمدية أن أوقات الغفلات العباداتُ فيها أفضل كما جاء في الصلاة التي بين العشاءين وما فيها لأنه وقت غفلة الناس وكذلك قيام الليل لما فيه من الغفلة أيضاً لأن الناس إذ ذاك في حال نوم وغفلة وكذلك صلاة الضحى لما فيها أيضاً من غفلة الناس بأسبابهم وهذا كثير فلما كانت هذه الأيام أيام أكل وراحة للنفوس فهي في الغالب
يتسلط عليها النوم الكثير والغفلة وأما اليومَ فقد زُهِد في القُرَب وجُعِلَتْ للهو والمحرمات واحتجوا بما جاء أنه دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها جوارٍ من بني النجار يضربن بالدف فاضطجع و على فراشه وحوّل ظهره إليهن وإذا بأبي بكر رضي الله عنه قد دخل فانتهرهنّ وقال أمزامير الشيطان في منزل الرسول هر فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إليه وقال له دعهن فإنه يوم عيد ۱ وهذا لا حجة فيه لأن ذلك كان أول الإسلام والخمر إذ ذاك حلال والربا حلال والقمار حلال وكثير من الفرائض لم تفرض بعد ثم جرى الأمر بخلافه ألا ترى إلى قوله عليه السلام يوم فتح مكة إنما بعثت بكسر الدف والمزمار ۳ فخرج الصحابة رضوان الله عليهم يأخذونها من أيدي الولدان ويكسرونها فما جاء من الأحاديث أول الإسلام في إباحة شيء ثم حرم بعد فلا حجة فيها لأنها منسوخة وقد نص عليه السلام على أن لهو المؤمن لا يكون إلا في ثلاث في رميه عن قوسه وتأديبه لفرسه وملاعبته لأهله ۳ فمن أين يكون لها رابع والأحاديث في ذلك كثيرة وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ 4 فاللهو ممنوع شرعاً في العيد وغيره إلا ما ذكرناه آنفاً وفضلت أيضاً من نوع آخر - أعني أيام التشريق - وهو أنها لما كانت أيام محنة للخليل عليه

1 أخرج مسلم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال مزمار الشيطان عند رسول الله فأقبل عليه رسول الله وقال دعهما وفي رواية للشيخين دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد
٢ أخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة إن الله أمرني أن أمحق المزامير والكيارات والمعازف ۳ أخرج أصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته زوجته
٤ سورة لقمان من الآية ٦
٤٣٧

السلام ثم من عليه بأن أبدلت له المحنة بمنّة وأيّ مِنّة فصارت بهاتين الصفتين أفضل الأيام والمولى سبحانه إذا مَنَّ على مَنْ مَنَّ عليه من عباده بمنّة لا يزيلها عنه فأبقى عزّ وجلّ لهم ذلك الفضل وزاد فيها بأن أبقى لهم النعمة وهي ما شرع عزّ وجلّ من القربات ورفع المحنة
عنهم وهي ما كان من ذبح الولدان
وهنا بحث في قوله عليه السلام ما العمل الألف واللام هنا هل هي للجنس فيكون فيها التساوي بين المفروضات والمندوبات على اختلافها أو هي للعهد وهي أعمال مخصوصة أما صيغة اللفظ فمحتملة للوجهين معاً فيكون فضل الفرائض فيها أفضل من غيرها كما قال عليه السلام في صلاة الصبح من شهدها في جماعة فكأنما قام ليلة وقال في العشاء من
شهدها في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ۱ فترى هذه أديت في جماعة والأخرى كذلك قدر النصف في الأجر وما ذاك إلا لما فيها - أعني في صلاة الصبح - من كثرة المشقة زائداً على العتمة لأن أكثر الناس في الصبح على حال جنابة ونوم وغفلة أكثر مما في العتمة فيكون أداء الفرائض في هذه الأيام مثل ذلك سواء لما فيها من كثرة الغفلة والجنابة والأكل والراحة فتكون بهذا النظر أفضل من غيرها وذلك مثل الجهاد لأن الجهاد فيه فرض وتطوع كما هي الأعمال في هذه الأيام فيها فرض وتطوع واحتمل أن تكون للعهد وهي إشارة إلى الأحاديث التي ذكرنا أولاً من أنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى والأعم أولى من أجل كثرة الفائدة فيكون ما أوردناه أولاً من تلك الأحاديث المعنى فيها أن الذي يعمل في هذه الأيام بعد الفرائض أولى ما فيها ما ذكر عليه السلام من إراقة الدماء والذكر والصدقة ولا تمنع باقي الأعمال
ومما يقوي ما قلناه قوله عليه السلام ما عمل آدمي أفضل فجاء بها في باب الأفضلية وما جيء به في باب الأفضلية جاز عمل غيره معه وإن لم يقدر عليه فلا يخلي نفسه من الخير الزائد
على الفرائض
الوجه الثاني وفيه دليل على فضيلة الجهاد يؤخذ ذلك من قول الصحابة رضي الله عنهم ولا الجهاد فلولا أن ذلك الحكم قد تقرر منه الا الله ما سألوه عن هذا النوع وقد جاء فيه عنه عليه السلام أنه قال أعمال البر في الجهاد كبزقة في بحر
1 أخرج مسلم من حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعاً من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح
فكأنما قام ليلة
سبق الكلام عنه وقلنا قال العراقي في تخريج الإحياء ۳۰۸/ باب وجوب الأمر بالمعروف رواه الديلمي "
٤٣٨

وهنا بحث وهو لِمَ نَوَّعَ الجهاد وجعل ما هو محذور شرعاً في غيره أرفع الأشياء في الجهاد وهو قوله خرج يخاطر بنفسه وماله وهذا ممنوع في غيره لأن المخاطرة ممنوعة ثم لم يجعله أفضل إلا بعد تحقيق الهلكة بقوله فلم يرجع بشيء وقد قال جل جلاله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة ١
فالجواب أن نقول كل من زاد من نوع ما أمر به حصلت له زيادة المدحة فإن كانت زيادته من غير ذلك النوع لم تحصل له زيادة مدحة مثال ذلك التوكل هو من شرط الإيمان وما جاءت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله حق توكله وكذلك لما كان الإيثار من خصال الإيمان لم تأت المدحة إلا على الزيادة فيه بقوله عزّ وجلّ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ٢
وهذا إذا تتبعته كثير
فلما كانت مشروعية القتال تفضي إلى قتل النفس فزاد المخاطر فيما شرع له بارتكاب المخاطرة حصلت له الفضيلة على غيره للمعنى الذي أشرنا إليه لأن تلك الزيادة في كل موضع أمر فيه بشيء دالة على الإخلاص والصدق وهما أرفع الأعمال وطلب مرضاة الرب بتوفية ما أمر والزيادة على ذلك زيادة في استدعاء الرضا كما قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ ولهذا إذا مدح الفارس قيل فيه فارس أحمق وهو من أعلى مدحه لأن الأحمق هو

الذي يغرر بنفسه وبذلك تظهر فروسيته
الوجه الثالث وفي هذا دليل صوفي لأنهم يقولون لا تبلغ الأحوال النفسية إلا بإذهاب النفس النفيسة والمخاطرة في المجاهدات بها تبلغ الغاية فإذا كان طالب الدنيا الدنية يقول أُحاوِلُ مُلْكاً أو أموتَ فأعْذَرا ٤
من حديث جابر بإسناد ضعيف وقال الزبيدي في شرح الإحياء ۸/۷ ورواه أبو الشيخ ابن حيان من حديث أنس ولفظه في مسند الفردوس ۳۹۱٤ ما أعمال العباد كلهم عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر وفي رواية إلا كتفلة تفلها رجل في بحر لجيّ
۱ سورة البقرة من الآية ١٩٥
سورة الحشر من الآية 9
۹
۳ سورة طه من الآية ٨٤
٤ عجز بيت لامرىء القيس عندما لحق بقيصر يستعينه على استرداد ملكه والثأر لأبيه شرح ديوان امرىء القيس
للأعلم / ص ٥٦
بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دُونَهُ وأيقن أنا لاحقانِ بِقِيْصَرا فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنما نحاول ملكاً أو نَمُوتَ فنعذرا
٤٣٩

وملكها ـ على أن يحصل - ذاهب لا محالة وقد يعقب في الآخرة في الأغلب تعباً دائماً فما بالك بمن يطلب ملكاً أبدياً في حضرة قدسية في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ ۱ وقال وبـــذكــــراه عللــونـي فتقواه شعاري
دعوني يا عذالي في هواه خلعت عذاري
وزمّلوا مطايا أعمالي حثيثة للجوار وبالنفوس جودوا بلا تلعثم منكم ولا اذكار وأيقنوا بوصل الحبيب عند فيض الأدمع الغزار
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 سورة القمر من الآية ٥٥ كذا وردت في جميع النسخ
٤٤٠

1941
حديث جواز التنفل على الدابة في السفر
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى راجليْهِ حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ يُومىء إيماءً صَلاةَ اللَّيل إِلا الفَرائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على جواز التنفل في السفر للراكب للقبلة وغيرها والكلام عليه من
الوجه الأول منها هل هو خاص بمن له راحلة أو هو لكلّ من ركب أي شيء من الدواب الظاهر - والله أعلم - أنه لكل راكب ركب ما ركب من الدواب بدليل ما جاء عنه عليه السلام أنه فعل ذلك على غير الراحلة وقد جاء أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم كانوا يتنفّلون إذا كانوا ركباناً أي شيء ركبوا من الدواب
الوجه الثاني فيه دليل لمالك رحمه الله حيث يقول إنه يتنفّل الراكب متوجهاً للقبلة أو لغير القبلة عند ابتداء صلاته وانتهائها خلافاً لمن يقول إنه أول إحرامه يُحرم للقبلة وحينئذ يصلي حيث كان توجهه من الجهات وهذا مصادم للحديث لأنه لم يفرق فيه بين أول الصلاة واخرها وهنا بحث وهو هل هذا خاص بصلاة الليل - كما ذكر في الحديث - أو هو جائز في الليل والنهار فإن قلنا إن هذا تعبّد فلا يتعدى به صلاة الليل وإن قلنا إنه لعلة وهي التخفيف عن المسافر - كما خفف عنه في المفروضة - بأن وضع عنه شطراً فيتعدى الحكم لغيره وهذا هو الأظهر وعليه جمهور الفقهاء فعلى هذا فيجوز التنفل للمسافر ليلا كان أو نهاراً وهنا بحث وهو هل هذا مطلق في كل ما يُطلق عليه اسم سَفَر أو لا يكون إلا في شيء الحدود من جميع الأسفار فالجواب أن نقول هذا موضع خلاف بين العلماء فمن قال إن الصلاة تُقصَر فى كل ما يطلق عليه اسم سفر جاز له التنفل على قاعدة مذهبه ومن قال لا يكون إلا في مسافة معلومة وحال معلوم لم يجز له التنفل هنا إلا على قاعدة مذهبه أيضاً
٤٤١

وضابط الكلام فيه أن نقول هو كالقصر كلّ فيه على مذهبه على الاختلاف الذي في قصر الصلاة فالأكثر من العلماء أنه لا تقصر الصلاة إلا في سفر لا يكون معصية لأن العاصي لا يترخص وأن يكون قدر مسيره يوماً وليلة ويكون ما نحن بسبيله تابعاً لهذا الخلاف لأنه رخصة وكذلك نص عليه العلماء ونصوا أيضاً أنه لا تكون الصلاة إلا كما هو نص الحديث ليس إلا وأن
يقصد بإيمائه وجه الأرض لا كور الراحلة على مذهب مالك رحمه الله
الوجه الثالث فيه دليل على وجوب الاتباع له عليه السلام في أفعاله لأنه لم يجىء أن
أحداً من السلف المبارك اختلف في هذه الصلاة وما نقلت إلا فعلاً الوجه الرابع فيه دليل على أن له عليه السلام أن يشرع ما شاء لأنه لم يُرو عنه أنه أخبر عن هذه الصلاة أنها بأمر من الله تعالى لأن كل ما كان بوحي أخبر به أنه وحي من الله تعالى الوجه الخامس قوله ويوتر على راحلته قد يستدل به من يرى أن الوتر نافلة كما احتج به بعض أصحاب مالك لكنّ هذا لا يتمّ به الدليل من هذا الموضع لكونه عليه السلام فعله على نحو ما فعل النوافل لأنه يحتمل أن يكون كما ذكروا ويحتمل أن يكون هذا من الفرائض التي خصت بالرخصة لأنه واحد لا ينقسم فتكون الرخصة في حقه أن يصلي على الراحلة فإذا احتمل
سقط الاحتجاج
الوجه السادس فيه دليل على فضيلة التنفل بالصلاة يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام فعله في السفر وهو موضع تخفيف المفروضة وتغيير الهيئة من أجل المشقة ثم إنه عليه السلام أبقى اسم الصلاة وعملها مطلوب على نَدبيَّتِهِ كما كان
وهنا بحث وهو ما الحكمة في إبقائها مع تغيير حالها في المرض والخوف والسفر كما هو معروف ولم يسامح في تركها في حال من الأحوال مع بقاء العقل فنقول والله أعلم لوجهين أحدهما أنه لما جعلت فرقاً بين الكفر والإيمان فعلامة الإيمان مطلوبة في كل حال كما هو الإيمان مطلوب في كل حال ما عدا زوال العقل فإنه إذ ذاك غير مكلف الوجه الثاني لما جعلت صلة بين العبد وربه فالصلة بين العبد والرب محتاج إليها العبد فأبقيت عليه وخففت عليه في تنويعها بحسب عذره كما هو معلوم ولهذا المعنى قال واستعينوا بالغَدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجَة ۱ لأن أكبر الاستعانة للعبد الضعيف الصلة التى تكون بينه وبين مولاه فيها
يحسن عليه العائد فيما يؤمله
۱ جزء من حديث أوله إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو موضوع الحديث ٦
الم
الم
الله
ذل
الا
A
و
٤٤٢

خَلَقْتُ
ومما يشبه ما ذكرناه في شأن الصلاة ما جاء في شأن العبادة لما كان المراد منا بمقتضى الحكمة الربانية العبادة ودوامها ولذلك خلقنا كما أخبر مولانا سبحانه بقوله عزّ وجلّ وَمَا تلقت الجنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونو ۱ وهو عزّ وجلّ غني عن عبادتنا وعَنْ كل شيء لكن اقتضت الحكمة لأمر لا يعلمه إلا هو كما قال عزّ وجلّ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ٢ أي الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في خلقنا وخلق جميع المخلوقات وما تحدث فيه الناس هنا على اختلاف أقوالهم فكل يحتاج إلى دليل قطعى فى ذلك ولا يكون الدليل القطعي في ذلك إلا من طريق النبوة ولم يجىء فيما نحن بسبيله من طريق النبوة شيء فالذي يجب هنا من الإيمان هو أن نؤمن أنه عزّ وجلّ المستغني عن جميع المخلوقات بأسرها وأنه جلّ جلاله ما خلق منها ذرة ولا أكبر ولا أصغر إلا لحكمة والحكمة فيما عقل منها بطريق صحيح أو محتمل إذا لم يكن ينافي أصول الشريعة

وفيه زيادة قوة في الإيمان لأنه إذا كان الإيمان على القاعدة التي ذكرناها آنفاً وهي غناه عزّ وجلّ عن كل شيء وأن كل الأشياء لحكمة استأثر بها جلّ جلاله مع التنزيه والتقديس كما يجب فهذه زيادة - لا شك في ذلك من الله علينا بذلك بمنه
ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه وهو أن ما خلقنا إليه وأريد منا من دوام العبادة مع ما طبعنا عليه من ضعف الخلق وما فطرنا عليه من الاحتياج إلى ضرورة البشرية من أكل وشرب وغير ذلك مما نعلمه من نفوسنا بالضرورة فجمع ذلك هنا بحكمة لطيفة لا يُنتبه إليها إلا بفيض رباني وإلهام لمن ألهم إليها لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن أعلى العبادات وأنجاها من عذاب الله ذكر الله فجعل
لنا أجلّ العبادات ـ وهو ذكره عزّ وجلّ - في كل حركاتنا وسكناتنا فمنها فرض ومنها ندب والندب فيها بعضه أكد من بعض فجعل لنا ألا نأكل ولا نشرب ولا ننكح ولا نلبس ثوباً ولا نجرده ولا ندخل فراشاً ولا ندخل منزلاً ولا نخرج منه ولا ندخل موضع الحاجة ولا نخرج منه ولا نصطاد صيداً ولا نذبح شيئاً مما نأكل لحمه ولا نسافر إلى موضع ولا نتكلم كلاماً له بال إلا ونبتدىء ذلك كله بذكره عزّ وجلّ وذكر أسمائه
فمنها ما إذا لم نفعله حرم علينا ذلك الشيء ولم يحل لنا أكله مثل التسمية على الحيوان المذكى على الصيد وما أشبه ذلك لقوله تعالى وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ٤
1 سورة الذاريات من الآية ٥٦
سورة الفرقان من الآية ٦ ۳ هنا جواب لما ٤ سورة الأنعام من الآية ١٢١
٤٤٣

رأحلت لنا ذكاة أهل الكتاب وإن كانوا كافرين بسيدنا محمد لكن لما أقروا به جل جلاله وذكروا اسمه عند ذكاتهم والأمر لهم كما هو لنا أبيح لنا أكل طعامهم والمجوس لما لم يعترفوا
به عزّ وجلّ لم يَحِلُّ لنا من ذكاتهم شيء لبعد النسبة
ومنها ما الذكر فيه سنة مثل دخول موضع الخلاء والمنزل والفراش وما أشبه ذلك ومنها ما الذكر فيه مستحب ومثل استفتاح الأعمال لأهلها من دنيا كانت أو أخرى بالتسمية وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أتاها صانع يصنع لها شيئاً مثل خياطة أو غيرها من ضرورات الدنيا تسأله فى أثناء عمله هل سمّيت الله عزّ وجلّ أم لا فإن قال لها إنه سمّى تركته وما هو بسبيله وإن قال لها إنه لم يفعل تقيمه عن تمام العمل لكونه لم يذكر الله أولاً وهذا وما أشبهه من قبيل المندوب وكذلك الذكر عند الاستيقاظ من النوم وشبهه فانظر إلى هذا المعنى العجيب وهذه الطريقة السهلة اللطيفة ألا يعلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۱ إلا أن هذا المقام لا يحصل ولا يشم منه رائحة إلا مَن مُنَّ عليه باتباع سنته ل ثم زاد عزّ وجلّ هذا المعنى الذي أشرنا إليه تأكيداً بقوله على لسان نبيه عليه السلام مَن ذَكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي ومَن ذكرني في مَلا ذَكَرتُه في ملأ خير منهم ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وبقوله عزّ وجلّ في كتابه ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَما وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ ٣
فانطر إلى هذه الإشارة حتى لا يكون من العبد حالة من الأحوال إلا وهو فيها في عبادة مستقلة لأنه لولا ما جاء هذا على هذا النوع لم تكن تعلم العبادة إلا في التخلي عن الدنيا مرة واحدة والاشتغال بالآخرة وهذا مع ما خلقنا عليه من الاحتياج متناف فجَمَع لنا بهذا الطريق العجيب وأرشدنا إلى جميع الخير بأيسر الأشياء وأقربها فضلاً من الله ورحمة وكل ما ذكرنا أولاً من أنه أمرنا بالتسمية عند ابتداء الأكل وغير ذلك ولم نُسَمِّ في ذلك حديثاً إنما قصدنا بذلك الإرشاد والإلهام لذلك الخير ليقدر قدره وما من وجه مما ذكرنا إلا وقد جاءت فيه أحاديث عديدة لا واحد فإن أطال الله العمر وأمكن العون منه ألفناه - إن شاء الله - في كتاب وحده ليكون أيسر لمن أراد الوقوف عليه بعونه وفضله إن شاء الله تعالى
۱ سورة الملك من الآية ١٤
أوله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني إلى آخره رواه الإمام أحمد والشيخان
والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
۳ سورة ال عمران من الآية ۱۹۱

٤٤٤

له
رفوا
مية
ولهذا المعنى فَضَل أهل الصوفة غيرهم
لأنهم لا يزالون دائماً ذاكرين متوجهين فحصل
لهم اسم الخصوص بما به خُصوا ولذلك قالوا إن كنت صادقاً في محبتنا فالحب حيث أب بذكر حبيبه يَؤُبُّ ۱ لأن دوام الذكر منادمة ومحاضرة يشهد لذلك قوله جل جلاله على لسان نبيه عليه السلام أنا جليس من ذكرني ٢ فافهم إن كنت فطِناً ما به عُنيت ومن أنت يا مسكين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ي
1 الحب المحبوب والمحبّ أب تهيأ واشتاق وقصد
أوله قال موسى أي رب أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك قال يا موسى أنا جليس من ذكرني أخرجه
ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن كعب الأحبار
٤٤٥

ذكر
حديث أشراط الساعة
عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلمِ وَتَكثُرَ الزَّلازِلُ وَيَتَقارَبَ الزَّمانُ وتظهرَ الفِتَنُ وَيَكثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتلُ - حَتَّى يَكثُرَ فيكُم المالُ فَيَقيضَ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن الخمسة المذكورة فيه من علامة الساعة وقربها والكلام عليه من
منها هذا العلم الذي يُقبض ما المراد به هل المنقول وغيره فنقول - والله الموفق - العِلم المشار إليه هنا هو النّور الذي به الفهم عن الله و لعن رسول الله الله لأن الكتب لم تزل بل هي تكثر لكن الفهم والعمل هو الذي قلَّ كما تكلمنا عليه قبل في الحديث الذي قال عليه السلام فيه إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ۱

وقوله وتكثر الزلازل فهل هذا فيه معنى من الحكمة يفهم أو ليس لنا من طريق إلى ذلك أما وجود الحكمة فيه فلا شك فيها وأما هل نعرفها أم لا فالجواب أما بالنظر بمقتضى ما جاء في الشريعة من الحكمة أو بالعادة الجارية إذا نظرنا بمقتضاها فهي واضحة وأما بالقطع فما أحد يدري ذلك فبحسب ما استقرينا من الشرع وجدنا الحكمة فيه من وجهين الوجه الواحد أنه ما أجرى الله العادة في الزلازل إلا لوجهين الواحد انتقاماً ممن يريد كما ورد في الأخبار أن كثيراً من الناس هلكوا بها حتى إلى زماننا هذا وقد تواتر عندنا بإفريقية حين كنت بها أن موضعاً زلزل بأهله حتى ساخت بهم الأرض وكانوا أهلاً لذلك لما كان فيهم من

تتمة الحديث ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما
العذا
تتقدم
و بجے کے بچے کی پیج تاح
محل
المن
الما
وام
الي
أنا

٤٤٦

1,
الفساد و الآخر تخويفاً لأهل التخويف لأنها من جملة الآيات وقد قال عزّ وجلّ ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالآيَاتِ إِلَّا تخويفا ۱ فإذا قربت الساعة فبالقطع أن الفساد يكثر وهذا من جملة العقاب ـ كما ذكرنا ـ وليتذكر بها أيضاً من سبقت له السعادة

وأما الوجه الآخر من الحكمة فهو لما كانت القيامة بالزلزلة العظمى ـ كما أخبر جلّ جلاله ـ فَدُكَّنَا دَكَّةً وَاحِدَةً ٢ وقال جل جلاله وَلَقَدْ أَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَهِم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بابا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ۳ المعنى أنهم أولاً أخذوا باليسير من العذاب إعذارا لهم لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا جاءهم العذاب المهلك فهذه سنة الحكيم أن يبدأ من العذاب بالقليل ليرجع من فيه أهلية للخير ويحق الأمر على من هُوَ له أهل فكذلك الساعة تتقدمها تلك الزلازل لأن الحكمة اقتضت الإنذار وإن كان لا ينفع من حقت الكلمة عليه فيتمادى على ما هو عليه من الفجور فيأتيه ذلك البلاء العظيم حِكْمَةٌ بَلِمَةٌ فَمَا تُنْنِ النُّذُرُ ٤ فلما كانت الساعة كما ذكرنا أولاً زلزلة واحدة تدك بها الأرض دكاً تقدمت الزلازل وكثرت حتى تكون كثرتها تخبر بوجود الزلزلة العظمى من جنسها
وقوله عليه السلام ويتقارب الزمان فيه بحث وهو هل يتقارب الزمان حسًا أو معنى محتمل والظاهر أنه اهما معاً لأنه قد جاءت الإشارة في الآثار بالمعنيين منفردين فيكون المقصود - والله أعلم - جمع المعنيين أما أحدهما وهو المعنوي فقد ظهر فنحتاج إذا إلى بيان المعنوي والحسي والإشارة التي في الآثار بهما
فأما المعنوي فهو كناية عن نقص العمر فإن رأس مال المرء عمره وربحه فيه حسن عمله وإذا قل العمل المبارك كان الزمان ناقصاً لأجل نقص الفائدة فيه مثل الشجر والثمر إذا نقص الشجر قلنا نقص الثمر قال جل جلاله وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ٥ وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول كل يوم لا أزداد فيه علماً ولا ﴾ أتخذ فيه يداً لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم وقال بقية عمر المؤمن لا ثمن لها
۱ سورة الإسراء من الآية ٥٩ سورة الحاقة من الآية ١٤ سورة المؤمنون الآيتان ٧٦ و ٧٧

4 سورة القمر من الآية ٥ ٥ سورة البقرة من الآية ١٥٥
٦ رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في جامع العلم بسند ضعيف عن السيدة عائشة
رضي الله عنها
٤٤٧

يصلح فيها ما فسد ۱ فما يصلح ما فسد إلا بالتوبة والعمل الصالح لأنه يتدارك به نفسه وما ذاك - أعني قلة العمل - إلا لغلبة حب الدنيا على القلوب والاشتغال بها وتقدمتها على عمل الآخرة وقد نبه على هذا المعنى بقوله أنتم في زمان وذكر من صفات أهله أنهم يُبدون أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي زمان وذكر من صفات أهله أنهم يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم وقال عليه السلام من ابتدأ بحظه من دنياه فاته حظه من اخرته ولم ينل من دنياه إلا ما كتب له ومن ابتدأ بحظه من آخرته نال من آخرته ما أحب ولم يفته من دنياه ما كتب له ۳ عليه السلام من شروط الساعة وذكر فيه ويقل العمل والأحاديث في هذا الشأن كثيرة فبان ما
قلناه من الوجه المعنوي هذا من طريق الفقه والنقل
وقال
وأما من طريق أهل المعاملات فإنهم يقولون الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك ومعناه عندهم إن لم تقطعه بالعمل قطعك بالتسويف هذا من طريق الأعمال الأخروية وأما من طريق الأعمال الدنيوية فقد ظهر أيضاً النقص فيها في جميع محاولاتها وبان أما الصناع فما منهم من يقدر أن يبلغ في صنعته مثل ما سمع عَمَّن تقدم وكذلك التجار وكذلك الفلاحون وكذلك الملوك وغير ذلك من وجوه متاع الدنيا النقص الكثير قد ظهر في جميع ذلك وما ذاك إلا من قلة توفيتهم لحقوق الله تعالى وأحكامه وتهاونهم بذلك وكثرة مكر بعضهم ببعض فارتفعت البركات من أبدانهم وأموالهم وارائهم وعاد الوبال على الجميع وهم لا يشعرون ويتعجبون من قلة البركات من أين تأتيهم وهم لم يتركوا من مجهودهم في الطلب شيئاً
فجاوبهم لسان الحال قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ٤ لأن هذه الصفات تخالف مقتضى الإيمان لأن الإيمان - كما أخبر لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ٥ وقال عليه السلام المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ٦ وقال عليه السلام الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وعلى ذلك كان السلف رضي الله عنهم
1 لم نقف على مصدره انظر تخريجه في الحديث ١٤
۳ لم نقف على مصدره
٤ سورة ال عمران من الآية ١٦٥
0 أخرجه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

۷ قطعة
لعله أراد حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعند مسلم من الخير أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قطعة من حديث أوله من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما =
ومن ستر

4
کال
الار
لي
333
قال

٤٤٨

وقد رأيت في بعض التواريخ أن أحد الملوك لَمَّا ملك بعض البلاد وجد في الخزانة حبة قمح جرمها زائد على المعروف من القمح بزيادة كثيرة فسأل عنها فلم يجد من يعرف لها خبراً إلا شيخاً كبيراً قد عُمِّر فقال أعرفها ولذلك أن شاباً وشيخاً اشتركا في زرع فلما درسا زرعهما قال أحدهما للآخر ننقل هذا الطعام إذا قسمناه بالنوبة تحمل أنت مرة وأحرس أنا نصيبي ونصيبك ثم أحمل أنا مرة أخرى وتحرس أنت نوبتك
فلما قسما جعل الشيخ يحمل مرة من نصيبه وكان ذا عيال ويقعد الشاب يحرس فإذا

غاب الشيخ يقول الشاب في نفسه هذا شيخ وله عائلة فأحتاج أن أعينه فيأخذ من نصيب نفسه ويزيد في نصيب شريكه فإذا نقل الشاب في نوبته وقعد الشيخ يحرس يقول الشيخ في نفسه هذا شاب والناس يقصدونه فأحتاج أن أعينه فيأخذ الشيخ من نصيب نفسه ويزيد في نصیب شريكه فبقي ذلك دأبهما وهما ينقلان والغَلَّة تكثر ويكبر جرمُها حتى عَيِيَا وفشلا من حمل القمح ورأياه قد كثر حتى خرج عن الحَدّ المعروف
فسأل أحدهما الآخر وحلفه أن يصدقه ما يفعل بعده فأخبر كل واحد منهما صاحبه ما يفعل في غيبته فاشتهرت المسألة حتى بلغت أميرهم فوجه لأن يرى من ذلك القمح شيئاً فلما رآه قال ينبغي أن يُجعل من هذا شيء في الخزانة فيبقى لمن بَعْدُ فيه موعظة وتذكار فلما وفيا حقيقة الإيمان من طريق الأدب عادت عليهم بركات الإيمان وقد قال مولانا جلّ جلاله ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ١
وأما المحسوس فلم يظهر بعد بدليل أن ساعات الليل والنهار باقية على حالها وقد أخبر بنقصها حِسا بقوله تكون السَّنَّة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة إلى آخر الحديث فهذا مما بقي خروجه وقوله عليه السلام وتظهر الفتن هذه الألف واللام هل هي للجنس أو للعهد احتملت
الأمرين معاً
فإن كانت للجنس فكل ما ذكر عليه السلام في هذا الحديث من جملتها وكذلك جميع ما
كان العبد في عون أخيه الخ أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان
والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ۱ سورة الأعراف من الآية ٩٦
لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمة بالنار أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه
٤٤٩

جاء من الأحاديث فيها إلا أن هنا بحثاً وهو ما فائدة قوله عليه السلام وتظهر الفتن وهو عليه السلام قد أخبر عنها معيّنة في أحاديثَ عِدة فالجواب أن إخباره عليه السلام بها على هذه الصيغة لوجهين أحدهما تأكيد لما أخبر عليه السلام به من الفتن أنه لا بد أن تظهر في عالم الحس قبل قيام الساعة و الوجه الآخر أنها تكثر عند قرب الساعة ويتوالى خروجها بعضها إثر بعض حتى كأنها دائمة الظهور ولا تكاد تزول كما أخبر عند كثرتها يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ويُمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعَرَض من الدنيا ۱
وإن كانت بمعنى العهد فتكون الإشارة إلى تلك الفتن الكبرى التي هي مع الساعة كهاتين وهي مثل الدجال وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وقد جاء أن التي تظهر
منهن أولاً يتبعها الباقي وينقضي جميعهن في ستة أشهر أعاذنا الله من جميعهن بمنّه وقوله عليه السلام ويكثر الهرج - وهو القتل يريد القتل الذي يكون بغير حق لأن القتل في الحدود رحمة للبلاد والعباد لأنه قال الأنْ يُقامَ حَدٌ من حدود الله في بقعةٍ خَيرٌ لهم من أن تُمطِرَ عليهم السّماءُ ثلاثين يوما ۳ وفي حديث ثان أربعين يوماً وما يكثر القتل في غير حق إلا لقلة العلم والدين وعند قرب الساعة يكثر ذلك وقد جاء ما يؤيد هذا وهو قوله عليه السلام حتى لا يعرف القاتل فيم قتل ولا المقتول فيمَ قُتِل ٤
وهنا بحث وهو أن هذا القتل مذكور في جملة الفتن فلم كَرَّره في هذا الحديث فالجواب أنه إنما كرره لأجل شناعته وقبحه
وقوله عليه السلام حتى يكثر فيكم المال فيفيض المال هنا المراد به الفضة والذهب لا غيرهما وإن كان ينطلق المال عند العرب على الإبل وعند كل ناس بحسب ما غلب عليهم وقد تقدم الكلام على هذا قبل فنحتاج الآن أن نبين كيفية خروجه ولماذا نخصصه بأنه الذهب والفضة فيتخصص بدليلين أحدهما من الحديث نفسه و الآخر من غيره من الأحاديث
پیله
اتنا
مالة
۱ لفظه بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه إشارة إلى حديث بعثتُ أنا والساعة كهاتين وأشار بالوسطى والسبابة أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن حنبل والطبراني والدارمي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ۳ لفظه حَدٌ يُعمَل في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمطَروا ثلاثين صباحاً أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه

لفظه والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل أخرجه مسلم وتفرد به عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤٥٠

ي
عة
من
لا
فأما الذي من الحديث نفسه فقوله عليه السلام يفيض فإن هذه الصفة لا تستعمل حقيقة إلا فيما يخرج من الأرض من المال والماء وقد تستعمل مجازاً في غير ذلك إلا أنه لا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل والحكم أن يحمل اللفظ على ظاهره ما لم يعرض لذلك معارض شرعي ولا معارض هنا
وأما الدليل الآخر الذي يؤخذ من غيره من الأحاديث فإنه قد جاء أن الفرات ينحسر عن جبل من ذهب فيقتتل عليه الناس حتى يقتل من المائة تسعة وتسعون وما يبقى من المائة غير واحد ۱ وقد جاء أن الأرض تخرج كنوزها إلا أنه بعدما يلقى الشح على الناس ويقل عندهم المال من أجل الشح ثم يأمر الله تعالى الأرض أن تخرج كنوزها فيمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها منه فيقال له لو جئت بها بالأمس أخذناها وأما اليوم فلا حاجة لنا بها
وأما كيفية خروجه فكما تقدم في هذين الدليلين المذكورين من خروج كنوز الأرض وجبل الذهب وهذه العلة التي هي قلة المال مع الشح موجودة في كل الأزمان لقوله عليه السلام ما طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يقول أحدهما اللهم أعط لمنفق خلفاً والآخر يقول اللهم أعط لممسك تلفا ۳
وهنا بحث إذا قلنا إن قلة المال من الشح فما موجب خروجه فالجواب أن الفتنة في خروجه أكثر مما في منعه لا سيما مع العلة التي ذكرنا أنه لا يجد لمن يعطي صدقته وأي فتنة أكبر من هذه وخروج المال أيضاً من أكبر الفتن
وفائدة هذا الحديث التصديق بما فيه من الآيات وقوة الإيمان بقدرة القادر على ذلك والعمل على الخلاص منها بما أخبر هو الا الله وحين ذكر الفتن فقيل ما تأمرنا إن أدركنا ذلك فقال الجأوا إلى الإيمان والأعمال الصالحات ٤ فقد ظهرت أكثرها فهل مشمر للنجاة بما أرشد إليه
الصادق المصدق
1 لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون ويقول كل رجل لعلي أكون الذي أنجو أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه لفظ الحديث لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي فيه متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ۳ لفظه ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر
اللهم أعط ممسكاً تلفاً متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ٤ سبق الكلام عنه في الحديث ٦ بأنا لم نعثر عليه بهذا اللفظ وإنما هناك أجوبة نبوية فيها الأمر بلزوم كتاب الله
وجماعة المسلمين
٤٥١٠

وهنا بحث صوفي وهو أنه لما علم أهل هذا الشأن أن النجاة من تلك الفتن العظام هو بالإيمان والأعمال الصالحات أيقنوا أن ذلك فيما هو أقل منها من باب الأحرى والأولى فلم يشغلوا نفوسهم بغير الإيمان ودوام الأعمال الصالحات ولما رأوا أن الدار لا بد من انقضائها صيروا الأول منها آخراً والآخر منها أولاً ولذلك قال إذا كانت الدار لا تبقى فمتاعها فان فاعمل لدار لا تفنى ومتاعها باق واعمر بالربح زمانك ولا تدعه خالياً والحمد الله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٢
بالما قلة نا

حديث إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً
عَن عَبدالله بن عمرو ۱ رَضِيَ الله عَنهُما قالَ قالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ألم أُخبَر أَنَّكَ تَقومُ اللَّيلَ وَتَصومُ النَّهار قُلتُ بلى إِنِّي أَفعَلُ ذلكَ قالَ فَإِنَّكَ إِن فَعلتَ ذُلِكَ هجَمَت عَينُكَ وَنَفِهَت نَفْسُكَ ٢ وَإِنَّ لنَفْسِكَ علَيكَ حَقًّا ولأهلك علَيكَ حَقًّا فَصُمْ وَأفطِرْ وَقُمْ وَنَمْ ۳
ظاهر الحديث يدل على منع دوام الصيام والقيام لأجل علة عجز البشر عن ذلك والكلام
عليه من وجوه
الوجه الأول منها أن الحكم لا يكون إلا على أكمل وجوه التحقق والتثبت يؤخذ ذلك من أن سيدنا لم يخبر أن هذا الشخص وهو عبد الله بن عمرو بأنه يقوم الليل ويصوم النهار إلا من بعدما استفهمه عما قيل له وإن كان سيدنا يعلم أن الذي أخبره صادق لأن الصحابة كلهم رضي الله عنهم مقامهم مقام الصدق والدين لكن لما بقي وجه من تحقيق الأمر وهو سؤال الشخص نفسه لم يتركه عليه السلام حتى سأله وتيقن ذلك منه مشافهة
وفي سؤاله عليه السلام للشخص نفسه من الفقه وجوه منها ما ذكرنا من التحقيق وليقعد قاعدة شرعية في ذلك ولأجل أن يعلم أيضاً هل كان ذلك الوقت له نية ما نواها ولم يتلفظ بها حتى تنقل عنه أو ليس ولأجل أنه قد يكون أيضاً معلقاً بشرط ما وذلك الشرط قد لا يعرفه
سنة
1 عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي صحابي من النساك وأحد العبادلة الأربعة في الفقه والحديث قال أبو هريرة ما كان أحد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه يكتب ولا أكتب وكان كثير العبادة والتلاوة وكان يشهد الحروب والغزوات ويضرب بسيفين وحمل راية أبيه يوم اليرموك وشهد صفين مع معاوية روي له ۷۰۰ حديث وقلت الرواية عنه لسكناه في مصر بخلاف أبي هريرة في المدينة المنورة توفي ٦٥ هـ / ٦٨٤م واختلفوا في مكان وفاته قيل بمكة وقيل بالطائف وقيل بعسقلان في فلسطين نَفهت نفسك أعيت وكلت راجع الحديث ١٨٤

٤٥٣

9
القائل أو يعرفه أو قاله بغير عزيمة على فعله حتى يرى على ما يعوّل عليه إلى غير ذلك من الاحتمالات فمن أجل هذا المعنى كان السؤال والله أعلم
ولذلك قال العلماء إن السنّة على أنواع عديدة فمنها سنة يجب العمل بها مع عدم تحققها - وهي الحكم بشهادة الشاهدين - لأن الغلط في حقهما ممكن والصدق كذلك إلا أنه قد أمرنا بإنفاذ الحكم بهما إذا تيقنت عدالتهما فعلى هذا فمن أنفذ حكماً من الأحكام دون ثبوت الموجب له بالإثبات التام بمقتضى الشرع فهو ضلال محض وإن وافق في الغيب عين الحق لأنه ما أمرنا أن نحكم بالغيب إلا في الإيمان به عزّ وجل حيث أمرنا به الوجه الثاني فيه دليل على جواز التحدث بما يعزم المرء عليه من أفعال البر يؤخذ ذلك من
قول النبي ل ا ل ا ل ألم أخبر فلولا أن الشخص تكلم بذلك ما كان النبي يخبر به الوجه الثالث فيه دليل على أن كل من كان مسترعى رعية صغرى أو كبرى أنه يسأل عن جزئيات رعيته وأنه يجب على من علم منها شيئاً الإخبار له بها يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ألم أخبر فلولا أنه عليه السلام سأل أو كان عندهم مقررا أنهم يخبرونه بما يعرفون من أحوالهم وأحوال إخوانهم ليعلموا حكم الله في ذلك ما أخبر و بذلك لأن هيبتهم له عليه السلام كانت
كبيرة حتى إنهم كانوا يودون أن يأتي بدوي فيسأله فيسمعون منه ما يقول له فيستفيدون الوجه الرابع فيه دليل على فصاحة الصحابة رضي الله عنهم وقلة تصنعهم وقصدهم الحقيقة في الأشياء بلا زيادة يؤخذ ذلك من حسن جوابه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يزد على أن قال إني أفعل ذلك فلم يزد على الإخبار عن حقيقة الذي سئل عنه بلا تصنع في ذلك الوجه الخامس فيه دليل على تعليل الحكم لمن فيه أهلية يؤخذ ذلك من تعليل سيدنا له بهجوم العين ونفاهة النفس التي طبعت عليه البشرية
الوجه السادس فيه دليل على أن الأولى في العبادة تقديم الفرائض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقا وهنا بحث ما حق النفس وما حق الأهل وما يعني هنا بالأهل
أما الحق الذي للنفس فقد اختلف فيه أهل الفقه وأهل المعاملات فأهل الفقه يقولون هو أن تُعطيها حظها ممّا تحتاج إليه من ضرورة البشرية وترويحها زماناً ما كما قال روحوا ساعة1 وكما قال عليه السلام إنّ المُنْبَتْ لا أرضاً قَطَعَ ولا ظَهْراً
ساعة القلوب
بعد
1 أخرجه أبو داود في مراسيله عن ابن شهاب وأبو بكر بن المقري في فوائده والقضاعي عن أنس رضي الله عنه
٤٥٤

أبقى ۱ وهذا الحظ عند هؤلاء السادة الذين قالوا به بشرط أن يكون على مقتضى السنّة وأهل المعاملات يقولون حق النفس الذي لها عليك أن تَقطَعَها عما سوى مولاها
ويمكن الجمع بين القولين بأن نقول أن تقطعها عما سوى مولاها في التعلقات القلبية والأسباب الشرعية وذلك بألا يبقى للقلوب تعلق إلا بمولاها في كل الأحوال ولا تتصرف في الأسباب إلا على لسان العلم المجمع على أنه أرفع الأحوال
يشهد لهذه الطريقة من الآثار حديث معاذ ۳ مع أبي موسى ۳ إذ وجههما رسول الله إلى اليمن يعلمان الناس دينهم فتفرقا لتعليم الناس كما أمرا فلما أن اجتمعا سأل أحدهما الآخر كيف تقرأ القرآن فقال أبو موسى أقرأه قائماً وقاعداً ومضطجعاً وأتفوقه تفويقا ٤ ولا أنام وقال الآخر أما أنا فأقوم وأنام وأحتسب ٥ قومتي كما أحتسب نومتي فتنازعا في ذلك ولم يسلم أحدهما للآخر في الأفضلية حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقصا عليه فقال النبي لأبي موسى هو أفقه منك يعني عن معاذ الذي كان يقوم وينام
الله وقد حكي عن بعض من نسب إلى هذه الطريقة المباركة أنه حصل له حالة مناجاة واتصال فسأل أن تدام له تلك الحالة فقيل له ألستَ أنت بشراً وهذه الحالة لا تمكن مع بقاء البشرية لكن إذا رجعت إلى أمرنا ونهينا لم تزل عندنا
وأما قولنا ما يعني هنا بالأهل فيحتمل أن يكون عنى به الأولاد والزوجة وكل من تلزمه نفقته شرعاً لأنه إن اشتغل بالعبادة تعذرت حقوقهم وهو المسؤول عنها ويحتمل أن يكون عنى بالأهل الزوجة لأن من حقها على الزوج الإصابة ٦ والصيام والقيام مما يقلل ذلك الشأن فيكون يخلّ بحق عليه وحمله على الأعم أولى لأنه أكبر في الفائدة
الوجه السابع فيه دليل على ضعف البشرية وإن تكلف المرء من العمل زيادة على قدر ما طبعت عليه نفسه يقع له الخللُ والنقص في الغالب يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام هجمت
دليل
1 أوله إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت الخ أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه انظر ترجمته في الحديث ٤٣ ۳ أبو موسى الأشعري عو عبد الله بن قيس صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين أحد الحكمين بعد حرب صفين كان أحسن الصحابة صوتاً له ۳۵۵ حديثاً توفي بالكوفة سنة ٤٤ هـ / ٦٦٥م
٤ أتفوقه تفويقاً أقرأه مجزاً في أوقات مختلفة
٥ احتسب الأمر ادَّخر أجره عند الله ٦ الإصابة الإتيان بالصواب ومن معانيها المجيء من عَل والإراقة القاموس وفي الحديث أن رسول الله كان يصيب من رأس بعض نسائه وهو صائم أراد التقبيل البداية والنهاية لابن الأثير وتاج العروس
٤٥٥

عينك ونَفِهت نفسك فقوة الكلام تعطي أن من طبع على مثل هذا لا يطيق أن يفعل ما هزم هذا
الصحابي عليه لضعفه عن ذلك ومثل هذا نهيه للصحابة رضي الله عنهم عن الوصال فقالوا له إنك تفعل ذلك فقال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني أي أنه يمده بالقوة مثل من يأكل ويشرب لأنه لو كان يأكل محسوساً ما صدق أن يقال واصَلَ
ولهذا المعنى كان بعض أهل الصوفة إذا دخل في الوصال يجعل رغيفاً من خبز تحت وسادته فلما كان في بعض الأيام قام إلى ضرورة فأخذ بعض الفقراء الرغيف من تحت الوسادة فلما رجع هذا السيّد إلى مكانه تفقد الرغيف فلم يجده فقال أين الرغيف فقالوا يا سيدنا ما حاجة مثلك لرغيف فقال لهم تأدبوا أتظنون ما ترون مني من جبلة جبلت عليها بل ذلك فضل وفيض رباني فإن رددت إلى حال البشرية وجدت الرغيف أدفع به العدو
ولهذا المعنى بنيت الأحكام على ما هو الأصل في الأشياء أو الغالب منها كمثل تحليل الميتة بعد ثلاثة أوقات لأن وضع البشرية ما تطيق بسبب ما وضعت عليه من الضعف أكبر من ذلك القدر فإن تحملت أكثر منه وقع معها الخلل وقد يكون مع ذلك الخلل موت وقد قال عزّ وجلّ في كتابه ﴿ مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ فإذا زاد المرء على ذلك شيئاً فهو من طريق المن والإفضال عليه لأنه قد جعل الله له بساطاً وهو إجراؤه عزّ وجلّ العادة الجارية لأهل ذلك الشأن بمقتضى الحكمة كما أجرى عزّ وجلّ للغير بالطعام ما أجرى لهم وهي قوة العزم وألا يلتفتوا إلى شيء سواه فمن دخل في هذا الشأن وتشبه بالقوم دون هذا البساط وقع معه الخلل وكان من باب وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى النَّهَلُكَةِ ﴾ ۳ إلا أن يكون له حسن ظن في القوم وتصديق بحالهم فيُلطف به من أجل حرمتهم إلا أنه لا بد في الغالب أن يجد شيئاً من الشدة في نفسه ثم يُحمل عنه للحرمة
الوجه الثامن فيه دليل على أن المندوب في الدين مطلوب على كل حال يؤخذ ذلك من فحوى كلامه عليه السلام بقوله صم وأفطر وقم ونم لأن فحوى الكلام عندهم كالنص المنطوق به لا أعرف في ذلك خلافاً فكأنه عليه السلام يقول له بمتضمن ذلك السكلام لا تشتغل أيضاً
بإعطاء الحقوق وتترك المندوب مرة واحدة ولكن اجمع بين فرضك وندبك
1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه والبخاري عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة
وعن السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين
سورة النساء من الآية ١٤٧ ۳ سورة البقرة من الآية ۱۹٥
٤٥٦

وعلى هذا الأسلوب تجد قواعد الشريعة كلها إذا استقريتها فمن أريد به خیر بصر بعيوب نفسه فأبصَرَ رشده ولذلك قيلَ نَظَرُكَ إلى النفس حِجابٌ عما سواها وشغلك بغيرها حجاب عنها فإن اعجبت بها فاتك الحظ مما سواها وإن تعاميت عنها نلت خيرها وخير سواها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٤٥٧

حديث الاستخارة في الأمور
عَن جابر بن عبد الله ۱ رضيَ الله عَنهُما قالَ كانَ رَسولُ الله يُعلمنا الاستخارة في الأمورِ كُلها كما يُعلّمنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ يَقولُ إذا همَّ أَحدُكُم بالأمرِ فلْيَركَعْ رَكعتين مِن غيرِ الفَريضَة ثُمَّ لِيَقُلْ اللهمَّ إِنِّي أستَخيرُكَ بعلمكَ وأستَقدِرُكَ بقُدْرَتِكَ وأسألُكَ مِن فَضلِكَ العَظيمِ فَإِنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدِرُ وتعلم ولا أعلم وأنتَ علام الغيوب اللّهُمَّ إن كُنتَ تعلَمُ أنَّ هَذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لي ثُم بارك لي فيه وإن كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاصرِفْهُ عنِّي واصرفني عنه واقدُرْ لي الخَيْرَ حَيثُ كانَ ثُمَّ أَرْضِنِي به قالَ وَيُسَمِّي حاجتَهُ
وجوه
ظاهر الحديث يدل على الحض على هذه الاستخارة المذكورة في الحديث والكلام عليه من
الوجه الأول قوله في الأمور هل هو على عمومه أو هو عام والمراد به الخصوص محتمل لكن الأظهر أنه عام والمراد به الخصوص بدليل أن الواجباتِ مطلوبة فإن أُتِي بها وإلا عوقب تاركها فلا يُستخار فيما فيه عذابٌ على تركه والمحرمات أيضاً ممنوع فعلها والعذاب معلق على فعلها وما العذاب مُعَلّق على فعله فلا استخارة فيه فالذي تكون فيه الاستخارة أمران إما نوع المباحات - وهو ما إذا أراد الشخص أن يعمل أحد مباحين ولا يعرف أيهما خيرٌ له جازت له الاستخارة لير شده مَن يَعلم الأمور وعواقبها على ما هو الأصلح في حقه - وإما نوع المندوبات وهو أن يخطر لأحدٍ أن يفعل أحد المندوبات ولا يعرف
۱ سلفت ترجمته في الحديث ٥٣
٤٥٨

أنها خير له فيستخير وأما نوع المكروه فمكروه أن يُستخار فيه فعلى هذا فهو لفظ عام والمراد به الخصوص ـ كما ذكرنا - وهذا هو في اللسان كثير
وقوله كما يعلّمنا السورة من القرآن احتمل أن يكون الشبه من جهة حفظ حروفه وترتيبها ولا يبدل منها شيء بشيء كما هو القرآن يُقرأ بالفاء والواو ۱ لأن العلماء لم يختلفوا أن القرآن لا يُنقل ولا يُتلى إلا على وضعه بالفاء والواو واختلفوا في نقل الحديث فقيل هو مثل القرآن وقيل يجوز أن ينقل بالمعنى إذا فهم فيكون مراده عليه السلام بهذا الحديث أن حكمه حُكْمُ
القرآن لا يُغيَّر عن وضعه
و
واحتمل أن يكون أراد منع الزيادة على تلك الألفاظ والنقص منها
واحتمل أن يكون الشبه في عَدَم الفَرْضيّة لأن السُّورة - ما عدا أم القرآن - تعليمها من طريق المندوب لأن ما في القرآن فرضٌ تَعلَّمه إلا أم القرآن عند من يرى أنها فرض في الصلاة أم القرآن وإن كان يطلق عليها بمقتضى اللغة سورة من القرآن فقد غلب عليها اسمها المختص بها حتى إنه إذا أراد أحد أن ينص عليها ولا يسميها بهذا الاسم لا يفهم عنه وهي قد غلب عليها هذا الاسم ونحوه من الأسماء التي غلب عليها أيضاً كما غلب اسم الثريا عليها ۳ وإن كانت من جملة النجوم
واحتمل أن يكون الشبه من طريق الاهتمام بها والتحقيق ببركتها والاحترام لها واحتمل أن يكون الشبه من كونها بوحي من الله تعالى كما أن السورة من الله وليس من
عنده عليه السلام
واحتمل أن يكون الشبه في التدريس لها والمحافظة عليها والمعاهدة لذلك كما أخبر عليه السلام عن حامل القرآن أنه مثل صاحب الإبل المعقلة 4 إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقها ذهبت
سائل
واحتمل مجموع ما وجهناه وأكثر وقوله إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر هنا بحث قوله إذا هَمَّ هل هي على وضعها عند أهل الخواطر أو توسعة في المخاطبة فيريد بهم النية احتمل والأظهر - والله أعلم - أن تكون
على بابها

يعني أن القرآن يقرأ كما أنزل لا يبدل منه حرف بحرف
هي سورة الفاتحة وتسمى كذلك أم الكتاب والسبع المثاني
۳ أي على النجم المعروف بهذا الاسم ٤ الإبل المعقلة المعتقلة المحبوسة عقل البعير ضَمّ رُسعَ يده إلى عَضُدِهِ وربطها معاً بالعقال ليبقى باركاً
٤٥٩

ونحن الآن نبين ما ذكره أهل الخواطر وحينئذ نبيّن لِمَ كان ما ذكرنا هو الظاهر فأما
الخواطر عندهم فهي سِتَّة وإن كان قد ذكرناها في أول الكتاب لكن لبعدها احتاج الموضع لها فنذكر منها قدر ما تبين به الفائدة في الترجيح الذي ذكرنا فأولها الهَمَّة ثم اللمَّة ثم الخَطْرَة - وهذه الثلاثة عندهم غير مأخوذ بها - ثم نية ثم إرادة ثم عزيمة وهذه الثلاثة عندهم مأخوذ بها وبعضها أشد من بعض فيكون فائدة ترجيح الهَمَّة أن يكون الحديث على بابه لأنه أول ما يخطر له الخاطر وليس له فيه تلك الرغبة القوية فيستخير عند ذلك فيبين له بعد الاستخارة - بتوفيق
الله - الأرجح
وإنما قلنا ذلك لأنه إذا تمكن الأمر عنده حتى صار له فيه نية وإرادة فقد حصل له إليه ميل وحبّ وقد قال الله حُتُ الشيءَ يُعمِي ويُصِمٌ ۱ فهذا لا يظهر له وجه الأرشد لِمَيله للذي عَزَم عليه ولوجه آخر أيضاً لأن فيه إظهاراً لحقيقة العبودية فأول شيء يرد عليه في ذلك لجوؤه بسببه إلى مولاه فلِحرمة هذا المقام يلطف به لأنه عند أهل المعاملات أعلى المقامات واحتمل أن تكون الهَمَّة بمعنى النيّة ويكون وجه الفقه فيه أن النفس لا تخلو من الخطرات وأكثرها لا تثبت ولا يعمل عليها فلا يستخير إلا على شيء ينويه ويعزم عليه لئلا يستخير في أمر لا يعبأ به فيكون فيه سوء أدب وعلى هذا التعليل يرجح الثاني على الأول ويكون فيه معنى ما من قوله كما يعلمنا السورة من القرآن لأن القرآن لا يقرأ إلا لجَمْع القلب عليه كما قال اقرأوا القرآن ما التلَفَتْ عليه قلوبُكُم فإذا اختَلَفَتْ فقُوموا عنه
وقوله عليه السلام فليركع ركعتين من غير الفريضة هنا بحث قد جاء عنه أدعية كثيرة ولم يشترط فيها صلاة وهنا جعل من شرطها صلاة تختص بها فهل هذا تعبُّد لا يُعقل له معنى أو له معنى معقول فإن قلنا بأنه تعبد فلا بحث وإن قلنا بأنه معقول المعنى فنحتاج إذاً إلى بيان الحكمة في ذلك وهذا هو الأظهر أن يكون لحكمة إذ بالقطع لا يفعل الشارع شيئاً من الأشياء
إلا لحكمة
فنقول والله أعلم إن الحكمة هنا هي أنه لما أن كان هذا الدعاء من أكبر الأشياء إذ إنه عليه السلام أراد به الجمع بين صلاح الدين والدنيا والآخرة فطالب هذه الحاجة يحتاج إلى قرع باب المَلِكِ بأدب وحالي يناسب ما يطلب ولا شيء أرفع مما يُقرع به باب المولى من الصلاة لما فيها
1 أخرجه الإمام أحمد والبخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي الدرداء والخرائطي في اعتلال القلوب عن أبي برزة وابن عساكر عن عبد الله بن أنس رضي الله عنهم ٢ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والنسائي والدارمي وأبو عوانة وابن حبان عن جندب رضي
٤٦٠

من الجمع بين التعظيم الله سبحانه والثناء عليه والافتقار إليه حالاً ومقالاً وذكره عزّ وجلّ وتلاوة كتابه الذي به مفاتح الخير من الشفاء والهدى والرحمة وغير ذلك مما هو فيه منصوص ويترتب على ذلك من وجوه الحكمة أن يكون طلب الأشياء بواسطة أولى بحسب ما يقتضيه نسبة مطلبه وقد مضى بين الناس في بعض أمثالهم ما يشبه هذا وهو قولهم من نصب إلى وزة أخذ وزة ومن نصب إلى عصفور أخذ عصفوراً معناه أن الشبكة التي تحبس الوز لا تحبس العصفور والتي تحبس العصفور لا تحبس الوز فقد ظهر بينهما مناسبة ما من طريق الحكمة لأن مقدمات الأشياء على اختلافها كل على ما يليق بها فهذا هو وضع الحكمة وقوله عليه السلام ثم يقول ثم هنا دالة على انتقال الفاعل من حال الصلاة عند تمامها إلى حال الدعاء لأنها تدل على المهلة وقوله عليه السلام اللهم هذه اللفظة هي من أرفع ما يستفتح به الدعاء وقد ذكرنا هذا فيما تقدم بما علل فيه
وقوله إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ معناه أن تنظر لي أنت الخيرة بعلمك الذي أحاط بجميع الأشياء لا بعلمي أنا القاصر عن جميع الأشياء
وقوله وأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ أي أطلب منك أن تقدره أنت لي بقدرتك التي لا تعجز عن شيء من الأشياء لا بقدرتي أنا العاجزة عن جميع الأشياء
وقوله وأسألك من فضلك العظيم أي ما سألتك إنما أسأله من فضلك فإنه لا حقَّ واجبٌ عليك فما تفضلت به في مسألتي هذه أو في غيرها فإنما هو من فضلك العظيم و العظيم صفة لفضله عزّ وجلّ ولجميع صفاته و لذاته الجليلة
وقوله فإنَّكَ تَقدِرُ ولا أقدر وتَعلَمُ ولا أعلَمُ رجعنا هنا إلى ما أبديناه أولاً بمقتضى قوة الكلام الذي أبداه لنا والفائدة في إبدائه لنا لأن الغالب من الناس عدم فهم ما تقتضيه قوة الكلام لأنه لا يعرف ذلك إلا أربابه - وهم قلائل - والدعاء يحتاج إليه من يعرف ذلك ومن لا يعرف فمن لا يعرفه فلا يحصل له بتلك الألفاظ ذلك التنازل المقصود من النفس فتسقط فائدة كبيرة من الأمر وقد تكون هي أقوى الأسباب في النجح فأعاده الله له لهذه الحكمة
وقوله وأنتَ علام الغيوب هذا زيادة في الثناء على المولى الكريم كأنه بقوة الكلام يقول أنت تعلم الغيب في مسألتي ليس علمك بالغيب فيها بحُكم الوفاق ولا لعلّة من العلل بل إنك أنت علام جميع الغيوب على حد الكمال والجلال وزيادة الثناء على المولى من أنجح الوسائل فهذا هو حقيقة الافتقار والاضطرار وهو الحق الذي لم يُبْقِ لنفسه من الدعوى شيئاً وردَّ
الأمر إلى من هو أهله وهو له حق
٤٦١

وقوله ثم قال اللهم إنما أعاد هذه اللفظة لما فيها من الخير والرغبة
وقوله إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني إنما قدَّم الدِّينَ لأنه الأهم في جميع الأمور فإنه إذا سَلم الدين فالخير حاصل تعِب صاحبه أو لم يتعب وإذا اختل الدين فلا خير بعده
وقوله ومعاشي أي في عيشي في هذه الدار
وقوله وعاقِبَةِ أمرِي أي في آخرتي
وقوله أو قال في عاجل أمري وآجِلِهِ الشك هنا من الراوي والمعنى واحد وإنما قال هذا هنا لما كان فيه وفي جميع الصحابة رضوان الله عليهم من التحري في النقل والصدق وقوله فأقدُرْه لي مأخوذ من القَدْر
وقوله وَيسِّرْه لي ثم بارك لي فيه مأخوذ من التيسير مخافة أن يترك في ذلك لنفسه وإن قدر له به فيتعب في تحصيله وقوله وإن كنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري واجله الكلام عليه كالكلام على الذي قبله لكن هنا بحث وهو أنا رأينا أن كل من لازم قوله طلب الخير وقضي له به لا يكون فيه شرّ فما فائدة إعادة قوله وإن كنتَ تَعلمُ أنّ هذا الأمر شر لي في ديني إلى تمام الكلام فنقول فائدة الإعادة لوجهين أحدهما ما ذكرناه أوّلاً وهو أن ما كان يدل بقوة الكلام أعاده نَضًا للعلة التي ذكرنا الوجه الآخر مختلف فيه هل الأمرُ بالشيء نهي عن ضده أو ليس و وجه ثالث وهو الإبلاغ في تحسين الحال
وقوله فاصرفه عني واصرفني عنه البحث هنا كالبحث فيما تقدم آنفاً
وقوله واقدُرْ لي الخير حيث كان هذه إشارة إلى تمام قدرة القادر وهو إبلاغ في التنزيه لأنه قدرته جلّ جلاله البعيد والقريبُ عنده على حالة سواء والإيمان به واجب ومن الدليل على ذلك ما نص عزّ وجلّ في كتابه من قصة عرش بلقيس الذي أتِيَ به لسليمان عليه السلام لما دعا الذي عنده علم من الكتاب في لمحة البصر وكان من البُعدِ حيث كان ومن الدليل على ذلك من طريق العقل أنه لو عجزت قدرته عزّ وجلّ عن ممكن ما صح له الكمال والكمال لا بدّ من وصفه عزّ وجلّ به فلا يعجز إذا عن شيء من الأشياء
وقوله ثم أرضني أي أرضني به لأنه إذا قضى له ما فيه الخير ولم يَرضَ فقد تنغص ومن تنغص حاله ما كَمُلت له عافية فهذا من كمال العافية أيضاً
وقد ذكر أهل الصوفة أنه من استخار في شيء فقُضي له فيه قضاء ولم يرض فإنه عندهم من الكبائر الذي يجب منه التوبة والإقلاع لأنه من سوء الأدب وما قالوه ليس يَخفَى لأنه لما رجع هذا العبد المسكين إلى هذا المولى الجليل ورغب منه أن ينظر له بنظره فكيف لا يرضى
٤٦٢

فهذه صفة تشبه النفاق بل هو النفاق نفسه لأنه أظهَرَ الفقر والافتقار والتسليم ثم أبطَنَ ضِدَّ ذلك فأين هذا الحال من قوله أستخيرك بعلمك على ما بيّناه أولاً وقد ورد في الحديث ما معناه أنه عزّ وجلّ يقول ما غضبتُ غضباً أشدَّ من غضبي على من استخارني في أمر فقضيتُ له فيه قضاء
وكرهه ۱ أو كما قال
وهنا بحث لِمَ سُمِّيت الحاجة وهو عزّ وجلّ يعلمها لأنها من جملة الغيوب فالبحث هنا كالبحث في قوله وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي لكن هنا زيادة لأنه قد يكون في إيمان بعض العوام ضعف فيلحقه الشك هل يعلم حقيقة أم لا وإن كان جهل بعض العوام بعض الصفات لا يخرجه من دائرة الإيمان على ما عليه أكثر أهل السنّة لكن لما كان هذا الموضع من المواضع التي لا يمكن فيها إلا الإيمان الجازم من أجل قضاء الحاجة أتى بما يحقق الإيمان الذي هو الأصل في هذه الفائدة لأنه فرّق بين البقاء في دائرة الإيمان وقضاء الحاجة فلقد يكون في دائرة الإيمان ولا تُقضَى له حاجة إلا أن يأتي الله بمن يشفع له ولأن دعاءه هو الشفيع له فإذا كان إيمانه ناقصاً لم ينفعه

فهذا أقوى دليل لأهل الصوفة الذين يرون بدوام الفقر والافتقار والتخلي في كل الأنفاس إذ بفقر ساعة يستفيد هذه الفائدة فما بالك به إذا كان دائماً وقد كان بعض أهل هذا الشأن إذا وقعت لبعض الفقراء حاجة فيلجأ فيها إلى الله فيتفضل عليه بقضائها فيقول له يا سيدي ما أجل
اللجأ إلى الله ! فكان جوابه رحمه الله أن يقول لِمَ تَحُودُونَ عنه حتى تحتاجوا الرجوع إليه فانظر عباراتهم كيف تخرج مع أصول الشريعة على حد سواء وإن كان بعضهم لا يعرف القاعدة في ذلك الموضع لأن النبي ل لقد قال من رُزِقَ مِن باب فَلْيَلْزَمْهُ فإذا رأى أن الخير كله في الرجوع إليه فَلِمَ يَحُودُ عنه حتى يحتاج أن يرجع إليه كما ذكر هذا السيد سواء وقد قال عليه السلام كناية عن مولانا جلّ جلاله مَن شَغَلَه ذِكْرِي عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين ۳ فانظر بعين بصيرتك بباب من تقف وأي جهة تقصد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
1 وجدنا في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سعادة المرء استخارته ربه ورضاه بما قضى ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وسخطه بعد القضاء رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب
٢ أخرجه البيهقي في الشعب عن أنس رضي الله عنه ٣ سبق تخريجه في الحديث ٤٧ ولفظ المؤلف كناية عن مولانا تعني أن ما سوف يورده هو حديث قدسي وللمحدثين صيغ عدة عن الحديث القدسي منها ما أورده المؤلف ومنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ومنها قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله والمؤدَّى في العبارات كلها واحد
٤٦٣

حديث ما بين بيته ومنبره لي
عَن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبيِّ الله قال ما بَينَ بَيْتِي وَمِنبَرِي رَوضَةٌ مِن رياض الجنَّةَ وَمِنبري علَى حَوضِي
ظاهر الحديث يدل على أن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة ومنبره على حوضه والكلام عليه من وجوه
منها هل تنقل تلك التربة بعينها فتكون في الجنة أو معناه أن العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة اختلف العلماء في ذلك على قولين فمن قائل بالوجه الأول ومن قائل بالوجه الثاني والأظهر - والله أعلم - الجمع بين الوجهين معاً لأن لكل وجه منهما دليلاً يعضده ويقوّيه من
جهة النظر والقياس
أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة في الجنة فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده كما كان عليه السلام بألف فيما سواه من المساجد فلهذه البقعة المذكورة زيادة على باقي البقع للمسجد زيادة على غيره كما ذكرنا
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة وكون المنبر أيضاً على الحوض - كما أخبر عليه السلام وأن الجذع في الجنة والجذع في البقعة نفسها فبالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء - على ما أذكره بعد - والذي أخبر بهذا صادق فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقع المباركة فائدة بركتها لنا والإخبار بها لتعميرها بالطاعات فإن الثواب فيها أكثر وكذلك الأيام المباركة أيضاً
واحتمل وجهاً ثالثاً وهو أن تكون تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما هو الحجر الأسود من الجنة وكما هو النيل والفرات من الجنة وكما أن الثمار الهندية من الورق التي هبط بها ادم عليه السلام من الجنة فاقتضت الحكمة أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة ومن ترابها و من حجرها ومن فواكهها حكمة حكيم جليل
٤٦٤

وقد روي أن أول ما خلق من العالم الآدمي طينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جبريل عليه السلام نزل مع الملائكة في جمع كبير من جلتهم فأخذوا تربة سيدنا من موضع قبره ثم صعدوا بها وعجنت بالسلسبيل ثم غمست في جميع أنهار الجنة حتى رجع لها نور عظيم وطيف بها في العالمين حتى عُرفت ثم أكبَّها ١ الله عزّ وجلّ يمين العرش حتى خلق آدم عليه السلام
وقد روي عن كعب الأحبار ۳
رضي
الله عنه أنه لما أراد الجليل جلّ جلاله أن يخلق محمداً أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها قال فهبط جبريل عليه السلام وملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى فقبض قبضة من موضع قبر رسول الله وهي بيضاء منيرة فعجنت بماء التسنيم وغمست في معين أنهار الجنة حتى صارت كالدرة البيضاء ولها نور وشعاع عظيم حتى طافت الملائكة حول العرش وحول الكرسي وفي السّماوات وفي الأرض والجبال والبحار فعرفت الملائكة وجميع الخلق محمداً عليه السلام وفضله قبل أن يعرفوا آدم عليه السلام فلما خلق الله ادم عليه السلام وضع في ظهره قبضة رسول الله فسمع ادم في ظهره نشيشا ٤ كنشيش الطير فقال ادم يا رب ما هذا النشيش فقال هذا تسبيح نور محمّد عليه السلام خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فخذه بعهدي وميثاقي ولا تودعه إلا في الأرحام الطاهرة فقال آدم أي ربّ قد أخذته بعهدك ألا أودعه إلا في المطَهَّرين من الرجال والمحصنات
من النساء فكان نور محمّد يتلألأ في ظهر ادم وكانت الملائكة تقف خلفه صفوفاً لما يرون
فلما رأى آدم ذلك قال أي رب ما لهؤلاء ينظرون خلفي صفوفاً فقال الجليل له يا ادم ينظرون إلى نور خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فقال أي رب أرنيه فأراه الله إياه فآمن به وصلى عليه مشيراً بأصبعه ومن ذلك الإشارة بالأصبع بلا إله إلا الله محمد رسول الله فقال ادم اجعل هذا النور في مقدَّمي كي تستقبلني الملائكة ولا تستديرني فجعل ذلك النور في جبهته فكان يرى في غرة ادم دارة كدارة الشمس في دَوَرَان فلكها وكالبدر في تمامه وكانت الملائكة تقف أمامه صفوفاً ينظرون إلى ذلك النور ويقولون سبحان ربنا - استحساناً لما يَرَوْن
1 أكبّ الرجل على عَمَل عَمِله إذا لزمه ولم يعدل عنه والمقصود من عبارة المؤلف أن الله تعالى جعل العجينة
التي خلق منها رسول الله يمين العرش حتى خلق ادم عليه السلام
الرواية المذكورة لم ترد في كتب السنة كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن وأسلم في زمن أبي بكر وقدم المدينة في دولة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيراً من أخبار الأمم الغابرة وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وخرج إلى الشام فسكن حمص وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين وكانت وفاته سنة ٣٢ هـ / ٦٥٢م وقد نسب إليه كثير من الإسرائيليات
٤ النشيش صوت الماء وغيره إذا غلى
٤٦٥

ثم إن آدم عليه السلام قال يا رب اجعل هذا النور في موضع أراه فجعل الله ذلك النور
في سبابته فكان آدم عليه السلام ينظر إلى ذلك النور ثم إن ادم قال يا رب هل بقي من هذا النور في ظهري شيء فقال نعم بقي نور أصحابه فقال أي رب اجعله في بقية أصابعي فجعل نور أبي بكر في الوسطى ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر ونور علي في الإبهام فكانت تلك الأنوار تتلألأ في أصابع ادم لما كان في الجنة فلما استخلفه الله وأهبط إلى الأرض ومارس أعمال الدنيا انتقلت الأنوار من أصابعه ورجعت إلى ظهره ۱

وقد ساق الفقيه الخطيب أبو الربيع رضي الله عنه في كتابه المسمى بـ شفاء الصدور من هذه الرواية أكثر من هذا فعلى هذا فيكون خلقه و من الأرض ويكون الأصل من تلك الدار المكرمة بدليل أنه لم يختلف أحد من العلماء أن الموضع الذي ضم أعضاءه ل أرفع البقع فإذا كان ما بين بيته عليه السلام وبين المنبر من الجنة فكيف يكون ذلك الموضع الذي هو فيه فعلى هذا فيكون الموضع روضةً من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان في موضعه ويكون للعامل بالعمل فيه روضةٌ في الجنة - وهو الأظهر - لوجهين أحدهما لعلو منزلته عليه السلام و الآخر ما قدمناه من الدليل ويكون بينه عليه السلام وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه وهو أنه لما خص الخليل عليه السلام بالحجر من الجنة خص الحبيب عليه السلام بالروضة من الجنة
وهنا بحث لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة فإن قلنا تعبد فلا بحث وإن قلنا لحكمة فحينئذ نحتاج إلى البحث والأظهر أنها لحكمة وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله عزّ وجلّ فضّله على جميع خلقه وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقري في كل أموره من بدء ظهوره عليه السلام إلى حين وفاته في الجاهلية والإسلام فمنها ما كان من شأن أمه وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء حسب ما هو مذكور معلوم ومثل ذلك حليمة السعدية وحتّى الأتان وحتى البقعة التي تجعل الأتان يدها عليها تخضَرّ من حينها وما هو من ذلك كله معلوم منقول وكان مشيه عليه السلام حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله وحيث وضع عليه السلام يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًا ومعنى ما هو منقول معروف ولما شاء الحكيم أنه عليه السلام لا بد له من بيت ولا بد له من منبر وأنه بالضرورة يكثر

۱ هذا من إسرائيليات كعب الأحبار
الواو زائدة
٤٦٦

لنور
هذا
ـي
في
إلى
ور تلك
ޖ
ـذي
عه
عليه هذا
ـلام
ـد
سبق
ما
بليه
مع
3 25 3 3
تان
كثر
تردده عليه السلام بين المنبر والبيت فالحرمة التي أعطي إذا كان من مسةٍ واحدةٍ بمباشرة أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير فكيف مع كثرة ترداده عليه السلام في البقعة الواحدة مراراً في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى حين وفاته فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفنا وهو أنها كانت من الجنة وتعود إليها وللعامل فيها مثلها فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في الدار لكانت لها ولا أعلى
مرتبة مما ذكرنا في جنسها
وهي
الآن منها
فإن احتج محتج بأن يقول فينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها لأنه عليه السلام كان يطؤها بقدمه مراراً فالجواب أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر عليه السلام مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام وأنه أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة وأن ما كان بها من الوباء والحمى رفع عنها وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولاً فإن تردده عليه السلام في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها وتردده عليه السلام فيما بين المنبر والبيت أكثر مما في سواه من سائر المسجد فالبحث تأكد بالاعتراض لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة والقرب من تلك النسمة المرفعة لا خفاء فيه فالمدينة أرفع المدن والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة وقوله عليه السلام ومنبري على حوضي هذا لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره
وأنه حق محسوس موجود على حوضه عليه السلام وفيه من الفقه الإيمان بالحوض أنه حق وأن المنبر عليه حق وأن القدرة صالحة ولا عَجْزَ فيها عن ممكن لأن هذه الأحاديث وما أشبهها فائدتها التصديق بها لأنه من متضمن الإيمان لقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بالغيب فكل ما أخبر به الصادق عليه السلام من أمور ما
له حالاً
الغيب فالإيمان به واجب وفيه أيضاً إشارة لطيفة وهي إذا كان الجماد يَشرُف به عليه السلام فكيف بالمتّبع له و مقالاً ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ هَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنِ ۳ ولهذه الإشارة كان الخلفاء رضي الله عنهم إذا جلس بإزاء أحدهما في المسجد شخص لا يعرفونه يسألونه ما عنده من القرآن فينظرون
1 أفعمت كتب الحديث بفضائل المدينة المنورة
333
سورة البقرة من الآية ٣ ۳ سورة السجدة من الآية ١٧

0
3
٤٦٧

333
له بذلك الحال وينزلونه بتلك المنزلة لأنهم إذ ذاك ما كانت عندهم الرفعة إلا بزيادة القرآن لأن
غير ذلك من الفضائل تساوَوْا فيها وتقاربوا
ولذلك لما دَوَّنَ عمر رضي الله عنه الديوان قدم أقربهم إلى النبي ل نسباً وأقدمهم القرآن حتى إنه ذكر أنه جاءه ابنه عبد الله فقال هجرة ثم باقي الناس بقدر ما عند كل شخص من له لِمَ فضلت علَيَّ عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له إن أباه أقدم في الإسلام من أبيك وأقلها
له
منزلة بعدما ذكرنا الحب الله ولرسوله ۱ لقوله الله السائل حين سأله عن الساعة فقال له ما
أعددت لها فقال والله ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله فقال له أنتَ مع
من أحببت ٢
تنبيه واحذر أن يكون حبك دعوى فإنه عليه السلام قد قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ۳ وذكر فيها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وقد تقدم الكلام عليه في أول الكتاب فرَفْعُ المنزلة بقدر الإيمان والاتباع فمهين نفسه أو مكرم لها
وفيه دليل على أن ما هو من ضرورة البشر ليس من الدنيا بشيء وإنما هو اخرة كله يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بيتي ومنبري لأن البيت من ضرورة العبد لأنه يستره من الناس ويُكِنه من أذى المطر والشمس ويخلو فيه لعبادة ربه فهو آخرة صرف وما كان من متاع الدنيا فكذلك كل ما كان منها مما لا بد للبشرية منه ليستعين به على اخرته فهو اخرة لكن بشرط وهو أن يكون قدر الضرورة وإلا فهو لما تشتهيه النفس فيكون نفسانياً فيخرج إلى باب آخر ولذلك قال بعض الصحابة حين أدخل عثمان رضي الله عنه بيوت أزواج النبي وفي الزيادة التي زادها في المسجد وددت أنه تركها حتى يأتي آخر هذه الأمة فيرون بيوت نبيهم أي صفة كانت وكان علوها قامة وبسطة ٤
وكذلك قوله عليه السلام ومنبري لأن المنبر مما فيه ترفع لكن لما لم يقصده عليه السلام إلا لمنفعة دينية - وهو أن يسمع جميع من حضر حكم الله عليهم - صار آخرة كله وكذلك كل ما احتاج المرء إليه من دينه لمصلحة فيه وإن كان يشبه متاع الدنيا فليس بدنيا ولتلك العلة لم يتخذ لا اله الا هو الخاتم إلا حين قيل له إن ملوك الروم لا تقرأ كتاباً حتى يكون
1 أقلها مبتدأ وخبره الحبّ ويريد أن الحب دون حفظ القرآن
أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي
۳ أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه ٤ انظر الحديث ٥٠ ففي حاشيته شرح لمعنى القامة والبسطة
٤٦٨

لأن
ـفال
ـلها
ما
مطبوعاً فاتخذه من أجل هذه العلة ومن أجل ذلك اختلف العلماء في التختم هل هو سُنَّة مطلقة كل الناس فيها سواء أو ليس إلا لمن له أمر ليس إلا على قولين فمن لحظ العلة التي من أجلها اتخذه هو قال لا يكون سنة إلا لمن كان محتاجاً إليه والحاجة هي ما تقدم من التعليل ومَن لَحَظ نفس الفعل ولم يعلل قال كل ما فعله عليه السلام فهو سنة مطلقة
ولذلك قال من قال
الدين بالسنّة محيا
واحذر عوائد سوء
فلا تقصد في فعلك سواه
ـد أتلفت وأهلكت
ــد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
محياه
جد