قد
إن
ـیه
ـته
والثاني كشهر والثالث كجمعة وباقيها إلى آخرها مثل الأيام
المعهودة إذ ذاك من طول أو قصر وقد سأل الصحابة سيدنا و هل
تجزئنا صلاة يوم في ذلك اليوم الطويل المتقدم ذكره فقال لا
ولكن اقدروا للصلاة قدرها ۱
ومنها مثل ما تقدم في الحديث من الإحياء بعد القتل ومنها
أنه يزرع ويحصد من حينه ومنها أنه يمشي ومعه مثل الجبال من
الخبز ومنها أنه يكون معه شبه جنة ونار فأخبر الصادق أن من
دخل جنته فهي نار ومن دخل ناره فهي جنة ۳ ومنها أنه يقول
للرجل اتبعني فيأبى عليه فإذا ولّى عنه اتَّبعه مال الرجل
فيتبعه الرجل كرامة لماله فيعظم كفره وكفر الناس به من أجل
ما أعطي من خرق العادات وأنه لا يخرج إلا بعد سبع سنين
قحطاً لا تنزل قطرة مطر ولا
تنبت الأرض شيئاً
ولهذا المعنى كان أهل التحقيق لا ينظرون إلى ما يجري على
أيديهم من خرق العادات وإن كثرت وقد يخاف بعضهم منها ويطلب
الاستعفاء كما ذكر عن بعضهم أنه كان في بعض أسفاره وتعرض
لهم بحر لا يُجَازُ إلا بمُعدِّية ۳ ولم يكن له شيء يعطي
لصاحب المُعَدِّيَةِ فبقي مفكّراً ما يفعل فإذا هو قد أبصر
حافتي البحر مما يقابله قد تقاربتا حتى بقيتا قدر خطوة
فلما رأى ذلك فزع وقال اللهم إن كانت كرامة فادّخرها لي
للآخرة وإن كانت من الشيطان الرجيم فأبعدها عني فرجع البحر
إلى ما كان عليه وأخذ من بعض ثيابه وأعطى صاحب
المُعَدِّيَة بما جَوَّزه
مما يشبه
والأخبار عنهم هذا كثيرة وإنما هِمَمُهم في تحسين إيمانهم
وأعمالهم وطلب موازنتها بمقتضى ما أخبر به الصادق مثل قوله
عليه السلام من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة
من قلبه على لسانه 4 وقوله عليه السلام اطلبوا الرقة في
ثلاث في الصلاة والتلاوة والذكر فإن وجدتموها وإلا فاعلموا
أن الباب مغلق وما يشبه هذه الحقوق فيها صلاح حالهم
وفيه دليل على أن أثر الحكمة فيه للنفوس تأنيس عظيم ودلالة
على عناية الربوبية بالعبودية
۱ رواه مسلم في الفتن من حديث النواس بن سمعان رضي الله
عنه وهو جزء من الحديث ومروي بالمعنى قطعة من حديث جابر بن
عبد الله رضي الله عنه رواه الإمام أحمد في المسند ۳/ ٣٦٧
والحاكم في المستدرك ٥٣٠/٤ وصححه على شرط مسلم وأقره
الذهبي ولفظ الشاهد - كما ورد في الحديث - ومعه نهران أنا
أعلم بهما منه نهر يقول الجنة ونهر يقول فمن أدخل الذي
يسمّيه الجنة فهو النار ومن أدخل الذي يسميه
النار فهو الجنة ۳ المُعَدِّيَة المركب يعبر عليه من شاطىء
إلى آخر ٤ رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب بإسناد
ضعيف
٦٠١
يؤخذ ذلك من كون الملائكة على نقابها يحرسونها والله عزّ
وجلّ قادر أن يحرسها دون شيء كما فعل بالرجل في الحديث قبل
۱ هذا لكن إظهار الملائكة فيه تأنيس للقلوب وإظهار عناية
المولى بالعبد كما فعل عزّ وجلّ في غزوة بدر حين أنزل
الملائكة ثم قال عزّ وجلّ في حقهم وَلِتَطْمَينَ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ
فجعلهم من أجل الإنس لما يعلم من ضعف
البشرية وحقيقة النصر من عنده جل جلاله ومثل ذلك هي
الأعمال الصالحة عند أهل التحقيق تأنيساً وتقوية رجاء في
فضل الله تعالى وحقيقة السعادة والخلاص عندهم بفضل الله
ويفهم هذا المعنى من قوله عليه السلام لن يُدخِل أحداً
عمله الجنةَ قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا
أن يتغمدني الله بفضل رحمته ۳ وقوله نقابها أي طُرُقها
وفجاجها
وهنا بحث وهو هل الدجال يبصر الملائكة فلا يتجرأ أن يقربهم
أو لا يراهم أو يكون ذلك
على طريق الإعظام للبقعتين والقدرة هي المانعة له احتمل
الوجهين معاً والقدرة صالحة لهما وفيه دليل على أن حرمة
البقع لا تنفع إلا مع الإيمان يؤخذ ذلك من قوله عليه
السلام
فيخرج إليه كل كافر ومنافق ولم يقل كل عاص ومذنب ولذلك كتب
مالك ٤ لبعض أصحابه حين كتب له أن انتِ الأرض المقدسة إن
الأرض لا تقدس أحداً وإنما يقدس المَرءَ عمله وقال بعضهم
اطلب لنفسك ما يقدسها من حسن علمٍ أو عمل فالأمر - والله -
خَطِر وهنا بحث في قوله عليه السلام ثلاث رجفات وهو أن
يقال ما معنى الرجفة وما الحكمة في ألا يخرجوا إلا في ثلاث
ليس إلا
أما الرجفات فيحتمل أن تكون حساً أو معنى وأعني حساً أن
الأرض تتحرك بهم كما تكون عند الزلزلة واحتمل أن تكون قوة
فزع يجدونه عند قربه إليهم أو نزوله ببعض سباخها - وهو
الأظهر والله أعلم - لأنه كثيراً ما تستعمل في الفزع كما
قال أول الكتاب فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده وقد تكلمنا
عليه أولاً وأما كونها ثلاثاً فهذه الثلاث كثيراً ما تتكرر
في الأشياء مبالغة في الخير أو ضده وهي كناية عن كثرة
الفزع الذي يلحقهم ونفوس الناس مؤمنهم وكافرهم
فالا
ولا
المـ
لقوله
الوقت
ناد
رجال
الرجم
إن ا
بخنا
علیم
ال
1 لم نقف على مصدره
٢ يشير إلى الرجل الذي أراد عبور البحر فرأى وحفظه الله
وقد جاء خبره قبل سطور معدودات ۳ سورة الأنفال من الآية ۱۰
٤ جزء من حديث رواه البخاري في المرضى باب تمني المريض
الموت وفي الرقاق باب القصد والمداومة على العمل ورواه
مسلم في صفات المنافقين عن أبي هريرة وعن جابر رضي الله
عنهما
٦٠٢
ليست على حدٍ سواء في الثبات وضده فأكثرهم فزعاً يخرج
أولاً والذي أقل منه بعده
وأجلدُهم آخراً
وفيه دليل على أن حقيقة الثبات إنما تكون مع قوة الإيمان
بدليل أن الخوف لحق الكل
لقوله عليه السلام ترجف المدينة فثبت المؤمنون ولم يستطع
ذلك الكافرون والمنافقون وفيه دليل على أن الكفار في ذلك
الوقت يكونون ممن يسكنون المدينة وأن النفاق يكثر ذلك
الوقت والوقت الآن ليس فيه نفاق ظاهر ولا بالمدينة كافر
مقيم ولا يدخلها فدل ذلك على قوة فساد العالم إذ ذاك
وكثرته
وهنا بحث وهو هل ما يُخص ١ بالرجف إلا المدينة لذلك الدجال
وحده أو يكون لكل دجال قبله رجفة لأنه قد قال بيني وبين
الدجال نيف وسبعون دجالاً فإن قلنا إن الرجف بمعنى تحريك
الأرض فيكون - والله أعلم - خاصاً بتلك البقعة وذلك الدجال
وإن قلنا إن الرجف بمعنى الفزع فكل دجال يوجد معه ذلك لأنه
ما حمل الناس على اتباعهم إلا الخوف من ضررهم فتلك رجفة
وأما غيرهما من البقع فتلك الرجفة موجودة في أرضهم غير
أنهم لا يحتاجون أن يخرجوا إليه كما فعلوا هنا لأنه هو
الذي يدخل إليهم وقد جاء أن بعض من يكون له إيمان قطعي به
إذا سمع بقربه يقول اذهب بنا نتفرج على هذا الكذاب اللعين
فإذا وقعت أعينهم عليه اتبعوه وفي هذا خوف شديد من الفتن
والحض على الهروب منها ما أمكن مخافة أن يلحق المؤمن منها
شيء
لكن هنا بحث وهو أن هؤلاء خرجوا وهم يعترفون بكذبه ثم
اتبعوه والشخص المذكور ۳ قبل الخروج إليه أيضاً هو موقن
بكذبه ففَعَل به ما فَعَل فلم يزدد فيه إلا تحقيقاً بكذبه
فالجواب لما خرج أولئك على طريق الفُرجة في آية الله أخذهم
البلاء لأنهم جعلوا آية الله لعباً ولهوا فلو كان تصديقهم
حقيقياً ما خرجوا على جهة الفرجة لأن الدجال خروجه من
الآيات العظام فجعلهم ذلك لهوا هو عين الفتنة ويترتب على
ذلك من الفقه أن الاستهزاء بشيء من الايات ومن أثر قدرة
الله ضعف في
1 هكذا بالأصل وصوابه أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي
الله عنهما
كذا والصواب أما يُخص ۳ رواه أبو نعيم عن أنس - كما في كنز
العمال - وروى مسلم وغيره من أنه سيكون كذابون ثلاثون كلهم
يزعم أنه نبي وروى الترمذي في الفتن عن أبي هريرة رضي الله
عنه لا تقوم الساعة حتى يبعث كذابون دجالون قريب من
ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله
٦٠٣
33
الإيمان ويخاف على دينه وقد قال جلّ جلاله قُلْ
أَبِاللَّهِ وَعَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ
تَسْهَرُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ
إِيمَنكم ١ وأما الآخر فخرج مجاهداً بنفسه في سبيل الله
لأن يكذبه ويصدق قول الله عزّ وجلّ وقول رسول الله فأمده
الله جل جلاله بالنصر منه والحماية فتعظيم آيات الله تعالى
وأثر قدرته من قوة الإيمان والخير كله مع قوة الإيمان مَنّ
الله به
علينا بفضله
وفيه دليل على أنه ما تظهر حقيقة الدعاوى إلا عند
الامتحانات يؤخذ ذلك من قصة
من
الدجال فإن ناساً يكونون يستترون بالإيمان ويدعونه فإذا
جاء الدجال لم يثبت إذ ذاك الدعاوى شيء إلا من كان إيمانه
حقيقياً وكان عمله على مقتضاه ومن أجل ذلك حَضَ حين ذكر
الفتن وقال الصحابة رضوان الله عليهم ما تأمرنا إن أدركنا
ذلك الزمان فقال عليه السلام الجأوا إلى الإيمان والأعمال
الصالحات فقوله عليه السلام إلجأوا إلى الإيمان وهم مؤمنون
معناه الأخذ في تقوية الإيمان ومما يقوي الإيمان الأعمال
الصالحات فإن بها
النقص وبها الزيادة
وفيه تنبيه على أن ينظر كل شخص في أمر نفسه في زمانه فيحذر
من دجَاجِلةِ وقته لأن كل زمان لا يخلو من دجاجلة فيكون من
أتباعهم وهو لا يعلم ويظن أنه قد سَلِم من الدجال وهو من
أتباعه أو هو نفسه من الدجاجلة ولا يعرف ذلك إلا بإقامة
ميزان الكتاب والسنة على نفسه على مقتضى ما تأوله السلف
الصالح رحمهم الله وإلا يكون مُستدرَجاً وهو لا يعلم فيدخل
تحت قوله عزّ وجلّ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ ﴾ وإلى هذا المعنى إشارته عليه السلام بقوله
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ٤ وليلزم الأدب والخوف
فالأمر ـ والله ـ عظيم وقد أصبحنا في زمان تغيّرت فيه
أعلام الخير وتشعبت طرقه وقل فيه السالكون وإليه الداعون
فتداركنا الله باللطف منه بفضله
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
٦٠٤
۱ في الحديث ٨٥
سورة التوبة من الآية ٦٥ ومن الآية ٦٦
۳ لم نقف على مصدره
٤ سورة الأعراف من الآية ۱۸
ن
ـة
ـن
L
حديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج
عَن عَبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ كُنَّا معَ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ من استطاعَ ۱ م
الباءَة فَلْيَتَزوّج فإنّهُ أعْضُ لِلبَصَرِ وأحصنُ
لِلفَرْجِ ومَن لم يَستطِعْ فَعَلَيهِ بالصوم
فإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ
ظاهر الحديث يدل على الأمر بالنكاح وأنه من سنة النبي ل لا
ل ا ل لأنه عليه السلام قال من استطاع منكم الباءة فليتزوج
والباءة في لسان العرب بالألف الممدودة هي القدرة على
التكسب والنفقة على الأهل
وقوله عليه السلام ومن لم يستطع فعليه بالصوم فيه دليل على
أن الصوم يقلل مادة النكاح ويضعفها لأن النبي الله أمر من
لم يقدر على التأهل به وقال عليه السلام فإنه له وجاء
والوجاء عند العرب هو رض الأُنثَيَيْنِ ٢ كانت العرب تأخذ
الفحول من الغنم فتفعل ذلك بها وهو الذي يقال له في الغنم
الخصي لمن فعل به هذا لكن هذا الفعل يذهب بمادة النكاح
بالكلية وإنما شبه النبي الصوم به لأن بينهما في الشبه
شيئاً ما وليس من شرط المثال أو الشبه أن يكون ذلك فيه من
كل الجهات بل يكون في صفة دون أخرى والصوم قد أخذ من ذلك
شيئاً ما وهو كونه يضعف ما يجده المرء من تلك الحرارة
القوية التي تغلبه وأما كله فليس يرتفع كما يرتفع من الغنم
ولأجل هذا أمر عليه السلام بالصوم للشباب - على ما جاء في
رواية غير هذه - لأن الشباب له من شهوة النكاح ما قد تغلب
عليه بخلاف الكبير فإن تلك المادة الكبرى ليست عنده وإنما
معه منها ما يقدر على أن يدفعه عنه
ولأجل هذا قال عليه السلام فإنه أغض للبصر وأحصن للفَرْج
ولم يقل بأنه يُغض البصر
1 انظر ترجمته في الحديث ۷۰
الأنثيان الخصيتان ورض الأنثيين دقهما أو كسرهما والمراد
هنا الخصاء
0
ويُحصن الفرج لأن المرء مأمور ابتداءً بغض البصر وتحصين
الفرج ولو كان معه مما تقدم كثير يؤمر بغض البصر وتحصين
الفرج شرعاً لكن بوجود الأسباب المُعِنَيةِ على ذلك يسهل
عليه الأمر وعلى الشباب في هذا مجاهدة ولا يُقدّر عليه إلا
مع الدين القوي فإذا كثر الصوم قلت تلك المادة التي تغلبه
فكان ذلك عوناً له على غض البصر وتحصين الفرج الذي أُمِر
به
وفي هذا دليل على أن المرء مأمور بعمل الأسباب لأن النبي
أمر بالتسبب في رفع حرارة ما يجده الإنسان مما أشرنا إليه
بالتأهل فإن لم يقدر الإنسان على ذلك فليَصُمْ فكذلك كل ما
يكون للإنسان فيه ضرر أو نفع فله أن يتسبب في زواله عنه أو
في إيقاعه بأي وجه قدر عليه من الوجوه الشرعية لكن يعارض
هذا قوله وحين سأله أبو هريرة رضي الله عنه قال إني رجل له
شاب وأخاف على نفسي العَنَت ولا أجد للنساء طَوْلاً فكرر
أبو هريرة ذلك ثلاثاً والنبي لم يرد عليه جواباً فقال له
عليه السلام في الثالثة جف القلم بما أنت لاق فاختص على
ذلك أو زِدْ ۱ فأمر عليه السلام هنا بترك التسبب
والاستسلام للقضاء وأمر في الحديث الذي نحن بسبيله بالتسبب
في زوال الأمر والجد فيه
والجمع بينهما هو أن أبا هريرة رضي الله عنه من أهل الصفة
وأهل الصُّفة أبداً من شأنهم الجوع وقد كان أبو هريرة رضي
الله عنه يُغشَى عليه من شدة الجوع فهو لم يزل عنه ذلك
الأمر بالصوم من شدة ما كان عنده من الحرارة للنكاح فعند
العجز عن السبب وكونه لا يدفع ما كان هناك أمره عليه
السلام بالتوكل والاستسلام وقال عليه السلام لرجل حين سأله
فقال أُرسل ناقتي فقال له عليه السلام اعْقِلُها وتَوَكَّل
٣ فقد بيّن عليه السلام في الحديث الذي نحن بسبيله حكم
الشريعة وبيّن في قصة أبي هريرة رضي الله عنه حكم الحقيقة
وهو التسليم فعلى هذا فيحتاج المرء أبداً أن يكون مستسلماً
لقضاء الله عزّ وجلّ وقدَرِهِ بعد بذل الجهد في الأسباب
الشرعية التي قد أجرى الله العادة أن يُنَجِّى بها ثم بعد
ذلك لا يعوّل عليها ولا يظن
1 رواية البخاري فاختص على ذلك أو ذر وكذا رواية ابن حجر
في فتح الباري والنسائي ٥٩/٦ والبيهقي في السنن الكبرى
۷۹/۷ ولفظ الحديث - كما ورد في البخاري - قال أبو هريرة يا
رسول الله إني رجل شاب وأخاف العنت ولا أجد ما أتزوج به
ألا أختصي فسكت عني ثم قلت له فَسَكتب عني ثم قلت له فسكت
عني ثم قال يا أبا هريرة جَفَّ القلم بما أنت لاق فاختص
على ذلك أو ذرّ
٢ أهل الصفة هم مجموعة من فقراء المهاجرين كانوا يأوون إلى
مكان مظلل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون
عنه ويرعاهم وقد أخلصوا أنفسهم للعلم والجهاد وكان منهم
أبو هريرة رضي الله عنه
33
۳ رواه الترمذي في العلل وقال هذا حديث غريب ورواه ابن
حبان والحاكم في المستدرك والقضاعي في مسن الشهاب وأبو
نعيم في الحلية وابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث
عمرو بن أمية الضمّري بإسناد
جيد
٦٠٦
كثير
مادة
كل
233
جل
ـلك
حن
ـان ـل
ـد
1,
أنها هي المنجية وإنما ينظر النجاة من طريق الفضل لا بعمله
كما قال إبراهيم عليه السلام هو إلا أَن يَشَاءَ رَبِّي
شَيْئًا وَسِعَ رَبِّ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۱ بعد بذل جهده
في الإيمان والتحقق به لم يُعوّل عليه وكان واقفاً مع
المشيئة
وقد كان عيسى عليه السلام على قنة جبل فأتاه إبليس اللعين
فقال له أنت تقول إنك لن يصيبك إلا ما كتب الله لك فازم
بنفسك من قُنّة هذا الجبل فقال له عيسى عليه السلام المولى
يجرب العبد وليس العبد يجرب مولاه
القدرة
وقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه في حائط له يعمل فجاءه
رجل فقال له أنتم تقولون إن الله هو يرزق وهو يمنع فما
ينفع تسبّبك وعملك فقال رضي الله عنه هو كما يقولون واشتغل
بعمله فهذه أبدا سيرة الأنبياء عليهم السلام والسلف رضوان
الله عليهم ومن خرج عن ذلك فقد ضل عن الطريق لأنه إذا ظن
أنه بعمله ينجو فقد هلك لأنه قد حصر وذلك ضلال وقد قال
عليه السلام لن يُدخل أحداً عمله الجنةَ قالوا ولا أنت يا
رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ۳ وقد
قال تعالى ﴿ مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَر ﴾ ٤
فإذا أراد الله عزّ وجل أن يكون صاحب هذا العمل من الضالين
وممن يُختم له بالشقاء فمن يقدر على غير ذلك كما كان بلعام
بن باعوراء ٥ وغيره لا راد لأمره يفعل ما يريد ولا يُسأل
عما يفعل
وأيضاً فإنه إذا ظن أنه بعمله يصل إلى مرغوبه فقد قطع بأن
له عملاً صالحاً وذلك محض الضلال لأنه زكّى نفسه بذلك وقد
قال تعالى ﴿ فَلَا تُرَكُواْ أَن أَعْلَمُ بِمَن أنقى ٦
وقد قال عليه السلام لا تُزَكّوا على الله أحداً ۷ قال ذلك
في رجل مات وأثنى الصحابة عليه بخير
ـل
۱ سورة الأنعام من الاية ۸۰
حائط بستان
۳ ورد قبل صفحات أنه رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه
٤ سورة الأعراف من الآية ١٨٦
٥ قال كثير من المفسرين هو المراد بقول الله تعالى وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى مَاتَيْنَهُ وَايَيْنا
فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ وكان بلعام يعلم اسم الله الأعظم الذي
إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب فدعا به علی موسی علیه
السلام فلم يستجب له فيه وسلبه الله منه والعياذ بالله
تعالى ٦ سورة النجم من الآية ۳ ۷ رواه البخاري في الشهادات
باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه وفي الأدب باب ما يكره من
التمادح ورواه مسلم في الزهد باب النهي عن المدح ولفظ
الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال أثنى رجل على رجل عند
النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك ثلاثاً
ثم قال من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل أحسب =
٦٠٧
بعد موته ثم قال لهم بعد ذلك ولكن قولوا إخاله كذا لكن
يعارض هذا قوله عليه السلام
إذا رأيتم الرجلَ يواظب المسجد فاشهدوا له بالإيمان ۱
والشهادة له بالإيمان تزكية في حقه والجواب عن ذلك أنه
عليه السلام قال لهم اشهدوا له بالإيمان أي اشهدوا بما ظهر
لكم من أمره وأما الباطن والعاقبة فليس لكم إلى ذلك سبيل
والأمر في ذلك إلى الله عزّ وجلّ هو يزكي من يشاء بفضله
ويعذب من يشاء بعدله وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه
السلام في كتابه وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا يكر
وقد قال تعالى لَا يُسْتَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ۳ هذه الآية ﴾
خضعت لها الرقاب وذلت لها - مع كثرة الأعمال وإخلاصها -
فَرَقاً من هذه الآية فلم تبق النجاة إلا بفضل الله وكرمه
لا بالعمل ولا بكثرته لكن يبقى العمل فيه بشارة للمؤمن
وتيسير له على مراده لقوله تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْمُسْرَى ٤
فمن رأى أنه قد يُسر لأفعالِ البِرّ استبشر وقوي رجاؤه في
فضل الله المتضمن لهذه الآية ولقوله تعالى بعد وصف من يُسر
لليسرى أَوَلَتَبكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ٥ فجعل الرجاء
إنما يكون لمن فيه ما وصف وما تكون تلك الأوصاف إلا لمن
يُسِّر لليسرى ومن رأى أنه قد يُسر لأفعال أهل الشقاء
فيعلم أنه قد يُسِّر للعسرى فيحتاج عند ذلك أن يقلع عما هو
بسبيله ويرجع إلى ربه بالتوبة الاستغاثة بالله لعله أن
يتقبله وأن يصرف عنه ما هو فيه من الشقاء وأن ييسره
والاستغفار للخير بمنه وفضله
فقد اجتمع الحديثان بهذا البحث وأن المراد عمل الأسباب مع
ترك التعلق بالتعويل عليها ورؤية المن والفضل للمُنْعِم
بها مع كثرة اللجأ إلى الله والاستغاثة به في دفع الضراء
وفي تمام النعمة والاستسلام لقضائه عزّ وجلّ خيره وشره
حلوه ومرّه
لكن الاستسلام هنا يحتاج فيه إلى تقييد لقوله عليه السلام
المؤمن تَسُرّه حسناتُه وتَسوؤه سيئاته ٦ فيكون المؤمن
أبداً على هذا مستسلماً لقضاء الله عزّ وجلّ وقدره مهما
أتاه أمر رضي
فلاناً والله حسيبه ولا يزكّي على الله أحداً أحسب كذا
وكذا إن كان يعلم ذلك منه
۱ رواه الترمذي في تفسير سورة التوبة والدارمي وابن ماجه
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عـ
سورة الأحقاف من الآية ۹
۳ سورة الأنبياء من الآية ۳ ٤ سورة الليل الايتان ۷ و ۱۰ ٥
سورة البقرة من الآية ۱۸
رواه الإمام أحمد في المسند ۵۵/۵ والقضاعي في مسند الشهاب
٤٠٢ والحاكم ١٤/١ وصححه ووافقه الذهبي ولفظه جاء رجل إلى
النبي فقال يا رسول الله ما الإيمان قال إذا سرتك حسناتك
وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن
٦٠٨
به ومهما أقامه الله عزّ وجل في شيء لم يطلب غيره ولم يختر
الانتقال عنه حتى يكون الله عزّ وجلّ هو الذي ينقله عنه
وقد سئل بعض أهل الصوفة بم نلت هذا المقام فقال ما أقامني
الله عزّ وجلّ في مقام فاخترت التحول عنه حتى يكون هو الذي
يحولني عنه ولأجل النظر إلى هذا المعنى ربح من ربح وفاز من
فاز ثم يكون أبدا يتفقد أمره فإن أقيم في شيء من المخالفة
أو البدع لم يرض بذلك إذ من شرط المؤمن ألا يسره ذلك
فيستغيث عند ذلك بربه ويقلع عما هو بسبيله ويعمل جهده في
التخلص منه امتثالاً للأمر وقد قال سبحانه وَلَا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۱ فما لم يرضَه المولى لعبده فلا
يرضاه العبد لنفسه وفيه دليل على أن العالم يجب عليه أن
يُعلم قبل أن يُسأل لأن النبي قد علم هؤلاء ما يفعلون قبل
سؤالهم إياه لكن يعارض هذا حديث الأعرابي المشهور الذي لم
يعلمه حتى طلب منه ذلك وقد تقدم والجمع بينهما هو أن ينظر
المرء صاحبَه ويتفرس فيه فإن ظهر له من حاله أن يقبل ما
يقال له فليعلمه قبل السؤال كما فعل النبي الله في هذا
الحديث وإن ظهر له من حاله أنه لا يقبل منه أو قد يسمع منه
الآن ثم يتركه أو ينساه فهذا لا تعليم عليه حتى يُسأل كما
فعل مع الأعرابي
وفيه دليل على أن المر مأمور أن ينظر في كل أفعاله ما هو
أقرب إلى ربه فيبادر إليه ويترك ما هو أدنى منه في الثواب
لأن النبي ا أمر أولاً بالنكاح الذي هو أعظم في الثواب
والأجر من الصيام ولم يأمر أولاً بالصيام حتى يعدم المرء
الطَّوْل إلى النكاح الذي هو أعظم ثواباً قال عليه السلام
تناكحوا تناسلوا أباهي بكم الأمم يوم القيامة ۳
فإذا كان النكاح بهذه النيَّة فلا شك في فضيلته على غيره
وقد قال عليه السلام لا رهبانية في الإسلام ۳ والرهبانية
هي ترك النساء فلو كان ترك النساء أفضل لكان شرع في
الإسلام إذ هو خير الأديان الذي شرعه الله عزّ وجلّ لنبيه
محمّد عليه السلام وقد قال عمر بن الخطاب النساء وما لي
إليهن حاجة وأطأهن وما لي إليهن شهوة فقيل ولم
رضي
الله عنه إني لأتزوج ذاك يا أمير المؤمنين قال رجاء أن
يخرج الله من ظهري من يكاثر به محمد الأمم يوم الله
القيامة فلأجل ما فيه من الفضل على غيره قدَّمه عليه
السلام أولاً وابتدأ به
1 سورة الزمر من الآية ٧
رواه عبد الرزاق في مصنفه ١٧٣/٦ مرسلاً بسند ضعيف ورواه
البيهقي في المعرفة عن الشافعي بلاغاً وليس فيه لفظ
تناسلوا وإنما فيه لفظ تكثروا وهو حديث ضعيف ويغني عنه ما
رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم
يوم القيامة
۳ انظر الحديث ۱ ففيه تخريجه
9
وفيه دليل على أن المرء لا يأخذ من الأمور كلها إلا ما
يعلم أنه يقدر عليها ويتخلص منها لأن النبي أمر من لم
يستطع النكاح بالصيام ولم يأمره بأن يحتال على النكاح
ويتسبب في
تحصيله لكونه أفضل وإنما أمره بالصوم
وفي
هذا دليل على أن الفضيلة فى الأعمال لا تنظر من جهتها إلا
من جهة عاملها لأن هذا
الذي لم يستطع النكاح أمره عليه السلام بالصوم والنبي عليه
السلام لم يأمر أحداً إلا بما هو
أقرب في حقه إلى ربه وإن نظرنا إلى فضيلة الصوم في حق هذا
المأمور به فذلك ظاهر من حيث لا يُجهَل ولا يخفى لأنه إذا
لم يستطع النكاح من قلة ذات اليد فالصوم يعينه على ما هو
بسبيله لأن فيه الإقلال من النفقة والإضعافَ لمادة النكاح
فإذا خف عنه هذان الأمران فقد سكن خاطره وقلت الوساوس عنه
فكان باطنه مشتغلاً آخرته مقبلاً بكليته على ربه وهو
المطلوب بخلاف ما لو أمر بالنكاح لكان ذلك تبديداً لحاله
واشتغالاً عن ربه لأنه يدبر ويحتال في التكسب والنفقة وهو
عاجز عنها فتكثر عليه الوساوس ويتعمر باطنه بتدبير دنياه
ويخرب من تدبير اخرته وإنما ينظر الأفضل في الأعمال من جهة
ما فضلها الشارع عليه السلام حين القدرة على كليهما وأما
مع العجز عن بعضهما فالذي بقي منهما ويقدر عليه هو أفضل في
حق المرء حتى قال بعض العلماء في رجل فقير ليس له غير درهم
واحد فتصدق به ورجل له مال فتصدق منه بألف دينار إن صاحب
الدرهم أفضل وبيان فضيلته أن صاحب الدرهم ليس له غيره
ونيته أن لو كان قادراً على أكثر لخرج عنه عنه والآخر تصدق
وبقي له ما يتسع فيه فهذا الذي خرج عن كل ما عنده أفضل لأن
الدرهم الواحد بالنسبة إلى الفقير مال فكذلك الصوم لمن لم
يستطع الباءة مع الذي يستطيعها بهذه المزية وكذلك يتتبع
هذا في كل الأفعال بالنظر إلى هذا البحث وهو يجري في كل
ذلك كانت الأفعال كلها دنيوية أو أخروية
وإن وقع التحقيق لم يبق في الأفعال كلها ما يكون دنيوياً
إذا حسنت النية فيه ولا أعظم من أن يكون للدنيا خالصاً من
التسبب فيها والمتسبب فيها لا يخلو من أحد أمرين إما أن
يكون بالأهل أو بغير أهل فإن كان بغير أهل وكانت نيته أن
يجعل ذلك عوناً على طاعة ربه كان له في ذلك من الأجر كثير
لقوله عليه السلام من بات تعبان من طلب الحلال بات مغفوراً
له ۱ وليلة القدر ترقب في السنة كلها رجاء مغفرة الذنب
وهذا قد تحصل له ذلك بهذا الفعل الذي فعل فلا شك أنه
للاخرة لا غير
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء ۹۱/ أخرجه الطبراني في
الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ من أمسى كالاً من عمل يديه
أمسى مغفورا له وفيه ضعف
ال
3 3
القادم
والم
ما
3
ير
لی
الا
لكـ
بال
وأم
في
٦١٠
وإن كان صاحبه ممن له أهل وعيال كان له من الخير ما هو
أكثر ممن تقدم لقوله عليه السلام إن من الذنوب ذنوباً لا
يكفرها إلا الكد على العيال ۱ وذلك بشرط أن يكون على لسان
العلم فأخبر عليه السلام أنَّ ثَمَّ ذنوباً لا يكفرها شيء
أصلا لا الوقوف بعرفة ولا قيام ليلة القدر ولا غير ذلك
لأنه أتى بـلا وهي للنفي عدا ما ذكر فبقي التصرف كله
للآخرة لا غير لكن على الشروط المذكورة
ولأجل النظر إلى هذا المعنى وتحقق النية به وفيه ساد أهل
الصوفة وامتازوا بعلو الدرجات والفضل على غيرهم وهم في
الأعمال سواء لأنهم لا يتحركون حركة إلا الله وبالله ويرون
أن كل ما يحركون به ألسنتهم هو قربة إلى ربهم لأجل نظرهم
إلى ما أشرنا إليه
ومما يبين ذلك بعض حكاياتهم فإنه قد روي عن بعضهم أنه لما
احتاج الناس إلى الاستسقاء من كثرة القحط أرسل إلى أخ له
في الله يسأله أن يرغب إلى الله عزّ وجلّ ويتوسل إليه لعله
أن يرحم عباده فلما أن أتى هذا المرسَل وجد هذا السيّد
المرسل إليه في تسبّب من أسباب الدنيا مشغولاً به يدخل
ليلا إلى منزله ويخرج نهاراً إلى تسببه فتعجب الرجل من ذلك
كيف يكون في التسبب على هذا الحال وهو يُسْتَسقى به فمكث
معه ثلاثاً وهو لم يعطه جواباً ثم أراد الرجل الانتقال
فسأله الجواب فقال له قل له لو أعلم أنه يخرج مني نَفَس
لغير الله لقتلتُ نفسي هذا
هو حاله مع ربه
الناس ببدنه ومع
ومن راه من العوام يظن أنه مستغرق في دنياه وهو عَرِيٌّ
عنها خالي القلب منها هو مع الله بقلبه وروحه كل ذلك أصله
النية وتحريرها والوقوف معها ولولا ذلك لكانوا في تصرفهم
وتكسبهم وغيرهم سواء في الأجر وغيره وقد قال عليه السلام
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فكانوا رضي
الله عنهم بهذا المعنى الذي وقعوا عليه وأمثالهم ما قال
عزّ وجلّ في كتابه وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِى أنْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۳ فكذلك يراهم العامي في
تسببهم وتكسبهم أو يراهم يؤنسونه ويتحدثون معه في جَلِي
الأمور وخفيها فيظن أنهم معه بالكلية وليس كذلك وإنما
أبدانهم هي تلك وأسرارهم تجول في الملكوت
1 رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية من حديث
أبي هريرة كذا قال العراقي في تخريج الإحياء ۳/ ولفظ
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من الذنوب
ذنوباً لا يكفرها صلاة ولا صوم ولا حج ويكفرها الهم في
طلب المعيشة
متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه ۳ سورة النمل من الآية
۸۸
٦١١
وقد يكون منهم من يقطع من المقامات ما قدر له وهو مع
أصحابه يحدثهم ويؤنسهم لكن لا يكون هذا إلا لأهل القوة
والتمكين منهم في الأحوال التي كشف الله لهم غواشِي فطن
أفهامهم ففهموا عنه ما أراده منهم فأجابوا إليه مسرعين وهم
الذين حصل لهم أوفر نصيب من ميراث نبيهم عليه السلام لأن
الله عزّ وجلّ قال في حقه عليه السلام مَا زَاغَ الْبَصَرُ
وَمَا طَغَى ۱ وقال عليه السلام تنام عيناي ولا ينام قلبي
٢ فكان عليه السلام في النوم لا يغفل وحين اطلع ما أطلعه
الله عليه لم يُلهِه ذلك ولم يَشغَله عن آداب العبودية
وكان عليه السلام يمزح مع ويؤنسهم ويأخذ معهم في تدبير
أمورهم وسره في الملكوت يجول حيث أراد الله عزّ وجلّ به
ومن تقدم وصفهم أخذوا من هذا أوفر نصيب لكن ذلك المقام
الخاص به عليه السلام لا سبيل لأحد للوصول إليه
النساء والصبيان
ومما يشهد لهذا المعنى ما حكي عن بعضهم أنه مرت به فكرة
فسُرِي بسره إلى قابِ قوسَينِ فسمع النداء هنا سُرِي بذاتِ
محمّد السنية حيث سُرِي بسرك ولسان الحال ينادي للتابع
وللمتبع
بينكما ما بينكما في الاتباعية
ومما يشهد لذلك أيضاً ما حكي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله
أنه كان نائماً في مسجد وواحد ممن كان يلوذ به قائم يصلي
فرأى بعض من كان هناك من أهل الفضل شيطانين خارج المسجد
وأحدهما يقول لصاحبه ألا تدخل فتوسوس لهذا المصلي فقال له
الآخر يحرقني نفس هذا النائم فهو لم يعبأ بهذا المصلي ولم
يقدر على الدخول إلى المسجد خيفة نفس إبراهيم لئلا يحرقه
ولا ذاك إلا لحضورهم في كل أحوالهم وفي كل أزمانهم فنسأل
الله بمنّه وفضله ألا يحرمنا من بركاتهم وأن يمن علينا مما
مَنّ به عليهم
وفيه دليل على أن الموجب للنظر هي قوة شهوة الجماع يؤخذ
ذلك من قوله عليه السلام أغض للبصر ومما يقويه قوله عليه
السلام وزنى العين النظر والفرج يصدق ذلك أو يكذبه 4 ووجه
آخر وهو أنه لما كان غض البصر مطلوباً بمقتضى الآية أمر من
لم يقدر على ذلك بالتسبب
1 سورة النجم من الاية ١٧
330
متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ أتنام قبل أن
توتر يا رسول الله فقال إن عيني تنامان ولا
ينام قلبي
انظر سنن أبي داود في الأدب والترمذي في البر والصلة
والبخاري في الأدب باب الانبساط إلى الناس
ومسلم في
٤ جزء من حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
ولفظ الحديث كُتِب على ابن آدم نَصيبُه من الزنى فهو مدرك
ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما
الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل
زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى ويُصدق ذلك الفَرْج أو
يكذِّبه
12
٦١٢
وبحث ثالث وهو أن يقال هل لا يكون ۱ غض البصر إلا بهذين
الأمرين لا غير
فالجواب إن هذين أكبر وقد يكون غض البصر بأن يغطي رأسه حتى
لا يرى أحداً إن كان المَعْنِي الجارحة وإن كان المَعْنِي
الجارحة مع سكون الفكرة في ذلك الشأن فهذا قد يزيله نوع
آخر مثل شدة الخوف والتألم كما روي عن الثوري رحمه الله
أنه كان إذا مرَّ به خاطر لغير الله يضرب نفسه بقضيب فربما
كان يكسر على نفسه في اليوم الواحد جملة من القضبان ووجوه
كثيرة لكن الذي أشار إليه له وهو أعلاها وأيسرها ويكون من
باب التنبيه بالأعلى على الأدنى
وفيه فائدة أخرى أنه دواء وهو في نفسه قُربة فالذي يقدر
على أن يكون دواؤه طاعة فهو أولى ومن هذا الباب قوله عليه
السلام داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالصدقة وما
ذكرنا هذا إلا من أجل أنه يعجز بعض الناس عن أحد هذين
الوجهين أو يفعلهما ولا يقع له بهما غض بصر ولا فرج فيقول
قد امتثلت السنة وما يلزمني أكثر ويترك نفسه مهملة هذا لا
يحل وإنما هذا منه تنبيه على التسبب في توفية ما أُمر
العبد به
وبحث آخر وهو أنه ليس الأمر - أعني الحفظ - مختصاً بهذين
العضوين ليس إلا بل الجوارح كلها مطلوبة بالحفظ لقوله
تعالى ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا ۳ وإنما نبه بهذين العضوين
لأنهما إنما تعظم الفائدة فيهما لأنه من استقامت له هاتان
فالغالب استقامة الغير ومن لم تستقم منه هاتان فلا يمكن
استقامة باقي الجوارح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وعلى اله وصحبه وسلم تسليماً
1 كذا والصواب ألا يكون رواه الطبراني في الكبير والقضاعي
في مسند الشهاب وأبو نعيم في الحلية والخطيب في تاريخه من
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفي إسناده ضعف ولفظه
- كما ورد في الجامع الكبير - داوو مرضاكم بالصدقة وحصنوا
أموالكم بالزكاة فإنها تدفع عنكم الأعراض والأمراض وليس في
الحديث ما أورده ابن أبي جمرة رضي الله عنه وادفعوا البلاء
بالصدقة ۳ سورة الإسراء من الآية ٣٦
٦١٣
حديث توقيت الشحور
عَن زيد بن ثابت ۱ رضي الله عَنهُ قالَ تَسخَّرنا معَ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قام إلى الصَّلاة
قُلتُ كَم كانَ بينَ الأذانِ وَالسُّحورِ قَالَ قَدْرُ
خَمسينَ آيَةٌ
*
**
ظاهر الحديث يفيد بأن تأخير السحور من السنة لأن النبي وا
تَسَخَّر وكان بينه وبين الفجر قدر قراءة خمسين آية وإنما
فعل ذلك لأنه عليه السلام كان أبدا ينظر ما هو أرفق لأنه
لو لم لأمته فيعمل عليه لطفاً منه بهم وسحوره عليه السلام
من جملة الألطاف بهم يتسحر لكان أبداً أهل الفضل من أمته
لا يتسحرون لاتباعهم له فقد يكون على بعضهم في ذلك مشقة
لأنه ليس كل الناس يقدر على ذلك
وكذلك أيضاً لو تسحر في جوف الليل لكان عليهم في ذلك شيء
آخر وذلك أن المرء إذا أكل في جوف الليل فالغالب عليه أنه
ينام بعد الأكل وليس كل الناس يقدر على السهر والنوم عقيب
الأكل فيه ضرر كثير على البدن لأن بخارية الطعام تطلع إلى
الدماغ فيتولد من ذلك علة أو مرض ولو سهر الإنسان من وقت
أكله وكان الأكل في جوف الليل لوجد بذلك مجاهدة لأن الأكل
والشرب يستدعيان النوم فيكون ذلك سبباً إلى أن يكون النوم
يستدعيه في وقت الحاجة إلى العبادة وهو وقت صلاة الصبح
وربما يغلب عليه النوم من أجل ثقل الطعام الذي يكون في
المعدة والبخارية التي تطلع إلى الرأس فإذا كان كذلك فقد
يضرب به النوم عن صلاة الصبح فيكون الأكل في ذلك الوقت
سبباً إلى إيقاع الصبح فذا في غير وقتها المختار سيما في
صلاة الصبح المستحب التغليس بها وإن هو لم ينم فإنه يجد
مجاهدة في وقت الصلاة بالنوم والمطلوب في الصلاة الحضور
بالقلب فإذا كان يجاهد النوم فلا يأتي له مع ذلك حضور
۱ انظر ترجمته في الحديث ٤٤ فذا فردا بلا جماعة
۳ الغَلَس الصلاة في ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء
الصباح والتغليس هو الصلاة في وقت الغَلَس
٦١٤
فلأجل هذه المعاني وغيرها أخر عليه السلام السحور إلى قريب
من الفجر لأن المرء إذا تسخَّر في ذلك الوقت لم يبق بينه
وبين الصلاة إلا قدر ما يأخذ أهبتها فكان ذلك سبباً إلى
إيقاع الصلاة بحضور لأنه ليس معه في ذلك الوقت ما يزيل عنه
ذلك لأن الصلاة وقعت عقيب الأكل وإنما يقع التشويش بالأكل
من جهة النوم بعد الأكل بزمن يسير بقدر ما تطلع بخارية
الطعام
إلى الرأس
ثم إنه إذا أوقع الصلاة بعد أكله دخل في النهار فاشتغل
بِمَا لَهُ من الضرورات والأوراد عن النوم ويحصل له بذلك
فائدة أخرى وهو تركه للنوم بعد الأكل وترك النوم زيادة في
العمر لأن النوم هو الوفاة الصغرى وقد قال تعالى ﴿ وَهُوَ
الَّذِى يَتَوَفَّنَكُم بِالَّيْلِ ۱ فجعل النوم وفاة
والعاقل مهما قدر على الزيادة في عمره ولو بنَفَس واحد فعل
وذلك أن التاجر أبداً عند الناس لا يقال له تاجر حتى يكون
أبداً محافظاً على رأس ماله ويكون عارفاً بالتجارة
والتاجر الحقيقي هو المؤمن لأنه يتّجر فيما يبقى وهؤلاء
يتجرون فيما يفنى والمؤمن رأس ماله هو عُمرُه فيحتاج أن
يحافظ عليه وحينئذ يطلب الربح فيحذر من كثرة النوم
والغفلات فإذا احترز من ذلك بادر إلى الكسب بالأعمال
الصالحات وقد أخبر عزّ وجلّ في كتابه بأنهم هم التجار حقاً
بقوله تعالى يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى بِصَرَف تُجِيكُرَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم
الآية إلى آخرها ولا شك أن من فاز بالجنان ونجا من النار
وحصلت له المغفرة من العزيز الغفار أن ذلك هو أربح
الرابحين وقد أوحى عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام في
الزبور يا داود من تاجرني فهو أربح الرابحين
فإذا لم يتحرز المرء في يقظته من كثرة الغفلات فهو كالنائم
سواء لقوله عليه السلام مَثَلُ الذي يذكر ربَّه والذي لا
يذكر مَثَل الحي والميت فشبهه بالميت وإن كان مستيقظاً
لأجل أن وقته عرِيٌّ عن عبادة ربه فيكون رأس ماله يتبدد
وهو لا يشعر حتى ينفد فإذا نفد انتبه لحاله وقال
ارْجِعُون
جعون ٣
فيقال له كَلَّاً وأما من قام أول الليل للحاجة التي لا بد
للبشر منها
فصاحب ذلك النوم في عبادة وخير فنومه وصلاته وذكره على حدّ
واحد في الأجر
يشهد لذلك قصة الصحابيين وهما معاذ وأبو موسى الأشعري رضي
الله تعالى عنهما لما أن أرسلهما النبي لا يعلمان الناس
الدين ويقرران الأحكام فمضيا إلى ذلك ثم اجتمعا فسأل
1 سورة الأنعام من الآية ٦٠
333
سورة الصف الآية ١٠
۳ سورة المؤمنون من الآية ۹۹
10
أحدهما الآخر عن حاله فقال أبو موسى الأشعري أقرأ القرآن
قائماً وقاعداً وماشياً ومضطجعاً ولا
أنام وقال معاذ أنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي
كما أحتسب قومتي فلم يسلّم أحدهما للآخر حتى أتيا النبي
الا الله فذكرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأبي موسى الأشعري هو أفقه منك يعني معاذاً الذي يقوم
وينام ولا يطلق عليه السلام على من أخذ بذلك أفقه إلا
لأنّه أخذ بما هو أقرب إلى ربه وأحب إليه هذا هو حال
النائم للضرورة التي هي من طبع البشر ولا غنى له عنه وأما
غير ذلك فهو نقصان من العمر وقد تقدم فتحصل من هذا بأن
السحور في ذلك الوقت فيه خير كثير بدليل ما أشرنا إليه
وأيضاً فإن السحور في ذلك الوقت فيه عون على صيام النهار
لأنه إذا تسحر والفجر قريب أصبحت المعدة بالطعام وقلّ أن
تحتاج إلى الطعام وإنما تشتهيه مع اخر النهار فلا تجد
النفس ولا الشيطان سبيلاً على فاعل هذا من قبل أنه لا
تأخذه الحاجة إلى الطعام إلا إلى آخر النهار فيكون وقت
الإفطار قريباً فيسهل عليه الانتظار في ذلك الزمن القريب
ثم إنه لم تكن له إلى الطعام تلك الحاجة الكلية فإذا كان
المرء على هذا الأسلوب كان حاضراً في يومه ذاك عَرِيّاً عن
الوسواس والاشتهاء والتمني بخلاف من لم يتسحر في جوف الليل
لأن المعدة تصبح خالية من الطعام فيصبح وهو محتاج إلى
الأكل فيبقى يومه ذلك في مكابدة ومجاهدة مع النفس من قبل
ما تشتهي من الأطعمة لأن الجائع أبداً تكثر عليه الشهوات
ويجد الشيطان إليه سبيلا في الوسوسة بذلك وقد يغلب على بعض
الناس من جهة الصفراء لأن الصفراوي لا يحتمل ذلك فيُغشَى
عليه فيكون ذلك سبباً للإفطار في رمضان
ولأجل هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال من رأى منكم امرأة
تعجبه فليأت أهله فإن الذي عندها عند الأخرى ۱ أو كما قال
عليه السلام لأن من رأى امرأة فتلك الشهوة القوية هي التي
تسوّل ما تسوّل من إيقاع المخالفة فإن هو أتى أهله فقد زال
عنه ذلك الألم الكلي وإن كانت المرأة التي رأى في الجمال
ليس عنده مثلها فهو إذا واقع أهله لم تبق النفس تتشوف مثل
ما كانت وهو قادر على زوال ما بقي من التشوف للغير إن بقي
والسحور فيه شبه من ذلك لأنه إذا تسحر كان على الحال الذي
قدمنا ذكره فلم يبق معه من الشهوة إلى الطعام إلا قدر ما
يطيق على إزالته عنه وإن هو لم يتسحر كان على الحال الذي
قد ذكرناه وذلك نقصان سيما في رمضان الذي فيه من الفضل ما
قد علم فيحتاج المرء أن يكون فيه حاضر القلب مع ربه ساكن
الخاطر من جهة نفسه لئلا يروح عنه يوم لا يخلف مثله
۱ رواه مسلم في النكاح وأبو داود والترمذي من حديث جابر
رضي الله عنه وأوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
امرأة فأتى امرأته زينب إلخ
وفي سحور النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دليل على
تواضع النبي لا إذ إنه في الفضل حيث هو لكنه كان يأكل مع
أصحابه ويؤانسهم تواضعاً منه لهم
بعض
وفيه دليل على أن المشي بالليل للحاجة لا كراهة فيه لأن
الصحابة رضوان الله عليهم أكلوا مع النبي بليل ومعلوم أن
منازلهم كانت في الصغر والضيق من حيث لا يبيت بعضهم عند
غالباً ولأجل هذا لما نهاهم عليه السلام عن الجلوس في
الطرق قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا ١ لأنهم كانوا إذا
أراد أحدهم أن يجتمع بصاحبه لم يجد إلى ذلك سبيلاً من ضيق
بيوتهم غالباً فاحتاجوا إلى الجلوس في الطرق لضرورة اجتماع
بعضهم مع بعض في النظر فيما يصلحهم فلما أن تقرر هذا من
حالهم علم أنهم خرجوا بليل حتى اجتمعوا في موضع تسحروا فيه
ويحتمل أن يكونوا تسحروا في المسجد الجامع أو في منزل
النبي أو في منزل أحدهم وتقديرهم الزمان بخمسين اية فيه
دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانت أوقاتهم مستغرقة
في التعبد لأنهم قدروا الزمان بتلاوة القرآن فلو كانت لهم
عادة تغلب عليهم أكثر من التعبد لقدروا الزمان بها ولو
كانت قلوبهم متعلقة بغير ذلك لقدروا بذلك فهم أبداً لا
يزالون في التعبد وإن كان أحدهم في شغل من الأشغال فقلبه
متعلق بالتعبد لا بذلك الشغل فما كان هو الغالب على المرء
والقلب به متعلق فتقدير الزمان لا يعرفه إلا به غالباً
لتيسير ذلك عليه
وفيه دليل على أن المرء لا يخاطب كل شخص إلا بما يعلم أنه
يفهم عنه لأنهم قدروا الزمان بالقراءة التي هي كانت الغالب
عليهم ولو كان ذلك الأمر بين غيرهم لكان التقدير بغير ذلك
بما يعلم أنه يصل إلى الذهن لأن المطلوب هو إيصال الفائدة
إلى فهم السائل فلا يقدر له ذلك إلا بما يعلم أنه يصل به
الفهم إليه مثال ذلك أن العامي الذي لا يقرأ القرآن ولو
قدر له الزمان بالقراءة لم يتحصل له من ذلك التقدير فائدة
لأنه لا يعرف بها قدر الزمان المشار إليه فيكون المرء
أبداً يخاطب صاحبه على قدر فهمه وبحسب ما تتوصل الفائدة
إليه ولا يعامل الناس كلهم بمعاملة واحدة فإن ذلك من الخطأ
والغلط فإن علم صاحبه في المثال أنه يحسن الخياطة أو
النجارة قدر له الزمان بذلك فيقول له قدر ما تخيط كذا أو
تنجر كذا اقتداء بهذا الحديث
ثم بقي بحث وهو هل الألف واللام في الصلاة للجنس أو للعهد
احتمل الوجهين فإن
قطعة من حديث متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
ونص الحديث إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا يا رسول الله
ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال رسول الله فإذا
أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق
يا رسول الله قال غض البصر وكفّ الأذى والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
٦١٧
كانت للجنس فتكون الصلاة هنا صلاة نافلة ويكون على هذا
الوجه من السنة أن يكون إثر السحور صلاة نافلة وإن كانت
للعهد ـ وهي الفريضة - فيكون معنى قام إلى الصلاة أي
للتأهب لها من طهارة وخروج إلى المسجد لانتظارها لأنه في
صلاة ما كان ينتظر الصلاة
ويترتب على هذا من الفقه أن يكون السحور بقرب الصبح حتى ما
يكون بعده إلا الاشتغال بالصبح وهو الأظهر - والله أعلم -
لأجل أن سؤال صاحبه عن الأذان إنما كان حتى يعلم أي قدر
يبقى له للصبح عند فراغه من الأكل لأنه لا يمكن له الاتباع
إلا بتحديد الوقت
وفيه دليل على أن من النبل في العلم أو في الإخبار إذا أتى
المتكلم بأمر فيه احتمال أن يفسره للسامع حتى يزيل ذلك
الإشكال يؤخذ ذلك من أنه لما قال الراوي ثم قام إلى الصلاة
احتملت ثم أن تكون على المشهور من بابها من أنهم لم يقوموا
إلى الصلاة إلا من بعد مهلة واحتمل أن تكون ثم للإخبار من
الانتقال من فعل إلى فعل لا ثاني بينهما ومثل للسامع على
قدر الزمان الذي كان بين فراغهم من السحور والأذان بذكر
الآي فذهب الإشكال
والألف واللام أيضاً في الأذان هنا إنما هي العهد ولأن
النبي الله ما كان يقول إن بلالاً ينادي بليل فكلوا
واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ۱ وكان لا يؤذن إلا مع
الفجر وسؤاله هنا إنما هو عن الأذان الذي يمنع معه الأكل
والشرب
وفيه بحث آخر وهو أن الأكل يكون قطعه قبل الفجر بيسير أقله
مثل هذا وقد تقرر من الشريعة أنه لا بدّ للصائم أن يمسك
جزءاً من الليل قبل الفجر ولا يحسبه واجباً لكونه عليه
السلام فعل ما تقدم ذكره وقد بيّن ذلك قولاً وفعلاً
وفيه من الحكمة أن من كلف شيئاً فأخرجه عن عادته أن من
الرفق به أن يعان عليه لأن
الصوم خروج عن العادة فرفق به في السحور
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ متفق عليه من حديث السيدة عائشة وابن عمر رضي الله عنهم
و ابن أم مكتوم اسمه عمرو بن قيس بن زائدة اسمه ابن الأصم
صحابي شجاع كان ضرير البصر أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة
بعد وقعة بدر وكان يؤذن الرسول الله الله في المدينة مع
بلال وكان النبي الا الله و يستخلفه على المدينة يصلي
بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء
وعليه درع سابغة فقاتل - وهو أعمى - ورجع بعدها إلى
المدينة فتوفي فيها سنة ٣٢هـ / ٦٤٣ قبيل استشهاد عمر بن
الخطاب رضي الله عنه
٦١٨
-49-
حديث من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر
عَن أبي هريرةَ رضيَ الله عَنهُ رَفعهُ مَن أفطر يوماً من
رمضانَ مِن غَير عُدْرٍ ولا مَرضِ مَن لم يقضهِ عَنهُ صيام
الدهرِ وَإِنْ صَامَهُ وَبِهِ قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله
عَنهُ
*
**
ظاهر الحديث يفيد أن من أفطر في رمضان متعمداً من غير عذر
ليس له كفارة تكفره لأنه قال فيه لم يقضه صيام الدهر وإن
صامه وصيام الدهر أعظم ما يكون من القضاء عن صوم ذلك اليوم
ثم إنه لم يجزىء ذلك عن يومه الذي أفطر فيه فما يغني غير
ذلك من الكفارات
وقد اختلف العلماء هل عليه كفارة أم لا فذهب الشافعي رحمه
الله إلى أن لا كفارة عليه وهذا الحديث مما يشهد له بذلك
لكنه قال بالقضاء وهذا الحديث يردّ ذلك لأنه قال فيه لم
يقضه صيام الدهر فإذا كان صيام الدهر لا يُجزيه فما يكون
اليوم الواحد بالنظر إلى هذا وذهب مالك رحمه الله إلى وجوب
الكفارة قياساً منه على الجماع الذي وردت الكفارة فيه على
الصائم نصاً من الشارع عليه السلام فقال الأكل من باب أولى
أن تكون الكفارة فيه والأظهر - والله أعلم - أن هذا الحديث
لم يبلغهما ولو بلغهما لذهبا إليه أو لتكلما فيه فلما أن
لم يتكلما عليه ولا تكلما فيه قوي الظن أنه لم يبلغهما
سيما مالك رحمه الله الذي يروي أحاديث ثم يترك العمل بها
لأجل العمل المتصل وهذا الحديث من اكد ما عليه من النقل إذ
إنه يصادم ما ذهب إليه والذي يظهر من الفقه - والله أعلم -
أن الإفطار في رمضان متعمداً ليس له كفارة كما هو اليمين
الغموس هذا من طريق الفقه وعملاً على الحديث
لكن قوله وبه قال ابن مسعود يدل ذلك على أن ابن مسعود خالف
غيره في ذلك إذ إنه لولا أنه اختص به وحده وذهب إليه دون
غيره ممن كان في وقته لما ذكر الراوي أنه هو الذي ذهب إلى
ذلك وترك ما عداه فعلى هذا فالحديث كان عندهم مشهوراً لكن
تركوا العمل به لما ظهر لهم من
٦١٩
الترجيح فإذا قلنا بهذا البحث فيكون الحديث قد بلغ إلى
الأئمة لكنهم لم ينقلوه ولم يتكلموا فيه لما ظهر لهم من
المصلحة في ذلك إما لعلمهم بأنه قد ترك العمل به وإما لغير
ذلك وقوله من غير علة ولا مرض العلة هي كل عذر أباح الشارع
عليه السلام به الإفطار والمرض تأكيد في العلة وهو ما يلحق
ابن آدم من الضعف فيمنعه من الصيام وقد اختلف العلماء في
المرض الذي يفطر له وقد ذكر في كتب الفقه
وفي مساق هذا الحديث دليل على فضل رمضان إذ إن يوماً منه
لا يَعْدِلُه صيام الدهر فإذا كانت أيامه على هذا الفضل
والمزية فيحتاج اللبيب أن يكون في أيامه منتبهاً حاضراً
منقطعاً للتعبد وقد جاء أن الأعمال تضاعف فيه وقد قال عليه
السلام يوماً عند صعوده إلى المنبر آمين كرر ذلك ثلاثاً
فقيل له في ذلك فقال أتاني جبريل عليه السلام فقال لي مَن
أدركه رمضان فلم يغفر له أبعدَه الله قل آمين فقلت آمين ثم
كرر ذلك اثنين بعده بالبعد أيضاً ۱ فَلْيَحْذَرُ المرء
لئلا يدخل تحت هذا الدعاء إذ إن الأمر فيه على قسمين إما
مغفرة الذنب أو الخسران بالدخول تحت نص هذا الدعاء
وهنا بحث آخر وهو أنه يكون معنى قوله لم يقضه صيام الدهر
وإن صامه أي أن الفضيلة التي فاتته في صيام هذا اليوم
الدهر كله لا يقوم مقامها وإن كانت الكفارة مُذهِبة لما
وقع فيه من الإثم إلا أن ما خسر فيه لا يمكنه خلفه لأن ما
جعله المولى في خَلق من خلقه من فضيلة لا يكون شيء
يَعدِلُه مما جعله غيره من العبيد وإن كان أكثر منه ثواباً
فلا تحصل له تلك الفضيلة الخاصة مثال ذلك أن لو جاء شخص لا
يضحي يوم النحر ويتصدق مثلا بألف درهم أو دينار قيل له فضل
الأضحية وما جاء فيها لا يحصل لك وإن نويتَ أنت بتلك الألف
دينار أنها بدل من الأضحية ولا يكون لك بها ثواب أضحية ولو
اشتريت منها أضحية بدينار لكان لك خيراً من تلك الصدقة
بالألف وإن كانت مقبولة لقوله عليه السلام ما عمل آدمي
عملاً في يوم النحر أفضل من إراقة الدم ففضلت أنت ما لم
يفضله الشرع فليس كما زعمت ولا يكون ذلك
قطعة من حديث رواه عدد من الصحابة الكرام منهم كعب بن عجرة
والحويرث وأبو هريرة وهو حديث صحيح رواه الحاكم وابن حبان
ولفظه صعد رسول الله الا الله و المنبر فلما رقي عتبة قال
امين ثم رقي أخرى فقال امين ثم رقي عتبة ثالثة فقال امين
ثم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد من أدرك
رمضان فلم قال يغفر له فأبعده الله فقلت امين قال ومن أدرك
والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله فقلت امين ومن
ذكرت عنده فلم يُصَلّ عليك فأبعده الله فقلت آمين رواه
الترمذي في الأضاحي عن عائشة رضي الله عنها ولفظه ما عمل
آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراقه الدماء
إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن
الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها
نفساً
٦٢٠
ولذلك كان مالك رحمه الله تعالى يرغب للمسافر أن يصوم في
سفره وإن كان الفطر له مباحاً شرعاً ومذهب الإمام أنه
مخيّر بين الأكل والصوم إلا أنه قال فضل أيام رمضان لا
يوجد في غيرها فتراه قد لحظ هذا الحديث من وجه ما وهو
الأحوط
وفيه دليل على أن فضل العبادات هو الاتباع لا الأشق يؤخذ
ذلك من أن صوم الدهر أشق من صوم يوم وتراه لا يَعْدِلُه
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون طاعة العارف امتثال
وطاعة الجاهل شهوة لأن الشهوة هي التي حملت على أكل اليوم
متعمداً فأبدله بالأشق - وهي الكفارة - والامتثال هو الذي
حمل العارف على التزام الأدب في توفية الأمر لا غير
وفيه دليل على أنه ما يقع من المخالفة حقيقة فصاحبها مع
وجود الفضل فيه لا ينجبر له ما فاته وإن تاب يؤخذ ذلك من
قوله وإن صامه لأن هذا لا يصوم إلا مع وجود التوبة وقد قال
الشافعي رحمه الله إنه ما عليه إلا التوبة وقضاء يوم بدله
فتكون التوبة وقضاء اليوم أو الدهر غايته أن يدفع عنه
العقاب وأما ما كان له من الربح فلا يعود - أعني على مثله
- إلا إن تفضل المولى وأما على الظاهر فلا وعلى هذا يجيء
قوله التوبة تَجُبّ ما قبلها ۱ أي تقطعه وتمنع ما كان من
الإثم والعقاب لا أنها تجبر ما فاته من الخير
ولذلك قال أهل المعاملات لو أن شخصاً بقي بباب مولاه عمره
وغفل ساعة واحدة لكان ما فاته في تلك الساعة خيراً مما نال
لأنه لعل تلك الساعة كانت ساعة النفحة ومن فاتته تلك
النفحة ما يخلفها غيرها وإن أتت نفحة أخرى فقد فاتت تلك
وخسر نصيبه منها وواويلتاه من
تخلف عن باب مولاه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
1 لم نقف على مصدره وإنما المعروف أن الإسلام يجب ما قبله
٦٢١
حديث وصية النبي الله لأبي هريرة بثلاثة أعمال من البر صلى
الله عليه وسلم
عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال أوصاني خليلي بثلاث صيامِ
ثلاثةِ أيامٍ مِن كُلِّ شَهرٍ وَركعَتيِ الضُّحى وأن
أُوتِرَ قَبلَ أن أنام
ظاهر الحديث يفيد الحض على صيام ثلاثة أيام من كل شهر
وركعتي الضحى وإيقاع الوتر قبل النوم لأن النبي لا لا لا
لو أوصى بذلك لأبي هريرة رضي الله عنه وما أوصى به عليه
السلام فهو تأكيد منه في الأمر
فإن قال قائل لِمَ أوصى النبي الله الله وبذلك لأبي هريرة
رضي الله عنه وخصه بها دون غيره مثل أبي بكر وعمر وغيرهما
من الخلفاء قيل له إنما تركهم من قبل أنهم كانوا بحيث لا
يحتاج عليه السلام إلى وصيتهم لأنهم قاموا بعبء النبوة
بعده وهم ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا من ميراثه
أوفر نصيب وقد قال عليه السلام أنا مدينة السخاء وأبو بكر
بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء
وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها ۱
فمن كان بهذه المزية من النبي فلا شك أن الوصية تلتمس منهم
وقد جعل عليه السلام أفعالهم يقتدى بها في الدين فقال عليه
السلام عليكم بسنتي وسنة العُمَرَينِ بعدي ۳ وفي حديث آخر
وسنة الخلفاء ۳ وكانوا كذلك رضي الله عنهم حَذَوا حَذْوَ
نبيهم وسلكوا منهاجه فكانوا يبادرون إلى ما هو أقرب إلى
ربهم فيمتثلون الأمر في ذلك لقوله تعالى
۱ سبق القول في الحديث ۱۳ لم نقف على مصدره بهذه الصورة
لم نقف على مصدره بهذه الصورة
۳ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث
العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو جزء من
حديث
٦٢٢
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ ۱ مثل تركهم لركوع الضحى واشتغالهم بالنظر في
مصالح المسلمين إلى غير ذلك مما يشهد بفضلهم
وأيضاً فقد كان عليه السلام يوصي لكل شخص بحسب ما يقتضيه
حاله وما هو الأقرب في حقه كما أوصى لغير أبي هريرة حين
سأله في الوصية ببر الوالدين وكما قال للآخر أيضاً حين
سأله في الوصية صَلَّ صلاة مودّع واقطع الإياس مما في أيدي
الناس۳ وكما قال في عبد الله بن عمر نِعْمَ الرجلُ لو كان
يقوم الليل ٤ إلى غير ذلك
أبا هريرة بهذه الوصية كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه حاله
لأنه كان منقطعاً للتعبد وما أوصاه به هو شعار العُباد
أبداً فأوصاه بما كان من جنس شعار التعبد بأقل ما يمكن منه
لئلا يلتزم كل ما يؤمر به وقد يكون عليه في ذلك مشقة ولو
أوصاه بأكثر لالتزم ذلك وواظب عليه كما التزم بهذه الوصية
فيما روي عنه في رواية غير هذه أنه قال أوصاني خليلي بثلاث
لا أدعهن حتى ألقاه وذكر الثلاث التي نحن بسبيلها فبين له
عليه السلام بتلك الوصية أي جنس من الأعمال هو أقرب في حقه
وتركه يفعل منه بحسب همته ومقدرته لأنه حدّ له الطرف
الواحد الذي هو الأقل وسكت عن الآخر الذي هو الأكثر
وذلك أن أفعال البر لا يستوي فيها الناس فرُبَّ شخص يكون
الانقطاع إلى التعبد به أولى وآخر تكون مجالسة العلماء
والدرس والقراءة والنظر به أولى وآخر يكون السفر والجهاد
له أَوْلَى إلى غير ذلك لأنه قد يكون في شخص أهلية للعلم
فيكون ذلك أقرب في حقه لأن العلم أفضل الأعمال على ما تقرر
في ذلك من الشارع عليه السلام فاشتغاله بالتعبد وتركه
للعلم نقصان في حقه سيما في هذا الزمان الذي قد يكون
الاشتغال بالعلم على من فيه أهلية فرض عين في حقه لقوله
عليه السلام إذا ابتدع في الدين بدعة كيد الدين فعليكم
بمعالم الدين واطلبوا من الله الرزق فقالوا يا رسول الله
وما معالم الدين فقال مجالس الحلال والحرام ٦ فالعلم اليوم
هو أقرب ما يتقرب به إلى الله بل نقول هو على الوجوب بدليل
الحديث الذي ذكرناه وإذا كان
1 سورة الإسراء من الآية ٥٧
333
رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وهو حديث من
أحقُّ الناس بحسن صحابتي إلخ رواه الحاكم عن سعد بلفظ عليك
بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر
وصَلَ صلاةَ مودّع وإياك وما يعتذر منه
٤ رواه البخاري في التهجد ومسلم في فضائل الصحابة من حديث
حفصة رضي الله عنها ٥ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه وهو موضوع حديث الباب لم نقف على مصدره ولعله
يريد حديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض
الجنة قال مجالس العلم رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله
عنهما
٦٢٣
المرء ليس فيه أهلية بالعلم فحينئذ يؤمر بالانقطاع للتعبد
لأنه إذا انقطع للتعبد عساه أن ينفع نفسه
وينتفع الناس بدعائه ثم كذلك
في كل الأعمال ما هو أولى واكد بحسب حال كل شخص من الناس
بدأ به وقدمه
على غيره ولا ينظر إلى فضيلة الأعمال من حيث هي وإنما ينظر
إلى الفاعل لأنه عليه السلام لم يكن ليقتصر على فعل واحد
فيوصي به الناس عن اخرهم وإنما يختار لكل شخص ما فيه أهلية
إليه وقد تقدم ذلك وإنما أوصاه عليه السلام بتلك الأفعال
اليسيرة لما قدمنا ذكره وهو خشية التزامه بما هو أكبر كما
ذكرنا وأيضاً فدأبه عليه السلام أبداً كذلك يوصي بما لا بد
منه وما هو الأقل ثم بعد ذلك يرغب في الزيادة والكثرة منه
مثل قوله عليه السلام من قام بالآيتين من اخر سورة البقرة
كفتاه ١ ثم رغب بعد ذلك في الزيادة وعدد الأجور حتى قال
بأن من قام بألف آية كتب من المقنطرين وذكر في ثلث الليل
الأخير فضلاً كثيراً وقام هو عليه السلام حتى تورّمت قدماه
۳ وكذلك فعل فيما نحن بسبيله سواء أوصى بركعتين ثم ركع هو
عليه السلام لما ثماني ركعات وجاء اثنتي عشرة ثم قال عليه
السلام من ركع الضحى اثنتي عشرة ركعة بني له قصر في الجنة
٤ كل ذلك رفقاً منه عليه السلام بأمته لئلا يلتزموا بوصيته
ما تكون فيه المشقة عليهم وترغيباً منه لهم أيضاً في
تعداده الأجور من غير وصية
وقد قال عليه السلام مما يشهد لهذا المعنى الذي نحن بسبيله
استقيموا ولن تحصوا واعلَمُوا أن خير أعمالكم الصلاة ٥
ومعنى ذلك استقيموا على الأعمال الصالحات ولا تحصوها بالعد
ولا بالحزر ولكن أكثروا من ذلك كل الإكثار وارغبوا في
الزيادة وقد قال المفسرون في معنى قوله تعالى وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَامَةِ ٦ إن كل إنسان يلوم
نفسه يوم القيامة ﴿ أكان من أهل الإيمان أو من أهل الكفر
والضلال وذلك أن الكافر إذا كان يوم القيامة ورأى ما أعدَّ
الله عزّ وجلّ له من العذاب رجع على نفسه يلومها إذا لم
يكن من أهل الإيمان والمؤمن
۱ رواه البخاري في فضائل القرآن ومسلم في صلاة المسافرين
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قطعة من حديث رواه أبو
داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصلاة باب
تَحْزِيب القران ۳ متفق عليه من حديث السيدة عائشة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ٤ رواه الترمذي في الصلاة
من حديث أنس رضي الله عنه رقم ٤٧٣ بلفظ مَن صلّى الضّحى
إلخ ٥ رواه الإمام أحمد والدارمي وابن ماجه في الطهارة
وباب المحافظة على الوضوء وصححه ابن حبان من حديث ثوبان
رضي الله عنه ورواية الحديث استقيموا ولن تحصوا إلخ
٦ سورة القيامة الآية ٢
٦٢٤
العاصي إذا رأى جزاء أعماله رجع على نفسه باللوم من أجل
الذي ارتكب من ذلك في دار الدنيا والمؤمن المحسن إذا رأى
ثواب أعماله رجع على نفسه باللوم لم لم يعمل أكثر من ذلك
حتى يكون الثواب له أكثر
وفي هذا الحديث دليل لمذهب مالك رحمه الله بقوله في التنقل
أقله ركعتان وفيه معنى رائق يحتاج اللبيب أن ينظر إليه
بتأمل لأن أبا هريرة رضي الله عنه لما لم يكن له من الدنيا
شيء ولا كان له فيها تكسب قنع منها باليسير من العمل لأخذه
من الدنيا اليسير من الحطام
ومن هذا الباب أخذ أهل الصوفة مشربهم فمن كان عندهم
منقطعاً اقتنعوا منه بانقطاعه مع شيء ما من العمل ومن كان
عندهم مسبباً أمروه بكثرة الأعمال والمبادرة إلى الخيرات
حتى قالوا فيمن زاد على أكله المعتاد إنه يكثر من القيام
تعويلاً منهم على هذا المعنى الذي أشرنا إليه لأن المرء
إذا كان منقطعاً للتعبد خالي القلب عن التكسب فقد بقي
مقبلاً على ربه بكليته والمطلوب من این آدم الحضور في جلّ
أوقاته
وقد هُتِف ببعض فضلائهم فقيل له أخل الدارَ يَسكنها صاحبها
ومعناه أخل قلبك مما سوی خالقه يسكنه خالقه فإذا كان القلب
ليس فيه إلا خالقه فهو المطلوب وهذه هي الغنيمة الكبرى
بخلاف المُتَسبّب قد يشتغل باطنه ولو ساعة بتدبير تسببه
فلأجل ذلك التدبير أمروه بكثرة أعمال البر
والشبعان أيضاً كذلك لأن الشبعان يثقل بدنه عن التعبد
فأمروه بضد ما يريد لأنه يريد أن يستريح عند الشبع فأمروه
بضد ذلك - وهو إطالة القيام - لكي يزول عنه ما يجده من
الثقل وينشط للعبادة لأن القلب الغالب عليه أبداً الميل مع
ما كانت الجارحة متصرفةً فيه أكثر
وقاعدتهم أبداً هي عمارة الباطن فإذا كان شيء من التسبب
أكثروا العبادة لأجله لكي تكون العبادة هي أكثر من التسبب
فيكون ميل القلب مع العمل الصالح هو الغالب على الجوارح
والتصرف فيه وهذا - أعني التسبب - معدوم في المنقطع للتعبد
وقد وجد عيسى عليه السلام رجلاً نائماً في السَّحَر فقال
له يا هذا قم فقد سبقك العابدون فقال له الرجل دعني يا روح
الله فإني قد عبدته بأحب العبادة إليه فقال له عيسى عليه
السلام وما هو ذلك فقال الرجل بالزهد في الدنيا فقال له
عيسى عليه السلام ثم فقد
فقت العابدين
٦٢٥
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا يريح
القلب والبدن ۱ إشارة إلى ما نحن بسبيله يريح
القلب أي يريحه من التدبر والتفكر في أسباب الدنيا ومهما
خلا القلب من ذلك تعمّر بالإقبال على ربه لأنه لا يبقى
خالياً أصلاً لا بد له من أحد الأمرين إن فقد أحدهما وجد
الآخر وقد يكون الاثنان معاً لكن ذلك النادر
وفيه معنى اخر وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه رضي بالجوع
والفاقة واختار ذلك وترك التسبب ولازم النبي لو ولم يفارقه
وكان صابراً على الجوع محتسباً حتى إنه قد كان يغشى عليه
من شدة الجوع ولا يعلم أحد بحاله فتشبه بالنبي الله في هذا
المعنى لأنه عليه السلام اختار الفقر على الغنى وقد كان
عليه السلام يربط على بطنه ثلاثة أحجار ۳ من شدة الجوع
ويقول ألا ربَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ۳ أو كما قال عليه
السلام لـ
فلأجل التزامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وكونه اختار ما
اختاره عليه السلام خصه بهذه الوصية ولأجل هذا المعنى الذي
أشرنا إليه قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي خليلي
لقوله عليه السلام المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من
يخالل ٤ فلما أن كان ملتزم أبي هريرة ما ذكرناه ووقع الشبه
به بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكرناه ادعى
الخلة لأجل ذلك
ولا يرد على هذا قوله عليه السلام لو كنت متخذاً خليلاً
لاتخذت أبا بكر خليلاً٥ لأنا لم نتعرض لذلك لأن النبي الا
الله منع أن يتخذ عليه السلام خليلا لنفسه وليس يلزم من
كونه لا يتخذ خليلاً لنفسه ألا يخالله ٦ أحد من الصحابة
رضوان الله عليهم لأن ليس من شَرْط الخُلَّة أن تكون من
الأعلى إلى الأدنى بل قد تكون من كليهما من الأعلى إلى
الأدنى ومن الأدنى إلى الأعلى وشرط الخُلَّة ما ذكرناه وقد
جاء ذلك في أبي هريرة رضي الله عنه فساغ له ادعاء الخُلَّة
لأجل ذلك
لكن بقي بحث وهو أنه اقتصر له على ركعتين للضحى لا غير
وصوم ثلاثة أيام لا غير
۱ سبق تخريجه في الحديث رقم / ٧٥/ سبق تخريجه في الحديث
رقم ١
۳ قطعة من حديث طويل رواه ابن سعد في الطبقات ٤٢٢/٧
والبيهقي في الشعب ۱۷۰/ وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب
لابن أبي الدنيا وضعفه وأوله ألا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في
الدنيا جائعة عارية يوم القيامة
٤ رواه أبو داود في الأدب والترمذي في الزهد من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه وروي بإظهار اللامين
للقياس
خلافاً
٥ رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي ومسلم في فضائل
الصحابة من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال
عنه وكثيرين آخرين ٦ كذا بإظهار اللامين أيضاً
٦٢٦
وإيقاع الوتر قبل النوم فأما الركوع للضحي فهو أقل ما يمكن
إيقاعه فاقتصر له على أقل ما يفعل ذلك وأما صيام ثلاثة
أيام فهو أيضاً أقل ما يمكن لقوله عليه السلام الحسنة بعشر
أمثالها ۱ والشهر ثلاثون يوماً فيحتاج المرء أن يصوم فيه
ثلاثة أيام لكل عشرة أيام يوم فيكون ذلك له بصيام الدهر
وأما إيقاع الوتر قبل النوم فإنما أوصاه بذلك ليحضه على
المبادرة إلى الأعمال خشية الموت لأنه إن نام قبل أن يوتر
فقد يموت من ليلته وهو لم يُوقع الوتر حتى يحصل له ثوابه
فإن قال قائل إنما أمره بذلك خشية أن يضرب به النوم حتى
يطلع الفجر عليه فيكون ذلك سبباً إلى إيقاع الوتر نهاراً
وإيقاعه بالليل أفضل قيل له ليس الأمر كذلك بدليل قوله
عليه السلام رُفع القلم عن ثلاث ۳ فذكر إحداهن النائم حتى
يستيقظ فليس عليه في نومه شيء وإنما هو خشية أن يموت ولم
يحصل له ثواب الوتر ومما يشهد لهذا المعنى الذي تأولناه
قوله عليه السلام حين سأله السائل في الوصية فقال له صل
صلاة مُودّع ۳ فحضه على قصر الأمل ومما يؤيد ذلك أيضاً
قوله عليه السلام لمعاذ كيف أصبحت فقال معاذ أصبحت مؤمناً
حقاً فقال عليه السلام لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال
أصبحت لا أخطو وأظن أني أخطو أخرى وكأني أنظر إلى القيامة
قد قامت وكل أمة تُدعى إلى كتابها وأهل الجنة في الجنة
يتنعمون وأهل النار في النار يُعذبون فقال له عليه السلام
هنيئاً لك العلم ٤
ولأجل النظر إلى معنى هذه الأحاديث وما يقتضيه لم يبق لأهل
الصوفة زمان لأنفسهم وإنما تنقطع أعمارهم أبداً في أنواع
التعبد لربهم لأنهم يخافون الفوت والموت فيبادرون إلى
الأعمال ويظنون أن ذلك هو آخر عملهم نظراً منهم إلى معنى
هذه الأحاديث ولأجل هذا إذا سمع غيرهم عن شيء من أنواع
تعبدهم تعجب من ذلك كلَّ التعجب وظن أن البشر لا يقدر على
شيء
۱ قطعة من حديث رواه البخاري في الصوم ومسلم في الصيام
أوله كل عمل ابن ادم له إلا الصوم فإنه لي رواه النسائي في
باب من لا يقع طلاقه من الأزواج ولفظه رفع القلم عن ثلاث
عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى
يعقل أو يفيق
۳ سبق تخريجه قبل عدة صفحات ٤ رواه أبو نعيم في الحلية
٢٤٢/١ عن أنس بن مالك رضي الله عنه والرواية المشهورة
عرفتَ فالزم والحديث مروي بالمعنى ولفظه أن معاذ بن جبل
دخل على رسول الله الا الله فقال كيف أصبحت يا معاذ قال
أصبحت مؤمناً بالله تعالى قال إن لكل قول مصداقاً ولكل حق
حقيقة فما مصداق ما تقول قال يا نبي الله ما أصبحت صباحاً
قط إلا ظننت أني لا أمسي وما أمسيت مساءً إلا ظننت أني لا
أصبح ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها أخرى وكأني
أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها
وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر إلى عقوبة
أهل النار وثواب أهل الجنة قال عرفت فالزم
٦٢٧
من ذلك ولو نظر المسكين إلى هذا المعنى الذي نظروا إليه
ووقفوا عليه لكان لديه من الأعمال مثل ما لديهم لأن هذا
معلوم وهو أنه من خرج منه نَفَس وهو يظن أنه آخر أنفاسه
فلا شك أنه لا يقع له غفلة مع ذلك مادام عليه هذا الحال
وإنما وقعت الحيرة ووقع التدبير والاشتغال عما أخذوا هم
بسبيله لأجل إطالة الأمل والنظر إلى المستقبل فإذا كان
المرء ينظر إلى هذا المعنى - لو كان في القوة والتمكين ما
عسى أن يكون - فلا بد وأن 1 يشتغل عن ربه بتدبيره أمره لأن
إطالة الأمل يتطلب ذلك قطعاً وهم رضي الله عنهم بضد ذلك
المعنى مهما لبس أحدهم ثوباً ظن أنه آخر لباسه وبه يدخل
إلى قبره ومهما أكل أكلةً ظنّ أنها هي آخر ما قُسِم له في
دار الدنيا ومن كان بهذا الحال فلا شك أنه لو كان أضعف
الخلق لم تدخله غفلة ولا فترة أبداً
ولأجل هذا يقولون في أمثالهم الوقت سيف ومعناه أنك لا تنظر
إلا في وقتك وما يلزمك فيه فتقوم بما عليك فيه فتقطع الوقت
بالعمل لئلا يهجم عليك الموت قبل ذلك أو لئلا يقطعك الوقت
بالتسويف إن سَلِمتَ من الموت لأن الوقت لا يُخلف لأنه إذا
مضى يوم من عمر ابن ادم فليس له خَلَف ولا يقدر على ردّه
فإن مضى عنه وقد فَعَل فيه الخير فقد فاز به وإن مضى عنه
وهو عَرِيّ عن ذلك فقد خسره ولا يقدر على خَلفِه والأحمق
المسكين هو الذي يقطع الأوقات ب لعل وسوف وهو يظن أنه في
فلاح وهو في خسران أليس ذاك اليوم الذي يريد أن يُخلِف فيه
ما فَرَط لو اجتمع مع هذا اليوم الآخر لكان أزكى وأنجح
وقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام في الزبور يا
داود لا يَشْغَلْك لعلّ وسوف وإلى عن العمل وقد قال عليّ
رضي الله عنه وهو آخر ماتكلم به يا هذا لا تُدخِل هَمَّ
عدك على يومك فإنك بين أحد أمرين إما أن تدركه وإما ألا
فإن أدركته فالله يأتيك فيه برزق جديد وإن لم تدركه فلا
فائدة في أن تكابدَ هَمَّ يوم لا تدرِكُه والنصوص من
الشارع عليه السلام ومن أقوال السلف وأفعالهم كثيرة في هذا
المعنى فمن أراد الفلاح والسبق فليتأمل فيما أشرنا إليه
وليعمل عليه ثم يتكل بعد ذلك في نمائه وتمامه على ربّه
ويضرع إليه يَصِلُ عند ذلك إن شاء الله - إلى المرغوب
وفيه بحث وهو أنه يجوز الافتخار بصحبة المباركين إلا أنه
بشرط التشبه بهم ولو في
1 كذا بزيادة الواو
أي ألا تدركه
٦٢٨
وجه ما ويكون الافتخار بنية الشكر لقوله عليه السلام ذكرُ
النَّعَمِ شُكر ۱ لا على وجه المباهاة والرفعة يؤخذ ذلك من
قول أبي هريرة خليلي ويؤخذ منه جواز أن يثبت الشخص بينه
وبين أهل الفضل حبلا ما وينتسب إليهم به وإن لم يذكروا هم
ذلك ولم يسموه به يؤخذ ذلك من قوله خليلي والنبي صلى الله
عليه وسلم قد نفى عن نفسه المكرمة اتخاذ الخُلّة من البشر
وقد قيل إن التشبه بالكرام فلاح
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
1 سبق تخريجه في الحديث ۸
٦٢٩
حديث الأمر بترك ما لم يُسَمَّ عليه من الصيد
عَن عَدي 1 بن حاتم رضيَ الله عَنهُ قالَ سألت النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قُلتُ يا رسول الله أُرسِلُ كَلبي
وَأُسمِّي فأجدُ مَعهُ عَلى الصَّيد كَلباً آخرَ لَم
أُسَمٌ عَليهِ ولا أدرِي أَيُّهُما أَخَذَ قالَ لاَ
تَأْكُلْ فإنَّما سَمِّيت عَلى كَلبِكَ وَلَم تُسمِّ عَلى
الآخر
*
*
ظاهر الحديث يفيد بأن التسمية على الصيد واجبة وإن تركت
فلا سبيل إلى أكل الصيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين
سأله السائل لا يدري أي الكلاب أخذه هل المسمَّى عليه أو
غيره هو الذي أخذه ثم أمره بالترك فمع وجود الشك فمن باب
أولى أن يترك المقطوع به وهو الذي تُركت التسمية
عليه عمداً
وفي هذا دليل على أن الأدلة إذا تعارضت بالجواز والمنع أن
يعمل على ما هو الأشدّ وما يبرىء الذمة لأن النبي الله
وأمره أن يترك الصيد مع أنه شك هل المسمَّى عليه أخذه أو
غيرُه فأفتاه بما يبرىء الذمة بيقين
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله لقوله بسد الذرائع لأنه
عليه السلام أمره بترك أكل الصيد سداً للذريعة لئلا يكون
الكلب غير المسمّى عليه أخذه
وفيه دليل على جواز الاصطياد وهو على خمسة أقسام وقد ذكره
أهل الفقه
وفيه دليل على جواز أكل الصيد وإن قتله الكلب لأن السائل
سأله هل يأكله أم لا ولا يسأله في ذلك عما إذا كان الكلب
هو الذي قتل الصيد وأما لو أدركه قبل القتل فلم يكن له في
ذلك
1 عدي بن حاتم أبو طريف أمير صحابي من الأجواد العقلاء كان
رئيس طيىء في الجاهلية والإسلام وقام في حرب الردة بأعمال
كبيرة حتى قال ابن الأثير خير مولود في أرض طيىء وأعظمه
بركة عليهم وكان إسلامه سنة ۹ للهجرة وشهد فتح العراق ثم
سكن الكوفة وشهد الجمل وصفين والنهروان مع عليّ بن أبي
طالب وفقئت عينه يوم صفين ومات بالكوفة سنة ٦٨هـ / ٦٨٧م
روى عنه المحدثون ٦٦ حديثاً عاش أكثر من مائة سنة وهو ابن
حاتم الطائي الذي يضرب به المثل بالجود
رضي
الله عنه
٦٣٠
على ما يسأل لأنه أدرك ذكاته بيده فلما أن علم هذا من
قرينة الحال وأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم أكل ما أخذ
المسمَّى عليه علم أنه أجاز أكل ما قتله الكلب وبهذا استدل
مالك الكلب ولا انفكاك للخصم عنه لأنه إذا أخذ الصيد لا
بدَّ وأن ۱ يؤثر فيه لأنه هو الذي يُنفِذ رحمه الله على
طهارة مقاتله وقد يأكل منه فكيف يُكرَه لعابه وإنما الأمر
بغسل الإناء من ولوغه سبعاً تعبداً لا غير ۳ وقد اختلف
العلماء في تارك التسمية متعمداً هل تؤكل الذبيحة أو لا
تؤكل وكذلك الصيد وقد ذكر ذلك في كتب الفقه وقيل إن ذلك من
أجل أن يكون الكلب كَلِباً فهو من باب التداوي وفيه دليل
على العمل بسد الذريعة وقيل تشدداً من أجل ألا يتخذوا
الكلاب والخلاف
في الطعام والماء واللبن هل الحكم سواء أم لا الخلاف مذكور
في كتب الفروع وفيه دليل على أنه لا يجوز الصيد بالجارح
إلا مع إرسال صاحبه له على الصيد وتعين الصيد يؤخذ ذلك من
قوله أرسل كلبي
وفيه دليل على جواز أكل الصيد وإن غاب عن العين إذا وجد مع
الجارح يؤخذ ذلك من قوله فأجد معه فلفظة أجِد لا يُعبَّر
بها إلا عن شيءٍ قد عُدِمت رؤيته ثم وجدت وإلا كان يقول
فأراه قد شاركه غيره
وهنا بحث وهو كون النبي نهاه لكونه وجد مع جارحه غيره ولم
يُسمّ عليه أن يأكل لاحتمال أن يكون أعان على قتله هل نقصر
هذا النهي على الجارح أو نعديه إذا وجد مع صيده حالة يمكن
إن كانت عوناً على قتله مثل أن يتردى من جبل أو يكون في
ماء أو يجد دواب الأرض قد انتشرت عليه فقد عَدَّى الفقهاء
الحكم في ذلك فقالوا إنه كل ما كان عوناً على قتل الصيد من
هذه الأنواع فلا يؤكل الصيد واختلف بعضهم إذا كان الجارح
قد أنفذ مقاتله هل يكون ذلك سبباً يمنع من أكله على قولين
وبالتفرقة أن يبيت عنه أو لا يبيت فمنع بعضهم مع وجود
المبيت وفيه دليل على جواز طلب الصائد الصيد واتباعه بعد
إرسال الجارح يؤخذ ذلك من قوله فأجد فإنه يتضمن الطلب
ويؤخذ منه إن كان الآخر قد سَمَّى عليه غيره وأرسله مثل ما
فعل هو أنه يؤكل الصيد ولمن يكون الصيد الكلام عليه في كتب
الفروع وإنما المقصود هنا تبيين ما يَحِل منه ويَحرُم وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 كذا بزيادة الواو
الحِلّ للعابه ضرورة لا انفكاك عنها في الصيد بالكلاب
بخلاف ولوغها في المياه بالأواني ـ والله أعلم
٦٣١
حديث النهي ن الصرف إلا يداً بيد
عَنِ البَراء بن عازب ۱ وَزَيد بن أرقم ۳ رضي الله عنهما
سَأَلا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّرْف
فَقالَ إن كانَ يداً بيد فَلا بأسَ وَإن كانَ نَسيئة ٣
فَلا يَصلُح
ظاهر الحديث يدل على جواز الصرف إذا كان يداً بيد ومنعه
إذا كان فيه نسيئة وإن قلت وقد قال عمر رضي الله عنه وإن
أَنظَرَك إلى أن يلج بيته فلا تفعل
وهو على ثلاثة أقسام جائز وهو ما نص عليه من أن يكون يدا
بيد وحرام وهو ما نهى عنه عمر رضي الله عنه بأن يكون فيه
شيء من التأخير ولو بقدر أن يلج بيته حتى قد نص العلماء
أنه لا يجوز للصَّيْرَفِيّ أن يتحدث في الصرف إلا وصندوقه
مفتوح أو كيسه قدامه كذلك مفتوح ومكروه وهو التواعد في
الصرف بلا تناجز مثاله أن يقول كل واحد منهما لصاحبه أنا
أصارفك ويعزمان جميعاً على ذلك ولا يسميان مبلغ الصرف ولا
صفته
ولا يخلو الصرف من أن يكون من جنس واحد وهو إما ذهب بذهب
فيشرط فيه شرطان وهما التناجز والمماثلة وليس في واحد من
هذين الشرطين مسامحة من أحد المصارفين وكفى في ذلك ما بينه
عمر رضي الله عنه بفعله مع رافع بن خديج
حين
1 البراء بن عازب الخزرجي أبو عمارة قائد صحابي من أصحاب
الفتوح أسلم صغيرا وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس
عشرة غزوة أولها غزوة الخندق ولما ولي عثمان رضي الله عنه
جعله أميرا على الري بفارس سنة ٢٤ هـ فغزا أبهر غربي قزوين
وفتحها ثم قزوين فملكها وانتقل إلى زنجان فافتتحها عنوة
وعاش إلى أيام مصعب بن الزبير فسكن الكوفة واعتزل الأعمال
وتوفي في زمنه روى له البخاري ومسلم ٣٠٥ أحاديث توفي سنة
٧١ هـ / ٦٩٠ م انظر الحديث ٦٦ زيد بن أرقم الخزرجي
الأنصاري صحابي غزا مع النبي الله سبع عشرة غزوة وشهد صفين
مع علي رضي الله عنه ومات بالكوفة له في كتب الحديث ۷۰
حديثاً توفي سنة ٦٨هـ/٦۸۷م ۳ النسيئة يقال باعه بِنَسيئة
أي بتأخير والنَّسِيئَة الدين المؤخّر ٤ رافع بن خديج
أنصاري صحابي كان عريف قومه بالمدينة وشهد أحداً والخندق
توفي في المدينة متأثراً =
٦٣٢
راطل ۱ منه خلخالاً من ذهب فرجح خلخال رافع فقال لعمر أنت
في حل من رجحان الميزان
فقال له عمر إن كنت أحللته لي فإن الله لم يُحِله ووفاه
ميزانه
ومثل ذلك الحكم إن كان وَرِقاً بوَرِق لقوله صلى الله عليه
وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة رباً إلا يداً بيد مثلاً
بمثل فإذا اختلفت أصنافها فبيعوا كيف شئتم فإن كانت
المصارفة ذهباً بوَرِق فلا بد من المناجزة ۳ وهما في
التفاضل بحسب اختيارهما وإن وقع فيه خلاف ما شرع فلا بد من
الفسخ لقوله للسَّعدين حين باعا انية من فضة من المغنم
مثلاً بمثلين أربيتما فَرُدَّا ٤ وأما ما كان من بيع وصرف
فاختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال بالمنع وبالجواز
وبالتفرقة فإن كان أحدهما في حكم المنع ولم يكن مقصوداً
جاز وإلا فلا وأما ما سوى ذلك من جزئياته فهو مذكور في كتب
الفروع والتشدّد في هذا الباب كبير فلا ينبغي فيه المسامحة
ولا الجهل لأن باب الربا من أعظم أبواب الكبائر لأنه لم
يتوعد الله عزّ وجلّ على كبيرة من الكبائر بالحرب منه عزّ
وجلّ إلا على الربا حيث قال تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا
فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ٥ فقد
يكون للشخص
مال حلال فيصرفه فيعود رباً حراماً
وفيه دليل على جواز الجواب بإشارة يفهم منها المقصود يؤخذ
ذلك من قوله لما سئل عن الجواز في الصرف فقال إن كان يداً
بيد فلا بأس لأن هذا إشارة إلى الجواز لأن لفظ الجواز أن
يقول ذلك جائز فلما علم أن السائل يفهم عنه أشار له بما
يفهم وهو قوله عليه السلام وإن كان نسيئة فلا يصلح معناه
لا يصلح جوازه شرعاً فجاء جوابه عليه السلام في الوجهين
بالإشارة إلى المعنى ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله
استعبدنا بالمعاني لا بالألفاظ وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
بجراحه سنة ٧٤هـ / ٦٩٣م له ۷۸ حديثاً
۱ راطله باعه مراطلة أي بالرطل
رواه البخاري في البيوع ومسلم رقم ١٥٨٦ في المساقاة من
حديث أبي سعيد ولفظه الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر
بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد
فمن زاد أو استزاد فقد
أربى والاخذ والمعطي فيه سواء ۳ المناجزة بيع الحاضر
بالحاضر يداً بيد وعاجلاً بعاجل وللكلمة معانٍ أخرى ٤ رواه
مالك في الموطأ في البيوع مرسلاً ورواه يعقوب بن شيبة وسعد
بن عبد الله بن عبد الحكم موصلاً قال ابن عبد البر في
التمهيد كما في تنوير الحوالك للسيوطي ٢ / ١٣٤ إسناده صحيح
حسن متصل
٥ سورة البقرة من الآية ۷۹
٦٣٣
- ٩٣ -
ديث الحث على العمل وفضل عمل اليد
عَنِ
المِقداد ۱ رضي
الله عَنهُ عَنِ النَّبِي ما أكَلَ أحَدٌ طَعاماً قَطُّ
خَيْراً مِن أَن يَأْكُلَ
من عمَل يَدِهِ وإِنَّ نَبِيَّ الله داودَ عَليهِ
السَّلامُ كانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على أن خير طعام يأكله المرء ما كان من
كسب يده ويدل بضمنه على التحضيض على التكسب وله شروط
والكلام عليه من وجوه منها ما معنى هذه الخيرية وهل قوله
أحد عموماً في كل بني آدم أو أنَّ هذا في المؤمنين ولِمَ
ضرب المثل بداود عليه السلام من بين الأنبياء عليهم السلام
وقد كان كثير من الأنبياء عليهم السلام يعملون بأيديهم
فاحتمل أن تكون الخيرية في التكسب من أجل الغنى عن الناس
والتعزز بالكسب على الغير لأنَّ من احتجْتَ إليه كان أميرك
ومن احتاج إليك كنت أميره فإن كان المقصود بالخيرية هذا
فيدخل فيه المؤمن والكافر ويكون ما أشرنا إليه من أنه
يقتضي الحض على التكسب صحيحاً لكن بشروط وهي أن يكون السبب
مما أجازته الشريعة وأن يكون عمله فيه على الوجه المشروع
لأن من الأسباب ما يكون جائزاً على لسان العلم في أصله
وعند محاولته تُخالَفُ فيه المشروعية فهذا ممنوع
و احتمل أن تكون الخيرية فيه من أجل ما جاء في عمل السبب
من الثواب لأنه قد جاء من بات تعبان من طلب الحلال بات
مغفوراً له وأصبح والله راض عنه ولكونه فيه خيرٌ متعدّ فإن
1 المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود صحابي من الأبطال هو
أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من
قاتل على فرس في سبيل الله شهد بدراً وغيرها وسكن المدينة
وبها دفن سنا رواه السيوطي في الجامع الكبير بلفظ من بات
كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له عن أنس رضي الله عنه
وذكر أن في سنده متهمين
٣٣هـ / ٦٥٣م وله ٤٨ حديثاً
٦٣٤
كانت هذه الخيرية هي المراد فيكون معنى قوله أحد خاصاً
بالمؤمنين ويكون التخصيص بهذا المعنى على التصرف في
المكاسب بلسان العلم
واحتمل أن تكون الخيرية هنا معنى لكونه من الكون بوساطة
العمل باليد ويكون هذا خاصاً بالصنعة التي تكون باليد دون
غيرها من التكسبات ولهذه الفائدة مثل عليه السلام بداود
عليه السلام دون ما عداه من الأنبياء عليهم السلام وقد جاء
أن الصنعة كنز من كنوز الله عزّ وجلّ ينفق منه صاحبه فيكون
معنى الحديث على هذا التحضيض على تعلم الصنعة وأنها من
السنة ولا عارَ فيها لأن ما فعله نبي من الأنبياء لا عارَ
فيه
وقد تكون الخيرية هنا لكونها ليس فيها حق مترتب الله لأن
ما فيه حق الله فقد يوفى جميعه أو يعجز عن بعضه بقصد أو
بغير قصد مثاله إسلام الكافر وتوبة العاصي فإسلام الكافر
عندهم إن مات صاحبه في وقته دخل الجنة إذا كانت نيته خالصة
بلا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك والعاصي إذا مات حين
توبته - وإن كانت نيته صادقة - موقوف في المشيئة من أجل أن
التوبة لها شروط منها رد المظالم وهذا ما يعرف هل عليه
مظلمة أم ليس فلا يحكم له بالقطع ويرجى له فضل الله وكذلك
ما كان من التكسب خلاف الصنعة باليد وقد ترتبت فيه زكاة
وغير هذا من الحقوق ويحتمل أن تكون وُفِّيت أوْ لَمْ والذي
هو بصنعة اليد إذا كان على لسان العلم فليس فيه حق مترتب
مقطوع به فما هو مقطوع به فهو خير مما هو محتمل
واحتمل أن البركة تكون هنا بمعنى الخير بأن يكون ما أكل
أحد من الطعام بالصنعة يكون أبرك من غيره وتكون البركة
أيضاً محتملة في هذه الوجوه أن يُراد بركة حسية أو معنوية
فأما الحسية فمثل أن يكون القليل منه يَسُدّ مَسَدَّ
الكثير من غيره في التناول واحتمل البركة المعنوية وهي
التي توجد من القوة والنشاط بهذا الطعام أكثر مما يوجد
بغيره وقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء
الأكل يقول بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا
فالبركة التي يطلبه و و و و لا اله الا في طعامه ما عدا
تلك الأطعمة القليلة التي دعا فيها وبارك حتى كان الصاع
يأكل منه النَّفَرُ الكثير وينصرفون وقد شبعوا ويبقى
الطعام على حاله مثل ما فعل الله صاعاً عليه السلام مع
جابر رضي الله عنه حين كانوا يحفرون الخندق فصنع جابر رضي
من طعام وذبح داجناً كان عنده في البيت ثم أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسارِرُه ۳ لعله يأتي هو وبعض
1 لم نقف على مصدره رواه الطبراني في الدعاء من حديث عبد
الله بن عمرو وفي إسناده ضعف
۳ كذا بإظهار الرّاءين
٦٣٥
أصحابه فصاح النبي الله في الناس وقال يا أهل الخندق إن
جابراً قد صنع سؤراً فحَيْهلا بكم فقال رسول الله لا
تُنزِلُنَّ بزمتكم ولا تَخبِزُنْ عَجِينكم حتى أجىء فجئت
وجاء رسول الله الله يقدم الناس فلما جنت امرأتي قالت بِكَ
وبِكَ فقلت لها ما كان فدخل رسول الله له فأخرجت له عجيناً
فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى بُرمَتِنا فبصق فيها وبارك ثم
قال أدعُ خابزة فلتخبِزُ معكم واقدَحي من بُرمَتِكم ولا
تُنزِلوها قال جابر فأكلوا عن آخرهم وإن برمتنا لَتَغُطُ
كما هي وإن عجيننا ليُخبَرُ كما هو ۱ وغيره من المواطن
التي تشبهه اجتمعت في هذه المواضع البركات
حسّاً ومعنى
وأما الكلام على طلبه هو عليه السلام ذلك في طعام أهل بيته
مع الدوام فإنا لا نقول إنه يطلب تكثير حطام الدنيا وهو
عليه السلام قد خُيّر أن تكون له جبال تهامة ذهباً وفضة
تمشي معه فأبى ذلك وقال أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف يطلب
ذلك في الشيء اليسير منها دون احتياج إلى ذلك وإنما كان
طلبه ذلك المعنى الخاص الذي أشرنا إليه لكن ذلك المعنى
الخاص الدليل عليه المعنى الظاهرُ لأنه لا يُبارك معنى إلا
في الذي بورك فيه حسّاً هذا هو المقطوع به يشهد لذلك فعل
أبي بكر رضي الله عنه في الطعام الذي قدمه لأضيافه فأكلوا
ورجع الطعام أكثر مما كان قبل فقال هذا طعام مبارك فحمل
منه إلى النبي وإذا لم تكن البركة ظاهرة بقي الاحتمال في
المعنوية هل توجد أم لا
واحتملت الخيرية هنا أن يريد بها اتباع السنة فإن التسبب
في الرزق هو من السنة لأنه أثر الحكمة ولذلك كان أبو بكر
رضي الله عنه حين ولي الخلافة طلبوه فوجدوه في السوق يتسبب
في التجارة فقالوا له في ذلك فقال أتروني أترك التسبّب
لعيالي وعلى هذا إذا كان التسبب بأي وجه كان إذا كان على
لسان العلم من صنعة أو تجارة أو ما يشبههما كان مباركاً
وبهذا شاء الله عمارة هذه الدار وقد كان بعض مشايخي وكان
ممن له الزهد والعلم وكان يعمل في حائط له بيده بعدما كان
ينصرف من التدريس وربما كان مع التدريس على مجاهدة ولا يدع
العمل بالمسحاة ويقول غرَس غيرُنا وأكلنا نحن ونغرس نحن
ويأكل غيرُنا لتظهر حكمة الله فعند استواء غرسه توفي رحمه
الله
ونرجع الآن إلى ما يعارضنا في تلك الوجوه المذكورة
والانفصال عنها
فأما الوجه الأول - وهو كونه يستغني بالتكسب عن الناس -
فيعارضنا الكتاب والسنة فأما
۱ رواه البخاري في المغازي وفي الجهاد ومسلم في الأشربة
وهو موضوع الحديث رقم /١٩٦ في هذا
الكتاب
٦٣٦
الكتاب فقوله تعالى رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا
بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ
وَإِبْناءِ الزَّكَوَةً يَخَافُونَ يَوْمًا تتَقَلَّبُ
فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَرُ لِيَجْزِهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ۱
وأما السنّة فحاله و حال أهل الصفة وكان عليه السلام أقرهم
على حالهم وربما كان يؤثرهم في بعض المواد على غيرهم
والانفصال عن المعارضة أما عن الكتاب فيكون معنى قوله لا
تلهيهم أي لا تشغلهم بما يكونون فيه من التكسب يكونون في
عمل السبب بالأبدان والقلوبُ متعلقةٌ بالذي وَصَفَهم به
كما جاء أن سبب نزولها كان في خياط وحداد فكان الخياط إذا
سمع الأذان وهو قد أخرج الإبرة من الثوب لم يردها حتى يقوم
ويؤدي ما عليه من الوجوب وإن كان أدخلها في الثوب لم
يخرجها حتى يقوم أيضاً لما عليه وكذلك الحداد لو كان رفع
المطرقة لم يكن يعيدها إلى ضرب الحديدة بل كان يرميها من
يده ولو كان قد ضربها لم يكن ليرفعها حتى يقوم لقضاء ما
عليه من وظائف الآخرة ويترتب على هذا من الفقه أن المطلوب
من العبد شُغل خاطره بما هو إليه سائر وعليه قادم وإن كان
في يده سبب أو غيره وقد أخبرني بعض المباركين أنه كان
بمدينة إفريقية حشاش ٢ يحش للحمامات وكان من أكابر أولياء
وقته وأنه كان يعمل ذلك الشغل بعدما يفرغ من صلاة الصبح
إلى ضحوة من النهار ثم يزيل تلك الثياب ويدخل الحمام يتطهر
ويلبس ثياباً أخرى ويأخذ ذلك الكسب الذي له يحبس منه الشيء
اليسير ويمشي على الفقراء المتعبدين والمساكين يؤثرهم به
ويطوي يومه صائماً إلى الليل ويُفطِر على ذلك الشيء اليسير
الذي حبس منه وله الأحوال الرفيعة وكان لا يعرفه إلا
الأكابر من الرجال لكونه كان يُخفي حاله عن الناس
وأما الانفصال عن حاله لا اله الا هو الحال أهل الصفة
فالجواب عن ذلك أن حاله عليه السلام هو الأرفع لأنه لم تكن
نفسه تتشوف إلى الدنيا ولا حطامها وسنته عليه السلام الرفق
من أجل ما في بعض الناس من الضعف بل الأكثر كما قال عليه
السلام في حق المجذوم فِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد ۳
وأكل وهو صلى الله عليه وسلم مع المجذوم في إناء واحد وقال
سْمِ الله ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ
لَنَا ٤ فشرع عليه السلام الطريق السمح السهل لقوله عزّ
وجلّ وَمَا جَعَلَ ﴾
۱ سورة النور الآية / ۳۷/ ومن الآية / ۳۸/
الحشاش قاطع الحشيش من الأرض وهو غير المعنى المعاصر في
الذي يتعاطى الحشيش وهو لون من
المخدرات المحرمة ومتعاطيه يقال له حشاش
۳ رواه البخاري في الطب عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة التوبة من الآية ٥١
٦٣٧
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ۱ وأشار بحاله عليه
السلام إلى الأخذ بالأعلى لمن قوي فمثال المجذوم الذي
ذكرناه مَن لَقِيه وله نفس ضعيفة اتَّبَع السنة وهرب منه
وليس عليه في ذلك شيء وإن كانت له قوة خالطه وأكل معه وكان
متبعاً لحاله الا الله ومن أجل ما أخذ أهل الصفة بالحال
الأعلى كان يؤثرهم وأما الوجه الثاني وهو أن يكون الخير
بمعنى ما في التكسب من الثواب فقد يعارضنا قوله عليه
السلام لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير
تغدو خماصاً وتروح بطانا والجمع بينهما أنَّ مَن كان له
توكل حقيقي - وصفته ألا يكون خاطره متعلقاً بأحد من الخلق
وإن أجري له على يديه شيء من الخير - فما يكون خاطره
متعلقاً إلا بالله لا بغيره وكلما جاء شيء وهو لم تَشُف ۳
نفسه إليه فينظره على لسان العلم فإذا استقام نظره بلسان
الحال فإِذا حَسُنَ سأل الله أن يهديه إلى الأصلح بأن يأخذ
أو يترك
فإذا وفق إلى الذي فيه الخيرية فإن كان الخير في أخْذِهِ
أخَذَهُ على هذه الصفة وأفتقر ثانية في أن يوفق إلى حسن
التصرف واستصحاب عدم التعلق في هذه الأشياء كلها ويكون ذلك
بمعرفة أعني بالتصرف في ذلك بما يزيده إلى الله قرباً وفي
حاله حُسْناً ثم يشاهد المنة الله في ذلك ويتبع السنة في
الدعاء لمن سخره الحق في ذلك اتباعاً للأمر بلا زيادة
لقوله عليه السلام مَن والاكَ معروفاً فكافئه فإن لم تجد
فادعُ الله حتى تعلم أنك قد كافأته ٤ وقد قال حَد الدعاء
إذا قلت لمن أحسن إليك جزاك الله خيراً فقد أطنبتَ في
الثناء ٥
وإن كان ممن يفتح له بخرق العادة فيتناول ذلك بالفقر إلى
الله عزّ وجلّ والشكر ولا يرى نفسه أنه أهل لذلك ويلزم
الأدب ولا يبقى خاطره يتعلق بذلك الوجه وإن كان ربانياً
فإنه شغل في خاطره ويكون أيضاً عند تصرفه مفتقراً يطلب
الإرشاد إلى ما يرضى مولاه ويكتم حاله ولا
۱ سورة الحج من الآية ۷۸ وحديث أكل مع المجذوم في إناء
واحد رواه أبو داود في الطب والترمذي وابن ماجه والبيهقي
في السنن الكبرى ۱۹/۷ وصححه ابن حبان وللحديث عدة روايات
رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي وصححه ورواه ابن ماجه
وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عمر رضي الله عنه ولفظه لو
أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله إلخ ۳ شاف يشوف شوفاً
أشرف ونظر رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم
وقال صحيح على شرطهما ولفظه من استعاذ بالله فأعيذوه ومن
سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفاً
فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه
٥ لم نعثر عليه بهذا اللفظ وإنما ورد إذا قال الرجل جزاك
الله خيراً فقد أبلغ في الثناء انظر الترغيب والترهيب
للمنذري - في الترغيب في شكر المعروف ٧٧/٢ ط دار الكتب
العلمية
٦٣٨
يذكر من ذلك شيئاً لأحد إلا إن أمر بقدر ما يُؤمَر ولا
يَجْحَدُها لأنها من جملة المنن ولكن إن لم يُسأل فلا
يَتَعَرَّض لذكر وإن سُئل لا ۱ يُخبر بالصريح إلا لمن أمر
- كما ذكرنا - لأن هذه م أسرار القدرة وأسرار القدرة من
يُبدِها بغير أمر وضرورة ولا يملك في ذلك نفسه قلما تبقى
له أو
تُجرى عليه
٥٠ من
وقد ذكر لي من أثق به أن بعض المؤدبين كانت له عائلة ولم
يكن له في حرفته شيء يكفيه وكان له أخ قد فتح عليه في
الدنيا ولم يُسَخّر له وكان هو لم يبثَّ ما به من الحاجة
لأخيه ولا لغيره فأجرى الله له على خرق العادة إذا فتح
المكتب قبل مجيء الصبيان أن يجد بين أقلامه في دواته قدر
ما يكفيه في يومه فحَسُن حاله وبقي على ذلك زماناً فلما
رأى أخوه ما هو فيه من الخير ليس يناسب حرفته سأله من أين
يقوم حالك فأخبره بالذي كان يجده في كل يوم فلما كان اليوم
الذي بعد ما بقي يلقى من ذلك شيئاً أكثر
وإن كان ممن توكله ضعيف فالخير له في عمل السبب والحكمة في
ذلك أن الذي هو قوي الإيمان في توكله هو في كل حال راض عن
ربه ملتزم العبودية ويترك الاعتراض وعدم التشوف إلى شيء من
الأشياء وأن الذي هو ضعيف الإيمان وتوكله ضعيف يبقى قلبه
غير طيب ـ هذا إن سکت بلسانه - ونفسه تتشوف إلى الأشياء
تتمنى وقد يعترض في بعض الأشياء وذلك عين العطب فجعل له
السبب رحمة به فإن قلبه يبقى مفكراً في سببه راضياً عن
مولاه فإن نقصه شيء مما يريده يبقى مفكراً فيما يفعله كي
يبلغ به ما يؤمل ويُرجَى أيضاً من أجل ذلك أن تقع له
الخيرية فإنه قدم خوف مولاه على ما اختاره نفسه فإن كان
ذلك السبب لأن يستعين به على الطاعة فيكثر له إذ ذاك الخير
ويحصل له انكسار خاطر لضعف يقينه ولأن الموقنين قد سبقوه
فيضاعف له الأجر والحذر أن يخطر له هنا أنه هو خير من
الذين قد صدقوا مع مولاهم وصدقوه في ضمان ما وعدهم من
الرزق واشتغلوا بما به أمرهم من عبادته فيكون في أرذل
الأحوال بدليل قوله تعالى فَلَا تُزَكُوا أَنفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ ٢
ويترتب على هذا من الفقه النظرُ لكل شخص بما هو الأصلح له
وهو الذي يسمونه فقه الحال وهو عظيم النفع في التصرف ولما
كان الأكثر كما قدمنا من الناس الضعف جاء الحكم على
الأغلب من حكم الناس وأما الاعتراض على الوجه الثالث الذي
الخيرية فيه لكونه يأخذ من الغيب بواسطة الصنعة
1 كذا بحذف فاء الجواب سورة النجم الآية ٣٢
٦٣٩
فيعارضنا قصة عيسى عليه السلام في المائدة التي هي بغير
تسبب من الغيب وما فعل سيدنا حين خرج ليلا وجاء علي فقال
ما أخرجك قال الجوع إن الحسن والحسين يبكيان من الجوع فقال
الذي أخرجك أخرجني ثم أتاهم فلان من الصحابة يشكو ما كانوا
هم يشكونه من الجوع إلى أن قال عليه السلام لعلي رضي الله
عنه اذهب إلى النخلة الفلانية ـ وكان في غير زمان التمر -
وقل لها النبي يقول لك أن تطعميني رطباً فمن حينها فعلت
النخلة ما أمرت به وجاء عليّ رضي الله عنه بتمر فأكلوا
جميعاً وحمل كلّ لعياله ما كان لهم فيه كفاية وزيادة 1
والجمع بينهما بذكر قصة موسى والخضر عليهما السلام لما
اجتمعا ومشيا معاً كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهما ذكر أنهما
لحقهما الجوع فنزل إليهما جَدْيّ نصفُه مشوي ونصفه نَيْءٌ
فأراد موسى عليه السلام أن يأكل من المشوي فقال له الخَضِر
عليه السلام ليست هذه طريقتك لأنك أتيتَ بالتسبّب وطريقتي
أنا التفويض اذهب أنت فاجمع الحطب وأوقد النار واشوِ وكُلْ
ففعل موسى عليه السلام وأكل الخَضِر عليه السلام من المشوي
و الفقه في ذلك أن الأفضلية هنا ليست على عمومها وتكون في
المشروعية ليس إلا من أجل أن صاحب هذه الحال الرفيعة قد
يظن أنه وفّى شروطها وهو لم يُوَفِّ فلا يؤتى بشيء فيتهم
مولاه وهذا وجه كبير من الخطر أو يحصل له فيلحقه بذلك
اغترار وهو أيضاً باب عظيم من الخطر فتكون الصنعة أفضل
لكون طريقها أسلم كما قال عليه السلام بشأن الصلاة إن أفضل
الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ۳ من أجل أنها
أسلم من الرياء والشوائب فإن السلامة هي أفضل وإن كبرت
فائدة الطريقة الأخرى لأنها فائدة معها متلفات قلّ من ينجو
معها وقد قال بعض السادة لا أعدل بالسلامة شيئاً وللمقامات
العَلِيّة رجال لها خلقوا وعليها عملوا وأما الوجه الرابع
فهو من أجل ما تعيّن في غير الصنعة من الحقوق وهو محتمل هل
خلصت أم لا فقد يعارضنا أن تجده معلوماً مقطوعاً به كما
ذكر عن بعض التجار لما ركب البحر وانكسر المركب خرج في
جملة من خرج فقال بعض أصحابه تعالَ بنا نمش إلى العمارة
القريبة منا فقال له لا أزول حتى يخرج مالي فاستخف عقله ثم
إنه قعد معه يسيراً فإذا بالأمواج قد رمت عِدلاً نظروه
فإذا اسمه عليه مكتوب فما زال كذلك حتى لم يتبق له في
البحر شيء صاحبه ما هو حالك مع الله حتى خصك بهذه الكرامة
على كل من كان في المركب قال له كل ما أمرني فعلت فكيف
يأخذ مني ما قد وهبني وهو وفقني إلى امتثال ما قد أمرني به
هذا لا يكون
فسأله
1 لم نقف على مصدره ٢ أي ما يريد
۳ سلف تخريجه في الحديث رقم / ۸۰/
٦٤٠
والانفصال عنه أن ذلك نادر فجاء الحكم على الغالب كما قد
تجد في بعض الصناع من
يغش في صنعته فتكون أرذل المكاسب والغالب في الصنعة غير
ذلك والغش فيها إن وقع لا يخفى مثلما تخفى حقوق الأموال
لأنه ليس في الأموال حق إلا الزكاة وفيه حقوق غير ذلك مثل
ما يتعلق من وجوب النصيحة في البيوع وترك الغش والخلابة
وأشياء عديدة مذكورة في كتب الفروع وقل من المتسببين من
يعرفها فكيف يفعلها فلذلك تكون الصنعة خيراً لأنها ليس
فيها غير شيء واحد وقد لا يخفى وهو ألا يوفي فيها ما يحتاج
إليه بوضع الصنعة وهو إن وقع من فاعلها شيء من ذلك هو عيب
ظاهر لمن شاء أن يردّ به رَدّ فلقلة الخطر فيها وقلة
الحقوق كانت خيراً من غيرها من التكسبات
ولذلك كان بعض من لقيت من أهل العلم والدين يبيع الزيت
فلما سألته قال لي ما رجعت إلى بيع الزيت إلا لأني أمنت
فيه خِدَع النفس وذلك أنه إذا كانت انية كبيرة مثل خابية
وتكون طيبة ويوضع فيها الشيء اليسير من الدون رجعت كلها
دوناً بخلاف غيره فإنه يقبل التدليس فلما أمنت من أنها لا
تقبل هذا لكونه يحصل لها به خسارة في المال اثرت هذه
الحرفة على غيرها لأن أهل التوفيق لا يأمنون غوائل النفوس
وإن كانت نفوسهم مباركة لقول الله تعالى وَمَا أُبَرِى
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا
مَا رَحِمَ رَبِّي ١
وأما الوجه الخامس وهو أن الطعام الذي يكون بالصنعة قد خصه
الله عزّ وجلّ ببركة ليست في غيره فإن كان هذا تعبداً لا
يفهم له معنى فلا بحث وإن كان ذلك من أجل ما فيه من
إظهار الحكمة الربانية فالكلام عليه كالكلام على ما تقدم
قبل والانفصال عنه مثل ذلك سواء وأما الوجه السادس وهو أن
يكون هذا من السنة واتباعها لأن السنة جاءت بالتسبب من أجل
أن يظن الظان أنه لا يمكن التسبب مع العبادة فيكون تحضيضاً
لنفي ما يقع من ذلك من التخيلات وأن التعبد ليس بترك
التسبب فلو كان التعبد بترك التسبب ما عمل السبب نبي من
الأنبياء فإن الأنبياء عليهم السلام بالإجماع إنهم أعبد
الناس فنفى عليه السلام هذه العلة
بذکر داود عليه السلام ويترتب عليه من الفقه أن للعالم أن
يبين ما يقوله من الأحكام بالأدلة الشرعية البينة وإن كان
لا يُشك في عمله ومعرفته لأنه أجلى للنفوس وأثبت للأحكام
يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعدما ذكر الخيرية في الطعام
احتج بداود عليه السلام
1 سورة يوسف من الآية ٥٣
٦٤١
وفيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ويكون
هذا الحديث حجة على المتسببين ألا يتركوا - من أجل تسببهم
- التعبد ويحتجوا بذلك كما يقوله كثير من الناس إن التسبب
مانع من التعبد وقد قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا
وَذُرِّيَّةً وذلك حجة على أهل العيال من أجل أن يقولوا إن
العيال والتكسب عليهم يمنعنا من التعبد والتورع في الكسب
حتى إنه قد كثر عند الناس أنك إذا جئت تَعِظ شخصاً وتحضه
على التعبد يقول لك لو بُليتَ أنتَ بما بُليتُ أنا من
العيال ما قلت لي هذا ولا كنتَ كما أنتَ فانقطعت حجتهم
بالآية المذكورة إذ خيرُ الناس وأكثرهم تعبداً كانوا
بالأولاد والعيال فلا حجة للغير فعلى هذا البحث فلا تعارض
غير أنه لا يكون هذا على عمومه في كل أحد بل يكون ذلك على
قدر أحوال الناس مثل النكاح سواء لا يستن أحد بتركه ولا
يفعله إلا إذا قدر عليه وكان في عمله إياه عوناً على طاعة
مولاه وأجمع لقلبه
وقد روي عن بعض الصحابة أنه قال لا أحب أن يكون لي دكان
على باب المسجد لا تفوتني فيه صلاة مع الجماعة أربح في كل
يوم ديناراً أتصدق به في سبيل الله لا أوثره على الفقر
وذلك فقه حاليّ لأنه قد يمكن أن يكون ممن لا تحصل له جمعية
في المخالطة وكان يفوته ذلك الخير الخاص وإن كان يحصل له
من الخير المتعدي مثل ما ذكر لأنه لا ينظر الخير العام إلا
من بعد ما يحصل له الخاص فإن الخاص هو الأصل مثل إحياء
النفس أنت أولاً تُخاطب بنفسك قال الله عزّ وجلّ وَلَا
نَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا ثم بعد ذلك بنفوس الغير لقوله تعالى وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۳ ولم
تؤمر أن تحيي الغيرَ وتُهلِكَ نفسك قاصداً لذلك إلا في
الجهاد لا غير وإن فعلت ذلك كنت مأثوماً
ومثل ذلك النفقة أنت مكلف بنفسك ثم بالابن ثم بالزوجة فإذا
كان عندك رغيف واحد لم يلزمك نفقة أحد من الأهل فإن كان
رغيفان لزمك النفقة على واحد من العيال وتقدم الذي نفقته
ثابتة لا تزول باختيارك الذي هو الولد ثم الزوجة وعلى هذا
الترتيب كيفما كَثُر العيال الأهم فالأهم فإن كان شخص لا
يقدر على الصنعة ولا التسبب فطلبه ذلك مرجوح في حقه لأنا
نقول مع القدرة عليه لا يُسْتَن بتركه ويجعله من العبادة
ولكن يأخذ الذي هو الأولى في حقه بنسبته في القرب إلى
مولاه على الوجه المشروع فكيف مع عدم القدرة عليه فيكون إذ
ذاك ممنوعاً في حقه
1 سورة الرعد من الآية ۳۸ سورة النساء من الآية ۹ ۳ سورة
المائدة من الاية ٣٢
٦٤٢
وقد رأيت الشيخ الجليل أبا العباس بن عجلان ۱ رحمه الله
وجاءه بعض الفقراء
المتعبدين وكانت له عائلة وكان يشتغل بالسبب وسببه ضعيف
وهو في نفسه ضعيف وكثير العيال وكثر التشويش من أجلهم فقال
له أبو العباس المذكور رحمه الله ـ وكان له السبق في
الطريقين العلم والحال - يَحرُم عليك عمل السبب واشتغل
بالعلم وأنت وأهلك عيال على الله ففعل ما أمره به فانتهت
حاله أن يطحن في الشهر أردبَّيْنِ قمحاً والقمح إذ ذاك ما
يقرب من العشرة دنانير القفِيزُ وزائد على ذلك ما يحتاج
إليه من بقية النفقة والكسوة والسكنى وغير ذلك من ضرورات
العيال وهو مع د لا يسأل أحداً شيئاً إلا مقبلاً على العلم
والتعبد لا غير إلا ما كان من تصرفه في ضروراته فإنه كان
يتولى ذلك بنفسه وهذا الوجه من الفقه لا يعرفه إلا من هو
مثل
ذلك السيد
وقد كتب بعض الفقراء فتوى فمشى بها على الفقهاء فلم يجاوبه
عليها إلا فقيه واحد - وكان ممن قد نور الله بصيرته -
وكانت الفتيا ما يقول الفقهاء في الفقير المتوجّه هل يجب
عليه عمل السبب أم لا أفتونا يرحمكم الله فالكل حادوا عن
الجواب فلما بلغت ذلك المبارك كتب عليها إن كان توجهه
دائماً لا فترة فيه فالتسبب عليه حرام وإن كانت له في بعض
الأوقات فترة ما فالتكسب عليه واجب
فتأمل إلى حسن هذا الجواب ما أبدَعَه وكيف يعضده سيّدنا
محمد إن الله تكفل برزق طالب العلم تفهم قول سيدنا محمد
الله هذا فإن فيه سراً لا يعرفه إلا من تكون فتياه مثل
السيد المتقدم ذكره وذلك بأن الله عزّ وجلّ قد تكفل برزق
جميع المخلوقات بمتضمن قوله تعالي وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ۳ وقوله عزّ وجل
لَا نَسْتَلْكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ
لِلتَّقْوَى ٤ وبقوله عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلام حين
قال ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا امنا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ٥ قال هو جلّ جلاله
مجاوباً
1 أبو العباس بن عجلان القرطبي هو أحمد بن عمر بن إبراهيم
بن عمر الأنصاري المالكي الفقيه المحدث المدرّس الشاهد
بالإسكندرية ولد بقرطبة سنة ٥٧٨هـ / ١١٨٢م وسمع الكثير
هنالك ثم انتقل إلى المشرق واشتهر وطار صيته وأخذ الناس
عنه وانتفعوا بكتبه وقدم مصر وحدث بها واختصر الصحيحين
وكان بارعاً في الفقه والعربية عارفاً بالحديث من تصانيفه
المفهم في شرح مسلم وقد اعتمد الإمام النووي عليه وأشاد به
توفي بالإسكندرية سنة ٦٥٦هـ / ١٢٥٨م نفح الطيب ٦١٥/٢
تقدم تخريجه في الحديث رقم ٦ الوجه الرابع
۳ سورة هود من الآية ٦
سورة طه من الاية ۱۳ ٥ سورة البقرة من الآية ١٢٦
0
٦٤٣
لإبراهيم عليه السلام وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا
ثُمَّ أَضْطَرُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ۱ معناه يا
إبراهيم
أرزق من امنَ ومَن كفر ثم أسوق الكافر إلى النار
فما هو الوجه الذي تضمنه زائداً لطالب العلم وإن كان قد
أشرنا إليه في غير هذا الحديث لكن شرح الحال أحوج إلى
إعادته وذلك أن الرزق الذي فرضه المولى جلّ جلاله لعبيده
وقدَّره وضمنه منه ما هو بواسطة السبب ولا يبلغه صاحبه إلا
سبب ومنه ما هو بلا سبب ولا واسطة مثل المواريث والهبات
على اختلاف أنواعها ونحن لا نعلم الذي هو بالسبب ولا الذي
هو بغير سبب فلما كان صاحب العلم الذي هو الله كما قال إذا
بتدع في الدين بدعةٌ كِيدَ الدِّينُ فعليكم بمعالِم الدين
واطلبوا من الله الرزق قالوا وما معالِمُ الدِّينِ قال
مجالس الحلال والحرام أو كما قال عليه السلام فيكون معناه
لا يَشغَلْكم التكسبُ في الرزق عن طلب العلم فيذهب الدين
من أجل ما ابتدع فيه والجهل بذلك فاشتغلوا بالعلم والله
يعطيكم رزقكم
فلما كان صاحب العلم الذي هو الله اشتغل ۳ بسبب الآخرة لأن
أكبر أسباب الآخرة طلب العلم إذا كان الله وكان على وجهه
فلما اشتغل هو بذلك يسر الله الرزق بلا واسطة التسبب ولا
أحوَجَه إلى أحد من خَلقه فيكون ذلك تأكيداً في تيسير رزق
طالب العلم - إن كان طلبه للاخرة بهذا الوجه - لأن طالب
العلم يستغرق جميع الأوقات وجميعَ الزمان فكفاه الله مؤنة
طلب رزقه والتسبب فيه ولقلة التصديق بهذا النوع من
الأحاديث تعب بعض طلبة العلم وخسروا أعمارهم فلا هم بدنيا
ولا هم بأخرى نسأله جلّ جلاله أن ييسرنا للفهم عنه والعمل
بذلك والسعادة
به لا رب سواه
لأنه قد وفي اختصاصه ل داود عليه السلام من بين غيره من
الأنبياء عليهم السلام شهر حاله في تكسبه وكيف ألين له
الحديد وكيف كان يعمل الدرع في اليوم الواحد ويبيعه بألف
درهم فينفقه على المساكين كله ويأكل هو منه خبز الكشكار ٤
ويطعم المساكين خبز العلامة ٥ وهو الدرمك ٦ الطيب باللحم
الطيب كما أشار في الحديث قبل يتسبب فينفع نفسه ويتصدق
فيكون يتسبب لأجل هذه الصفة المباركة ولا يعمل من أجل أن
يستدل بالحديث في التكسب ثم
۱ سورة البقرة من الآية ١٢٦
لم نعثر على مصدره وانظر التعليق عليه في الحديث ۹۰
۳ أي طالب العلم
٤ خبز الكشكار الخبز العادي
٥ خبز العلامة الخبز الجيد
٦ الدرمك الخبز المعمول من الدقيق الأبيض
٦٤٤
يدخر فهذا خلاف لما قصد منه فكأنه عليه السلام يشير إليه
لأن يتصدق ويأكل ولا يدخر ولذلك حين سأله أزواجه أيهن أقرب
لحاقاً به فقال أطولكن يدا فكن بعد وفاته عليه السلام يقسن
أيديهن أيهن أطول فأول من ماتت زينب رضي الله عنها وعنهن
جميعاً فإنها زينب كانت تعمل بيدها وتكثر الصدقة حتى كانت
تسمى أم المساكين ۳ فنظرن الطول بالنسبة إلى الجارحة وكانت
إشارته عليه السلام إلى المعروف لأن المعروف يسمى لغة يداً
وفائدة هذا الحديث أنه لا يصح كسب ولا تعبد إلا بمعرفة
السنة وإلا فصاحبه مخيَّر فمن فيه أهلية فيكون من أهل
العلم بها 4 والغير يكون وظيفته السؤال عنها وعن أهلها
والاقتداء بهم ويكونون أهلا لذلك حقاً لا دعوى منهم فإن
بالدعوى هلك أكثر الناس وأهلكوا معهم جمعاً ثيراً كما أخبر
الصادق عليه السلام دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها
قذفوه فيها وقد يُظهرون التضلع بالعلوم وتلك العلوم وبال
عليهم وعلى من تبعهم لأنهم جعلوا قاعدتهم طلب الحظ
والمنزلة وذلك أصل كل خسارة وحرمان أعاذنا الله من ذلك
بمنه ووفقنا لاتباع السنة والسنن بمنه وقد قال بعض
المباركين تحب دنيا وتحب أخرى حبيبان في القلب لا يجتمعان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
رواه مسلم والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ
أسر عكن لحاقاً بي إلخ هي زينب بنت جحش الأسدية أم
المؤمنين وإحدى شهيرات النساء في صدر الإسلام كانت زوجة
زيد بن حارثة واسمها بَرّة وطلقها زيد فتزوج بها النبي
الله و وسماها زينب وكانت من أجمل النساء وبسببها نزلت آية
الحجاب وكانت أطول نساء النبي ا ل ي ا وأقربهن للحاقاً به
إلى الرفيق الأعلى وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وكانت وفاتها سنة ٢٠ هـ / ٦٤١م ۳ هي زينب بنت
خزيمة بن الحارث الهلالية كانت تدعى في الجاهلية أم
المساكين وظل لقبها هذا في الإسلام وهي من أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم انظر الطبقات لابن سعد ١١٥/٨ ويبدو أن
الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه وهم فجعل زينب بنت جحش
الأسدية وزينب بنت خزيمة الهلالية واحدة
٤ أي بالسنة
٦٤٥
-٩٤-
حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا
عَن حَكِيمٍ بن حِزام ۱ رضي الله عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قالَ البَيْعَانِ بالخيارِ ما لَم
يَتَفَرَّقا أو قالَ حتَّى يتفَرَّقا فإن صَدَقا وبَيَّنا
بورِكَ لهُما في بَيعهما وَإِن كَتَما وَكَذَبا مُحِقَت
بَرَكَةُ بَيعهما
ظاهر الحديث يدل على أن كل واحد من المُتبايعَيْنِ له
الخيار ما لم يتفرقا وأن البركة مع الصدق وأن مَحْقَ
البركة مع الخيانة والكذب والكلام عليه من وجوه
ج
منها هل الافتراق المعني هنا بالأقوال أو بالأبدان لأنه قد
جاء المعنيان في الكتاب العزيز أما الأبدان فقوله تعالى
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلَّا مِّن سَعَتِهِ
٢ وأما بالأقوال فمثل قوله تعالى وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَتْ ۳ فهذه بالأقوال وكذلك أيضاً قوله
عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ٤
واختلف العلماء في قوله عليه السلام البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا فمنهم من قال
بالأبدان وهو الشافعي رحمه الله ومن تبعه ومنهم من قال
بالأقوال وهو مالك رحمه الله
ومن تبعه وهو الأظهر والله أعلم لما جاء في حديث عبد الله
بن عمر مع عثمان ابن عفان رضي
۱ حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد صحابي قرشي وهو ابن أخي
السيدة خديجة أم المؤمنين كان صديقاً للنبي صلى الله عليه
وسلم قبل البعثة وبعدها وكان من سادات قريش في الجاهلية
والإسلام عالماً بالنسب أسلم يوم الفتح له
في كتب الحديث ٤٠ حديثاً توفي في المدينة المنورة سنة ٥٤هـ
/ ٦٧٤م انظر الحديث ٧٥
سورة النساء من الآية ۱۳۰ ۳ سورة ال عمران من الآية ١٠٥
٤ رواه الترمذي في الإيمان بلفظ آخر وللحديث روايات كثيرة
بلغت حد التواتر
٦٤٦
الله عنهم حين باع منه عبد الله مخرافا كان له بموضع كان
لعثمان وكان عبد الله حريصاً على تمام البيع فقام من حينه
- وهو ممن روى هذا الحديث في البيع ليس إلا بلا زيادة ـ
فقال له عثمان أردتُ تمام البيع ليست السنة بافتراق
الأبدان قد انتسخ ذلك وكان تبايعهما بعد وفاة رسول الله
فرجع عبد الله رضى الله عنه إلى مقالة عثمان رضي الـ
الله عنه
وقد قال مالك رحمه الله إذا كان حديثان صحيحان وثبت أن
الخلفاء أو أحدهم عمل بالواحد وترك الآخر فذلك دليل على
نسخه فمن باب أولى إذا كان الحديث يحتمل معنيين ونص بعضهم
على سقوط الوجه الواحد منهما
وهنا بحث في قوله عليه السلام البيعان سماهما بيعين
والواحد مشتر والآخر بائع فالجواب أن كل واحد منهما ينطلق
عليه اسم بائع ومشتر لأنه بائع للشيء الذي يدفعه لصاحبه
ومشتر للشيء الذي يأخذه من صاحبه فلما كان لا يخرج الشيء
من يد صاحبه إلا باختياره سماهما عليه السلام بيعين وصدق
القول عليهما بذلك
ولأجل ما يلزم لكل واحد منهما من بيان ما في متاعه من
العيوب بيَّن عليه السلام بعد ما لهما وما عليهما بقوله
عليه السلام فإن صدقا وبيّنا بورك لهما وفيه بحث وهو هل
الصدق والبيان يعودان لمعنى واحد أو هما لمعنيين وإن حصل
من أحدهما الصدق والبيان هل تحصل بركة أو لا تحصل أو تحصل
للذي يصدق ويبيّن ويحرم الآخر
فأما قولنا هل الصدق والبيان لمعنيين أو يعودان لمعنى واحد
احتمل أن يكون أحدهما مؤكداً للآخر والمعنى واحد مثاله أن
يصدق إن كان في سلعته عيب فيقول هو كذا وكذا فقد بين ما
صدق فيه لأنه قد يقول سلعتي معيبة ويكون العيب خفياً فينظر
المشتري فلا يرى شيئاً فيزيد رغبة في السلعة ويظن ذلك منه
ديناً فيقول ذلك احتياطاً فيكون فيه نوع من الخلابة فإذا
بين ذلك صح صدقه فيكون على ذلك بيَّنَ صفةً لصدقه
واحتمل أن يكون كل واحد منهما قائماً بنفسه فيكون معنى
صَدَق في سَوم سلعته ولم يزد فيها تحرزاً من الربا ويكون
بين معناه بين ما فيها من العيوب فكل واحد منهما قائم
بذاته - وهو الأظهر والله أعلم - لكثرة الفائدة وهذا
المعنى الآخر هو الذي يجيء على ما بيّنه أهل الفقه في
الفروع فمن تأمله هناك يجده على ما ذكرناه إن شاء الله
وأما قولنا إن صدقا معاً وبيّنا معاً فالبركة موجودة معهما
وإن لم يفعلا معاً فإنهما لا
۱ المخراف البستان
٦٤٧
يجدانها وأما إن فعل أحدهما ولم يفعل الآخر فالذي فعل يجد
البركة ولا يجدها الآخر وأما الحديث فليس فيه إشارة إلى
شيء من ذلك وقواعد الشرع تقتضي ذلك لأنه عزّ وجلّ يقول
وَلَا نَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۱ وقال عز وجل
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَمُ وقال عزّ وجلّ
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ
أَسَأْتُم
فَلَهَا ۳ وفيه الأدلة كثيرة وأما إن فعلا الشرط الواحد
ولم يفعلا الآخر - مثال ذلك أن يصدقا ولا يبينا أو ضده -
فهل يحصل لهما شيء من البركة أو لا تحصل البركة إلا
بالوصفين الظاهر أنه لا يحصل لهما من البركة
شيء إلا بالوصفين معاً لأنهما شرط في وجود البركة ولا يوجد
المشروط حتى يتم الشرط وقوله عليه السلام في بيعهما أي في
نفس البيع الذي هو التعاقد أو ما كان التعاقد عليه من
المثمونين احتمل الوجهين معاً لأنه إذا كان العقد مباركاً
فلا يكون عنه في الوجهين إلا بركة لأنه المقدمة فإذا كانت
المقدمة - وهي الأصل - طيبة فلا تكون النتيجة ولا ما يتولد
من الأصل الطيب إلا طيبة وقد يريد بذلك الشيء الذي تبايعا
عليه
وقوله عليه السلام وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما
الكلام عليه كالكلام على صدق وبينا هل يعود لمعنى واحد أو
لمعنيين احتمل والأظهر أنهما لمعنيين - كما قلنا في
المتقدم - والبحث على اجتماعهما على الكتمان والكذب أو
تركه منهما بالأصالة أو فعله الواحد ولم يفعله الآخر أو
فعلا الوجه الواحد ولم يفعلا الآخر مثل ما تقدم سواء بسواء
والكلام على البيع الآخر مثل الكلام على البيع الأول كذلك
وتكلم على الطرفين ولم يتعرض إلى الحالة الوسطى وهي التي
لم يكتم ولا كذب ولا بين فالحالة الوسطى آخراً لا تحتاج
إلى بيان فإنه بتبيين الطرفين وتبيين حكمهما ظهر حكم
المتوسط وهو الذي يقع من الناس غالباً مثاله أن يكون في
سلعته عيب ظاهر فيقول للمشتري اشتر لنفسك وانظر وقلب وهو
يعتقد أن ذلك العيب من الظهور بحيث لا يخفى فلا يحتاج إلى
بيانه ولا كذبه بأن قال له ليس فيها شيء ولا سكت فقد تكلم
بكلام فيه إرشاد إلى أن يبحث المشتري ويدقق نظره
وهنا تقسيم لا يخلو المشتري أن يكون عارفاً بتلك السلعة
وعيوبها أو جاهلاً فإن كان
۱ سورة الأنعام من الآية ١٦٤ سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨ ۳
سورة الإسراء من الآية ٧
٦٤٨
جاهلاً فحكم هذا حكم الكتمان والكذب سواء وإن كان عارفاً
فالبركة لا تحصل له لأنه لم يأتِ بشرطها ويبقى النقص
محتملاً هل يكون موجوداً أم لا
وفيه دليل على أنه لا تُحصل الدنيا إلا بالآخرة يؤخذ ذلك
من أنه لم تحصل لهما البركة إلا بالصدق وهو من أمور الآخرة
الذي يكون صاحبه فيه مأجوراً وهو من أكمل صفات الإيمان
ولذلك قال أهل التحقيق من صَدَق وصَدّق قرب لا محالة وقد
بين هذا حيث قال لا ينال ما عند الله إلا بطاعة الله ۱
وفيه دليل على أن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة
يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام وإن كتما وكذبا محقت بركة
بيعهما والكذب من الكبائر والكتم - وهو الغش - من الكبائر
أيضاً لقوله الله من غشنا فليس منا وقوله عليه السلام في
الكذاب الحديث المتقدم الذي يشد شدقه من حين موته إلى أن
تقوم الساعة فحينئذ ينظر مصيره فقد خسر الدنيا بذهاب
حطامها من يده لأنه إذا ذهبت البركة من المال فهو ذاهب
وخسر الآخرة لما يناله فيها من العذاب وقد زاد ذلك إيضاحاً
حيث قال من حاول أمراً بمعصية كان أبعد مما يرجو وأقرب إلى
ما يخافه ۳ فأهل التوفيق ربحوا الدنيا والآخرة ولذلك لما
سئل عبد الرحمن بن عوف ٤ رضي ! الله عنه عن كثرة ماله ما
سببه قال ما كذبت قط ولا دلست ولا بعت بدین ولا رددت فضلاً
أي شيء كان وقد أخبر عنه أنه اشترى جملة جمال فقيل له تربح
فيها أزمتها وكانت من حَبْل ففعل فلما ذهب الذي اشتراها
بعدما
قبضها يطلب شيئاً يعمل لها أزمة لم يجد أصلاً فرجع إليه
واشترى منه تلك الأزمة بجملة مال
وهل يقتصر هذا على هذا البيع أو يدخل فيه كل ما ينطلق عليه
اسم بيع صيغة اللفظ
۱ رواه الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة وابن ماجه
في السنن وهو قطعة من حديث أوله إن روح القدس قد نفخ في
روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها إلخ ولفظ
الشاهد - كما ورد في الحديث فإن ما عند الله لا ينال
بمعصيته
رواه مسلم في الإيمان رقم / ۱۰۱ / من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه
۳ لم نقف على مصدره عبد الرحمن بن عوف أبو محمد الزهري
القرشي صحابي من أكابرهم وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد
الستة أصحاب الشوري الذين جعل عمر الخلافة فيهم وأحد
السابقين إلى الإسلام وكان من الأجواد الشجعان العقلاء شهد
بدراً وأحداً والمشاهد كلها وجرح يوم أحد ۱ جراحة وأعتق في
يوم واحد ثلاثين عبدا وكان يحترف التجارة والبيع والشراء
فاجتمعت له ثروة كبيرة وتصدّق يوماً بقافلة فيها سبعمائة
راحلة تحمل الحنطة والدقيق والطعام ولما حضرته الوفاة أوصى
بألف فرس وبخمسين ألف دينار في سبيل الله له ٦٥ حديثاً
توفي في المدينة سنة ٣٢هـ / ٦٥٢م
٦٤٩
تقتضي
بِأَنَّ
أن تحمل على عمومها ويتحرز من العيوب المفسدة أو المذهبة
للبركة ويرغب في التي توجبها لأن الله عزّ وجلّ يقول إِنَّ
اللَّهَ أَشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَاهُم بِات لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا ١ تلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ۱ فمن
صدق في بيعه هذا ولم يكتم الحق ولم يكذب على الله ورسوله ل
هول و ولا على أعلام دينه بأن يبتدع بدعة ويجعلها ديناً
ويصدق ۳ الله ورسوله كما يجب ويبين أحكام الله تعالى كما
تقتضيه قواعد الشريعة ولم يخف في الله لومة لائم بورك له
في بيعه غير أنه يختص هذا البيع بزيادة ليست في ذلك البيع
الآخر وهي أن البركتين اللتين في الثمن والمثمَّن جميعاً
للعبد لأن مولانا جلّ جلاله غني عنا وإنما هي تجارة لنا
قال عزّ وجلّ في كتابه هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى بَصَرَةٍ
تُجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۳ والخسارة أيضاً عليهما تعود
فوجب أن تكون المحافظة على هذه أشد من الأولى كما يذكر عن
الأنصار حين بايعوا النبي عليه السلام قالوا ما لنا إذا
وفينا قال الجنة قالوا رضينا لا نَنْقُصُ البيع فوفوا رضي
الله عنهم فوفى لهم بأن شهد لهم بالوفاء وحقيقة الإيمان
لقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ اوَوا
وَنَصَرُوا أَوَلَبِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ٤ ومن
هنا جعل أهل التوفيق الهَمَّ همّاً واحداً ولم يلتفتوا
ففازوا وغنموا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم تسليماً
٢٥٢٦٠
٦٥٠
۱ سورة التوبة من الآية ۱۱۱ العطف على صَدق
۳ سورة الصف من الآية ۱۰ و ۱۱
٤ سورة الأنفال من الآية ٧٤
1901
حديث جواز أخذ الزوجة ما يكفيها من مال زوجها إذا كان
شحيحاً
عَن عائشة رضيَ الله عَنها قالَت هِندٌ أُمُّ مُعاويةَ
لِرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ أبا سفيان رَجُل
شحيح فهل عليَّ جُناح أن آخذ من ماله سراً قال خُذي أنتِ
وبنُوكِ ما يكفيكِ بالمَعرُوف
وجوه
**
ظاهر الحديث أخذ الحق من مال صاحبه وإن كان عنه غائباً إذا
لم يعطه والكلام عليه من
منها أن الأئمة اختلفوا هل هذا على العموم وإن اختلف أنواع
المال وخالف نوع مال الطالب نوع مال المطلوب أو لا يكون
ذلك إلا إذا كان المالان من نوع واحد متماثلين على قولين
مثال ذلك أن يكون لك عند أحدٍ دراهم فيمتنع من إعطائها
إياك فتلقى من ماله بظهر غيب منه مالاً هل تأخذ من ذلك
المال الذي لقيته لغريمك ما منع أن يعطيكه وهو غائب لا
يعرف بذلك فإن كان ما لقيته دراهمَ مثل دراهمك في الصفة
فلك أن تأخذ منها قَدْرَ مالِكَ بلا زيادة لقوله عليه
السلام في الحديث خذي أنتِ وبنوك ما يكفيك بالمعروف
والمعروف هو عدم الزيادة في الحقوق وإن كان ما لقيته خلاف
الدراهم ذهباً أو عروضاً أو طعاماً فمذهب الشافعي تأخذ
قدْرَ مالك عنده بالمعروف ومذهب مالك لا تأخذ منه شيئاً
لأنه إذا أخذت خلاف مالك فهو بيع من البيوع والبيع يفتقر
إلى وكالة وليس لك وكالة بما تتصرف في بيع مال الغير
فظاهر الحديث منفرداً الحجة فيه للشافعي وجمع الحديث إلى
القول بسد الذريعة مع ما جاء مالك من أجله هو عدم في
البيوع وشروطها يقتضي ما ذهب مالك إليه إلا أنه إن كان ما
يمنع الوكالة التي بها يتم البيع وقد رأيت فتوى لبعض
المالكية - وكان معتبراً في وقته ونقلها قَوْلَةً في
المذهب معناها أنه ـ أعني صاحب الحق - يقوم مقام الحاكم
ويوكل غيره في بيع من ذلك المال بالسداد بقدر مالَهُ ويأخذ
ماله طيباً حلالاً فإن صح القول عن الإمام فلا بحث وإلا
فالبحث
٦٥١
ها
يعطي أنه لا فرق بين أن يُنزِل نفسه منزلة صاحب المال
فيتصرف بالمعروف أو ينزل نفسه منزلة الحاكم فهو في كل واحد
من الوجهين يحتاج إلى إذن من هو نائب عنه فإنه لا يحكم على
أحد حاكم خلاف الإمام أو من قدمه الإمام إلا بإذنه وكلاهما
متعذّر فالحكم متعذر أيضاً وفيه دليل على أن الأم هي
المتصرفة في معاش أولادها يؤخذ ذلك من قوله خذي أنتِ وبنوك
ما يكفيك بالمعروف
ويؤخذ منه أنها هي القائمة بحقوقهم على الأب لقولها لا
يعطيني تعني حقها وحق بنيها ويؤخذ منه دليل على أن الفتوى
خلاف الحكم لأن الحكم لا يكون إلا بعد اعتراف أو ثبوت
بشهادة يؤخذ ذلك من أنه لما قالت له عليه السلام هل عليَّ
جُناح - تعني في الشرع - فجاوبها عليه السلام بأن لا جناح
عليها ولو طلبت منه الحكم لم يحكم إلا بعد حضور أبي سُفيان
ويسمع حجته وحينئذ كان يقضي بحسب ما يسمع منهما فإنه عليه
السلام قال إنكم تَختصمون إليَّ فلعل أحدكم يكون الحَنَ
بحجته من بعض فأحكم له بحسب ما أسمع ۱ معناه فأُوقع الحكم
على ما يظهر من قول الخصمين
وفيه دليل على جواز خروج النساء لطلب حقوقهن إذا لم يكن
معهنَّ مَن يقوم عنهن يؤخذ ذلك من جواب رسول الله لها ولم
يعنفها ولا أنكر عليها
وقولها رجل شحيح ظاهر اللفظ يعطي جواز الغيبة عند الحاكم
من أجل الضرورة ولقول الله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ
فلأجل ظلمه يجوز له قول السوء وما هي غيبة من أجل أنها لم
تقصد تنقيصاً بصاحبها وإنما هو من ضرورة وصف حاله لكن ليس
قولها إن أبا سفيان رجل شحيح من هذا القبيل ولكن هو من باب
المدح بحسب عادة العرب لأن الذي يشحّ عندهم على عياله إنما
هو من أجل اعتنائه بالأضياف والخصب عليهم فيلحق الضرر من
أجل ذلك للعيال فهي لفظة باطنها خلاف ظاهرها كما ينقل عن
العرب في بعض الألفاظ التي يدعون بها مثل قولهم ضَرَب الله
عُنقه وقاتله الله ! ولا يريدون به ظاهر اللفظ فمن لا يعرف
ذلك يحملها على العادة المذمومة ولكن ليس كذلك
ويترتب على هذا من الفقه ألا يذم أحد أحداً على قول أو فعل
حتى يعلم ما عُرْفُ أهل وقته في
ذلك ومثل ذلك في الشكر أيضاً
۱ رواه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبو
داود والنسائي وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها ولفظه
إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ إلى اخره
سورة النساء من الآية ١٤٨
٦٥٢
وفيه دليل على أن الكنى المعروفة شرعاً والعادة عند العرب
هي بأسماء البنين يؤخذ ذلك من قولها أبا سفيان وكنته بابنه
وكذلك قول رواية الحديث كنت المرأة باسم ابنها وما عدا هذا
فهي بدع لاسيما إن كانت بلفظ التزكية كقول أهل مصر
وأقطارها جمال الدين وبهاء الدين وحديث مسلم لما تزوج لا
جُوَيْرِيَة قال لها ما اسمك قالت بَرَّة فقال لا تُزَكّوا
أَنفُسَكُم سمّوها جُوَيرِية وهي بَرَّة حقيقة لأنها لا
تُختار أن تكون زوجاً له إلا وهي بَرّة حقيقة لكن نهى ذلك
وقابل عليه السلام فعلهم بالضد وهو أن صغر اسمها فقال
جويرية فما بالك بغيرها فمن باب أخرَى فمن حيث رفع اسمه
لفظاً فقد صغر نفسه شرعاً فالحكم بمقتضى الشرع لا بالوضع
وفيما ذكرناه حجة للقوم في قولهم مَن رأى لنفسه حَقَّ رفعة
على خلق من خلق الله ولو على الكلاب فهو معلول
عن
فيا شافي العلل اشف علةً قد أفضت بي إلى العطب هانت عليهم
أنفسهم فارتفعوا وعظمت نفوس غيرهم فَبِها ذَلّوا وخَسِروا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ رواه مسلم في الأدب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
وزينب بنت سلمة رضي الله عنها
٦٥٣
-9-
حديث النهي عن التصوير
عن ابن عبّاس رضي الله عَنهُما قال سمعتُ رَسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول مَن صَوَّرَ صُورَةٌ فإِنَّ اللهَ
يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنفُخَ فيها الرُّوحَ وَلَيسَ بنافِخ
فيها أبداً
ظاهر الحديث يدل على أن الذي يصوّر الصورة يُعذَّب أبداً
والكلام عليه من وجوه منها هل هي على العموم في كل الصور
ما له روح وما لا روح له ومنها هل التأبيد على ظاهره فيكون
مثل الكافر سواء ومنها إن تاب قبل الموت هل يغفر له أم لا
أما الجواب عن الأول فأما ما لا روح له فلا يدخل تحت
الحديث لقوله عليه السلام حتى ينفخ فيها الروح فخرج من
عموم اللفظ كل من صور صورة لا روح لها بتحديده عليه السلام
بنفخ الروح فيها وقد ذكر ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما
وأما الثاني وهو هل التأبيد على ظاهره فيعارضنا قوله تعالى
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ ١ وهذا دون
الكفر فهو في جملة من يشاء فيكون المعنى فيه - والله أعلم
- مثل قوله تعالى ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا
هذا
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ﴾ ٢ قال أهل السنة فجزاؤه أي إن
جازاه وقد تقدم البحث في ه ومثله أنهم هم الذين يخرجون
بشفاعة أرحم الراحمين حين يقول الله تعالى شفعت الملائكة
والرسل والأنبياء وبقيت شفاعة أرحم الراحمين ثم يقبض في
النار قبضة فيخرج منها كل من كان حَبَسه القرآن ۳ والذين
حبسهم القرآن على ضربين كفار وأهل معاص مثل من تقدم ذكرهم
ألا يُغفر لهم وأما أهل الكفر فلا مغفرة لهم لقوله تعالى
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
العدل يقتضي
۱ سورة النساء من الآية ٤٨ سورة النساء من الآية ۹۳
۳ قطعة من حديث رواه مسلم في الشفاعة عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه بلفظ آخر
٦٥٤
به ويغفر
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ والآي والأحاديث فيه كثيرة
وإجماع المسلمين على ذلك فيكون الفريق الآخر هم الذين
تنالهم تلك الرحمة وهو وجه يجتمع به الآي والأحاديث ولا
يقع بينهما تعارض إن شاء الله
وفيه دليل على جواز التعليم دون سؤال يؤخذ ذلك من إخبار
النبي له بهذا الحديث وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا العذاب
العظيم هو لعلّة تعرف أو هو لعلة لا يعلمها إلا هو
عزّ وجلّ فإن قلنا إنه تعبُّد فلا بحث وإن قلنا قد نفهمها
غلبة ظن بمقتضى إخبار الشارع عليه السلام في غير هذا فما
هي فنقول والله أعلم ذلك أنه يتشبه بصفتين من صفات الله
عزّ وجلّ عظيمتين وهما العظمة والحكمة لأن الخلق على
اختلافهم دال على عظمة الله عزّ وجلّ وعظيم حكمته و قال له
الا الله وحكاية عنه جلّ جلاله الكبرياء ردائي والعظمة
إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ۱ فإذا كانت صفة
واحدة جاء في التشبه بها هذا الوعيد فكيف بشيء يدل على
صفتين عظيمتين فيحق هذا لما فيه من قلة الأدب
والفقه في هذا الحديث التصديق به لأن ذلك مع كونه من حقيقة
الإيمان يوجب الردع
والزجر عن هذا الفعل ومن أجل هذه الفائدة أخبر سيدنا الله
بهذا الحديث وأمثاله وفيه دليل لطريق أهل الصوفة في ذمهم
الدعوى وإن كانت حقيقة خيفة النقص وهم لا يشعرون فتكون
سبباً للحرمان يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن الله
يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ولأنه قد جاء في
حديث آخر يقال للمصوّرين أحيوا ما خلقتم فيُطلبون بتمام
الدعوى فلا يُتِمّونها فيعذبون على كذب دعواهم لأنهم لما
صوروا ما يشبه ما خلقه الخالق جلّ جلاله فقد ادّعوا بحالهم
أنهم يخلقون مثله فيقال لهم من تمام دعواكم أن تُحيوا ما
صورتم وإلا فأنتم كاذبون في دعواكم والكذب جزاؤه العذاب
الأليم فلو كان يكذب على غير دعوى لكان يُعذب ولا يُجعل له
شرط في رفع العذاب لتمام خلق ما صوره بنفخ الروح فيه وهو
لا يطيق ذلك كما جاء في حق الكذاب الذي يشق شدقه لكن شؤم
الدعوى زاده عظيم البلاء وفيه دليل على تصديق ما كان الصدر
الأول عليه وهو الحق فإنهم كانوا ينظرون الشخص في حاله لا
في مقاله يؤخذ من ذلك أن المصور للصورة ما هو بلسانه
يَدَّعي أنه يخلق فلما كان
1 رواه مسلم في البر والصلة باب تحريم الكبر وأبو داود في
اللباس من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما
بلفظ العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني شيئاً عذبته
الله عنه وروياه كذلك من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ إن
أصحاب
رواه الشيخان من حديث عمر رضي هذه الصور يعذبون يوم
القيامة فيقال لهم أحيوا ما خلقتم
٦٥٥
فعله يدل على ذلك لم يُرْعَ ۱ في ذلك مقاله وإن كان يعترف
في حال حياته أن هذا ليس بحقيقة لكن لا ينفعه ذلك يؤخذ بما
يدل عليه لسان حاله ومما يقوي ذلك ما روي عنه أنه إذا كان
يذكر شخص عنده وهو غائب لا يعرفه يقول كيف هو في عقله يعني
في عقله عن الله وتصرفه ويترتب عليه من البحث أن من أراد
اللحوق اتَّبع ولم يبتدع فإنه يصل حيث وصلوا وإن لم يدعه
وإن ادعى ولم يتبع حصل له التوبيخ والخسران وقد قال أهل
التوفيق من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان وقد قال
نفسَك على الدعوى فحاسبها ولا تدَّعِ ذاك فتضيعها وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٦٥٦
1 أي لم يُراع أي أحدهم
-44-
حديث جواز أخذ الأجر على كتاب الله عزّ وجلّ
عن ابن عباس رضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قال أَحقُّ ما أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجراً كتابُ
الله عزّ وجلَّ
بات
ظاهر الحديث يدل على جواز أخذ الأجر على كتاب الله عزّ
وجلّ وهو أحلُّه والكلام عليه
من وجوه
منها ما يعارضه من قوله صلى الله عليه وسلم في رجل علم
رجلاً شيئاً من القرآن ثم أهدَى له قوساً يقاتل به بين يدي
رسول الله له فذكر ذلك المُهدَى له لرسول الله له فقال
قطعة أو قطعتان من نار ۱ فظاهر هذا الحديث يوجب المنع
واختلف العلماء من أجل ذلك فمنهم من قال بالجواز مطلقاً من
أجل الحديث الذي نحن بسبيله ولعله لم يبلغه الحديث الذي
أوردناه ومنهم من منع على ظاهر الحديث الذي أوردناه ومنهم
من جَمَع بين الحديثين - وهو مذهب مالك - فقال ما هو عليك
فرض فلا يجوز أخذ الأجرة عليه وما ليس بفرض فأخذ الأجرة
عليه جائز مثال ذلك على مذهبه من جاء يطلب تعليم أم القرآن
فلا يجوز أن يأخذ منه عليها أجراً إذا كان بالغاً لأنها
عليه فرض لأنها من جملة فرائض صلاته ولا تجزئة إلا بها وإن
أراد تعلم غيرها فله أن يأخذ منه عليها من الأجر ما شاء
وكذلك في سائر أمور الدين كله ما يكون فرضاً في الوقت على
الطالب لا يجوز للمطلوب له أخذ أجر عليه وإن لم يكن
عليه فرضاً فهو بالخيار في ذلك وقد يحتمل الجمع بين
الحديثين بوجه - وهو لا بأس به إذا تأملته - وهو أنه قد
قال من
۱ قال الحافظ في الدراية ۱۸۸/ رواه أبو داود وابن ماجه
وإسناده ضعيف ولفظه عن عبادة بن الصامت قال علمت ناساً من
أهل الصفة القرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقال النبي صلى
الله عليه وسلم إن أردت أن يطوقك الله
طوقاً من نار فاقبلها وللحديث روايات أخرى بألفاظ مختلفة
٦٥٧
وقد قال
شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية من أجلها فقبلها فقد أتى
باباً عظيماً من أبواب الربا۱ عليه السلام لعمر رضي الله
عنه حين أراد أن يشتري الفرس الذي كان حبسه في سبيل الله
لما رآه يباع فقال له عليه السلام لا تَعُد في صدقتك فإن
العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ٢ فلما كان هذا الذي
أهدى القوس للذي علمه كتاب الله ولم يأخذ عليه أجراً فهي
هبة ۳ وهي وسيلة إلى الله وهي من أكبر الوسائل فلما قبل
عليها الهدية فكأنه رجع في معروفه لاخفاء بها وقبول هديته
على شفاعة شفعها له عند الله لأنه الذي قربه إلى مولاه بما
علمه من كتابه فمن أجل هذا قال له قطعة أو قطعتان من نار
ويجوز أولاً اشتراط الأجر لأن الأجر عليه قد أجازه متضمن
الحديث الذي نحن بسبيله
فإذا احتمل هذا الوجه فلا تعارض بينهما والله أعلم
وفي جواز الأجر على تعليمه فائدة كبرى في الدين لا يعلمها
حقيقة إلا ذلك السيد الذي أمر بها أو من فتح الله عليه في
فهم بعضها لأنه بأخذ الأجرة عليه ينتشر تعليمه في الإسلام
ولو لم يكن يجوز ذلك لكان تعليمه نادرا حتى يكون لا يوجد
من يصبر على تعب الأولاد وما هم عليه بلا أجرة وهو محتاج
إلى ضرورة البشر والدوام على ذلك فانظر مع أخذ الأجر عليه
وزيادة ما لهم من الإحسان ما تجد من يوفي حق التأديب إلا
أهل التوفيق منهم فقد أبيح في الدين أشياء ممنوعة من أصول
كثيرة لوجه ما من المنافع ولا تبلغ بعض هذه المنفعة مثل
القراض ٤ والمساقاة ٥ وبيع العارية بخرصها للجُذاذ ٦ وما
أشبه ذلك وهي مستثناة من أصول ممنوعة وهذه توسعة من الله
ورحمة وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
6
1 رواه أبو داود في البيوع باب في الهدية لقضاء الحاجة
ولفظه من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها إلخ
عن أبي أمامة رضي الله عنه رواه البخاري في الزكاة وفي
الوصايا وفي الجهاد ومسلم في الهبات ومطلعه عن عمر رضي
حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن
أشتريه إلخ وهو موضوع الحديث
118
۳ يعني أن تعليمه القرآن هبة
الله عنه قال
٤ القراض وتسمى شركة المضاربة فيها يدفع أحد الشريكين
المال ويقوم الثاني بالعمل والمتاجرة ويكون
0
3
الربح بينهما بنسبة ما اتفقا عليه
المساقاة تكون على صورة شركة بين مالك الأرض أو بساتين
وبين عامل يقوم بسقاية الأرض أو البساتين
ويكون الربح بينهما بنسبة ما اتفقا عليه من الجَنَى
بيع العارية تكون بمبادلة ثمر شجر غير مجذوذ ورطب بثمر
مجذوذ وجاف وهو المعروف في الفقه بـ بيع
العرايا
۷ سورة الحج من الآية ۷۸
٦٥٨
وفيه دليل على كثرة نصحه لأمته يؤخذ ذلك من بيانه عليه
السلام هذا ومثله قبل أن يسأل عنه
جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته وقد نص عزّ وجلّ
في كتابه حيث قال لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ ١ أوزَعَنا الله
شُكْرَها مِن نِعمةٍ وتَمَّمَها علينا بفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ سورة التوبة من الآية ۱۸ سيا البقية
٦٥٩
حديث جواز الرُّقى والأجر عليها
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال انطلق نفرّ من أصحاب
رسول الله الله في سَفرَةٍ سافروها حتى نزلوا على حي من
أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن
يضيقوهم
فلدغ سيّدُ ذلك الحَيَّ فسَعَوا له بكل شيء لا ينفعه شيء
فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا لعله أن
يكون عند بعضهم شيء
فأتوهم فقالوا يا أيها الرَّهْطُ إنّ سيّدنا لدغ وسعَيْنا
له بكل شيء لا ينفعه شيء فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ فقال
بعضهم نعم إنّي والله لأزقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم
تضيقونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم
على قطيع
من الغنم
فانطلق وجعل يتفل عليه ويقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ فكأنما نَشَطَ من عقال فانطلق يمشي وما به
قلبة قال فأوفَوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم
اقسموا فقال الذي رَقّى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنذكر الذي كان فننظر ما يأمرنا
فقدموا على رسول الله فذكروا له فقال وما يدريك أنّها
رُقْية ثم قال قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً فضحك
النبيُّ الله
* *
ظاهر الحديث يدل على جواز أخذ الأجر على الرقية إذا كانت
بكتاب الله عزّ وجلّ والكلام
عليه من وجوه
منها هل تجوز الرقية بغير كتاب الله تعالى أم لا فهذا ليس
في الحديث ما يدل عليه لكن
٦٦٠
اللهم
يُؤخذ ذلك من طريق آخر وقد جاء أنه كان يَرْقِي بالكلام
الطيب مثل قوله عليه السلام م أنتَ الشافي لا شفاء إلا
شفاؤُكَ يا ربّ العالمين اِشفِ اللهم شِفاءً لا يُغَادِرُ
سَقَمًا ١ ومثل هذا كثير وقد جاء النهي عن الرَّقي بغير
كتاب الله عزّ وجلّ وأسمائه وما كان من الكلام الطيب ونهى
عن رقي أهل الكتاب إلا أن يكون بأسماء الله عز وجل
حتى إنه جاء بعض الصحابة أو التابعين إلى ابن عباس رضي
الله عنهما فسأله عن رُقْيَةِ أهل الكتاب فقال له نهى رسول
الله الله عنها فقال له أحياناً يكون بي الألم فأمشي إلى
اليهودي فلان فَيَرْقيني فأبَراً فقال له رضي الله عنه إن
الشيطان يجعل يده عليك حتى يؤلمك ثم له يُغويك فإذا مشيت
إلى اليهودي وتكلم بكلامه رَفَع يده عنك ٢ ولهذا منع
العلماء الحِرزَ الذي فيه الخواتم المكتوبة بالعبرانية
لأنه لا يُعرف ما هي وفي مثله ما يكون فيه من الكلام بلغة
لا يُعرف
معناها أي لسان كانت من أجل أن يكون معناه مما لا يجوز
شرعاً فيقع حامله في الإثم ومنها الدليل على وجوب الضيافة
على أهل الوَبَر ٣ يؤخذ ذلك من قوله فاستضافوهم فأبوا أن
يضيفوهم وذكر ذلك لرسول الله له ولم يَنهَهُم ولو كان ذلك
لا يجوز ما فعلته الصحابة رضوان الله عليهم ولا أقرهم
النبي على ذلك حين حدثوه وقد جاء هذا عنه عليه السلام نصاً
بقوله عليه السلام الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل
المَدَر ٤ وقد جاء أن للمسافر أن يطلب الضيافة على من
وَجَبَت عليه بالوجه الشرعي فإن لم يعطه قاتَلَ الممتنع
منها فإن قتل الممتنعُ فشَرُّ قتيل وإن قتل صاحب الضيافة
فهو شهيد ويؤخذ من الفقه أنه من منع حقاً له واجباً شرعاً
فله أن يقاتل مانعه فإن قتل كان شهيداً
وفيه دليل على جواز السفر في الأمور المباحة يؤخذ ذلك من
قوله في سفرة سافروها فلو كان في جهاد أو حج أو غيره من
الطاعات لذكرها الراوي
۱ رواه البخاري في الطب وأبو داود والترمذي عن أنس رضي
الله عنه قال ألا أرقيك برقية رسول الله قال سقماً بلى قال
اللهم رب الناس مذهب الباس اشف أنت الشافي شفاء لا يغادر
أخرج أبو داود في الطب باب في تعليق التمائم عن عبد الله
بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن
الرقى والتمائم والتولة وزان عنبة - وهي ضرب من الخرز يوضع
للسحر فتجب بها المرأة إلى زوجها شرك فقالت امرأته زينب لم
تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف تدمع وكنت أختلف إلى
فلان اليهودي فيرقيني فإذا رقاني سكنت فقال عبد الله بن
مسعود إنما ذلك من عمل الشيطان كان يَنْخَسُها بيده فإذا
رقاها كفّ عنها إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول أذهب الباس ربّ الناس اشف أنت الشافي
لا شفاء ا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً
۳ أهل الوبر سكان البوادي
٤ عزاه السيوطي في الجامع الصغير للقضاعي عن ابن عمر رضي
الله عنهما وضعفه
笑
ن
وفيه دليل على جواز نزول المسافر على العرب وطلبه ما له
عندهم من الحق
وفيه دليل على أن من وهَب هبة وجب عليه إنفاذها يؤخذ ذلك
من قول الراقي لا أرقي لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً فأشرك
أصحابه معه في الجُغل وأمره النبي عليه السلام بالقَسم
تماماً
لما وهب
وفيه دليل لمذهب مالك الذي يقول بهبة المجهول لأنه حين
شارك أصحابه في الجعل بقوله حتى تجعلوا لنا جعلاً لم يكن
مبلغ الجعل الذي يجعلون له في الوقت معلوماً وأجاز ذلك
النبي
بقوله اقسموا
وفيه دليل على جواز طلب الهبة مِمَّنْ وهبها وليس بقبيح
يؤخذ ذلك من قول الصحابة للراقي حين وُفِي لهم الجعل
اقسموا وما كان الصحابة رضي الله عنهم ليفعلوا فعلاً
مكروهاً أو ممنوعاً
وفيه دليل على حسن صحبة الصحابة بينهم رضوان الله عليهم
يؤخذ ذلك من أن الراقي لم يرَ أن يفضل نفسه بشيء على
أصحابه من أجل أنه الفاعل وقد وصفهم الله عزّ وجلّ بأحسن
الأوصاف بقوله تعالى ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ ١
وهنا بحث وهو أن يقال لِمَ أخذوا الجُعَلَ وهم لا يعلمون
أنه جائز ثم امتنعوا من القَسْم حتى يسألوا فالجواب -
والله أعلم - أن الفرق بينهما أن أخْذَهم الجعل احتمل أن
يأخذوه بنيّة أنه ولا يأخذوه بأنه جُغل ثم لا يأكلون ولا
يقسمون حتى يسألوا فإن صح لهم فعلوا ما
حَقُ ضيافتهم شاءوا وإلا رُدُّوا بأَمر
واحتمل أن يأخذوه على وجه الجعالة ولا يتصرفوا حتى يسألوا
أيضاً لاسيما إن كان الحي من العرب غير مسلمين فلهم أن
يأخذوا من أموالهم بأي نوع شاؤوا ما لم يكونوا معاهدين أو
أن هذا عن طِيبِ نفس منهم فلما كان هذا عن طيب نفس منهم
احتاجوا إلى السؤال
ويترتب على هذا من الفقه أنه إذا أدت الضرورة لأمر ولا علم
للشخص به من طريق الشرع أن يجتهد برأيه ثم يسأل بعد ذلك عن
الإمكان من ذلك كيف لسان العلم فيما تصرّف فيه حتى يعلم
حكم الله عليه
وكونهم لم يقسموا فقد لا تكون لهم ضرورة إلى القسمة مع عدم
العلم بما يجب عليهم فيما
فعلوا فأخروا ذلك حتى يتحققوا ما حكم الله عليهم
۱ سورة الفتح من الآية ۹
الجعالة ما يجعل على العمل من أجر
3
٦٦٢
ويترتب عليه من الفقه أنه عند الشبهات وعدم الضرورة لا
يُقدم على أمر حتى تزول تلك الشبهة وفيه دليل على فضيلة أم
القرآن يؤخذ ذلك من قوله وما يُدريك أنها رقية
وفيه دليل على فضيلة الصحابة رضوان الله عليهم يؤخذ ذلك من
تعظيمهم الكتاب العزيز وجعلهم الخير كله فيه لأنهم جعلوها
رُقية ولا تكون الرُّقية إلا بشيء مقطوع فيه بالبركة ولا
شيء أَبْركُ من كلام الله تعالى فلتعظيمهم ذلك حتى خالط
ذلك الاعتقاد المبارك ضمائرهم كلما طلب لهم من الخير جعلوا
القرآن سببه كما فعل هؤلاء بالفاتحة وهم لم يسبق لهم في
ذلك علم إلا ما في
قلوبهم من التعظيم لحرمات الله عزّ وجلّ التي هي من تقوى
القلوب كما أخبر جلّ جلاله وقوله يتفل عليه فيه بحث وهو أن
التفل متى يكون هل قبل القراءة أو بعدها أو معها احتمل
لأنه أتى بالواو التي لا تعطي رتبة لكن الأظهر أنه بعد
القراءة من أجل هذه الصفة هي التي وردت عن النبي صلى الله
عليه وسلم حين كان يَرْقِي أنه بعد القراءة يَتفُل ومن جهة
العقل والنظر لاسيما كمثل الصحابة رضوان الله عليهم الذين
كانوا في قوة الإيمان والنور حيث كانوا لأن الجارحة ـ وهي
الشفتان واللسان - إذا تحركت بذلك الكلام الجليل حلت
البركة فحينئذ تكون الفائدة في ذلك الريق وأما قبل فلا فرق
بينه وبين ريق غيره
وفيه إشارة إلى أنه ما قُدِّر لك من الرزق لا يمنعه عنك
مانع ويصل إليك أحب المانع أو كره يؤخذ ذلك من أنهم لما
طلبوا الضيافة منعوهم فكان لهم في مالهم رزق جاءتهم اللدغة
فأخرجت منهم ما امتنعوا به مما كان قسم لهم في أموالهم
وفيه اعتبار في قرب نصرة الله تعالى للضعيف يؤخذ ذلك من
أنه لما امتنع هؤلاء بقوتهم من هذا النفر لقلتهم وعدم
قدرتهم عليهم جاءهم النصر باللدغة في أقرب حين وقوله
وسعينا بكل شيء لا ينفعه على ظاهره وإنما المعنى سعوا له
بكل شيء جرت عادته ينفع لمن لدغ فلم ينفعه
ذلك الشيء
وفيه من العبرة أن تغيير العادة عقاب يؤخذ ذلك من أنه لما
كانت معهم الضيافة لهؤلاء وهي حق لهم - فمنعوهم حقهم خابت
عادتهم فيما عُوِّدوا من برء من لدغ منهم إذا فعلوه برىء
حتى أعطوا ما منعوه وقد جاء ما يدل على هذا المعنى وهو
قوله الا الله إذا أبغض الله قوماً أمْطَرَ صيفهم وأصحى
شتاءَهم ۱ فجاءت مخالفة العادة دالة على السخط
ومن هذا الباب كان أهل السلوك إذا رأى بعضهم يتغير عليه
شيء مما عُود ضَرَع وبكى ولجأ
1 لم نعثر على مصدره
٦٦٣
ونظر خبايا النفس حتى يجد تلك الثلمة من أين أتت فيسدها
ومصداق ذلك قوله تعالى إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ 1
وفيه دليل على عظم حكمة الحكيم يؤخذ ذلك من أنه لم يؤخذ
بالعذاب من القوم إلا من كان أشدَّهم جرماً يؤخذ ذلك من أن
الأصل في منع الضيافة سيّد الحي لأن عادة العرب أنهم يقفون
عند ما يشير به عليهم فلما كان هو أصل المنع جاء العقاب له
جزاء وفاقاً وقوله فهل عند أحد منكم من شيء هو من باب قبيل
الاختصار في التخاطب معناه
رحمه
الله
وهو
عندكم شيء ينفعه فحذف ينفع لدلالة الحال عليه وفيه دليل
على أن لغو اليمين لا يؤاخذ به وليس هو أيضاً من باب الهذر
يؤخذ ذلك من قول الصحابي رضي الله عنه والله إني لأرقي
لأنه أقسم على الرَّقي بالله تعالى وهذا القسم لا فائدة
فيه وهذا النوع هو الذي يسميه بعض الفقهاء لغو اليمين
خلافاً لمذهب مالك الذي يسوقه المرء في كلامه لا يترتب
عليه فائدة مثل هذا فإنه إن كان صادقاً بلا قسم فهو صادق
بالقسم وهم لا يعطونه شيئاً حتى يبرأ سيّدهم فليس للقسم
هنا فائدة لكن هو مما يجري كثيراً على بعض الألسن والله
عزّ وجلّ بفضله قد عفا عنه بقوله تعالى لا يُؤَاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَنِكُمْ ٢ ومثل ذلك قوله والله
لقد استضفناكم
وقوله فلم تضيفونا فصالحوهم أي عقدوا معهم الجعل وفيه دليل
على جواز اختلاف العبارة عن الشيء إذا لم يسقط من المعنى
شيء لأنه أتى بلفظ صالحوهم وكنى به عما جاعلوهم به وقطيع
الغنم عدد قليل من الغنم معروف عندهم وقوله فانطلق يتفل
معناه جعل يتفل وفيه دليل على أنه لا يُخاطب أحد إلا بما
يعرف يؤخذ ذلك من كونه مثل سرعة برئه وقيامه كالبعير إذا
حل من مَربَطهِ لأن العرب لا يعرفون شيئاً أقرب من هذا
لأنه هو الذي يعاهدونه في كل يوم لأن قوله نشط من عقال أي
حل مما كان عقل به أي ربط به لأن الحبل الذي يربطون به
البعير يسمونه عِقالاً
وقوله وما به من قلبة هو من هذا الباب عبر لهم بما عهدوا
ومعناه ما به ألم
وقوله ويقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ هذا اسم
السورة لا أنه قرأ هذا اللفظ ليس إلا بدليل قول سيدنا
آخراً وما يدريك أنها رُقيّة فأعاد الضمير على السورة
واحتمل أن يعود الضمير على الآية ولم يقرأ من السورة غيرها
۱ سورة الرعد من الآية ۱۱
سورة البقرة من الآية ٥ وسورة المائدة من الآية ۸۹
٦٦٤
وفيه دليل على أدب الصحابة رضوان عليهم بعضهم مع بعض يؤخذ
ذلك من قولة الراقي لأصحابه حين أرادوا القسم لا تفعلوا
حتى نأتي رسول الله على طريق الإرشاد ولم يقل لهم
لا نفعل
وفيه دليل على أن أهل الدين والفضل إذا أرشدوا إلى الحق
قبلوه ولم تأخذهم عزة في ذلك يؤخذ ذلك من أنه لما أرشدهم
الراقي أن يتركوا القسم حتى يأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم قبلوا ولم يحاجوا وقوله فننظر ما يأمرنا أي نمْتَيَّل
لا أنهم ينظرون هل يصلح لهم فيأخذونه وإلا يتركونه ۱ وقوله
وما يدريك تعظيماً للسورة وترفيعاً لشأنها لقوله جلّ جلاله
وَمَا أَدْرَنَكَ مَا عِلِيُّونَ ٢ وقد يفهم منها معنى
التعجب كأنه عليه السلام يقول من أعلمكم بهذا حتى فعلتموه
ثم أخبرهم بقوله إنها رُقية والأول أظهر والله أعلم وقد
يكون فيه معنى الفرح بما أصابوا من عين الحكم باجتهادهم
وهو اللائق بالخلقه الا الله ثم قال قد أصبتم اقسموا
واضربوا لي معكم سهماً فضحك النبي صلى الله عليه وسلم
وأمره عليه السلام لهم بالقَسْمِ تمام للحكم
وقوله واضربوا لي معكم سهماً هنا بحث وهو لم طلب عليه
السلام منهم السهم لنفسه المكرمة فذكر فيه بعض الناس أن
ذلك جبر لهم كما فعل عليه السلام مع أصحاب الصيد حين اصطاد
صاحبهم وهو حلال فأخبروه فطلب منه لنفسه تسكيناً لخواطرهم
ومثل ذلك أصحاب دابة العنبر وهو محتمل لكن هناك علة ليست
هنا وهي أن الحذر كان تقدم لهم فيما يشبه ذلك لأنهم كانوا
نهوا عن أكل الميتة ونهوا عن أن يأكلوا إذا كانوا مُحرِمين
شيئاً صِيدَ من أجلهم وظاهر ما وقعوا فيه أشبه ما كانوا
حذروا عنه ولم يكن كذلك فأكل منه لأن يزيل ما يمكن أن يقع
في بعض قلوبهم من التشويش وأما هنا فلم يتقدم حَذَر ولا
أكلوا شيئاً منها
1 كذا بعدم جزم جواب الشرط سورة المطففين من الاية ۱۹
۳ دابة العنبر روى مسلم في صحيحه في كتاب الصيد والذبائح
باب إباحة ميتات البحر عن جابر قال بعثنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش
وزوّدنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة
يعطينا تمرة تمرة قال فقلت كيف كنتم تصنعون بها قال
نَمَصُّها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا
يومنا إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخَبَط ورق السَّلَم ثم
نبله بالماء فنأكله قال وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا
على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة
تدعى العنبر قال قال أبو عبيدة ميتة ثم قال لا بل نحن رسل
رسول الله لا الله وهو في سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا قال
فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سَمِنًا قال ولقد
رأيتُنا نغترف من وقب عينه بالقِلال الدهَن ونقتطع منه
الفِدَرَ القطع كالثور - أو كقدر الثور - فلقد أخذ منا أبو
عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه وأخذ ضِلَعاً
من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمرّ من تحتها
وتزوّدنا من لحمه وشائق الوشيقة اللحم يؤخذ فيغلى ولا ينضج
أو هو القديد فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل
معكم من لحمه شيء فتطعمونا قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم منه فأكله
٦٦٥
ل
واحتمل أن يكون ذلك بأمر من الله لأنه رزق أفاء الله به
عليهم من غير عوض فيكون له فيه سهم وكونه عليه السلام لم
يعيّنه لعل عددهم يقتضي أن يكون سهمه بحسب عددهم خمساً وهو
حقه عليه السلام من الفيء وضحكه عليه السلام قد يكون فرحاً
لنصرة الله تعالى لهم لأنه لا لا ل و كل ما كان فيه شيء من
نصرة من الله للمؤمنين يَسُرّه وضحكه عليه السلام إظهار
لذلك لأنه مما يؤنسهم ويسرهم
وهنا إشارة وهي عطف الحبيب يهيج قلب المحب ويفرحه ويضحكه
ويطربه لأن نصرة الحق سبحانه لأصحابه عليه السلام عطف عليه
وفيه دليل لما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا
يتبركون بأي شيء كان منه عليه السلام من فعل أو قول و
إشارةٍ أو تنويع صفةٍ ما من الصفات وينقلونها ويتناولونها
يؤخذ ذلك من كونهم رَوَوْا في الحديث ضحكه عليه السلام
فلولا ما كان ذلك عندهم معتبر ما كانوا يذكرونه وكذلك
ينبغي لأنه إذا كان مَن ليس مثله عليه السلام من أتباعه لا
تكون منه صفة إلاّ لمعنى مفيد فكيف به عليه السلام الذي هو
مَعدِن الكمال في كل الحركات والسكنات وقد نقل عن بعض
الناس أنه لم ير منه أصحابه عبثاً قط فدخلوا عليه يوماً
وفي يده قطعة كاغد يعبث بها في الأرض فلما فرغ من ذلك
قالوا له في ذلك فقال لهم صومعة أردت أن تبني في الموضع
الفلاني فتعذرت عليّ صفتها وكيف يكون أمرها فلم أزل أردد
صفة بعد صفة بذلك الكاغد حتى ظهر لي الأصلح من تلك الوجوه
فإذا كان هذا هكذا فما بالك بمن جعل كله نوراً ورحمة لا
يكون منه حركة ما إلا لوجوه من الحكمة
6
وفي الحديث إشارة لأهل القلوب في كون هؤلاء سعوا لسيّدهم
بكل ممكن من أجل راحة جسد يفنى في دار تفنى فكيف بمن همته
السعي لدار لا تفنى ونعيمها لا يفنى وساكنها لا يهرم ولا
يبلى فحيث وجب الحث والتشمير وقع العجز والكسل وقد قال بعض
المشهورين لما عوتب في كثرة مجاهدته دعوني فإن أمامي عقبة
كؤوداً لا يجاوزها إلا المُضَمِّرون ۱ وقال بالجد خذ لا
بالكسل فإن أمامك عِقاباً ۳ وأي عِقاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 المُضمُرون من ضَمَّر الفرس إذا ذلَّلَهُ وأطعمه وسقاه
ودرَّبه على السباق والقتال مدة طويلة ليكون جاهزاً
للسبق أو للحرب وقت الحاجة
العِقاب ج عقبة وهي المرقى الصعب من الجبال ونحوها
٦٦٦
-44-
عَنِ
ولرسوله
حديث لا حمى إلا الله ولرسوله
الصَّعب بن جَنّامة ١ رَضي رَضي الله عَنهُ قالَ إِنَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا حِمى إلا الله
ظاهر الحديث يدل على أن الحمى كله الله ولرسوله والكلام
عليه من وجوه منها تبيين معنى هذا الحمى وهل هو على الوجوب
أو على الندب ومن هو القائم به وما
شروطه
فأما الحمى فقد يكون بمعنى خمسة وجوه
أحدها حَجْر بعض الأمور وإجازتها وهي تقرير الأحكام فمن
جعل الله عزّ وجلّ له
أن يمنع مَنَعَ ومن لم يجعل الله له ذلك فليس له ذلك لقوله
تعالى إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۳ وقد يكون بمعنى
العزة والامتناع لقوله عزّ وجلّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وكما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه بالإيمان اعتززنا وقد تكون بمعنى الامتناع
والتحصن فمن يريد أن يمتنع ويتحصن فإنما يصح له ذلك حقيقة
إذا كان بالله وبرسوله ومعناه باتباعه لأمر الله ورسوله
الله لقوله تعالى إن تَنصُرُوا اللهَ
1 الصعب بن جثامة بن قيس الليثي صحابي من شجعانهم شهد
الوقائع في عصر النبوة وحضر فتح إصطخر وفارس وفي الحديث
يوم حنين لولا الصعب بن جثامة لفضحت الخيل مات في خلافة
عثمان رضي الله عنه وقيل قبلها وله أحاديث في الصحيح
A
الحجر في الشرع المنع من التصرف لصغر أو سفه أو جنون
والإجازة في الشرع الحكم بجواز الشيء وهو
عکس تحریمه
سورة الأنعام من الاية ٥٧ وردت في سورة يوسف من الآية ٤٠
وفي الآية ٦٧ من السورة نفسها
سورة المنافقون من الآية
٦٦٧
من
١ ونصرة الله هي باتباع أمره واجتناب نهيه واتباع سنة
رسوله لقوله عزّ وجلّ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
الله وقال عز وجل يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ
وَمَن اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۳ أي كافيك
0
وقد تكون بمعنى التعصب والمدافعة كما كانت العرب تفعل
بعضها مع بعض كما قال السائل حين سأل عن الجهاد ومنا من
يقاتل حَمِيّة ٤ وكما قال عزّ وجلّ مَنْ أَنصَارِى إِلَى
وقوله عزّ وجلّ كُونُوا أَنصَارَ الله ٦ أي مع الله ولا
ينتفي مع ذلك التناصر بين الناس ﴿ ﴾ لكن إذا كان على
المشروع فهو الله لقوله عليه السلام انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً ۷ فنصرة المظلوم هي الله وكذلك نصرة الظالم برده
عن ظلمه فهي نصرة الله
له
وقد تكون بمعنى سابق القدر فإن الحِمى حقيقة من سَبَق له
حمى من الله ورسوله بالإخبار والدعاء منه لقوله تعالى ﴿
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ۸ فمن
حماه الله ورسوله الله فلا يقدِرُ أحدٌ عليه وحمَى غيره لا
شيء لأنه وإن وقع بحكم الوفاق فهو منقطع وحمى الله لا
ينقطع ۹
واحتمل الجميع وهو الأظهر وحيث ما وجدنا ما يناسب هذه
المعاني المتقدمة فيه
فالاستحقاق فيه الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
ومن هذا الباب قوله عزّ وجلّ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ١٠ وقوله وَلِلَّهِ
11
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
الْمُنَفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ١١ ومما يناسب هذا
الحديث في
1 سورة محمد من الآية ٧ سورة النساء من الاية ۸۰ ۳ سورة
الأنفال الآية ٦٤
جزء من حديث رواه البخاري في الجهاد ومسلم في الإمارة من
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومطلعه سئل رسول الله
له عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة ويقاتل رياءً إلخ
٥ سورة ال عمران من الاية ٥٢ وفي سورة الصف من الآية ١٤ ٦
سورة الصف من الآية ١٤ ۷ رواه البخاري في كتاب المظالم باب
أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً ۸ سورة التوبة من الاية ٥١
۹
هذا هو الوجه السادس في أنواع الحمى وهو حمى الله وحمى
الله حرم مكة وحمى الرسول الله صلى الله عليه وسلم حمى
للمدينة فهو في مصالح عامة المسلمين وهذا المعنى الفقهي
وأحكامه مبسوطة في كتب الفروع
۱۰ سورة فاطر من الاية ١٠ ۱۱ سورة المنافقون من الآية
٦٦٨
५
مِنَ
قال
إلى
س
صرة
造
الله
ع
فيه
فٌ
معناه قوله عليه السلام إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة
الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي فاجر شقي ۱
وكقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَنْقَنَكُمْ فتحصل من الفقه أن جميع ما كانت الجاهلية
تفعله من افتخار وحماية وتعصب وتجديد أحكام وتناصر وتحصن
وما يشبه هذه الأمور التي فيها حظوظ الأنفس لم يُبقِ
الإيمان منها شيئاً إلا ما وافق كتاب الله وسنة رسوله و من
فعل من ذلك شيئاً بغير هاتين الطريقتين فقد استن في
الإسلام سنة الجاهلية ودخل تحت قوله ثلاثة يبغضهم الله وعد
فيهم من استنَّ في الإسلام سنة الجاهلية ۳
ويكون هذا الحكم عاماً في الخاص والعام والقريب والبعيد
يؤيد ذلك قوله تعالى قل
إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلُ
أَقْتَرَفْتُمُوهَا وَتَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
وَمَسَكِن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ
بأمر ٤ فهذا يشترك فيه العوام والخواص
ويختص أهل الخصوص بأمر آخر وهو الخواطر فإن الخواطر أربعة
رباني وملكي ونفساني وشيطاني فتكون الحماية للاثنين وعنهما
وهما الرباني والملكي وتكون محاربته للنفساني والشيطاني
ويكون بذلك في حزب ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا هذا للمتناهي الذي يميز بين
الخواطر وأما المبتدىء فإذا ورد عليه الخاطر يعرضه على
الكتاب والسنة فيبين له إذ ذاك من أي الأقسام هو فيعمل فيه
بمقتضى الكتاب والسنة
وأما قولنا هل يكون منها ٦ واجباً أو مندوباً أما من طريق
الفقه وأحكام الفروع ففيه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب
وأما ما هو من طريق التوحيد والإذعان إلى أحكامه عزّ وجلّ
ونفوذ القدر وما هو في معناه مثل العزة والعظمة وما يكون
مثلهما فواجب اعتقاده والعمل به وأما
1 عُبُيَّة الجاهلية كبرها وافتخارها والحديث تفرد به
الترمذي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن
الله قد أذهب عنكم عُبّيّة الجاهلية وتعاظمها بآبائها
فالناس رجلان رجل بَر تقيّ كريم على الله وفاجر شقي هين
على الله والناس بنو ادم من التراب قال الله يَتأَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوا وَقَابَلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَنْقَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ
32
E
سورة الحجرات من الاية ۱۳
مروي بالمعنى لحديث رواه الديلمي في مسند الفردوس ١٦/ عن
ابن عمر مرفوعاً بلفظ ثلاثة لعنهم الله
أمير ظالم وفاسق أعلن بفسقه ومبتدع يهدم السنة
سورة التوبة من الاية ٢٤ ٥ سورة العنكبوت من الآية ٦٩
1 أي من أنواع الحمى
9
الذي هو من قبيل التمنع والتعصب في الله وبالله وما هو في
معناهما فمن طريق الندب والإرشاد
وأما من طريق أهل التحقيق فالكل عندهم واجب
وأما قولنا من القائم به فعلى المشهور من الأقاويل فكل
مؤمن ومؤمنة كل بقدر
استطاعته وأما على قول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
فعلى جميع بني ادم كلهم وأما قولنا ما شروطه فعلى قول من
يقول إن العلم شرط في تقرير الأحكام فعلى من يعرفه وأما
على قول من يقول إن الجهل بالأحكام ليس بعذر وهو الحق لأنه
لو كان الجهل عذراً لكان أرفع من العلم ولا قائل بذلك فعلى
كل بالغ عاقل بقدر طاقته
وفيه دليل على عظيم فصاحته الا الله ولفظة واحدة جمعت
أحكام الشريعة والحقيقة كلها
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
4
٦٧٠
ارشاد
ن بقدر
على من
الجهل
0
a
حديث من لم يشرك بالله دخل الجنـ
عَن أبي ذر ١ رضي الله عَنهُ قالَ كُنتُ مع النَّبيِّ
فَلَمّا أبصرَ - يَعني أحداً -
قال ما أُحِبُّ أنه تحوّلَ ذَهباً يمكُثُ عِندِي مِنهُ
دينار فوقَ ثَلاثٍ إلا ديناراً أرصُدُهُ لِدَيْنِ ثمّ قال
إنّ الأكثرينَ هُمُ الأقلُّون إلا مَن قال بالمالِ هَكذا
وهَكَذا ـ وأشار أبو شهاب بين يديه عن يَمينِهِ وعَن
شِمالهِ - َوقَليلٌ ما هُم وقالَ مَكانَك ۳ حتى آتِيكَ
وتقدَّمَ غَير بَعِيدٍ نَسمِعتُ صَوتاً فأردتُ أن آتِيَهُ
ثُمّ ذكَرتُ قولَهُ مَكانَكَ حتّى آتِيكَ فلما جاء قُلتُ
يا رَسولَ الله الذي سمعتُ ـ أو قالَ الصّوتُ الذي سَمِعتُ
- قالَ وَهَل سَمِعتَ قُلتُ نَعم قالَ أتاني جبريلُ فَقالَ
مَن ماتَ مِن أُمَتِكَ لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنّة
قُلتُ وإن فعل كَذَا وَكَذَا قَالَ نَعم
ظاهر الحديث يدل على أنه من مات على الإسلام دخل الجنة وإن
فعل ما عسى أن يفعل والكلام عليه من وجوه
منها ما معنى قوله دخل الجنة هل يكون معناه أنه لا يُعذَّب
أصلاً أو أنه لا بد له من دخول الجنة وإن عُذِّب فالجواب
عن هذا قد جاء نصاً في حديث غير هذا وهو قوله صلى الله
عليه وسلم الإيمان
1 أبو ذَرْ هو جُندب بن جنادة من بني غِفار صحابي من
كبارهم قديم الإسلام يقال إنه أسلم بعد أربعة وكان خامساً
يضرب به المثل في الصدق هاجر بعد وفاة النبي لا لا لا اله
إلى بادية الشام فأقام إلى أن توفي أبو بكر وعمر وولي
عثمان فسكن دمشق وجعل دَيْدَنَهُ تحريض الفقراء على مشاركة
الأغنياء في أموالهم فشكاه معاوية إلى عثمان فاستقدمه إلى
المدينة فقدمها وظل ينشر رأيه فأمره عثمان بالرحلة إلى
الرَّبَذَة من قرى
المدينة فسكنها إلى أن مات فيها سنة ٣٢ هـ/ ٦٥٢م روى له
البخاري ومسلم ۸۱ حديثاً رضي الله عنه أبو شهاب هو عبد ربه
بن نافع الكناني الحناط الكوفي نزيل المدائن وهو أبو شهاب
الأصغر روى عن
يحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وعاصم بن بهدلة وعاصم
الأحول مات سنة ١٧٢هـ / ۷۸۸م وهو من الطبقة
الثامنة
۳ مكانك أي الزم مكانك واثبت فيه وهو في عرف النحويين اسم
فعل أمر
٦٧١
إيمانان إيمان لا يدخل صاحبه النار وإيمان لا يخلد صاحبه
في النار ۱ فأما الأول فهو الإيمان مع الأمر والنهي وأما
الثاني وهو الإيمان مع المعاصي فدل بقوله عليه السلام لا
يخلد صاحبه في النار إنه يدخلها والأحاديث في هذا المعنى
كثيرة وما خاف أهل التوفيق من المعاصي إلا لأن صاحبها
يُخاف عليه من التبديل عند الموت لأن المعاصي بريد الكفر
وفيه دليل لأهل السنة الذين يقولون لا يكفر أحد بذنب من
أهل القبلة يؤخذ ذلك من قوله وإن فعل كذا وكذا وعدّد ولأنه
بقوله كذا وكذا - ولم يكررها إلا مَرَّتَينِ - جمع فيها
جميع الذنوب لأن الذنوب على نوعين لا ثالث لهما وهما إما
صغائر وإما كبائر
ويترتب عليه من الفقه أن الإشارة عن المعاني تغني عن
الإفصاح بها إذا كان المخاطب يفهم مع القدرة على الكلام
بها وذلك جائز شرعاً ولأن جبريل عليه السلام كان قادراً أن
يقول وإن فعل جميع الصغائر والكبائر فلم يقل وأشار بصيغة
كذا وكذا
وفيه دليل على جواز النظر في المباحات عند المشي يؤخذ ذلك
من قوله فلما أبصر يعني أحداً فلولا ما كان له في مشيه
ينظر في ملكوت الأرض وهو المباح لما أبصر أحداً إلا أن
نظره عليه السلام بخلاف نظر غیره لأن نظره عليه السلام
عبادة لأنه باعتبار وإذا كان النظر بهذه النية فهو من أعلى
العبادات بمقتضى الكتاب والسنة فأما الكتاب فقوله تعالى ﴿
أَولَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
۳ وقوله تعالى ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَطِلًا
سُبْحَنَكَ ﴾ ٤ وأما السنة فقوله عليه السلام اللهم اجعل
نظري عبرة ٥ والدليل على أن نظره عليه السلام كان اعتباراً
أنه لما رأى أحداً قرر عليه قاعدة شرعية ولو كان النظر
بخلاف هذا لكان الكلام بخلاف ذلك لأن الكلام نتيجة الفكر
والفكر مقدمته وبحسب المقدمة تكون النتيجة والقاعدة
الشرعية التي قعدها عليه السلام هنا هي جواز تمنّي الخير
وقاعدة أخرى وهي جواز انقلاب الأعيان بالقدرة إلى ما شاء
الله وجواز أخذ الدين وما كان من الادخار من حطام الدنيا
في ثلاثة أيام فدون فليس بادخار وما ادخر لأداء الدين -
وإن كان أكثر من ثلاثة أيام - فليس بادخار أيضاً وأخذ
الدنيا لأن تكون للآخرة فليس بدنيا والإرشاد إلى الزهد
٦٧٢
1 لم نعثر على مصدره كذا والصواب النبي ۳ سورة الأعراف من
الآية ۱۸٥ ٤ سورة ال عمران من الآية ۱۹۱
٥ لم نقف على مصدره
تؤخذ هذه الوجوه كلها من قوله عليه السلام ما أحب أنه تحول
لي ذهباً يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده
لدين فإن قال قائل ما تمنى وإنما نفى التمني قيل له ليست
الصيغة كذلك ما نفى إلا المكث فوق الثلاث إلا إبقاء
الدينار إلى الدين فلو كان نفياً للتمني فعلام يكون تقرير
الحكم بعد مثل ذكر الدين وغيره وهذا ما لا يعقل عند من
يفهم مقاطع الكلام وكان يكون من قبيل اللهو والهذر وهذا في
حقه عليه السلام محال
وفيه أيضاً إشارة أخرى وهي الإشارة إلى تقليل الدين يؤخذ
ذلك من كونه عليه السلام حدد ما يدخره لدينه بالدينار
الواحد ولم يقل شيئا أرصده لِدَيْن الذي ١ ينطلق على
القليل والكثير فلما أتى عليه السلام باللفظ الذي يتناول
القليل وترك ما يصدق على الوجهين علمنا أنه قصد ما أبديناه
وقد قال أقل من الدين تعش حراً
وقوله عليه السلام إن الأكثرين هم الأقلون هنا بحث وهو أن
يقال ما معنى قوله الأقلون احتمل وجوهاً منها الأقلون
خلاصاً من أجل ما يترتب عليهم من الحقوق والمناقشات ولذلك
قيل حلالها حساب وحرامها عقاب ۳
واحتمل أن يكون المعنى الأقلون حسنات لأنه وإن كثرت
حسناتهم هنا فتكثر المطالب هناك فتقل الحسنات لأن المخالطة
والأخذ والعطاء يدخل بينها من الكلام الممنوع والأشياء
المحذورة كثير وهو لا يشعر
ويحتمل أن يكون المعنى الأقلون توفيقاً لأن الأموال لبعض
الناس تشغلهم عن التعبدات
وسلوك طريق النجاة
وقد يكون المجموع ومن أجل هذا أعقبه بقوله عليه السلام إلا
من قال بالمال هكذا وهكذا - وأشار أبو شهاب بين يديه عن
يمينه وعن شماله احتملت إشارة أبي شهاب هنا أن تكون مرتين
كما هو لفظ النبي قبله ويكون معنى قوله بين يديه حكاية حال
واحتمل أن تكون إشارة أبي شهاب هذه ثلاثة وتكون عن بدلاً
من حرف العطف أو عن مضمرة وكذلك كان فعله عليه السلام قبل
بالقول مرتين وبالفعل ثلاثة وأراد أبو
جملة
۱ يعني شيئاً
رواه البيهقي في الشعب بلفظ أقل من الدنيا تَعِش حراً
جزء من كلمة طويلة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في وصف
الدنيا إحياء علوم الدين ۳/۳
٦٧٣
شهاب أن يفعل مثل الذي سمع منه عليه السلام وأبصر ۱ - وهو
الأظهر - لأنه قد جاءت رواية وعن يمينه بإثبات الواو في
إشارته نحو اليمين بهذا الإنفاق الذي هو على هذا الوجه وما
أقله إلا على من وفقه الله تعالى وقليل ما هم من تلك القلة
المشار إليها ويدخل في قوله عليه السلام لا حسد إلا في
اثنتين وقال في أحدهما رجل أعطاه الله مالاً فسلطه على
هَلكته في الحق ٢
التأكيد
وبقي البحث هنا على كونه عليه السلام أشار ثلاثة لتلك
الجهات احتملت وجوهاً منها أن تكون نفقته في الواجب
والمندوب وزيادة على ذلك وتكون الزيادة إشارة إلى
و احتمل أن تكون كلها تأكيداً في النفقة لأنه عليه السلام
إذا كان الأمر عنده له بال
يكرره ثلاثاً
واحتمل أن يريد بالثلاث الثلاثة الأقسام الشرعية والأقسام
الشرعية هي الواجب وضده والمندوب وضده والمباح فأشار إلى
الواجب والمندوب والمباح وترك الحرام والمكروه لأن المباح
يعود بالنية مندوباً وأقل مراتبه هو خير من الادخار
ويترتب عليه من الفقه أن الأحكام لا تُقعَّد على محتمل
ويجوز زوال المحتمل بأي نوع أمكن بإشارة أو عادة ومما يزيد
ذلك إيضاحاً لَمَّا كان آخرُ الحديث عند قوله وإن فعل كذا
وكذا لا إلباس فيه ولا احتمال وإنما هي نوعان كما أبديناه
لم يشر بيده ولما كانت هنا الإشارة إلى الإنفاق الذي يُخرج
صاحبَه من تلك العلة المشار إليها لو كانت واحدة لوقع
الاحتمال هل أراد الفرض ليس إلا أو أراد وجوه الإنفاق كلها
وكان يحتمل للمتعسف أن يدخل فيها المكروه وكذلك لو أشار
رابعة إلى خلفه لدخل فيها من الاحتمال إنفاق المكروه لمن
كان يتعسف فأزال ۳ عليه السلام الإشكال وبيّن بالإشارة أتم
بيان
وفيه دليل على أن من أدب الصحبة ألا يخلو الصاحب عن صاحبه
ولا ينفرد عنه إلا بإذنه يؤخذ ذلك من كون سيدنا لم ينفرد
عن أبي ذر إلا بعدما قال له مكانك حتى آتيك
۱ كأن المؤلف - رحمه الله - يشير إلى أن هذه الإشارة باليد
التي أشار بها أبو شهاب دليل على زيادة الضبط وهذا اللون
من الأحاديث دعاه علماء الحديث بـ المسلسل انظر تدريب
الراوي ۱۸۷/ متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه ولفظه لا حَسَد إلا في اثنتين رجل آتاه الله الحكمة
فهو يقضي بها ويُعلمها ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على
هلكته بالحق
۳ هنا جواب لما
٦٧٤
وفيه دليل على أن المحب بسوء الظنّ مولع ۱ يؤخذ ذلك من
قوله لما تقدم سيدنا رسول الله غير بعيد وسمع الصوت جاءه
الخوف على النبي عليه السلام فهم بأن يأتيه فتذكر الأمر
فالتزمه ويؤخذ منه أن امتثال الأوامر هـ أعلى القربات لأنه
لما رأى أبو ذر أن امتثال أمره عليه السلام هو أعلى وقف
عنده وآثره على ما وجد من الشفقة عليه وهذه درجة العارفين
أن تكون طاعتهم امتثالاً لا شهوة والجاهل بضد ذلك كما
بيناه قبل
وهي
وفيه دليل على فضيلته رضي عنه وكذلك كان وقوله فلما جاء
قلت يا رسول الله ! الذي سمعت ـ أو قال الصوت الذي سمعت
الشك هو من الراوي من أجل التحري الذي فيهم كما قدمنا في
غير ما موضع ويؤخذ من قوله الصوت الذي سمعت أن من أدب
الصحبة البحث عن زوال ما يقع في القلب لأنه لما سمع ما لم
يفهم بقيت النفس متشوفة والقلب بذلك مشغولاً فسأل عنه
ليزيل ما هناك من شغل القلب لكونه طلب أن يتعلم حكماً من
الأحكام أو أدباً من
اداب الشريعة
وفيه دليل على أن الأحكام لا تذكر إلا بعد التثبت فيما
يحتاج إليه وإن كان معلوماً يؤخذ من قول سيدنا بعد ما
أخبره أنه سمع وهل سمعت قلت نعم وحينئذ أخبر بأنه كان
جبريل عليه السلام وأنه أخبره بما ذكرناه أولاً لأن ما ذكر
له هو حكم من أحكام الله عزّ وجلّ فإعادة السؤال ثانية
بعدما علم بالسمع إرشاد إلى الاهتمام بأمر الأحكام والتثبت
عند إلقائها وإن كان لها
بساط ظاهر
وفيه دليل على عظيم قدرة القادر يُسمع من شاء كيف شاء
ويمنع من شاء كيف شاء يؤخذ
ذلك مما روي مراراً أنه لو كان ينزل عليه الوحي وهو عليه
السلام بين أصحابه وينفصل عنه وما منهم من سمع شيئاً وهذا
بالبعد منه وأسمع الكلامَ ذلك ليعلم أن الله على كل شيء
قدير وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً
٦٧٥
۱ مثل عربي
J
<-11
حديث النهي عن الجلوس على الطريق
عَن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى
الله عليه وسلم - قالَ إِيَّاكُم وَالجُلوسَ عَلى
الطَّرُقاتِ فقالوا ما لَنا بُدّ منها إنَّما هِيَ
مَجالِسُنا نَتَحدّثُ فيها قالَ فإذا أبيتُم المجالس
فأعطوا الطَّريقَ حَقها قالُوا َومَا حَقُّ الطَّريقِ قالَ
غَضُ البَصَرِ وَكَف الأذى وَرَدُّ السَّلامِ وأمْرُ
بالمَعروفِ ونَهيٌّ عَن المُنكَرِ
ظاهر الحديث يدل على المنع من الجلوس على الطرقات لغير
ضرورة وإن كان لضرورة فلْيُعطَ الطريق حقه والكلام عليه من
وجوه منها هل النهي نهي تحريم أو نهي كراهية ومنها هل ذلك
في كل الطرق عامرة أو غير
عامرة
فأما الجواب على قولنا هل هو على الوجوب أو الندب ۱ فلو
كان النهي من شأن الطريق لا غير حينئذ كنا ننظر فيها وإنما
النهي عن الجلوس فيها من أجل ما يتوقع فيها من مد البصر
إلى ما لا يجوز أو السمع إلى ما لا يجوز أيضاً أو لما
يتعين من المفاسد فإذا رأينا أن سبب النهي هو هذا ـ وهو
الذي يدل الحديث عليه - فيكون تحريماً ويكون فيه دليل على
الحكم بسد الذريعة وإن قلنا إنما كان النهي من أجل ما يحصل
للناس من الضيق في الطريق عند تصرفهم من شأن الجلاس بها
فيكون بحسب الضرر فإن كان كثيراً كان محرّماً وإن كان
يسيراً من حيث لا يكون ضرراً له بال فيكون مكروهاً والأظهر
المنع من أجل أن تلك الشروط التي ذكرت أنها من حق الطريق
قلما تخلو الطرق منها وقد قال تعالى وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ٢
وهنا بحث وهو أن يقال هل يتعدى ذلك إلى غير الطرق مما يقرب
منها مثل الجلوس في
1 يريد بالوجوب ما يقابل التحريم وبالندب ما يقابل
الكراهية
٦٧٦
سورة البقرة من الآية ١٩٥
على
م إلا
ذى
ـرورة
غير
ـريق
وإن
33333
بال
في
الدكاكين لغير أهلها والمساطب المجهولة في طرق المسلمين أو
عَتَب الأبواب أو الطيقان ۱ التي تكشف على الأزقة فإن قلنا
إن العلة في ذلك ما ذكرناه من تصرف الجوارح فيما لا يجوز
لها فحيث وجدنا تلك العلة منعنا لأنه أمر لا يحل شرعاً حتى
إن الماشي في الطرق من أجل الضرورة قد نص العلماء على أنه
لا يجوز له النظر فيها إلا بقدر ضرورته ينظر حيث يجعل قدمه
أو دفع ضرر يلحقه ولا يبقى يتصفح في وجوه الناس وحُرَمِهم
يميناً وشمالاً لأن هذا ممنوع فإذا كان الماشي ممنوعاً فمن
باب أحرى وأولى القاعدُ الذي يُشرف على الطرق لأنه أمكن من
سوء النظر ومن أجل ذلك قال النظرة الأولى لك والثانية عليك
وهذا إذا كانت بغير تعمد وأما إذا كانت بتعمل فالكل عليك
وفيه دليل على أنه من كثر منه أو فيه شيء نسب إليه وجعل
منه يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام أعطوا الطريق حقها وتلك
الأربعة التي هي غض البصر وكف الأذى وردّ السلام وأمر
بمعروف ونهي عن منكر الكل واجبة فلولا أنها أكثر ما يقع في
الطرق ما جعلها من
حق الطريق
وهنا بحث وهو أن يقال هل المقصود من الجوارح ما ذكر ليس
إلا أو هو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ليس الأمر
مقصوراً على ما ذكر ليس إلا وإنما هو من باب التنبيه
بالأعلى على الأدنى والدليل على ذلك قوله عليه السلام وأمر
بمعروف ونهي عن منكر فتأمر غيرك بالمعروف ولا تأمر نفسك
وتنهى غيرك عن المنكر ولا تنتهي أنت عنه وهذا لا يعقل ولا
يكون إذ ذاك أمراً حقاً وما وفيت حق الطريق ويترتب عليه من
الفقه أنّ من لم تكن له ضرورة للجلوس أو لا يقدر مع تلك
الضرورة على
الشروط لا يجلس
وأما هل تكون الطرق عامرة أو غير عامرة فاللفظ يعطي العموم
وإن نظرنا إلى العلة فنقول لا يخلو أن تكون الطرق في
العمارة أو في البرية فإن كانت في العمارة فحكمها كانت
عامرة أو غير عامرة واحد فإنه لا بد فيها من تلك المتوقعات
وإن كانت في فياف وقفر فما هي التي قصدت هنا لعدم العلة
فيها ولأن بساط الكلام لا يعطي ذلك
۱ الطيقان ج طاق وهو ما عطف وجعل كالقوس في الأبنية
أخرج الترمذي في الأدب - باب ما يؤمر من غض البصر وأبو
داود في النكاح باب ما يؤمر من غض البصر والإمام أحمد في
المسند ۳۵۳/٥ و ۳۵۷ والحاكم في المستدرك ۱۳/۳ عن بريدة رضي
الله عنه قال قال رسول الله له العلي يا علي لا تتبع
النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية
٦٧٧
وفيه دليل على جواز مراجعة المأمور للأمر عند أمره لتبيين
حاله يؤخذ من قولهم عند النهي ما لنا بد وبينوا العذر
المذكور بعد وهو أن مساكنهم كانت في غاية الضيق ولم تكن
تتحمل جلوسهم لأن يتحدثوا في ضروراتهم فكانوا يجلسون لذلك
في الطرق
وفيه دليل على أنه إذا كان العذر بيّناً لا يطالب صاحبه
بإثباته يؤخذ ذلك من أنه لما أبدوا
العذر له جعل لهم المخرج لعلمه بما قالوا
وفيه دليل على أن أصحاب الأعذار لهم حكم خاص بحسب أعذارهم
يؤخذ ذلك من كونه عليه السلام أولاً أطلق الحكم فلما رأى
العذر الذي أبدوه حقاً أعطاهم حكماً بحسب عذرهم وفيه دليل
على تفقد الراعي أمر رعيته بنفسه يؤخذ ذلك من متضمن الحديث
فلولا أنه عليه السلام كان يتفقد ذلك من أصحابه ما كان
يأمرهم بذلك من غير أن يذكروا له ذلك
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
السياحة
TVA
ہی
عند
وا
6-
حديث في بيان ما يحل به الذبح وما يحرم
عَن عَباية 1 بن رفاعة
بن رافع بن خديج ٣ عَن جَدِّهِ رَضي الله عَنهُم قالَ كُنا
۳
النَّبيِّ بذي الحُلَيفَة ٤ فأصابَ النّاسَ جُوع فأصابوا
إبلاً وَغَنماً فنَدَّ مِنها بَعِير فَطَلبوه فأعياهُم
وَكانَ في القوم خَيلٌ يَسيرَة فأهوَى رَجُل مِنهُم بِسَهم
فَحبَسهُ الله ثُمّ قالَ إِنّ لهذه البهائم أوابد ٥
كأوابِدِ الوَحشِ فَما غَلبَكُمْ مِنها فاصنَعُوا بِهِ
هَكذا فَقالَ ٦ إِنَّا نَرجُو - أو نخافُ - العَدُوَّ
غَداً وَلَيسَت مَعنا مُدّى أفَنذبَحُ بالقصَبِ قالَ ما
أنهرَ ٧ الدَّم وذُكِرَ اسم الله عليه فكُلوهُ لَيسَ
السِّنَّ وَالظُّفْرَ وسَأَحَدُتُكُم عَن ذلكَ أما السِّنُ
فعَظم وأمّا الظُّفُرُ فَمُدى ۸ الحبشة
جدي
وجوه
ظاهر الحديث يدل على أن كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله
عليه فهو حلال والكلام عليه من
منها هل نجتزىء في الذكاة بنص الذكاة بنص هذا الحديث أو لا
لأنه معنى حديث ثان وهو قوله
1 عباية بن رفاعة ترجمه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب
رقم ١٦٨ فقال ثقة من الثالثة ورمز فيه لرواية الجماعة ع
رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاري الزُّرَقي بن رفاعة المدني
ترجمه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب رقم
٩٥ وقال ثقة من السادسة
۳ رافع بن خديج انظر ترجمته في مطلع شرح الحديث ۹ من هذا
الكتاب ٤ ذو الحليفة ميقات أهل المدينة المنورة وتبعد عنها
حوالي عشرة كيلومترات ٥ أوابد جمع ابدة وهو الحيوان الذي
توحش ونفر من الإنس
٦ جدي هو رافع بن خديج ۷ أنهر الدم أسال الدم وأجراه ۸
المدى جمع مدية وهي السكين
٦٧٩
عليه السلام كل ما أفرى الأوداج ۱ وذكر اسم الله عليه
فكلوه وعادة الأئمة في الحديث - ولاسيما مالك الذي هو أمير
المؤمنين في الحديث - إذا كان حديث عام وآخر مقيَّد حَمْلُ
العام على المقيد فالذي عليه الجمهور أن الذكاة مع القدرة
لا تجزىء إلا بقطع الأوداج وإنهار الدم وبقي الخلاف فيما
زاد عليهما وهو الحلقوم والمريء فاختلف العلماء في قطعهما
فمن قائل يقول بقطعهما ومن قائل يقول بقطع أحدهما دون
تعيين أيهما قطع أجزاً ومن قائل يقول إن المريء عنده لا
يعتبر في القطع وإنما المعتبر الحلقوم ولا بد منه مع
الوَدَجين ـ وهو مذهب مالك ـ من الحديثين لأنه بالضرورة
إذا كان المقصود قطع الودجين - والحلقوم بينهما - فهو
مقطوع ومن أجل أنه أيضاً كذا نقلت صفة ذكاته ا في قرباته
والخلفاء بعده إلى هلم جراً والعمل لم يزل على ذلك
أجل جمع
وأما عند عدم القدرة فقد يجري الخلاف بين الأئمة من أجل
الحديثين واختلف في ذلك على ثلاثة أقوال كما هو عند عدم
تأتي الزَّكاة في الحُلقوم من أجل الضرورة مثل التردي في
البئر ورأسه إلى أسفل هل ينتقل الحكم أو لا على قولين
وبالكراهة
ومن أجل هذين الحديثين وقع الخلاف في الذكاة إذا كانت
الغَلْصَمَة ٢ في الرأس أو لم يكن منها في الرأس شيء هل
تؤكل الذبيحة أو لا فمن وقف مع نص الحديثين فإنه لم يأتِ
في الذكاة غير هذين الحديثين لا غير فمن وقف معهما أجاز
ذلك ومن راعى العمل منع ومن نظر إلى الطريقين كره مع
الجواز وبيان ذلك مستوفى في كتب الفروع وفي مذهب مالك فيه
قولان وأما بيان كيفية الذكاة فمذكورة في كتب الفروع وقوله
كنا مع النبي ل بلدي الحُلَيْفَةِ وذو الحُلَيْفَةِ موضع
خارج المدينة وهو
ميقات أهلها في الحج وفائدة قوله كنا ليخبر أنه هو الذي
أبصر ما روى وليس بمنقول وفيه دليل مما قدمناه على صدقهم
وتحريهم في النقل حتى يكون بلا احتمال وأصاب ۳ هنا بمعنى
غنموا فإما بحرب وإما بغير حرب وقد يكون خرجوا للغزو
فصادفوا من مواشي العدو شيئاً - وهو الأظهر - لأنه لو كان
في ذلك حرب لذكره لكونه تحرّى فيما هو أقل من ذلك و الناس
هنا الألف واللام للعهد لا يمكن غيره فيكون المسلمون الذين
خرجوا معه صلى الله عليه وسلم أو
بعضهم هم الذين أصابوا تلك المواشي
۱ الأوداج جمع وَدَج وهو عرق في العنق وهو الذي يقطعه
الذابح فلا تبقى معه حياة وهما وَدَجان والحديث كل ما أخرى
الأوداج إلى اخره رواه الطبراني في الكبير كما في الفتح
الكبير ۳۰/ الغلصمة هي الحلق وطبياً هي الصفيحة الغضروفية
عند أصل اللسان سرجية الشكل مغطاة بغشاء مخاطي وتنحدر إلى
الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها في أثناء البلع ۳ يريد
فأصابوا إبلا
3
A
٦٨٠
وقوله إبلا وغنماً فيه دليل على وجهين الوجه الواحد أنهم
لم يصيبوا غير ما ذكر والآخر كثرة تحريهم في الأخبار
وفيه دليل على الحث على الأ يُضاع المال يؤخذ ذلك من كثرة
طلبهم الكُلِّ البعير الواحد
الذي ند مع كونهم قد أصابوا الغنم والإبل ومعنى ند هرب و
أعياهم أتعبهم وفيه دليل على قوة دينهم رضي الله عنهم
لأنهم لم تكن كثرة طلبهم للبعير إلا من أجل الأمر لأنه قال
إن الله ينهاكم عن إضاعة المال ۱ ومما يقوي هذا أن بعض
الناس أتى النبي يشكو له الفقر فقال له اذهب لفلان وقل له
يقول لك رسول الله ادفع لي مائة دينار أُزيلُ بها فقري
فذهب إلى منزله فقيل له هو في السوق فأتى السوق فوجده
يُماكس بياعاً على دانق فتعجب في نفسه فبينما هو واقف
ينتظر فراغه وإذا بوكيله قد أتاه فأخبره أنه أنفق له خمسة
دراهم في بناء مسكنه فانتهره على ذلك فتعجب الرجل أيضاً ۳
فلما ذكر له عن المائة دينار أمر وكيله في الحين أن يدفعها
له فقال أنشدك الله ما شأنك رأيتك تماكس البياع وانتهرتَ
وكيلك على خمسة دراهم ثم لما ذكرت المائة بادرت بالأمر
بإعطائها فجاوبه على ذلك بأن قال أما البياع فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ماكسوا الباعة فإن فيهم
الأرذلين 4 وأما البناء فسمعت رسول الله يقول يُؤجر المرء
في نفقته كلها إلا شيئاً جعله في التراب والبناء ٥ ففعلتُ
ما فعلتُ لأجل امتثال الأمر وبادرتُ أيضاً إلى إعطاء
المائة من أجل امتثال الأمر فانظر حالهم كيف كانت الدنيا
عندهم ما تساوي شيئاً فلم يكن عنده فرق بين الدائق وبين
المائة الدينار إنما كان وقوفه مع الامتثال لا غير
وقوله فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله فيه من الفقه أن
الإنسيَّ عند الضرورة يُفعل به ما يفعل بالصيد من أنه
يُرمى بالنبل وغيره غير أن الفرق بينه وبين الصيد أن الصيد
يُؤكل إذا رُمي أنفذت مقاتله أم لا والإنسي لا يؤكل إن
أنفذت مقاتله أو بلغ به حداً لا يعيش معه يؤخذ ذلك
من قوله حبسه الله لأنه لو كان أنفذ مقاتله لقال قتله الله
لأن المنفوذ المقاتل مقتول بإجماع
۱ هو معنى لأحاديث وردت بهذا المعنى منها ما رواه الشيخان
عن المغيرة بن شعبة إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد
البنات ومنعاً وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة
المال و ما رواه مسلم في الأقضية باب كثرة المسائل من غير
حاجة وما رواه البخاري في كتاب الزكاة باب رقم ۱۸
كذا والصواب إذ ۳ لم نقف على مصدره
قال السيوطي في الدرر المنتثرة ۱۸۹ لا أصل له لكن في
المقاصد الحسنة ٣٧٩ وكشف الخفاء ١٠٩٣
والغماز على اللمّاز ٨٥ قال ابن حجر ورد بسند ضعيف
ه رواه الترمذي عن خباب رضي الله عنه وقال الترمذي حديث
حسن صحيح
٦٨١
وفيه دليل على تغليب أحد الضررين يؤخذ ذلك من كونهم لم
يرموه بالنبل إلا عند اليأس منه
وقت أعياهم فلما أيقنوا بذهابه رموه بالنبل لأن رميه
بالنبل محتمل أن ينفذ مقاتله فلا يؤكل ومحتمل أن يحبسه فلا
ينفذ له مقتلا فينتفع به فلما كان ذهابه لا طمع فيه أنه
يرجع ورميه احتمل أحد وجهين أدناهما إنفاذ مقاتله الذي لا
يؤكل معه لكن يتحصل فيه نكاية للعدو والجلد ينتفع أو يكون
أعلاهما وهو الذي حصل لهم نكاية للعدو مع أكل المسلمين له
ففعلوا ۱ الذي هو
به
أقل ضرراً
وفيه دليل على تقديم الأنفع في الدين وإن كان صيده أرْوَحَ
للبدن يؤخذ ذلك من كونهم
قدموا تعب أنفسهم على أن يأخذوه سالماً على رميه مع راحة
أبدانهم بذلك وفيه دليل على أنه عند الضرورة التي يُخاف مع
المشورة ذهابُ الفائدة يفعل المرء بحسب اجتهاده دون مشورة
يؤخذ ذلك من صاحب السهم لما رأى أنه يفوتهم إن هو اشتغل
بالمشورة رماه دون مشورة ولم يقع من سيّدنا الله على ذلك
إنكار عليه بل صوب فعله بقوله بعد فاصنعوا به هكذا فكان
اجتهاد هذا سبباً لتقعيد قاعدة شرعية
وفيه دليل على أن طريق الصحابة الجمع بين الحقيقة والشريعة
يؤخذ ذلك من قوله بعدما رماه بسهمه حبسه الله فالشريعة هي
ما كان من تسببه في حبسه برمي السهم وأقر بحقيقة الحبس
الله تعالى وهي الحقيقة فجمع بين الطرفين وهو أعلى الطرق
وهو المنقول عن سيدنا حيث كان إذا خرج حرض المسلمين وأمر
الأمراء وجهز الجند وقال أنت الصاحب في السفر ٢ وأخذ
الأهبة على أكمل وجوه الحذر فإذا قفل قال صَدَق الله وعده
ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ۳ وهذه طريقة السادة كثرة
الاجتهاد وعدم الدعوى
وفيه دليل على أن القدرة لا تنحصر بعادة ولا غيرها يؤخذ
ذلك من قوله عليه السلام إن لهذه البهائم أوابد كأوابد
الوحش فتراها قد توالدت في الإنسية ونسلها منها ثم منها ما
يكون مثل الوحش لم ينفع فيه الأصل ولا أثر فيه وقد يرى من
الوحش ما يرجع أكثر تأنيساً من الإنسي
حكمة بالغة
قوله فما غلبكم ليس على ظاهره لأنه إذا غلب حقيقة فقد راح
وذهب وإنما يكون غلب
۱ هذا جواب لمّا وفيه زيادة الفاء
قطعة من حديث رواه مسلم في الحج - باب ما يقول إذا ركب إلى
سفر الحج وغيره
۳ قطعة من حديث ابن عمر رواه البخاري في الدعوات - باب
الدعاء إذا أراد سفراً أو رجع - وفي الجهاد - باب التكبير
إذا علا شرفاً ـ ورواه مسلم في الحج باب ما يقول إذا قفل
من سفر الحج وغيره
٦٨٢
حتمل ينتفع
ي هو
ونهم
حسب
ة رماه
صنعوا
بعدما
حبس
ب في
عبده
م إن
يكون
نسي
غلب
- باب
على ظنكم بعد كثرة الاحتيال عليه ولا ينفع ويغلب على الظن
أنه ذاهب حينئذ يفعل به مثل هذا فهذا دليل على ما قدمناه
أولاً أنه لا يحل أن يفعل به شيئاً مما يفعل بالوحش عند
القدرة عليه ولأنه
أيضاً تعذيب
وفيه دليل على أن الأحكام في الأشياء مع الصفات لا الذوات
بأعيانها يؤخذ ذلك من أن الإنسي له حكم والوحشي له حكم
فإذا اختلفت عادتهما رجع لذلك حكم آخر مثل الخمر حرام فإذا
ذهبت تلك الصفة وبقي عينها انتقل الحكم
وفيه دليل لأهل التوفيق الذين يرفعون أحوالهم بالهمم وحسن
الصفات يقولون قيمة المرء ما يحسنه وقد ذكر عن بعض ذوي
الهمم أنه كان عبداً ومازال بحسن همته يترقى عند سيده حتى
أعتقه فلما أعتقه قال في نفسه ما هذه الطريقة التي أشتغل
بها حتى يرتفع قدري بين الأحرار قال فاشتغلت بالعلم والعمل
فلم تتم السَّنة إلا والخليفة يستأذن علي ولا اذن له
وفيه دليل على جواز تقرير الأحكام بالإشارة إذا فهم منها
الحكم
وفيه دليل على جواز تقرير الحكم بالمثال يؤخذ ذلك من قوله
اصنعوا به هكذا وقوله فقال جدي إنا نرجو - أو نخاف - العدو
غداً فيه دليل على أن الراوي كان في تلك السفرة مسلماً
يؤخذ ذلك من قوله قال جدي لأنه لا يكون فيه الجد من الجلد
بحيث أن يخرج إلى الجهاد إلا والحفيد شاب هذه العادة
الغالبة والنادر لا حكم له
وفيه دليل لما ذكرناه من صدقهم وتحريهم في النقل لأنه لما
أن قام الشك معه أخبر بما وقع له في قول جده من أحد
الوجهين وقوله غداً دال على قرب العدو ويتقوى به ما قلنا
قبل فإن هذه البهائم كانت مما لقوا بلا قتال لقربهم من
العدو وإذا قرب كان الرعب أمامه كما أخبر
شهراً ۱ فكيف بيوم فقد يكون منهم ذهول وخوف فيتركون
البهائم ويهربون بأنفسهم وفيه دليل على جواز العمل في
الأمور على جري العادة و اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ٢
يؤخذ ذلك من قوله إنا نرجو - أو نخاف - العدو غداً وليست
معنا مدى فعملوا على ما تقتضيه العادة عندهم لأن في غد
يكون لقاء العدو وسلم ذلك النبي ا ل لأنه أجابهم بالحكم
فيما سألوا عنه وهنا سؤال وهو أن يقال لم سألوا عما يذبحون
به مع لقاء العدو فقال بعض الناس ما سألوا عن ذلك إلا
لأنهم لم يكن لهم غير مسكين واحدة فخافوا إن هم ذبحوا بها
حفيت ولم يكن
۱ متفق عليه من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ ونصرت بالرعب
مسيرة شـ
سورة آل عمران من الآية ٤٧
البدالله 1
٦٨٣
لهم ما يقاتلون به العدو وهذا من الضعف بحيث لا خفاء فيه
من وجوه لأن هذه المرة كان المسلمون قد أخذوا قبل ذلك من
عُدَدِ العدو مثل يوم بدر وغيره ما تقوَّوا بها على الحرب
وإنما كانت الغزوة التي لم يكن لهم فيها سوى رمح واحد وسيف
واحد وسكين واحدة وفرس واحد في يوم بدر لا غير والوجه
الثاني ما يحتاج من السكين للعدو خلاف ما يحتاج منه للذبح
فإن طرفه هو الذي يحتاج للعدو وحده للذبح
والوجه الآخر وهو أنه إذا كانت بحيث تحفى من الذبح فلا
فائدة فيها للعدو وإنما - والله أعلم لما أخبرهم أن من ندّ
من هذه البهائم يفعلون به ما فعلوا بهذا وكانت الآلة عندهم
- مع كونهم مجتمعين - متمكنين منها وعند لقاء العدو في غد
كل واحد يكون في نفسه وما عنده من العدة لا يمكن أن
يُعِيرها ولا يزول عن الجهة التي يرتبه الأمير فيها ولا
يحيد عن الأمر الذي يُوكل إليه فخاف ٢ أن تندّ مما يغنم
المسلمون أبعرة من جهات مختلفة فما يكون منها ندّ من جهة
لم يكن للذي يطلبه ما يذبحه به من أجل ألا يقع منهم تفريط
من قلة العلم بماذا يعملون أو يعملون على اجتهاد منهم بعد
أن حصل لهم موطن يمكن فيه التعلم والسؤال على ما يعملون
فيؤخذ من هذا الموضع على هذا التوجيه - وهو الظاهر والله
أعلم - وجوه من الفقه منها استنباط الأحكام قبل وقوع
القضايا لأنهم سألوا عن شيء قد يقع أو لا يقع ومنها
الاستعداد للممكنات قد تقع أو لا تقع لأن ذكرهم ما يفعلون
مما هو ممكن وقوعه
هو الاستعداد له
وفيه العمل على الرجاء في فضل الله وليس هو من باب الطمع
يؤخذ ذلك من كونهم عملوا على إصابة الغنيمة عند اللقاء
وهذا هو العمل على الفضل ولأنه محتمل للضد لكن العمل في
هذه المواطن على فضل الله بقوة الإيمان وتكون النكاية
للعدو بذلك أقوى ولا تكون النية في القتال من أجل الغنيمة
فيخرج عن كونه ممدوحاً ولكن هذه من باب المبالغة في النصر
لأنه من لازمه وفيه دليل على تحصيل الأشياء الموجبة
للامتثال والاحتياط فيما هو ممكن فيها لأن
سؤالهم ذلك من أجل ألا يتعذر عليهم من توفية الأمر شيء
وفيه دليل على أن ما يعم المسلمين الخاص والعام فيه سواء
ويعمل به الشخص فيما يعم كما يعمل فيما يخص يؤخذ ذلك من
سؤال هذا وبالقطع أن فيهم من له العدة وقد يكون السؤال ممن
له العدة فسأل عن حكم عام له ولغيره
۱ المعروف في السيرة أنه كان في بدر مع المسلمين فرسان
وثمانية سيوف
هذا جواب لمّا وزاد فيه الفاء
٦٨٤
ن
レ
ـمن
J
ويترتب عليه أن تارك السؤال عن الممكن إذا كان فيما يقدم
عليه مع وجود المحل لذلك
تفريط يؤخذ ذلك من حال هذا السائل لكونه سأل عن شيء مما
يمكن أن يلقوه في غد وفيه دليل على أن من النبل اغتنام
سؤال العالم حين إمكان ذلك وإن كان الأمر الذي يسأل عنه لم
يقع بعد يؤخذ ذلك من كون هذا لما رأى موجباً للسؤال سأل
وهذه الفوائد كلها سبب وجودها تسليم سيدنا في ذلك وجوابه
لهم على ذلك
وفيه دليل على أن يعمل على الأغلب في جري العادة يؤخذ ذلك
من أن الغنيمة عندهم كانت الأغلب في جهادهم فعملوا على
غالب العادة
وقوله أفنذبح بالقصب يعني بالقصب إذا كان محدداً فلولا كان
الذبح عندهم قد تقرر وعلم ما قال أفنذبح بالقصب
وهنا بحث وهو أن السؤال إنما كان عن الة الذبح لا عن الذبح
فجاوب لا لالا لال بجواب أتم من السؤال ويغني عن البحث
الأول الذي أوردناه أول الحديث وحجة من احتج إلى غير ذلك
من التخصيص بوجه من الوجوه المتقدمة وغيرها فقال كل ما
أنهر الدم والذي ينهر الدم فيجعله يجري كجريان النهر في
الذبح المعلوم لا يكون إلا بقطع الأوداج لا بغيرها فإنه
إذا ذبح أحد بهيمة ولم يقطع في ذبحه إياها وَدَجاً لم يكن
يجري من الدم إلا اليسير لأن الله عزّ وجلّ أجرى حكمته بأن
أسكن الدم في العروق وفيها جريانه الأعظم وما في اللحم منه
إلا اليسير فلا يكون في اللحم من الدم إذا قطع - وإن جرى
منه دَمٌ - مُسْتَنْهَر إلا جرياً يسيراً فانظر إلى هذا
الإعجاز في الجواب وحسن الفصاحة فيه فبهذا التوجيه في هذا
الحديث يكون في الذكاة وأنه كاف لا يحتاج إلى غيره ويجتمع
فيه الحكم كله
وفيه من الفقه أن الأكثر في الفائدة في رد الجواب إذا سئل
عن وجه خاص أن يرد بأمر عام يدخل المسؤول عنه وغيره فيه
لأنه لما سأل السائل عن الذبح بالقصب عوضاً عن المدية أجاب
بما هو أعم من ذلك بقوله كل ما أنهر الدم فقد دخل تحته
القصب وغيره
وفيه ما يدل على تحديد الة الذبح لأنه لا ينهر الدم أي
يجعله يجري كما يجري النهر إلا قطع الآلة وإلا كان جريه
شيئاً فشيئاً
وفيه دليل على سرعة الذكاة لأن تلك الصفة لا توجد إلا مع
السرعة هذا يؤخذ بالمباشرة لمن أراد اختباره لا ينظر ذلك
من طريق عقله ونظره لأن حقيقة الصفات في الأشياء لا تؤخذ
إلا بالمشاهدة والذي يعدل عن هذا متعد لا يعرف الأمور التي
تؤخذ بالعقل ولا الفرق الذي بينها
٦٨٥
وبين الذي يؤخذ بالمشاهدة والتجربة ولذلك روي عن أهل العلم
والفضل أن علم التجربة قائم
بذاته لا مجال للعقل بالحكم عليه في منع أو إجازة بتحقيق
أو محتمل
وفيه دليل على ما خص الله عزّ وجلّ به هذا السيد من معرفة
الأمور على اختلافها على حقيقة ما هي عليه لكن هذا الذي
أشار لا والله ما يقدر الفقيه أن يعقله ولا يصل إليه أبداً
ولو كان يحوي من العلوم ما حوى حتى ينضاف إليه مع ذلك
تجربة في ذلك الأمر الخاص ولا أهله الذين يعيشون معه لا
يعرفون ذلك منه إلا حين يكون عندهم شيء من علم وورع
يسير
وفيه دليل على وجوب التسمية في الذكاة يؤخذ ذلك من قوله
وذكر اسم الله عليه والجمهور على وجوب ذلك فيها وإن تركها
عمداً لا تؤكل تلك الذبيحة إلا على خلاف لبعضهم قالوا
بدينه ذبحها وتأولوا قوله عليه السلام ذكر اسم الله عليه
أي أهل الذكر عليه وإن لم يذكره في الحال وهذا تعسف
ومصادمة للحديث وكفى بها وإن كان الترك بالنسيان لم يختلف
في أكلها أيضاً إلا خلافاً يسيراً لقوله عليه السلام رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان والذي منع الأكل مع النسيان وقف مع
ظاهر الحديث والجمهور على الجواز وقوله ليس السن والظفر
وسأحدثكم عن ذلك هل هذا من كلامه أو من كلام
الراوي احتمل والأظهر أنه من كلام الراوي
وقوله أما السن فعظم يعني كل عظم لا تحديد فيه وإن كان مثل
السن يثقب لا يُذَكَّى به لخروجه عن الصفة التي وصف صلى
الله عليه وسلم
وفيه دليل يقوّي ما قلناه آنفاً أنه يؤخذ منه أن يكون حداً
يفري لأن السن قد يقطع به إلا أنه بعد رض وما المقصود من
الذكاة الشرعية إلا أن يكون قطعاً دون رض لأن الرضَ فيه
تعذيب للبهيمة وقد نهى الشارع عليه السلام عن تعذيبها وعن
أن تُصَبَّر للقتل
وأما قوله وأما الظفر فمدى الحبشة أي أن الحبشة يتخذونها
مدى يذبحون بها فنهى عن ذلك مع أنها قد يذكى بها شيء صغير
وتفرى أوداجه لكن هي ميتة والانتفاع بالميتة ممنوع لأنه
يذكر أن الحبشة يربون الظفر حتى يذكوا به فنبه عن هذا من
أجل أنه ليس فيه تحديد لكن من أجل علة أنه ميتة وجب الحذر
وفي هذا تنبيه أن يكون الشيء الذي يُذَكِّى به طاهراً
حلالاً فأزال كل محتمل احتمله العموم الذي أطلق عليه
السلام بقوله كل ما أنهر الدم عن الضعيف الفهم كما
۱ المراد أنه مسلم ويفترض في دينه الذكر لاسم الله ولو لم
يجر على لسانه وهذا عند الشافعي الذي يجيز الذبيحة من
المسلم ولو لم يسم عليها عمدا
تقدم تخريجه في الحديث ۸۱
٦٨٦ A
تقدم البحث في أن القوي يحصل له بمجرد اللفظ الحكم العام
على ما أبديناه ثم يبقى ضعيف احتاط عليه السلام من أجله
الفهم
فإن قلنا هذا من قول الشارع فلا بحث وإن كان من الراوي -
وهو الأظهر - كما قلنا فهو لما فهم من رسول الله الا الله
ما أبديناه قبل والنهي قد ثبت في ترك الانتفاع بالميتة نبه
على هذا من أجل تحقيق الحكم ولئلا يكون ما روي هو من هذا
الحكم في هذا الحديث سبباً لمن يكون
ضعيفاً في فهمه يجاوز الحد بسببه فيكون هو سبب المحذور
فأزال ذلك الاحتمال بهذا البيان وهذا دال على فضله ودينه
أن يتحرى ممكناً يقع فيجيء آخر الحديث كأوله لأنه أولاً
سأل من أجل ممكن يكون كما بيناه والآن زاد بياناً من أجل
ممكن آخر يقع وهذا تأكيد فيما بيناه وزيادة فائدة أنه
ينبغي لمن رزقه الله فهما أن يعظ من ليس مثله ويزيد له في
البيان بقدر فهمه فيكون سبباً في الخير للضعيف وهذه صفة
العلماء لأنهم لما فهموا عن الله ورسوله بذلك النور الذي
من به عليهم بسطوا الأحكام وبينوها حتى فهمها من ليس في
طبقتهم وفهم الآخرون ما فهموا عن السادة إلى من هو دونهم
حتى فهموا هكذا حتى فهم الدين العالم بعلمه والجاهل بجهله
وهذه صفتهم التي أخبر عزّ وجلّ بها في كتابه قال وَلَكِن
كُونُوا رَبَّنِعنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِمُونَ الْكِتَابَ
وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ ١
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 سورة آل عمران من الآية ۷۹
٦٨٧
حديث الاستقامة على حدود الله والنهي عن المنكر
رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قالَ مَثَلُ القَائِمِ على حُدودِ
6
عَنِ النُّعمان بن بشير ۱ رَضي الله والواقِعِ فيها
كَمَثَلِ قَومِ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ فأصابَ
بَعضُهُم أعلاها وبَعضُهُم أسفلها فَكانَ الَّذينَ في
أسفُلِها إذا استَقَوا مِنَ الماءِ مَرُّوا على مَن
فَوقهُم فَقالوا لو أنا خَرَقْنا فِي نَصيبنا خَرْقاً
وَلَم نُوْذِ مَن فَوقنا فإن يتركُوهُم وما أرادوا
هَلَكُوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهِم نَجَوْا ونَجَوْا
جميعاً
ظاهر الحديث يدل على أن الذين يُظهرون المناكر إذا لم يغير
عليهم هلكوا وهَلَكَ مَن لم
يغير عليهم وإن غير عليهم نجا الجميع والكلام عليه من وجوه
منها أن يقال ما معنى النجاة هنا وما معنى الهلاك فالجواب
احتمل أن يكون حسّياً واحتمل أن يكون معنوياً
فأما المعنوي فإن الواقع في الذنب قد أهلك نفسه لما يؤول
إليه من العذاب بسبب ما فعل
النعمان بن بشير الخزرجي الأنصاري أمير وخطيب وشاعر من
أجلاء الصحابة من أهل المدينة له ١٢٤ حديثاً شهد حرب صفين
مع معاوية وولي قضاء دمشق ثم ولي اليمن لمعاوية ثم استعمله
على الكوفة ثم ولاه حمص واستمر فيها إلى أن مات يزيد بن
معاوية فبايع النعمان ابن الزبير وتمرد أهل حمص فخرج
هارباً فاتبعه خالد بن خلي الكلاعي فقتله سنة ٦٥هـ / ٦٨٤م
وإليه تنسب معرة النعمان حيث مرّ بها فمات له
ولد فدفنه فيها فنسبت إليه
استهموا اقترعوا ضربوا القرعة بينهم وأصل الكلمة مأخوذة من
السهام حيث كان الجاهليون يضربون بها في الميسر وهي القداح
فمن خرج سهمه فهو الرابح وظلت الكلمة استهم وساهم تحمل
معنى ضَرَبَ القرعة في الإسلام إذ جاء قوله تعالى في قصة
يوسف عليه السلام فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي قارع أهل السفينة فقرع ومنه قوله عليه السلام لرجلين
احتكما إليه في مواريث قد دَرَسَت اذهبا فتوخيا ثم استهما
ثم ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم ليحلل
كل واحد منكما صاحبه فيما أخذ وهو لا يستيقن أنه حقه
٦٨٨
والذي لم يغير عليه مثله لأنه أمر بالتغيير عليه فلما لم
يغير عليه وقع هو في ذنب آخر وهو تركه التغيير المأمور به
فأهلك نفسه بما يؤول إليه من العذاب أيضاً فإن أخذ عليه
وأقام عليه حد الله تعالى فقد نجا الفاعل للذنب بالحد الذي
أقيم عليه لقوله ل الحدود تُكَفِّر عن صاحبها ومن عوقب في
الدنيا فهو كفارة له وقد تقدم الكلام عليه في موضعه من أول
الكتاب ونجا أيضاً الذي غيّر بإنكاره عليه وأقام حكم الله
تعالى كما أمر وترتب له على ذلك الثواب الجزيل وقد أثنى
الله عزّ وجلّ عليهم بقوله وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ واحتمل أن يكون حسيّاً لأن صاحب
المعصية يُخاف عليه الهلاك في هذه الدار وكذلك الذي لم
يغير عليه بمقتضى الكتاب والسنة
أما الكتاب فقصة أهل السبت لَمَّا نُهوا عن الاصطياد فيه
وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شُرَّعاً كما أخبر عزّ
وجلّ في كتابه فاحتالوا على ذلك وأخذوا الشِّبَاك ونصبوها
ليلة السبت ثم أخذوها يوم الأحد وقالوا لم نَصِد يوم السبت
فنهت طائفة عن ذلك وسكتت طائفة وفعلت طائفة فأما الفاعلة
فأهلكها الله وأما المغيّرة فنجّاها الله وأما الساكتة
فمختلف فيها فقيل إنها نجت وقيل هلكت و الجمهور على هلاكها
وأما السنة فقوله إذا رأيتم الظالم ولم تأخذوا على يديه
يوشك أن يَعُم الله الكلَّ بعذاب۳ وكان هذا جواباً حين سئل
عن قوله تعالى لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُه ٤ وقد نبه أبو بكر رضي الله عنه عن هذه الآية
بمثل هذا فقال لا يغركم القوم بهذه الآية فإني سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنها فأخبر بمثل ما تقدم ذكره
قال العلماء معناه لا يضركم كفر الكافر إذا ضربتم عليه
الجزية ولا يضركم معصية العاصي إذا أقيم عليه الحَدّ وهو
وجه حسن يجتمع به معنى الآي والحديث وقد جاء الأن يقام حد
من حدود الله ببقعة خير من أن تمطر السماء عليهم ثلاثين
يوما ٥ وقيل أربعين يوماً لما يعود
۱ هو معنى لحديث رواه الإمام أحمد في المسند عن خزيمة بن
ثابت والشيخان عن عبادة بن الصامت ونص رواية الإمام أحمد
من أصاب ذنباً فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارة له
~1
سورة الحج من الآية ٤١ ۳ رواه أبو داود والترمذي وصححه
وابن ماجه والنسائي وابن حبان من حديث أبي بكر الصديق رضي
الله عنه ومطلعه يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ
إلخ
١٠٥
٤ سورة المائدة من الآية ۱۰۵
0
رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ
حَدٌ يُعمَل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين
صباحاً
٦٨٩
عليهم من البركة والرزق وقد يُراد المجموع وهو الظاهر من
الحديث لأنهم إذا تركوهم يفتحون في نصيبهم فدخل الماء
فهلكوا فهم تسببوا في هلاك أنفسهم ومن تسبب في قتل نفسه
فهو هالك في الآخرة وهالك في الدنيا فهلاكه في الدنيا ذهاب
نفسه وفي الآخرة دخول النار وهو أعظمها وفيه دليل على أن
الأولى في تقرير الحكم بضرب المثال يؤخذ ذلك من كونه عليه
السلام شبههم بأصحاب السفينة
وفيه دليل على جواز الاستهام يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
استهموا على سفينة وفيه دليل لمن يقول بجواز قسمة ما لا
ينقسم فإن السفينة لا تنقسم ولو كانت قسمة منافع
لا حقيقة لما قالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خَرقاً لأنهم
قد جعلوه نصيباً لأنفسهم وفيه دليل للقوم الذين يرون ترك
حظ الأنفس ويقولون إن فيه الخلاص وبه السعادة
وهؤلاء ما جعلهم يفتحون الخرق في نصيبهم إلا حظ النفوس
كيلا يحتاجوا إلى غيرهم وفيه دليل على أنه من عانَدَ
القدرة بخلاف ما أجرته الحكمة فإنه يهلك يؤخذ ذلك من كون
هؤلاء أرادوا أن يفتحوا الخرق إلى البحر في قعر السفينة
الذي هو أسفلها وأرادوا أن يعاندوا البحر حتى يكون بحكمهم
لأن البحر هو من أدل دليل على عظم قدرة الله ولذلك قال عمر
رضي الله عنه خَلْقٌ عظيم يَركَبُهُ خَلْقٌ ضعيف ولولا
آيةٌ في كتاب الله لَضَرَبتُ من يركبه بالدِّرَّة ثم
إجراؤه عزّ وجلّ السفن فيه من عظيم الحكمة فلما أراد هؤلاء
أن يعاندوا ما هو صادر عن القدرة العظمى بخلاف ما أجرته
الحكمة العليا هلكوا وكذلك في جميع الأشياء الصادرة عن
القدرة مَنْ صادمها بخلاف ما جرت به الحكمة
ثم انظر إلى قوله عليه السلام إنَّ النَّذر لا يردّ شيئاً
وإنما يُستخرَج به مال البخيل ۱ وقال عليه السلام ادفعوا
البلاء بالصدقة واستعينوا على حوائجكم بالصدقة لأن الصدقة
شاءت الحكمة الربانية أن تكون سبباً لرد البلاء فجاء صاحب
النذر فأراد أن يمشي له غرضه من المقدور بخلاف ما أحكمته
الحكمة من الصدقة فلم ينجح له عمل وربما اتكل على نذره
فيهلك والأشياء كثيرة من هذا النوع إذا تتبعتها تجدها
كثيرة والعلة في ذلك واحدة
وفيه دليل على أن المالك وإن ملك ماله فليس له فيه التصرف
التام لأن هؤلاء وإن ملكوا فقد أمر الشارع عليه السلام عند
تصرفهم الفاسد أن يُحجَر عليهم تصرفهم ومن هذا الباب
۱ رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما ورواه
البخاري في القدر وفي الإيمان ومسلم في النذر وفي
الروايات اختلاف يسير في اللفظ
تقدم تخريجه في الحديث ۸۷
٦٩٠
ـون
ـك
ـليه
ن
الله
رة
ل
التحجير على السفيه وعلى أصحاب الجنايات لأن لهم التصرف
بحواسهم فإذا تصرفوا على غير ما أمروا حُجر عليهم تصرفهم
وربما قد تعدم لهم الجوارح من أجل سوء تصرفهم مثل قطع يد
السارق وكما أشبهه وفي هذا إشارة إلى قول مالك في مال
العبد إنه مالك غيرُ مالك وها نحن الكل عبيد وحالنا في
أموالنا وحواسنا علي هذه الطريقة يطلق علينا أنا نملك
الملك التام ثم بحجر علينا الحجر التام حِكَمَةٌ بَلِمَةً
فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ۱ وبهذا النظر خرج أهل التوفيق من
الدعوى مرة واحدة وحار الجهال المساكين بدعواهم
1,
وفيه دليل لأهل الصفاء والمشاهدة الذين يقولون ما أوقع من
وقع فيما وقع إلا الحجاب يؤخذ ذلك من أن أهل الأسفل يعلمون
من فساد ما أرادوا أن يفعلوه ما يعلم أهل الأعلى لكن بغيبة
أعينهم من مشاهدة عين البحر وما هو عليه ومعاينتهم حسن
سفينتهم وجودة عدتها سهَوْا عن عظم البحر وما هو عادته أن
يفعل وركنوا إلى جودة السفينة وظنوا أنها ترد عنهم شيئاً
فوقعوا فيما وقعوا فيه وأهل الأعلى الذين يعاينون البحر
وما هو عليه من الخلق العظيم لم تساو عندهم سفينتهم وما هي
عليه من الجودة شيئاً ولم يجسروا أن يخالفوا أثر الحكمة
وهم مع ذلك خائفون ينظرون النَّوْءَ من أين يأتيهم فكذلك
أهل الشغل بالدنيا وهم يعلمون الآخرة على ما هي عليه
يعملون الأشياء المهلكة لبعدهم عن المعاينة بعين البصيرة
وأهل اليقين والتوفيق الذين عاينوا الآخرة بعين اليقين
عملوا على طريق الخلاص بمقتضى الحكمة وهم مع ذلك خائفون
وذلك مثل أبي بكر رضي الله عنه الذي قال لو كشف الغطاء ما
ازددت يقيناً أتى بجميع ماله وقال مجاوباً على ما أبقيت
لأهلك قال الله ورسوله فعلى قدر الكثافة في الحجاب يكون
البعد وعلى قدر البعد تكون المخالفة فانظر إلى
حسن هذا المثال وما فيه من الدليل على فضل هذا السيد أن
جعل في المثال مقابلة القدرة البحر الذي لا يقدر أحد أن
يحيط به لا عمقاً ولا عرضاً ولا طولاً وما فيه من الأمور
التي لا تكاد تنحصر ولذلك قيل حَدَّث عن البحر ولا حَرَجَ
وجعل مقابلة الشريعة التي هي أثر الحكمة السفينة وهي أيضاً
محصورة - كما هي الشريعة محصورة بالأمر والنهي - وأن فيها
مباحاً مثل استقاء الماء من فوقها وتصرفهم فيما يحتاجون
إليه منه وأن ما عدا ذلك من داخلها ممنوع التصرف فيه مما
يشبه ما ذكر في فوقها ممنوع محرَّم فإن أحدث في الممنوع
الذي هو المحرم - ولو شيئاً واحداً - قيل أهلكته قدرة
القادر ولم يقدر لنفسه بشيء وجعل مقابلة القدر الجاري
الاستهام لأن الاستهام يخرج فيه للشخص ما يحب وما لا يحب
مثل القدر سواء ومن أجل ذلك
۱ سورة القمر الآية ٥
٦٩١
قال عليه السلام اسْتَهَمُوا ولم يقل اقتَسَمُوا وجعل أهل
الطاعة في أعلاها لأنهم روحانيون وأهل المعاصي في أسفلها
لأن أهل المخالفة أخلدوا إلى الأرض وهو الأسفل كما ضرب
الله عزّ وجلّ به المثل في كتابه بقوله تعالى أَخَلَدَ
إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَنهُ ۱ فسبحان من أيده
بالإعجاز والفصاحة
وفيه دليل لأهل الطريق الذين يقولون أنت سفينة الوجود فإن
خرقت فيك شيئاً مما أمرت بحفظه فقد أعطيْتَ السفينة نفسها
وقال أهل التحقيق إذا كانت همتك في العلى ومنزلتك عند نفسك
في الثرى وعوفيت من الدعوى فقد قطعت المهالك كلها وتحليت
بحلية العقلاء وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
وصحبه وسلّم تسليماً
۱ سورة الأعراف من الآية ١٧٦
0
٦٩٢
عز
ایده
ـوت
عند
- ١٠٤-
حديث نفقة الحيوان المرهون على من يركبه أو يشرب لبن
عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال قالَ رَسولُ الله صلى
الله عليه وسلم الظَّهِرُ يُرْكَبُ بِنفَقَتِهِ إذا كان
مَرهوناً ولَبنُ الدَّرِّ يُشرَبُ بِنفَقَتِهِ إذا كانَ
مَرهُوناً وعَلَى الَّذِي يَركَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ
ظاهر الحديث يدل على أن الذي يركب الظهر عليه نفقته
والكلام عليه من وجوه منها من الذي له ركوب الظهر هل
الراهن أو المرتهن
قد اختلف العلماء فيه فمالك يقول إن الذي له الأصل عليه
النفقة وله المنفعة من ركوب أو شرب لبن إلى غير ذلك لأن
الحكم يعطي استصحاب الحال وأن المرتهن ما له إلا الاستيثاق
الماله برهنه وهذا هو الذي قصد النبي بهذا الحديث
والشافعي يقول المرتهن هو الذي ينفق ويركب ويشرب لأنه هو
الذي له التصرف في الرهن
والبحث على لفظ الحديث أن يقال إنما علق هلال النفقة في
الرهن على من ينتفع بمنافع
الرهن حتى يتبين أن نفس رهن الشيء لا يوجب للمرتهن
الانتفاع به ولا تجب أيضاً عليه نفقة فأراد أن يبين انفصال
حكم الذات من حكم المنفعة فبهذا التوجيه يكون الحكم في
المنفعة أيهما اشترطها لزمته النفقة بنفس اشتراطها فإن
سكتا فليس لنا في الحديث بما نحكم بينهما فنأخذ الحكم من
خارج وإذا أخذناه من خارج فلنا وجهان
أحدهما من طريق النظر بأصول الفقه وهو أن من له الأصل له
الفرع فالمالك له الرقبة فله أن ينتفع بمنافعها وما ملك
المرتهن رقبة ولا غيرها بل حصل له بالشيء المرهون توثقة
لماله لا غير فإن حكمنا عليه بأن الغلة له فقد تكون الغلة
أكثر مما رهن الأصل فيه من أجل طول المدة ويكون العلف
قليلاً فنكون قد أخذنا للمالك ما له بغير حق وبالعكس قد
تكون الغلة يسيرة وثمن العلف أكثر منها فبطول المدة يذهب
مال المرتهن بغير عوض وهذا يتبين بحسب
٦٩٣
غلاء الأسعار ورخصها فإذا كان الغلاء كان منفعة ركوب
الدابة يسيراً وعلفها كثيراً وقد لا يحتاج المرتهن إلى
ركوبها فيدخل عليه ما قلنا من الضرر وقد يكون مع رخص
الأسعار علف الدابة لا قيمة له في ذلك الوقت إلا قدر يسير
وثمن ركوبها كثير فيلحق الضرر لصاحب الدابة كما ذكرنا وقد
قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار
وأما من طريق النقل فقد قال له إن لصاحب الرهن غُنمه وعليه
غُرمه فما زاد في الرهن فلصاحبه وما نقص منه فعليه وغلته
من جملة زيادته فيجب أن تكون له
وفيه دليل على جواز الرهن وهنا بحث في قوله عليه السلام
ولبن الدَّر ولم يقل مطلقاً فإنما قال صلى الله عليه وسلم
الدر تحرزاً من أن يرهن أحد اللبن في وعاء فيتأوَّل
المرتهن أن له أن يشرب منه فيكون يأخذ مال الغير بغير حق
لأن كل ما يجوز بيعه شرعاً يجوز رهنه ولبن الدرّ هو الذي
يُدَر من الضرع فإنه فتح من الغيب والحَلب يَدْره ويزيد
فيه والذي لا يكون في الضرع الأخذ ينقصه وهو أيضاً لا
يحتاج إلى نفقة ويترتب على هذا التحرُّز في اللفظ وأن من
يتكلم بكلام يبقى فيه احتمال ما يجب عليه أن يحرره حتى
يذهب ذلك الاحتمال
وقوله عليه السلام وعلى الذي يركب ويشرب النفقة بيانا ۳
لما قدمناه من البحث الذي ذكرناه أن الدليل يكون من خارج
لأن قوله عليه السلام أولاً الظهر يُركب بنفقته إذا كان
مرهوناً ولين الدَّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً تَمَّت
الفائدة ٤ فعلى ماذا زاد بعد وعلى الذي يركب
ويشرب النفقة
خارج
E
فإن قلنا تأكيداً للحكم فيكون معنى الحديث كله واحداً
ويؤخذ الحكم كما ذكرنا من
وإن قلنا وهو الأظهر إن هذه الزيادة تبيين لحكم ثان - وهو
أنه أولاً جعل النفقة على من
1 رواه ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه
ورواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه وصححه الحاكم على شرط مسلم انظر حاشية جامع
الأصول للأستاذ عبد القادر الأرناؤوط ٦٤٤/٦
رواه ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه انظر تلخيص الحبير للحافظ
٣٦/٣ و ٤٠
۳ يعني كائن بياناً ٤ يريد تمَّت الفائدة به
٦٩٤
اشترط المنفعة وأن الثانية إذا لم يكن شرط - فتكون النفقة
على الذي له الركوب والجلاب وهو صاحب الأصل والله أعلم
وحمل اللفظين إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بذاته على
معنيين خير من حملهما على معنى واحد والأصول تشهد للمعنيين
فيكون ذلك الظاهر من أجل هاتين العلتين ومن أجل ما قدمنا
ذكره من الضرر اللاحق لأحدهما وعلى هذا الوجه ينتفي الضرر
ويستقيم الحكم على جري القواعد الشرعية والله الموفق
للصواب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
٦٩٥
-١٠٥-
حديث الأمر بالعتق عند الكسوف
عَن أسماء بنت أبي بكرٍ ۱ رضي الله عَنهُما قالت كنَّا
نُؤْمَرُ عِندَ الكُسُوفِ بِالعَتاقَةِ
ظاهر الحديث يدل على الأمر بالعتاقة عند الكسوف والكلام
عليه من وجوه
منها أنه يعارضنا ما ثبت بسنته عليه السلام وبقوله إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُخسفان لموتِ أحدٍ
ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك بهما فافزعوا إلى الصلاة وقد
ثَبَتَتْ كيفيتها وأنها سنة مؤكدة فالجواب أن الحديثين ليس
بينهما تعارض ويكون الجمع بينهما بأن نقول إن الصلاة لها -
على ذلك الوجه المشروع - هي السنة لكونها يقدر عليها كل
أحد فقير غني وكبير وصغير وإن العتاقة مندوب إليها لمن قدر
عليها
وهل يقتصر على العتاقة ليس إلا أو هي من باب التنبيه
بالأعلى على الأدنى فالظاهر أنها من باب التنبيه بالأعلى
على الأدنى بدليل قوله جلّ جلاله ﴿وَمَا نُرْسِلُ
بِالاَيَتِ إِلَّا تخويفا ۳ فإذا كانت من التخويف فهي
داعية إلى التوبة والمسارعة إلى جميع أفعال البر كل
1 أسماء بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة عثمان بن عامر -
رضي الله عنهم - ذات النطاقين صحابية من الفضليات اخر
المهاجرين والمهاجرات وفاة وهي أخت عائشة لأبيها وأم عبد
الله بن الزبير تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عدة
أبناء بينهم عبد الله ثم طلقها الزبير فعاشت بمكة مع ابنها
عبد الله إلى أن قتل فعميت بعد مقتله وتوفيت بمكة وهي
وابنها وأبوها وجدها صحابيون شهدت اليرموك مع ابنها عبد
الله وزوجها وكانت فصيحة حاضرة القلب واللب تقول الشعر
وخبرها مع الحجاج بعد مقتل ابنها عبدالله مشهور عاشت مائة
سنة وهي محتفظة بعقلها وسميت ذات النطاقين لأنها صنعت
للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً هاجر إلى المدينة فلم تجد
ما تشده به فشقت نطاقها وشدت به الطعام لها ٥٦ حديثاً
وكانت وفاتها سنة
٧٣هـ / ٦٩٢م
متفق عليه من حديث السيدة عائشة وابن عمرو وابن مسعود
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين ۳ سورة الإسراء من
الآية ٥٩
حين
٦٩٦
ـن
ـن
على قدر طاقته ولذلك كان بعض الصحابة يقول كنا نَعُدُّ أو
نحسَب الآياتِ رحمة وأنتم تحسبونها بلاء والحق معهم لأنها
إذا كانت تخويفاً فهي داعية إلى الخير وما هو داع إلى
الخير فهو خير ولقلة فعل الخير اليوم نحسبه بلاء
وقد حدثني بعض مشايخي رحمهم الله قال كنا قعوداً بين يدي
الشيخ إذ جاء سائل ١ فرأينا وجه الشيخ تغير ثم خرج السائل
ورأينا وجه الشيخ سُرّي عنه فسألناه فقال لما سال وحُرِم
خفتُ أن يكون صادقاً فيعود علينا منه وبال فلما رأيت ثيابه
رأيت في أكمامه فَضْلَةً تساوي نصف درهم فأيقنت أنه غير
صادق فارتفع عني ما كنت خفت من وباله
فانظر إلى صدقهم في دينهم وتصديقهم لما قيل لهم فهؤلاء
المتبعون للسلف رضي الله عنهم أجمعين فلما كان أشدُّ ما
يُتوقع من التخويف النارَ جاء الندب بأعلى شيء تتقى به
النار لأنه قد جاء من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو
منها عضواً من أعضائه من النار فمن لم يقدر على ذلك فليعمل
على الحديث العام وهو قوله عليه السلام اتَّقوا النار ولو
بشق تمرة ۳ فمن لم يجد فليأخذ بالحديث الآخر العام وهو
قوله عليه السلام مصانع المعروف تقي مصارع السوء ٤ فيأخذ
من وجوه البر ما أمكنه ولكن لا بد من الصلاة إذ ذاك على ما
سُنّت فإن السنة
أرفع من المندوب
وفيه دليل على رحمة الله سبحانه بهذه الأمة أن جعل الآيات
مذكرة لهم ومخوفة حتى يتنبه الغافل ويرجع الآبق ويجتهد
الحاضر ويبادر الحازم ويرتجع الظالم وتعم النعمة العبيد
بفضله
وفيه دليل على كثرة رحمة الله تعالى إذ جعل هذا السيد و
سببا للرحمة لأنه هو المبين لهذه وأمثالها وقد نص عزّ وجلّ
على ذلك في كتابه بقوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ ٥ لكن هنا إشارة وهو قوله تعالى
﴿وَمَا يَتَذَكَرُ إِلَّا مَن يُنيبُ ﴾ ٦ فهذه كلها ما
ينتفع بها إلا من يُنيب فإن الله عزّ وجلّ قد جعل على
السعادة عَلَماً وعلى الشقاوة عَلَماً فإذا
1 حرم أي منع من الصدقة
متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
۳ متفق عليه من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه
٤ رواه الحاكم عن أنس والطبراني في الكبير عن أبي أمامة
وفي الأوسط عن أم سلمة بلفظ صنائع
المعروف
5 سورة الأنبياء الآية ۱۰۷ ٦ سورة غافر من الآية ١٣
٦٩٧
أبصر المكلف عَلَم الخير يُسَرُّ لذلك ولا يَعْتَرُّ
وَيَشكُرُ الله تعالى وإذا رأى عَلَم الشقاوة - أعاذنا
الله منها بفضله - ضرع وخاف ولجأ ورغب وشكا لعله يقال فإن
الخمر من ساعة يعود خلا ولذلك قيل لنفسك فانتبه وراقبها
وحاسبها وبالعذاب ذكرها فإن وقت فخير ويا ليتها وإن عَصَت
فبالمجاهدة عاقبها والجأ إلى الكريم لعله يُعينك عليها
وغوائلها فاحذرها ثم احذَرُها وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٦٩٨
عافنا
وان
111
حديث إنما الأعمال بالنيات
عُمَر بن الخَطَّابِ رضي الله عَنهُ قالَ سَمِعتُ رَسولَ
الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ إِنَّما الأعمالُ
بالنِّيَّاتِ وإنما لكُلِّ امرىء ما نَوى فَمَن كانَت
هِجرتُهُ إلى الله ورسولِهِ فَهَجرَتُهُ إلى الله
ورَسولِهِ وَمَن كانَت هِجرَتُهُ إلى دُنْيا يُصيبها أو
امرأةٍ يَنكِحُها فهجرته إلى ما هاجَرَ إِلَيهِ وَلا
نِيَّة للنّاسي والمُخطىء
ظاهر الحديث يدل على أن لكل امرىء ما نوى ومعناه نواه
بعمله وأما قولنا في إثر
الحديث ولا نيَّة للناسي والمخطىء فمعناه لا عمل له يُجزىء
والكلام عليه من وجوه منها أن يقال هل هذا على عمومه في كل
الأعمال أو هو على الخصوص الظاهر أنه على الخصوص بدليل أن
الأعمال على ثلاثة أقسام نية بلا عمل وهو مثل الإيمان
والكفر والحب في الله والبغض فيه وما هو مثل ذلك الذي
الثواب والعقاب في ذلك على النية لا غير وعمل بلا نية مثل
غسل النجاسة وغسل الميت لأن المقصود من ذلك الفعل لا غير
وكذلك كل عبادة معقولة المعنى لا تحتاج إلى نية وفاعلها
مأجور عليها وما اختلف فيه العلماء من أنواع العبادات هل
تحتاج فيه إلى نية أو لا تحتاج إلى نية من أجل اختلافهم في
تلك العبادة هل هي معقولة المعنى أو ليس وعبادة مفتقرة إلى
عمل ونية فهذه التي جاء الحديث فيها فيكون اللفظ عاماً
ومعناه خاص
والعمل الذي يحتاج إلى نية إذا نسي صاحب العمل النية أو
أخطأ فيها لم يكن له عمل مجزىء عن فرضه إن كان فرضاً أو عن
سُنّته إن كان سُنّة ولكن لا يخلو صاحبه عن أجر مثال ذلك
من يقوم يصلي ظهراً بنية عصر قد أخطأ في نيته ولا تجزيه عن
ظهره ولكن لا بد له من أجر فإنه قد أتى بتلاوة وذكر وركوع
وسجود وتسبيح ونوى بذلك وجه الله تعالى وإن كان لا يجزيه
عن فرضه فأجر التلاوة إلى غير ذلك لا يضيع له فإن الله عزّ
وجلّ يقول ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
0
٦٩٩
خَيْراً يَرَمُ ۱ ومثال الناسي الذي يدخل الصلاة بغير نية
فلا تجزيه أيضاً عن صلاته ولا يخلو
أيضاً من أجر للتعليل الذي قدمناه
ثم قوله عليه السلام لكل امرىء ما نوى هذا فيه دليل لمن
يقول إن الأعمال وإن تعينت هي أو زمانها لوجه ما من التعبد
فإن نية الفاعل لتلك العبادة إما أن يحققها لما جعلت له
وإما أن يصرفها إلى غير ذلك لأن العلماء قد اختلفوا في ذلك
اختلافاً كثيراً
مثال ذلك الحج وشهر رمضان من العلماء من يقول إنه إذا صام
رمضان ونوی به غیره مثل نذر أو تطوع أنه يجزيه عن فرضه ولا
تضره تلك النية لأن الله عزّ وجلّ قد عيّن هذه الأيام
الصوم الفرض فلا تخرج عن ذلك وإن أخرجها العبد وقال آخرون
إنها تنتقل بنية الفاعل ومنهم من قال إن تغيير النية
يفسدها ولا تصح فيما نقلت إليه ولا فيما جعلت له ومثل ذلك
قالوا في الحج وهذا الحديث يقوي قول من يقول إنه ينقلب
بالنيَّة لقوله عليه السلام الكل امرىء ما نوى وفي مذهب
مالك في ذلك ثلاثة أقوال القول الأول أنه يجزىء عن الفرض
ولا يجزىء عن
غيره وبالعكس والقول الثالث - وهو المشهور - أنه لا يجزىء
عن واحد منهما وهنا بحث وهو هل النية مطلوبة في جميع أجزاء
العمل من أوله إلى آخره وأعني بالعمل الذي بيناه أن النية
شرط في صحته على قولين فمنهم من يقول إنها مطلوبة في كل
أجزاء العمل من أوله إلى آخره ومنهم من يقول إنما هي
مطلوبة عند استفتاح العمل لكن الذين يقولون بهذا يقولون إن
استصحابها في كل الأركان شرط كمال وهو مستحب فمدار الأمر
على أن أوله متفق على وجوبها فيه وباقيه قيل واجب وقيل
مستحبّ
وفيه إشارة إلى تفضيل طريق أهل السلوك لأنهم يتمون أعمالهم
بحسن نياتهم كما تقدم في غير ما حديث يؤخذ ذلك من قوله
عليه السلام لكل امرىء ما نوى لأنه فتح باب الزيادة في
العمل برفع النية فيه فمُغيِن نفسَه بسوء نيته ومربح لها
بحسن نيته
ومثال ذلك شخصان يتباحثان في مسألة فقهية ونيّة الواحد
بيان حكم الله وطلب الصواب فيه إيماناً واحتساباً ولا
يبالي من الذي جاء بالحق فيهما هو أو صاحبه فهذا قد رفع
عمله بحسن نيته لأن هذه أعلى المراتب ويدخل في حد
الربانيين الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام والآخر
نيته المباهاة والفخر وقصده الظهور على أخيه لأن ينسب إلى
الفضلاء فهذا بأخس الأحوال وإن ظهر على أخيه وإن ارتفعت
منزلته في الدنيا لأنه أول ما تُسَعَر به النار يوم
القيامة
۱ سورة الزلزلة الاية ٧
۷۰۰
فإن رسول الله قال أول ما تُسَمَّر النارُ بثلاث - وعد
فيهم العالم الذي هذه صفته - لأنه يقول يا رب تعلمتُ فيك
وعلمتُ فيك فيقول الله له كذبت وتقول الملائكة له كذبت
إنما فعلت ذلك ليقال فقد قيل فيؤمر به إلى النار وليس هذا
في العلم وحده بل ذلك في جميع أعمال البر وإنما ذكرنا
العلم لأنه أعلى أفعال البر ولأنه الله قال ما أعمال البر
والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر ٢ فإذا كان ذلك في
الأعلى فمن باب أحرى في غيره
وهنا بحث وهو أن يقال لم جعل للنية هذا الحظ العظيم من
الأجر حتى إن بها يرتفع العمل أو يذهب فإن قلنا تعبد فلا
بحث وإن قلنا لحكمة تلحق بالعقل لمن نظر في قواعد الشريعة
فما هي فنقول والله المستعان لوجوه
M
وَمَن
منها أنه قد تقرر من الشريعة أن أعلى أفعال البر هو
الإيمان بالله وأن محله القلب فكل ما كان في المحل الذي هو
وعاء لأرْفَعِ الأعمال وجب بمقتضى الحكمة أن يكون أعلى من
غيره وقد جاء ذلك في الشرع كثير مثل الأيام المباركة
والبقع المباركة تضاعف فيها الأعمال من أجل بركتها ونهي عن
الإثم فيها لكثرة العقاب عليه بالزيادة فيه على غيره وقد
قال الله عزّ وجلّ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ ﴾ ٤ وقال تعالى يرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ
بِظُلْمٍ نُذِقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ٥ وقد جاء في صوم
عاشوراء يكفّر السنة والآي والأثر في هذا كثير وقد قال
عليه السلام إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى
قلوبكم وليس المقصود تلك الجارحة نفسها وإنما المقصود ما
فيها وهو الإيمان وحُسْنُ النية وقد قال من أصبح وأمسى لا
ينوي ظلم أحد غُفِر له ما جَنَى ۷
ومنها أنه أكثر تعباً للنفس فإنها تحتاج في كل حركة وسكون
لحضور النية على ما ينبغي
1 حديث طويل رواه ابن خزيمة في صحيحه وانظر الترغيب
والترهيب للمنذري ـ الجزء الأول ـ فصل الترهيب من
الرياء
قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ۳۰۸/ باب وجوب الأمر
بالمعروف رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث جابر
بإسناد ضعيف ولفظه في مسند الفردوس ما أعمال العباد كلهم
عند المجاهدين في سبيل الله إلا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من
ماء البحر - وفي رواية - إلا كتفلة تفلها رجل في بحر لجي
۳ كذا والصواب كثيرا سورة التوبة من الآية ٣٦ سورة الحج من
الآية ٢٥
33553
٦ رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه رواه ابن
عساكر عن أنس رضي الله عنه بلفظ من أصبح وهو لا يَهُم بظلم
أحد غُفِر له ما اجترم
۷۰۱
وهذه مجاهدة خفية وقد قال جل جلاله وَالَّذِينَ جَهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَناً 1 ومنها أنه يحصل لمن
التزم هذا حظ كبير من الفقه العلمي والحالي لأنه يحتاج أن
يعرف من طريق الفقه كيفية ذلك والمتفق عليه والمختلف فيه
ومن طريق الحال يعرف خبايا النفس ومكرها وكيف يحرر عمله
ونيته مع ذلك وهذه مرتبة عَلِيّة قلّ طالبها فكيف مالكها
ويحصل له من ذلك - إن دام عليه - حال المراقبة وهو من أجل
المقامات عند أرباب هذا الشأن ويترقى منه إلى مراتب
سَنِيَّة يطول وصفها وقد كان بعض من له شيء من هذا الحال
إذا سئل في مسألة علم سكت ساعة وحينئذ يجاوب فقيل له في
ذلك فقال أنظر أيما خير لي السكوت أو الجواب رحمهم الله
هكذا يكون من له هِمّة ويعلم أنه بعين من يعلم خائنة
الأعين وما تُخفي الصدور ويترتب عليه من الحكمة أنه من قوي
إيمانه قويت حرمته عند خالقه ورجحت نيته في عمله
على غيره وفي ذلك فَلْيتنافَسِ المتنافسونَ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ سورة العنكبوت من الآية ٦٩
-14-
حديث الأمر بإطعام الخادم من الطعام
عَن أبي هريرَةَ رضيَ الله عَنهُ عَنِ النبي صلى الله عليه
وسلم قَالَ إذا أتى أحدَكُم خادِمُهُ بِطَعامِهِ فَإِن لَم
يُجلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِله لُقمةً أو لُقمتين أو أكلة
أو أكلتين فإنَّهُ وَليَ علاجه
*
ظاهر الحديث يدل على أمر من جاءه خادمه بطعام أن يعطيه ما
يأكل منه بذلك القدر المذكور وهو اللقمة أو اللقمتان
والأكلة أو الأكلتان والكلام عليه من وجوه
منها هل هذا على عمومه في كل الأطعمة وكذلك في كل الخدام
وهل الشيء المعطى منه يكون ما ذكر ليس إلا أو غير ذلك ولم
أتى بصفتين من الطعام اللتين هما اللقمة والأكلة ولم يخبر
بأحدهما ۱ وهل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب وهل ذلك
في أول طعامه أو في أي وقت أعطاه ذلك حصل المقصود وهل
يعطيه مما جاء به ولم يتول علاجه أو لا يعطيه إلا مما
يتولى علاجه وما الحكمة في الأمر بذلك
فأما قولنا هل ذلك الأمر على العموم في كل الأطعمة فظاهر
الحديث يعطي ذلك لعموم لفظ الحديث وما يُعرَف من عُرْفِ
الناس يقتضي أنه ليس على عمومه وإنما خرج الحديث مخرج
الأغلب من أحوال الناس لأن الأطعمة منها ما يشتهيه الذي
يعالجه ومنها ما لا يشتهيه أحد وهذا يدركه كل أحد بالعادة
المعلومة من الناس حتى إن بعض الناس لا يأكلون بعض الأطعمة
أصلاً مرة واحدة ولا يقربونها ومثل أطعمة المرضى إذا
عالجها الخادم أو غيره ما نفس أحد تشتهيها وربما تعاف أن
تأكله أو تأخذ من يد المريض شيئاً لكن الغالب الطعام الذي
يُشتهى وهو الذي يحمل الحديث عليه فإذا كان الطعام مما
يكرهه الخادم ولا أحد بمقتضى العوائد له فيه رغبة يدخل تحت
لفظ الحديث وربما إن حمل السيد الخادم أن يأكل منه شيئاً
فقد يؤلمه ولا
أصلا
فلا
۱ كذا والصواب بإحداهما كذا بدخول ربَّما على الجملة
الشرطية
۷۰۳
يجوز له ذلك لأن الله عزّ وجلّ يقول لَا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۱ والشارع عليه
السلام ما قصد هنا إلا جبر الخادم وإدخال السرور عليه
وأما قولنا هل ذلك في كل الخدم فاللفظ يعطي ذلك فإن علم
السيد من الخادم أن ذلك يسوؤه فلا يفعل للعلة التي ذكرناها
قبل وإنما مراده و ما ذكرنا ويكون ذلك من السيد وجهاً
محققاً لا تقديراً
أن
وأما قولنا في الشيء المسمى من الطعام هل ذلك حدّ لا يزاد
عليه ولا ينقص منه أما أن ينقص فلا فإنه لا يحصل الامتثال
وأما الزائد فهو المطلوب لأن الإشارة تقتضي الزيادة فإنه
إذا كانت الواحدة تقتضي الإجزاء فزيادة التخيير في الاثنين
يدل على الإشارة إلى الأكثر إن أمكن وأما قولنا لِمَ لمْ
يستغنِ بالصفة الواحدة من الطعام التي هي إما اللقمة أو
الأكلة فالجواب الطعام على نوعين مشروب وممضوغ فيكون من
الممضوغ اللقمة أو اللقمتان ويكون من المشروب مثل ذلك
المقدار فنوّع عليه السلام بذكر اللقمة من الممضوغ ليبين
المقدار المجزىء وعطف الذي هو المشروب عليه ليحصل المثال
في القدر المعطى أيضاً وهذا من إبداع الكلام صلى الله عليه
وسلم وأما قولنا هل الأمر على الوجوب أو الندب فاللفظ
محتمل والأظهر أنه على الندب لأنه علله بأنه ولي علاجه
وتَوَلَّي الخادم علاج طعام السيد واجب عليه ومن حق سيده
ويقابله ما يلزم السيد من نفقة خادمه وكسوته فقد فعل
واجباً مقابلة واجب فالزيادة على الواجب مندوبة ولكونه قد
خيره بين الجلوس معه أو أن يعطيه اللقمة أو اللقمتين وجلوس
الخادم مع السيد هو من طريق التواضع وهو من باب المندوب
ولا يقع تخيير بين واجب ومندوب وإنما يقع التخيير بين
شيئين متماثلين إما في الوجوب أو الندب فإذا ثبت في أحد
المخيرين بينهما ندب فالآخر مثله وأما قولنا هل يكون
الإعطاء في أول الطعام أو يكون بعده أما ظاهر اللفظ فإنه
يُعطي لأنه قال فإن لم يجلسه فليناوله والجلوس إنما يكون
أول الطعام فإن عدم الجلوس فبَدَلُهُ وهي اللقمة لكن إن لم
يفعل ذلك في أول الطعام وجعله في أثنائه فقد عمل مندوباً
إلا أنه ترك الأفضل وإنما قلنا ذلك لوجهين أحدهما لنص
الحديث بدليل الفاء التي تعطي التعقيب ولتعليله عليه
السلام بقوله أيضاً فإنه ولي علاجه فإذا تولى علاجه بقيت
النفس متعلقة به فالمبادرة بإدخال السرور وزوال تعلق النفس
أفضل وأما قولنا فإن جاء بالطعام ولم يكن تولى علاجه هل ٣
يعطيه أم لا فإن قلنا بظاهر
۱ سورة البقرة من الآية ۸٦
أوله
كذا والصواب فهل
٧٠٤
عليه
ن ذلك وجهاً
اما أن
نه إذا
ـواب
من
ناء
ما
ن
الحديث دون فهم العلة فنقول لا يعطي وإن نظرنا إلى العلة -
وهي الشهوة إلى الطعام - فإن كان
الطعام مما يشتهى فالحكم سواء يندب إلى الإعطاء منه
به
في م
وأما قولنا ما الحكمة في ذلك فلوجوه منها ما ذكرنا في
الوجوه قبل من تعلق نفس الخادم و منها أنه يُعينه بذلك على
ما كُلّف به من الأمانة في مال سيده لقوله عليه السلام
والعبد راع مال سيده ومسؤول عن رعيته ۱ فإذا أعطاه من
الطعام الذي تعلقت به نفسه كان عوناً على ألا يخون ولا
يأخذ من مال سيده شيئاً وإن حرمه فقد تغلبه النفس بقوة
باعث الشهوة على الخيانة ويترتب على هذا من الفقه أن كل من
لك عليه حق يندب أن تعينه على توفيته وتكون في ذلك مأجوراً
مثل الابن الذي أُمِرَ بِبركَ تكون تعينه عليه وكذلك
الزوجة والأصحاب والجيران وكل من يترتب لك عليه حق واجب أو
مندوب وهو من باب التعاون على البر والتقوى وقد ذكر أن
قوله تعالى في المكاتبين وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ
الَّذِى مَاتَنكُمْ ٢ أن تحسن إليه في أول الكتابة من مالك
خلاف مال الكتابة لأن يستعين بذلك على الكتابة ولوجه آخر
لأنه يحصل للخادم به تعلق كلي بمجيئه به إلى السيد فيحصل
له بسبب ذلك إذا من أجل قوة الشهوة عليه لكثرة دوام نظره
إليه
ويترتب على هذا الوجه من سد الذريعة أن يكون الطعام
مستوراً ما أمكن من أجل هذه العلة وزيادة في أوقات الشدة
فإن النفوس إذ ذاك لها بالطعام تعلق كلي وفيه دليل على
جواز اتخاذ الخادم لكن بشرط توفية حقه باطناً وظاهراً أما
الظاهر فمعلوم وهو توفية حقوقه على لسان العلم وأما الباطن
فألا تَغْتَرَّ النَّفْسُ بذلك وترى لها عليه درجة لأنه قد
جاء أن العبد لا يزال من الله بمكانة حتى يخدمه فإذا أخدمه
وقع الحساب أو الحجاب وقد قال تعالى فَمَا الَّذِينَ
فَضِلُوا بِرَاذِى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ
أَيْمَهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء ۳ فأشار إلى أن الفضيلة من
الله وفي الحقيقة التسوية لأن الكل عبيد الله
وفيه دليل على كثرة شفقته مطلقاً يؤخذ ذلك من نظره عليه
السلام بالشفقة في هذا
بالعبد والحر لأن نظره عليه السلام للكل بعين الرحمة وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
1 متفق عليه وأوله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
سورة النور من الآية ۳۳
۳ سورة النحل من الآية ۷۱ ٤ سورة الأنبياء الآية ١٠٧
14I
حديث تواضعه وهديه في الهدية والدعوة صلى الله عليه وسلم
عَن أبي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم قال لَو دُعيتُ إلى ذراع أو كُراع لأجبتُ
وَلَو أُهديَ إِلَيَّ ذِراع أو كُراع لَقَبِلتُ
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام أحدهما حسن خلقه الله
وتواضعه الثاني قبول الهدية وإن قلت الثالث الإجابة على
الطعام والحكم فيه على وجهين لأنهم اختلفوا في فقيل هو
كُراع الشاة وهو أقل الأشياء عند العرب وقيل كراع موضع وهو
بعيد من المدينة والكلام عليه من وجوه منها بيان أن قبول
الهدية من السنة وليست اليد الآخذة للهدية بمفضولة على
اليد المعطية ولا المعطية هي الأعلى لأنه من اتبع السنة في
شيء من الأشياء فهو أعلى بلا خلاف في ذلك لأنه قد قال في
الحديث قبل يا حكيم اليد العليا خير من اليد السفلى ۱ وقال
العليا هي المعطية وقال هنا لو أهدي إليَّ ذراع أو كُراع
لَقَبْلت والفرق بينهما أن حكيماً طلب فيكون أبداً يد
الطالب هي السفلى ويد سيدنا الله علم الطلب والذي أهدي له
إنما هو إلى الله فمن الله أخذ سيدنا ولجبر خاطر الذي جاء
بالهدية لأنه طلب منه القبول إلى ما يوصله إلى الله فيد
الطالب
أبداً صغرى كما قيل لحكيم قبل وقد أشرنا إلى شيء من هذا
هناك لكن هذا موضعه بالنص وفيه من الفقه أنه ما كان الله
لا يحتقر وإن قل بخلاف أهل الدنيا فإنهم ينظرون في الهدايا
بينهم لحظوظ النفوس قدر المُهْدِي والمُهدى له ومولانا جلّ
جلاله قال ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَمُ وقال إِن تُقرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
يُضَعِفَهُ لَكُمْ ﴾ ۳ وساوى في
۱ جزء من حديث رواه الشيخان عن حكيم بن حزام رضي الله عنه
وأوله إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ
سورة الزلزلة الاية ٧ ۳ سورة التغابن من الآية ۱۷
٧٠٦
ذلك بين القليل والكثير فجاءت السنة مع الكتاب على حدّ
واحد ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ١
وكذلك إن كان الموضع الذي يدعى إليه بعيداً فإنه إذا أجاب
لذلك كان الأجر أعظم لكثرة الخطا التي فيه وهي كلها لله
وإذا كثرت الخطا الله كثر الأجر كما قال عليه السلام في حق
المساجد أكثركم أجراً أبعدكم داراً وذلك لكثرة الخطا إليها
وهذا - أعني قبول الهدية - ليس على العموم لأن الهدايا
منها ما يكون من أجل الله كالذي يوهب إلى سيدنا ومنها ما
يكون في حق الصحبة أو للمكافأة وهي على صفة أخرى وقد قال
علي رضي الله عنه الهبات ثلاث فهِبَة للصحبة فلك وجه صاحبك
وهبة للثواب فهي بيع من البيوع وهبة الله فتلك التي ثوابها
على الله تعالى لكن اليوم وإن كانت الله فيحتاج أن ينظر
إلى كسب الواهب من أجل الحرام الذي كثر وداخل بعض الأموال
وأما ذلك الزمان فالمال كله طيب فلم يحتج إلى تفرقة في ذلك
والأمر اليوم كما لا خفاء فيه
وقد قال بعض العلماء وهو رزين ۳ ما أوقع الناس في
المحذورات إلا أنهم يحملون اليوم الأسماء التي كانت أولاً
على وجه جائز وهي اليوم على غير ذلك فيحملونها على ذلك
الحسن الذي سمع عنها وليس كذلك بل ينبغي أن ينظر في الأمور
وما يحدث فيها ولذلك قال عمر بن عبد العزيز تحدث للناس
أحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور ولم يرد هذا السيد تبديل
أحكام الشريعة لأنه لا قائل بذلك وإنما أراد مثل هذا النوع
الذي أشرنا إليه
وفيه دليل على قبول الهدية ولا يثيب عليها وقد جاء أنه
عليه السلام كان يثيب على الهدية في الحديث بعد هذا فيمكن
الجمع بأن تقول الثواب على الهدية سنة وترك الثواب سنة
فيكون ذلك توسعة منه ومما يبين ذلك قوله عليه السلام فإن
لم تجد فادع الله حتى تعلم أنك قد كافأته ٤ وقال عليه
السلام في مقدار الدعاء من والاك معروفاً فقلت له جزاك
الله
خيراً فقد أطنبت في الجزاء ٥
۱ سورة النساء من الآية ۸ رواه الإمام أحمد في المسند وأبو
داود وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه بلفظ الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً وفي رواية
للبخاري ومسلم عن أبي موسى إن أعظم الناس أجراً في
الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم ۳ هو رزين العبدري
الأندلسي وقد سلفت ترجمته في الحديث ۳
٤ انظر تخريجه في الحديث ۹۳
٥ انظر تخريجه في الحديث ۹۳
VV
وهنا بحث وهو أن يقال لم أخبر عليه السلام هذا عن نفسه
المكرمة ولم يقرر الحكم
باللفظ العام فالجواب أنه لو قاله لكان يقع في النفوس أن
هذه من الصدقة التي يجوز للغني أخذها وأكلها فقد كان يتورع
فيها بعض الناس فلما كانت الصدقة حراماً عليه وأخبر عن
نفسه المكرمة أنه يقبلها فعلم ۱ بالقطع أنها ليست من
الصدقة بنسبة أصلاً ولا فرعاً وإنما هو مال حلال محض لا
شبهة فيه لأنه عليه السلام لا يفعل فيما يخصه إلا أعلى
الأمور وأزكاها وقد قال العلماء في معنى قوله جلّ جلاله و
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب إنه
الفتوح إذا كان
على وجهه
وأما قوله عليه السلام لو أهدِي إليَّ كُراع أو ذراع لقبلت
فسوّى بين القبول للذراع والكراع فإن الحكمة في ذلك أن أحب
الأعضاء إليه من الشاة كان الذراع وأن الكراع عندهم لا بال
له فكأنه عليه السلام يقول لو أهدي إلي ما أحبّه وما لا
أحبّه لقبلته لأن القبول هنا هو - كما تقدم من أجل الله
وما يكون من أجل الله فلا ينظر فيه إلى ما تحبه النفس أكثر
لأنه يَتَمَحَّضُ فيه العمل الله
خالصاً
ويؤخذ منه الكلام في الممكنات وتقعيد الحكم على ما يمكن
وقوعه منها يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام لو أهدي لأنه ذكر
ممكناً قد يقع لأن الفائدة فيه تقعيد الحكم وبيانه لا وقوع
نفس الشيء المحتمل وقد قال أهل العلم بصنعة الفرائض إذا
أردت معرفة علم الفرائض فَأُمِتْ جيرانك وأصحابك والفائدة
في ذلك لأنك عالم بمن يبقى بعدهم فتعلم مَن يَرِث ومن
يُحجب ولا يطرأ عليهم موت بسبب ذلك
وفيه دليل للمحققين من الصوفية لأنهم يقولون إن الفقير إذا
كان صادقاً مع الله لم يأخذ شيئاً إلا من الله للوجه الذي
قدمناه ولأنهم لا يمشون في تصرفاتهم إلا على الكتاب والسنة
بخلاف ما يعتقده بعض الناس فيهم وذلك لجهلهم بطريقتهم
العليا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 هذا جواب لما سورة ال عمران من الآية ٣٧
۷۰۸
۶ شیل
633
114- ۱۰۹
حديث مراتب الضيافة والتيامن فيها سنة من سنن
الله عليه وسلم
عَن أَنَسٍ رضي الله عنه قال أتانا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في دارنا هذه فاستَقى فَحلبنا له شاةً لَنا ثُمّ
شُبْتُهُ ۱ مِن ماءِ بثرنا هذهِ فأعطيتُهُ وأبو بكرٍ عَن
يسارِهِ وعُمرُ تُجاهَهُ وأعرابي عَن يَمينِهِ فَلمَّا
فرغَ قَالَ عُمرُ هذا أبو بكرٍ فأعطى الأعرابي فَضلهُ ثُمّ
قالَ الأيمنونَ الأيمنونَ ألا فَيمِّنُوا قالَ أَنَس فهِي
سُنَّة فهي سُنَّة فهي سُنَّة ثلاث مرات
ظاهر الحديث يدل على ثلاثة أحكام
أحدهما جواز طلب الماء بين الأصحاب وليس من باب المكروه
والآخر أن السنة في إعطاء المشروبات أن يكون يبدأ بها
بالذي على يمين الشارب وإن كان الذي على الشمال أو أمام
أفضل
منه
والثالث جواز خلط اللبن بالماء عند الشرب والكلام عليه من
وجوه
منها أن طالب الماء هو أولى به أولاً وقد جاء طالب الماء
أولى به ويؤخذ منه عرض ما اشتهيت لنفسك أو طلبته من
المشروبات بعد أخذك حاجتك منه على أصحابك وإن لم يطلبوه
بعد يؤخذ ذلك من كون سيدنا أعطى لأصحابه بعدما أخذ عليه
السلام منه حاجته وهو الذي
طلب الماء وحده
وفيه دليل على تنبيه المفضول للأفضل على ما هو عنده أرفع
وإن لم يكن أصاب في ذلك ولا يجب عليه في ذلك تعنيت لأنه ما
قصد إلا خيراً وللفاضل أن ينظر ذلك فإن أصاب وإلا
۷۰۹
1 شُبْتُهُ خلطته مزجته
علمه برفق وتواضع دون تخجيل يؤخذ ذلك من قول عمر رضي الله
عنه هذا أبو بكر ينبه النبي أن يقدم أبا بكر على نفسه وعلى
الأعرابي لما يعلم من مكانة أبي بكر رضي الله عنه عند رسول
الله ويرفع الخجل عنه في حق الأعرابي لأنه إذا كان يقدمه
على سه لم يقع للأعرابي في نفسه شيء بتقديم أبي بكر عليه
ولم يكن له علم بما في غيب الله عزّ وجلّ من حكم السنة في
ذلك أنه بخلاف ما ظهر له فلم يعنفه رسول الله الله وأبدى
له حكم السنة في ذلك وكرره ثلاثاً على المعلوم من عادته
عليه السلام في تكرار الأمر ثلاثاً إذا كان له بال
ويترتب عليه من الفقه أن الذي يجتهد في حكم بوجه ما من
الشرع ولم يكن يعلم غير ذلك ويكون الأمر بخلاف ذلك بدليل
لا يعرفه فله في خطئه أجر كما جاء من اجتهد فأصاب فله
أجران وإن أخطأ فله أجر ۱
وفيه دليل على أن من الأدب ألا يكلم شارب الماء حتى يفرغ
ويؤخذ ذلك من أن عمر الله عنه لم يكلم النبي لا لا لا اله
إلا بعد فراغه من الشرب بخلاف الطعام لأنه قد جاء أن من
السنّة الكلام على الطعام
رضي
وفيه دليل على أن من المروءة أن معطي الشراب ينبغي له أن
يعطي أكثر مما يحتاج إليه الطالب يؤخذ ذلك من أنه عليه
السلام أعطى فضله فلولا ما كان أكثر ما كان يقول فأعطى
الأعرابي فضله ولو كان الماء قليلا او و ا ا ا ا ا ا وفضل
بعد ما أعطى أصحابه لكانوا يذكرون قلة الماء ويجعلونها من
جملة المعجزات كما فعلوا في المواضع التي جرى فيها ذلك وقد
جاء أن من الممدوح في معطي الماء مثل ما ذكرنا لكن الآن لا
أحقق هل ذلك أَثَراً أو هو من مكارم الأخلاق فيما بين
الناس لأنه أرفع للخجل وأبلغ في المعروف
وفيه دليل على أن التعليم بالفعل أرفع وأن القول تأكيد له
يؤخذ ذلك من أنه بدأ أولاً بالفعل الذي هو الإعطاء وكان
كلامه عليه السلام يُعَدُّ جواباً لما قيل له وتأكيداً
لكونه كرره ثلاثاً ولذلك قال الراوي فهي سنة ثلاثاً
وهنا بحث وهو لِمَ أتى في الآخرة بالفاء في قوله ألا
فيَمّنوا فالجواب أن قوله الأيمنون الأيمنون يعني أعطوا
أصحاب اليمين أوّلاً ثم الثالث بتلك الزيادة كأنه عليه
السلام
1 أخرجه البخاري في الاعتصام ومسلم في الأقضية عن عمرو بن
العاص بلفظ إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا
حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر كما أخرجه الترمذي والنسائي عن
أبي هريرة والشيخان عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي
الله عنهم جميعاً في حدود علمنا لم نجد في السنة ما يدل
على ذلك وصرح العلماء أن الكلام على الطعام من قبيل المباح
وأنه لا يوصف بندب ولا كراهية انظر المقاصد الحسنة
والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع والله أعلم
۷۱۰
يقول ألا فيمنوا في شأنكم كله ليس ذلك في الماء وحده وقد
زادت عائشة رضي الله عنها في ذلك بياناً حيث قالت كان رسول
الله يحب التيمنَ ما استطاع في شأنه كله۱ وقد استوعبنا
الكلام عليه في موضعه
بكر رضي
وفيه دليل على أن ما يخص الشخص في نفسه أكد عليه من غيره
يؤخذ ذلك من أن فضل أبي الله عنه لا خلاف فيه أنه أفضل
الصحابة رضوان الله عليهم فما بالك بالغير وأن الأيمن في
الجوارح أفضل من غيره فآثر النبي فضل الجوارح الذي هو
الأيمن منه عليه السلام على فضل الغير وهو أبو بكر رضي
الله عنه وأكدها كما ذكرنا آنفاً ومن هذه النسبة قدموا
قرابة الشخص في المعروف على غيره لأن جُعِل له في الصدقة
عليه إذا كانت تطوعاً أكثرُ أجراً من الأجانب فتجد الحكمة
أبداً في الشرع متناسبة إذا تأملت وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ٢
وهنا بحث وهو ما الحكمة بأن عَيَّن الراوي الدار والبئر
فيه من الفائدة وجوه منها دلالة ذلك على فضله وتواضعه لأن
الراوي أنس - وهو خديمه عليه السلام - فمشيه عليه السلام
إلى دار خديمه فضل منه وتواضع وكونه أخبر بدخوله الدار
ليُعلم فضلها لأنهم كانوا يتبركون بالمواضع حيث يدخل وكل
ما يكون من الأشياء التي يتصل منه الله بها شيء ما مثل ما
قال أحد الصحابة يا رسول الله صَلِّ في بيتي مكاناً
أتَّخِذَهُ مُصَلَّى ۳ وكذلك البئر من أجل أن يبقى ذلك
البئر وتلك الدار يتبركون بهما
ويترتب عليه من الفقه حسن طريقة المباركين الاخذين بطريق
السلوك لأنهم يتبركون بأي شيء يجدون من أثر المباركين
ويجدون لذلك بركة كبيرة منهم في ذلك على طريق السلف نفع
الله بجميعهم بمنه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد في مسنده عن السيدة عائشة رضي الله
عنها
سورة النساء من الآية ۸
۳ رواه البخاري في صلاة الجماعة - باب الرخصة في المطر
والعلة وباب إذا زار الإمام قوماً فأمهم وباب المساجد في
البيوت ورواه مسلم في الإيمان باب الدليل على أن من مات
على التوحيد دخل الجنة ومطلعه یا رسول الله إن السيول تحول
بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه
مسجدا إلخ والصحابي هو عتبان بن مالك رضي الله عنه
۷۱۱
-11-
عَن
حديث قبول الهدية والإثابة عليها
عائشةَ رَضي الله عنها قالت كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم يَقبَلُ الهَديَّةَ وَيُثيبُ عَليها
*
ظاهر الحديث يعطي جواز قبول الهدية والثواب عليها والكلام
عليه من وجوه
منها أن الهدية يكون الثواب عليها بأقل منها أو أكثر أو
مثلها بحسب ما يختار الذي يكافىء يؤخذ ذلك من قولها يثيب
ولم تقل يكافىء لأن المكافأة المماثلة وذكر الثواب لا يدل
على ذلك وهي - كما تقول - ثمن السلعة وقيمتها لأن الثمن
يزيد وينقص والقيمة هي قدر ما تساوي بلا زيادة ولا نقصان
ومنها كيفية الجمع بينه وبين الحديث الذي قبله وقد ذكرناه
قبل في الحديث الذي قبل هذا وقد يمكن أن يكون الجمع بينهما
بوجه اخر وهو أن الهدية جائز أخذها وتكون على وجهين إما أن
تكون الله خالصة أو تكون من أجل الصحبة وطلب جلب القلوب
للتوادد ۱
فإذا علمت أو قوي ظنك أنها طلب للتوادد ۱ وجلب القلوب
فينبغي أن تثيبه أنت على تلك الهدية لقوله عليه السلام
تهادوا تحابوا ۳ وأن الهدية تذهَب بالسَّخيمة فتكون توافقه
على ما قصد وتكون في ذلك على السنة
وإن كانت الله خالصة فالأجمل عدم المكافأة منك وتترك
مكافأته على الله فتكون تعينه على ما أمل منك فيكون مبالغة
في المعروف وتكون أيضاً في فعلك ذلك على السنة
ووجه آخر تكون تنظر بماذا يكون فرح المُهدِي إليك فتعمل
عليه لأنه من باب إدخال المسرة وكلاهما حسن وأنت في ذلك
كله متبع إلا أن هنا تنبيهاً أعني إذا ظهرت لك
۱ كذا بالإظهار والصواب للتواد
رواه الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه انظر الفتح الكبير
٢/ ٣٩
۷۱
المكافأة أن تنظر لسان العلم في ذلك خشية أن تقع في الربا
وأنت لا تعلم فإنه إذا كانت نفس الواهب متشوفة إلى
المكافأة وإن نوى بهديته وجه الله تعالى فلا تكون المكافأة
على ذلك إلا بما يجوز بيعه فتنظر ذلك الشيء الموهوب والشيء
الذي خطر لك أنت أن تكافئه به هل يجوز بیعه به على الصفة
التي تريد أن تفعلها أنت فإن جاز فافعل وإن لم تعلم فاسأل
أهل العلم
وحينئذ تفعل
مثال ذلك أن يهب لك طعاماً فيخطر لك أن تكافئه أنت بطعام
غير يد بيد فذلك ممنوع وقد ذكر ذلك في كتب الفقه فإن لم
تكن نفسك تتشوف إلى مكافأة ولا صاحب الهدية أيضاً مثل ذلك
لا تتشوف نفسه إلى هذا ويكون ذلك مقطوعاً به مثل لو أحلفت
عليه حلفت وكنتَ باراً في يمينك وقد أهدى لك طعاماً ثم خطر
لك أنت طعام واستطبته وبينكما من الصداقة ما تقر عينك إذا
أكل منه فإن نظرت إلى مقتضى مذهب مالك الذي هو سد الذريعة
فالأولى ألا تفعل وإن نظرت إلى باب المعروف لأنهم وسعوا
فيه ما لم يُوَسّعوا في غيره فلا بأس أن تفعل إلا أنه مع
تلك الشروط وفيه دليل على أن قبول الهدية لا يتنافى مع
الزهد لأنه ما فعله الا الله فهو أعلى الطرق وإنما الزهد
في القلب ليس بقلة القبول ولا بكثرته إلا إن كان ممن لا
يملك قلبه من الميل إلى ذلك والاشتغال به فلا يفعل ويكون
ترك القبول غير مخالف للسنة بل يكون من أجل العذر لأن
النبي قد جعل لأهل الأعذار حكماً يخصهم وعَذرهم فيه وكذلك
إن توقع بالقبول مفسدة في دينه فلا يفعل وإنما بينا الجواز
والتفرقة وما نصصنا عليه مع صحة الدين والسلامة من العيوب
والشبهات وإلا فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يتركون
سبعين باباً من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام
وفيه دليل على أن الهدية مما أحل لنا لأنه إذا كانت هدية
نكرة لا ينضاف إليها قبل ولا بعد شيء تتعرف به مثل ما
ذكرنا من هدية الثواب فإنها بهذه الإضافة خرجت عن هذا
الاسم ومثل هدية الحكام من أجل الحكم فإنها رُشا ومثل
الهدية للمذيان ۱ لأنها سُخت ومثل الهدية لمن لك شفاعة
فإنها رباً لقوله عليه السلام من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له
من أجلها هدية فقد
فتح على نفسه باباً عظيماً من أبواب الربا فانتبه واللبيب
فطين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً
۱ المديان من يقرض كثيرا وتأتي بمعنى من يقترض كثيراً
تقدم تخريجه في الحديث ۹۷
۷۱۳
- ١١١ -
حديث من عليه حق فليدفعه أو ليتحلل منه
عَن أبي هريرةَ رضي الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم مَن كانَ عَلَيْهِ حَق فَلْيُعْطِهِ أو
ليتحلله مِنهُ ظاهر الحديث يفيد أن من ترتب عليه في ذمته
حق من الحقوق لا يخلصه إلا الأداء أو التحلل من صاحبه
والكلام عليه من وجوه
منها تبيين جميع الحقوق وكيف الخروج منها حقاً حقاً ومنها
لِمَ ذكر ما عليه ولم يذكر ما له فأما الحقوق فهي على
ثلاثة أقسام إما ماليات وإما بدنيات وهي ضربان ذم وأذاة
مثل جرح أو ضرب وإما أعراض ۱ ولا بد لكل من ترتب في ذمته
من هذه شيء من تخليص ذمته إما بالأداء إن كان مما يمكن فيه
الأداء أو التحلل وإلا خيف عليه العقاب
وأما أداء الماليات فردها إن أمكن وجود صاحبها أو وارثه
وإلا إن كان صاحب الحق ميتاً تصدق بها عنه هذا مع القدرة
أو يرغبه في تحليله مما له عليه فإن لم يكن له شيء بما
يردّ ماعليه فيرغب لصاحبه في تحليله فإن لم يفعل أو لم
يجده فيعقد نيته بالتوبة مع الله وأنه متى فتح الله عليه
في أي وقت فإنه يؤدي بصدق مع الله ويبقى يدعو إلى الله مع
الدوام بأن يسخر الله له صاحبه وإن كان صاحب الحق ميتاً
ولا وارثَ له وليس له ما يتصدَّق به عنه فيعقد أيضاً نيته
مع مع الصدق في التوبة كما تقدم ويُديم الاستغفار لصاحبه
ويترحم عليه ويلجأ إلى الله أن يرضيه عنه فإنه ولي رحيم
فإن كان صادقاً يُرجَى له ذلك
الله
وأما الغيبة وهي
أكبر الحقوق لقوله عليه السلام الربا اثنان وسبعون باباً
أدناه مثل أن يطأ الرجل أمه وأربا الرّبا استطالة لسان
المسلم في عرض أخيه وكيفية التحلل منها بأن تخبر
1 أعراض مفردها عِرْض وهو ما يمدح به المرء أو يدمّ
رواه الطبراني في الأوسط عن البراء رضي الله عنه بلفظ
الرّبا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه =
٧١٤
C
صاحبك بما قلتَ عنه وترغبَ
المغفرة وترضيه بكل ممكن وإن كان ميتاً فهو أصعب
الأمور ولم يبق لك حيلة إلا الدعاء له بالخير والرحمة
ورغبة الكريم على الدوام أن يرضيه عنك فعسى وإن كان غائباً
فتسافر إليه إن أمكن وإلا بالكتب والرغبة
وإن كانت دماء فإما أن تعرض نفسك للقصاص لولاته أو ترضيهم
بالمال ومع ذلك التوبةُ النصوح والكفّارة لأن ذلك أمر خطير
فإن العلماء اختلفوا هل للقاتل من توبة أم لا على قولين
فإن لم يكن أحد من ولاة الدم حيّاً فالتوبة النصوح
والكفارة والدعاء إلى الله الكريم عـ بفضله أن يرضيه عنك
ودوام الخوف والاجتهاد في طلب الشهادة لعلها تحصل
والجراح وما أشبهها من الضرب وشبهه كذلك يفعل فيها إما
قصاص وإما مثل ما قلنا في الدم وفيه إشارة إلى أن الحال لا
يستقيم إلا مع براءة الذمة لأن براءتها أكد من زيادة
النوافل ولذلك جاء أن يوم القيامة يؤتى بالرجل له من
الحسنات أمثالُ الجبال ويكون قد شتم هذا وأخذ مال هذا
فيؤخذ من حسناته وتعطى لأصحاب المظالم حتى تفنى ويبقى عليه
البقايا من التبعات فيؤخذ من ذنوب أصحاب الحق فتوضع على
عنقه فيُلقى في النار ۱
وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بجنازة يسأل هل عليها
دين فإن لم يكن عليه دين صلى عليه وإن كان عليه دين قال
صلوا على صاحبكم ولذلك قال عليه السلام اتَّقِ محارم الله
تكن أعبدَ الناس ۳ فإن باتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية
من التبعات فالقليل من التطوعات مع ينمو ويكون فيه الخير
الكثير هذا كلام كلي
ذلك
وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه
ومعنى أدناها أي أدنى عقوبة وأقلها لمن يتعامل بالربا
كعقوبة من يزني بأمه وإذا كان هذا أقل عقوبة الزنى فكيف
تكون عقوبة أعلاها
1 أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله يوماً أتدرون ما المفلس إن المفلس من أمتي من
يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف
هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من
حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما
عليه
أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار متفق عليه من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل
ترك لدينه قضاء فإن حدث أنه ترك وفاءً صلى عليه وإلا قال
للمسلمين صلوا على صاحبكم قال أبو هريرة فلما فتح الله على
رسوله كان يصلي ولا يسأل عن الدين وكان يقول أنا أولى
بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى من المؤمنين فترك ديناً أو
كلا أو ضياعاً فعلي وإلي ومن ترك مالاً فلورثته ۳ أخرجه
الإمام أحمد والترمذي وقال غريب منقطع وأخرجه البيهقي عن
أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اتق المحارم تكن أعبد الناس
وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن
مؤمناً وأحبّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً ولا تكثر
الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب
وأما تتبعها في الجزئيات فمن تخلص من هذه الكليات يسهل
عليه فعلها ويجدها في كتب العلماء فإنهم لم يُغفلوا منها
ذرّة
وأما كونه لم ينبه على ما لَكَ من الحقوق فلأنك قد عرفت
قدر ما لَكَ في الحق الذي لك ولذلك قال أهل التوفيق كن عبد
الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم فإن المظلوم ينتظر
النصرة من الله إما في هذه الدار أو في الآخرة والظالم بضد
ذلك
فرغ
وبالتجربة على ما ذكره العلماء نقلاً أنه كل من صَدَق مع
الله في توبته أنه يسخر له أصحاب الحقوق في هذه الدار ويجد
على ذلك راحة معجلة وقد ذكر أن بعضهم مرّ بين البساتين
ووجد حبة تين ملقاة في الطريق فأكلها فلما قال ومَنْ جعلني
في حِلّ فنقر باب البستان الذي كانت بإزائه فخرج له الحارس
فذكر له حاله ورغب منه المحاللة ۱ فقال إني حارس وليس ذلك
لي وصاحب البستان بأرض المغرب فسأل عن بلده و داره واسمه
وأخذ في السفر إليه
وكان صاحب ذلك البستان ممن فتح الله عليه في دنياه فلما
بلغ إليه بعد أيام عديدة وتعب شدید ضرب الباب واستأذن عليه
فأمره بالدخول فلما قص عليه القصة وأتاه بأمارة من الحارس
يصدقها قال له لا أجعلك في حِلّ إلا أن تقضي لي حاجة
فأنعَمَ له فيها ٢ وقال له ما هي فقال له إن لي بنتاً
مبتلاة ولا يرضى أحد أن يتزوجها فتزوجها أنت فقال له نعم
فوجه للشهود فحضروا وعقدوا النكاح واشترط عليه العيب الذي
ذكر له وأنزله وأمره بالدخول على الصبية
فلما دخل رأى ما لم يكن في وقتها أجملُ منها ولا أغنى فلما
رآها قال لها ما أنتِ التي
تزوجت
فجاءه الأب فقال له هذه التي زوّجتك وليس لي ولد ولا ابنة
إلا هي وقد كتبت لها جميع
مالي وأمتعك المال هي لك خادم وأنا عبد تتصرف فينا كيف شئت
والجنان لك فسأله عن موجب ذلك فقال له أين أجد أنا لابنتي
من يكون له دين مثل دينك الذي مشيت
هذه الأيام كلها من أجل حبة تين وكيف لا أملكك قيادي
وقيادها
فكان سبب خيره طَلَبَهُ براءة ذمته فإنه الأصل في السلامة
وتكون السلامة أولاً بأداء الفرائض وخلاء الذمة من التبعات
عافانا الله فيمن عافى بمنه وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
١ كذا والصواب المحالة
٢ أي أقرّ عينه بقبول قضاء حاجته
٧١٦
حديث جواز البيع في السفر وأحكام أخر
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ الله عَنهُما قالَ كُنَّا مَعَ
النَّبي صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وكُنتُ على بكرٍ ١
فقالَ النَّبِيُّ وَ لا لِعُمر بِعْنِيهِ فَبَاعَهُ فَقالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ لَكَ يا عَبدَ الله
ظاهر الحديث يدل على جواز البيع في السفر والكلام عليه من
وجوه
منها قول ابن عمر رضي الله عنه كنت على بَكْرٍ صَعْب
يَرِدُ عليه سؤال وهو أن يقال ما فائدة قوله صعب ولو اقتصر
على ذكر البكر لكان كافياً ولَحَصَل منه المقصود وهم كانوا
يختصرون من اللفظ أكثره مع إيصال الفائدة والجواب عنه أنه
إنما ذكر الصَّعب لكي يبيّن به حكماً آخر وهو أن صعوبة
البكر كانت من بعض المثيرات لشراء النبي إياه فإن بشرائه
إياه يُرجَى ذهاب تلك الصعوبة وفوائد أخر على ما يُقرَّر
بعد فمن جملة فوائده ما ذكرناه في أول الحديث وهو جواز
البيع في السفر
ومنها أن البيع ينعقد باللفظ دون افتراق يقع رداً على من
ذهب إلى غير ذلك ومنها جواز التصرف في المشتَرَى قبل قبضه
إذا كان عَرَضاً أو حيواناً بخلاف الطعام المكيل
ومنها جواز التصرف في السلعة قبل دفع الثمن
ومنها جواز طلب السلعة للبيع وإن كان صاحبها لم يعرضها
للبيع ومنها أنه أدخل بذلك سروراً على عمر رضي الله عنه
لأن البركة تحصل له بالثمن الذي
يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه أدخل بذلك
السرور على ابن عمر رضي الله عنه من وجهين أحدهما لما يرجى
من ذهاب صعوبة الجمل البركة شراء النبي إياه والآخر أنه
وَهَبَه له
۱ البكر الفتى من الإبل وصَعْب غير مُذَلَّل
۷۱۷
ن
ومنها أنه أدخل بذلك السرور على عمر رضي الله عنه لأن
المسرَّة للابن مسرة للابن والأب ومنها ما يترتب من الندب
إلى أن السيد في قومه أو عشيرته مأمور أن ينظر في حال
إخوانه فيلطف بالضعيف ويواسيه ويدخل السرور على إخوانه
ابتداء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في سفره هذا مع
ابن عمر حين راه على ذلك الجمل بذلك الحال ولهذا يقال
الإخوان على ثلاثة أضرب فالأول أن تكون تنظر أخاك بعين
الفتوة فتفضله على نفسك كما قال تعالى ويؤ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۱ وكما فعل علي
رضي الله عنه مع أبي بكر رضي الله عنه في الإسلام لأن
علياً رضي الله عنه كان إذا لقي أبا بكر رضي الله عنه
ابتدأه بالسلام فلما أن كان يوماً لقيه فلم يسلم عليه
فابتدأه أبو بكر بالسلام وردّ عليه عليّ فجاء أبو بكر إلى
رسول الله فذكر له ذلك فإذا بعلي قد جاء فقال له النبي ما
منعك أن تبتدىء أبا بكر اليوم بالسلام فقال يا رسول الله
إني رأيت البارحة قصراً في الجنة فأعجبني فقلت لمن هذا
فقيل لمن يبتدىء أخاه بالسلام فأردت أن أوثر اليوم أبا بكر
به على نفسي وكما فعل الصحابة رضوان الله عليهم حين تثقلوا
بالجراح في قدح الماء وقد تقدم ذلك في غير هذا الحديث
والثاني أن تنظر لأخيك مثل ما تنظر لنفسك لقوله عليه
السلام لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه ۳ وقوله عليه السلام المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد
بعضه بعضا ٤
والثالث أن تنظر لأخيك مثلما تنظر لعبدك - نعني في المطعم
والملبس وقيامك له بما يصلح حاله - وأن تفعل ذلك لا بعين
الاحتقار له والرفعة عليه لأن العبد يلزمك إطعامه وكسوته
وكل ضروراته فإن لم تقدر على ذلك لم يجز لك إمساكه وأمرت
ببيعه وكذلك الأخ يلزمك منه هذا الأمر فإن لم تقدر على ذلك
من فاقة أو غير ذلك فالعذر إذ ذاك تبديه له حتى ينصرف
بالتي هي أحسن من غير تغيير يقع له منك فالعذر للأخ عند
العدم كالبيع للعبد عند العدم لتوفية حقوقه وهذا أقل
المراتب
وفي الحديث دليل على أن المرء إذا تعرض له فعل من أفعال
البر فإن قدر على أن يفعله - وهو يتضمن غيره من الأفعال
الحسنة - كان أولى مما يتضمن ذلك الفعل وحده لأن النبي
لولو
1 سورة الحشر من الآية 9
لم نقف على مصدره
۳ رواه ابن حبان في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه
٤ متفق عليه من حديث أبي موسى رضي الله عنه
۷۱۸
أراد إزالة صعوبة الجمل لا غير لضربه بقضيبه كما فعل عليه
السلام لبعير كان لبعض الصحابة كذلك فهرول بين يديه وزال
ما كان به أو لركب البكر كما ركب فرساً كان قطوف ۱ لأبي
طلحة ٢ رضي الله عنه فرجع الفرس عند ذلك بحراً لا يُلحق
ولكنه عليه السلام لما أراد إزالة ما كان بالجمل وأمكن أن
يتوصل إلى أفعال كثيرة مع تضمن الأول فعَل ذلك ولم يقتصر
على الفعل الواحد
لأنهم عملوا على قدم الإحسان فالأعمال في
ومثل ذلك من أراد أن يتصدق بصدقة فالأولى له أن يتصدق على
قريبه لأنه يحصل له بذلك فعلان وهما الصدقة وصلة الرحم إلى
غير ذلك من هذه الوجوه وبهذا المعنى فضَل أهل الصوفة
الظاهر واحدة ومنازلهم أعلى من منازل غيرهم لأن كل محسن
مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً محسناً وهم قد عملوا على
ذلك حالاً وصححوه مقالاً كما جاء في الحديث المأثور
المشهور وهو حديث جبریل علیه السلام حين سأل النبي عن
الإسلام والإيمان ثم قال له مع ما الإحسان فقال عليه
السلام أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك۳
والله الموفق المستعان بمنه وفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ دابة قطوف مبطئة غير سريعة
٢ أبو طلحة بن سهل الأنصاري النقيب شهد بدراً وما بعدها
وهو من أهل السوابق في الإسلام وهو المتصدق بأحب أمواله
إليه بَيْرَحاء وهو موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر
بني جديلة توفي سنة ٣٥ للهجرة
وصلى عليه عثمان رضي الله عنه
۳ متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه
۷۱۹
- ١١٣ -
حديث جواز كراء الأرض للمسلم ومنعها عن الذمي
عَن جابر ١ رَضِيَ الله عَنهُ قالَ قالَ النَّبِيُّ الله
مَن كانَت لَهُ أرض فَليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى
فَليُمسِكْ أرضَهُ
ظاهر الحديث يدل على جواز كسب الأرض وتحريم كرائها البتة
بعَرَض كان ذلك أو بغيره وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم
من أجاز على الإطلاق ومنهم من منع على الإطلاق ومنهم من
فرّق فأجاز كراءها بالعين والعَرَضِ ولم يُجزه بالطعام وهو
مذهب مالك رحمه الله تعالى وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث
كل منهم ذهب إلى حديث وعمل عليه ومن شيم مالك رحمه الله
تعالى الجمع بين الأحاديث والعمل على مقتضى كل واحد منها
من غير إبطال
أحدها فجمع بين كل الأحاديث التي جاءت في ذلك برأيه السديد
وبما أيده الله به من التوفيق وقد ذكر كيفية ذلك أهل الفقه
في كتب الفروع فلم يبق عليه من الأحاديث التي جاءت في كراء
الأرض إلا الحديث الذي نحن بسبيله وهو منع كرائها البتة
لكن قد وجهوا ذلك بأحسن توجيه ونحتاج أن نبديه إذ هو
المقصود من الحديث
فإنه قد روي أن سائلاً سأل جابرا رضي الله عنه حين أخبر
بذلك فقال أرأيت لو أكريتها بالذهب والفضة فقال جابر لا
بأس إذاً إنما حُرِّم كراؤها بجزء منها أو بما يخرج منها
وهذه الزيادة جاءت من طريق واحد وما كان كذلك وساعده النظر
والقياس وكان جارياً على قواعد الشريعة وجب العمل به فلم
يبق لمن تعلق بظاهر الحديث حجة والله أعلم
۱ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري
السلمي صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي وروى عنه
جماعة من الصحابة له ولأبيه صحبة غزا تسع عشرة غزوة وكانت
له في أواخر أيامه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم
روى له البخاري ومسلم وغيرهما / ١٥٤٠ / حديثاً توفي سنة ٧٨
هـ/ ٦٩٧م انظر الحديث ٥٣
وقوله عليه السلام فإن لم يفعل ۱ فلْيُمسك أرضه يَرِدُ
عليه سؤال وهو أنه عليه
السلام أباح لصاحب الأرض أن يتركها بغير زراعة وبغير منفعة
وذلك إضاعة لها وقد نهى عليه السلام عن إضاعة المال
والجواب عنه أنه عليه السلام إنما نهى عن إضاعة عين المال
وعن منفعته التي لا تُجبَر ولا تُخلف مثل الثمرة إذا
تُرِكت من غير سقي ومن غير تذكير فذلك إضاعة لمنفعتها ولا
تُخلف ما ضاع منها هذه السنة في السنة الثانية والأرض ليست
كذلك لأنها إذاتُركت بغير زراعة هذه السنة فهي تُخلِف
السنة القابلة أضعاف ذلك ثم إنها لو تركت بغير زراعة مرة
واحدة فقد لا تخلو من المنفعة فيها وهو ما ينبت فيها من
الربيع والحطب والحشيش وغير ذلك مما ينتفع به المسلمون
للرعي والحش وغير ذلك
وقد يستدل بالحديث مَن يَرى أن التسبب لمندوب إليه ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت له أرض فليزرعها أو
ليمنحها فأمر بهذين القسمين أولاً ثم قال عليه السلام فإن
لم يفعل۱ فليمسك أرضه ومسك الأرض من المباح فدل ذلك على
أنه أمر أولاً بفعل المندوب فإن لم يفعل المرء ذلك وترك
المندوب فحينئذ يرجع إلى المباح فيمسك أرضه لكن هذا ليس
بالقوي من قبل أن التسبب والمنحة للأخ ليستا للندب على
الإطلاق وقد تكون مندوبة وقد تكون مباحة فإن كان التسبب من
حاجة في وجه حلال ولم يُخِلَّ ذلك بدينه فذلك مندوب إليه
وإن كان غير محتاج وكان وجه التسبب حلالاً ولا يخل بدينه
كان ذلك مباحاً والهدية قد تقدم تقسيمها في الحديث الذي
روته عائشة رضي الله عنها أن النبي ل وكان يقبل الهدية
ويثيب عليها فلما أن كان هذان
القسمان يحتملان الندب والإباحة فلأجل ذلك استحقا التقديم
لا أنهما مندوبان على الإطلاق وفيه دليل على جواز تملك
الأرض يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام من كانت له أرض وفيه
دليل على منعها من الذمي يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام
ليمنحها أخاه يعني أخاه
في الإيمان
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 كذا ونص الحديث فإن أبى
۷۱
-١١٤- - ١١٤ -
حديث الأمر بتحريم الرجوع في الصدقة
عَن عُمرَ رضيَ الله عَنهُ قالَ حَمَلتُ على فَرس في
سَبيلِ الله فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ فَسَأَلتُ رَسولَ الله
فَقالَ لا تَشْتَرِهِ ولا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ
ظاهر الحديث يدل على تحريم شراء الصدقة وإن كانت بشراء
صحيح وقد اختلف العلماء في ذلك فمن قائل يقول بالإجازة ومن
قائل يقول بالكراهة ومن قائل يقول بالتحريم - وهو الأظهر
والله أعلم - كل منهم مستدل بنض هذا الحديث وقد زيد في
الحديث من طريق آخر كالكلب يعود في قينه
فوجه من قال بالإجازة هو أن قوله عليه السلام لا تشتره ولا
تَعُد في صدقتك نهي والنهي لا يدل على فساد المنهي عنه على
الإطلاق عنده - وهو أحد الأقوال للعلماء - وقد دل دليل أن
ذلك جائز لأنه عليه السلام مثله بالكلب يعود في قيئه وذلك
جائز له فكذلك شراء
على
الصدقة جائزة
ومن قال بالكراهة وجه قوله قريب من هذا المعنى وهو أن فعل
الكلب ذلك جائز له لكنه قذر مستخبث فكذلك شراء الصدقة
يُستخبَتْ ويُكرَه لأن المثال مثل الممثل به
ووجه من قال بالتحريم - وهو الذي عليه الجمهور - هو أن نص
الحديث نهى عن شراء الصدقة والنهي يدل على فساد المنهي عنه
- عند بعض العلماء - وهذا قد قارنه ما يؤيد أنه على الفساد
والتحريم وهو أنه عليه السلام مثل من فعل ذلك بفعل الكلب
وهو عَوْده في قيئه وليس في الحيوان كله من يفعل ذلك غيره
لأن الحيوان كله اجتمعت طباعه على النفور عن ذلك الفعل
ومنعه فكأنهم حرموه على أنفسهم وضعاً فكأنه عليه السلام
يقول كما أن الحيوان اجتمع على الامتناع مما فعله الكلب
طبعاً فكذلك شراء الصدقة ممنوعة شرعاً وقول عمر رضي
الله عنه حَمَلت على فرس في سبيل الله يحتمل أن يكون قوله
حَمَلت
بمعنى تصدقت ويحتمل أن يكون بمعنى أعرت لكن الإعارة ليست
هي المراد لأنه لو كان عاريَّة لما جاز للمستعير بيعه وقد
يحتمل قوله حملت غير هذين الوجهين لكن القرائن تدل على أنه
كان صدقة لا غير ذلك لقول النبي لا تعد في صدقتك فلم يبق
إلا أن يكون تصدق به على رجل يجاهد في سبيل الله تعالى
وإنما أراد عمر رضي الله عنه أن يشتري الفرس حين وجده لأنه
كان عارفاً به وبجودته وقد يكون الفرس ضاع عند من تصدق به
عليه لقلة الأكل أو لغير ذلك فأراد أن يشتريه لكي يزيل ما
أصابه ويرده إلى ما كان وهي الصدقة هذا الوجه الذي
أراده عمر رضي الله عنه - والله أعلم - لأنه هو الذي يليق
به ولا يلتفت إلى من تأول غير ذلك والحديث دليل على أن
المؤمن متوقف في أموره لا يعمل شيئاً في كل تصرفه إلا بعلم
من الكتاب أو من السنة فإن كان جاهلاً بذلك فليسأل ولا
يجوز له الإقدام على العمل بغيرِ علم لأن مر رضي الله عنه
مع مع علمه ودينه ومع شجاعته وإقدامه على أمور لم يُقْدِمْ
عليها غَيْرُه ونزول القرآن على لسانه في مواضع لما أن وجد
الفرس يباع في السوق ولم يتقدم له علم بما الحكم فيه من
الشارع عليه السلام توقف عن شرائه حتى سأل النبي ما هو
الحكم فيه وهذا هو المعنى الذي أراد عليه السلام بقوله في
غير هذا الحديث المؤمن وقاف ۱ لأن المؤمن لم يبق له اختيار
ولا تدبير وإنما أمره كله واقف مع كلام الشارع عليه السلام
فما أُمِر به امتثله وما نُهِيَ
عنه
انتهى عنا عنه
ثم بقي على الحديث سؤال وارد وهو أن عمر رضي الله عنه أخبر
بأنه تصدق بالفرس وذكر الصدقة ممنوع بقوله تعالى لَا
تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم بِالْمَنِ وَالْأَذَى قال
المفسرون الأذى
هو ذكر الصدقة للناس
والجواب عنه أن ذكر الصدقة إنما يكون إذاية ۳ إذا كان
ذكرها لغير حاجة وأما إذا أدت الضرورة إلى ذكرها فلا بأس
وعمر رضي الله عنه إنما ذكر الصدقة لأجل ما عرضه من
الضرورة لذكرها لأن بذكرها يعرف حكم الشارع عليه السلام
فيما أراد أن يفعل فإن قال قائل ذلك غير ممتنع أن لو اقتصر
على ذكرها للشارع عليه السلام ولكن لما أن حدث الناس بذلك
وَرَوَوْا عنه ما وقع له من ذلك ارتفعت تلك العلة قيل له
وجه العلة التي لأجلها صرح بذلك للناس ال
1 أخرج الديلمي عن أبان عن أنس رضي الله عنه المؤمن كيس
فطِن حَذِر وقاف مثبت لا يعجل عالم ورع والمنافق هُمَزَة
لَمَزة حُطَمَة لا يقف عند شبهة ولا عند محرم كحاطب الليل
لا يدري من أين اكتسب ولا فيما
أنفق
سورة البقرة من الآية ٢٦٤ ۳ كذا ويربد اذِيَّة
وقوله
واضحة أيضاً لقوله عليه السلام من هدى إلى هدى كان له أجره
وأجر من عمل به ۱ عليه السلام من بلغ عني حديثاً واحداً
يُقيم به سُنّة أو يُزيل به بدعة كنت له شفيعاً يوم
القيامة إلى غير ذلك من الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى
ولما أن كان في مسألة عمر رضي الله عنه حكم شرعي وقاعدة من
قواعد الأحكام أدته الضرورة لذكر ذلك للناس لكي يُقتدى به
في ذلك ولكي يقرر الدين ويبيّنه فكانت الضرورة الأخيرة
أكثر تأكيداً من الأولى
ولهذا المعنى جاز لأهل الصوفة التحدث مع إخوانهم بما يُظهر
الله على أيديهم من الكرامات وخرق العادات لأن ذكرهم لـ
بين إخوانهم سبب لنشاطهم وسلوكهم ووصولهم إلى رضى لأنه من
باب من هدى إلى هدى كما تقدم ومن باب قوله تعالى
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبَرِ
ربهم
وَالتَّقْوَى ۳ هذا إذا كان ذكر ذلك بين الإخوان السالكين
لأن الضرورة تحملهم على الذكر لتلك العلة التي أشرنا إليها
وأما لغيرهم من العوام أو ممن ليس في طريقهم فذلك لا يسوغ
إذ لا فائدة في إخباره بذلك لهم إلا لكونهم يعظمونه
ويحترمونه أو لغير ذلك من الوجوه الممتنعة فالعمل كله على
اختلاف أنواعه من صدقة وصيام وصلاة وغير ذلك ذكره محذور
لأنه داخل في عموم الآية التي تقدم ذكرها وهي قوله تعالى ﴿
لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُم ﴾ وقال في الآية الأخرى وَلَا
تُبْطِلُوا فإن كان ذلك لعذر ـ والعذر ما قد أظهرناه -
يخرج بذلك من عموم الآية ويرجع من
أَعْمَلَكُمْ المندوب والمرغب فيه
وفيه دليل لمالك رحمه الله تعالى في منعه الربا المعنوي
لأن البيع الثاني عنده كأن لا بيع وأن السلعة بين الثمنين
لغو وجاءت الفضة متفاضلة غير يد بيد وشرح هذه المسائل في
كتاب بيوع الآجال من كتب الفروع في الفقه
وفيه دليل على فصاحته رضي الله عنه يؤخذ ذلك من قوله
فرأيته يباع فسألت رسول الله فحذف الجملة الثانية من
الكلام وهي سألت عنه معناه هل يجوز لي شراؤه أو ليس يجوز
لي
ذلك فحذفها لدلالة الكلام عليها واستغنى عنها بقوله عنه
والله الموفق بمَنْه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله
عنه بلفظ من دعا إلى هدى إلخ لم نعثر عليه بهذا اللفظ
وإنما وجدنا قريباً منه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
عند أبي نعيم في الحلية والخطيب البغدادي في شرف أصحاب
الحديث ۸۰ من أدى حديثاً إلى أمتي لتقام به سنّة أو تثلم
به بدعة
فله الجنة وفي إسناده من يتهم بالكذب
۳ سورة المائدة من الاية ٤ سورة محمد من الآية ۳۳
٧٢٤
-١١٥-
حديث تحليل نكاح المبتوتة لمطلقها الأول
عَن عائشة رضي الله عنها قالت جاءَتِ امرأة ۱ رفاعةَ
القُري إلى النَّبيِّ
فَقَالَتْ كُنتُ عِندَ رفاعَةَ فَطَلَّقني فأبَثَّ ۳ طلاقي
فَتَزوَّجتُ عَبدَ الرَّحمنِ بنَ الزَّبير وإِنَّ
ما مَعَهُ مِثلُ هُدبةِ الثّوب ٥ فقال أتُريدِينَ أَن
تَرجِعي إلى رِفاعَةَ لاَ حتّى تذُوقي مُسَيْلَتهُ
وَيَذُوقَ عُسَيْلَتُكِ وأبو بَكرٍ جالِسٌ عِندهُ
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم المطلقة المبتوتة على من طلقها
حتى تنكح زوجاً غيره بنكاح صحيح وَيَطَأَها وَطْئاً مباحاً
قوله فابَةً أي وصل إلى الثلاث التي الرجعةُ بعدها ممنوعة
وهذا من كثرة اختصارها وبلاغتها في الفصاحة لأنها شكت
حالها للنبي وأتت إليه بمسائل جملة بلفظ قليل لأن قولها
فأبت إلى قولها فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزَّبِيرِ وإنَّ ما
معه مثل هدبة الثوب معناه أنها تقول له ثم بعد هذا الأمر
الذي أصابني من هذا الرجل الذي تزوجت به ـ وهو عبد الرحمن
ـ ليس معه مما يبلغ به النساء إلى أغراضهن ـ تعني في
النكاح - فكنت عن ذلك بأحسنَ ما يكون من الكناية لأن قولها
إنّ ما معه مثل هدبة الثوب كناية منها عن الفرج فهي تقول
ليس معه بما يصيب النساء لأن فَرَجه مثلُ هدبة الثوب وهدبة
الثوب الخيوط التي تتعلق بالثوب وتتدلى منه وهي الأطراف
1 امرأة رفاعة القرظي اسمها تميمة بنت وهب رفاعة القرظي
ابن سموءل من بني قريظة ۳ آبت طلاقي جعله باتاً لا رجعة
فيه
٤ عبد الرحمن بن الزبير هو ابن باطا القرظي وكان تزوج
تميمة بنت وهب بعد طلاقها من رفاعة فاعترض عنها ولم يستطع
أن يمسها فشكته إلى رسول الله فذكر حديث العسيلة ٥ هدبة
الثوب طرف الثوب الذي لم ينسج والمقصود به هنا شدة
الارتخاء والليونة
٦ عسيلته كناية عن لذة الجماع وحلاوته
٧٢٥
وقوله عليه السلام أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا تذوقي
عُسيلته ويذوق عُسَيْلَتك فهذا أيضاً من أبدع ما يكون
الإبداع في الفصاحة والاختصار مع إيصال الفائدة الكناية
لأنه عليه السلام كَنَى عن نفس الجماع بقوله حتّى تذوقي
عُسَيْلَتَهُ فكنَى بالعسل عن
الجماع لأن العسل فيه حلاوة ويُلتذ بأكله والجماع له حلاوة
من نسبته أيضاً ويُلتذ به وقولها وأبو بكر جالس عنده فيه
دليل على أن الحياء في الدين عند الضرورة لبيان ما يحتاج
المرء من دينه ممنوع لأنها سألت النبي الي الله عنه وهذا
الأمر وهو مما يُستحيا منه وأبو بكر حاضر فكان ينبغي أن
يكون ذكر ذلك إذ لا بد منه وهو وحده ولكن لما أن كان لا
بدَّ لها من السؤال عن ذلك ولم تجد النبي الله وحده لم
يمنعها الحياء أن تسأل بحضرة أبي بكر ثم إن أبا بكر رضي
الله عنه صهر رسول الله وهذا الأمر مما يُستحيا منه بحضرة
الأصهار فلم يَنْههَا النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤالها
وأفصح لها بمرادها مع حضرة أبي بكر رضي الله عنه وإن كان
صهره هذا مع شدة حيائه عليه السلام لكن لما أن كان الأمر
في الدين لم يمنعه الحياء من الكلام به ولهذا قالت عائشة
نِعْمَ النِّساءُ نِساءُ الأنصارِ لم يَمنَعْهُنَّ الحياءُ
من أن يَتَفَقَّهُنَ في الدين۱ فالحياء في مثل هذا الأمر
لا يسوغ وهو ممنوع شرعاً
لكن يعارض هذا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه أمر المقداد
أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا
أمْذى ٢ ماذا عليه وعلل ذلك بأن قال استحييت أن أسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته والجمع بينهما هو أنه
إذا وجد المرء من يقوم مقامه فلا بأس وإن لم يجد فلا يجوز
له أن يسكت عنه لأن النبي ا ا ا ا ا ل ل لم يكن له بد من
الإفصاح بذلك لأن غيره لا يقوم مقامه فيه وعلي
رضي الله عنه وجد سبيلا إلى وصوله إلى الفائدة التي أراد
من غير أن يتعرض بنفسه إلى السؤال وفيه دليل على أن البشر
معذورون فيما جبلت عليه البشرية من احتياجهم إلى الأكل
والشرب والجماع وما أشبه ذلك وأنهم معذورون في التسبب إلى
ما يزيلون به ذلك إذا لم يقدروا على الصبر عنه إلا أنه على
لسان العلم وإلا فلا عذرَ فيه يؤخذ ذلك من كون هذه
المباركة لم تقدر أن تستغني عن النكاح لقوة الباعث عليه في
ذلك فشكت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَذرها في
الشكوى
۱ رواه مسلم في الحيض باب استحباب استعمال المغتسلة فرصةً
من مسك في موضع الدم والفرصة هي قطعة قطن أو صوف أو خرقة
تتمسح بها المرأة من الحيض امذى خرج منه المذي عند
الملاعبة والتقبيل والمذي ماء رقيق يخرج من مجرى البول عند
الملاعبة
والتقبيل من غير إرادة
۳ رواه البخاري في الغسل باب غسل المذي والوضوء منه وفي
العلم باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال ورواه مسلم في
الحيض باب المذي
٧٢٦
لأنه لم يُشَرِّب ۱ عليها ولا زَجَرَها ولم يَعْذرها في
قاعدة الشرع ومنعها بأن قال لا حتى تذوقي عسيلته
وفيه بحث هو أن يقال لم قال حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك
ولم يخبر بالوصف الواحد والجواب عن ذلك أنه لما كَنَى عما
يجد المتناكحان من لذة النكاح كما يجده اكل العسل فلا يكون
النكاح الصحيح إلا بهذين الوصفين لأنه إذا كان أحدهما
قوِيَّ الشهوة للنكاح أمنى قبل بلوغ الختان إلى الختان
وهذا الإمناء هو الذي عبر عنه بالعسيلة فيكون قد أصاب
عسيلة صاحبه ولم يحصل صفة النكاح الذي يُحل المطلقة ثلاثاً
لأنه لا يحصل حتى يجاوز الختانُ الختان ولا يجد الاثنان
حلاوة النكاح الذي هو الإمناء ۳ غالباً إلا بعد حصول الصفة
المذكورة تُحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول وهو مجاوزة
الخِتانِ الخِتان فمن أجل هذه العلة ذكر
التي
العُسَيْلة مرَّتين
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 لم يثرب عليها لم يلمها ولم يعنّفها الختان موضع القطع
من الذكر والأنثى
۳ الإمناء إنزال المني
۷۷
١١٦ - <-11
حديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
عَنِ ابنِ عباس رضيَ الله عَنهُما قالَ قالَ النَّبيُّ صلى
الله عليه وسلم فِي بِنتِ حَمزةَ لاَ تَحِلُّ لي يَحرُمُ
مِنَ الرَّضاعِ ما يَحرُمُ مِنَ النَّبِ هِيَ بِنتُ أخي
مِنَ الرَّضاعةِ
ظاهر الحديث يفيد التحريم بالرضاعة كما هو بالنسب
6
وفيه دليل على أن للولي أن يخطب لوليته من يرتضيه من
الرجال لأن ابنة حمزة خُطبت للنبي ورغب فيها وهذا أمر قد
يعافه بعض أهل هذا الزمان وهو مخالف للسنة بدليل الحديث
الذي نحن بسبيله هذا من جهة السنة وإذا وقع النظر في معنى
ذلك تأكد الأمر فيه حتى إنه اكد من خطبة الرجل المرأة لأن
الرجل إذا تزوج فأمْرُ الفراق بيده فإن أعجبه ما أتاه وإلا
تركه ولا مانع له منه والمرأة ليس بيدها ذلك فإذا حصل لها
رجل غير مرضي وقعت في حيرة ونُشْبة ١ ولا انفكاك لها منه
غالباً
فتأكد الأمر أن يكون المرء ينظر لوليته ويخطب لها لعله أن
يقع على أهل الفضل والدين لأنه إذا أعطاها لمن يرتضيه في
الدين فهي بين أمرين إما أن يوفق الله بينهما فتستريح
الولية بذلك وتنال خير الرجل في الدنيا وفي الآخرة وإن كان
غير ذلك فقد خلص من ظلمها لأن أهل الدين لا يقعون في الظلم
البتة بل إذا وقع الفراق فلا بد أن تكون المرأة قد نالت من
بركته شيئاً فيحصل لها الخير من كلا الأمرين بل أهل الدين
والخير سيرتهم تقتضي ألا يقع الفراق لأنهم لا يتزوجون إلا
الصلاح دينهم وامتثالاً لسنة نبيهم ومن تزوج لهذا المعنى
لا ينظر إلى الجمال ولا إلى المال ولا إلى حسن الهيئة
والكمال وإنما ينظرون إلى من يوافقهم ويعينهم على مرادهم
وما هم إليه
۱ النُّشْبَةُ من الرجال الذي إذا نَشب بشيء لم يكد يفارقه
ومنه أنشب مخالبه به وأنشب الصائد علّق الصيد
بحبالته وهو كناية عن صعوبة تخلص الزوجة
۷۸
صائرون وعليه قادمون من أمر آخرتهم فتأكد الأمر لأجل هذا
المعنى في خطبة أهل الخير
والصلاح من النساء للرجال
وفي الحديث دليل لأهل الصوفة لقولهم بجبر القلوب لأن ابنة
حمزة عما نقل عنها كانت في الجمال لها الكمال فخطبت إلى
رسول الله فأدركت نساءَه الغيرة من ذلك فقال عليه السلام
لا تحل لي وبين العلة المانعة له منها حتى جبرهن بذلك فكان
في إخباره عليه السلام بذلك فائدتان تقعيد قاعدة من قواعد
الشريعة وجبر نسائه مما كُنَّ يتوقعن
ولا يظن ظان أن غيرتهن كانت لحظوظ أنفسهن إذ ذاك لا يَسُوغ
في حقهن إذ هُنَّ مختارات لخير البرية وإنما كانت غيرتهن
الله عزّ وجلّ لأن كل واحدة منهن تريد أن تتقرب إلى رسول
الله بكل ممكن يمكنها لعلها تتقرب بذلك إلى الله عزّ وجلّ
فمحبتهن له كانت لأجل الله
ومحبته عليه السلام لهن وتفضيل بعضهن على بعض كانت لأجل
الله أيضاً ولما خص الله به كل واحدة منهن وهن أجلّ من أن
تقع المحبة منهن لسبب الذوات والأشخاص بل هذا الحال أوصى
به عليه السلام لأمته فقال تَتَزَوَّج المرأة لجمالها
ومالها ودينها وحَسَبها ۱ ثم قال عليه السلام عليك بذات
الذين تَرِبَتْ يداك فأخبر عليه السلام لِمَ تُتَزَوَّجُ
المرأةُ ثم أرشد إلى ما هو الأصلح والأسد
ولأجل هذا المعنى كان عليه السلام يفضل عائشة على غيرها من
نسائه حتى قيل له مرة أي النساء أحب إليك قال عائشة وهذا
الإخبار قد يستفز الشيطان بعقل بعض من يسمعه وهو غير عالم
بحال النبي وبسيرته فيظن أنه أحب عائشة لأجل الصغر والجمال
وذلك باطل بدليل ما قدمناه وقد صرح عليه السلام بالعلة
التي أشرنا إليها وذكر لم فضلها على غيرها حين سأله نساؤه
أن يعدل بينهن في المحبة فقال عليه السلام في حق عائشة إنه
لم يوح إليّ في فراش إحداكن إلا في فراشها ۳ فكان تفضيله
عليه السلام لها من قبل أن الله عزّ وجلّ فضّلها وخصها
بذلك وقد قال عليه السلام خذوا عنها شطر دينكم ٤ وقد توفي
عنها عليه السلام وهي ابنة ثمان عشرة سنة والعادة تقتضي أن
من كان في ذلك
۱ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ تنكح
المرأة لأربع رواه البخاري في الفضائل ومسلم عن عمرو بن
العاص رضي الله عنه
قطعة من حديث رواه الشيخان في فضائل الصحابة باب فضل عائشة
رضي الله عنها ٤ قال ابن القيم في المنار حديث باطل وكذب
مختلف وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث
الموضوعة ص ۳۹۹ رقم ۱۱۷۹ قال ابن حجر لا أعرف له إسناداً
ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في نهاية ابن الأثير
وإلا في الفردوس بغير إسناد وسئل المزي والذهبي فلم يعرفاه
كذا في المقاصد
السن من النساء ليس له قابلية للعلم لأجل صغره ثم إنها مع
ذلك أخذ عنها شطر الدين وهذه مزية كبرى خصها الله بها
وفضلها بذلك على غيرها وقد جاءت آثار في فضلهن بأجمعهن
وآثار بفضل كل واحدة منهن بشخصها فكان عليه السلام يفضل كل
واحدة بحسب ما فضلها الله به وخصها فكان أصل المحبة منه
ومنهن الله لا لغيره ولا يظن أحد فيهن غير ذلك إلا من جهل
قدرهن وقاس أحوالهن على أحوال غيرهن والله الموفق للصواب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
es
حديث النهي عن مدح الرجل في وجهه
عَن أبي مُوسى۱ رضي الله عَنهُ قالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم رَجُلاً يُثني على رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ في
مَدحِهِ فَقالَ أهلَكتُم أو قطعتُم ظَهرَ الرَّجُلِ
ظاهر الحديث يدل على تحريم مدح الرجل في وجهه لأن النبي
شَبَّه ذلك بالقطع أو الهلاك وذلك ممنوع لكن يعارضه قوله
عليه السلام في عبد الله بن عمر نِعْمَ الرّجُل لو كان
يقوم الليل وعبد الله بن عمر رضي الله عنه حاضر يسمع وتلك
تزكية له وثناء عليه والجمع بينهما من وجوه
الأول أن ما قاله النبي لا لا لا اله الا ابن عمر لم يكن
منه ابتداءً ولا جواباً لسؤال سائل وإنما كان ذلك تفسيراً
لرؤيا رآها ابن عمر فاقتضى تفسيرها ما قاله النبي صلى الله
عليه وسلم وذلك أن عبد الله بن عمر كان يرى الناس يأتون
النبي الله بِمَرَاء ٣ فيفسرها لهم فيتمنى في نفسه أن لو
رأى رؤيا فيسأل عنها النبي كما يفعل الناس فرأى رؤيا فسأل
عنها فاقتضت رؤياه أنه من الصالحين لكن نقص منه كونه
1 أبو موسى الأشعري هو عبد الله بن قيس من بني الأشعر من
قحطان صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين وأحد الحكمين
اللذين رضي بهما عليّ ومعاوية بعد حرب صفين ولد في زبيد
باليمن وقدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم وهاجر إلى أرض
الحبشة ثم استعمله رسول الله الا الله على زبيد وعدن وولاه
عمر ابن الخطاب البصرة سنة ١٧هـ فافتتح أصبهان والأهواز
ولما ولي عثمان أقرّه عليها ثم عزله فانتقل إلى الكوفة
فطلب أهلها من عثمان توليته عليهم فولاه فأقام بها إلى أن
قتل عثمان فأقره علي ثم كانت وقعة الجمل وأرسل علي يدعو
أهل الكوفة لينصروه فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة
فعزله علي فأقام إلى أن كان التحكيم وخدعه عمرو بن العاص
فارتد أبو موسى إلى الكوفة فتوفي فيها سنة ٤٤هـ / ٦٦٥م
وكان أحسن الصحابة صوتاً في التلاوة خفيف الجسم قصيراً وفي
الحديث سيد الفوارس أبو موسى له ٣٥٥
حديثاً رضي الله عنه انظر الحديث ٦١
متفق عليه ۳ المراتي الأحلام التي يراها النائم في منامه
۷۳۱
لا يقوم الليل وقد ثبت عنه عليه السلام أنه قال الرؤيا
الصالحة من النبوة وما كان من النبوة فهو وحي ۱ والوحي لا
يجوز كتمه فلذلك أبدى ما كان هناك
الثاني أن تعارض الحديثين يبين معناهما ويفصح بالمراد في
كليهما حديثان آخران وهما قوله عليه السلام لا تُزَكّوا
على الله أحداً ولكن قولوا إخاله كذا أو أظنه كذا وقوله
عليه السلام إذا رأيتم الرجل يواظب المسجد فاشهدوا له
بالإيمان ۳ فتحصل من مجموع هذه الأحاديث أن التزكية بالقطع
ممنوعة مطلقاً لأن القطع بها حكم على الغيب والحكم على
الغيب
بالنسبة إلى البشر مستحيل
وأما تزكية الشخص فلا يخلو أن تكون من الإنسان نفسه لنفسه
أو من غيره
فإن كانت من الإنسان نفسِه لنفسه بأن يَذكر محاسنه فهو على
ضربين مذموم ومحمود فالمذموم أن يذكره بالافتخار وإظهار
الارتفاع والتمييز على الأقران وشبه ذلك فهذا لا يجوز
لقوله تعالى ﴿ فَلَا تُرَكُوا أَنْفُسَكُمْ ٤ والمحمود أن
يكون فيه مصلحة ونيه في ذلك بأن يكون أمراً بالمعروف أو
ناهياً عن المنكر أو ناصحاً أو مستشيراً لمصلحة أو معلماً
أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكراً أو مصلحاً بين اثنين أو
يدفع عن نفسه شرّاً ونحو ذلك فيذكر محاسنه ناوياً بذلك أن
يكون هذا أقرب إلى قبول قوله واعتماد ما يذكره أو أن هذا
الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به أو نحو
ذلك
وإن كانت من غيره فلا يخلو أن يكون في وجه الممدوح أو بغير
حضوره فأما الذي في غير حضوره فلا مانع منه إلا أن يجازف
المادح فيدخل في الكذب فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه
مدحاً ويستحب هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتبت عليه
مصلحة ولم يَجُرَّ إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح فيفتن به أو
غير ذلك وأما المدح في وجه الممدوح فلا يخلو أن يكون تزكية
له عند الحاكم لكي تقبل شهادته أم لا ٥ فإن كان كذلك فهي
جائزة امتثالاً لأمر الشارع عليه السلام في ذلك وإن كانت
لغير ذلك فهي الممنوعة في الحديث
ولأجل هذا المعنى قال عليه السلام ولكن قولوا إخاله كذا أو
أظنّه كذا فنفى التزكية مرة واحدة وأثبت الظن لأن عمله
يقوّي الظن بأنه من أهل الخير والصلاح وأما حقيقة أمره فهي
إلى
۱ متفق عليه من حديث أنس بن مالك وعبادة بن الصامت وأبي
سعيد الخدري وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم
تقدم تخريجه في الحديث رقم / ۸۷ ۳ تقدم تخريجه في الحديث
رقم / ۸۷/
٤ سورة النجم من الاية ۳ ه كذا والصواب أو لا
الله ولأجل هذا المعنى قال عليه السلام من مات على خير
عمله فارجوا له خيراً ومن مات على شر عمله فخافوا عليه ولا
تيأسوا ۱ فأمر عليه السلام بالرجاء في الرحمة لمن مات على
خير العمل
ولم يخبر بأن من مات على ذلك كان من أهل الرحمة على كل حال
هذه هي التزكية الممنوعة وأما الشهادة فهي جائزة لأنها لا
تتناول إلا ما وقع من الفعل لأنه عليه السلام قال إذا
رأيتم الرجلَ يواظب المسجد فاشهدوا له بالإيمان فالشهادة
إنما وقعت على شيء وُجد حسّاً والفعل الحسي الذي قد ظهر
دليل على الإيمان وعلة الإعجاب فيها معدومة لأنها شهادة
بالأصل وهو الإيمان
الثالث أن معنى النهي عن مدح الرجل في وجهه هو خوف
الاغترار والإعجاب وهو
وهو
ممنوع شرعاً ومما يؤيد هذا قوله عليه السلام لو لم تذنبوا
لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ الإعجاب ولهذا قال عليه السلام
احثوا التراب في وجوه المداحين ۳ ومعناه احرموهم مما
أرادوا لئلا يزيدوا في المدح فيقع الإعجاب لمدحهم وهذا
المعنى الذي أشرنا إليه قد أهمله اليوم جل الناس وعملوا
على مقتضى النهي وارتكبوه فكثر المدح عندهم بعضهم لبعض في
الظاهر مع الضغائن في النفوس وعداوة بعضهم لبعض في الباطن
وجعلوا نفس ارتكاب النهي من النبل والكيس فإنا لله وإنا
إليه راجعون
ولكن الوقت يقتضي هذا الأمر لأن الشارع عليه السلام أخبر
بذلك فما لنا حيلة في زواله لأنه عليه السلام قال يأتي في
اخر الزمان قوم إخوان العلانية أعداء السريرة قيل وكيف
يكون ذلك يا رسول الله قال يكون برهبة بعضهم من بعض ورغبة
بعضهم في بعض 4 فالحذر الحذر من تُبلِ وكَيْس قد ذمه
الشارع عليه السلام وجعله دالاً وعلماً على قيام الساعة
فإذا كان المراد بالنهي عن المدح خوف الإعجاب فقد يكون
النبي له الا الله و قد أطلعه الله على حال هذا الرجل
الممدوح وعلم منه بأنه يهلك بذلك لإعجابه بما يقال فيه وقد
يحتمل أن يكون ذلك منه عليه السلام سدّاً للذريعة وهذا
موجود حساً لأن الناس لم يتساووا في هذا المعنى فمنهم من
إذا ذكر له شيء من ذلك اغتر ورأى أن ذلك من فعله وقوته
1 رواه الديلمي في الفردوس ١٤٩/٤ ورواه القضاعي في مسند
الشهاب وعبد الله بن المبارك في الزهد وهو حديث مرسل وقد
تم تخريجه في الحديث ۹
رواه البيهقي في شعب الإيمان وعزاه المنذري في الترغيب إلى
البزار وقال إسناده جيد ۳ رواه مسلم في الزهد باب النهي عن
المدح من حديث المقداد ورواه أبو داود والترمذي ٤ رواه
الإمام أحمد في المسند ۳۵/۵ والبزار والطبراني في الأوسط
ولفظه يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء
السريرة قال يا رسول الله كيف يكون ذلك قال برغبة بعضهم
إلى بعض وبرهبة بعضهم
من بعض
۷۳۳
لأنه روي
ومنهم من إذا م شيئاً من ذلك ازداد خوفاً من الله وإشفاقاً
وعاين مِنّة الله عليه بتوفيقه إياه لما مدح به فيزداد
خيراً إلى خيره فيزيد في العمل شكرا الله عزّ وجلّ الذي
جعله من أهل الخير ولم يجعله من أهل الشر كما كان ذلك
الإخبار سبباً إلى زيادة التعبد والخير لعبد الله بن عمر
أنه منذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لم يترك
بعده قيام الليل وكذلك أيضاً قوله عليه السلام لأشخ عبد
القيس ۱ إن فيك خَصلتين يحبّهما الله ورسوله الحِلم
والأناة فقال الرجل ذلك مني أو من شيء جَبَلني الله عليه
فقال عليه السلام بل من شيء جَبَلك الله عليه فقال الرجل
الحمد الله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله فحمد
الله على ما أولاه من ذلك وشكر فقد يكون النبي صلى الله
عليه وسلم قد أطلعه الله عزّ وجلّ على حال هذا السيد فعلم
أن إعلامه بذلك يَزيده خيراً فأعلمه كما تقدم ذلك في الأول
والمدح في وجه الممدوح قد جاءت أحاديث تقتضى إباحته أو
استحبابه وأحاديث تقتضي المنع منه قال العلماء وطريق الجمع
بين الأحاديث أن يقال إن كان الممدوح عنده كمال إيمان و
حسن يقين ورياضة نفس ومعرفة تامة بحيث لا يفتن ولا يغتر
بذلك ولا تلعب به نفسه فليس بحرام ولا مكروه وإن خيف عليه
شيء من هذه الأمور منع من ذلك
ثم هذه التزكية التي نهى الشارع عليه السلام عنها إنما هي
تزكية نفس الشخص وأما مدح الأعمال فلا بأس بذلك بل هي
مندوبة بدليل حديث السقاية الذي قال عليه السلام فيه
اعملوا فإنكم على عمل صالح فمدح لهم الفعل ولم يمدح لهم
أنفسهم ولأن مدح العمل ليس من قبيل مدح الشخص لأن مدح
العمل يزيد لصاحبه الحرص على الزيادة في العمل فيكون ذلك
سببا إلى زيادة الخير ومدح الشخص نفسه يدخله ما قدمناه من
الإعجاب وفي الحديث دليل على جواز الكلام والتحدث بحضرة
أهل الفضل لأن الصحابة رضوان
الله عليهم كانوا يتحدثون والنبي يسمعهم
وقوله أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل هذا شك من الراوي في
أيهما قال عليه السلام
وبالله التوفيق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 أشبح عبد القيس اسمه المنذر بن عائد كان سيد قومه وفد في
بني عبد القيس لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا اعرف لا
بالحلم
والأناة
رواه مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
۳ قطعة من حديث رواه البخاري ابن عباس رضي الله عنهما وهو
موضوع الحديث ۸۰
٧٣٤
-14-
حديث الثلاثة المعذبين
عَن أبي هريرةَ رضي الله عَنهُ قالَ قالَ رَسولُ الله
ثلاثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله ولا يَنظُرُ إِلَيهِم
يَومَ القيامَةِ ولا يُزكيهم وَلَهُم عَذاب أليم رَجُل
عَلى فَضلِ ماءٍ بطريقٍ يَمنعُ منهُ ابنَ السَّبِيلِ
ورَجُل بايعَ رَجُلاً لا يُبايِعُهُ إلا للدُّنيا فإن
أعطاهُ ما يُريد وفَّى لَهُ وَإلا لم يَفِ لَهُ ورجُل
ساومَ رَجُلاً سِلعة بعدَ العَصرِ فَحلف باللهِ لَقَد
أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا
ظاهر الحديث يدل على تحريم الثلاثة المذكورة فيه وأنها من
كبائر الذنوب
وقوله عليه السلام رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن
السبيل قد اختلف العلماء ما هو الماء الذي لا يجوز منعه
اختلافاً كثيراً فمنهم من ذهب إلى أنه على العموم سواء
أكانت الأرض مستملكة أو غير مستملكة ومنهم من ذهب إلى أنه
خاص بالآبار التي ليست مستملكة وتكون في الفيافي والقفار
وقد ذكر الخلاف في كتب الفقه
ويَرِد على الحديث سؤال وهو أن يقال قد تقرر من الشارع
عليه السلام أنه يخصص صاحب كل فعل من أفعال المعاصي بعذاب
يخصه من غيره كما قال في الغادر وكما قال في اكل الربا إلى
غير ذلك وهؤلاء الثلاث ۱ المذكورون في الحديث أفعالهم
مختلفة فلِمَ كان عذابهم واحداً والجواب عنه أنهم إنما
اشتركوا في عذاب واحد لمعنِّى جَمَع بينهم في فعلهم وذلك
أن مانع الماء قد تعرض بفعله ذلك إلى منع الطرق وقد يؤول
إلى ذهاب النفوس سيما إذا كان الموضع في الفيافي والقفار
بحيث لا يجود ماءُ غيرُه وقليل من يصبر على العطش فإذا
عاين الماء ومنع منه مات بنفسه فكان ذلك سبباً لقتل النفس
التي حرم الله تعالى وقد قال تعالى وَمَن يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا
فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ
۷۳۵
1 كذا والصواب الثلاثة
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۱ فلما أن
كان مانع الماء لم يقتل بيده ولكن تسبب في
القتل كان عليه الوعيد المذكور في الحديث
وأما من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا فذلك فيه من
الفساد مثل ما قدمناه أو يزيد عليه لأن البيعة أصلها أن
تكون الله ولائتلاف كلمة المؤمنين وبائتلاف الكلمة يكون
الذَّبّ عن الدين وجهاد العدو فإن كانت البيعة للدنيا
وحطامها وحظوظ النفوس ورغبتها انصرف ما أريدت البيعة له
إلى ضده وهو سفك دماء المسلمين ووقوع الخلل في الدين فأشبه
الأول أو زاد عليه وأما من ساوم رجلاً سلعة بعد العصر فحلف
بالله لقد أعطى بها كذا فإنما اشترك مع من تقدم ذكرهما في
العذاب لكونه ارتكب خمسة أشياء عظيمة محرمة وهي الخيانة
والكذب واليمين الفاجرة وغش المسلمين واختراق حرمة هذا
الزمان الفاضل وهو بعد صلاة العصر فلما أن ارتكب هذه
الخمسة الأشياء على عظمها كان مساوياً في العذاب لمن تعرض
لقتل النفس وفي الحديث دليل على فضل وقت العصر لأن النبي
شرط أن يكون من موجبات العذاب الذي ذكر مصادفة وقت العصر
وقد اتفق العلماء على فضل ذلك الزمان بعد اختلافهم هل هي
الصلاة الوسطى أم لا وبالله التوفيق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ سورة النساء من الآية ٩٣
٧٣٦
في
ن
ماد
ـن
6
حديث الإفك وبراءة السيدة عائشة أم المؤمنين منه
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي الله قالت كان النبي إذا
أراد أن يَخرجَ سَفَراً أقرَعَ ۱ بين أزواجه فأَيَّتُهُنَّ
خرج سهمُها خرج بها معهُ فَأَقرَعَ بيننا في غَزوةٍ غزاها
فخرج سهمي فخرجتُ معه بعدما أنزل الحجاب فأنا أَحمَلُ في
هَودج وأَنزَلُ فيهِ فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من غزوته تلك وقفَل ودَنَونا من المدينة آذَنَ
ليلةً بالرحيل فقمتُ حين آذنوا بالرّحيل فمشيتُ حتى جاوزت
الجيش
فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى الرحل فلمستُ صدري فإذا عِقد
لي من جَزْعِ ۳ أظفار قد انقطع فرجعتُ فالتَمَسْتُ عِقدي
فحبَسني ابتغاؤُهُ فأقبل الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي
فرَحَلوه على بعيري الذي كنتُ أركبُ وهُم يَحسَبون أنّي
فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يَثقُلنَ ولم
يَعْشَهُنَّ اللّحم وإنّما يأكُلنَ العُلْقة ۳ من الطعام
فلم يستنكرِ القومُ حين رفعوه ثِقَل الهَوْدَج فاحتملوه
وكُنتُ جارية حديثة السِّنِّ فبعثوا الجَمَل وساروا فوجدتُ
عقدي بعدما استمر الجيش فجئتُ منزلهم وليس فيه أحد
فأمَّمتُ منزلي الذي كنتُ فيه
فظننت ٤ أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ
1 أقرَعَ ضَرَبَ القَرْعَة
جزع
أظفار خرز في سواده بياض كالعروق
۳ العُلقة القليل من الطعام الذي يسد الجوع
٤ ظننت أيقنت
۷۳۷
فبينا أنا جالسةٌ غَلبَتَني عَيْنياي فنمتُ وكان صفوان بن
المعطَّلِ السُّلَمي۱ ثمّ الذكواني من وراء الجيش فأصبح
عند منزلي فرأى سوادَ إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل
الحجاب فاستيقظتُ باسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطِيءَ يدَها
فركبتُها فانطلق يقود بي الراحلةَ حتى أتينا الجيش بعدما
نزلوا مُعَرِّسِينَ ۳ في نَحْرِ الظهيرة ٤ فهلك من هلك
وكان الذي تولّى الإفكَ عبد الله بن أبي ابن سلول ٥
فقدمنا المدينة فاشتكيتُ بها شهراً وهم يفيضون من قول
أصحاب الإفك ويَريبُني في وَجَعي أني لا أرى من رسول الله
الله الطف الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي إنّما يدخلُ فيسلم
ثم يقولُ كيفَ تِيكُم ولا أشعُرُ بشيءٍ من ذلكَ حتّى
نَقِهِتُ ٦ فخرجتُ أنا وأُمُّ مِسْطح ٣ قبل المناصع ۸
متبرَّزِنا وكنا لا نخرجُ إلا ليلاً إلى ليلٍ وذلك قبل أن
تُتَّخَذَ الكُنُفُ ۹ قريباً من بيوتنا وأَمْرُنا أمرُ
العرب الأولِ في البريَّةِ أو في التنزّه فأقبلتُ أنا
وأُمُّ مِسْطح بنتُ أبي رُهْمِ نمشي فعثَرَت في مِرْطها ١٠
فقالت تَعِسَ مِسْطَح فقلتُ بئس ما قلتِ أتسبينَ رجلاً
شهِدَ بذراً فقالت يا هَنَاهُ ۱۱ ألَمْ تَسمعي ما قالوا
فأخبرَتْني بقولِ أهل الإفكِ فازددتُ مرَضاً على مَرَضي
۱ صفوان بن المعطل صحابي شهد مع النبي الله و الخندق
والمشاهد كلها بعدها وكان على ساقة النبي ولم يتخلف بعد عن
غزوة غزاها وقتل في غزوة أرمينية شهيدا سنة ٥٩هـ / ٦٨٧م
باسترجاعه بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون ۳ مُعَرِّسِينَ
من التعريس وهو النزول ويغلب على النزول اخر الليل ٤
نَحْرُ الظهيرة وقت اشتداد الحر
٥ عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين في الإسلام من
أهل المدينة كان يحرض الناس على خذلان الرسول عليه السلام
في أحد وتبوك وكان ينشر أخبار السوء و الفتنة مات سنة ٩هـ
/ ٦٣٠م
٦ نَقِهِتُ برِئتُ من مرضي أم مسطح هي ابنة خالة أبي بكر
رضي الله عنه ومسطح ابنها شهد بدراً وخاض في الإفك فجلده
رسول
فيمن جلد في ذلك توفي سنة ٣٤هـ / ٦٥٤م
۸ المناصع ج مَنْصَع المكان البعيد عن العمران المعدّ
للتبرّز
۹ الكُنفُ ۱۰ المرط الإزار أو ما يُلتحف به
ج كنيف وهو الساتر والمراد به بیت الخلاء
۱۱ یا هَئَتاه يا هذه نداء للبعيد خاطبتها بذلك لبعدها عما
يخوض الناس فيه
3388
۷۳۸
أبوي
فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
فقال كَيْفَ تِيكُم فقلتُ الذَن لي إلى أبوي قالت وأنا
حينئذٍ أُريدُ أن أستيقن الخبر من قِبلهما فأذِنَ لي رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتيتُ فقلتُ لأمي ما يتحدَّثُ
به النَّاسُ فقالت يا بنتي هَوِّني على نفسِكِ الشَّأْنَ
فَوَالله لقلما كانت امرأة قطُّ وضيئة ۱ عند رجلٍ يُحبُّها
ولها ضرائرُ إلاّ أكثرنَ عليها فقُلتُ سُبحانَ الله ولقد
تحدّثَ النَّاسَ بهذا قالت فبِتُ تلك الليلةَ حتى أصبحتُ
لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم
✩ ✩ ✩
ثُمَّ أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب وأسامة بن زيد حين استلبَثَ الوحي ٢ يستشيرُهُما في
فِراقِ أهلِه فأمّا أَسامةُ فأشار عليه بالتي يعلَمُ في
نفسهِ مِنَ الود لهم فقال أسامة أهلك يا رسول الله ولا
نعلم والله إلا خيراً وأما علي فقال يا رسولَ
الله لم يضيقِ الله عليكَ والنِّساء سواها كثير واسأل
الجاريةَ تَصْدُقْكَ فدعا رسولُ الله بَرِيرَةَ فقال يا
بريرة هل رأيتِ فيها شيئاً يَريبُكِ فقالت بَريرةُ لا
والذي بعثك بالحق إنْ رأيتُ منها أمراً أَعْمِصُه ۳ عليها
أكثر من أنّها جاريةٌ حديثة السن تنام عن العجين فتأتي
الداجن فتأكله
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر 1 من
عبد الله بن أُبي ابنِ سَلول فقالَ رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم مَن يَعذِرُني في رجلٍ بَلغني أذاه في أهلي
فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً وقد ذكروا رَجُلاً ما
علِمتُ عليه إلا خيراً وما كان يدخلُ على أهلي إلا معي
فقامَ َسعدُ بنُ مُعاذ ه فقال يا رسول الله أنا والله
أَعذِرُك منه إن كانَ منَ الأوسِ ضَرَبْنا عنقَهُ وإن كانَ
۱ وضيئة جميلة حسنة استلبث الوحي أبطأ نزوله وتأخر
0
الأبطال من أهل المدينة كانت له سيادة الأوس وحمل
۳ أعْمِصُه آخذه ٤ استعذر قال مَن يَعْدِرُني أي مَن
يُنصِفُني سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري صحابي لواءهم وكان
من أطول الناس وأعظمهم جسماً ورمي بسهم يوم الخندق فمات من
أثر جرحه ودفن بالبقيع سنة ٥هـ / ٦٢٦م وفي الحديث اهتز عرش
الرحمن لموت سعد بن معاذ
من
۷۳۹
من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعَلْنا فيه أمرَك فقام سعد بن
عُبادة - وهو سيد الخزرج ۱ وكان قبل ذلك رجُلاً صالحاً
ولكنْ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّة - فقالَ كَذبتَ لَعَمْرُ
الله لا تَقْتُلُه ولا تَقدِرُ على ذلكَ فقامَ أُسَيْدُ بن
الحُضَيرِ فقال كذبت لعمرُ الله لَنَقْتُلنَّه فإنّك
مُنافق تُجادِلُ
عنِ
المنافقين فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همُّوا أن
يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل
فخفضهم حتى سكتوا وسكت
ومكثت يومي لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم فأصبحَ عِندي
أبواي وقد بكيتُ ليلتين ويوماً حتى ظننتُ أنّ البُكاءَ
فالقٌ كبدي قالت فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ
استأذنت امرأةٌ من الأنصارِ فأذنتُ لها فجلست تبكي معي
فبينا نحنُ كذلك إذ دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها وقد مكث
شهراً لا يُوحَى إليه في شأني شيء قالت فتشهَّدَ َثمَّ
َقالَ أَمَّا بعدُ يا عائشةُ فإنَّه بلغني عنكِ كذا وكذا
فإن كنتِ بريئةً فسيبرئك الله وإن كُنتِ أَلْمَمْتِ ۳
بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه فإنَّ العبد إذا اعترف
بذنبه ثمَّ تَابَ تابَ الله عليه
☆
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص ٤
دمعي ما أحسن منه قطرة وقُلتُ لأبي أجِبْ عني رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال والله ما أدري ما أقولُ لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فقلتُ لأمي أجيبي عني رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما قال قالت والله ما أدري ما أقولُ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وأنا جاريةٌ حديثةُ
السِّنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن فقلتُ إني والله لقد
علمتُ أنكُم سمعتُم ما تحدّث به
۱ سعد بن عبادة الخزرجي صحابي من أهل المدينة وكان سيد
الخزرج وأحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإسلام وشهد
العقبة مع السبعين من الأنصار كما شهد أحداً والخندق
وغيرها ولما توفي رسول الله الله رغب في الخلافة بعده إلا
أن البيعة تمت للصديق رضي الله عنه وهاجر إلى الشام في
خلافة عمر بن الخطاب وفي حوران توفي سنة ١٤هـ / ٦٣٥م ٢
أسيد بن الحُضَيْر صحابي من الأوس كان من عقلاء العرب وذوي
الرأي شهد العقبة الثانية وأحداً والخندق والمشاهد كلها
توفي في المدينة سنة ٢٠ هـ / ٦٤١ م وله ۱۸ حديثاً
۳ الممت فعلت ذنبا ليس من عادتك
٤ قلص تقلص قل
٧٤٠
النَّاسُ وَوَقَرَ فِي أَنفُسِكُم وصدَّقتم به ولَيْن قلتُ
لكُم إِنِّي بريئة - والله يعلمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ - لا
تصدقونني بذلك ولَئِنِ اعْتَرَفْتُ لكُم بأمرٍ - والله
يعلمُ إني لَبَرِيئَةٌ - لَتُصَدِّقُنِّي والله ما أجِدُ
لي ولكُم مَثَلاً إلا أبا يوسف ۱ إذ قال ﴿ فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ٢ ﴾
ثم
تحوّلت على فراشي وأنا أرجو أن يُبَرِّتَنِي الله بها
الوحي
فوالله ما رامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ۳ ولا
خرج أحدٌ من أهل البيتِ حتَّى أَنزَلَ الله عليهِ فأخذه ما
كان يأخذُهُ من البُرَحاءِ ٤ حتى إنَّهُ ليتحدَّرُ منهُ
مثلُ الجُمان ٥ مِنَ العَرَقِ في يوم شات فلمّا سُرّي ٦ عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أوّلَ كلمةٍ
تكلَّم بها أن قال لي يا عائشة احمدي الله فقد بَرَّأكِ
الله فقالت لي أُمي قومي إلى رسول الله فقلتُ لا والله لا
أقومُ إليه ولا أحمدُ إلا الله
فأنزل الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُ و بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَلْ هُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ أَمْرِي مِنْهُم مَّا اكْتَسَبَ
مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبَرَمُ مِنْهُمْ لَهُ
عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَنتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا
وَقَالُوا هَذَا إِنَّكَ مُّبِينٌ لَوْلَا جَاهُ و
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ
بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَيكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَذِبُونَ
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَة لَمَسَّكُم فِي مَا أَفَضْتُمْ
فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ
عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ
عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا
يَكُونُ لَنا أَن نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَنَكَ هَذَا
مُهْتَنُ
عَظِيمٌ
فلما أنزل الله عزّ وجلَّ في براءتي قال أبو بكر الصديق
وكان يُنفق على مسطح بنِ
1 أبو يوسف هو يعقوب عليه السلام سورة يوسف من الآية ١٨
ما رام مجلسه ما فارقه ولا قام منه
٤ البرحاء العرق الشديد
0 الجمان اللؤلؤ ٦ سُري كشف وأزيل
۷ سورة النور من الآية ١١ إلى الآية ١٦
٧٤١
أثاثة لقرابته منه والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً
بعدما قال في عائشة فأنزل الله عزّ وجلّ وَلَا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا
أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلَيَصْفَحُوا أَلَا
تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ ﴾ ۱ فقال أبو بكر بلى والله إني لأُحِبُّ أَن
يَغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يُجريه عليه
* *
ظاهر الحديث يدل على براءة عائشة رضي الله عنها مما
تُحُدِّثَ به فيها لكن قد يرد عليه اعتراض وهو أن يقال
براءتها قد علمت من كتاب الله عزّ وجلّ فما فائدة الإخبار
بذلك ثانية والجواب عنه أن القرآن إنما نزل في براءتها من
نفس ما رميت به وبقي تشوف النفوس السوء لأن يكون هناك موجب
لما قيل عنها أو سبب من أسباب ما رميت به فيكون وقوعاً
ثانياً قريباً مما برئت منه
وقد اختلف العلماء في أسباب النكاح هل هي كالنكاح أم لا
فعلى قولة من قال بأنها كالنكاح فيكون ذلك إفكاً ثانياً
فيكون هلاكاً شائعاً في الأمة لا مخرج منه وقد قال بعض
العلماء إن من رمى عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -
بشيء مما برَّأها الله منه إنه مخلد في النار واستدل على
ذلك بقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَتِ الْغَفِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فِي
الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ٢
وعلى قول من قال بأنه ليس كالنكاح فيكون ذلك معرَّة تلحقها
ولحوق المعرَّة بها هتك لحرمة ما حرم الله من حرمة بيت
النبوة وقد قال عليه السلام سبعة لعنتهُم أنا وكل نَبِيّ
مستجاب ۳ وعد فيهم المنتهك من حرمة أهل بيتي ما حرم الله
وهذه مفسدة كبرى في الدين وذلك عون للشيطان على المؤمنين
فبراءتها لنفسها لكن ذلك دين محض وبراءة للمؤمنين كما فعلت
أم سلمة أيضاً في حديث الحُدَيْبِيَّة حين صُدُّوا عن
البيت وهم مُحرِمون فأمرهم النبي الهلال أن يحلقوا وينحروا
ويُحلوا فلم يفعلوا فدخل عليها النبي الا الله وهو متغير
فقالت له ما شأنك فقال
۱ سورة النور من الاية سورة النور من الآية ٢٣
۳ رواه الطبراني في الكبير ولفظه سبعة لعنتهم ولعنهم كل
نبي مجاب الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمستحل
حرمة الله والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي
والمستأثر بالفيء والمتجبر بسلطانه ليعز من أذلَّ الله
ويذل من أعزّ الله
٧٤٢
عليه السلام أمرتهم فلم يفعلوا فقالت رضي الله عنها إنهم
لم يَعصُوك وإنما اتبعوك لأنهم اقتدوا بفعلك فافعل أنت
فيتبعوك فخرج عليه السلام ففعل ما أمرهم ففعلوا ۱
فكان كلامها رحمة للمؤمنين ولطفاً بهم لأنها أزالت ما كان
وقع في قلبه من التغير الذي يُخاف منه الهلاك عليهم وكذلك
قول عائشة رضي الله عنها هنا لأن ذلك رحمة وإزالة للهلاك
وهذا رحمة ووقاية من الهلاك الذي أشرنا إليه أولاً ومما
يدل على أنها أرادت هذا الوجه أنها لم تقل شيئاً ولم تفصح
بالقضية كيف وقعت إلا بعد ثبوت عدالتها وتصديق مقالها من
كتاب ربها وحين لم يكن لها شاهد على ذلك لم تقل شيئاً
وإنما كان قولها إذ ذاك فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ على ما يأتي في آخر
الحديث
الله
وفي هذا دليل على أن المرء مأمور أن يدفع المعرة عن نفسه
إذا قدر على ذلك وكان له من خارج ما يصدقه وإلا فالصبر
والاضطرار إلى الله تعالى لعله أن يكشف ذلك بفضله وكذلك
أيضاً ينبغي أن يراعي حق إخوانه المؤمنين فينفي عنهم كل ما
يضرهم كما فعلت عائشة رضي عنها أتت بالحديث لهذين المعنيين
على ما تقدم وقد حكي عن الأعمش رضي الله عنه قريب من هذا
المعنى وهو أنه كان يمشي بطريق فلقيه أحد تلامذته ـ وكان
أعور - فمشى التلميذ معه فقال له الأعمش يا بني ! اذهب
فامش وحدك فقال ولم فقال له الشيخ أعمش والتلميذ أعور فيقع
الناس فينا فقال التلميذ نؤجر ويأثمون فقال الشيخ نَسلَم
ويَسلمون خير من أن نُؤجر ويأثموا ٤ فاختار سلامةَ
المسلمين وعمل عليها ولم يرد أن يختص بالأجر مع دخول الإثم
عليهم كما فعلت عائشة رضي الله عنها أراحت المسلمين في هذه
المصيبة الكبرى التي قد كانت حلت بهم وتركت الأجر لنفسها
لأنها مهما تُكلم فيها كان لها في ذلك أجر ثم في الحديث
وجوه كثيرة من أحكام وآداب على ما يذكر بعد في تتبع ألفاظ
الحديث إن شاء الله تعالى
فأما قولها كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج
سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها
1 رواه البخاري ضمن حديث طويل في عدة مواضع منها في
المغازي وفي الحج وفي الشروط سورة يوسف من الآية ۱۸
۳ الأعمش سليمان بن مهران المعروف بالأعمش كان ثقة عالماً
فاضلاً أصله من بلاد الري لقي كبار التابعين وروى عنه
الثوري وكثير من جلة العلماء وروى ۱۳۰۰ حديثاً توفي في
الكوفة سنة
١٤٨ هـ / ٧٦٥م
٤ انظر تفصيل هذا وكثيراً نحوه في وفيات الأعيان / ٤۰۰
٧٤٣
خرج بها معه فيه ۱ وجهان الأول جواز السفر بالنساء الثاني
جواز القرعة لكن هل القرعة هنا واجبة أم لا فأما النبي الا
الله فالقرعة في حقه عليه السلام ليست بواجبة لأن القسمة
ليست بواجبة عليه وهي الأصل فمن باب أولى القرعة وأما غيره
فقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال وقد ذكرت في الفقه
وأما قولها فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي أي خرج
سهمي بالقرعة فحذفت
ذلك للاختصار
وقد يرد على هذا الفصل سؤال وهو أن يقال لِمَ أبهمت ذكر
الغزوة ولم تبينها ولم تذكر أكان فيها وقيعة أم لا
والجواب عنه أنها إنما أرادت بسياق الحديث ما قدمنا ذكره
من نفي المعرة عن نفسها ورعي حق أخوة المؤمنين وذكر الغزوة
لا يتعلق مما هي بسبيله شيء فذكرت من ذلك حالاً لا بدَّ
منه لتعلم أن سفر النبي ل كان في العغزو لا في غيره وكذلك
روي عنه عليه السلام أنه لم يسافر بعد النبوة إلا لحج أو
جهاد
وقولها فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب إنما أتت بذكر الحجاب
توطئة لما تذكر بعد وهو من الفصيح في الكلام إذا احتاج
المرء إلى ذكر شيء أتى في أوله بكلام يوطىء له بيان ما
يريد إبداءه والحجاب على ضربين فحجاب عن الأبصار مباشر
للذات وحجاب للذات مفارق لها منفصل عنها فالأول لا يجوز
للأجنبي مباشرته لأن مباشرته لذلك مباشرة للمرأة والثاني
وهو المنفصل سائغ للأجنبي مباشرته للضرورة في ذلك إذا كان
فيه أهلية ومعرفة بالخدمة كما كانت
الأهلية في الحاملين لهذا الهودج - على ما يذكر بعد وقولها
فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فيه وجوه
الأول أن ما كان للدنيا وزينتها وكان عوناً على الدين فليس
بدنيا وهو للآخرة لأن الهودج كان عند العرب مما يفتخرون به
ويتباهون فلما أن جاء الشارع عليه السلام ورأى فيه مصلحة
للدين استعمله من أجل السّترِ الذي فيه ولا يأتي مثله في
غيره
الثاني جواز حمل الثقل الكثير على الدابة إذا كانت مطيقة
لذلك لأن الهودج كما قد علم من ثقله لكن لما أن كانت
الدابة مطيقة لذلك لم يمنعه الشارع عليه السلام
3
٧٤٤
۱ يريد ففيه هي غزوة بني المصطلق
الثالث جواز لمس الستر المنفصل عن البدن للأجانب لأنها
أخبرت أن ناساً كانوا موكلين بهودجها للرفع والخفض والستر
المنفصل عن البدن صفته كما تقدم
وقولها فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله الله من غزوته تلك
فإنما قالت ذلك لتبين أن العادة كانت مستصحبة في كل سفرهم
- على ما ذكرته قبل - لم يزيدوا في العادة شيئاً ولا نقصوا
منها ما
يوجب كلاماً
وقولها وقفل ودَنونا من المدينة قد يرد عليه سؤال وهو أن
يقال ما فائدة تكرار هاتين اللفظتين وذكر إحداهما يغني عن
الأخرى
والجواب عنه أنها إنما أتت بذلك لأنهما لمعنيين مختلفين
وليسا لمعنى واحد وهما أيضاً مخالفان للسير فما ذكرت قبل
من السير أفاد بأن الأمر كان مستصحباً - على ما ذكرت ـ من
حين خروجهم إلى حين وصولهم إلى الموضع الذي توجهوا إليه
والقفول يفيد بأن الأمر أيضاً كان مستصحباً إلى حين الرجوع
والدنو يفيد بأن ذلك دام حتى كانوا بقرب المدينة ووقع لهم
هذا الواقع وقولها أذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا
بالرحيل فإنما أتت بذكر هذا لِتُبَيِّنَ العذرَ الذي
أوقعها في التخلف عن الهودج حتى حمل عنها وفيه دليل على أن
الإمام أو أمير الجيش أو صاحب رفقة إذا أراد السَّيْرَ
يخبر من معه ويؤذنهم بذلك ثم يتربص عليهم قليلا بقدر ما
يقضون حوائجهم وما يكون لهم من الضرورات ويكون تربصه
معلوماً لأن التربص المجهول لا يتأتى للناس به منفعة حتى
تكون مدة التربص معلومة ويكون لوقت الرحيل أمارة غير الإذن
الأول لأنها أخبرت أنها لما سمعت الإذن بالرحيل قامت عند
ذلك لقضاء شأنها فلو عهدت منهم أن ذلك الإذن لنفس الرحيل
لم تكن لتخرج إذ ذاك
وقولها فمشيت حتى جاوزت الجيش فيه وجوه الأول جواز خروج
المرأة وحدها لكن يشترط فيه أن تأمن على نفسها الفتنة فإن
توقعت شيئاً ما من الفتنة فلا يسوغ خروجها لأن خروج عائشة
رضي الله عنها كان مأموناً من ذلك الثاني أن للمرأة أن
تخرج لقضاء شأنها بغير إذن من زوجها لأنها أخبرت أنها خرجت
لما ذكرته ولم تذكر أنها استأذنت النبي في ذلك فقد يحتمل
أن يكون النبي لا اله الا أذن لها في ذلك أو بالاستصحاب
ويحتمل أن يكون ذلك مسكوتاً عنه للعلم به بحكم العادة
الثالث أن الخروج لقضاء الحاجة يكون بالبعد بحيث لا يسمع
له صوت ولا يرى له
شخص لأنها أخبرت أنها جاوزت الجيش وحينئذ قضت ما إليه خرجت
٧٤٥
الرابع أن اختلاف الأحوال سبب لتغيّر الأحكام إما لسعادة
أو لشقاء لأنها أخبرت أنها كانت على حالة واحدة قد عهدت
منها فلما أن أخلت بما عهد منها لعذر كان هناك قد أبدته
قبل وتبديه بعد وقع لها ما وقع لكن تغيير الحال على ثلاث
مراتب المرتبة الأولى تغير الشخص نفسه عما عهد الثانية
تغير حال الناس معه الثالثة تغير العادة الجارية من الله
تعالى أما الأولى فهي لسبب وقع إما بغفلة أو بوقوع ذنب
فيحتاج من كانت له عادة مستمرة - أعني من أفعال التعبد -
ثم لم يقدر عليها وعجز عنها أن يرجع إلى أفعاله فينظرها
على لسان العلم فإن وجد معه الخلل أقلع عنه وتاب منه
واستغفر وإن لم يجد شيئاً بقي متهماً لنفسه بذلك ويسأل
الله أن يطلعه على ما خفي عنه من أمره ويستغيث به ويسأله
الإقالة لأنه لا بد وأن ۱ يكون قد تقدم له من المخالفة شيء
حتى وقعت به العقوبة من أجله لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ ﴾ ولهذا كان بعض الفضلاء من أهل الصوفة يقول
أعرف تغير حالي في خلق حماري لمراقبته لنفسه فمهما رأى
تغيراً ما انتبه فرجع لنفسه فنظر في أفعاله من أين أُتي
فيها حتى إنه من شدة مراقبتهم أفلس بعضهم في آخر عمره فقال
هذا عقوبة ذنب أوقعته منذ
عشرين سنة قلت لرجل يا مفلس فمن شدة مراقبته عرف من أين
أتي وإن كان الزمان قد طال به وأما الثانية وهي ما يقع
بينك وبين صديقك الذي كنت تعهد منه من المعاملة فشأن من
وقع له ذلك أن يرجع لنفسه فينظر بلسان العلم هل وقع منه ما
يوجب ذلك أم لا فإن وجد شيئاً اعترف لصاحبه بخطئه وتقصيره
واستغفر من فعله وإن لم يجد شيئاً فليسأل عنه من ظهر له
ذلك منه فلعله يخبره بذلك فإما أن يكون له عذر فيستعذر أو
خطأ فيعترف به إلى غير ذلك لأن تغيير الحال المعهود لا يقع
إلا لموجب وبالنظر وبالسؤال بعد النظر يجد ذلك
الثالثة وهي تغير العادة الجارية من الله وهي على ضربين
إما بقطع عادة تكون سبباً الكرامة مثل تغير العادة التي
وقعت لعائشة رضي الله عنها إذ كان تغير العادة لها سبباً
لكرامتها ونزول القرآن في حقها وزيادة في رفع قدرها
والثانية دالة على الغضب والبعد لقوله عليه السلام إذا
أبغض الله قوماً أمطر صيفهم وأصحى شتاءهم ۳ فأخبر عليه
السلام أنه عند الغضب يغير لهم العادة فإذا وقعت هذه
النازلة فليس لها دواء إلا التوبة والإقلاع والاستغفار
ولأجل هذا سَنَّ عليه السلام الاستسقاء وجعل من سنته كثرة
الاستغفار
1 كذا بزيادة الواو سورة الرعد من الآية ١١
۳ لم نقف على مصدره
٧٤٦
وقولها فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فيه
وجوه
الأول صيانة اللسان عن ذكر المستخبثات لأنها كنت عن قضاء
الحاجة بقولها قضيت شأني وكذلك كانت عادة العرب في هذا
المعنى ولذلك سموا قضاء الحاجة غائطاً لأنه عندهم المنخفض
من الأرض وهم كانوا يقضون فيه حاجتهم إبلاغاً في الستر
فسموا الشيء بالموضع الذي يجعل فيه مجازاً لتنزيه كلامهم
عن ذكر المُسْتَخْبَئات
الثاني تفقد المال لأنها أخبرت أنها افتقدت عقدها حين
الرجوع
الثالث جواز تحلي النساء في السفر لكن ذلك بشرط أن يكون
الحلي لا يسمع له صوت
لأنها أخبرت أن العقد كان عليها في حين السفر والعقد ولو
تحرك به صاحبه لم يسمع له صوت
فأما إذا كان الحلي يسمع له صوت فلا يجوز التحلي به إذ ذاك
لأن سمعه سبب لفتنة بعض الناس وقولها فإذا عقد لي من جَزْع
قد انقطع قد يرد عليه سؤال وهو أن يقال ما فائدة إخبارها
بذكر صفة العقد وهي على ما قد قرر لم تذكر شيئاً إلا لمعنى
والجواب عنه أن ذكرها لصفة العقد فيه فائدة لتبين أن العقد
كان له قيمة يسيرة وقد نهى الشارع عليه السلام عن إضاعة
المال عاماً في اليسير والكثير فرجعت في طلبه لأمر الشارع
عليه السلام لا للعقد نفسه وفيه أيضاً فائدة أخرى وهي أن
تبين أنهم كانوا في الدنيا على قدم التجرد والزهد بحيث
أنهم كانوا لا يتحلون بالذهب ولا بالفضة فإن قيل ذلك تزكية
للنفس والتزكية ممنوعة قيل له ليس هذا من باب التزكية لأن
ما تخبر به عن نفسها في هذا المقام فهو إخبار عن حال النبي
فهي تخبر بسنة النبي الله ولا اله الا عن نفسها
وقولها فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فيه دليل على طلب
المال والحث عليه إذا ضاع لأنها رجعت في طلب العقد واشتغلت
بالتماسه حتى رحل القوم عنها
وقولها فأقبل الذين يرحلون بي إلى قولها فاحتملوه فيه وجوه
الأول تبرئتها للموكلين بحمل الهودج مما ينسب إليهم من
الغفلة والتفريط لأنها أنت للتعقيب فعلم بذلك أنهم كانوا
حين إتيانهم يبادرون ويتسارعون في الخدمة من غير
بالفاء وهي
توان يلحقهم وأن ذلك منهم كان عادة مستمرة لا يحتاجون في
ذلك لإذن مستأنف الثاني التزكية لهم ومعناه قريب مما تقدم
لأن إخبارها بسرعة الخدمة منهم تزكية في حقهم إذ إن سرعة
خدمتهم دالة على النصح منهم والوفاء لما يجب من تعظيم جانب
النبوة ثم زادت ذلك وضوحاً وبياناً حتى لا ينسب إليهم شيء
ما من غفلة ولا تفريط بقولها لم يثقلن ولم يغشهن اللحم لأن
الهودج كما قد علم من ثقله والثقل الكثير إذا نقص منه شيء
يسير وجماعة
٧٤٧
تحمله قلّ أن يتفطنوا لذلك لخفائه وهي على ما أخبرت كانت
نحيلة الجسم لم يغشها اللحم كما كن نساء ذلك الوقت على ما
سيأتي بعد فهي بالنسبة إلى ثقل الهودج شيء يسير فزال عنهم
ما يتوقع في حقهم بهذا الإخبار وفي هذا دليل على أن من رمي
بشيء وغيره يصيبه شيء مما رمي به من أجله فإذا قدر على
براءة نفسه فليبريء غيره ويُبْدِي ۱ عذرَه كما يبرىء نفسه
كما فعلت
عائشة رضي الله عنها كما تقدم الثالث تبرئتها مما تُشان به
لأن الهزال في النساء قد يكون عيباً في حقهن فأزالت ما
ينسب إليها من ذلك بقولها وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم
يثقلن ولم يَعْشَهن اللحم فأخبرت أن نساء زمانها كن على
ذلك الحال ولم تكن وحدها كذلك فإذا كان كل النساء على ذلك
الحال فذلك ليس عيباً في حقها وإنما يكون عيباً أن لو كانت
وحدها كذلك
وقد يرد على قولها لم يثقلن ولم يغشَهن اللحم سؤال وهو أن
يقال ما فائدة تكرار هاتين اللفظتين وذكر إحداهما يغني عن
الأخرى
الجواب عنه أن اللفظتين ليستا لمعنى واحد لأن كل سمين ثقيل
وليس كل ثقيل سميناً لأن من استوفى الطعام - وإن لم يسمن -
فقد امتلأ جوفه بالطعام وعروقه بالدم وعصبه وعظمه بالقوة
فيحصل به الثقل بلا سمن لأنه ليس كل الناس يكثر لحمه ويسمن
بامتلاء جوفه بالطعام فقد يكون ذلك وقد لا يكون والثقل لا
بدّ منه فأخبرت أن المعنيين لم يكونا فيها
الرابع الاستعذار عنها وعن غيرها من النسوة التي ذكرت
بقولها وإنما يأكلن العلقة من الطعام والعلقة هي الشيء
اليسير من الطعام فأبدت عذرها وعذرهن في ذلك وأن ما كن
عليه ليس بخلقة خلقن عليها وإنما كان سببه قلة أكلهن
وفي هذا دليل على أن المرء إذا قال في نفسه أو في غيره
شيئاً - وهو يتضمن معنى ما مما قد يلحق به الشين - فليبرىء
نفسه وغيره ببيان العذر في ذلك وما هو السبب الذي لأجله
كان ذلك الخامس تزكية نفسها وغيرها من النسوة في زمانها
لأن قولها وإنما يأكلن العلقة من الطعام تزكية في حقهن لأن
ذلك يبين زهدهن وإيثار من الدين على الدنيا وذلك للقرائن
التي قد علمت من أحوالهن لأن الصحابة رضوان الله عليهم لم
تكن لهم همة ولا نظر إلا في الإقامة بأمر الله وإظهار دينه
وعلو كلمته فشغلهم ذلك عن طلب الدنيا والحثّ عليها حتى كان
النساء يأكلن العلقة من الطعام لأجل زهدهن وقلة الشيء
عندهن فيرضين بذلك فإذا كان أكل النساء
۱ كذا
٧٤٨
على هذه الحال فكيف بأكل الرجال لأنهم أكثر صبراً على
الجوع من النساء وقد جاء أثر يبين أكل الرجال كيف كان وهو
ما روي أنهم كانوا يمصون نواة التمر يتداولونها بينهم
ويقاتلون عليها فإذا كان قلة أكلهن لأجل هذا المعنى
فالإخبار بذلك هو نفس التزكية
فإن قال قائل التزكية ممنوعة بالكتاب فلا يسوغ أن تكون
زكّت نفسها ـ كما ذكرتم - قيل له إنما أنت بذلك تزكية
للغير وتضمن تزكيتها للغير تزكية نفسها بحكم الضرورة وهي
لم تقصده أيضاً فإخبارها بهذه الأحوال ليس من باب التزكية
وإنما هو من باب الإخبار عن حال النبي وسنته وحال الصحابة
رضوان الله عليهم وكيف كانوا في دنياهم
السادس أن المدح والذم إنما يكون بحسب ما اعتاده الناس لأن
الفقر عيب لكن لما كان فقر الصحابة رضي الله عنهم من قبل
زهدهم وورعهم حتى قال بعضهم كنا ندع سبعين باباً من الحلال
مخافة أن نقع في الحرام فلما أن كان فقرهم لأجل هذا المعنى
صار مدحاً في حقهم وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يوم
الدين ومثل ذلك قوله عليه السلام أكثر أهل الجنة البُلْه ۱
والبَلَه باعتبار ما أراده الشارع عليه السلام رفضهم
للدنيا واشتغالهم بطلب الآخرة حتى لا يدرون كيف يكتسبون
الأموال ولا كيف يتسببون في دنياهم وأما في مسائل الدين
فهم أعرف الناس بذلك هذا هو حال الأبله الذي أراد الشارع
عليه السلام
وإذا قال اليوم رجل لإنسان يا أبله وهو يريد ما اصطلحوا
عليه اليوم فذلك ذم له لأن الأبله عندهم من لا يميز مسائل
دينه ولا دنياه وكذلك أيضاً الفقر لأن الفقر عندهم عيب
كبير وقد سموا الغني سعيدا وإن كان ما بيده من غير حله
وعلى غير وجهه فقد يكون ما بيده هو السبب لدخوله جهنم و
عذابه وهم يسمونه سعيداً من أجله فلما أن كان الفقر في
الصحابة رضوان الله عليهم لأجل المعنى الذي ذكرناه كان
مدحاً لهم فلذلك وصفتهم عائشة رضي الله عنها بذلك لأنها
قالت يأكلن العلقة من الطعام وذلك يؤذن بفقرهم وقولها وكنت
جارية حديثة السن قد يرد عليه سؤال وهو أن يقال ما فائدة
ذكرها لصغر سنها ولا يتعلق بذلك معنى مما أرادت أن تبديه
والجواب عنه أنها إنما ذكرت ذلك لتبين عذرها فيما فعلت
لكونها اشتغلت بطلب العقد وتركت القوم حتى رحلوا فقد تنسب
في ذلك إلى الغفلة والتفريط فأتت بذكر صغر سنها لتبين ما
حملها على ذلك لأن صغير السن لم تقع له تجربة بالأمور حتى
يعلم ما يفعل فيما يقع به فلو
1 رواه البزار عن أنس رضي الله عنه كما في الفتح الكبير /۱
٧٤٩
كانت لها تجربة بالأسفار وبما يطرأ فيها لم تكن لتفعل ذلك
ولأتت إلى موضعها قبل بحثها عن العقد فتعلم النبي يا
ليفيتربص عليها حتى تجده كما فعلت في حديث التيمم
ولأجل هذا المعنى قال الفقهاء في الشاهدين العدلين يحملان
شهادتهما وأحدهما مبرز للشهادة وهما عارفان بمقاطعها إنه
يُستفسر غير المبرز عن إجماله ما أراد به والمبرز يقبل منه
بالإجمال ولا يستفسر ولا فرق بينهما غير أن المبرز وقعت له
التجربة بالشهادات وما يطرأ عليه فيها من الفساد وغير
المبرز لم يقع له ذلك
وقولها فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش
فجئت منزلهم وليس فيه أحد فإنما أنت بذلك لتبين عذرها
ولتزيل ما يتوقع في حقها من الغفلة لأنه قد ينسب إليها
أنها أبطأت في الرجوع بعد وجود العقد حتى كان ذلك سبباً
لرحيل القوم عنها فأتت بالفاء التي هي للتعقيب لتبين أن
رجوعها كان في أثر وجود العقد من غير مهلة ولا تراخ وقع
منها ولتبين أنها رجعت على الطريق ولم تحد عنه حتى كان ذلك
سبباً لرحيل القوم عنها لأنها لو حادت عن الطريق لنسبت
بذلك إلى تفريط لأنه قد يقال إنها لما أن كانت جاهلة
بالطريق كان الأولى بها أن تتخذ من يخرج معها ولا تخرج
وحدها لأن ذلك سبب لتخلفها عن القوم فأزالت ما يتخيل هناك
من هذه الأمور لكونها أتت بالفاء فقالت فجئت منزلهم وذلك
يفيد بأنها بعد وجود العقد لم يقع لها تربص في الطريق ولا
في الموضع الذي كانت فيه وإنما قصدت عند وجودها عقدها موضع
هودجها لا غير
وقولها فأممت منزلي الذي كنت فيه أممت بمعنى قصدت أي قصدت
إلى موضع هودجها فأقامت به وهذا مما يشهد لنبلها في أمورها
مع أنها كانت صغيرة السن لأنها لو لم تقعد بموضعها ذلك
وسارت في طلب القوم لاحتمل أن تصيب طريقهم أو تحيد عنه فإن
حادت عنه فتهلك وتتلف نفسها ومقامها بموضعها تقطع فيه
بأنهم يرجعون إليه بذلك الموضع فلما أن احتمل سيرها في أثر
القوم الإتلاف أو التلاقي ومقامها بموضعها تقطع فيه
بالتلاقي فعلت ما تقطع فيه بالنجاة وتركت المحتمل وقد عمل
اليوم جل أهل هذا الزمان بعكس ذلك فأخذوا المحتمل وعملوا
عليه وتركوا ما يقطعون فيه بالخلاص لأنهم أخذوا في التعبد
ودخلوا في المجاهدات من غير أن يلاحظوا السنة ويتبعوها
وتعبدهم و مجاهدتهم مع ترك نظرهم إلى سنة النبي ا ل لذلك
قل أن يُقبل منهم وإن قبل فلا يعلم هل يخلص أم لا والاتباع
كان أولى بهم من ذلك لأنه يقطع فيه بالخلاص والنجاة
۱ انظر البخاري كتاب التيمم
٧٥٠
بفضل الله ومنته لقوله تعالى ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ۱
ولقوله عليه السلام إن الله لا يقبل عمل امرىء حتى يتقنه
قالوا يا رسول الله وما إتقانه قال يخلصه من الرياء
والبدعة ٢
والرياء هو العمل لأجل الناس والبدعة هي أن تعمل في التعبد
ما لم يأمر الشارع عليه السلام به ولا فعله وقد قال عليه
السلام من أحيا سنة من سنتي قد أميتت فكأنما أحياني ومن
أحياني كان معي في الجنة ۳ فالتابع اليوم للسنة قد شهد له
النبي بالجنة كما شهد للعشرة ٤ الله الله عنهم غير أن
العشرة كانت لهم الفضيلة من جهة أخرى وهي ما خصوا به من
المزية لقوله تعالى وَكَانُوا أَحَقَ بِهَا وَأَهْلَهَا ٥
وما أعطاهم الله ومن عليهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم
ورؤيته وتساووا مع غيرهم ممن أحيا اليوم سنته في الوعد
الجميل بدار النعيم والخلود فيها
رضي
وقولها فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ ظننت بمعنى علمت
وسيفقدونني ليس يعود على من كان يحمل الهودج لأنهم لا
يفقدونها إنما هو عائد على النبي الله لأن سيد القوم يكنى
عنه بلفظ الجمع ويحتمل أن يكون عائداً على ذوي محارمها من
أب أو أخ أو غير ذلك ممن يجوز له الدخول عليها ا
وقولها فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت يحتمل أن يكون
نومها بهذا الموضع لأحد وجهين وقد يجتمعان أحدهما أنها
كانت حديثة السن والحديث السن كثير النوم لأجل ما معه من
الرطوبات فلم تقدر أن تقعد لكثرة النوم الذي كان بها
ويحتمل أن يكون نومها كرامة من الله في حقها لأن موضعها
موضع الفزع سيما صغير السن إذا كان في البرية وحيداً
وبخاصة إذا كانوا راجعين من الغزو والأعداء كثيرون فلما أن
اجتمعت عليها هذه الأسباب وكل واحدة منها موجبة للخوف فكيف
بالجميع فأرسل الله عليها النوم ليذهب عنها ما تجد من ذلك
۱ سورة ال عمران من الاية ۳۱ أخرج أبو داود في المصاحف
وابن النجار عن السيدة عائشة أن النبي ال قال إن الله يحب
إذا عمل العبد عملاً أن يحكمه وفي رواية للبيهقي أن يتقنه
۳ رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه بلفظ من أحيا سنتي فقد
أحياني الخ ٤ العشرة المبشرون بالجنة هم أبو بكر الصديق
عمر بن الخطاب عثمان بن عفان علي بن أبي طالب عبد الرحمن
بن عوف سعد بن أبي وقاص الزبير بن العوام طلحة بن الزبير
سعيد بن زيد أبو عبيدة بن الجراح وقد ذكرهم رسول الله الله
في حديث واحد على أن هنالك مبشرين آخرين بالجنة يقرب عددهم
من الثلاثين منهم السيدة فاطمة والسيدة عائشة وثابت بن قيس
وسواهم ممن وردت فيهم أحاديث متفرقة
5 سورة الفتح من الآية ٢٦
٧٥١
وزال
ومثل هذا قوله تعالى إِذْ يُفَشِيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً
مِّنْهُ ﴾ ۱ فأرسل الله عزّ وجلّ النوم
عنهم
على المؤمنين حين كثر عليهم الخوف وكان بينهم وبين
المشركين رملة لا يستطيعون قتالهم بها فأنزل الله عزّ وجلّ
المطر وهم نيام فتهيأت الرملة وحسن عليها القتال فلما أن
ارتفع المطر ما كانوا يخافون أذهب الله عنهم النوم فاستيقظ
القوم ومنهم من سقط سيفه من يده لكثرة نومه لأن نومهم كان
وهم على ظهور خيولهم ومتهيئون للحرب والمشركون لم يرسل
الله عليهم نوماً وبقي عليهم الخوف الشديد فكان نوم
المؤمنين كرامة في حقهم فكذلك نوم الله عنها لما أن كثرت
عليها أسباب الخوف أرسل الله عليها النوم حتى زال عنها
عائشة رضي ذلك بالفرج
وقولها وكان صفوان بن المعطّل السُّلَمِي إلى قولها يقود
بي الراحلة فيه وجوه الأول أن السنّة في السفر أن يكون
وراء القوم رجل أمين معروف بالصلاح والخير يقفو أثرهم
لأنها أخبرت أن صفوان بن المعطّل كان من وراء الجيش وصفوان
هذا كان من أهل الخير والصلاح لأن النبي و شهد له بذلك على
ما سيأتي ولأجل ما يعلم فيه من الأمانة والخير جعله عليه
السلام يقفو أثر القوم والعلة في ذلك أن القوم إذا رحلوا
عن موضعهم قد يتركون شيئاً من حوائجهم نسياناً أو يقع لهم
من أموالهم أو ينقطع أحدهم فيتلف عنهم كما اتفق لعائشة رضي
الله عنها فإذا كان من وراء القوم من يقفو أثرهم وكان
صالحاً أميناً أمن ذلك لأنه إن وجد مالاً
دفعه بأمانته لصاحبه وإن وجد ضعيفاً أو تالفاً حمله كما
فعل صفوان مع عائشة رضي الله عنها ولقد ذكرت اسم الرجل
لتبرىء نفسها مما رميت به ومن أسبابه لما يعلم من صلاحه
ودينه وأنه ليس فيه أهلية لما قيل فيه وذكرت كيفية قدومه
عليها لتزيل ما يتخيل هناك من الشوائب بالكُلَّيَّةِ من
کلام ومراجعة وغير ذلك
الثاني أن للمرأة أن تكون في الهودج كما هي في بيتها ولا
تكلف أن تستتر فيه لأنها قالت وكان يراني قبل الحجاب فأفاد
ذلك أنه عرفها وما وقعت المعرفة إلا لأنه قد رأى منها
شيئاً ظاهراً حتى عرفها به فلو كانت مستترة بالستر الذي
أمر النساء أن يخرجن به لم يرَ منها شيئاً ولو كانت في
الهودج مستترة كلها لكان الخروج بذلك أولى أكان الخروج
ليلاً أو نهاراً ولأن الهودج يغني عن الستر لأنه كالبيت
وهي إذا كانت في البيت غير مأمورة بذلك والخروج في الليل
في الظلمة فيه ذلك المعنى لأن الليل ستر بذاته فلا يُرى
للمرء شخص فيه تتحقق صفاته به فلا يجب عليها الستر الذي
يجب بالنهار عدا الليالي المقمرة إذا كانت صاحية
۱ سورة الأنفال من الاية ۱۱
٧٥٢
الثالث أن كلام المرأة لا يجوز إلا لضرورة لا بد منها بعد
العجز عن التحيل في عدم
الكلام إلا أن تكون تلك الضرورة لا بد فيها من الكلام ولا
تزول الضرورة إلا به فذلك سائغ مثل الشهادة على المرأة إلى
غير ذلك لأنها أخبرت أن صفوان لما عرفها لم ينادها باسمها
ولا سألها عن خبرها وإنما كان يُرجع لأن السؤال يستدعي
الجواب فعدل عن ذلك إلى كلام لا يحتاج فيه إلى جواب بحيلة
لطيفة وهذا مما يشهد له بالدين وحسن النبالة والاسترجاع هو
قول المرء إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾
۱ وكذلك أيضاً قوله لا حول ولا قوة إلا بالله لما أن رآها
وعرفها نزل عن راحلته وهو يرجع لكي تستيقظ باسترجاعه ثم
وطىء يد الناقة لأن عادة العرب إذا
أرادوا أن يركبوا أحداً وطئوا يد الناقة ليتهيأ للركوب
فكأنه يقول لها اركبي للعادة المعروفة فلما أن أفاقت
لاسترجاعه ورأت منه تلك الحالة علمت أنه يريد ركوبها
للناقة فركبت ثم أخذ رضي الله عنه بزمام الناقة فقادها
ليكون ذلك أستَرَ لها فلا يرى لها شخصاً ولو كان خلفها
لاحتاج أن يغمض عينيه ولكانت هي متوقعة خائفة من وقوع
النظر فتقدم لكي يجيل بصره حيث أراد ولكي يرى الطريق فيمشي
عليه ويقصد القوم ولكي تبقى مستترة لا تتوقع شيئاً ولا
تخافه كل هذا من دينه وأدبه ومسايسته ولأجل ما فيه من هذه
المعاني جعله النبي لا يقفو أثرهم وقولها حتى أتينا الجيش
بعدما نزلوا مُعَرَّسين في نَحْرِ الظهيرة أي لم يزالوا
على تلك الحال لحقوا بالقوم وكان وصولهم في نخر الظهيرة
والقوم قد نزلوا والتعريس يطلق على النزول والإقامة عن
السير أكان ذلك ليلا ونهاراً وقولها فهلك من هلك فإنما
أبهمت ذكر الهالكين ولا ذكرت بم هلكوا للعلم بذلك وقولها
وكان الذي تولى الإفكَ عبد الله بنُ أَبي ابن سَلُول عبد
الله هذا من كبار المنافقين وهو رأس من تكلم فيها وتقول
وقال فأبدت ذكره وبينت اسمه لتبين أن أصل ما قيل كان من
قبله وما كان ابتداؤه ممن كان هذا حاله فهو كذب محض لا شك
فيه كما ذكرت أيضاً اسم صفوان للعلم بدينه وما هو عليه عن
الخير كل ذلك لتتيقن براءتها ويسلم الناس مما نزل بهم في
ذلك وقولها فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً اشتكيت بمعنى
مرضت أي أصابها المرض مدة شهر بعد قدومها من السفر وإنما
ذكرت مرضها لتبين العذر الذي منعها من معرفة ما قيل مدة
الشهر لأن المريض أحكمت السنة فيه ألا يقال له في تلك
الحال ما يؤلمه وقولها يفيضون من قول أصحاب الإفك أي اشتهر
ما قاله أهل الإفك عند الناس وكانوا
۱ سورة البقرة من الآية ١٥٦
٧٥٣
يتحدثون به بينهم ولا يظن ظان أن الصحابة رضي الله عنهم أو
واحد منهم وقع فيها بشيء مما قيل أو صدق به وإنما كان
تحدثهم في ذلك على سبيل التعجب والإنكار حتى لقد كان الرجل
منهم يقول لزوجته ألم تسمعي ما قيل في فلانة فتقول زوجته
لو قيل لك ذلك في أكنتَ تصدّق فيقول لا والله فتقول فكيف
بفلانة
وقولها ويريبني في وجعي إلى قولها حتى نقهت فيه وجوه
الأول أن المريض يزيد بتغير الباطن لأنها قالت ويريبني في
وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أعهد منه حين
أمرض ويريبني بمعنى يزيدني فازداد الألم بها لتغير باطنها
لنقص إحسان النبي لها وما عهدت منه من اللطف والرحمة في
حال المرض ثم المرض بالنسبة إلى الباطن والظاهر ينقسم
قسمين فمرض حسي ومرض معنوي فالحسي هو ما يكون في البدن
والمعنوي هو ما يتعلق بالنفس من التغييرات والهموم
والأحزان
فأما المرض الحسي فشأن صاحبه التردد إلى الطبيب وامتثال ما
يأمره به من الأدوية إن كان جاهلاً بالطب فإن كان للحياة
أذهب الله عنه ذاك الألم لأن الله عزّ وجلّ لما أن خلق
الداء خلق له الدواء وقد كانت عائشة رضي الله عنها أعرف
الناس بالطّب فسئلت من أين اكتسبت ذلك فقالت كان رسول الله
الله كثير الأمراض وكان يتداوى فما من علة إلا ومرض بها
وعالجها فالمداواة من السنة اللهم إلا من ترك ذلك ثقة بربه
ومتكلا عليه في برئه فهو أولى لقوله عليه السلام يدخل من
أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب وهم الذين لا
يَسْتَرْقون ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون ۱ فمن قدر
على هذا كان أولى ومن لم يقدر عليه فله في السنة اتساع لأن
النبي إنما ترك ذلك ورجع إلى التداوي والمعالجة لأنه هو
المشرع ثم إنه إذا تطبّب يحذر أن يعتقد أن ذلك يبرئه وإنما
يرجو ذلك من الله ويتكل عليه فيه ويفعل الأسباب امتثالاً
للسنة وإظهاراً للحكمة لا لغير ذلك هذا هو حكم المرض الحسي
وأما المرض المعنوي فهو ينقسم قسمين فالأول هو النفاق كما
قال تعالى ﴿ فِي قُلُوبِهِم تَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضًا ذلك ليس له دواء ولا معالجة إلا الدخول في الإسلام
والتصديق
بوعد الله ووعيده
وأما الثاني فهو في المؤمنين وهو ما يخطر في بواطنهم من
الوسواس ومن الكسل عن العبادات وذلك ليس له دواء إلا
الدخول في المجاهدات وترك الوقوف مع ما يقع في الباطن من
ذلك وقد قال عليه السلام إن الشيطان يأتي أحدَكُم فيقول
مَن خَلَق كذا من خَلَق كذا حتى
1 رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وسقط من الحديث
في كلام ابن أبي جمرة عبارة ولا يكتوون سورة البقرة من
الاية ۱۰
٧٥٤
يقول له مَن خَلَق ربَّك فإذا قال له ذلك فَلْيستَعِذْ
بالله وَلْيَتَبِه۱ ومعنى وَليَنْتَبِه أنه يعرف أن ذلك من
الشيطان فلْيُلْقِه عنه لأن المرء ليس هو مأموراً بألا يقع
له شيء من هذه الأمور وإنما هو مأمور بأن يدفع ما يقع له
فإذا كثر ذلك منه ولم يقدر على دفعه فالمجاهدة إذ ذاك
والدخول في أنواع التعبدات والتعمق فيها ولأجل هذا المعنى
تُحتاجُ المجاهدة لتزيل ما يُتوقع هناك من هذه الأمور ولأن
ألم الظاهر يذهب بوسواس الباطن هذا هو حكم المرض المعنوي
ثم نرجع إلى بيان الوجوه المستفادة على ما قررناه
أهلا ومع
الآن
الثاني أن تغيير العادة موجب لحكم ثان لأن النبي ل ا ل ل
لم يغير لها العادة حتى تحدث في شأنها وفي هذا دليل للقول
بسَد الذريعة لأن النبي يا لا لا لا لا يعلم في أهله كل
خير وأنهم ليسوا لما قيل ذلك نقص لها من العادة وأظهر لها
من الهجران شيئاً ما سَدّاً للذريعة لأن الغَيْرَةَ من
الدين ولو لم يفعل النبي لا لا لا لا ل ذ ل ك لا لأدى ذلك
إلى تَرْك الغَيْرة لأنه قد يقال في غيرها شيء مما قيل
فيها أو ما يشبهه فيترك الامتعاض لذلك اقتداءً به عليه
السلام والامتعاض لذلك هو الغَيْرة والغيرة شعبة من شُعَب
الإيمان ففعل ذلك لأجل هذا المعنى
الثالث أن السنَّة في المريض أن يُلطف به لأنها قالت لا
أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنتُ أعهد
منه حين أمرَض فأفاد ذلك أنه عليه السلام كان له لطف زائد
للمريض وقد آمر عليه السلام في غير هذا الحديث أن يُفسح
للمريض في عمره لأن مرض البدن هو الحسي والنفس ترتاح إلى
طول الحياة وتشتهي العافية فإذا فُسح لها في العمر حصل لها
راحة من المرض المعنوي لارتياح نفسه مما بها من غم المرض
بما يقال له في ذلك فقد يكون ذلك سبباً لخفة المرض عنه كما
أنه أيضاً بتغيّر باطنه يزيد به المرض كما تقدم
الرابع أن من قيل فيه شيء يكون قذفاً في حقه فذلك يوجب
هَجْرَه وإن لم يتحقق عليه ما قيل ولا يجوز هجرُه بالكلية
وإنما يُنقص له من العادة التي كان يعامل بها بحسب ما كان
الواقع لأن النبي ما لم يبق لعائشة رضي الله عنها ما الله
عنها ما عهدت منه من اللطف ولم يَهجُرها أيضاً بالكلية
لأنه عليه السلام كان يسلّم حين يدخل وقد روي عنه عليه
السلام أن السلام يُخرِج من
الهجران ۳
۱ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه في
البخاري يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا
حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ
رواه الترمذي في الطب عن أبي سعيد أن رسول الله قال إذا
دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله فإن ذلك لا يرد شيئاً
ويطيب نفسه
۳ رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي
أيوب رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ لا يحل لمسلم أن =
Voo
الخامس أن من وقع ذلك به لا يُكلَّم كلاماً يستدعي الجواب
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليسأل عن حالها لأن
ذلك يستدعي الجواب فإذا وقع منها الجواب والمراجعة في
الكلام كان ذلك موجباً للطف فزال ما أريد من الهجران
السادس السؤال عن أهل البيت إذا كانوا مرضى لأنه عليه
السلام كان يسأل عنها والعلة في ذلك أنه قد يزيد عليهم
زيادة في مرضهم فيتعين على رب البيت القيام بتلك الوظيفة
السابع السلام على أهل البيت لأنه عليه السلام كان يسلّم
حين دخوله عليهم وقد روي أن ذلك سبب للبركة في البيت ۱
وقولها فخرجتُ أنا وأمّ مِسْطَح إلى قولها فازددتُ مرضاً
على مرضي فيه وجوه الأول جواز خروج المرأة لقضاء حاجتها من
غير أن تستأذن في ذلك لأنها أخبرت أنها خرجت لذلك ولم تذكر
أنها استأذنت ولأنها عادة تقدمت وكل عادة مستمرة لا يُحتاج
فيها إلى إذن الثاني صيانة اللسان عن ذكر المستقذرات وحسن
الكناية في ذلك لأنها كنت عن ذكر قضاء الحاجة بقولها
مُتَبَرَّزنا وقد تقدم
الثالث صيانة البلد عن الفضلات لأنها أخبرت أنهم كانوا
يخرجون إلى البرية لقضاء حاجة الإنسان على عادة العرب
الأول لتنزيه بلدهم عن فضلات الإنسان فكانت بلدهم مصانة عن
فضلات الإنسان
ولهذا المعنى قال عليه السلام في المرأة تَجُرّ مرطها
وتمشي في المكان القذر إن ما بعده يطهره ۳ لكون البلد كان
مصانا ٤ من النجاسات وإن كان فيه شيء من فضلات الدواب فذلك
قليل وإن كان فيكون في وسط الطريق لأن الدواب غالبُ
سَيرِها في وسط الطريق والسنة في مشي النساء إذا خرجن مع
الحيطان ولذلك قال عليه السلام ضيقوا عليهن
يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيصد هذا ويصدّ هذا
وخيرهما الذي يبدأ بالسلام
۱ رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً ولفظه يا بني
إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تكون بركة
عليك وعلى أهل بيتك
كذا والصواب مصونة
۳ رواه الإمام مالك في الموطأ في الطهارة وأبو داود في
الطهارة والترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها
٤ كذا والصواب مصوناً
٧٥٦
الطرق لكي يكون مَشْيُهُنَّ مع الجدران ۱ وفضلات الدواب لا
تكون هناك هذا هو الغالب وإن كان من ذلك شيء فنادر والنادر
لا يحكم به
سمي
وقد نهى عليه السلام عن قضاء الحاجة في ظل الجدران على
الإطلاق وكذلك في ظِلَ الشجر كان ذلك في البلد أو في
البرية فالغالب على هذه المواضع سلامتها من النجاسات ولهذا
بالمكان القَذِر لأن القَذِر غيرُ النَّجِس فالقذر هو ما
تعافه النفوس وهو في نفسه طاهر فجعل عليه السلام أن ما
بعده من المواضع النظيفة التي يمرّ عليها تطهره إزالة لما
في النفوس من ذلك كما جعل عليه السلام النَّصْحَ طَهوراً
لما شُكٍّ فيه إزالة لما في النفوس ولو كان المراد بـ
القذر النَّجس لأمَرَ عليه السلام بغسله على الإطلاق كما
أمر بذلك في النجاسة تصيب الثوب وتتعلق به ولم يأمر فيه
بالنَّضح
الرابع صيانة البيوت عن اتخاذ الكُنُفِ فيها لأنها قالت
قبل أن تُتَّخذ الكنُفُ قريباً من بيوتنا فأفاد ذلك أنهم
حين اتخذوا الكنف لم يتخذوها في البيوت ولكن اتخذوها خارجة
عنها قريبة منهم ولأن الكنف موضعُ النجاسات وقد نَهى عن
الذكر فيها وقد أُمرنا بالتعبد في البيوت فمُنِعَت أن تكون
في البيوت لأجل هذا المعنى
الخامس أن المرأة لا تخرج لقضاء الحاجة إلا مستَتِرَةً إذا
كان الموضع الذي تخرج إليه خارجاً عن موضعها بحيث أنها
تُضطر أن تشترك مع غيرها في الطريق لأنها قالت لا نخرج إلا
ليلا إلى ليل لأن الليل زيادة في الستر وقولها في البرّية
أو في التنزه شك من الراوي في أيهما
قالت عائشة رضي الله عنها السادس نُصرة المؤمن والتعظيم له
وهو لازم مع الأجانب والأقارب لأن أم مسطح لما قالت تَعِسَ
مِسْطَح قالت لها بِسَ ما قلتِ أَتَسُبّينَ رجلاً شهد
بدراً وإن كان مسطح ابناً لها فردت عائشة رضي الله عنها ما
قالت فيه والدته بقولها بئس ما قلتِ وعظمته بقولها
أتسبّينَ
رجلاً شهد بدراً
السابع أن الأصل استصحاب الحال لأنها استصحبت ما كان عندها
من عدالة مِسْطَح لكونه شهد بدراً وأنكرت ما قيل فيه حتى
يثبت ذلك عندها بيقين الثامن أن الذاكر لشيء يُنْتَقَدُ
عليه فَعَلَيْهِ أن يأتي بالدليل على جوازه لأن أم مسطح
لما
۱ رواه أبو داود بإسناد ضعيف بلفظ إن أبا أسيد سمع رسول
الله الله يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط
الرجال مع النساء استأخرن فليس لكن أن تحققن الطريق عليكن
بحافات الطرق فكانت المرأة تلصق بالجدار
نى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها
=
Vov
ذكرت ما يُنتقد عليها أنت بالدليل على جواز ما ذكرت بقولها
ألم تسمعي إلى ما قالوا وأخبرت
بأن ولدها كان في جملة من خاض مع الخائضين
التاسع أن الشَّيْنَ في الدِّين يؤلم أهل الفضل أكثر
الإيلام لأنها أخبرت أنها لما قيل فيها ما قيل - وذلك
شَيْن في الدِّين - حزنت لذلك حتى لم يبق لها نوم على ما
سيأتي ثم بقي بحث في خروج أم مسطح معها هل كان ذلك منها
قصداً أو موافقة أو عائشة رضي الله عنها أمرتها بالخروج
معها يحتمل كل ذلك وكل وجه من هذه الوجوه يُستَدَل به على
حكم
فإن كان الأول فهو من باب حسن الحيلة والإرادة وأن يظهر
المرء شيئاً وقصده غيره وهو جائز ما لم يكن فيه ضرر بالغير
لأنها خرجت على سبيل الخدمة والأنس لعائشة رضي الله عنها
وقصدها لعلها أن تعرف من أخبار ولدها شيئاً
وإن كان الثاني فهو من باب تسبيب الأمر الذي قدَّر القدَر
نفوذه لأن خروج أم مسطح معها من جملة الأسباب التي من
أجلها عرفت الأمر
وإن كان الثالث ففيه دليل على أن النّاقِة من المرض له أن
يخرج مع غيره لتصرفه لكي يكون له عوناً على المشي لأنه
يجده يتكيء عليه إذا تعب وقد يضعف عن المشي فإذا كان معه
غيره يجد من يحمله ويرده لموضعه
ثم عثور أم مسطح في مرطها ودعاؤها على ولدها يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون بحكم القدر وهو تمام للأسباب التي بها وصل
العلم لعائشة رضي الله عنها وهو إظهار للقدرة والثاني أن
يكون بالقصد منها وهو من باب حسن التسبب في الأمر والتحقق
وهو جائز على الوجه الذي قدمناه وهو ما لم يكن فيه ضرر
بالمسلمين
وفيه دليل على أن السنّة في لبس النساء الطويل من الثياب
لأن أم مسطح عثرت في مرطها لو كان قصيراً لم تكن لتعثر فيه
وقد صرح الشارع عليه السلام بذلك في غير هذا
الحديث وذلك بخلاف لبس الرجال
وقولها فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى قولها إلا أكثرن عليها فيه وجوه الأول أنه
ليس للمرأة أن تخرج إلا بإذن من زوجها لأنها استأذنت النبي
صلى الله عليه وسلم في زيارة
أبويها فأذن لها وحينئذ خرجت فإذا كان هذا في حق الأبوين
فكيف بغيرهما الثاني جواز عمل المندوب والمقصود منه ما هو
أعلى في الدين يؤخذ ذلك من أنها
طلبت زيادة أبويها وهي من المندوبات وقصدها الكشف عما هو
شَيْنٌ في دينها
VOA
الثالث جواز التورية وهي إظهار شيء والمراد غيره لأنها
استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة أبويها ولم
تُرِد ذلك وإنما أرادت أن تستيقن الخبر من قبلهما وكذلك
كان النبي يفعل إذا أراد أن يخرج إلى جهة يغزوها أو ما إلى
غيرها إلا في غزوة واحدة وهي غزوة تبوك لبعدها ولهذا
المعنى قال عليه السلام استعينوا على حوائجكم بالكتمان لكن
يُشترط في ذلك ألا يقع للغير به مضرة ممنوعة شرعاً فإن وقع
ذلك فلا يجوز وهو من الخديعة والمكر وقد أخبر عليه السلام
الصحابة حين كان سفره للبعد لئلا يقع بهم ضرر لأنه لو لم
يعرفهم بذلك لدخل عليهم الضرر به لكونهم لم يتأهبوا للسفر
البعيد ولا عملوا عليه
الرابع أن من وقعت به نازلة وهي محتملة للصدق والكذب فلا
يعجل فيها وَليَتَثَبَّت حتى يَسْتَيْقِن ذلك بالفحص عنه
ويعلم وجه الصواب فيه لأنها لما أخبرتها أم مسطح بما قيل
فيها لم تيق بقولها حتى مضت واستيقنت الخبر من قبل أمها
فوجدت الأمر كما قيل لها وإن كان خبر الواحد معمولاً به
على المشهور من الأقاويل لكن ذلك في التدين وأما في
النوازل فخبر الواحد فيه سبب للفحص والبحث في النازلة حتى
يتبين فيها الضعف أو التحقيق
الخامس الإجمال في السؤال عند النازلة لأنها أجملت لأمها
في السؤال ولم تذكر لها ما سمعت من أم مسطح والإجمال هو
الاستطلاع من الغير هل عنده مما قيل شيء أم لا وهل عنده
زيادة على ما قيل أو نقص منه
السادس أن من وقعت به نازلة فليأخذ فيها مع أقرب الناس
إليه وأحبهم إليه بشرط أن يكون عاقلاً عارفاً بعواقب
الأمور لأنها لما نزلت بها هذه النازلة ركنت عند ذلك إلى
أبويها لكونهما أقرب الناس إليها وأحبَّهم فيها ولهما في
الدين والعقل والعلم والمعرفة بعواقب الأمور
قَدَمُ السَّبْق
السابع تسلية المصاب عن مصيبته لأنها لما أن اشتكت لأمها
مما قيل فيها سلّتها عن ذلك بقولها هوني على نفسك الشَّأن
ومن أعظم التسلية إعطاؤها العلة الموجبة لمثل ذلك الأمر
المؤلم وهي ما ذكرت لها بقولها والله ما كانت امرأة قط
وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرْنَ عليها وأكدت
لها ذلك باليمين وهذا الاستثناء يحتاج فيه إلى بحث وهو هل
هو منفصل أو متصل وما المراد به إن كان متصلاً وما المراد
به إن كان منفصلاً
فإن كان منفصلاً فيكون المراد بقولها إلا أكثرن عليها أي
أكثر عليها بعض نساء ذلك
1 رواه العقيلي وابن عدي والطبراني في الكبير وأبو نعيم في
الحلية والبيهقي في الشعب عن معاذ رضي الله عنه
٧٥٩
الزمان لأن العادة جارية بأن المرأة إذا كان فيها أحد هذه
الثلاث ۱ أكثر النساء الكلام فيها فكيف بمجموعها وحمله على
هذا الوجه أولى وهو الظاهر للقرائن التي قارنته لأن ضده
وهو المتصل محال أن يُحمل على أزواج النبي لا لا لا لا لا
لأنهن لم يَغْتَبن أحداً فكيف تقع منهن الفرية ذلك محال
وكذلك أمها أيضاً لم تكن لتظن ذلك في نساء النبي ل لا لا
لالا لما يعلم من دينها أيضاً فكيف بها تقع في ذلك وإن كان
متصلاً فيكون التقدير إلا أكثرن عليها أي أكثر عليها بعض
أتباع ضرائرها لأن أم عائشة رضي الله عنها محال في حقها أن
تقع في نساء النبي لا فتقول عليهن ما لم يقلن ومحال في
حقهن أيضاً أن يتكلمن بذلك كيف يقع ذلك منهن ولقد اختار هن
الله لسيّد المرسلين وقد قال عزّ وجلّ في حقهن لَسْتُنَّ
كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ فلم يبق بعد التسليم في
الاستثناء أنه متصل إلا أن يكون المراد بعض أتباع الضرائر
ومثل هذا في السنة العرب كثير ومنه قوله تعالى حَتَّى
إِذَا اسْتَيْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا ٣ ومعلوم أن الرسل عليهم السلام لم يَستَيْنِسوا
فأطلق عزّ وجلّ الإياس على الرسل قَطُّ وإنما وقع الإياس
من بعض أتباعهم والمراد بعض أتباعهم ومنه قوله تعالى
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ ٤
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع له شكٍّ أنزل
الله إليه وإنما المراد بعضُ أتباعه فكيف فيما نحن بسبيله
وليس من شرط أتباع النبي له الا الله و أن يكن كلهن مؤمنات
بل فيهن المؤمنات وغيرهن لأن المنافقين والمنافقات كانوا
في ذلك الزمان كثيرين وكانوا يريدون أن يتخدموا بيت النبوة
سترا على أنفسهم هذا إذا وقع التسليم بأن الاستثناء متصل
وليس كذلك يشهد لذلك عموم قولها إلا أكثَرْنَ عليها ومعلوم
أن الضرائر غير المذكورات لا يخلو أن يكن صالحات أو غير
صالحات فالصالحات منهن لا يَرضَيْن بالغيبة فكيف بالفِرية
ولا يكن صالحات مع وقوعهن في شيء من هذا الأمر فلبطلان
العموم بدليل ما ذكرناه انتفى أن يكون متصلاً يعود على
الضرائر وبقي ذلك في حق بعض الناس واقعاً لأن بعض أسافل
الناس إذا سمعوا عن أحد تلك العلة المذكورة تحدثوا في شأن
المذكور بالزيادة والنقص بما لم يعلموا ويعاينوا لضعف
الدين وقلة العقل
وقولها سبحان الله استغاثة منها بالله تعالى عند تحققها
بالنازلة وقد نطق القرآن العزيز بما
۱ يعني بـ سورة الأحزاب من الآية ۳ ۳ سورة يوسف من الاية
۱۱۰ ٤ سورة يونس من الاية ٩٤
الثلاث وضيئة ويحبّها زوجها ولها ضرائر
٧٦٠
نطقت به فقال تعالى عند ذكر شأنها فيما جرى وَلَوْلَا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لنا أن نتكلم بهذا
سُبْحَنَكَ هَذَا بُهْتَنُ عَظِيمٌ فسبحان من وفقها
لموافقة كتاب ربها قبل نزوله عند تحققها بالنازلة
وقولها ولقد تحدث الناس بهذا ! تعجب منها لعلمها بعدم
الموجب لذلك وقولها فيتُ تلك الليلة حتى أصبحت لا يُرقأ لي
دمع ولا أكتحل بنوم فيه وجهان الأول أن الهموم موجبة للسهر
وسيلان الدموع لأنها لما أن تحققت بالنازلة كَثُرَهمُها
وكَثُر دمعها وانتفى عند ذلك نومها
الثاني أن أهل الفضل والخير إنما همهم ما كان من قبل
أخراهم لأنها لما أن نزلت بها هذه النازلة وهي من طريق
الآخرة وما تشان به في الدين كَثر همها لأجل ذلك لأن
الكلام فيها بذلك شَيْن عليها في الدين ولو كان ذلك الواقع
من جهة الدنيا لم تكن لتحزن عليه فإن الدنيا عندهم قد
رفضوها وراء ظهورهم وسَمِعوا فيها قول النبي الو كانت
الدنيا تُساوي عند الله جَناحَ بعوضة ما سقى الكافر منها
جرعة ماء فالأصل عندهم سلامة الدين والتحفظ عليه والدنيا
عندهم تبع فإذا وقع لهم شين في الدنيا لم يبالوا بذلك بل
هم مستبشرون بما لهم عليه في الآخرة من الأجور وإن وقع
شَيْن في الأصل - وهو الدِّين - كثر حزنُهم ووَجَلُهم
واستغاثوا بربهم واضطروا إليه كما فعلت عائشة رضي الله
عنها
وقولها فدعا رسول الله الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد
حين استلبَثَ الوحي يستشيرهما
في فراق أهله فيه وجوه
الأول أن ما اتفق للنبي لا اله الله في هذه النازلة من
كونه لم يعلم الأمر فيها فذلك دال على معجزته وصدقه في كل
ما جاء به عن ربه عزّ وجلّ لأنه عليه السلام أتى بأشياء
خارقة للعادات على ما تواتر وعُلِم وأخبر عليه السلام بما
سيكون إلى يوم القيامة وفي هذه النازلة التي هي في أهله لم
يكن له علم بها حتى استشار غيره فيما يفعل فيها وظهرت عليه
فيها أوصاف البشرية فكان ذلك دالاً على أن كل ما أتى به
عليه السلام من أخبار الغيوب والمعجزات هي من الله عزّ
وجلّ ولو كان ذلك من غير هذا الوجه على ما قاله أهل الكفر
والعناد لكان ذلك أولى أن يعلم هذه النازلة ويتحقق فيها ما
كان فلما أن كان هذا عُلِم أن الأمر ليس بيده وإنما يعلم
من الأشياء ما أطلعه الله عليها وما علمه إياها
1 سورة النور من الآية ١٦
رواه الترمذي وصححه الضياء في المختارة عن سهل بن سعد رضي
الله عنه بلفظ تعدل عند الله بدلاً من
تساوي عند الله
٧٦١
الثاني جواز المشورة لكن بشرط أن يكون المستشار فيه أهلية
لذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أن وقع له ما وقع
دعا عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما في فراق
أهله وعلي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فيهما أهلية للمشورة
على ما تواتر وعلم من فضلهما وفيه دليل على أن من السنة
استشارة الشباب في النوازل لأن النبي استشارهما وكانا
شابين ومن هذا الباب - والله أعلم - كان عمر بن الخطاب
يجمع الشباب إذا وقعت به النوازل فيستشيرهم فيها
الثالث أن السيّد في قومه أو الحاكم عليهم أو من فاق غيره
في الخير والصلاح إذا نزلت يه نازلة فله أن يستشير من هو
أدنى منه فيها لأن النبي ا ا ا ا ل و كما قد علم هو أفضلُ
البشر لكن لما أن وقع له ما وقع استشار فيه أسامة وعلياً
لكن تكون المشورة لمن فيه أهلية لها كما تقدم وإنما أنت
بذكر الفراق مطلقاً في الأهل ولم تذكر نفسها لوجهين الأول
للقرينة التي هناك يُعلم بها أنها أرادت نفسها الثاني
كراهية ذلك اللفظ منها أن تُطلِقه على نفسها
وقولها فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من
الودَّ لهم أي بما يعلم في نفس النبي من الود لعائشة رضي
الله عنها وقولها فقال أسامة أهلك يا رسول الله ولا نعلم
عنها والله إلا خيراً إنما حلف أسامة على ما ذكر لأنه
مستشار وليس بشاهد فحلف على ما قاله بأنه حق
ليقوى عند النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى إنه لا يشك
فيه
وقولها وأما علي فقال يا رسول الله الله و لم يضيق الله
عليك والنساء سواها كثير واسأل الجارية تَصْدُقَكَ إنما
قال علي ذلك لما يعلم من براءة الشخص مما رُمي به وترك
إيقاع الحكم لما يظهر الله عزّ وجلّ لرسوله الله ولما كان
لفظه وهو قوله لم يضيق الله عليك يحتمل إيقاع الفراق
والإبقاء أشار بقوله واسأل الجارية تصدقكَ أنه ۱ ما أراد
إلا الإبقاء لكن ترك النظر في ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم تأدباً معه واحتراماً له عليه السلام لأنه يعلم أن
بَريَرةَ لا تخبره إلا بكل ما يوجب له التعظيم لأهله لما
يعلم في الأهل من الخير وليس يعلم فيها غير ذلك وهذا هو
حقيقة العلم الذي خصه الله عزّ وجلّ به حتى إنه ترك النبي
الله لا ينظر بنظره مع حصول براءة ما استشير فيه فجمع
الفائدتين معاً
وقولها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرةَ فقال
يا بريرةُ هل رأيت فيها شيئاً يَريبُك إلى قولها فتأتي
الداجن فتأكله أما قوله عليه السلام هل رأيتِ فيها شيئاً
يريبك يعني به من جنس ما قيل فيها فأجابت هي على العموم
ونفت عنها كل ما كان من النقائص من جنس ما أراد النبي صلى
الله عليه وسلم السؤال عنه وغيره فقالت لا والذي بَعَثَك
بالحقِّ إن رأيتُ منها شيئاً أعْمِصُه عليها أعْمِصُه
1 يريد إلى أنه
٧٦٢
بمعنى أنكِرُه فأخبرت أنها لم تر منها شيئاً في كل أمورها
ثم أتت بعد ذلك بقولها غير أنها جارية حديثة السن تنام عن
العجين فتأتي الداجن فتأكله وهذا الاستثناء منفصل لأن ما
استثني من غير جنس ما كان الكلام عليه فهو منفصل والنوم
ليس هو مما ينكر على المرأة لا سيما أنها ذكرت العلة في
ذلك وبيّنت عذرها بقولها حديثة السن لأن حديث السن أبداً
يغلبه النوم ويكثر عليه فأبدت عذرها وحينئذ ذكرت ما كان
منها وفي هذا دليل على أن من أخبر عن أحد بشيء فليُقدّم
عذره فيه قبل ذكر ما أراد كما فعلت بريرة وإنما حلفت بريرة
هنا للمعنى الذي قدمنا مع أنها مستشارة لا شاهدة وفيه دليل
على أن للسيد أن يأخذ في أمره مع الخادم إذا كان فيه أهلية
لذلك لأن النبي الله أخذ في هذا الأمر مع بريرة وكانت
خادماً لهم
وفيه دليل على اتخاذ الخادم
وفيه دليل على أن للمرأة الحرة أن تخدم نفسها وليس ذلك
عيباً في حقها لأن عائشة رضي الله عنها كانت تعجن بيدها
على ما أخبرت بريرة والداجن هو كل ما يتخذ في البيوت من
الحيوانات وقولها فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستعذر من عبد الله ابن أبي بن سلول إلى قولها حتى سكتوا
وسكت فيه وجوه
الأول أنه ليس للحاكم أن يحكم لنفسه لأن النبي يا الله و
لما أن كان في هذا الأمر حق لم يحكم فيه وإنما طلب من يحكم
له في ذلك فقال مَن يَعذِرُني من رجل ومعناه من يأخُذ لي
منه
الحق ويحكم لي عليه الثاني أنه ليس للحاكم أن يحكم بعلمه
وله أن يشهد به عند غيره من الحكام لأنه عليه السلام يعلم
من أهله الخير والصلاح وقد شهد له عليّ وأسامة وبريرة بذلك
تأكيداً لما كان يعلم هو في نفسه فلم يحكم وهو الا الله
بذلك وشهد عنده الغير لكي يحكم له به فإن قال قائل الشهادة
إنما تكون بغير يمين قيل له إنما مُنعت اليمين للتهمة
خَشية شهادة الزُّور لأن اليمين إبلاغ في الحَمِيَّة لصاحب
الحق ثم إن العلماء قد اختلفوا هل يجوز الشهادة مع اليمين
أم لا على قولين فمن أجاز
ذلك فله فيما نحن بسبيله استدلال ومن منع راعَى التهمة
والتهمة في حق النبي الله مستحيلة الثالث الحمية الله
ولرسوله ولأن النبي لما أن استعذر من عبد الله بن أبي ابن
سلول قام سعد سيّد الأوس عند ذلك حماية له عليه السلام
فيما أراد فقال أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا
عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرَك
قد يرد على هذا سؤالان الأول وهو أن يقال لِمَ ذكر هاتين
القبيلتين ولم يذكر غيرهما
٧٦٣
من قبائل العرب والثاني أن يقال لِمَ أخبَرَ أنه إن كان من
الأوس يضرب عنقه وإن كان من الخزرج يمتثل فيه الأمر
والجواب عن الأول أن الأوس والخزرج هما قبيلتان عظيمتان في
الكثرة والعدد وهما أهل المدينة فهما فيها متوافران
وغيرهما من قبائل العرب قد تركوا مسكنهم وتغرّبوا من
بلادهم وهاجروا إلى المدينة فليس الغريب بأقوى من البلدي
وأيضاً فإن من أتى إلى المدينة من المهاجرين بالنسبة إلى
قبائلهم البعض من الكل والأوس والخزرج متوافران ببلدهما لم
يخرج منهما أحد ودخلا في الإسلام عن آخرهما فبقيت قوتهما
وشوكتهما على ما كانت عليه أولاً قبل الدخول في الإسلام
فلأجل هذا المعنى الذي اختصتهاتان القبيلتان به وفَقَهُما
الله سبحانه لذلك وقد يحتمل أن يكون تكلم معهما غيرهما من
القبائل فذكرهما وذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى
لأنه إذا كان ينصره من في هاتين القبيلتين اللتين هما أعظم
قوةً وأكثر عدداً فكيف به في غيرهما من القبائل
والجواب عن الثاني أن العرب كانت عادتهم أن السيد يحكم على
قومه في قبيلته ويُمتثل أمره في كل ما يشير به وسعد هذا هو
سيّد الأوس فحكمه فيهم نافذ فإن كان المتكلم من قبيلته فلا
يردّه راد عن قتله وإنما قالَ نضرب عنقه لأن المسألة لم
يكن فيها نص من الشارع عليه السلام وكذلك كل مسألة لم يكن
فيها نص فللحاكم أن يحكم فيها بحسب اجتهاده وإنما أخبر أنه
إذا كان من الخزرج يمتثل فيه الأمر لأن الخزرج ليست
بقبيلته فإذا أراد أخذ المتكلم إن كان منهم فليس له حكم
عليهم فلا يُترَك لأخذِهِ إلا إن أخذه بالقهر والغلبة وذلك
يؤدي إلى القتال والتشاجر فكأنه يقول للنبي الله وإن كان
من إخواننا الخزرج الذين هم في القوة والكثرة أكثر من
غيرهم فأنا متوقف فيهم مع أمرِك إن أمرتني بأخذ الحق منهم
أخذته ولو بقتالهم عن آخرهم فأنا قادر على ذلك وهذا من
غاية النصرة والحمية
فلما فرغ رضي الله عنه من مقالته حملت سعداً سيّد الخزرج
الحميّة مثلما حَمَلَت الأول أو أكثر فلم يستطع أن يرى
غيره قام في نصرة النبي وهو قادر عليها فيتركها فقام من
حينه - بقوة الحمية التي حملته - فقال لسعد سيّد الأوس
كذبتَ لَعَمْرُ الله والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك أي
لا تجد لقتله من سبيل لمبادرتنا قَبلَك لقتله ولا تقدر على
ذلك أي لو امتنعنا من النصرة فأنت لا تستطيع أن تأخذه من
أيدينا لقوتنا وهذا هو غاية النصرة إذ إنه يخبر أنه في
القوة والتمكن بحيث لا يقدر عليه الأوس مع قوتهم وكثرتهم
ثم هم مع ذلك تحت السمع والطاعة للنبي
صلى الله عليه وسلم
٧٦٤
ـیه
A
من
هل
هم
ين
الراجح
وقول عائشة رضي الله عنها فيه وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً
ولكن احتملته الحمية فإنما قالت ذلك لتبيّن شدة نصرته فى
القضية وقوته فيها مع فائدة الإخبار بأنه من الصالحين لأن
الرجل الصالح أبداً يُعرف منه الهيئة والسكون والناموس لكن
زال كل ذلك عنه من شدة ما توالى عليه من الحمية لنبيه عليه
السلام وسعد هذا هو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم في
غزوة بدر يا رسول الله نحن أمامك وخلفك إن خُضَتَ بنا بحرا
خضناه معك وقد عُهد منه كل خير جميل في غير ما موضع الرابع
الحكم بالظاهر في المسائل وإن كانت محتملة لأوجه شتّى
فالحكم بالظاهر هو لأن أُسَيْدَ بنَ حُضَيْر لما أن رأى ما
صدر من سعد سيّد الخزرج نسبه في ذلك إلى الكذب والنفاق ولم
يتأول له غير ما ظهر منه وإن كان محتملاً لغيره وقد يَرِدُ
على هذا سؤال وهو أن يقال لو كانت حميتهم كما ذكَرْتُم لم
يصدر منهم هذا الكلام ولكانت عبارتهم بألفاظ غير تلك
الألفاظ والجواب أنه إنما صدر ذلك منهم لقوّة الحمية التي
غطت على قلوبهم حين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما
قال فلم يتمالك أحد منهم إلا قام في النصرة لأن الحال إذا
وَرَد على القلب مَلَكَ القلب فلا يرى غير ما هو بسبيله
فغلبهم حال الحمية حتى إنهم لم يراعوا الألفاظ فوقع منهم
السباب والتشاجر لتسابقهم في النصرة
ومثل هذا ما روي أن رجلاً من الصحابة ٢ كتب إلى مشركي مكة
بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي للصحابة على
ذلك وأرسل في طلب الكتاب وأعلمهم بأنه مع امرأة وسمّى لهم
المرأة ۳ فلما خرجوا في طلبها وجدوا الكتابَ عندها كما
أخبر عليه السلام فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله دعني
أضرب عنق هذا المنافق فأبى النبي الله وسأل الرجل ما حمله
على ما فعل فقال يا رسول الله والله ما كفرت بعد إيمان
ولكن لي أهل بمكة وليس لي من يذب عنهم ويحميهم فأردت أن
أتخذ عندهم يدا لأجل أهلي لأن إخواني المهاجرين معهم من
يحمي أهلهم وليس معي من يحمي أهلي فقبل النبي ا ا ا ا ا ا
ذره وبقي الرجل حياته معروفاً بالخير الله والصلاح فحكم
عمر رضي الله عنه بالظاهر بحسب ما ظهر له وكان الأمر غير
ذلك وكذلك في قصة الأوس والخزرج سواء كل منهم معذور فيما
نَسَب صاحبه إليه لأجل ما توالى عليهم من
شدة الحمية لنبيهم صلى الله عليه وسلم
ومما يدل على ذلك أن النبي لا لا لا لو لم يعتبر عليهم بعد
ذلك فيما فعلوه ولا قال لهم فيه شيئاً
1 رواه مسلم في الجهاد باب غزوة بدر عن أنس رضي الله عنه
وهو حديث طويل
اسم ذلك الصحابي حاطب بن أبي بلتعة ۳ اسم تلك المرأة سارة
وكانت مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم
٧٦٥
وإن قلنا إن النبي تركهم من أجل حُسن خُلقه وطَرفِ الحق
الذي كان له فيه لم يكن الله عزّ وجلّ ليسامحهم في ذلك لأن
الله عزّ وجلّ قد نهاهم عما هو أقل من ذلك وهو رفع الصوت
بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ﴿ يَتَأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ
وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ ۱ حتى إن ثابت بن قيس الله
عنه بقي في بيته لم يخرج فأرسل إليه النبي الله يسأل عنه
فقال إني رجل جَهِيرُ الصوت فأخاف إذا تكلمتُ أن يعلو صوتي
صوت النبي لا الله فيحبط عملي فأمره عليه السلام بالخروج
وأخبره بأن ذلك لا يكون إلا بالقصد ۳
رضي
فانظر كيف كان حالهم في كلامهم المعتاد فكيف يقع منهم ما
وقع وهم صاحون يعقلون ما يعقلون ذلك محال ولو تركهم الله
فلم يخفضهم لتوالت الحميّة عليهم حتى يقتتلوا ولو كان ذلك
بينهم فوقع بينهم القتل لكان القاتل والمقتول في الجنة إذ
إن كل واحد منهم في النصرة
والخدمة الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كان
قتال الصحابة رضي | عنهم بعضهم مع بعض كل منهم على الحق
ومعتقد لصاحبه أنه أخطأ في اجتهاده لا شك في ذلك وإنما وقع
من وقع فيهم فنسبهم إلى ما لا يليق بجنابهم لكونه قعد
قاعدة فاسدة فقاس عليها وأطرد مذهبه فيها فأدى ذلك بحكم
الضرورة إلى الطعن عليهم وفيهم لأنه قاس أحوال الصحابة رضي
الله عنهم على ما يقتضيه أحوال أهل عصره وهذا هو الغلط
الكبير والزَّلل العظيم كيف تُقاس أحوال الصحابة رضي الله
عنهم على أحوال غيرهم وقد اختارهم الله عزّ وجلّ لنبيه
عليه السلام وقال في حقهم ﴿ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا ٤ وقال عليه السلام في حقهم أصحابي كالنجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم ٥ وقال عليه السلام في حقهم خير
القرون قزني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم ٦ فأي خطأ أعظم من هذا قوم شهد لهم النبي الله الله
بأنهم خير القرون ثم يأتي من هو في القرون الذين
1 سورة الحجرات الآية ٢
ثابت بن قيس الخزرجي الأنصاري صحابي كان خطيب رسول الله
وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد وفي الحديث نعم الرجل
ثابت قتل يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر رضي الله
عنهما سنة ١٢
هـ / ٦٣٣م
۳ قصة ثابت بن قيس رواها البخاري في الأنبياء باب علامات
النبوة في الإسلام وفي تفسير سورة الحجرات ورواها مسلم في
الإيمان باب مخافة المؤمن من أن يحبط عمله من حديث أنس رضي
الله عنه
٤ سورة الفتح من الآية ٢٦
٥ تقدم تخريجه في حديث البيعة رقم ۳ ٦ تقدم تخريجه في حديث
البيعة رقم ۳
٧٦٦
ما
ட்
ة
لم يُشهَد لهم بخير فيقيس أحوالهم وأفعالهم ومقاصدهم على
مقاصد بعض أهل عصره وأفعالهم
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وبهذا المعنى - أعني تغطية الحال على القلب واستغراق الشخص
فيما هو بسبيله - صدرت من بعض فضلاء أهل الصوفة ألفاظ
وأفعال لم يُعلَم لها معنى ظاهر فتسلط بعض الناس على تلك
الألفاظ حتى استنبطوا منها معاني فاسدة فطعنوا فيهم لأجل
ما ظهر لهم من المعاني الفاسدة وليس الأمر كذلك وإنما هو
على ما ذهب إليه بعض العلماء ممّن جمع الله له الطريقين -
أعني في العلم والتصوف - فقالوا ينبغي أن يُسَلّم لهم في
أحوالهم ولا يُعتَرَضَ عليهم فيها ولا يُقتدى بهم فيها ولا
في الزمان الذي صدر ذلك عنهم نظراً منهم للمعنى الذي
ذكرناه وهو الإبراء للذمة والأقرب إلى الله عزّ وجلّ
وقولها وبكيت ١ يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فيه
وجوه الأول التبكير في تمريض المريض لينظر في صالحه واللطف
به لأنها قالت فأصبح
عندي أبواي
الثاني أن الولد يكون بمعزل عن أبويه في المضجع لأنها لو
كانت معهما في مضجع واحد
وبيت واحد لما كان أبواها يبكران إليها وهي في منزلهم إذ
إن ذلك لا يَتَأَنَّى الثالث الاستئذان عند الدخول لأنها
قالت إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنتُ لها وقد أمر عزّ
وجلّ بذلك في كتابه فقال وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَلُ
مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَذِنُوا كَمَا اسْتَتَذَنَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ٢
الرابع التفجع للمصاب لأنها قالت فجلست تبكي معي وذلك تفجع
من المرأة لها ومنه قوله عليه السلام المؤمن للمؤمن
كالبنيان - وروي كالبَنَانِ - يشد بعضه بعضاً فإذا اشتكى
عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحُمَّى ۳ ومثل هذا
كان حال هذه الأنصارية جلست تبكي مع عائشة رضي الله عنها
لما نزل بها ولم يكن لها في ذلك دَخُل ولأجل هذا المعنى
جعل عليه
1 رواه قبل ومكثتُ سورة النور من الآية ٥٩
۳ مركب من حديثين الأول المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه
بعضاً وقد تقدم تخريجه في الحديث ١١٢ والثاني أوله مثل
المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إلخ رواه
الإمام أحمد ومسلم عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه
٧٦٧
السلام لقيا المؤمن لأخيه المؤمن ببشاشة الوجه صدقة ۱ لأن
المؤمن يستمد من أخيه بحسب ما
يظهر على ظاهره كما أن أهل البواطن يستمد بعضهم من بعض
بحسب ما يكون في بواطنهم عليه السلام على العلة الظاهرة
التي هي مشتركة بين العوام والخواص فإذا رأى المؤمن في وجه
أخيه المؤمن ما يستدل به على سروره سُرّ بذلك فكان الأجر
للأول الذي عمل السبب للسرور وهو حسن البشاشة وطلاقة الوجه
وأعظم من ذلك أجراً كتمان المصائب لقوله عليه السلام من
كنوز البر كتمان المصائب ٢ وإنما حصل هذا الكنز لصاحب هذا
الحال لأنه لما أصابته المصيبة فأظهر ضدها وهي البشاشة
وحُسن السَّمْت وكتَمَ المصيبة وصبر عليها ولم يُعد مصيبته
إلى غيره من إخوانه المؤمنين ببته إياها لهم وردَّ
المكابدة كلها لنفسه فلأجل هذا المعنى كان أعظم أجراً من
المتقدم الذكر وحصل له الكنز المذكور في الحديث وبهذه
المعاني وغيرها تتبيَّن حقيقة الإيمان وفضله وما فيه من
الآداب وهي المراد بقوله عليه السلام بُعِثْتُ لأتمم مكارم
الأخلاق ۳ فعلى هذا فالدين يشتمل على أشياء فرائض وسنن
وفضائل وآداب وحسن خلق وحسن اعتقاد ومحبة وحسن معاملة فيما
يخصّ بعضهم مع بعض وفيما يَعُمّ ومَن أحكم هذا بمقتضى الآي
والأحاديث بحسب ما جاءت دخل في ضمن قوله تعالى وَكَانَ
سَعْيُكُر مَشْكُورًا ٤
وقد أهمل اليوم بعض أهل العصر تلك الأخلاق والآداب التي
أشرنا إليها ويقولون ليس ذلك بفرض علينا ويقتصرون على
الفروض - على زعمهم - ولا يزيدون عليها وهيهات الذي جاء
بالفرض جاء بغيره من السنن والرغائب فإن ردّ ذلك ولم يعمل
به فهو قبح عظيم قد يُخشى عليه أن يدخل في عموم قوله تعالى
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَوةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِ
الْعَذَابِ ٥ وفيما نحن بسبيله استدلال لأهل الصوفة إذ إن
أول شرط عندهم في السلوك ثلاثة وهي حمل الأذى وترك الأذى
ووجود الراحة فوجود الراحة منه بشاشة الوجه وإدخال السرور
على
۱ مروي بالمعنى لحديث مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب
استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء رواه أبو نعيم في الحلية
بإسناد ضعيف ۳ رواه الإمام مالك في الموطأ في حسن الخلق
بإسناد منقطع قال الزرقاني رواه الإمام أحمد وقاسم بن أصبغ
والحاكم والخرائطي برجال الصحيح وقال ابن عبد البر هو حديث
مدني صحيح متصل عن أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية صالح
الأخلاق وفي أخرى حسن الأخلاق
٤ سورة الإنسان من الاية ٥ سورة البقرة من الآية ٨٥
٧٦٨
ما
من
من
ـه
الإخوان وحمل الأذى منه كتمان المصائب وترك الأذى من قبيل
الواجب والواجب أعظمُ القُرب فإذا أحْكَمَ المريد هذه
الثلاثة حينئذ يأخذون معه في السلوك إن وفق إلى ذلك ولهم
فيما نحن بسبيله حجة واضحة
وقد يرد على هذا الفعل سؤالان وهما أن يقال لِمَ أخبرت
ببكائها في هذا الموضع وقد أخبرت به قبل ذلك وذلك تكرار
لغير فائدة ولم كان أبواها لا يبكيان معها وهذه الأنصارية
بكت معها
والجواب عن الأول أنها إنما أتت بذكر البكاء ثانيةً لتبين
أن حالها لم يتغير عما كان أولاً وأن البكاء والحزن داما
بها ما دامت بها النازلة وزادت فيه إشعارا بأن ذلك ازداد
عليها وكثر ببقاء الأمر عليها بقولها حتى أظن أنَّ البكاءَ
فالقٌ كَبِدي
1
وهو المعبّر عنه
والجواب عن الثاني أن المؤمنين لم يتساووا فمنهم من أقيم
في مقام الخوف والإشفاق ومنهم من أقيم في غير ذلك وهي سبع
مقامات وأعلاها الرضا والتسليم بالطمأنينة وأصحاب هذا
المقام لا يعترضون المقدور ولا يُؤَوِّلون في الأمور لأنهم
قد أذعنوا واستسلموا لقضاءِ عَلام الغيوب فكل ما كان من
خير وشرّ كانوا به مستبشرین و به فرحین مالم يتعين عليهم
في ذلك أمرٌ أو نهي وأبو بكر رضي الله عنه هو من أهل
السَّبْق في هذا المقام كيف لا يكون كذلك وهو خليفة رسول
الله و وصاحبه في الغار وأم رومان رضي الله عنها قريبة منه
في هذا المقام لِما عُلِم من حالها فكانت وظيفتهما في ذلك
الرّضا والتسليم لأنه يُعلم بالقطع أن ما ينزل من البلاء
بالأولاد فهو أشدّ على الآباء من نزول ذلك بأنفسهم
فالرّضا والصبر على ما ينزل بالأبناء أجل للاباء من الصبر
على ما ينزل بهم في أنفسهم وقد قال عليه السلام إذا قبض
الله ولَدَ العبد المؤمن يقول للملائكة قبضتم ريحانة قلب
عبدي المؤمن فيقولون يا ربَّنا نَعَمْ فيقول الله عزّ وجلّ
فما قال - وهو أعلم - فيقولون يا ربنا صَبَر وحمد فيقول
عزّ وجلّ ابنوا له قصراً في الجنة وسمّوه بيت الحمد وأما
عائشة رضي الله عنها فإنما كَثُر منها البكاء والحزن لأن
ما نزل بها يُستحيا منه كلَّ الحياء فإن ركنت إلى أبويها
استحيت منهما وإن ركنت إلى النبي لو كان ذلك أكثر وكذلك
حالها مع الناس عن اخرهم
۱ جعل الإمام الغزالي المقامات تسعاً وهي على الترتيب
التوبة الزهد الصبر الفقر الشكر الخوف الرجاء التوكل الرضا
انظر إحياء علوم الدين ۳۰۹/٥ - ۳۱۸
رواه الإمام أحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه بلفظ إذا
مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي
فيقولون نعم فيقول قبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول
ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول ابنوا لعبدي
بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد
٧٦٩
فتوالت عليها أسباب الأحزان وكثرت مع صِغَر سنّها فأدى ذلك
بحكم الضرورة إلى سَيَلان الدمع
وكثرة الحزن وانتفاء النوم
وقولها فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله فجلس إلى قولها ثم
تاب تاب الله عليه
فيه وجوه
الأول أن جلوس النبي الله هنا لعائشة رضي الله عنها لم يكن
لزوال الهجران الذي وقع وإنما كان جلوس حُكم فالأفعال إذاً
لا تنفع إلا بحسب ما كان القصد فيها لأنها كانت تُسَرّ
بجلوس النبي لها على ما كانت تعهد منه وهذا الجلوس ازداد
كَرْبُها به لشدة حيائها حين ذكر لها النبي ما ذكر الثاني
أن تأخر النبي لا لا لا اله عن الحكم في المسألة لم يكن من
قبله وإنما كان من قبل تأخر الوحي عنه لأنها قالت وقد مكث
شهراً لا يُوحَى إليه في شأني شيء فأتت بذلك لتبين عذر
النبي صلى الله عليه وسلم في تأخر الحكم في الأمر لأنه
عليه السلام كان لا يحكم لنفسه وإن حكم لنفسه فيكون ذلك
بالقرآن وهذه المسألة له فيها حق فلم يمكنه أن يحكم فيها
فلما أن تأخر الوحي عنه وتعارض له أمران حقه وحق غيره غلب
حقّ غيره على حق
عنها - وإن كانت أهله عليه السلام - فهي أجنبية في الحكم
لها
سه لأن عائشة رضي وصفوان بن معطل رضي الله عنه له في
المسألة حق فلأجل حق غيره نظر من يحكم في المسألة بعد
التربص قليلاً انتظاراً لنزول الوحي لأجل حقه عليه السلام
ولو كان الحكم لصفوان وعائشة
رضي الله عنهما ولم يكن للنبي الا الله فيه حق الحكم به
عند نزول النازلة لقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَ النَّاسِ
بِمَا أَرَنكَ اللهُ ۱ فكل ما يرى عليه السلام فهو وحي
والوحي له عليه السلام على ضربين على ما قاله العلماء فوحي
إلهام ووحي بواسطة الملك والكل من عند الله عزّ وجلّ
الثالث فيه دليل على أن من السنّة الابتداء بذكرِ الله
تعالى في أول الكلام أو التشهد لأن النبي حين أراد الكلام
لعائشة رضي الله عنهما تشهد ثم بعد ذلك تكلم بما أراد
الرابع فيه دليل على أن من رمي بشيء وهو لم يفعله فإن الله
عزّ وجلّ يبرئه من ذلك
ويظهر الحق فيه لأن النبي ا ال ها و قال لها فإن كنت بريئة
فسيبرئك الله عزّ وجلّ الخامس فيه دليل على أن أهل الخير
والصلاح مطالبون بما لا يُطالب به غيرهم وخصوصاً
۱ سورة النساء من الآية ١٠٥
۷۷۰
نساء النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى يَنِسَاءَ
النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاء ۱ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لها وإن كنتِ أَلْمَمْتِ بذنب
والله عزّ وجلّ قد رفع ذلك عن المؤمنين في كتابه فقال
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَيرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
إِلَّا اللَّمَ إِنَّ رَبَّكَ وَسِعُ الْمَغْفِرَةً واللمم
على ما فيه من الخلاف بين العلماء ما دون الفاحشة فلما أن
كانت عائشة رضي الله عنها من نساء النبي صلى الله عليه
وسلم طولبت باللمم فقال لها عليه السلام وإن كنتِ ألممتِ
بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا
اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فجعل عليه السلام
إلمامها بالذنب كوقوع الذنب من غيرها وقد قال تعالى ﴿
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ۳ وذلك يتضمن
ترك الصغائر كما أن المطلوب في أفعال البر مع الفرائض
زيادة في السنن والرغائب على اختلافها وقد قال إن الله
يعاقب العاقل يوم القيامة ما لا يعاقب الأمي ويثيبه ما لا
يثيب الأمي قيل من الأمي يا رسول الله قال الجاهل الكذوب
لسانه الخائض فيما لا يعنيه وإن كان قارئاً كاتباً 4 وقد
بيّن عليه السلام العاقل في أول الحديث وقال في صفة الصادق
لسانه الطويل صمته ويسلم الناسُ من شرّه فذلك العاقل وإن
كان لا يقرأ من كتاب الله كثيراً ٥ ومنه قول أهل الصوفة
حسنات الأبرار سيئات المقربين
السادس طلب النبي الله الله منها الاعتراف يحتمل وجهين
أحدهما أن يكون أراد الاعتراف بين يدي الله والثاني أراد
الاعتراف بين يديه عليه السلام ويحتمل أن يكون أراد
مجموعهما - وهو الأظهر ـ لأن ذلك لو وقع فلله فيه حق
وللنبي فيه حق وحق البشر لا يعفو الله عنه إلا أن يعفو عنه
صاحبه فلما اجتمع الحقان فلا بد من كليهما لأن حق البشر
موقوف على صاحبه لقوله عليه السلام من كانت له مظلمة لأخيه
من عرضه أو شيء فَليتحلله السابع فيه دليل على أن الأحكام
مطلوبة ظاهرة وباطنة وللظاهر حكم وللباطن حكم وحكم الظاهر
مقدم على حكم الباطن - أعني في الفحص عنه والإنجاز فيه -
لأن النبي لا لا لو لم يسألها عن الباطن حتى فحص عن الظاهر
وظهرت له طهارته بشهادة عليّ وأسامة وبريرة المتقدم ذكرها
۱ سورة الأحزاب من الآية ۳
سورة النجم من الآية ۳ ۳ سورة الأحزاب من الآية ۳۳
لم نقف على مصدره
ه لم نقف على مصدره
منه
اليوم ٦
رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ
من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليتحلله اليوم
قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل
صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات
صاحبه فجعلت عليه
۷۷۱
وحينئذ رجع ينظر في حكم الباطن فنصّ عليه السلام لها عليه
وما حكم الله فيه وأظهر لها وجه الخلاص فيه وهذا هو الموجب
لإفصاحه عليه السلام لها بما قيل لكي يترتب الحكم عليه
ومعرفة الخروج منه أو التبرئة الثامن قوله عليه السلام فإن
العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه يحتمل أن يكون
على العموم ويحتمل أن يكون على الخصوص فإن قلنا إنه على
العموم عارَضَنا حق الغير وقد نص عليه السلام على أن ذلك
ليس منه خلاص إلا الاستحلال أو الإعطاء فقال عليه السلام
من كانت له مظلمة لأخيه وقد تقدم قبل قليل وقد كان عليه
السلام لا يصلي على من عليه دين حتى يأتي من يتحمل عنه ۱
وقد تحمل بعض الصحابة عن ميت ثم أتى بعد يومين أو ثلاثة
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى دَيْنه فقال له
عليه السلام الآن بَرَدَت جلدَتُه
وقد قال عليه السلام للأعرابي حين سأله فقال أرأيتَ يا
رسولَ الله إن قُتِلتُ في سبيل الله صابراً محتَسِباً
مُقبلاً غيرَ مُدْبِرٍ أيكفّر الله عني خطاياي فقال عليه
السلام نعم فلما ولى الأعرابي دعاه النبي صلى الله عليه
وسلم فقال له إلا الدين هكذا أخبرني جبريل انفا ۳
والأحاديث في ذلك كثيرة فعلى هذا فليس ما نحن بسبيله على
العموم وإنما هو على الخصوص فالخصوص هنا هو أن الذنب إذا
كان بين العبد والرب فالحكم فيه ما نص النبي الله عليه وهو
الاعتراف بالذنب والتوبة منه
وقد شرط الفقهاء لذلك أربعة شروط وهي الندم والإقلاع ورد
المظالم والعزم على ألا يعود وهذه الأربعة شروط متضمنة لما
نص النبي فالندم والإقلاع يعمهما قوله فإن العبد إذا اعترف
بذنبه ثم تاب فالاعتراف لا يكون إلا عند الندم والاستغفار
لا يكون إلا عند الإقلاع وأما لو كان إنسان يستغفر من
المعصية وهو يريد أن يفعلها ثانية فذلك استغفار الكذابين
وليس هو المراد بما أشار النبي إليه والعزم على ألا يعود
هي التوبة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم لا اله
الله هنا ورد المظالم يعمّه قوله عليه السلام في الحديث من
كانت له مظلمة لأخيه الحديث لكن النبي صلى الله عليه وسلم
قد شرط في ذلك شرطاً وهم لم يتعرضوا له وهو تسمية الذنب
لأنه عليه السلام قال إذا اعترف بذنبه وذلك يقتضي تسمية
الذنب فلا بد من تسميته للنص عليه فإن
۱ رواه البخاري في الحوالة باب إن أحال دين الميت على رجل
جاز والترمذي والنسائي ٦٥/٤ وفي شأن صلاة الرسول على الميت
المدين تفصيل أو ضحناه في الحديث ۱۱۱ رواه الإمام أحمد
۳۳۰/۳ والبيهقي في السنن ٤٩/٦ في حديث طويل عن جابر قال
توفي رجل فغسلناه وحطناه وكفناه إلخ
۳ رواه مسلم في الإمارة باب من قتل في سبيل الله كفرت
خطاياه إلا الدين ورواه الترمذي والنسائي ٣٤/٦ عن أبي
قتادة رضي الله عنه مع اختلاف في اللفظ
۷۷
كَثُرت الذنوب حتى لا تُحصَى سقط عن صاحبه تسمية كل ذنب
بعينه ووجب عليه أن يُسَمِّي جنس كل ذنب وقع فيه فيستغفر
منه ويتوب وإن كان حقوق الغير فيحتاج فيه إلى تقسيم لمن
عجز عـ وما حكمه وقد تقدم ذلك في الكلام على قوله عليه
السلام من كانت له مظلمة لأخيه الحديث قولها فلما قضى رسول
الله و مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة إلى قولها
ولكن
كنت أرجو أن يرى رسول الله الله في النوم رؤيا يبرثني الله
بها فيه وجوه الأول أن الحزن إذا توالى على المرء وكَثُر
جفَّ دمعه عند ذلك لأنها قالت فلما قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة قلص بمعنى
ارتفع وانقطع وأحِسّ بمعنى أنها لا تجد منه شيئاً فلما أن
كثر عليها الحزن بمفاجأة النبي صلى الله عليه وسلم لها
بذلك الأمر جف لا له لها
دمعها وانقطع
الثاني النيابة في الكلام والاستعذار لأنها قالت لأبيها
أجب عني رسول الله لكن هذا قد يرد عليه سؤال وهو أن يقال
إنما سئلت عن حكم الباطن وغيرها ليس له بذلك معرفة لأن
أحداً لا يعرف ما في باطن أحد حتى يعرّفه به والجواب أنها
إنما قالت لأبيها أجب عني
إشارة منها إليه أنه لم يكن في باطنها في المسألة إلا ما
في باطنه وهو عدم الموجب لما قيل الثالث الأخذ بالظاهر في
المسائل وإن كانت محتملة لأوجه أخر فالأخذ بالظاهر سبق
للفهم مع عدم التشويش فكيف مع التشويش وفرط الحزن لأنها
لما أن قال لها أبواها ما قالا
قالت والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في
أنفسكم وصدقتم به نسبتهم إلى أنهم صدقوا عليها ما قيل لما
ظهر لها من سكوتهم عن الجواب ومحيدهم عنه لشدة الحزن الذي
توالى عليها فسبق لها ظاهر اللفظ وإنما كان سكوتهم عنه
لتعذر الجواب في الوقت عليهم لعظم الأمر وخطره وليس لما
ظنت من تصديقهم بما قيل
الرابع أن من رُمي بشيء ثم سئل عنه هل هو حق أم لا فإن كان
له من خارج ما يصدق مقالته أبرأ نفسه مما قيل وإن لم يكن
ثَمَّ غيرُ كلامه فلا ينفع إذ ذاك كلامه لأنها لما أن
سألها النبي عن أمرها قالت ولئن قلت لكم إني بريئة - والله
يعلم إني لبريئة - لا تصدقونني بذلك فلم تتعرض لبراءة
نفسها في ذلك الوقت مما قيل عنها وبينت عذرها في سكوتها عن
ذلك من كون أن التصديق لا يقع بمقالها بسبب أنه ليس لها من
خارج ما يصدق ما تقول وحين أنزل الله عزّ
وجلّ براءتها ذكرت القضية وكيف كان وقوعها لكون القرآن
يُصَدِّقها فيما تقول من ذلك الخامس أن من رُمي بشيء ثم
سئل عنه فلا يجوز له أن يقر على نفسه بما لم يفعل وإن كان
فيه رضاً للسائل ويكون السائل ممن يُلتَمَس رضاه لأنها لما
أن سألها النبي صلى الله عليه وسلم عما قيل
۷۷۳
وكان ذلك باطلاً وطلب منها الجواب قالت لئن اعترفت لكم
بأمر - والله يعلم أني بريئة لتُصَدِّقني فلم تقرَّ على
نفسها بما لم تفعل لأن الإقرار بذلك كذب والكذب محرم ولا
يُلتمس رضا مخلوق بمحرَّم هذا إذا كان ذلك سالماً من أن
يُحْدِثَ به المرء على نفسه شيئاً في الدين
فكيف باجتماعهما معها
السادس أن من رُمي بشيء ولا يقدر على نصرة نفسه ببيان ينفي
ما رمي به فالاستسلام إلى الله تعالى وترك ما سواه أولى به
لأنها لما أن قال النبي له الا الله و امام قال وأبواها
سكتا عند ذلك وحادا عن الجواب وهما كانا عُدَّتها في
السراء والضراء لم تتعلق بواحد منهما ولا طلبت منهما دعاة
ولا تفريجاً بل أعرضت عن الأسباب وتعلقت بالمسبب يشهد لذلك
إعراضها عنهما بعدم الجواب وتحولها عن ذلك الجنب الذي كانت
مواجهة لهم به وقولها في المثل فَصَبْرٌ جميل ۱ فهذه هي
صورة اللجأ وقطع الأسباب حالاً ومقالاً
فلما أن فعلت ذلك أتتها النصرة في الحين وكذلك كل من تعلق
بالله تعالى مضطراً أتاه النصر من حينه كما أتاها يشهد
لذلك قوله تعالى أَمَن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ ولأجل هذا المعنى فُضّل أهلُ الصوفة
على غيرهم حتى إنه لا يخطر بقلوبهم شيء إلا وكان لهم في
الحين من غير أن يطلبوه ولا يتكلمون فيه لحصول حالة
الاضطرار منهم في السراء والضراء السابع أن من وقعت به
مصيبة وتمادت به وكثرت عليه فلا يقنط فيها لأنها لما أن
اشتد الأمر بها وتوالت عليها الأحزان لم تكن إذ ذاك تقطع
الإياس لأنها قالت حين تحوّلت عن فراشها وأنا أرجو أن
يُبرّئني الله وهذه المسألة يحتاج المرء أن يتحرز منها
لئلا يقع له الإياس والقنوط عند النوازل وكثرتها فيستحق
العذاب لقوله عليه السلام إخباراً عن ربه عزّ وجلّ يقول لو
كنتُ معجّلاً عقوبة لعجلتها على القانطين من رحمتي ۳
الثامن أن مَن تواضع لله رفعه الله لأنها قالت والله ما
ظننتُ أن ينزل في شأني وحي وَلأنا أحقرُ في نفسي من أن
يُتكلم بالقرآن في أمري و ظننت هنا بمعنى علمت وقطعت فلما
أن كانت عند نفسها بهذه المنزلة وصل بها الاعتناء إلى أن
نزل القرآن في حقها وسادت بذلك على غيرها وقد جاء في بعض
الكتب المنزلة يا عبدي لك عندي منزلةٌ ما لم يكن لنفسك
عندك
۱ سورة يوسف من الآية ۸۳ سورة النمل من الاية ٦٢
۳ لم نقف على مصدره
٧٧٤
منزلة وقد جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال ما من امرىء إلا وبرأسه حَكَمَةٌ كحَكَمَة الدابة بيد
ملك فإن ارتفع ضرَبَه المَلك وقال اتَّضِعْ وضَعَك الله
وإن تواضع رَفعَها المَلَك فقال ارتفع رفعك الله ۱
ولأجل هذا المعنى ساد أهل الصوفة على غيرهم لأنه أول شرط
عندهم في الدخول العمل على قتل النفس وترك حظوظها وإذا بقي
لها حظ لم تصلح للدخول في طريقهم وهذا هو نفس التواضع
فرفعهم الله لأجل ذلك على غيرهم ولهذا المعنى أيضاً وُضع
أهل الدنيا فرجعوا خداماً لمن تقدم ذكرهم لطلبهم الرفعة
فوضعوا وصاروا من الخدام للذين طلبوا التواضع ثم بقي سؤال
وارد على قولها وكنت جارية حديثة السن وهو أن يقال ما
فائدة ذكرها لصغر سنها وقد ذكرت ذلك قبل والجواب أنها إنما
ذكرت ذلك لتبين عذرها وهو السبب الذي لأجله كانت لا تحفظ
كثيراً من القرآن فإن قال قائل فما فائدة إخبارها بأنها
كانت لا تحفظ كثيراً من القرآن وليس يتعلق مما هي بسبيله
شيء من هذا قيل له إنما أخبرت بذلك لتبين العذر الذي لأجله
لم تجب النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال من حينها وسكتت
عنه لأن القرآن يشتمل على أحكام عديدة فمنها التعلق بالله
وترك الأسباب ومنها عمل الأسباب في الظاهر وخلو الباطن من
التعلق بها وهو أجلها وأزكاها لأن
ذلك جمع بين الحكمة وحقيقة التوحيد وذلك لا يكون إلا
للأفراد الذين مَنّ الله عليهم بالتوفيق ولذلك مدح الله
عزّ وجلّ يعقوب عليه السلام في كتابه ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ لأن يعقوب عليه السلام عمل الأسباب واجتهد في
توفيتها وهو مقتضى الحكمة ثم ردّ الأمر كله لله واستسلم
إليه وهو حقيقة التوحيد وذلك أنه عليه السلام لما جاءه
بنوه إخوة يوسف ببضاعتهم يشكون إليه ردّها عليهم ويسألون
منه أن يرسل معهم أخاه بنيامين احتمل عنده الأمر هل هو مكر
جديد لكي يتلفوا بنيامين مثلما أتلفوا يوسف أو ذلك حيلة من
الغير في الاجتماع ببنيامين ليلقي إليه خبر يوسف وخاف من
الإخوة أن يلقي إليهم ذلك فيضيعوا الخبر كما أضاعوا العين
فلما أن احتمل الأمر الوجهين احتاط للواحد - وهو التهمة -
بأخذ العهد عليهم واحتاط
1 الحَكَمَة حديدة اللجام في فم الفرس والحديث رواه
الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما والبزار عن
أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ما من ادمي إلا في رأسه حكمة
بيد ملك فإذا تواضع قيل للملك
ارفع حكمته وإذا تكبر قيل للملك ضع حكمته
سورة يوسف من الآية ٦٨
سلام
VVO
رجاء منه أن يبقى بنيامين
خوفاً من أن
للآخر بأن قال لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابِ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَبٍ مُتَفَرِقَةٍ ۱ وحده فيكون
سبباً لمعرفة ما رجاه من خبر يوسف عليه السلام وشدّد ذلك
عليهم يتهموه فيما أوصاهم به أو يضيعوا الوصية بأن قال لهم
إنما قلت لكم ذلك ـ يعني التفرقة في الدخول - من أجل العين
على ما نقله بعض أهل التفسير فهذه هي الأسباب بمقتضى
الحكمة ثم أفصح عليه السلام بما أكنّه في باطنه من حقيقة
التوحيد فترك التعلق بما فعل من الأسباب وقال وَمَا
أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِلُونَ فأثنى الله عزّ وجلّ من
أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين اللتين القليل
النادر من الناس من يجمع بينهما حتى إنهم افترقوا فريقين
فريق يقول حقيقة لا غير وفريق يقول شريعة لا غير ويرون أن
الجمع بينهما كالمستحيل والحق ما ذكرناه وهو الجمع بينهما
ولذلك أثنى الله عزّ وجلّ على فاعل ذلك ثم قال بعد الثناء
عليه وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۳ أي لا
يعلمون كيفية الجمع بين تينك الحالتين والجمع بينهما هو
المطلوب من العبيد وعليه عمل الأنبياء صلوات الله عليهم
أجمعين مما يؤخذ من استقراء أحوالهم ومقالاتهم ولولا
التطويل لذكرنا مناقبهم في ذلك واحداً
واحداً لكن اللبيب يتتبع ذلك فيجده
وكذلك كان حال النبي صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام
كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ثم بعد ذلك قام
حتى تورّمت قدماه وكان يربط على بطنه الحجر من كثرة
المجاهدة ومواصلة الأيام العديدة وهو الذي جاء بتشريع
الأعمال والحض عليها وتبيين ما فيها من الأجور والدرجات ثم
بعد ذلك قال عليه السلام لن يُدخل أحداً عَمَلُهُ الجنة
قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني
الله بفضله ورحمته 4 فبعد بذل الجهد في الأعمال رجع إلى
حقيقة التوحيد وترك النظر إلى غيره وهو التعلق بالأسباب
وكذلك كانت عادته عليه السلام أيضاً إذا خرج إلى سفر ثم
يرجع وقد تقدم هذا في غير ما حديث ولأجل هذه الصفة العليا
التي تركت عائشة رضي الله عنها إلى غيرها - وهو أخذها
۱ سورة يوسف من الآية ٦٧
سورة يوسف من الآية ٦٧ ۳ سورة يوسف من الاية ٦٨
٤ رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه وانظر روايات
أخرى له في حديث حراسة مكة والمدينة من
الدجال رقم ۸٦ من هذا الكتاب
٧٧٦
بحقيقة التوحيد وتركها السبب امتثالاً للحكمة - اعتذرت
بكونها كانت إذ ذاك لا تحفظ كثيراً من القرآن لأنها لو
كانت تحفظ كل القرآن لعملت على الصفة العليا وتركت ما هو
دونها فإن قال قائل فما السبب الذي كان لها أن تفعله فلم
تفعله واستعذرت عن تركه بهذا التعريض قيل له إن النبي الله
إنما طلب منها إن كان ثَمَّ شيء أن تعترف به وتستغفر منه
منه وإن لم يكن ثُمَّ شيء فتبدي ذلك والله يبرئها ويصدقها
فيما تقول فكان الجواب على هذا السؤال أن تقول والله ما
أعرف شيئاً مما ذكروا وأرجو البراءة لوعدك الجميل من
المولى الجليل أو غير هذا الكلام وما في معناه لأنه عليه
السلام قد وعدها إن كانت بريئة فإن الله سيبرئها فتكون قد
جمعت بين الحالتين فلما أن عدلت عن هذا لما ذكرت في الحديث
احتاجت أن تستعذر عن ذلك بهذا التعريض وإن كان هذا الفعل
لها في ذلك الوقت - أعني حقيقة التوحيد وترك الأسباب
والتعلق بها من أجل المراتب - لصغر سنها لكن لم ترض به عند
تمكنها فاستعذرت عنه وفي هذا دليل على أن المجتهد إذا
اجتهد في المسألة ثم ظهر له غير ما ذهب إليه أولاً فذلك
سائغ له وإنما مثلت أمرها بيعقوب عليه السلام إذ قال
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ للمعنى الذي قدمناه وهو الأخذ بحقيقة
التوحيد لأن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه إلا
التسليم والإذعان لجميع المقدور
وجوه
وقولها فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت إلى
قولها ولا أحمد إلا الله فيه
الأول منها فيه دليل على أن المصيبة إذا اشتدت فالفرج إذ
ذاك قريب لأنها لم يبلغ بها الأمر أشد من هذا الوقت
المفاجأة النبي الله لها بذلك وسكوت أبويها عن الجواب فلما
أن اشتدت بها تلك المصيبة وعظمت جاءها الفَرَج في الحين من
غير مهلة ولا تراخ وقع لأنها قالت فوالله ما رام مجلسه ولا
خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخبرت أن الأمر لم
يطل حتى يقع من أحد الخروج أو غير ذلك
ولأجل هذا المعنى كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا
كان في شدة استبشر وفرح وإذا كان في رخاء قلق وخاف فقيل له
في ذلك فقال ما من ترحة إلا أعقبتها فرحة وما من فرحة إلا
وأعقبتها ترحة ثم يستشهد على ذلك بقوله تعالى
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُرا
١
۱ سورة الشرح الآيتان ٥ و ٦
VVV
ولأجل هذا المعنى يقول بعض الفضلاء ما أبالي كيف أصبحت
فإنما هي حالتان إما بلاء أو نعماء فإن كانت النعماء أخذت
في الشكر وإن كان البلاء أخذت في الصبر ولأجل هذا المعنى
ساد أهل الصوفة غيرهم لأنهم قد عزموا على هاتين الصفتين
والقيام بوظائف كل واحدة منهما إذا كانت ومن كان على هذا
الحال ساد على غيره بالضرورة لأن نفس السؤدد هو الاستغناء
عن المخلوق ومن كان على هذه الصفة التي ذكرناها لم تعرض له
حاجة لمخلوق أبداً ولأجل هذا لم يوجد أحد منهم يسأل غيره
بل هم المسؤولون في حال النوازل وهم المفرّجون ۱ لها وكذلك
من تعلق بجنابهم لم يحوجه الله تعالى لمخلوق أبداً إكراماً
لهم
وعناية بهم
الثاني أن ثقل القرآن كان محسوساً عند نزوله لأنها قالت
فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء في يوم شاتٍ حتى إن جبينه
ليتحدر منه مثل الجمان من العرق البُرَحاء كناية عن شدة ما
كان عليه السلام يلاقي عند نزول الوحي عليه من أجل ثقله
والجمان هو اللؤلؤ فشبهت تحدر عرق رسول الله على جبينه حين
نزول الوحي عليه كاللؤلؤ وإن كان حُسنُ عرقه عليه السلام
أعلى من حسن اللؤلؤ لكن ليس في المحسوسات بما يُشبَّه أعلى
منه ولا أحسن فهذا الثقل موجود حساً
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها في غير هذا الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه على ركبتها ثم ينزل عليه
الوحي فتظن أن فخذها قد انقطع من شدة ما عليه من الثقل
وقبل أن ينزل عليه لم تكن لتجد ذلك وقد كان عليه السلام
إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته تيط الناقة حتى يقرب
بطنها الأرض وقبل أن ينزل عليه لم تكن لتفعل ذلك
ثم بعد هذا لولا أن الله عزّ وجلّ أعطاه القوة والتمكين لم
يكن ليقدر أن يتلقى ذلك الكلام وقد أشرنا إلى هذا في أول
الكتاب حين نزول جبريل عليه السلام الاعلى ولا النبي لا
اله الا في أول ابتداء الوحي وغطه إياه ثلاثاً ولأن الله
عزّ وجلّ لا يشبهه شيء فكذلك كلامه لا يشبهه شيء
۱ بإذن الله
لم نقف على حديث روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله الله كان يضع رأسه على ركبتها ثم ينزل عليه الوحي
فتظن أن فخذها قد انقطع من شدة ما عليه من الثقل إلخ وإنما
هو من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أنزل على رسول
الله و فخذه على فخذي فكانت فخذه ترضَ فخذي رواه الشيخان
وقالت السيدة عائشة إن كان ليوحى إلى رسول الله له وهو على
راحلته فتضرب بجرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه
وتلت قوله تعالى ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلا رواه الإمام أحمد ۱۱۸/٦ والحاكم و
الذهبي
وصححه ووافقه
۷۷۸
ولا يقدر البشر على أن يلقاه فكان لنزوله بعدما أشرنا إليه
من التمكين والتأييد لما أنزل عليه ذلك التأثير لكي يعلم
أنه عزّ وجلّ ليس له شبيه وإنما يعلم هذا ويتحقق به من حصل
له ميراث من النبي صلى الله عليه وسلم في المعاملات
والمناجاة
الثالث ضحكه عليه السلام حين سُرِّيَ عنه عليه السلام
يحتمل وجهين الأول أن يكون ضحكه مما دخل عليه من السرور
لنصرة الله تعالى لعائشة رضي الله عنها وإظهار الحق في ذلك
الأمر الثاني أن يكون ضحكه لكي يزيل عن عائشة رضي الله
عنها ما كان بها من شدة الغم والحزن ويحتمل أن يكون ضحكه
للوجهين معاً
الرابع الشكر على النعماء لأنه عليه السلام قال لها حين
أنعم الله عليها بالبراءة احمدي الله وإنما خصها بالحمد
دون الشكر لأنه أعم من الشكر
الخامس أن الوارد بالبشارة العظمى يمهل بالإخبار بها أولاً
ويقول منها شيئاً ما لكي يحصل العلم بذلك ولا يفصلها من
حينه ذلك لأن النبي لا اله الا لما أن أنزل الله عليه
براءة عائشة الله عنها لم يكن ليتلو عليها الآيات من حينه
وإنما بدأ أولاً بالضحك ثم بعد الضحك أخبرها بالبراءة
مجملة ولم يقل لها كيفية البراءة كيف كانت فلما أن تحصل
لها العلم بالبراءة وتهدتَ من الروعة التي كانت بها فحينئذ
تلا عليها الآيات
رضي
والعلة في منع الإخبار بذلك أولاً أن البشارة إذا كانت مرة
واحدة يخشى على صاحبها أن تتفطر كبده من شدة الفرح وكذلك
أيضاً في العكس وهي المصيبة وقد نقل ذلك في التواريخ عن
كثير من الناس قوم فاجأهم السرور فقضى عليهم وقوم فاجأتهم
الأحزان فقضت عليهم ولهذا المعنى كان إرسال يوسف عليه
السلام لأبيه يعقوب عليه السلام بالقميص ثم بعد القميص
البشير ثم بعد البشير الاجتماع خشية مما ذكرناه ولأن النفس
إذا قيل لها ذلك شيئاً فشيئاً تأنس به قليلاً حتى يأتيها
التحقق بذلك وهي قد أنست به
السادس أن طاعة رسول الله المقدمة على طاعة الأبوين لأنها
لما أن قال لها النبيل احمدي الله وقالت لها أمها قومي إلى
رسول الله و تركت ما أمرتها به وأكدت ذلك باليمين ألا
تفعله وامتثلت ما أمرها به النبي يا الله من محمد الله عزّ
وجلّ وشكره وإنما أمرتها أمها بذلك إبراراً لرسول الله
وخدمة له وحملت قوله عليه السلام احمدي الله على طريق
البشارة لا على طريق الأمر فأمرتها أمها بالقيام إلى
الرسول لأن القيام إليه له طاعة له والله وما كان طاعة له
عليه السلام فهو طاعة الله فهو شكر على هذه النعمة
لكن لما أن كانت عائشة رضي الله عنها أعلم منها بحال النبي
صلى الله عليه وسلم وتعلم ما يُسَرُّ به وما
۷۷۹
يتقرب به إليه ثم مع ذلك قد نص عليه في الوقت أسرعت إلى ما
تعلم أن النبي الله لا يحبه وهو مراده وكان مراده الله ألا
يحمد على النعماء إلا الله وحده مع امتثال أمره عليه
السلام في ذلك يشهد لما ذكرناه سكوت أبي بكر رضي الله عنه
لها حين قالت لا والله لا أقوم إليه فلو كان ذلك منها لغير
الوجه الذي قرّرناه لَزَجرها أبو بكر رضي الله عنه من ذلك
ولجبرها على القيام إليه لأنه صدر ذلك منه في أقل من هذا
في حديث التيمم حين انقطع عقدها فدخل عليها يضرب في
خاصرتها ويعاتبها ويقول حبست رسول الله والناس وليسوا على
ماء وليس معهم ماء وهي لم يقع العقد منها متعمدة ولم تقل
شيئاً ولا فعلت شيئاً إلا أن النبي الا الله أقام باختياره
فلما أن كان كلامها هنا واختيارها موافقاً لمراد أبي بكر
واختياره سكت لها عن ذلك لموافقتها ما يريد النبي ويختاره
وما يريد أبو بكر ويختاره وهذا مما يشهد لفضلها وعلوّ
منزلتها على غيرها إذ إنها مع صغر سنها تراعي مرضاة النبي
وتفضله على مرضاة أبويها ولأجل ذلك خصها الله تعالى بنبيه
عليه السلام فلم تر غیره ولم تعرفه لأنه عليه السلام لم
يتزوج بكراً صغيرة السن غيرها وأما غيرها من النسوة
فتزوجهنَّ بعد ما كبرن ورأيْنَ الأزواج وهاهنا حكمة دقيقة
نحتاج أن نبديها لكي يستدل بها على فضلها وإن كان الكل
فاضلات وإنما الكلام فيما اختصت به في حال صغر سنها دون
غيرها ممّن لم تحصل لهن الخصوصية إلا بعد ما مضى لهن من
العمر سنين وذلك أن النبي له الا الله و قد أخبر أن الله
عزّ وجل إذا أراد أن يخلق خلقاً اجتمع ماء المرأة مع ماء
الرجل بقدرته وبقي يسير في عروق المرأة أربعين يوماً ثم
بعد الأربعين يجتمع في الرّحِم ثم يأمر الله عزّ وجلّ
ملكاً فيأخذ بين أصابعه من تراب الموضع الذي أراد أن تكون
تربة هذا الخلق منه فيأتي الملك بذلك التراب ويعجنه بذلك
الماء الذي اجتمع في الرحِم ثم يبقى يتطور في الرحم إلى
حين خلقه ۱ فيصوّر على ما جاء فيه النص من الشارع عليه
السلام والأراضي مختلفة فيها السهل والوعر وفيها ما ينبت
وفيها ما لا ينبت والذي ينبت فيها ما يطعم في الحين وفيها
ما يتأخر طعمه
وهذا موجود حساً لأن بعض الأراضي لا يطعم شجرها إلا بعد
سنين وبعضها لا يتأخر طعمها بعد خروجها عن الأرض إلا
يسيراً وتأخذ في الطعم كأرض الحجاز تجد النخلة فيها مع
الأرض وهي حاملة للطعم وقد شبه عزّ وجلّ الإيمان بالشجرة
في كتابه حيث قال ألَمْ تَ
۱ مؤلف من أحاديث عدة منها حديث عبد الله بن مسعود في
الصحيحين أوله إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً
إلخ ومن حديث أبي موسى الأشعري قال إن الله تبارك وتعالى
خلق ادم من قبضة قبضها من جميع الأرض إلخ رواه أبو داود في
السنة باب في القدر والترمذي في التفسير باب ومن سورة
البقرة
۷۸۰
كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ ۱ قيل إن هذه الشجرة هي النخلة وقد شبه الشارع
عليه السلام كمال الإيمان بتناهي حلاوة هذه الثمرة فقال
عليه السلام ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون
الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه
إلا اعزّ وجلّ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن
يُقذَف في النار فكنى عليه السلام عن كمال الإيمان بإثمار
هذه الشجرة وتناهي طيبها لأن الحلاوة لا توجد في الثمرة
إلا عند كمال ثمرها وتناهيه
فلأجل هذا المعنى تزوج النبي الله عائشة رضي الله عنها وهي
حديثة السن لأنها كانت حجازية التربة حسّاً ومعنى فظهر ثمر
شجر إيمانها وتناهي طيبه مع حداثة سنها وقبل بلوغها حد
التكليف فناهيك به بعد البلوغ والتكليف ولأجل هذا المعنى
لما ناشدن النبي ل لا لا لا أزواجه في إيثارها عليهن فقال
لم يُوحَ إليَّ في فراش إحداكن إلا في فراشها ۳ فكان
تفضيله لها لأجل ما خُصت به من الصورة المعنوية لا الصورة
الحسية ولأجل هذا قال عليه السلام خذوا عنها شطر دينكم ٤
ومما يدل على فضلها فقهها في هذا الحديث الذي لم تأت بلفظة
إلا لفائدة وما أظهر الله تعالى من رفعتها وعلو منزلتها
ولأجل هذا المعنى - والله أعلم - لم يصلح اجتماع نساء
النبي صلى الله عليه وسلم معه إلا بعد سنين من أعمارهن
مختلفة على قدر ما بلغ وقت كمال إيمانهن وحينئذ صلحن له
عليه السلام لأنه لا يكون للطيب إلا طيبة لقوله تعالى
وَالطَّيِّبَتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ ﴾ ٥ ولأجل
هذا المعنى قال عليه السلام لو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذت
أبا بكر خليلاً ٦ ولا ذلك إلا للمعنى الذي جمع بينهما وهو
تقاربه من النبي الله في الإيمان لأنه لا إيمان أقوى بعد
إيمان النبي صلى الله عليه وسلم من الله عنه وقد نص عليه
السلام على ذلك بقوله ما فضلكم أبو بكر بكثرة
إيمان أبي بكر رضي صلاة ولا صيام ولكن بشيءٍ وقر في صدره ۷
والإشارة في هذا إلى قوة الإيمان واليقين
۱ سورة إبراهيم من الآية ٢٤
رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن
أنس رضي الله عنه
۳ سبق تخريجه في هذا الحديث قبل صفحات ٤ سبق الكلام عليه
في هذا الحديث قبل صفحات
٥ سورة النور من الآية ٢٦ ونقول جاء في القرآن الكريم قوله
تعالى امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ
عبدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا على
سبيل الندرة من القاعدة والنادر لا عبرة له تجاه الأعم
الأغلب ٦ رواه الإمام أحمد والبخاري عن ابن الزبير رضي
الله عنه ورواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما واللفظ
مختلف
٧ ليس بحديث قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء لم أجده
مرفوعاً وهو عند الحكيم الترمذي من قول بكر بن عبد الله
المزني وقد سبق أن بينا ذلك من قبل
۷۸۱
وقولها فأنزل الله عزَّ وجلَّ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ ۱ الآيات إلى آخر
الحديث فيه وجوه
الأول إن أهل بدر لم تكن عصمتهم بألا يقعوا في المخالفة
خلافاً لمن ذهب إلى ذلك فحمل قوله عليه السلام إخباراً عن
ربه عزّ وجلّ أنه قال يا أهل بدر اعملوا ما شئتم مغفوراً
لكم إنهم محفوظون من الوقوع في الذنوب وإن أرادوها لا
يقدرون عليها للحفظ لهم وما نحن بسبيله يردّ ذلك عليه لأن
مسطحاً من أهل بدر وها هو ذا قد وقع فعلى هذا فلم يبق أن
يكون قوله اعملوا ما شئتم مغفوراً لكم إلا على العموم لا
على الخصوص فيكون معنى ذلك أنهم من المغفور لهم ما داموا
على الحال المَرْضي وإن وقع بعضهم في الذنوب فيجعل له
سبباً للمغفرة من إيقاع حدود أو غيرها من الوجوه مثل
التوبة التي نص عليها الشارع عليه السلام بأنها تجب ما
قبلها وكذلك نص عليه السلام على أن الحدود كفارة للذنوب
وما جاء من الخارج بحسب ما ورد في الآي والأحاديث فعمتهن
الكل المغفرة إما مطلقة وإما بسبب الثاني أن من حُدَّ في
حد من الحدود فلا يجوز أن يُتعدّى في ذلك لغير ما أمر به
فيزاد فيه أو ينقص منه وإنما السنة في ذلك أن يُقام الحد
على المحدود بحسب ما أمر الشارع عليه السلام لأن الله عزّ
وجلّ لما أن أمر بحد مسطح قام أبو بكر رضي الله عنه فزاد
في عقوبته بأن قطع له ما كان يُجري عليه من النفقة فأنزل
الله عزّ وجلّ في حقه وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ
مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ٣ الآية
الثالث وهو قريب من الوجه المتقدم أن من حُدَّ في حد من
الحدود فلا يجوز أن يُهجر ولا يُخَلّ بمنصبه لأن الله عزّ
وجلّ لما أن أمر بحد مسطح فكان من أهل بدر ففعل معه أبو
بكر ما فعل أنزل الله عزّ وجلّ في حقه ما قد أوردناه من
الآي فجاء جَبْراً لما نقص من منزلته الرابع أن تصرف المرء
لنفسه ولأهله ولقرابته يكون الله خالصاً لا مشاركة للغير
فيه يمتثل في الكل أمْرَ الله عزّ وجلّ ولا ينظر إلى
اختيار أحد منهم لأن أبا بكر رضي لأن أبا بكر رضي الله عنه
لم ينتصر لعائشة حين قيل فيها ما قيل وإن كانت ابنته لعدم
معرفته لأمر الله في ذلك ما هو فاستصحب الأصل وبقي عليه
فلم يهجر مسطحاً قبل نزول القرآن لأن إحسانه إليه كان الله
ولو هجره إذ ذاك لكان حظاً للنفس ونصرة لها فترك رضي الله
عنه ذلك
۱ سورة النور من الاية ۱۱
رواه الإمام البخاري ومسلم عن علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر ۳ سورة
النور من الآية
۷۸
فلما أن نزل القرآن واستنصر لها عُلِمَ عند ذلك أن ما صدر
منه من نصرته لها حماية الله لا
لها للمعنى الذي خصها الله به وأكرمها لا لذاتها وكذلك
أيضاً هجرانه لمسطح لأنه من قرابته فلما أنزل الله عزّ
وجلّ في شأنه ما أنزل هَجَرَه وإن كان من قرابته حماية
الله فكان تصرفه في أهله وقرابته بحسب مرضاة ربه لا بحسب
مرضاة أهله ونفسه وقد نص عزّ وجلّ على ذلك في کتابه حيث
قال ﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ ١ الآية
الخامس وهو يتضح بسؤال وارد وهو أن يقال لم جعل عزّ وجلّ
ثواب رجوع هذه النفقة المغفرة ولم يجعل فيها أجوراً مضاعفة
مثلما جعل في غيرها من النفقات مثل قوله تعالى مَثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَعِفُ لِمَن
يَشَاءُ ومثل قوله عليه السلام الحسنة بعشر أمثالها إلى
سبعين إلى سبع مائة إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء
۳ والآي والأحاديث في ذلك كثيرة
والجواب عنه - والله أعلم - أنه لما أن اجتمع في هذا
المحدود أشياء عديدة فمنها الإحسان وصلة الرحم وجَبْرُ هذا
المحدود لكونه بدرياً وسبقت له عناية من الله فكان الثواب
على ذلك المغفرة لاجتماع هذه الأشياء ولحرمة هذا السيد
أيضاً لانكسار قلبه لما لحقه من إهانة الحدّ وإشعاراً
بإبقاء حرمة ما تقدم له من حضور بدر فخص الإحسان إليه من
هذا السيد الذي من أجله ما لحقه بأجل المراتب وهي المغفرة
فسبحان اللطيف الحكيم الذي رفع كل شخص بحسب حاله وجبر الكل
على منازلهم بحسن لطفه وبالله التوفيق
اللهم اجعلنا ممَّن رزقتهم حبَّ نبيك الصفوة من خلقك محمّد
صلى الله عليه وسلم وحبَّ الهِ وأزواجِهِ وأصحابه وأنصاره
وعرَّفتهم قدرَ فضلهم وما من المآثر منحتهم واعصمنا من أن
ننسب إليهم أو إلى أحدٍ منهم ما لا يليق بهم عصمة باطنة
وظاهرةً واهدنا طريق الرشاد بفضلك واحملنا على مركب
السلامة في الدين والدنيا والآخرة بكرمك وعافنا من الفتن
والمحن برحمتك وامنعنا بعزك من أن يُجهل علينا أو نَجهَل
على أحد من خلقك واجعلنا ممن رَحِمْتَهُ في الدارَينِ بلا
محنة إنك
المفضال الجواد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 سورة التوبة من الآية ٢٤ سورة البقرة من الآية ٢٦١
رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة
رضي الله عنه ومطلعه كل عمل ابن آدم يضاعف
إلخ
۷۸۳
-15--
حديث يمين الغموس
عَن عبدالله بن مَسْعُودٍ ۱ رَضي " يمين وَهُو فيها فاجر
لِيَقْتَطِعَ بِها مَال امرىءٍ مُسلِمٍ لَقِيَ الله وَهوَ
عَليهِ غَضْبَانُ
عَنهُ قالَ قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَن
حَلَفَ على
*
ظاهر الحديث يدل على تحريم اليمين الفاجرة التي يُقتطع بها
مال المسلم وتشديد الوعيد لمن حلفها ليقطع بها مال امرىء
مسلم ثم الكلام عليه من وجوه
الوجه الأول قوله عليه السلام من حلف على يمين وهو فيها
فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم ظاهره أنه إذا كان ذلك
لقطع مال امرىء كافر فهو جائز وليس كذلك لأن أهل الذمة
يتنزلون في معاملاتهم منزلة المؤمنين فعلى هذا فيحتمل أن
يكون أطلق عليه السلام ذلك على المؤمنين لكونهم أغلب لأن
أهل الذمة بالنسبة إلى المؤمنين قليل ويحتمل أن يكون عقابُ
مَن فعَل ذلك أخف من فِعْلِه مع المؤمنين لنقص حرمة الذمي
عن حرمة المسلم ويحتمل أن يكون
مع
الذمي فعل ذلك مع الذمي أشدَّ في العقاب لأنه جمع فيه ما
جمع في المسلم وزاد عليه خفرَه للذمة الوجه الثاني وهو
يتقرر بسؤال وارد وهو أن يقال لِمَ خص فاعل هذا الذنب
بالغضب دون غيره من أفعال الذنوب لأنه جاء فيها من فَعَل
كذا كان عليه كذا وعوقب بكذا كما قيل في الغادِرِ ينصب له
لواء عند أُسْتِه بقدر غَدرته ينادى عليه هذه غدرة فلان
ابن فلان وكما قيل في أكل أموال اليتامي يأكل ناراً إلى
غير ذلك والجواب أنه إنما خص صاحب هذا الفعل بالغضب لكونه
ارتكب
۱ عبد الله بن مسعود صحابي من أكابرهم فضلاً وعقلاً وقرباً
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أهل مكة ومن
السابقين إلى الإسلام وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة وكان
خادم رسول الله الأمين وصاحب سره ورفيقه حله وترحاله
وغزواته يدخل عليه كل وقت ويمشي معه قال عنه عمر وعاء ملىء
علماً ولي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيت المال
الكوفة ثم قدم المدينة في خلافة عثمان فتوفي فيها سنة ۳ هـ
/ ٦٥٣م له / ۸۴۸/ حديثاً
وانظر الحديث ۷۰
٧٨٤
ثلاثة أشياء عظيمة محرمة وهي اليمين الفاجرة وهي التي
يعبّر عنها الفقهاء باليمين الغموس ورد الحق باطلاً وأخذ
مال هذا بغير حق
الوجه الثالث أن غضب الله تعالى المذكور في هذا الحديث ليس
المراد به ما يعهد من الغضب في البشر لأن ذلك مستحيل في حق
الله تعالى وإنما المراد به ما يصدر عنه من شدة العقاب لأن
الملك إذا غضب على أحد عاقبه وشدد عليه وكذلك أيضاً إذا
رضي عن أحد أحسن إليه وزاد في الإحسان والله عزّ وجلّ
مستحيل في حقه الصفة الواردة على البشر الموجبة للرضى
والغضب وهو الميل والتعلق والنفور والكراهية ومثاله في
النقيض وهو طريق الإحسان قوله عليه السلام يضحك ربك من
ثلاث القوم يصطفون للقتال والقوم يصطفون للصلاة والرجل
يقوم في جوف الليل ۱ والمراد بالضحك هنا كثرة الثواب لهم
والإحسان إليهم الوجه الرابع الغضب لا يتعلق إلا بمجموع
الأوصاف المتقدم ذكرها فإذا لم يبلغها كان عقابه غير الغضب
وكذلك أيضاً إذا كان الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته
لأن ذلك ليس بيمين شرعي وإنما سماه الفقهاء يميناً مجازاً
ومثاله من حلف بالطلاق أو العتاق أو المشي أو غيره فحاصله
أنه علق فعله بشرط فإذا وقع الشرط وقع المشروط وبالله
التوفيق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ رواه ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد رضي الله عنه
بلفظ يضحك الله إلى ثلاثة القوم إذا صفوا في الصلاة وإلى
الرجل يقاتل وراء أصحابه وإلى الرجل يقوم في سواد الليل
حديث لا تُصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوه
عَن أبي هريرةَ رَضي الله عَنهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قالَ لا تصدقوا أهلَ الكِتابِ ولا تَكَذَّبُوهُم
وَقولُوا آمَنَّا بالله ومَا أُنزِلَ إِلَينا الآية
ظاهر الحديث يدل على منع تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم ثم
الكلام من وجوه
الوجه الأول هل النهي عام في كل ما يَدَّعونه في كتبهم
وغيرها من الشهادات أو هل هو خاص بما يدعونه في كتبهم لا
غير محتمل الوجهين معاً لكن تمام الحديث يقتضي أن المراد
به ما يدعونه في كتبهم لأنه عليه السلام قال بعد النهي
وَقُولُوا وَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَأَنزِلَ
إليكم يعني به التوراة والإنجيل لأنه قد صح بأخبار القرآن
أن الكتابين التوراة والإنجيل أُنزِلا عليهم وأنهم قد
غيّروا فيهما وبدلوا - فإذا قرأوا فيها شيئاً وادعوا أنه
من التوراة أو الإنجيل احتمل أن يكون ذلك حقاً لأنهم لم
يبدلوا الكتاب كله وإنما بدلوا بعضه واحتمل أن يكون ذلك
مما بدلوه وغيّروه فلما أن احتمل الوجهين معاً منع عليه
السلام التصديق لهم حذراً من أن ينسب الله تعالى ما لم
يقله ومنع التكذيب حذراً من أن يكذب بكلام الله تعالى إذا
كان ما قالوه حقاً وبه يستدل مالك رحمه الله على القول
بسَد الذريعة
وقد منع الفقهاء تصديقهم مرة واحدة كان ذلك في كتبهم أو
غيرها مع أن الحديث قد لا يخلو من الإشارة إلى ذلك ووجه
المنع من تصديقهم في كل ما يأتون به أنهم لما أن أخَلّوا
بالأصل وهو دينهم وكتابهم الذي أنزل عليهم - فكذبوا فيه
وخالفوا الحق فكيف يصدقون في غيره
فإن حملنا الحديث على العموم من غير تقييد كما ذهب إليه
بعض الفقهاء فلا بحث وإن
۱ سورة العنكبوت من الآية ٤٦ وتمام الآية ﴿ وَلَا
تُحَدِلُوا أَهْلَ الْكِتَبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا
ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأَنزِلَ
إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَحِدٌ وَنَحْنُ اَثر
مُسْلِمُونَ
٧٨٦
حملناه على الخصوص لقوله عليه السلام وقولوا آمنا بالذي
أنزل إلينا وانزل إليكم كان البحث كما ذكرناه فحصل من كلا
الوجهين العموم لعدم صدقهم على الإطلاق وهذا هو الحكم
وعليه
عَمَلُ السلف
وقد جاء اليوم بعض الناس فاتخذوهم أصدقاء وكلفوهم الأشغال
وائتمنوهم عليها فإنا الله وإنا إليه راجعون في الأخذ بضد
هذا الأمر الجلي
ويستنبط من الحديث أن الحكم بالنهي إنما هو خشية الكفر
الصراح فنتبع هذا الأصل فمتى وجدنا نسبة منه تعلق الأمر
عليه لقوله عليه السلام الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل
۱ ولقوله تعالى في الشهادة ذَوَى عَدْلٍ مِنكُمْ والعدل هو
من تخلص من شوائب الكفر لأن المعاصي من أجزاء الكفر لكن
الفرق بينهما أن نفس الكفر يخرج عن دائرة الإسلام والمعاصي
تخرج عن كمال الإيمان يشهد لذلك قوله عليه السلام لا يزنى
الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يختلس الخُلسةَ حين يختلسها
وهو مؤمن ۳ ومعناه أنه لا يكون في تلك الحالة كامل الإيمان
لأن الإيمان ينافي ما يفعله وهو مع ذلك مقرّ بالشهادة
فكذلك أيضاً البدع من هذا القبيل إذا كانت مستحسَنة أو
غيرها وبعضها أشد من بعض يشهد لما ذكرناه قوله عليه السلام
افترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي
على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة قيل يا
رسول الله وما هي الواحدة قال ما أنا عليه وأصحابي ٤ أو
كما قال عليه السلام فما أوجب النار لمن تقدم ذكرهم إلا
تلك الشوائب التي عندهم وكذلك هؤلاء لأنهم لا يخلون من
الشوائب ولأجل تخلص هذه الطائفة المذكورة في الحديث من
الشوائب كانوا مع النباتي لا الهلال في الجنة
فعلى هذا فينبغي لمن لم يكن له علم بما يعرف صدق أهل هذا
الزمان من كذبهم أن يجتنبهم مرة واحدة إلا أن يوفقه عزّ
وجلّ على رجل من أهل العلم عامل بعلمه تابع للسنة فيه فيجب
عليه أن يسند ظهره إليه ويمتثل أمره فيما يشير به عليه
ويأخذه بكلتا يديه ويشد عليه لأن مثل هذا نادر وجوده اليوم
والأصل الحذر من الوقوع في مخالطة من تقدم ذِكرُهم وقليل
مَن يَسلم منهم لسرعة سريان سمّهم لمخالطهم اللهم إلا من
منّ الله عليه بالتوفيق
3
6 201
330
رواه الحكيم الترمذي والحاكم وأبو نعيم في الحلية
1 سورة الطلاق من الآية
۳ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ٤ سبق تخريجه
في حديث البيعة رقم ۳
VAV
ذلك
يؤيد ما قررناه قوله عليه السلام يأتي في آخر الزمان قوم
يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم فخذوا ما تعرفون
ودعوا ما تنكرون ۱ أو كما قال عليه السلام فعلى هذا فلا
يقتصر بالحديث على ما ذكرناه لا غير إذ المعنى فيه ما قد
ذكرناه وهو آكد عليك وخاص بك ومثل موجود في المرء نفسه بل
ربما كانت النفس أشدّ وأقوى لأن المرء مع هؤلاء الناس
يكفيه الانعزال عنهم ليَسلَم منهم وليس له قدرة أن ينعزل
عن نفسه إلا بمجاهدة وحضور في كل أنفاسه وقوة من الله
وتأييد فيكون حاضراً غائباً حياً ميتاً فيجمع بين الأضداد
ويا ليت بعد هذا السلامة والخلاص وإن لم يكن على هذا
الأسلوب فقد هلك
بيان ذلك أنه قد اجتمع عليه من نفسه ثلاثة أشياء وهي موبقة
مهلكة إن وقع الطوع إليها وهي النفس والهوى والشيطان
فالنفس قد قال تعالى في حقها إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ
بِالسُّوءِ ٢ والهوى وقد قال تعالى في حقه وَاتَّبَعَ
هَوَنهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۳ وتسويل
رويد
عدو
الهوى وتسويل النفس قريب من قريب والشيطان قال تعالى في
حقه ﴿إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ فَأَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ٤
فإن لم يكن المرء حاضراً في كل أنفاسه وله تمييز بوقوع ما
يأتيه من هذه
الخواطر وإلا ٥ فقد دخل في عموم الحديث الذي نحن بسبيله
فيصدّق باطلاً ويكذب حقاً ولأجل الجهل بهذه الخواطر وقع
كثير من المدعين بأنهم من أرباب القلوب فكل ما يخبرون به
باطل لأن له هذه الثلاث خواطر وله اثنان آخران وهما ما
يكون من قِبَل الله عزّ وجلّ أو الملك فالذي من قبل الله
عزّ وجل هو في سرعة وقوعه مثل البرق ثم بعده في الحين من
غير مهلة خاطر النفس فما يمر ذلك إلا استقر في المحل فمن
لم تكن له معرفة بهذا الأمر فقد ضل بالضرورة وكان من الذين
يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً وهم على غير شيء ولهذا كان كثير
منهم يقولون قيل لي وقلت وخطر لي ووقع لي وكل ذلك باطل
وإنما الواقع له أحد الثلاثة التي قدمنا ذكرها وإن خرج في
بعض المرار شيء بحسب ما قال فذلك بالوفاق وأما بالحقيقة
فلا كل ذلك سببه الجهل بالتفرقة بين ما قد ذكرنا
فالحاصل من حاله أنه دخل في عموم الحديث يكذب حقاً ويصدّق
باطلاً لكن نحتاج هنا
۱ رواه الإمام أحمد ومسلم في مقدمة صحيحه مرفوعاً عن أبي
هريرة رضي الله عنه بلفظ يكون في آخر الزمان دجالون كذابون
يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا اباؤكم فإياكم
وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم
سورة يوسف من الاية ٥٣ ۳ سورة الأعراف من الآية ١٧٦
٤ سورة فاطر من الاية ٦ 0 كذا بزيادة وإلا
۷۸۸
إلى بيان هذه الخواطر وما هو الحكم فيها لأرباب القلوب وما
هو الحكم فيها لغيرهم فحكم من كان من أرباب القلوب أن ينظر
فيما يقع له من الخواطر من أي جهة تقع لأن القلب له بابان
باب للفؤاد وباب في وسط القلب يتلقى الغيوب من الرب
فالخاطر الرباني يأتي من ذلك الباب الذي له على الصفة التي
قدمنا ذكرها ثم يستقر بموضعه خاطرُ النفس والهوى فيحتاج
صاحب هذا الحال الحضور الكلي حتى يعلم الخاطر الأول وما
استقر بعده في المحل ولأجل التحقق من هذين الخاطرين
ومعرفتهما وكيفيتهما كان كثير ممن منّ الله عليهم بذلك لا
يقولون شيئاً ولا يُسألون عن شيء فيجيبون عنه إلا ويخرج في
الوجود كذلك لا زيادة فيه ولا نقصان لأنهم يعملون على
الخاطر الرباني بالحقيقة وما كان من الله فوقوعه لا شك فيه
هذا هو حكم هذه الخواطر الثلاث
وأما ما كان من قبل الملك فوقوعه من ناحية يمين القلب وأما
ما كان من قبل الشيطان فوقوعه من جهة الأيسر
هذا هو حكم أرباب القلوب وأما غيرهم فحكمه في ذلك أن ينظر
ما هو السبب الذي من أجله وقع له ما وقع ثم لا يخلو الواقع
أن يكون طاعةً مطلقة أو معصية مطلقة فالطاعة كلها من إلهام
الله عزّ وجلّ أو الملك والمعصية كلها من الشيطان أو النفس
وإن كانت بعض الطاعات فيها اشتباه هل هي من الله أو من
الملك أو من النفس أو من الشيطان فإذا وقع هذا الشبه
فليوقع بإزائه تمحيص ذلك الواقع على لسان العلم وتخليصه من
الشوائب المتعلقة به فما كان من الله أو من الملك فهو من
قبيل أفعال البر على الإطلاق لا تتعلق به شائبة وإن كان من
النفس والشيطان فلا بد من شائبة تظهر عند تمحيصه بلسان
العلم لأنهما لا يأمران بذلك إلا لمكر خفي منهما لا يقدر
أن يتوصلا إلى ما أرادا إلا بواسطة هذه الطاعات
مثال ذلك في الشيطان أنه يأتي أولاً من قبل المعاصي فلا
يقدر على صاحبه بشيء فيأتيه من قبل الترغيب في العبادة
والتبتل والانقطاع وليس مقصوده من ذلك إلا لعلة وهي أن
يكثر من المجاهدة فتحصل له السآمة فعند حصول السآمة يأتيه
فيعرض له بالشهوات التي كان يألف فيرده إليها فيرجع حاله
أسوأ مما كان أولاً لتركه العبادة والقنوط من رحمة الله
والأخذ في
الشهوات
ومثال ذلك في النفس ما حكي عن بعض الفضلاء أنه كان في تعبد
وخير ثم وقع له أن يخرج إلى الجهاد فبقي متحيّراً في أمره
من كون أن الجهاد من أفعال البر والنفس هي الآمرة بذلك
ومحال في حقها أن تطلب الخير أو تريده فبقي متهماً لها
فيما أمرت به فمنّ عليه باللجأ
۷۸۹
إلى الله تعالى أن يطلعه على خبيئة أمرها فنام فإذا بقائل
يقول له قد سَيْمَتْ من كثرة المجاهدة من الصيام والقيام
ويَئِسَتْ من أن تستريح منه فأرادت أن تموت في الجهاد لكي
تستريح مما هي فيه ويحصل لها الثناء بعد الموت ثم أفاق من
نومه فآلى على نفسه ألا يزول عن حاله أو يزيد عليه حتى
يموت على ما هو بسبيله فانظر شدة خبثها ودقته وخفائه حتى
إنها رضيت بالثناء بعد الموت ولا فائدة لها فيه وقليل من
يتفطن إلى هذا النظر الدقيق إلا من منّ عليه بالتوفيق
ولأجل ما فيها من هذا الخبث العظيم لم يكن لأهل الصوفة في
ابتداء أمرهم شغل ولا نظر غير العمل على قتلها وترك النظر
إليها ثم بعد قتلها - وهو المعبر عنه بمخالفتها في كل ما
تريده - لم يطمئنوا وهم حذرون منها متحرزون في كل أنفاسهم
حتى قد حكي عن بعض فضلائهم أنه قال رأيت فيما يرى النائم
ملائكة نزلت من السماء يخيرون كل شخص ويعطونه ما يريد ثم
أتوا إلي فخيروني فاخترت قتل نفسي فجيء بها في صورة فقطعوا
رأسها فقالت بقيت مني الجثة
فقطعوها قطعاً قطعاً فقالت بقي مني البعض فأنا أعمل على
البعض الذي بقي لكي أزيله فانظر بعدما فعل بها هذا الفعل
لم يطمئن إليها وأخذ في مجاهدتها هذا هو حكم غير أرباب
القلوب في خواطرهم فَحَسْبُكَ الفحص عما يخصك وهو اكد مما
يعم وإنما احتجنا إلى ذكر هذه الخواطر وحكمها وما العمل
فيها لكون الحديث يتناولها بالمعنى الذي ذكرناه وهو
التصديق بالباطل والتكذيب بالحق وذلك موجود في الخواطر لا
شك فيه بل هو اكد لأنه مما يخص وغيره على العموم والله
المستعان
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۷۹۰
-155-
حديث جواز الكذب في الخير
عَن أُمْ كُلْثُومٍ بِنتِ عُقْبَةَ ١ رَضي الله عنها
أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ
لَيسَ الكذَّابُ بالذي يُصلحُ بينَ النّاسِ فيَنمِي خَيراً
أو يَقُولُ خَيراً
*
ظاهر الحديث يدل على جواز تعمد الكذب إذا كان مآله إلى خير
قوله عليه السلام ينمي خيراً أو يقول خيراً معناه أن تكون
نفس الكذبة لفظ خير أو تكون تلك الكذبة تنمي إلى خير لكن
يعارض هذا رؤيا النبي في منامه للكذاب وهو يعذَّب بالكلوب
من الحديد على ما ذكر في الحديث أول الكتاب والجمع بينهما
- والله أعلم - هو أن العذاب على الكذب عام فيه كله وما
جاء في غيره فهو تخصيص للعام مثل هذا الحديث الذي نحن
بسبيله وغيره مما نص عليه
لكن نحتاج هنا إلى تقسيم الكذب من حيث هو كذب وبيان كل قسم
منه وما الحكم فيه وذلك أن الكذب على خمسة أقسام فكذب واجب
واخر مندوب والثالث مباح والرابع مكروه والخامس حرام
فأما الواجب فهو مثلما إذا علمت مستقر شخص وسألك عنه من
يريد قتله ظلماً وعدواناً وعلمت ذلك بيقين فيتعين عليك
الكذب إذ ذاك وليس بكذب شرعاً وإنما هو كذب لغة على
ما نقله الفقهاء
1 أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط صحابية أسلمت بمكة قبل أن
يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة ثم هاجرت وبايعت وقيل
هي أول من هاجر من النساء وفيها نزلت الآية ﴿ إِذَا جَاءَ
كُمُ الْمُؤْمِنَتُ مُهَاجِرَاتٍ عَلَيْكُمْ ﴾ الممتحنة ۱۰
وقيل إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة فلما قدمت
المدينة تزوجها زيد بن حارثة فقتل عنها يوم مؤتة فتزوجها
الزبير بن العوام فولدت له زينب ثم طلقها فتزوجها عبد
الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا ومات عنها فتزوجها
عمرو بن العاص وعنده ماتت وهي أخت عثمان لأمد
۷۹۱
وهو
وأما المندوب فهو مثل الكذب في الحرب لقوله عليه السلام
الحرب خُدْعَة۱ من شيم الأبطال والشجعان وكذلك كل كذب ينمي
إلى خير وهذا القسم هو الذي يتناوله الحديث الذي نحن
بسبيله لأن الخير مندوب إليه ابتداء وما آل إليه فهو مثله
ما لم يخالطه شيء ممنوع شرعاً
وأما المباح فهو من يعلم شيئاً ثم يحدث بضده ناسياً أو
مخطئاً لقوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ٢
وأما المكروه فهو مثل كذب الرجل لامرأته لما جاء في الحديث
أن رجلا سأل رسول الله أكذب لامرأتي فقال لا فقال أعِدُها
فقال نعم ۳ ولأن المقصود بالكذب لها صلاح خاطرها وذلك يحصل
بالوعد ولا حاجة للكذب والوعد ليس من شرطه وقوع الكذب لأنه
محتمل أن يموت هو أو تموت هي أو يع الفراق أو يفتح الله
عليه فيفي بوعده لها
وباقي الكذب على عموم حديث الكلوب المعارض لما نحن بسبيله
وقد جاء في الحديث أن الرجل إذا انفلتت منه دابته فأراها
المخلاة فظنت أن فيها العلف فأتت فلم تجد شيئاً أنها تسمى
كذيبة يحاسب المرء عليها ٤ هذا مع أن الشارع عليه السلام
قد نهى عن إضاعة المال وترك الدابة مهملة موجب لإضاعتها
فناهيك به في غيرها
ولأهل الصوفة في الحديث دليل لما يفعلونه من المكر بنفوسهم
فيعدونها ببعض شهواتها لكي تبلغهم ما يرونه من أفعال
الطاعات ثم بعد تبليغها لهم ما أرادوه لا يوفون لها بما
اشتهت عليهم إلا أن يأتيهم من غير تسبب فيه ولا عمل عليه
لأن القاعدة عندهم ترك الشهوات حتى لقد حكي عن بعض فضلائهم
أنه اشتهى شهوة فكلف نفسه أنواعاً من العبادات ونذرها أنها
إن فعلت ذلك أنالها ما أرادته ففعلت ما كلفها واجتهدت في
خلاصه ثم لما أن فرغت منه كلفها بشيء اخر ثم كذلك ثم كذلك
حتى سئمت النفس بالكلية فعاهدها أنها إن فعلت كذا وكذا من
أفعال البر ليأتينها بما أرادت على كل حال
فلما أن رأت منه العهد قوي رجاؤها في الوفاء فاجتهدت فيما
كلفها من الطاعات حتى أتمتها على ما شرط عليها ثم بقي بعد
ذلك متردداً لا يدري ما يفعل في أمرها فلم يقدر أن ينيلها
۱ رواه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب جواز الخدع في
الحرب عن عمرو وجابر رضي الله عنهما سبق تخريجه في الحديث
رقم / ۸۳/ ۳ رواه الإمام مالك في الموطأ في الكلام باب ما
جاء في الصدق والكذب وإسناده منقطع ٤ لم نقف على مصدره
شهوتها فتغلبه بعد سنين في مجاهداتها ولم يقدر أن يتركها
كذلك لئلا تسأم وتكسل عن التعبد فبينا هو كذلك متردد في
أمره لا يدري ما يفعل فإذا بأخ له يستأذن عليه فأذن له
بالدخول فإذا هو بتلك الشهوة على المراد فسأله عن ذلك فقال
اشتريته لأكله ثم جئت به إلى البيت فنمت وتركته فرأيت
النبي الله الله في المنام يقول لي اذهب بذلك الطعام إلى
أخيك فلان فكله معه
فانظر كيف كان حالهم في شهوة واحدة أفضت بهم إلى هذا الخير
العظيم فكيف بهم أن لو عددت عليهم الشهوات لكانوا يقتلونها
في أنواع التعبدات وهي لم تصل بعد إلى طرف من مرغوبها
فالوعد للنفس بمرغوبها كالوعد للزوجة بذلك سواء لأن
المقصود صلاحها ولأجل تقعيد حالهم على هذا الأسلوب كانت
نفوسهم أبداً لا تشتهي شيئاً حذراً من إدخال المشاق عليها
لأنها لا تطلب إلا الراحة في وقتها وإن وقعت لهم شهوة
فنادر حتى إن من وقع له منهم شهوة تسطر في الكتب لندورها
فانظر الكذب للنفس ما أنمى من الخير وما أظهر ولو لم يكن
فيه إلا أنها ترتدع عن الشهوات لكان ذلك كافياً لأن ترك
الشهوات هو المعبّر عنه بقرع الباب والله المستعان وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
۷۹۳
حديث صلح الحديبية
عَن البَراء بن عازب ۱ رضي الله عنهما قالَ صالح النَّبيُّ
ال المُشركينَ يومَ الحُدَيبية ٢ صلى الله عليه وسلم على
ثلاثة أشياء على أن مَن أتاهُ مِنَ المُشركينَ رَدَهُ
إِلَيهِم ومَن أتاهُم مِنَ المُسلمينَ لَم يَرُدُّوهُ وعلى
أن يَدخُلَها مِن قابل ۳ ويُقيم بها ثلاثة أيام ولا
يَدخُلَها إلا بجُلْبَانِ السَّلاحِ السَّيْفِ والقوس
ونَحوِهما فجاءَ أبو جندل ٥ يَحجُلُ ٦ في قيودِهِ
فَرَدَّهُ إِلَيهِم
* *
ظاهر الحديث يدل على جواز صلح المسلمين مع المشركين
والكلام عليه من وجوه الوجه الأول أنه لا يقتصر في أفعال
الطاعات على بعض دون بعض وإن كان ما ترك أخفض رتبة مما
يفعل لأن النبي لو كان في المدينة يقوم بالفرائض على
المراد ويفعل من أفعال البر كله من المرغب فيه والمندوب ما
استطاع لكن لما أن كانت العُمرة مطلوبة في الإيمان لم
يتركها ولم يستغن بغيرها عنها
الوجه الثاني المبادرة إلى أفعال البر ابتداء من غير توقف
وترك النظر إلى ما يتوقع من الموانع لأن النبي لو خرج إلى
العمرة مع أنه متوقع هل يُترك للدخول للطواف بالبيت أم لا
۱ انظر ترجمته في الحديث ٦٦ و ۹
يوم الحديبية يعني غزوة الحديبية وكانت في ذي القعدة سنة
ست من الهجرة وأسباب هذه الغزوة أن رسول الله خرج معتمرا
لا يريد حرباً وساق معه الهَديَ فتعرضت له قريش
۳ من قابل أي السنة التالية
٤ جُلبان السلاح جراب من أدم يوضع فيه السيف مغموراً ويضع
فيه الراكب سيفه وأداته 5 أبو جندل ابن سهيل بن عمرو وكان
سهيل هو الذي كاتب رسول الله الله يوم الحديبية على المدة
وعلى ردّ من جاء الرسول الكريم من قريش وحلفائها وقد جاء
ابنه أبو جندل رسول الله الله مسلماً فرده الرسول الكريم
تنفيذا
للعهد ولحكمة تبينت فيما بعد
٦ يخجل يتمايل في مشيه من قيوده
٧٩٤
الوجه الثالث حسن التلطف في الوصول إلى الطاعات وإن كانت
غير واجبة ما لم يكن ذلك ممنوعاً شرعاً لأن النبي وأجاب
المشركين لما طلبوا منه ولم يُظهر لهم ما في النفوس من
البغض لهم والكراهية فيهم لطفاً منه عليه السلام فيما يؤمل
من البلوغ إلى الطاعة التي خرج إليها الوجه الرابع أن صلح
المسلمين مع المشركين لا يجوز إلا بشرط ألا يكون على
المؤمنين ذلك حيف من إعطاء مال أو غيره مما هو سبب للإذعان
لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح على أن أتاه
من المشركين ردَّه إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه
وعلى أن يدخلها من قابل بِجُلُبَّان السلاح السيف والقوس
ونحوه
في
وهذه الشروط الثلاثة فيها عز للمسلمين وإن كان يسبق إلى
بعض الأذهان غير ذلك لأنه عليه السلام لم يعقد الصلح على
أن من أتاه من المشركين رده إليهم إلا لشهرة العهد فمن وقع
له إيمان هو يعلم بالعهد فيتربص حتى تنقضي أيام العهد
ويكتم إيمانه فيها ثم يخرج بعد انقضائها وليس في هذا نقص
بالمؤمنين ولأن إسلامهم أيضاً متوقع ولا يُترك شيء فيه
مصلحة يقطع بها لشيء يُرجَى وقوعه ولأنهم اليوم ممن لا
حرمة لهم فلا يُراعى حقهم وإن قَوِيَ الإيمان ند أحدهم -
أعني من أسلم من مشركي مكة فخرج من بينهم - يجعل الله من
أمره فَرَجاً ومخرجاً لقوله تعالى ﴿ وَكَانَ حَقًّا
عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ١
عند
وكذلك وقع لهم لا زيادة ولا نقصان لأن كل من هرب منهم إلى
المدينة فلم يقبله النبي الله للعهد الذي عاهدهم فلم يرجع
إلى مكة وإنما كان رجوع كل من وقع له ذلك إلى موضع قريب من
مكة وأعطاهم الله من القوة والشجاعة أوفر نصيب فصاروا بذلك
الموضع يقطعون الطريق على المشركين فلم يستطع أحد أن يخرج
معهم فانقطع بهم الداخل والخارج لمكة حتى إن المشركين
أرسلوا إلى النبي الله يسألونه لعله أن يتفضل عليهم بقبول
أولئك ولا يكون ذلك نكثاً في العهد ففعل عليه السلام ذلك
فجاءهم المخرج والفرج والنصر وأما الشرط الثاني وهو أن من
أتاهم من المسلمين لم يردوه فإنما شرط ذلك لأنه من أتى
إليهم فليس بمسلم وإنما هو مرتد فاشتراط ذلك لا ضرر فيه
على المسلمين
وأما الشرط الثالث فلأنهم لم يشترطوا عليه أن يدخلها بغير
سلاح وإنما أسقطوا له من السلاح الرمح لا غير والقتال
بالسيف والقوس وما أشبههما أنفع في البلد من الرمح ولأن
العرب
أبداً عزهم إنما هو بسيوفهم
1 سورة الروم من الآية ٤٧
۷۹۵
فهذه الشروط قَدْ بَانَ أنها ليست بنقص في حق المسلمين فلا
يجوز أن يُشتَرَط ما يكون في حقهم نقصاً باشتراطه بدليل ما
قررناه وقد قال عليه الصلاة والسلام الإسلام يَعْلُو ولا
يُعلَى
عليه ۱
الوجه الخامس أن الإمام ينظر ما هو الأصلح بالرعيَّة
فيفعله لأن النبي يا الليل لما أن رأى
المصلحة للمسلمين في الرجوع وعقد الصلح فعل الوجه السادس
ترك الطاعة وإن شرع فيها إذا كان تركها أولى لكن على وجه
تجيزه الشريعة لأن النبي الله والمسلمين أحرموا بالعمرة ثم
لما أن مُنعوا من البيت ولم يَنَاثَ لهم
الدخول إلا بالقتال تركوا ذلك وعدلوا عنه لما هو الأرجح
والأولى للمصلحة التي فيه
الوجه السابع جواز فسخ الحج والتحلل منه إذا منع العدو من
الوصول إلى البيت لكن هل غير العدو من الأعذار المانعة من
الوصول إلى البيت ينزل منزلة العدو أم لا قد اختلف العلماء
في ذلك فمنهم من ذهب إلى أن كل عذر مثله في الحكم ومنهم من
ذهب إلى أن العذر لا يكون إلا بالعدو لا غير ولا يتعدى ولا
بد من الإتيان لمكة والتحلل بها إذا كان المانع غير العدو
ومنهم من فرق بين أن يكون العذر قوياً أو ضعيفاً فإن كان
قوياً كان حكمه حكم العدو فيتحلل حيث كان وإن كان العذر
ضعيفاً لم يجز له التحلل إلا بمكة
الوجه الثامن فيه دليل على حرمة مكة لأنه عليه السلام كان
قادراً في وقته على القتال لكن لما أن عارضه حرمة مكة ترك
القتال ورجع إلى الصلح فإن قال قائل قد دخلها عليه السلام
عنوة قيل له قد أخبر عليه السلام أن الله عزّ وجلّ أذن له
في ذلك الوقت بعينه لا يتعداه وأن ذلك على غيره حرام فقال
عليه السلام لم تَحِلّ لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من
نهار ۳ فترك عليه السلام القتال بها قبل الإذن لما جعل
الله لها من الحرمة وقد قال تعالى وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ٤
فتعظيم ما عظم الله كان من البقاع أو من البشر أو مما شاء
الله زيادة في الإيمان وقوة في اليقين الوجه التاسع أن كل
ما يقضي الله تعالى للمؤمنين خير لهم ونصر وإن كان ظاهر ما
يقع ضد
۱ رواه الروياني والدارقطني والبيهقي والضياء في المختارة
عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه التحلل لبس ثياب الحل ومن
المعروف أن المعتمر والحاج يلبسان ثياب الإحرام ۳ قطعة من
حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود عن أبي هريرة
رضي الله عنه مرفوعاً ومطلعه إن الله حبس عن مكة الفيل
وسلط عليها رسول الله والمؤمنين ألا فإنها لم تحل لأحد
قبلي ولا تحل لأحد بعدي
وإنها حلت لي ساعة من نهار الخ
ألا
٤ سورة الحج من الآية ۳
٧٩٦
ذلك لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السفرة
ورجوعه بغير ما إليه قصد ظاهِرُه أنه رجع بغير نُصرة وليس
كذلك لأن خروجه عليه السلام لذلك الموضع وعقده الصلح مع
المشركين فيه فائدة كبرى لأن أهل مكة كانوا في الصلح مع
اليهود فلو كان القتال مع المشركين في تلك السنة لكثرت
الأعداء على المؤمنين ولتوالت عليهم من كل جانب فكان في
انعقاد الصلح وترك القتال في هذه السنة مصلحة عظمى لأنه
عليه السلام لما عقد الصلح مع المشركين ورجع قاصداً إلى
المدينة صالح اليهود الذين كانوا حلفاء لأهل مكة فلما
انقضى العهد الذي كان بينه عليه السلام وبين أهل مكة
بالعمرة التي دخل بها وكان الفتح بعد ذلك كان المسلمون قد
ازدادوا أضعافاً ولم يجد المشركون إذ ذاك من ينصرهم لعقد
صلح اليهود مع النبي فكان الصلح في هذه السنة المذكورة
سبباً للفتح والنصر وقد نص عليه السلام على ذلك فقال والله
لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له ۱ هو الصادق
عليه السلام بغير يمين فكيف باليمين ولأجل هذا المعنى
والعمل على حصوله حالاً استغرق أهل الصوفة في مراقبة ربهم
وتركوا التدبير في الأمور لشغلهم بتصحيح إيمانهم في كل وقت
وحين مع الاستسلام والتفويض نظراً منهم للمعنى الذي ذكرناه
لأنه إذا صح الإيمان كان كل ما يجري عليهم من المقدور رحمة
بهم وخيراً ولأجل تحققهم بذلك كان كثير منهم يتنعمون
بالبلوى حتى لقد حكي عن بعض فضلائهم أنه مرض بعلة البطن
عشرين سنة - وقيل ثلاثين سنة - فدخل عليه بعض إخوانه فرثى
لحاله وبكى فقال له العليل لا تبك فإن الملائكة تصافحني
فأخبره أن ذلك البلاء بلاء خيرٍ ومِنّة لا بلاء فتنة ونقمة
٣
الوجه العاشر جواز دخول دار الحرب بالصلح إذا كان في
المسلمين قوة ولهم عُدة وعُصْبة من حيث أن يَأْمَنوا على
أنفسهم لأنه عليه السلام دخل مكة - وهي للمشركين - بأصحابه
لما أن كانت فيهم العصبية ولهم القوة والعُدة
الوجه الحادي عشر أن الإقامة في دار الحرب تحت الذلة
والصغار لا تجوز لأنه عليه
1 أخرجه الإمام أحمد وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه بلفظ
عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض قضاء إلا كان خيرا له
وجميع روايات الحديث ليس فيها قسم كما أورد المؤلف رضي
الله عنه
التدبير القيام على الشيء بجد واهتمام ومنه تدبير المنزل
وتدبير المعيشة ۳ كأنه يشير إلى الحديث عجباً لأمر المؤمن
إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته
سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له
أخرجه الإمام أحمد ومسلم والدارمي وابن حبان عن
صهيب رضي الله عنه
۷۹۷
السلام لما أن ظهر المشركون عليه أولاً لم يكن ليقعد معهم
وإنما خرج فاراً من بينهم فلما أن تقوى الإسلام وظهر
أصحابه أتاهم وقعد بينهم أيام العمرة لأجل القوة التي كانت
في المسلمين فلم يكونوا تحت ذلة ولا تحت صغار لكافر الوجه
الثاني عشر أن البقع وغيرها من المخلوقات لا تُترك لذواتها
وإنما تُتْرَك لأوصاف بها لأن النبي لم يكن خروجه أولاً من
مكة لذاتها وإنما كان لأجل سكانها فلما أن ظهر عليه
السلام وقوي على قتال أهلها أتى إليها
وإلى هذا المعنى أشار أهل الصوفة بترك البقع التي وقعت
المعاصي فيها وليس هذا منهم على العموم وإنما يحكم بهذا
للمبتدىء التائب لأن من وقعت منه معصية بموضع فالغالب عليه
فيها خلطاء السوء ومن لا يُنتفع برؤيته فإذا هو تاب وبقي
معهم قد تكون مجاورته لهم سبباً لرجوعه لما عَهد لأنهم لا
يتركونه لما أراد لشيطنتهم ۱ وقد قال تعالى شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وشيطان
الإنس أشد على المرء من شيطان الجن لأن شيطان الجن قد يزول
بالتعوذ ۳ والقراءة وغير ذلك وشيطان الإنس تتعوذ وهو لم
يزل عن تشويشه وتسويله 4 وهو من صنف الشخص ويأتيه من قبل
النصيحة فكان أقوى على الفساد من شياطين الجن لأجل
هذه العلة
فإذا وقعت التوبة فينبغي الخروج من ذلك المحل في الحين
خشية ما ذكرناه ثم إن من من الله عليه بالقوة والتمكين لم
يضره رجوعه إلى موضعه ذلك لأنه قلّ أن يستطيع أحد على
رجوعه عما هو بسبيله لقوته في طريقه وتمكنه فيه والله
الموفق
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
1 أي شيطنة خلطاء السوء سورة الأنعام من الآية ۱۱
۳ التعوذ من عاذ بالشيء إذا التجأ إليه واعتصم به وتقول
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أعتصم بالله منه ٤
التسويل تحبيب الشرّ إلى المرء يقال سولت له نفسه شيئاً أو
سوله له الشيطان أغراه به
۷۹۸
-15E-
حدیث جواز الوصية في الثلث
عَن سَعد بن أبي وقاص ۱ رضي الله عَنهُ قال جاءَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودني ٢ وأنا بمكة
وَهُوَ ۳ يكرَهُ أَن يَموتَ بالأرض التي هاجَرَ مِنها قالَ
يَرحَمُ الله ابن عفراء ٤ فَسألتُ رَسُولَ الله صلى الله
عليه وسلم قُلت يا رسولَ الله أَوصي بمالي كُلِّهِ قالَ
لاَ قُلتُ فالشَّطرُ قالَ لاَ قُلتُ فالثُّلُثُ قالَ
الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثير إِنَّكَ أن تَدعَ ورَثَتَكَ
أغنياء خيرٌ مِن أن تَدعَهُم عالة ٥ يتكَفَّفُونَ ٦
النَّاسَ في أيديهم وَإِنَّكَ مَهما أنفَقتَ مِن نفَقَةٍ
فإنّها صَدقَة حَتى اللُّقمةَ ترفَعُها إلى في۷ امرأتِكَ
وعَسى الله أن يرفعكَ ۸ فَينتفِعَ بِكَ ناس ويُضرَّ بِكَ
آخَرونَ وَلَم يكُن لَهُ يومَئِذٍ إلا ابنة ٩
۱ سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة
أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم أو إليهم وهو
الخامس عشر من المسلمين أسلم ابن سبع عشرة وهو أول من رمى
في سبيل الله سهما وأول من أراق دماً في سبيل الله ومن
المهاجرين الأولين إلى المدينة قبل قدوم الرسول صلى الله
عليه وسلم إليها فارس الإسلام أبلى بلاء حسنا يوم أحد وكان
مجاب الدعوة كان أمير الجيش الذي هزم الفرس في القادسية
وجلولاء وفتح مدائن كسرى وبنى الكوفة وولاه عمر العراق قال
له الرسول يوم أحد فداك أبي وأمي ازم وبعد مقتل عثمان
اعتزل الفتن توفي سنة ٥٥ هـ في قصره بالعقيق على أميال من
المدينة وكفن في جُبَّةٍ لقي فيها المشركين ببدر و دفن
بالبقيع رُوِيَ له عن النبي ۷۰ حديثا اتفق الشيخان على ١٥
حديثاً الله ٢ يعودني يزورني في مرضي ۳ وهو الضمير محتمل
أن يعود على النبي وأن يعود على سعد وهو الأرجح فقد أخرج
مسلم بلفظ فقال یا رسول الله خشيت أن أموت بالأرض التي
هاجرت منها كما مات سعد بن خولة
٤ ابن عفراء هو سعد بن خولة صحابي شهد بدراً ومات في حجة
الوداع وعفراء بنت السكن من بني الخزرج
أم سعد بن زرارة الأنصاري
5 عالة فقراء ومنه قوله تعالى وَوَجَدَكَ عَابِلًا
فَأَغْقَ
٦ يتكففون يمدون أكفهم بالمسألة
۷ في امرأتك فم امرأتك ۸ يرفعك يطيل عمرك وعاش سعد بعد ذلك
خمسين سنة ۹ ولم يكن له إلا ابنة إدراج زيادة في متن
الحديث من الراوي
۷۹۹
ظاهر الحديث يدل على جواز الصدقة بالثلث والمنع فيما عداه
والكلام عليه من وجوه
الوجه الأول أن زيارة المريض من السنة لأن النبي لا أتى
إلى زيارة هذا المريض الوجه الثاني جواز زيارة الأعلى
للأدنى وهي من صفات الإيمان لأن النبي له و لا شك أنه أفضل
الناس ثم إنه أتى في عيادة سعد المذكور الوجه الثالث أن
الإمام يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم فمن كان له عذر
أخذ فيه بقدر ما يمكنه لحق أُخوَّة الإسلام ولِحَقِّ
الصحبة أيضاً لأنه عليه السلام لولا أنه كان يسأل عن
أصحابه ويتفقدهم لما عرف مرض هذا الصحابي حتى يزوره
الوجه الرابع قوله وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها
هل الكراهة هنا عائدة من النبي أو من سعد المذكور محتمل
للوجهين معاً
الوجه الخامس أن من ترك شيئاً الله وخرج عنه فليس له
الرجوع فيه ويبطل عمله إن رجع ولا يحصل له ثواب عليه لأن
من هاجر من مكة إنما كانت هجرته الله ولرسوله فلم يتركهم
النبي أن يقيموا بموضع خرجوا عنه إلى الله وكان يخاف عليهم
أن يموتوا بها هذا مع أنهم لا يتعمدون ذلك وإنما كانت
إقامة من أقام لعذر المرض فكيف بالمُتَعَمِّد وعلى هذا فقس
وقد هذا المعنى أحاديث كثيرة صحيحة ولولا التطويل لذكرْنا
منها شيئاً فشيئاً مع أنه لا يخلو أنا قد أشرنا إلى شيء من
ذلك في الكلام على بعض الأحاديث المتقدمة
جاءت في
الوجه السادس تذكار الزائر للمريض بالانتقال ليصلح حاله من
أداء حق إن كان عليه أو لفعل معروف إن لم يكن عليه حق
ويتهيأ للرحيل لأنه عليه السلام ذكر هذا المريض حين أتى
إليه يعوده بقوله يرحم الله ابن عفراء لأن ابن عفراء من
المهاجرين مَرض بمكة ومات بها
الله
فعرَّض له بذكره لكي يتنبه لتبرئة ذمته إن كان بها شيء
ويتهيا للرحيل ففهم عنه سعد رضي عنه ما أراد فقال أوصي
بمالي كله وذلك يتضمن براءة الذمة لأنه لا يؤتى إلى
المندوب إلا بعد براءة الذمة فأتى رضي الله عنه بأعلى
المندوب وهو التصدق بجميع المال
الوجه السابع أن السائل إذا سأل عن شيء ثم مُنع منه والمنع
يحتمل وجهين أو وجوهاً فله أن يسأل حتى يتبيّن له المراد
بغير احتمال لأن سعداً لما سأل النبي لا الهلالي في الوصية
بالمال كله فمنعه النبي احتمل المنع أن يكون عن جميع المال
واحتمل أن يكون عن بعض دون بعض فلما أن احتمل ذلك بقي يسأل
عن الشطر والثلث حتى علم الوجه الممنوع في ذلك بغير احتمال
1 أي أن كل إنسان صائر إلى الموت ولا بد من الانتقال من
هذه الدنيا إلى الآخرة
۸۰۰
قد
У
إن
ـیه
ـته
والثاني كشهر والثالث كجمعة وباقيها إلى آخرها مثل الأيام
المعهودة إذ ذاك من طول أو قصر وقد سأل الصحابة سيدنا و هل
تجزئنا صلاة يوم في ذلك اليوم الطويل المتقدم ذكره فقال لا
ولكن اقدروا للصلاة قدرها ۱
ومنها مثل ما تقدم في الحديث من الإحياء بعد القتل ومنها
أنه يزرع ويحصد من حينه ومنها أنه يمشي ومعه مثل الجبال من
الخبز ومنها أنه يكون معه شبه جنة ونار فأخبر الصادق أن من
دخل جنته فهي نار ومن دخل ناره فهي جنة ۳ ومنها أنه يقول
للرجل اتبعني فيأبى عليه فإذا ولّى عنه اتَّبعه مال الرجل
فيتبعه الرجل كرامة لماله فيعظم كفره وكفر الناس به من أجل
ما أعطي من خرق العادات وأنه لا يخرج إلا بعد سبع سنين
قحطاً لا تنزل قطرة مطر ولا
تنبت الأرض شيئاً
ولهذا المعنى كان أهل التحقيق لا ينظرون إلى ما يجري على
أيديهم من خرق العادات وإن كثرت وقد يخاف بعضهم منها ويطلب
الاستعفاء كما ذكر عن بعضهم أنه كان في بعض أسفاره وتعرض
لهم بحر لا يُجَازُ إلا بمُعدِّية ۳ ولم يكن له شيء يعطي
لصاحب المُعَدِّيَةِ فبقي مفكّراً ما يفعل فإذا هو قد أبصر
حافتي البحر مما يقابله قد تقاربتا حتى بقيتا قدر خطوة
فلما رأى ذلك فزع وقال اللهم إن كانت كرامة فادّخرها لي
للآخرة وإن كانت من الشيطان الرجيم فأبعدها عني فرجع البحر
إلى ما كان عليه وأخذ من بعض ثيابه وأعطى صاحب
المُعَدِّيَة بما جَوَّزه
مما يشبه
والأخبار عنهم هذا كثيرة وإنما هِمَمُهم في تحسين إيمانهم
وأعمالهم وطلب موازنتها بمقتضى ما أخبر به الصادق مثل قوله
عليه السلام من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة
من قلبه على لسانه 4 وقوله عليه السلام اطلبوا الرقة في
ثلاث في الصلاة والتلاوة والذكر فإن وجدتموها وإلا فاعلموا
أن الباب مغلق وما يشبه هذه الحقوق فيها صلاح حالهم
وفيه دليل على أن أثر الحكمة فيه للنفوس تأنيس عظيم ودلالة
على عناية الربوبية بالعبودية
۱ رواه مسلم في الفتن من حديث النواس بن سمعان رضي الله
عنه وهو جزء من الحديث ومروي بالمعنى قطعة من حديث جابر بن
عبد الله رضي الله عنه رواه الإمام أحمد في المسند ۳/ ٣٦٧
والحاكم في المستدرك ٥٣٠/٤ وصححه على شرط مسلم وأقره
الذهبي ولفظ الشاهد - كما ورد في الحديث - ومعه نهران أنا
أعلم بهما منه نهر يقول الجنة ونهر يقول فمن أدخل الذي
يسمّيه الجنة فهو النار ومن أدخل الذي يسميه
النار فهو الجنة ۳ المُعَدِّيَة المركب يعبر عليه من شاطىء
إلى آخر ٤ رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب بإسناد
ضعيف
٦٠١
يؤخذ ذلك من كون الملائكة على نقابها يحرسونها والله عزّ
وجلّ قادر أن يحرسها دون شيء كما فعل بالرجل في الحديث قبل
۱ هذا لكن إظهار الملائكة فيه تأنيس للقلوب وإظهار عناية
المولى بالعبد كما فعل عزّ وجلّ في غزوة بدر حين أنزل
الملائكة ثم قال عزّ وجلّ في حقهم وَلِتَطْمَينَ بِهِ
قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ
فجعلهم من أجل الإنس لما يعلم من ضعف
البشرية وحقيقة النصر من عنده جل جلاله ومثل ذلك هي
الأعمال الصالحة عند أهل التحقيق تأنيساً وتقوية رجاء في
فضل الله تعالى وحقيقة السعادة والخلاص عندهم بفضل الله
ويفهم هذا المعنى من قوله عليه السلام لن يُدخِل أحداً
عمله الجنةَ قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا
أن يتغمدني الله بفضل رحمته ۳ وقوله نقابها أي طُرُقها
وفجاجها
وهنا بحث وهو هل الدجال يبصر الملائكة فلا يتجرأ أن يقربهم
أو لا يراهم أو يكون ذلك
على طريق الإعظام للبقعتين والقدرة هي المانعة له احتمل
الوجهين معاً والقدرة صالحة لهما وفيه دليل على أن حرمة
البقع لا تنفع إلا مع الإيمان يؤخذ ذلك من قوله عليه
السلام
فيخرج إليه كل كافر ومنافق ولم يقل كل عاص ومذنب ولذلك كتب
مالك ٤ لبعض أصحابه حين كتب له أن انتِ الأرض المقدسة إن
الأرض لا تقدس أحداً وإنما يقدس المَرءَ عمله وقال بعضهم
اطلب لنفسك ما يقدسها من حسن علمٍ أو عمل فالأمر - والله -
خَطِر وهنا بحث في قوله عليه السلام ثلاث رجفات وهو أن
يقال ما معنى الرجفة وما الحكمة في ألا يخرجوا إلا في ثلاث
ليس إلا
أما الرجفات فيحتمل أن تكون حساً أو معنى وأعني حساً أن
الأرض تتحرك بهم كما تكون عند الزلزلة واحتمل أن تكون قوة
فزع يجدونه عند قربه إليهم أو نزوله ببعض سباخها - وهو
الأظهر والله أعلم - لأنه كثيراً ما تستعمل في الفزع كما
قال أول الكتاب فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده وقد تكلمنا
عليه أولاً وأما كونها ثلاثاً فهذه الثلاث كثيراً ما تتكرر
في الأشياء مبالغة في الخير أو ضده وهي كناية عن كثرة
الفزع الذي يلحقهم ونفوس الناس مؤمنهم وكافرهم
فالا
ولا
المـ
لقوله
الوقت
ناد
رجال
الرجم
إن ا
بخنا
علیم
ال
1 لم نقف على مصدره
٢ يشير إلى الرجل الذي أراد عبور البحر فرأى وحفظه الله
وقد جاء خبره قبل سطور معدودات ۳ سورة الأنفال من الآية ۱۰
٤ جزء من حديث رواه البخاري في المرضى باب تمني المريض
الموت وفي الرقاق باب القصد والمداومة على العمل ورواه
مسلم في صفات المنافقين عن أبي هريرة وعن جابر رضي الله
عنهما
٦٠٢
ليست على حدٍ سواء في الثبات وضده فأكثرهم فزعاً يخرج
أولاً والذي أقل منه بعده
وأجلدُهم آخراً
وفيه دليل على أن حقيقة الثبات إنما تكون مع قوة الإيمان
بدليل أن الخوف لحق الكل
لقوله عليه السلام ترجف المدينة فثبت المؤمنون ولم يستطع
ذلك الكافرون والمنافقون وفيه دليل على أن الكفار في ذلك
الوقت يكونون ممن يسكنون المدينة وأن النفاق يكثر ذلك
الوقت والوقت الآن ليس فيه نفاق ظاهر ولا بالمدينة كافر
مقيم ولا يدخلها فدل ذلك على قوة فساد العالم إذ ذاك
وكثرته
وهنا بحث وهو هل ما يُخص ١ بالرجف إلا المدينة لذلك الدجال
وحده أو يكون لكل دجال قبله رجفة لأنه قد قال بيني وبين
الدجال نيف وسبعون دجالاً فإن قلنا إن الرجف بمعنى تحريك
الأرض فيكون - والله أعلم - خاصاً بتلك البقعة وذلك الدجال
وإن قلنا إن الرجف بمعنى الفزع فكل دجال يوجد معه ذلك لأنه
ما حمل الناس على اتباعهم إلا الخوف من ضررهم فتلك رجفة
وأما غيرهما من البقع فتلك الرجفة موجودة في أرضهم غير
أنهم لا يحتاجون أن يخرجوا إليه كما فعلوا هنا لأنه هو
الذي يدخل إليهم وقد جاء أن بعض من يكون له إيمان قطعي به
إذا سمع بقربه يقول اذهب بنا نتفرج على هذا الكذاب اللعين
فإذا وقعت أعينهم عليه اتبعوه وفي هذا خوف شديد من الفتن
والحض على الهروب منها ما أمكن مخافة أن يلحق المؤمن منها
شيء
لكن هنا بحث وهو أن هؤلاء خرجوا وهم يعترفون بكذبه ثم
اتبعوه والشخص المذكور ۳ قبل الخروج إليه أيضاً هو موقن
بكذبه ففَعَل به ما فَعَل فلم يزدد فيه إلا تحقيقاً بكذبه
فالجواب لما خرج أولئك على طريق الفُرجة في آية الله أخذهم
البلاء لأنهم جعلوا آية الله لعباً ولهوا فلو كان تصديقهم
حقيقياً ما خرجوا على جهة الفرجة لأن الدجال خروجه من
الآيات العظام فجعلهم ذلك لهوا هو عين الفتنة ويترتب على
ذلك من الفقه أن الاستهزاء بشيء من الايات ومن أثر قدرة
الله ضعف في
1 هكذا بالأصل وصوابه أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي
الله عنهما
كذا والصواب أما يُخص ۳ رواه أبو نعيم عن أنس - كما في كنز
العمال - وروى مسلم وغيره من أنه سيكون كذابون ثلاثون كلهم
يزعم أنه نبي وروى الترمذي في الفتن عن أبي هريرة رضي الله
عنه لا تقوم الساعة حتى يبعث كذابون دجالون قريب من
ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله
٦٠٣
33
الإيمان ويخاف على دينه وقد قال جلّ جلاله قُلْ
أَبِاللَّهِ وَعَايَنَيْهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ
تَسْهَرُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ
إِيمَنكم ١ وأما الآخر فخرج مجاهداً بنفسه في سبيل الله
لأن يكذبه ويصدق قول الله عزّ وجلّ وقول رسول الله فأمده
الله جل جلاله بالنصر منه والحماية فتعظيم آيات الله تعالى
وأثر قدرته من قوة الإيمان والخير كله مع قوة الإيمان مَنّ
الله به
علينا بفضله
وفيه دليل على أنه ما تظهر حقيقة الدعاوى إلا عند
الامتحانات يؤخذ ذلك من قصة
من
الدجال فإن ناساً يكونون يستترون بالإيمان ويدعونه فإذا
جاء الدجال لم يثبت إذ ذاك الدعاوى شيء إلا من كان إيمانه
حقيقياً وكان عمله على مقتضاه ومن أجل ذلك حَضَ حين ذكر
الفتن وقال الصحابة رضوان الله عليهم ما تأمرنا إن أدركنا
ذلك الزمان فقال عليه السلام الجأوا إلى الإيمان والأعمال
الصالحات فقوله عليه السلام إلجأوا إلى الإيمان وهم مؤمنون
معناه الأخذ في تقوية الإيمان ومما يقوي الإيمان الأعمال
الصالحات فإن بها
النقص وبها الزيادة
وفيه تنبيه على أن ينظر كل شخص في أمر نفسه في زمانه فيحذر
من دجَاجِلةِ وقته لأن كل زمان لا يخلو من دجاجلة فيكون من
أتباعهم وهو لا يعلم ويظن أنه قد سَلِم من الدجال وهو من
أتباعه أو هو نفسه من الدجاجلة ولا يعرف ذلك إلا بإقامة
ميزان الكتاب والسنة على نفسه على مقتضى ما تأوله السلف
الصالح رحمهم الله وإلا يكون مُستدرَجاً وهو لا يعلم فيدخل
تحت قوله عزّ وجلّ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ ﴾ وإلى هذا المعنى إشارته عليه السلام بقوله
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ٤ وليلزم الأدب والخوف
فالأمر ـ والله ـ عظيم وقد أصبحنا في زمان تغيّرت فيه
أعلام الخير وتشعبت طرقه وقل فيه السالكون وإليه الداعون
فتداركنا الله باللطف منه بفضله
وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
٦٠٤
۱ في الحديث ٨٥
سورة التوبة من الآية ٦٥ ومن الآية ٦٦
۳ لم نقف على مصدره
٤ سورة الأعراف من الآية ۱۸
ن
ـة
ـن
L
حديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج
عَن عَبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه قالَ كُنَّا معَ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ من استطاعَ ۱ م
الباءَة فَلْيَتَزوّج فإنّهُ أعْضُ لِلبَصَرِ وأحصنُ
لِلفَرْجِ ومَن لم يَستطِعْ فَعَلَيهِ بالصوم
فإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ
ظاهر الحديث يدل على الأمر بالنكاح وأنه من سنة النبي ل لا
ل ا ل لأنه عليه السلام قال من استطاع منكم الباءة فليتزوج
والباءة في لسان العرب بالألف الممدودة هي القدرة على
التكسب والنفقة على الأهل
وقوله عليه السلام ومن لم يستطع فعليه بالصوم فيه دليل على
أن الصوم يقلل مادة النكاح ويضعفها لأن النبي الله أمر من
لم يقدر على التأهل به وقال عليه السلام فإنه له وجاء
والوجاء عند العرب هو رض الأُنثَيَيْنِ ٢ كانت العرب تأخذ
الفحول من الغنم فتفعل ذلك بها وهو الذي يقال له في الغنم
الخصي لمن فعل به هذا لكن هذا الفعل يذهب بمادة النكاح
بالكلية وإنما شبه النبي الصوم به لأن بينهما في الشبه
شيئاً ما وليس من شرط المثال أو الشبه أن يكون ذلك فيه من
كل الجهات بل يكون في صفة دون أخرى والصوم قد أخذ من ذلك
شيئاً ما وهو كونه يضعف ما يجده المرء من تلك الحرارة
القوية التي تغلبه وأما كله فليس يرتفع كما يرتفع من الغنم
ولأجل هذا أمر عليه السلام بالصوم للشباب - على ما جاء في
رواية غير هذه - لأن الشباب له من شهوة النكاح ما قد تغلب
عليه بخلاف الكبير فإن تلك المادة الكبرى ليست عنده وإنما
معه منها ما يقدر على أن يدفعه عنه
ولأجل هذا قال عليه السلام فإنه أغض للبصر وأحصن للفَرْج
ولم يقل بأنه يُغض البصر
1 انظر ترجمته في الحديث ۷۰
الأنثيان الخصيتان ورض الأنثيين دقهما أو كسرهما والمراد
هنا الخصاء
0
ويُحصن الفرج لأن المرء مأمور ابتداءً بغض البصر وتحصين
الفرج ولو كان معه مما تقدم كثير يؤمر بغض البصر وتحصين
الفرج شرعاً لكن بوجود الأسباب المُعِنَيةِ على ذلك يسهل
عليه الأمر وعلى الشباب في هذا مجاهدة ولا يُقدّر عليه إلا
مع الدين القوي فإذا كثر الصوم قلت تلك المادة التي تغلبه
فكان ذلك عوناً له على غض البصر وتحصين الفرج الذي أُمِر
به
وفي هذا دليل على أن المرء مأمور بعمل الأسباب لأن النبي
أمر بالتسبب في رفع حرارة ما يجده الإنسان مما أشرنا إليه
بالتأهل فإن لم يقدر الإنسان على ذلك فليَصُمْ فكذلك كل ما
يكون للإنسان فيه ضرر أو نفع فله أن يتسبب في زواله عنه أو
في إيقاعه بأي وجه قدر عليه من الوجوه الشرعية لكن يعارض
هذا قوله وحين سأله أبو هريرة رضي الله عنه قال إني رجل له
شاب وأخاف على نفسي العَنَت ولا أجد للنساء طَوْلاً فكرر
أبو هريرة ذلك ثلاثاً والنبي لم يرد عليه جواباً فقال له
عليه السلام في الثالثة جف القلم بما أنت لاق فاختص على
ذلك أو زِدْ ۱ فأمر عليه السلام هنا بترك التسبب
والاستسلام للقضاء وأمر في الحديث الذي نحن بسبيله بالتسبب
في زوال الأمر والجد فيه
والجمع بينهما هو أن أبا هريرة رضي الله عنه من أهل الصفة
وأهل الصُّفة أبداً من شأنهم الجوع وقد كان أبو هريرة رضي
الله عنه يُغشَى عليه من شدة الجوع فهو لم يزل عنه ذلك
الأمر بالصوم من شدة ما كان عنده من الحرارة للنكاح فعند
العجز عن السبب وكونه لا يدفع ما كان هناك أمره عليه
السلام بالتوكل والاستسلام وقال عليه السلام لرجل حين سأله
فقال أُرسل ناقتي فقال له عليه السلام اعْقِلُها وتَوَكَّل
٣ فقد بيّن عليه السلام في الحديث الذي نحن بسبيله حكم
الشريعة وبيّن في قصة أبي هريرة رضي الله عنه حكم الحقيقة
وهو التسليم فعلى هذا فيحتاج المرء أبداً أن يكون مستسلماً
لقضاء الله عزّ وجلّ وقدَرِهِ بعد بذل الجهد في الأسباب
الشرعية التي قد أجرى الله العادة أن يُنَجِّى بها ثم بعد
ذلك لا يعوّل عليها ولا يظن
1 رواية البخاري فاختص على ذلك أو ذر وكذا رواية ابن حجر
في فتح الباري والنسائي ٥٩/٦ والبيهقي في السنن الكبرى
۷۹/۷ ولفظ الحديث - كما ورد في البخاري - قال أبو هريرة يا
رسول الله إني رجل شاب وأخاف العنت ولا أجد ما أتزوج به
ألا أختصي فسكت عني ثم قلت له فَسَكتب عني ثم قلت له فسكت
عني ثم قال يا أبا هريرة جَفَّ القلم بما أنت لاق فاختص
على ذلك أو ذرّ
٢ أهل الصفة هم مجموعة من فقراء المهاجرين كانوا يأوون إلى
مكان مظلل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون
عنه ويرعاهم وقد أخلصوا أنفسهم للعلم والجهاد وكان منهم
أبو هريرة رضي الله عنه
33
۳ رواه الترمذي في العلل وقال هذا حديث غريب ورواه ابن
حبان والحاكم في المستدرك والقضاعي في مسن الشهاب وأبو
نعيم في الحلية وابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث
عمرو بن أمية الضمّري بإسناد
جيد
٦٠٦
كثير
مادة
كل
233
جل
ـلك
حن
ـان ـل
ـد
1,
أنها هي المنجية وإنما ينظر النجاة من طريق الفضل لا بعمله
كما قال إبراهيم عليه السلام هو إلا أَن يَشَاءَ رَبِّي
شَيْئًا وَسِعَ رَبِّ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۱ بعد بذل جهده
في الإيمان والتحقق به لم يُعوّل عليه وكان واقفاً مع
المشيئة
وقد كان عيسى عليه السلام على قنة جبل فأتاه إبليس اللعين
فقال له أنت تقول إنك لن يصيبك إلا ما كتب الله لك فازم
بنفسك من قُنّة هذا الجبل فقال له عيسى عليه السلام المولى
يجرب العبد وليس العبد يجرب مولاه
القدرة
وقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه في حائط له يعمل فجاءه
رجل فقال له أنتم تقولون إن الله هو يرزق وهو يمنع فما
ينفع تسبّبك وعملك فقال رضي الله عنه هو كما يقولون واشتغل
بعمله فهذه أبدا سيرة الأنبياء عليهم السلام والسلف رضوان
الله عليهم ومن خرج عن ذلك فقد ضل عن الطريق لأنه إذا ظن
أنه بعمله ينجو فقد هلك لأنه قد حصر وذلك ضلال وقد قال
عليه السلام لن يُدخل أحداً عمله الجنةَ قالوا ولا أنت يا
رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ۳ وقد
قال تعالى ﴿ مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَر ﴾ ٤
فإذا أراد الله عزّ وجل أن يكون صاحب هذا العمل من الضالين
وممن يُختم له بالشقاء فمن يقدر على غير ذلك كما كان بلعام
بن باعوراء ٥ وغيره لا راد لأمره يفعل ما يريد ولا يُسأل
عما يفعل
وأيضاً فإنه إذا ظن أنه بعمله يصل إلى مرغوبه فقد قطع بأن
له عملاً صالحاً وذلك محض الضلال لأنه زكّى نفسه بذلك وقد
قال تعالى ﴿ فَلَا تُرَكُواْ أَن أَعْلَمُ بِمَن أنقى ٦
وقد قال عليه السلام لا تُزَكّوا على الله أحداً ۷ قال ذلك
في رجل مات وأثنى الصحابة عليه بخير
ـل
۱ سورة الأنعام من الاية ۸۰
حائط بستان
۳ ورد قبل صفحات أنه رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه
٤ سورة الأعراف من الآية ١٨٦
٥ قال كثير من المفسرين هو المراد بقول الله تعالى وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى مَاتَيْنَهُ وَايَيْنا
فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ وكان بلعام يعلم اسم الله الأعظم الذي
إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب فدعا به علی موسی علیه
السلام فلم يستجب له فيه وسلبه الله منه والعياذ بالله
تعالى ٦ سورة النجم من الآية ۳ ۷ رواه البخاري في الشهادات
باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه وفي الأدب باب ما يكره من
التمادح ورواه مسلم في الزهد باب النهي عن المدح ولفظ
الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال أثنى رجل على رجل عند
النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك ثلاثاً
ثم قال من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل أحسب =
٦٠٧
بعد موته ثم قال لهم بعد ذلك ولكن قولوا إخاله كذا لكن
يعارض هذا قوله عليه السلام
إذا رأيتم الرجلَ يواظب المسجد فاشهدوا له بالإيمان ۱
والشهادة له بالإيمان تزكية في حقه والجواب عن ذلك أنه
عليه السلام قال لهم اشهدوا له بالإيمان أي اشهدوا بما ظهر
لكم من أمره وأما الباطن والعاقبة فليس لكم إلى ذلك سبيل
والأمر في ذلك إلى الله عزّ وجلّ هو يزكي من يشاء بفضله
ويعذب من يشاء بعدله وقد قال تعالى على لسان نبيه عليه
السلام في كتابه وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا يكر
وقد قال تعالى لَا يُسْتَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ۳ هذه الآية ﴾
خضعت لها الرقاب وذلت لها - مع كثرة الأعمال وإخلاصها -
فَرَقاً من هذه الآية فلم تبق النجاة إلا بفضل الله وكرمه
لا بالعمل ولا بكثرته لكن يبقى العمل فيه بشارة للمؤمن
وتيسير له على مراده لقوله تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْمُسْرَى ٤
فمن رأى أنه قد يُسر لأفعالِ البِرّ استبشر وقوي رجاؤه في
فضل الله المتضمن لهذه الآية ولقوله تعالى بعد وصف من يُسر
لليسرى أَوَلَتَبكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله ٥ فجعل الرجاء
إنما يكون لمن فيه ما وصف وما تكون تلك الأوصاف إلا لمن
يُسِّر لليسرى ومن رأى أنه قد يُسر لأفعال أهل الشقاء
فيعلم أنه قد يُسِّر للعسرى فيحتاج عند ذلك أن يقلع عما هو
بسبيله ويرجع إلى ربه بالتوبة الاستغاثة بالله لعله أن
يتقبله وأن يصرف عنه ما هو فيه من الشقاء وأن ييسره
والاستغفار للخير بمنه وفضله
فقد اجتمع الحديثان بهذا البحث وأن المراد عمل الأسباب مع
ترك التعلق بالتعويل عليها ورؤية المن والفضل للمُنْعِم
بها مع كثرة اللجأ إلى الله والاستغاثة به في دفع الضراء
وفي تمام النعمة والاستسلام لقضائه عزّ وجلّ خيره وشره
حلوه ومرّه
لكن الاستسلام هنا يحتاج فيه إلى تقييد لقوله عليه السلام
المؤمن تَسُرّه حسناتُه وتَسوؤه سيئاته ٦ فيكون المؤمن
أبداً على هذا مستسلماً لقضاء الله عزّ وجلّ وقدره مهما
أتاه أمر رضي
فلاناً والله حسيبه ولا يزكّي على الله أحداً أحسب كذا
وكذا إن كان يعلم ذلك منه
۱ رواه الترمذي في تفسير سورة التوبة والدارمي وابن ماجه
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عـ
سورة الأحقاف من الآية ۹
۳ سورة الأنبياء من الآية ۳ ٤ سورة الليل الايتان ۷ و ۱۰ ٥
سورة البقرة من الآية ۱۸
رواه الإمام أحمد في المسند ۵۵/۵ والقضاعي في مسند الشهاب
٤٠٢ والحاكم ١٤/١ وصححه ووافقه الذهبي ولفظه جاء رجل إلى
النبي فقال يا رسول الله ما الإيمان قال إذا سرتك حسناتك
وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن
٦٠٨
به ومهما أقامه الله عزّ وجل في شيء لم يطلب غيره ولم يختر
الانتقال عنه حتى يكون الله عزّ وجلّ هو الذي ينقله عنه
وقد سئل بعض أهل الصوفة بم نلت هذا المقام فقال ما أقامني
الله عزّ وجلّ في مقام فاخترت التحول عنه حتى يكون هو الذي
يحولني عنه ولأجل النظر إلى هذا المعنى ربح من ربح وفاز من
فاز ثم يكون أبدا يتفقد أمره فإن أقيم في شيء من المخالفة
أو البدع لم يرض بذلك إذ من شرط المؤمن ألا يسره ذلك
فيستغيث عند ذلك بربه ويقلع عما هو بسبيله ويعمل جهده في
التخلص منه امتثالاً للأمر وقد قال سبحانه وَلَا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۱ فما لم يرضَه المولى لعبده فلا
يرضاه العبد لنفسه وفيه دليل على أن العالم يجب عليه أن
يُعلم قبل أن يُسأل لأن النبي قد علم هؤلاء ما يفعلون قبل
سؤالهم إياه لكن يعارض هذا حديث الأعرابي المشهور الذي لم
يعلمه حتى طلب منه ذلك وقد تقدم والجمع بينهما هو أن ينظر
المرء صاحبَه ويتفرس فيه فإن ظهر له من حاله أن يقبل ما
يقال له فليعلمه قبل السؤال كما فعل النبي الله في هذا
الحديث وإن ظهر له من حاله أنه لا يقبل منه أو قد يسمع منه
الآن ثم يتركه أو ينساه فهذا لا تعليم عليه حتى يُسأل كما
فعل مع الأعرابي
وفيه دليل على أن المر مأمور أن ينظر في كل أفعاله ما هو
أقرب إلى ربه فيبادر إليه ويترك ما هو أدنى منه في الثواب
لأن النبي ا أمر أولاً بالنكاح الذي هو أعظم في الثواب
والأجر من الصيام ولم يأمر أولاً بالصيام حتى يعدم المرء
الطَّوْل إلى النكاح الذي هو أعظم ثواباً قال عليه السلام
تناكحوا تناسلوا أباهي بكم الأمم يوم القيامة ۳
فإذا كان النكاح بهذه النيَّة فلا شك في فضيلته على غيره
وقد قال عليه السلام لا رهبانية في الإسلام ۳ والرهبانية
هي ترك النساء فلو كان ترك النساء أفضل لكان شرع في
الإسلام إذ هو خير الأديان الذي شرعه الله عزّ وجلّ لنبيه
محمّد عليه السلام وقد قال عمر بن الخطاب النساء وما لي
إليهن حاجة وأطأهن وما لي إليهن شهوة فقيل ولم
رضي
الله عنه إني لأتزوج ذاك يا أمير المؤمنين قال رجاء أن
يخرج الله من ظهري من يكاثر به محمد الأمم يوم الله
القيامة فلأجل ما فيه من الفضل على غيره قدَّمه عليه
السلام أولاً وابتدأ به
1 سورة الزمر من الآية ٧
رواه عبد الرزاق في مصنفه ١٧٣/٦ مرسلاً بسند ضعيف ورواه
البيهقي في المعرفة عن الشافعي بلاغاً وليس فيه لفظ
تناسلوا وإنما فيه لفظ تكثروا وهو حديث ضعيف ويغني عنه ما
رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم
يوم القيامة
۳ انظر الحديث ۱ ففيه تخريجه
9
وفيه دليل على أن المرء لا يأخذ من الأمور كلها إلا ما
يعلم أنه يقدر عليها ويتخلص منها لأن النبي أمر من لم
يستطع النكاح بالصيام ولم يأمره بأن يحتال على النكاح
ويتسبب في
تحصيله لكونه أفضل وإنما أمره بالصوم
وفي
هذا دليل على أن الفضيلة فى الأعمال لا تنظر من جهتها إلا
من جهة عاملها لأن هذا
الذي لم يستطع النكاح أمره عليه السلام بالصوم والنبي عليه
السلام لم يأمر أحداً إلا بما هو
أقرب في حقه إلى ربه وإن نظرنا إلى فضيلة الصوم في حق هذا
المأمور به فذلك ظاهر من حيث لا يُجهَل ولا يخفى لأنه إذا
لم يستطع النكاح من قلة ذات اليد فالصوم يعينه على ما هو
بسبيله لأن فيه الإقلال من النفقة والإضعافَ لمادة النكاح
فإذا خف عنه هذان الأمران فقد سكن خاطره وقلت الوساوس عنه
فكان باطنه مشتغلاً آخرته مقبلاً بكليته على ربه وهو
المطلوب بخلاف ما لو أمر بالنكاح لكان ذلك تبديداً لحاله
واشتغالاً عن ربه لأنه يدبر ويحتال في التكسب والنفقة وهو
عاجز عنها فتكثر عليه الوساوس ويتعمر باطنه بتدبير دنياه
ويخرب من تدبير اخرته وإنما ينظر الأفضل في الأعمال من جهة
ما فضلها الشارع عليه السلام حين القدرة على كليهما وأما
مع العجز عن بعضهما فالذي بقي منهما ويقدر عليه هو أفضل في
حق المرء حتى قال بعض العلماء في رجل فقير ليس له غير درهم
واحد فتصدق به ورجل له مال فتصدق منه بألف دينار إن صاحب
الدرهم أفضل وبيان فضيلته أن صاحب الدرهم ليس له غيره
ونيته أن لو كان قادراً على أكثر لخرج عنه عنه والآخر تصدق
وبقي له ما يتسع فيه فهذا الذي خرج عن كل ما عنده أفضل لأن
الدرهم الواحد بالنسبة إلى الفقير مال فكذلك الصوم لمن لم
يستطع الباءة مع الذي يستطيعها بهذه المزية وكذلك يتتبع
هذا في كل الأفعال بالنظر إلى هذا البحث وهو يجري في كل
ذلك كانت الأفعال كلها دنيوية أو أخروية
وإن وقع التحقيق لم يبق في الأفعال كلها ما يكون دنيوياً
إذا حسنت النية فيه ولا أعظم من أن يكون للدنيا خالصاً من
التسبب فيها والمتسبب فيها لا يخلو من أحد أمرين إما أن
يكون بالأهل أو بغير أهل فإن كان بغير أهل وكانت نيته أن
يجعل ذلك عوناً على طاعة ربه كان له في ذلك من الأجر كثير
لقوله عليه السلام من بات تعبان من طلب الحلال بات مغفوراً
له ۱ وليلة القدر ترقب في السنة كلها رجاء مغفرة الذنب
وهذا قد تحصل له ذلك بهذا الفعل الذي فعل فلا شك أنه
للاخرة لا غير
۱ قال العراقي في تخريج الإحياء ۹۱/ أخرجه الطبراني في
الأوسط من حديث ابن عباس بلفظ من أمسى كالاً من عمل يديه
أمسى مغفورا له وفيه ضعف
ال
3 3
القادم
والم
ما
3
ير
لی
الا
لكـ
بال
وأم
في
٦١٠
وإن كان صاحبه ممن له أهل وعيال كان له من الخير ما هو
أكثر ممن تقدم لقوله عليه السلام إن من الذنوب ذنوباً لا
يكفرها إلا الكد على العيال ۱ وذلك بشرط أن يكون على لسان
العلم فأخبر عليه السلام أنَّ ثَمَّ ذنوباً لا يكفرها شيء
أصلا لا الوقوف بعرفة ولا قيام ليلة القدر ولا غير ذلك
لأنه أتى بـلا وهي للنفي عدا ما ذكر فبقي التصرف كله
للآخرة لا غير لكن على الشروط المذكورة
ولأجل النظر إلى هذا المعنى وتحقق النية به وفيه ساد أهل
الصوفة وامتازوا بعلو الدرجات والفضل على غيرهم وهم في
الأعمال سواء لأنهم لا يتحركون حركة إلا الله وبالله ويرون
أن كل ما يحركون به ألسنتهم هو قربة إلى ربهم لأجل نظرهم
إلى ما أشرنا إليه
ومما يبين ذلك بعض حكاياتهم فإنه قد روي عن بعضهم أنه لما
احتاج الناس إلى الاستسقاء من كثرة القحط أرسل إلى أخ له
في الله يسأله أن يرغب إلى الله عزّ وجلّ ويتوسل إليه لعله
أن يرحم عباده فلما أن أتى هذا المرسَل وجد هذا السيّد
المرسل إليه في تسبّب من أسباب الدنيا مشغولاً به يدخل
ليلا إلى منزله ويخرج نهاراً إلى تسببه فتعجب الرجل من ذلك
كيف يكون في التسبب على هذا الحال وهو يُسْتَسقى به فمكث
معه ثلاثاً وهو لم يعطه جواباً ثم أراد الرجل الانتقال
فسأله الجواب فقال له قل له لو أعلم أنه يخرج مني نَفَس
لغير الله لقتلتُ نفسي هذا
هو حاله مع ربه
الناس ببدنه ومع
ومن راه من العوام يظن أنه مستغرق في دنياه وهو عَرِيٌّ
عنها خالي القلب منها هو مع الله بقلبه وروحه كل ذلك أصله
النية وتحريرها والوقوف معها ولولا ذلك لكانوا في تصرفهم
وتكسبهم وغيرهم سواء في الأجر وغيره وقد قال عليه السلام
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فكانوا رضي
الله عنهم بهذا المعنى الذي وقعوا عليه وأمثالهم ما قال
عزّ وجلّ في كتابه وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِى أنْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۳ فكذلك يراهم العامي في
تسببهم وتكسبهم أو يراهم يؤنسونه ويتحدثون معه في جَلِي
الأمور وخفيها فيظن أنهم معه بالكلية وليس كذلك وإنما
أبدانهم هي تلك وأسرارهم تجول في الملكوت
1 رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية من حديث
أبي هريرة كذا قال العراقي في تخريج الإحياء ۳/ ولفظ
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من الذنوب
ذنوباً لا يكفرها صلاة ولا صوم ولا حج ويكفرها الهم في
طلب المعيشة
متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه ۳ سورة النمل من الآية
۸۸
٦١١
وقد يكون منهم من يقطع من المقامات ما قدر له وهو مع
أصحابه يحدثهم ويؤنسهم لكن لا يكون هذا إلا لأهل القوة
والتمكين منهم في الأحوال التي كشف الله لهم غواشِي فطن
أفهامهم ففهموا عنه ما أراده منهم فأجابوا إليه مسرعين وهم
الذين حصل لهم أوفر نصيب من ميراث نبيهم عليه السلام لأن
الله عزّ وجلّ قال في حقه عليه السلام مَا زَاغَ الْبَصَرُ
وَمَا طَغَى ۱ وقال عليه السلام تنام عيناي ولا ينام قلبي
٢ فكان عليه السلام في النوم لا يغفل وحين اطلع ما أطلعه
الله عليه لم يُلهِه ذلك ولم يَشغَله عن آداب العبودية
وكان عليه السلام يمزح مع ويؤنسهم ويأخذ معهم في تدبير
أمورهم وسره في الملكوت يجول حيث أراد الله عزّ وجلّ به
ومن تقدم وصفهم أخذوا من هذا أوفر نصيب لكن ذلك المقام
الخاص به عليه السلام لا سبيل لأحد للوصول إليه
النساء والصبيان
ومما يشهد لهذا المعنى ما حكي عن بعضهم أنه مرت به فكرة
فسُرِي بسره إلى قابِ قوسَينِ فسمع النداء هنا سُرِي بذاتِ
محمّد السنية حيث سُرِي بسرك ولسان الحال ينادي للتابع
وللمتبع
بينكما ما بينكما في الاتباعية
ومما يشهد لذلك أيضاً ما حكي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله
أنه كان نائماً في مسجد وواحد ممن كان يلوذ به قائم يصلي
فرأى بعض من كان هناك من أهل الفضل شيطانين خارج المسجد
وأحدهما يقول لصاحبه ألا تدخل فتوسوس لهذا المصلي فقال له
الآخر يحرقني نفس هذا النائم فهو لم يعبأ بهذا المصلي ولم
يقدر على الدخول إلى المسجد خيفة نفس إبراهيم لئلا يحرقه
ولا ذاك إلا لحضورهم في كل أحوالهم وفي كل أزمانهم فنسأل
الله بمنّه وفضله ألا يحرمنا من بركاتهم وأن يمن علينا مما
مَنّ به عليهم
وفيه دليل على أن الموجب للنظر هي قوة شهوة الجماع يؤخذ
ذلك من قوله عليه السلام أغض للبصر ومما يقويه قوله عليه
السلام وزنى العين النظر والفرج يصدق ذلك أو يكذبه 4 ووجه
آخر وهو أنه لما كان غض البصر مطلوباً بمقتضى الآية أمر من
لم يقدر على ذلك بالتسبب
1 سورة النجم من الاية ١٧
330
متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ أتنام قبل أن
توتر يا رسول الله فقال إن عيني تنامان ولا
ينام قلبي
انظر سنن أبي داود في الأدب والترمذي في البر والصلة
والبخاري في الأدب باب الانبساط إلى الناس
ومسلم في
٤ جزء من حديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
ولفظ الحديث كُتِب على ابن آدم نَصيبُه من الزنى فهو مدرك
ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما
الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل
زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى ويُصدق ذلك الفَرْج أو
يكذِّبه
12
٦١٢
وبحث ثالث وهو أن يقال هل لا يكون ۱ غض البصر إلا بهذين
الأمرين لا غير
فالجواب إن هذين أكبر وقد يكون غض البصر بأن يغطي رأسه حتى
لا يرى أحداً إن كان المَعْنِي الجارحة وإن كان المَعْنِي
الجارحة مع سكون الفكرة في ذلك الشأن فهذا قد يزيله نوع
آخر مثل شدة الخوف والتألم كما روي عن الثوري رحمه الله
أنه كان إذا مرَّ به خاطر لغير الله يضرب نفسه بقضيب فربما
كان يكسر على نفسه في اليوم الواحد جملة من القضبان ووجوه
كثيرة لكن الذي أشار إليه له وهو أعلاها وأيسرها ويكون من
باب التنبيه بالأعلى على الأدنى
وفيه فائدة أخرى أنه دواء وهو في نفسه قُربة فالذي يقدر
على أن يكون دواؤه طاعة فهو أولى ومن هذا الباب قوله عليه
السلام داووا مرضاكم بالصدقة وادفعوا البلاء بالصدقة وما
ذكرنا هذا إلا من أجل أنه يعجز بعض الناس عن أحد هذين
الوجهين أو يفعلهما ولا يقع له بهما غض بصر ولا فرج فيقول
قد امتثلت السنة وما يلزمني أكثر ويترك نفسه مهملة هذا لا
يحل وإنما هذا منه تنبيه على التسبب في توفية ما أُمر
العبد به
وبحث آخر وهو أنه ليس الأمر - أعني الحفظ - مختصاً بهذين
العضوين ليس إلا بل الجوارح كلها مطلوبة بالحفظ لقوله
تعالى ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا ۳ وإنما نبه بهذين العضوين
لأنهما إنما تعظم الفائدة فيهما لأنه من استقامت له هاتان
فالغالب استقامة الغير ومن لم تستقم منه هاتان فلا يمكن
استقامة باقي الجوارح وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وعلى اله وصحبه وسلم تسليماً
1 كذا والصواب ألا يكون رواه الطبراني في الكبير والقضاعي
في مسند الشهاب وأبو نعيم في الحلية والخطيب في تاريخه من
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وفي إسناده ضعف ولفظه
- كما ورد في الجامع الكبير - داوو مرضاكم بالصدقة وحصنوا
أموالكم بالزكاة فإنها تدفع عنكم الأعراض والأمراض وليس في
الحديث ما أورده ابن أبي جمرة رضي الله عنه وادفعوا البلاء
بالصدقة ۳ سورة الإسراء من الآية ٣٦
٦١٣
حديث توقيت الشحور
عَن زيد بن ثابت ۱ رضي الله عَنهُ قالَ تَسخَّرنا معَ
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قام إلى الصَّلاة
قُلتُ كَم كانَ بينَ الأذانِ وَالسُّحورِ قَالَ قَدْرُ
خَمسينَ آيَةٌ
*
**
ظاهر الحديث يفيد بأن تأخير السحور من السنة لأن النبي وا
تَسَخَّر وكان بينه وبين الفجر قدر قراءة خمسين آية وإنما
فعل ذلك لأنه عليه السلام كان أبدا ينظر ما هو أرفق لأنه
لو لم لأمته فيعمل عليه لطفاً منه بهم وسحوره عليه السلام
من جملة الألطاف بهم يتسحر لكان أبداً أهل الفضل من أمته
لا يتسحرون لاتباعهم له فقد يكون على بعضهم في ذلك مشقة
لأنه ليس كل الناس يقدر على ذلك
وكذلك أيضاً لو تسحر في جوف الليل لكان عليهم في ذلك شيء
آخر وذلك أن المرء إذا أكل في جوف الليل فالغالب عليه أنه
ينام بعد الأكل وليس كل الناس يقدر على السهر والنوم عقيب
الأكل فيه ضرر كثير على البدن لأن بخارية الطعام تطلع إلى
الدماغ فيتولد من ذلك علة أو مرض ولو سهر الإنسان من وقت
أكله وكان الأكل في جوف الليل لوجد بذلك مجاهدة لأن الأكل
والشرب يستدعيان النوم فيكون ذلك سبباً إلى أن يكون النوم
يستدعيه في وقت الحاجة إلى العبادة وهو وقت صلاة الصبح
وربما يغلب عليه النوم من أجل ثقل الطعام الذي يكون في
المعدة والبخارية التي تطلع إلى الرأس فإذا كان كذلك فقد
يضرب به النوم عن صلاة الصبح فيكون الأكل في ذلك الوقت
سبباً إلى إيقاع الصبح فذا في غير وقتها المختار سيما في
صلاة الصبح المستحب التغليس بها وإن هو لم ينم فإنه يجد
مجاهدة في وقت الصلاة بالنوم والمطلوب في الصلاة الحضور
بالقلب فإذا كان يجاهد النوم فلا يأتي له مع ذلك حضور
۱ انظر ترجمته في الحديث ٤٤ فذا فردا بلا جماعة
۳ الغَلَس الصلاة في ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء
الصباح والتغليس هو الصلاة في وقت الغَلَس
٦١٤
فلأجل هذه المعاني وغيرها أخر عليه السلام السحور إلى قريب
من الفجر لأن المرء إذا تسخَّر في ذلك الوقت لم يبق بينه
وبين الصلاة إلا قدر ما يأخذ أهبتها فكان ذلك سبباً إلى
إيقاع الصلاة بحضور لأنه ليس معه في ذلك الوقت ما يزيل عنه
ذلك لأن الصلاة وقعت عقيب الأكل وإنما يقع التشويش بالأكل
من جهة النوم بعد الأكل بزمن يسير بقدر ما تطلع بخارية
الطعام
إلى الرأس
ثم إنه إذا أوقع الصلاة بعد أكله دخل في النهار فاشتغل
بِمَا لَهُ من الضرورات والأوراد عن النوم ويحصل له بذلك
فائدة أخرى وهو تركه للنوم بعد الأكل وترك النوم زيادة في
العمر لأن النوم هو الوفاة الصغرى وقد قال تعالى ﴿ وَهُوَ
الَّذِى يَتَوَفَّنَكُم بِالَّيْلِ ۱ فجعل النوم وفاة
والعاقل مهما قدر على الزيادة في عمره ولو بنَفَس واحد فعل
وذلك أن التاجر أبداً عند الناس لا يقال له تاجر حتى يكون
أبداً محافظاً على رأس ماله ويكون عارفاً بالتجارة
والتاجر الحقيقي هو المؤمن لأنه يتّجر فيما يبقى وهؤلاء
يتجرون فيما يفنى والمؤمن رأس ماله هو عُمرُه فيحتاج أن
يحافظ عليه وحينئذ يطلب الربح فيحذر من كثرة النوم
والغفلات فإذا احترز من ذلك بادر إلى الكسب بالأعمال
الصالحات وقد أخبر عزّ وجلّ في كتابه بأنهم هم التجار حقاً
بقوله تعالى يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى بِصَرَف تُجِيكُرَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم
الآية إلى آخرها ولا شك أن من فاز بالجنان ونجا من النار
وحصلت له المغفرة من العزيز الغفار أن ذلك هو أربح
الرابحين وقد أوحى عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام في
الزبور يا داود من تاجرني فهو أربح الرابحين
فإذا لم يتحرز المرء في يقظته من كثرة الغفلات فهو كالنائم
سواء لقوله عليه السلام مَثَلُ الذي يذكر ربَّه والذي لا
يذكر مَثَل الحي والميت فشبهه بالميت وإن كان مستيقظاً
لأجل أن وقته عرِيٌّ عن عبادة ربه فيكون رأس ماله يتبدد
وهو لا يشعر حتى ينفد فإذا نفد انتبه لحاله وقال
ارْجِعُون
جعون ٣
فيقال له كَلَّاً وأما من قام أول الليل للحاجة التي لا بد
للبشر منها
فصاحب ذلك النوم في عبادة وخير فنومه وصلاته وذكره على حدّ
واحد في الأجر
يشهد لذلك قصة الصحابيين وهما معاذ وأبو موسى الأشعري رضي
الله تعالى عنهما لما أن أرسلهما النبي لا يعلمان الناس
الدين ويقرران الأحكام فمضيا إلى ذلك ثم اجتمعا فسأل
1 سورة الأنعام من الآية ٦٠
333
سورة الصف الآية ١٠
۳ سورة المؤمنون من الآية ۹۹
10
أحدهما الآخر عن حاله فقال أبو موسى الأشعري أقرأ القرآن
قائماً وقاعداً وماشياً ومضطجعاً ولا
أنام وقال معاذ أنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي
كما أحتسب قومتي فلم يسلّم أحدهما للآخر حتى أتيا النبي
الا الله فذكرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأبي موسى الأشعري هو أفقه منك يعني معاذاً الذي يقوم
وينام ولا يطلق عليه السلام على من أخذ بذلك أفقه إلا
لأنّه أخذ بما هو أقرب إلى ربه وأحب إليه هذا هو حال
النائم للضرورة التي هي من طبع البشر ولا غنى له عنه وأما
غير ذلك فهو نقصان من العمر وقد تقدم فتحصل من هذا بأن
السحور في ذلك الوقت فيه خير كثير بدليل ما أشرنا إليه
وأيضاً فإن السحور في ذلك الوقت فيه عون على صيام النهار
لأنه إذا تسحر والفجر قريب أصبحت المعدة بالطعام وقلّ أن
تحتاج إلى الطعام وإنما تشتهيه مع اخر النهار فلا تجد
النفس ولا الشيطان سبيلاً على فاعل هذا من قبل أنه لا
تأخذه الحاجة إلى الطعام إلا إلى آخر النهار فيكون وقت
الإفطار قريباً فيسهل عليه الانتظار في ذلك الزمن القريب
ثم إنه لم تكن له إلى الطعام تلك الحاجة الكلية فإذا كان
المرء على هذا الأسلوب كان حاضراً في يومه ذاك عَرِيّاً عن
الوسواس والاشتهاء والتمني بخلاف من لم يتسحر في جوف الليل
لأن المعدة تصبح خالية من الطعام فيصبح وهو محتاج إلى
الأكل فيبقى يومه ذلك في مكابدة ومجاهدة مع النفس من قبل
ما تشتهي من الأطعمة لأن الجائع أبداً تكثر عليه الشهوات
ويجد الشيطان إليه سبيلا في الوسوسة بذلك وقد يغلب على بعض
الناس من جهة الصفراء لأن الصفراوي لا يحتمل ذلك فيُغشَى
عليه فيكون ذلك سبباً للإفطار في رمضان
ولأجل هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال من رأى منكم امرأة
تعجبه فليأت أهله فإن الذي عندها عند الأخرى ۱ أو كما قال
عليه السلام لأن من رأى امرأة فتلك الشهوة القوية هي التي
تسوّل ما تسوّل من إيقاع المخالفة فإن هو أتى أهله فقد زال
عنه ذلك الألم الكلي وإن كانت المرأة التي رأى في الجمال
ليس عنده مثلها فهو إذا واقع أهله لم تبق النفس تتشوف مثل
ما كانت وهو قادر على زوال ما بقي من التشوف للغير إن بقي
والسحور فيه شبه من ذلك لأنه إذا تسحر كان على الحال الذي
قدمنا ذكره فلم يبق معه من الشهوة إلى الطعام إلا قدر ما
يطيق على إزالته عنه وإن هو لم يتسحر كان على الحال الذي
قد ذكرناه وذلك نقصان سيما في رمضان الذي فيه من الفضل ما
قد علم فيحتاج المرء أن يكون فيه حاضر القلب مع ربه ساكن
الخاطر من جهة نفسه لئلا يروح عنه يوم لا يخلف مثله
۱ رواه مسلم في النكاح وأبو داود والترمذي من حديث جابر
رضي الله عنه وأوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
امرأة فأتى امرأته زينب إلخ
وفي سحور النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دليل على
تواضع النبي لا إذ إنه في الفضل حيث هو لكنه كان يأكل مع
أصحابه ويؤانسهم تواضعاً منه لهم
بعض
وفيه دليل على أن المشي بالليل للحاجة لا كراهة فيه لأن
الصحابة رضوان الله عليهم أكلوا مع النبي بليل ومعلوم أن
منازلهم كانت في الصغر والضيق من حيث لا يبيت بعضهم عند
غالباً ولأجل هذا لما نهاهم عليه السلام عن الجلوس في
الطرق قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا ١ لأنهم كانوا إذا
أراد أحدهم أن يجتمع بصاحبه لم يجد إلى ذلك سبيلاً من ضيق
بيوتهم غالباً فاحتاجوا إلى الجلوس في الطرق لضرورة اجتماع
بعضهم مع بعض في النظر فيما يصلحهم فلما أن تقرر هذا من
حالهم علم أنهم خرجوا بليل حتى اجتمعوا في موضع تسحروا فيه
ويحتمل أن يكونوا تسحروا في المسجد الجامع أو في منزل
النبي أو في منزل أحدهم وتقديرهم الزمان بخمسين اية فيه
دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانت أوقاتهم مستغرقة
في التعبد لأنهم قدروا الزمان بتلاوة القرآن فلو كانت لهم
عادة تغلب عليهم أكثر من التعبد لقدروا الزمان بها ولو
كانت قلوبهم متعلقة بغير ذلك لقدروا بذلك فهم أبداً لا
يزالون في التعبد وإن كان أحدهم في شغل من الأشغال فقلبه
متعلق بالتعبد لا بذلك الشغل فما كان هو الغالب على المرء
والقلب به متعلق فتقدير الزمان لا يعرفه إلا به غالباً
لتيسير ذلك عليه
وفيه دليل على أن المرء لا يخاطب كل شخص إلا بما يعلم أنه
يفهم عنه لأنهم قدروا الزمان بالقراءة التي هي كانت الغالب
عليهم ولو كان ذلك الأمر بين غيرهم لكان التقدير بغير ذلك
بما يعلم أنه يصل إلى الذهن لأن المطلوب هو إيصال الفائدة
إلى فهم السائل فلا يقدر له ذلك إلا بما يعلم أنه يصل به
الفهم إليه مثال ذلك أن العامي الذي لا يقرأ القرآن ولو
قدر له الزمان بالقراءة لم يتحصل له من ذلك التقدير فائدة
لأنه لا يعرف بها قدر الزمان المشار إليه فيكون المرء
أبداً يخاطب صاحبه على قدر فهمه وبحسب ما تتوصل الفائدة
إليه ولا يعامل الناس كلهم بمعاملة واحدة فإن ذلك من الخطأ
والغلط فإن علم صاحبه في المثال أنه يحسن الخياطة أو
النجارة قدر له الزمان بذلك فيقول له قدر ما تخيط كذا أو
تنجر كذا اقتداء بهذا الحديث
ثم بقي بحث وهو هل الألف واللام في الصلاة للجنس أو للعهد
احتمل الوجهين فإن
قطعة من حديث متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
ونص الحديث إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا يا رسول الله
ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال رسول الله فإذا
أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق
يا رسول الله قال غض البصر وكفّ الأذى والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
٦١٧
كانت للجنس فتكون الصلاة هنا صلاة نافلة ويكون على هذا
الوجه من السنة أن يكون إثر السحور صلاة نافلة وإن كانت
للعهد ـ وهي الفريضة - فيكون معنى قام إلى الصلاة أي
للتأهب لها من طهارة وخروج إلى المسجد لانتظارها لأنه في
صلاة ما كان ينتظر الصلاة
ويترتب على هذا من الفقه أن يكون السحور بقرب الصبح حتى ما
يكون بعده إلا الاشتغال بالصبح وهو الأظهر - والله أعلم -
لأجل أن سؤال صاحبه عن الأذان إنما كان حتى يعلم أي قدر
يبقى له للصبح عند فراغه من الأكل لأنه لا يمكن له الاتباع
إلا بتحديد الوقت
وفيه دليل على أن من النبل في العلم أو في الإخبار إذا أتى
المتكلم بأمر فيه احتمال أن يفسره للسامع حتى يزيل ذلك
الإشكال يؤخذ ذلك من أنه لما قال الراوي ثم قام إلى الصلاة
احتملت ثم أن تكون على المشهور من بابها من أنهم لم يقوموا
إلى الصلاة إلا من بعد مهلة واحتمل أن تكون ثم للإخبار من
الانتقال من فعل إلى فعل لا ثاني بينهما ومثل للسامع على
قدر الزمان الذي كان بين فراغهم من السحور والأذان بذكر
الآي فذهب الإشكال
والألف واللام أيضاً في الأذان هنا إنما هي العهد ولأن
النبي الله ما كان يقول إن بلالاً ينادي بليل فكلوا
واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم ۱ وكان لا يؤذن إلا مع
الفجر وسؤاله هنا إنما هو عن الأذان الذي يمنع معه الأكل
والشرب
وفيه بحث آخر وهو أن الأكل يكون قطعه قبل الفجر بيسير أقله
مثل هذا وقد تقرر من الشريعة أنه لا بدّ للصائم أن يمسك
جزءاً من الليل قبل الفجر ولا يحسبه واجباً لكونه عليه
السلام فعل ما تقدم ذكره وقد بيّن ذلك قولاً وفعلاً
وفيه من الحكمة أن من كلف شيئاً فأخرجه عن عادته أن من
الرفق به أن يعان عليه لأن
الصوم خروج عن العادة فرفق به في السحور
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ متفق عليه من حديث السيدة عائشة وابن عمر رضي الله عنهم
و ابن أم مكتوم اسمه عمرو بن قيس بن زائدة اسمه ابن الأصم
صحابي شجاع كان ضرير البصر أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة
بعد وقعة بدر وكان يؤذن الرسول الله الله في المدينة مع
بلال وكان النبي الا الله و يستخلفه على المدينة يصلي
بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء
وعليه درع سابغة فقاتل - وهو أعمى - ورجع بعدها إلى
المدينة فتوفي فيها سنة ٣٢هـ / ٦٤٣ قبيل استشهاد عمر بن
الخطاب رضي الله عنه
٦١٨
-49-
حديث من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر
عَن أبي هريرةَ رضيَ الله عَنهُ رَفعهُ مَن أفطر يوماً من
رمضانَ مِن غَير عُدْرٍ ولا مَرضِ مَن لم يقضهِ عَنهُ صيام
الدهرِ وَإِنْ صَامَهُ وَبِهِ قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله
عَنهُ
*
**
ظاهر الحديث يفيد أن من أفطر في رمضان متعمداً من غير عذر
ليس له كفارة تكفره لأنه قال فيه لم يقضه صيام الدهر وإن
صامه وصيام الدهر أعظم ما يكون من القضاء عن صوم ذلك اليوم
ثم إنه لم يجزىء ذلك عن يومه الذي أفطر فيه فما يغني غير
ذلك من الكفارات
وقد اختلف العلماء هل عليه كفارة أم لا فذهب الشافعي رحمه
الله إلى أن لا كفارة عليه وهذا الحديث مما يشهد له بذلك
لكنه قال بالقضاء وهذا الحديث يردّ ذلك لأنه قال فيه لم
يقضه صيام الدهر فإذا كان صيام الدهر لا يُجزيه فما يكون
اليوم الواحد بالنظر إلى هذا وذهب مالك رحمه الله إلى وجوب
الكفارة قياساً منه على الجماع الذي وردت الكفارة فيه على
الصائم نصاً من الشارع عليه السلام فقال الأكل من باب أولى
أن تكون الكفارة فيه والأظهر - والله أعلم - أن هذا الحديث
لم يبلغهما ولو بلغهما لذهبا إليه أو لتكلما فيه فلما أن
لم يتكلما عليه ولا تكلما فيه قوي الظن أنه لم يبلغهما
سيما مالك رحمه الله الذي يروي أحاديث ثم يترك العمل بها
لأجل العمل المتصل وهذا الحديث من اكد ما عليه من النقل إذ
إنه يصادم ما ذهب إليه والذي يظهر من الفقه - والله أعلم -
أن الإفطار في رمضان متعمداً ليس له كفارة كما هو اليمين
الغموس هذا من طريق الفقه وعملاً على الحديث
لكن قوله وبه قال ابن مسعود يدل ذلك على أن ابن مسعود خالف
غيره في ذلك إذ إنه لولا أنه اختص به وحده وذهب إليه دون
غيره ممن كان في وقته لما ذكر الراوي أنه هو الذي ذهب إلى
ذلك وترك ما عداه فعلى هذا فالحديث كان عندهم مشهوراً لكن
تركوا العمل به لما ظهر لهم من
٦١٩
الترجيح فإذا قلنا بهذا البحث فيكون الحديث قد بلغ إلى
الأئمة لكنهم لم ينقلوه ولم يتكلموا فيه لما ظهر لهم من
المصلحة في ذلك إما لعلمهم بأنه قد ترك العمل به وإما لغير
ذلك وقوله من غير علة ولا مرض العلة هي كل عذر أباح الشارع
عليه السلام به الإفطار والمرض تأكيد في العلة وهو ما يلحق
ابن آدم من الضعف فيمنعه من الصيام وقد اختلف العلماء في
المرض الذي يفطر له وقد ذكر في كتب الفقه
وفي مساق هذا الحديث دليل على فضل رمضان إذ إن يوماً منه
لا يَعْدِلُه صيام الدهر فإذا كانت أيامه على هذا الفضل
والمزية فيحتاج اللبيب أن يكون في أيامه منتبهاً حاضراً
منقطعاً للتعبد وقد جاء أن الأعمال تضاعف فيه وقد قال عليه
السلام يوماً عند صعوده إلى المنبر آمين كرر ذلك ثلاثاً
فقيل له في ذلك فقال أتاني جبريل عليه السلام فقال لي مَن
أدركه رمضان فلم يغفر له أبعدَه الله قل آمين فقلت آمين ثم
كرر ذلك اثنين بعده بالبعد أيضاً ۱ فَلْيَحْذَرُ المرء
لئلا يدخل تحت هذا الدعاء إذ إن الأمر فيه على قسمين إما
مغفرة الذنب أو الخسران بالدخول تحت نص هذا الدعاء
وهنا بحث آخر وهو أنه يكون معنى قوله لم يقضه صيام الدهر
وإن صامه أي أن الفضيلة التي فاتته في صيام هذا اليوم
الدهر كله لا يقوم مقامها وإن كانت الكفارة مُذهِبة لما
وقع فيه من الإثم إلا أن ما خسر فيه لا يمكنه خلفه لأن ما
جعله المولى في خَلق من خلقه من فضيلة لا يكون شيء
يَعدِلُه مما جعله غيره من العبيد وإن كان أكثر منه ثواباً
فلا تحصل له تلك الفضيلة الخاصة مثال ذلك أن لو جاء شخص لا
يضحي يوم النحر ويتصدق مثلا بألف درهم أو دينار قيل له فضل
الأضحية وما جاء فيها لا يحصل لك وإن نويتَ أنت بتلك الألف
دينار أنها بدل من الأضحية ولا يكون لك بها ثواب أضحية ولو
اشتريت منها أضحية بدينار لكان لك خيراً من تلك الصدقة
بالألف وإن كانت مقبولة لقوله عليه السلام ما عمل آدمي
عملاً في يوم النحر أفضل من إراقة الدم ففضلت أنت ما لم
يفضله الشرع فليس كما زعمت ولا يكون ذلك
قطعة من حديث رواه عدد من الصحابة الكرام منهم كعب بن عجرة
والحويرث وأبو هريرة وهو حديث صحيح رواه الحاكم وابن حبان
ولفظه صعد رسول الله الا الله و المنبر فلما رقي عتبة قال
امين ثم رقي أخرى فقال امين ثم رقي عتبة ثالثة فقال امين
ثم قال أتاني جبريل عليه السلام فقال يا محمد من أدرك
رمضان فلم قال يغفر له فأبعده الله فقلت امين قال ومن أدرك
والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله فقلت امين ومن
ذكرت عنده فلم يُصَلّ عليك فأبعده الله فقلت آمين رواه
الترمذي في الأضاحي عن عائشة رضي الله عنها ولفظه ما عمل
آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراقه الدماء
إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن
الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها
نفساً
٦٢٠
ولذلك كان مالك رحمه الله تعالى يرغب للمسافر أن يصوم في
سفره وإن كان الفطر له مباحاً شرعاً ومذهب الإمام أنه
مخيّر بين الأكل والصوم إلا أنه قال فضل أيام رمضان لا
يوجد في غيرها فتراه قد لحظ هذا الحديث من وجه ما وهو
الأحوط
وفيه دليل على أن فضل العبادات هو الاتباع لا الأشق يؤخذ
ذلك من أن صوم الدهر أشق من صوم يوم وتراه لا يَعْدِلُه
وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يقولون طاعة العارف امتثال
وطاعة الجاهل شهوة لأن الشهوة هي التي حملت على أكل اليوم
متعمداً فأبدله بالأشق - وهي الكفارة - والامتثال هو الذي
حمل العارف على التزام الأدب في توفية الأمر لا غير
وفيه دليل على أنه ما يقع من المخالفة حقيقة فصاحبها مع
وجود الفضل فيه لا ينجبر له ما فاته وإن تاب يؤخذ ذلك من
قوله وإن صامه لأن هذا لا يصوم إلا مع وجود التوبة وقد قال
الشافعي رحمه الله إنه ما عليه إلا التوبة وقضاء يوم بدله
فتكون التوبة وقضاء اليوم أو الدهر غايته أن يدفع عنه
العقاب وأما ما كان له من الربح فلا يعود - أعني على مثله
- إلا إن تفضل المولى وأما على الظاهر فلا وعلى هذا يجيء
قوله التوبة تَجُبّ ما قبلها ۱ أي تقطعه وتمنع ما كان من
الإثم والعقاب لا أنها تجبر ما فاته من الخير
ولذلك قال أهل المعاملات لو أن شخصاً بقي بباب مولاه عمره
وغفل ساعة واحدة لكان ما فاته في تلك الساعة خيراً مما نال
لأنه لعل تلك الساعة كانت ساعة النفحة ومن فاتته تلك
النفحة ما يخلفها غيرها وإن أتت نفحة أخرى فقد فاتت تلك
وخسر نصيبه منها وواويلتاه من
تخلف عن باب مولاه
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
1 لم نقف على مصدره وإنما المعروف أن الإسلام يجب ما قبله
٦٢١
حديث وصية النبي الله لأبي هريرة بثلاثة أعمال من البر صلى
الله عليه وسلم
عَن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال أوصاني خليلي بثلاث صيامِ
ثلاثةِ أيامٍ مِن كُلِّ شَهرٍ وَركعَتيِ الضُّحى وأن
أُوتِرَ قَبلَ أن أنام
ظاهر الحديث يفيد الحض على صيام ثلاثة أيام من كل شهر
وركعتي الضحى وإيقاع الوتر قبل النوم لأن النبي لا لا لا
لو أوصى بذلك لأبي هريرة رضي الله عنه وما أوصى به عليه
السلام فهو تأكيد منه في الأمر
فإن قال قائل لِمَ أوصى النبي الله الله وبذلك لأبي هريرة
رضي الله عنه وخصه بها دون غيره مثل أبي بكر وعمر وغيرهما
من الخلفاء قيل له إنما تركهم من قبل أنهم كانوا بحيث لا
يحتاج عليه السلام إلى وصيتهم لأنهم قاموا بعبء النبوة
بعده وهم ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا من ميراثه
أوفر نصيب وقد قال عليه السلام أنا مدينة السخاء وأبو بكر
بابها وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها وأنا مدينة الحياء
وعثمان بابها وأنا مدينة العلم وعلي بابها ۱
فمن كان بهذه المزية من النبي فلا شك أن الوصية تلتمس منهم
وقد جعل عليه السلام أفعالهم يقتدى بها في الدين فقال عليه
السلام عليكم بسنتي وسنة العُمَرَينِ بعدي ۳ وفي حديث آخر
وسنة الخلفاء ۳ وكانوا كذلك رضي الله عنهم حَذَوا حَذْوَ
نبيهم وسلكوا منهاجه فكانوا يبادرون إلى ما هو أقرب إلى
ربهم فيمتثلون الأمر في ذلك لقوله تعالى
۱ سبق القول في الحديث ۱۳ لم نقف على مصدره بهذه الصورة
لم نقف على مصدره بهذه الصورة
۳ رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث
العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو جزء من
حديث
٦٢٢
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ ۱ مثل تركهم لركوع الضحى واشتغالهم بالنظر في
مصالح المسلمين إلى غير ذلك مما يشهد بفضلهم
وأيضاً فقد كان عليه السلام يوصي لكل شخص بحسب ما يقتضيه
حاله وما هو الأقرب في حقه كما أوصى لغير أبي هريرة حين
سأله في الوصية ببر الوالدين وكما قال للآخر أيضاً حين
سأله في الوصية صَلَّ صلاة مودّع واقطع الإياس مما في أيدي
الناس۳ وكما قال في عبد الله بن عمر نِعْمَ الرجلُ لو كان
يقوم الليل ٤ إلى غير ذلك
أبا هريرة بهذه الوصية كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه حاله
لأنه كان منقطعاً للتعبد وما أوصاه به هو شعار العُباد
أبداً فأوصاه بما كان من جنس شعار التعبد بأقل ما يمكن منه
لئلا يلتزم كل ما يؤمر به وقد يكون عليه في ذلك مشقة ولو
أوصاه بأكثر لالتزم ذلك وواظب عليه كما التزم بهذه الوصية
فيما روي عنه في رواية غير هذه أنه قال أوصاني خليلي بثلاث
لا أدعهن حتى ألقاه وذكر الثلاث التي نحن بسبيلها فبين له
عليه السلام بتلك الوصية أي جنس من الأعمال هو أقرب في حقه
وتركه يفعل منه بحسب همته ومقدرته لأنه حدّ له الطرف
الواحد الذي هو الأقل وسكت عن الآخر الذي هو الأكثر
وذلك أن أفعال البر لا يستوي فيها الناس فرُبَّ شخص يكون
الانقطاع إلى التعبد به أولى وآخر تكون مجالسة العلماء
والدرس والقراءة والنظر به أولى وآخر يكون السفر والجهاد
له أَوْلَى إلى غير ذلك لأنه قد يكون في شخص أهلية للعلم
فيكون ذلك أقرب في حقه لأن العلم أفضل الأعمال على ما تقرر
في ذلك من الشارع عليه السلام فاشتغاله بالتعبد وتركه
للعلم نقصان في حقه سيما في هذا الزمان الذي قد يكون
الاشتغال بالعلم على من فيه أهلية فرض عين في حقه لقوله
عليه السلام إذا ابتدع في الدين بدعة كيد الدين فعليكم
بمعالم الدين واطلبوا من الله الرزق فقالوا يا رسول الله
وما معالم الدين فقال مجالس الحلال والحرام ٦ فالعلم اليوم
هو أقرب ما يتقرب به إلى الله بل نقول هو على الوجوب بدليل
الحديث الذي ذكرناه وإذا كان
1 سورة الإسراء من الآية ٥٧
333
رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وهو حديث من
أحقُّ الناس بحسن صحابتي إلخ رواه الحاكم عن سعد بلفظ عليك
بالإياس مما في أيدي الناس وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر
وصَلَ صلاةَ مودّع وإياك وما يعتذر منه
٤ رواه البخاري في التهجد ومسلم في فضائل الصحابة من حديث
حفصة رضي الله عنها ٥ رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه وهو موضوع حديث الباب لم نقف على مصدره ولعله
يريد حديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض
الجنة قال مجالس العلم رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله
عنهما
٦٢٣
المرء ليس فيه أهلية بالعلم فحينئذ يؤمر بالانقطاع للتعبد
لأنه إذا انقطع للتعبد عساه أن ينفع نفسه
وينتفع الناس بدعائه ثم كذلك
في كل الأعمال ما هو أولى واكد بحسب حال كل شخص من الناس
بدأ به وقدمه
على غيره ولا ينظر إلى فضيلة الأعمال من حيث هي وإنما ينظر
إلى الفاعل لأنه عليه السلام لم يكن ليقتصر على فعل واحد
فيوصي به الناس عن اخرهم وإنما يختار لكل شخص ما فيه أهلية
إليه وقد تقدم ذلك وإنما أوصاه عليه السلام بتلك الأفعال
اليسيرة لما قدمنا ذكره وهو خشية التزامه بما هو أكبر كما
ذكرنا وأيضاً فدأبه عليه السلام أبداً كذلك يوصي بما لا بد
منه وما هو الأقل ثم بعد ذلك يرغب في الزيادة والكثرة منه
مثل قوله عليه السلام من قام بالآيتين من اخر سورة البقرة
كفتاه ١ ثم رغب بعد ذلك في الزيادة وعدد الأجور حتى قال
بأن من قام بألف آية كتب من المقنطرين وذكر في ثلث الليل
الأخير فضلاً كثيراً وقام هو عليه السلام حتى تورّمت قدماه
۳ وكذلك فعل فيما نحن بسبيله سواء أوصى بركعتين ثم ركع هو
عليه السلام لما ثماني ركعات وجاء اثنتي عشرة ثم قال عليه
السلام من ركع الضحى اثنتي عشرة ركعة بني له قصر في الجنة
٤ كل ذلك رفقاً منه عليه السلام بأمته لئلا يلتزموا بوصيته
ما تكون فيه المشقة عليهم وترغيباً منه لهم أيضاً في
تعداده الأجور من غير وصية
وقد قال عليه السلام مما يشهد لهذا المعنى الذي نحن بسبيله
استقيموا ولن تحصوا واعلَمُوا أن خير أعمالكم الصلاة ٥
ومعنى ذلك استقيموا على الأعمال الصالحات ولا تحصوها بالعد
ولا بالحزر ولكن أكثروا من ذلك كل الإكثار وارغبوا في
الزيادة وقد قال المفسرون في معنى قوله تعالى وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَامَةِ ٦ إن كل إنسان يلوم
نفسه يوم القيامة ﴿ أكان من أهل الإيمان أو من أهل الكفر
والضلال وذلك أن الكافر إذا كان يوم القيامة ورأى ما أعدَّ
الله عزّ وجلّ له من العذاب رجع على نفسه يلومها إذا لم
يكن من أهل الإيمان والمؤمن
۱ رواه البخاري في فضائل القرآن ومسلم في صلاة المسافرين
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قطعة من حديث رواه أبو
داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصلاة باب
تَحْزِيب القران ۳ متفق عليه من حديث السيدة عائشة
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ٤ رواه الترمذي في الصلاة
من حديث أنس رضي الله عنه رقم ٤٧٣ بلفظ مَن صلّى الضّحى
إلخ ٥ رواه الإمام أحمد والدارمي وابن ماجه في الطهارة
وباب المحافظة على الوضوء وصححه ابن حبان من حديث ثوبان
رضي الله عنه ورواية الحديث استقيموا ولن تحصوا إلخ
٦ سورة القيامة الآية ٢
٦٢٤
العاصي إذا رأى جزاء أعماله رجع على نفسه باللوم من أجل
الذي ارتكب من ذلك في دار الدنيا والمؤمن المحسن إذا رأى
ثواب أعماله رجع على نفسه باللوم لم لم يعمل أكثر من ذلك
حتى يكون الثواب له أكثر
وفي هذا الحديث دليل لمذهب مالك رحمه الله بقوله في التنقل
أقله ركعتان وفيه معنى رائق يحتاج اللبيب أن ينظر إليه
بتأمل لأن أبا هريرة رضي الله عنه لما لم يكن له من الدنيا
شيء ولا كان له فيها تكسب قنع منها باليسير من العمل لأخذه
من الدنيا اليسير من الحطام
ومن هذا الباب أخذ أهل الصوفة مشربهم فمن كان عندهم
منقطعاً اقتنعوا منه بانقطاعه مع شيء ما من العمل ومن كان
عندهم مسبباً أمروه بكثرة الأعمال والمبادرة إلى الخيرات
حتى قالوا فيمن زاد على أكله المعتاد إنه يكثر من القيام
تعويلاً منهم على هذا المعنى الذي أشرنا إليه لأن المرء
إذا كان منقطعاً للتعبد خالي القلب عن التكسب فقد بقي
مقبلاً على ربه بكليته والمطلوب من این آدم الحضور في جلّ
أوقاته
وقد هُتِف ببعض فضلائهم فقيل له أخل الدارَ يَسكنها صاحبها
ومعناه أخل قلبك مما سوی خالقه يسكنه خالقه فإذا كان القلب
ليس فيه إلا خالقه فهو المطلوب وهذه هي الغنيمة الكبرى
بخلاف المُتَسبّب قد يشتغل باطنه ولو ساعة بتدبير تسببه
فلأجل ذلك التدبير أمروه بكثرة أعمال البر
والشبعان أيضاً كذلك لأن الشبعان يثقل بدنه عن التعبد
فأمروه بضد ما يريد لأنه يريد أن يستريح عند الشبع فأمروه
بضد ذلك - وهو إطالة القيام - لكي يزول عنه ما يجده من
الثقل وينشط للعبادة لأن القلب الغالب عليه أبداً الميل مع
ما كانت الجارحة متصرفةً فيه أكثر
وقاعدتهم أبداً هي عمارة الباطن فإذا كان شيء من التسبب
أكثروا العبادة لأجله لكي تكون العبادة هي أكثر من التسبب
فيكون ميل القلب مع العمل الصالح هو الغالب على الجوارح
والتصرف فيه وهذا - أعني التسبب - معدوم في المنقطع للتعبد
وقد وجد عيسى عليه السلام رجلاً نائماً في السَّحَر فقال
له يا هذا قم فقد سبقك العابدون فقال له الرجل دعني يا روح
الله فإني قد عبدته بأحب العبادة إليه فقال له عيسى عليه
السلام وما هو ذلك فقال الرجل بالزهد في الدنيا فقال له
عيسى عليه السلام ثم فقد
فقت العابدين
٦٢٥
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الزهد في الدنيا يريح
القلب والبدن ۱ إشارة إلى ما نحن بسبيله يريح
القلب أي يريحه من التدبر والتفكر في أسباب الدنيا ومهما
خلا القلب من ذلك تعمّر بالإقبال على ربه لأنه لا يبقى
خالياً أصلاً لا بد له من أحد الأمرين إن فقد أحدهما وجد
الآخر وقد يكون الاثنان معاً لكن ذلك النادر
وفيه معنى اخر وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه رضي بالجوع
والفاقة واختار ذلك وترك التسبب ولازم النبي لو ولم يفارقه
وكان صابراً على الجوع محتسباً حتى إنه قد كان يغشى عليه
من شدة الجوع ولا يعلم أحد بحاله فتشبه بالنبي الله في هذا
المعنى لأنه عليه السلام اختار الفقر على الغنى وقد كان
عليه السلام يربط على بطنه ثلاثة أحجار ۳ من شدة الجوع
ويقول ألا ربَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ۳ أو كما قال عليه
السلام لـ
فلأجل التزامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وكونه اختار ما
اختاره عليه السلام خصه بهذه الوصية ولأجل هذا المعنى الذي
أشرنا إليه قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي خليلي
لقوله عليه السلام المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من
يخالل ٤ فلما أن كان ملتزم أبي هريرة ما ذكرناه ووقع الشبه
به بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكرناه ادعى
الخلة لأجل ذلك
ولا يرد على هذا قوله عليه السلام لو كنت متخذاً خليلاً
لاتخذت أبا بكر خليلاً٥ لأنا لم نتعرض لذلك لأن النبي الا
الله منع أن يتخذ عليه السلام خليلا لنفسه وليس يلزم من
كونه لا يتخذ خليلاً لنفسه ألا يخالله ٦ أحد من الصحابة
رضوان الله عليهم لأن ليس من شَرْط الخُلَّة أن تكون من
الأعلى إلى الأدنى بل قد تكون من كليهما من الأعلى إلى
الأدنى ومن الأدنى إلى الأعلى وشرط الخُلَّة ما ذكرناه وقد
جاء ذلك في أبي هريرة رضي الله عنه فساغ له ادعاء الخُلَّة
لأجل ذلك
لكن بقي بحث وهو أنه اقتصر له على ركعتين للضحى لا غير
وصوم ثلاثة أيام لا غير
۱ سبق تخريجه في الحديث رقم / ٧٥/ سبق تخريجه في الحديث
رقم ١
۳ قطعة من حديث طويل رواه ابن سعد في الطبقات ٤٢٢/٧
والبيهقي في الشعب ۱۷۰/ وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب
لابن أبي الدنيا وضعفه وأوله ألا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في
الدنيا جائعة عارية يوم القيامة
٤ رواه أبو داود في الأدب والترمذي في الزهد من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه وروي بإظهار اللامين
للقياس
خلافاً
٥ رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي ومسلم في فضائل
الصحابة من حديث أبي سعيد الخدري رضي ال
عنه وكثيرين آخرين ٦ كذا بإظهار اللامين أيضاً
٦٢٦
وإيقاع الوتر قبل النوم فأما الركوع للضحي فهو أقل ما يمكن
إيقاعه فاقتصر له على أقل ما يفعل ذلك وأما صيام ثلاثة
أيام فهو أيضاً أقل ما يمكن لقوله عليه السلام الحسنة بعشر
أمثالها ۱ والشهر ثلاثون يوماً فيحتاج المرء أن يصوم فيه
ثلاثة أيام لكل عشرة أيام يوم فيكون ذلك له بصيام الدهر
وأما إيقاع الوتر قبل النوم فإنما أوصاه بذلك ليحضه على
المبادرة إلى الأعمال خشية الموت لأنه إن نام قبل أن يوتر
فقد يموت من ليلته وهو لم يُوقع الوتر حتى يحصل له ثوابه
فإن قال قائل إنما أمره بذلك خشية أن يضرب به النوم حتى
يطلع الفجر عليه فيكون ذلك سبباً إلى إيقاع الوتر نهاراً
وإيقاعه بالليل أفضل قيل له ليس الأمر كذلك بدليل قوله
عليه السلام رُفع القلم عن ثلاث ۳ فذكر إحداهن النائم حتى
يستيقظ فليس عليه في نومه شيء وإنما هو خشية أن يموت ولم
يحصل له ثواب الوتر ومما يشهد لهذا المعنى الذي تأولناه
قوله عليه السلام حين سأله السائل في الوصية فقال له صل
صلاة مُودّع ۳ فحضه على قصر الأمل ومما يؤيد ذلك أيضاً
قوله عليه السلام لمعاذ كيف أصبحت فقال معاذ أصبحت مؤمناً
حقاً فقال عليه السلام لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال
أصبحت لا أخطو وأظن أني أخطو أخرى وكأني أنظر إلى القيامة
قد قامت وكل أمة تُدعى إلى كتابها وأهل الجنة في الجنة
يتنعمون وأهل النار في النار يُعذبون فقال له عليه السلام
هنيئاً لك العلم ٤
ولأجل النظر إلى معنى هذه الأحاديث وما يقتضيه لم يبق لأهل
الصوفة زمان لأنفسهم وإنما تنقطع أعمارهم أبداً في أنواع
التعبد لربهم لأنهم يخافون الفوت والموت فيبادرون إلى
الأعمال ويظنون أن ذلك هو آخر عملهم نظراً منهم إلى معنى
هذه الأحاديث ولأجل هذا إذا سمع غيرهم عن شيء من أنواع
تعبدهم تعجب من ذلك كلَّ التعجب وظن أن البشر لا يقدر على
شيء
۱ قطعة من حديث رواه البخاري في الصوم ومسلم في الصيام
أوله كل عمل ابن ادم له إلا الصوم فإنه لي رواه النسائي في
باب من لا يقع طلاقه من الأزواج ولفظه رفع القلم عن ثلاث
عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى
يعقل أو يفيق
۳ سبق تخريجه قبل عدة صفحات ٤ رواه أبو نعيم في الحلية
٢٤٢/١ عن أنس بن مالك رضي الله عنه والرواية المشهورة
عرفتَ فالزم والحديث مروي بالمعنى ولفظه أن معاذ بن جبل
دخل على رسول الله الا الله فقال كيف أصبحت يا معاذ قال
أصبحت مؤمناً بالله تعالى قال إن لكل قول مصداقاً ولكل حق
حقيقة فما مصداق ما تقول قال يا نبي الله ما أصبحت صباحاً
قط إلا ظننت أني لا أمسي وما أمسيت مساءً إلا ظننت أني لا
أصبح ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها أخرى وكأني
أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها
وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر إلى عقوبة
أهل النار وثواب أهل الجنة قال عرفت فالزم
٦٢٧
من ذلك ولو نظر المسكين إلى هذا المعنى الذي نظروا إليه
ووقفوا عليه لكان لديه من الأعمال مثل ما لديهم لأن هذا
معلوم وهو أنه من خرج منه نَفَس وهو يظن أنه آخر أنفاسه
فلا شك أنه لا يقع له غفلة مع ذلك مادام عليه هذا الحال
وإنما وقعت الحيرة ووقع التدبير والاشتغال عما أخذوا هم
بسبيله لأجل إطالة الأمل والنظر إلى المستقبل فإذا كان
المرء ينظر إلى هذا المعنى - لو كان في القوة والتمكين ما
عسى أن يكون - فلا بد وأن 1 يشتغل عن ربه بتدبيره أمره لأن
إطالة الأمل يتطلب ذلك قطعاً وهم رضي الله عنهم بضد ذلك
المعنى مهما لبس أحدهم ثوباً ظن أنه آخر لباسه وبه يدخل
إلى قبره ومهما أكل أكلةً ظنّ أنها هي آخر ما قُسِم له في
دار الدنيا ومن كان بهذا الحال فلا شك أنه لو كان أضعف
الخلق لم تدخله غفلة ولا فترة أبداً
ولأجل هذا يقولون في أمثالهم الوقت سيف ومعناه أنك لا تنظر
إلا في وقتك وما يلزمك فيه فتقوم بما عليك فيه فتقطع الوقت
بالعمل لئلا يهجم عليك الموت قبل ذلك أو لئلا يقطعك الوقت
بالتسويف إن سَلِمتَ من الموت لأن الوقت لا يُخلف لأنه إذا
مضى يوم من عمر ابن ادم فليس له خَلَف ولا يقدر على ردّه
فإن مضى عنه وقد فَعَل فيه الخير فقد فاز به وإن مضى عنه
وهو عَرِيّ عن ذلك فقد خسره ولا يقدر على خَلفِه والأحمق
المسكين هو الذي يقطع الأوقات ب لعل وسوف وهو يظن أنه في
فلاح وهو في خسران أليس ذاك اليوم الذي يريد أن يُخلِف فيه
ما فَرَط لو اجتمع مع هذا اليوم الآخر لكان أزكى وأنجح
وقد أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام في الزبور يا
داود لا يَشْغَلْك لعلّ وسوف وإلى عن العمل وقد قال عليّ
رضي الله عنه وهو آخر ماتكلم به يا هذا لا تُدخِل هَمَّ
عدك على يومك فإنك بين أحد أمرين إما أن تدركه وإما ألا
فإن أدركته فالله يأتيك فيه برزق جديد وإن لم تدركه فلا
فائدة في أن تكابدَ هَمَّ يوم لا تدرِكُه والنصوص من
الشارع عليه السلام ومن أقوال السلف وأفعالهم كثيرة في هذا
المعنى فمن أراد الفلاح والسبق فليتأمل فيما أشرنا إليه
وليعمل عليه ثم يتكل بعد ذلك في نمائه وتمامه على ربّه
ويضرع إليه يَصِلُ عند ذلك إن شاء الله - إلى المرغوب
وفيه بحث وهو أنه يجوز الافتخار بصحبة المباركين إلا أنه
بشرط التشبه بهم ولو في
1 كذا بزيادة الواو
أي ألا تدركه
٦٢٨
وجه ما ويكون الافتخار بنية الشكر لقوله عليه السلام ذكرُ
النَّعَمِ شُكر ۱ لا على وجه المباهاة والرفعة يؤخذ ذلك من
قول أبي هريرة خليلي ويؤخذ منه جواز أن يثبت الشخص بينه
وبين أهل الفضل حبلا ما وينتسب إليهم به وإن لم يذكروا هم
ذلك ولم يسموه به يؤخذ ذلك من قوله خليلي والنبي صلى الله
عليه وسلم قد نفى عن نفسه المكرمة اتخاذ الخُلّة من البشر
وقد قيل إن التشبه بالكرام فلاح
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً
1 سبق تخريجه في الحديث ۸
٦٢٩
حديث الأمر بترك ما لم يُسَمَّ عليه من الصيد
عَن عَدي 1 بن حاتم رضيَ الله عَنهُ قالَ سألت النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قُلتُ يا رسول الله أُرسِلُ كَلبي
وَأُسمِّي فأجدُ مَعهُ عَلى الصَّيد كَلباً آخرَ لَم
أُسَمٌ عَليهِ ولا أدرِي أَيُّهُما أَخَذَ قالَ لاَ
تَأْكُلْ فإنَّما سَمِّيت عَلى كَلبِكَ وَلَم تُسمِّ عَلى
الآخر
*
*
ظاهر الحديث يفيد بأن التسمية على الصيد واجبة وإن تركت
فلا سبيل إلى أكل الصيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين
سأله السائل لا يدري أي الكلاب أخذه هل المسمَّى عليه أو
غيره هو الذي أخذه ثم أمره بالترك فمع وجود الشك فمن باب
أولى أن يترك المقطوع به وهو الذي تُركت التسمية
عليه عمداً
وفي هذا دليل على أن الأدلة إذا تعارضت بالجواز والمنع أن
يعمل على ما هو الأشدّ وما يبرىء الذمة لأن النبي الله
وأمره أن يترك الصيد مع أنه شك هل المسمَّى عليه أخذه أو
غيرُه فأفتاه بما يبرىء الذمة بيقين
وفيه دليل لمذهب مالك رحمه الله لقوله بسد الذرائع لأنه
عليه السلام أمره بترك أكل الصيد سداً للذريعة لئلا يكون
الكلب غير المسمّى عليه أخذه
وفيه دليل على جواز الاصطياد وهو على خمسة أقسام وقد ذكره
أهل الفقه
وفيه دليل على جواز أكل الصيد وإن قتله الكلب لأن السائل
سأله هل يأكله أم لا ولا يسأله في ذلك عما إذا كان الكلب
هو الذي قتل الصيد وأما لو أدركه قبل القتل فلم يكن له في
ذلك
1 عدي بن حاتم أبو طريف أمير صحابي من الأجواد العقلاء كان
رئيس طيىء في الجاهلية والإسلام وقام في حرب الردة بأعمال
كبيرة حتى قال ابن الأثير خير مولود في أرض طيىء وأعظمه
بركة عليهم وكان إسلامه سنة ۹ للهجرة وشهد فتح العراق ثم
سكن الكوفة وشهد الجمل وصفين والنهروان مع عليّ بن أبي
طالب وفقئت عينه يوم صفين ومات بالكوفة سنة ٦٨هـ / ٦٨٧م
روى عنه المحدثون ٦٦ حديثاً عاش أكثر من مائة سنة وهو ابن
حاتم الطائي الذي يضرب به المثل بالجود
رضي
الله عنه
٦٣٠
على ما يسأل لأنه أدرك ذكاته بيده فلما أن علم هذا من
قرينة الحال وأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم أكل ما أخذ
المسمَّى عليه علم أنه أجاز أكل ما قتله الكلب وبهذا استدل
مالك الكلب ولا انفكاك للخصم عنه لأنه إذا أخذ الصيد لا
بدَّ وأن ۱ يؤثر فيه لأنه هو الذي يُنفِذ رحمه الله على
طهارة مقاتله وقد يأكل منه فكيف يُكرَه لعابه وإنما الأمر
بغسل الإناء من ولوغه سبعاً تعبداً لا غير ۳ وقد اختلف
العلماء في تارك التسمية متعمداً هل تؤكل الذبيحة أو لا
تؤكل وكذلك الصيد وقد ذكر ذلك في كتب الفقه وقيل إن ذلك من
أجل أن يكون الكلب كَلِباً فهو من باب التداوي وفيه دليل
على العمل بسد الذريعة وقيل تشدداً من أجل ألا يتخذوا
الكلاب والخلاف
في الطعام والماء واللبن هل الحكم سواء أم لا الخلاف مذكور
في كتب الفروع وفيه دليل على أنه لا يجوز الصيد بالجارح
إلا مع إرسال صاحبه له على الصيد وتعين الصيد يؤخذ ذلك من
قوله أرسل كلبي
وفيه دليل على جواز أكل الصيد وإن غاب عن العين إذا وجد مع
الجارح يؤخذ ذلك من قوله فأجد معه فلفظة أجِد لا يُعبَّر
بها إلا عن شيءٍ قد عُدِمت رؤيته ثم وجدت وإلا كان يقول
فأراه قد شاركه غيره
وهنا بحث وهو كون النبي نهاه لكونه وجد مع جارحه غيره ولم
يُسمّ عليه أن يأكل لاحتمال أن يكون أعان على قتله هل نقصر
هذا النهي على الجارح أو نعديه إذا وجد مع صيده حالة يمكن
إن كانت عوناً على قتله مثل أن يتردى من جبل أو يكون في
ماء أو يجد دواب الأرض قد انتشرت عليه فقد عَدَّى الفقهاء
الحكم في ذلك فقالوا إنه كل ما كان عوناً على قتل الصيد من
هذه الأنواع فلا يؤكل الصيد واختلف بعضهم إذا كان الجارح
قد أنفذ مقاتله هل يكون ذلك سبباً يمنع من أكله على قولين
وبالتفرقة أن يبيت عنه أو لا يبيت فمنع بعضهم مع وجود
المبيت وفيه دليل على جواز طلب الصائد الصيد واتباعه بعد
إرسال الجارح يؤخذ ذلك من قوله فأجد فإنه يتضمن الطلب
ويؤخذ منه إن كان الآخر قد سَمَّى عليه غيره وأرسله مثل ما
فعل هو أنه يؤكل الصيد ولمن يكون الصيد الكلام عليه في كتب
الفروع وإنما المقصود هنا تبيين ما يَحِل منه ويَحرُم وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
1 كذا بزيادة الواو
الحِلّ للعابه ضرورة لا انفكاك عنها في الصيد بالكلاب
بخلاف ولوغها في المياه بالأواني ـ والله أعلم
٦٣١
حديث النهي ن الصرف إلا يداً بيد
عَنِ البَراء بن عازب ۱ وَزَيد بن أرقم ۳ رضي الله عنهما
سَأَلا رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّرْف
فَقالَ إن كانَ يداً بيد فَلا بأسَ وَإن كانَ نَسيئة ٣
فَلا يَصلُح
ظاهر الحديث يدل على جواز الصرف إذا كان يداً بيد ومنعه
إذا كان فيه نسيئة وإن قلت وقد قال عمر رضي الله عنه وإن
أَنظَرَك إلى أن يلج بيته فلا تفعل
وهو على ثلاثة أقسام جائز وهو ما نص عليه من أن يكون يدا
بيد وحرام وهو ما نهى عنه عمر رضي الله عنه بأن يكون فيه
شيء من التأخير ولو بقدر أن يلج بيته حتى قد نص العلماء
أنه لا يجوز للصَّيْرَفِيّ أن يتحدث في الصرف إلا وصندوقه
مفتوح أو كيسه قدامه كذلك مفتوح ومكروه وهو التواعد في
الصرف بلا تناجز مثاله أن يقول كل واحد منهما لصاحبه أنا
أصارفك ويعزمان جميعاً على ذلك ولا يسميان مبلغ الصرف ولا
صفته
ولا يخلو الصرف من أن يكون من جنس واحد وهو إما ذهب بذهب
فيشرط فيه شرطان وهما التناجز والمماثلة وليس في واحد من
هذين الشرطين مسامحة من أحد المصارفين وكفى في ذلك ما بينه
عمر رضي الله عنه بفعله مع رافع بن خديج
حين
1 البراء بن عازب الخزرجي أبو عمارة قائد صحابي من أصحاب
الفتوح أسلم صغيرا وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس
عشرة غزوة أولها غزوة الخندق ولما ولي عثمان رضي الله عنه
جعله أميرا على الري بفارس سنة ٢٤ هـ فغزا أبهر غربي قزوين
وفتحها ثم قزوين فملكها وانتقل إلى زنجان فافتتحها عنوة
وعاش إلى أيام مصعب بن الزبير فسكن الكوفة واعتزل الأعمال
وتوفي في زمنه روى له البخاري ومسلم ٣٠٥ أحاديث توفي سنة
٧١ هـ / ٦٩٠ م انظر الحديث ٦٦ زيد بن أرقم الخزرجي
الأنصاري صحابي غزا مع النبي الله سبع عشرة غزوة وشهد صفين
مع علي رضي الله عنه ومات بالكوفة له في كتب الحديث ۷۰
حديثاً توفي سنة ٦٨هـ/٦۸۷م ۳ النسيئة يقال باعه بِنَسيئة
أي بتأخير والنَّسِيئَة الدين المؤخّر ٤ رافع بن خديج
أنصاري صحابي كان عريف قومه بالمدينة وشهد أحداً والخندق
توفي في المدينة متأثراً =
٦٣٢
راطل ۱ منه خلخالاً من ذهب فرجح خلخال رافع فقال لعمر أنت
في حل من رجحان الميزان
فقال له عمر إن كنت أحللته لي فإن الله لم يُحِله ووفاه
ميزانه
ومثل ذلك الحكم إن كان وَرِقاً بوَرِق لقوله صلى الله عليه
وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة رباً إلا يداً بيد مثلاً
بمثل فإذا اختلفت أصنافها فبيعوا كيف شئتم فإن كانت
المصارفة ذهباً بوَرِق فلا بد من المناجزة ۳ وهما في
التفاضل بحسب اختيارهما وإن وقع فيه خلاف ما شرع فلا بد من
الفسخ لقوله للسَّعدين حين باعا انية من فضة من المغنم
مثلاً بمثلين أربيتما فَرُدَّا ٤ وأما ما كان من بيع وصرف
فاختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال بالمنع وبالجواز
وبالتفرقة فإن كان أحدهما في حكم المنع ولم يكن مقصوداً
جاز وإلا فلا وأما ما سوى ذلك من جزئياته فهو مذكور في كتب
الفروع والتشدّد في هذا الباب كبير فلا ينبغي فيه المسامحة
ولا الجهل لأن باب الربا من أعظم أبواب الكبائر لأنه لم
يتوعد الله عزّ وجلّ على كبيرة من الكبائر بالحرب منه عزّ
وجلّ إلا على الربا حيث قال تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا
فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ٥ فقد
يكون للشخص
مال حلال فيصرفه فيعود رباً حراماً
وفيه دليل على جواز الجواب بإشارة يفهم منها المقصود يؤخذ
ذلك من قوله لما سئل عن الجواز في الصرف فقال إن كان يداً
بيد فلا بأس لأن هذا إشارة إلى الجواز لأن لفظ الجواز أن
يقول ذلك جائز فلما علم أن السائل يفهم عنه أشار له بما
يفهم وهو قوله عليه السلام وإن كان نسيئة فلا يصلح معناه
لا يصلح جوازه شرعاً فجاء جوابه عليه السلام في الوجهين
بالإشارة إلى المعنى ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله
استعبدنا بالمعاني لا بالألفاظ وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
بجراحه سنة ٧٤هـ / ٦٩٣م له ۷۸ حديثاً
۱ راطله باعه مراطلة أي بالرطل
رواه البخاري في البيوع ومسلم رقم ١٥٨٦ في المساقاة من
حديث أبي سعيد ولفظه الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر
بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد
فمن زاد أو استزاد فقد
أربى والاخذ والمعطي فيه سواء ۳ المناجزة بيع الحاضر
بالحاضر يداً بيد وعاجلاً بعاجل وللكلمة معانٍ أخرى ٤ رواه
مالك في الموطأ في البيوع مرسلاً ورواه يعقوب بن شيبة وسعد
بن عبد الله بن عبد الحكم موصلاً قال ابن عبد البر في
التمهيد كما في تنوير الحوالك للسيوطي ٢ / ١٣٤ إسناده صحيح
حسن متصل
٥ سورة البقرة من الآية ۷۹
٦٣٣
- ٩٣ -
ديث الحث على العمل وفضل عمل اليد
عَنِ
المِقداد ۱ رضي
الله عَنهُ عَنِ النَّبِي ما أكَلَ أحَدٌ طَعاماً قَطُّ
خَيْراً مِن أَن يَأْكُلَ
من عمَل يَدِهِ وإِنَّ نَبِيَّ الله داودَ عَليهِ
السَّلامُ كانَ يَأكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ
*
*
ظاهر الحديث يدل على أن خير طعام يأكله المرء ما كان من
كسب يده ويدل بضمنه على التحضيض على التكسب وله شروط
والكلام عليه من وجوه منها ما معنى هذه الخيرية وهل قوله
أحد عموماً في كل بني آدم أو أنَّ هذا في المؤمنين ولِمَ
ضرب المثل بداود عليه السلام من بين الأنبياء عليهم السلام
وقد كان كثير من الأنبياء عليهم السلام يعملون بأيديهم
فاحتمل أن تكون الخيرية في التكسب من أجل الغنى عن الناس
والتعزز بالكسب على الغير لأنَّ من احتجْتَ إليه كان أميرك
ومن احتاج إليك كنت أميره فإن كان المقصود بالخيرية هذا
فيدخل فيه المؤمن والكافر ويكون ما أشرنا إليه من أنه
يقتضي الحض على التكسب صحيحاً لكن بشروط وهي أن يكون السبب
مما أجازته الشريعة وأن يكون عمله فيه على الوجه المشروع
لأن من الأسباب ما يكون جائزاً على لسان العلم في أصله
وعند محاولته تُخالَفُ فيه المشروعية فهذا ممنوع
و احتمل أن تكون الخيرية فيه من أجل ما جاء في عمل السبب
من الثواب لأنه قد جاء من بات تعبان من طلب الحلال بات
مغفوراً له وأصبح والله راض عنه ولكونه فيه خيرٌ متعدّ فإن
1 المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود صحابي من الأبطال هو
أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من
قاتل على فرس في سبيل الله شهد بدراً وغيرها وسكن المدينة
وبها دفن سنا رواه السيوطي في الجامع الكبير بلفظ من بات
كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له عن أنس رضي الله عنه
وذكر أن في سنده متهمين
٣٣هـ / ٦٥٣م وله ٤٨ حديثاً
٦٣٤
كانت هذه الخيرية هي المراد فيكون معنى قوله أحد خاصاً
بالمؤمنين ويكون التخصيص بهذا المعنى على التصرف في
المكاسب بلسان العلم
واحتمل أن تكون الخيرية هنا معنى لكونه من الكون بوساطة
العمل باليد ويكون هذا خاصاً بالصنعة التي تكون باليد دون
غيرها من التكسبات ولهذه الفائدة مثل عليه السلام بداود
عليه السلام دون ما عداه من الأنبياء عليهم السلام وقد جاء
أن الصنعة كنز من كنوز الله عزّ وجلّ ينفق منه صاحبه فيكون
معنى الحديث على هذا التحضيض على تعلم الصنعة وأنها من
السنة ولا عارَ فيها لأن ما فعله نبي من الأنبياء لا عارَ
فيه
وقد تكون الخيرية هنا لكونها ليس فيها حق مترتب الله لأن
ما فيه حق الله فقد يوفى جميعه أو يعجز عن بعضه بقصد أو
بغير قصد مثاله إسلام الكافر وتوبة العاصي فإسلام الكافر
عندهم إن مات صاحبه في وقته دخل الجنة إذا كانت نيته خالصة
بلا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك والعاصي إذا مات حين
توبته - وإن كانت نيته صادقة - موقوف في المشيئة من أجل أن
التوبة لها شروط منها رد المظالم وهذا ما يعرف هل عليه
مظلمة أم ليس فلا يحكم له بالقطع ويرجى له فضل الله وكذلك
ما كان من التكسب خلاف الصنعة باليد وقد ترتبت فيه زكاة
وغير هذا من الحقوق ويحتمل أن تكون وُفِّيت أوْ لَمْ والذي
هو بصنعة اليد إذا كان على لسان العلم فليس فيه حق مترتب
مقطوع به فما هو مقطوع به فهو خير مما هو محتمل
واحتمل أن البركة تكون هنا بمعنى الخير بأن يكون ما أكل
أحد من الطعام بالصنعة يكون أبرك من غيره وتكون البركة
أيضاً محتملة في هذه الوجوه أن يُراد بركة حسية أو معنوية
فأما الحسية فمثل أن يكون القليل منه يَسُدّ مَسَدَّ
الكثير من غيره في التناول واحتمل البركة المعنوية وهي
التي توجد من القوة والنشاط بهذا الطعام أكثر مما يوجد
بغيره وقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء
الأكل يقول بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا
فالبركة التي يطلبه و و و و لا اله الا في طعامه ما عدا
تلك الأطعمة القليلة التي دعا فيها وبارك حتى كان الصاع
يأكل منه النَّفَرُ الكثير وينصرفون وقد شبعوا ويبقى
الطعام على حاله مثل ما فعل الله صاعاً عليه السلام مع
جابر رضي الله عنه حين كانوا يحفرون الخندق فصنع جابر رضي
من طعام وذبح داجناً كان عنده في البيت ثم أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يسارِرُه ۳ لعله يأتي هو وبعض
1 لم نقف على مصدره رواه الطبراني في الدعاء من حديث عبد
الله بن عمرو وفي إسناده ضعف
۳ كذا بإظهار الرّاءين
٦٣٥
أصحابه فصاح النبي الله في الناس وقال يا أهل الخندق إن
جابراً قد صنع سؤراً فحَيْهلا بكم فقال رسول الله لا
تُنزِلُنَّ بزمتكم ولا تَخبِزُنْ عَجِينكم حتى أجىء فجئت
وجاء رسول الله الله يقدم الناس فلما جنت امرأتي قالت بِكَ
وبِكَ فقلت لها ما كان فدخل رسول الله له فأخرجت له عجيناً
فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى بُرمَتِنا فبصق فيها وبارك ثم
قال أدعُ خابزة فلتخبِزُ معكم واقدَحي من بُرمَتِكم ولا
تُنزِلوها قال جابر فأكلوا عن آخرهم وإن برمتنا لَتَغُطُ
كما هي وإن عجيننا ليُخبَرُ كما هو ۱ وغيره من المواطن
التي تشبهه اجتمعت في هذه المواضع البركات
حسّاً ومعنى
وأما الكلام على طلبه هو عليه السلام ذلك في طعام أهل بيته
مع الدوام فإنا لا نقول إنه يطلب تكثير حطام الدنيا وهو
عليه السلام قد خُيّر أن تكون له جبال تهامة ذهباً وفضة
تمشي معه فأبى ذلك وقال أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف يطلب
ذلك في الشيء اليسير منها دون احتياج إلى ذلك وإنما كان
طلبه ذلك المعنى الخاص الذي أشرنا إليه لكن ذلك المعنى
الخاص الدليل عليه المعنى الظاهرُ لأنه لا يُبارك معنى إلا
في الذي بورك فيه حسّاً هذا هو المقطوع به يشهد لذلك فعل
أبي بكر رضي الله عنه في الطعام الذي قدمه لأضيافه فأكلوا
ورجع الطعام أكثر مما كان قبل فقال هذا طعام مبارك فحمل
منه إلى النبي وإذا لم تكن البركة ظاهرة بقي الاحتمال في
المعنوية هل توجد أم لا
واحتملت الخيرية هنا أن يريد بها اتباع السنة فإن التسبب
في الرزق هو من السنة لأنه أثر الحكمة ولذلك كان أبو بكر
رضي الله عنه حين ولي الخلافة طلبوه فوجدوه في السوق يتسبب
في التجارة فقالوا له في ذلك فقال أتروني أترك التسبّب
لعيالي وعلى هذا إذا كان التسبب بأي وجه كان إذا كان على
لسان العلم من صنعة أو تجارة أو ما يشبههما كان مباركاً
وبهذا شاء الله عمارة هذه الدار وقد كان بعض مشايخي وكان
ممن له الزهد والعلم وكان يعمل في حائط له بيده بعدما كان
ينصرف من التدريس وربما كان مع التدريس على مجاهدة ولا يدع
العمل بالمسحاة ويقول غرَس غيرُنا وأكلنا نحن ونغرس نحن
ويأكل غيرُنا لتظهر حكمة الله فعند استواء غرسه توفي رحمه
الله
ونرجع الآن إلى ما يعارضنا في تلك الوجوه المذكورة
والانفصال عنها
فأما الوجه الأول - وهو كونه يستغني بالتكسب عن الناس -
فيعارضنا الكتاب والسنة فأما
۱ رواه البخاري في المغازي وفي الجهاد ومسلم في الأشربة
وهو موضوع الحديث رقم /١٩٦ في هذا
الكتاب
٦٣٦
الكتاب فقوله تعالى رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا
بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ
وَإِبْناءِ الزَّكَوَةً يَخَافُونَ يَوْمًا تتَقَلَّبُ
فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَرُ لِيَجْزِهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ۱
وأما السنّة فحاله و حال أهل الصفة وكان عليه السلام أقرهم
على حالهم وربما كان يؤثرهم في بعض المواد على غيرهم
والانفصال عن المعارضة أما عن الكتاب فيكون معنى قوله لا
تلهيهم أي لا تشغلهم بما يكونون فيه من التكسب يكونون في
عمل السبب بالأبدان والقلوبُ متعلقةٌ بالذي وَصَفَهم به
كما جاء أن سبب نزولها كان في خياط وحداد فكان الخياط إذا
سمع الأذان وهو قد أخرج الإبرة من الثوب لم يردها حتى يقوم
ويؤدي ما عليه من الوجوب وإن كان أدخلها في الثوب لم
يخرجها حتى يقوم أيضاً لما عليه وكذلك الحداد لو كان رفع
المطرقة لم يكن يعيدها إلى ضرب الحديدة بل كان يرميها من
يده ولو كان قد ضربها لم يكن ليرفعها حتى يقوم لقضاء ما
عليه من وظائف الآخرة ويترتب على هذا من الفقه أن المطلوب
من العبد شُغل خاطره بما هو إليه سائر وعليه قادم وإن كان
في يده سبب أو غيره وقد أخبرني بعض المباركين أنه كان
بمدينة إفريقية حشاش ٢ يحش للحمامات وكان من أكابر أولياء
وقته وأنه كان يعمل ذلك الشغل بعدما يفرغ من صلاة الصبح
إلى ضحوة من النهار ثم يزيل تلك الثياب ويدخل الحمام يتطهر
ويلبس ثياباً أخرى ويأخذ ذلك الكسب الذي له يحبس منه الشيء
اليسير ويمشي على الفقراء المتعبدين والمساكين يؤثرهم به
ويطوي يومه صائماً إلى الليل ويُفطِر على ذلك الشيء اليسير
الذي حبس منه وله الأحوال الرفيعة وكان لا يعرفه إلا
الأكابر من الرجال لكونه كان يُخفي حاله عن الناس
وأما الانفصال عن حاله لا اله الا هو الحال أهل الصفة
فالجواب عن ذلك أن حاله عليه السلام هو الأرفع لأنه لم تكن
نفسه تتشوف إلى الدنيا ولا حطامها وسنته عليه السلام الرفق
من أجل ما في بعض الناس من الضعف بل الأكثر كما قال عليه
السلام في حق المجذوم فِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد ۳
وأكل وهو صلى الله عليه وسلم مع المجذوم في إناء واحد وقال
سْمِ الله ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ
لَنَا ٤ فشرع عليه السلام الطريق السمح السهل لقوله عزّ
وجلّ وَمَا جَعَلَ ﴾
۱ سورة النور الآية / ۳۷/ ومن الآية / ۳۸/
الحشاش قاطع الحشيش من الأرض وهو غير المعنى المعاصر في
الذي يتعاطى الحشيش وهو لون من
المخدرات المحرمة ومتعاطيه يقال له حشاش
۳ رواه البخاري في الطب عن أبي هريرة رضي الله عنه
سورة التوبة من الآية ٥١
٦٣٧
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ۱ وأشار بحاله عليه
السلام إلى الأخذ بالأعلى لمن قوي فمثال المجذوم الذي
ذكرناه مَن لَقِيه وله نفس ضعيفة اتَّبَع السنة وهرب منه
وليس عليه في ذلك شيء وإن كانت له قوة خالطه وأكل معه وكان
متبعاً لحاله الا الله ومن أجل ما أخذ أهل الصفة بالحال
الأعلى كان يؤثرهم وأما الوجه الثاني وهو أن يكون الخير
بمعنى ما في التكسب من الثواب فقد يعارضنا قوله عليه
السلام لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير
تغدو خماصاً وتروح بطانا والجمع بينهما أنَّ مَن كان له
توكل حقيقي - وصفته ألا يكون خاطره متعلقاً بأحد من الخلق
وإن أجري له على يديه شيء من الخير - فما يكون خاطره
متعلقاً إلا بالله لا بغيره وكلما جاء شيء وهو لم تَشُف ۳
نفسه إليه فينظره على لسان العلم فإذا استقام نظره بلسان
الحال فإِذا حَسُنَ سأل الله أن يهديه إلى الأصلح بأن يأخذ
أو يترك
فإذا وفق إلى الذي فيه الخيرية فإن كان الخير في أخْذِهِ
أخَذَهُ على هذه الصفة وأفتقر ثانية في أن يوفق إلى حسن
التصرف واستصحاب عدم التعلق في هذه الأشياء كلها ويكون ذلك
بمعرفة أعني بالتصرف في ذلك بما يزيده إلى الله قرباً وفي
حاله حُسْناً ثم يشاهد المنة الله في ذلك ويتبع السنة في
الدعاء لمن سخره الحق في ذلك اتباعاً للأمر بلا زيادة
لقوله عليه السلام مَن والاكَ معروفاً فكافئه فإن لم تجد
فادعُ الله حتى تعلم أنك قد كافأته ٤ وقد قال حَد الدعاء
إذا قلت لمن أحسن إليك جزاك الله خيراً فقد أطنبتَ في
الثناء ٥
وإن كان ممن يفتح له بخرق العادة فيتناول ذلك بالفقر إلى
الله عزّ وجلّ والشكر ولا يرى نفسه أنه أهل لذلك ويلزم
الأدب ولا يبقى خاطره يتعلق بذلك الوجه وإن كان ربانياً
فإنه شغل في خاطره ويكون أيضاً عند تصرفه مفتقراً يطلب
الإرشاد إلى ما يرضى مولاه ويكتم حاله ولا
۱ سورة الحج من الآية ۷۸ وحديث أكل مع المجذوم في إناء
واحد رواه أبو داود في الطب والترمذي وابن ماجه والبيهقي
في السنن الكبرى ۱۹/۷ وصححه ابن حبان وللحديث عدة روايات
رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي وصححه ورواه ابن ماجه
وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عمر رضي الله عنه ولفظه لو
أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله إلخ ۳ شاف يشوف شوفاً
أشرف ونظر رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم
وقال صحيح على شرطهما ولفظه من استعاذ بالله فأعيذوه ومن
سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفاً
فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه
٥ لم نعثر عليه بهذا اللفظ وإنما ورد إذا قال الرجل جزاك
الله خيراً فقد أبلغ في الثناء انظر الترغيب والترهيب
للمنذري - في الترغيب في شكر المعروف ٧٧/٢ ط دار الكتب
العلمية
٦٣٨
يذكر من ذلك شيئاً لأحد إلا إن أمر بقدر ما يُؤمَر ولا
يَجْحَدُها لأنها من جملة المنن ولكن إن لم يُسأل فلا
يَتَعَرَّض لذكر وإن سُئل لا ۱ يُخبر بالصريح إلا لمن أمر
- كما ذكرنا - لأن هذه م أسرار القدرة وأسرار القدرة من
يُبدِها بغير أمر وضرورة ولا يملك في ذلك نفسه قلما تبقى
له أو
تُجرى عليه
٥٠ من
وقد ذكر لي من أثق به أن بعض المؤدبين كانت له عائلة ولم
يكن له في حرفته شيء يكفيه وكان له أخ قد فتح عليه في
الدنيا ولم يُسَخّر له وكان هو لم يبثَّ ما به من الحاجة
لأخيه ولا لغيره فأجرى الله له على خرق العادة إذا فتح
المكتب قبل مجيء الصبيان أن يجد بين أقلامه في دواته قدر
ما يكفيه في يومه فحَسُن حاله وبقي على ذلك زماناً فلما
رأى أخوه ما هو فيه من الخير ليس يناسب حرفته سأله من أين
يقوم حالك فأخبره بالذي كان يجده في كل يوم فلما كان اليوم
الذي بعد ما بقي يلقى من ذلك شيئاً أكثر
وإن كان ممن توكله ضعيف فالخير له في عمل السبب والحكمة في
ذلك أن الذي هو قوي الإيمان في توكله هو في كل حال راض عن
ربه ملتزم العبودية ويترك الاعتراض وعدم التشوف إلى شيء من
الأشياء وأن الذي هو ضعيف الإيمان وتوكله ضعيف يبقى قلبه
غير طيب ـ هذا إن سکت بلسانه - ونفسه تتشوف إلى الأشياء
تتمنى وقد يعترض في بعض الأشياء وذلك عين العطب فجعل له
السبب رحمة به فإن قلبه يبقى مفكراً في سببه راضياً عن
مولاه فإن نقصه شيء مما يريده يبقى مفكراً فيما يفعله كي
يبلغ به ما يؤمل ويُرجَى أيضاً من أجل ذلك أن تقع له
الخيرية فإنه قدم خوف مولاه على ما اختاره نفسه فإن كان
ذلك السبب لأن يستعين به على الطاعة فيكثر له إذ ذاك الخير
ويحصل له انكسار خاطر لضعف يقينه ولأن الموقنين قد سبقوه
فيضاعف له الأجر والحذر أن يخطر له هنا أنه هو خير من
الذين قد صدقوا مع مولاهم وصدقوه في ضمان ما وعدهم من
الرزق واشتغلوا بما به أمرهم من عبادته فيكون في أرذل
الأحوال بدليل قوله تعالى فَلَا تُزَكُوا أَنفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ ٢
ويترتب على هذا من الفقه النظرُ لكل شخص بما هو الأصلح له
وهو الذي يسمونه فقه الحال وهو عظيم النفع في التصرف ولما
كان الأكثر كما قدمنا من الناس الضعف جاء الحكم على
الأغلب من حكم الناس وأما الاعتراض على الوجه الثالث الذي
الخيرية فيه لكونه يأخذ من الغيب بواسطة الصنعة
1 كذا بحذف فاء الجواب سورة النجم الآية ٣٢
٦٣٩
فيعارضنا قصة عيسى عليه السلام في المائدة التي هي بغير
تسبب من الغيب وما فعل سيدنا حين خرج ليلا وجاء علي فقال
ما أخرجك قال الجوع إن الحسن والحسين يبكيان من الجوع فقال
الذي أخرجك أخرجني ثم أتاهم فلان من الصحابة يشكو ما كانوا
هم يشكونه من الجوع إلى أن قال عليه السلام لعلي رضي الله
عنه اذهب إلى النخلة الفلانية ـ وكان في غير زمان التمر -
وقل لها النبي يقول لك أن تطعميني رطباً فمن حينها فعلت
النخلة ما أمرت به وجاء عليّ رضي الله عنه بتمر فأكلوا
جميعاً وحمل كلّ لعياله ما كان لهم فيه كفاية وزيادة 1
والجمع بينهما بذكر قصة موسى والخضر عليهما السلام لما
اجتمعا ومشيا معاً كما أخبر الله عزّ وجلّ عنهما ذكر أنهما
لحقهما الجوع فنزل إليهما جَدْيّ نصفُه مشوي ونصفه نَيْءٌ
فأراد موسى عليه السلام أن يأكل من المشوي فقال له الخَضِر
عليه السلام ليست هذه طريقتك لأنك أتيتَ بالتسبّب وطريقتي
أنا التفويض اذهب أنت فاجمع الحطب وأوقد النار واشوِ وكُلْ
ففعل موسى عليه السلام وأكل الخَضِر عليه السلام من المشوي
و الفقه في ذلك أن الأفضلية هنا ليست على عمومها وتكون في
المشروعية ليس إلا من أجل أن صاحب هذه الحال الرفيعة قد
يظن أنه وفّى شروطها وهو لم يُوَفِّ فلا يؤتى بشيء فيتهم
مولاه وهذا وجه كبير من الخطر أو يحصل له فيلحقه بذلك
اغترار وهو أيضاً باب عظيم من الخطر فتكون الصنعة أفضل
لكون طريقها أسلم كما قال عليه السلام بشأن الصلاة إن أفضل
الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ۳ من أجل أنها
أسلم من الرياء والشوائب فإن السلامة هي أفضل وإن كبرت
فائدة الطريقة الأخرى لأنها فائدة معها متلفات قلّ من ينجو
معها وقد قال بعض السادة لا أعدل بالسلامة شيئاً وللمقامات
العَلِيّة رجال لها خلقوا وعليها عملوا وأما الوجه الرابع
فهو من أجل ما تعيّن في غير الصنعة من الحقوق وهو محتمل هل
خلصت أم لا فقد يعارضنا أن تجده معلوماً مقطوعاً به كما
ذكر عن بعض التجار لما ركب البحر وانكسر المركب خرج في
جملة من خرج فقال بعض أصحابه تعالَ بنا نمش إلى العمارة
القريبة منا فقال له لا أزول حتى يخرج مالي فاستخف عقله ثم
إنه قعد معه يسيراً فإذا بالأمواج قد رمت عِدلاً نظروه
فإذا اسمه عليه مكتوب فما زال كذلك حتى لم يتبق له في
البحر شيء صاحبه ما هو حالك مع الله حتى خصك بهذه الكرامة
على كل من كان في المركب قال له كل ما أمرني فعلت فكيف
يأخذ مني ما قد وهبني وهو وفقني إلى امتثال ما قد أمرني به
هذا لا يكون
فسأله
1 لم نقف على مصدره ٢ أي ما يريد
۳ سلف تخريجه في الحديث رقم / ۸۰/
٦٤٠
والانفصال عنه أن ذلك نادر فجاء الحكم على الغالب كما قد
تجد في بعض الصناع من
يغش في صنعته فتكون أرذل المكاسب والغالب في الصنعة غير
ذلك والغش فيها إن وقع لا يخفى مثلما تخفى حقوق الأموال
لأنه ليس في الأموال حق إلا الزكاة وفيه حقوق غير ذلك مثل
ما يتعلق من وجوب النصيحة في البيوع وترك الغش والخلابة
وأشياء عديدة مذكورة في كتب الفروع وقل من المتسببين من
يعرفها فكيف يفعلها فلذلك تكون الصنعة خيراً لأنها ليس
فيها غير شيء واحد وقد لا يخفى وهو ألا يوفي فيها ما يحتاج
إليه بوضع الصنعة وهو إن وقع من فاعلها شيء من ذلك هو عيب
ظاهر لمن شاء أن يردّ به رَدّ فلقلة الخطر فيها وقلة
الحقوق كانت خيراً من غيرها من التكسبات
ولذلك كان بعض من لقيت من أهل العلم والدين يبيع الزيت
فلما سألته قال لي ما رجعت إلى بيع الزيت إلا لأني أمنت
فيه خِدَع النفس وذلك أنه إذا كانت انية كبيرة مثل خابية
وتكون طيبة ويوضع فيها الشيء اليسير من الدون رجعت كلها
دوناً بخلاف غيره فإنه يقبل التدليس فلما أمنت من أنها لا
تقبل هذا لكونه يحصل لها به خسارة في المال اثرت هذه
الحرفة على غيرها لأن أهل التوفيق لا يأمنون غوائل النفوس
وإن كانت نفوسهم مباركة لقول الله تعالى وَمَا أُبَرِى
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَارَةُ بِالسُّوءِ إِلَّا
مَا رَحِمَ رَبِّي ١
وأما الوجه الخامس وهو أن الطعام الذي يكون بالصنعة قد خصه
الله عزّ وجلّ ببركة ليست في غيره فإن كان هذا تعبداً لا
يفهم له معنى فلا بحث وإن كان ذلك من أجل ما فيه من
إظهار الحكمة الربانية فالكلام عليه كالكلام على ما تقدم
قبل والانفصال عنه مثل ذلك سواء وأما الوجه السادس وهو أن
يكون هذا من السنة واتباعها لأن السنة جاءت بالتسبب من أجل
أن يظن الظان أنه لا يمكن التسبب مع العبادة فيكون تحضيضاً
لنفي ما يقع من ذلك من التخيلات وأن التعبد ليس بترك
التسبب فلو كان التعبد بترك التسبب ما عمل السبب نبي من
الأنبياء فإن الأنبياء عليهم السلام بالإجماع إنهم أعبد
الناس فنفى عليه السلام هذه العلة
بذکر داود عليه السلام ويترتب عليه من الفقه أن للعالم أن
يبين ما يقوله من الأحكام بالأدلة الشرعية البينة وإن كان
لا يُشك في عمله ومعرفته لأنه أجلى للنفوس وأثبت للأحكام
يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام بعدما ذكر الخيرية في الطعام
احتج بداود عليه السلام
1 سورة يوسف من الآية ٥٣
٦٤١
وفيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ويكون
هذا الحديث حجة على المتسببين ألا يتركوا - من أجل تسببهم
- التعبد ويحتجوا بذلك كما يقوله كثير من الناس إن التسبب
مانع من التعبد وقد قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا
وَذُرِّيَّةً وذلك حجة على أهل العيال من أجل أن يقولوا إن
العيال والتكسب عليهم يمنعنا من التعبد والتورع في الكسب
حتى إنه قد كثر عند الناس أنك إذا جئت تَعِظ شخصاً وتحضه
على التعبد يقول لك لو بُليتَ أنتَ بما بُليتُ أنا من
العيال ما قلت لي هذا ولا كنتَ كما أنتَ فانقطعت حجتهم
بالآية المذكورة إذ خيرُ الناس وأكثرهم تعبداً كانوا
بالأولاد والعيال فلا حجة للغير فعلى هذا البحث فلا تعارض
غير أنه لا يكون هذا على عمومه في كل أحد بل يكون ذلك على
قدر أحوال الناس مثل النكاح سواء لا يستن أحد بتركه ولا
يفعله إلا إذا قدر عليه وكان في عمله إياه عوناً على طاعة
مولاه وأجمع لقلبه
وقد روي عن بعض الصحابة أنه قال لا أحب أن يكون لي دكان
على باب المسجد لا تفوتني فيه صلاة مع الجماعة أربح في كل
يوم ديناراً أتصدق به في سبيل الله لا أوثره على الفقر
وذلك فقه حاليّ لأنه قد يمكن أن يكون ممن لا تحصل له جمعية
في المخالطة وكان يفوته ذلك الخير الخاص وإن كان يحصل له
من الخير المتعدي مثل ما ذكر لأنه لا ينظر الخير العام إلا
من بعد ما يحصل له الخاص فإن الخاص هو الأصل مثل إحياء
النفس أنت أولاً تُخاطب بنفسك قال الله عزّ وجلّ وَلَا
نَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيمًا ثم بعد ذلك بنفوس الغير لقوله تعالى وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۳ ولم
تؤمر أن تحيي الغيرَ وتُهلِكَ نفسك قاصداً لذلك إلا في
الجهاد لا غير وإن فعلت ذلك كنت مأثوماً
ومثل ذلك النفقة أنت مكلف بنفسك ثم بالابن ثم بالزوجة فإذا
كان عندك رغيف واحد لم يلزمك نفقة أحد من الأهل فإن كان
رغيفان لزمك النفقة على واحد من العيال وتقدم الذي نفقته
ثابتة لا تزول باختيارك الذي هو الولد ثم الزوجة وعلى هذا
الترتيب كيفما كَثُر العيال الأهم فالأهم فإن كان شخص لا
يقدر على الصنعة ولا التسبب فطلبه ذلك مرجوح في حقه لأنا
نقول مع القدرة عليه لا يُسْتَن بتركه ويجعله من العبادة
ولكن يأخذ الذي هو الأولى في حقه بنسبته في القرب إلى
مولاه على الوجه المشروع فكيف مع عدم القدرة عليه فيكون إذ
ذاك ممنوعاً في حقه
1 سورة الرعد من الآية ۳۸ سورة النساء من الآية ۹ ۳ سورة
المائدة من الاية ٣٢
٦٤٢
وقد رأيت الشيخ الجليل أبا العباس بن عجلان ۱ رحمه الله
وجاءه بعض الفقراء
المتعبدين وكانت له عائلة وكان يشتغل بالسبب وسببه ضعيف
وهو في نفسه ضعيف وكثير العيال وكثر التشويش من أجلهم فقال
له أبو العباس المذكور رحمه الله ـ وكان له السبق في
الطريقين العلم والحال - يَحرُم عليك عمل السبب واشتغل
بالعلم وأنت وأهلك عيال على الله ففعل ما أمره به فانتهت
حاله أن يطحن في الشهر أردبَّيْنِ قمحاً والقمح إذ ذاك ما
يقرب من العشرة دنانير القفِيزُ وزائد على ذلك ما يحتاج
إليه من بقية النفقة والكسوة والسكنى وغير ذلك من ضرورات
العيال وهو مع د لا يسأل أحداً شيئاً إلا مقبلاً على العلم
والتعبد لا غير إلا ما كان من تصرفه في ضروراته فإنه كان
يتولى ذلك بنفسه وهذا الوجه من الفقه لا يعرفه إلا من هو
مثل
ذلك السيد
وقد كتب بعض الفقراء فتوى فمشى بها على الفقهاء فلم يجاوبه
عليها إلا فقيه واحد - وكان ممن قد نور الله بصيرته -
وكانت الفتيا ما يقول الفقهاء في الفقير المتوجّه هل يجب
عليه عمل السبب أم لا أفتونا يرحمكم الله فالكل حادوا عن
الجواب فلما بلغت ذلك المبارك كتب عليها إن كان توجهه
دائماً لا فترة فيه فالتسبب عليه حرام وإن كانت له في بعض
الأوقات فترة ما فالتكسب عليه واجب
فتأمل إلى حسن هذا الجواب ما أبدَعَه وكيف يعضده سيّدنا
محمد إن الله تكفل برزق طالب العلم تفهم قول سيدنا محمد
الله هذا فإن فيه سراً لا يعرفه إلا من تكون فتياه مثل
السيد المتقدم ذكره وذلك بأن الله عزّ وجلّ قد تكفل برزق
جميع المخلوقات بمتضمن قوله تعالي وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ۳ وقوله عزّ وجل
لَا نَسْتَلْكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ
لِلتَّقْوَى ٤ وبقوله عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلام حين
قال ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا امنا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ٥ قال هو جلّ جلاله
مجاوباً
1 أبو العباس بن عجلان القرطبي هو أحمد بن عمر بن إبراهيم
بن عمر الأنصاري المالكي الفقيه المحدث المدرّس الشاهد
بالإسكندرية ولد بقرطبة سنة ٥٧٨هـ / ١١٨٢م وسمع الكثير
هنالك ثم انتقل إلى المشرق واشتهر وطار صيته وأخذ الناس
عنه وانتفعوا بكتبه وقدم مصر وحدث بها واختصر الصحيحين
وكان بارعاً في الفقه والعربية عارفاً بالحديث من تصانيفه
المفهم في شرح مسلم وقد اعتمد الإمام النووي عليه وأشاد به
توفي بالإسكندرية سنة ٦٥٦هـ / ١٢٥٨م نفح الطيب ٦١٥/٢
تقدم تخريجه في الحديث رقم ٦ الوجه الرابع
۳ سورة هود من الآية ٦
سورة طه من الاية ۱۳ ٥ سورة البقرة من الآية ١٢٦
0
٦٤٣
لإبراهيم عليه السلام وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا
ثُمَّ أَضْطَرُهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ۱ معناه يا
إبراهيم
أرزق من امنَ ومَن كفر ثم أسوق الكافر إلى النار
فما هو الوجه الذي تضمنه زائداً لطالب العلم وإن كان قد
أشرنا إليه في غير هذا الحديث لكن شرح الحال أحوج إلى
إعادته وذلك أن الرزق الذي فرضه المولى جلّ جلاله لعبيده
وقدَّره وضمنه منه ما هو بواسطة السبب ولا يبلغه صاحبه إلا
سبب ومنه ما هو بلا سبب ولا واسطة مثل المواريث والهبات
على اختلاف أنواعها ونحن لا نعلم الذي هو بالسبب ولا الذي
هو بغير سبب فلما كان صاحب العلم الذي هو الله كما قال إذا
بتدع في الدين بدعةٌ كِيدَ الدِّينُ فعليكم بمعالِم الدين
واطلبوا من الله الرزق قالوا وما معالِمُ الدِّينِ قال
مجالس الحلال والحرام أو كما قال عليه السلام فيكون معناه
لا يَشغَلْكم التكسبُ في الرزق عن طلب العلم فيذهب الدين
من أجل ما ابتدع فيه والجهل بذلك فاشتغلوا بالعلم والله
يعطيكم رزقكم
فلما كان صاحب العلم الذي هو الله اشتغل ۳ بسبب الآخرة لأن
أكبر أسباب الآخرة طلب العلم إذا كان الله وكان على وجهه
فلما اشتغل هو بذلك يسر الله الرزق بلا واسطة التسبب ولا
أحوَجَه إلى أحد من خَلقه فيكون ذلك تأكيداً في تيسير رزق
طالب العلم - إن كان طلبه للاخرة بهذا الوجه - لأن طالب
العلم يستغرق جميع الأوقات وجميعَ الزمان فكفاه الله مؤنة
طلب رزقه والتسبب فيه ولقلة التصديق بهذا النوع من
الأحاديث تعب بعض طلبة العلم وخسروا أعمارهم فلا هم بدنيا
ولا هم بأخرى نسأله جلّ جلاله أن ييسرنا للفهم عنه والعمل
بذلك والسعادة
به لا رب سواه
لأنه قد وفي اختصاصه ل داود عليه السلام من بين غيره من
الأنبياء عليهم السلام شهر حاله في تكسبه وكيف ألين له
الحديد وكيف كان يعمل الدرع في اليوم الواحد ويبيعه بألف
درهم فينفقه على المساكين كله ويأكل هو منه خبز الكشكار ٤
ويطعم المساكين خبز العلامة ٥ وهو الدرمك ٦ الطيب باللحم
الطيب كما أشار في الحديث قبل يتسبب فينفع نفسه ويتصدق
فيكون يتسبب لأجل هذه الصفة المباركة ولا يعمل من أجل أن
يستدل بالحديث في التكسب ثم
۱ سورة البقرة من الآية ١٢٦
لم نعثر على مصدره وانظر التعليق عليه في الحديث ۹۰
۳ أي طالب العلم
٤ خبز الكشكار الخبز العادي
٥ خبز العلامة الخبز الجيد
٦ الدرمك الخبز المعمول من الدقيق الأبيض
٦٤٤
يدخر فهذا خلاف لما قصد منه فكأنه عليه السلام يشير إليه
لأن يتصدق ويأكل ولا يدخر ولذلك حين سأله أزواجه أيهن أقرب
لحاقاً به فقال أطولكن يدا فكن بعد وفاته عليه السلام يقسن
أيديهن أيهن أطول فأول من ماتت زينب رضي الله عنها وعنهن
جميعاً فإنها زينب كانت تعمل بيدها وتكثر الصدقة حتى كانت
تسمى أم المساكين ۳ فنظرن الطول بالنسبة إلى الجارحة وكانت
إشارته عليه السلام إلى المعروف لأن المعروف يسمى لغة يداً
وفائدة هذا الحديث أنه لا يصح كسب ولا تعبد إلا بمعرفة
السنة وإلا فصاحبه مخيَّر فمن فيه أهلية فيكون من أهل
العلم بها 4 والغير يكون وظيفته السؤال عنها وعن أهلها
والاقتداء بهم ويكونون أهلا لذلك حقاً لا دعوى منهم فإن
بالدعوى هلك أكثر الناس وأهلكوا معهم جمعاً ثيراً كما أخبر
الصادق عليه السلام دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها
قذفوه فيها وقد يُظهرون التضلع بالعلوم وتلك العلوم وبال
عليهم وعلى من تبعهم لأنهم جعلوا قاعدتهم طلب الحظ
والمنزلة وذلك أصل كل خسارة وحرمان أعاذنا الله من ذلك
بمنه ووفقنا لاتباع السنة والسنن بمنه وقد قال بعض
المباركين تحب دنيا وتحب أخرى حبيبان في القلب لا يجتمعان
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
رواه مسلم والنسائي عن السيدة عائشة رضي الله عنها بلفظ
أسر عكن لحاقاً بي إلخ هي زينب بنت جحش الأسدية أم
المؤمنين وإحدى شهيرات النساء في صدر الإسلام كانت زوجة
زيد بن حارثة واسمها بَرّة وطلقها زيد فتزوج بها النبي
الله و وسماها زينب وكانت من أجمل النساء وبسببها نزلت آية
الحجاب وكانت أطول نساء النبي ا ل ي ا وأقربهن للحاقاً به
إلى الرفيق الأعلى وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وكانت وفاتها سنة ٢٠ هـ / ٦٤١م ۳ هي زينب بنت
خزيمة بن الحارث الهلالية كانت تدعى في الجاهلية أم
المساكين وظل لقبها هذا في الإسلام وهي من أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم انظر الطبقات لابن سعد ١١٥/٨ ويبدو أن
الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه وهم فجعل زينب بنت جحش
الأسدية وزينب بنت خزيمة الهلالية واحدة
٤ أي بالسنة
٦٤٥
-٩٤-
حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا
عَن حَكِيمٍ بن حِزام ۱ رضي الله عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قالَ البَيْعَانِ بالخيارِ ما لَم
يَتَفَرَّقا أو قالَ حتَّى يتفَرَّقا فإن صَدَقا وبَيَّنا
بورِكَ لهُما في بَيعهما وَإِن كَتَما وَكَذَبا مُحِقَت
بَرَكَةُ بَيعهما
ظاهر الحديث يدل على أن كل واحد من المُتبايعَيْنِ له
الخيار ما لم يتفرقا وأن البركة مع الصدق وأن مَحْقَ
البركة مع الخيانة والكذب والكلام عليه من وجوه
ج
منها هل الافتراق المعني هنا بالأقوال أو بالأبدان لأنه قد
جاء المعنيان في الكتاب العزيز أما الأبدان فقوله تعالى
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلَّا مِّن سَعَتِهِ
٢ وأما بالأقوال فمثل قوله تعالى وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَتْ ۳ فهذه بالأقوال وكذلك أيضاً قوله
عليه السلام افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ٤
واختلف العلماء في قوله عليه السلام البيعان بالخيار ما لم
يتفرقا فمنهم من قال
بالأبدان وهو الشافعي رحمه الله ومن تبعه ومنهم من قال
بالأقوال وهو مالك رحمه الله
ومن تبعه وهو الأظهر والله أعلم لما جاء في حديث عبد الله
بن عمر مع عثمان ابن عفان رضي
۱ حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد صحابي قرشي وهو ابن أخي
السيدة خديجة أم المؤمنين كان صديقاً للنبي صلى الله عليه
وسلم قبل البعثة وبعدها وكان من سادات قريش في الجاهلية
والإسلام عالماً بالنسب أسلم يوم الفتح له
في كتب الحديث ٤٠ حديثاً توفي في المدينة المنورة سنة ٥٤هـ
/ ٦٧٤م انظر الحديث ٧٥
سورة النساء من الآية ۱۳۰ ۳ سورة ال عمران من الآية ١٠٥
٤ رواه الترمذي في الإيمان بلفظ آخر وللحديث روايات كثيرة
بلغت حد التواتر
٦٤٦
الله عنهم حين باع منه عبد الله مخرافا كان له بموضع كان
لعثمان وكان عبد الله حريصاً على تمام البيع فقام من حينه
- وهو ممن روى هذا الحديث في البيع ليس إلا بلا زيادة ـ
فقال له عثمان أردتُ تمام البيع ليست السنة بافتراق
الأبدان قد انتسخ ذلك وكان تبايعهما بعد وفاة رسول الله
فرجع عبد الله رضى الله عنه إلى مقالة عثمان رضي الـ
الله عنه
وقد قال مالك رحمه الله إذا كان حديثان صحيحان وثبت أن
الخلفاء أو أحدهم عمل بالواحد وترك الآخر فذلك دليل على
نسخه فمن باب أولى إذا كان الحديث يحتمل معنيين ونص بعضهم
على سقوط الوجه الواحد منهما
وهنا بحث في قوله عليه السلام البيعان سماهما بيعين
والواحد مشتر والآخر بائع فالجواب أن كل واحد منهما ينطلق
عليه اسم بائع ومشتر لأنه بائع للشيء الذي يدفعه لصاحبه
ومشتر للشيء الذي يأخذه من صاحبه فلما كان لا يخرج الشيء
من يد صاحبه إلا باختياره سماهما عليه السلام بيعين وصدق
القول عليهما بذلك
ولأجل ما يلزم لكل واحد منهما من بيان ما في متاعه من
العيوب بيَّن عليه السلام بعد ما لهما وما عليهما بقوله
عليه السلام فإن صدقا وبيّنا بورك لهما وفيه بحث وهو هل
الصدق والبيان يعودان لمعنى واحد أو هما لمعنيين وإن حصل
من أحدهما الصدق والبيان هل تحصل بركة أو لا تحصل أو تحصل
للذي يصدق ويبيّن ويحرم الآخر
فأما قولنا هل الصدق والبيان لمعنيين أو يعودان لمعنى واحد
احتمل أن يكون أحدهما مؤكداً للآخر والمعنى واحد مثاله أن
يصدق إن كان في سلعته عيب فيقول هو كذا وكذا فقد بين ما
صدق فيه لأنه قد يقول سلعتي معيبة ويكون العيب خفياً فينظر
المشتري فلا يرى شيئاً فيزيد رغبة في السلعة ويظن ذلك منه
ديناً فيقول ذلك احتياطاً فيكون فيه نوع من الخلابة فإذا
بين ذلك صح صدقه فيكون على ذلك بيَّنَ صفةً لصدقه
واحتمل أن يكون كل واحد منهما قائماً بنفسه فيكون معنى
صَدَق في سَوم سلعته ولم يزد فيها تحرزاً من الربا ويكون
بين معناه بين ما فيها من العيوب فكل واحد منهما قائم
بذاته - وهو الأظهر والله أعلم - لكثرة الفائدة وهذا
المعنى الآخر هو الذي يجيء على ما بيّنه أهل الفقه في
الفروع فمن تأمله هناك يجده على ما ذكرناه إن شاء الله
وأما قولنا إن صدقا معاً وبيّنا معاً فالبركة موجودة معهما
وإن لم يفعلا معاً فإنهما لا
۱ المخراف البستان
٦٤٧
يجدانها وأما إن فعل أحدهما ولم يفعل الآخر فالذي فعل يجد
البركة ولا يجدها الآخر وأما الحديث فليس فيه إشارة إلى
شيء من ذلك وقواعد الشرع تقتضي ذلك لأنه عزّ وجلّ يقول
وَلَا نَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۱ وقال عز وجل
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَمُ وقال عزّ وجلّ
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ
أَسَأْتُم
فَلَهَا ۳ وفيه الأدلة كثيرة وأما إن فعلا الشرط الواحد
ولم يفعلا الآخر - مثال ذلك أن يصدقا ولا يبينا أو ضده -
فهل يحصل لهما شيء من البركة أو لا تحصل البركة إلا
بالوصفين الظاهر أنه لا يحصل لهما من البركة
شيء إلا بالوصفين معاً لأنهما شرط في وجود البركة ولا يوجد
المشروط حتى يتم الشرط وقوله عليه السلام في بيعهما أي في
نفس البيع الذي هو التعاقد أو ما كان التعاقد عليه من
المثمونين احتمل الوجهين معاً لأنه إذا كان العقد مباركاً
فلا يكون عنه في الوجهين إلا بركة لأنه المقدمة فإذا كانت
المقدمة - وهي الأصل - طيبة فلا تكون النتيجة ولا ما يتولد
من الأصل الطيب إلا طيبة وقد يريد بذلك الشيء الذي تبايعا
عليه
وقوله عليه السلام وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما
الكلام عليه كالكلام على صدق وبينا هل يعود لمعنى واحد أو
لمعنيين احتمل والأظهر أنهما لمعنيين - كما قلنا في
المتقدم - والبحث على اجتماعهما على الكتمان والكذب أو
تركه منهما بالأصالة أو فعله الواحد ولم يفعله الآخر أو
فعلا الوجه الواحد ولم يفعلا الآخر مثل ما تقدم سواء بسواء
والكلام على البيع الآخر مثل الكلام على البيع الأول كذلك
وتكلم على الطرفين ولم يتعرض إلى الحالة الوسطى وهي التي
لم يكتم ولا كذب ولا بين فالحالة الوسطى آخراً لا تحتاج
إلى بيان فإنه بتبيين الطرفين وتبيين حكمهما ظهر حكم
المتوسط وهو الذي يقع من الناس غالباً مثاله أن يكون في
سلعته عيب ظاهر فيقول للمشتري اشتر لنفسك وانظر وقلب وهو
يعتقد أن ذلك العيب من الظهور بحيث لا يخفى فلا يحتاج إلى
بيانه ولا كذبه بأن قال له ليس فيها شيء ولا سكت فقد تكلم
بكلام فيه إرشاد إلى أن يبحث المشتري ويدقق نظره
وهنا تقسيم لا يخلو المشتري أن يكون عارفاً بتلك السلعة
وعيوبها أو جاهلاً فإن كان
۱ سورة الأنعام من الآية ١٦٤ سورة الزلزلة الايتان ٧ و ٨ ۳
سورة الإسراء من الآية ٧
٦٤٨
جاهلاً فحكم هذا حكم الكتمان والكذب سواء وإن كان عارفاً
فالبركة لا تحصل له لأنه لم يأتِ بشرطها ويبقى النقص
محتملاً هل يكون موجوداً أم لا
وفيه دليل على أنه لا تُحصل الدنيا إلا بالآخرة يؤخذ ذلك
من أنه لم تحصل لهما البركة إلا بالصدق وهو من أمور الآخرة
الذي يكون صاحبه فيه مأجوراً وهو من أكمل صفات الإيمان
ولذلك قال أهل التحقيق من صَدَق وصَدّق قرب لا محالة وقد
بين هذا حيث قال لا ينال ما عند الله إلا بطاعة الله ۱
وفيه دليل على أن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة
يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام وإن كتما وكذبا محقت بركة
بيعهما والكذب من الكبائر والكتم - وهو الغش - من الكبائر
أيضاً لقوله الله من غشنا فليس منا وقوله عليه السلام في
الكذاب الحديث المتقدم الذي يشد شدقه من حين موته إلى أن
تقوم الساعة فحينئذ ينظر مصيره فقد خسر الدنيا بذهاب
حطامها من يده لأنه إذا ذهبت البركة من المال فهو ذاهب
وخسر الآخرة لما يناله فيها من العذاب وقد زاد ذلك إيضاحاً
حيث قال من حاول أمراً بمعصية كان أبعد مما يرجو وأقرب إلى
ما يخافه ۳ فأهل التوفيق ربحوا الدنيا والآخرة ولذلك لما
سئل عبد الرحمن بن عوف ٤ رضي ! الله عنه عن كثرة ماله ما
سببه قال ما كذبت قط ولا دلست ولا بعت بدین ولا رددت فضلاً
أي شيء كان وقد أخبر عنه أنه اشترى جملة جمال فقيل له تربح
فيها أزمتها وكانت من حَبْل ففعل فلما ذهب الذي اشتراها
بعدما
قبضها يطلب شيئاً يعمل لها أزمة لم يجد أصلاً فرجع إليه
واشترى منه تلك الأزمة بجملة مال
وهل يقتصر هذا على هذا البيع أو يدخل فيه كل ما ينطلق عليه
اسم بيع صيغة اللفظ
۱ رواه الإمام الشافعي رضي الله عنه في الرسالة وابن ماجه
في السنن وهو قطعة من حديث أوله إن روح القدس قد نفخ في
روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها إلخ ولفظ
الشاهد - كما ورد في الحديث فإن ما عند الله لا ينال
بمعصيته
رواه مسلم في الإيمان رقم / ۱۰۱ / من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه
۳ لم نقف على مصدره عبد الرحمن بن عوف أبو محمد الزهري
القرشي صحابي من أكابرهم وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد
الستة أصحاب الشوري الذين جعل عمر الخلافة فيهم وأحد
السابقين إلى الإسلام وكان من الأجواد الشجعان العقلاء شهد
بدراً وأحداً والمشاهد كلها وجرح يوم أحد ۱ جراحة وأعتق في
يوم واحد ثلاثين عبدا وكان يحترف التجارة والبيع والشراء
فاجتمعت له ثروة كبيرة وتصدّق يوماً بقافلة فيها سبعمائة
راحلة تحمل الحنطة والدقيق والطعام ولما حضرته الوفاة أوصى
بألف فرس وبخمسين ألف دينار في سبيل الله له ٦٥ حديثاً
توفي في المدينة سنة ٣٢هـ / ٦٥٢م
٦٤٩
تقتضي
بِأَنَّ
أن تحمل على عمومها ويتحرز من العيوب المفسدة أو المذهبة
للبركة ويرغب في التي توجبها لأن الله عزّ وجلّ يقول إِنَّ
اللَّهَ أَشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَاهُم بِات لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا ١ تلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ۱ فمن
صدق في بيعه هذا ولم يكتم الحق ولم يكذب على الله ورسوله ل
هول و ولا على أعلام دينه بأن يبتدع بدعة ويجعلها ديناً
ويصدق ۳ الله ورسوله كما يجب ويبين أحكام الله تعالى كما
تقتضيه قواعد الشريعة ولم يخف في الله لومة لائم بورك له
في بيعه غير أنه يختص هذا البيع بزيادة ليست في ذلك البيع
الآخر وهي أن البركتين اللتين في الثمن والمثمَّن جميعاً
للعبد لأن مولانا جلّ جلاله غني عنا وإنما هي تجارة لنا
قال عزّ وجلّ في كتابه هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى بَصَرَةٍ
تُجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۳ والخسارة أيضاً عليهما تعود
فوجب أن تكون المحافظة على هذه أشد من الأولى كما يذكر عن
الأنصار حين بايعوا النبي عليه السلام قالوا ما لنا إذا
وفينا قال الجنة قالوا رضينا لا نَنْقُصُ البيع فوفوا رضي
الله عنهم فوفى لهم بأن شهد لهم بالوفاء وحقيقة الإيمان
لقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ اوَوا
وَنَصَرُوا أَوَلَبِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ٤ ومن
هنا جعل أهل التوفيق الهَمَّ همّاً واحداً ولم يلتفتوا
ففازوا وغنموا وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم تسليماً
٢٥٢٦٠
٦٥٠
۱ سورة التوبة من الآية ۱۱۱ العطف على صَدق
۳ سورة الصف من الآية ۱۰ و ۱۱
٤ سورة الأنفال من الآية ٧٤
1901
حديث جواز أخذ الزوجة ما يكفيها من مال زوجها إذا كان
شحيحاً
عَن عائشة رضيَ الله عَنها قالَت هِندٌ أُمُّ مُعاويةَ
لِرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ أبا سفيان رَجُل
شحيح فهل عليَّ جُناح أن آخذ من ماله سراً قال خُذي أنتِ
وبنُوكِ ما يكفيكِ بالمَعرُوف
وجوه
**
ظاهر الحديث أخذ الحق من مال صاحبه وإن كان عنه غائباً إذا
لم يعطه والكلام عليه من
منها أن الأئمة اختلفوا هل هذا على العموم وإن اختلف أنواع
المال وخالف نوع مال الطالب نوع مال المطلوب أو لا يكون
ذلك إلا إذا كان المالان من نوع واحد متماثلين على قولين
مثال ذلك أن يكون لك عند أحدٍ دراهم فيمتنع من إعطائها
إياك فتلقى من ماله بظهر غيب منه مالاً هل تأخذ من ذلك
المال الذي لقيته لغريمك ما منع أن يعطيكه وهو غائب لا
يعرف بذلك فإن كان ما لقيته دراهمَ مثل دراهمك في الصفة
فلك أن تأخذ منها قَدْرَ مالِكَ بلا زيادة لقوله عليه
السلام في الحديث خذي أنتِ وبنوك ما يكفيك بالمعروف
والمعروف هو عدم الزيادة في الحقوق وإن كان ما لقيته خلاف
الدراهم ذهباً أو عروضاً أو طعاماً فمذهب الشافعي تأخذ
قدْرَ مالك عنده بالمعروف ومذهب مالك لا تأخذ منه شيئاً
لأنه إذا أخذت خلاف مالك فهو بيع من البيوع والبيع يفتقر
إلى وكالة وليس لك وكالة بما تتصرف في بيع مال الغير
فظاهر الحديث منفرداً الحجة فيه للشافعي وجمع الحديث إلى
القول بسد الذريعة مع ما جاء مالك من أجله هو عدم في
البيوع وشروطها يقتضي ما ذهب مالك إليه إلا أنه إن كان ما
يمنع الوكالة التي بها يتم البيع وقد رأيت فتوى لبعض
المالكية - وكان معتبراً في وقته ونقلها قَوْلَةً في
المذهب معناها أنه ـ أعني صاحب الحق - يقوم مقام الحاكم
ويوكل غيره في بيع من ذلك المال بالسداد بقدر مالَهُ ويأخذ
ماله طيباً حلالاً فإن صح القول عن الإمام فلا بحث وإلا
فالبحث
٦٥١
ها
يعطي أنه لا فرق بين أن يُنزِل نفسه منزلة صاحب المال
فيتصرف بالمعروف أو ينزل نفسه منزلة الحاكم فهو في كل واحد
من الوجهين يحتاج إلى إذن من هو نائب عنه فإنه لا يحكم على
أحد حاكم خلاف الإمام أو من قدمه الإمام إلا بإذنه وكلاهما
متعذّر فالحكم متعذر أيضاً وفيه دليل على أن الأم هي
المتصرفة في معاش أولادها يؤخذ ذلك من قوله خذي أنتِ وبنوك
ما يكفيك بالمعروف
ويؤخذ منه أنها هي القائمة بحقوقهم على الأب لقولها لا
يعطيني تعني حقها وحق بنيها ويؤخذ منه دليل على أن الفتوى
خلاف الحكم لأن الحكم لا يكون إلا بعد اعتراف أو ثبوت
بشهادة يؤخذ ذلك من أنه لما قالت له عليه السلام هل عليَّ
جُناح - تعني في الشرع - فجاوبها عليه السلام بأن لا جناح
عليها ولو طلبت منه الحكم لم يحكم إلا بعد حضور أبي سُفيان
ويسمع حجته وحينئذ كان يقضي بحسب ما يسمع منهما فإنه عليه
السلام قال إنكم تَختصمون إليَّ فلعل أحدكم يكون الحَنَ
بحجته من بعض فأحكم له بحسب ما أسمع ۱ معناه فأُوقع الحكم
على ما يظهر من قول الخصمين
وفيه دليل على جواز خروج النساء لطلب حقوقهن إذا لم يكن
معهنَّ مَن يقوم عنهن يؤخذ ذلك من جواب رسول الله لها ولم
يعنفها ولا أنكر عليها
وقولها رجل شحيح ظاهر اللفظ يعطي جواز الغيبة عند الحاكم
من أجل الضرورة ولقول الله تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ
فلأجل ظلمه يجوز له قول السوء وما هي غيبة من أجل أنها لم
تقصد تنقيصاً بصاحبها وإنما هو من ضرورة وصف حاله لكن ليس
قولها إن أبا سفيان رجل شحيح من هذا القبيل ولكن هو من باب
المدح بحسب عادة العرب لأن الذي يشحّ عندهم على عياله إنما
هو من أجل اعتنائه بالأضياف والخصب عليهم فيلحق الضرر من
أجل ذلك للعيال فهي لفظة باطنها خلاف ظاهرها كما ينقل عن
العرب في بعض الألفاظ التي يدعون بها مثل قولهم ضَرَب الله
عُنقه وقاتله الله ! ولا يريدون به ظاهر اللفظ فمن لا يعرف
ذلك يحملها على العادة المذمومة ولكن ليس كذلك
ويترتب على هذا من الفقه ألا يذم أحد أحداً على قول أو فعل
حتى يعلم ما عُرْفُ أهل وقته في
ذلك ومثل ذلك في الشكر أيضاً
۱ رواه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبو
داود والنسائي وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها ولفظه
إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ إلى اخره
سورة النساء من الآية ١٤٨
٦٥٢
وفيه دليل على أن الكنى المعروفة شرعاً والعادة عند العرب
هي بأسماء البنين يؤخذ ذلك من قولها أبا سفيان وكنته بابنه
وكذلك قول رواية الحديث كنت المرأة باسم ابنها وما عدا هذا
فهي بدع لاسيما إن كانت بلفظ التزكية كقول أهل مصر
وأقطارها جمال الدين وبهاء الدين وحديث مسلم لما تزوج لا
جُوَيْرِيَة قال لها ما اسمك قالت بَرَّة فقال لا تُزَكّوا
أَنفُسَكُم سمّوها جُوَيرِية وهي بَرَّة حقيقة لأنها لا
تُختار أن تكون زوجاً له إلا وهي بَرّة حقيقة لكن نهى ذلك
وقابل عليه السلام فعلهم بالضد وهو أن صغر اسمها فقال
جويرية فما بالك بغيرها فمن باب أخرَى فمن حيث رفع اسمه
لفظاً فقد صغر نفسه شرعاً فالحكم بمقتضى الشرع لا بالوضع
وفيما ذكرناه حجة للقوم في قولهم مَن رأى لنفسه حَقَّ رفعة
على خلق من خلق الله ولو على الكلاب فهو معلول
عن
فيا شافي العلل اشف علةً قد أفضت بي إلى العطب هانت عليهم
أنفسهم فارتفعوا وعظمت نفوس غيرهم فَبِها ذَلّوا وخَسِروا
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ رواه مسلم في الأدب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
وزينب بنت سلمة رضي الله عنها
٦٥٣
-9-
حديث النهي عن التصوير
عن ابن عبّاس رضي الله عَنهُما قال سمعتُ رَسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول مَن صَوَّرَ صُورَةٌ فإِنَّ اللهَ
يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنفُخَ فيها الرُّوحَ وَلَيسَ بنافِخ
فيها أبداً
ظاهر الحديث يدل على أن الذي يصوّر الصورة يُعذَّب أبداً
والكلام عليه من وجوه منها هل هي على العموم في كل الصور
ما له روح وما لا روح له ومنها هل التأبيد على ظاهره فيكون
مثل الكافر سواء ومنها إن تاب قبل الموت هل يغفر له أم لا
أما الجواب عن الأول فأما ما لا روح له فلا يدخل تحت
الحديث لقوله عليه السلام حتى ينفخ فيها الروح فخرج من
عموم اللفظ كل من صور صورة لا روح لها بتحديده عليه السلام
بنفخ الروح فيها وقد ذكر ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما
وأما الثاني وهو هل التأبيد على ظاهره فيعارضنا قوله تعالى
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ ١ وهذا دون
الكفر فهو في جملة من يشاء فيكون المعنى فيه - والله أعلم
- مثل قوله تعالى ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا
هذا
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ﴾ ٢ قال أهل السنة فجزاؤه أي إن
جازاه وقد تقدم البحث في ه ومثله أنهم هم الذين يخرجون
بشفاعة أرحم الراحمين حين يقول الله تعالى شفعت الملائكة
والرسل والأنبياء وبقيت شفاعة أرحم الراحمين ثم يقبض في
النار قبضة فيخرج منها كل من كان حَبَسه القرآن ۳ والذين
حبسهم القرآن على ضربين كفار وأهل معاص مثل من تقدم ذكرهم
ألا يُغفر لهم وأما أهل الكفر فلا مغفرة لهم لقوله تعالى
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
العدل يقتضي
۱ سورة النساء من الآية ٤٨ سورة النساء من الآية ۹۳
۳ قطعة من حديث رواه مسلم في الشفاعة عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه بلفظ آخر
٦٥٤
به ويغفر
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ والآي والأحاديث فيه كثيرة
وإجماع المسلمين على ذلك فيكون الفريق الآخر هم الذين
تنالهم تلك الرحمة وهو وجه يجتمع به الآي والأحاديث ولا
يقع بينهما تعارض إن شاء الله
وفيه دليل على جواز التعليم دون سؤال يؤخذ ذلك من إخبار
النبي له بهذا الحديث وهنا بحث وهو أن يقال هل هذا العذاب
العظيم هو لعلّة تعرف أو هو لعلة لا يعلمها إلا هو
عزّ وجلّ فإن قلنا إنه تعبُّد فلا بحث وإن قلنا قد نفهمها
غلبة ظن بمقتضى إخبار الشارع عليه السلام في غير هذا فما
هي فنقول والله أعلم ذلك أنه يتشبه بصفتين من صفات الله
عزّ وجلّ عظيمتين وهما العظمة والحكمة لأن الخلق على
اختلافهم دال على عظمة الله عزّ وجلّ وعظيم حكمته و قال له
الا الله وحكاية عنه جلّ جلاله الكبرياء ردائي والعظمة
إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ۱ فإذا كانت صفة
واحدة جاء في التشبه بها هذا الوعيد فكيف بشيء يدل على
صفتين عظيمتين فيحق هذا لما فيه من قلة الأدب
والفقه في هذا الحديث التصديق به لأن ذلك مع كونه من حقيقة
الإيمان يوجب الردع
والزجر عن هذا الفعل ومن أجل هذه الفائدة أخبر سيدنا الله
بهذا الحديث وأمثاله وفيه دليل لطريق أهل الصوفة في ذمهم
الدعوى وإن كانت حقيقة خيفة النقص وهم لا يشعرون فتكون
سبباً للحرمان يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام فإن الله
يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ولأنه قد جاء في
حديث آخر يقال للمصوّرين أحيوا ما خلقتم فيُطلبون بتمام
الدعوى فلا يُتِمّونها فيعذبون على كذب دعواهم لأنهم لما
صوروا ما يشبه ما خلقه الخالق جلّ جلاله فقد ادّعوا بحالهم
أنهم يخلقون مثله فيقال لهم من تمام دعواكم أن تُحيوا ما
صورتم وإلا فأنتم كاذبون في دعواكم والكذب جزاؤه العذاب
الأليم فلو كان يكذب على غير دعوى لكان يُعذب ولا يُجعل له
شرط في رفع العذاب لتمام خلق ما صوره بنفخ الروح فيه وهو
لا يطيق ذلك كما جاء في حق الكذاب الذي يشق شدقه لكن شؤم
الدعوى زاده عظيم البلاء وفيه دليل على تصديق ما كان الصدر
الأول عليه وهو الحق فإنهم كانوا ينظرون الشخص في حاله لا
في مقاله يؤخذ من ذلك أن المصور للصورة ما هو بلسانه
يَدَّعي أنه يخلق فلما كان
1 رواه مسلم في البر والصلة باب تحريم الكبر وأبو داود في
اللباس من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما
بلفظ العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني شيئاً عذبته
الله عنه وروياه كذلك من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ إن
أصحاب
رواه الشيخان من حديث عمر رضي هذه الصور يعذبون يوم
القيامة فيقال لهم أحيوا ما خلقتم
٦٥٥
فعله يدل على ذلك لم يُرْعَ ۱ في ذلك مقاله وإن كان يعترف
في حال حياته أن هذا ليس بحقيقة لكن لا ينفعه ذلك يؤخذ بما
يدل عليه لسان حاله ومما يقوي ذلك ما روي عنه أنه إذا كان
يذكر شخص عنده وهو غائب لا يعرفه يقول كيف هو في عقله يعني
في عقله عن الله وتصرفه ويترتب عليه من البحث أن من أراد
اللحوق اتَّبع ولم يبتدع فإنه يصل حيث وصلوا وإن لم يدعه
وإن ادعى ولم يتبع حصل له التوبيخ والخسران وقد قال أهل
التوفيق من ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان وقد قال
نفسَك على الدعوى فحاسبها ولا تدَّعِ ذاك فتضيعها وصلى
الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
٦٥٦
1 أي لم يُراع أي أحدهم
-44-
حديث جواز أخذ الأجر على كتاب الله عزّ وجلّ
عن ابن عباس رضي الله عَنهُما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قال أَحقُّ ما أَخَذْتُم عَلَيْهِ أجراً كتابُ
الله عزّ وجلَّ
بات
ظاهر الحديث يدل على جواز أخذ الأجر على كتاب الله عزّ
وجلّ وهو أحلُّه والكلام عليه
من وجوه
منها ما يعارضه من قوله صلى الله عليه وسلم في رجل علم
رجلاً شيئاً من القرآن ثم أهدَى له قوساً يقاتل به بين يدي
رسول الله له فذكر ذلك المُهدَى له لرسول الله له فقال
قطعة أو قطعتان من نار ۱ فظاهر هذا الحديث يوجب المنع
واختلف العلماء من أجل ذلك فمنهم من قال بالجواز مطلقاً من
أجل الحديث الذي نحن بسبيله ولعله لم يبلغه الحديث الذي
أوردناه ومنهم من منع على ظاهر الحديث الذي أوردناه ومنهم
من جَمَع بين الحديثين - وهو مذهب مالك - فقال ما هو عليك
فرض فلا يجوز أخذ الأجرة عليه وما ليس بفرض فأخذ الأجرة
عليه جائز مثال ذلك على مذهبه من جاء يطلب تعليم أم القرآن
فلا يجوز أن يأخذ منه عليها أجراً إذا كان بالغاً لأنها
عليه فرض لأنها من جملة فرائض صلاته ولا تجزئة إلا بها وإن
أراد تعلم غيرها فله أن يأخذ منه عليها من الأجر ما شاء
وكذلك في سائر أمور الدين كله ما يكون فرضاً في الوقت على
الطالب لا يجوز للمطلوب له أخذ أجر عليه وإن لم يكن
عليه فرضاً فهو بالخيار في ذلك وقد يحتمل الجمع بين
الحديثين بوجه - وهو لا بأس به إذا تأملته - وهو أنه قد
قال من
۱ قال الحافظ في الدراية ۱۸۸/ رواه أبو داود وابن ماجه
وإسناده ضعيف ولفظه عن عبادة بن الصامت قال علمت ناساً من
أهل الصفة القرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقال النبي صلى
الله عليه وسلم إن أردت أن يطوقك الله
طوقاً من نار فاقبلها وللحديث روايات أخرى بألفاظ مختلفة
٦٥٧
وقد قال
شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية من أجلها فقبلها فقد أتى
باباً عظيماً من أبواب الربا۱ عليه السلام لعمر رضي الله
عنه حين أراد أن يشتري الفرس الذي كان حبسه في سبيل الله
لما رآه يباع فقال له عليه السلام لا تَعُد في صدقتك فإن
العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ٢ فلما كان هذا الذي
أهدى القوس للذي علمه كتاب الله ولم يأخذ عليه أجراً فهي
هبة ۳ وهي وسيلة إلى الله وهي من أكبر الوسائل فلما قبل
عليها الهدية فكأنه رجع في معروفه لاخفاء بها وقبول هديته
على شفاعة شفعها له عند الله لأنه الذي قربه إلى مولاه بما
علمه من كتابه فمن أجل هذا قال له قطعة أو قطعتان من نار
ويجوز أولاً اشتراط الأجر لأن الأجر عليه قد أجازه متضمن
الحديث الذي نحن بسبيله
فإذا احتمل هذا الوجه فلا تعارض بينهما والله أعلم
وفي جواز الأجر على تعليمه فائدة كبرى في الدين لا يعلمها
حقيقة إلا ذلك السيد الذي أمر بها أو من فتح الله عليه في
فهم بعضها لأنه بأخذ الأجرة عليه ينتشر تعليمه في الإسلام
ولو لم يكن يجوز ذلك لكان تعليمه نادرا حتى يكون لا يوجد
من يصبر على تعب الأولاد وما هم عليه بلا أجرة وهو محتاج
إلى ضرورة البشر والدوام على ذلك فانظر مع أخذ الأجر عليه
وزيادة ما لهم من الإحسان ما تجد من يوفي حق التأديب إلا
أهل التوفيق منهم فقد أبيح في الدين أشياء ممنوعة من أصول
كثيرة لوجه ما من المنافع ولا تبلغ بعض هذه المنفعة مثل
القراض ٤ والمساقاة ٥ وبيع العارية بخرصها للجُذاذ ٦ وما
أشبه ذلك وهي مستثناة من أصول ممنوعة وهذه توسعة من الله
ورحمة وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج
6
1 رواه أبو داود في البيوع باب في الهدية لقضاء الحاجة
ولفظه من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها إلخ
عن أبي أمامة رضي الله عنه رواه البخاري في الزكاة وفي
الوصايا وفي الجهاد ومسلم في الهبات ومطلعه عن عمر رضي
حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن
أشتريه إلخ وهو موضوع الحديث
118
۳ يعني أن تعليمه القرآن هبة
الله عنه قال
٤ القراض وتسمى شركة المضاربة فيها يدفع أحد الشريكين
المال ويقوم الثاني بالعمل والمتاجرة ويكون
0
3
الربح بينهما بنسبة ما اتفقا عليه
المساقاة تكون على صورة شركة بين مالك الأرض أو بساتين
وبين عامل يقوم بسقاية الأرض أو البساتين
ويكون الربح بينهما بنسبة ما اتفقا عليه من الجَنَى
بيع العارية تكون بمبادلة ثمر شجر غير مجذوذ ورطب بثمر
مجذوذ وجاف وهو المعروف في الفقه بـ بيع
العرايا
۷ سورة الحج من الآية ۷۸
٦٥٨
وفيه دليل على كثرة نصحه لأمته يؤخذ ذلك من بيانه عليه
السلام هذا ومثله قبل أن يسأل عنه
جزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته وقد نص عزّ وجلّ
في كتابه حيث قال لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ ١ أوزَعَنا الله
شُكْرَها مِن نِعمةٍ وتَمَّمَها علينا بفضله
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم
تسليماً
۱ سورة التوبة من الآية ۱۸ سيا البقية
٦٥٩
حديث جواز الرُّقى والأجر عليها
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال انطلق نفرّ من أصحاب
رسول الله الله في سَفرَةٍ سافروها حتى نزلوا على حي من
أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن
يضيقوهم
فلدغ سيّدُ ذلك الحَيَّ فسَعَوا له بكل شيء لا ينفعه شيء
فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا لعله أن
يكون عند بعضهم شيء
فأتوهم فقالوا يا أيها الرَّهْطُ إنّ سيّدنا لدغ وسعَيْنا
له بكل شيء لا ينفعه شيء فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ فقال
بعضهم نعم إنّي والله لأزقي ولكن والله لقد استضفناكم فلم
تضيقونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم
على قطيع
من الغنم
فانطلق وجعل يتفل عليه ويقرأ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ فكأنما نَشَطَ من عقال فانطلق يمشي وما به
قلبة قال فأوفَوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم
اقسموا فقال الذي رَقّى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنذكر الذي كان فننظر ما يأمرنا
فقدموا على رسول الله فذكروا له فقال وما يدريك أنّها
رُقْية ثم قال قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم سهماً فضحك
النبيُّ الله
* *
ظاهر الحديث يدل على جواز أخذ الأجر على الرقية إذا كانت
بكتاب الله عزّ وجلّ والكلام
عليه من وجوه