بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة
المجلد العاشر : أصول الفقه – الفقه الإسلامي

أولًا: أصول الفقه

۱ - ذَوقُ الحَلاوَةِ ببيانِ امْتِناعِ نَسْخِ التَّلَاوَةِ. ۲ - فتح الغني الماجِدِ ببيانِ حُرِّيَّةِ خَبَرِ الواحِدِ. القَوْلُ الجزل فيما لا يُعْذَرُ فيه بالجهل.

٤ - إتقان الصنعة في تحقيق معنى البِدْعَةِ. ه - حُسْنُ التفهمِ والدَّرْكِ لمسئلةِ التَّركِ.

ثانيا: الفقه الإسلامي

٦ - الأدلة الرَّاجِحَةُ على فَرْضِيَّة قِراءَةِ الفاتحة. - الحُجَّةُ المُبَيِّنة لفهم عبارة المُدَوَّنَةِ.

- كشف أنواع الجهل فيما قيل في نُصْرَةِ السَّدّل. ٩ - الرَّأي القويم في وجُوبِ إتمامِ المُسافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ. ١٠ - الصُّبْحُ السَّافِر في تحرير صَلاة المُسَافِر. ١١ - إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثيرٌ مِن النَّاسِ. ۱۲ - القولُ السَّديدُ فِي حُكْمِ اجتماعِ الجُمُعَةِ والعيد. ١٣ - إسماع الصم لاثباتِ تحريمِ غُسْلِ الابن للأم.

۱ - ذَوْقُ الحَلَاوَةِ

ببيانِ امْتِنَاع نَسْخ التلاوة

ذوق الحلاوة

مقدمة

الحمد لله المنعم الوهّاب، الرَّحيم التوَّاب، وفق من شاء لاقتناص شوارد الفوائد، وألهمه فابتكر من المعاني الفرائد وقيَّد من أوابد القواعد ما خفي أو

استعصى على العلماء الأماجد.

والصلاة والسَّلام على سيدنا محمد كريم الخصال والشمائل، الذي أُعطي من المزايا والفضائل، ما لم يُعط للأواخر ولا الأوائل، والرضا عن آله الأكرمين، وصحابته والتابعين.

أما بعد: فهذا بحث لم أُسبق - والحمد لله - إليه، ولا غُلبتُ - والمنة لله عليه، وهو يتعلَّق بنسخ تلاوة آية من القرآن، أي: نسخ لفظها بعد أن كانت من القرآن، فلا تبقى قرآنًا. وهذا هو ما خالفتُ فيه علماء الأصول قاطبةً، ومعهم المتخصصون في علوم القرآن الكريم. وكتبتُ هذا الجزء لبيان ما ذهبتُ إليه، والاحتجاج له بدلائل قطعية، لا تُبقي شكا في صحة قولي، ولو تَفَطَّن لها المتقدِّمون ما عَدَلوا عنها.

ويحسن أن نستشهد بقول ابن مالك رحمه الله تعالى: «وإذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصيَّةٌ، فغير مُستبعد أن يُدَّخَر لبعض المتأخرين ما عشر فهمه على كثير من المتقدمين».

وسأذكر فيه بحول الله مسائل تفرّدتُ بها أيضًا، ومن الله أستمد الإعانة

والتوفيق.

الفقير إليه تعالى

عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري

أصول الفقه

حقيقة النسخ

لفظ الشيخ له ثلاثه مَعَانٍ:

۱ - النقل، يقال: نَسَخْتُ الكتاب أي نقلتُ ما فيه، ومنه قول الله تعالى:

إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية : ٢٩].

٢ - الإزالة ببدل ، يقال : نَسَخَت الشمسُ الظل: أي أزالته وحلت بدله. - الإزالة بدون بدل ، يقال : نَسَخَت الريحُ الأثر، أي أزالته ولم تبق هي أيضًا. هذه معاني النسخ في اللغة العربية.

وأما معناه في عُرف علماء الشريعة، فاختلفوا في تحديده على أقوال، استعرضها الشوكاني مع ما أورد عليها في "إرشاد الفحول"، ثُمَّ اختار في

تحديده قوله: «النسخ: دفع حُكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه». ونبين هذا الحد بمثال : استقبال بيت المقدس كان شرطًا في الصَّلاة، وبعد ستة عشر شهرًا من الهجرة نُسخ باستقبال الكعبة، لقول الله تعالى: فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: ١٤٤].

جواز النسخ ووقوعه

لا خلاف بين العلماء في جواز النسخ ووقوعه أيضًا، ولم يُخالف في ذلك

أحد يعتد بخلافه.

وليس كُلَّ خِلافٍ جَاءَ مُعْتَبرًا إلا خلافٌ له حَقٌّ مِن النَّظَرِ

وأي خلافٍ يُعتبر بعد ثبوت نسخ القبلة بالقرآن؟!

ذوق الحلاوة

۱۱

حكمة النسخ في الأحكام

لا يدخل النسخ في جميع الأحكام، وإنما يدخل في بعضها، وهو:

الوجوب، والتحريم، والإباحة.

ودخول النسخ في هذه الأحكام ضروري لا بد منه، بسبب تطور الأمم، وتدليها أو ترقّيها، ولكل جيل أو أمة أحكام تناسب حالها ومجتمعها، وفي التوراة والإنجيل أحكام وتشريعات نسخها الله في شريعتنا؛ لأنها كانت تناسب مجتمع الإسرائيلين في ذلك العهد، واستنفذت أغراضها، فلم تعد تناسب عصرنا وأمتنا، ولهذا قال الله تعالى: لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا

[المائدة: ٤٨].

و من حِكَمِ النَّسخ في شرعنا تدرُّج بالمكلفين من حسن إلى أحسن، وانتقال بهم من حُكْمِ وقتي إلى حكم دائم ملائم الجميع الأزمان والأشخاص

والمجتمعات.

فلهذه الحكم وغيرها نسخ الله بعض الأحكام في أوقات متتابعة، حتى نزل في حَجَّة الوداع قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣] فكان الإسلام دين البشرية عامة

لاشتماله على تشريعات لا يوجد ما يماثلها، فضلا على أن يكون أرقى منها.

۱۲

أصول الفقه

أقسام النسخ

قسم العلماء النسخ الواقع في القرآن إلى ثلاثة أنواع: ۱ - نسخ معنى الآية دون لفظها، أي نسخ الحكم الذي دلت عليه، فهو

المراد بالمعنى، وهو الذي قدَّمنا أنه ضروري، وبيَّنا بعض حكمه آنفًا. ٢ - نسخ لفظ الآية ومعناها، ومعنى نسخ لفظها إبطال كونها من القرآن

وحرمة وتلاوتها.

حكمها.

نسخ لفظ الآية وبقاء معناها أي إسقاط لفظها وتلاوتها، مع بقاء

هل تنسخ التلاوة؟

قال الآمدي في "الأحكام": اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس، ونسخهما معا، خلافًا لطائفة شاذة من المعتزلة، ويدل على ذلك العقل والنقل؛ أما العقل: فهو أنَّ جواز تلاوة الآية حُكم، ولهذا يُتاب عليها بالإجماع، وما يترتب عليها من الوجوب والتحريم وغير ذلك حُكم، وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقتٍ، ومَفْسَدةً في وقت، وألا يكون إثبات أحدهما مصلحةً مطلقا، وإثبات أحدهما مصلحة في وقت

دون وقت، وإذا كان كذلك، جاز دفعهما معا، ودفع أحدهما دون الآخر». ثُمَّ ذكر في دليل النقل بعض الآثار التي تدل على أنَّ جملا من الكلام، كانت قرآنا ثُمَّ رفعت قرآنيتها وسنذكرها بحول الله.

وكلام الغزالي في "المستصفى"، يوافق كلام الآمدي، وكذا كلام البزدوي الحنفي أيضا، واستدل شارحه علاء الدين البخاري لكلامه بقوله: «فمثل

ذوق الحلاوة

۱۳

صحف إبراهيم فإنَّا قد علمنا حقيقة أنها كانت نازلة، تقرأ ويعمل بها، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى مُحفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: ۱۸ - ١٩] ثُمَّ نُسخت أصلا، ولم يبقى شيء من ذلك بين الخلق، تلاوةً ولا عملًا، فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك بصرفها عن القلوب أي برفعها عنها ، أو هو من مقلوب الكلام أي بصرف القلوب عنها أي عن حفظها».اهـ

وفي هذا الاستدلال نظر ؛ لأن الصُّحف ومثلها التوراة والكتب المنزلة قبل القرآن، لم يرفعها الله من كلامه، وإنما نسخت أحكامها، أما ألفاظها، فهي من كلام الله، ورفعها من القلوب لا يدل على نسخ لفظها، بدليل أنَّ الله عاب على اليهود تحريف الكلم عن مواضعه، ولو كان لفظها نُسخ لما عابهم على تحريفه. أمثلة لما قيل بنسخ تلاوته

وهي دليل النقل الذي استدل به مُجيزو نسخ التلاوة بنوعيه وقد نقل الحافظ السيوطي منها جملةً وافرةً في كتاب "الإتقان"، وأنا أذكرها محذوفة

الأسانيد؛ لأنها على فرض صحتها لا تقوم بها حُجَّةٌ في هذا الموضوع الخطير. ففي "صحيح مسلم" عن عائشة قالت: كان فيما أنزل: «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحرِّمنَ، فَنُسِخن بخَمْسٍ مَعْلُومات، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهُنَّ ثما يُقرأ من القرآن». وهو من أفراد مسلم، وعزاه السيوطي للشيخين فوهم. وفي "الصحيحين" في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا وقنت

١٤

أصول الفقه

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يدعو على قاتليهم، قال أنس: «ونزل فيهم قرآن قرآناه حتَّى رُفع: أن بَلّغوا عَنَّا قومنا أنا لَقِينا ربَّنا فرضِيَ عَنَّا وأرضانا». وروى أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال: إنَّ رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلَّم قال لي إنَّ اللهَ أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال فقرأ: لن يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ ﴾ [البينة: ١] قال: نقرأ فيها: «ولو أنَّ ابن آدم سأل واديًا مِن مالٍ فأُعْطِيه لسأل ثانيًا، ولو سأل ثانيا فأُعْطِيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدمَ إِلَّا التراب، ويتوب الله على مَن تاب وأنَّ ذات الدين القيم عند الله الحنيفيَّة، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرًا فلن

يُكْفَرَهُ». وهو في "الصحيحين" عن أنس، ليست فيه هذه الزيادة. وروى الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ فيه راو متروك، عن ابن عمر، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إيَّاها، فكان يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يُصَلِّيان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكرا ذلك له، فقال: «إنها مما نُسخ ونسي، فالهوا عنها».

وروى أحمد، والنسائي، عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ (سورة الأحزاب) ؟ أو كأين تعدُّها؟ قال: قلت: ثلاثا وسبعين آيةً، فقال: أقط؟ لقد رأيتها وإنها لتُعادِل (سورة البقرة)، ولقد قرأنا فيها: «الشيخ

والشيخة إذا زَنَيا فارٌ جُموهما البَيَّة نَكَالًا مِن الله، والله عزيز حكيم».

قال ابن كثير : وهذا إسناد حسن، وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثُمَّ

ذوق الحلاوة

١٥

نُسخ لفظه وحُكْمُه أيضًا» . اهـ

وروى أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ " بإسناد فيه ابن لهيعة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا ما هو الآن». عنعنه ابن يعة، وهو مدلّس.

وروى الحاكم عن حذيفة قال: «ما تقرؤن ربعها». يعني سورة براءة. وروى أبو عبيد عن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوحي إليه أتيناه، فعلمنا ما أوحي إليه، فجئتُ ذات يوم فقال: «إنَّ الله يقول: إنَّا أنزلنا المال لإقامة الصَّلاة وإيتاء الزكاة، ولو أنَّ لابن آدم واديًا لأحبَّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان إليه الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدمَ إِلَّا التراب، ويتوب الله على مَن تابَ». وفي سنده راوِ مختلف فيه. وروى أيضًا عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو (براءة) ثُمَّ رفعت، وحفظ منها: «إنَّ الله سيؤيد هذا الدين بأقوامٍ لاخلاق لهم، ولو أنَّ لابن آدم واديين من مال لتمنى لهما ثالثا .... إلخ.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي موسى أيضًا قال: كنا نقرأ سورةً شبهها بإحدى المسبحات نسيناها، غير أنّي حفظتُ منها: «يا أيها الذين آمنوا لا

تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة». وروى أبو عبيد عن عدي بن عدي قال: قال عمر: «كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم»، ثُمَّ قال لزيد بن ثابت: «أكذلك؟» قال: «نعم». فيه انقطاع.

١٦

أصول الفقه

وروى أبو عبيد عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف

ألم تجد فيها أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟» فإنا لا نجدها؟

قال: «أُسقطت فيها أُسقط من القرآن».

وروى أبو عبيد أيضًا عن أبي سفيان الكلاعي أنَّ مسلمة . مخلد بن الأنصاري، قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن، لم تكتبا في المصحف؟ فلم يخبروه، فقال: «إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ألا أبشروا أنتم المفلحون والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين

جزاء بما كانوا يعملون».

وروى أبو عبيد أيضًا عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم: قد أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله ؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: قد أخذتُ

منه ما ظهر. وروى أيضًا عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة، في مصحف عائشة : إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما، وعلى الذين يصلُّون الصفوف الأول».

قالت: «قبل أن يُغيّر عثمان المصاحف». وحميدة وأبوها مجهولان.

وقال ابن المنادي في "الناسخ والمنسوخ " : "ومما رفع رَسْمُه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورة القنوت في الوتر، وتسمى سورة الحقد والخلع». وابن المنادي حافظ كبير، وهو تلميذ أبي داود.

ذوق الحلاوة

۱۷

فهذه الآثار هي الدليل النقلي الذي تمسك به القائلون بنسخ التلاوة. وحكى القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الانتصار" عن قوم إنكار هذا النوع من النسخ؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حُجَّة فيها.

وهذا صحيح، وأقول زيادة عليه وإضافة إليه: إنَّ نسخ التلاوة، يقضي العقل باستحالته، وهذا ما لم يتفطّن إليه أحد ممن قالوا بالجواز، بل بنوا كلامهم على أنَّ رسم الآية في المصحف حكم، وتلاوتها حكم، فيجوز نسخها كما يجوز نسخ الحكم الذي دلّت عليه بلفظها. وغفلوا عما قرروه: أنَّ مِن الأحكام ما لا

يجوز نسخه، وهذا منها.

الأسباب التي اقتضت امتناع نسخ التلاوة

والأسباب التي اقتضت امتناع نسخ التلاوة، هي:

١ - أنه يستلزم البَدَاء، وهو ظهور المصلحة في حذف الآية بعد خفائها، وهو في حق الله محال، وما أبدوه من حِكْمةٍ في جوازه مجرد تمحل وتكلُّف لا يدفع المحال.

٢ - أن تغيير اللفظ بغيره أو حذفه بجملته إنما يُناسب البشر لنقصان علمه وعدم إحاطته، ولا يليق بالله الذي يعلم السِّرَّ ،وأخفى، فإنا نرى الكاتب البليغ والخطيب المفوَّه ينشيء موضوعا يتأنق فيه، ثُمَّ يعيد نظره عليه فيجد أنَّ بعض كلماته

وجمله يجب أن يحذف وبعضها يجب أن يغيّر بما هو أفصح منه أو أوفق أو أليق. ٣- أن ما قيل : أنه كان قرآنًا ونسخ لفظه، لا نجد فيه أسلوب القرآن ولا

۱۸

أصول الفقه

طلاوته ولا جَرْس لفظه .

٤ - أنَّ منه ما يخالف أسلوب القرآن قال الله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة [النور: ۲] قال العلماء: قدّمت الزانية في الذكر للإشارة إلى أنَّ الزنا منها أشدُّ قبحًا، ولأنَّ الزِّنا في النّساء كان فاشيا عند العرب، لكن إذا

قرأت: «الشيخ والشيخة إذا زَنَيا»، وجدت الزَّاني مُقدَّمًا في الذِّكْر، على خلاف الآية، وهذا يقتضي أن تقديم أحدهما كان مصادفة لا لحكمة، وهذا لا يجوز؛ : لأن المقرر المعلوم أنَّ ألفاظ القرآن الكريم موضوعةٌ وضعا حكيما، بحيث لو قدم أحدهما عن موضعه أو أُخر اختل نظام الآية.

ه - أنه ورد في سبب نسخ هذه الجملة من القرآن أخبار منكرة، نبين ما فيها باختصار:

في "صحيح البخاري: باب الاعتراف بالزنا»، وذكر عن ابن عباس قال: قال عمر : لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد

الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ على من زنى وقد أحصن».

ولم يرو البخاري قول عمر : وقد قرأناها: الشيخ والشيخه إذا زَنَيا..»

إلخ. قال الحافظ : ولعل البخاري تركها عمدا» . اهـ قلت: وقد أصاب. ومن الروايات المنكرة، ما رواه النسائي: أنَّ مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى الشابين الثيبين يُرجمان؟! وهذه نكارة واضحةٌ، كيف يترك زيد آية الرّجم لأنها تخالف حكم الشابين

ذوق الحلاوة

المحصنين ؟!

۱۹

رواية أخرى منكرة، روى الحاكم عن كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف فمرَّا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الشيخ والشَّيْخَةُ إِذا زَنَيا فاز مجموهما البتّة»، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم ) يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رُحِم.

قال الحافظ ابن حجر: «فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها،

لكون العمل على غير الظاهر من عمومها . اهـ

قلت فيه نكارتان

إحداهما: كراهة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لكتابة آية الرَّحِمِ، وكيف

یکره كتابة آية أنزلت عليه ؟!

والأخرى قول عمر: ألا ترى أنَّ الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد... إلخ.

كيف يعترض عمر على آية يعتقد أنها أنزلت من عند الله ؟! وقول الحافظ: يستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون

كثيرة العمل على غير الظاهر من عمومها . سهو منه رحمه الله، ففي القرآن عمومات كثيرة لم ينسخ لفظها مع أنَّ عمومها غير مراد، ولكن بين المراد منها بمخصصات في القرآن أو الحديث، ولم يكن الله ليحذف آيةً من القرآن بسبب اعتراض بعض المكلفين عليها، فهذه النكارات تؤيد أنَّ آية الرَّجُمِ لم تكن من

۲۰

أصول الفقه

القرآن قطُّ، وسميناها آيةً تجوزًا، وإلا فهي حديث على أكثر تقدير. (تنبيه) روى عبدالرزاق في "المصنف" قول عمر في آية الرجم كما رواه . غيره، وزاد عقبة وقال الثوري: بلغنا أنَّ ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كانوا يقرءون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة، فذهبت حروف من

القرآن» . اهـ

وهذا منكر جدًّا، ولا بُدَّ أنَّ الذي بلّغه لسفيان الثوري شيطان تمثل في

.

صورة إنسان، أو يهودي ادعى الإسلام، وإني لأعجب من سفيان الثوري -

رحمه الله - كيف راج عليه هذا الكذب المفضوح وهو يقرأ قول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

٦ - أنَّ تلك الجُمَل التي كانت من القرآن فيما قبل، جاءت مقتطعة، لا رابط يربطها بآيات القرآن الكريم، ولم يقولوا لنا أين كان موضعها في المصحف الشريف.

- إذا قرأت خواتيم (سورة البقرة) وخواتيم (سورة آل عمران)، وما فيها من دعاء وتوجه إلى الله بأسلوب في نهاية البلاغة، ووازنته بما قيل إنها كانت سورة الحفد، وجدت الفرق بينهما بعيدًا جدًّا، هو الفرق بين كلام الله، وكلام البشر؛ لأن قنوت الحفد من إنشاء عمر رضي الله عنه. - تقرّر في علم الأصول أنَّ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وما لم يتواتر لا يكون قرآنا، والكلمات التي قيل بقرآنيتها ليست بمتواترة، فهي شاذة، والشاد

ليس بقرآن ولا تجوز تلاوته

ذوق الحلاوة

۲۱

٩ - أنَّ السُّنَّة النبوية وقع فيها نسخ المعنى أي الحكم كما وقع في القرآن الكريم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رجع عن لفظ من ألفاظ حديثه، أو بدله بغيره، أو قال للصحابة عن حديث: لا تحفظوه فقد نسخت لفظه، أو رجعت عنه، فلا تُبلغوه عني. لم يثبت هذا عنه أصلا، بل صح عنه من طُرُق بلغت حَدَّ الاستفاضة والشهرة، أنه قال: «نضَّر اللهُ امْرَءًا سَمِع مقالتي فوعاها ، فأدَّاها كما سمعها ، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يجوز أن يُنسب إلى الله تعالى رجوعه عن لفظ آية، أو نسخ تلاوته؟!

إشكال

يلزم القائلين بنسخ التلاوة إشكال خطير لو فطنوا له لعدلوا عن قولهم، وأنا أبينه بعد تقديم مقدمة تُمهد لبيانه:

عرف أهل الأصول الحكم الشرعي بأنه: «خطاب الله المتعلق بفعل المكلف». وخطاب الله كلامه، وهو قديم، وإنما توجه إلى المكلفين بعد

وجودهم بشروط التكليف بأن يفعلوا كذا ويجتنبوا كذا.

ومعنى نسخه: أنَّ الله أسقط .

عنهم

العمل به، مع أنه لا يزال كلام الله، ولا

يزال حكمه، وإنما بطل تعلقه بنا، وأبدلنا الله به حكما آخر، يليق بضعفنا، أو

يكون أكثر ثوابا لنا .

إذا تمهد هذا فأقول: معنى نسخ التلاوة عند القائلين به: أنَّ الله أسقط الآية

۲۲

أصول الفقه

المنسوخة من القرآن، وهذا خطير جدا؛ لأن كلام الله قديم، وكيف يعقل أن يُغير الله كلامه القديم بحذف آياتٍ منه ؟ وما القول في هذه الآيات المنسوخة ؟ هل يقال كانت من كلام الله، والآن ليست منه ؟!

وكيف يجوز هذا والله تعالى يقول: لا نَبدِيلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ ﴾ [يونس: ٦٤] إشكال لا سبيل إلى حله.

الجواب عن آيتين

تقرر في علم الأصول أنَّ ظواهر النصوص تُؤوّل لتوافق الدليل العقلي؛ لأن الظواهر تقبل التأويل، وتأويلها لا يلزم عنه خَلَلٌ في مدلولها إذا كان جاريًا على نهج اللغة وقواعدها، بخلاف ما دلّ عليه العقل واقتضاه ضرورة أو نظرا، فإنه لا يدخله احتمال، ولذلك لا يقبل تأويلا ولا تخصيصا. وقد ثبت بما ذكرناه من الأدلة استحالة نسخ تلاوة آية من القرآن، فوجب

تأویل آيتين، قد يتوهم بعض الناس أنهما تفيدان بما قضي العقل باستحالته. الأولى: قول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: ١٠٦].

روى أبو داود في "الناسخ " ، وابن جرير، وابن أبي حاتم في "تفسيرهما" عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعودٍ في قوله: مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ : تُثبت

خطها وتبدل حكمها، أَوْ نُنسِهَا : نؤخّرها عندنا.

ورواه ابن جرير عن ابن أبي نجيح ، عن أصحاب ابن مسعود كذلك.

ذوق الحلاوة

۲۳

وروى ابن جرير عن ابن عباس والسُّدِّي وغيرهما في قوله: أو

تنيها : «أو نتركها لا نبدها».

قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه بقوله: مَا نَنسَحْ مِنْ آيَةٍ إلى غيره فنبدله ونُغيّره، وذلك أن يُحوّل الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورًا والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق،

والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. اهـ ومعنى الآية : مَا نَنسَخ من حكم اية فنبدله بغيره أو ننيها أو نتركها فلا نغيّر حكمها، وكذلك قراءة «ننساها» معناها: نؤخّرها فلا تغير حكمها، والمؤخَّر متروك نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا للمكلف، إن كان خفيفا فخيريته بسهولته، وإن كان شديدا فخيريته بكثرة ثوابه. فالنسخ والترك لحكم الآية وأسند في الظاهر إلى الآية لأنها أصله وهو

مدلولها، وهذا نوع من الإيجاز المعروف في القرآن.

ونظيره قول الله تعالى: ﴿ وَشَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ [يوسف: ٨٢] أي أهلها. وهذا

الذي قررناه، هو المتعين، لا يجوز غيره.

وما رُوي عن الصحابة والتابعين من حمل النسخ في الآية على نسخ اللفظ

والتلاوة، يردُّه أمران:

أحدهما : ما بيناه من استحالة ذلك.

والآخر بقيَّة الآية، فإنَّ قوله تعالى: نَاتِ بخير منها يعين إرادة الحكم،

٢٤

أصول الفقه

لأن ألفاظ القرآن وآياته بالنسبه للمكلَّفين سواء، تلاوة حرف منها بعشرة حسنات كما في الحديث، ولكن الأحكام تتفاوت، فالحكم السهل خير للمكلف . للمكلف من الحكم الصعب، والحكم الكثير الصواب خير

الحكم القليل الثواب.

من

وأمر ثالث يردُّ ذلك التفسير : وهو أنَّ اليهود لعنهم الله حسدوا المسلمين حين حولهم الله من بيت المقدس إلى الكعبة، وهم يعلمون أنها قبلة إبراهيم عليه السّلام، فقالوا: إنَّ محمدا يأمر أصحابه بشيء ثُمَّ ينهاهم عنه، فنزلت الآية ردا عليهم، ونزل في حقهم أيضًا قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَهُمْ عَن قِبْلَيْهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

[البقرة: ١٤٢]

فكان اعتراضهم على تبديل حكم بحكم. ومعرفة سبب نزول الآية يُعين على فهمها، ويرجح أحد محتملاتها على غيره.

الآية الأخرى قوله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَكَانَ وَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: ١٠١].

وهذه الآية مكية نزلت للرد على المشركين.

قال البغوي في "تفسيره : ( وَإِذَا بَدَلْنَا ءَايَةً مَكَانَ ءَايَةٍ يعني: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يترك أعلم بما هو أصلح لخلقه، فيما يبدل ويغيّر من أحكامه قَالُوا إِنَّمَا

ذوق الحلاوة

۲۵

أنت يا محمد مفتي مختلق، وذلك أنَّ المشركين قالوا: إنَّ محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا، ما هو إِلَّا مُفْتَرِ يتقوَّله من تِلْقاء

نفسه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ حقيقة القرآن، وبيان الناسخ والمنسوخ». فالآية نزلت مثل سابقتها، في الرد على من أنكر نسخ الأحكام، فعقب هذه الآية بجملة: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) لأن المنكرين أميون، ولم يعقب آية (البقرة) بمثل هذه الجملة، لأن المنكرين هناك أهل كتاب، وهم أهل علم. وإلى هنا انتهى ما أردت تقريره وتحريره ، ولم أرد استيفاء الكلام على النسخ، فإن ذلك يُطلب من كتب الأصول.

ولا بأس أن نورد مسائل، لا توجد في غير هذا الكتاب.

ما ينسخ من الأحكام

الحكم الشرعي ينقسم إلى خمسة أنواع:

الواجب هو ما يُثاب فاعله، ويُعاقب تاركه والمندوب وهو ما يُثاب فاعله، ولا يُعاقب تاركه

والحرام وهو ما يُعاقب فاعله، ويُثاب تاركه

والمكروه وهو ما يثاب تاركه، ولا يُعاقب فاعله. والمباح: وهو ما ليس في فعله أو تركه ثواب أو عقاب.

والذي يدخله النسخ من هذه الأنواع ثلاثة :

الواجب، والحرام، والمباح.

٢٦

أصول الفقه

أما المندوب فلا يدخله نسخ ؛ لأنه فضيلةٌ والفضائل لا تُنسخ، فإن ادعى أحد في مندوب أنه نسخ فهو مخطئ.

والمكروه لا يُنسخ أيضًا؛ لأنه يقابل المندوب، فهو تابع له.

ومن الفضائل التي لا تنسخ، خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وفضائله التي أعطاها الله له، في نفسه أو في أمته.

قد ينسخ الحكم مرتين

نكاح المتعة أُبيح وحُرِّم مرَّتين أو ثلاثاً، ثُمَّ حُرِّم آخر مرة تحريما مؤبدا إلي

يوم القيامة.

روى الحازمي في كتاب "الاعتبار " حديث ابن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصي فنهانا عن ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، ثُمَّ رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء.

وهو في "الصحيحين" وعقب عليه بقوله: «وهذا الحكم كان مباحًا مشروعا في صدر الإسلام وإنما أباحه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للسبب الذي ذكره ابن مسعود، وإنما كان ذلك يكون في أسفارهم، ولم يبلغنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم أباحه لهم وهم في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنه غير مرة،

ثُمَّ أباحه لهم في أوقاتٍ مختلفة حتى حرَّمه عليهم في آخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في حَجَّة الوداع، وكان تحريم تأبيد لا تأقيت».اهـ فعلم من هذا: أنَّ كلَّا من المباح والحرام قد ينسخ أكثر من مرة.

ذوق الحلاوة

الواجب إذا نسخ لا يعود واجبًا

۲۷

أما الواجب فلا ينسخ إلا مرة واحدة، وإن كان تعدد نسخه جائزا كالمباح

والحرام، لكنه لم يقع، وإليك أمثلة من ذلك : - قيام الليل كان واجبًا ثُمَّ نُسخ.

- الوضوء لكل صلاةٍ كان واجبًا ثُمَّ نُسخ

- صيام عاشوراء كان واجبًا ثُمَّ نُسخ.

- مُصابرة المسلم لعشرة من الكفَّار كانت واجبةً ثُمَّ نُسخ وجوبها. وهكذا من تتبع فروع الشريعة لم يجد واجبًا نُسخ ثُمَّ أُعيد وجوبه مرة

أخرى.

وحكمة ذلك: أنَّ الوجوب إلزام المكلف بالفعل، والإلزام شديد على النفس ولو بالشيء اليسير، ونسخه: إسقاطه، وهو تخفيف، والتخفيف فضل من الله لا يليق به أن يعود فيه.

ومن هنا أخطأ من أوجب ركعتين في السَّفَر مستندا إلى قول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأُقِرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر ركعتين». مع أنه صح في الحديث أنَّ الصلاة فرضت ليلة الإسراء أربع ركعات،

وعلى القول بأنها فرضت ركعتين فإنها تمت أربعًا بعد الهجرة بشهر، كما جاء عن عائشة نفسها، ثُمَّ في السنة الرابعة من الهجرة شرعت صلاة السفر على سبيل الرخصة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبَكُم فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْلِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: ١٠١]، وقال النبي صلى الله عليه

۲۸

أصول الفقه

وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عن المُسافِر الصّومَ وشَطر الصَّلاة». أي: نصفها. فكانت الركعتان في السَّفَر مندوبةً لا واجبة، والنبي صلى الله عليه وآله

وسلَّم أتم في السفر، لبيان أنَّ القصر ليس بواجب.

أما الحرام فإنّ مدلوله المنع من الفعل أي تركه، والترك أي عدم الفعل هو الأصل، فلذا تعدد نسخه الحكمة اقتضت ذلك. هذا وبالله التوفيق.

تم تحريرا صباح يوم الأحد ۱۲ من شعبان سنة ١٤٠١ هـ والحمد لله ربِّ

العالمين.

فائدةٌ مُهِمَّةٌ نفيسة

قال علماء الأصول والمعاني الخبر: ما احتمل الصدق والكذب لذاته. وهذا التعريف ذكره أهل المنطق أيضًا، وهو مُسلَّم عندهم لم يختلفوا فيه.

ولكن العلامة المحقق أبو القاسم ابن الشاط أبدى عليه اعتراضا وجيها صحيحًا، فنذكره ليستفاد

عرف الشهاب القرافي في "الفروق" الخبر بالتعريف المذكور، وقال في محترزاته: «وقولنا: لذاته، احتراز من تعذر الصدق أو الكذب فيه لأجل المخير به بكسر الباء أو المخبر عنه - بفتحها - فالأول كخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم أو خبر مجموع الأمة فإنه لا يقبل الكذب، والثاني كقولنا : الواحد نصف الاثنين فإنه لا يقبل الكذب أو الواحد نصف العشرة فإنه لا يقبل الصدق، ولكن جميع هذه الإخبارات بالنظر إلى ذاتها مع قطع

النظر عن المخبر به أو المخبر عنه، تقبلهما من حيث هي أخبار».اهـ

ذوق الحلاوة

۲۹

وقال العلامة ابن الشاط: الصحيح حد الخبر أو رسمه بأنه: قول يلزمه الصدق أو الكذب، فإنه لا ينفك عن ذلك البته».

وكتب على قول القراقي: ولكن جميع هذه الإخبارات بالنظر إلى ذاتها تقبلها من حيث هي إخبار ما نصه: «هذا الذي ذكره من قبول الخبر الصدق أو الكذب من حيث هو خبر مقتضاه أن خبر الله تعالى من حيث هو خبر يقبل الكذب لذاته، وما هو ذاتي لا يتبدل، وهذا ليس بصحيح، بل خبر الله تعالى لا يصح أن يكون كذبًا ولا يصح أن يقبل الكذب، وكذلك قول القائل: الواحد نصف الاثنين لا يصح أن يكون كذبًا ولا يصح أن يقبل الكذب، وليس الخبر بالنسبة إلى قبول الصدق والكذب كالجوهر بالنسبة إلى قبول السواد والبياض وسائر الألوان، فإن الخبر: الأظهر أنه لا يعرى البتة عن أن يكون صِدقًا أو كذبًا فما ثبت صدقه لا يصح كذبه بعد، وما ثبت كذبه لا . يصح صدقه بعد لاستحالة ارتفاع الواقع. والجوهر إما أن يكون عروة جائزا وإما ممتنعا وإما مشكوكا على حسب اضطراب الناس في ذلك، وما ثبت سواده يصح بياضه بعد، وما ثبت بياضه يصح سواده بعد» . اهـ

.

وهو تحقيق بالغ، وفيه إشارة إلى ما في كلام الجمهور من تناقض لم ينتبهوا له، فإن قولهم: خبر الله مقطوع بصدقه وهو بالنظر إلى ذاته يحتمل الكذب - أي يقبله - تناقض صريح إذ كيف يكون الخبر صادقًا، وهو في الوقت نفسه يحتمل الكذب ويقبله ؟! هذا غير معقول ولا مقبول.

أصول الفقه

وما أشار إليه العلامة بقوله: «والجوهر إما أن يكون عروة جائزا ... إلخ.

يقصد به الخلاف في الجوهر هل يجوز خلوه عن الأعراض أو لا يجوز؟. وفي "جمع الجوامع" مع شرحه للمحلّي: «ويمتنع خلو الجوهر مفردًا كان أو مركبا عن جميع الأعراض بأن لا يقوم به واحد منها، بل يجب أن يقوم به عند وجوده شيء منها، لأنه لا يوجد بدون التشخص، والتشخص إنما هو بالأعراض» . اهـ وهذه المسألة مبسوطة بأدلتها في كتابي: "الطوالع " و"المواقف" وشروحهما.

والخلاصة من هذه الفائدة تنحصر فيما يأتي:

١ - تعريف الخبر بأنه قول يلزمه الصدق أو الكذب، وهو لا يخلو عن أحدهما، فإما أن يكون صادقًا أو كاذبًا.

٢ - الخبر الصادق لا يحتمل الكذب ولا يقبله والخبر الكاذب لا يحتمل الصدق ولا يقبله؛ لأن ما ثبت صدقه لا يجوز كذبه ، وما ثبت كذبه لا يجوز

صدقه.

- تعريف الخبر بأنه ما يحتمل الصدق والكذب لذاته غير صحيح، يلزم منه أن خبر الله أو خبر رسوله يحتمل الكذب لذاته، وهذه عظيمةٌ من العظائم، نسأل الله السلامة منها، وبالله التوفيق.

٢ - فَتْحُ الغَنيّ المَاجِدِ

ببيان حُجيَّةِ خَيْرِ الوَاحِدِ

فتح الغني الماجد

۳۳

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا

محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.

أما بعد: فهذا بحث في وجوب العمل بخبر الآحاد" أسأل الله أن يجعله

خالصا له، وبالله التوفيق.

٣٤

أصول الفقه

تعريف خبر الآحاد

الخبر إن كان له طرق كثيرة غير محصورة في عددٍ مُعيَّن بحيث يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب، أو يحصل منهم مصادفة، فهو المتواتر المفيد للعلم الضروري، وإن كان له طريق واحد، أو طرق محصورة فهو خبر الآحاد، ويعنينا منه مسألتان :

المسألة الأولى

هل يفيد العلم أو الظن فقط ؟!

اختلف العلماء في ذلك على مذاهب يمكن تلخيصها فيما يلي:

١ - أنه يفـ

ه يفيد العلم : قال ابن حزم في "الأحكام": «قال أبو سليمان -يعني داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم: أن خبر الواحد العَدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجب العلم والعمل معا، وبهذا نقول» . اهـ

وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن

مالك بن أنسي. وقال به أيضًا الإمام أحمد بن حنبل، نقله عنه الشبكي في "جمع الجوامع"، والشوكاني في "إرشاد الفحول".

٢ - يفيد الظنَّ: نقله الشبكي في جمع الجوامع" عن الأكثر، ونقله ابن حزم في "الأحكام" عن الحنفية والشافعية وجمهور المالكية وجميع المعتزلة والخوارج. ٣- يفيد العلم بالقرينة لا بنفسه وهو قول الآمدي وابن الحاجب،

فتح الغني الماجد

۳۵

واختاره الشبكي في "جمع الجوامع".

- الخبر المستفيض يفيد العِلْم النَّظريّ: حكاه السبكي في "جمع الجوامع"

عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وابن فورك. ه - يفيد العلم الظاهر: حكاه الغزالي في "المستصفى" عن بعضهم(1)

ويحسن أن أورد عبارة الغزالي لبسطاتها ووضوحها، قال في الكلام على الأخبار ما لفظه: «مسألة: اعلم أنَّا نُريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد، وأما قول الرسول عليه الصلاة السَّلام - مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد، وإذا عرفت هذا فنقول: خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة، فإنّا لا نُصدّق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أنَّ ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنَّما هو الظن.

ولا تمسك لهم في قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَتِ ﴾ [الممتحنة: ١٠] وأنَّه أراد الظاهر؛ لأنَّ المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان

دون الباطن الذي لم يكلف به، والإيمان باللسان يُسمَّى إيمانا مجازا. ولا تمسك لهم في قوله تعالى: وَلَا نَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: ٣٦]

(۱) هو أبو بكر القفال كما في "إرشاد الفحول".

٣٦

أصول الفقه

وأنَّ الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به؛ لأنَّ المراد بالآية منع الشاهد عـ جزم الشَّهادة إلا بما يتحقق». اهـ

وقول الغزالي: «فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نُصَدِّق بالضدين؟». هذا دليل الجمهور لقولهم: أن خبر الواحد يفيد الظن. وحاصله أن يقال : لو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض، إذا أخبر عدلان بخبرين متناقضين كما يحصل في تعارض البينتين، ووجود تعارض بين خبرين يفيدان العلم يستلزم ثبوت الواقع وعدم ثبوته، وهو محال فثبت أن خبر الواحد يُفيد الظَّن.

وأما القائلون بأن خبر الواحد يفيد العلم، فاستدلوا لقولهم: بأن الإجماع حاصل على وجوب العمل بخبر الواحد، ولو لم يفيد العلم لما وجب العمل به

بل يحرم؛ لأنَّ الله تعالى ذم الظنَّ بقوله سبحانه : إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ [الأنعام: ١١٦] فثبت أنه يفيد العلم.

وأجاب الجمهور بأنَّ الآية مخصوصةٌ بأصول الدين – أي العقائد- فإنّها

يجب أن تُبنى على العلم، ولا يجوز العمل فيها بالظن.

وسياق الآية يُفيد ذلك، فإنّها سيقت لذم المشركين الذين يسمون الملائكة باسم الإناث، ويزعمونهنَّ بنات الله تعالى. أما فروع الدين: فالعمل فيها بالظَّنِّ واجب، ألا ترى أنَّه يجب العمل بظاهر الكتاب - مع أنه مظنون- لاحتماله

التأويل.

واستدل ابن حزم لإفادة خبر الواحد العِلْمَ بدليل آخر فقال: أخبر الله

فتح الغني الماجد

۳۷

تعالى بأن كلام نبيه في الدين كله وحيٌّ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يوحَى ) [النجم: ٣ - ٤ ، والوحي ذكر منزل بلا خلاف بين أهل اللغة والشريعة، وقد وعد الله بحفظ الذكر في قوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فجميع الذكر محفوظ من الضياع بوعد الله الصادق، ولو كان خبر الواحد يفيد الظنَّ لزم عليه أنَّ بعض الذكر ضاع أو احتمل الضياع، فيتخلف وعد الله، وتخلف وعد الله محال، فثبت أن خبر الواحد يُفيد العلم.

واستدل الآمدي وابن الحاجب لقولهما: بأنَّ رجلا لو أخبر بموت ولده المشرف على الهلاك، ورأيناه أحضر الكَفَنَ والنَّعْشَ، وسمعنا البكاء من بيته،

قطعنا بصحة خبره لاحتفافه بالقرائن

واختار الحافظ ابن حجر هذا القول، وجعل الخلاف بينه وبين قول الجمهور لفظيا وعبارته في "النخبة وشرحها: «وقد يقع فيها أي: أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهورٍ وعزيز وغريب ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار خلافًا لمن أبى ذلك. والخلاف في التحقيق لفظي؛ لأنَّ من جوز اطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر وما عداه عنده كله ظني، لكنه لا ينفي أنَّ ما احتف بالقرائن أرجح مما خلا عنها» . اهـ

(تنبيه): تقدَّم في عبارة الغزالي قوله: «وأما قول الرسول عليه الصلاة

السَّلام - مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد» . اهـ

أشار به إلى أنَّ قول المعصوم الذي دلّت المعجزة على صدقه، يُسمى خبر

۳۸

أصول الفقه

حجة ودليلا وبرهانا، يجب على من علمه أن يقبله بدون توقف كما يجب قبول أي دليل نقلي أو عقلي، أمَّا خبر الواحد فلا يُقال إلا على خبر غير المعصوم كصحابي أو تابعي أو راو من رواة الأحاديث. والحديث النبوي : يُسمى خبر آحادٍ باعتبار وصوله إلينا عن طريق رواة لم يصلوا إلى حد التواتر.

".

المسألة الثانية

خبر الآحاد حُجَّةٌ يعمل به في بابي الفتوى والشهادة بدليل الإجماع. حكاه الإمام الرازي في المحصول ، والشبكي في "جمع الجوامع" فيجب العمل بما يفتي به المفتي من الأحكام، ويجب على القاضي أن يحكم بشهادة الشاهد العدل أو الشاهدين العدلين.

أما بقية الأبواب الفقهية من عبادات ومعاملات، فالعمل فيها بخبر الآحاد واجب لأدلة كثيرة من الكتاب والسُّنَّة، ولإجماع الصحابة على قبوله

والعمل به. قال البخاري في "الصحيح : باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصَّلاة والصوم والفرائض والأحكام، قول الله تعالى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: ١٢٢] الآية، ويُسمَّى الرجل طائفة لقوله تعالى: وَإِن طَائِفَنَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ [الحجرات: 9]. فلو اقتتل رجلان دخل معنى الآية، وقوله تعالى : إن جَاءَكُم فَاسِقُ بِنَا فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: ٦]، وكيف بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم

فتح الغني الماجد

۳۹

أمراءه واحدًا بعد واحد، فإن سها أحد منهم رُدَّ إلى السُّنَّة» . اهـ كلامه. وقال الغزالي في "المستصفى": الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين: أنَّه لا يستحيل التعبد

بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا، وأنَّ التعبد به واقع سمعا، وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاشاني بتحريم . سمعا . ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان:

أحدهما: إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد.

العمل به

والثاني: تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الولاة

والرسل إلى البلاد وتكليفه إيَّاهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع» . اهـ وفي هذا الكلام إجمال لأدلة العمل بخبر الواحد، ويمكن تفصيلها

بتقسيمها إلى ثلاثة أنواع:

۱ - القرآن.

٢ - السنة.

٣- إجماع الصحابة.

ولما كانت حُجَّيَّة خبر الواحد أصلا من الأصول، أحببت أن أبسط الكلام

على هذه الأدلة حسب ترتيبها المذكور.

الدليل من القرآن

أما القرآن فيدلُّ منه على حجية خبر الواحد آيات:

أصول الفقه

الآية الأولى: قول الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَنَفَقَهُوا

في الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: ١٢٢]. قال الإمام الرازي في "التفسير " : هذه الآية حُجَّةٌ قويَّةٌ لمن يرى أنَّ خبر الواحد حُجَّةٌ، وقد أطنبنا في تقريره في كتاب "المحصول" والذي نقوله منها: أنَّ كلَّ ثلاثة فرقةٌ، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحدا، فوجب أن تكون الطَّائفة إما اثنين وإمَّا واحدا، ثمَّ إِنَّه تعالى أوجب العمل بإخبارهم؛ لأنَّ قوله: ﴿وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ ﴾ [التوبة: ۱۲۲) عبارة عن إخبارهم، وقوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: ۱۲۲] إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حُجَّة».

وقال ابن حزم في "الأحكام" : أوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارة النافر منها، بأمره النافر بالتفقة وبالنذارة، ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم، والطَّائفة في لغة العرب يقع على الواحد فصاعدا، وطائفةٌ من الشَّيء بمعنى بعضه، هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه، وإنَّما حدَّ مَن حدَّ في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: ٢] أنهم أربعة، لدليل ادعاه، وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة، ولم يدَّع قط قائل ذلك القول أنَّ الطَّائفة في

فتح الغني الماجد

٤١

اللغة لا تقع إلا على أربعة، والذي يتلخص من هذين النصين أنَّ الآية تدل

على حجية خبر الواحد من جهتين

١ - أنَّ الطَّائفة حقيقة في الواحد فما زاد، والمراد بها هنا: واحد أو اثنان؛

1

لأنَّ الفرقة ثلاثة.

٢ - أنَّ أمر الطَّائفة بالتفقه والإنذار يتضمن إيجاب قبول نذارتها، ويرشّح هذا الإيجاب قوله : لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: ١٢٢]؛ ولأنه لو لم يجب قبول الإنذار لم يكن في الأمر به فائدة.

الآية الثانية: قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَهَا فَتَبَيَّنُوا أَن

تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة [الحجرات: ٦] الآية.

وجه الدلالة منها: أنَّ الله تعالى أوجب التثبت في خبر الفاسق، وذلك يقتضي أن خبر العدل واجب القبول.

قال الإمام الرازي في "التفسير": «تمسك أصحابنا في أنَّ خبر الواحد حُجَّةٌ، فقالوا: عُلَّل الأمر بالتوقف بكونه فاسقا، ولو كان خبر الواحد العدل

لا يُقبل، لما كان للترتيب على الفاسق فائدة، وهو من باب التمسك

بالمفهوم» . اهـ وهو مفهوم المخالفة، وأورد ابن حزم في "الأحكام" هذه الآية بجانب الآية الأولى، وعلق عليها بقوله: «لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلًا أو فاسقا، ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته، فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم يبق إلا العدل

٤٢

أصول الفقه

فكان هو المأمور بقبول نذارته، وهذا برهان ضروري لا تحيد عنه، وقد توهم

من لا يعلم أنَّا إِنَّما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى : وإِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَا فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا ﴾ [الحجرات: ٦] فقط، وقد أغفل من تأوّل علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها، لما كان فيها ما يدلُّ على قبول خبر العدل، ولكن استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه، فصارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان» . اهـ

وحاصل كلامه أنه استدل بالآيتين على قبول خبر الواحد العدل بطريقة التقسيم الحاصر.

الآية الثالثة: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَأَهْدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيِّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَبِ أُوَلَتَبِكَ يَلْعَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَتُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ﴾ [البقرة: ١٥٩ - ١٦٠] الآية.

قال الإمام الرازي: من النَّاس من يحتج بهذه الآيات في قبول خبر الواحد، فقال: دلّت هذه الآيات على أنَّ إظهار هذه الأحكام واجب، ولو لم يجب العمل بها لم يكن إظهارها واجبا، وتمام التقرير فيه قوله تعالى: إلا

الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ﴾ [البقرة: ١٦٠] فحكم بوقوع البيان بخبرهم . اهـ وفي "صحيح البخاري: عن أبي هريرة قال: إنَّ النَّاس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم تلا : إِنَّ الَّذِينَ

فتح الغني الماجد

٤٣

يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ ﴾ [البقرة: ١٥٩]، إلى قوله: الرَّحِيمُ [البقرة:

.[١٦٠

الآية الرابعة: قوله تعالى: يَنَايُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ [المائدة: ٦٧]. قال بعض الأئمة: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رسولا إلى النَّاس كافة ويجب عليه تبليغهم بنص هذه الآية، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكلِّ ضرورة لتعذر خطاب . جميع النَّاس شفاها،

وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم». اهـ

قال الحافظ ابن حجر: «وهو مسلك جيد» . اهـ

٤٤

أصول الفقه

الدليل من السنة

وأما السُّنَّة، فأحاديث كثيرة جدًّا زادت على حد التواتر المقرر، وروتها كتب السيرة وكتب الحديث المختلفة، وتداولها العلماء بالدرس والتحصيل، حتى قال الحافظ ابن حزم في "الأحكام": «إِنَّ بَعْثَ النَّبِيِّ رسولًا إلى كل جهةٍ من الجهات القريبة أو البعيدة، كاليَمَن ونجران والبحرين وغيرها مشهور بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشكُ فيها أحد من العلماء ولا من

المسلمين». اهـ

وسأحاول تتبع تلك الأحاديث من مصادرها الصحيحة وأستوفيها حسب استطاعتي: 1 - روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى - مع عبد الله ابن حذافة السهمي - فأَمَرَهُ أَن يَدْفَعَه إلى عَظِيمِ البحرين، فدفَعُهُ عَظِيمُ البحرين إلى كِسْرَى، فلما قرأه مَزَّقَهُ، فدعا عليهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يُمَزَقُوا كُلِّ مُمَزَّقٍ».

وروى مسلم في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه قال: إِنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كَتَبَ إلى كِسْرَى وإلى قيصر وإلى النَّجَاشِي وإلى كُلِّ جَبَّارٍ عنيد، يَدْعُوهُمْ إلى الله تعالى، وليس بالنَّجَاشِي الذي صلّى عليه النبيُّ صلَّى الله عليه

وآله وسلم. ٢ - ثبت في "الصحيحين" عن ابن عباس «أن أبا سفيان بن حرب أخبره من فيه إلى في قال: انطلقتُ في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله

فتح الغني الماجد

٤٥

عليه وآله وسلّم، قال: فبينما أنا بالشَّام، إذ جيءَ بكتابٍ مِن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى هِرَقْلَ عَظيم الرُّوم، قال: وكان دِحية جاء به فدفعه إلى عظيم بُصْرَى، فدفعه عَظِيمُ بُصْرَى إلى هِرَقْل» وذكر قصة إرسال هرقل إلى أبي سفيان، وسؤاله عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهرقل هو قيصر. روى الطبراني في "المعجم "الكبير" عن المسور بن مخرمة قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أصحابه فقال: «إِنَّ اللهَ بَعَثَني رحمةً للنَّاسِ كافّة فأدُّوا عَنِّي رحمكم الله». فبعث عبد الله بن حذافة إلى كِسْرَى، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن سَاوَى صاحب هَجَر، وبعث عمرو بن العاص إلى جَيْفَر وعبد

رویه

ابني الجلندي مَلِكي عمان، وبعث دِحْية الكَلْبي إلى قيصر، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ابن أبي شمر الغساني، وبعث عمرو بن أميَّة الضَّمْري إلى النَّجَاثِي، فرجعوا جميعا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير عمرو بن العاص.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري: وزاد أصحاب السير أنه بعث المهاجر بن أبي أمية بن الحارث بن عبد كلال وجريرا إلى ذي الكلاع، والسائب

إلى مسيلمة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس . اهـ ٤ - روى أحمد بإسناد صحيح عن مَرْثَد بن ظبيان قال: جاءنا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فما وجدنا له قارئًا يقرؤه علينا، حتى قرأه رجل من بني ضُبَيعَةَ: «من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بكر بن وائل «أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا».

٤٦

أصول الفقه

.

وروى البزار وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أنس قال: قال: كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا» فما وجدوا من

يقرأه لهم، إلا رجل من بني ضُبَيْعَةَ فهم يُسمون بني الكاتب.

يفيد هذان الحديثان أنَّ بكر بن وائل - وهم قبيلة اعتمدوا في قراءة الكتاب على رجل واحد، وأسلم من أسلم منهم بسبب ذلك، وصار بنو ضبيعة من اليوم يدعون إلى الكاتب، وهو يدلُّ أيضًا على أنَّ بني ضُبيعة كانوا

يعتمدون على كاتبهم في قراءة ما يحتاجون إليه من رسائل وغيرها. ه روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إِلَّا الله وأَنَّ محمدا رسول الله ، فإن هم أَطَاعُوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله قد فَرَضَ عليهم خمس صلوات في كُلّ يوم وليلةٍ، فإن هم أطاعُوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله قد فَرَضَ عليهم صَدَقَةٌ تُؤخَذُ مِن أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعُوا لك بذلك فإيَّاك وكَرَائِمَ أموالهم، واتَّقِ دعوة المظلُومِ فإنَّه ليس بينها وبين الله

حِجَابٌ». ورواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة وغيرهم. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" أثناء الكلام على ما يستنبط من هذا الحديث: «وفيه بَعثُ السُّعاة لأخذ الزكاة، وقبول خبر الواحد ووجوب العمل

به . اهـ

وقال الإمام النووي في "شرح مسلم " ما نصه: «في هذا الحديث قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به». اهـ

فتح الغني الماجد

٤٧

(تنبيه): وقع هذا الحديث في "صحيح البخاري": عن ابن عباس، عن النبي

صلَّى الله عليه وآله وسلّم. قال الحافظ ابن حجر: «وكذا في جميع الطرق فهو مِن مُسند ابن عباس، لكن قال مسلم في "صحيحه": حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن وكيع. قال أبو بكر: حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن

عبدالله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس عن معاذ بن جبل. قال أبو بكر: ربما قال وكيع: عن ابن عباس أنَّ معاذا قال: بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم».اهـ

فالحديث على هذه الرواية مِن مُسنَد معاذ، قال الحافظ ابن حجر: «لكن لم أر ذلك في غير رواية أبي بكر بن شيبة، وسائر الروايات أنَّه من مُسند ابن عباس، فإن ثبتت رواية أبي بكرٍ فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد؛ لأنَّه كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو إذ ذاك مع أبويه في المدينة وكان بَعْثُ معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حَجِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما ذكره المصنف في أواخر "المغازي"». أهـ

٦ - روى البخاري في "صحيحه" عن أبي بُرْدَةَ قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قال: وبعث كلُّ واحدٍ منهما على تخلاف، قال : واليمن خلافان، ثُمَّ قال: «يَسِّرُا ولا تُعَسّرًا وبَشِّرا ولا تُنفّرا». فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، فجعلا يتزاوران.

٤٨

أصول الفقه

قال الحافظ ابن حجر: «المخلاف: بكسر الميم وسكون المعجمة، وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن، وهو الكورة والإقليم، وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان في عمله الجند - بفتح الجيم والنون - وله بها مسجد مشهور إلى اليوم وكانت جهة أبي موسى السُّفْلَى» . اهـ

وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تُصنَع بها؟ فقال: وما هي؟ قال: البتعُ

والمِزْرُ. فقال: «كلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ».

روی ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عباس، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم برسالة فقلت: يا رسول الله: تبعثني وأنا غلام حديث السِّنِّ ؟ فأسأل عن القضاء ولا أدري ما أجيب قال: لا بد من ذلك أن أذهب بها أنا أو أنت فقلتُ: إن كان ولا بُدَّ فأنا أذهب. فقال: انطلق فإنَّ الله تعالى يُثبت لسانك ويَهْدِي قَلْبَكَ» ثمَّ قال: «إِنَّ النَّاس يتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تَقْضِي لواحِدٍ حَتَّى تسمع كلام الآخر، فإنَّه أجدر أنْ تَعْلَمَ لمن الحق».

وروى الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس قال: بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى اليمن عليا فقال: «عِلمهم الشرائع و اقضِ بينهم». فقال: لا علم لي بالقضاء، فدفع في صدره وقال: «اللَّهمَّ اهْدِهِ للقضاء». قال الحاكم:

حديث صحيح على شرط الشيخين.

والرسالة التي أخذها علي عليه السَّلام كتاب من النبي صلى الله عليه وآله

فتح الغني الماجد

٤٩

وسلَّم إلى همدان، فذهب به عليّ وقرأه عليهم فأسلموا جميعا، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بإسلامهم. فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثمَّ رفع رأسه، وقال: السَّلام على هَمْدان». رواه الإسماعيلي في "مستخرجه" ونقله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".

قال الواقدي في كتاب "الرَّدَّة" : حدثني معاذ بن محمد بن أبي بكر بن عبدالله بن أبي جهم، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة، قال: بَعَثَ رَسُولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوَى

العبدي بالبحرين، لكيالِ بَقِينَ مِن رجب سنة تِسْعِ مُنْصَرِفَه عليه السَّلام مِن تبوك - وكتب إليه كتاباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، مِن محمد رسول الله إلى المنذر بن سَاوَى، سَلَامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بعد: فإني أدعوك إلى الإسلام، فأَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يجعل الله لك ما تَحْتَ يَدَيْك، واعلم أنَّ دِيني . سيَظْهَرُ إلى مُنْتَهى الحف الخفٌ والحَافِرِ". وخَتَمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الكتاب. وخرج العلاء بن الحَضْرَمِي إلى المنذر ، ومعه نفر: فيهم أبو هريرة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اسْتَوْصِ بِهِم خَيْرًا»، وقال له: «إِنْ أجابك إلى ما دَعْوَته إليه، فأقم حتّى يأتيك أمري، وخذ الصدقة من أغنيائهم، فرُدَّها في فقرائهم»، قال العلاء فاكتب لي يا رسول الله كتابا يكون معي، فكتب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فرائِضَ الإِبِلِ، والبَقَرِ، والغَنَمِ، والحرْثِ ، والذَّهَبِ والفِضَّةِ، على وجهِهَا ، وقَدِمَ العلاء بن الحَضْرَمِي عليه، فقرأ الكتاب، فقال: أشهد أنَّ ما دَعَا إليه حَقٌّ، وأنَّه لا إله إلَّا الله وأن محمدًا عبدالله ورسوله. وأكرم منزله ورجع ا ن العلاء، فأخبر النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

0.

أصول الفقه

وسلَّم خَبَرَهُ، فَسُرَّ .

(تنبيه): قال الزُّرقانيُّ في "شرح المواهب": «لم نر أحدا ذكر لفظ كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى المنذر» . اهـ

قلت: قد ذكره الواقدي كما سبق، ونقله عنه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (ج ٤ ص ٤١٩ ) . ۹ - روی ابن سعد في "الطبقات" عن عمرو بن شعيب، عن مولى لعمرو قال: سمعت عمرو بن العاص أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كتب إلى جَيْفَر وعبد ابني الجلندي الأزديينِ مَلِكَي عمان وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جَيْفَر وعبدِ ابني الجَلَنْدي، سلامٌ على من اتبع ا الهدى،

أما بعد: فإني أدعوكما بدِعَاية الإسلام أسْلِما تَسْلَما، فإنِّي رسول الله إلى النَّاس كافَّةٌ لأُنْذِرَ مَن كان حَيَّا ويَحِقَّ القول على الكافرين، وإنَّكما إن أقْرَرْتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتها أن تُقِرًا بالإسلام فإن مُلْكَكُما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكها، وتظهر نبوّتي على مُلْكِكُما وكتبه أبي بن كعب وختم رسول الله

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الكتاب.

قال عمرو بن العاص : فخرجت حتى انتهيت إلى عمان فقدمت على عبد وكان أسهل الرجلين. فقلت له: إنّي رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدَّم عليَّ بالسن والملك، أنا أوصلك إليه فيقرأ كتابك. ثُمَّ سألني أين كان إسلامي؟ فقلت له: عند النجاشي. وأخبرته أنَّ النجاشي أسلم. فقال: ما أظنُّ أنَّ هرقل عرف بإسلامه. قلت: بلى عرف. قال من أين لك؟ قلت: كان النجاشي يخرج خراجا فلما أسلم، قال:

فتح الغني الماجد

۵۱

والله لو سألني درهما واحدًا ما أعطيته، فلما بلغ ذلك هرقل قيل له: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجًا ويدين دينًا مُحدَئًا؟ فقال: وما الذي أصنع؟ رجل رغب في واختاره لنفسه، والله لولا الضَّن بمُلْكِي لصنعت مثل الذي صنع . . ع فقال:

دين

انظر يا عمرو ما تقول ؟! إنَّه ليس مِن خصلة في الرَّجُل أفضح له من الكذب. فقلت له: والله ما كذبت، وإنَّه لحرام في ديننا فقال: وما الذي يدعو إليه؟ قلت: يدعو إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر بطاعة الله والبرِّ وَصِلَة الرَّحَم، وينهى عن المعصية، وعن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر وعبادة الحجر والوَثَنِ والصَّليب. فقال: ما أحسن هذا لو كان أخي يتابعني لركبنا إليه حتى نؤمن به، ولكنَّ أخي أضَنُّ بملكه من أنْ يَدَعه. قلت: إِنَّه إِن أسلم مَلَّكه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على قومه. قال: ثُمَّ أخبر أخاه بخبري، فدعاني فدخلت عليه ودفعت إليه الكتاب، ففضه وقرأه ثُمَّ دفعه إلى أخيه فقرأه مثله، إلَّا أنَّ أخاه أرق منه، وقال لي: ما صنعت قريش؟ قلت: ما منهم

أحد إلا وأسلم إمَّا راغبا في الإسلام، وإمَّا مقهورًا بالسيف، وقد دخل النَّاس في الإسلام وعرفوا بعقولهم مع هداية الله أنَّهم كانوا في ضلال، وإنّي لا أعلم أحد بقي غيرك، وأنت إن لم تُسلّم توطئك الخير وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم. قال: دعني يومي هذا. قال: فلما خلا به أخوه، قال: ما الذي نحن فيه؟ وقد ظهر أمر هذا الرجل وكلُّ من أرسل إليه أجابه. قال فلما أصبح أرسل إلي وأجاب هو وأخوه إلى الإسلام جميعًا، وخليا بيني وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، وكانا عونا لي على من خالفني. ۱۰ - روی مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي بَرْزَةَ رضي الله عنه، قال: بَعَثَ

۵۲

أصول الفقه

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رجُلًا إلى حيَّ مِن أَحْيَاءِ العربِ فَسَبُوهُ وضربوه، فجاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لو أنَّ أهل عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ». بَعَثَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رسوله إلى حي من العرب يدعوهم إلى الإسلام فأساءوا استقباله، وهو يدلُّ على قبول خبر الواحد، وإلا لما اكتفى

النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم برجل يبعثه، كما يدل على فضل أهل عمان. ومثله في ذلك ما رواه أحمد وأبو يعلى عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنِّي لأعلَمُ أرضًا يُقال لها عُمان

يَنضح بناحيتها البحر ، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حَجَرٍ». ۱۱- قال ابن عبدالبر في "الاستيعاب" في ترجمة حاطب بن أبي بلتعة: روى عبدالرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه قال: حدَّثني يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى المقوقس مَلِك الإسكندرية فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثُمَّ بعث إليَّ وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام أحبُّ أن تفهمه مني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبيًّا ؟ قلت: بلى هو رسول الله . قال : فما له حيث كان هكذا لم يَدْعُ على قومه حين أخرجوه من بلدته إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم، أتشهد أنه رسول الله ؟ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا صَلْبَه ألا يكون دعا عليهم بأن يُهلكهم الله، حتى رفعه الله إليه في سماء الدنيا. قال: أحسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم.

فتح الغني الماجد

۵۳

ولفظ كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى المقوقس مذكور في كتب

السيرة ومطبوع على حدة، وقد عُدَّ المُقَوْقِس في الصَّحابة.

قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": وعده أبو نعيم، وابن مَنْدَه في الصحابة وغلط فيه، والصحيح أنه مات نصرانيا.

ورجّح الحافظ ابن حجرٍ أيضًا في "الإصابة"، أنه مات نصرانيا. ١٢ - ذكر الواقدي أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كتب إلى النَّجَاشِي كتابًا، وأرسله مع عمرو بن أمية الشَّمري، فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من مُحمَّد رسول الله إلى النَّجاشِيٌّ مَلِك الحَبَشَة، سلام عليك، فإنِّي أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أنَّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول فحملت به فخلقه من روحه ونفخه كما خَلَقَ آدمَ بيده وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأنْ تتَّبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله، وإنِّي أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلَّ، وقد بلغتُ ونَصَحْتُ فاقبلوا نَصيحتي، والسلام على مَن اتَّبع الهدى».

قال: فكتب إليه النَّجاشي: «بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من أصحمة النجاشي، سلام عليك يا نبي الله، من الله ورحمة الله، وبركات الله، الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فورب السَّماء والأرض إنَّ عيسى لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقًا، وإنَّه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله صادقًا مُصَدِّقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمتُ على و

يديه الله رب العالمين».

أصول الفقه

وثبت في "الصحيحين" أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نعى النَّجاشي للصحابة يوم وفاته وخرج بهم إلى المطي فصلُّوا عليه، رحمه الله ورضي عنه.

ولم يكن صحابياً؛ لأنَّه لم يَلْقَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

١٣ - روى ابن إسحاق في "المغازي" عن عمر بن معبد الجذامي، عن أبيه قال: وفد رفاعة بن زيد الجذامي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فكتب له كتابًا فيه : مِن محمَّد رسول الله لرفاعة بن زيد، أنّي بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله فمن آمن ففي حِزْبِ الله وحِزْبِ رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين». فلما قدم على قومه أجابوه.

١٤ - روى الطبراني عن خالد بن سعيد قال: بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: «مَن مَرَرْتَ به مِن العرب فسمعت فيهم الآذان فلا

تعرض له، ومن لم تسمع فيهم الأآذان فادعهم إلى الإسلام». ١٥ - ذكر الواقدي أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعث إلى هَوْذَة بن علي صاحب اليمامة، كتابًا مع سليط بن عمرو العامري، فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هَوْذَة بن علي، سلامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى اعْلَم أَنَّ ديني

سيظهر إلى منتهى الخفَّ والحَافِرِ أَسْلِمْ تَسْلَم، وأجعل لك ما تحت يديك». فلما قدم عليه سَلِيطٍ أنزله وحيَّاه، وقرأ عليه الكتاب، فكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله! وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل إليَّ بعض الأمر أتبعك». وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هَجَر .

فتح الغني الماجد

00

فقدم بذلك كله على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأخبره وقرأ عليه كتابه، فقال: «والله لو سألني سَيابةً من الأرض ما فعلتُ، بَادَ وبَادَ ما في يديه». فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السَّلام بأَنَّ هَوْذَة مات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم «أما اليمامة فسيخرج بها كذَّابٌ يتنبأ ، يُقتل بها بعدي فقال قائل: يا رسول الله مَن يقتله ؟ قال: «أنت وأصحابك فكان كذلك. ١٦ - روى أبو داود في "سننه" قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا قُرَّة قال: سمعت يزيد بن عبدالله قال : كنَّا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر ، فقلنا : كأنك من أهل البادية. فقال: أجل. قلنا: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك ، فناولناها فقرأناها ، فإذا فيها: «من محمد رسول الله إلى بني زُهير بن أُقيش، إنَّكم إن شهدتم أنْ لا إله إِلَّا الله وأَنَّ محمدا رسول الله، وأقمتم الصَّلاةَ، وآتيتم الزَّكاةَ ، وأدَّيتم الخُمْسَ مِن المَعْنَمِ، وَسَهْمَ النبيِّ صلَّى اللَّه

عليه وآله وسلم وسهم الصفي، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله». فقلنا: من كتب لك هذا الكتاب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه أبو داود في كتاب الخراج من "سننه" في باب سهم الصفي. وأخرجه النسائي في "سننه" في كتاب قسم الفيء، عن يزيد بن الشخير قال: بينا أنا مع مُطَرفٍ بالمربد، إذ دخل رجل معه قطعة أديم، فقال: كتب لي هذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهل أحد منكم يقرأ؟ قلت: أنا أقرأ فإذا فيها: «من محمد لبني زُهير بن أُقْيَش، أَنَّهُم إِنْ شهدوا أَنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقروا بالخمس في

٥٦

أصول الفقه

غنائمهم، وسَهْمِ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وصفيه، فإنَّهم آمنون بأمان الله

ورسوله».

وهذا الرجل هو النمر بن تولب جاء مصرَّحًا به في رواية ابن قانع في كتاب "الصحابة".

وقال المزرباني: كان النمر شاعرًا ،فصيحًا، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتب له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كتابًا، ونزل البصرة بعد

ذلك.

۱۷ - روى أصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن عُكَيم عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كتب إلى جُهَيْنَة قبل موته بشهر: «أنْ لا تنتَفِعُوا من الميتة بإهَابٍ ولا عَصَبٍ.

ورواه ابن حبان في "صحيحه": عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: قريء علينا كتاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ونحن بأرض جهينة: «أن لا تنتفعوا مِن المَيْتة بإهاب ولا عَصَبِ».

۱۸ - قال سيف بن عمر الضبي في كتاب "الردة": حدثنا المستنير ابن يزيد، عن عروة بن غزية الدثني عن الضَّحاك بن فيروز، عن حشيش الديلمي قال: قدم علينا وبرة بن يحنس بكتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنُّهوض في الحرب، والعمل على الأسود الكذاب، وذكر قصة قتل الأسود العنسي بطولها، وقال في آخرها: شنئًا الغارة وكتبنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بالخبر وهو حي قد أتاه الوحي من

فتح الغني الماجد

Ov

ليلته، وأخبر أصحابه بذلك، وقدمت رسلنا بعده على أبي بكر الصديق، فهو

الذي أجابنا على كتبنا.

وقصة قتل الأسود العنسي المتنبئ الكذَّاب مشهورة في كتب المغازي، وكان قد ظهر باليمن وتغلب على صنعاء وقتل عامل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بها وهو بادام الفارسي.

۱۹ - روى أبو داود في "سننه" من طريق أبي كَبْشَة السَّلُولي عن سهل ابن الحنظلية قال : قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مكانه فقال: يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس.

ورواه ابن أبي شيبة من هذا الطريق، وزاد فأخذ رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلَّم الصَّحيفة فنظر فيها فقال: «قد كتب لك بما أمر لك». ۲۰ - روى النَّسائي في "سننه" من طريق الزهري عن أبي بكر بن محمد بن

عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسُّنَن والديَّات، وبعث به عمرو بن حزم، فقرأت على أهل اليمن هذه نسختها: «من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى شُرَخبيل بن عبد كُلالٍ، ونُعيم بن عبد كلال، والحارث بن عبد كُلَالٍ، قَيْلِ ذي رُعَين ومَعَافِر وهَمْدَان. أما بعد .. » وكان في كتابه: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ

۵۸

مائة

أصول الفقه

مؤمنا قتلا عن بيّنةٍ فإنَّه قَودٌ، إلَّا أن يرضى أولياء المقتول، وأنَّ فِي النَّفس الدِّيَة من الإبل، وفي الأنْفِ إذا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَة، وفي اللسان الدِّيَة، وفي الشفتين الديَة، وفي البَيْضَتين الدِّيَة، وفي الذَّكر الديَة، وفي الصُّلْب الدِّيَة، وفي العينين الدية، وفي الرّجل الواحدة نصف الدّيّة، وفي المأمومة ثلث الديَّة، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السِّنِّ خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأنَّ الرجل يُقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار». وهو كتاب طويل، روى النسائي منه هذا القدر، وروى مالك منه بعض

القول أيضًا، وحديث: أنْ لا يَمَسَّ القرآنَ إِلَّا طَاهِرُ».

ورواه ابن حبان في صحيحه " ، وذكر منه ما يأتي: «وإنَّ أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله

يوم الزَّحْفِ، وعُقوق الوالدين، ورَمْيُ المُحْصَنة، وتعلم السِّحْر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم»؛ نقله الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب".

ورواه أبو داود في "مراسيله" فذكر فيه مقادير الزكاة والديات والكبائر وأحكامًا أخرى، وكذلك رواه الحاكم في "المستدرك" وصححه، ونقل ابن الجوزي في كتاب "التحقيق" أنَّ الإمام أحمد صححه أيضًا، وقال الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه، كان أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والتابعون يرجعون إليه ويدعون ! آرائهم. ا

. اهـ من نصب الراية" (ج ٢ ص ٢٤٣).

فتح الغني الماجد

۰۹

وفي هذا أوضح دليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وترك الرأي

لأجله.

۲۱ - قال الواقدي في كتاب "الرَّدَّة": حدثنا محمد بن عبد الله بن كثير، عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قال: لما قَدِمَ وفد عِنْدَة مسلمين أطعم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بني وليعة أطعمة من ثمار حضرموت، وجعل على أهل حضرموت نقلها إليهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك كتابًا، وأقاموا أياما ثمَّ سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث عليهم رجلًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لزياد بن لبيد البياضي الأنصاري: سِر مع هؤلاء القوم، لقد استعملتك عليهم فسار زياد معهم عاملا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على

.

حضرموت على صدقاتها، الخفّ والماشية والثمار والكراع والعشور، فقال زياد يا رسول الله بأبي أنت وأمّي اكتب لي كتابًا لا أعدوه إلى غيره، ولا أقصر دونه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أُبي بن كعب فكتب له: «هذا كتاب من محمد رسول الله في الصدقات، فمن سُئِلها على وجهها فليُعْطِها: في كلّ أربعين شاة سائمةٍ شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت شاةٌ ففيها ثلاث شياءٍ إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت ففي ك كل مائة شاة، وفيها دون خمس وعشرين من الإبل السَّوائِم في كل خمس شاةٌ، فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مَخاض، فإذا لم توجد بنت تخاض ففيها ابن لَبُونٍ ذَكَرُ إلى أن تبلغ ستّا وثلاثين، فإذا بلغت ستّا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى أن تبلغ

٦٠

أصول الفقه

ستا وأربعين، فإذا بلغت ففيها حِقَّةٌ إلى أن تبلغ ستين، فإذا كانت إحدى وستين ففيها جَدَعَةٌ إلى أن تبلغ خمسا وسبعين، فإذا كانت ستّا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حِقَّتان طَرُوقَنَا الجَمَل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا زادت ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقَّةٌ لا يُفرّق بين مُجتمع، ولا يُجمع بين متفرق، وفي صَدَقة البَقَر، في كل ثلاثين من البقر تبيع جَدَعٌ أو جَذَعَةٌ، وفي كلّ أربعين مُسِنَّة، وفيما سقت السَّماء، وسقي بالنيل العُشر، وفيما سقي بالغَرْبِ نصف العُشْر مِن النَّخل والعِنَبِ إِذا

بلغ خمسة أَوْسُق، وإذا بلغت رِقّة أحدكم خمس أَوَاقٍ ففيها ربع العشر». ۲۲ - روى البخاري في "صحيحه" عن ثمامة أنَّ أنسًا حدَّثه: أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب حين وجهه إلى البحرين: «بسم الله الرحمن ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

الرحيم . على المسلمين، والتي أمر الله بها ،رسوله، فمن سُئلها من المسلمين فليعطِها على وجهها، ومن سُئل فوقها فلا يُعْطِ، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاةٌ، إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت تحاضي أنثى، فإذا بلغت ستّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستّا وأربعين إلى ستين ففيها حِقَّةٌ طَرُوقة الجمل، فإذا بلغت واحدةً وستين إلى خمس وسبعين ففيها جَذَعَةٌ، فإذا بلغت ستّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حِقَّتان طَرُوقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل

فتح الغني الماجد

٦١

خمسين حِقَّةٌ، ومن لم يكن معه إلَّا أربع من الإبل فليس فيها صَدَقَةٌ، إلَّا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاةٌ، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على

ثلاث مائة ففي كل مائة شاةٌ، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدةً فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها». وقد روى البخاري هذا الحديث في أحد عشر موضعا من "صحيحه" بإسنادٍ واحدٍ، مستدلا به لعدة أحكام، وهو دليل واضح في حُجيَّة خبر الآحاد.

.

۲۳ - روى الطبري عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أميرًا على الحج، وأمره أن يقيم للنَّاس حَجَّهم. وفي "صحيح البخاري : عن الزهري: أنَّ حميد بن عبدالرحمن أخبره أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه - بعثه في الحَجَّة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قبل حَجَّة الوَدَاع في رَهْطٍ يؤذن في النَّاسِ: «أَلَّا يَحُجَنَّ بعد العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفنَّ بالبيتِ عُرْيانٌ».

-

٢٤ - روى الطبري من طريق زيد بن يُنْيَع عن علي رضي الله عنه قال: بعثني النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين أنزلت براءة بأربع: «أنْ لا يَطُوفُ بالبيت عُرْيانُ، ولا يَقْرَبُ المسجد الحرامَ مُشْرِكٌ بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عهد فهو إلى مُدَّته، ولا يدخل الجنَّةِ إِلَّا نَفْسٌ

٦٢

أصول الفقه

مُسلِمَةٌ». وروى الترمذي نحوه عن عليّ، وقال: «حديث حسن صحيح». وروى أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: «لا يَنْبَغِي لأحدٍ أَنْ يُبلغ هذا

إلا رجلٌ مِن أهلي فدعا عليا فأعطاه إيَّاه.

قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب».

قال العلماء الحكمة في إرسال علي ببراءة، أن عادة العرب جرت بالا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في

ذلك على عادتهم، وهذا واضح من قوله: «لا يُبلغ هذا إِلَّا رجلٌ مِن أهلي». ورواه عبدالله بن أحمد في زوائد" "المسند" من حديث علي عليه السَّلام

قال : لما نزلت عشر آياتٍ من براءة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبا بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال لي : أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه، فاقرأه على أهل مكة فأخذت الكتاب منه، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: «لن يؤدّي عنك إلَّا أنت أو رجلٌ منك». وهذا يفيد أنَّ اختيار علي كان بوحي. وروى إسحاق بن راهويه في "مسنده" والدارمي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه، حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح، فسمع رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وآله

فتح الغني الماجد

٦٣

وسلم، فإذا عليّ عليها فقال له: أمير أم رسول؟ فقال: بل أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ببراءة أقرؤها على النَّاس فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم، قام أبو بكرٍ فخطب النَّاس بمناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة، حتى ختمها ثُمَّ كان يوم النحر كذلك، ثمَّ يوم النفر كذلك. وللحديث طرق غير هذه، وفيه دليل على حُجَّيَّة خبر الواحد، ووجوب العمل به حيث بعث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبا بكرٍ يُبلغ النَّاس

مناسك حجهم، وبعث عليَّا يبلغهم سورة براءة وما فيها من أحكام. ٢٥- روى أحمد في "مسنده" عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنت رسولي إلى أهل مكة، فقل إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقرأ عليكم السلام ويأمركم بثلاث: لا تَحْلِفُوا بغير الله، وإذا تَخَلَّيْتُم فلا تَسْتَقْبِلُوا القبلة ولا تَسْتَدْبِرُوها، ولا تَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ وَلَا بِبَعْرَةٍ». ورواه الدارمي في "سننه".

٢٦ - روى الشيخان عن عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَنْ أَكْفِئُوا القُدُور، فلا تَطْعَمُوا مِن لُحُومِ الحُمُرِ شيئًا»، فقلنا: إنَّما نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها لم تُخمس، وقال آخرون: حرَّمها البتة. وفي "صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: أصبنا يوم خيبر . مرا

فنادی منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أَنْ أَكْفِتُوا القُدُورَ».

٦٤

أصول الفقه

وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أنس قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر أصبنا حُمرًا خارجًا من القرية، فطبخنا منها، فنادى منادي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَلَا إِنَّ الله ورسوله يَنْهَيَانِكُم عنها، فإنَّها

رِجْسٌ مِن عمل الشَّيطانِ». فأُكْفِئت القُدُور بما فيها، وإنَّها لتَفُور بما فيها. وروى مسلم عن أنس أيضًا :قال: لما كان يوم خيبر جاءَ جاء فقال: يا رسول الله أُكِلَت الحمر، ثمَّ جاء آخر فقال: يا رسول الله أفنيت الحمر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أبا طلحة فنادى : إِنَّ الله ورسوله يَنْهَيَانِكُم

عن لحوم الحمر ، فإنَّها رِجْسٌ أو نَجس. قال: فأكفئت القُدُور بما فيها. أفادت هذه الأحاديث: أنَّ الصَّحابة أكفئوا القُدُور، بمجرد سماع منادي

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وذلك دليل على حُجَّيَّة خبر الواحد. ۲۷ - روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأُيَّ بن كعب شرابًا من فَضِيخِ وهو تمر، فجاءهم آتٍ فقال: إنَّ الخمر قد حُرّمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها ، قال أنس: فقمت إلى مِهْرَاس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت. وهذا لفظ البخاري.

وفي رواية للشيخين أيضًا فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر

الرَّجُل.

قال النووي في شرح مسلم: «فيه العمل بخبر الواحد، وأنَّ هذا كان معروفًا عندهم». اهـ كلامه.

فتح الغني الماجد

70

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «وهو حُجَّةٌ قويَّةٌ في قبول خبر الواحد؛ لأنهم أثبتوا به نسخ الشيء الذي كان مباحًا حتى أقدموا من أجله على تحريمه والعمل بمقتضى ذلك» . اهـ كلامه.

وقال الدارقطني في "سننه" : خبر الواحد يوجب العمل، وروى فيه حديث أنس نحو رواية الشيخين، وقال بعده قال أبو عبدالله وهو عبيد الله ابن عبد الصمد ابن المهتدي بالله هذا يدلُّ على أنَّ خبر الواحد يوجب العمل».اهـ

وأبو عبدالله هو شيخ الدارقطني في هذا الحديث.

۲۸ - روى البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لأهل نجران: «الأبعثنَّ إليكم رجلا أمينًا حَقَّ أمين». فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث أبا عبيدة.

رواه البخاري في باب إجازة خبر الواحد، ورواه أيضًا في قصة أهل نجران. وذكر الحافظ ابن حجر في "شرحه" ما فيهما من الفوائد والأحكام، فقال: وفيها بعث الإمام الرّجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه» . اهـ

۲۹- روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم ،آتٍ فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قد أنزل عليه الليلة ،قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت

وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. قال الحافظ ابن حجر في الكلام على هذا الحديث: «وفيه قبول خبر الواحد

٦٦

أصول الفقه

ووجوب العمل به، ونسخ ما تقرر بقبول العلم به؛ لأنَّ صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جهته، ووقوع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد، وأجيب بأنَّ الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك الخبر ، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم، ويقال: كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه صلَّى الله عليه وآله وسلم مطلقا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل» . اهـ كلامه.

وأعاده البخاري في باب إجازة خبر الواحد، فكتب عليه الحافظ ابن ر والحجة منه بالعمل بخبر الواحد ظاهرة؛ لأنَّ الصَّحابة الذين كانوا حجر يُصَلُّون إلى جهة بيت المقدس، تحوّلوا عنه بخبر الذي قال لهم: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر أن يستقبل الكعبة، فصدقوا خبره وعملوا به في تحولهم عن جهة بيت المقدس وهي شاميَّة، إلى جهة الكعبة وهي يمانية على العكس من التي قبلها.

واعترض بعضهم بأن خبر المذكور أفادهم العلم بصدقه، لما عندهم من قرينة ارتقاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وقوع ذلك لتكرر دعائه به، والبحث إنَّما هو في خبر الواحد إذا تجرَّد عن القرينة.

والجواب: أنَّه إذا سُلَّم أنّهم اعتمدوا على خبر الواحد، كفى في صحة الاحتجاج به، والأصل عدم القرينة وأيضًا فليس العمل بالخبر المحفوف بالقرينة متفقا عليه، فيصح الاحتجاج به على من اشترط العدد، وأطلق وكذا من

اشترط القطع، وقال: إنَّ خبر الواحد لا يفيد إلَّا الظَّن ما لم يتواتر». اهـ كلامه.

فتح الغني الماجد

٦٧

ويمكن أن يقال: أنَّ ارتقاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحويل القبلة لا يفيد العلم في هذه الصُّورة؛ لأنَّ نزول القرآن بالتحويل المرتقب يقتضي أن يُشاع أمره وينادى به ولا يترك حتى يخبر به واحد، لا سيما وهو يتعلق بالصَّلاة التي تُفعَل في اليوم خمس مرات، ومكانها من الدين معروف، وعليه فخبر الواحد في هذه الصورة يفيد الظَّنَّ فقط.

۳۰

٣٠ - روى الشَّيخان أيضًا عن البراء بن عازب قال: لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المدينة، صلَّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يُجب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَهَا ﴾ [البقرة: ١٤٤]. فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثُمَّ خرج فمرَّ على قوم من الأنصار فقال هو يشهد أنَّه صلى مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنه قد وُجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر. قال النووي في شرح مسلم: «فيه قبول خبر الواحد، وفيه دليل على أنَّ النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، فإن قيل: هذا نسخ للمقطوع به بخبر الواحد، وذلك ممتنع عند أهل الأصول. فالجواب: أنه احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم، وخرج عن كونه خبر واحد مجردًا» . اهـ كلامه. وتقدم آنفا الجواب عن احتفاف هذا الخبر بالقرينة، ومسألة نسخ المقطوع به، وهو القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد فيها خلاف مشهور في كتب الأصول، حكاه الشَّوكاني في "إرشاد الفحول" وقال بعده: «وما يرشدك إلى

.

٦٨

أصول الفقه

جواز النسخ بما صح من الآحاد لما هو أقوى متنا أو دلالة منها: أنَّ النَّاسخ في الحقيقة إنما جاء رافعا لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان

دليله قطعيًّا، فالمنسوخ إنّما هو هذا الظَّنَّيُّ لا ذلك القطعي فتأمل» . اهـ كلامه. ثُمَّ إِنَّ الذين وصلهم الخبر وهم في صلاة العصر، كما في حديث البراء كانوا داخل المدينة وهم بنو حارثة، أما الذين وصلهم الخبر وقت الصبح كما في حديث ابن عمر فهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء، وكانوا خارج المدينة، ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". ٣١ - روى الطبراني في "المعجم الأوسط" من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم قال: حدثني سعيد بن منصور بن محرز بن مالك بن أحمر الجذامي، عن أبيه، عن جده مالك: أنه لما بلغه قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبوك وفد إليه مالك بن أحمر فأسلم، وسأله أن يكتب له كتابا يدعو به إلى الإسلام، فكتب له في رُقْعَةٍ مِن أَدَم: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمالك بن أحمر ولمن اتبعه من المسلمين، أمانًا لهم ما أقاموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاةَ واتبعوا المسلمين، وجانبوا المشركين وأدُّوا الخُمُسَ مِن المَغْنَمَ، وسَهْمَ الغارمين، فهم آمنون بأمان الله وأمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم».

۳۲- روى البخاري وابن أبي خيثمة في تاريخيهما من طريق أبي حمزة عبدالعزیز بن زياد الحنظلي قال : حدثني أبو شدّاد - رجل من أهل ذمار، قرية من قرى عمان - قال: جاءنا كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قطعةٍ مِن أَدَمٍ من محمد رسول الله إلى أهل عُمانَ سلامٌ، أما بعد: فأقروا شهادة أَلَّا إِله إِلَّا اللَّهُ

فتح الغني الماجد

۶۹

وأَنِّي رسول الله وأذُو الزَّكاة، وخُطُوا المساجد وكذا وكذا وإلا غزوتكم». قال أبو شداد: فلم نجد أحدًا يقرأ علينا ذلك الكتاب، حتى وجدنا غلاما فقرأه

=

علينا . قلت : فمن كان يومئذ على عُمان؟ قال أُسوارٌ مِن أساورة كِسْرَى. ۳۳ - روى الطبراني من طريق مجالد بن سعيد بن عمير بن ذي مران، عن أبيه، عن جده عمير قال: جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى عمير ذي مران ومن أسلم من همدان، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا اله إلا هو. أما بعد: فإنَّه بلغنا إسلامكم بعد مَقْدِمنا من أرض الرُّوم، فأبشروا فإنَّ الله قد هداكم بهدايته، فإنَّكم إذا شهدتم أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله وأقمتم الصَّلاةَ وأعطيتم الزَّكاةَ، فإنَّ لكم ذمَّةَ الله وذمَّةَ رسوله على دمائكم، وعلى أموالكم، ذ وعلى أرض الرُّوم التي أسلمتم عليها سهلها وغورها ومراعيها غير مظلومين، ولا مُضَيَّقٌ عليهم، وإنَّ الصَّدقة لا تحلُّ لمحمد ولا لأهل بيته، وإنَّ مالك بن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب، وأدى الأمانة، و بلغ الرسالة فأمرك يا ذا مرَّان به خيرًا، فإنَّه منظور إليه في قومه، و ليُحْبِبْكُم ربكم». وروى البغوي في "معجم الصَّحابة" عن مجالد بن سعيد، قال : لما انصرف مالك بن مرارة الرهاوي إلى قومه كتب معه رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم أوصيكم به خيرًا فإنَّه منظورٌ إليه» قال: فجمعت له همدان ثلاث

عشرة (١)، وستة وسبعين بعيرا.

(۱) ثلاث عشرة أوقية.

في هذا الحديث دليل على العمل بخبر الواحد، من جهات:

أصول الفقه

إحداها : إرسال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كتابه إلى همدان .

شخص واحد.

مع

ثانيتها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم خاطب همدان خطاب المسلمين، وسلَّم عليهم سلام الإسلام، عملا بخبر الذي أخبره بإسلامهم، وهو مالك بن مرارة كما جاء في رواية ابن منده.

ثالثتها: أنَّ أهل همدان عملوا بوصيَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في كتابه الذي حمله إليهم مالك بن مرارة، فجمعوا له ثلاث عشرة أوقية من فضة أو ذهب، وستة وسبعين بعيرا.

٣٤- روى ابن أبي عاصم في كتاب "الوحدان"، والطبراني في "الكبير" عن أبي نعيم قال: أخرج إلينا عبدالملك بن عطاء العامري البكائي كتابا من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لهم فقال : اكتبوه ولم يمله علينا، وزعم أن بنت الفجيع حدثته به فإذا فيه: «هذا كتابٌ مِن محمد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم للفجيع ومن تبعه ومن أسلم، ومن أقام الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ، وأطاع الله ورسوله، وأعطى من المَغْنَمِ مُمسَ الله، ونصر نبي الله، وأشهد على إسلامه،

وفارق المشركين، فإنَّه آمن بأمان الله ومحمد صلَّى الله عليه وآله وسلّم». ورواه أبو حفص بن شاهين من طريق عبدالرحيم بن زيد البارقي، عن

عقبة بن وهب البكائي، عن الفُجَيع.

٣٥- روى الطبراني في "الكبير" عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُبشر النَّاسِ أَنَّه من مات

فتح الغني الماجد

۷۱

يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فله الجنة.

٣٦- روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت حائطا لبني النَّجار فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا أبا هريرة». وأعطاني نعليه قال: اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنَّة» الحديث. قال الإمام النووي: إعطاؤه النعلين لتكون علامة ظاهرة معلومة، ولا

ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيدًا، وإن كان خبره مقبولا من غير هذا» . اهـ ۳۷- قال النسائي في "سننه": أخبرنا محمد بن سلمة قال: حدثنا ابن وهب، عن حَيّوةَ بن شُرَيحٍ، عن عيَّاش بن عباس القتباني: أَنَّ شُيَيم بن بَيْتان حدثه أنَّه ه سمع رُوَيْفِع بن ثابت يقول: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: يا رُوَيفِع لعلَّ الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنَّه . لحيته () أو تقلد وَتَرًا، أو استنجى برجيع دابَّةٍ أو عَظْمٍ، فَإِنَّ محمدا بريء منه». ورواه أبو داود من طريق عيّاش القتباني، عن شُيِّيم بن بَيْتان، عن شيبان، عن رويفع، وهو من المزيد في متصل الأسانيد، وإسناد النسائي حسن، أما إسناد أبي داود ففيه شيبان، وهو مجهول الحال.

عقد من

۳۸- روى الشيخان عن مالك بن الحويرث، قال: أتينا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ونحن شَبَبَةٌ متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم رفيقا فلما ظنَّ أنَّا قد اشتقنا إلى أهلنا، سألنا عمن

(۱) عقد لحيته : أي فتلها، وكانت العرب تقتل لحاها في الجاهلية.

۷۲

أصول الفقه

تركنا بعدنا فأخبرناه قال: «ارْجِعُوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أُصَلِّي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبرُكم». محل الشاهد من الحديث: قوله: «فليؤذن لكم أحدكم»، فإنَّه يفيد العمل بآذان المؤذن.

قال الحافظ ابن حجر: والمراد بقبول خبره في الآذان: إنَّه إذا كان مؤتمنا

فأَذَن تَضَمَّن دخول الوقت، فجازت صلاة ذلك الوقت» . اهـ كلامه. ۳۹- روى البخاري عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، ثُمَّ قال:

وكان رجلًا أعمى لا ينادِي حتى يقال له: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ».

قال الحافظ ابن حجر في الكلام على هذا الحديث: «واستدل به على جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد، وذكر مسائل إلى أن قال: وعلى جواز العمل بخبر الواحد . اهـ كلامه.

٤٠ - روى البخاري عن أبي موسى الأشعري: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم دخل حائطا، وأمرني بحفظ الباب، فجاء رجل يستأذن، فقال: ائذَنْ له وبَشِّره بالجنَّة» فإذا أبو بكر، ثم جاء عمر فقال: «ائذَنْ له وبَشِّره بالجنَّة» ثُمَّ جاء عثمان فقال: «ائذن له وبَشِّره بالجنَّة».

٤١ - روى البخاري أيضًا عن عمر رضي الله عنه قال: جئت فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مشرية(۱) له وغلام لرسول الله

(۱) مشربة برفع الراء؛ مكان مرتفع يصعد إليه.

فتح الغني الماجد

۷۳

صلى الله عليه وآله وسلَّم أسود على رأس الدرجة فقلت: قل: هذا عمر بن

الخطاب فأذن لي. ترجم البخاري على هذا الحديث والذي قبله بقوله: «باب قول الله تعالى: ولَا تَدْخُلُو ابْيُوتَ النَّبِي إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ [الأحزاب: ٥٣] فإذا أذن له واحد

جاز».

قال الحافظ ابن حجر: «قوله : " فإذا أذن له واحد جاز" وجه الاستدلال به أنه لم يقيده بعدد، فصار الواحد من جملة ما يصدق عليه وجود الإذن، وهو متفق على العمل به عند الجمهور، حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته، لقيام القرينة فيه بالصدق وأراد البخاريُّ أنَّ صيغة يُؤْذَنَ لَكُم على البناء للمجهول تصح للواحد فما فوقه، وأنَّ الحديث الصحيح بين الاكتفاء بالواحد على مقتضى ما تناوله لفظ الآية، فيكون فيه حُجَّة لقبول خبر الواحد» . اهـ كلامه.

٤٢ - روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن يأتني بخبر القوم؟» يوم الأحزاب، قال الزبير: أنا، ثُمَّ قال: «بخبر القوم». قال الزبير : أنا فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ لكل نبي حواريًّا وحواري «الزبير ترجم عليه البخاري في كتاب الجهاد: «باب

فضل الطليعة».

قال الحافظ ابن حجر: «الطليعة من يبعث إلى العدو ليطلع على أحوالهم،

وهو اسم جنس يشمل الواحد فما فوقه» . اهـ كلامه

٧٤

أصول الفقه

وأعاده البخاري في إجازة خبر الواحد مترجماً عليه: «باب بعث النبي

صلى الله عليه وآله وسلَّم الزبير طليعة وحْدَهُ».

و سبب بعث طليعة أنَّ الأحزاب من قريش وغيرهم، لما جاءوا إلى المدينة، وحَفَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الخندق، بلغ المسلمين أنَّ بني قريظة من

اليهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشًا على حرب المسلمين، فبعثه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليأتيه بخبر بني قريظة. وفي "الصحيحين" عن عبدالله بن الزبير قال: لما كان يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه، يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً، فلما رجعت قلت: رأيتك يا أبت تختلف؟ قال: أو هل رأيتني يا بني ؟ قلت نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن يأتِ بني قريظة فيأتيني بخبرهم». فانطلقت فلما رجعت جمع

لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبويه فقال: «فداك أبي وأمي». ٤٣ - روى الشَّيخان عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا ينادي في النَّاس يوم عاشوراء: «أَنَّ مَن أكَلَ فَلْيُتِمَّ أو ليَصُمْ، ومَن لم يأكل فلا يأكل». هذا لفظ البخاري في كتاب الصّيام، ولفظه في باب خبر الواحد، رسول ا الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من أسلم: «أذن في قومك - أو

في النَّاس - يوم عاشوراء: أنَّ مَن أكَلَ فليتم بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم».

أنَّ

فتح الغني الماجد

Vo

قال الحافظ ابن حجر اسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي له ولأبيه ولعمه هند بن حارثة صحبة، أخرج حديثه أحمد وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلمي، عن أبيه قال: بعثني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى قومي من أسلم فقال: «مُرْ قومَك بصيام هذا اليوم - يوم عاشوراء- فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليَصُم آخِره». وروى أحمد أيضًا من طريق عبدالرحمن بن حرملة عن يحيي بن هند قال: وكان هند من أصحاب الحديبية، وأخوه الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر قومه بصيام عاشوراء، وهو أسماء بن حارثة: فحدثني يحيي بن هند عن أسماء بن حارثة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه فقال: «مر قومك بصيام هذا اليوم قال: أرأيتَ إن وجدتهم قد طَعِمُوا؟ قال: فليتمُّوا آخر

يومهم".

قال الحافظ ابن حجر: فيحتمل أن يكون كل من أسماء وولده هند أرسلا بذلك، ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجد اسم الأب، فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند عن جده أسماء فتتحد الروايتان، والله أعلم». ٤٤ - روى أحمد والبزار والطبراني عن بَعْجَة بن عبدالله بن بدر، أنَّ أباه أخبره: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لهم يوما: «هذا يوم عاشوراء فصُومُوه؛ فقال رجل من بني عمرو بن عوف: يا رسول الله إنِّي تركت قومي منهم صائم ومنهم مفطر، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:

٧٦

أصول الفقه

اذهب إليهم فمن كان منهم مُفْطِرًا فليتم صومه». قال الحافظ الهيثمي: «إسناده حسن».

٤٥ - روى الطبراني في "الكبير" عن معبد القرشي قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بقديد فأتاه رجلٌ فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أَطَعِمْتَ اليوم شيئًا ليوم عاشوراء؟ قال: لا إِلَّا أَنَّي شربتُ ماءً. قال: فلا تَطْعَم شيئًا حتّى تغرب الشَّمس، وأمر من وراءك أنْ يصوموا هذا اليوم».

٤٦ - روى الشيخان - واللفظ للبخاري- عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من الوفد». قالوا: ربيعة. قال: «مرحبًا بالوفد والقوم غير خَزَايَا ولا نَدَامَى». قالوا يا رسول الله : إنَّ بيننا وبينك كفَّار مضر، فمرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به من وراءنا،

فسألوا عن الأشربة فنهاهم عن أربع وأمرهم بأربع، أمرهم بالإيمان بالله قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وتؤتوا من المغانم الخمس». ونهاهم عن الدباء(۱) والختم والمزفّت والنقير. وربما قال: «المقيّر»، قال: «احفظوهنَّ وأبلغوهنَّ من وراءكم».

قال الحافظ ابن حجر: الغرض منه قوله: "احفظوهنَّ وأبلغوهنَّ من ورائكم". فإنَّ الأمر بذلك يتناول كل فرد، فلولا أنَّ الحجة تقوم بتبليغ الواحد

(۱) الدباء، برفع الدال وتشديد الباء: هي القَرْعُ والنهي في الحدف جاء عن النهي في اتخاذ القرع اليابسة كأواني للشرب.

فتح الغني الماجد

۷۷

ما حضهم عليه» . اهـ كلامه.

:

٤٧ - روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عمرو بن سلمة قال : لا كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما

.

قدم قال: جئتكم والله من عند النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حَقًّا ، ،

فقال:

صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصَّلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا». فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآنا منّي، قدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين. في هذا الحديث دليل للعمل بخبر الواحد من وجهين: أحدهما: قوله فليؤذن أحدكم»، وتقدَّم بيانه في حديث مالك بن

الحويرث.

ثانيهما: أن قوم سلمة عملوا بخبره في أمامة الأكثر قرآنا، فقدموا ابنه عمرا يؤمهم، مع أنه ما زال في سنّ الصَّبا، حتى قال عمرو كما في رواية لأبي داود: فما شهدت مجمعًا من جَرْم إِلَّا كنت إمامهم. وجرم بفتح الجيم وسكون الراء قبيلته، قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث حُجَّةٌ للشَّافعيَّة في إمامة الصبي المميز في الفريضة، وهي خلافية مشهورة». ٤٨ - روى البخاري وغيره عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال في خطبة الوداع: «ألا ليُبلّغ الشَّاهد الغائب، فلعل من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه وهذا الحديث له طرق كثيرة؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم خطب في حَجَّة الوداع خطبة عامة، حضرها الجم الغفير من الصحابة،

۷۸

ورواها أصحاب الكتب الستة وغيرهم من علماء الحديث.

أصول الفقه

٤٩- روى أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" عن وابصة بن معبد الأسدي قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في حَجَّة الوداع وهو يخطب وهو يقول: (يا أيها النَّاس أيُّ شهر أحرم؟» قالوا: هذا الشهر، قال: «أي يوم أحرم؟» قالوا: هذا اليوم وهو يوم النحر - قال: «فأيُّ بلد أعظم عند الله حُرْمَةٌ؟» قالوا: هذا. قال: «فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم محرمةٌ عليكم، كحُرْمَةِ يومكم هذا في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا، إلى يوم تَلْقُونَ رَبَّكُم ألا هل بلغت؟» قال النَّاس : نعم؛ فرفع يديه إلى السَّماء ثمَّ قال: «اللَّهمَّ اشْهَد» ثم قال: «ليبلغ الشَّاهد منكم الغائب». قال وابصة: وإنا شهدنا وغبتم، ونبلغكم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.

٥٠ - روى ابن إسحاق في "السيرة"، وعنه الأموي في "مغازيه"، من طريق عمير بن معبد بن فلان الجذامي عن أبيه قال: وفد رفاعة بن زيد

الجذامي على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فكتب له كتابًا فيه: «بسم ا

الله

الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى رفاعة بن زيد، إنّي بعثته إلى قومه عامَّةً ومن فيهم يدعوهم إلى الله ورسوله». ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" : في ترجمة معبد بن فلان الجذامي. ٥١ - روى الشيخان، واللفظ للبخاري: عن أنس بن مالك يقول: بينما نحن جلوس مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في المسجد دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثمَّ قال لهم: أيكم محمد؟ والنَّبيُّ صلَّى الله

فتح الغني الماجد

۷۹

عليه وآله وسلَّم متَكِيءٌ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكيء. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قد أجَبْتُك»، فقال الرجل للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: إنِّي سائلك فمشدّد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: «سَلْ عما بدا لك». فقال: أسألك بربك وربِّ مَن قبلك الله أرسلك إلى النَّاس كلهم؟ فقال: «اللَّهم نَعَمْ». قال: أنشدك بالله الله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللَّهمَّ نَعَمْ»؛ قال: أنشدك بالله الله أمرك أن نصوم هذا الشهر مِن السَّنة؟ قال: «اللهمَّ نَعَمْ». قال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال: «اللهمَّ نَعَمْ»؛ فقال الرجل: آمنت بما جئت به،

وأنا رسولُ مَنْ ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.

قال الإمام النووي في شرح مسلم : وفي هذا الحديث العمل بخبر الواحد» . اهـ كلامه.

وقال الحافظ ابن حجر : وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم: العمل بخبر الواحد، ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا؛ لأنه قصد اللقاء والمشافهة، كما تقدم عن الحاكم، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده، فصدقوه وآمنوا، كما وقع في حديث ابن عباس» . اهـ كلامه.

وحديث ابن عباس: رواه أحمد في "المسند" من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب، عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر

۸۰

أصول الفقه

الحديث في مجيء ضمام وسؤاله كما في "الصحيحين"، وفي آخره: أنَّ ضمامًا لما رجع إلى قومه قال لهم: إنَّ الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم . عنه قال : فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأةُ إِلَّا مسلما.

۵۲ - روى البزار في "مسنده" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما من الأيام: «من قال: لا إله إلا الله وَجَبَتْ له الجنة فاستأذنه معاذ ليخرج بها إلى النَّاس فيبشرهم فأذن له، فخرج فرحًا مستعجلا، فلقيه عمر ، فقال : ما شأنك؟ فأخبره، فقال عمر: كما أنت، لا تعجل. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيا، إنَّ النَّاس إذا سمعوا بهذا اتكلوا عليها فلم يعملوا. قال «فردَّه فرَدَّه».

ه روى أحمد في "مسنده". عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، دخل الجنة». قال : قلت : وإِن زَنَى وإن سَرَقَ ؟! قال: «وإن زَنَى وَإِنْ سَرَق». قلت: وإن زنى وإن سَرَقَ ؟! قال: «وإن زَنَى وإن سَرَقَ». قلت: وإِن زَنَى وإِن سَرَقَ ؟! قال: «وإن زَنَى وإِن سَرَقَ على رَغْم أنْفِ أبي الدرداء»، قال: فخرجت لأنادي بها في النَّاس، فلقيني عمر فقال: ارجع فإنَّ النَّاس إن علموا بهذه اتكلوا عليها، فرجعت فأخبرته صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله سلَّم:

صَدَقَ عمر». ٥٤ - روى الطبراني في "الكبير" عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله

فتح الغني الماجد

۸۱

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا بلال نادِ في النَّاس: من قال: لا إله إِلَّا الله قبل موته بسنة، دخل الجنَّة، أو شهر، أو جمعة، أو يوم، أو ساعة» قال: إذا يتكلوا قال: «وإن اتَّكَلُوا».

قوله: «وإن اتَّكَلُوا» يفيد أنَّ التبليغ واجب، وأن مصلحته راجحة على مفسدة الاتكال. هذا الحديث وما في معناه يفيد أن من مات مسلما دخل الجنة وإن كان في. عاصيا؛ فإنه يعذب على عصيانه لكن لا يُخلَّد في النار كالكافر، تلحقه الشفاعة أو رحمة الله فيدخل الجنة لموته على الإسلام.

٥٥ - روى أحمد والطبراني عن سوادة بن الربيع قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألته فأمر لي بدود. ثمَّ قال لي: «إذا رجعت إلى بيتك فمرهم، فليُحْسِنُوا عَذَراتِهم، ومُرهم فليُقَلَّموا أظفارهم، ولا يَعْبِطُوا بها ضُرُوعَ مواشيهم إذا حَلَبُوا». هذا لفظ أحمد.

ولفظ الطبراني إذا رجعت إلى بنيك، فمُرهم فليُحْسِنُوا أعمالهم، ومُرهم

فليُقَلِّمُوا أظفارهم، لا يَخْدِشُوا بها ضُرُوع مَواشِيهم إِذا حَلَبُوا» عذراتهم جمع

عذرة، وهي فناء البيت، والمعنى: مرهم فلينظفوا أفنية بيوتهم.

٥٦ - روى البخاري في "التاريخ" من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد قال: أتي بي النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَقْدِمَهُ المدينة، فأُعجب بي، فقيل له: هذا غلام من بني النَّجار، قد قرأ فيهما أنزل الله عليك بضع عشرة

۸۲

أصول الفقه

سورة، فاستقر أني ، فقرأت (ق). فقال لي: «تعلم كتاب يهود، فإنّي ما آمن يهود على كتابي». فتعلمته في نصف شهر، حتى كتبت له إلى يهود، وأقرأ له إذا كتبوا

إليه.

ورواه ابو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح». وعلقه البخاري في " صحيحه " تحت ترجمة: باب ترجمة الحكام وهل يجوز

ترجمان واحد؟

قال الحافظ ابن حجر في شرحه: «أشار إلى الاختلاف في ذلك، فالاكتفاء بالواحد قول الحنفية، ورواية عن أحمد، واختارها البخاري وابن المنذر وطائفة. وقال الشافعي - وهي الرِّواية الرَّاجحة عند الحنابلة-: إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم ، لم يقبل فيه إلَّا عدلين كالشَّهادة». اهـ كلامه.

واشتراط عدلين لا يخرجه عن خبر الآحاد؛ لأنه غير متواتر.

٥٧ - روى الدارمي وأبو داود وابن حِبَّان والحاكم عن ابن عمر قال: تراءى النَّاس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه.

٥٨ - روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرّجال، فإن يصيبوا أُجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أبلغي من لقيت من النساء أنَّ طاعة

فتح الغني الماجد

۸۳

الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك، وقليلٌ منكنَّ مَن يَفْعَلُه».

٥٩ - روى ابن عبدالبر" في "الاستيعاب عن أسماء بنت يزيد أنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: إنّي رسول مَن ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأبي، إنَّ الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مُخدّرات قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال وحاملات أولادهم، وإنَّ الرجال فضّلوا بالجماعات، وشهود الجنائز، والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربَّينا أولادهم أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بوجهه إلى أصحابه فقال: هل سمعتم مَقَالة امرأة أحسن سؤالًا عن دينها من هذه؟!». فقالوا: لا والله يا رسول الله. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: انصر في يا أسماء وأعْلِمي من ورائكِ من النِّساء أنَّ حُسْنَ تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال».

٦٠ - روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلَّا . الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال

من

أبو موسى فقلت: أنا أشفيكم من ذلك. فقمت فاستأذنت على عائشة، فأذنت لي. فقلت: ما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع، ومسَّ الختان الختان، فقد وجب الغسل».

Λε

أصول الفقه

٦١ - روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «نضَّر اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا شَيئًا فَبَلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع» قال الترمذي: «حديث حسن

صحيح»، وصححه ابن حِبَّان أيضًا.

قلت: وهذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعةٌ من الصحابة منهم زيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وجُبير بن مُطْعِمٍ، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأبو سعيد الخدري، وعمير الليثي، والنعمان بن بشير،

وبشير والد النعمان، وجابر، وأبو قرصافة، وسعد بن أبي وقاص. ٦٢ - روى الدولابي وابن منده من طريق ابن عبیدالله عبدالجبار بن محرز بن عبدالجبار بن أبي رويحة، عن أبيه، عن أبي رويحة ربيعة بن السكن قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعقد لي راية بيضاء، ذراعًا في ذراع، وقال: اذهب يا أبا رويحة إلى قومك فنادي فيهم: مَن دَخَلَ تحت راية أبي رويحة فهو آمِنُ». ففعلت. ورواه إسحاق بن إبراهيم الرملي في "الأفراد" من أحاديث بادية الشام من طريق حرام بن عبدالرحمن الخثعمي، عن أبي رويحة الفزعي ثم الثمالي به. ٦٣ - روى الدارقطني من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم بديل بن وَرْقَاء الخزاعيَّ على جمل أَوْرَقَ يصيح في فِجاج مِنَى : أَلَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الخَلْقِ

فتح الغني الماجد

٨٥

واللَّيَّة، ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تَزَهَق، وأيام منى أيام أكل وشُرْبٍ وبِعَال (۱) . وروى ابن السكن من طريق مفضل بن صالح، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر بديلًا

ينادي... فذكر نحوه. وروى أبو نعيم من طريق ابن جريج، عن محمد بن يحي بن حِبَّان، عن أمّ الحارث بنت أبي عيَّاش بن أبي ربيعة قالت رأيت بديل بن ورقاء يطوف على جمل أَوْرَقَ بمنّى يقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ينهاكم تصوموا هذه الأيام، فإنّها أيام أكل وشرب.

أن

٦٤ - روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن المِقْدَام بن مَعْدِي كَرِب الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يبلغه الحديث عنِّي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجَدَنا فيه حلالا اسْتَحْلَلْناه وما وجَدَنا فيه حرامًا حرَّمناه.

وإِنَّ مَا حَرَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما حرم الله». حسنه الترمذي. في هذا الحديث وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ معظم الأحاديث التي تبلغنا أخبار آحاد، وقد ذم الحديث من لم يعمل بها .

٦٥ - روى الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن عن عبادة بن الصامت رضي ا الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «إنِّي مُحدِّثكم

الحديث فليُحَدِّثِ الحاضِرُ منكم الغَائِبَ».

(۱) بعال: كناية عن مباشرة الأزواج.

أصول الفقه

٦٦ - روى أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" عن هشام بن أبي رقيَّة قال: سمعت مَسْلَمَةَ بن خَلَدٍ وهو قائمٌ على المنبر يخطب النَّاس، وهو يقول: يا أيها الناس أما لكم في العَصَبِ والكِيَّان ما يُغنيكم عن الحرير، وهذا رجلٌ منكم يخبركم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قم يا عقبة. فقام عقبة بن عامر ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن كذبَ علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النَّارِ»، وأشهد أنّي سمعته يقول: «مَن لبس الحرير في الدنيا حرَّمه الله أنْ يلبسه في الآخِرة» قال الحافظ الهيثمي: «رجال أسانيدهم ثقات». ٦٧ - روى أحمد والبزار والطبراني في "الكبير" عن يحيى بن ميمون الحضرمي أنَّ أبا موسى الغافقي سمع عقبة بن عامر الجهني يُحدث على المنبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، فقال أبو موسى: إنَّ صاحبكم هذا لحافظ أو هالك، إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان آخر ما عهد إلينا

أن قال: «عليكم بكتاب الله، وسترجعون إلى قوم يحبون الحديث عني، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعدَهُ مِن النَّارِ ، ومَن حفظ شيئًا فليحدث به». رجاله ثقات كما قال الحافظ الهيثمي .

٦٨ - روى الطبراني في "الكبير" عن أبي قِرْصَافة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «حدثوا عنّي بما تسمعون، ولا يحلُّ لَرَجُلٍ أَنْ يكذِّب عليَّ،

فمن كَذَبَ عليَّ، أو قال عليَّ غير ما قلتُ، بُني له بيتٌ فِي جَهَنَّمَ يَرْتَعُ فيه». ٦٩ - روى الطبراني في "الكبير" عن رافع بن خديج قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «تَحدَّثوا وليتبوَّا مَن كَذَبَ عليَّ

فتح الغني الماجد

AV

مَقْعَدَهُ في جهنَّم»، قلت: يا رسول الله إنَّا نسمع منك أشياء فنكتبها؟ قال:

«اكتبوا ولا حَرَج». ٧٠ - روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن قَبِيصَةَ بن ذُوِّيْبٍ قال: جاءت الجدة إلى أبي بكرٍ فسألته ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل النَّاس ؟ فقال : المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطاها السُّدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال المغيرة؛ فأنفذه لها أبو بكر، قال: ثُمَّ جاءت الجدة الأخرى إلى عمر، فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن

هو ذاك السُّدُس فإن اجتمعتها فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها. في هذا الحديث عمل الخليفتين بخبر المغيرة بن شعبة، وإنما طلب أبو بكر

شخصا آخر مع المغيرة على سبيل التثبت، مع أن رواية اثنين خبر آحاد أيضًا. ۷۱- روى الشيخان عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنَّ عمر نَشَدَ النَّاسَ : من سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قضى في السِّقط؟ فقال المغيرة: أنا سمعته قضى فيه بغُرَّةٍ عبد أو أمةٍ. قال: ائتِ بمن يشهد معك على هذا. فقال

محمد بن سلمة: أنا أشهد على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بمثل هذا. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": واستشارة عمر في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحكم، إذا كان لا يعلمه أو كان عنده شك، أو أراد الاستثبات، وفيه أنَّ الوقائع الخاصة قد تخفى على الأكابر، ويعلمها من دونهم، وفي ذلك رد على المقلد إذا استدل عليه بخبر يخالفه، فيجيب لو كان صحيحًا

۸۸

أصول الفقه

لعلمه فلان مثلا فإنَّ ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر، فخفاؤه عمن بعده أجوز، وقد تعلّق بقول عمر : لتأتينَّ بمن يشهد معك من يرى اعتبار العدد في الرواية ويشترط أنّه لا يقبل أقل من اثنين، كما في غالب الشهادات، وهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، فإنَّه قد ثبت قبول الفرد في عدة مواطن، وطلب العدد في صورة جزئية لا يدلُّ على اعتباره في كل واقعة، الجواز المانع الخاص بتلك الصورة، أو وجود سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار، ولا سيما إذا قامت قرينة وقريب من هذا قصة عمر مع أبي موسى في

الاستئذان» . اهـ

۷۲ - روى الشَّيخان عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأَنَّه مَذْعُورٌ، فقال: استأذنتُ على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت فقال ما منعك؟ قلت: استأذنتُ ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع»، فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ فقال أُيُّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلَّا أصغر القوم فكنت أصغر القوم- فقمت معه، فأخبرت عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال ذلك.

قال الحافظ ابن حجر : وتعلق بقصة عمر من زعم أنه كان لا يقبل خبر الواحد ولا حجة فيه؛ لأنَّه قبل خبر أبي سعيد المطابق لحديث أبي موسى ولا يخرج بذلك عن كونه خبر واحد، واستدل به من ادعى أن خبر العدل بمفرده لا يُقبل حتى ينضم إليه غيره، كما في الشَّهادة. قال ابن بطال: وهو خطأ مِنْ

فتح الغني الماجد

۸۹

قائله وجهل بمذهب عمر، فقد جاء في بعض طرقه أنَّ عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. قلت: وهذه الزيادة في "الموطأ" عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم، أنَّ أبا موسى. فذكر القصة، وفي آخره فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك

ولكني خشيت أن يتقول النَّاس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. وفي رواية عُبيد بن حنين التي أشرت إليها آنفًا، فقال عمر ! لأبي موسى: والله إن كنت لأمينًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولكن أحببت أن أستثبت.

ونحوه في رواية أبي بردة حين قال أُبي بن كعب لعمر: لا تكن عذابًا على أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. فقال: سبحان الله إنما سمعت شيئًا، فأحببت أن أتثبت.

قال ابن بطال: «فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قبل عمر خبر العدل الواحد بمفرده في توريث المرأة من دية زوجها، وأخذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه كان يستثبت إذا وقع له ما يقتضي ذلك» . اهـ

۷۳ روى البخاري عن بَجَالة فقال : كنت كاتبا الجزء بن معاوية عن الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبدالرحمن

ابن عوف أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هَجَر.

۹۰

أصول الفقه

ورواه الترمذي ولفظه : فجاءنا كتاب عمر ؛ انظر من قبلك من مجوس،

فخذ منهم الجزية، فإنَّ عبدالرحمن بن عوف أخبرني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الجزية من مجوس هَجَر .

قال الحافظ ابن حجر: «في الحديث قبول خبر الواحد، وأنَّ الصحابي الجليل قد يغيب عنه علم ما اطلع عليه غيره من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكامه، وأنه لا نقص عليه في ذلك، وفيه التمسك بالمفهوم؛ لأنَّ عمر فهم من قوله: «أهل الكتاب اختصاصهم بذلك حتى حدثه عبدالرحمن بن عوف بإلحاق المجوس بهم فرجع إليه . اهـ

٧٤ - روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن سعيد بن المسيب أنَّ عمر كان يقول : الدِّيَة للعَاقِلة، ولا ترث المرأة مِن دِيَة زوجها. حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكِلابِيُّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كتب إليَّ: أَنْ أُورث امرأة أَشْيَمِ الضَّبَايِّ مِن دِيَة زوجها». صححه الترمذي، ورواه مالك في "الموطأ" عن الزهري وزاد: وكان قتلهم أشيم خطأ.

٧٥ - روى أحمد في مسنده" عن عبيد الله بن عباس بن عبدالمطلب أخي عبدالله قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر بن الخطاب، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة، و كان ذبح للعباس فرخان، فلما وصل الميزاب أُصيب منه بدم الفرخين، فأمر عمر بقلع الميزاب، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابا غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالنَّاس، فأتاه العبّاس فقال: والله إنَّه للموضع الذي وضعه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه

فتح الغني الماجد

۹۱

وآله وسلم، ففعل ذلك العباس.

نفقة

٧٦ - روى أحمد وأبو داود والترمذي عن فُرَيْعَةَ بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعْلَاج له، فأدركهم بطَرَفِ القَدَومِ فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له. فقلتُ: إِنَّ نعي زوجي أتاني في دارٍ شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي ولا مالا ورثته، وليس المسكن له، فلو تحوّلت إلى أهلي وأخوالي لكان أرفق بي في بعض شأني ؟ قال: «تَحوَّلي»، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة، دعاني أو أمر بي فدعيت، فقال: «امْكُثِي في بَيْتِك الذي أتاك فيه نَعْي زوجك حتّى يبلغ الكتابُ أجَلَهُ». قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فأرسل إلى عثمان فأخبرته فأخذ به. صححه الترمذي وابن حبان والحاكم. ۷۷- روى البخاري عن ابن عمر عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه مسح على الخفين، وأنَّ عبدالله بن عمر سأل عمر

عن ذلك، فقال : نعم. إذا حدَّثك شيئًا سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فلا تسأل عنه غيره.

قال الحافظ ابن حجرٍ: فيه دليل على أنَّ الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي؛ كانت من جملة القرائن التي إذا حفَّت خبر الواحد قامت مقام الأشخاص المتعدّدة، وقد يفيد العلم عند البعض دون البعض، وعلى أنَّ عمر كان يقبل خبر الواحد، وما نُقل عنه من التوقف، إنَّما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع، واحتج به من قال بتفاوت رتب العدالة، ودخول

۹۲

أصول الفقه

الترجيح في ذلك عند التعارض، ويمكن إبداء الفارق في ذلك بين الرواية والشهادة، وفيه تعظيمٌ عظيمٌ مِن عُمَرَ لسعد، وفيه أنَّ الصحابي القديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجلية في الشرع ما يطلع عليه غيره؛ لأنَّ ابن

عمر

أنكر المسح على الخفين، مع قديم صحبته وكثرة روايته» . اهـ

وثبت في "مسند" أحمد عن ابن عمر قال: رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خُفَّيه بالعراق حين توضّأ فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر، قال لي سعد: سل أباك ... فذكر الحديث.

۷۸- روى البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" والطبراني في "الكبير"، عن عبدالله بن محمد بن عقيل: أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجلٍ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاشتريت بعيرًا ثُمَّ شددت عليه رَحْلي، فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه الشّام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب. فقال: ابن عبدالله؟ قلت: نعم. فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ - أو قال العباد عُراة غزلاً بهما قال : قلنا وما بهتها؟ قال: «ليس معهم شيء، ثُمَّ يناديهم بصوت يسمعه من قُرْبٍ أنا الملك أنا الدَّيَّان، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنَّة حَقٌّ حتّى أقصه منه، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل

فتح الغني الماجد

۹۳

الجنة أن يدخل الجنَّة، ولأحد من أهل النار عنده حَقٌّ حَتَّى أَقصَّه منه حتَّى اللَّطْمَةُ»، قال: قلنا كيف؟ وإِنَّا إِنَّما نأتي الله عزَّ وجلَّ عُرَاةً غُرْلًا بهما!! قال:

بالحسنات والسيئات».

علقه البخاري في كتاب العلم من "صحيحه" فقال: «ورحل جابر بن

عبد الله مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد».

٧٩ - روى الطبراني في "الأوسط" عن رجاء بن حيوة قال سمعت مَسْلَمةَ بن مخلد يقول: بينا أنا على مصر إذ أتى الآذِنَ البواب، فقال: إِنَّ أعرابيا على بعير على الباب يستأذن، فقلت: من أنت؟ قال: جابر بن عبدالله الأنصاري. قال: فأشرفت عليه فقلت أنزل إليك أو تصعد قال: لا تنزل ولا أصعد، حديث بلغني أنَّك ترويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ستر المؤمن جئت أسمعه، قلت: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن سَتَرَ على مُؤْمِنٍ، فكأَنَّها أَحْيَا مَوْؤُدَةً». فضرب بعيره راجعا.

قلت في معنى الحديث: العورة معصية توجب حدا أو تعزيرا، فإذا اطلعت من أخيك المؤمن على عورة مثل هذه وسترتها عليه، ولم تُحدّث بها أحدا، فقد أبقيت على كرامته، وأحييت منزلته بين إخوانه، ولذا اعتبرها الشارع بمنزلة إحياء الموؤدة. اهـ من (ص) (٤٤) من كتاب "تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة".

۸۰- روى مسلم في "صحيحه" عن نافع أنَّه . نافع أنه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري أرضنا، ثُمَّ تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج.

٩٤

أصول الفقه

بنهي

وروي أيضًا: عن نافع أنَّ ابن عمر كان يُكْرِي مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمانَ وصَدِّرًا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أنَّ رافع بن خَدِيجٍ يُحدث فيها بـ عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فدخل عليه وأنا معه فسأله، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ينهى عن كراء المزارع. فتركها ابن عمر بعد ذلك فكان لا يُكْرِيها. ۸۱ - روى أحمد في "مسنده" عن البراء بن عازب، قال: ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا عنه رَعِيَّة الإبل. قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد": «رجاله رجال الصحيح.

وروى الطبراني في "المعجم الكبير" عن حميد، قال: كنا مع أنس بن مالك فقال: والله ماكل ما نُحَدِّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم سمعناه

منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضًا.

قال الحافظ الهيثمي : «رجاله رجال الصحيح».

وقد ترجم لهذين الأثرين في "مجمع الزوائد" بقوله: «باب لا تضر الجهالة بالصحابة؛ لأنهم عُدُولٌ». وهما يفيدان ذلك، كما يفيدان قبول الصحابة لخبر الواحد العدل، وعلمهم به، وهذا هو ما أفادته الأحاديث والآثار التي سبق

ذكرها.

وأفرد الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الكفاية" بابا لصحة العمل بخبر الواحد، قال فيه: «قد أفردنا لوجوب العمل بخبر الواحد كتابا، ونحن نشير

فتح الغني الماجد

۹۵

إلي شيء منه في هذا الموضع ، إذ كان مقتضيّاً له» . اهـ ثم أسند بعض الأحاديث. منها حديث ابن مسعودٍ: نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالتي فأداها ...»، وهو الحديث الستون فيما تقدَّم، ثُمَّ روى بإسناد إلى الربيع بن سليمان قال: «قال الشافعي: فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءًا يؤدّيها، ولو امرؤ واحد دل على أنَّه لا يأمر أن يودي عنه إلا ما تقوم به الحُجَّة على من أدَّى إليه؛ لأنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا» . اهـ

ثُمَّ قال الخطيب: وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحدٍ منهم إنكارٌ لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه؛ إذ لو كان فيهم من لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه لمذهبه فيه» . اهـ كلامه .

وقال الحافظ ابن عبدالبر في مقدمة كتاب "التمهيد": «وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت، على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت، ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصَّحابة إلى يومنا هذا إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شِرْدَمَة لا تُعَدُّ خِلافًا. وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد، إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله، وقد ذكر الحُجَّة عليهم في ردّهم أخبار الآحاد جماعة من أئمة الجماعة

97

أصول الفقه

وعلماء المسلمين» . اهـ كلامه.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وقد استدل بعض العلماء لقبول خبر الواحد، أن كل صاحب وتابع سُئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم، أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك، حتى يسأل غيره، فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم

على وجوب العمل بخبر الواحد» . اهـ كلامه.

دليل الإجماع

وأما إجماع الصَّحابة والتابعين، فقد عُلِمَ من كلام الخطيب وابن عبدالبر

والحافظ والغزالي وغيرهم.

خاتمة

تبين مما أوردناه: أنَّ حُجَّيَّة خبر الآحاد قطعيّة معلومة من الدين بالضرورة من دين الإسلام، فإنكارها ذريعة إلى إنكار العمل بالسُّنَّة التي هي ا الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، ومنكر السُّنَّة النبوية كافرٌ لا حَظَّ له في الإسلام. نسأل الله السلامة والعافية، وبالله التوفيق.

٣- القَوْلُ الجَزْلُ

فيها لا يُعْذَرُ فيه بالجَهْلِ

القول الجزل

۹۹

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله على ما أنعم، والشكر له على ما وفقنا وألهم، وعلمنا ما لم نكن تعلم، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد هادي الأُمَّة مِن الضلالة، ومُعَلَّمهم

التي

من الجهالة، ورضي الله عن آله وصحابته والتابعين. وبعد: فإنَّ طالبا ممن كانوا يحضرون دروس "الموطأ" و"اللُّمَع " ألقيتها بالقاهرة سألني: هل يكون الجهل عُذرًا في الشريعة؟ وطلب أن أُفرد

الكلام على هذا السؤال بتفصيل، فأجبت رغبته بهذا الجزء الذي سميته: " القَولُ الجَزْلُ فيما لا يُعذَرُ فيه بِالجَهْلِ"

أنيب.

ومن الله أستنجد العَوْنَ والتوفيق، فهو سيدي والهي، عليه توكلت وإليه

۱۰۰

أصول الفقه

ما هو الجهل ؟

الجهل في اللغة: خلاف العِلم، والسَّفَه، والخِفَّة، والطيش، وإضاعة الحق.

ومعناه في عرف العلماء: عدم العلم عما من شأنه.

وهذا جهل بسيط، فإن عُرف الشئ على خلاف ما هو عليه فجهل مُركَّب، وعلى هذا جاء قول الشاعر:

قال حِمارُ الحَكِيمِ تُومَــا لو أنصَفُوني كنتُ أَرْكَبْ

أنَّني وهذا على سبيل الاستملاح، لأنَّ الحمار ليس من شأنه العِلم، فلا يُسمَّى جاهلا. وإنها أُطلق على الأسد الجاهل؛ لخفة وثبه وسرعة غضبه.

جَاهِل بسيط وراكبي جَاهِلٌ مُركَّبٌ

الخطأ من جهل

قالت الحنفية والخطأ من الجهل؛ لأنه غير مطابق للواقع، فهو على هذا

جهل مركب.

الجهل الذي لا يكون عذرًا لصاحبه

ثُمَّ إِنَّ الجهل الذي لا يكون عذرا لصاحبه أنواع:

الأول: جهل الكفَّار بالله وبرسوله، إذا بلغتهم الدعوة؛ لأنَّ الأدلة العقلية والنقلية على وحدانية الله وألوهيَّته، والمعجزات الدالة على صحة الرسالة، لوضوحها وكثرتها صارت من الضروريات فإنكارها عنادًا ومُكابرة لا يلتفت إليها، وجهلها قصور لا يُعذر به.

القول الجزل

۱۰۱

ولهذا أوجب الله قتال المشركين حتَّى يسلموا، قال تعالى: فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلوةَ وَ اتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُوا سَبِيلَهُمْ ﴾ [التوبة: 5]. وأوجب قتال أهل

الكتاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ [التوبة: ٢٩] احتراما لكتبه التي أنزلها عليهم.

الثاني: جهل المبتدع، مثل جهل المعتزلة بتنزيه الله بنفي صفات المعاني عنه، وبنفي رؤيته في الآخرة، ومثل جهل الروافض والمعتزلة بإنكار الشفاعة لأهل الكبائر، وإنكار الميزان والحوض والصراط، ومثل جهل المجسمة والمشبهة، ومثل جهل بقية المبتدعة كالخوارج والشيعة وغيرهم، في عقائدهم وأقوالهم

الباطلة بالكتاب والسنة المتواترة المصرحة بنقيض ما اعتقدوه

ولا نُكفّرهم؛ لتمسكهم بالقرآن والحديث في الجملة، فهم مسلمون، وإنما أوقعهم في الضلال توهمهم الفاسد أن ما ذهبوا إليه هو العقيدة الصحيحة. ويدخلون النار . يوم القيامة؛ لحديث أبي داود عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: ألا إِنَّ مَن قَبلكم مِن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ أهل هذه اللَّة يفترقون على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنَّة وهي الجماعة». ثُمَّ يخرجون من النَّار، ولا يخلدون فيها لموتهم على الإسلام.

الثالث: جهل الباغي، وهو الخارج على الإمام الحق بتأويل فاسد. لا يكون جهله عذرا، بل يقاتل حتى يرجع، ويُعذِّب في الآخرة إن لم يَتُبْ،

لكن لا يُكَفِّر؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿ وَإِن طَائِفَنَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا

أصول الفقه

بينهما فَإِن بَغَتْ إِحْدَثَهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى يفى تا الى أمر [الحجرات : ]. فسمَّى البغاة مؤمنين.

وقال علي - عليه السَّلام في الخوارج الذين خرجوا عليه: «إخواننا بغوا

علينا».

ومعاوية كان باغيا بلا خلاف ودعوى أنه كان مجتهدا على فرض صحتها - لا تنفي عنه وصف البغي؛ لأنه خرج على الإمام الحق بتأويل فاسد. وحديث البخاري: «وَيْحَ عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النَّار». صريح في أنَّ معاوية باغ؛ لأنَّ عمارًا قُتل في صِفِّين، وكان مع علي عليه السلام. الرابع: جهل المقدم على تفسير القرآن أو آية منه، برأيه المجرد من غير الرجوع إلى كتب التفاسير المعتمدة، فلا يُعذر بجهله، ويلزمه الإثم والعقاب عند الله تعالى، وينبغي للإمام ،تعذيره ومثله جهل المتكلم في الحديث برأيه، فحكمه التعذير مع الإثم أيضًا.

لأنَّ المفسر لآية أو حديث يقصد بتفسيره أنه مراد الله ورسوله، فيكون كاذبا، والكذب على الله ورسوله من الكبائر العظيمة، ولو فرض أنه وافق الحقيقة مصادفة لا تعفيه من إثم الإقدام والجرأة. وقد روى أحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مَقْعَدَه مِن النَّارِ». قال ابن حجر: «أحق الناس بما فيه من الوعيد، قوم من أهل البدع، سلبوا لفظ القرآن ما دلّ عليه وأريد به، وحملوه على مالم يدل عليه، ولم يرد به، في كلا

القول الجزل

۱۰۳

الأمرين مما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى، فهم مخطئون في الدليل والمدلول مثل تفسير عبدالرحمن بن كيسان الأصم، والجبائي، وعبدالجبار، والرماني، والزمخشري وأمثالهم. ومن هؤلاء المبتدعة من يدس البدع والتفاسير الباطلة في كلامهم الجزل، فيروج على أكثر أهل السنة، كصاحب "الكشاف". ويقرب من هؤلاء "تفسير ابن عطية بل كان الإمام ابن عرفة المالكي، يبالغ في الحطّ عليه، ويقول: إنه أقبح من صاحب الكشاف، لأنَّ كلَّ أحد يعلم اعتزال ذاك، بخلاف هذا، فإنه يوهم الناس أنه من أهل السُّنَّة». قلت من التفاسير العصرية التي يدخل أصحابها في وعيد الحديث المذكور، "تفسير أبي زيد الدمنهوري " ، و "تفسير" عبد الجليل عيسى"، و"تفسير محمود شلتوت"، و"أوضح "التفاسير" لابن الخطيب، وكتاب "في ظلال القرآن"، فيه سقطات، رغم تحمُّس صاحبه للتمسك بالدين وتنفيذ أحكامه. ولا أعلم سبب حملة ابن عرفة، على ابن عطية وتفسيره، مع أنه لم يتهم ببدعة، ولا تقم عليه شئ من أخلاقه.

الخامس: جهل المقدم على الفتوى في الدين، بغير تثبت ولا رجوع إلى ما قرره الأئمة علماء الشريعة، فيُحرِّم ويُحلل ويفتي بأنَّ هذا واجب، وهذا مندوب. فجهله لا يكون عذرًا، بل هو عاص آثم، ويجب على الحاكم أن يمنعه من الفتوى، حتى لا يضل الناس به، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِنَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النحل: ١١٦]. وروى الدارمي عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَجرَؤُكم على الفتيا أجرؤكم على النار». وروى أبو داود عن أبي

104

أصول الفقه

هريرة قال: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن قال على ما لم أقل فليتبوأ بيتًا في جهنَّم، ومَن أُفتي بغير علم كان إِثْمُه علي من أفتاه». أُفتي» بضم الهمزة فعل مبني للمجهول.

قَرَنَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بين الكذب عليه، والإفتاء بغير علم، ليُبيِّن أنَّ كلاهما كذبٌ مُحرَّم

ومنصب الإفتاء منصب خطير في الدين، عظيمٌ وَقُعُه، عَمِيمٌ نفعه؛ لا يقوم به إِلَّا مَن تأهل له بشروط مُبيَّنة في مؤلفات خاصة.

وقد تكلَّم عليها الإمام النووي في مقدَّمة "المجموع"، وابن القيم في أول كتاب "إعلام الموقعين". وقال سفيان بن عيينة، وسُحْنُون: «أجسر الناس على

الفتيا أقلهم علما». السادس: جهل الذي يدعوا إلى الاكتفاء بالقرآن، وترك السُّنَّة، وهذا كفر بواح؛ لأنَّ السنة هي الأصل الثاني بعد الكتاب العزيز، وعليهما قام الدين بإجماع

المسلمين، فجهل منكر هذا، ليس بعذر، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة. السابع: جهل مَن يُفرّق بين السنة العملية، فيعمل بها، وبين السنة القولية فلا يعمل بها. وهذا جهل ليس يُعذر أيضًا؛ لأنَّ الأدلة أوجبت العمل بالسُّنَّة، وأهمها الإجماع القطعي، لم تفرق بين العملية والقولية، بل جعلتهما في مرتبة واحدة، من القبول والحُرِّيَّة، فالمفرق عاص آثم، شقّ عصا المسلمين، واتبع غير سبيل المؤمنين.

الثامن: جهل الذي يقول : إنَّ الله لم يُحرّم الخمر في القرآن، فإن أراد بذلك أن الخمر ليست بحرام، فهو كفر لا شكّ فيه. وإن أراد أنَّ القرآن لم يُصرح

القول الجزل

110

بتحريم الخمر فهو جهل لا يُعذر به؛ لأنَّ في القرآن عِدة آيات تدل على تحريمها دلالة أقوى من دلالة قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: ٣] الآية.

وقد بينتها في كتاب: "واضح البرهان على تحريم الخمر في القرآن". التاسع: جهل من لا يعرف حُرمة أخذ العُشُور على تجار المسلمين، مما كان يُسمى بالمكس، ويُسمَّى الآن بالجمارك. قال العلامة الدرديري في أقرب" المسالك"، وشرحه: «والإجماع على حرمة أخذه من المسلمين، وعلى كفر مستحلّه؛ لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة. ولا يرد علينا أنَّ الحنفية جوزوا اللعَشَّار أخذ ربع العشر كل عام من تجار المسلمين، لأنا نقول كلامهم في ذلك محمول عندهم على الزكاة، ولذلك قالوا: يجوز ربع العشر لا أكثر في كل حول مالم يدع التاجر أنه دفعه لفقير أو مسكين. فإن لم يدَّعِ ذلك وأخذه العَشَّار ، حَسَبه ربُّ المال من الزكاة. وقولنا: " والإجماع ..." إلى آخره، ظاهر في أخذ العشر أو أقل أو أكثر من المسلمين ظلما، كما هو واقع الآن».

وقال القمولي: ومن جَحْدِ الضروري الذي يكفر به صاحبه أن يعتقد في

شيء من المكوس أنه حقٌّ»، قال: «ويحرم تسميتها بذلك». اهـ نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في "الإعلام بقواطع الإسلام" وعلق عليه بقوله: «وقضية ذلك أنَّ مجرد تسميه الباطل حقا، لا يطلق أنها كفر، وهو ظاهر في هذه المسألة مما فيه ضَرب من التأويل، وهو أخذ الإمام له على نية الزكاة، أما فيما لا تأويل فيه بوجه، فينبغي أن تكون تسميته حقا كفر».اهـ ولا يعذر بالجهل، بل يكون تقصيرا منه.

1.7

أصول الفقه

العاشر: جهل الذي يدعو إلى تبرُّج المرأة بخروجها عما حَدَّه الإسلام لها، من الصيانة والعفاف والوقار، وقد انتشرت هذه الدعوى بين المثقفين المتفرنجين، والذي فتح هذا الباب قاسم أمين ، فهو يتحمل إثم ما وصلت إليه المرأة من تهتك وفجور لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ سَنَّ سُنَّةٌ سيئة فعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شي». والجهل بهذا ليس بعذر.

الحادي عشر: جهل من يتجنّس بالجنسية الأوروبية مثل العمال الذين يشتغلون في فرنسا وأسبانيا، فإنهم يتجنّسون بالجنسية الفرنسية أو الأسبانية، وحُرمة هذا التجنس معلومةٌ بالضرورة، والإسلام لا يُبيح المسلم أن ينتسب فرنسيا أو أسبانيا أو أي انتساب غير دين الإسلام، وقد حرَّم الله الميل إلى الكفار، وجعله كبيرة توعد عليه بالعذاب في قوله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ [هود: (۱۱۳]، والتجنس أقبح من الميل وأشدُّ؛ لأنَّ المتجنس يصير من أفراد الدولة الكافرة عرفًا وقانونا، ملتزما بأحكامها

وقوانينها، ويحظى بامتيازات لا يحظى بها من لم يتجنَّس.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من ادعى - انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم، فالجنَّة عليه حرام». فكيف حال من يتجنس وينتسب إلى غير دينه؟! لا شك أنه أقبح وأضل. وقد بلغني أنَّ مفتيًا أجاز التجنس واستدل بهجرة جعفر وأصحابه إلى الحبشة فارين بدينهم، واعتبر عملهم تجنسًا، وهذا جهل مُركَّب، وهذا المفتي يجب أن يُستتاب شرعًا، لأنه أباح محرَّمًا معلوما بالضرورة.

القول الجزل

۱۰۷

وهجرة الصحابة إلى الحبشة كانت لجوءا إلى النجاشي طلبًا لعدله واللجوء قانون دولي يعترف به الإسلام ،وغيره واللاجئ إلى بلدة لا يكون من أهلها، ولو مكث فيها عدة سنين، بل هو ضيف عليها فقط، بخلاف التجنس فالفرق بينهما واضح لا يشتبه إلا على جاهل أو صاحب هوى، وبالله التوفيق. الثاني عشر : جهل المكتري الذي يبيع مفتاح الدكان أو المنزل الذي يكتريه. وتحريم هذا معلوم بالضرورة؛ لأن المكتري لا يملك المفتاح الذي يبيعه،

ا

ولو فرض أنه عمل في الدكان إصلاحات وتحسينات فإنَّ ذلك لا يُبيح له التصرف في المفتاح ببيع ولا غيره.

الثالث عشر: جهل المكتري الذي يطلب من صاحب المنزل مبلغًا من المال ليُسلّمه منزله، وهذا أيضًا مما علم تحريمه بالضرورة، وهو كسابقه من أكل أموال الناس بالباطل.

الرابع عشر: جهل صاحب كتاب "السنة بين الفقهاء وأهل الحديث". فقد أتى فيه بجهالات هو فيها آثم خاطئ، وأعظم جهالاته أنه رد أحاديث صحيحة لأن عقله القاصر لم يقبلها، وجهل معنى قول العلماء في تعارض الحديث والعقل، فإنهم لم يقصدوا عقل الفرد من الناس لأن عقول الأفراد تتفاوت، وليست على وتيرة واحدة من الذكاء والفطنة وإدراك صعاب المسائل، وإنما أرادوا بالعقل: القضية العقلية التي اتفق العقلاء على صحتها. مثل: الواحد نصف الاثنين، والسماء فوقنا فهذا هو العقل الذي يُردُّ لأجله الحديث، ولا يوجد حديث يخالف ما أجمع عليه العقلاء.

ولا يخفى أنَّ في نصوص القرآن والأحاديث ما يعلو عن الإدراك مثل

۱۰۸

أصول الفقه

المتشابه، ولا يخفى أيضًا أنَّ في عقل الإنسان وإن بلغ درجة عليا لابد أن يقصر عن فهم بعض نصوص الكتاب والسنة لأنَّ وحي الله فوق قدرة البشر، وقد أشار إلى هذا مع مزيد أيضًاح حُجّة الإسلام الغزالي -رحمه الله - في "قانون التأويل".

وأكبر غلطات الشيخ محمد عبده أنه كان مزكيا عقله بدون حدود فأنكر كثيرا من الأحاديث الصحيحة لأنها جاءت فوق مستوى عقله المحدود. وصاحب كتاب "السنة بين الفقهاء وأهل الحديث" زاد على الشيخ محمد

عبده وقاحة وقلة حياء مع إعجابه بنفسه.

الخامس عشر: جهل وزير الأوقاف المغربي الذي قدمت له إدارة نظارة طنجة شهادة خمسين مسلمًا من جهات مختلفة بأنهم رأوا هلال رمضان، وهذا تواتر، ومع ذلك أهملها وتحمَّل إثم فطر الشعب ليوم من رمضان بدعوى أنَّ القاضي لم يزكّها، ولو كان عنده علم وإخلاص لعرض تلك الشهادة على أحد قضاة العاصمة فيزكِّيها، على أنَّ تلك الشهادة مستفيضة، وهي لا تحتاج إلى قاض أو تعديله كما في شرح الزرقاني على المختصر"، ولكن ذلك الوزير جاهل مخذول.

السادس عشر: جهل الشاعر الذي قال على لسان الحضرة المحمدية: وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى وهذا التعبير فيه جفاء بالنسبة لخطاب الله تعالى؛ إذ لا يجوز أن يقال في سؤاله: «اسمح ولا تجعل جوابي الرفض ، ثُمَّ إِنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يطلب رؤية الله بعد أن تلا ما أنزل الله عليه في مناجاة كليمه عليه

القول الجزل

۱۰۹

السلام: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَيني ﴾ [الأعراف: ١٤٣] الآية. وزاد

هذا الشاعر جهلا حين قال أيضًا على لسان الحضرة المحمدية: وأباحَ طَرْ في نظرة أملتُها فغدوتُ معروفًا وكنتُ مُنكَرَا والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سُئل بعد المعراج هل رأيت ربك؟ فقال: نور أني أراه؟!» وإنما رأى الله في المنام أما في اليقظة فلا، وقال «لن يرى أحدٌ منكم ربه حتى يموت». وسبب ذلك يرجع إلى أمرين: أحدهما : أنَّ الخلائق في الدنيا فانيةٌ، والله الباقي لا يُرى بالفاني، فإذا كان يوم القيامة أعطوا أبصارًا باقيةً فرأوا الباقي بالباقي، هذا معنى كلام الإمام مالك. والآخر: أن نعيم الجنة أفضله أمران: رؤية الله، ورضوانه. فإذا رأوا الله في الدنيا، لم يبقَ لنعيم الجنة فائدة، فمن زعم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى الله في الدنيا ببصره غفل عن هذا المعنى، وكان مخطنا في غفلته، والله يسامحه؛ لأنه حمله على ذلك حبُّه للجناب النبوي الشريف. لكن تقويله: وأباح طرفي نظرة أملتها .... فيه خطر كبير.

۱۱۰

أصول الفقه

الجهل الذي يكون عذرا لصاحبه

فهو الجهل بحكم يخفى على العامة، أو كان فيه شبهة، أو كان الجاهل من سكان البادية بعيدا عن الحاضرة التي يوجد فيها العلماء، أو أسلم في بلد

الكفر، ولم يهاجر إلى بلد الإسلام.

ولذلك أمثلة:

1 - أم رجل قوماً في صلاة الظهر، وقام من الركعة الثانية ولم يجلس للتشهد، فسبح له المصلون فرجع بعد أن أتم القيام فصلاته باطلة؛ لأنه رجع

من فرض إلى سُنَّة.

لكن أفتى مولانا الإمام الوالد - رحمه الله ورضي عنه - بصحة صلاته؛ لأنَّ هذا الحكم يخفى على العامة. ٢ - أمنا خطيب الجمعة فلما رفع رأسه من سجود الركعة الأولى لم يجلس بين السجدتين بل قام واقفًا ثُمَّ تنبَّه، فرجع وسجد مرة أخرى، وجلس ثُمَّ سجد. فصلاته باطلة لأنه زاد ركنا في الصلاة، ولم أُفتِه بالبطلان لأنَّ هذا الحكم خفي عليه. روى البيهقي عن يحيى بن حاطب قال: تُوفّي حاطب، وأُعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له أمةٌ نوبية قد صلت، وصامت -وهي أعجمية لم تفقه - فلم تَرُعُهُ إلَّا بحَبَلِها، وكانت ثيبا فذهب إلى عمر فأرسل إليها عمر فقال : أَحَبَلْتِ؟ قالت نعم مِن مرغوش بدرهمين، فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه. قال: وصادف عليا وعثمان وعبدالرحمن بن عوف،

فحدثه،

القول الجزل

۱۱۱

فقال: أشيروا عليّ. فقال علي وعبدالرحمن بن عوف: قد وقع عليها الحد. فقال أثر علي يا عثمان. فقال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه. فقال: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه. فجلدها وغربها، ولم يرجمها.

٤ - روى البيهقي عن بكر بن عبدالله المزني: أنَّ . عمر بن الخطاب جاءه كتاب من الشام في رجل قيل له: متى عهدك بالنساء؟ فقال البارحة. فقيل بمن؟ قال: أم مَثْواي - يعني صاحبة المنزل الذي يقيم فيه- فقيل له: قد هلكت قال: ما علمتُ أنَّ الله حرَّم الزنا. فكتب عمر: يُستحلف ما علم أنَّ الله حرَّم الزنا، ثُمَّ يُخلى سبيله. وفي رواية عن سعيد بن المسيب: فكتب عمر: إن كان

يعلم أنَّ الله حرَّمه فحدوه، وإن لم يكن يعلم فعلموه، وإن عاد فحدوه. ه - شخص قريب عهد بالإسلام أفطر في رمضان وقال: إنه لا يعلم أنَّ

صومه فرضٌ. يجب عليه قضاء ما أفطر فيه، ولا إثم عليه.

٦ - شخص أفطر في رمضان ناسيا، وجهل وجوب الإمساك عليه، فتمادى

على إفطاره في ذلك اليوم فيجب عليه القضاء، ولا كفارة عليه، ولا إثم. شخص كان مسافرًا في رمضان ووصل إلى بيته قبل الفجر، وأصبح مفطرا جاهلا أنَّ الصوم يجب عليه حين قدم إلى داره. فيقضي ذلك اليوم، ولا

إثم عليه الجهله.

شخص أجنب في ليلة من رمضان، واغتسل بعد الفجر فأفطر ذلك

اليوم، ولا إثم عليه الجهله.

۱۱۲

أصول الفقه

٩- شخص احتجم في نهار رمضان فأفطر لاعتقاده أنَّ الحجامة تفطر الصائم. يجب عليه القضاء، ولا إثم عليه الجهله.

۱۰ - قتل مسلم عمدًا، وعفا أولياءه عن القاتل إلَّا واحدا منهم لم يعفُ عنه فقتله قصاصا. فإن كان لا يعلم أنَّ عفو بعض الورثة يُسقط القصاص فهو معذور بجهله لا إثم عليه عند الله تعالى ولا قصاص في الدنيا، وإن قتله بعد علمه بأن العفو يسقط القصاص فهو آثم، ويقتل قصاصا.

القول الجزل

۱۱۳

خاتمة

في ألفاظ تدور على ألسنة كثير من الناس، وهي دائرة بين الكفر والحرمة: منها: طبيب كان في مجلس يتكلم عن مساواة المرأة للرجل كما يدعو إليه جهلة العصريين، فقال له جليسه : إنَّ الإسلام جعل شهادة رجل تعدل شهادة امرأتين، فقال الطبيب هذا ظلم. قال له جليسه إنه في القرآن. قال: هو ظلم

:

ولو في القرآن. وهذا كفر بواح لا خلاف فيه لأنه نسب الظلم إلى الله تعالى. ومنها قول بعضهم: يا حنين يارب فينطق اسم حنين بالتصغير، وهذا

حرام لأن أسماء الله تعالى لا يجوز تصغيرها، فيجب أن يقال : ياحنان يارب. ومنها قول بعضهم: مُصيحف مصحف صغير الحجم وهذا حرام أيضًا. بل يقال : مصحف صغير المقاس، أو صغير الحجم.

لان

ومنها قول بعضهم: سخرية القدر، أو القدر الساخر. وهذا حرام ) القدر منسوب إلى الله تعالى والله لا يجوز في حقه السخرية، وما في معناها

كالاستهزاء.

وقول الله تعالى الله يَسْتَهْزِئُ يهتم ﴾ [البقرة: ١٥] ذكر على سبيل المشاكلة ردا على المنافقين في قولهم : إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾ [البقرة: ١٤]، والمعنى أنَّ الله يجازيهم على استهزائهم، وهذا مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاؤُا سَيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مثْلُها [الشورى: ٤٠] أطلق على الجزاء سيئة لأجل المشاكلة، مع أنَّ الجزاء حسن وعدل.

ومنها: القدر أعور ، أو المكتوب أعور. وهذا أيضًا حرام، وقبيح؛ لأنه

١١٤

أصول الفقه

ينسب العور إلى الله تعالى، وكتابه.

ومنها : ما حكاه ابن حجر الفقيه في كتاب "الأعلام" حيث قال: «ووقع أنَّ أميرًا بنى بيتا عظيما فدخله بعض المجازفين من أهل مكة، فقال: قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». وأنا أقول: وتشد الرحال إلى هذا البيت أيضًا.

وقد سئلت عن ذلك، والذي يتجه ويتحرَّر فيه: أنه بالنسبة لقواعد الحنفية والمالكية وتشديداتهم يكفر بذلك عندهم. مطلقا، وأما بالنسبة لقواعدنا، وما عرف من كلام أئمتنا، فظاهر هذا اللفظ أنه استدراك على حَصْره صلَّى الله عليه وآله وسلم وأنه ساخر به، وأنه شرع شرعًا آخر غير ما شرعه نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم، وأنه ألحق هذا البيت بتلك المساجد الثلاثة في الاختصاص عن بقية المساجد بهذه المزية العظيمة التي هي التقرب إلى الله تعالى بشدّ الرحال إليها. وكل واحد من هذه المقاصد الأربعة التي دلّ عليها هذا اللفظ القبيح الشنيع كفر بلا مرية، فمتى قصد أحدها فلا نزاع في كفره، وإن أُطلق فالذي يتجه الكفر أيضًا، لما علمت أنَّ اللفظ ظاهر في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نية».

قلت: وهذا الحكم ينسحب على حادثتين وقعتا في هذا العصر. أولاهما : لما ظهر جمال عبد الناصر وافتتن المصريون به، قال بعض الجهلة في

الثناء عليه : جمال عمل ما لم يعمله الأنبياء. وهذا كفر لا خفاء فيه. والأخرى وقعت بالمغرب، وذلك أن بعض المتهورين أنشأ قصيدةً في الأستاذ علال الفاسي قال فيها: إنه أتى بما لم يأت به النبي محمد صلى الله

مدح

القول الجزل

۱۱۵

عليه وآله وسلّم. وهذا كفر قبيح، وهو أيضًا كذب؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إلى جانب كونه رسولا داعيا إلى دين الله، عمل عملا وطنيا بمفهوم هذا العصر. وبيان ذلك:

أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بُعث في الجزيرة العربية، وهي مفككة الأطراف، مُقطَّعة الأوصال، جزء منها تحت حكم فارس، وآخر تحت حكم الروم، وآخر تحت سيطرة أبرهة. وكانت مكة المشرفة بمثابة منطقة دولية يحترمها العرب وغيرهم، ويحجون إليها. فماذا فعل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله

وسلم؟

جاهر بدعوته، وجاهد بها وعنها ، وجمع شمل العرب، ووصل بين أطراف الجزيرة العربية، ووحد أجزائها حتى صارت دولة مستقلة ذات سيادة لها نظام وقانون مستمد من كتاب الله وسُنَّة رسوله وليس هذا فحسب، بل خرج

الصحابة غازين ،فاتحين ينشرون دين الله وتعاليم كتابه.

فمَن مِن الوطنيين في هذا الوقت عمل هذا العمل؟ أقصى ما وصل إليه الوطني اليوم - أيُّ وطني -كان أن تستقل بلاده. ولكنه استقلال ناقص مبتور؛ لأن بلاده تستمر بعد استقلالها الاسمي في العمل بنظام المستعمر، وتحكم بقانونه، وتنفّذ له ما يريد في بلاده المستقلة استما.

ومع هذا تجد الوطني يشمخ بأنفه، ويتبجح بأنه سعى في الاستقلال، أو أتى به، ولكن ما هو هذا الاستقلال، وما نتائجه؟

نتائج الاستقلال في جميع البلاد الإسلامية، هو ما نراه من الحكم بالقانون الأوروبي، في كل بلد حسب من كان مستعمر لها، ففي المغرب يحكم بالقانون

١١٦

أصول الفقه

الفرنسي، وفي مصر بالقانون الإنكليزي... وهكذا.

وهو مانراه أيضًا من التقليد الأعمى للمستعمرين فيما يضر ولا ينفع،

ومن تعظيم للنصارى، وقبول ما يأتي من جهتهم.

هذا هو استقلال البلاد الإسلامية الآن، فصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا العظيم الذي لم يأتِ أحد بمثل ما أتى به.

واعترف أحد المستشرقين بأنه أعظمُ مائةٍ هم عظماء العالم، لأنه حرَّر العقول والبلاد، وجعل من العرب أمَّةٌ موحدة الكلمة، مرهوبة الجانب، قويةً في الحق، عادلة في الحكم، فيحقُ أن نقول بفخر واعتزاز: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أتى بما لم يأتِ به أحدٌ ،قبله، ولن يأتي به أحد بعده، والحمد لله ربِّ

العالمين.

القول الجزل

تتميم

۱۱۷

الجهل في العبادة لا يُعذر صاحبه عند المالكية، فالجاهل فيه كالمتعمد، نقل القرافي عن الإمام مالك رحمه الله قوله: «إنَّ الجهل في الصَّلاة كالعمد، والجاهل كالمتعمد» . اهـ وهو المقرَّر في مذهبه كما في "المختصر" وشروحه. وترجم القرافي في "الفروق" بقوله: «الفرق الرابع والتسعون: بين قاعدة

مالا يكون الجهل عذرًا فيه وبين قاعدة ما يكون الجهل عذرًا فيه». وقال: «اعلم أنَّ صاحب الشرع قد تسامح في جهالات فعفا عن مرتكبها، وأخذ بجهالات فلم يعفُ عن مرتكبها.

وضابط ما يُعفى عنه من الجهالات الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة، ومالا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشقُ لم يُعفَ عنه». وذكر أمثلة:

منها: من وطئ امرأة أجنبية بالليل يظنُّها امرأته فعُفي ع

عن ذلك مما يشق على الناس.

ومنها: من شرب خمرا يظنُّه جلاب (1) فلا إثم عليه.

عنه لأنَّ الفحص

ومنها: لو قتل مسلما في صفّ الكفَّار يظنُّه حربيا، فإنه لا إثم عليه في جهله به؛ لتعذر الاحتراز عن ذلك في تلك الحالة. ولو قتله في حالة السعة من غير

كشف عن ذلك أثم. ومنها: الحاكم يقضي بشهود الزور مع جهله بحالهم. لا إثم عليه في ذلك،

(۱) جلابا: بوزن رمانا ماء الورد.

۱۱۸

أصول الفقه

لتعذر الاحتراز من ذلك عليه. وما عداه فمكلَّف به، ومن أقدم عليه مع الجهل

فقد أثم.

النوع الثاني : جهل لم يتسامح صاحب الشرع عنه في الشريعة فلم يعف عن

:مرتكبه

وضابط هذا النوع أنَّ كل مالا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشقُ، فالجهل فيه

غير مقبول، ولا يُعذر صاحبه. ويجري ذلك في ثلاثة أنواع: الأول: عقائد أصول الدين فإنَّ الشارع شدَّد فيها تشديدا عظيما، بحيث لو بذل الإنسان جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل عنه في صفة من صفات الله تعالى، أو في شيء يجب اعتقاده من أصول الديانات، ولم يرتفع ذلك الجهل، فإنه آثم كافر بترك ذلك الاعتقاد الذي هو من جملة الإيمان ويخلد في النيران على المشهور من المذاهب.

مثل اعتقاد الفلاسفة أنَّ الله فاعل بالعلة، واعتقادهم أنه لا يعلم الجزئيات، وإنكارهم الحشر الجسماني، فهم كفار بهذه العقائد لأنهم مع

اجتهادهم - جهلوا ما يجب في حق الله تعالى فكانوا كفَّارًا مخلدين في النار أبدًا. الثاني: نقل القرافي عن العلماء أنهم قالوا: يلحق بأصول الدين أصول الفقه. ونقل عن أبي الحسين البصري في كتاب "المعتمد في أصول الفقه" أنه قال: «إن أصول الفقه اختص بثلاثة أحكام عن الفقه: أنَّ المصيب فيه واحد، والمخطئ فيه آثم، ولا يجوز التقليد فيه».

قال القرافي: «وهذه الثلاثة التي حكاها، هي في أصول الدين بعينها». قلت: وأبو الحسين البصري معتزلي، والمتأخّرون من الأصوليون لا يرون

القول الجزل

التخطئة والتأثيم كما قال المحقق ابن الشاط رحمه الله تعالى.

۱۱۹

الثالث: أنواع من الفروع لا يُقبل فيها الجهل ولا يُعذر صاحبه. منها: العبادة، تقدم قول الإمام مالك: «إنَّ الجهل في الصلاة كالعمد، والجاهل كالمتعمد لا كالناسي نقله القرافي في الفرق الثالث والتسعين، بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح، وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه، وقال: اعلم أن الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على قاعدة، وهي أن الغزالي حكى الإجماع في "إحياء علوم الدين"، والشافعي في "رسالته" حكاه أيضًا : في أنَّ المكلّف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلَّى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال. فمن تعلَّم وعمل بمقتضى ما عَلِم فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن علم ولم يعلم بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعة، وعصاه معصية.

ويدل على هذه القاعدة أيضًا من القرآن قوله تعالى حكاية عن نوح عليه

السلام : إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْتَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾ [هود: ٤٧] ومعناه: ما ليس لي بجواز سؤاله علمٌ. فدل على أنه لا يجوز له أن يُقدم على الدعاء والسؤال إلا بعد علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائز. وذلك سبب كونه - عليه السلام - عُوتب على سؤال الله تعالى لابنه أن يكون معه في السفينة، لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا؟

۱۲۰

أصول الفقه

فالعتب والجواب كلاهما يدل أنه لابد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن

يشرع فيه.

ومثله أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَلَا نَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ ﴾ [الإسراء: ٣٦]. نهى الله تعالى نبيه - عليه السَّلام عن اتباع غير المعلوم، فلا يجوز الشروع

في شيء حتى يعلم، فيكون طلب العلم واجبًا في كل حالة. ومثله قوله عليه السَّلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم». قال الشافعي رحمه الله: طلب العلم قسمان: فرض عين، وفرض كفاية». ففرض العين علمك بحالتك التي أنت فيها، وفرض الكفاية ما عدا ذلك. فإذا كان العلم بما يقدم الإنسان عليه واجبًا كان الجاهل في الصلاة عاصيا بترك العلم، فهو كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه . فهذا هو وجه قول مالك رحمه الله : إنَّ الجهل في الصَّلاة كالعمد، والجاهل كالمتعمد لا كالناسي»، وأما الناسي فمعفو . عنه. لقوله عليه السَّلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنِّسْيانُ وما استُكْرِهوا عليه». وأجمعت الأمة على أنَّ النسيان لا إثم فيه».اهـ ولا شك أنَّ الجهل في الصوم والاعتكاف والزكاة وبقية العبادات لا يكون عذرًا، فمن كان معتكفا وعمل عملا يُفسد اعتکافه جهلا، فسد اعتکافه ولا يعذر بجهله، ومن دفع زكاته إلى كافر أو غني جهلا بحاله لم تقبل زكاته ووجب أن يدفعها لمستحقها، وجهله ليس بعذر، ومن عقد بيعا أو نكاحا أو

شركة أو قراضًا وقت نداء الجمعة فسد ذلك العقد ولا يُعذر بجهله. ومنها أي مما لا يُعذر فيه بالجهل - فروغ ذكرها الشيخ خليل في "التوضيح"، ونظمه تلميذه الشيخ بهرام في قصيدة لامية شرحها العلامة

القول الجزل

۱۲۱

الأمير ونقحها في ثلاث وثلاثين مسألة. نذكر بعضها على سبيل المثال. منها : إذا أقدم شخص على الفتوى في أمر وهو جاهل، وترتب على فتواه فساد أو ضياع، فإنه يضمن ما أفسده، ولا يُعذر بجهله.

ومنها من تطبب وهو ليس بطبيب، يضمن إذا حصل عن طبه ضرر، ولا

يُعذر بجهله. ومنها: المرأة يغيب عنها زوجها فتنفق على نفسها من ماله، ثُمَّ يأتي نعيه، فترد ما أنفقت من يوم الوفاة، ولا تعذر بالجهل.

ومنها من اشترى شخصًا يُعتق عليه ،جاهلا، وهو الأب والابن وقريب

الحواشي، عتق عليه، ولا يُعذر بالجهل.

ومنها من توجه له على أبيه أو أمه حدّ أو يمين فاستوفاه جاهلا بأنَّ ذلك مفسق له، بطلت شهادته، ولا يُعذر بالجهل.

ومنها من يقطع الدنانير والدراهم لا تجوز شهادته ولا يُعذر بالجهل. وصرح المالكية في كتاب الزكاة بحرمة كسر الدنانير المسكوكة ما لم تكن مغشوشة فيجب كسرها.

ومنها: لو أقرّ بالزنا أو شرب الخمر وجب عليه الحد، ولا يُعذر بادعاء الجهل لكونه بدويًا أو قريب عهد بالإسلام. وهو ظاهر قول مالك: وقد ظهر الإسلام وفشا، فلا يُعذر جاهل في شيء من الحدود. وبقية الأمثلة، تنظر في

كتب المالكية.

۱۲۲

تنبيه

أصول الفقه

سبق أنَّ من دفع زكاته لكافر أو غني جهلا بحاله لم تقبل، ووجب عليه أن يؤديها لمستحقها المسلم الفقير. وقد يُظنُّ أنَّ هذا يُخالف الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال رجلٌ لأتصدَّقَنَّ بصَدَقَةٍ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق؛ فأصبحوا يتحدثون، تُصُدِّقَ على سارق؛ فقال: اللهم لك الحمد على سارق،

لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون، تُصُدِّقَ الليلةَ على زانية. قال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقنَّ بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون، تُصدَّقَ الليلة على غني. قال: اللهم لك الحمد على سارق و زانية وغني، فأُتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، أما صدقتك على سارق فلعلَّهُ أن يَسْتَعِفَ عن سرقته، وأَما الزَّانِيةُ فلعلها أن

تَسْتَعِفَّ عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فيُنفق مما أعطاه الله». فهذا الحديث يفيد أنَّ الصدقة تُقبل ولو وقعت في يد من لا يستحق. والجواب أنه لا تخالف ولا تعارض؛ لأنَّ الحديث في صدقة التطوع أما الزكاة فقد عين الله مَن يستحقها في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ

اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة : ٦٠]. فلو أعطيت الزكاة لأحد غير هؤلاء المذكورين في الآية لم تصح ولم تقبل،

وبالله التوفيق.

القول الجزل

۱۲۳

الخلاصة

تبيَّن مما أوردناه أنَّ الجهل الذي لا يكون عذرا سببه أمران:

أحدهما : وضوح دليله، وشهرته بين الناس بحيث يكون خفاؤه على الجاهل به في غاية البعد . وهي الأنواع التي أوردتها من الأول إلى الخامس

عشر.

والآخر: الجهل الذي لا يتعذر الاحتراز عنه، وهو الذي ذكرت بعض

أمثلته عن القرافي في "الفروق".

أما الجهل في العبادة فهو غير عذر عند المالكية كما سبق التنبيه عليه،

والجهل في العقيدة منه ما هو كفر والعياذ بالله .

مثل عقيدة «قدم العالم» المنافية لقول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ

[الزمر: ٦٢] ولإجماع المسلمين.

ومثل عقيدة «فناء النار» المنافية لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّهُمْ

سَعِيرًا خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥].

وقوله تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الإسراء: ۹۷] .

كلما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: ٥٦]،

ومنافية أيضًا لإجماع المسلمين.

ومثل إنكار القدر، فإنه مناف لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، وللإجماع أيضًا.

١٢٤

أصول الفقه

ومن الجهل في العقيدة ما هو ضلال، مثل عقيدة المشبهة والمعتزلة

وأشكالهم من الفرق الضالة التي أخبر الحديث عنها.

ففي "سنن ابن ماجه عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النَّصارى على ثنتيين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النَّار وواحدةٌ في الجنَّة، والذي نَفْسُ محمَّد بيده لتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي على ثلاث وسبعين فرقةً، فواحدة في الجنَّة و ثنتان وسبعون في النَّارِ».

وهذا الحديث يدل على عظم إثم الجاهل في العقيدة، وأنه إذا لم يكفر بجهله، فهو لا محالة ضالّ يستحق العذاب عند الله تعالى إلَّا إن رجع عن ضلاله، وصحح عقيدته على أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية بفضل الله تعالى.

القول الجزل

خاتمة

١٢٥

قال السيوطي في "الأشباه والنظائر" في فقه الشافعية: «من يقبل منه دعوى الجهل ومن لا يقبل كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببلدة بعيدة يخفى عليها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر، والكلام في الصلاة والأكل في الصوم، والقتل بالشهادة إذا رجعا وقالا تعمدنا ذلك ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، ووطء المغصوبة».

قال: «ومن هذا القبيل - أعني الذي يقبل فيه دعوى الجهل مطلقا لخفائه كون التنحنح يبطل الصلاة». ثُمَّ قال: «كل من علم تحريم شيء وجهل ما يترتب عليه لم يفده ذلك، كمن علم تحريم الزنا والخمر وجهل وجوبا جوب الحد يُحد بالاتفاق. وكذا لو علم تحريم الكلام وجهل كونه مُبطِلًا يبطل أو علم تحريم الطيب وجهل وجوب الفدية تجب». ثُمَّ ختم كتابه بقوله: هذه مسائل لا يُعذر فيها بالجهل، وقد نظمها بعضهم فقال : ثلاثون لا عُذْرَ بجهل يُرى بها وَزِدْها مِنَ الأعدادِ عَشْرَ التَكْمُلا وذكر القصيدة بتمامها .

-

قلت: وهي قصيدة الشيخ بهرام التي أشرتُ إليها، وذكرتُ أنَّ العلامة الأمير شرحها، ومن هذا يُعلم أنَّ الشافعية والمالكية والحنفية متفقون في معظم مالا يُعذر فيه بالجهل، إلَّا أنَّ المالكية ينفردون باعتبار الجهل في العبادة غير مقبول، والله تعالى أعلم.

٤ - إِثْقَانُ الصِّنْعَةِ

في تحقيق مَعْنَى البِدْعَةِ

إتقان الصنعة

۱۲۹

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد الله بَديعِ السَّمواتِ والأرض ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء بالسُنَّة والفرض وبيَّن الحلال والحرام،

ورضي الله عن آله الكرام، وصحابته الأعلام.

هذا جزء حرّرتُ فيه معنى البدعة، وذكرتُ أنواعها، وبيَّنتُ حَسَنها وسيئها حسبما اقتضته الأدلة، في إطار القواعد الأصولية، ناكبًا عن طريق التزمت الممقوت، طَارِحًا للتساهل المرذول ، وبالله أستعين فهو الموفّق المعين.

خادم الحديث والسنة

عبد الله بن الصديق الغماري

۱۳۰

أصول الفقه

(۱) معنى البدعة

قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن": «الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء، وإذا استُعمل في الله تعالى، فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان، وليس ذلك إلا لله.

والبديع يقال للمبدع نحو قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [البقرة: ١١٧] ويقال للمبدع - بفتح الدال - نحو ركية بديع. وكذلك البدع، يقال لهما جميعا بمعنى الفاعل والمفعول

وقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعَا مِنَ الرُّسُلِ [ الأحقاف: 9]. قيل معناه مبدعًا

لم يتقدمني رسول، وقيل: مبدعًا فيما أقوله.

والبدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة، وأمثالها المتقدمة، وأصولها المتقنة، وروي: «كلُّ مُحدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار».اهـ

وقال ابن الأثير في "النهاية": «البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما نَدَبَ الله إليه، وحَضَّ عليه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فهو في حيز المدح. وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسَّخاء وفعل المعروف فهو في الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قد جعل له في ذلك ثوابًا، فقال: «مَن سَنَّ سُنَّةٌ

إتقان الصنعة

۱۳۱

حَسَنةً كان له أجْرُها وأَجْرُ مَن عَمِل بها وقال في ضِدَّه: «وَمَن سَنَّ سُنَّةٌ سَيِّئَةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِل بها وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به، أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم.

ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه: «نعمت البدعة هذه»؛ لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيّز المدح سماها بدعة ومدحها؛ لأنَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمريسُنَّها لهم، وإنها صلاها ليالي ثُمَّ تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنة. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي»، وقوله: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر: «كلُّ مُحدثة

بدعة»، إنما يريد: ما خالف أصول الشريعه ولم يوافق السنة» . اهـ

وقال الفيومي في "المصباح": «أَبدَعَ الله تعالى الخلق إِبْدَاعًا خلقهم لا على مثال، وأبدَعْتُ الشيء وابْتَدَعْتُه : استخرجته وأحدثته، ومنه قيل للحالة المخالفة بدعَةٌ، وهي اسم من الابْتِدَاعِ، كالرفعة من الارتفاع. ثُمَّ غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين، أو زيادة لكن قد يكون بعضها غير مكروه، فيسمى بدعة مباحة، وهو ما شهد الجنسه أصل في الشرع، أو اقتضته مصلحة يندفع بها ،مفسدة، كاحتجاب الخليفة عن أخلاط الناس . اهـ وفي "القاموس وشرحه": «والبِدْعَةُ بالكسر الحدث في الدين بعد الإكمال ومنه الحديث: «إيَّاكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أو هي ما استحدث بعد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الأهواء

۱۳۲

أصول الفقه

والأعمال، وهذا قول الليث، وقال ابن السكيت: البدعة كل مُحدَثَة» . اهـ ثُمَّ نقل الشارح كلام "النهاية" كما سبق.

يُستخلَص مما سبق أنَّ كلَّ مُحدثة بدعة، في اللغة والشرع وأنَّ البدعة في

عرف الشرع نوعان: محمودة ومذمومة.

(۲) الترك لا يقتضى التحريم

من المعلوم بالضَّرورة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعل جميع المباحات؛ لأنها كثيرة لا يستطيع بشر أن يستوعبها عدا فضلا عن أن يتناولها. ولأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان زاهدًا مُتقلّلا، يقتصر من

المابحات على ما يسد الخلة وتستدعيه الحاجه ويترك ما زاد على ذلك. فمن زعم تحريم شيء بدعوى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعله فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودة.

وفي الصحيحين" عن خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت ميمونة، فأُتِيَ بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقيل: هو ضب يا رسول الله فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله ؟ فقال: «لا ، ولكن لم يكن بأرضِ قَوْمِي فأجدني أَعَافُهُ»، قال خالد: فاجتررته فأكلته، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ينظر. وفي الحديث دليل للقاعدة الأصولية: «أنّ ترك الشيء لا يقتضى تحريمه». قد يقال: سؤال خالد يدلُّ على خلاف القاعدة، وهو أنَّ الترك

التحريم وقد استدل به بعضهم لذلك.

يقتضي

إتقان الصنعة

۱۳۳

فيقال في جوابه لما رأى خالد إعراض النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الضَّب بعد أن أهوى إليه ليأكل منه حصل عنده شبهة في تحريمه؛ فلذلك سأل، وكان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم له مؤيدا للقاعدة، ومؤكدًا لعمومها في أنَّ ترك الشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يفيد تحريمه.

وفي الحديث دليل أيضًا على أنَّ استقذار الشيء لا يحرمه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم استقذر الضّب وعافه ولم يحرمه.

(۳) فعل الخير مندوب إليه في الكتاب والسنة

ومن المعلوم أيضًا بالضرورة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعل جميع المندوبات؛ لاشتغاله بمهام عظام استغرقت معظم وقته: تبيلغ الدعوة، ومجادلة المشركين والكتابيين، وجهاد الكفَّار لحماية بيضة الإسلام، وعقد معاهدات الصلح والأمان والهدنة وإقامة الحدود، وإنفاذ السرايا للغزو، وبعث العمال بجباية الزَّكاة، وتبليغ الأحكام، وغير ذلك مما يلزم لتأسيس الدوله الإسلامية وتحديد معالمها.

بل ترك صلى الله عليه وآله وسلّم بعض المندوبات عمدًا؛ مخافة أن يُفرض على أمته أو يشق عليهم إذا هو فعله.

ولأنه صلى الله عليه وآله وسلَّم اكتفى بالنصوص العامة الشاملة

للمندوبات

بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام إلى قيام الساعة، مثل: وَمَا

تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرِ يَعْلَمُهُ اللهُ ﴾ [البقرة: ١٩٧) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ

١٣٤

أصول الفقه

أَمْثَالِهَا ﴾ [الأنعام: . : ١٦٠. وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: ٧٧].

وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ [الشورى: ۲۳] فَمَن يَعْمَلْ

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة : ٧].

وجاءت الأحاديث النبوية، على هذا المنوال، وسنذكر بعضها بحول الله تعالى فمن زعم في فعل خير مُستحدث أنه بدعة مذمومةٌ، فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله؛ حيث ذمّ ما ندب الله ورسوله إليه في عموميات الكتاب والسنة.

(٤) حديث «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص

روى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته: «إنَّ خير الحديثِ كِتابُ الله، وخير الهدي هَدْي

محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعةٍ ضَلالَةٌ». قال النووي: «قوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «وكل بدعة ضلالة» هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع، قال أهل اللغة: هي كل شيء عُمل على

غير مثال سابق.

قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبةٌ ؛ ومندوبة؛ ومحرمة؛ ومكروهة؛

ومباحة.

فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرَّدَّ على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك. ومن المباح: التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.

إتقان الصنعة

۱۳۵

والحرام والمكروه ظاهران.

فإذا عرف ما ذكرته؛ علم أنَّ الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيدها قول عمر رضي الله عنه: نعمة البدعة. ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله: «كل بدعة»، مؤكدًا

بـ«كل»، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: تدمر كل شَيْ

[الأحقاف: ٢٥] . اهـ

وفي حديث العِرباض بن سارية، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة».

رواه أحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن

حبان والحاكم. قال الحافظ ابن رجب في شرحه والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة

شرعًا، وإن كان بدعة لغة» . اهـ

وفي "صحيح البخاري" عن ابن مسعود قال: «إنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها». - - : ل ابن حجر: «والمحدثات بفتح الدال - جمع مُحدثة، والمراد بها

قال الحافظ ابن حجر: " ما أحدث و ليس له أصل في الشَّرع، ويُسمَّى في عُرف الشرع: «بدعةً»، وما كان له أصل يدلُّ عليه الشَّرع، فليس ببدعة، فالبدعة في عُرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإنَّ كلَّ شيء أحدث على غير مثال، يُسمى بدعةً سواء كان محمودًا او مذموما» . اهـ

١٣٦

أصول الفقه

قلت: ما أحدث وله أصل في الشرع يشهد له يُسمَّى سُنَّةً حسنةً، كذلك سماه

النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ومقابله يُسمَّى بدعة، كما يُسمَّى سُنَّةٌ سَيِّئَةً. وروى أبو نعيم عن ابراهيم بن الجنيد، قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان بدعة محمودةٌ ، وبدعةٌ مذمومةٌ ، فما وافق السُّنَّة فهو محمود وما خالف السُّنَّة فهو مذموم».

وروى البيهقي في "مناقب الشَّافعي" عنه، قال: «المحدثات ضربان: ما أحدث مما يُخالف كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعا، فهذه بدعة الضَّلالة. وما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة

غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام رمضان: «نعمة البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى». وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «وأما قوله في حديث العرباض: فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» بعد قوله: «وإيَّاكم ومُحدَثات الأمورِ» فَإِنَّه يدلُّ على أَنَّ المحدث يُسمى بدعةً وقوله : كلُّ بدعة ضلالة» قاعدة شرعيَّةٌ كلية، بمنطوقها

ومفهومها.

أما منطوقها فكأن يقال: حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع؛ لأنَّ الشَّرع كلَّه هدى فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة، صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب. والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام». اهـ وقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": «البدعة - بكسر الباء- في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي

إتقان الصنعة

۱۳۷

منقسمة إلى حسنة وقبيحة.

قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته، وتمكنه من أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن عبد السَّلام - رحمه الله ورضي عنه- في آخر كتاب "القواعد": «البدعة منقسمة إلى واجبة، ومُحرَّمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة». قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب، فهي واجبة أو في قواعد التحريم فمحرَّمة، أو الندب، فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة».

وللبدع الواجبة أمثلة:

منها: الاشتغال بعلم النحو الذي يُفهم به كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك واجب، لأنَّ حفظ الشريعة واجبٌ ولا يتأَنَّى حفظها إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.

الثاني: حفظ غريب الكتاب والسنة.

الثالث: تدوين أصول الدين وأصول الفقه.

الرابع: الكلام في الجرح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم. وقد دلت قواعد الشريعة على أنَّ حفظ الشَّريعة فرض كفاية، في ما زاد على المتعين، ولا

يأتي ذلك إلا بما ذكرناه.

وللبدع المحرمة أمثلة:

منها: مذاهب القَدَريَّة والجبريَّة والمرجئة والمجسمة، والرد على هؤلاء من

البدع الواجبة.

۱۳۸

أصول الفقه

وللبدع المندوبة أمثلة:

منها: إحداث الربط والمدارس وكلُّ إحسان لم يُعهد في العصر الأول.

ومنها: التراويح والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل.

ومنها جمع المحافل للاستدلال إن قصد بذلك وجه الله تعالى.

وللبدع المكروهة أمثلة: كزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف.

وللبدع المباحة أمثلة:

منها: المصافحة عقب الصبح والعصر.

ومنها: التوسع في اللذيد من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام. وقد يُختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، ويجعله آخرون من السنة المفعولة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فما بعده، وذلك كالاستعاذة في الصَّلاة والبسملة».اهـ وكذا نقله الحافظ في "الفتح" وسلَّمه وهو حقيق بالتسليم.

(٥) العلماء متفقون على تقسيم البدعة

يُعلم ما مر : أنَّ العلماء متفقون على انقسام البدعة إلى محمودة ومذمومة، :

وأنَّ عمر - رضي الله عنه- أول من نطق بذلك. ومتفقون على أنَّ قول النبي صلى الله عيه وآله وسلّم: «كل بدعة ضلالة»

عام مخصوص.

ولم يشذ عن هذا الاتفاق إلَّا الشَّاطبي صاحب "الاعتصام"، فإنَّه أنكر هذا الانقسام، وزعم أنَّ كل بدعة مذمومةٌ، لكنه اعترف بأنَّ من البدع ما هو

إتقان الصنعة

۱۳۹

مطلوب وجوبًا أو ندبا، فجعله من قبيل المصلحة المرسلة، فخلافه لفظي يرجع إلى التسمية، أي أنَّ البدعة المطلوبة، لا تُسمى بدعة حسنةً، بل تُسمى

مصلحة.

(٦) البدعة المذمومة ما ليس له أصل في الشرع

قال الامام الشَّافعي: كل ما له مُستند من الشرع فليس ببدعة، ولو لم يعمل به السَّلف؛ لأنَّ تركهم للعمل به، قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لما هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعهم علم به . اهـ

وقال الإمام ابن لُبّ في الردّ على من كَرِه الدُّعاء عقب الصَّلاة: «غاية ما يستند اليه منكر الدُّعاء أدبار الصلوات: أنَّ التزامه على ذلك الوجه، لم يكن من عمل السلف وعلى تقدير صحة هذا النقل فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلَّا جواز التّرك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية

بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء».اهـ وقال ابن العربي: اليست البدعة والمحدث مذمومين للفظ بدعة ومحدث ولا معناهما، وإنَّما يُدم من البدعة ما خالف السُّنَّة، ويُذم من المحدثات ما دعا إلى الضَّلالة» . اهـ

١٤٠

أصول الفقه

(۷) أدلة تخصيص حديث: «كل بدعة ضلالة» الدليل لما اتفق عليه العلماء من تخصيص حديث: «كل بدعة ضلالة» عدة

أحاديث:

الحديث الأول

روی مسلم، والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سَنَّ فِي الإِسلام سُنَّةٌ حَسَنَةٌ فله أَجْرُها وأَجْرُ مَن عَمِل بها بعده من غير أن يَنقُص من أجورهم شيءٌ، وَمَن سَنَّ

في الإسلام سُنَّة سيِّئَةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عمل بها بعده من غير أن يَنقُص من أوزارهم شيء . قال النووي: «فيه الحبُّ على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من الأباطيل والمستقبحات. وفي هذا الحديث تخصيص لقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم : كلُّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». وأنَّ المراد به المحدثات

الباطلة والبدع المذمومة» . اهـ

وقال السندي في "حاشية ابن ماجه : قوله: «سُنَّةٌ حسنةً» أي طريقةً مرضيَّةً يُقتدى بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها».اهـ الحديث الثاني

روى ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن اسْتَنَّ خيرًا فاسْتُنَّ به كان له أجره كاملًا ومن أجور من استن به، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومَن اسْتَنَّ سُنَةٌ سَيِّئَةً فَاسْتُنَّ به فعليه

وزره كاملا ومن أوزار الذي استَنَّ به لا يَنقُص مِن أوزارهم شيئًا».

إتقان الصنعة

١٤١

الحديث الثالث

روى ابن ماجه عن أبي جُحَيْفَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سنَّ سُنَّةٌ حَسَنَةً فعُمِل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن يَنقُصَ مِن أجورهم شيئًا، ومَن سَنَّ سُنَّةٌ سَيِّئَةً فَعُمِل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن يَنقُصَ مِن أَوْزارِهم شيئًا». إسناده جيد.

الحديث الرابع

روى أحمد، والبزار والطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن حذيفه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ به كان له أَجْرُهُ ومِن أُجُورِ مَن تَبِعه غير مُنتقص من أجورهم شيئًا، وَمَن سَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ به كان عليه وِزْرُهُ ومِن أوزار من تبعه غير مُنتقص من أوزارهم شيئًا».

الحديث الخامس

روى الطبراني بإسناد حسن أيضًا عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتّى تُترك، ومن سن سنة سيِّئَةً فعليه إثمها حتَّى تُترك، ومن مات مُرابطًا في سبيل الله جرى عليه عمل الرابط حتَّى يُبعث يوم القيامة». فهذه الأحاديث تُصرّح بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، فالحسنة هي التي توافق أصول الشرع، وهي وإن كانت محدثة باعتبار شخصها، فهي مشروعةٌ باعتبار نوعها لدخولها في قاعدة شرعيَّة، أو عموم آية أو حديث؛ ولهذا سميت حسنة، وكان أجرها يجري على من سَنّها بعد وفاته.

١٤٢

أصول الفقه

والسيئة هي التي تُخالف قواعد الشَّرع وهي المذمومة والبدعة الضَّلالة. قال الأبي في "شرح مسلم": «ويدخل في السُّنَّة الحسنة البدع المستحسنة كقيام رمضان، والتحضير في المنار إثر فراغ الأذان وعند أبواب الجامع وعند دخول الإمام والتصبيح عند طلوع الفجر، كل ذلك من الإعانة على العبادة التي يشهد الشرع باعتبارها.

وقد كان علي وعمر يوقظان الناس لصلاة الصبح بعد طلوع الفجر . واتفق أنَّ إمام الجامع الأعظم بتونس وأظنُّه البرجيني، حين أتى ليدخل الجامع، سألته امرأة أن يدعو لابنها الأسير، وكان المؤذنون حينئذ يحضرون في المنار، فقال لها: ما أصاب الناس في هذا - يعني التحضير - أشد من أسر ابنك، فكان الشيخ - يعني ابن عرفة - يُنكر ذلك، ويقول: ليس إنكاره بصحيح، بل التحضير من البدع المستحسنة التي شهد الشَّرع باعتبارها ومصلحتها ظاهرة. قال: وهو إجماع من الشيوخ إذ لم ينكروه ، كقيام رمضان والاجتماع على التلاوة، ولا شك أنه لا وجه لإنكاره إلَّا كونه بدعة، ولكنها مستحسنة، ويشهد لاعتبارها الأذان والإقامة فإنَّ الأذان للإعلام بدخول الوقت، والإقامة بحضور الصَّلاة، وكذلك التحضير هو إعلام بقرب حضور الصَّلاة» . اهـ

ويجب أن ننبه على مسألة مهمَّةٍ لا يعرفها أهل العلم فضلا عمَّن دونهم، وهي تُعين على فهم هذه الأحاديث، ويُدرك بها الفرق بين ثلاث حقائق شرعيَّة : ١ - سن سنة أو استنانها :أي: إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه.

إتقان الصنعة

١٤٣

وهذا معنى ما أفادته الأحاديث المذكورة بعبارة: «مَن سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنةً» أي: من أنشأ سنة حسنةً مُستندًا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها. ومن سَنَّ سُنَّةً سيئةً، أي ابتدع سُنَّةٌ مُخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى

ما لا تُقرّه الشريعة كان عليه إثمها.

٢ - التمسك بالسُّنَّة أي: اتباعها والعمل بها.

وهذا ثابت في أحاديث كثيرة تحضُّ على اتباع السنة والعمل بها والاقتداء

بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

- إحياء سنة نبوية تُرِك العمل بها.

روى الترمذي وابن ماجه من طريق كثير بن عبدالله بن عمر بن عوف المزيّ عن أبيه عن جده أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لبلال بن الحارث: «اعلم يا بلال» قال ما أعلم يا رسول الله؟ قال: «إِنَّهُ مَن أحيا سُنَّةً مِن سنتي قد أُميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن يَنقُص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا». حسنه الترمذي، وهو حديث ضعيف، لكن له شواهد. وروى الترمذي أيضًا من طريق علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا بني إن قدرت أن تُصبح وتُمسي ليس في قلبك غزّ لأحد فافعل»، ثُمَّ قال لي: «يا بُني وذلك مِن سُنَّتي ومَن أحيا سُنَّتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة». قال الترمذي: حديث حسن. قلتُ: بل ضعيفٌ.

١٤٤

أصول الفقه

ورواه أبو النَّصر السِّجْزِيُّ في "الإبانة" بلفظ: «مَن أحيا سُنَّتي فقد أحبني،

ومَن أحبني كان معي في الجنَّة».

الحديث السادس

روى الشَّيخان عن عائشة قالت : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ». وفي رواية لمسلم: «من عَمِل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدُّ». وفي بعض الفاظه: «من أحدث في ديننا ما ليس

منه فهو رد».

قال ابن رجب: هذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أنَّ كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدلُّ على أنَّ كلَّ عمل عليه أمره فهو غير مردود». اهـ وقال الحافظ في "الفتح": «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده؛ فإنَّ معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه».

ونقل عن الطوقي أنَّه قال: هذا الحديث يصلح أن يُسمَّى نصف أدلة الشرع؛ لأنَّ الدَّليل يتركَّب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدّمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأنَّ منطوقه كلية في كل دليل ناف الحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى. ومفهومه أنَّ من عَمِل عملا عليه أمر الشَّرع فهو صحيح، مثل أن يقال في

إتقان الصنعة

١٤٥

الوضوء بالنيَّة: هذا عليه أمرُ الشَّرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع، فهو

صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع» . اهـ قلت: هذا الحديث مُخصص لحديث: «كل بدعة ضلالة»، ومبين للمراد

منه كما هو واضح. إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء، لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هنا شيئًا فهو رَةٌ. لكن لما قال: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أفاد أنَّ المحدث نوعان: ما ليس من الدين بأن كان مخالفًا لقواعده ودلائله، فهو مردود، وهو البدعة الضَّلالة.

وما هو من الدين بأن شهد له أصل أو أيده دليل، فهو صحيح مقبول، وهو السُّنَّة الحسنة.

الحديث السابع

روى أحمد وأبو داود من طريق عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : أُحيلت الصَّلاة ثلاثة أحوال ، فذكر الحديث وفيه: وكانوا يأتون الصَّلاة، وقد سبقهم ببعضها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكان الرجل يُشير إلى الرجل إن جاء: كم صلَّى؟ فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليها، ثُمَّ يدخل مع القوم في صلاتهم، فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدًا إِلَّا كنت عليها، ثُمَّ قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ببعضها، فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته، قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّه قد سَنَّ لكم معاذ فهكذا فاصْنَعُوا». ورواه أحمد أيضًا من طريق آخر عن أبي ليلى عن معاذ.

ورواه ابن أبي شيبة حدثنا وكيع ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن

١٤٦

أصول الفقه

عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله

وسلّم... فذكر الحديث. صححه ابن حزم وابن دقيق العيد.

وابن أبي ليلى أدرك عشرين ومائة من الصحابة، فالحديث متصل صحيح. وقال الطبراني: ثنا أبو زرعة الدمشقي : ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظِيُّ: ثنا فليح بن سليمان، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مُرَّة الجَمَلي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: كنا نأتي الصَّلاة، فإذا جاء رجلٌ وقد سبق بشيء من الصَّلاة أشار إليه الذي يليه: قد سبقت بكذا وكذا فيقضي، قال: فكنا بين راكع وساجد وقائم ،وقاعد فجئت وقد سبقت ببعض الصَّلاة، وأشير إلي بالذي سبقتُ به، فقلتُ: لا أجده على حال إلا كنت عليها. فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قمتُ فصليتُ، واستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم الناس وقال: من القائل كذا وكذا؟ قالوا: معاذ بن جبل، فقال: «قد سَنَّ لكم معاذ فاقتدوا به إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصَّلاة فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به». إسناده صحيح. وهو يدل على جواز إحداث أمر في العبادة صلاة أو غيرها إذا كان موافقا لأدلة الشرع، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُعنّف معاذا ولا قال له: لم أقدمت على أمر في الصَّلاة قبل أن تسألني عنه، بل أقره وقال: «سَنَّ لكم معاذ فاصنعوا كما صنع؛ لأنَّ ما صنعه يوافق قاعدة الإتمام، واتباع المأموم لإمامه، بحيث لا يقضي ما فاته حتَّى يُتِمَّ الإمام صلاته.

يؤيد هذا ويؤكده أنَّ أبا بكرة لما ركع قبل الصف، ومشى راكعا حتى دخل

إتقان الصنعة

١٤٧

الصف، قال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «زادك الله حرصًا ولا تَعُد» فنهاه عن العودة إلى ذلك ولم يُقره عليه لأنَّه يُخالف هيئة الصَّلاة، وينافي السكون المطلوب فيها .

ويؤخذ من حديث معاذ: أنَّ مُخالفة المأموم لإمامه في أفعال الصلاة كانت جائزة، إذ كان الرجل يُصلِّي ما فاته، فيختلف معه في الركوع أو السجود أو القيام ثُمَّ يُتم معه، فلما فعل معاذ ما فعل، وأمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم باتباعه نُسخ جواز ،المخالفة، وتعيَّنت متابعة الإمام في أفعال الصَّلاة والحكم المنسوخ لا يجوز العمل به بإجماع العلماء.

به

ومن هنا يُعلم بطلان قول ابن حزم بأنَّ المسافر يقصر الصلاة خلف إمامه المتم، فإنَّه إذا قصر كان مُخالفًا للإمام والمخالفة منسوخة، والعمل بالمنسوخ باطل فصلاته باطلة، كما لو استقبل في صلاته بيت المقدس فإن صلاته باطلة. ويعلم بطلان قوله أيضًا من جهة أخرى، وهي أنَّه من المعلوم بالضرورة أنَّ وفود العرب، كانت تفد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، وتُصلّي معه، ولم يقل لهم قصروا الصَّلاة، أنه قال لأهل مكة في حجه: «أتموا مع صلاتكم فإِنَّا قوم سَفَرٌ».

ولهذا انجزم . بأنَّ الوفود كانوا يتمُّون الصَّلاة معه صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ إذ ليس من المعقول أن يأمرهم بالتقصير، ولم يُنقل إلينا. بل هذا محال في حق الصحابة الذين كانوا حريصين على نقل أقواله وأفعاله خصوصا ما كان منها متعلقا بالصَّلاة التي هي من أهم أركان الدين. وهذه حُجَّةٌ لازمةٌ لمقلدة ابن حزم لا يستطيعون الانفكاك عنها.

١٤٨

أصول الفقه

كما لزمتهم الحجة بحديث ابن عباس حين سأله موسى بن سلمة: إذا صلينا معكم صلَّينا أربعًا؟ وإذا صلَّينا في رحلنا، صلَّينا ركعتين؟ فقال له ابن عباس تلك سنة أبي القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد أوله مُقلد متوفّح تأويلا عاميًا سخيفًا. فلما نبهناه إلى سخافته، عمد إلى التحريف حيث زعم أنَّ ابن عباس قال: تلك السنة. وهذا كذب قبيح، يزري بصاحبه، ويجعله في مصاف الكذابين الوضاعين مثل الجويباري.

الحديث الثامن

روى ابن ماجه في "سننه" بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن المسيب أنَّ بلالا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يُؤذِنه بصلاة الفجر، فقيل: هو نائم، فقال : الصَّلاة خير من النوم الصَّلاة خير من النوم، فأُقرت في تأذين الفجر؛

فثبت الأمر على ذلك.

ورواه الطبراني في "الأوسط" عن عائشة، والبيهقي عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن مرسلا، بإسناد حسن، ولا شكّ أنَّ الذي أقرَّ بلالا هو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. بل روى الطبراني في "الكبير" عن حفص بن عمر، عن بلال أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يُؤذِنُه بالصُّبح، فوجده راقدا فقال: الصَّلاة خير من النوم مرتين، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أحسنَ هذا، اجعله في أَذانك». ورواه أبو الشيخ في كتاب "الأذان"، عن ابن عمر نحوه.

فبلال رضي الله عنه زاد في الأذان جملةً أقرَّه عليها الشارع؛ لأنها توافق ما

إتقان الصنعة

١٤٩

شرع له الأذان من الدعوة إلى الصَّلاة، والإعلام بحضور وقتها؛ وعلى هذا فزيادة السيادة في الأذان والإقامة لا بأس بها؛ لأنَّ فيها سلوك الأدب . موافقتها للواقع، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، وسنتكلم

عليها بعد بحول الله تعالى.

الحديث التاسع

في "صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزُّرقي قال: كنَّا نُصلّي يوما وراء النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سَمِعَ اللهُ لَمَن حَمِدَهُ» فقال رجلٌ وراءه: ربَّنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه»، فلما انصرف قال: «مَن المتكلم؟ قال: أنا، قال: «رأيتُ بِضْعَةٌ وثلاثين مَلَكًا يَبْتَدِرُونها أيُّهم يكتبها». قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصَّلاة غير مأثورٍ إذا كان لا يُخالف المأثور» . اهـ

الحديث العاشر

روى الطبراني في "الأوسط" بإسناد جيد عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: «يا مَن لا تَراهُ العيون، ولا تُخالِطُهُ الظُّنون، ولا يَصِفُهُ الواصِفُونَ، ولا تُغيَّره الحوادث، ولا يَخْشَى الدَّوائِرَ، يَعْلَمُ مَناقِيلَ الجبال، ومَكاييل البحار، وعَدَدَ قَطْرِ الأَمْطَارِ، وعَدَدَ وَرَقِ الأشجارِ ، وعَدَدَ ما أظْلَمَ عليه اللَّيْلُ وأَشْرَقَ عليه النَّهارُ، لا تُوارِي منه سماء سماء، ولا أرض أرضًا، ولا بحرّ ما في قَعْرِه، ولا جَبَلْ ما فِي وَعْرِه،

اجعل خير عُمْرِي آخِرَهُ، وخير عَمَلِي خَوَاتِيمَهُ، وخير أيامي يوم أَلْقَاكَ فيه.

10.

أصول الفقه

فلما انصرف دعاه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وَوَهَبَ له ذَهَبًا أَهدي إليه من بعض المعادِنِ وقال له: وَهَبْتُ لكَ الذَّهَبَ بِحُسْنِ ثنائِكَ على اللَّهُ عَزَّ وجل».

فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بإقرار هذا الأعرابي، على الدعاء الذي أنشأه، بل أعطاه عليه جائزةً، لأنَّه أحسن فيه الثناء على الله تعالى.

الحديث الحادي عشر

في "صحيح البخاري" قصة قتل حبيب، وصلاته ركعتين قبل قتله، قال: وهو أوَّل مَن سَنَّ صلاة ركعتين عند القتل.

إتقان الصنعة

القرآن يؤيد البدعة الحسنة

١٥١

روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إنَّ الله فرض عليكم صوم رمضان، ولم يفرض عليكم قيامه، وإنما قيامه شيء أحدثتموه، فدوموا عليه، فإنَّ ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا، فعابهم الله بتركها فقال:

وَرَهْبَانِيَةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْتَهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعايتها ﴾ [الحديد: ۲۷].

في سنده زكريا بن أبي مريم ذكره ابن حِبَّان في "الثقات"، وقال النسائي: «ليس بالقوي». وقال الدارقطني: «يُعتبر به».

وما استنبطه أبو أمامة . رضي الله عنه صحيح، فإنَّ الآية لم تعب أولئك الناس على ابتداع الرهبانية لأنّهم قصدوا بها رضوان الله، بل عاتبهم على أنهم لم يرعوها حق رعايتها، وهذا يُفيد مشروعية البدعة الحسنة كما هو ظاهر وابن كثير - رحمه الله - لم يدرك مغزى الآية فحملها على ذمّ البدعة مطلقا، وهو

١٥٢

أصول الفقه

البدعة نوعان

بدعة تتعلق بأصول الدين، وبدعة تتعلق بفروعه. البدعة التي تتعلق بأصول الدين

فأما البدعة التي تتعلق بأصول الدين، فهي التي حدثت في العقائد وما

يناسبها ولها أمثلة:

أمثلة للبدع التي تتعلق بأصول الدين

١ - بدعة إنكار القدر وأوّل من أظهرها، معبد الجهني بالبصرة، كما في "صحيح مسلم" عن يحيى بن يعمر. واعتقدها طائفة من المبتدعة يتسمون بالقدرية وهم صنفان: أ- صنف يزعمون أنَّ الله لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وهؤلاء كفار،

وقد انقرضوا والحمد لله. ب وصنفٌ يزعمون أنَّ الله لا يُقدِّر الشر ولا يُريده، وهم المعتزلة. ويزعمون مع ذلك أنَّ القرآن مخلوق، وأنَّ المسلم المرتكب لكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، بل هو فاسق، منزلةٌ بين المنزلتين، وأنَّ المسلم العاصي مُحلَّدٌ في النَّار، ويُنكرون الشفاعة في العصاة، ويُنكرون عذاب القبر والحوض والميزان والصراط ورؤية الله في الجنة، ويزعمون أنَّ العبد خالق لأفعاله وأوجبوا على الله رعاية

مصالح العباد، إلى غير ذلك من عقائدهم الباطلة المخالفة للكتاب والسُّنَّة. ٢ - بدعة الجَهْميَّة : أتباع جَهم بن صفوان، وهو جبري، يقول: إنَّ العبد مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنَّما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وينسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب

إتقان الصنعة

إلى الجمادات.

١٥٣

ويفرع على ذلك أنَّ التكليف جبر، والثَّواب والعقاب جبر. وهذا يُصادم

بدائه العقول وصرائح النقول.

٣- بدعة مشبهة الحَشْويَّة: يشبهون الله بخلقه، أجازوا عليه المماسة والمصافحة، وأجروا ما جاء في الآيات والأحاديث من ألفاظ الاستواء والوجه واليدين والعين والجنب والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك على ظاهرها الذي يُفهم عند إطلاقها على الأجسام، حتَّى قال داود الخواري من زعمائهم: اعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك». ومعنى هذه العبارة: أنه يثبت الله جميع الجوارح غير اللحية والفرج.

قال التاج السبكي في "طبقات الشَّافعيّة": «إنَّ أبا اسماعيل عبدالله بن محمد الهروي الذي تُسمّيه المجسمة شيخ الإسلام، قال: سألت يحيى بن عمار عن ابن حبان، قلت: رأيته؟ قال: وكيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان. كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحمد لله، فأخرجناه من

سجستان».

قال السبكي: «انظر ما أجهل هذا الجارح وليت شعري من المجروح، مثبت الحمد لله أو نافيه ؟!». وذكر في "الطَّبقات" أيضًا، في ترجمة أبي عثمان الصابوني: «أَنَّ المجسمة بمدينة هراة، لقبوا أبا أسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري المشار إليه بشيخ الإسلام. قال: وكان الأنصاري المذكور كثير العبادة محدثًا، إلا أنَّه كان يتظاهر بالتجسيم والتشبيه، وينال من أهل السُّنَّة في كتابه "ذم الكلام"، حتى ذكر أنَّ

١٥٤

أصول الفقه

ذبائح الأشعريَّة لا تحلُّ. وله أيضًا كتاب "الأربعين"، سمتها أهل البدعة " الأربعون في السُّنَّة" يقول فيها : باب إثبات القدم الله ، باب إثبات كذا وكذا... ب الأعضاء كاليد والجنب قال : وكان أهل هراة في عصره فئتين: فئة تعتقده وتبالغ فيه، لما عنده من التقشف والعبادة. وفئة تكفّره، لما يظهر من

يعني

التشبيه» . اهـ

قال: «ومن مصنفاته التي فوقت نحوه سهام الملام: كتاب "ذم الكلام"، وكتاب "الفاروق في الصفات، وكتاب "الأربعين"، وهذه الكتب الثلاثة، أبان فيها عن اعتقاد التشبيه وأفصح» . اهـ

قلت: ونقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه كان يثني على مصنفات

الهروي هذا، ويحضُّ على قراءتها؛ لأنَّ ابن تيمية كان يعتقد التشبيه.

٤ - بدعة الخوارج وهم فرقُ يجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما. ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلَّا على ذلك ويكفرون أصحاب الكبائر

«أن

ومن الخوارج طائفة الأزارقة، كفّروا عليا وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبدالله ابن عباس رضي الله عنهم. وذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج الميمونية - طائفة منهم - يُجيزون نكاح بنات البنات، وبنات الأولاد، وبنات أولاد الإخوة والأخوات وقالوا: إنَّ الله حرم نكاح البنات وبنات الإخوة

والأخوات ولم يحرم نكاح بنات هؤلاء».

وحكى الأشعري والكعبي عنهم إنكار كون (سورة يوسف) من القرآن.

إتقان الصنعة

١٥٥

قلت: حكي عن العجاردة أيضًا إنكار (سورة يوسف) وقالوا: لا يجوز أن

تكون قصة العشق من القرآن. ه - بدعة القول بحوادث لا أوّل لها وهي منقولة عن ابن تيمية كما في "فتح الباري" ولأجلها رجّح رواية حديث: كان الله ولم يكن شيء قبله». على رواية: «كان الله ولم يكن شيء غيره . وعلى رواية: «كان الله قبل كل شيء». قال الحافظ: «مع أنَّ قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل الرواية الأولى على ما بعدها لا العكس، والجمع يُقدَّم على الترجيح بالاتفاق». اهـ

ولأجلها أيضًا انتقد على بن حزم حكاية الإجماع على أنَّ ما سوى الله مخلوق، كما تجد ذلك في تعليقاته على مراتب الإجماع"، وهذه العقيدة أخذها

عن عبد الله بن ميمون الإسرائيلي صاحب كتاب "دلالة الحائرين".

فاعجب لرجل يشدّد النكير على المبتدعين في الفروع، ثُمَّ يبتدع بدعةً في الأصول، ويردُّ لأجلها الأحاديث الصحيحة ويستنكر إجماعا مليا أيده العقل

والنقل !!

.

٦ - بدعة القاديانية أتباع غلام أحمد القادياني، ظهر في أوائل هذا القرن، وزعم أنه نبي، وأنَّ نُبُوَّته ظلية بمعنى أنها ليست ناسخة للإسلام، بل متممة له، ثُمَّ زعم أنه المسيح الموعود بنزوله في آخر الزمان، وأنه أفضل من المسيح ابن مريم عليهما السلام. وكان يحض أتباعه على الولاء للإنجليز، ويحمد الله على أنه ولد في بلد

ترفرف عليه الراية الإنجليزية، وكان دسيسة استعمارية جنده المستعمرون لتفريق كلمة المسلمين في الهند وتشكيكهم في عقيدتهم. ولذلك كان إذا ذهب

107

أصول الفقه

لمناظرة مع . لحمايته من المسلمين. وكانت نهايته بيده من حيث لا يشعر، ذلك أنه دعا علماء المسلمين بالهند إلى المباهلة، فدعا في ابتهاله أمام أتباعه أن يعجل الله بهلاك الكاذب من الفريقين كما ابتهل العلماء بذلك أيضًا، فابتلاه الله بإسهال شديد أضعفه وأضناه ولم يمر عليه عام حتَّى دخل حفرته مذموما مدحورًا. هذه نماذج من المحدثات في أصول الدين، وهي وما شابهها من أقوال الفرق الضالة، يتنزل عليها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ». وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «كل بدعة ضلالة». لأنَّ تلك الأقاويل تخالف الكتاب والسنة، وما أجمع عليه الصحابة

علماء المسلمين أو لمحاضرة في أتباعه يصحبه حرس إنجليزي

والتابعون وعلماء السُّنَّة. فكانت باطلة مردودة، وضلالة بدون استثناء. وأصحابها هم المرادون بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إِنَّ من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين مِلَّةً، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة». رواه أحمد وأبو داود من حديث معاوية. وفي رواية لأبي داود: «وأنه سيخرج من أمتي أقوام تتَجَارَى بهم الأهواء

كما يَتَجَارَى الكَلَبُ بصاحِبِهِ لا يُبقي منه عِرقٌ ولا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ». «الكَلَبُ» بفتح الكاف واللام: داءٌ يعرض للإنسان إذا عضّه كلب مسعور.

إتقان الصنعة

البدعة التي تتعلق بالفروع

١٥٧

وأما البدعة التي تتعلق بالفروع فليست بضلالة؛ لأنها من جملة الحوادث التي تحدث على مر الزَّمن، ويطلب حكمها من دلائل الشريعة وقواعدها العامة على مراعاة المصالح والمفاسد.

وعدم وجودها في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أو عدم فعله لها، لا

يقتضي أن تكون محرمة، فضلا عن أن تكون ضلالة. وقد قدمنا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعل جميع المباحات ولا

جميع المندوبات، وهذا مُقرَّر في علم الأصول على أتم وجه.

ولتوضيح ذلك، وتقريبه نذكر بعض الأمثلة: ١ - تعدد الجمعة: لم يكن في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا في عهد الصحابة والتابعين.

روى البيهقي في "المعرفة" من طريق أبي داود في "المراسيل" عن بكير بن الأشج، قال: كان في المدينة تسعة مساجد مع مسجده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يسمع أهلها أذان بلال فيصلُّون في مساجدهم». زاد يحيى: «ولم يكونوا يصلُّون

الجمعة في شيء من تلك المساجد إلا مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم». قال الحافظ : ويشهد له صلاة أهل العوالي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الجمعة كما في الصحيح، وصلاة أهل قباء معه، كما رواه ابن ماجه وابن خزيمة. وروى البيهقي أنَّ أهل ذي الحليفة كانوا يُجمعون بالمدينة، قال البيهقي: ولم ينقل أنَّه أُذِنَ لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة، ولا في القرى

التي بقربها.

١٥٨

أصول الفقه

وقال الأثرم لأحمد: أجمع جمعتين في مصر ؟ قال : لا أعلم أحد فعله. وقال ابن المنذر : لم يختلف النَّاس أنَّ الجمعة لم تكن تُصلى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وفي عهد الخلفاء الراشدين إِلَّا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. وفي تعطيل النَّاس مساجدهم يوم الجمعة واجتماعهم في مسجد واحد أبين البيان بأنَّ الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تُصلَّى إلا في مكان واحد» . اهـ وذكر الحافظ ابن عساكر في مقدمة تاريخ دمشق": «أن عمر كتب إلى عماله إلى أبي موسى، وإلى عمرو بن العاص، وإلى سعد بن أبي وقاص: أن يتخذ مسجدا جامعا ومسجدًا للقبائل، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع، فشهدوا الجمعة». وذكر الحافظ الخطيب في " تاريخ بغداد: «أنَّ أوَّل جمعة أحدثت في الإسلام في بلد مع قيام الجمعة القديمة، في أيام المعتضد في دار الخلافة - يعني بغداد - من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة، وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم. وذلك في سنة ثمانين ومائتين، ثُمَّ بُني في أيام المكتفي، مسجد فجمعوا فيه». وقال ابن المنذر: «لا أعلم أحدًا قال بتعدد الجمعة غير عطاء» . اهـ وهو ابن

أبي رباح.

وقال بتعددها أيضًا داود الظاهري، وابن حزم، وابن العربي المعافري، وله في ذلك رسالة خاصة، أخبرني بها مولانا الإمام الوالد رحمه الله ورضي عنه. وعلى التعدد استمرَّ عمل المسلمين في البلاد الإسلامية، ولم يقل أحد أنَّه بدعة ضلالة، وأنَّ الذين أجازوه مبتدعةٌ ضالون؛ لأنه فرع فقهي اختلفت

إتقان الصنعة

١٥٩

أنظار العلماء فيه بحسب ما ظهر لهم من الأدلة. ٢ - إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب: تعدد الجمعة بدعة بلا شك دعت إليها الحاجة لاتساع العُمران وكثرة السكان، بحيث لا يجمعهم مسجد واحد، وأهل الشرق اقتصروا على التعدد المحتاج إليه، ففي القطر المصري وغيره من البلاد الإسلاميَّة إذا أُذن للصَّلاة : الجمعة سعى الناس إلى المساجد المتعدّدة لأداء شعائر الصَّلاة، امتثالا لقول الله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ [الجمعة: ٩] فحافظوا على أدائها، وقت النداء كما أفادته الآية. أما المغاربة، فزادوا بدعةً أُخرى، وهي إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب، يُؤذّن للصَّلاة أوّل الوقت فتُصلَّى الجمعة في مساجد، ثُمَّ يؤذن ثاني مرة فتصلى في مساجد أخرى، ثُمَّ يؤذن ثالث مرة فتصلى في مساجد غير

السابقة، حتّى تكون آخر جمعة تُقام حوالي الساعة الثانية بعد الزوال. وهذا اتساع في الابتداع لا يؤيده دليل ولا تشمله قاعدة، والذي يقتضيه النظر الصحيح أنَّ السَّعي إنَّما يجب عند النداء الأول، وأنَّه النداء المشروع، وهو المقصود في الآية. والنداءات التي بعده لاغية لا يجب السَّعي عندها، لأنها غير مشروعة، والجمعة التي تقام عند النداء الأول . هي ا الصحيحة وما عداها باطل؛ لأنَّ الحاجة دعت إلى التعدد، ولم تدع إلى الترتيب.

- إعادة الجمعة: بعض الأئمة الجهلة يخطب الجمعة ويصليها في مسجد،

ثُمَّ يذهب إلى مسجد آخر فيخطب فيه الجمعة ويُصليها أيضًا، فيرتكب بدعة

قبيحةً ويُصلّي جمعة باطلة يأثم عليها ولا يُثاب.

17.

أصول الفقه

وقد يقع في أذهان بعض الناس قياس إعادة الجمعة على إعادة معاذ صلاة العشاء إماما بقومه، بعد صلاتها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو قياس باطل؛ ذلك أنَّ الصَّلوات الأخرى غير الجمعة لم يأمر الله بالسعي إليها عند النداء لها، وإنّما أوجب أداءها في الوقت فمن هنا جاز أن تُعاد الظهر أو العشاء مثلا في الوقت مرَّتين لتحصيل فضل الجماعة، أو للتصدق على من

يُصلّي وحده، أو يؤم من لم يجد إمامًا يُصلّي به، كما فعل معاذ رضي الله عنه. أما الجمعة فإنَّ الله تعالى أوجب السَّعي إليها عند النداء لها، وأوجب الجماعة فيها ولو جازت صلاتها على التعاقب، أو جازت إعادتها لإمام يُصليها في مسجدين، لكان الأمر بالسَّعي إليها في الآية لغوا لا فائدة فيه، واللازم باطل بالضرورة، فبطل القياس كذلك. - الأذان للظهر مرتين: شاع في المغرب الأذان للظهر مرتين، بينهما نحو ساعة، والأذان للعصر مرَّتين، بينهما عشر دقائق، وفي تطوان يُؤذن للعشاء مرتين أيضا، وهذه بدعة سخيفةٌ، لا توجد إلا في المغرب، ولم يُشرع الأذان إلَّا

عند دخول الوقت للإعلام بالصَّلاة، والأذان بعده لاغ غير مشروع. ه ومن البدع السَّخيفة بالمغرب أيضًا يوم الجمعة: أن يُؤذِّن ثلاثة على المنار واحدًا بعد آخر، عند طلوع الخطيب إلى المنبر.

٦ - جهر الناس بالقراءة في المسجد ومن البدع السخيفة بالمغرب يوم الجمعة أيضًا: جهر النَّاس بالقراءة في المسجد قبل خروج الإمام، فإذا جاء الرجل إلى المسجد يوم الجمعة، سمع من بعيد أصواتاً مرتفعة، وضجيجًا غير مفهوم، فيُخيَّل إليه أنه داخل إلى سوق لا إلى مسجد، حيث يجد هذا يقرأ القرءان، وذاك يقرأ

إتقان الصنعة

١٦١

دلائل الخيرات، وآخر يذكر، وجماعة يقرأون بصوت واحد مرتفع. وفي هذا تشويش منهي عنه، لما روي أبو داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إِنَّ كلَّكم مُناجٍ رَبَّه فلا يُؤذِينَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة والنَّهي يُفيد التحريم، وقال به الشافعيَّة كما في "المجموع" للنووي، فهذه البدعة محرمة، حسبما يقتضه

الدليل. - إرسال اليدين في الصَّلاة: لم يفعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا الصحابة. فهي بدعةٌ بلا شك، والعجيب جدًّا أنَّ المالكية اعتبروا هذه البدعة من مستحبّات الصَّلاة، واعتبروا القبض من مكروهاتها؛ فخالفوا الإجماع؛ ذلك أنَّ أهل السنة أجمعوا قولا وعملا على أنَّ القبض من سنن الصلاة، بل منهم من أوجبه، كما في "نيل الأوطار". ولم يُخالف إِلَّا الشَّيعة الإمامية والمالكية، فكرهوا القبض الذي هو السنة المتوارثة بنقل جيل عن جيل.

والشيعة معروفون بمخالفة أهل السنة فلا اعتبار بمخالفتهم، لكن ما حُجَّة المالكية في هذه الزلة القبيحة، حيث جعلوا البدعة مندوبة والسُّنَّة مكروهة؟! مع أن إمامهم روى حديث القبض في "الموطأ"، وكان يقبض في الصَّلاة، ورواه عنه أصحابه المدنيون الذين لازموه إلى حين وفاته رضي الله عنه لا حُجَّة لهم إلَّا رواية ابن القاسم في "المدونة"، وهي رواية شاذة باطلة لوجوه: الأول: مخالفتها لما في "الموطأ" الذي كتبه الإمام بيده، ورواه عنه مئات من

تلاميذه.

١٦٢

أصول الفقه

الثاني: مخالفتها لما رواه عنه أصحابه المدنيون.

الثالث: مخالفتها لما رواه عنه أصحابه المصريون غير ابن القاسم.

الرابع: مخالفتها لفعل الإمام نفسه، فإنَّه كان يقبض في الصَّلاة. الخامس: مخالفتها لعمل أهل المدينة الذين كانوا يقبضون في الصَّلاة فمن الصحابة الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وابن

عمر، وأبو هريرة، وجابر، وسهل بن سعد، وأمهات المؤمنين.

ومن

التابعين وتابعيهم وفيهم شيوخ مالك وأقرانه: خارجة بن زيد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعروة بن الزبير، ونافع مولى ابن عمر، ونافع المقرئ، وزيد بن أسلم، وولده عبدالله، وعبدالرحمن، وسليمان بن يسار، وهشام بن عروة، وربيعة، والزهري، وابن أبي ذئب وغيرهم. السادس: مخالفتها لإجماع أهل السنة، كما مر .

السابع: مخالفتها للسنة المنقولة بالتواتر والتوارث جيلا بعد جيل. ومما لاحظته بعد الاستقراء والتَّبع أنَّ معظم أقوال مالك المخالفة للسنة، يتفرد بنقلها ابن القاسم، وهذه شبهة قويَّةً توجب الريبة فيما ينفرد به عن مالك. الثامن: أنها جاءت فيمن اعتمد على يديه بعد قبضهما لا مطلقًا؛ بدليل أنها

وقعت في "المدونة" تحت ترجمة: الاعتماد في الصلاة. - قراءة الحزب جماعة بعد الصبح والمغرب: لم تكن في العهد النبوي فهي بدعة، لكنها ليست بحرام، ومن ادعى تحريمها فقد كذب على الله حيث حرم ما لم يأتِ تحريمه في الكتاب ولا في السنة، كيف وتلاوة القرآن مطلوبة على العموم !! قال الحافظ حرب الكرماني تلميذ الإمام أحمد: رأيت أهل دمشق وأهل

إتقان الصنعة

١٦٣

حمص وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح ولكن أهل الشام يقرأون القرآن كلهم جماعةً من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل البصرة وأهل مكة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والنَّاسِ يُنصتون، ثُمَّ يقرأ

آخر عشر آيات حتّى يفرغوا»، قال حرب وكل ذلك حسن جميل. وأنكر مالك على أهل الشَّام ذلك، روى أبو بكر النيسابوري في "مناقب مالك" عن زيد بن عبيد الدمشقي قال: قال لي مالك بن أنس: بلغني أنكم تجلسون حِلَقًا تقرأون؟ فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، قال مالك: عندنا كان المهاجرون والأنصار، ما نعرف هذا قال :زید فقلت: هذا طريف، قال مالك: وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله.

وروي أيضا عن إسحاق بن محمد الغروي، قال: سمعنا مالك بن أنس يقول: «الاجتماع بكرةً بعد صلاة الصبح لقراءة القرآن بدعة؛ ما كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا العلماء بعدهم على هذا، كانوا إذا صلُّوا يخلو كل بنفسه ويقرأ ويذكر الله تعالى، ثُمَّ ينصرفون من غير أن يُكلِّم

بعضهم بعضًا اشتغالا بذكر الله، فهذه كلُّها مُحدثة».

وروى النيسابوري أيضًا عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: «لم تكن القراءة في المسجد من أمر النَّاس القديم، وأول من أحدثها في المسجد الحجاج بن يوسف، قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في

المصحف.

قلت: حديث مسلم عن أبي هريرة وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتِ مِن بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدارَسُونَهُ بينهم إلَّا نَزَلَتْ عليهم السَّكينةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، :

١٦٤

أصول الفقه

وحَفَّتْهُمُ الملائكةُ ، وذَكَرَهُمُ الله فيمَن عِنْدَهُ». يفيد مشروعية تلاوة القرآن جماعةً

في المسجد، فلا ينبغي نسبة إحداثها إلى الحجاج أو غيره.

وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يقول الرَّبُّ يومَ القيامَةِ : سَيَعْلَمُ أهلُ الجَمْعِ اليومَ مَن أَهل الكَرَمِ». فقيل: ومن أهل الكرم؟ قال: «تجالسُ الذِّكْرِ في المَساجِدِ».

وروى أيضًا عن زيد بن أسلم قال: قال مُحْجَن بن الأَدْرَع: «انطلقتُ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً، فمرَّ برجل في المسجد يرفع صوته، قلت:

يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا، قال: «لا، ولكنَّه أَوَّاه » .

وروى الفريابي في كتاب "الذكر" عن عقبة بن عامر: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لرجل يقال له ذو البِجَادَين: «إِنَّهُ أَوَّاهُ»، وذلك أَنَّه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء.

وفي "صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «تَعَاهَدُوا القُرْآنَ؛ فوالذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ هو أَشَدُّ تَفَلَّتَا . الإبل في عُقلها». وقراءة الحزب من طرق تعاهد القرآن، فهو مشروع بهذا

من

الحديث أيضًا. ٩- قراءة القرآن على الميت حرمها المبتدعة المتنطعون، وهذا من جملة

كذبهم على الله، والتقول على دينه بغير علم.

وقد كتبت جزءا في هذا الموضوع اسمه "توضيح البيان لوصول ثواب

القرآن" استوفيت فيه الرد على هذه الفئة المتنطعة، وسأثبته آخر الكتاب.

إتقان الصنعة

170

10 - الذكر في تشييع الجنازة: لم يثبت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم

كان يُشيع الجنازة بالذكر، وكان إذا مشى مع جنازة رؤيت عليه كآبة. وروي الطبراني بإسناد ضعيف عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنَّ الله عزّ وجلَّ يُحِبُّ الصَّمْتَ عند ثلاث: عند تِلاوَةِ القُرْآنِ، وعند الزَّحْفِ، وعند الجِنَازَةِ». فالذكر مع الجنازة بدعة أحدثت ليُشغل المشيعون بالذكر عن الكلام في الميت أو غيره، لكنهم لم يشتغلوا بالذكر بل استمروا في الكلام فالسكوت مع الجنازة أولى وأفضل. ۱۱ - رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة: بالغ المبتدعة المتنطعون في تهويل أمره، فزعموا أنَّ الإمام الذي يفعل ذلك مبتدع لا يُصلَّى خلفه، وهذا من جملة تقولهم

على الله تعالى وجرأتهم على دينه، وقد أثبت في آخر الكتاب رسالة تفيد ذلك. السُّبْحَةُ : صحت أحاديث في الذِّكر بأعداد معيَّنة كمائة ومائتين وأكثر، منها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قولوا خيرًا، قولوا: سبحان الله وبحمده، فبالواحدة عشرة، وبالعشرة مائة، وبالمائة ألف، ومن زاد زاده الله عزَّ وجلَّ».

والسبحة تضبط الأعداد المأثورة، وللوسائل حكم المقاصد، فالسبحة

مشروعة.

وصح عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: «ألا أُخْبِرُكِ بما هو أَيْسَرُ

177

أصول الفقه

عليك من هذا أو أفضلُ؟ سُبْحَانَ الله عَدَدَ ما خَلَقَ فِي السَّماءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ ما خَلَقَ في الأرضِ ، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ ما بين ذلك، وسُبْحَانَ الله عَدَدَ ما هو خالق، والله أكبرُ مِثْلَ ذلك، والحمدُ لله مِثْلَ ذلك، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله مِثْلَ ذلك». حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والحاكم.

وعن صفية أُمّ المؤمنين قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواةٍ أُسبح بها، فقال: «قد سَبِّحْتِ بهذا؟ ألا أُعلمك بأكثر مما سَبِّحْتِ به». فقالت: علمني، فقال: «قولي سُبْحَانَ الله عَدَدَ

خَلَقَهُ». حسنه الحافظ ابن حجر. قال الشوكاني في نيل الأوطار": والحديثان يدلان على جواز عد التسبيح بالنّوى والحصى، وكذا بالسبحة لعدم الفارق، لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم للمرأتين على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز» . اهـ

قلت: وكذلك حديث يُسيرة -بالتصغير - وكانت من المهاجرات قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «عليكنَّ بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ التوحيد ، واعْقِدْنَ بِالأَنامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤولاتٌ ومُسْتَنْطَقات». لا ينافي العدَّ بالنّوى والحصى والسبحة، بل هي داخلة في معنى الحديث؛ لأنَّ الأنامل التي تعد الذكر على هذه الأشياء، يثاب صاحبها كما يثاب على العد عليها نفسها. ووردت آثار عن الصحابة أنهم كانوا يعدُّون على الحصى أو النوى أو خيط على هيئة السبحة، استوفاها الحافظ السيوطي في جزء "المنحة في

فيه عقد .

إتقان الصنعة

١٦٧

السبحة"، وقال في آخره: ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف، المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدون بها، ولا يرون ذلك مكروها، وقد رُؤي بعضهم يعدُّ تسبيحًا فقيل له: أتعدُّ على الله ؟ فقال : لا ولكن أعد له. والمقصود أنَّ أكثر الذكر المعدود الذي جاءت به السُنَّة الشريفة

لا ينحصر بالأنامل غالبًا، ولو أمكن حصره لكان الاشتغال بذلك يُذهب الخشوع، وهو المراد».اهـ

وروى الديلمي في "مسند الفردوس" عن علي عليه السلام- مرفوعا:

«نعم المذكر السبحة». إسناده ضعيف كما قال علي القاري.

وزعم المبتدع الألباني المتزمت أنَّ الحديث موضوع، وضعف حديث سعد بن أبي وقاص، وحديث صفية، وقد ردَّ عليه العلامة الشيخ عبدالله الحبشي الهرري في كتابه التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث" وهو رد جيد متقن، أبطل مزاعمه، وبيَّن جهله بقواعد أصول الحديث. وبقي مما لم يبطله من مزاعمه أمران: 1 - قوله عن سند الديلمي : وهذا إسناد ظلمات بعضها فوق بعض. وهذه العبارة منه تدل على جهله أو تجاهله باصطلاح أهل الحديث؛ لأنَّ الحفاظ يقولون هذه العبارة في سند يكون رجاله ضعفاء، وبعضهم أشد ضعفًا من بعض، أما السند الذي يكون فيه مجهول أو مجهولون، فلا يزيدون على أن يقولوا: فيه مجهول، أو فيه مجاهيل

٢ - زعمه أنَّ ابن أبي حاتم يتحرّى في تفسيره أصح الأخبار بأصح

الأسانيد. اهـ

١٦٨

أصول الفقه

ذكر هذا الزعم ليؤيد حديثاً يرى تحسينه، وهذا غير صحيح، ففي "تفسير

ابن أبي حاتم" أخبار واهية، وأثار إسرائيلية كما يظهر ذلك لمتتبعه. والذي لاحظته على هذا المبتدع المتزمت أنَّه ليس بمأمون في الكلام على الأحاديث، فمتى كان الحديث يخالف غرضه سعى في تضعيفه، وربَّما ادعى وضعه وضعف ما له من شواهد، وإذا كان يوافق غرضه سعى في تصحيحه وتمحل بذكر شواهده ويُغضي عما فيه من ضعف؛ وبسبب ذلك يتناقض كلامه، والمبطل متناقض

وروى السهمي في تاريخ جرجان" بإسناد ضعيف جدا عن أبي هريرة أنَّ

النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُسبِّح بالحصى.

أذنه.

وتعليق السبحة بالعنق ليس فيه شيء وهو نظير وضع الكاتب القلم على

روى الترمذي بإسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال: دخلت على الرسول

صلى الله عليه وآله وسلّم وبين يديه كاتب فسمعته يقول: «ضع القلم على أذنك فإنَّه أذكر للمملي». ونظير وضع حمزة رضي الله عنه ريشة نعامة على

صدره يوم بدر.

ونظير ما رواه الخطيب في "رواة مالك" عنه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يضعون أسوكتهم خلف آذانهم، يستنون بها لكل صلاة.

وروى أبو داود والترمذي عن أبي سلمة قال: كان السواك من أذن زيد بن

خالد موضع القلم من أذن الكاتب.

إتقان الصنعة

١٦٩

(تنبيه) قال الشوكاني في نيل الأوطار عن حديث سعد بن أبي وقاص، وحديث صفية أم المؤمنين ما نصه: (وفي الحديثين فائدة جليلة وهي أنَّ الذكر يتضاعف ويتعدّد بعدد ما أحال الذاكر على عدده، وإن لم يتكرر الذكر في نفسه، فيحصل مثلا على مقتضى هذين الحديثين لمن قال مرة واحدة: سبحان الله عدد كل شيء من التسبيح ما لا يحصل لمن كرّر التسبيح ليالي وأياما بدون الإحالة على عدد، وهذا مما يشكل على القائلين: إنَّ الثواب على قدر المشقة المنكرين للتفضيل الثابت بصرائح الأدلّة، وقد أجابوا عن هذين الحديثين وما شابههما من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «من فطر صائما كان له مثل أجره»،

ومن عزّى مُصابًا كان له مثل أجره» بأجوبة متعسفة متكلّفة» . اهـ

قلت: وفي هذين الحديثين ونحوهما دليل لصاحب "دلائل الخيرات": على سيدنا محمد عدد الأشجار، وعدد الثمار ... إلخ. والذين

اللهم

صل

يعترضون عليه جهلة أغبياء. ١٣ - الذكر بعد الأذان: ليس ببدعة، وليس زيادة في الأذان لأن نهاية الأذان يعرفها الأطفال، فضلا عن الرجال والذكر مأمور به في عموم

الأحوال قال الله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: ٤١]. فهذا الأمر يعم جميع الأوقات، وكونه بعد الأذان له حكمة، بينها مولانا الشيخ الإمام الوالد رضي الله عنه حيث قال: روى أبو داود والترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الدعاء لا يُردُّ بين الأذان والإقامة». مع ما رواه الدارمي، والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

۱۷۰

أصول الفقه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الرب تبارك وتعالى من شَغَلَهُ قراءة القرآنِ وذِكْري عن مَسْأَلتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين».

١٤ - الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الصَّلاة المكتوبة: زعم مبتدع متزمت أنها بدعة، وبئس ما زعم؛ فإنَّ قول الله تعال: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦] مطلق يصدق بأي وقت تقع فيه الصّلاة، إلَّا إن ورد النهي عنها في وقت معين، وهو غير موجود. وفي "صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: (مَن صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرة». فهذا عام يشمل جميع الأوقات.

ومثله أحاديث كثيرة تفيد العموم، والمقرر في الأصول: «أن العام يُعمل به في جميع جزئياته»، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الصلاة، مشروعة بهذا الحديث وأمثاله، ودعوى بدعيتها جهل بعلم الأصول.

نعم ورد الحضُّ عليها في أوقات معينة، منها عقب الأذان، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وهذا لا يجعلها بدعة في غير هذه

الأوقات؛ لأنَّ تخصيص بعض أفراد العام بالذكر لا يُخصص العام. ١٥- بعض المساجد عندنا بطنجة يذكر المصلون بعد المكتوبة اسم اللطيف مائة مرّة أو أكثر، يدعون الله به، فزعم مبتدع عامي أنَّ ذلك بدعةٌ ليست من الدين وزعمه باطل؛ لأنَّ اللطيف اسم من أسماء الله تعالى، وهو في

القرآن الكريم: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

إتقان الصنعة

۱۷۱

[الأنعام: ١٠٣]، اللهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ ﴾ [الشورى: ۱۹]، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخبير ﴾ [الملك: ١٤] فهو من أسماء الله الحسنى، والدعاء بها مطلوب، لقول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: ١٨٠] وكل وقت يجوز فيه الدعاء، وهو بعد الصلاة من مظانّ الإجابة كما ثبت في الأحاديث، فما لهؤلاء المبتدعة لا يفقهون ؟!

١٦ - السيادة في الأذان والإقامة والتشهد في الصلاة: يمنعها المبتدعة المتنطعون، ويجهلون ألا حرام ولا مكروه إلا ما ورد النهي عنه؛ لقول الله تعالى: وَمَا انَنكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا هَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]. ولم يقل وما تركه فانتهوا عنه، أو ما لم يفعله فانتهوا عنه.

ومر في المقدمة فقرة (٦) أنَّ ترك الشيء لا يدلُّ على منعه ولا كراهته، وهي قاعدة أصولية يجهلها المبتدعة، وقد أوضحتها في كتاب "الرد المحكم المتين". وقد أخبرني شخص بينتها له، أنه ذكرها لمبتدع يدعي العلم أثناء مناقشة معه، فأنكرها وقال: ليست من علم الأصول. وأغلب أخطاء هؤلاء المبتدعة وما أكثرها - تأتي من جهة جهلهم

بالأصول، وعدم تمكنهم من قواعده، مع ضيق باعهم وقلة اطلاعهم. ثُمَّ السيادة في الأذان وما ذكر معه لاستحبابها أربعون دليلًا، ذكرها شقيقنا الحافظ أبو الفيض في كتاب "تشنيف الآذان" مُفصَّلة دليلًا دليلًا، مع ما يتبعها من إيرادات وأجوبة عنها ويتخلّلها نقول عديدة عن جماعة من الأئمة والحفاظ والفقهاء وعلماء المذاهب الأربعة، مضافًا إليه علماء الشيعة الزيدية والإمامية،

۱۷۲

أصول الفقه

بحيث من يستوعبه قراءة وفها لم يبقَ له شكٍّ في أنَّ استحباب السيادة هو

الصواب.

وأنا أذكر هنا دليلين أو ثلاثة، وأحيل من أراد التوسع والبسط على

"تشنيف الآذان":

١- نقل جمال الدين الإسنوي في "المهمات" عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه بنى مسئلة السيادة على أنَّ الأفضل سلوك الأدب، أو امتثال الأمر وقال ابن ظهيرة: الأفضل الإتيان بلفظ السيادة، كما صرح به جمع، وأفتى الجلال المحلّي جازمًا به، قال لأنَّ فيه الإتيان بما أمرنا به، وزيادة الأخبار بالواقع الذي هو أدب، فهو أفضل من تركه.

وقال الأبي في شرح مسلم: «وما يستعمل من لفظ السيد والمولى حسن وإن لم يرد، والمستند فيه ما صح من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا سيد ولد آدم واتفق أن طالبًا يُدعى بابن غمرين قال: لا يزاد في الصَّلاة على سيدنا)، قال: لأنَّه لم يرد ، وإنما يقال : ( على محمد)، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السَّلام، فأرسل وراءه الأعوان فاختفى مدةً، ولم يخرج حتى شفع فيه حاجب الخليفة فخلّى عنه حينئذ، وكأنَّه رأى أن تغيّبه تلك المدة هي عقوبته» . اهـ

والدليل أن سلوك الأدب أفضل حديثان:

أحدهما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم، فحانت الصَّلاة،

إتقان الصنعة

۱۷۳

فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم والناس يصلّون، فتخلص حتى وقف في الصففٌ ، فصفّق الناس حتى التفت أبو بكر فرأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ثُمَّ استأخر حتى استوى في الصف، وتقدّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فصلى. فلما انصرف قال: يا أبا بكر ، ما منعك أن تَثْبُتَ إِذ أَمرتك؟» فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)». فأبو بكر -رضي الله عنه - قـ -4 قدَّم سلوك الأدب على امتثال الأمر، وأقره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

والآخر: في "صحيح البخاري" أيضًا عن البراء بن عازب قال: لما صالح رسول الله أهل الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه - بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله . فقال المشركون لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولا لم نقاتلك، فقال لعلي: «انحه»، فقال علي: ما أنا بالذي أتحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده. وهذا أيضًا فضَّل سلوك الأدب على امتثال الأمر، وأقره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم.

۲- قال الله تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوادُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا :

[النور: ٦٣] عن ابن عباس قال: كانوا يقولون يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله

١٧٤

أصول الفقه

عن ذلك إعظاما لنبيه فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله، وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة.

وكما لا يجوز نداؤه باسمه المجرّد عن التعظيم، لا يجوز ذكر اسمه مجردًا عن وصف السيادة؛ لأنها من ألقاب التعظيم في العرف، وليس هذا بقياس بل

هو حكم في معنى النَّص ؛ لأنَّ ذكر الاسم مثل النداء فالآية تشمله.

٣- أنَّ الأذان ورد بألفاظ متعدّدة فيها زيادة ونقص، وزاد فيه بعض الصحابة ألفاظا لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لعلمهم أن القصد

بالأذان: الإعلام بدخول الوقت، وأنه ليس متعبدا بلفظه كالقرآن. روى مَعْمَرٌ، عن أيوب السختياني، عن نافع عن ابن عمر ) أَنَّه كان يؤذن

ثلاثا ثلاثا. وورد عنه: أنَّه كان يختم الأذان بالتكبير بعد لا إله إلا الله. وروى عبدالرزاق، عن بلال أنَّه كان يثني الأذان والإقامة، وقال ابن حزم: «قد صح عن ابن عمر، وأبي أمامة، وسهل بن حنيف أنهم كانوا يقولون في أذانهم: حي على خير العمل».

قلت: كانوا يقولونها بعد حي على الفلاح، وكان يقولها أيضًا علي زين العابدين

عليه السّلام، ويقول هو الأذان الأول، ويقولها الشيعة إلى الآن في الأذان. ومر في المقدمة أنَّ بلالا وجد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم نائما، فقال: الصَّلاة خير من النوم، فقال له: اجعلها في أذان الفجر»، وذكر السيادة في الأذان وما معه، زيادة في التعظيم، لم تُغيّر لفظا، ولم تُفسد معنى، فهي مطلوبة جزمًا. ۱۸ - الفدية عن الميت اعتاد بعض الناس أن يدعو إلى داره بعض .

حفاظ

القرآن والمنشدين، يتلون شيئًا من كتاب الله، ويصلّون على النبي صلى الله عليه

إتقان الصنعة

وآله وسلم، وينشد المنشدون أمداحًا نبويّةً، ثُمَّ يُطعمون ويوزع عليهم صاحب الدعوة ما تيسر من نقود، يفعل ذلك صدقة عن روح ميته، رجاء أن

يخفف الله عنه.

حرم المبتدعة المتنطعون هذا العمل وبالغوا في تحريمه، حتى قال قائل

.

منهم: إن الجلوس في حان مع شربة الخمر ومدخني الحشيش أفضل من الجلوس مع هؤلاء الطلبة والمنشدين.

وهذا قبيح جدا إن لم يكن كفرًا فهو قريب من الكفر والعياذ بالله، وإطعام الطعام للإخوان والأصدقاء مطلوب، بل جعل الشارع إطعام الطعام كفارة

لحنث ،اليمين والظهار، وفطر رمضان عمدًا، ولغير ذلك.

وتلاوة القرآن والصَّلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عبادتان، وكذلك مدحه عليه الصَّلاة والسَّلام، فلم يبقَ إلَّا الهيئة المجتمعة من هذه الأشياء، وهي غير حرام جزمًا وإن لم توجد في العهد النبوي، لما مر في المقدمة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم لم يفعل جميع المباحات ولا جميع المندوبات، وأن ترك الشيء لا يدل على حرمته ولا كراهته.

وأخذ الأجرة على الوظائف الدّينية كتلاوة القرآن والإمامة وخطبة الجمعة والأذان وتعليم العلوم الشريعة جرى العمل به في البلاد الإسلامية، من زمن

بعيد.

على أن أخذ الأجر على تلاوة القرآن يدخل في عموم حديث البخاري: «إنَّ أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله». وهو أصح من حديث «لا تَسْتَأكِلُوا به». وقد صح وصول الحج إلى الميت والصوم والصدقة والدعاء والاستغفار

١٧٦

أصول الفقه

فكذلك يصل القرآن إليه بجامع أن كلا منها عبادة، والتفريق بينها وبين القرآن تفريق بين المتماثلات، وقراءة القرآن على الميت جرى العمل بها في البلاد الإسلامية من عهد الأنصار.

(تنبيه): المناسبة ذِكْرِ المنشدين الذين ينشدوا أشعارا وقصائد المديح النبوي، نُشير إلى أنَّ أشهر القصائد التي تُنشد في الحفلات، "قصيدة البردة"

للبوصيري رحمه الله، وفيها أبيات انتقدها المبتدعة وهي:

١ - وكيفَ تَدْعُو إلى الدُّنْيا ضَرُورَةُ مَنْ لولاه لم تُخْرَجِ الدُّنيا مِن العَدَمِ ٢ - وقدَّمَتْكَ جَميعُ الأنبياء بها والرَّسُلُ تَقْدِيمَ تَحدُومٍ على خَدَمِ -٣- يا أَكْرَمَ الخَلْقِ مالي مَن أَلوذُ بِهِ سِواك عند . حلول الحادثِ العَمِمِ - فإنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيا وضرتها ومن علومك علم اللوحِ والقَلَمِ

والجواب عن البيت الأول:

أن الله تعالى خلق المكلفين لعبادته، فقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: ٥٦] وخلق الدنيا وما فيها لأجلهم، وخلق الآخرة لأجلهم أيضًا، وجعلهما :دارين دار للتكليف والعمل، ودار للجزاء على ما عملوا. ولولا الجن والإنس ما خلقت الدنيا، ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سيّد المكلَّفين، ورسول العالمين، وخلاصة النوع الإنساني،

صح أن يقال: لولاه لم تخرج الدنيا من العدم، وهذا النوع من المجاز لطيف اقتضاه مقام المدح. وأما الأبيات التالية، فأصلحتها على الوجه الآتي - وإن كان الجواب عنهما

إتقان الصنعة

تمكنا بتكلف:

۱۷۷

وقدمتك جميع الأنبياء بها وكرموك الفضل فيـك مـن قـدم يا أكرم الخَلْقِ ما لي مَن يُشفّع في سواك عند حلول الحادث العممِ يُشفّع، بشدَّ الفاء، مبني للمجهول. والمعنى: ما لي مَن يقبل الله شفاعته في سواك، وهذا صحيح؛ لأنَّ الله يقول لرسوله يوم القيامة: «قل تُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشفّع». أي: اشفع تُقبل شفاعتك. فإنَّ جُودَك في الدُّنيا وضرتها وفي كتابِكَ عِلْمُ اللوح والقلم والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أجود ولد بني آدم كما في الحديث،

وَجُودُه في الآخرة بشفاعته في أمته، وهو أعظم الجود.

وكتابه وهو القرآن، فيه علم اللوح والقلم بلا نزاع.

۱۹ - الاحتفال بالمولد النبوي: قال عنه مبتدع يدعي العلم: هو مثل احتفال النصارى بعيد ميلاد المسيح. يقصد أنه حرام، وهذه جُرأةٌ على القول

في الدين بغير حُجَّة، وما أكثر جراءة المبتدعة على تحريم أمور بدون دليل. وللحافظ السيوطي رسالة حسن المقصد في عمل المولد" قال في أولها: وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يُثاب فاعله أو لا؟ والجواب عندي: أنَّ أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثُمَّ يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع الحَسَنة التي يُثاب عليها صاحبها، لما فيه

۱۷۸

أصول الفقه

من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف».

ثُمَّ قال: «وقد سُئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وتجنّب ضدَّها كانت بدعة حسنةً، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في "الصحيحين" من أ " من أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم

فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا الله. فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم مُعيَّن، من إسداء نعمة، ودفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر الله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، فهذا ما يتعلّق بأصل عمله، وأما ما يُعمل فيه، فينبغي أن يقتصر فيه على ما يُفهم الشكر الله تعالى، من نحو ما تقدّم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك، فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروها فيمنع، وكذلك ما كان خلاف الأولى» . اهـ قال السيوطي: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه

إتقان الصنعة

۱۷۹

البيهقي عن أنس أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عَقَ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد: أنَّ جده عبد المطلب عَقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تُعاد مرة ثانية. فيُحمل ذلك على أنَّ الذي فعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين تشريع لأمته، كما كان يُصلّي على نفسه لذلك. فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع والإطعام ونحو ذلك من وجوه القربات، وإظهار المسرات . اهـ

قلت: حديث: «عَقَّ عن نفسه بعد النبوة»، قال البيهقي عنه: «حديث منكر»؛ وذلك لأنه من رواية عبد الله بن محرر، وهو متروك فالأولى الاقتصار على حديث عاشوراء كما فعل الحافظ ابن حجر، فهو كاف في الاستدلال. والمقصود أن الاحتفال بالمولد النبوي مستحب كما قال هذان الحافظان الجليلان وغيرهما، فلا وجه لإنكاره، والله أعلم.

۱۸۰

أصول الفقه

نبدة مما أحدثه الصحابة بعد العهد النبوي

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - أحدث الاجتماع في التراويح، فكانوا يصلُّونها جماعة في المسجد بإمامة أُبي بن كعب - رضي الله عنه - : تنفيذا لأمره،

وقال حين رآهم يصلون مجتمعين: «نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها

أفضل». يعني: القيام من آخر الليل والقصّة في "صحيح البخاري". قال الحافظ في "الفتح" في شرح كلام عمر: «والبدعة أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق، وتُطلق في الشرع مقابل السُّنَّة، فتكون مذمومة والتحقيق أنها إن كانت تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي تندرج تحت مُستقبح في الشرع فهي مستقبحةً، وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة» . اهـ

حسنة

وإن كانت مما

وفي "الموطأ": وحدثني عن مالك: أنه بلغه : أنَّ المؤذن جاء إلى عمر يُؤذِنه

لصلاة الصبح، فوجده نائما، فقال: الصَّلاة خير من النوم، فأمره عمر أ

أن

يجعلها في أذان الصبح. وروى الدير عاقولي في الأول من "فوائده" قال: حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينه، عن الزهري، عن عُبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه

قال: «قبض النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء».

قلت: عمر هو الذي أشار على أبي بكر رضي الله عنه - بجمع القرآن في صحف؛ حين كثر القتل بين الصحابة في وقعة اليمامة، فتوقف أبو بكر وقال: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال عمر: هو

إتقان الصنعة

۱۸۱

والله خير، فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدره له، وبعث إلى زيد بن ثابت فكلفه بتتبع القرآن وجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن، قال زيد: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل

رضي

أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر الله عنهما. والقصّة مبسوطة في "صحيح البخاري". وقول أبي بكر وعمر هو والله خير ، يؤيد ما مر في المقدمة من أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعل جميع المندوبات، أو جميع ما هو خير، وجمع القرآن كان واجبًا على المسلمين مع أنه بدعة، ليحفظ من الضياع، فألهم الله عمر التفكير

في عمل هذه البدعة الواجبة لما فيها من خير كبير للإسلام والمسلمين. وقد اعترف الشاطبي بهذا العمل، وأنه واجب، وسماه مصلحة، وأبى أن يسميه بدعةً؛ لأنَّ البدعة عنده: ما قصد بها الزيادة على الشارع، وهذا خطأ كبير؛ لأنَّ من أجاز الزيادة في الشريعة فليس بمسلم؛ ولأنَّ الذين عرفوا البدعة لم يذكروا قصد الزيادة وقسموها إلى حسنة وسيئة، وقسموها باعتبار المصلحة والمفسدة إلى الأحكام الخمسة: الوجوب، والندب، والحرمة،

والكراهة، والإباحة، ومرَّ كلامهم في المقدمة فلا داعي لإعادته. ثُمَّ المصلحة هي الباعثة على إحداث أمر ، وهي غير الأمر المحدث، فحفظ

القرآن من الضياع مصلحة أو جبت جمعه في مصحف.

واستيعاب المساجد للمصلين مصلحة دعت إلى تعدد الجمعة، وهكذا

الشأن في كل بدعة حسنة.

۱۸۲

أصول الفقه

فالشاطبي شذ عن العلماء بما ابتدعه، ولم يأتِ فيما شد به بشيء معقول، واضطر آخر الأمر أن يعترف بأنَّ الأمر المحدث ينقسم إلى الأحكام الخمسة

كما قال سلطان العلماء وغيره، وسماه مصلحة لا بدعة فما صنع شيئًا. وكان مقام إبراهيم مُلتصقا بالبيت من عهده إلى أن أخره عمر، أخرج البيهقي بسند قوي عن عائشة قالت: إنَّ المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي زمن أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثُمَّ أخره عمر». قال الحافظ في "الفتح": «ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا من جاء بعدهم فصار إجماعا»، قال: وكأنَّ عمر رأى أنَّ إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين؛ فوضعه في مكان يرتفع فيه الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مُصلَّى، وأوّل من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن».اهـ

فعمر حول المقام من مكانه في عهد إبراهيم، وعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصلحة رآها في تحويله، وعمل عليه مقصورةً ولم ينكر عليه أحدٌ

من الصحابة ما فعل فيه؛ لأنَّهم رأوا المصلحة مثل ما رأى.

عثمان بن

عفان رضي

الله عنه زاد الأذان

"

يوم الجمعة في السوق لما كثر

يوم

الناس، ففي "صحيح البخاري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكَثُر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء، وهي دار في سوق المدينة. وسُمِّي هذا الأذان ثالثاً باعتبار إضافته إلى الأذان الأول والإقامة، ويقال له أول باعتبار

سبقه في الزمان على أذان الجمعة، ويقال له ثان بإسقاط اعتبار الإقامة.

إتقان الصنعة

۱۸۳

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: «الأذان الأول يوم الجمعة بدعة». قال الحافظ في "الفتح": فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أن يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وكل ما لم يكن في زمنه يُسمى بدعةً، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف

ذلك» . اهـ

(تنبيه): ذكر بعض المعاصرين : أنَّ ما شاع في المغرب من أذان ثلاثة مؤذنين واحدا بعد آخر يوم الجمعة، عند صعود الخطيب على المنبر، كان هذا على

العهد النبوي.

وهذا خطأ قبيح، وأصله لعبد الملك بن حبيب فإنَّه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا زالت الشمس، وخرج رقى المنبر، فإذا رآه المؤذنون وكانوا ثلاثة، قاموا فأذنوا فوق المنارة واحدًا بعد واحد، ثُم تلاه على

ذلك أبو بكر وعمر» . اهـ وهذا ليس بصحيح بل لا أصل له.

وهو يخالف ما في صحيح البخاري" وغيره من كتب السنة الصحيحة، وابن حبيب -مع إمامته في الفقه - ضعيفٌ في الحديث، قال الحافظ أبو بكر بن سيد الناس: «ضعفه غير واحد، وبعضهم اتّهمه بالكذب».اهـ وممن ضعفه

الدارقطني ، وقال ابن حزم: «ليس بثقة»، وقال أيضا: «روايته مطروحة». وفي "صحيح البخاري" عن ابن عمر قال: كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مبنيا باللين وسقفه الجريد وعُمده خشب النخل، فلم يزد أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله

عليه وآله وسلَّم باللبن والجريد، وأعاد عُمُدَه خشبا، ثُمَّ غَيَّره عثمان فزاد فيه

١٨٤

أصول الفقه

زيادةً كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عُمده من حجارة

منقوشة وسقفه بالساج.

«اللين» بكسر الباء، و«القصَّة» . بفتح ا القاف وتشديد الصاد: هي الجص،

و «الساج»: نوع من الخشب الجيد يُؤتى به من الهند.

فعثمان رضي الله عنه

الله

عنه

الله عنه وسع المسجد زيادة على توسيع عمر رضي | وجعل عُمده بالحجارة المنقوشة والجصّ، وسقفه بالخشب الجيد، ولم يكن كذلك في العهد النبوي؛ لأنَّ المصلحة اقتضته، فما فعله بدعة حسنة بلا شك. جمع الناس على مصحف واحد، وتحريق ما سواه من قرآن في عهد عثمان رضي الله عنه

لما جمع زيد بن ثابت القرآن في صحف وضعها عند أبي بكر، فلما تُوفّي كانت عند عمر، فلما تُوفّي كانت عند حفصة، وفي أوائل ما تولى عثمان الخلافة حصل الاختلاف في قراءة القرآن فقال حذيفة بن اليمان لعثمان رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وأهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيُكفِّر بعضهم بعضًا. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثُمَّ نردّها إليك، فأرسلتها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وأرسل إلى كلِّ أُفُق بمصحف مما نسخوا، وحبس

واحدا بالمدينة، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق،

إتقان الصنعة

فاتفق الناس على مصحف واحد وتركوا تلك القراءات الشاذة كقراءة أبي، وابن مسعود وأبي موسى وهذا العمل - وإن كان بدعة - يُعد من أكبر حسنات عثمان، وأكثرها فائدة للإسلام والمسلمين، بل لو لم يكن له إلَّا هذا العمل العظيم لكفاه فضلا وشرفًا رضي الله عنه.

(فائدة): قال الحافظ في الفتح: استدل بتحريق عثمان الصحف على

القائلين بقدم الحروف والأصوات؛ لأنَّه لا يلزم من كون كلام الله قديما أن تكون الأسطر المكتوبة في الورق قديمة، ولو كانت هي عين كلام الله لم يستجز الصحابة إحراقها» . اهـ والقول بقدم الحروف والأصوات قاله بعض الغُلاة من حشوية الحنابلة.

علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه أنشأ صلاةٌ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعلّمها للناس، ولم يكتفِ بالصلاة الإبراهيمية، لعلمه أنَّ الأمر في الأذكار والدعوات واسع لا يوقف فيه عند الوارد.

روئی سعید بن منصور، وابن جرير في تهذيب الآثار"، وابن أبي عاصم ويعقوب بن شيبة في "أخبار علي ، والطبراني وغيرهم عن سلامة الكندي، قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُعلّم الناس الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فيقول: اللهمَّ داحِي المدحُوَّات، وباريء المسموكات، وجبّار القلوب على فطرتها شقيّها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك، ونَوامِيَ

بركاتك، ورأفة تحيتك، على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق، والفاتح لما أغلق، والمعلن الحقِّ بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك، مُستوفِزًا في مرضاتك بغير نكل عن قَدَم، ولا وَهَن في عزم،

١٨٦

أصول الفقه

واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضيًا على نفاذ أمرك، حتى أورى قبسًا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه به هدیتَ القلوبَ بعد خَوضَاتِ الفِتَنِ والإثم بموضحَاتِ الأعلام، ومُنيراتِ الإسلام، ونائراتِ الأحكام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك ،المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيتُكَ نِعمةً، ورسولك بالحقِّ رحمةً. اللهمّ افسح له مَفْسَحًا في عَدْلك، واجزه مُضاعفاتِ الخير من فضلك مُهنَّات له غير مُكَدَّرات مِن فَوْزِ ثَوابِكَ المَحْلُول، وجَزيل عطائك المعلول. اللهم أعل على بناء الناس بناءه، وأكرم مثواه لديك ونُزِّلَهُ، وأتمم له نورَهُ واجْزِهِ من ابتعاثك له مقبول الشهادة، ومرضي المقالة. ذا منطق عدل، وخُطَّة فصل، وحُجَّة وبرهان عظیم صلَّى الله عليه وآله وسلم». قال الحافظ المزي: سلامة الكندي ليس بمعروف، ولم يدرك عليا». وقال الحافظ الهيثمي : «سلامة» الكندي روايته مرسلة، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقال الحافظ ابن كثير : هذا مشهور من كلام علي عليه السَّلام. عبدالله بن مسعود غيّر صيغة السّلام على النبي في التشهد بعد انتقال النبي

صلَّى الله عليه وآله وسلّم من الخطاب إلى الغيبة باجتهاد منه

عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه - : . تلقى تشهد الصَّلاة من النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ويده في يده، بلفظ : «السَّلام عليك أيها النبي ورحمة الله

وبركاته».

فلما تُوفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في تشهده: «السَّلام على النبي ورحمة الله وبركاته»، غير صيغة السّلام من الخطاب إلى الغيبة باجتهاد منه، لا عن توقيف كما زعم الألباني؛ لجهله بالأصول، وقد بينت بطلان زعمه في

إتقان الصنعة

۱۸۷

كتاب "الرؤيا في القرآن والسنة".

قال ابن حزم في "الفصل " : وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضًا أو نافلة : السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» . اهـ وقال ابن تيمية في الجواب الباهر": «والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم قد شُرع للمسلمين في كل صلاة، وشُرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان، فالنوع الأول: كلُّ صلاة يقول المصلي: السلام عليك

أيها النبي ورحمة الله وبركاته . اهـ

وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وهم يقولون في الصلاة السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما كانوا يقولون ذلك في حياته».اهـ وروى الطبراني بإسناد صحيح عن الشَّعبيّ قال: «كان ابن مسعود يقول بعد السّلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته السّلام علينا من ربنا. فهذه الجملة زادها ابن مسعود في التشهد باجتهاده.

عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - زاد التسمية في أول التشهد، ولم تصح زيادتها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: روى الطَّحاوي، عن ابن جريج قال: قلت لنافع: كيف كان ابن عمر يتشهد ؟ قال كان يقول : بسم الله التحيات الله والصلوات الله والزاكيات الله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، شهدت ألَّا إله إلا الله، شهدت أنَّ محمَّدًا رسول الله.

وغيّر أيضًا لفظ أشهد، بلفظ شهدت. وروى أبو داود عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في

۱۸۸

أصول الفقه

التشهد: «التحيَّاتُ الله الصَّلواتُ الطَّيباتُ السَّلام عليك أيها النبي ورحمة الله»، قال ابن عمر زدت فيها وبركاته . السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد ألا إله إلا الله»، قال ابن عمر: زدت فيها: «وحده لا شريك له». «وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله».

قلت: زيادة وبركاته» صحت من حديث ابن مسعود، وزيادة: «وحده لا شريك له صحت من حديث أبي موسى لكن ابن عمر لم يسمعها، أو لم تصل عنده، فزادها باجتهاده، وهذا يدلُّ على أنه لا يرى بأسًا في الزيادة على

الذكر المأثور في الصلاة.

عنهم:

والتلبية في الحج زاد فيها عمر وابنه عبدالله والحسن بن علي رضي الله

روى الستة عن نافع عن ابن عمر: أنَّ تلبية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وكان عبدالله بن عمر يزيد في تلبيته: «لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. وفي "صحيح مسلم عن ابن عمر: أنَّ . عمر كان يقول هذه الزيادة في

التلبية.

وروى اسحاق بن راهويه في "مسنده" عن عبدالرحمن بن يزيد قال: حججنا في إمارة عثمان بن عفان مع عبدالله بن مسعود فزاد في التلبية: البيك عدد التراب»، وما سمعته قبل ذلك ولا بعد.

وروى ابن سعد، عن مسلم بن أبي مسلم قال: سمعت الحسن بن علي،

إتقان الصنعة

۱۸۹

يزيد في تلبيته: «لبيك ذا النعماء والفضل الحسن». بل زاد الناس في التلبية بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فأقرهم: روى أبو داود عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فذكر التلبية بمثل رواية ابن عمر، وزاد: والناس

يزيدون: لبيك ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يسمع فلا يقول لهم شيئًا.

قال الحافظ في "فتح الباري" بعد أن ذكر زيادة عمر وابنه في التلبية كما هنا: «وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر ....

فذكر مثل المرفوع ، وزاد : البيك مرغوباً ومرهوبًا إليك، ذا النعماء والفضل الحسن». واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، قال الطحاوي - بعد أن أخرجه من حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معدي كرب-: أجمع المسلمون جميعًا على هذه التلبية، غير أن قوما قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر الله ما أحب، وهو قول محمد والثوري والأوزاعي واحتجوا بحديث أبي هريرة، يعني الذي أخرجه النسائي، وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم، قال: كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لبيك إله الحق لبيك»، وبزيادة ابن عمر

المذكورة.

وخالفهم آخرون فقالوا: لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الناس كما في حديث عمرو بن معدي كرب، فعله هو ولم يقل: لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة،

۱۹۰

أصول الفقه

فكذا لا ينبغي أن يتعدَّى في ذلك شيئًا مما علمه، ثُمَّ أخرج حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه : أنه سمع رجلا يقول: لبيك ذا المعارج، فقال: إنَّه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، قال: فهذا سعد كره الزيادة في التلبية وبه نأخذ. ويدلُّ على الجواز، ما وقع عند النسائي من طريق عبدالرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال: كان من تلبية النبي صلى الله عليه وآله وسلّم... فذكره. ففيه

دلالة على أنه قد كان يلبّى بغير ذلك، وما تقدم عن عمر وابن عمر. وروى سعيد بن منصور من طريق الأسود بن يزيد: أنه كان يقول : لبيك

غفار الذنوب. وفي حديث جابر الطويل في صفة الحج : حتى استوت به ناقته على البيداء، أهل بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك .... إلخ، وأهل الناس بهذا الذي يُهلون به، فلم يرد عليهم شيئًا ولزم تلبيته. وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه مسلم، قال: والناس يزيدون

فلا

ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقول لهم شيئًا. وفي رواية البيهقي : ذا المعارج ، وذا الفواضل»، وهذا ليدل أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل، لمداومته هو صلى الله عليه وآله وسلم عليها، وأنه لا بأس بالزيادة، لكونه لم يردّها عليهم وأقرهم عليها، وهو قول الجمهور، وبه صرح أشهب.

على

وحكى ابن عبدالبر عن مالك الكراهة، قال: وهو أحد قولي الشافعي، وقال الشيخ أبو حامد: حكى أحد العراقيين عن الشافعي - يعني في القديم -

إتقان الصنعة

أنَّه كَرِه الزيادة على المرفوع، وغلطوا، بل لا يكره ولا يستحب.

۱۹۱

وحكى الترمذي عن الشافعي، قال: فإن زاد في التلبية شيئًا من تعظيم الله، فلا بأس، وأحب أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه، ثُمَّ زاد من قِبَلِه زيادةً». ر

ونصب البيهقي الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، فقال: «الاقتصار على المرفوع أحب، ولا ضيق أن يزيد عليها قال: «وقال أبو حنيفة إن زاد فحسن»، وحكى في المعرفة عن الشَّافعي قال: «ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي: أن يفرد ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك».

وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعًا، وإذا اختار قول ما جاء موقوفًا أو أنشأه هو من قِبَل نفسه مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع، وهو شبيه بحال الدّعاء في التشهد فإنَّه قال فيه: ثُمَّ ليتخير من المسألة والثناء ما شاء، أي بعد أن يفرغ من المرفوع» . اهـ كلام الحافظ.

والخلاصة مما ذكر في هذا الحديث أن الزيادة على المأثور في التشهد والتلبية ونحوهما من الأذكار لا بأس بها؛ لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الزيادة في التلبية وأقرها، كما زاد فيها كبار الصحابة عمر وابنه عبدالله، سمع وعبد الله بن مسعود، والحسن بن علي رضي الله عنهم.

وأن جواز الزيادة، هو قول الجمهور، بل هو إجماع؛ لأنَّ الكراهة التي قال بها مالك، والشافعي في أحد قوليه تتفق مع الجواز ولا تنافيه، كما تقرر في علم

الأصول.

۱۹۲

أصول الفقه

نعم، لا خلاف أنَّ الوقوف عند الوارد أفضل وأولى، لكن لا ضيق ولا

حرج على من أنشأ ذكرًا أو صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مما يليق ولا يجوز أن يُسمى مبتدعا، كما يزعم بعض المتنطعين المتزمتين.

وأما ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا أتيتَ مَضْجَعَكَ فتوضًا وُضُوءُكَ للصَّلاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ على شقَّكَ الأيمن ثُمَّ قل: اللهم إني أ : اللهم إني أَسْلَمْتُ وجهي ! وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رَغْبَةً إليك لا ملجأ ولا مَنْجَا منك إلَّا إليك، اللهم ءامَنْتُ بكتابِكَ الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مُتَّ مِن لَيْلَتِكَ فأنتَ على الفِطرةِ واجعلهنَّ آخر ما تتكلم به» قال: فردَّدتها على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما بلغت اللهم ءامنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت».

فكتب الحافظ في "الفتح" على قوله: «لا ، ونبيك الذي أرسلت ما نصه: «قال الخطابي : فيه حُجَّةٌ لمن منع الرواية على المعنى، قال: ويحتمل أن يكون أشار بقوله: «ونبيك»، إلى أنَّه كان نبيا قبل أن يكون رسولا، أو لأنه ليس في قوله: «ورسولك الذي أرسلت وصف ،زائد بخلاف قوله: «ونبيك الذي أرسلت». وقال غيره: ليس فيه حُجّة على منع ذلك؛ لأنَّ لفظ الرسول ليس بمعنى ف ، لفظ النبي، ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى، فكأنه أراد أن يجمع الوصفين صريحًا، وإن كان وصف الرسالة يستلزم وصف النبوة، أو لأنَّ اللفظ ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين ا وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر ولو كان يرادفه في الظاهر، أو لعله أُوحي اليه بهذا اللفظ، فرأى

إتقان الصنعة

۱۹۳

أن يقف عنده، أو ذكره احترازًا لمن أرسل من غير نبوّة، كجبريل وغيره من الملائكة لأنهم رسل لا أنبياء، فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس، أو لأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول؛ لأنه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل، بخلاف لفظ النبي فإنَّه لا اشتراك فيه عُرفًا، وعلى هذا فقول من قال:

كل رسول نبي من غير عكس لا يصح إطلاقه» . اهـ كلام الحافظ.

وبعد هذا فالحديث يتعلَّق بتغيير لفظ الوارد بما ليس بوارد، كتغيير نبيك برسولك، ولا علاقة لهذا بإنشاء لفظ أو ذكر زيادة على الوارد، وهو الذي أجازه

الجمهور، بل أقره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فلم يدع لمتعنت ما يقول. ومن قبيح التعنت ما كتبه الألباني على صلاة ابن مسعود التي رواها إسماعيل القاضي وابن ماجه بلفظ : «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين، محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون... إلخ.

كتب الألباني ما نصه: «قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف، ذكر ذلك في فتوى له في عدم مشروعيّة وصفه صلَّى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلّم، وهي فتوى مهمة جرى الحافظ فيها على طريقة السلف في الاتباع، وترك الابتداع». اهـ

وهذا جمود شديد، وتزمت ممقوت؛ يُشبه نكتة تُحكى عن فلاح، ذهب إلى فقيه القرية، يسأله عن يمين أوقعها ختنه على بنته التي تُسمى فاطمة، فأخبره الفقيه بحكم اليمين، وقرأ عليه نص الحكم من كتاب الفقه الموجود فيه. فقال

١٩٤

أصول الفقه

له الفلاح: «لكن لم يذكر اسم ابنتي فاطمة». وكذلك هذا الألباني المبتدع، يريد أن يثبت له أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: اللهم صل على سيدنا محمد، وحيث لم يثبت ذلك فزيادة السيادة بدعة، والناطق بها مبتدع. فلقد تحجر واسعا ونطق خُلْفًا، وما أتي إلا من جهله بقواعد علم الأصول، التي تبين كيف يكون جمع الأدلة والتوفيق بينها حتى تسير في خط مستقيم، لا تناقض بينها ولا تعارض. فهو حين يتعرَّض للأحكام والاستنباط يخبط خبط عشواء، ويمشي في ضلالة عمياء. يجعل المحكم منسوخا، أو يخرق الإجماع، وكلاهما ابتداع، وهو مع ذلك يرمي غيره بالابتداع، فصدق عليه المثل العربي: رمتني بدائها وانسلَّت». ويقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن قال هَلَكَ النَّاسُ فهو أَهْلَكُهُمْ» أي: أكثرهم هلاكًا. وتصرفه في المسألة التي نتكلم عنها يؤيد ما قلناه. فقد نقل عن فتوى الحافظ ابن حجر عدم مشروعيَّة وصف النبي بالسيادة في الصَّلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم. والفتوى التي أشار إليها نقلها الشيخ جمال الدين القاسمي في شرحه لـ" الأربعين العجلونية" وهي . خاصة بالمأثور، فقد سئل الحافظ. زيادة سيدنا في الصَّلاة الإبراهيمية هل تُستحب؟ فقال في الموضوع: لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة، ويجوز أن يزاد في غيرهما.

عن

فالحافظ صرَّح بجواز زيادة السيادة في غير المأثور، والألباني عمم كلامه، وتقدم قريبا عن الحافظ : أنَّه أجاز الزيادة في التلبية وحكاه عن الجمهور واختار أن يفصل بين الوارد وغيره حتى لا يلتبس، وعليه فقول ابن مسعود أو غيره: اللهم صل على سيد المرسلين...» لم يكره الحافظ ولا غيره لا من السلف ولا

إتقان الصنعة

۱۹۵

من الخلف وكيف يكرهه مسلم وهو الصدق والواقع !!

فالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم سيّد المرسلين، وسيد ولد آدم، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقد خاطبه سهل بن حنيف بقوله: «يا سيدي والرقى نافعة؟» فأقره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ومر في المقدمة: أنَّ ترك الشيء لا يدل على حرمته، ولا كراهته، وأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم يفعل جميع المباحات، ولا جميع المندوبات وأنَّ الله تعالى قال: ﴿وَمَاءَ الَنَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ [الحشر: ٧]، ولم

يقل: وما تركه فانتهوا عنه لأنَّ النهي حكم، والترك ليس بحكم.

وتقدّم أيضًا: أنَّ الأمر الحادث بعد العهد النبوي إذا كان يشمله دليل أو قاعدة شرعيّة، فهو سنة حسنة، كما قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنَّ أبا بكر وعليا رضي الله عنهما خالفا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، واختارا سلوك الأدب معه، فأقرهما ولم يعنفها.

الأعرج

صلاة الضحى، كان ابن عمر يعتقد أنها بدعة ويستحسنها: روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج، عن قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى ؟ فقال: «بدعة، ونعمت البدعة». وروى عبدالرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان،

وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إلي منها. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح ، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال :

إنَّها - يعني صلاة الضحى - مُحدثة، وإنَّها لمن أحسن ما أحدثوا».

١٩٦

أصول الفقه

الصلاة في مسجد فيه قبور

قال البخاري في "الصحيح : باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مسجدًا؟ وما يكره من الصلاة في القبور، ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر ولم يأمره بالإعادة.

قال الحافظ ابن حجر: قوله : وما يكره من الصلاة في القبور» يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا: «لا تَجْلِسُوا على القُبُورِ، ولا تُصَلُّوا إليها أو عليها». قلت: وليس هو على شرط البخاري فأشار إليه في الترجمة، وأورد معه أثر عمر للدلالة على أنَّ النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة. وقوله: «ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادي أنس على الصلاة، ولو كان يقتضي فسادها لقطعها

واستأنف.

وقال البخاري : باب كراهية الصلاة في المقابر، وروى فيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا». قال الحافظ في الفتح: استنبط من قوله: «ولا تتخذوها

قبورًا أنَّ القبور ليست محلا للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة».اهـ وهذا الاستنباط غير ظاهر وإن كان اللفظ يحتمله، بل غيره أولى لتبادره إلى

الذهن.

قال ابن التين: «تأوّله البخاري على كراهة الصلاة في المقبرة، وتأوّله جماعةٌ على أنه إنَّها فيه الندب إلى الصلاة في البيوت؛ لأنَّ الموتى لا يصلّون، كأنه قال:

إتقان الصنعة

۱۹۷

لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور» . اهـ وقال ابن قرقول في "المطالع"، وتبعه ابن الأثير في "النهاية": «إنَّ تأويل البخاري مرجوح ، والأولى قول من قال : معناه أن الميت لا يصلي في قبره . اهـ وقال الخطابي: يحتمل أن المراد لا تجعلوا بيوتكم للنوم فقط لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يُصلّي. وقال التوربشتي: يحتمل أن

يكون المراد: أنَّ من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر» . اهـ وقال الحافظ : ويؤيده ما رواه مسلمٌ: مثل البيت الذي يُذكر الله فيه

والبيت الذي لا يُذكر الله فيه كمثل الحي والميت» . اهـ

وروى البيهقي في "السنن" حديث أبي مرثد الغنوي: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلُّوا إليها، وعزاه إلى مسلم ثُمَّ قال: وروينا عن أبي ظبيان عن ابن عباس: أنه كره أن يُصلِّي إلى حُشّ، أو حمام، أو قبر، وكل ذلك على وجه الكراهية إذا لم يعلم في الموضع الذي يصيبه ببدنه وثيابه نجاسة؛ لما روينا في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «جُعلت لي الأرضُ طَيِّبَةً طَهُورًا ومسجدًا، وأيهما رجل أدركته الصَّلاةُ صلَّى حيث كان»، ثُمَّ روى عن ابن جريج قال: قلت لنافع: أكان ابن عمر يكره أن يُصلَّى وسط القبور؟ قال: لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة، وحضر ذلك عبدالله بن عمر » . اهـ

وقال البخاري : باب، وروى فيه عن عائشة وابن عباس معا قالا: لما نزل برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحذر ما صنعوا».

۱۹۸

أصول الفقه

وروى حديث أبي هريرة قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا» وروى فيه حديث جابر : أعطيت خمسا لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرُّعْبِ مَسْيرةَ شَهْرٍ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصَّلاة فليصل...» الحديث. قال الحافظ: «(قوله: (وجُعلت لي الأرضُ...» تقدم الكلام على هذا الحديث في أول كتاب التيمم وإيراده له هنا يحتمل أن يكون أراد أن الكراهة في الأبواب المتقدّمة ليست للتحريم لعموم قوله: «جُعلت لي الأرض مسجدًا». أي كل جزء منها يصلح أن يكون مكانا للسجود، أو يصلح أن يُبنى فيه مكان للصلاة، ويُحتمل أن يكون أراد أنَّ الكراهة فيها للتحريم، وعموم حدیث جابر مخصوص بها، والأول أولى؛ لأنَّ الحديث سيق في مقام الامتنان فلا ينبغي تخصيصه، ولا يرد عليه أنَّ الصلاة في الأرض المتنجسة لا تصح؛ لأنَّ التنجس وصفٌ طارئ والاعتبار بما قبل ذلك» . اهـ

وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" في الكلام على حديث: «أولئك قوم إذا ماتَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ عندهم بنوا على قَبْرِهِ مسجدًا ثُمَّ صَوَّروا فيه تلك الصور». ما نصه: وقد احتج من لم يرَ الصّلاة في المقبرة ولم يُجزها بهذا الحديث، وبقوله: «إِنَّ شرَّ النَّاسِ الذين يتخذون القبور مساجد». وبقوله: صلُّوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا». وهذه الآثار قد عارضها قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». وتلك فضيلة خُص بها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ولا يجوز على فضائله النسخ ولا

إتقان الصنعة

۱۹۹

الخصوص ولا الاستثناء، وذلك جائز في غيرها إذا كان أمرًا أو نهيا، أو في معنى الأمر والنهي، وبهذا يستبين عند تعارض الآثار في ذلك أن الناسخ منها قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: جعلت لي الأرضُ مسجدا وطهورًا»، وقوله لأبي ذر: «حيثما أدركتك الصَّلاة فصل فقد جعلت لي الأرض مسجدًا

وطهورًا» . اهـ كلامه.

وهذا حديث متواتر، ومعناه مُجمع عليه، ومعلوم من الدين بالضرورة. وعليه فالصلاة في مسجد فيه قبر أو في مقبرة أو على قبر أو إليه أو عنده أو بين قبرين صحيحة لا غبار عليها لعموم حديث: «جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورا». وهو ناسخ لحديث النهي عن الصلاة في المقابر، وهذه طريقة ابن

عبدالبر.

وطريقة البيهقي وابن حجرٍ أنَّ النهي معناه كراهة تنزيه فالصلاة في المقابر مكروهة كراهة تنزيهية، ولا تكون باطلة، لحديث: «جعلت لي الأرض مسجدًا

وطهورًا». ولا بد أن ننبه على صورة قد تشتبه على بعض الناس فيظنها تخصيصا أو استثناء من حديث جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». مع أنها ليست من ذلك في شيء، وقد أجاب عنها الحافظ ابن حجر فيما سبق من كلامه، حيث قال: بعد أن قرر أن حديث جابر سيق في مقام الامتنان فلا ينبغي تخصيصه: ما نصه: «ولا يرد عليه أنَّ الصلاة في الأرض النجسة لا تصح؛ لأنَّ التنجس وصف طارئ والاعتبار بما قبل ذلك» . اهـ

يعني أنَّ التنجس وصفٌ مانع من الصحة طارئ على الأرض، والعبرة بما

۲۰۰

أصول الفقه

.

قبل طروئه، وهذا الجواب يحتاج إلى تتمة وإيضاح، ذلك: أنَّ طهارة ثوب المصلي ومكانه شرط في صحة الصلاة، وإذا فقد الشرط، فقد المشروط»، قاعدة أصوليّةٌ ، لا خلاف فيها، فمن صلى فاقد الطهارة لم تقع منه صلاة شرعية لفقد شرطها، وقولهم : لا تصح أو باطلة كناية عن أنها لم تقع أصلا. فلا تكون مستثناة ولا مخصوصةً من حديث: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا» بخلاف الصلاة في المقبرة فإنَّها وقعت مستوفاة الشّروط، ولو قلنا ببطلانها لأجل النهي عن الصلاة في المقابر كانت مُستثناة أو مخصوصة، والفضائل أو الخصوصيات لا يُستثنى منها ولا يدخلها تخصيص.

الجلوس على القبر

اختلف العلماء في الجلوس على القبر الذي ثبت النهي عنه، فحمله الجمهور على الجلوس المعهود، وفي "الموطأ": وحدثني عن مالك أنه بلغه أنَّ

علي بن أبي طالب كان يتوسد القبور ويضطجع عليها. قال مالك: «وإنَّما هي عن القعود على القبور فيما نُرى بضم النون- قضاء الحاجة، قال السهيلي في "الروض الأنف": «وقوله:

للمذاهب». يعني خرج الكناني حتى قعد في القليس، أي أحدث فيها، وفيه شاهد لقول مالك وغيره من الفقهاء في تفسير القعود على المقابر المنهي عنه، وأنَّ ذلك للمذاهب كما قال مالك». وقال المازري والنووي : حمله على قضاء الحاجة ضعيف أو باطل».

قلت: بل هو وجيه، والدليل عليه أمران:

إتقان الصنعة

۲۰۱

١ - أنَّ العرب في الجاهلية كانوا لا يعتقدون البعث ولا يعرفونه، وكانوا

يرون الشخص إذا مات صار رمَّةٌ لا تُرجى له حياة؛ فلا يتحاشون عن قضاء الحاجة فوق القبر ولا يرون فيه شيئًا، فلما جاء الإسلام وأثبت البعث، وأن بعد هذه الحياة حياةٌ أخرى أكمل من هذه وأدوم، وأنَّ الشخص بعد موته يكون في حياة برزخية يُحس ويشعر بمن يزوره ويراه ، وإن كنا لا نشعر بذلك؛ نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن قضاء الحاجة على القبر احتراما لصاحبه، ولأنه يرى الشخص إذا كشف عورته لقضاء الحاجة. ولهذا قال عقبة: ما أبالي قضيت حاجتي على القبور، أو في السوق والناس ينظرون، يريد أن الموتى يجب الحياء منهم كالأحياء. ٢ - أنَّ ذلك التأويل جاء منصوصًا عليه، فروى الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن أبي هريرة مرفوعا : من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط فكأنها جلس على جمرة نارٍ. روي عن زيد بن ثابت قال: «هلم يا ابن أخي أخبرك إنَّما نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الجلوس على القبر لحدث غائط أو بول». وروى عبدالرزاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه: «كان يكره أن يُبنى على القبر أو يُجصَّص أو يُتغوط عنده»، وكان يقول: «لا تتخذوا قبور إخوانكم حُشَانًا». جمع حُشّ، وهو محل قضاء الحاجة. أما الجلوس لغير حدث، فقد روى الطَّحاوي عن مولى لآل علي عليه

السلام أنَّ عليَّ بن أبي طالب كان يجلس على القبر، وقال المولى: كنت أبسط له في المقبرة فيتوسد ثُمَّ يضطجع.

۲۰۲

أصول الفقه

ورُوي عن نافع أنَّ عبد الله بن عمر كان يجلس على القبور. وحديث عُمارة - بضم العين - ابن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قبر، فقال: انزل عن القبر لا تؤذ صاحب القبر». رواه الطحاوي والطبراني بإسناد فيه ابن لهيعة، ورأيت الحافظ عزاه في "الفتح" لأحمد، وقال إسناده صحيح، ووقع في "معاني الآثار": «عمرو بن حزم» وهو وكذلك وقع في منتقى الأخبار"، ولم ينبه عليه الشوكاني في "نيل الأوطار"، وعمرو أخو عُمارة، ولكن الحديث حديث عمارة، والقصة وقعت له. وهذا الحديث ليس نصا في الجلوس؛ لأنَّ قوله: «رآني على قبر» يحتمل أن يكون معناه: رآني قائما على قبر، والقيام أشدُّ إهانة من الجلوس. قال ابن عربي: «حمله مالك على ذلك أي حمل حديث النهي عن الجلوس على الحدث، وإنَّما أنَّ عليا كان يجلس على القبور، وفي "أبي داود": «أنَّ

حمله عليه لما روي الصحابة كانوا يخرجون إلى المقبرة، ويجلس النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم

مستقبل القبلة، حتى يلحد وأصحابه حوله» . اهـ

وهذا الحديث رواه أبو داود عن البراء بن عازب

وعلى قول الجمهور: أنَّ المراد الجلوس المعهود، فلا شك أن القصد بالنهي عنه احترام الميت وعدم إذايته، وهذا حق من حقوقه أثبته الشارع، ولكن الميت الذي يُدفن في مسجد بطلبه أو طلب أوليائه وعصبته، لتناله بركة ما يحصل في المسجد من صلاة وقراءة وذكر ودعاء، يكون متنازلا عن حقه في منع الجلوس عليه. وهذا كما يتنازل المجني عليه عن حقه في القصاص فلا يبقى على الجاني تبعة. أما ما رواه ابن سعد قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن أبي مرة المكي:

إتقان الصنعة

۲۰۳

أخبرنا نافع بن عمر : حدثني ابن أبي مليكة قال : كانت عائشة تضطجع على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال : فرأته خرج عليها في النوم، فقالت: والله

ما هذا إلا لأمر فتنت به، ولا يخرج علي أبدًا. قال: فتركت ذلك. فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ لعلو منزلته ولأنَّه لم يأذن لها في ذلك، وهذا الأثر ضعيف.

بناء المساجد على القبور

استدل الذين قالوا بكراهة بناء المسجد على القبر وهم الأكثر، أو بمنعه، بحديث: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». والحديث صحيح، لكن الاستدلال به لقولهم غير صحيح.

وبيان ذلك من وجوه 1 - أن معنى اتخاذ القبور مساجد: الصلاة إليها تعبّدا، أو السجود لها، وهذا

غير بناء مسجد عليها كما هو ظاهر، وقد تفطّن الكرماني لهذا، فإنَّ البخاري ترجم بقوله: باب ما يكره من اتخاذ المسجد على القبر»، وروى فيه حديث: «لعن الله

منع

اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قال الكرماني: «مفاد الحديث اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنّهما متلازمان وإن تغاير المفهوم . اهـ وإيراده صحيح، وجوابه بالتلازم بينهما ليس بصحيح، بل لا وجود

للتلازم بينهما أصلا، لا في اللغة ولا في الشرع ولا في الواقع.

٢ - أنَّ عائشة لما روت قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لعنَ اللهُ اليهود

٢٠٤

أصول الفقه

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». أعقبته بقولها: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يُتخذ مسجدا.

قال الحافظ في "الفتح": «قوله: لأبرزوا قبره» أي لكشف قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد: الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محدّدة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلّي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة». اهـ تبيَّن من هذا أن اتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة إليه والسجود له لا بناء

مسجد عليه.

- قال ابن سعد: أخبرنا علي بن عبدالله بن جعفر - هو ابن المديني-: أخبرنا سفيان - يعني ابن عيينة : أخبرنا حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم:

اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقال أيضا: أخبرنا معن بن عيسى: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهم لا تجعل

قبري وثنا يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد». وقال ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يُصلّى له، اشتدَّ غضب الله على قوم لا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». ورواه

عبدالرزاق، عن معمر عن زيد به فهذه الأحاديث صريحة في أنَّ اتخاذ القبر مسجدا معناه : الصلاة له تعبدًا

إتقان الصنعة

٢٠٥

والسجود له، لا بناء مسجد عليه.

٤- قال البيضاوي: «لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأمَّا من اتخذ مسجدا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقُرْبِ منه لا التعظيم له ولا التوجه نحوه، فلا يدخل في ذلك الوعيد» . اهـ نقله الحافظ في "فتح الباري".

وقال التوربشتي في شرح المشكاة في الكلام على حديث: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»: «هو مُخرّج على وجهين: أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم، وقصد العبادة في ذلك.

وثانيهما: أنهم كانوا يتحرّون الصَّلاة في مدافن الأنبياء، والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة الله، نظرًا منهم أنَّ ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله، لاشتماله على الأمرين: عبادة والمبالغة في تعظيم الأنبياء. وكلا الطريقتين غير مرضية، أما الأولى فشركٌ جلي، وأمَّا الثانية فلما فيها من معنى الإشراك بالله عزّ وجل، وإن كان خفيًّا، والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». والوجه الأول أظهر وأشبه».اهـ

فتحصل من هذه الوجوه أنَّ اتّخاذ القبر مسجدا معناه: السجود له، والصلاة إليه، والاستدلال به لمنع بناء المسجد على القبر أو كراهته خطأ ظاهر؛

لتباين المعنيين وتغايرهما. بقي أمر لا بد أن ننبه عليه، وهو: إذا كان مسجدًا مبنيا ثُمَّ دفن فيه ميت أو

٢٠٦

أصول الفقه

أدخل فيه قبر، فلا يدخله الخلاف في بناء المسجد على القبر؛ لأنَّه لم يبنَ عليه، والدليل على ذلك أمور:

۱- قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عبدالله الأنصاري: أخبرنا محمد بن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، قالا: قال أبو بكر: أين يدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟

قال قائل منهم: عند المنبر ، وقال قائل منهم: حيث كان يُصلِّي يؤم الناس. وقال أيضًا أخبرنا معن بن عيسى: أخبرنا مالك بن أنس: أنه بلغه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لا تُوفّي، قال ناس: يُدفن عند المنبر، فهؤلاء الناس لم يُشيروا بدفنه صلَّى الله عليه وآله وسلم عند المنبر، أو حيث كان يؤم الناس ، إلَّا لعلمهم بأنَّ هذا لا يشمله بناء مسجد على قبر، وهؤلاء

كانوا صحابة.

۲- وقال ابن حزم في "المحلى": «قد أنذر عليه السلام بموضع قبره بقوله: «ما بين قبري ومنبري روضةً من رياض الجنة». واعلم أنه في بيته بذلك، ولم ينكر عليه السّلام كون القبر في البيت ولا نهى عن بناء قائم وإنّما نهى عن بناء على القبر قبة فقط » . اهـ

C

وحديث ما بين قبري ...». رواه البزار من حديث سعد بن أبي وقاص، ورجاله ثقات، ورواه الطبراني من حديث ابن عمر قاله الحافظ في "الفتح" قلت: ورواه الخطيب في "الموضح" من حديث أبي سعيد الخدري (٤١٩/١)، ورواه البزار من حديث عليّ وأبي هريرة، وإسناده ضعيف، ومعنى الروايتين واحد، فإنَّ قبره في بيته ولهذا ترجم البخاري في "صحيحه".

إتقان الصنعة

۲۰۷

باب فضل ما بين القبر والمنبر»، وروى الحديث بلفظ: «البيت»، والحديث يدل على فضل هذا المكان وفضل الصلاة فيه، وهو يومئ إلى جعله مسجدا يُصلَّى فيه كما هو حاصل الآن. - إن القبر الشريف أدخل في المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبدالملك

على يد عمر بن عبدالعزيز ولم يغيّر عمر ذلك في خلافته بأن يفصل بين الحجرة الشريفة والمسجد بجدار، ولم يفعل ذلك خلفاء بني العباس، ولا أرشدهم إليه أحد مع كثرة من زار المسجد النبوي من الأئمة والحفاظ والفقهاء والزهاد وغيرهم، وكان الإمام مالك مسموع الكلمة عند المنصور ولو أشار عليه بإقامة حاجز بين القبر والمسجد لفعله، وما ذلك إلا لأنَّ إدخال قبر في مسجد ليس كبناء المسجد عليه، وهو في المسجد النبوي إجماع من الأمة . طبقاتها والنبي

بجميع

صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تجتمع أمتي على ضلالة». وبالله التوفيق.

مسألة

استدل أخي في "إحياء المقبور" بآية (الكهف) من جهة أنَّ الله ذكر قولهم: لَنَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَسْجِدًا ﴾ [الكهف: ٢١] فأقرهم ولم ينكر عليهم. قال المبتدع الألباني : هذا الاستدلال باطل من وجهين:

1 - لا يصح اعتبار عدم الردّ عليهم إقرارًا لهم إلَّا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين صالحين متمسكين بشريعة نبيهم، وليس في الآية إشارة إلى ذلك، بل

يحتمل أنهم كانوا كفَّارًا أو فجارًا وهو الأقرب.

- أنَّ الله ردَّ صنيعهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حيث

۲۰۸

أصول الفقه

ثبت في الحديث الصحيح: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». فأي ردّ أوضح من هذا؟! وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث الصحيحة إلا كمثل من يستدل على جواز صُنع التماثيل والأصنام

بقوله تعالى في الجنّ المذللين لسليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن تَخَرِيبَ وَتَمَئِيلَ وَجِفَانِ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَتِ ﴾ [سبأ: ١٣] . اهـ

وبيان رد كلامه من وجوه: ١- أن جماعة من المفسّرين قالوا في الذين حكى الله عنهم قولهم: النَتَّخِذَنَ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا أنهم كانوا كفارا، وهو خطأ والصواب أنهم كانوا مسلمين كما قال ابن عباس؛ لأنّهم عزموا على بناء مسجد، وهذا شأن المسلم، ولو كانوا كفارا لحكى الله عنهم أنَّهم قالوا: لنتخذن عليهم بيعة، والقرآن دقيق في تعبيره فحيث عبّر بمسجد أراد أنهم مسلمون لا محالة.

فإن قيل: بل المراد بالمسجد البيعة مجازًا.

فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ ما يحكيه القرآن عن الأمم السابقة يجب حمله على الحقيقة، ولا يجوز حمله على المجاز؛ لأنَّ إرادة الحقيقة متيقنة، بخلاف المجاز فإنَّا لا ندري هل في لغتهم مجاز. وقد أوضحت هذا في "بدع التفاسير" فالمسجد في الآية حقيقة وبناته مسلمون. والثاني: أنَّ المجاز لا بد له من قرينة تعينه، وليس في الآية قرينة على أنَّ المراد بالمسجد البيعة فيجب بقاؤه على حقيقته. وهذا ما غفل عنه كثير من

إتقان الصنعة

۲۰۹

المفسرين وغيرهم، ومن الخطأ الواضح أن يحمل الشخص آيةً على معنى قائم في ذهنه ويُفسرها به من غير أن ينظر في سياق الآية، ويتأمل في ألفاظها هل

تحتمل هذا المعنى أو ترفضه لمانع اقتضى رفضه، كما في آية سورة (الكهف). - أنَّ حديث: «لعنَ اللهُ اليهود اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد». معناه الحقيقي وهو المقصود للشارع السجود للقبر ، أو الصلاة إليه تعبدا أو تعظيما كما سبق بيانه بدليله وليس معناه بناء المسجد على القبر كما قال به كثير، فإنَّه خطأ من جهة اللغة والعرف.

وحديث ابن عباس : لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». حديث ضعيف لا تقوم به حجة.

وإذن فالاستدلال بآية الكهف سليم ولم يرد في السنة ما يُبطله، خلافًا لزعم المبتدع الألباني.

وحديث: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثُمَّ صوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». من الأدلة

الواضحة على أن بناء القبر على المسجد غير اتخاذه مسجدا.

وقد فهم ابن رجب وغيره أنَّ هذا الحديث يدلُّ على تحريم بناء مسجد على القبر، وهو غلط مبني على غلط آخر، وهو فهمهم أن اتخاذ القبر مسجدا معناه بناء مسجد عليه، وسبب هذا الحديث أنَّ أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا أنهما رأتا بالحبشة كنيسة يقال لها: مارية، وفيها تماثيل وتصاوير، فأخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ وضع التصاوير في أماكن عبادتهم من قبيح فعلهم، فالذم في الحديث منصب على التصاوير لا على بناء المسجد؛ لأنه يوافق القرآن،

۲۱۰

ويؤيد هذا أنَّ

أصول الفقه

عمر لما ذهب إلى الشام وعزمه راهب أن يتغدى عنده في

الكنيسة، قال له عمر : إنا لا ندخل كنيستكم لما فيها من التصاوير، وتغدى معه

خارجها، فالتصاوير هي مصدر الذم ومبعثه.

- الاستدلال على جواز التماثيل بآية : لا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن تَحْرِيبَ وتمثيل وحفَانِ كَالْجَوَابِ وَقَدُورٍ رَاسِيَت جهل كبير؛ لأن سليمان عليه السلام سأل الله أن يُعطيه مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه الله ما سأل، وذكر أنواعا من الملك الذي أعطاه فقال : يَعْمَلُونَ ) الجن وله السليمان ما يَشَاءُ مِن خَرِيبَ وَتَمْثِيلَ وَجِفَانِ كَالْجَوَابِ وَقَدُورٍ رَّاسِيَت الآية. فهذا من خصوصيات سليمان لا يجوز لغيره، كما كان من خصوصياته تسخير الريح والطير وغير ذلك.

مسألة

زعم بعض الناس أنَّ من تكاسل عن صلاة أو أكثر حتى خرج وقتها لا يجوز له قضاؤها، واستدل لذلك بحديث "الصحيحين": «من نام عن صلاة

أو نسيها فليصلها إذا ذكرها».

مفهومه من تركها عمدا فلا يقضيها، وهو استدلال بمفهوم المخالفة. لكن اشترط علماء الأصول في تحقق مفهوم المخالفة والعمل به ألا يكون المسكوت عنه في النص ترك لأمر يقتضي تخصيص المنطوق بالذكر، فإنَّ وجد

ما يقتضي التخصيص لم يتحقق المفهوم ولا يُعمل به.

وحديث: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها». اقتضى

إتقان الصنعة

۲۱۱

تخصيص النائم والناسي فيه بالذكر، إرادة التنبيه على ما سبق إلى الأذهان من سقوط القضاء عنهما بالقياس على الصائم إذا أكل ناسيا أو احتلم نائما لا قضاء عليه. فلم يتحقق شرط المفهوم في هذا الحديث، فلا يُفيد سقوط القضاء على العامد لترك الصلاة، بل القضاء عليه واجب لعموم الحديث: «فدين الله أحقُّ أن يُقضى». وهو حديث صحيح.

ه - حُسْنُ التَّفهمِ والدَّرْك لمسألة الترك

وليس بحُجَّةٍ في شَرْعِنا لا يَقْتَضِي مَنْعًا ولا إيجابا

فمن ابْتَغَى حَظِّرًا بتركِ نَبِيِّنَا ورَآهُ حُكْمَا صَادِقًا وَصَوابًا قَدْ ضَلَّ عن نهج الأدلَّةِ كلّها بل أَخْطَأُ الحُكْمَ الصَّحِيحَ وخَابَا لا حَظْرَ يُمْكِنُ دون نهي قد أَتَى مُتوعد المُخَالِفِيــهِ عَذَابًا أو ذَمُّ فِعْلِ مُؤذِن بِعُقُوبَةٍ أو لَفْظُ تَحْرِيمِ يُواكِبُ عَابَا

حسن التفهم

۲۱۷

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله الذي هدانا سواء السبيل، ووفقنا لمعرفة الحجة والدليل، والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته

والتابعين. أما بعد: فقد طلب مني تلميذنا الفاضل الأستاذ محمود سعيد أن أُحرّر رسالة في مسألة التّرك، تُزيل عن قارئها كلَّ حيرة وشك، وذكر أنه وجد في "إتقان الصنعة" إشارة إليها موجزةً؛ فأجبت طلبه، وأسعفتُ رغبته، وكتبتُ هذا المؤلف مُحرَّرًا؛ ليكون قارئه في ميدان الاستدلال على بصيرة من أمره،

ويعرف الدليل المقبول من غيره، والله الموفق والهادي، وعليه اعتمادي.

۲۱۸

تمهيد

أصول الفقه

الأدلة ال التي احتج بها أئمة المسلمين جميعًا هي الكتاب والسنة - لا خلاف بينهم في ذلك - وإنّما اختلفوا في الإجماع والقياس، فالجمهور احتج بهما، وهو الراجح لوجوه مُقرَّرة في علم الأصول.

وتوجد أدلة مختلفٌ فيها بين الأئمة الأربعة، وهي الحديث المرسل، وقول الصحابي، وشَرعُ من قبلنا، والاستصحاب، والاستحسان، وعمل أهل المدينة. والكلام عليها مبسوط في كتاب الاستدلال من "جمع الجوامع" للشبكي. ما هو الحكم الشرعي؟

الحكم الشرعي: هو خطاب الله المتعلّق بفعل المكلف، وأنواعه خمسة: ١- الواجب أو الفرض وهو ما يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه، مثل:

الصَّلاة، والزَّكاة، وصوم رمضان، وبر الوالدين.

الحرام وهو ما يُعاقب فاعله ويُثاب تاركه، مثل: الربا، والزنا،

والعقوق، والخمر.

المندوب : وهو ما يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه مثل نوافل الصَّلاة ٤ - المكروه : وهو ما يُثاب تاركه ولا عقاب على فاعله، مثل: صلاة النافلة

بعد صلاة الصبح أو العصر.

.-

- المباح أو :الحلال وهو ما ليس في فعله ولا تركه ثواب ولا عقاب مثل: أكل الطَّيِّبات، والتجارة.

فهذه أنواع الحكم التي يدور عليها الفقه الإسلامي، ولا يجوز لمجتهد

حسن التفهم

۲۱۹

صحابيا كان أو غيره أن يُصدر حكما من هذه الأحكام إلا بدليل من الأدلة

السابقة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى بيان.

ما هو الترك؟

نقصد بالترك الذي ألفنا هذه الرسالة لبيانه:

أن يترك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا لم يفعله، أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر بالنهي عن ذلك المتروك يقتضي تحريمه

أو كراهته.

وقد أكثر الاستدلال به كثير من المتأخرين على تحريم أشياء أو ذمها، وأفرط في استعماله بعض المتنطعين المتزمتين، ورأيت ابن تيمية استدلَّ :

واعتمده في مواضع سيأتي الكلام عليها بحول الله.

أنواع الترك

إذا ترك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا فيحتمل وجُوها غير

التحريم:

1 - أن يكون تركه عادةً:

قدم إليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ضَبٌ مشوي فمد يده الشَّريفة ليأكل .

منه

فقيل: إنَّه ضَبّ، فأمسك عنه، فسئل : أحرام هو ؟ فقال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه!». والحديث في الصحيحين" وهو يدلُّ على أمرين: أحدهما: أنَّ تركه للشّيء ولو بعد الإقبال عليه لا يدلُّ على تحريمه. والآخر: أن استقذار الشَّيء لا يدل على تحريمه أيضًا.

۲۲۰

أصول الفقه

٢ - أن يكون تَرْكُه نسيانًا:

سها صلى الله عليه وآله وسلَّم في الصَّلاة فترك منها شيئًا فسُئل: هل حدث في الصلاة شيء؟ فقال: «إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت

فذكروني».

٣- أن يكون تركه مخافة أن يُفرض على أمته:

كتركه صلاة التروايح حين اجتمع الصحابة ليُصلُّوها معه.

٤ - أن يكون تركه لعدم تفكيره فيه، ولم يخطر على باله:

كان صلَّى الله عليه وآله وسلم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة، ولم يفكر في عمل كرسي يقوم عليه ساعة الخطبة، فلما اقترح عليه عمل منبر يخطب عليه

وافق وأقره؛ لأنه أبلغ في الإسماع.

واقترح الصَّحابة أن يبنوا له دكة من طين يجلس عليها ليعرفه الوافد

الغريب، فوافقهم ولم يفكر فيها من قبل نفسه.

ه - أن يكون تركه لدخوله في عموم آيات أو أحاديث:

كتركه صلاة الضحى وكثيرا من المندوبات؛ لأنها مشمولةٌ لقول الله تعالى : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: ۷۷]، وأمثال ذلك كثيرة. ٦- أن يكون تَرْكُه خَشية تغير قلوب الصحابة أو بعضهم:

قال صلى الله عليه وآله وسلَّم لعائشة: «لولا حَدَاثَةُ قومِك بالكُفر لنقضتُ البيت ثُمَّ لبنيته على أساس إبراهيم عليه السَّلام؛ فإنَّ قريشا استقصرت بناءَه». وهو في "الصحيحين".

حسن التفهم

۲۲۱

فترك صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نقض البيت وإعادة بنائه؛ حفظا لقلوب

أصحابه القريبي العهد بالإسلام من أهل مكة.

ويحتمل تَركُه صَلَّى الله عليه وآله وسلّم وجُومًا أُخرى تُعلم من تتبع كتب السنة، ولم يأتِ في حديث ولا أثر تصريح بأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ترك شيئًا لأنه حرام.

الترك لا يدلُّ على التحريم

قرَّرتُ في كتاب "الرَّد المحكم المتين" أنَّ ترك الشَّيء لا يدلُّ على تحريمه، وهذا نص ما ذكرته هناك : والتَّرك وحده إن لم يصحبه نص على أنَّ المتروك محظور لا يكون حُجَّةٌ في ذلك بل غايته أن يُفيد أنَّ ترك ذلك الفعل مشروع. وأما أنَّ ذلك الفعل المتروك يكون محظورًا فهذا لا يُستفاد من الترك وحده، وإنَّما يستفاد من دليل يدل عليه».

ثُم وجدت الإمام أبا سعيد بن لُبّ ذكر هذه القاعدة أيضًا، فإنَّه قال في الرد على من كَرِه الدُّعاء عَقِب الصَّلاة: «غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالتَّرك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلَّا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأمَّا تحريم أو لصوقُ كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جُملي متقرّر من الشرع كالدُّعاء». وفي "المحلى" (٢٥٤/٢) ذكر ابن حزم احتجاج المالكية والحنفية على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النَّخَعي أنَّ أبا بكر وعمر

۲۲۲

أصول الفقه

وعثمان كانوا لا يُصلُّونها، وردَّ عليهم بقوله: «الوصح لما كانت فيه حُجَّةٌ؛ لأنَّه

ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما».

قال أيضا: وذكروا عن ابن عمر أنه قال: ما رأيت أحدًا يُصلِّيها». ورد عليه بقوله: «وأيضًا فليس في هذا لو صح نهى عنهما، ونحن لا ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه». وقال أيضًا في "المحلى" (۲۷۱/۲) في الكلام عن ركعتين بعد العصر: وأما حديث عليّ فلا حُجَّة فيه أصلا، لأنه ليس فيه إلا إخباره بما علم من أنَّه لمرير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم صَلاهما، وليس في هذا نهي عنهما ولا كراهة لهما، فما صام عليه الصَّلاة والسَّلام قَطُّ شهرا كاملا غير رمضان، وليس هذا بموجب كراهية صوم شهر كامل تطوعًا» . اهـ

فهذه نصوص صريحةٌ في أنَّ التَّرك لا يُفيد كراهةً فضلا عن الحرمة.

الأدلة على أنَّ التَّرك لا يُفيد الحرمة

وقد أنكر بعض المتنطعين هذه القاعدة ونفى أن تكون من علم الأصول فدل بإنكاره على جهل عريض ، وعقل مريض. وها أنذا أبين أدلتها في الوجوه

الآتية:

أحدها: أنَّ الذي يدلُّ على التحريم ثلاثة أشياء:

1

۱ - النهي، نحو: وَلَا تَقْرَبُوا الزِنَى [الإسراء: ۳۲]، ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم

بَيْنَكُم بِالْبَطِيلِ ﴾ [البقرة: ۱۸۸]

٢ - لفظ التحريم، نحو: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: ٣].

حسن التفهم

٣- ذم الفعل أو التوحد عليه بالعقاب، نحو: «من غشّ فليس منا».

والترك ليس واحدا من هذه الثلاثة؛ فلا يقتضي التحريم.

۲۲۳

ثانيها: أنَّ الله تعالى قال: وَمَا انَنكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا هَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا

[الحشر: ٧] ولم يقل وما تركه فانتهوا، فالترك لا يفيد التحريم.

ثالثها: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه». ولم يقل: وما تركته فاجتنبوه. فكيف دل الترك على التحريم؟! رابعها: أن الأصوليين عرَّفوا السنَّة بأنّها : قول الرسول صلى الله عليه وآله

وسلم وفعله، وتقريره ولم يقولوا: وتركه، لأنه ليس بدليل. خامسها: تقدَّم أنَّ الحكم خطاب الله، وذكر الأصوليين: أنَّ الذي يـ يدل عليه قرآن أو سنة أو إجماع أو قياس، والتّرك ليس واحدا منها فلا يكون دليلًا. سادسها: تقدَّم أنَّ التَّرك يحتمل أنواعًا غير التحريم، والقاعدة الأصولية: أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال، بل سبق أنه لم يرد أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ترك شيئًا لأنه حرام، وهذا وحده كاف لبطلان الاستدلال به. سابعها: أنَّ الترك أصل لأنه عدم فعل، والعدم هو الأصل والفعل طارئ

والأصل لا يدل على شيء لغةً ولا شرعًا، فلا يقتضي الترك تحريما.

٢٢٤

أصول الفقه

أقوال غير محررة

قال ابن السمعاني: «إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا وجب علينا متابعته فيه واستدل بأنَّ الصَّحابة حين رأوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله

وسلم أمسك يده عن الضَّب توقفوا وسألوه عنه».

قلت: لكن جوابه بأنه ليس بحرام كما سبق - يدل على أن تركه لا يقتضي

التحريم؛ فلا حُجَّة له في الحديث، بل الحجة فيه عليه.

وسبق

، أنَّ التَّرك يحتمل أنواعًا من الوجوه، فكيف تجب متابعته في أمر

محتمل لأن يكون عادة أو سهوا أو غير ذلك مما تقدم؟!

كلام ابن تيمية

في استدلاله بالترك والرد عليه

سُئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره،

ويطلب إزالة الذي بهم ونحو ذلك.

فأجاب بجواب مُطوّل، وكان مما جاء فيه قوله: «ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحدٌ من الأئمة». يعني أنهم لم يسألوا الدُّعاء من

النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعد وفاته كما كانوا يسألونه في حال حياته. وقلت في الرَّدُّ عليه وأنت خبير بأنَّ هذا لا يصح دليلًا لما يدعيه وذلك

لوجوه

أحدها: أن عدم فعل الصَّحابة لذلك يحتمل أن يكون أمرًا اتفاقيًا، أي اتفق أنهم لم يطلبوا الدُّعاء منه بعد وفاته. ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير

٢٢٥

حسن التفهم جائز، أو يكون جائزا وغيره أفضل منه فتركوه إلى الأفضل، ويحتمل غير ذلك من الاحتمالات، والقاعدة: «أنَّ ما دخله الاحتمال، سقط به الاستدلال». انتهى المراد منه.

قلت: ويؤيد أنَّه لم يتركوه لعدم جوازه، أنَّ بلال بن الحارث المزني الصحابي ذهب عام الرمادة إلى القبر النبوي وقال: يا رسول الله استسق لأمتك؛ فأتاه في المنام وقال له: اذهب إلى عُمر وأخبره أنَّكم مسقون وقل له: عليك الكيس الكيس». فأخبر عُمرَ فبكى وقال: «اللهم ما آلو إلَّا ما عجزت عنه. ولم يعنفه على ما فعل، ولو كان غير جائز عندهم لعنفه عُمر .

حديث صحيح لا يردُّ قولنا

قال البخاري في صحيحه : باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، وروى فيه عن ابن عمر قال: اتَّخذ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خاتما من ذهب فاتخذ النَّاس خواتيم من ذهب. فقال: «إنِّي اتخذت خاتما من ذهب». فنبذه وقال: «إني لن ألبسه أبدا»؛ فنبذ الناس خواتيهم. قال الحافظ: «اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل

والترك».

قلت: في تعبيره في التَّرك تجوز؛ لأنَّ النَّبذ فعل، فهم تأسوا به في الفعل، والترك ناشئ عنه. وكذلك لما خلع نعله في الصَّلاة، وخلع النَّاس نعالهم، تأسوا به في خلع

النعل، وهو فعل نتيجته التَّرك، وليس هذا محل بحثنا كما هو ظاهر.

٢٢٦

أصول الفقه

وأيضًا فإننا لا ننكر أتباعه صلَّى الله عليه وآله وسلم في كل ما يصدر عنه،

بل نرى فيه الفوز والسعادة، لكن ما لم يفعله كالاحتفال بالمولد النبوي، وليلة

المعراج، لا نقول إنَّه حرام، لأنَّه افتراء على الله، إذ الترك لا يقتضي التحريم. وكذلك ترك السلف لشيء - أي عدم فعلهم له - لا يدل على أنه محظور. قال الإمام الشافعي: «كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به

السلف».

لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أولما هو أفضل منه

أو لعله لم يبلغ، جميعهم علم به .

ماذا يقتضي الترك؟

بينا فيما سبق أنَّ التَّرك لا يقتضي تحريما، وإنما يقتضي جواز المتروك، ولهذا

المعنى أورده العلماء في كتب الحديث.

فروى أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه- قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ترك الوضوء مما غيَّرت النَّار».

وأورده تحت ترجمة: «ترك الوضوء مما مست النَّار».

والاستدلال به في هذا المعنى واضح؛ لأنَّه لو كان الوضوء مما طبخ بالنَّار واجبًا ما تركه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وحيث تركه دلّ على أنه غير

واجب.

قال الإمام عبد الوهاب التلمساني في مفتاح الوصول": «ويلحق في الفعل

بالدلالة، الترك، فإنَّه كما يُستدل بفعله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على عدم

حسن التفهم

۲۲۷

التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب، وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم

وجوب الوضوء مما مست النار به.

رُوي أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أكل كتف شاة ثُمَّ صلَّى ولم يتوضأ، وكاحتجاجهم على أنَّ الحِجامة لا تنقض الوضوء، بما روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم احتجم ولم يتوضأ وصلى». انظر "مفتاح الوصول" (ص: ۹۳) طبعة مكتبة الخانجي. ومن هنا نشأت القاعدة الأصولية: «جائز الترك ليس بواجب». إزالة اشتباه

قسم العلماء تركَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لشيء ما على نوعين: نوع لم يوجد ما يقتضيه في عهده ثُمَّ حدث له مقتض بعده صلى الله عليه وآله وسلَّم فهذا جائز على الأصل.

وقسم تركه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع وجود المقتضي لفعله في عهده، وهذا التّرك يقتضي منع المتروك؛ لأنه لو كان فيه مصلحة شرعية لفعله

النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فحيث لم يفعله دلّ على أنَّه لا يجوز.

ومثل ابن تيمية في ذلك بالأذان لصلاة العيدين الذي أحدثه بعض الأمراء، وقال في تقريره: فمثل هذا الفعل تركه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مع وجود ما يعتقد مقتضيا له مما يمكن أن يستدل به من ابتدعه، لكونه

ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله وبالقياس على أذان الجمعة. فلما أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان للجمعة، وصلَّى العيدين بلا أذان ولا إقامة دلَّ تَركُه على أَنَّ تَرَكَ الأذان هو السنة، فليس

.

۲۲۸

أصول الفقه

لأحد أن يزيد في ذلك.... إلخ كلامه.

وذهب إلى هذا أيضًا الشاطبي وابن حجر الهيتمي وغيرهما، وقد اشتبهت عليهم هذه المسئلة بمسئلة السكوت في مقام البيان.

صحيح أنَّ الأذان في العيدين بدعةٌ غير مشروعة، لا لأنَّ النَّبِيَّ -صلَّى الله عليه وآله وسلم تركه ، ولكن لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بين في الحديث ما يعمل في العيدين، ولم يذكر الأذان، فدل سكوته على أنه غير مشروع. والقاعدة: «أن السكوت في مقام البيان يُفيد الحصر».

وإلى هذه القاعدة تُشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان. روى البزار عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئًا» ثُمَّ تَلَا: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَا

[مريم: ٦٤] قال البزار: «إسناده صالح»، وصححه الحاكم. وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشتي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيّعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

في هذين الحديثين إشارة واضحةٌ إلى القاعدة المذكورة، وهي غير الترك الذي هو محل بحثنا في هذه الرسالة، فخَلَّط إحداهما بالأخرى مما لا ينبغي. ولذا بينت الفرق بينهما حتَّى لا يشتبها على أحد، وهذه فائدة لا توجد إلَّا في هذه الرسالة والحمد الله.

حسن التفهم

تتميم

۲۲۹

قال عبدالله بن المبارك: أخبرنا سَلام بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فقال: «نهى رسول الله عن الزبيب والتّمر» يعني أن يُخلطا، فقال لي رجل من خلفي ما قال ؟ فقلت: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم التّمر والزبيب. فقال عبد الله بن عمر: كذبت. فقلت: ألم تقل نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عنه؟ فهو حرام. فقال: أنت تشهد بذلك؟

قال سَلام: كأَنَّه يقول : ما نهى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو أدب. قلت: انظر إلى ابن عمر -وهو من فقهاء الصحابة كذَّب الذي فسر «نه» بلفظ «حرم ، وإن كان النَّهي يُفيد التحريم. لكن ليس صريحا فيه بل يُفيد الكراهة أيضا وهي المراد بقول سلام: «فهو أدب».

و معنى كلام ابن عمر: أنَّ المسلم لا يجوز له أن يتجرأ على الحكم بالتحريم إلا بدليل صريح من الكتاب أو السُّنَّة، وعلى هذا دَرَج الصحابة والتابعون

والأئمة.

قال إبراهيم النَّخَعي وهو تابعي: كانوا يكرهون أشياء لا يُحرمونها، وكذلك كان مالك والشافعي وأحمد، كانوا يتوقون إطلاق لفظ الحرام على ما لم يتيقن تحريمه لنوع شبهة فيه، أو اختلاف أو نحو ذلك، بل كان أحدهم يقول أكره كذا، لا يزيد على ذلك. ويقول الإمام الشافعي تارةً أخشى أن يكون حراما، ولا يجزم بالتحريم يخاف أحدهم إذا جزم بالتحريم أن يشمله قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ

۲۳۰

أصول الفقه

يفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النحل: ١١٦].

فما لهؤلاء المتزمتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمها بلا دليل إلا دعواهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يفعلها، وهذا لا يُفيد تحريما ولا كراهة، فهم داخلون في عموم الآية المذكورة.

نماذج من الترك

هذه نماذج لأشياء لم يفعلها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:

١ - الاحتفال بالمولد النبوي.

الاحتفال بليلة المعراج.

- إحياء ليلة النصف من شعبان.

٤ - تشييع الجنازة بالذكر .

ه - قراءة القرآن على الميت في الدار.

٦ - قراءة القرآن عليه في القبر قبل الدفن وبعده.

- صلاة التراويح أكثر من ثمان ركعات.

فمن حرَّم هذه الأشياء ونحوها بدعوى أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يفعلها فاتل عليه قول الله تعالى: وَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ

[يونس: ٥٩]

لا يقال: وإباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية؛ لأنَّا نقول : ما لم يرد نهي عنه يفيد تُحريمه أو كراهيته فالأصل فيه الإباحة؛ لقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «وما سكت عنه فهو عفو»، أي: مباح.

حسن التفهم

۲۳۱

وبعد: فقد أوضحنا مسئلة الترك، وأبطلنا قول من يحتج به بما أبديناه من الدلائل التي لم تدع قولا لمنصف ولا تركت هربا لصاحب جدل ولجاج. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

٦ - الأدلة الرَّاجِحَةُ

على فَرْضِيَّةِ قِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ

الأدلة الراجحة

۲۳۵

المقدمة

الحمد لله وكَفَى، وسلام على عباده الذين اصْطَفَى، وبعد:

فقد طلب مِنّي بعضُ أهل العِلم أن أكتب بحثا في قراءة الفاتحة خَلْفَ الإمام، يكون وافيا في بابه ، فلبيتُ ،طلبهم، وحرَّرتُ هذا البحث، عرضتُ فيه الأقوال وأدلتها، وبيَّنتُ الرَّاجِح منها بمقتضى القواعد الحديثية والأصولية،

غير مُتحيّز لرأي، ولا متأثر بمذهب، مُستمِدًا مِن الله العَوْنَ والتوفيق.

٢٣٦

الفقه

أقوال الأئمة وأدلتهم

ونبدأ بذكر الأقوال، وهي ثلاثة:

قول الحنفيّة : لا يقرأ المأموم خَلْفَ الإمام شيئًا من القرآن، لا الفاتحة ولا غيرها، في الصَّلاة الجهرية والسرية.

قول المالكيَّة: لا يقرأ المأموم خَلْفَ الإمام في الجهرية، ويقرأ في السرية، وهو قول الإمام أحمد أيضًا.

قول الشافعية: يقرأ المأموم الفاتحة خَلْفَ الإمام في الصَّلاة الجهرية والسرية، وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد وابن حزم.

استدل الحنفية بأحاديث:

۱ - روى أبو بكر الرازي في "شرح مختصر الطحاوي" من طريق الحجاج بن أرطأة، عن قتادة عن زُرَارَةَ بن أوفى عن عمران بن حصينٍ: «أَنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن القراءة خَلْفَ الإمام».

لكن الحجاج لا تُعرف له رواية عن قتادة ولا سماع منه، ثُمَّ هو مدلّس، وصفه بالتدليس عبدالله بن المبارك وأحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي ومحمد بن نصر المروزي والبزار والساجي والعجلي وإسماعيل القاضي وابن عدي والذهبي، وصرَّح أبو حاتم بأنه كان يدلس على الضعفاء؛ فهذا الحديث لا يحتج به لانقطاع سنده و تدليس راويه، ولا يبعد أن يكون الحجاج دلسه عن بعض الضعفاء؛ ليؤيد مذهب الكوفيين أهل بلده. ورواه الدار قطني من هذا الطريق مُطوَّلًا، ولفظه: عن عمران بن حصين، قال: «كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُصَلِّي بالناس ورجلٌ يقرأ خَلْفَهُ، فلما

الأدلة الراجحة

۲۳۷

فرغ قال: «مَن ذا الذي يُخالجني سورتي؟» فنهاهم عن القراءة خَلْفَ الإمام. قال الدارقطني : ولم يقل هكذا غير حَجّاج، وخالفه أصحاب قتادة، منهم شعبة، وسعيد وغيرهما، فلم يذكروا أنه نهاهم عن القراءة، وحجَّاجُ لا يُحتج به . ۲- روى الطحاوي من طريق يحيى بن سلام: ثنا مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن

صَلَّى ركعةً فلم يَقْرأ فيها بأم القرآن فلم يُصَلَّ، إِلَّا وراء الإمام». رفْعُهُ غَلَط، والصواب أنه موقوفٌ. كذلك رواه الطحاوي من طريق ابن

وهب، عن مالك بالإسناد السابق عن جابر قوله.

ورواه الترمذي من طريق معن عن مالك موقوفًا أيضًا، وهو كذلك في

"الموطأ".

ورواه الطحاوي من طريق إسماعيل بن موسى بن بنت السُّدِّي: ثنا مالك. فذكر بإسناده عن جابر قوله قال إسماعيل: فقلت لمالك: أرفعه؟، فقال: خذوا برجله.

قلت: والغلط في رفعه من يحيى بن سلام وهو البصري، ضعفه الدارقطني

وابن عدي، وقد وصف بالصَّلاح إلا أنه يروي مناكير ويغلط.

ومن غلطه ما رواه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: سوريكُمْ دَارَ الْفَنسِقِينَ ﴾ [الأعراف: ١٤٥] قال: «مصر». رواه أبو زرعة الرازي

واستقبحه وقال: «هو في تفسير سعيد عن قتادة: مصيرهم. - روى الطحاوي من طريق جابر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي

۲۳۸

الفقه

صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن كان له إمام فقراءَةُ الإمام له قراءَةٌ». جابر هو الجعفي، كذَّابٌ، روى أبو يحيى الحماني، عن أبي حنيفة قال: «ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأيي إلَّا جاءني فيه بأثر». وقال مسعر : كنت عند جابر، فجاءه رسول أبي حنيفة فقال له: ما تقول في كذا وكذا؟ قال: سمعت القاسم بن محمد وفلانا وفلانا حتى عد سبعة. فلما مضى الرسول، قال: إن كانوا قالوا. قيل لأحمد بن حنبل: ما تقول فيه بعد هذا؟ فقال: «هذا شديد»، واستقبحه.

ورواه الدارقطني في "السنن" من طريق محمد بن الفضل بن عطية، عن أبيه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن كان له

إمام فقراءة الإمام له قراءة». قال الدارقطني: «محمد بن الفضل متروك». ورواه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم به. أبو هارون متروك قال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد الخدري ما ليس من حديثه .

ورواه الدارقطني من طريق محمد بن عباد الرازي: ثنا أبو يحيى التيمي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله

وسلَّم به. قال الدارقطني: «أبو يحيى التيمي ومحمد بن عباد ضعيفان». وروى الدارقطني من طريق عاصم بن عبدالعزيز، عن أبي سهيل، عن عون، عن ابن عباس عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «يكفيك قراءة الإمام خافَتَ أو جَهَرَ». عاصم بن عبدالعزيز ضعيفٌ، ونقل الدارقطني عن الإمام

الأدلة الراجحة

۲۳۹

أحمد قال: «هذا حديث منكر».

وروى ابن حِبَّان في "الضعفاء" من طريق يغنم بن سالم ، عن أنس، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: « مَن كان له إمامٌ فَقِراءَةُ الإمامِ له قراءَةٌ ». يَغْنِم بن سالم كَذَّابٌ.

وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق أحمد بن عبدالله بن ربيعة بن العجلان، عن سفيان الثوري، عن مغيرة، عن علقمة، عن عبدالله مرفوعا: «إذا صلَّى أَحَدُكم فليَصْمُت خَلْفَ الإمام، فإنَّ قِراءَةَ الإمام له قراءة، وصلاته له صلاة». قال الخطيب: «أحمد بن عبدالله شيخ مجهول»، وقال الذهبي في

"الميزان": «هذا حديث منكر بهذا السياق»، ووافقه الحافظ في "اللسان". وروى الدارقطني من طريق محمد بن سالم، عن الشعبي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا قراءة خَلْفَ الإمام». قال الدارقطني:

«هذا مرسل». قلت: ومحمد بن سالم ضعيف متروك.

وروى الدارقطني من طريق غسان بن الربيع، عن قيس بن الربيع، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، عن الحارث الأعور، عن علي قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أقرأ خَلْفَ الإمام أو أُنصت؟ قال: «بل أنْصِتُ، فإنَّه يَكْفيك». قال الدارقطني : تفرد به غسان وهو ضعيف، وقيس ومحمد بن سالم ضعيفان».

وروى الطحاوي، والدارقطني من طريق أبي حنيفة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبدالله بن شداد عن جابر بن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن كان له إمام فقراءةُ الإمامِ له قراءة». قال الدارقطني: «لم يسنده

٢٤٠

الفقه

عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان» (۱). ورواه الطحاوي من طريق جابر وليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم به جابر هو الجعفي، كذَّابٌ. وليت هو ابن سلیم، ضعيف مختلط رفاع للموقوفات.

قال الدارقطني في "السنن": «وروى هذا الحديث: سفيان الثوري، وشعبة، وإسرائيل بن يونس، وشريك، وأبو خالد الدلائي، وأبو الأحوص، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة،

عن عبد الله بن شداد، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مرسلًا. وقال البيهقي في "المعرفة : وقد روى السفيانان هذا الحديث، وأبو عوانة، وشعبة، وجماعة من الحفاظ، عن موسى بن أبي عائشة فلم يسندوه عن

:

جابر، ورواه عبد الله بن المبارك أيضًا عن أبي حنيفة مرسلًا.

.

وقد رواه جابر الجعفي وهو متروك، وليث بن أبي سليم وهو ضعيف، عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا، ولم يتابعها عليه إلا من هو أضعف منهما. لكن قال أحمد بن منيع في "مسنده" : أخبرنا إسحاق الأزرقي: ثنا سفيان وشريك، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبدالله بن شداد، عن جابر مرفوعا: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة».

ورواه محمد بن الحسن في "الموطأ"، عن أبي حنيفة موصولا بذكر جابر، و محمد بن الحسن ضعيفٌ، ووصله أيضًا الحسن بن عماره وهو متروك.

(۱) الحسن بن عمارة ضعيف، وأبو حنيفة ثقة إمام لكنه، مقل.

الأدلة الراجحة

٢٤١

ومن التهور القبيح قول ابن الهمام في طريق محمد بن الحسن: «هذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين»، وأقبح منه احتجاج الحافظ الطحاوي في "معاني الآثار" بهذا الحديث، وهو يعلم ما فيه من العلل القاضية بسقوطه.

قال البيهقي في " المعرفة" : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - يعني الحاكم- قال: . - سمعت سلمة بن محمد الفقيه يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ، عن حديث من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، فقال: لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم شيء، إنما اعتمد مشايخنا -يعني الحنفية- فيه على الروايات عن علي ، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة. قال الحاكم: «أعجبني هذا لما سمعته، فإنَّ أبا موسى أحفظ من رأينا من أصحاب الرأي على أديم الأرض». ثُمَّ إنَّ الحديث مع ضعفه شاةٌ مخالف للقواعد، فإِنَّ مِن المقرر المعلوم أنَّ الإمام لا يحمل عن المأموم شيئًا من فرائض الصَّلاة وإنما يحمل عنه السنن، فلو السند، لوجب ردُّه لشذوذه، وعلى فرض صحته

كان هذا الحديث

صحيح

و عدم شذوذه لا يكون معارضًا لحديث عبادة الآتي، لوجهين: 1 - أن حديث عبادة مخرج في الصحيحين"، وصرح البخاري بتواتره. ٢ - أنَّ هذا حديث عام في القراءة، وحديث عبادة خاص بقراءة الفاتحة،

ولا تعارض بين عام وخاص، بل يحمل أولهما على ثانيهما.

روى أحمد والطحاوي عن عبدالله قال: كانوا يقرأون خَلْفَ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «خَلَطتم على القراءة». ولا دلالة فيه، لأمرين: ١ - أنه ليس فيه تصريح بالنهي عن القراءة.

٢٤٢

الفقه

٢ - أنه وارد في الجهر بالقراءة، إذ بها يحصل التخليط على الإمام، ولا يمنع القراءة في السر.

يؤيد هذا ما رواه أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط" عن أنس قال: صلَّى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال: «أتقرأون في صلاتكم خَلْفَ إمامكم والإمام يقرأ؟»، قالوا: إنَّا لنفعل، قال: «فلا تفعلوا، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نَفْسِهِ». رجال إسناده ثقات، وصححه ابن حِبَّان (۱).

وروى الطبراني في "الكبير" من طريق عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي، عن الزهري، عن عبد الله بن جهرٍ، عن أبيه جهرٍ قال: قرأتُ خَلْفَ النبيِّ صلَّى الله

عليه وآله وسلَّم فلما انصرف قال: «يا جَهْرُ أَسْمِعْ رَبَّكَ ولا تُسْمِعْنِي». فهذان الحديثان يفيدان طلب الإسرار بالقراءة خلف الإمام؛ لأن الجهر بها

يشوش على الإمام ويخلط عليه قراءته كما هو مشاهد.

واستدل المالكية بما يأتي:

۱ - قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهانُ فَاسْتَمِعُوالَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]، وفي الاستدلال بها نظر.

(۱) روى الحديث أبو يعلى وابن حِبَّان، والطبراني من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس باللفظ الذي أوردناه.

ورواه الطحاوي من هذا الطريق أيضًا إلَّا أنه اقتصر على جملة «فلا تفعلوا». ولم يذكر بقية الحديث، وهو تصرُّفُ غير مُرْضِ، والأمانة العلمية توجب عليه أن يذكر الحديث بتمامه وإن كان يخالف مذهبه.

الأدلة الراجحة

٢٤٣

أما أولا: فإن ابن حزم عارض المستدلين بها معارضة قوية حيث قال: تمام الآية حُجَّةٌ عليهم، لأن الله قال : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْهَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُةِ وَالْأَصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْعَفِلِينَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٥،٢٠٤]

فإذ كان أول الآية في الصَّلاة فآخِرها في الصَّلاة، وإن كان آخرها ليس في الصَّلاة فأولها ليس في الصَّلاة وليس فيها إلا الأمر بالذكر سِرا وترك الجهر فقط، وهكذا نقول.

وأما ثانيًا: فإن الآية ليست نصا ولا ظاهرا في القراءة خَلْفَ الإمام، بل سياق الآية يأبى ذلك، وإن قال به كثير من المفسّرين والفقهاء، وأطال أبو بكر الرازي في تقرير الاستدلال بها لمذهب الحنفية، كما جعلها ابن العربي حُجَّةً قاطعة تؤيد المالكية، وغفلوا جميعا عن مراعاة سياق الآية ومناسبتها لما قبلها، وما كان ينبغي لهم ذلك.

قال الإمام الرازي في تفسيره" عند سرد الأقوال:

وفي الآية قول خامس، وهو أن قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]، خطاب مع الكفار في ﴾ ابتداء التبليغ. وهذا قول حسن مناسب، وتقريره: أنَّ الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواما من الكفَّار يطلبون آياتٍ مخصوصةً ومعجزات مخصوصة. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتهم بها قالوا: «لولا اجتبيتها»، فأمره الله أن يقول جوابًا لهم: إنه ليس لي اقتراح على ربي، وليس لي إلا انتظار الوحي».

٢٤٤

الفقه

ثُمَّ بين تعالى أنه ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لأنَّ القرآن معجزة تامَّةٌ كافية في إثبات النبوة، وعبّر تعالى عن هذا المعنى بقوله: هَذَا بَصَابِرُ مِن

رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٣].

فلو قلنا أنَّ المراد من الآية إنصات المأموم خَلْفَ الإمام، لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه، وانقطع النظم، وحصل فساد الترتيب

وذلك لا يليق بكلام الله تعالى، فوجب أن يكون المراد شيئًا سوى هذا الوجه. وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة من حيث أنه معجزة دالة على صدق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط، وهو أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له ،وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته، ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة، فحينئذ يظهر لهم كونه معجزا دالا على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلّم فيستغنوا به عن طلب سائر المعجزات. فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد، وسقط الاستدلال بها من كل الوجوه على منع المأموم من القراءة. ويدل لذلك أيضًا أنَّ الله تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا: ولا تَسْمَعُوا لهذا القرءانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) [فصلت: ٢٦] فناسب أن يأمرهم بالاستماع والإنصات حتى يمكنهم الوقوف على ما فيه من الوجوه الكثيرة جدا لإعجازه» . اهـ كلامه وهو نفيس للغاية. وقال عبدالجبار بن أحمد في كتاب "فوائد القرآن": «إنَّ المشركين كانوا

الأدلة الراجحة

٢٤٥

يكثرون اللغط والشَّغَبَ تعنتا وعِنادا، على ما حكى الله عنهم : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْافِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦] فأمر الله المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجنَّ

على ذلك فقال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَ مِنَ الْجِنِ ﴾ الآية [الأحقاف: ٢٩]، وهذا وجه مقبول لا بأس به، وعليه تكون العلاقة بين هذه الآية والتي قبلها، هي التضاد. وأما ثالثًا: فإن ابن جُزَيٌّ حكى في الآية ثلاثة أقوال: ١ - أنَّ الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة.

- أنه الإنصات للخطبة.

٣ - أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق.

ثُمَّ قال: وهو الرَّاجح لوجهين: أحدهما: أنَّ اللفظ عام، ولا دليل على تخصيصه، والثاني: أن الآية مكيَّة والخطبة إنما شرعت بالمدينة». اهـ وإذا كان لفظ الآية عاما فمن الذي خصَّصه بالقراءة في الصلاة؟! وقول ابن عباس في تفسيرها المؤمن في سعة من الاستماع إليه، إلا في صلاة مفروضة أو يوم جمعة أو فطر أو أضحى». لا يصلح تخصيصا لعموم لفظها، ولكنه اجتهاد منه يفتقر إلى دليل. وحكاية النقاش - المفسّر - الإجماع من أهل التفسير على أنَّ هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة غير صحيح، بل الخلاف موجود بين المفسرين وغيرهم، ثُمَّ بعد تسليم صحة الاستدلال بالآية للقراءة في الصلاة،

يُخص منها قراءة الفاتحة سرا لما سيأتي. ۲ - روى مالك، وأحمد والأربعة من طريق ابن شهاب الزهري، عن ابن

٢٤٦

الفقه

أكيمة الليثي، عن أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاةٍ جَهَرَ فيها بالقراءة فقال: «هل قَرَأَ معي أحد منكم آنفًا؟» فقال رجل: نعم. قال: «إني أقول: ما لي أنازَعُ القُرآنَ؟!» قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيها جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم حين سمعوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». حسنه الترمذي، وصححه ابن حِبَّان، وضعفه الحميدي والبيهقي وابن

حزم والنووي. وهو لا يدل على منع قراءة المأموم سِرا، إنما يدل على كراهة الجهر بها مع الإمام؛ لأن هذه هي المنازعة.

ثُمَّ زيادة: «فانتهى الناس...» إلخ، مدرجة باتفاق الحفاظ. قال أبو داود في "السنن": سمعت محمد بن يحيى بن فارس يقول: «قوله: فانتهى الناس..." من كلام الزهري».

وقال البخاري في "جزء القراءة": «وقوله: "فانتهى الناس..." من كلام

الزهري».

وقال البيهقي في "المعرفة": «قوله: "فانتهى الناس عن القراءة" من كلام الزهري، قاله محمد بن يحيى الذهلي صاحب "الزهريات"، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبو داود واستدلوا على ذلك برواية الأوزاعي، حيث ميزه من الحديث وجعله من قول الزهري. وكيف يصح ذلك عن أبي هريرة، وأبو هريرة يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جهر به وفيها خافت؟!». انتهى. وكذا قال الترمذي في "السنن". وقال الحافظ السيوطي في "المدرج إلى

الأدلة الراجحة

المدرج عيينة».

٢٤٧

" قوله: "فانتهى الناس...... إلخ، مُدرَجٌ من كلام الزهري، بينه ابن

قلت: لأن ابن ماجه روى الحديث من طريق ابن عيينة، عن الزهري

فاقتصر على الحديث المرفوع وهو: «مالي أُنازَعُ القرآن؟!». ثُم رواه من طريق مَعْمَرٍ، عن الزهري وقال في آخره: «وزاد فيه أبو داود من طريق ابن عيينة بدون تلك الزيادة، ونقل عن عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان قال: وتكلّم الزهري بكلمة لم أسمعها فقال مَعْمَرُ: إنه قال: «فانتهى

الناس...». قال أبو داود: ورواه عبدالرحمن بن إسحاق، عن الزهري، وانتهى حديثه إلى قوله: «ما لي أنازَعُ القرآن؟!».

قال أبو داود أيضًا : قال مُسدَّدٌ في حديثه قال مَعْمَرٌ: فانتهى الناس عن القراءة. وقال ابن السرح في حديثه قال مَعْمَرٌ عن الزهري: قال أبو هريرة: فانتهى الناس.

قلت: جعل بعض المعاصرين هذه الزيادة ناسخة للقراءة كلها في الصَّلاة الجهرية. وهذا جهل كبير بعلم الأصول وقواعد الشريعة؛ لأن النسخ لا يثبت بزيادة مدرجة من الراوي ولو صحابيا، إنما يثبت النسخ بدليل شرعي، كآية أو حديث قولي أو فعلي، ولا يثبت بقول الصحابي: «هذا ناسخ أو هذا منسوخ»؛ لأنه قد يقوله عن اجتهاد منه، والحجة في روايته لا في رأيه.

روى أحمد والبزار في مسنديهما من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن

عمه قال: أخبرني عبدالرحمن بن هرمز عن عبدالله بن بحينة -وكان من

٢٤٨

الفقه

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى صلاةً يجهر فيها فلما انصرف قال: «أتقرأون خَلفي؟!» فقال: بعضهم: إنَّا لنفعل قال: «لا تَفْعَلُوا إني أقول: ما لي أنازَعُ القرآن؟!». قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذا لفظ رواية البزار وقال : أخطأ فيه ابن أخي ابن شهاب حيث قال: عن ابن بُحَيْنة. ورواه مَعْمَرٌ وابن عُيِّيْنة، عن الزهري، عن ابن أُكَيمة، عن أبي

هريرة.

قلت: وابن أخي ابن شهاب كثير الوَهم رديء الحفظ» كما قال ابن حبان. وقال الساجي: صدوق، تفرَّد عن عمه بأحاديث لم يُتابع عليها»، وجعله محمد بن يحيى الذهلي في الطبقة الثانية من أصحاب الزهري، وهم أهل ضعف واضطراب. ولو صح الحديث لم يفد منع القراءة سرا. ٤ - قال العقيلي في " الضعفاء": حدثنا زكريا بن يحيى الحلواني: ثنا أبو يحيى الوقار - بتخفيف القاف : ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا : إذا أسررت بقراءتي فاقرأوا معي، وإذا جهرتُ فلا يقرأن معي أحد».

قلت: أبو يحيى الوقار المصري فقية مالكي، قال ابن عدي: «كان يضع الحديث». وقال الحلواني: «ما بلغ هذا الحديث أبا الطاهر بن السرح تغيظ وأخرج كتاب بشر بن بكر فإذا هو عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: «أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم...» إلخ. أو عن الأوزاعي: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.... إلخ. شك الحلواني.

الأدلة الراجحة

٢٤٩

قلت: يعني أنَّ الحديث عند راويه معضل، ووصله الوقار ليؤيد مذهبه.

أنَّ

لكن فاته أنَّ الحديث معضلاً أو موصولاً، لا يفيد منع القراءة سرا. ه روى أحمد وأبو داود والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به فإذا كبر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصِتُوا الحديث. وهو لا يفيد المطلوب؛ لأن جملة: «إذا قرأ فأنصتوا تحتمل ثلاثة معانٍ لا رابع لها:

أ- فأنصتوا عن الكلام وهذا معنى صحيح يوافق الآية: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ

قنتينَ ﴾ [البقرة: ۲۳۸]، ويكون ناسخا للكلام في الصلاة، كالآية. ب فأنصتوا عن القراءة مطلقا، وهذا معنى باطل؛ لأن القراءة مشروعة

في الصلاة بالنص والإجماع فكيف ينهى عنها؟!

ج - فأنصتوا عن الجهر بالقراءة، وهذا معنى صحيح لا يمنع القراءة سرا. ٦ - روى الشيخان عن عمران بن حصين: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر، فجعل رجلٌ يقرأ خلفه سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1] فلما انصرف قال: «أيكم قرأ؟»، أو «أيكم القارئ ؟» فقال الرجل: أنا. فقال: «لقد ظننتُ أنَّ بعضكم خَالَجَنيها».

ليس في هذا الحديث دليل على المطلوب لوجوه:

١ - أنه لم ينة عن القراءة، قال أبو داود بعد روايته: «قال ابن كثير: قلت

القتادة : كأنه كرهه؟ قال: لو كرهه لنهى عنه .

٢ - أنه في الجهر، ولا يمنع القراءة في السر.

٣- أنه في قراءة السورة وهي غير واجبة فكيف يستدل به على منع قراءة

٢٥٠

الفقه

الفاتحة وهي فرض؟!

- عمل أهل المدينة. ففي "الموطأ": «قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: الأمر عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة، ويترك القراءة فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة» . اهـ

ولا يخفى أنَّ عمل أهل المدينة ليس بإجماع؛ لذلك لا يعتبره أهل الأصول

دليلا، إنما الدليل عندهم هو الإجماع، ولا إجماع هنا.

واستدل الشافعية بأحاديث

۱ - روى الشيخان عن عبادة بن الصامت: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا صَلاةَ لمن لم يَقْرَأ بفاتِحَةِ الكِتابِ».

ورواه الإسماعيلي بإسناد صحيح بلفظ: «لا تُجْزِئُ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب». وبهذا اللفظ رواه الدارقطني في "السنن" وصححه، كما صححه ابن القطان أيضًا، وهذه الرواية تُبيّن أنَّ النفي في رواية "الصحيحين" معناه نفي

الصحة، وأن الصلاة بدون فاتحة الكتاب باطلة.

۲- روی مسلم، والأربعة من طريق أبي السائب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَن صَلَّى صلاةٌ لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خِدَاجٌ، فهي خِدَاجٌ غير تمام». قال أبو السائب: فقلت: يا أبا هريرة، إني أكون أحيانًا وراء الإمام؟ قال: فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها يا

فارسي في نفسك. «خداج»: ناقصة.

وقال ابن خزيمة في "صحيحه": حدثنا محمد بن يحيى الذهلي: ثنا

الأدلة الراجحة

٢٥١

وهب بن جرير : ثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : «لا تُجْزِئُ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب». فقلت: وإن كنت خلف الإمام؟ قال: اقرأ بها في سرك . ورواه ابن حبان في "صحيحه" قال : حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة... فذكره. روى أحمد وابن ماجه وغيرهما عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: مِن صَلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج».

وروى ابن ماجه عن عمرو بن شعیب، عن أبيه، عن جده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كل صلاةٍ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، فهي خداج». قال الحافظ البوصيري في "الزوائد": إسناده حسن». ورواه البخاري في "جزء القراءة" بلفظ: «كلُّ صَلاةٍ لم يُقرأ فيها بأم القرآن فهي مخدجة».

ه - قال ابن حبان في صحيحه " : أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان: حدثنا فرج بن رواحة: ثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقّي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال: «أتقرأون في صلاتكم خَلْفَ الإمامِ والإمامُ يقرأ؟» فسكتوا، قالها ثلاث مرّاتٍ، فقال قائل: إنَّا لنفعل. قال: «فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نَفْسِهِ». ورواه أبو يعلى والطبراني في "الأوسط" قال الحافظ الهيثمي: «رجاله ثقات». - روى أحمد عن أبي قتادة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

٢٥٢

الفقه

«تقرأون خَلْفِي؟» قالوا: نعم قال: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن». روى أحمد بإسناد صحيح عن رجلٍ من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟» قالها ثلاثا، قالوا: إنا لنفعل ذلك. قال: «فلا تفعلوا إلَّا أن يقرأ أحدكم بفاتِحَةِ الكِتابِ فِي نَفْسِهِ». - روى البيهقي في "السنن" عن علي عليه السَّلام أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه

وآله وسلم قال: «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج». ۹ - روى أحمد من طريق رجل من أهل البادية عن أبيه - وكان أسيرًا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم- قال: سمعت محمدا يقول : «لا تُقْبَلُ

صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأُمَّ الكِتابِ».

١٠ - روى الطبراني، وابن السكن من طريق عبدالرحمن بن سوار الهلالي قال: كنت جالسا عند عمرو بن ميمون فقال له رجل من أهل الكوفة: يا أبا عبدالله، بلغني أنك تقول: من لم يقرأ بأم الكتاب فصلاته خداج؟ فقال: نعم حدثني أبي ميمون، عن أبيه مهران، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بهذا. قلت: ومهران صحابي . هذا وقد بقيت أحاديث أخرى بهذا المعنى اكتفينا

عنها بما أوردناه.

الأدلة الراجحة

الترجيح

٢٥٣

سردنا أدلَّة المذاهب الثلاثة في القراءة خَلْفَ الإمام، واستوفيناها بقدر ما يقتضيه المقام، والذي نُرَجّحه منها: أدلة قراءة الفاتحة في الصَّلاة الجهرية والسرية للمنفرد والمأموم والإمام، وذلك لأسباب:

أحدها: أنَّ البخاري قال في "جزء القراءة": تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا صلاة إلا بقراءة أُمّ القرآن». وقد أوردنا من طرقه عشرة مروية في الكتب الستة وغيرها، والحديث المتواتر مقدم على خبر الآحاد باتفاق المحدثين والأصوليين والأحاديث التي استدل بها المالكية

والحنفية ليس فيها حديث متواتر البتة.

ثانيها: أنَّ حديث الفاتحة نص في معناه، والأحاديث المخالفة له ظاهرة في معناها قابلة للتأويل، والنص مقدَّم لأنه لا يقبله. ثالثا: أنه أفاد رُكنية الفاتحة للصلاة بجملة : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب.

وهذه صيغة حصر، وهي أعلى أنواعه عند علماء البلاغة، ومعناها: انتفاء الصلاة الشرعية بانتفاء الفاتحة، وهذا مفهوم الركنية. كما أفاد شرطية الفاتحة بعبارة: «لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بأم القرآن لأن الإجزاء يرادف الصحة، وعدمه يقتضي عدمها وهو معنى الشرطية. وهذان حكمان زائدان، لم تفدهما الأحاديث المخالفة له والأخذ بالحكم الزائد واجب عند الأصوليين

والفقهاء.

رابعها أنه خاص، وتلك الأحاديث عمومات ولا تعارض بين عام وخاص كما قرره الأصوليين لإمكان الجمع بينهما بحمل العام على الخاص،

٢٥٤

الفقه

وبذلك تتفق الأدلة وتأتلف معانيها، وقد تولى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عملية التخصيص بيانا لنا وتعليمًا.

فروى أبو داود والترمذي عن عبادة قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إني أراكم تقرأون وراء إمامكم؟ قلنا: يا رسول الله، إي والله. قال: «لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛

فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». صححه ابن حبان، والحاكم.

وفي رواية لأبي داود والنسائي: «فلا تقرأوا بشيءٍ مِن القرآن إذا جَهَرْتَ به إلا بأم القرآن». وعن عبادة أيضًا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يقرأن أحدكم شيئًا من القرآن إذا جهرتُ بالقراءة إلا بأم القرآن». رواه الدارقطني وقال: «رواته كلهم ثقات».

وتقدم حديث أنس بلفظ : «فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نَفْسِهِ». وهو حديث صحيح.

هذا بيان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، وليس بعد بيانه بيان، وإذا جاء كلامه بطل قول فلان، ورأي فلان

يؤخذ منه: أنَّ مَن أدرك الإمام راكعا لا يُعتد بتلك الركعة ويجب عليه أن يأتي بركعة يقرأ فيها فاتحة الكِتابِ؛ لأنها ركن في الصَّلاة فلا يتحملها الإمام، كما لا يتحمل تكبيرة الإحرام والسلام.

الأدلة الراجحة

٢٥٥

فصل

والفاتحة فرضُ في صلاة الجنازة أيضًا لأنها صلاةٌ في عُرف الشرع.

قال البخاري في "صحيحه" : باب سنة الصلاة على الجنازة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَن صلَّى على الجنازة...»، وقال: «صَلُّوا على صاحبكم»، وقال: «صَلُّوا على النَّجَاشِي». سماها صلاةً ليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم . اهـ

وفي القرآن الكريم: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ﴾ [التوبة: ٨٤] فهي صلاة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال ابن المرابط: وإنما لم يكن فيها ركوع ولا سجود لئلا يتوهم بعض الجهلة أنها عبادة للميت فيضلُّوا بذلك». اهـ

وحيث كانت صلاة، فقراءة الفاتحة فيها فرضُ، لحديث: «لا تُجزِئُ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتابِ »، ولما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس: أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال : لتعلموا أنه من السُّنَّة. ورواه

أبوداود، والترمذي وصححه، والمراد بالسُّنَّة: الطريقة.

وروى الترمذي وابن ماجه عن ابن عبّاس: «أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب». في إسناده إبراهيم بن عثمان - أبوشيبة -

ضعيف جدا، لكن حديث البخاري يؤيده كما قال الحافظ.

ويؤيده أيضًا حديث جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبر على جنائزنا أربعًا، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى».

٢٥٦

الفقه

رواه الشافعي في "الأم" بإسناد ضعيف. ورواه الحاكم من طريقه وقال: هو . شاهدٌ مُفسِّر الحديث ابن عباس. يعني قوله: «أنه من السُّنَّة» فيكون

معناه: سُنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهو المقرر في علم الأصول. وروى الشافعي في "مسنده" عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أنه أخبره رجل من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ السُّنَّة في الصَّلاة على الجنازة أن يكبّر الإمام، ثُمَّ يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، سِرا ثُمَّ يصلي على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شيءٍ منهنَّ، ثُمَّ يُسَلَّم سِرا. إسناده ضعيف، لكن رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح، وأبو أمامة صحابي

صغير.

وروى ابن ماجه عن أُمّ شريك قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب».

قال الحافظ : «في إسناده ضعف يسير». والأمر للوجوب حقيقة. وروى الطبراني عن أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلَّم : «إذا صليتم على الجنازة فاقرأوا بفاتحة الكتاب». قال الحافظ الهيثمي : فيه مُعَلَّى بن حمران: لم أجد من ذكره، وبقية رجاله موثقون، وفي بعضهم كلام». وروى الطبراني عن أُمّ عفيف قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايع النِّساء، فأخذ علينا ألا تُحدِّثْنَ الرَّجُل إِلَّا تَحْرَما، وأمرنا أن نقرأ على جنائزنا بفاتحة الكتاب».

الأدلة الراجحة

٢٥٧

وفي رواية ذكرها ابن عبدالبر: «فأخذ علينا ألا نُحَدِّث غير ذي تحرَمٍ خاليًا به، وأمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب على ميتنا».

وصح عن ابن مسعودٍ وأبي هريرة وأبي الدرداء وأنس بن مالك أنهم كانوا يقرأون فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة، ويدعون ويستغفرون للميت، وعن المسور والضَّحَّاك بن قيس نحو ذلك أيضًا.

وهو قول مجاهد وسعيد بن المسيب والزهري والشافعي وأحمد وإسحاق بن

راهويه وداود الظاهري وغيرهم، وهو الصحيح.

وذهب الحنفية والمالكيَّة إلى ترك قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، واستدلُّوا بحديث أبي هريرة مرفوعا : إذا صَلَّيْتُم على الميت فأخْلِصُوا له الدُّعاء». رواه أبو داود وابن ماجه، وهو استدلال غلط لوجوه:

أحدها: أن الحديث على وجوب الدُّعاء للميت زائدا على ما علم من

فرائض الصلاة وشروطها، فلهذا لم يصرح بالفاتحة ولا بالتكبير ولا بالتسليم

ولا بالتطهر لها. ثانيها: لو كان الحديث على عدم وجوب الفاتحة، لدلّ أيضًا على عدم

وجوب التكبير والتسليم والطهارة، واللازم باطل.

ثالثها: أنَّ إخلاص الدُّعاء لا يُنافي قراءة الفاتحة ولا ينفيها، بل يجتمعان فتكون الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، ويكون إخلاص الدعاء في التكبيرات

بعدها.

وبما ورد عن فضالة بن عبيد أنه سُئِلَ : أيقرأ في الجنازة بشيء من القرآن؟

قال: لا، وعن ابن عمر أنه كان لا يقرأ في صلاة الجنازة.

٢٥٨

الفقه

الدعاء

فالجواب : أن معنى هذين الأثرين أنَّ صلاة الجنازة لا يُقرأ فيها بشيء من القرآن غير أُمّ الكتاب، أما هي ففرضيَّتُها معلومة للصحابة لا يختلفون فيها. وسر ذلك وحكمته أنهم يُصرحون بما يخص الميت وهو والاستشفاع له، ويتركون الفاتحة وغيرها استنادًا إلى أنها معلومةٌ من فرائض الصلاة وشروطها؛ لأنَّ صلاة الجنازة، من أفراد الصلاة.

وعلى هذا إذا خلت صلاة الجنازة من قراءة الفاتحة فإنها تكون باطلة، وتجب إعادتها ولو على القبر، إذا لم يمكن إخراج الميت. وبالله التوفيق.

-V

الحجة المسنة

لفهم عِبارَةِ المدونة

الحجة المبينة

٢٦١

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد الله حمدا دائما بدوامِهِ، والشُّكْر له على تَوَالِي إِنْعامِهِ، والصَّلاة والسَّلام

على سيدنا محمد وآله.

أما بعد: فهذا جزء أكتبه في وضع اليمين على الشمال في الصَّلاة المكتوبة، لا من جهة سُنِّيَّته الثابتة بالتواتر من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله، ومن فعل الصحابة والتابعين، لكن من جهة تبيين خطأ وقع في فهم رواية ابن

القاسم في هذا الموضوع، فأقول مستعينا بالله ومعتمدا في جميع أموري عليه: جاء في "المدوَّنة الكبرى" (ج ۱ ص : (ج ۱ ص (٧٤) ما نصه: «الاعتماد في الصلاة،

والاتكاء، ووضع اليد على اليد:

قال: وسألت مالكًا عن الرجل يصلّي إلى جنب حائط، فيتكئ على الحائط، قال: أما في المكتوبة فلا يعجبني، وأما في النافلة فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: والعصا تكون في يده بمنزلة الحائط. قال : وقال مالك : إن شاء اعتمد وإن لم يعتمد، وكان لا يكره الاعتماد،

وقال في ذلك على قدر ما يرتفق به فلينظر ما هو أرفق به فليصنعه. قال: وقال مالك في وضع اليُمْنَى على اليُسْرَى في الفريضة، قال: لا أعرف ذلك في الفريضة، ولكن في النوافل إذا طال القيام، فلا بأس بذلك يعين به على

نفسه.

سحنون، عن ابن وهب عن سفيان الثوري، عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

٢٦٢

الفقه

واضعا يده اليُمْنَى على يده اليُسْرَى في الصلاة». هذه عبارة "المدونة" بتمامها، لم ننقص منها حرفًا.

ومنها فهم المالكية كراهية وضع اليمين على الشمال في المكتوبة.

واختلفوا في سببها على أقوال حكاها أصحاب "المختصر" في قوله: «وهل يجوز القبض في النفل أو إن طَوَّل، وهل كراهته في الفرض للاعتماد أو خيفة اعتقاد وجوبه، أو إظهار خشوع، تأويلات». ولا بد أنَّ أحد متقدّمي شُرَّاح "المُدَوَّنة" فهم منها الكراهة، ثُمَّ تبعه المتأخرون تقليدًا من غير تمحيص ، ثُمَّ تعصبوا لإرسال اليدين في الصلاة، حتى زعم زاعم منهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يرسلها في صلاته !! وهو كذب يستوجب قائله لعنة الله وعذابه، وزعم آخر منهم: أن وضع اليمني

على اليسرى في الصَّلاة منسوخ، وهذا أيضًا كذبٌ بَحْتُ.

ولسنا بصدد تبيين سُنّيَّة وضع اليمين على الشمال في الصَّلاة، فقد سبق إلى بيان ذلك كثيرون منهم المسناوي، والشيخ المكي بن عزوز، وسيدي محمد بن جعفر الكتاني، وشقيقنا أبو الفيض.

وبلغني عن شيخنا بالإجازة الشيخ أبي شعيب الدكالي أنه قال متحديا لمن يتعصب لإرسال اليدين: «من وجد حديثا ولو ضعيفًا يصرح بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صلَّى مُرسلًا يديه، فلينقشه على رخامة وأنا أعطيه بوزنها

ذهبا». وهذا أشد ما يكون في التحدّي.

ما المراد بعبارة "المدونة "؟ إذا أراد شخص أن يفهم كلامًا فهما صحيحًا موافقا لغرض المتكلم به،

الحجة المبينة

فلينظر إلى دلالة السياق والسباق.

ما هو السياق ؟

٢٦٣

السياق - بالمثناة التحتية هو : الموضوع الذي سيق الكلام لأجله، ودار

البحث فيه.

وما هو السباق؟

السباق - بالموحدة هو : ما يَسْبِقُ الجملة المراد فهمها.

فبمراعاة هاتين الدلالتين يظهر مراد المتكلم ظهورًا بينا، وتصح نسبته إليه نسبة صحيحة، وأكثر الخطأ في فهم كلام الفقهاء سببه عدم الالتزام بما ذكرناه،

لغفلة أو ذهول. وإذا تأملنا عبارة "المُدَوَّنة" مع ملاحظة السّياق وجدناها معنونة بعنوان:

الاعتماد في الصَّلاة، والاتكاء، ووضع اليد على اليد».

فهذا موضوع بحثها، وجرى الكلام فيها عن المصلي يتكئ على حائط، وعن العصا تكون في يده أنها بمنزلة الحائط، وعن الاعتماد في الصَّلاة عموما، وقول مالك: إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد ... إلخ كلامه.

ثُمَّ قال: «وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة: لا أعرف ذلك في الفريضة فهم منه بعض شُرَّاح المدوَّنة كراهة وضع اليمنى على اليسرى في المكتوبة، وهذا باطل لوجهين:

أحدهما: أنَّ سياق الكلام وموضوع البحث: الاعتماد والاتكاء في الصلاة، فإدخال حكم الكراهة هنا يأباه السّياق ولا يقبله، إذ يصير تقدير الكلام على هذا الفهم الباطل وقال مالك : إن شاء اعتمد وإن شاء لم يعتمد، وكان لا

٢٦٤

الفقه

يكره الاعتماد، وقال في ذلك على قدر ما يرتفق به، فلينظر ما هو أرفق به فليصنعه، وقال مالك في وضع اليمنى على اليسرى في الفريضة، قال: لا أعرف ذلك الوضع في الفريضة من سننها فهو مكروه.

والكلام على هذا التقدير يكون في غاية الرَّكاكة؛ لأنه لا رابط يربط بين

الاعتماد في الصلاة وبين الحكم على القبض بالكراهة.

والآخر: أنَّ مالكًا يعرف القبض مشروعًا في الصلاة، وروى فيه حديثين

في "الموطأ"، فكيف يقول هنا: «لا أعرفه»؟! هذا تهافت لا يليق بمقام مالك، ولا يصح أن يفهم من كلامه أو ينسب إليه.

ما أراده مالك:

إذن فالمعنى الذي أراده مالك بقوله: «لا أعرف ذلك في الفريضة» أي لا أعرف الاعتماد على القبض في الفريضة؛ لأنه يفعل استنانًا فيكره قصد الاعتماد

معه أيضًا.

يؤيد هذا قوله: ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك»، أي

بقصد الاعتماد يعين به على نفسه؛ لأن النوافل يتوسع فيها. لم يقصد مالك إلا هذا بدلالة السياق التي هي أساس في فهم أي كلام وعلى هذا لا يجوز أن ينسب إلى مالك كراهة القبض في الفريضة اعتمادا على هذه العبارة التي فهمت على غير ما قصد بها . يؤيد ما قلناه: أنَّ سحنونا ختم الترجمة بما رواه: عن ابن وهب، عن سفيان الثوري، عن غير واحدٍ من الصحابة أنهم رأوا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة، ليبين أن الإمام مالكا قصد

الحجة المبينة

٢٦٥

الاعتماد، لا وضع اليمين على الشمال.

ثُمَّ نعود إلى شرح عبارة "المختصر " على ضوء ما بيناه:

فقوله: وهل كراهته في «الفرض إن كانت الكراهة مأخوذة من عبارة "المدوّنة" التي نقلناها، فهي غير صحيحة، ومالك لم يقل بالكراهة تصريحا ولا كنايةٌ، وإنما أشار إلى كراهة الاعتماد بالقبض في الفريضة.

«للاعتماد هذا عكس ما أراد مالك كما بينا.

أو خيفة اعتقاد وجوبه وهذا باطل؛ لأنه يؤدي إلى كراهة جميع المندوبات؛ ولأن . رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام مندوب، ولم يقل أحد بوجوبه؛ ولأن المضر اعتقاد واجب ليس واجبا، لا اعتقاد ما ليس بواجب واجبًا. أو إظهار خشوع» وهو باطل كسابقه؛ لأنهما تعديل على الشارع، وهو

غير جائز. وظهر بهذا أنَّ القول بكراهة القبض في الفرض وجوازه في النفل نُسب إلى

مالك رحمه الله وهو بريء منه براءة الذئب من ابن يعقوب

وبهذه المناسبة أقول: مذهب مالك يحتاج إلى تنقيح وتحرير؛ لأن كثيرًا من مسائله ينبني على خلاف الدليل، أو خلاف قواعد الأصول، أو خطأ في فهم كلام الإمام، كمسألتنا هذه.

والسبب في ذلك : أن المالكية - وخصوصا منهم المغاربة - ليس عندهم روح البحث والتمحيص، بل يجمدون على قول الإمام أو ابن القاسم وأضرابه من كبار المذهب، ولا يعنيهم أن يكون ذلك القول الذي جمدوا عليه مخالفًا للقواعد أو الدليل، وإن بحث بعضهم في قول من تلك الأقوال -على سبيل الندرة- فإنه

٢٦٦

الفقه

يعقب بحثه بقوله: «هذا مجرد بحث، والفقه مسلم»، فلم يصنع شيئًا. وهذا بخلاف الشافعية والحنفية، فإنهم يبحثون ويُمَحِّصون ويناقشون أئمة مذاهبهم، ويردون كثيرًا منها ، لمخالفته الدليل أو القواعد. ولقد قال لي بعض الأزهريين مرة: العلم عند الشافعية والحنفية، أما المالكية فهم دراويش.

يعني أنهم يتلقون قول من سبقهم من أهل المذهب، بدون مناقشة، كأنه

آية أو حديث.

وأقرب دليل على هذا أمران:

أحدهما: مسألة عبارة "المدوَّنة" التي بيَّنا معناها الصحيح، فإن بعض شراح المدوَّنة، فهم منها كراهة القبض في الفريضة دون النافلة، فقلدوا هذا الفهم المخطئ ولم يبحثوا فيه هل هو صحيح.

والأمر الآخر: أنَّ الشيخ الهبطي رحمه الله، عمل وقوفًا للقرآن حسب فهمه، ولم يرجع فيها إلى قواعد اللغة العربية ولا إلى علم القراءات ولا كُتب التفسير، فجاء كثير منها قبيحا يفسد معنى الآية، أو يفرق بين الفعل وما يتعلق به، أو بين المبتدأ والخبر، أو بين العِلَّة والمعلول، أو نحو ذلك، واستمر المغاربة عليها من وقته إلى الآن لم يفكر أحد منهم في إصلاحها حتى اعتقد العامة أنَّ القرآن أنزل بهذه الوقوف.

وقد ذاكرت بعض أهل العلم بهذا، فوافق على كلامي وذكر بعض

الوقوف القبيحة التي استحضرها في تلك الساعة.

ثُمَّ كتبتُ مقالا في مجلة "دعوة الحق"، ذكرت فيه نماذج من تلك الوقوف

الحجة المبينة

٢٦٧

الهبطية، واقترحت على وزارة الأوقاف أن تُخصص جماعة من العلماء العارفين بقواعد اللغة والقراءات والتفسير ؛ لإصلاح القبيح من تلك الوقوف بتغييرها بالصحيح الجيّد، فكان اقتراحي صيحة في وادٍ، ثُمَّ طلبت من صاحب مطبعة أن يقوم بطبع مصحف عملت له وقوفًا صحيحةً، فوافق، لكنه اعتذر بأنَّ المغاربة لا يأخذونه، بل يرفضونه ويعتبرونه مخالفًا لما اعتادوه، وإن كان خطأ. واعتذاره صحيح، فإن المغاربة يجمدون على ما ألفوه، حسنًا كان أو قبيحا، قاعدة يوجهون بها جمودهم فيقولون: خطأ مشهور خير من صواب

ولهم :

مَهْجُورٍ»!!.

وانفردوا بهذه القولة عن بقيَّة المسلمين وغيرهم، فلا أحد في الدنيا

يتمسك بالخطأ لأنه مشهور، ويترك الصواب لأنه مهجور.

فاللهم غُفرانك لهذه الكلمة القبيحة، ووفقنا لمعرفة الصواب، والتمسك

به، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

-- كَشْفُ أنواع الجَهْلِ فيما قيل في نُصْرَةِ السَّدْلِ

السَّدْلُ بِدْعَةُ قُبْحٍ لَا صَلَاحٍ بِهِ وليسَ فِيه سِوَى الإِعْرَاضُ عَن سُنَنِ والقَبْضُ جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ ثَابِتَة تُفيدُ شرعته مِن غَيْرِ مَا وَهَنِ وفيه معنى خُشُوعِ العَبْدِ مُلْتَجِنَا يَرْجُو بِهِ فَيْضَ رَبِّ وَاهِبِ المِنَنِ

كشف أنواع الجهل

۲۷۳

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين،

ورضي الله عن صحابته والتابعين.

وبعد: فإنَّ المغاربة المتأخرين مثل السيّد محمد القادري، والسيد المهدي الوزاني، والشيخ محمد الخضر الشنقيطي تعصّبوا للسدل في الصلاة وأفرطوا في التعصب له، حتى قال بعضهم: «إِنَّ القبض قيل بحرمته، والسدل لم يقل أحد بحرمته». وتبعهم كثير من الجهلة الأغمار ممن لا يُميزون بين القاع والدار، ولا بين النافع والضارّ، حتى إنَّ إحدى الطوائف طلبت من إمام يُصَلِّي بهم أن يَسْدِل في صلاته فلم يقبل فأبعدوه عن الإمامة به بهم

وليس تعصبهم مبنيا على دليل أو شبهة، بل على عدة دعاوى ليس لها ما يسندها، وهم الجهلهم بعلم الأصول وقواعد الاستدلال، ظنُّوها أدلة قاطعةً للخصام، تُلزم معارضها بالعي والإحجام.

فكتبت هذا الجزء الذي سميته: "كَشْفُ أنواعِ الجَهْلِ فيما قيل في نُصْرَةِ

السَّدْلِ".

ذكرت فيه دعاواهم واحدةً واحدةً، وأتبعت كل دعوى بما يبطلها من قواعد علم الأصول والحديث.

وبدأت بذكر حديث في السَّدل لم يذكروه وبينت ما فيه، ولئن كان

تعصبهم لرأي لا دليل له، وهو تعصب مذموم، فإِنَّ تعصبي بحمد الله للسُّنَّة

٢٧٤

الفقه

النبوية المتواترة، وهو تعصب محمود مثاب عليه بفضل الله، والفرق بين موقفي وموقفهم هو الفرق بين الحق والباطل، وبين السُّنَّة والبدعة، فنحن مع الحق والسُّنَّة وهم على الباطل والبدعة.

وَ حَسْبُكُمْ هذا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا وكُل إناء بالذي فيه يَرْشَحُ

وأبدأ مستعينا بحول الله وقوته فأقول :

حديث في السدال موضوع

روى الطبراني عن معاذ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم كان إذا كَبَّر في صلاته رفع يديه قبالة أذنيه، فإذا كبر أرسلها»، ثُمَّ

سكت، وربما رأيته يضع يمينه على يساره.

في سند هذا الحديث الخصيب بن جَحْدَر : كذَّبه شعبة، والقطان، وابن

معين، والبخاري، والساجي، وابن الجارود وغيرهم، فالحديث موضوع لا

يجوز العمل به.

كشف أنواع الجهل

۲۷۵

ذكر الدعاوى والرد عليها الأولى والثانية ]

1 - حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر القبض، فهو دليل على السَّدْلِ.

٢ - وكل حديث لم يذكر القبض في صفة الصلاة، يدلُّ على السَّدْلِ. وهاتان الدعويان باطلتان جدا؛ لأمور: الأول: إن عدم ذكر القبض لا يدل على عدم وجوده في الصلاة؛ لما تقرر :

أن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدم وجوده. الثاني: أنَّ السَّدْلَ لم يذكر في الحديث أيضًا فكيف يكون الحديث دليلًا عليه، وهو لم يذكره ؟!

الثالث: حاصل هاتين الدعويين يرجع إلى تناقض واضح لو عقلوا؛ لأن عدم ذكر القبض دليل عندهم على عدم مشروعيته، وعدم ذكر السدل دليل

على مشروعيته، هذا تهافت!!

الرابع: عند المالكيَّة يُستحبُّ السَّدِّلُ : قال ابن عاشر في مستحبات الصَّلاة: سدل يـد تَكْبِيرُهُ مَـع الشــروع *

ولم يُذكر السَّدِّلُ في أحاديث صفة الصَّلاة، مع أنَّ المستحب هو ما طلبه الشارع طلبًا غير جازم. وليس في الأحاديث طلب للسدل، وإنما فيها سكوت عنه وعن القبض، فأخذوا من عدم ذكره استحبابه، أي أخذوا من العدم أمرًا وجوديا، وهو باطل؛ لأن العدم لا يكون عِلَّةً لأمر وجودي.

قالوا: «الأصل هو السَّدْلُ»، وهذا باطل أيضًا؛ لأنَّ الأصل لا يدل على

٢٧٦

الفقه

الاستحباب؛ لأنه ليس بأمرٍ ولا طلب فيه.

ونعارضهم بأنَّ الأصل في الصلاة هو القبض؛ لأنه ورد التصريح بطلبه في

عدة أحاديث، ولأنه تحقيق المعنى قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَنِتِينَ ﴾ [البقرة:

۲۳۸]، أي: خاشعين.

والقبض علامة على الخشوع، والسدل ليس كذلك.

ولأنَّ من رأى القابض يعلم أنه يُصَلِّي، والسَّدل ليس كذلك. ولأنَّ السَّادِل يَعْبَثُ بلحيته أو أنفه أو يحك جسده، والقابض ليس كذلك. الخامس: القاعدة المقررة في الأصول: «إِنَّ المُطلَق يُحمل على المقيَّد، فيُقَيَّد به». وعلى هذا فأحاديث صفة الصلاة التي لم تذكر القبض هي مطلقة، فتقيَّد بالأحاديث التي ذكر فيها القبض فتكون الأحاديث منسجمة بعضها مع

بعض لا تعارض بينها، ولا دلالة فيها على السَّدِّل إطلاقا. هذا هو الاستدلال المبني على القواعد الأصولية، لا قولهم المبني على

قواعد سطحية.

الدعوى الثالثة: السدلُ ناسخ للقبض

وهي باطلة من وجوه: الأول: إنَّ القبض سُنَّةٌ وفضيلةٌ، والفضائل لا تنسخ كما قال ابن عبد البر

وغيره.

وقد بيّنت في غير هذا الموضع أنَّ الذي ينسخ من الأحكام ثلاثة: الواجب والحرام والمباح، أما المندوب فلا يُنسخ لأنه فضيلة، والمكروه تابع له، وهذا مما يجهله كثير ممن لم يتقن علم الأصول.

كشف أنواع الجهل

۲۷۷

الثاني: أنَّ النَّسْخَ معناه رفع الحكم بعد ثبوته، والذي يرفع الحكم هو

الشارع.

مثل قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كنتُ نَهيتكم عن زيارة القُبُور، فزُورُوها»، كنتُ نَهيتكم من أجل الدَّافَّة، فكُلُوا وَادَّخِرُوا»، ومثل منعه زيارة النساء للقبور، ثُمَّ إذنه لعائشة بزيارتها.

ولا يثبت النسخ باجتهاد صحابي فضلا عمن هو دونه، كما هو مقرر في علم الأصول. وفي "إرشاد الفحول" قال الصيرفي: «لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي".اهـ

أي: عن الشارع. وقال الشاطبي في "الموافقات": «والأحكام إذا أثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمرٍ مُحقّق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق».اهـ

الثالث: إنَّ الذين ادَّعوا نسخ القبض بنوا دعواهم على مقدمة فاسدة؛ ذلك أنهم ظنُّوا أنَّ حديث صفة الصلاة حيث لم يتعرض لذكر القبض صار معارضًا لأحاديث القبض، وضموا إلى هذا أنَّ السَّدِّلَ هو الأصل، فأنتج لهم ذلك أنَّ السَّدِّلَ ناسخ للقبض، فجاءت دعواهم فاسدة مبنية على مقدمة فاسدة، وهذا غاية الخذلان، والعياذ بالله تعالى.

قال الإمام ابن دقيق العيد: «لا يجوز إثبات النسخ بالاحتمال». وكذا قال الحافظ ابن حجر، وهذا أمرٌ مجمع عليه، لكن الذين ادعوا

النسخ لا يعلمون.

۲۷۸

الفقه

وقال ابن تيمية في "فتاواه": "وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة، لا يجوز دعوى نسخه بأمور محتملة». اهـ

وقال ابن القيم في كتاب الصلاة وأحكام تاركها": «وقد اتخذ كثير من الناس دعوى النسخ والإجماع سُلَّما إلى إبطال كثير من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ليس بهين، ولا تترك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُنَّةٌ صحيحة أبدًا بدعوى الإجماع ولا دعوى النسخ، إلا أن يوجد ناسخ صحيح صريح مُتأخر نقلته الأئمة وحفظته، إذ محال على الأُمَّة أن تضيع الناسخ الذي يلزمها حفظه، وتحفظ المنسوخ الذي قد بطل العمل به ولم يبق من الدين . اهـ

وقال بعض العلماء الأفاضل:

القَبْضُ والرَّفْعُ لَمَّا صَحَ مِن سُنن عن الرَّسُول بلا نَسْخِ ولا وَهَنِ فلا تَكُنْ يا صَحِيحَ العَقْلِ مُتَّبِعًا آثار أشياء لم تخلق ولم تكن الدعوى الرابعة: السدل عمل أهل المدينة

وهي باطلة أيضًا من وجوه:

الأول: أنَّ هذا العمل لم ينقله أحدٌ ممن تخصَّص في نقل مذاهب الأئمة، مثل الترمذي وابن المنذر وابن جرير الطبري وابن حزم وابن قدامة المقدسي والنووي، وإنما نقله الصاوي في حاشية أقرب" المسالك" عن مجهول، ولم يعتمده؛ لأنه حكاه على صيغة التضعيف وهي: «وقيل».

الثاني: أنَّ عمل أهل المدينة الذي هو حُجَّةٌ عند المالكية: إجماعهم، ولم ينقل

كشف أنواع الجهل

۲۷۹

السَّدْلُ بسند صحيح إلَّا عن سعيد بن المسيب، فأين إجماعهم؟! الثالث: أنَّ المنقول عن الخلفاء الأربعة فمن بعدهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين بالمدينة إلى عهد مالك هو القبض، ما عدا سعيد بن المسيب كما

سبق.

الرابع: أن المسائل التي عمل فيها مالك بعمل أهل المدينة عددها تسعون مسألة، ليس فيها مسألة السدل، ولولا خوف الإطالة والإملال لذكرتها بتمامها،

وقد ذكرها صديقنا العلامة السيد محمد علوي المالكي في كتابه "فضل الموطأ". الخامس: قال العلامة السنوسي في كتابه "إيقاظ الوسنان": «وقد لهج المتأخرون من المالكية بترجيح القول والرّواية بمجرد وجودهما في "المدوَّنة" ولو خالف الكتاب والسُّنَّة الصحيحة المجمع على صحتها، كما في مسألة سَدِّل اليدين في الصلاة، وردُّوا الأحاديث السالمة من المعارضة والنسخ وتركوها لأجل رواية ابن القاسم في "المدَوَّنة" عن مالك، مع أن رواية القبض ثابتةٌ عن مالك وأصحابه برواية ثقات أصحابه وغيرهم . اهـ

السادس: ترجيح متأخري المالكيَّة لرواية ابن القاسم في السدل على رواية أصحاب مالك عنه في سُنّيَّة القبض مخالفٌ لما تقرَّر في علم الأصول والحديث، فإنَّ القاعدة المقررة: «أنَّ الثقة إذا روى ما يُخالف رواية الأوثق منه أو أكثر عددًا،

كانت روايته شاذَةً ضعيفةً»، فرواية ابن القاسم بحكم هذه القاعدة مردودة. قال ابن عبد البر: وروى أشهب عن مالك : لا بأس بالقبض في النافلة والفريضة، وكذا قال أصحاب مالك المدنيون، وروى مطرف وابن الماجشون أنَّ مالكًا استحسنه».

۲۸۰

الفقه

وقال أيضًا: المريأتِ فيه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خلافٌ، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في "الموطأ"، ولم يحك

ابن المنذر وغيره عن مالك غيره . اهـ، فأين عمل أهل المدينة ؟ !

الدعوى الخامسة

تضعيف حديث "الصحيحين" في القبض

وهي باطلة جدا:

أما أولا : فإنَّ الطعن في حديث "الصحيحين" خرق للإجماع، وخرق الإجماع حرام، يعصي فاعله ومرتكبه، قال الإمام النووي في "شرح مسلم": «اتفق العلماء أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز، "الصحيحان" للبخاري ومسلم، وتلقتهما الأُمَّة بالقبول».اهـ

على

ومثله في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية، و"عمدة القاري في شرح البخاري" للعيني، و"إرشاد الساري في شرح البخاري" للقسطلاني، وقال الحافظ العراقي في "الألفية" :

وَأَرْفَعُ الصَّحِيحِ مَرُوتُها ثُمَّ البُخَارِيُّ فَمُسْلِمٌ، فَمَا شَرْطَهُما حَوَى، فَشَرْطُ الجُعْفِي فَمُسْلِمٌ فَشَرْطُ غَيْرِ يَكْفي وأما ثانيًا : فإنَّ تضعيف حديث القبض في "البخاري"، تضعيف للموطأ؛ لأنَّ البخاري روى الحديث من طريق مالك، وهو في "الموطأ"، وكتاب

.

"الموطأ" عظيم القدر تلقته الأُمَّة بالقبول، قال الإمام الشافعي: «ما على ظهر

الأرض كتاب بعد كتاب الله أكثر صوابا من كتاب مالك».

۲۸۱

كشف أنواع الجهل وقال القاضي عياض: لم يعتنِ العلماء مثل اعتنائهم بكتاب "الموطأ"»، وذكر مما كتب عليه نحو تسعين كتابًا، فتضعيف حديث رواه مالك والبخاري، وقاحة كبيرة مع كونها خرقًا للإجماع.

وأما ثالثًا: فإنَّ الإمام النووي قال في "شرح البخاري": «ما ضعف من

حديث "الصحيحين" مبني على علل ليست بقادِحَةٍ». اهـ

وأما رابعا : فإن لفظ حديث سهل بن سعد في "البخاري" و"الموطأ": «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرَّجُل اليد اليُمْنَى على ذراعه اليُسْرَى في الصَّلاة»، قال

أبو حازم: «لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم». قال الحافظ: «هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أنَّ الأمر هو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، واعترض الداني في أطراف الموطأ" فقال: «هذا معلول؛ لأنه ظنُّ مِن أبي حازم". ورُدَّ بأنَّ أبا حازم لو لم يقل: «لا أعلمه...» إلى آخره، لكان في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: «كنَّا نُؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع، فيحمل على من صدر عنه الشرع.

ومثله قول عائشة: «كنا نُؤمَر بقضاء «الصوم»، فإنه محمول على أنَّ الأمر بذلك هو النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل، وقد ورد في "سنن

أبي داود" و"النسائي" و"صحيح ابن السكن" شيء يُستأنس به على تعيين

الأمر والمأمور.

۲۸۲

الفقه

فروي عن ابن مسعود قال: رآني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم واضعا

يدي اليسرى على يدي اليمنى، فنزعها ووضع اليمني على اليسرى. قيل: لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله: «لا أعلم...» إلخ. والجواب: أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له: مرفوع، وإنما يقال له: في حكم الرفع» . اهـ كلام الحافظ ابن حجر.

قلت: تعليل الداني للحديث بأنه موقوف غفلةٌ منه؛ لأنَّ قواعد مالك التي بنى عليها مذهبه أنَّ قول الصحابي حُجَّةٌ»، وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا، فالحجة بقول سهل بن سعد ثابتة على الاحتمالين.

وأما خامسًا: ففي صحيح مسلم عن وائل بن حجر: «أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل في الصلاة كَبَّر، ثُمَّ التحف بثوبه، ثُمَّ وضع يده اليمنى على اليسرى» الحديث.

ضعفه الخضر الشنقيطي - وهو أشد المتعصبين للسدل تعنتا- بأن العلماء

ذكروا أنَّ في "صحيح مسلم" أربعة عشر حديثا، فلعل هذا الحديث منها. قلت: هذا تضعيف بالترجي، ولم يصح ترجيه؛ من جهة أن تلك الأحاديث

أجاب عنها الحفاظ، وبينوا اتصالها وسلامتها من الانقطاع. ومن جهة أنَّ الإمام النووي والسيوطي وغيرهما عدوا تلك الأحاديث واحدًا واحدا وليس فيها حديث وائل المذكور.

ومن جهة أنَّ ابن خزيمة روى في "صحيحه" من غير طريق مسلم عن وائل بن حجر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع

يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، فذهب تضعيفه هباءً منثورا.

كشف أنواع الجهل

الدعوى السادسة

دم القبض بكونه من فعل بني إسرائيل

۲۸۳

ذكر صاحب "الرحلة المراكشية" حديثًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: «كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم

في الصَّلاة»، وادَّعى أنه ذمّ للقبض بكونه من فعل بني إسرائيل.

قلت: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" قال: حدثنا وكيع، عن يوسف بن ميمون، عن الحسن مرسلًا، فهو حديث ضعيف، ورده بما ذكر وقاحةً شديدة، لا سيما من شخص يدعي نصرة السُّنَّة ويدعو إلى العمل بها. فالحديث المذكور بيان لاتفاق شرائع الأنبياء في القبض.

روى ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء قال: «من أخلاق النبيين وضع اليمني على

الشمال في الصَّلاة، وأحبار بني إسرائيل أتباع موسى ومن بعده من الأنبياء». وذكر القرطبي وغيره: «أنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام ولم يكن منسوخا ولا مخصوصا فهو شرع لنا، وهو المقرر عند المالكية».

الدعوى السابعة

تضعيف أثر عبدالكريم بن أبي المخارق

روى مالك، عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري: أنه قال: «من كلام النبوة: إذا لم تَسْتَحِ فافعل ما شِئتَ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى، وتعجيل الفطر، والاستيناء بالسَّحُور»، قالوا: هذا الأثر ضعيف وعبد الكريم

ابن أبي المخارق متروك.

٢٨٤

الفقه

قلت ثبتت شواهد تقويه وتؤيد معناه.

ففي "صحيح البخاري عن أبي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تَسْتَحْ فافعل ما

شئت.

وروى الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إِنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سَحُورِنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصَّلاة».

وروى الطبراني عن أبي الدرداء، وابن عبد البر عن أبي هريرة رفعه: «ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين

على الشمائل في الصَّلاة». ورواه سعيد بن منصور عن عائشة.

وروى الطبراني عن يعلى بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اثلاث يُحبها الله عزّ وجلَّ: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وضرب اليدين

إحداهما على الأخرى في الصَّلاة».

الدعوى الثامنة

السادِل يشبه الميت، وهو أقوى في تحقيق الخشوع وهذه حكمةٌ مَيَّتةٌ لا رواج لها في الميدان العلمي، وإليكم حكمة مشروعية

القبض على لسان العلماء:

قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي": «والحكمة فيه أي: القبض - عند علماء المعاني: الوقوف بهيئة الذلة والاستكانة بين يدي ربِّ العِزَّة ذي الجلال والإكرام، كأنه إذا جمع يديه يقول: لا دفع ولا منع ولا حول أدعي

كشف أنواع الجهل

ولا قوة، وها أنا في موقف الذُّلَّة، فأسبغ علي فائض الرحمة».اهـ

٢٨٥

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ [الكوثر : ٢]:

رُوي عن علي بن أبي طالب أنه فسَّر هذا النحر بوضع اليدين على النحر في الصلاة، وقال: «رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ، ووضعهما على النحر عادة الخاضع الخاشع».

قلت: روى ابن أبي شيبة، والبخاري في "التاريخ"، والحاكم، والبيهقي في "السنن" عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ [الكوثر : ٢] قال: «وضع يده اليمنى على وسط ساعده اليسرى، ثُمَّ وضعهما على صدره في

الصلاة».

اللطائف

وقال الزرقاني في شرح الموطأ": «قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع ومن ال قول بعضهم: القلب موضع النيَّة، والعادة أن من حرص على حفظ شيء جعل يديه عليه».اهـ، وهو عند الحافظ في "فتح الباري".

٢٨٦

الفقه

قال

ونختم هذا الجزء بمسائل المسألة الأولى

العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني في "نظم المتناثر من

الحديث المتواتر": أحاديث وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة: عن سهل بن سعد الساعدي، ووائل بن حجر الحضرمي، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وهلب الطائي، وابن الزبير، وأبي هريرة، وجابر بن عبدالله والحارث بن غطيف الثمالي ويقال: أنه غضيف بن الحارث، بالضاد المعجمة وعمرو بن حريث المخزومي، ويعلى بن مرة الثقفي، وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء، وحذيفة، وعائشة، وابن عباس، وأنس، وشداد بن شرحبيل، ومعاذ بن جبل، وسفيان الثوري عن غير واحد من الصحابة، ومرسل أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق، وطاووس،

والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم . اهـ

وكذا نص الحافظ السيوطي على تواتر أحاديث القبض. وقال الخضر الشنقيطي المتعنّت - : والمدعى عندنا هو النسخ، لا أنه غير

مرفوع؛ لأنه وارد من طرق عديدة يحصل من مجموعها العلم برفعه» . اهـ وهذا اعتراف منه بتواتر حديث القبض؛ لأن حديث الآحاد لا يفيد العلم، ثُمَّ ناقض نفسه فقال: «مع أنا - معاشر المالكية - لا نقول أنَّ القبض لم يثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، بل نعترف بأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام؛ لكثرة رواته عنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانت ضعيفة، ولكنا

كشف أنواع الجهل

۲۸۷

نقول : أنه منسوخ بالإرسال».

فكيف يقول: يحصل العلم من مجموعها برفعه»، ثُمَّ يقول: «وإن كانت

ضعيفة؟ هذا تناقض، والمبطل يتناقض.

ثم قال أيضا: «إنَّ هذا النسخ ليس المراد به النسخ المتعارف عند أهل الأصول، الذي هو: "الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب

المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه".اهـ

وإنما المراد به نسخ الاجتهاد، وهو عبارة عن تضعيف المجتهد ما عارضه عنده معارض قوي في ،اجتهاده وإن كان المضعف عنده صحيحا في

نفسه» . اهـ

وهذا النسخ الاجتهادي باطل أيضًا لأنه مبني على أن حديث صفة الصلاة الخالي عن ذكر القبض معارضًا للأحاديث المصرحة بالقبض، وهذا فهم باطل لأنه ليس بين الحديثين تعارض، بل هما من قبيل المطلق والمقيَّد كما مَرَّ بيانه. المسألة الثانية

قال القاضي عبد الوهاب: رواية ابن القاسم عن مالك - في التفرقة بين الفريضة والنافلة في وضع اليمنى على اليسرى - غير صحيحة؛ لأن وضع اليمنى على اليسرى إنها اختلف هل هو من هيآت الصلاة أو لا؟ وليس فيه اعتماد، فيفرق فيه بين الفريضة والنافلة» . اهـ نقله الباجي عنه. ورواية ابن القاسم عليها اعتمد من ادعى النسخ الاجتهادي وغيره، وقد

تبين أنها غير صحيحة، فما بني عليها غير صحيح بالضرورة، وبالله التوفيق.

۲۸۸

الفقه

المسألة الثالثة

سبق ذكر دعواهم: أنَّ السَّدل هو الأصل، وبينا بطلانه فيها مر.

ونبين بطلانه هنا بطريق آخر، فنقول: الأصل عدم التكليف إطلاقًا، ثُمَّ جاءت الشريعة بالتكاليف الناقلة عن الأصل، وبنى العلماء على ذلك أنه إذا

تعارض خبر ان أحدهما مُقرّر للأصل والآخر ناقل عنه يرجح الناقل. قال الشوكاني في إرشاد الفحول" في الترجيح بحسب المدلول-: «وهو

أنواع: النوع الأول: أنه يقدَّم ما كان مُقرِّرًا للأصل والبراءة على ما كان ناقلا، وقيل العكس، وإليه ذهب الجمهور، واختار الأول الفخر الرازي والبيضاوي، والحق

ما ذهب إليه الجمهور» . اهـ وكذا في "جمع الجوامع قال المحلي: لأن فيه زيادة على الأصل، وقال ابن عرفة قول ابن الحاجب تُقدَّم الناقلة على المستصحبة هو قول مالك في "المدونة " . اهـ وقال ابن القيم: «لأن أحكام الشرع ناقلة عما كانوا عليه». اهـ فلو فرض أن حديث صفة الصلاة مُقرّر للسدل الذي هو الأصل، وجب تقديم حديث القبض عليه؛ لأنه ناقل عنه، ومن جهة أخرى لو اعتبرنا حديث صفة الصلاة الساكت عن القبض نافيًا له، كان الحديث المصرح بالقبض مُثبتاله، والمثبت مُقدَّم على النافي كما تقرر في علم الأصول.

المسألة الرابعة

قال القادري في ترجيح السَّدِّل : إِنَّ القبض قد قيل بحرمته، بخلاف السدل»، وهذا غشّ وتدليس، لجأ إليه لعلمه بأنه مبطل، وإلا فهو يعلم أنَّ

كشف أنواع الجهل

۲۸۹

أحدا من أهل السُّنَّة لم يقل بذلك، وإنما قاله الروافض الإمامية، وهي فئة ضالة كما هو معلوم، واستدلوا فيما قالوه إلى حديث موضوع ذكره القاضي النعمان الشيعي في كتاب "دعائم الإسلام"، جاء فيه: «لا تكفروا في الصلاة كتكفير اليهود»، وحملوها على القبض، وهذا خطأ منهم في فهم ما استدلوا به؛ لأن التكفير معناه انحناء الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً من الركوع

وفي الحديث: لما ذهب عمرو بن أمية إلى النَّجَاشي، رأى الحبشة يدخلون عليه من خوخة مكفرين - أي: راكعين - فولى ظهره ودخل، ونعوذ بالله من محاربة السُّنَّة إلى هذا الحد الممقوت.

ونقول في نقيض ذلك: أنَّ الشوكاني قال في "نيل الأوطار" بوجوب القبض، واحتج له بأدلَّةٍ قويَّة أصولية، ويراجع كلامه في ( ص ٤١٠ ج ٢ طبعة الحلبي الأخيرة)، فالسَّدل على هذا القول حرام؛ لأنه ترك للواجب، بل ربما يكون مُبطِلًا للصلاة، وبالله التوفيق.

المسألة الخامسة

الأئمة الذين اعتبروا القبض من سنن الصَّلاة وهيآتها استنادًا إلى الأحاديث المتواترة، وهم أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل شيخ الحفاظ، والثوري، والطبري، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن العربي، وغيرهم كثير، هل كان هؤلاء كلهم لا يعرفون ما في أحاديث القبض من ضعف مزعوم، ونسخ موهوم، حتى جاء الخضر الشنقيطي فعرف ما لم يعرفوه، وبين ما جهلوه، مع أنه ليس من أهل الحديث في قبيل ولا دبير؟!

فإلى الله المشتكى وإليه المصير.

۲۹۰

الفقه

المسألة السادسة

نقول لهؤلاء المقلّدة الذين جدوا في نُصرة السدل، وجهدوا في الدفاع عنه

حتى خرجوا إلى حد التعنت المذموم : أريحوا أنفسكم فكلامكم غير مسموع وهذركم غير مقبول؛ لسبب واضح وإن خفي عليكم: أنكم مُقَلِّدة، و المقلد أخذ قول إمامه، وليس له أن يستدل ويُحاجج ويرجح ويضعف، هذه

ووظيفة

وظيفة المجتهد، فإن فعلها المقلّد مثلكم، كان غاصبا لمنصب المجتهد. والمقرر في آداب البحث والمناظرة -وهو علم الجدل-: أنَّ الغاصب لا يسمع قوله، فكلامكم أيها المقلدة مرفوض جملةً وتفصيلا.

المسألة السابعة

قال الشيخ عليش في "شرح مختصر خليل" -ممزوج كلامه مع المتن: وهل كراهته، أي القبض، في الفرض لقصد الاعتماد؟، أي الاستناد به، وهذا تأويل عبد الوهاب وهو المعتمد، فلو فعله للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يقصد شيئًا فلا يكره، ويجوز في النفل مطلقا؛ لجواز الاعتماد فيه بلا

عذر». اهـ

فصرح باستحباب القبض إذا لم يقصد به الاعتماد، ثُمَّ انتكس في "فتاويه" فصرح بكراهة القبض وانتصر للسَّدل ببعض الدعاوى التي مر بطلانها، وهذا منه موقف مُزرِي لا يليق بأهل الإنصاف.

وأخبرني أخي أبو الفيض رحمه الله عن سبب هذا الموقف منه: أنه كراهية للعلامة الإمام السيّد محمد بن علي السنوسي الذي أظهر في جغبوب وطرابلس

كشف أنواع الجهل الدعوة إلى السُّنَّة .

۲۹۱

مع نشر الطريقة، فتحوّل الناس إليه، وانصرفوا عن عائلة

عليش التي كانت مشهورة هناك بالتصوف وانقطع ما كان يأتيه من تحف وهدايا، فانتصاره لم يكن الله سامحه الله .

توفي السيد السنوسي سنة ١٢٧٦هـ، والشيخ عليش سنة ١٣٠١هـ

۲۹۲

الخاتمة

الفقه

أخبرني أخي أيضًا: أنَّ بعض المغاربة المتعصبين للسدل احتج لكراهة

القبض بقول الله تعالى في صفة المنافقين: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [التوبة: ٦٧]. وهذا استدلال طريف يصح أن يذكر في أخبار المغفلين.

ومرة أخرى قال لبعض المغاربة: السَّدّل لم يكن معروفًا عند السلف، ولا ورد عنهم، فكيف تقولون باستحبابه؟ فرد بحماس: بل في "سنن أبي داود" حديث نهى عن السَّدّل، فقال له أخي فهو حُجَّةٌ عليك، لكن السدل هنا معناه سَدّل الثوب، وأمَّا السَّدِّل الذي هو خلاف القبض فاسمه عندهم: الإرسال، أو إرسال اليدين والحاصل: أنَّ المغاربة عَشِقُوا السَّدّل وهاموا به، حتى قال قائل منهم: لو قال لي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: اقبض، لا أقبض، وهذا وهو يصلّي وقد حج ويعمل أعمالا خيريَّة، ولكنه الخذلان.

نسأل الله السلامة والعافية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

تم تحريرًا في الخامس من شهر رمضان المعظم، سنة ١٤٠٧هـ

الرَّأي القويم

فِي وُجُوبِ إِثْمَامِ المُسَافِرِ خَلْفَ المُقِيمِ

إذا كان بَحْتُ في فُرُوعِ شَرِيعَةٍ فَاحْذَرْ مِن النَّاثِيمِ والتَّضْ إذْ كُل فَرْعِ ليس يَبْلُعُ رُتْبَةٌ في الجَزْمِ كالتَّوحِيدِ والتَّنزي والفِقْهُ عِلْمٌ غَامِضٌ وبُحُوتُهُ تَحْتَاجُ التَّنْظِيرِ والتَّعْلِيلِ فإذا أَصَبْتَ فأنتَ جدُّ مُوَفَّق أو لا فلا تَفْزَع إلى التهويل ودَعِ الغُلُ مع الغُرُورِ بِجَانِبِ واجْنَحْ الحُسْنِ القَولِ والتَّأويل لا شيء يَنْفَعُ في العُلُومِ كَحُجَّةِ مَدْعُومَة بقواعد وأصول والله نرجو أن يُنير عُقولَنا ويُنبِلَنَا فِي الحَشْرِ حُسْنَ مَقِيلِ

الرأي القويم

۲۹۷

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رافع الحقِّ وخافض الباطل، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد، سيد الأواخر والأوائل، ورضي الله عن آله وأصحابه النُّجَباء الأمَائِل، الذين

كانوا ينصفون إذا اختلفوا فيما يعرض لهم من النَّوَازِل.

أما بعد: فقد طلب مِنِّي بعض الأساتذة الأفاضل (1) أن أُحَرِّر الكلام في صلاة المسافِر خَلْفَ المقيم، وهي مسألة حصل فيها لَغَطٌ وغَلَطٌ، وبالغ بعضهم حتى وصل بها إلى نهاية الشوط في الشَّطط، فأجبت طلبهم بتحرير هذه الرسالة التي سميتها: "الرأي القويم في وجوب إتمام المسافِر خَلْفَ المقيم". وسلكت فيها ما تعودت في كتبي ومقالاتي من الأصولية، ردًا وقبولا، وتفريعا وتأصيلا، فلا أقبل من الأقوال إلا ما حكمت بصحته تلك القواعد، ولا أرفض من الأدلة إِلَّا ما هو عن منصب الحُجَّيَّة متقاعد، كشفت الحجاب عن وجه الصواب وقدمت اللباب صافيا لذوي

التمسك بالقواعد

الألباب، لا يشوبه شتم أو سباب، ولا يُشينه دم للمخالف أو عاب. فإِنَّ مِن المقرَّر المعلوم أنَّ الباحث - مستدلا أو معارضا- إذا عف لسانه، وحسن بيانه، ظهرت حُجَّته ، وعَلَتْ ،رتبته، وسُمِعت كلمته، وحمدت في البحث

طريقته.

(۱) ممن يحضرون دروسي في علم الأصول، فهم الذين أثاروا هذا الموضوع لمناسبة اقتضت إثارته أثناء الدرس، وطلبوا تحرير البحث فيه.

۲۹۸

الفقه

أما أن يتمسك شخص برأي شاذَّ، ويُلزم الناس اتباعه، ويقذف من خالفه

بسيئ القول وقبيح التعبير، فذاك أمرٌ خطير ووِزُرُه كبير.

نسأل الله أن يلهمنا الرشد، ويوفقنا لأتباع الحق، ويرزقنا سداد القول وصلاح العمل، إنَّه قريب مجيب.

الرأي القويم

مسألة

۲۹۹

صلاة المسافر ركعتان مقصورتان من أربع، والدليل على ذلك أمور:

أحدها: قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَ بِّكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ

الصَّلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْلِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء: ١٠١].

في الآية دليل من وجوه: 1 - أن القصر عبارة عن أن يُؤتَى ببعض الشيء، ويقتصر عليه، قال أبوزيد، أحد أئمَّة اللُّغة: «قَصَرَ مِن صَلاتِهِ قَصْرًا: نَقَصَ مِن عَدَدِها». نقلَه أبو حَيَّان.

الصلاة.

- أنَّ مِنَ في الآية للتبعيض، وهو نص في الاقتصار على بعض

- ثبت في "الصحيحين" أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حين صَلَّى صلاة رباعية، وسلَّم فيها من اثنتين، سأله ذو اليدين: أقصرت الصَّلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: «لَمْ أَنْسَ ولَمْ تُقْصَر الحديث. وهو يؤكد أن قصر

الصَّلاة نقص من عددها.

٤ - أنَّ الشارع أجاز للمريض أن يُصَلِّي قاعدًا ومُضطجعًا وعلى جنب، يومئ بالركوع والسجود، ولم يُسَمِّ صلاته صلاة قصر، بل خص القصر بالمسافر، وما ذلك إلا لأنَّ القصر في عرف الشرع نقص من عدد الركعات. ثانيها: روى مسلم والأربعة عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْلِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .

۳۰۰

الفقه

فقد أمن الناس؟! قال : عجبتُ ممَّا عَجِبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك، فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عليكم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». يؤخذ من الحديث أمور:

١ - أنَّ القَصْرَ في الآية معناه نقصُ مِن عدد الركعات، هكذا فهم يعلى وعمر، وهما صحابيَّان عربيان، وأقر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عمر على

ما فهم، وبيَّن له أن قصر الصلاة مع الأمن صَدَقَةٌ من الله تعالى. ٢ - أنَّ الأصل في صلاة المسافر هو الإتمام، ولو كان فرضه ركعتين ابتداء،

لم يتعجب يعلى ولا عمر من قصر المسافر مع الأمن.

قال الخطابيُّ: «في هذا الحديث حُجَّةٌ لمن ذهب إلى أنَّ الإتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف، فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك . فدل على أنَّ القَصْر إِنَّما هو عن أصل كامل

قد تقدمه، فحذف بعضه وأبقى بعضه» . اهـ

وقال القاضي عياض: «هذا الحديث معارض الحديث عائشة، وأقوى منه في الحجة؛ لأنه أخبر به نصا» . اهـ

أنهم كانوا يعملون بدليل الخطاب، ويعتبرونه حُجَّةً، وجواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها صدقة إقرار للقول بذلك، لكن عارض هذا المفهوم صدقة الله، أو أنه خرج مخرج الغالب.

ثالثها: روى أحمد والأربعة عن أنس بن مالك الكعبي قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله تعالى وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّوْمَ وشَطْرَ الصَّلاة». حسنه الترمذي، قال: «وفي الباب عن أبي أمية».

الرأي القويم

۳۰۱

قلت: حديث أبي أميَّة رواه النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : حدثني عمرو بن أميَّة أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال له: «إِنَّ اللهَ قد وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيامَ وَنِصْفَ الصَّلاةِ». وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن أبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة، عن أبي أمية الضمري: أنه قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَلَا تَنْتَظِرُ الغداء؟» فقال: إني صائمٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيامَ وشَطْرَ الصَّلَاةِ».

وروى الطبراني: عن زُرَارَةَ بن أوفى، عن رجل منهم: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وهو يأكل ، فقال: «هَلُمَّ». فقال: إني صائم. فقال:

«هَلُمَّ أُحَدِّثك؛ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيامَ وشَطْرَ الصَّلاةِ». وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ : حَطَّ نصفها بعد أن كان إتمامها واجبًا على المسافر، كما حَطَّ . عنه الصوم وقد كان واجبا أيضًا، وهذا حقيقة الوضع في اللغة. يقال: وضع عن الدابة الحمل إذا حطه عنها. وفي الحديث: «مَنْ أَنظَرَ

مُعْسِرًا أو وَضَعَ عـ عنه أظله الله في ظله». أي حَطَّ عنه بعض دينه.

أمَّا حمل وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ» على معنى رفعه ابتداء، كما قال صاحبنا الشيخ محمد جاد الحق، ليوافق مذهبه الحنفي، فيبطله أنه معنى مجازي لا قرينة تدل عليه، كيف وذكر الصوم يعين إرادة المعنى الحقيقي؟!.

ولا يجوز الجمع بين المعنيين في الحديث لوجهين:

١ - امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز لتنافيهما.

۳۰۲

الفقه

٢ - أنَّ الفعل مثبت، والفعل المثبت لا يعم، كما تقرر في الأصول، فهذه

الأدلة (1) ..

تفيد أنَّ صلاة المسافر مقصورة من تمام، ولا يوجد ما يعارضها إلَّا

(۱) بقي دليل لم نذكره، وهو ما رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" قال: حدثنا بشر بن عمر الزهواني حدثني سليمان بن بلال : ثنا يحيى بن سعيد: حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: قُم فصل. وذلك لدلوك الشمس حين مالت، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فصلى الظهر أربعًا. ثُمَّ أتاه حين كان ظله مثله، فقال: قُم فصل. فقام فصلى العصر أربعًا ثُمَّ أتاه حين غربت الشمس ، فقال : قُم فصل. فقام فصَلَّى المغرب ثلاثا ثم أتاه حين غاب الشَّفَق، فقال: قُمْ فصَلِّ. فقام فصلى العشاء أربعًا. ثُمَّ أَتاه حين برق الفجر، فقال: قُم فصل. فقام فصلى الصبح ركعتين. ثُمَّ أتاه من الغد حين كان ظله مثله، فقال: قُم فصل. فقام فصلى الظهر أربعًا. ثُمَّ أتاه حين كان ظله مثليه، فقال: قُم فصل. فقام فصلى العصر أربعًا. ثُمَّ أتاه للوقت الأول حين غربت الشمس، فقال: قُمْ فصَلِّ. فقام فصَلَّى المغرب ثلاثا، ثُمَّ أتاه بعدما غاب الشَّفَق وأظلم، فقال: قُمْ فصَلِّ . فقام فصلى العشاء الآخرة أربعًا. ثُمَّ أتاه حين طلع الفجر وأسفر، فقال: قُم فصل. فقام فصلى الصبح ركعتين. ثُمَّ قال جبريل: ما بين هذين وقت صلاة.

وهكذا رواه الباغندي في "مسند" عمر بن عبد العزيز"، والبيهقي في "السنن"، وإسناده صحيح على شرط الشيخين إلا أن فيه انقطاعا.

قال البيهقي: الميسمع أبو بكر من أبي مسعود». اهـ لكن وصله الباغندي في المسند المذكور، والبيهقي في "المعرفة" من طريق أيوب بن عتبة قاضي اليمامة: ثنا أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة بن الزبير، عن ابن أبي مسعود، عن أبيه.

الرأي القويم

۳۰۳

واسم ابن أبي مسعود بشير كما جاء مصرحًا به في "مسند الباغندي"، وهو كما قال الحافظ - تابعي جليل، ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآه.

قال البيهقي: «أيوب بن عتبة ليس بالقوي». اهـ

مع

قتادة،

فالحديث بمجموع الطريقين يكون حُجَّةً كما تقرر في علم الحديث والأصول. ودعوى مخالفته لقول عائشة في "الصحيحين" مردودة بأنه موافق للآية؛ والحديث يعلى، وعمرو بن أمية، على أن قول عائشة. صحة سنده - متن شاد؛ لمخالفته القرآن والأخبار المتواترة والأصول المعقولة، كما يأتي في كلام ابن العربي. ثُم وجدت حديثاً آخر أخرجه الدارقطني في "سننه" من طريق أبي حمزة إدريس بن يونس الفراء، عن محمد بن سعيد بن جدار الخراز، عن جرير بن حازم، عن قة عن أنس: أنَّ جبريل أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم بمكة حين زالت الشمس، فأمره أن يؤذن للناس بالصَّلاة حين فرضت عليهم، فقام جبريل أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقام الناس خَلْفَ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فصَلَّى أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، يأتمُّ الناسُ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يأتمُّ بجبريل. ثُمَّ أَمْهَل حتى دخل وقت العصر، فصل بهم أربع ركعاتٍ لا يجهر فيها بالقراءة، يأتمُّ المسلمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ويأتمُّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بجبريل. ثُمَّ أسهل حتَّى وجبت الشمس ، فصَلَّى بهم ث ثلاث ركعات يجهر في ركعتين بالقراءة، ولا يجهر في الثالثة. ثُمَّ أَمْهَلَهُ حتَّى إذا ذهب ثلث الليل ، صَلَّى بهم أربع ركعات، يجهر في الأوليين بالقراءة ولا يجهر في الأُخْرَيَيْنِ بها. ثُمَّ أَمْهَل حتى إذا طلع الفجر، صَلَّى

بهم و م ركعتين، يجهر فيهما بالقراءة.

أبو حمزة وشيخه لا يعرف حالهما، كما قال ابن القطان.

٣٠٤

الفقه

ثلاثة آثار :

۱- قول عائشة : فُرضت الصَّلاة ركعتين ركعتين، فأُقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الخضر (۱).

۲- قول عمر: صلاة السَّفَر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام من غير قَصْرٍ، على لسانِ محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. - قول ابن عباس: إِنَّ الله عزَّ وجلَّ فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، والخوف ركعة (۳).

والجواب عن هذه الآثار بأحد مسلكين:

۱ - ترجيح تلك الأدلة؛ لأنها تشتمل على آية، وأحاديث مرفوعة نصا

وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا ابن المثنى: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن

قتادة، عن الحسن به قال عبد الحق في "أحكامه": مرسل الحسن أصح». قلت: إسناده صحيح، والقاعدة عند المحدثين والأصوليين أنَّ المرسل إذا انضم إليه حدیث موصول ضعيف - كما هنا - يصير حُجَّةُ بلا خلاف.

-

(1) سيأتي بيان أن هذا القول صدر منها عن اجتهاد.

(۲) صلاة ركعة في الخوف ليست فرضًا عند من يقول بها، بل تجوز الزيادة عليها، فهذا الأثر الذي صرح بفرضيتها لا يخلو من أحد أمرين، إما أن نقول إنه لا يمنع الزيادة على ركعتين في السفر، كما لم يمنع الزيادة على ركعة في الخوف، وإما أن نعتبره شادا غير معمول به لأنه أخبر بفرضية أمر لم يخبر بها حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا قال بها أحد من العلماء، فبطل الاحتجاج به من أصله.

الرأي القويم بدون احتمال، وغاية هذه الآثار أنها في حكم المرفوع، ولا شكّ أنَّ المرفوع الصريح مقدم على المرفوع الحكميّ. وتقدَّم قول عياض في حديث يعلى: «إنَّه أقوى من حديث عائشةَ في الحُجَّة؛ لأنه أخبر به نصّا» . اهـ أي: وحديث عائشة أخبر حكما لا نصّا، وهذا ميل منه إلى مسلك الترجيح كما هو ظاهر. ۲ - مسلك الجمع، وهو الذي نميل إليه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «والذي يظهر لي وبه تجتمع الأدلة السابقة أنَّ الصَّلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين ) إِلَّا المغرب ثُمَّ زيدت عقب الهجرة إِلَّا الصُّبح كما روى ابن خزيمة وابن حِبَّان والبيهقي من طريق الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: «افرضِت صلاة الحَضَر والسَّفَر ركعتين ركعتين، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر؛ لطول القراءة، وصلاة المغرب؛ لأنها وتر

النهار» . اهـ

(1)

ثُمَّ بعد أن استقر فرض الرباعية، خُفّف منها في السفر، عند نزول الآية السابقة، وهي قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوةِ ﴾ [النساء: ١٠١]. ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح "المسند": أنَّ قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة. وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: «كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية». حكاه الدولابي، وأورده السهيلي بلفظ: «بعد الهجرة بعام أو نحوه».

(۱) تبيَّن مما قدمناه أنها فُرضت أربعًا فلا حاجة للجمع.

٣٠٦

الفقه

وقيل: «بعد الهجرة بأربعين يوما». فعلى هذا، المراد بقول عائشة: «فأُقرت صلاة السَّفَر». أي باعتبار ما آل إليه الأمرُ من التخفيف، لا أنها استمرت منذ فرضت» . اهـ كلام الحافظ.

وهو وجيه يتمشى مع القواعد التي تقرر تأويل الضعيف ليوافق القوي فيؤول الظاهر ليوافق النصّ، ويؤوّل الخفي ليوافق الواضح، ويؤول المرفوع

(1)

الحكمي ليوافق المرفوع الصريح أما ما فعله بعض النَّاس من تأويل حديث يعلى، وحديث أبي أمية، فقلب

للقواعد ناشئ عن جهل بعلم الأصول

(۲)

(۱) مما يوجب تأويل تلك الآثار أيضًا: إفادتها أنَّ صلاة السَّفَر أصل لا مقصورة، وأنَّ صلاة الحضر هي الزائدة. وهذا مخالف لنص القرآن أن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلوة ﴾ [النساء: ۱۰۱] وإجماع المسلمين في تسميتها مقصورة، ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا؛ وجب ترك ظاهره. قاله النووي في "المجموع"، وهذا وجه من وجوه شذوذ قول عائشة.

(۲) وحكى ابن العربي في "الأحكام" استدلال الحنفية على أنَّ صلاة السَّفَر عزيمة بقول عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين». ثُمَّ قال: وقد تكلمنا على هذا الحديث، في شرح مسائل الخلاف والحديث وبيَّنا أنه خبرٌ واحد يُعارِضُه نص القرآن والأخبار المتواترة؛ فإنَّ الله سبحانه جعل في كتابه القصر تخفيفا والتمام أصلا، ويعارض أيضًا الأصول المعقولة، فإنه جعل الإقامة في القرآن أصلا، وهو الواجب، وقلبها الراوي في الحديث . اهـ

فأشار إلى أن قول عائشة شان، حيث جعل القصر أصلا والتمام زيادة، وهو خلاف

الرأي القويم

مسألة

۳۰۷

قول عمر رضي الله عنه: صلاة السَّفَر ركعتان». يقصد به الحديث الذي رواه ليعلى بن أمية؛ لأننا ندرك بالضرورة أنه لم يكن ليقول ذلك القول أولًا ثُمَّ يعجب من القصر مع الأمن، ويسأل عنه النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. وقوله: تمام من غير قصر. يعني: أنَّ صلاة السَّفَر وإن كانت مقصورةً يُعطى صاحبها ثواب صلاةٍ تامَّةٍ؛ لئلا يتوهم أنها على النصف من صلاة المقيم في الثواب، قياسًا على ما جاء في حديث عائشة وابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: صلاةُ القاعدِ على النّصفِ مِن صلاة القائم». يعني في صلاة النفل؛ لأن القادر على القيام يجوز له أن يتنفل قاعدًا، ويكون ثوابه نصف ثواب المتنقل قائما. فأراد عمر أن ينفي هذا التوهم بالنسبة لصلاة السَّفَر، فقال: تمام من غير قصر».

ونظير هذا ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما في حديث الإسراء: أنَّ الله تعالى فرض خمسين صلاة، وردَّها إلى خمس بسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: «هُنَّ خَمْسٌ وهُنَّ خَمْسُون أي: هنَّ خمس في العدد، وخمسون

في الثواب. فكذلك المسافر، صلاته ركعتان في العدد، وأربع في الثواب.

نص القرآن. وأيضًا جعل القرآن الإقامة أصلا، وبذلك جاءت الأخبار المتواترة والأصول المعقولة، فإنَّ من المعلوم بالبداهة أنَّ الإقامة . الأصل، وأنَّ السَّفَر

هي

عارض طارئ، وأنَّ ما شرع لأجله كالقصر والفطر والتيمم تخفيف بلا شك، فجعله

أصلا شذوذ بين.

۳۰۸

الفقه

ويؤيد أنَّ هذا مراد عمر قوله في صلاة الجمعة: «قصرت الصَّلاة لأجل

الخطبة».

مسألة

صلاة السَّفَر رخصةٌ، سواء قلنا إنها واجبة أو مندوبة؛ لأنها شرعت لعُذر السفر (). وقد قسَّمَ الأصوليون الرخصة إلى أربعة أنواع: واجبة، ومندوبة

ومباحة، ومكروهة.

مثال الرخصة الواجبة: إساعة الغُصَّة بالخمر لمن لم يجد غيرها، وأكل الميتة للمضطر المشرف على الهلاك.

ومثال المندوبة: فطر مسافر يشق عليه الصوم من غير ضرر يلحقه.

ومثال المباحة: بيع السلم.

ومثال المكروهة: فطر مسافر لا يشق عليه الصوم.

فإن قيل: كيف تكون الرخصة واجبةٌ مع أنَّ الوجوب فيه كلفة ومشقة؟

ولذا قيل في التكليف: إنه إلزام ما فيه كلفة.

قلنا في الجواب الواجب نوعان:

١ - واجب في حالة العزيمة، وهو الذي فيه كلفة ومشقة، من حيث أنه جاء مخالفًا لغرض النفس، يحتم عليها فعل شيء لم تتعوده، وذلك كإيجاب

(۱) فينطبق عليها تعريف الرخصة، وهو: الحكم المتغيّر إلى سهولة لعذر، مع قيام السبب للحكم الأصلي.

روى ابن مردويه بإسناد لا بأس به عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين

في السَّفَر ، فقال : هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها.

الرأي القويم

۳۰۹

الصَّلاة والصيام والزَّكاة والحج والجهاد، ونحو ذلك من الواجبات العزائم. ۲- واجب في حالة الرخصة، وهو سهل على النفس الموافقة غرضها

وملاءمته لمصلحتها. فالمغصوص يجب إساغة غصَّته بما يجده لديه من خمر وغيرها. والمشرف على الهلاك يرغب في دفع الهلاك عن نفسه بما يتيسر له من ميتة خنزير أو كلب، بله ميتة مباح الأكل، والمسافر يجد في الركعتين خِفَّةٌ على نفسه، وملاءمة لحال سفره، فإيجاب هذه الأمور ونحوها تقبله النفس وتسرع إلى امتثاله. والسر في ذلك: أنَّ الواجب في العزيمة ينقل الشخص من حالة عدم

التكليف، وهي التي تسمَّى بالبراءة الأصلية إلى حالة التكليف والإلزام. والواجب في الرخصة، يرجع : بالمكلّف إلى حالة قبل التكليف، أو إلى ما

يقرب منها.

مسألة

اقتداء المقيم بالمسافر

إذا اقتدى مقيم بمسافرٍ في صلاة رباعية، فيجب على المقيم بعد سلام الإمام أن يتم صلاته، والدليل على ذلك أمور: 1 - روى أحمد والطَّحاوِيُّ والبيهقي : عن عمران بن حصين قال: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم سفرًا إِلَّا صلى ركعتين حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة، يُصَلِّي بالناس ركعتين ركعتين، إلَّا المغرب، ثُمَّ يقول: «يا أهل مكة قوموا فصلُّوا ركعتين أُخْرَيَيْنِ فَإِنَّا قومٌ سَفْرٌ».

قال الحافظ ابن حجر: «حسنه الترمذي لشواهده».

۳۱۰

الفقه

قلت: ويتأيد بما يأتي:

روى مالك في "الموطأ": عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قَدِمَ مكَّة، صلَّى بهم ركعتين، ثُمَّ يقول: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإِنَّا قومٌ سَفْرٌ».

وروى أيضًا: عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب مثله. وروى عبد الرزّاق، عن مَعْمَرٍ، عن الزهري قال: دخل عبد الله بن عمر على رجل من أهل مكة يعوده، فحضرت الصلاة فصلى بهم ابن عمر ركعتين، ثُمَّ التفتَ إليهم، فقال: «أتموا».

وروى مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله قال: جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان، فصَلَّى لنا ركعتين ثُمَّ انصرف، فقمنا وأتممنا. وروى عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن الزهري، أنَّ ابن عمر قَدِمَ مكَّة، فأتاه ناس في منزله، فحضرت الصلاة، فأمَّهم، فلما سَلَّم، قال: «أتموا». ٢ - الإجماع، حكاه صاحب "البحر الزخار". - القياس، وذلك أنَّ المقيم بعد سلام إمامه المسافر؛ بقي من صلاته بقيَّة، فوجب عليه إتمامها كالمسبوق.

مسألة: اقتداء المسافر بالمقيم

أمَّا اقتداء مسافر بمقيم فهذه مسألة قصر فيها ابن حزم، وأخطأ في فهم بعض الآثار التي نقلها، وقلّده ناقلو كلامه بدون تمحيص.

ونحن نحررها بحول الله تحريرًا بالغا لا تجده في غير هذه الرسالة التي كتبناها؛ لبيان الأوهام التي وقع فيها الكاتبون في هذا الموضوع، وإليك

الرأي القويم

التفصيل:

۳۱۱

ذهب الهادي والقاسم وأبو طالب وأبو العباس من أئمة أهل اللغة، وطاوس، والشعبي، وداود فيها حكاه الشَّوكاني، إلى أنَّ اقتداء المسافر بالمقيم لا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَخْتَلِفُوا على إمامكم». وقد خالف المقتدي إمامه في العدد والنية مخالفةً تقتضي أن يخرج من الصلاة قبل الإمام.

وخصَّصَ الهادوية عدم صحة صلاة المسافر خلف المقيم بالركعتين الأوليين من الرباعية، وقالوا بصحتها في الركعتين الأخيرتين، ويَشْهد لهم ما رواه ابن حزم من طريق عبد الرزاق، عن عبد الرحمن بن تميم بن حذام، قال: كان أبي إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر صلَّى إليها أخرى، وإذا أدرك ركعتين اجتزأ بهما.

وروى عبد الرزاق عن سليمان التيمي، قال: سمعت طاوسًا وسألته عن مسافر أدرك من صلاة المقيمين ركعتين، فقال: تجزئانه.

وروى أيضا عن الشَّعبي قال: إذا كان مسافرا فأدرك من صلاة المقيم : ركعتين، اعتد بهما.

وهكذا حكى النووي في "المجموع" هذا القول عن طاوس والشعبي وتميم بن حذام.

وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى صحة اقتداء المسافر

بالمقيم لعموم أدلة الجماعة.

قالوا: ويجب عليه متابعة الإمام في الإتمام.

لكن بم يلزمه الإتمام؟ فقيل: إذا أدرك جزءًا من الصَّلاة أتم، سواء أكان

۳۱۲

الفقه

ركعة أم دونها .

روى ابن أبي شيبة من طريق حفص عن ليث، عن مجاهد، عن ابن

عباس قال: «إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صلى بصلاتهم».

وروى أيضا عن ابن مسعود مثله.

وفي "الموطأ" و"صحيح مسلم : عن نافع: أنَّ ابن عمر كان إذا صلَّى مع الإمام صلى أربعًا، وإذا صلَّى وحده صلَّى ركعتين.

وروى عبد الرزّاق عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم قال : إذا دخلت مع قوم فصل بصلاتهم.

وروى ابن أبي شيبة عن جرير عن مغيرة، عن إبراهيم وعطاء، عن

سعيد بن جبير قال: «إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صَلَّى بصلاتهم». وروى عبد الرزّاق، عن مَعْمَرٍ والثوري قالا: إذا أدركهم جلوسًا صَلَّى

بصلاتهم.

وهذا القول حكاه ابن المنذر عن ابن عباس ، وابن عمر، وجماعة من التابعين،

والنوري، والأوزاعي، وأحمد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، يعني الحنفية. وقيل: إذا أدرك ركعة لزمه الإتمام، وإن أدرك أقل من ركعة فله القصر. روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن الحسن في مسافر أدرك ركعة من صلاة المقيمين في الظهر، قال: يزيد إليها ثلاثا، وإن أدركهم جلوسا صلَّى

ركعتين.

وروى عبد الرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن الزهري وقتادة في مسافر يدرك من صلاة المقيمين ركعة، قالا: يُصَلِّي بصلاتهم، فإن أدركهم جلوسا صلى ركعتين.

الرأي القويم

وروى أيضًا عن مَعْمَرٍ، عن رجل، عن عكرمة مثل قولهما.

۳۱۳

وروى ابن أبي شيبة مثله أيضًا عن عطاء ومكحول. وروى عبد الرزّاق عن مَعْمَرٍ عن منصور، عن إبراهيم، وعن عمرو،

عن الحسن قالا: «إذا أدركهم جلوسا صلَّى ركعتين». وهذا قول مالك أيضًا. أما ما رواه عبد الرزّاق، عن مَعْمَرٍ، والثوري: قال سليمان التيمي: عن أبي مجلز قال: قلتُ لابن عمر: أدركت ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر. قال: صل بصلاتهم». فيقتضي أنه قائل بهذا القول أيضًا، لكن المنقول عنه في كتب الخلاف أنه قائل بالقول الأول كما سبق. ويظهرُ أنَّهم أخذوه من قول نافع: كان إذا صَلَّى مع الإمام صَلَّى أربعًا». لأن الفعل في سياق الشرط، فيعم ما إذا أدرك مع الإمام ركعة وأقل. ويكون جوابه لأبي مجلز على وفق سؤاله، فلا يفيد أنَّ ما دون الركعة يخالفها.

وقال إسحاق بن راهويه: إذا اقتدى مسافر بمقيم فله القصر على كل حال، فإذا فرغت صلاة المأموم تشهد وحده وسَلَّم، وقام الإمام إلى باقي صلاته ، حكاه النووي في "المجموع".

وقال ابن حزم في "المحلى": قصر المسافر خَلْفَ المقيم واجبٌ. وقد أحس أنه تفرد بهذا القول من بين سائر العلماء من عهد الصحابة إلى

وقته، فماذا صنع ؟ أولا: أضرب عن ذكر الآثار التي أوردناها، مع أنها موجودة في "مصنف عبد الرزاق" و "مصنف ابن أبي شيبة"، ليوهم القاصرين أن قوله لا يوجد ما يخالفه عن أحدٍ من الصحابة والتابعين، وهذا إيهام قبيح.

٣١٤

الفقه

ثانيا: أورد من "مصنف عبد الرزاق أربعة آثار فقط، ظنها توافق قوله، وأخطأ في ظنه؛ لأنه لم يفهمها، وهي أثر ابن عمر، وتميم بن حذر، وطاوس، والشعبي. أما أثر ابن عمر فسيأتي الكلام عليه بحول الله تعالى، وأمَّا أثر تميم بن حَذْلَم ومن معه فهو موافق لمذهب الهادوية، وفي "المجموع للنووي" - أثناء حكاية المذاهب - ما نصه: وقال طاوس والشعبي وتميم بن حَذْلَم: إن أدرك ركعتين معه أجزأتاه . اهـ

(تنبيه): نقلنا فيما تقدم عن الشَّوكاني أنَّ طاوسًا والشَّعْبي وداود يقولون بعدم صحة اقتداء المسافر بالمقيم، لكن وجدت النووي نقل في "المجموع" عن الشيخ أبي حامد أنه حكى عنهم مثل قول إسحاق بن راهويه، ولم نجد عن طاوس والشَّعبيّ إِلَّا القول المروي عنهما في "مصنف عبد الرزاق". وداود الظاهري يجوز أن يكون له قولان في المسألة، والله أعلم.

الرأي القويم

٣١٥

أدلة الفريقين

دليل القائلين بعدم الصحة حديث: «لا تختلفوا على إمامكم كما سبق، وهو حديث صحيح كما سيأتي، والمسافر المؤتم بالمقيم يخالف الإمام في العدد والنية، فتكون صلاته باطلة مع المخالفة؛ لأن النهي يقتضي الفساد.

ودليل القائلين بالصحة عموم الأدلة الحاضة على الجماعة.

واستدلوا لوجوب الإتمام، بما يأتي:

۱ - ما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّما جُعل الإمامُ ليَوْتَمَّ به، فلا تَخْتَلِفُوا عليه، فإذا كبر فكبروا ، وإذا رَكَعَ فاركَعُوا ، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولُوا: اللَّهمَّ ربَّنا لك الحمد ، وإذا سَجَدَ فاسجدوا ، وإذا صلَّى قاعدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أجمعينَ». وفي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّها النَّاس إنّي إمامكم فلا تَسْبُقُوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف».

وللحديث طرق عن عائشة عند الشيخين وأبي داود وابن ماجه.

وعن جابر عند مسلم والأربعة إلا الترمذي. وعن أسيد بن حضير عند أبي داود.

وعن أبي موسى عند ابن ماجه.

وعن معاوية عند ابن ماجه وابن حبان.

وعن ابن عمر عند أحمد والطبراني.

٣١٦

الفقه

وعن قيس بن قهد بالقاف - عند عبد الرزاق. وعن أبي أمامة عند الطبراني.

وعن سمرة عند البزار والطبراني.

وعن جبير بن مُطْعِم عند الطبراني.

فهذا الحديث - وهو متواتر - يفيد وجوب الإتمام من جهتين: أمر بمتابعة الإمام، ونهي عن مخالفته.

والمسافر خلف المقيم إن سلَّم من اثنتين خالف إمامه. وإن جلس بعد التشهد الأول ينتظره حتى يسلّم . معه خالفه أيضًا. فكانت صلاته في الحالين

باطلة؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فوجب عليه أن يتم الصلاة لمتابعة الإمام. ۲ - روى مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألتُ ابن عباس : كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصَل مع الإمام؟ فقال: ركعتين، سُنَّة أبي القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلّم. قال القاضي عياض: «مفهومه أنَّ الإمام إذا أتمَّ يتم معه. وهو مذهب

الكافة» . اهـ

وقد جاء هذا المفهوم مُصرَّحًا به في "مسند أحمد" عن موسى بن سلمة، قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صَلَّينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صَلَّينا ركعتين. قال: تلك سُنَّةُ أبي القاسم.

فهذه الرواية توضّحُ رواية مسلم وتفصح بمفهومها، ليس فيها زيادة على ذلك. وقد ذكرها الحافظ في "التلخيص الحبير"، ولم يضعفها بشيء، بل قواها بقوله: «وأصله في "صحيح مسلم" والنسائي». وأورد لفظ مسلم، وهذا في

الرأي القويم

صناعة أهل التخريج إشارة إلى تقوية الحديث وتأييده.

۳۱۷

- القياس، وهو أنَّ المؤتم يجب عليه نية الاقتداء، فإذا نوى المسافر

الائتمام بمقيم، فقد ربط به صلاته، فوجب عليه الإتمام، كما لو نوى الإقامة في

الصلاة.

ودليل من قيد وجوب الإتمام بإدراك ركعة لا أقل منها: حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ أدرك ركعة من الصَّلاة فقد أدرك الصَّلاة» وهو حديث صحيح.

قال ابن عبد البَرِّ في "الاستذكار" في الكلام على هذا الحديث ما نصه: وأما مسألة المسافر يدرك ركعة من صلاة المقيم، فأسعد الناس في ذلك مالك، قال: إذا لم يدرك المسافر من صلاة الإمام ركعة، صَلَّى ركعتين، وإن أدرك منها ركعة تامة بسجدتيها صَلَّى أربعًا. وهو قول الحسن البصري، وإبراهيم النَّخعي، وابن شهاب الزهري، وقتادة» . اهـ

ومأخذهم من الحديث أنه حد إدراك الصلاة بركعة، والمسافر الذي أدرك

مع المقيم أقل منها، لا يكون مدركًا لصلاة المقيم، فلا يلزمه الإتمام. ودليل الآخرين أن المسافر حين نوى الاقتداء بالمقيم، صدق أنه دخل في صلاته فلزمه الإتمام مطلقا.

ودليل تميم بن حَذْلَم ومن قال بقوله أنَّ المسافر إذا أدرك الركعتين الأخريين،

أو الركعة الأخيرة لا تحصل منه المخالفة المنهي عنها، فصح له القصر. ودليل إسحاق بن راهويه عموم أدلة القصر، فإنها تشمل الفذ والمؤتم

بالمقيم أو المسافر، وهذا دليل ابن حزم أيضًا إلَّا أن القصر عنده واجب.

۳۱۸

الفقه

التنقيح والترجيح

أما القائلون بعدم صحة اقتداء المسافر بالمقيم فإنَّهم رجحوا حديث: «لا تختلفوا على إمامكم». على حديث فضل الطاعة، أخذا بقاعدة: «دَرْءُ المَفاسِدِ مُقَدَّمُ على جَلْبِ المَصالِحِ». وأما قول طاوس والشَّعبي وتميم بن حَذْلَم فقال ابن عبد البر: «هو قول شاد»، وكذا قال عن قول إسحاق بن راهويه، وأحال في بيان شذوذهما على كتاب " التمهيد". ولعل وجه شذوذ قول طاوس أن إدراك الركعة مع الإمام يوجب الإتمام لحديث: «مَنْ أدرك ركعة مِن الصَّلاةِ فقد أدرك الصَّلاةَ». فجعل إدراكها موجبا للقصر شذوذ. أما وجه شذوذ قول إسحاق، فهو أنه لم يقل به أحد قبله من الصحابة والتابعين وغيرهم، وفيه مخالفة صريحة للحديث المتواتر في وجوب متابعة

الإمام.

"مصنف

ولما لم يجد ابن حزم أثرا عن صحابي يشهد له؛ تصيَّد أثرا نقله من " عبد الرزاق" عن داود بن أبي عاصم قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السَّفَر، فقال: ركعتان. قلت كيف ترى ونحن هنا بمنى؟ قال: ويحك سمعت برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآمنت به؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان يصلي ركعتين، فصل ركعتين إن شئت أو دع. وعلق عليه بقوله: «فهذا بيان

جلي بأمر ابن عمر المسافر أن يُصَلِّي خلف المقيم ركعتين فقط» . اهـ

۳۱۹

الرأي القويم والواقع أنَّ هذا الأثر بيان جلي في أنَّ ابن عمر لم يكن عنده إذ ذاك رأي حازم فيما سأله عنه ،داود، حيث قال له: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ركعتين. وهذا معلوم للسائل، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لم يُصَلِّ خَلْفَ . ، مقيمٍ قَطُّ، إنما صَلَّى خَلْفَ مُسافِرٍ، والسائل إنما أراد كيف يُصَلِّي بمنى، والأئمة في ذلك الوقت أمويون، يتمون وهم مسافرون، فلم يجبه ابن عمر بجواب صريح، بل قال له: «فصل ركعتين إن شئت أو دع».

وهذا تخيير، والسائل قد كان مخيَّرًا بحسب الأصل، وهو يريد أن يعرف ماذا يلزمه، وابن عمر من فقهاء الصحابة، وهو يعلم بفقاهته وبما شاهد من فتاوى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفتاوى الخلفاء الراشدين أنَّ المفتي يجب أن يُلقي إلى المستفتي حكمًا صريحا لا يكتنفه ،غموضُ، وانظر إليه حين سأله أبو مجلز: أدركتُ ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر؟ كيف أجابه بقوله: صل بصلاتهم. جواب واضح صريح، ليس فيه كناية، ولا تخيير، ولا تعريض، ولا تفويض. وهو في "مصنف عبد الرزاق" أيضًا، وأغفله ابن حزم مع اطلاعه عليه لغرض في نفسه. ثُمَّ قال معترضا على كلام الجمهور والعجب من المالكيين والشافعيين والحنفيين القائلين بأنَّ المقيمَ خَلْفَ المسافر يتمُّ ، ولا ينتقل إلى حكم إمامه في التقصير، وأنَّ المسافر خَلْفَ المقيم ينتقل إلى حكم إمامه في الإتمام، وهم يدعون أنهم

(1) وهو عبد الرحمن بن عوف، أدرك معه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ركعة من صلاة الصبح، وكانوا في غزوة تبوك.

۳۲۰

الفقه

أصحاب قياس بزعمهم. ولو صح قياس في العالم لكان هذا أصح قياس يوجد،

ولكن هذا مما تركوا فيه القرآن والسنن والقياس» . اهـ كلامه وفيه أمور: الأول: أن تخصيص عجبه بالمالكيَّة والشافعية والحنفية يوهم أنهم تفردوا بالقول بإتمام المسافر خلف المقيم، وليس كذلك، بل سبقهم إلى القول به ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والزهري، وعكرمة، وعطاء، ومكحول، ومَعْمَرٌ، والنُّورِيُّ، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور. بل هو قول العلماء عامة، إلَّا تميم ابن حَذْلَم وطاوسًا، والشعبي، وإسحاق بن راهويه.

الثاني: أنَّ إلزامهم بقياس المسافر خَلْفَ المقيم على المقيم خَلْفَ المسافر لا يصح؛ لأن المقرَّر عند عُلماء الجدل والخلاف أنَّ المانع لا يجوز له أن يلزم المستدل إلا بما يقول هو به، ويلتزمه في نفسه

(۱)

(۱) لأنَّ الغرض من المناظرة في المسائل الشرعية هو الوصول إلى حكم سالم من النقد والنقض، فوجب أن يكون المتناظران ملتزمين بما يبديانه من أدلَّةٍ وإيرادات عليها، وليس الغرض مُجرَّد الخلاف للعناد وإظهار الغلبة وإفحام الخصم بما أمكن، فإن هذا منهي عنه شرعا، ويدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما ضَلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل». وثبت في "الصحيحين" عن خَبَّاب بن الأَرَبِّ قال: كنت رجلًا قَيْنا بمكة، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه منه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثُمَّ تبعث. قال: فإني إذا مت ثُمَّ بعثتُ جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأقضيك، فأنزل الله: أَفَرَعَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِنَايَتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَ مَالَا وَوَلَدًا ﴾ [مريم: ۷۷] الآية. فانظر كيف ذم الله العاص بن

الرأي القويم

۳۲۱

وابن حزم ينكر القياس، فلا يصح أن يلزم خصومه به. الثالث: أنَّ ذلك القياس الذي ألزمهم به، وادعى أنه أصح قياس يوجد

هو قياس باطل؛ جمع بين مقيم ومسافر، والإقامة والسفر متنافيان، وشرط صحة القياس وجود عِلَّة جامعة.

فإن قيل: هو قياس مؤتم مقيم على مؤتم مسافر، والعلة الجامعة هي

الائتمام، فيكون قياسًا صحيحًا في نفسه. قلنا وهو:

الرابع: أنه يكون حينئذ فاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة حديث عمران بن حصين الذي قال فيه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة: «يا أهل مكة قوموا فصلُّوا ركعتين أُخرَيَين، فإنَّا قومٌ سَفْرٌ». وتقدم أنَّ الترمذي حسنه لشواهده. هو مؤيد بأثر عمر وابنه، وبالإجماع، وبالقياس كما تقدم، والحديث الضعيف إذا تأيَّد صارَ حُجَّةٌ بلا نزاع على أن ابن حزم : نفسه نقل عن أبي حنيفة أنه يُقدم الحديث الضعيف على القياس.

ثُمَّ

الخامس: دعواه أنَّ هذا ثما تركوا فيه القرآن. يقال عليه القرآن لم يدل على

فرض ركعتين في السَّفَر، بل صريح قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصلوة ﴾ [النساء: ۱۰۱]. أنَّ القصر مباح؛ لأن هذه اللفظة إذا أطلقت لا يفهم منها إلا الإباحةُ. وهكذا جاءت في القُرآن، نحو: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ

وائل؛ لأنه كان ينكر البعث وألزم به خَبَّابًا الذي يؤمن به. ولهذا كان الإمام الشافعي يقول: «ما ناظرت أحدًا إلَّا وددت أن يسدد ويوفّق ويظهر الحقُّ على يديه». رضي الله عن الشافعي وأمثاله العلماء أهل الحق والإنصاف.

۳۲۲

الفقه

أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [البقرة: ۱۹۸]. لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَقْتُمُ

النساء [البقرة: ٢٣٦]. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة: ٢٣٥]. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذَى مِن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ﴾ [النساء: ١٠٢].

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ [المائدة: ٩٣ ]. نیست عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَانًا ﴾ [النور: ٦١]. وَلَيْسَ

عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ ﴾ [الأحزاب: 10. فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ مَا أَن يَتَرَاجَعا

[البقرة: ٢٣٠]. فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: ۲۲۹] فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: ٢٣٤]. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ في ما فعلن في أَنفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوفٍ ﴾ [البقرة: ٢٤٠]. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَ ﴾ [النور: ٦٠] . وكذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ

اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: ١٥٨]. يفيد الإباحة أيضًا. قال أبو حَيَّان في "البحر المحيط": فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطْوَّفَ بِهِمَا [البقرة: ١٥٨] قرأ الجمهور أن يطوف وقرأ أنس، وابن عباس، وابن سيرين وشهر: «أن لا». وكذلك هي في مصحفِ أُبيّ وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة: «لا» نحو مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ﴾ [الأعراف: ۱۲]. فيتحد معنى القراءتين، ولا يلزم ذلك؛ لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه، إذ هو تخيير بين الفعل

الرأي القويم

والترك، نحو قوله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا ﴾ [البقرة: ٢٣٠].

۳۲۳

فعلى هذا تكون (لا) على بابها للنَّفي، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطَّواف نصّا، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصا، وكلتا القراءتين تدلُّ على التخيير بين الفعل والترك، فليس الطَّواف بهما واجبا، وهو مروي عن ا عن ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وعطاء، ومجاهد، وأحمد بن حنبل فيما نقل عنه أبو طالب. وأنَّه لا شيء على من تركه؛ عمدا كان أو سهوا، ولا ينبغي أن يتركه، ومن ذهب إلى أنه ركن، كالشافعي، وأحمد، ومالك في مشهور مذهبه، أو واجب يجبر بالدم كالثوري، وأبي حنيفة، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، كأبي حنيفة في بعض الروايات يحتاج إلى نص جلي، ينسخ هذا النص القرآني وقول عائشة لعروة حين قال لها : أرأيت قول الله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يطوف بهما [البقرة: ١٥٨] فما نرى على أحدٍ شيئًا. فقالت: يا عروة كلا، لو كان كذلك لقال: «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما . كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف؛ لأنَّ

(۱)

(۱) ذكر الطحاوي أنَّ هذه الآية على الحتم عند جميع العلماء، وقال: «نفي الجناح قد يكون على التخيير، وقد يكون على الإيجاب، ولم يكن لأحد أن يحمل ذلك على أحد المعنيين إلا بدليل». هذا كلامه، وهو خطأ ظاهر؛ لأنَّ السَّعْيَ بين الصفا والمروة مختلف فيه، والذين قالوا بوجوبه أو ركنيَّته استدلوا بالحديث لا بالآية، ونفي الجناح لا يدل على الحتم لغة، ولا على الوجوب شرعًا.

٣٢٤

الفقه

مدلول اللفظ إباحة الفعل، وإذا كان مباحًا كنت مخيرًا بين فعله وتركه» . اهـ كلام أبي حيان.

ودليل الذين قالوا بوجوب الشعي بين الصفا والمروة حديث: «اسعوا فإنَّ اللهَ كتب عليكم السَّعْيَ». بناءً على جواز نسخ القرآن بخبر الواحد، وفي ذلك خلاف مشهور في علم الأصول. ومن هنا تدرك أنَّ القول بعدم وجوب قصر صلاة السفر هو الراجح؛ لأن القرآن يفيده، وقول عائشة وعمر وابن عباس والسائب لا ينهض لنسخ الآية؛

لأنه . مع كونه خبر آحاد مرفوع حكمي، وليس بصريح.

فالعجب من ابن حزم ومقلديه، حيث جعلوه نضا قاطعا في وجوب القصر وأولوا ما عداه، وغفلوا عن صراحة الآية في التخيير، تلك الصراحة لا ينسخها إلا حديث مرفوع صريح صحيح، إن مشينا على جواز نسخ

التي

القرآن بخبر الواحد، وإلا فلابد من حديث متواتر صريح. ونُنَبِّه مُقلّدة ابن حزم وناقلي كلامه إلى أنه ضعيف في علم التفسير ضَعْفًا بينا،

وكلامه على الآيات التي يتعرض لها في "المحلى" يدل على ذلك دلالة واضحة. وبعضهم ادعى أنَّ آية القصر خاصَّةٌ بصلاة الخوف، وهذه غفلة كبيرة، وخطأ عظيم؛ لأن المقرر عند أهل الأصول أنَّ الفعل الواقع في سياق النفي يعم، وفعل أن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلوة واقع في سياق فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ، فيعم صلاة المسافر في الأمن والخوف عموما شموليا.

ومفهوم إن خفتم عارضه صدقة ،الله، كما في حديث يعلى بن أمية أو قيد

٣٢٥

(۱)

الرأي القويم

خرج للغالب

السادس: دعواه أنهم خالفوا السُّنن إن أراد أنَّ السنن دلت على فريضة صلاة السَّفَر ركعتين فهذا محل نزاع، ومخالفوه متمسكون بالقرآن كما مر آنفا، وإن أراد أنَّ السُّنن دلت على قصر المسافر خَلْفَ المقيم، فدون إثبات ذلك خرط القتاد، بل مخالفوه أسعد بموافقة السنن منه؛ لأنهم تمسكوا بحديث الأمر بمتابعة الإمام، وهو حديث متواتر.

السابع: دعواه أنهم خالفوا القياس، ونحن قد بينا أنهم إنما خالفوا قياسًا فاسد الاعتبار، وتمسكوا بقياس صحيح تقدم تقريره عند ذكر الأدلة، وابن حزم لا يجيد علم القياس، ولا يحسن تمييز صحيحه من فاسده. فانظر إليه وهو يعترض على قياس الجمهور، فيقول: وما وجدتُ حُجَّةٌ إلَّا أنَّ بعضهم قال: إنَّ المسافر إذا نوى في صلاته الإقامة لزمه إتمامها،

لهم

والمقيم إذا نوى في صلاته السَّفَر لم يقصرها. قال: فإذا خرج بنيته إلى الإتمام، فأحرى أن يخرج إلى الإتمام بحكم إمامه. قال علي: «وهذا قياس في غاية الفساد؛ لأنه لا نسبة ولا شبه بين صرف النية من السَّفَر إلى الإقامة، وبين الائتمام بإمام مقيم، بل التشبيه بينهما هوس

ظاهر» . اهـ

قلت: بل هو قياس صحيح، ووجهه أنَّ المؤتم يجب عليه نية الاقتداء،

(۱) مثل وربيبكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم ﴾ [النساء: ٢٣]؛ لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كانت أسفاره غزوات، وهي محفوفة بالخوف.

٣٢٦

الفقه

والمسافر حين ينوي الاقتداء بالمقيم فقد ربط صلاته بصلاته، فوجب عليه الإتمام، كما لو نوى الإقامة. ووجه الأحرويَّة أن نية الإقامة حيث أثرت في

الإتمام وهي غير واجبة، فأحْرَى أن تُؤثر فيه نيَّة الائتمام وهي واجبة. ثُمَّ اعترضَ استدلالهم بحديث : «إنَّما جُعل الإمامُ لِيُؤْتَمَّ به». قال: فقلنا لهم فقولوا للمقيم خَلْفَ المسافر أن يأتمَّ به إذن. فقال قائلهم: قد جاء «أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سَفْرٌ». فقلنا: لو صح هذا لكان عليكم؛ لأن فيه أنَّ المسافر لا يتم، ولم يفرق بين مأمومٍ ولا إمام» . اهـ

قلت: أخفق ابن حزم في هذا الاعتراض غاية الإخفاق.

وقوله: فقولوا للمقيم خلف المسافر أن يأتم به إذن مغالطة مكشوفة؛ لأنَّ المقيم مؤتم بالمسافر، ولم يخالفه في شيء من أفعال الصلاة، وما أتم المسافر

صلاته قام المقيم يتم ما عليه كما يفعل المسبوق سواء بسواء.

وتقدم الكلام على حديث: «أتموا صلاتكم» بما أغنى عن إعادته. ودعواه أنه يدل على أنَّ المسافر خلف المقيم يقصر دعوى باطلة. والحديث ليس بعام حتى يشمل صلاة المسافر خلف المقيم. فابن حزم

عمم ما ليس بعام. بقي بعد هذا بحث يتعلق بحديث المتابعة، لا بد أن تنبه عليه. قد يقال: يجوز تخصيص المسافر من أحاديث وجوب متابعة الإمام بحيث تشمل المقيم دونه، وبذلك تجتمع الأدلة، ويكون المسافر خلف المقيم على سنة سفره. وقد يبدو هذا الكلام صحيحًا يتمشى مع القواعد، لكن يمنع من صحته قاعدة أصوليَّةٌ لا يعرفها كثير من الناس، وهي أنه إذا اجتمع في مسألة

الرأي القويم

۳۲۷

وصف لازم ووصفٌ طارئ نيط الحكم باللازم؛ لأنه ألصق بالحقيقة وأقوى

في المناسبة.

وبيان ذلك: أنَّ الشَّارع ناط وجوب متابعة الإمام بوصف المأمومية، وهو وصف لازم لكل مؤتم لزوم الظل للشاخص، فإذا اجتمع معه وصف السَّفَر لم يكن له تأثير عليه ؛ لأنه وصفٌ طارئ، ولو أننا خصصنا به أحاديث وجوب المتابعة كنا قد أعملنا الوصف الطارئ، وألغينا الوصف اللازم المناسب، وهو خلاف القاعدة، فهذا وجه احتجاج الجمهور بأحاديث وجوب المتابعة، وهو سر تقديمهم إيَّاها على غيرها، وصرَّحوا بأنَّ شرط قصر المسافر للصلاة ألَّا يأتم بمتم، فإن ائتم به، وجب الإتمام، حتى إنَّ الحنفية الذين يقولون: «صلاة المسافر أصل غير مقصورة». وافقوا على أنَّ المسافر خلف المقيم يتم. قال الطحاوي في "شرح معاني "الآثار" أثناء الكلام على صلاة الصحيح خلف المريض: «فإنَّا رأينا الأصل المجتمع عليه أنَّ دخول المأموم في صلاة الإمام قد يوجب فرضًا على المأموم، ولم يكن عليه قبل دخوله، ولم نره يسقط عنه فرضًا قد كان عليه قبل دخوله، فمن ذلك أنا رأينا المسافر يدخل في صلاة المقيم فيجب عليه أن يُصَلِّي صلاة المقيم أربعًا، ولم يكن ذلك واجبًا عليه قبل دخوله معه، وإنما أوجبه عليه دخوله معه، ورأينا مقيما لو دخل في صلاة مسافر صلَّى بصلاته، حتى إذا فرغ أتى بتمام صلاة المقيم، فلم يسقط عن المقيم فرض

بدخوله مع المسافر، وكان فرضه على حاله غير ساقط منه شيء . اهـ ونظير ما ذكره أنَّ المسبوق يزيد تشهدا في الصلاة لمتابعة الإمام، ويزيد

سَجْدَتَي السَّهو لمتابعة الإمام عن سهو لم يدركه معه.

۳۲۸

الفقه

وقال أبو بكر الجصاص الحنفي في "الأحكام": «واحتج أيضًا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة المقيم لَزِمَه الإتمام، فدلّ على أنه مخير في الأصل، وهذا فاسد؛ لأن الدخول في صلاة الإمام يغير ،الفرض ألا ترى أنَّ المرأة والعبد فرضها يوم الجمعة أربع، ولو دخلا في الجمعة صَلَّيّا ركعتين، ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين». اهـ

وقال بعد هذا الكلام واختلفوا أيضًا في المسافر يدخل في صلاة المقيم، فقال أصحابنا، والشافعي، والأوزاعي، والثوري: يصلّي صلاة المقيم وإن أدركه في

التشهد. وقال مالك: إذا لم يدرك معه ركعة، صلى ركعتين.

والذي يدلُّ على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فاقضوا». فأمر النبي بقضاء الفائت من صلاة الإمام، والذي فاته أربع ركعاتٍ فعليه قضاؤها، وأيضًا قد صح له الدخول في آخر صلاته، ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه. كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام. وأيضًا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام، كذلك دخوله مع الإمام، ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد، كهي في أولها».اهـ

ومن هذين النصين تعلم أنَّ ابن حزم لم يستوعب أدلة المخالفين له في رأيه

الشاذ.

الرأي القويم

۳۲۹

مناقشات في أثر ابن عباس

تقدم ذكره عند سوق الأدلة، ونقلنا قول عياض هناك: «مفهومه أنَّ الإمام إذا أتم يتمُّ معه». وذكرنا رواية أحمد، وقلنا: إنها لم تزد على رواية مسلم، إلَّا أنها صرحت بالمفهوم.

ووجدنا الكاتبين في هذا الموضوع صُدموا بهذا الأثر، فراحوا يقلبون وجوه النظر، كيف يحتالون لدفعه بتأويل أو بتعطيل، فقالوا: رواية مسلم تدلُّ بالمفهوم، والمفهوم لا يُقدم على المنطوق.

قلنا: ما لم يتأيَّد بمنطوق، والمفهوم هنا مؤيد بقول ابن عباس نفسه: «إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صلى بصلاتهم وقالوا: تأويل قوله: «تلك سُنَّة

أبي القاسم». أي صلاتك وأنت منفرد ركعتين سُنَّة أبي القاسم.

وقد يكون هذا التأويل صحيحًا في اللغة البربرية أو النبطية، أو أي لغة أعجمية، أما على قواعد اللغة العربية، فهو فاسد جدا؛ لأنَّ من البدهيات عند من مارس شيئًا من لغة العرب وجوب مطابقة الجواب للسؤال، ويتأكد الوجوب إذا كان الجواب في مسألة شرعية كما هنا.

وأعلُّوا رواية أحمد بالاضطراب والشذوذ، وضعف الطفاوي. وقدمنا أنَّ الحافظ ابن حجرٍ قوَّاها على قاعدة أصحاب التخريج، ونحن في غنى عن هذه الرواية، بمفهوم رواية مسلم، ومنطوق رواية ابن أبي شيبة، لكن لا ندعهم يتخبطون فيما أبدوا من تضعيف الثقات، ونسبة الشُّذوذ لرواية

الأثبات، ودعوى الاضطراب في رواية ليس فيها اضطراب.

والمقرر عند علماء الحديث أنَّ الاضطراب إنما يكون حيث تختلف

۳۳۰

الفقه

الروايات بالتنافي، ولا مُرجّح، مع تعذر الجمع. أما أن تكون رواية مجملة، والأخرى مفصلة، أو رواية دالة بالمفهوم والأخرى مصرحة به، فذلك بعيد عن الاضطراب بعد الضّب من النون، وحاصل الروايات التي جاءت عن موسى بن سلمة أربعة:

١ - قلتُ لابن عباس: إذا كنا معكم صلينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلَّينا ركعتين. قال: تلك سُنَّة أبي القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلّم.

وهي من رواية أيوب عن قتادة عن موسى بن سلمة.

وهي كما قلنا مصرحةٌ بمفهوم رواية مسلم، وموافقة لرواية مجاهد عن ابن

عباس قال: إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صلى بصلاتهم. ومع هذا نسبوا لأيوب الشذوذ في روايته، وهذه فضيحة؛ فإنَّ أيوب لو خالف لكان القول قوله؛ لإتقانه وإمامته وجلالته. يدلك على ذلك أنَّ شعبة سأله عن حديث، فقال أيوب: أشُلُّ فيه. فقال له شعبة: «شكك أحب إلي من يقين غيرك.

۲ - قلتُ لابن عباس : إذا لم ندرك الصلاة في المسجد، كم نُصَلِّي بالبطحاء؟

قال: «ركعتين، تلك سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم».

وهي من رواية هشام عن قتادة عنه.

وهي مثل الرواية السَّابقة، غير أنه عبر بالصلاة في المسجد بدل كنا معكم وبالبطحاء بدل الرّحال. والخبر في الرواية السابقة معناه السؤال، وهو معروف

في اللغة شائع. - سألتُ ابن عباس كيف أصَلِّي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟

الرأي القويم

قال: «ركعتين، سُنَّة أبي القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم». وهي عند مسلم من رواية شعبة عن قتادة عنه.

لا تخالف الروايات السابقة، كما هو ظاهر

۳۳۱

٤ - سأل ابن عباس قال: تفوتني الصَّلاة في جماعة وأنا بالبطحاء، ما ترى أن أصلي؟ قال: «ركعتين، سُنَّة أبي القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم». وهي من رواية سعيد عن قتادة عنه.

وهي توافق الرّواية السابقة: كيف أصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع

الإمام؟». معنى العبارتين واحد ومفهومها واحد، وإن اختلف اللفظ. فمحاولة ترجيح الرّواية الأخيرة على ما عداها غفلة عن اتحاد معناها. ولو

أردنا الترجيح، لكانت رواية أيوب هي الراجحة لوجهين:

- أنها مؤيدة بما قدمنا بيانه. ٢ - أنها أفادت حكم صلاة المسافر خلف المقيم، وهو حكم جديد، لم يفده غيرها، وما أفاد حكمًا جديدًا يرجح على غيره، وزيادة الثقة مقبولة عند المحدثين وأهل الأصول، وأيوب فوق الثّقة.

أما تضعيف الطفاوي، فجرأة غير محمودة تفتح باب الطعن في رجال "الصحيحين"، وهو أمر له خطورته وعواقبه الوخيمة، مع أن الطفاوي شيخ أحمد بن حنبل، فهو ثقة عنده؛ لأنَّه لا يروي في "المسند" إلا عن ثقة كما قال

لابنه عبدالله.

ووثقه أيضًا ابن معين وعلي بن المديني، وقال الدارقطني: «احتج به

البخاري».

۳۳۲

الفقه

فتضعيف أبي زرعة وأبي حاتم لا يعتد به بعد توثيق هؤلاء، على أنها من تلامذة البخاري، وكلامهما في العلل والرجال كله مأخوذ من "تاريخه الكبير"، وحكاية أبي أحمد الحاكم في ذلك ،معروفة، ولما ترجم ابن عدي للطفاوي، صرح بأنه لم ير للمتقدمين فيه كلامًا - يعني يقتضي تضعيفه- قال: وإنما ذكرته لأحاديث أيوب التي انفرد بها، وكل ذلك فمحتمل لا بأس به» . اهـ فصرح بأن ما تفرد به محتمل، وأنه لا بأس به.

وعقب عليه الحافظ ابن حجرٍ بقوله: «لكنه أورد ما رواه من تلك الغرائب عن هشام بن عروة، والذنب فيها لغير الطفاوي، فإنَّها من رواية عمرو بن عبد الجبار السنجاري عن الطفاوي، وقد أورد له ابن عدي الحديث الأول، وهو المتهم به» . اهـ

أي السنجاري هو المتهم لا الطفاوي الثقة المحتج به في الصحيح، ومن

يحتج به البخاري شيخ الصناعة وإمامها المبرز، فقد قفز القنطرة.

مسألة

وإذا انتم مسافر بمسافرِ متمَّ وَجَبَ الإتمام أيضا عند الجمهور، ولهذا قال النووي في "المجموع" - تعقيبًا على قول صاحب "المهذب": لا يجوز القصر

لمن ائتم بمقيم - ما نصه: كان الأحسن أن يقول : بمتم؛ لأنه أعم» . اهـ وروى الطبراني والطحاوي عن أبي ليلى الكندي قال: أقبل سلمان الفارسي في اثني عشر راكبًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدَّم يا أبا عبدالله قال: «إنا لا نؤمكم، ولا ننكح

الرأي القويم

۳۳۳

نساءكم، إنَّ الله هدانا بكم، فليتقدم بعضكم». فتقدم رجل من القوم، فصلى أربع ركعات فلما سلم سلمان قال: «ما لنا وللمربعة؟ إنما كان يكفينا نصف المربعة، ونحن إلى الرخصة أحوج».

وروى أحمد عن رجلٍ، قال: كنا قد حملنا لأبي ذر شيئًا نريد أن نعطيه إيَّاه، فأتينا الربذة، فسألنا عنه فلم نجده. قيل: استأذن في الحج فأذن له. فأتيناه بالبلد، وهي منى، فبينا نحن عنده إذ قيل له: إنَّ عثمان صلَّى أربعًا. فاشتد ذلك على أبي ذرّ وقال قولا شديدًا، وقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى ركعتين، وصليت مع أبي بكر وعمر. ثُمَّ قام أبو ذر، فصلى أربعًا، فقيل له: عبت على أمير المؤمنين شيئًا، ثُمَّ تصنعه؟ فقال: الخلاف أشد. وهذا الأثر ضعيف؛ لأنَّ فيه راويًا مجهولا . وعلى فرض صحته يدل على أنَّ أبا ذر لا يرى القصر واجبا» (۱)

أما ما رواه ابن حزم من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر : أنَّه كان إذا صلَّى مع الإمام بمنى أربع ركعات، انصرف إلى منزله فصلى فيه ركعتين، أعادها. فهذه رواية تفرد بها عبد الله بن عمر المكبر، وخالفه أخوه عبيد الله المصغر الثقة الثبت، والإمام مالك، فرَوَيا عن نافع: أن ابن عمر كان إذا صلَّى مع

(۱) لأنه صلى أربعا وحده لا مع الخليفة، ولم يذكر نصا يوجب القصر. وروى أبو داود عن ابن مسعود أنه صلى أربعًا فقيل له: عبت على عثمان، ثُمَّ صليت أربعًا؟ فقال: الخلاف شر». إسناده صحيح.

٣٣٤

الفقه

الإمام صلَّى أربعًا، وإذا صلَّى وحده صلى ركعتين. هذه هي الرواية الصحيحة التي رواها إمامان إليهما انتهى الضبط والإتقان والتثبت، فمخالفة عبد الله لهما مردودة حتما جزمًا)، وهذا لا يخفى على صغار المحدثين، فضلا عن ابن حزم

الحافظ الذي ساق هذه الرواية ساكنا عنها؛ ليرد بها على خصومه، ولو كانت ضده لبادر إلى ردّها وإنكارها. ومما يبطلها من جهة المعنى أنه لم يكن من عمل ابن عمر ولا غيره من الصحابة أن يصلي صلاة واحدة مرَّتين؛ لأنَّ هذا منهي عنه في الشرع، بل لم

يحدث هذا إلا بعد عهد الصحابة بمدَّةٍ، حين اتخذ غلاة الشيعة مبدأ التقية ديدنا لهم وعادةً، فكانوا يصلُّون مع الأئمة الذين لا يقولون بإمامتهم، ثُمَّ يعيدونها إذا خلوا بأنفسهم. وقد أعاذ الله ابن عمر من أن يفعل هذا، فإنه نفاق خبيث. ولو فرضنا صحة تلك الرواية - وهي غير صحيحة - فإنّها تدل على أن ابن عمر يرى أنَّ الإمام المسافر ليس له أن يتم الصلاة، وإن أتم فللمأموم أن يقصر. ونعود فنؤكد أنَّ تلك الرواية باطلة سندًا ومتنا)، فلا ينبغي الاشتغال بها.

(1) لأنه دونهما بمراحل و درجات. قال أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف، وكان رجلا صالحا، وكان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول: أما وأبو عثمان حي فلا يعني أنه كان لا يحدث في حياة أخيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة؛ لعلمه أنه لا يبلغ درجته في الضبط والإتقان، وقال عثمان الدارمي : قلت لابن معين: مالك أحب إليك عن نافع أو عبيد الله؟ قال: كلاهما ولم يفصل. (۲) مما يؤيد بطلانها مضافًا إلى ما سبق ما رواه مالك في "الموطأ" عن نافع أن ابن عمر أقام

بمكة عشر ليال يقصر الصلاة، إلا أن يصليها مع الإمام، فيصليها بصلاته.

الرأي القويم

مسألة

۳۳۵

اختلف الناس في إتمام عثمان الصلاة بمنى وهو مسافر، وذهبوا في تأويله مذاهب شتّى، وقال كل منهم بحسب ما ظهر له إمَّا رأي رآه، أو معنى استنبطه من رواية رويت له.

والذي نراه - وهو الواقع إن شاء الله - أنَّ عثمان أتم الصلاة لأنه كان يرى - القصر غير واجب على المسافر؛ لأنَّ قول الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلوة ﴾ [النساء: ١٠١].

صريح في رفع الجناح، ورفع الجناح معناه التخيير، وقصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقتضي أفضليّة أحد طرفي التخيير فقط، أما إبطاله وإيجاب أحد الطرفين على التعيين فيحتاج إلى قول صريح من النبي صلى الله عليه وآله

وسلم، وعثمان لم يسمعه منه، كما لم يسمعه غيره من الصحابة أيضًا. حتى إنَّ الذين اعترضوا عليه، واسترجعوا حين سمعوا أنه أتم لم يقولوا: سمعنا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يوجب القصر تصريحا. بل قالوا: رأيناه الصلاة. وعثمان رآه أيضًا، لكن أين الدليل على نسخ الآية وإبطال التخيير الذي صرّحت به؟ فاعتراض من اعترض عليه غير مُتجهِ، إِلَّا من جهة أن الأفضل أن يفعل كما فعل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكذلك عائشة، أتمت الصلاة أيضًا.

يقصر

قال عروة: تأوّلت ما تأوّل عثمان

يعني أنها رأت قصر الصَّلاة غير واجب كما جاء عنها التصريح بذلك.

فروى عبد الرزاق عن ابن مُحرَّرٍ، عن ميمون بن مهران، عن عائشة، قالت:

٣٣٦

الفقه

مَن صلَّى أربعًا في السَّفَر فحسن، ومَنْ صَلَّى ركعتين فحَسنُ إِنَّ الله لا يعذَّبكم على الزيادة ولكن يعذبكم على النقصان.

ثُمَّ إِنَّ إتمام عائشة في السَفَر يدل على أنَّ قولها السابق: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحَضَر، وأقرَّت صلاة السَّفر. كان اجتهادًا منها، ولم تقله عن توقيف؛ لأنَّه لا يمكن أن تكون تلقته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ تتم الصَّلاة). فلم يبق إلَّا أنها قالته اجتهادًا منها، ثُمَّ أعملت نظرها ثانيا، فوجدت الآية صريحةً في التخيير، فأخذت به، وهذا هو المتعين؛ فإنَّه لا يجوز ترك صريح القرآن لآثار أقوى ما قيل فيها: إنها في حكم المرفوع،

(۱) مقلّدة ابن حزم يقولون في هذا الموطن العبرة برواية الراوي، لا برأيه. كلمة يقولونها

استرواحًا، ولا يعلمون ما فيها من تفصيل في الرواية، وفي المروي، أما الرواية فتارة تكون صريحة الرفع، كأن يقول الراوي قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وتارة تكون غير صريحة، كأن يقول الراوي كلاما لا يقال من قبل الرأي، فيحكم بأنه مرفوع، ففي الحالة الأولى إذا قال الراوي قولا يخالف روايته، فالحنفية يعملون بقوله، يرونه ناسخا لروايته، وغيرهم يعمل بروايته، ويرى قوله اجتهادا لا يلزم اتباعه، والحكم كذلك بالنسبة للحالة الثانية، إلَّا إذا قال الراوي أو عمل ما يقتضي بطلان رفع كلامه الأول، وحال عائشة من هذا القبيل، فإن إتمامها صلاة السَّفَر،

وقولها: من أتم فهو حسن يبطلان رفع قولها فرضت الصلاة ركعتين... إلخ.

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عروة أنَّ عائشة كانت تصلي في السَّفَر أربعًا، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشق علي. صححه الحافظ، وهو صريح في أنَّ عائشة كانت ترى القصر رخصةً غير واجبة، وهو يقضي ببطلان رفع قولها السابق.

الرأي القويم

۳۳۷

وإن قائلها أتقى الله وأخشى له من أن يقولها ما لم يكن عنده فيها توقيف.

ونحن - مع تسليم هذا - نقول: إنَّ الآية كلام الله مباشرة، بدون تأويل ولا

تعليل.

ولا بن حزم هنا موقف غريب، ذلك أنه خص الآية بصلاة الخوف، قال: وبهذه الآية قلنا: إنَّ صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة وإن شاء ركعتان؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ لَا جُنَاحَ لا بلفظ الأمر والإيجاب. واستدل لتخصيص الآية بما أسنده من طريق أبي داود الطيالسي : حدثنا المسعودي، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الرَّكعتين في السَّفَر أقصر هما؟ قال جابر: لا ، إنَّ الركعتين في السَّفَر ، ليستا بقصر، إنَّما القصر ركعة عند القتال. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن المسعودي اختلط حتى كان لا يعقل، مع أنه قبل

اختلاطه كان سيّئ الحفظ، وأبو داود إنما روى عنه بعد الاختلاط .

قال عمرو بن علي الفلاس حدثنا أبو قتيبة، قال: رأيت المسعودي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وكتبت عنه، وهو صحيح ، ورأيته سنة سبع وخمسين والذر يدخل

في أذنه، وأبو داود يكتب عنه، فقلت له: أتطمع أن تحدث عنه وأنا حي؟ على أنَّ الاستدلال هنا بقول جابر لا يُفيد؛ لأن الآية عامة كما تقدَّم تشمل صلاة السفر في حالتي الأمن والخوف، وتخصيصها بإحدى الحالتين يتوقف على وجود حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك، وهو غير موجود بل حديث يعلى بن أمية يفيد إبقاءها على عمومها، كما مَرَّ الكلام

عليه.

۳۳۸

الخلاصة

الفقه

وإذ قد انتهينا من تحرير البحث، أردنا أن نجمع أطرافه ونلخص مسائله

في النقاط الآتية: ۱ - صلاة السَّفَر مقصورة من أربع؛ للأدلة التي بسطناها، وما ذكر مما يخالفها لا ينهض لمقاومتها.

۲ - صلاة الشفر رخصةٌ غير واجبة؛ للنص القرآني الذي لم يوجد ما يقوى على نسخه، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّومَ ونِصْفَ الصَّلاة». يفيد الحديث أنَّ الله أسقط عن المسافر وجوب الصوم ووجوب نصف الصلاة، والمقرَّر في علم الأصول أن الوجوب إذا سقط بقي الجواز، فيكون إتمام الصلاة للمسافر جائزا، كما أن الصوم له جائز بدلالة الحديث، ولهذا نظائر في الشريعة، منها صوم عاشوراء، كان واجبًا ثُمَّ سقط، وبقي جائزا. والصدقة عند مناجاة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كانت واجبةً ثُمَّ سقط وجوبها، وبقيت جائزة. ووجوب الوضوء ساقط عن المريض، لكنه جائز له إذا تحمل مشقة استعمال الماء. - سلام الإمام قبل المأموم واجب شرعا، ولا يعد تأخُرُ المأموم بالسَّلام مخالفة للإمام؛ بدليل النَّص والإجماع في المسبوق. ومن هنا وجب على المقيم خلف المسافر أن يتم صلاته بعد سلام الإمام، ويصدق عليه أنه سلم بعده، كالمسبوق الذي يدرك مع الإمام ركعة أو أقل، فإنه يكمل صلاته، ويسلّم بعد الإمام، ولفظ «بعد ظرف يصدق على ذلك.

الرأي القويم

۳۳۹

مع

- وسلام المأموم قبل الإمام مخالفة تفسد الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم «أيها الناس إنِّي إمامكم، فلا تَسْبِقُونِي بالرُّكُوعِ، ولا بالسُّجُودِ، ولا بالقيام، ولا بالقُعُودِ، ولا بالانصراف». ومن ثَمَّ وجب على المسافر خلف المتم إتمام الصَّلاة، وإذا جلس بعد التشهد الأول، ينتظر الإمام ليسلم بعده وقع في مخالفة تبطل الصلاة أيضًا؛ لأنه جالس، والإمام يقوم ويركع ويسجد، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبّروا ، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: "سَمِعَ الله لمن حمده " فقولوا: "اللهم ربَّنا لك الحمد" ، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صَلَّى قاعدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أجمعون». ه - أجاز الشارع في بعض صور الخوف قصر الصلاة إلى ركعة، وسلام المأموم قبل الإمام؛ ليذهب إلى القتال، وهذه حالة الضرورة؛ لأن الخوف إمَّا أن يكون بسبب جهاد الكفّار دفاعا عن الدين، أو بسبب قتال قطَّاع الطريق أو الصائلين مثلا دفاعا عن النفس أو المال. والدين والنَّفس والمال من الضروريَّات ) ، ووجوب الدفاع عنها والمحافظة عليها أقوى الواجبات، فلذا جاز للمسافر في هذه الحالة الضرورية أن يقصر الصلاة إلى ركعة، وإذا كانوا جماعة، قسمهم الإمام طائفتين؛ طائفة تباشر القتال،

(۱) يضاف إليها النسب والعرض، وتُسمَّى الكُليَّات، وقد أجمعت الملل السماوية على وجوب حفظها والمحافظة عليها، وشرع الإسلام لحفظها قتال الكفار وقطاع الطريق

والصائلين وقطع يد السارق وحد الزاني والقاذف.

٣٤٠

الفقه

وأخرى تُصَلِّي ركعةً مع الإمام، وتُسَلَّم وتذهب لمباشرة القتال، وتأتي الطائفة الأولى فتصلي مع الإمام ركعةً وتسلّم معه، ولم يجز للمسافر في حالة الأمن قصر الصلاة إلى ركعة، ولا سلامه قبل الإمام إن كان مأموما؛ لأن السَّفَر في رتبة الحاجيات، ولا يجوز إلحاق الحاجي بالضروري؛ للبون الشاسع بينهما.

أنَّ

٦- القائلون بوجوب القصر والقائلون بعدم وجوبه متفقون على المسافر خلف المقيم يتمُّ وجوبًا، وشرطوا في وجوب القصر أو ندبه ألا يأتم المسافر بمتم وإلا وجب عليه الإتمام. الحنفية يقولون : إنَّ صلاة السَّفَر أصل بنفسها وليست مقصورة. ومع

هذا أوجبوا على المسافر خلف المقيم أن يتم الصلاة تبعا للإمام. - الأحاديث الموجبة لمتابعة الإمام متواترة، والأحاديث الموجبة للقصر

في السَّفَر عند القائلين به آحاد، وأغلبها آثار قيل لها حُكم الرفع. ۹- صرح ابن عبّاس، وابن عمر وابن مسعود بأن المسافر خلف المقيم

يتم الصلاة، ولم يأتِ عنهم ولا عن غيرهم تصريح بخلاف ذلك. ١٠ - إذا انتم مسافر بمتم، وسلَّم من ركعتين، أو جلس بعد التشهد الأول ينتظر الإمام ليُسَلَّمَ معه فصلاته في الحالين باطلة، يجب عليه أن يعيدها أبدًا، ولا يجوز تقليد إسحاق بن راهويه وابن حزم؛ لأن قولهما شاذ، ولا دليل

یسنده (۱)

(۱) إنها تمسكا بعمومات تقبل التخصيص بالأدلة التي تمسك بها الجمهور، وجمعوا بين الأدلة، فكانوا أسعد وأقعد، ومن المعلوم أنه ما من عام في الأحكام الفرعية إلا دخله

الرأي القويم

٣٤١

والعجيب أنَّ ابن حزم استدلّ لقوله الشاذُ بحديث: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن المسافِرِ الصَّيام ونِصْفَ الصَّلاةِ»!! مع أنَّ الحديث يدلُّ على جواز الإتمام للمسافر مطلقا فذا كان أو إمامًا أو مأموما، وهذا نقيض دعواه !!

وتبعه مقلّدة كلامه ورأوه غاية التحقيق؛ لأنهم صحفيون لم ينضج فهمهم ولا رسخ في العلم ،قدمهم إنما يجدون أقوالا فجَّةٌ فيتخذونها محجَّةً، يعتبرون الخروج على الجماعة سُنَّة، ويوجهون لمن لم يوافقهم على شذوذهم سهام

الأسنة.

فماذا أعد الله لهؤلاء المهرجين؟ إنه سبحانه المنفرد بعلم ذلك، والمجازي كل نفس بما كسبت هنالك. ۱۱ - قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين، فأُقرت صلاة السَّفَر، وأتمت صلاة الحضر». يعارضه قول ابن عباس: «إنَّ الله فرض الصَّلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة». وهي معارضة واضحةٌ، تؤيد الحكم بشذوذ هذين الأثرين، وعدم العمل بهما.

التخصيص، أو يحتمل التخصيص حتى إنَّ الحافظ السيوطي ذكر في معترك الأقران استخرج بعد الفكر آيةً في الأحكام لم يدخلها تخصيص، وهي قوله تعالى: اور حُرمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَتُكُمْ ﴾ [النساء: ۲۳] الآية. قلت: ويستدرك عليه قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ﴾ [المائدة: ٩٦]. وكذلك الأحاديث مثل القرآن، ولا يحضرني الآن حديث لم يدخله تخصيص إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ليخرمُ مِن الرَّضاع ما يحرمُ مِن النَّسب». وقوله في البحر: «هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِل مَيْتَهُ».

٣٤٢

خاتمة

الفقه

وبعد، فقد حرّرنا المسألة كما طلب مِنَّا، وهدينا فيها إلى سواء السبيل،

وبسطنا أنواع الدليل، وبيَّنا ما فيها من توجيه وتعليل.

ومع

اعتقادنا أنَّ الصواب هو ما كتبناه، لا نرمي من خالفه بالغباوة والجهل، ولا نسمه بأنه أتى زورًا من القول، أو منكرًا من الفعل؛ لعلمنا أنَّ المسألة فرح فقهي، اختلفت فيه أنظار العلماء، منهم المصيب والمخطئ، وفيهم الموفق وغيره، ولا لوم على من أخطأ في قول أو نظر، ولا على من جانبه التوفيق من حيث يرجو الظفر، إنما اللوم والعتاب على من تمسك بالعناد، وأبى الرجوع إلى سبيل الرشاد والمتشبث بالرأي الشاذ عن حلي الإنصاف عاطل، والرجوع إلى الحقِّ خير من التمادي في الباطل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٠ - الصُّبْحُ السَّافِرُ

في تحقيقِ صَلاةِ المسافر

قال الصَّحَابُ وتَابِعُونَ جَمِيعُهُمْ وكذا الأئمة كابرا عن كابر بوجُوبِ إِثْمَامِ المُسافِرِ إِنْ نَوَى خَلْفَ الميم ولم يَكُنْ بِمُسافِرِ فمَن ادَّعَى قَوْلًا سِوَى ذا نابذا قول الصَّحابَةِ في ضَلال ظاهِرِ ويجوز تَقْلِيدٌ مُجْتَهِـدابـى قول الشُّدُونِ وقَوْلَ رأي عــاير ووجُوبُ إِثْمَامِ المُسافِرِ سُنَّةٌ ثَبَتَتْ بِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ الطَّاهِرِ

الصبح السافر .

٣٤٧

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد الله مظهر الحق وإن حاول إخفاءَهُ مُتعنت عائِد، وناصِرُ أَهْلِهِ وإن عارَضَهُم مُبْطِل حاقد، أحمده وأشهد أن لا إله إلا هو الأحد الواحد، المنزه عن الولد والوالد، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله نبي الرحمة، وهادي الأُمة، والمخصوص بالعصمة، صلَّى الله عليه صلاةً لا ينقطع أمدها، ولا يبلى جديدها،

وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن آله وصحابته والتابعين. أما بعد: فإني كنت ألفت جزءا سميته: "الرَّأْيُ القَويمُ فِي وجُوبِ إِثْمَامِ المُسافِرِ خَلْفَ المقيم " ، وكان تأليفي إيَّاه إجابة لرغبة الطلبة الذين يحضرون علي الأصول، فاستحسنه كل من رآه من أهل العلم، وأعجبوا بما فيه من

علم ا

تحقيق المسائل وتبين الدلائل، مع تمييز صحيح القول من فاسده، وقوي الرأي من ضعيفه داخل القواعد الحديثيَّة والأصولية، وبعثت به إلي مصر وسوريا، فجاءني خطاب من أحد علماء مصر، وهو الشيخ محمد عايش عبيد الشافعي المدرس، يقول فيه :

«لقد وصلتني الهديَّة القيمة ألا وهي آخر ما خطه قلمك الذكي، وأنتجه فكرك النابه، ولقد تصفّحت هذه الرسالة "الرأي القويم"، وأخذت أقرأ الصفحة أكثر من مرة أي والله - بحيث أنني لم أستطع إتمامه حتي

الآن،

ولولا أني قلبت صفحاته لمجرَّد الاطلاع ،العابر، فإذا بي أجدك قد لخصت الرسالة في سطور، وهذا منهج جديد في التأليف، يعطي الكتاب قيمة أخرى، ولقد رأيتك - في هذه الرسالة الصغيرة الكبيرة عملاقا تقف على قدم

٣٤٨

الفقه

المساواة مع كبار المجتهدين من الفقهاء كابن القيّم وأقرانه، هذا ولأول مرة في تاريخ اطلاعي أتذوّق أسلوب الجدل، بل وأحبه، وأذكر أنني أحببت هذا الأسلوب الجدلي من خلال قراءتي لكتاب قصص الأنبياء" للنجار، والجدل بينه وبين أعضاء اللجنة الناقدة للكتاب، بيد أن أسلوب الجدل في رسالتنا يمتاز بالعفة والنزاهة، والبعد عن فاحش القول، وهو ما أشرت إليه في قصيدتك التي قدمت بها للرسالة.

فهنيئا لك بنعمة الله إليك وعليك، وهنيئا لنا بك، وسأعطي الكتاب لأصدقائي يقرءونه إن شاء الله» . اهـ

وجاء في خطاب من العالم السوري محمد عوامة الحنفي - المدرس أيضًا - يقول فيه: «وصلتني - سيدي - هداياكم الكريمة "الرأي القويم" أولا، وبعد يومين الرؤيا في القرآن والسُّنَّة"، فشكر الله لكم، وأثابكم الخير العميم في الدارين على تحقيقاتكم الفذة الحديثية الفقهية الأصولية، وإنَّ القارئ لينتقل في رياض العلم وجنان التحقيق . اهـ

ثُمَّ أَلَّفتُ هذا الجزء الذي سميته "الصُّبْحُ السَّافِرُ فِي تَحْقِيقِ صَلَاةِ المُسَافِرِ"

فيه فوائد و تحقيقات زائدة على الرأي القويم"، وبالله أستعين.

الصبح السافر

مسألة

٣٤٩

صلاة السفر ركعتان مقصورتان من أربع ركعات، والدليل على ذلك أمور: أحدها: قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُ وا مِنَ الصلوة ﴾ [النساء: ١٠١].

روى ابن جرير من طريق أبي رَوْقٍ، عن أبي أيوب، عن علي عليه السّلام قال: سأل قوم مِن بني النَّجَار رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض فكيف نُصَلِّي؟ فأنزل الله: ﴿ وَإِذَا ضَرَبَكُمْ فِي

الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَةِ .

فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فصَلَّى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إنَّ لهم مثلها في أثرها، فأنزل الله تبارك تعالي بين الصلاتين: إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْينَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: ١٠١] إلى قوله: عَذَابًا مهينا ﴾ [النساء: ١٠٢]، فنزلت صلاة الخوف». والغزوة التي نزلت فيها صلاة الخوف: غزوة عُسْفَان.

أخرج أحمد وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي، عن أبي عياش الزُّرَقي قال: كنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهو بيننا وبين القبلة، فصلى بنا صلَّى الله عليه وآله وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصَبْنا غِرَّتهم، ثُمَّ قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحبُّ مِن أبنائهم وأنفُسِهم، فنزل جبريل بهذه الآيات بين

٣٥٠

الفقه

الظهر والعصر : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلوةَ ﴾ [النساء: ١٠٢]».

وذكر الحديث في صلاة الخوف، صححه ابن حبان والحاكم.

وهذه أول صلاة خوف صَلَّاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. نزلت الآية في صلاة السَّفَر كما مرَّ في سبب نزولها- وهي صريحةٌ في أنَّ صلاة السَّفَر مقصورة وليست أصلا بنفسها، ونزول آخر الآية بعد ذلك في صلاة الخوف لبيان أنَّ الحكم في الحالين واحد، وأنَّ عروض الخوف في السَّفَر يؤكد القصر ولا يبطله، وهذا هو المعهود في أسباب النزول، وهو الموافق لقاعدة: «ورود البيان عند الحاجة، حصل السؤال عن صلاة السَّفَر فنزل أول الآية جوابًا وبيانًا، ثُمَّ احتيج إلى معرفة صلاة الخوف فنزل آخر الآية معرفًا ومفصلا. ونظير هذا ما ثبت في "الصحيحين" عن سهل بن سعد قال: «أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسود ﴾ [البقرة: ۱۸۷]، ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتها، فأنزل الله بعد: مِنَ الْفَجْرِ ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار».

قال القرطبي: وقد قيل أنه كان بين نزولهما عام كامل»، نقله الحافظ في

"الفتح" . ولهذا نظائر في آياتٍ أخرى تعرف من أسباب النزول.

وقال الحافظ السيوطي في "الإتقان" في بيان الموصول لفظا، المفصول معنى: ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا من الصلوة الآية [النساء: ۱۰۱]، فإنَّ ظاهرها يقتضي أنَّ القصر مشروط

الصبح السافر

٣٥١

بالخوف وأنه لا قصر مع الأمن، وقد قال به لظاهر الآية جماعة، منهم عائشة. لكن بين سبب النزول أنَّ هذا من الموصول المفصول، فأخرج ابن جرير من حديث علي قال: سأل قوم من بني النجّار رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنَّا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟...»، وذكر الحديث كما سبق، وقال: فتبيَّن بهذا الحديث أن قوله: إن خِفْتُمْ ﴾ [النساء: ١٠١] شرط فيما بعده ، وهو صلاة الخوف لا صلاة السَّفَر، وقد قال ابن جرير : هذ تأويل في الآية حسن لو لم يكن في الآية «إذا»، قال ابن الفرس: ويصح مع إذا بجعل الواو ،زائدة قلت ويكون من اعتراض الشرط على الشرط، وأحسن منه أن تجعل إذا زائدة على قول من يجيز زيادتها . اهـ

قلت: جاءت الواو زائدة في قوله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبينِ ﴾ [الصافات: ١٠٣]. وذكر الخازن نحو ما ذكره السيوطي، وقال: ومثل هذا في القرآن كثير يجيء الخبر بتمامه، ثُمَّ ينسق عليه خبر ،آخر، هو في الظاهر كالمتصل به وهو منفصل عنه».اهـ

وقال زين الدين بن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليل لا يكون له مفهوم، كالخوف في قوله تعالى: أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَةِ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ [النساء:

۱۰۱] . اهـ

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «معنى قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبكُم أي سافرتم، ومفهومه أنَّ القصر مختص بالسَّفَر، وهو كذلك، وأما قوله:

إن خِفْتُم فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضًا.

٣٥٢

الفقه

وقد سأل يعلى بن أمية - الصحابي - عمر بن الخطاب عن ذلك؟ فذكر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك؟ فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بها عليكم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». أخرجه مسلم.

فثبت القصر في الأمن ببيان السُّنَّة، واختلف في صلاة الخوف في الحضر،

فمنعها ابن الماجشون أخذا بالمفهوم أيضًا، وأجازها الباقون» . اهـ

قلت: سبب نزول هذه الآية بين أنها نزلت في صلاة السَّفَر، وإضافة الخوف إليه لا يغير دلالتها على المطلوب، وهو: أنَّ صلاة السفر مقصورة سواء اعتبرنا الخوف

شرطًا فيها أم لم نعتبره، وقصر الصَّلاة نقص من عددها كما قال أهل اللغة. وثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صلى إحدى صلاتي العَشِيِّ - الظهر أو العصر - وسلّم من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟ قال: «لم أنسَ ولم تقصر». وهو صحيح في أنَّ القصر نقص من عدد الصلاة. ورخص الشارع للمريض أن يصلي قاعدًا، أو مضطجعا، وعلى جنبه يوميء بالركوع والسجود حسب استطاعته، ولم يسم صلاته صلاة قصر، ولا قال: إن الله وضع عن المريض بعض الصلاة، فدل على أنَّ القصر في عرف الشرع نقص من عدد الصلاة، كما هو في اللغة كذلك.

وتقسيم ابن القيم قصر الصلاة إلى نوعين:

قصر في العدد: كصلاة السفر في الأمن.

وقصر في الأركان كصلاة الخوف.

ومحاولته إدخال النوعين في الآية السابقة مردود بما تقدم: أنَّ القصر في

الصبح السافر .

٣٥٣

عرف الشرع ليس إلا نقص العدد، والآية المذكورة ليس فيها إلا ذلك. أما صلاة المسايفة، أو شدة الخوف التي يصليها الخائف راكبًا أو راجلا يومئ بالركوع والسجود، فهي مذكورة في (سورة البقرة) بعنوان الخوف، قال تعالى: حَفِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تعلمون } [البقرة: ۲۳۸ - ۲۳۹].

واستحسان الشوكاني لكلام ابن القيم ذهول منه عما بيناه. والحاصل أنَّ الشارع جعل لكل صلاة عنوانًا يخصها، فعنون صلاتي المرض والخوف باسميهما، وخصَّ القصر بصلاة السفر، وابن القيم اعترف بأنَّ تخفيف الأركان في الصلاة نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية»اهـ، أي: لأن القصر المطلق من عدد ركعات الصلاة، وهذا ما اتفق فيه عرف الشرع مع الوضع اللغوي.

ثانيها: ما رواه أحمد ومسلم والأربعة، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْلِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء: ١٠١]، فقد أمن الناس؟ قال: عَجِبتُ ممَّا عَجِبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن ذلك، فقال: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بها عليكم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».

في الحديث دلالة لقولنا من جهتين: أحدهما : أنَّ القصر في الآية معناه نقص من عدد الصلاة، ودلالته على ذلك

٣٥٤

الفقه

صريحة، لا تحتمل تكلف ابن القيم، ولا تلاعب المبتدع.

والأخرى: أنَّ الأصل في صلاة المسافر هو الإتمام، ولو كان فرضه ركعتين

ابتداء لما عجب عمر ويعلى من القصر في السفر مع الأمن.

ثالثها: ما رواه أحمد والأربعة، عن أنس بن مالك الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّومَ، وَشَطْرَ الصَّلاةِ». حسنه الترمذي، قال: «وفي الباب عن أبي أمية». قلت: حديث أبي أميَّة : رواه النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: حدثني عمرو بن أميَّة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيام، ونِصْفَ الصَّلاةِ».

إسناده صحيح. طریق آخر قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا موسى بن إسماعيل، عن أبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة، عن أبي أميَّة الضَّمْري: أنه قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصّيام، وشَطْرَ الصَّلاةِ». إسناده صحيح أيضًا، ورواه الدرامي والطحاوي.

حدیث آخر: روى الطبراني عن زُرَارَةَ بن أوفى -صحابي - عن رجل منهم: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يأكل، فقال: «هَلُمَّ». فقال: إني صائم، فقال: «هَلُمَّ أحدثك : أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيَامَ، وَشَطْرَ

الصَّلاةِ».

فهذه ثلاثة أحاديث تصرح بأنَّ صلاة المسافر مقصورة من أربع ركعات؛

الصبح السافر .

٣٥٥

لأن معنى وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ»: حَطَّ نصفها بعد أن كان إتمامها واجبًا عليه. وهذه حقيقة الوضع في اللغة، يقال: وضع الحمل عن الدابة: إذا حطه

عنها.

وفي الحديث: «مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أو وَضَعَ عنه، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلَّه». أي: حَطَّ

عنه بعض دينه.

أما حمل وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ» على معنى رفعه ابتداء -كما قال بعض الحنفية - فيبطله : أنه معنى مجازي لا قرينة تدل عليه، كيف وذكر الصوم يؤيد الحقيقة؟! ولا يصح الجمع بين المعنيين في الحديث لوجهين:

۱ - امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز لتنافيهما. ٢ - أنَّ فعل «وَضَعَ» في الحديث مثبت، والفعل المثبتُ لا يعم، حسبما تقرر

في علم الأصول.

مسألة

فرضت الصلاة أربعاً لا اثنين

أفادت الآية والأحاديث التي أوردتها أنَّ صلاة السفر مقصورة، ومعنى ذلك: أنَّ الصلاة فرضت في الأصل أربع ركعات، ثُمَّ وُضع منها ركعتان لعُذر

السفر. وهذه أحاديث تصرح بهذا المعنى تصريحا يدفع الاحتمال والتأويل:

١- روى أبو إسحاق بن راهويه في "مسنده" بإسناد على شرط الشيخين من طريق أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: «جاء

٣٥٦

الفقه

جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: قُم فصل، ذلك لدلوك الشمس حين مالت، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فصَلَّى الظهر أربعا. فأتاه حين كان ظله مثله، فقال: قُم فصل العصر أربعًا، ثُمَّ أتاه حين غربت الشمس، فقال: قُم فصل، فقام فصَلَّى المغرب ثلاثا، ثُمَّ أتاه حين غاب الشَّفَقُ، فقال: قُم ،فصل، فقام فصلى العشاء أربعًا، ثُمَّ أتاه حين برق الفجر، فقال : قم فصَلِّ، فقام فصَلَّى الصبح ركعتين، ثُمَّ أتاه من الغد حين كان ظِلُّهُ مثله، فقال : قم ،فصل، فقام فصلى الظهر أربعًا، ثُمَّ أتاه حين كان ظِلُّه مِثلَيه، فقال: قُم فصل، فقام فصلى العصر أربعًا ، ثُمَّ أتاه للوقت الأول حين غربت الشمس، فقال: قُم ،فصل ، فقام فصلي المغرب ثلاثا، ثُمَّ أَتاه بعد ما غاب الشَّفَقُ وأظلم، فقال: قُمّ فصل فقام فصلى العشاء أربعًا، ثُمَّ أتاه حين طلع الفجر وأَسْفَر فقال: قُم فصل، فقام فصلى الصبح ركعتين».

ورواه البيهقي في "المعرفة" من طريق أيوب بن عتبة -قاضي اليمامة-: حدثنا أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة بن الزبير، عن ابن مسعود

الأنصاري، عن أبيه. ورواه الباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز"، وصرح في روايته باسم:

بشير بن أبي مسعود.

وبشير قال عنه الحافظ ابن حجر: تابعي جليل يعد في الصحابة؛ لأنه ولد في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ورآه»، فالحديث بمجموع الطريقين

صحيح.

- روى الدار قطني في "سننه" عن أنس: «أن جبريل أتى النبيَّ صلَّى الله

الصبح السافر

٣٥٧

عليه وآله وسلَّم بمكة حين زالت الشمس، فأمره أن يؤذن للناس بالصَّلاة حين فرضت عليهم، فقام جبريل أمام النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وقام الناس خلف النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم ، فصَلَّى أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، يأتمُّ المسلمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ويأتمُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بجبريل، ثُمَّ أَمْهَلَ حتى دخل وقت العصر، فصَلَّى بهم أربع ركعات لا يجهر فيها بالقراءة، يأتمُّ المسلمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ويأتمُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بجبريل، ثُمَّ أَمْهَلَ حتى وجبت الشمس، فصلى بهم ثلاث ركعات يجهر في ركعتين بالقراءة ولا يجهر في الثالثة، ثُمَّ أَمْهَلَ حتى ذهب ثلث الليل، صَلَّى بهم أربع ركعات يجهر في الأوليين بالقراءة ولا يجهر في الأخريين بها، ثُمَّ أَمْهَلَ حتى إذا طلع الفجر،

صَلَّى بهم ركعتين يجهر فيها بالقراءة». في إسناده مجهولان.

- قال أبو داود في "المراسيل": حدثنا ابن المثنى: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن به مرسل صحيح الإسناد ، وهو مع حديث

أنس حُجَّةٌ كما تقرر في علم الحديث والأصول. - روى عبد الرازق في "المصنف" عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: « لما أصبح النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم من ليلته التي أُسرِيَ به فيها، لم يَرُعُهُ إِلَّا جبريل نزل حين زاغت الشمس - فلذلك سميت الأولى - قام فأمر فصاح في أصحابه: «الصَّلاة جامعةٌ». فاجتمعوا فصَلَّى جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وصلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس طول الركعتين الأوليين وقَصَّر الباقيتينِ، ثُمَّ سلّم جبريل على النبي صلى الله عليه وآله

٣٥٨

الفقه

وسلم، وسلَّم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على الناس، ثُمَّ نزل في العصر على مثله، ثُم نزل في أول الليل، فصاحَ: «الصَّلاة جامعة»، فصلى جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وصلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم للناس، طوّل في الأُوليين وقَصَّر في الثالثة، ثُمَّ سلّم جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وسلَّم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على الناس، ثُمَّ لما ذهب ثلث الليل، نزل، فصاح بالناس: «الصَّلاةُ جامعةٌ»، فاجتمعوا فصلَّى جبريل للنبي صلى الله عليه واله وسلَّم، وصلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم للناس، فقرأ في الأُولَيَينِ فطوَّل وجَهَرَ، وقصر في الباقيتين، ثُمَّ سلّم جبريل على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسلم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على الناس، ثُمَّ لما طلع الفجر صبح جبريل، فصاح بالناس: «الصلاة جامعة»، فاجتمعوا ، فصلى جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وصلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم للناس، فقرأ فيهما فجَهَرَ وطول ورفع صوته، ثُمَّ سلّم جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وسلَّم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم على الناس». إسناده صحيح.

ه روى عبد الرزّاق في "المصنف" عن ابن التيمي-هو معمر بن

سليمان عن قرة بن خالد قال: سمعت الحسن يقول: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلوةَ طَرَفي النَّهارِ ﴾ [هود: ١١٤] حتى ختام الآية، قال: فكانت أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الظهر، فأتاه جبريل فقال: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ ) وَإِنَّا لَنَحْنُ السبِّحُونَ ﴾ [الصافات: ١٦٥ - ١٦٦]، فقام جبريل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفه، ثُمَّ الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:

الصبح السافر .

٣٥٩

فصَلَّى . ، بهم الظهر أربعًا، حتى إذا كان العصر قام جبريل ففعل مثلها، ثُمَّ جاء جبريل حين غابت الشمس، فصلى بهم ثلاثًا يقرأ في الركعتين الأوليين يجهر فيهما ولم يسمع في الثالثة. قال الحسن: وهي وِتر صلاة النهار، قال: حتى إذا كان عند العشاء وغاب الشَّفَقُ ،واعتم جاء جبريل فقام بين يديه، فصَلَّى بالناس أربع ركعات يجهر بالقراءة في الركعتين، حتى إذا أصبح من ليلته، فصلی به والناس معه كنحو ما فعل، فصلى بهم ركعتين يقرأ فيها ويُطيل القراءة، فلم يمت النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حتى حد للناس صلاتهم، ثُمَّ ذكر الحسن الجمعة، قال: فصلى بهم ركعتين ووضع عنهم ركعتين؛ لاجتماع الناس يومئذ وللخطبة». إسناده صحيح أيضًا.

مسألة

قول عائشة

رضي

الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأُقِرَّت

صلاة السَّفَر، وأتمت صلاة «الخضر» لا يصلح؛ لمعارضة الأدلة المذكورة، ولا يمكن أن يقف معها على قدم المساواة؛ لرُجحانها عليه من وجوه الأول: أنه موقوف عليها، كما قال الخطابي وإمام الحرمين، وغلط من

جعله في حكم المرفوع.

الثاني: أنه شاد، والشاذ من قبيل الضعيف.

ووجوه شذوذه أنه أفاد أنَّ صلاة السفر أصل، وأنَّ صلاة الحضر مزيدة،

وهذا مخالف لنص القرآن أن نَقْصُرُ وا مِنَ الصَّلوة ) [النساء: ١٠١]، ولإجماع

المسلمين في تسمية صلاة السَّفَر مقصورة.

٣٦٠

الفقه

الثالث: أنه مخالف لصريح قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصِّيام، وشَطْرَ الصَّلاةِ».

الرابع: أنَّ حديث إمامة جبريل - عليه السَّلام - صرح بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صلَّى صبيحة ليلة الإسراء خمس صلوات في أوقاتها بركعاتها المعهودة، مع بيان ما يُجهر وما يُسرُّ منها، وأنه نودي لها بكلمة: «الصَّلاة جامعة»، وأنه ختمها بالسلام على الناس؛ لأنه لم يكن شُرع التشهد والسلام إذ ذاك، كما لم يُشرع الأذان، وهذا تفصيل واضح بين، فوجب تقديمه على قول عائشة الشاذ المجمل، غير المبين.

الخامس: أنَّ حديث إمامة جبريل - عليه السَّلام - موافق للآية، وقول عائشة

مخالف لها .

قال العلامة النيسابوري في "تفسيره": «وخبر عائشة لا تعاضده الآية؛ لأن

تقرير الصَّلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر » . اهـ والمقرر في علم الأصول: أنَّ الخبر الموافق للآية يقدم على مخالفها. السادس: أنَّ حديث إمامة جبريل مُفسِّر لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّيامَ، وشَطْرَ الصَّلاةِ»، وقول عائشة معارض له، والمفسّر للحديث مقدم على المعارض له.

السابع : أن حديث إمامة جبريل صرّح بأنَّ وقت بدء الصلاة أربع ركعات كان صبيحة ليلة الإسراء، وقول عائشة لم يُبيّن متى فرضت الصلاة ركعتين؟ فيحتمل أن يكون مرادها فرض الصلاة قبل الإسراء، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ركعتين صباحًا ومثلها مساء، ولا شك: أنَّ الصريح

الصبح السافر .

٣٦١

مقدم على المحتمل بلا نزاع.

الثامن: أنَّ قول عائشة لم يصرح بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صلَّى الصلوات الخمس بعد فرضيَّتها، فيجوز أن يكون الله تعالى حين فرض عليه خمسين صلاة فرضها ركعتين ركعتين وراجعه في تخفيفها، فحطها إلى خمس وكملها أربعًا، وهذا احتمال قريب ووجيه، وإن كنت لست في حاجة إلى تأويل قولها وتوجيهه؛ لشذوذه وضعفه.

التاسع: أنَّ قول عائشة مخالف لما عُرف بالتواتر: أنَّ الصلاة فرضت ليلة الإسراء، ونزل جبريل صبيحة تلك الليلة ببيان ركعاتها وأوقاتها، ولم يثبت أن فرضيَّتها تكررت مرَّةً أخرى.

العاشر: أنَّ أهل التفسير والمغازي والسير وأسباب النزول تتبعوا ما شرع من أحكام بعد الهجرة كصوم عاشوراء، ورمضان، والحج، والتيمم، والقبلة، وصلاة السَّفَر، والخوف والكفَّارات، والحدود، والطلاق، والخلع، والإيلاء، والظهار، واللعان، والرّضاع، والجهاد، وغير ذلك، ورتَّبوه - حسب وروده من بدء الهجرة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأتِ في شيء من الطرق التي استندوا إليها - صحيحها وضعيفها - أنَّ الصَّلاة كانت اثنتين ثُمَّ فرضت بعد الهجرة أربعًا، إلَّا أنَّ السمهودي في "وفاء الوفا" قال - في حوادث السنة الأولى من الهجرة - ما نصه: «ثُمَّ زِيد صلاة الحَضَر ركعتين بعد مَقْدِمِهِ المدينة بشهر، قلت: قال السهيلي: أنَّ ذلك كان بعد الهجرة بعام أو نحوه، والذي عليه الأكثر : أنَّ الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر». اهـ وقال الطبري في "تاريخه ": وفي هذه السنة - يعني السنة الأولى- زيد في

٣٦٢

الفقه

صلاة الحضر فيما قيل ركعتان، وكانت صلاة الخضر والسَّفَر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المدينة بشهر في ربيع الآخر لمضي ثنتي

عشرة ليلة منه، وزعم الواقدي: أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه». اهـ قلت: أشار الطبري إلى تضعيف هذا النقل بعبارة «فيما قيل»، والواقع أنه نقل ضعيف، بل باطل ، ولو حصل هذا لنقله الصحابة الذين نقلوا المضمضة، والاستنشاق، والسواك، والمسح على الخفين، مع أنَّ الصلاة أهم منه، بل هي أهم أركان الدين بعد الشهادتين، وقد نقلوا قصرها في السفر كما نقلوا فروضها وسننها وشروطها، فكيف غفلوا عن نقل زيادة ركعتين فيها، وتفرد بها الواقدي وهو موصوف بالكذب عند المحدثين ؟!.

الحادي عشر : تقدَّم في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوَة ﴾ [النساء: ١٠١]: «أن قوما من بني النجار قالوا:

يا رسول الله إنَّا نضرب في الأرض فكيف نُصَلِّي؟».

وهذا يفيد: أنَّ الصلاة كانت أربعًا فطلبوا التخفيف.

الثاني عشر: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صَلَّى الظُّهْرَ أربع ركعات

وهو بعسفان، وسيأتي تخريخ هذا الحديث بحول الله تعالى.

الثالث عشر : نقل الباجي عن بعض العلماء، قال: «رواية عائشة اضطربت في الحج، والرضاع، وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، وقصر الصلاة في السَّفَر» . اهـ ، ولم يرتض الباجي هذا الكلام، وأجاب عن الاضطراب في صلاة الليل فقط، ولكن الاضطراب في صلاة السَّفَر يتبيَّن مما يأتي: ۱ - قالت عائشة : فرضت الصَّلاة ركعتين ركعتين، فأُقرت صلاةُ السَّفَر

الصبح السافر

٣٦٣

وزيد في صَلاةِ الحَضَرِ».

۲- روى عبدالرزاق عن ابن مُحَرَّرٍ، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: «مَن صَلَّى أربعًا في السَّفَر فحسنٌ، ومَن صَلَّى ركعتين فحسن، إِنَّ الله لا يعد بكم على الزيادة، ولكن يعذِّبُكم على النقصان».

- روى البيهقي - بإسناد صحيح - عن عروة: «أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا، فقلتُ لها : لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي إنه لا يَشْقُ عَلَيَّ». روی ابن جرير عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كان يُتِمُّ الصَّلاةَ في السَّفَر؟ قال: عائشة، وسعد بن

أبي وقاص». ٤- روى ابن جرير من طريق عمر بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول في السفر : أتموا صلاتكم، فقالوا : إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يُصَلِّي في السَّفَر ركعتين، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في حرب وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟ .

فهذه عدة روايات عن عائشة متعارضة مضطربة.

وعندي: أنَّ عائشة لم تضطرب رواياتها في صلاة الشفر، ولكن الناس لم يفهموا رواياتها على وجهها فظنوها مضطربة.

وبيان ذلك: أنَّ الحنفية، ومعهم ابن حزم وابن تيمية وابن القيم، ظنُّوا: أَنَّ قولها الأول في حكم المرفوع، وأخذوا منه وجوب قصر صلاة السفر،

فأخطأوا من جهتين:

٣٦٤

الفقه

1 - أن قولها ذلك هو من كلامها واقعا وحقيقة لا شائبة للرفع فيه. أنَّ ذلك القول-مرفوعا كان أو

٢- وهو الخطأ الأعظم: غفلتهم عن موقوفا - لا يفيد وجوب القصر في السَّفَر، وإنما يفيد نسخ الركعتين واستبدال

أربع الركعات بهما، يتضح هذا المعنى من تتبع روايات قول عائشة. ففي "صحيح البخاري" من طريق ،مَعْمَرٍ، عن الزهري، عن عروة، عنها قالت: «فُرضت الصَّلاةُ ركعتين، ثُمَّ هاجر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ففُرضت أربعًا»، وحيث فُرضت الصلاة أربعًا - وكان فرضها بعد شهر من

الهجرة كما قال الواقدي فمعنى ذلك أنه نسخ الاقتصار على الركعتين، وبطل الاعتداد بهما في أداء فرض الصلاة، فلمَّا شُرِع قصر صلاة السَّفَر في السنة الرابعة أو الخامسة بسبب السؤال عنه، كان شرعًا جديدًا وحكمًا مستقلا يدخل

في باب الرخصة، ولا علاقة له بالركعتين اللتين نسختا.

هذا مفاد كلام عائشة وهو مرادها؛ ولهذا كانت تتم الصلاة في السفر، وقالت: «من صَلَّى أربعًا في السَّفَرِ فحسن، ومن صَلَّى ركعتين فحسن» أي: لأنَّ القصر رخصة مستحبَّةٌ إنَّ الله لا يعذِّبكم على الزيادة في السفر» لأنها جائزة ولكن يعذبكم على النقصان في الخضر»؛ لأنه ممنوع.

وقالت لعروة - حين رآها تتم في السفر، وقال لها: لو صليت ركعتين؟ - : يا ابن أختي، إنه لا يشق علي الإتمام والقصر: رخصة أريد به التخفيف؛ لأنها وهي فقيهة مجتهدة - : أنَّ فرض الأربع نسخ الركعتين، وحظر

علمت

الإجتزاء بهما، وأن الإذن فيهما للمسافر يقتضي الجواز على قاعدة الإذن بعد الحظر، وهذا منزع أصولي دقيق غَفَلَ عنه ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم،

الصبح السافر .

٣٦٥

والشوكاني، وكلُّ من تمسك بقولها لوجوب القصر في السفر، ولعل سبب غفلتهم قولها: «فَأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر»، فهموا منه: أنَّ الشارع زاد في صلاة الحضر وأبقى في صلاة السفر كما هي في وقت واحد، وهذا الفهم غير صحيح لم تقصده عائشة، ولم يقع في الوجود، بل الذي وقع: أنه بين زيادة صلاة الحضر وقصر صلاة السفر فترة زادت على ثلاث سنوات كما مر .

ولهذا أوَّل الحافظ ابن حجرة كلامها بقوله: «المراد بقول عائشة: فأُقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف- لا أنها استمرت منذ فرضت» . اهـ ، وهذا التأويل متعين ليكون كلامها موافقا للواقع.

القَصْرُ في السَّفَرِ مندوب

لم يأت القائلون بوجوب القصر في السفر بدليل سالم من النقد، وهاك جملة أدلتهم، مع تعقيبها بما يرد عليها من قدح مبطل لدلالتها . 1 - قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ركعتان».

۲- قول عمر : صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصير على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم». قول ابن عبّاس: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلَّم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعًا، والخوف

ركعة .

- قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن القصر: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بها

٣٦٦

الفقه

عليكم، فاقْبَلُو صَدَقَتَهُ»، والأمر يقتضي الوجوب.

ه - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دوام على القصر ولم يتم قط.

هذا كل ما استدلوا به، ولا دليل لهم في شيء منه.

أما قول عائشة، فقد تبيَّن مما ذكرناه أنهم أخطأوا في الاستدلال به؛

الخطئهم في فهمه، وأنه يدل على جواز القصر نقيض دعواهم.

وأما قول عمر، فيدل على وجوب القصر بدلالة الاقتران بصلاة الجمعة، وهي دلالة ضعيفة في علم الأصول، ويمكن لمخالفهم أن يعكس الاستدلال بها عليهم، فيقول: بل هو يدل على استحباب القصر؛ لاقترانه بصلاة الأضحى والفطر، ثُمَّ كيف يقول عمر : تمام من غير قصر، والله تعالى يقول: وَإِذَا ضَرَبَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوةِ ، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ الله وَضَعَ على المُسافِرِ الصَّومَ وشَطْرَ الصَّلاةِ»، والمسلمون مجمعون على أن صلاة السَّفَر مقصورة.

وأما قول ابن عباس فهو شاذ لوجهين: ١ - مخالفته للواقع المعروف في كتب التفسير والسُّنَّة: أنَّ الصلاة فرضت ليلة الإسراء، ثُمَّ شُرعت صلاة السفر في السنة الرابعة أو الخامسة، ثُمَّ شُرعت صلاة الخوف في غزوة عُسفان وصلاها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في تلك

الغزوة ركعتين، فمتى فرضت صلاة الخوف ركعة، وصلاة السفر ركعتين؟ ٢ - أنَّ الإجماع منعقد على عدم وجوب ركعة في الخوف، بل ذهب الجمهور إلى عدم مشروعيتها، وقال إسحاق بن راهويه والثوري ومن تابعهما:

الصبح السافر

٣٦٧

تشرع ركعة في صلاة الخوف، لكن لم يقولوا بوجوبها. ثُمَّ هذا الأثر موقوف، استنبطه ابن عباس من القرآن، ولذا قال : على لسان نبيكم؛ لأن القرآن وصلنا على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، قال الله

تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ ﴾ [مريم: ۹۷] .

وكذلك قول عمر على لسان محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يفيد: أنَّ ما قاله استنباط منه، إذ لو كان مسموعاً لهما لقالا : قال رسول الله صلى الله عليه

وآله وسلم. وأما حديث: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بها عليكم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»، فالأمر فيه

للندب؛ لأمور:

1 - أنَّ الأصل في الرخصة الندب.

٢ - الأدلة المقتضية لاستحباب القصر، وسيأتي بيانها بحول الله تعالى. - أنَّ حمل الأمر على الندب يجمع بين الأدلة ولا يهدر شيئًا منها، وحمله

على الوجوب يلغي بعضها، والجمع بين الأدلة واجب. ٤ - تقدم أنَّ الركعتين في الصلاة نُسختا بالأربع، ووجوب شيء إذا نسخ

يبقى مندوبا ولا يعود للوجوب مرَّةً أخرى، كما سيأتي. وأما مداومة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على القصر فإنها لا تفيد وجوبه، وإنما تفيد أفضليته، ونحن نُسلّم ذلك. وأما أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يتم في السفر قط فدعوى باطلة، بل

صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتم الظهر في سفره، كما سيأتي.

وحيث تبين بطلان أدلة القائلين بالوجوب بطل قولهم بالضرورة، وبقي

٣٦٨

الفقه

القصر في السفر على الأصل الذي هو الجواز، والأصل لا يحتاج إلى تأييد واستدلال، ولكنا مع ذلك نذكر أدلته تثبيتا وتأكيدًا.

فمنها قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ

الصلوة ، تقدم أن هذه الآية نزلت بسب السؤال عن الصلاة في السفر. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره": "وأما قوله تعالى: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْيْنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: ۱۰۱]، فقد يكون خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا يسافرون إلا إلى غزو عام أو سرية، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله تعالى: وَرَبِّبُكُمُ الَّتِي فِي حُجُورِكُم ﴾ [النساء: ٢٣]، وكقوله تعالى: وَلا

مظنة

تُكْرِهُوا فَنَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَضُنَا ﴾ [النور: ٣٣]» . اهـ ولو فرضنا أنَّ الآية خاصة بالخوف - كما يزعم مقلدة ابن حزم - فإنها تدل على الجواز أيضًا؛ لأنه إذا لم يجب قصر الصلاة في حالة الخوف -وهي. الوجوب - فعدم وجوبه في حالة الأمن أولى. ومنها: حديث: «إِنَّ الله وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّومَ، وشَطْرَ الصَّلاةِ»، وهو يدل على جواز القصر والإتمام ، كما بينته في "الرأي القويم" ونبهت على غلط ابن حزم في فهمه. ومنها: عن أبي هريرة: أنَّ رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: أقصر الصلاة في سفر نجد؟ قال: «نعم، إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَن يَوْخَذَ بُرُخْصَتِهِ، كما

الصبح السافر .

٣٦٩

يحبُّ أن يؤخَذَ بِفَرِيضَتِهِ». رواه ابن جرير في "تهذيب الآثار "، وصححه. فهذا الحديث نص صريح في أنَّ القصر في السفر رخصةٌ غير واجبة. ومنها: ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: «قال مجاهد في قوله تعالى: إن خِفْتُمْ أَن يَفْلِينَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا : نزلت يوم كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعسفان، والمشركون بضجنان، فتوافقوا فصلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأصحابه صلاة الظهر أربعًا، ركعوهم وسجودهم واحد معًا جميعًا، فهم بهم

المشركون أن يُغيرُوا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ [النساء: ١٠٢]، فصلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم العصر، وذكر صلاة الخوف»، إسناده صحيح، ورواه ابن أبي حاتم من طريق ابن نجيح، عن

مجاهد، كما في "تفسير ابن كثير".

«عُسفان» - بوزن عثمان موضع على مرحلتين من مكة، ويقابله جبل

اسمه «جنان» بوزن سلمان.

فهذا الحديث يصرح بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صلَّى الظهر أربع

ركعات وهو مسافر، فدل على أنَّ القصر في السفر غير واجب.

ومنها: ما رواه عبدالرزاق عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم: أنَّ طاوسا أخبره: «أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم صلَّى صلاة الظهر أربع ركعات، وهو والعَدُوُّ في صَحْراء واحدةٍ -يعني - عسفان فقال العدو: إنَّ لهم صلاةً

.

أخرى، هي وسلم يصلي العصر، فقاموا خلفه صفين، وذكر صلاة الخوف»، إسناده

أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فقام النبي صلى الله عليه وآله

صحيح، وهو مثل الحديث السابق يفيد جواز الإتمام في السفر.

۳۷۰

الفقه

ومنها: ما رواه البزار عن عائشة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يسافر فيتم الصَّلاة ويَقْصُر » ، ورواه الطحاويُّ في "معاني الآثار" ولفظه: «قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في السفر وأتم»، وفي سند الحديث مغيرة بن زياد، قال الحافظ الهيثمي: «اختلف في الاحتجاج به» . اهـ

قلت: المغيرة من رجال الأربعة وثقه وكيع وابن معين والعجلي وابن عمار ويعقوب بن سفيان وأحمد في رواية ابنه صالح، وقال النسائي: «ليس به بأس»، وقال أبو داود: «صالح»، وقال أحمد في رواية ابنه عبدالله: «مضطرب الحديث، منكر الحديث»، وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه مستقيم، إلَّا أنه يقع في حديثه ما يقع في حديث من ليس به بأس من الغلط، وهو لا بأس به»، وقال ابن حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه، فقالا: شيخ، قلت: يُحتج به؟ قالا: لا، وقال أبي: هو صالح صدوق، ليس بذلك القوي، بابة مجالد يحول من كتاب "الضعفاء" للبخاري».

تبين من هذه النقول ثلاثة أمور:

١ - أنَّ أهل الجرح متفقون على صدق المغيرة وصلاحه.

٢ - أنَّ معظمهم وثقه.

٣- أنَّ مَن ضعفه منهم لم يضعفه مطلقا، وإنما ضعفه لاضطراب في بعض حديثه، ونكارة في حديث أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وإيَّاه عَنَى ابن معين حين وثقه، وقال: «له حديث واحد منكر». ولهذا اختلف في الاحتجاج بحديثه، فالذين وثقوه -وهم الأكثر - يحتجون به، والذين وصفوه بالاضطراب توقفوا فيه، لكنهم لا يختلفون في الاحتجاج

الصبح السافر .

۳۷۱

به إذا وجد لحديثه شاهدٌ أو عاضد.

وحديثه الذي أوردناه معضودٌ بحديثي مجاهد وطاوس وبما يأتي، فهو

حُجَّةٌ بلا منزاع. قال الإمام الشافعي رحمه الله: «الو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة: كل ذلك فَعَلَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتم وقصر. أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء ابن أبي رباح، عن عائشة قالت : كلُّ ذلك فَعَلَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتمَّ وقَصَر » . اهـ

قال البيهقي: وكذلك رواه المغيرة بن زياد، عن عطاء، عن عائشة». وأصح إسناد فيه: ما أخبرنا أبو بكر الحارثي، عن الدارقطني، عن المحاملي: حدثنا سعيد بن : سعيد بن محمد بن أيوب: حدثنا أبو عاصم: حدثنا عمر بن سعيد، عن عطاء، عن عائشة : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يَقْصُرُ الصَّلاةَ في السَّفَرِ ويُتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ ، قال الدارقطني: «هذا إسناد

صحيح. وقال ابن القيم في زاد المعاد : وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حيث يخرج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه: أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان : يقصر في السفر ويتمُّ ويفطر ويصوم، فلا يصح ، وسمعت شيخ الإسلام ابن

تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم». اهـ وأقول: ما أجرأ ابن تيمية وما أسرعه إلى ردّ من يُخالف رأيه!! فحديث

۳۷۲

الفقه

عائشة صححه الدارقطني كما علمت وهو أحفظ من ابن تيمية بمراحل، بل

لا نسبة بينهما من وجوه

١ - أنَّ الدارقطني حافظ على طريقة المحدثين، وابن تيمية : - حافظ

طريقة الفقهاء.

.

على

٢ - أنَّ الدارقطني نال رتبة أمير المؤمنين في الحديث وهي أعلى رتبة في الحفظ لم ينلها ابن تيمية، ولا من في طبقته.

٣- أن الدار قطني كان إمامًا مُبرِّزًا في عِلل الأحاديث وأسانيدها حتى عد في صففٌ علي بن المديني.

وابن تيمية كان ضعيفًا في هذا العلم، وأغلب الأحاديث التي يعللها أو يضعفها أو يكذبها ، إنما يتكلم فيها من جهة مخالفتها لرأيه، فمعيار الصحة والضعف عنده رأيه، ما وافقه صحيح ولو كان في كتاب ابن بطه! وما خالفه ينبغي أن يكون ضعيفًا أو مكذوبًا ولو صححه مثل الدار قطني أو البخاري !! مثال ذلك: حديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره». رواه البخاري في

"الصحيح"، وهو موافق لدلائل العقل والنقل، لكنه خالف رأي ابن تيمة؛ لأنه يرى وجود حوادث لا أوّل لها مع الله في الأزل، فعمد إلى رواية للبخاري أيضًا في هذا الحديث بلفظ : كان الله ولم يكن شيء قبله»، فرجحها على الرواية المذكورة بدعوى أنها توافق الحديث الآخر: «أنت الأول، فليس قَبْلَكَ شيء». قال الحافظ ابن حجر : مع أنَّ قضية الجمع بين الروايتين تقتضي حمل هذه

الرواية على الأولى لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق» . اهـ وتعصبه لرأيه أعماه عن فهم الروايتين اللتين لم يكن بينهما تعارض؛ لأن

الصبح السافر .

۳۷۳

رواية: «كان الله ولم يكن شيء قبله»، تفيد معنى اسمه: الأول، بدليل: «أنت الأول، فليس قَبْلَكَ شيء ، ورواية: «كان الله ولم يكن شيء غيره»، تفيد معنى

اسمه الواحد، بدليل رواية: «كان الله قبل كل شيء».

مثال ثانٍ: حديث: «أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي عليه السّلام»، حديث صحيح، أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات"، وردَّ عليه الحافظ ابن حجر وغيره، وابن تيمية منحرف عن علي كما هو معلوم، فلذلك لم يكفه حكم ابن الجوزي بوضعه، فزاد من كيسه حكاية اتفاق المحدثين على ذلك. مثال ثالث: حديث عائشة الذي نتكلم عليه أفاد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أتم في السفر، وابن تيمية لا يرى ذلك، فحكم بأنه مكذوب، وسأدع تصحيح الدارقطني جانبًا وأناقش ابن تيمية في دعواه، وأثبت أنه مجازف شديد المجازفة.

من المعلوم لصغار طلبة هذا العلم أنَّ الحديث يحكم بوضعه لسببين : ١ - أن ينفرد بروايته كذَّابٌ، بحيث لا يوجد إلا من طريقه، فلو وجد متابع له ارتقى حديثه عن درجة الوضع إلى التي فوقها وهي الواهي ثُمَّ

المتروك.

٢ - أن يخالف القرآن، أو الحديث الصحيح، أو أصلا من أصول الشريعة،

أو قضية عقلية، أو واقعة تاريخية، ويتعذر التأويل أو الجمع.

فإذا سَبَرنا حديث عائشة بهذا المسبار وجدنا رجال إسناده ثقات، ووجدنا معناه سالما من النكارة والمخالفة؛ لأنه أفاد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله

٣٧٤

وسلم

الفقه

قصر في السفر وأتم، وصام وأفطر، وهذا المعنى صحيح جدا يوافق

القرآن وَإِذَا ضَرَبِّكُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَوةِ ، ورفع الجناح يقتضي جواز الأمرين.

ويوافق حال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم باعتباره مبلغًا يفعل الشئ لبيان حكمه، فهو قد أتم في بعض أسفاره لبيان جواز الإتمام، وقصر في الغالب لبيان أفضليته.

ويوافق الرخصة في أصل وضعها الشرعي، ويوافق الحديث الصحيح:

«إِنَّ اللهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصَّومَ، وشَطْرَ الصَّلاةِ». ويوافق حديثي مجاهد وطاوس الصحيحين: «أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: أتم صلاة الظهر بغزوة عُسْفان».

ويوافق ما رواه البخاري في "الصحيح" عن جابر قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بذات الرّقاع، وذكر الحديث إلى أن قال: «وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثُمَّ تأخَّروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين،

وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم أربع، وللقوم ركعتين». وفي "زاد المعاد" أثناء الكلم على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف ما نصه: (وتارةً كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين فتُسلّم قبله، وتأتي الطائفة الأخرى فتصلي معه الركعتين الأخيرتين ويسلّم بهم فيكون له أربعا ولهم ركعتين ركعتين، وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين ويسلّم بهم، وتأتي الأخرى فيصلّي بهم ركعتين ويسلّم، فيكون قد صلى بهم بكل طائفة

صلاة» . اهـ

الصبح السافر

۳۷۵

أليس من المجازفة القبيحة والتعصب المَمْقُوت، أن يجزم ابن تيمية بكذب

حديث عائشة الصحيح، المؤيَّد بالدلائل والشواهد لمجرد خطأ في فهم قولها: فرضت الصلاة ركعتين ؟ .

فإن قيل: قد استنكر أحمد حديث عائشة، وقال الحافظ ابن حجر: «صحته

بعيدة .

فالجواب: أنَّ استنكار الحديث أختُ من الحكم بكذبه، على أنَّ الإمام أحمد كان ضيق العَطَن في التأويل والجمع بين مختلف الأحاديث يستنكر الحديث لأدني شبهة تعرض له في فهمه واستنكر حديث الاستخارة وهو في "صحيح البخاري"، واستنكر حديث: «رفع عن أُمَّتِي الخطأ والنِّسيان» مع أنَّ القرآن يؤيده، وقد استنكر هذا الحديث؛ لأنه رآه مخالفا لقول عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين»، وكذلك الحافظ ابن حجر استبعد صحته لهذا المعنى، كما جاء في آخر كلامه. والعجيب أنَّ قول عائشة هذا عمي على المحدثين والفقهاء على سواء،

وذهبوا في فهمه إلى فريقين

فريق يرى وجوب القصر في السفر، جعلوه حُجَّتهم الناهضة ودليلهم القاطع، ثُمَّ صُدِموا بروايتها لإتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر،

وبإتمامها هي أيضًا فاستنكروا حديثها المرفوع، وأولو إتمامها بأنه اجتهاد منها. وفريق يرى أنَّ القضر غير واجب، لكنهم سلموا دلالة قولها على الوجوب، وذهبوا يتلمسون وجوه الأجوبة للجمع بينه وبين الأدلة على جواز القصر، وكلا الفرقين مخطئان غاية الخطأ.

٣٧٦

الفقه

أما أولا : فإن قولها لا يدل على وجوب القصر، بل يدل على جوازه كما مرَّ

بيانه بأوضح بيان. وأما ثانيًا: فإن روايتها لإتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لا تُعارض قولها، بل لا توافقه في الدلالة على جواز الإتمام.

وأما ثالثًا: فإن إتمامها لم يكن على اجتهاد أو تأويل، لكنها علمت أنَّ الركعتين نسختا بالأربع، وأن القصر شُرع بعد ذلك على سبيل الرخصة

الجائزة. وقال ابن القيم محاولا تعليل حديث عائشة بعلة ضعيفة: وقد روي: «كان يقصر وتُتِم، الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناه من فوق،

وكذلك: «يصوم وتُفطر» ، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين. قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها أنَّ الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحَضَر وأُقِرَّت صلاة السَّفَر، فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معه؟!». اهـ قلت: أصاب ابن تيمية في إبطال الرواية التي حكاها تلميذه، لكنه أخطأ في الاستدلال على بطلانها بما ذكره، بل هي باطلة من جهة لم يتفطن لها ابن

تيمية وبيانها من وجهين 1 - أنَّ الحديث مروي عن عائشة أنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه

الصبح السافر

۳۷۷

وآله وسلَّم يَقْصُرُ في السَّفَر ويُتِمُّ ويَصُومُ ويُفْطِرُ». فهي تحكي فعله عليه الصَّلاة والسلام لا فعلها هي ولو أرادت أن تحكي فعلها لقالت: كان يَقْصُر وأُتِمُ، وَأَصُومُ ويُفْطِرُ.

٢ - أنه لم يعهد من الصحابة ولا التابعين أن ينقلوا فعلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فَعَلَهُ، وينقلوا بجانبه فعلا يخالفه لصحابي على سبيل المقابلة والمساواة، لم يحصل هذا منهم ولا يمكن أن يحصل أبدًا لما هو معلوم بالضرورة أن الصحابة يحرصون على نقل فعله أو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه حُجَّةٌ ودليل، وفعل غيره أو قوله ليس بحُجَّةٍ ولا دليل، ولهذا قرر علماء الأصول أنَّ الإجماع لا ينعقد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه وافق المجمعين أو خالفهم فالحُجَّة في موافقته أو مُخالفته د

نه دونهم.

وإذن، فكيف يجوز في عقل عالم ذكي كابن القيم أن يقال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقصر في السفر، وعائشة تُتِمُّ، ويفطر وهي تصوم، أي أنها كانت تأخذ بالعزيمة في الموضعين، وما معنى هذه التسوية بين حكاية فعله وفعلها ؟ هل عائشة شاركته في التشريع ؟! أم أنها اجتهدت كما اجتهد هو ؟! أم أنها عصته ؟! أم ماذا ؟ !

فالواقع أن قول عائشة تحكي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كان يقصر في السَّفَر ويُتِمُّ، ويصوم ويفطر، بالياء آخر الحروف، حديث صحيح سندا ومتنا، وما أورد عليه لا يساوي سماعه، وبالله التوفيق.

۳۷۸

الفقه

إشكال

يَرِدُ على المستدلّين بقول عائشة لوجوب القصر في السَّفَر إشكال خطير

يتعسر التخلص منه، أو يتعذر، وأنا أشرحه بإيضاح وتفصيل: ادعوا أن قول عائشة : فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين» في حكم المرفوع، سلمنا ذلك. وفهموا منه وجوب القصر في السفر، سلمنا لهم فهمهم. ثُمَّ صُدِموا بأنَّ عائشة كانت تُتِمُّ في السفر، فأسرعوا إلى الجواب التقليدي، وهو أنها تأوّلت، وطَفِقُوا يذكرون وجوه التأويل التي سردها ابن القيم في

"زاد الميعاد ، ولكن الإشكال قائم لم يفطنوا له ولا شعروا به. ومنشأه دعواهم أنَّ قول عائشة مرفوع حُكْما، فإن صحت دعواهم -وهم يجزمون بصحتها - فيكون مضمون معنى قولها: أنَّ الشارع هو الذي حَدَّ صلاة

السَّفَر بركعتين. وإذا كان الأمر كذلك فكيف جاز لعائشة أن تزيد ركعتين على ما حَدَّه الشارع وفرضه؟! وأي تأويل يصح بل أي اجتهادٍ يُقبل بعد تعيين الشارع ركعتين في السَّفَر ؟!.

إن صح التأويل هنا صح التأويل بزيادة ركعتين في صلاة الصبح، أو زيادة ركعة في صلاة المغرب، هذا إشكال لا مخلّص لهم منه إلا بأن يفهموا قول عائشة فهما صحيحًا يطابق مرادها ويوافق قواعد الأصول، وهو ما قرّرناه مبسوطا فيما مر.

فإذا استوعبوه أدركوا أنَّ عائشة لم تضطرب روايتها في صلاة السفر، ولم تتم تأويلا كما قيل، وإنما علمت أنَّ الزيادة في الصلاة إلى أربع ركعات نُسخت

الصبح السافر

۳۷۹

ركعتين، وأبطلت الاعتداد بهما، وأنَّ مشروعيّة ركعتين في السَّفَر بعد ذلك على

سبيل الرخصة حكم جديد لا علاقة له بالركعتين اللتين نُسختا. يؤيد هذا قاعدة أصولية وهي: «أنَّ الشيء قد يُباح ثُمَّ يحرم مرَّتين». مثلا: كنكاح المتعة أُبيح ثُمَّ حُرِّم، ثُمَّ أُبيح ثُمَّ حُرِّم إلى يوم القيامة.

أما الشيء الذي يكون واجبًا ثُمَّ يُنسَخ فلا يعود واجبًا. أيضا كالصلاة فرضت خمسين ثُمَّ نُسِخت بخمس، فلم تفرض بعد ذلك صلاة أخرى إطلاقا، وكذلك الركعتان في الصلاة نُسختا بأربع، فلا تعودان

إلى الوجوب في حال من الأحوال، وإنما شُرعتا على سبيل الندب في السَّفَر. وكذلك الوضوء لكل صلاة: كان واجبًا ثُمَّ نُسخ فلم يجب مرة أخرى. وكذلك مُصابرة مسلم لعشرة من الكفَّار في الجهاد: كان واجبًا ثُمَّ نُسخ

بوجوب مصابرة واحد لاثنين، فلم يجب مرة أخرى.

ومن هنا يظهر بطلان قول الحنفية بوجوب صلاة الوتر؛ لأنه حيث نسخ : وجوب خمسين صلاة بخمس صلوات فلو وجبت صلاة غيرها كانت سادسة، مع أنَّ الشارع حَدَّ المفروض بخمس. ويحسن لهذه المناسبة أن أذكر قاعدة أخرى وهي: «أَنَّ الذي يُنسَخ مِن الأحكام هو: الواجب والمحرَّم والمباح، أما المندوب فلا يُنسخ»؛ لأنه فضيلةٌ، والفضائل لا تُنسَخ.

وقد جهل هذه القاعدة كثير من الناس فوقعوا في أغلاط قبيحة؛

لتهجمهم على الكلام في الأحكام الشرعية بغير علم.

من ذلك: زَعْمُ بعضهم أنَّ القبضَ في الصلاة منسوخ، واستدل لزعمه بما

۳۸۰

الفقه

قيل: ذكر الحافظ العراقي في "البدور الملتمعة في أدلة الأئمة الأربعة" قال: أخرج الأوزاعي في "مسنده" عن ابن مسعود قال: ترك رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلَّم القبض في صلاة الفريضة، قبل أن يفارق الأُمة بستة وثلاثين يوما». وهذا كذب قبيح؛ لأن العراقي لم يؤلف كتاب "البدور الملتمعة" بل لا وجود لهذا الكتاب، والأوزاعي ليس له مسند، والحديث مكذوب، لم يروه ابن مسعود، ولم يترك النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القبض في الصلاة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ويظهر أنَّ الذي وضع هذا الحديث مالكي متعصب؛ لأنه قال فيه: ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم القبض في الفريضة، والقبض عند المالكية مكروه في الفريضة، مستحب في النافلة، فوضع الحديث لتأييد مذهبه. وبعد هذا: فالقبض مندوب، والمندوب لا يُنسخ.

ومن ذلك: زَعُمُ بعضهم نسخ الركعتين بعد أذان المغرب؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فعلهما مرَّةً ثُمَّ تركهما .

.

وهذا خطأ من جهتين من جهة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يصلها (١)، ومن جهة أنَّ المندوب لا يُنسَخ.

وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وادَّعى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر، حيث نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبيَّن لهم بذلك وقت الجواز، ثُمَّ ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول

(۱) ثُم وجدت ابن حبان روى في "صحيحه" عن عبدالله بن مُغَفَّل قال: «صَلَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل المغرب ركعتين».

الصبح السافر .

۳۸۱

وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها، لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة

إدراك أول وقتها، وتُعقب بأنَّ دعوى النسخ لا دليل عليها». اهـ ، بل هي

باطلة لما بينا. والمقصود أنَّ جهل كثير من الناس لهذه القاعدة جرأهم على دعوى نسخ بعض المندوبات التي خالفت مذهبهم، كما أنَّ جهلهم بأنَّ الواجب إذا نُسخ لا يعود واجبًا مرَّةً أخرى حملهم على اعتقاد وجوب ركعتين في السَّفَر، مع أنهما نسختا بالأربع.

مسألة

حيث صح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتم الصلاة في السَّفَر. وصح أنه جعل القصر رخصةً غير فريضة، فذلك دليل على أنه جائز

كالإتمام.

وثبت عن جماعة من الصحابة أنهم أتموا في السَّفَر أيضًا منهم عثمان، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وأبو ذر، وسلمان(۱)، وذلك يقتضي جواز القصر عندهم.

(۱) والمسور بن مخرمة وهو صحابي معروف، روى الطحاوي في "معاني الآثار" عن عبدالرحمن بن المسور: أنَّ سعد بن أبي وقاص، والمسور بن مخرمة، وعبدالرحمن بن الأسود، كانوا جميعا في سَفَرٍ، فكان سعد يقصر الصلاة ويفطر، وكانا يتمان ويصومان» . اهـ

وعبد الرحمن بن الأسود ولد في العهد النبوي، وسعد بن أبي وقاص صح عنه الإتمام

أيضًا.

۳۸۲

الفقه

وروى أبو داود عن ابن مسعود: أنه عاب على عثمان إتمامه الصلاة في السَّفَر، ثُمَّ صلَّى أربعًا، فقيل له : عِبت على عثمان ثُمَّ صليت أربعًا؟! فقال: الخلاف شر، وروى أحمد مثله عن أبي ذر ، إلا أنه قال : الخلاف أشد.

وهذا يقتضي أنَّ القصر غير واجب لأمور: 1 - أنَّ هذا الذي يترك أو يفعل بعدا عن الخلاف هو: المندوب أو المباح،

أما الواجب فإنه يفعل في جميع الحالات من غير أن يراعى فيه خاطر خليفة، أو ملك، أو أمير، خصوصًا فريضة الصلاة التي هي هي أهم أركان الدين بعد الشهادتيين فلا يظن بابن مسعود وأبي ذرّ مع قديم صحبتهما وفضل علمهما وقوة إيمانهما؛ أن يزيد ركعتين على ما فرضه الله خوفًا من خلاف أمير المؤمنين،

هذا ما لا يمكن أن يفعلاه، بل المجزوم به أنهما أتما لجواز الإتمام عندهما. ٢ - أن عثمان لم يكن في حِدَّة أبي بكر رضى الله عنهما، ولا في شِدَّة عمر رضي الله عنه، بل كان هيّنا لينا ضعيفًا مُستَضْعَفًا، فلم يكن ليها به ابن مسعود وأبو ذر، بحيث يزيدان على ما فرضه الله ورسوله مراعاة له، فلو لم يكن الإتمام جائزا في نظرهما، ما فعلاه لأجله. - أن عثمان كان يتمُّ الصلاة لنفسه، ولم يأمر رعيته بالإتمام، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ فعل الخليفة ليس واجب الاتباع، فكيف يترك ابن مسعود وأبو ذر واجب القصر لموافقة فعل ليس بواجب؟! ولولا أنَّ الإتمام جائز ما فعلاه. ٤- ثبت في صحيح مسلم: «أن عثمان كان ينهى عن متعة الحج، وعلي يأمر بها، فقال له عثمان ،كلمة فقال علي عليه السلام: ماتريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم تنهى عنه ؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال

الصبح السافر

۳۸۳

على: لا أستطيع أن أَدَعَكَ، فأهَلَّ بهما معًا. فأنت ترى كيف خالف علي عثمان الخليفة فيما نهى عنه، ولم يحصل من خلافهما شر ولا فساد، ولم يترك على متعة الحج لنهي الخليفة عنها، مع أنها غير واجبة. فكيف يظن بابن مسعود وأبي ذرّ ترك واجب القصر لأجل إتمام عثمان؟! بل ما أتمَّ إلا لأنه جائز، وإنما عاب عليه مخالفة ما فعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في معظم أسفاره على سبيل الأفضلية.

مسألة

قال أهل الأصول:

الأداء: فعل العبادة في وقتها المقدر لها شرعًا.

والقضاء: فعلها بعد خروج وقتها.

والإعادة: فعلها ثانيا في الوقت؛ لخلل في فعلها أولا أو لعذر. فالخلل: كأن يصلّي بدون وضوء، أو على ثوبه نجاسة، أويترك ركنا من

الصلاة نسيانا، فإنه يعيدها وجوبًا.

والعذر أنواع:

١ - أن يصلي منفردًا، ثُمَّ يجد جماعة يصلُّون تلك الصلاة.

٢ - أن يصلي في جماعة، ثُمَّ يَوْم جماعة لا يجدون من يؤمهم. - أن يصلّي في جماعةٍ، ثُمَّ يجد رجلا يريد الصلاة وحده، فيتصدق عليه بالصلاة معه ليحصل له فضل الجماعة.

أما أن يصلّي الرجل وحده، ثُمَّ يعيد تلك الصلاة وحده أيضًا بدون مقتض

للإعادة، أو يصلي في جماعة ثُمَّ يعيدها وحده بدون عذر، فهذا لا يجوز.

٣٨٤

الفقه

ولا تصح الصلاة المعادة لما روى أحمد وأبو داود والنسائي، عن سليمان بن يسار قال: أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط، والقوم يصلُّون في المسجد فقلت: ما يمنعك أن تصلي مع الناس؟ قال: قد صلَّيت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تصلُّوا صلاة في يوم مرتين». صححه ابن حبان.

:

ومن ثَمَّ حكمت في كتاب "الرأي القويم" ببطلان ما رواه عبدالله بن عمر، عن نافع ، عن ابن عمر: «أنه كان إذا صلَّى مع الإمام بمنّى أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلى فيه ركعتين أعادها»، وهذا وجه بطلانها من جهة

المتن.

أما بطلانها من جهة السند: فإن عبد الله بن عمر تفرد بها، وهو مختلف فيه، ضعفه قوم، ووثقه بعضهم، مع اعترافه بأن في حديثه اضطرابا، وأنه يزيد في الأسانيد، وأنه أدركته غفلة الصالحين، وروايته هذه مردودة، سواء قلنا بثقته أو بضعفه، لما تقرّر في علم الحديث: أنَّ الثقة إذا خالف من هو أوثق منه، أو أكثر عددا كانت روايته شاذة، وأنَّ الضعيف إذا خالف الثقة كانت روايته منكرة، والشاذ والمنكر من قبيل الضعيف.

.

وعبدالله بن عمر خالف رواية إمامين عظمين هما أخوه عبيد الله، ومالك، فإنهما رَوَيا عن نافع: أنَّ ابن عمر كان إذا صلَّى مع الإمام صلَّى أربعًا، وإذا صلى وحده صلَّى ركعتين». وروى مالك عن نافع: «أن ابن عمر أقام بمكة عشر ليال يقصر ال إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها بصلاته»، وهذا الإسناد يدخل في أصح

الأسانيد، وهو سلسلة مسبكة بالذهب.

الصلاة،

الصبح السافر .

٣٨٥

مسألة

قال موسى بن سلمة: كنا مع ابن عبّاس بمكة فقلت: إِنَّا إذا كنا معك صلينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟.

معنى هذا الكلام أن موسى سأل عن الفرق بين الحالتين: إذا صلَّى مع الجماعة صلَّى أربعًا، وإذا صلَّى وحده صلَّى ركعتين؟

فأجابه ابن عباس بقوله: تلك سُنَّة أبي القاسم.

أي: التفريق بين الصلاتين بالإتمام والقصر سُنَّة أبي القاسم.

ولم يكن سؤال موسى عن صلاة السَّفَر ، لِمَ كانت ركعتين؟ حتى يؤوّل جواب ابن عباس له : بأن صلاة ركعتين سُنَّة أبي القاسم، كما أوّله بذلك من لم يتذوق أسرار اللغة العربية، ولا عرف عِلم البلاغة الذي يُظهر تلك الأسرار ويجليها، كما لم يفهم ما قرره الأصوليون من وجوب مطابقة الجواب للسؤال. ويدل سؤال موسى على أنَّ إتمام المسافر خلف المتم كان مُقرَّرًا معلومًا عندهم، وإنما سأل، ليعلم هل هو منقول عن الشارع أم اجتهاد من الصحابة الذين أفتوا به، أو فعلوه كابن عبّاس وابن مسعود وابن عمر وسلمان؟ فأجابه

ابن عباس : بأنه سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلّم.

وقال القاضي عياض في شرح سؤال موسى بن سلمة وجواب ابن عباس له، مانصه: «مفهومه أنَّ الإمام إذا أتم يتم معه، وهو قول الكافة».اهـ وهو كلام صحيح لا غبار عليه، ومنزلة القاضي عياض معروفةٌ لا تُجهَل، على طريقة الفقهاء، إمام في الأصول واللغة والأدب، قاض عادل

فهو حافظ .

٣٨٦

الفقه

نزيه، أشعري العقيدة، ليس بمُشَبِّه ولا مُجسّم ولا حَشوي()، وبالجملة هو

مَفْخَرة المغرب. على أنَّ البخاري وغيره احتجوا بكلام أبي عبيدة في "غريب القرآن والحديث"، وهو خارجي، وأطبق العلماء على الاحتجاج بكلام الزمخشري في " الكشاف"، و"الفائق"، و"أساس البلاغة"، وهو معتزلي جَلْدٌ، والماوردي من فقهاء الشافعية معتمد عندهم وهو معتزلي أيضًا.

وابن تيمية يحتج كثير من الناس بكلامه، ويُسَمِّيه بعضهم شيخ الإسلام، وهو ناصبي عدوّ لعلي عليه السَّلام، واتهم فاطمة عليها السلام بأنَّ فيها شعبة من النفاق. وكان مع ذلك مُشبّها ، إلى بدع أخرى كانت فيه، ومن ثَمَّ عاقبه الله تعالى، فكانت المبتدعة بعد عصره تلامذة كتبه، ونتائج أفكاره، وثمار غرسه.

مسألة

إذا اقتدى مسافر بإمامٍ مُتِمُّ مقيما كان أو مسافرا، وجب عليه أن يتم الصلاة

تبعا لإمامه، كما فعل سلمان الفارسي، للأحاديث الصحيحة الموجبة لذلك. وأفتى به من فقهاء الصحابة ابن مسعود وابن عمر، وابن عباس، ولم

يخالفهم أحد من الصحابة، فهو إجماع سكوتي. واتفق الفريقان على القول بوجوبه من قال بوجوب القصر كالحنفية،

ومن قال باستحبابه كالمالكية والشافعية.

فالعجب ممن يزعم أن المسافر إذا أتمَّ الصَّلاة خلف إمامه أتى بمنكر

(۱) ولم يكن ناصبيا، ولم يكن يعتقد قدم العالم بالنوع.

الصبح السافر

عظيم! وهذا جهل ومجازفة وإسراف في التعصب للتقليد الباطل.

۳۸۷

نسأل الله أن يرزقنا التوفيق والإنصاف، وأن يُجنبنا العجب المردي والعناد الممقوت، وأن يحفظنا من القول في الدين بغير علم حتى لا ندخل في وعيد قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أُفْتِي - بالبناء للمجهول - بغير عِلْمٍ

فإنما إِثْمُهُ على مَن أَفْتَاهُ».

۳۸۸

الفقه

الخلاصة

بعد إذ انتهينا من تحقيق الموضوع، نلخص مجمله في النقاط الآتية: ١ - ثبت في صحيح البخاري" أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتم

الصلاة في السَّفَر. ٢ - صح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جعل القَصْرَ فِي السَّفَر رخصةً غير واجبة، وليس بعد بيان الشارع بيان.

قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأُقرت صلاة السَّفَر، وزيد في صلاة الحضر»، يدل على جواز القصر في السَّفَر؛ لأن الركعتين نُسِختا بوجوب الأربع، فلما شُرِع القصر بعد ذلك على سبيل الرخصة كان جائزا غير

واجب. وقولها: «فأُقِرَّت صلاة السَّفَر» مجاز، أي: بحسب ما آلت إليه بعد مشروعية القصر، وهذا مجاز شائع معروفٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إني أردني أعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: ٣٦]، أي: أعصر عِنبا يؤول إلى خمر، ويُسمَّى مجاز الأول، وهو من قبيل المجاز المرسل.

ومما يؤيد هذا: أنَّ صلاة الصبح أبقيت كما هي، في حين زيادة الظهر والعصر والعشاء إلى أربع ركعات، فلم تنسخ ركعتا الصبح، بل استمر

وجوبهما الأول على حاله، ومثل ذلك صلاة المغرب. - القاعدة: «أن الواجب إذا نُسخ لا يوجبه الشارع مرَّةً أخرى»، وبهذه القاعدة: كانت مشروعية القصر في السفر لا تتجاوز درجة المندوب، ولأجل

الصبح السافر

۳۸۹

هذه القاعدة أيضًا مع ما سبق من شرح قول عائشة على الوجه الصحيح كانت تتم الصلاة في السفر، وقالت لعروة: «لا يشق عَلَيَّ»، لا لأجل أنها تأولت كما قال المخطئون في فهم قولها الغافلون عن القاعدة التي بيناها وتبعهم المقلّدون الناعقون بما لا يفهمون.

ه - لو كان قول عائشة يفيد وجوب ركعتين في السفر، أو كان الواجب إذا نسخ يعاد وجوبه مرة أخرى لم يجز لعائشة أن تتمَّ صلاة السفر بالتأويل، كما لا يجوز لها أن تزيد في صلاة الصبح ركعتين بالتأويل، ذلك أن الزيادة على ما فرضه الشارع عصيان بحث، والاجتهاد أو التأويل لا يدخل فيما حَدَّه الشارع، كعدد الصلاة، ومن القواعد الأصولية التي يعرفها صغار الطلبة: «لا اجتهاد مع النص».

٦ - حديث عائشة: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقصر في السفر

ويتم، ويصوم ويُفطر». صححه الدارقطني، أمير المؤمنين في الحديث. ومعناه مؤيد بأحاديث في "صحيح البخاري" وغيره، وتكذيب ابن تيمية له مبني على قاعدته في تكذيب أو تضعيف ما يخالف رأيه، وللمبتدعة جرأة عجيبة في ردّ ما يخالف رأيهم حتى أنَّ ابن تيمية تطاول على بعض الصحابة؛ لأنه قال خلاف ما يراه، وهو هنا يرى أنَّ القصر واجب، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لميتم في السفر قط.

فإذا ثبت ما يخالف ذلك فليكن مكذوبا بدون بحث ولا تمحيص. وتأويل الحديث على معنى : كان يَقْصُر وتُتِمُّ، ويُفْطِرُ وتَصومُ ذهول وغفلة، على أنَّ راوي الحديث: عائشة التي تحدثت عن النبي صلى الله عليه

۳۹۰

الفقه

وآله وسلم لا عن نفسها، وتقول في رواية الشافعي في "الأم": «كل ذلك قد

فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قصر الصلاة وأتم». وفي رواية الطحاوي عنها قالت: «قَصَرَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله

وسلَّم في السَّفَرِ وأتم». وهاتان روايتان صريحتان.

قول ابن عباس: «إِنَّ الله فَرَضَ الصَّلاةَ على لسان نبيكم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، والخوف ركعة»، مما أخذه ابن عباس من القرآن الذي وصل إلينا على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.

وهو شاذ لوجوه:

أحدها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُصَلِّ في الخوف ركعةً قَطُّ . ثانيها : أنه صحت في صلاة الخوف أنواع:

منها: أنه صَلَّى صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم بطائفة ركعتين وسلمت قبله، وجاءت طائفةٌ أخرى فصلى بهم ركعتين وسلّم، فكانت له أربع، وللطائفتين ركعتين ركعتين، وهذا يردُّ قول ابن عباس: «فَرَضَ الله على المسافر ركعتين». ومنها: صلى بطائفة ركعتين وسلَّم، وجاءت أخرى فصلَّى . وسلم، وهذا يدل على صحة اقتداء المفترض بالمتنفّل، خلافًا للمالكية. ومنها: صلى بطائفة ركعةً وأتمت لنفسها ركعة، وصلى بالطائفة الأخرى ركعة وسلَّم، وأتمت لنفسها ركعة.

مبهم

ركعتين

ومنها غير ذلك، فلو كان فرض صلاة الخوف ركعة لما صحت هذه الأنواع. ثالثها: أنَّ العلماء اتفقوا على جواز هذه الأنواع وغيرها في صلاة الخوف؛

لصحتها، وإنما اختلفوا في أفضلها، ولو كانت الركعة فرضًا ما تركوها أبدًا.

الصبح السافر

۳۹۱

رابعها: أنَّ النَّسائي روى أنَّ الصحابة صلوها ركعة في بعض الحالات، وهذا أوضح دليل على أنها ليست بفرض، إذ لو كانت فرضًا ما تركوها أبدًا. قول عمر : صلاة السفر ركعتان... إلخ، مستنبط أيضًا، ولعله حمل قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فاقْبَلُوا مِن اللَّه صَدَقَتَهُ»، على الوجوب. لكن حمله على الندب هو الراجح، لوجوه

منها ليتفق . مع أدلة جواز الإتمام كحديث: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عن المُسافِرِ الصوم، وشَطْرَ الصَّلاةِ»، وحديث: إنَّ الله يحبُّ أَن يُؤْخَذَ بِرُخُصَتِهِ كما يُحِبُّ أَن يؤخَذَ بِفَرِيضَتِهِ»، وقول عائشة : فُرضت الصَّلاةُ ركعتين فأُقِرَّت صلاة السَّفَر، وزيد في صلاة الحَضَر ، والجمع بين الأدلة واجب كما تقرر في الأصول. ومنها : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتم في صلاة السفر. ومنها: أنه لو كان الأمر للوجوب لزم وجوب جميع الرخص؛ لأنها صدقة تصَدَّقَ الله بها علينا، لكن الشارع أجاز الصوم للمسافر، وأجاز للمريض المرخص له بالتيمم أن يتوضأ، فدل ذلك على أنَّ الأمر للندب.

۹ - ما رواه عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: «أنه كان إذا صلَّى مع الإمام بمنى صلى أربع ركعات، انصرف إلى منزله فصلى فيه ركعتين أعادها» ضعيف، بل باطل مردود؛ لأمور: منها: مخالفته لما صح عن سليمان مولى ميمونة، قال: أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط موضع بين المسجد والسوق بالمدينة والقوم يصلُّون في المسجد، فقلت: ما يمنعك أن تصلي مع الناس؟! قال: قد صلَّيتُ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تصلوا صلاة في يومٍ

۳۹۲

الفقه

مرتين، فكيف يصح عن ابن عمر وهو راوي هذا الحديث أن يعيد الصلاة

وحده بعد أن يصليها في جماعة ؟!.

ومنها: مخالفته لما رواه مالك، وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:

«أنه كان إذا صلَّى مع الإمام صلَّى أربعًا، وإذا صلَّى وحده صلى ركعتين». ورى مالك، عن نافع، عن ابن عمر: «أنه أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة، إلا أن يصليها مع الإمام، فيصليها بصلاته».

فهاتان الرّوايتان المرويَّتان بأصح إسنادٍ تُصرّحان بأن ابن عمر كان في سفره يصلي ركعتين وحده؛ أخذا بسنة السَّفَر، وإذا صلَّى خلف إمامٍ مقيمٍ أَتَمَّ معه؛ عملا بواجب الاقتداء.

ومنها: مخالفته لما رواه عبدالرزاق، عن مَعْمَرٍ والثوري: قال سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: قلت: لابن عمر أدركتُ ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر؟ قال: صَلِّ بصلاتهم، فهذه فتوى ابن عمر -بإسناد صحيح- تفيد إتمام المسافر خلف إمامه المقيم.

١٠ - الحكم الشرعي كالجواز مثلا يكفي لإثباته دليل واحد، ولا يشترط فيه تعدد الأدلة باتفاق الأصوليين والفقهاء.

وقد كان يكفي لجواز الإتمام أنه الأصل، والتقصير طارئ عليه لعذر السفر، لكني نوعت الأدلة من القرآن الكريم، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وفعله، تقوية واستظهارًا.

١١ - إتمام المسافر خلف إمامه المتم واجب؛ لأدلة متعددة:

منها: حديث: «إنما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ بِهِ». وهو حديث متواتر كما بينته في

الصبح السافر

"الرأي القويم".

۳۹۳

ومنها: قول موسى بن سلمة لابن عباس: «إذا كنا معكم صلينا أربعًا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين؟» وجواب ابن عباس له: «تلك سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلَّم أي تلك التفرقة بين صلاة المسافر في الجماعة فيتم، وبين صلاته وحده فيقصر سُنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ومنها: الإجماع السكوتي لأن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، أفتوا بمتابعة المسافر لإمامه المقيم، ولم يخالفهم أحدٌ من الصحابة، بل فعل سلمان وجماعة من الصحابة على وفق تلك الفتوى، حيث أتموا خلف إمام ميم، وهم

جميعا مسافرون

ومنها: إذا اقتدى مسافرُ بمُتمّ، فقد ربط صلاته بصلاته، فوجب عليه الإتمام، كما لو نوى الإقامة في الصلاة.

ومنها: القاعدة الأصولية التي تقول: «إذا اجتمع وصف لازم، وآخر طارئ نيط الحكم باللازم؛ لأنه ألصق بالحقيقة وأنسب»، ووصف المؤتم لازم

للمأموم في حال حضره و سفره، فوجب عليه اتباع إمامه في كلا الحالين، وأُلغي وصف السفر؛ لأنه طارئ ومنها: أن متابعة الإمام واجبةٌ، والتقصير مندوب، فلزم الإتمام تقديما

للواجب على المندوب. ۱۲ - إِنْ قَصَرَ مُسافرٌ خلف إمامه المتم فصلاته باطلة باتفاق الفريقين، من

يقول بوجوب التقصير في السفر، كالحنفية ومن وافقهم، ومن يقول: بندبه كالمالكية والشافعية ومن وافقهم.

٣٩٤

الفقه

ولم يقل بصحتها إلا إسحاق بن راهويه وابن حزم، ولا دليل لهما، فقولها

في غاية الشذوذ، أيصح مع هذا أن يزعم زاعم: أنَّ المسافر إذا أتم مع إمامه المتم أتى بمنكر عظيم ؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

-

۱۳ - قال تعالى في صوم رمضان: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ آبَاءِ أُخَر ﴾ [البقرة: ۱۸۵] ، وهذا الأسلوب يقتضي: وجوب الإفطار على المسافر، بقاعدة أصولية هي: أن وقوع الوجوب»، وقد بينت هذه القاعدة في "خواطر دينية".

المصدر في جواب الشرط يفيد

وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ليس من البر الصيام في السَّفَر». وأخذ بهذا داود الظاهري وابن حزم والإمامية، فقالوا: لا يصح الصوم في

السَّفَر ولا يجزئ، ونقل هذا القول عن عمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين. لكن ذهب عامة العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب إلى جواز

الصوم للمسافر وصحته، وأجابوا عن الآية بأنَّ فيها حذفًا، والتقدير: «ومن كان مريضا أو على سَفَرٍ وأفطر فعِدَّةٌ» الآية.

وعن

الحديث: بأنه وارد فيمن شقّ عليه السفر وأجهده، فيكون خاصا

بهذه الحالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم صام في رمضان وهو مسافر، وأجاز للمسافر أن يصوم.

وقال تعالى في الصلاة في السفر : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن نقصرُ وا مِنَ الصَّلَوَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْينَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: ١٠١]، وهذه الصيغة تفيد التخيير، وحيث كان التقصير في السفر مع الخوف مخيرًا فيه، فهو في السفر مع

الصبح السافر

۳۹۵

الأمن كذلك، بل أولى.

ولم يقل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ليس من البر إتمام الصلاة في السفر، بل صح . عنه أنه أتمَّ في السفر، وصح أنه سمَّى التقصير رخصة، وبهذا أخذ الجمهور. فهاتان فریضتان نزلت في كل منهما رخصة، حملها الجمهور على الندب، وحملتها طائفة على الوجوب، وفرّقت طائفةٌ فأوجبت رخصة الصلاة، وأجازت رخصة الصيام.

ولهذه الطائفة نقول : كيف يكون الفطر جائزا ودليل وجوبه أقوى وأظهر؟! ويكون التقصير واجبًا ودليل جوازه أوضح وأمتن؟! أليس هذا

تفريق بين المتماثلين وتحكما في الأدلة بالهوى ؟!

نسأل الله السلامة والعافية.

٣٩٦

الفقه

أغلاط صاحب المنكر العظيم

وهي كثيرة، أذكر منها ما يحضرني الآن:

فمنها: ذلك الإشكال الذي بيَّنت استحالته في جزء "التنصل

والانفصال".

ومنها: تعليله حلق اللحية بتغيير خَلْقِ الله، وبالتشبه بالنساء.

ومنها: تقليده للألباني في ذلك التعليل.

ومنها: قياسه حلق اللحية على التنميص، وهو قياس باطل فقد فيه شرط

القياس.

ومنها تقليده للألباني في ذلك القياس.

ومنها: تحريمه للذهب على المرأة.

ومنها: تقليده للألباني في ذلك.

ومنها: زعمه أنَّ الأمن من مكر الله كبيرة، مع أنه لم يرد فيه وعيد، ونسي قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَسِرُونَ ﴾ [الأعراف: ٩٩]، ولا أذكر له الحديث؛ لأنه لا يعرفه.

ومنها: إفتاؤه لمريض صائم أن يبلع الدواء بدون ماء، ولا يكون مفطرا!

مع أنَّ الدواء يشتمل على مواد تتحلل في الأمعاء كما يتحلل الطعام. وإذا كان بعض الصحابة يبلع البرد وهو صائم ويقول: «ليس بطعام ولا شراب، فهو اجتهاد منه خالفه فيه سعيد بن المسيب فقال: بل يطفئ الظمأ ثُمَّ لو كان بلع الدواء لا يفطر الصائم لأرشد الله المريض إليه من غير أن

الصبح السافر .

۳۹۷

يرخص له في الإفطار، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيا } [مريم: ٦٤]. ومنها: دعواه أنَّ الهَجْرَ سنةٌ، وما هو إلَّا بدعة شركيَّة ابتدعها آزر حين قال

لا بنه: أَرَاغِبُ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَنَ إِبْرَاهِيمُ لَإِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: ٤٦].

ومنها: تشدُّده في حَلْقِ اللّحية إلى حد لعن الحالق، وإهماله للخضاب، مع أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر به، كما أمر بإعفاء اللحية، وعلله بمخالفة المشركين واليهود أبغض إلى الله منهم؛ لأنهم كفروا عنادًا بعد علم، وجحدوا حسدًا بعد برهان.

ومنها: لعنه حالق اللحية قياسًا على المتنمصة، والشارع لم يلعن الحالق، والقياس في اللعن ونحوه من العقوبات المعنوية لا يجوز، بل الأمر فيه موقوف على النص، ألا ترى أنَّ الله عزّ وجلَّ لعن قاطع الرحم ولم يلعن الزَّاني، ولعن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مَن يتعامل بالرّبا ولم يلعن الغاش في معاملته، ولعن المتنمصة ولم يلعن الزانية.

فالشارع وحده يعلم من يستحق اللعن أو الغضب مثلا ومن لا يستحق، وهذا الأمر مُغيَّب عنا لا نعقل حكمته حتى نقيس عليه.

فإذا

عللنا لعن المرابي بأنه يضر الناس ويأخذ مالهم بغير حق، وجدنا الغاش مثله لكن لم يلعنه الشارع، وإذا عللنا لعن المتنمصة بأنها غيرت خلقتها لأجل الرجال، فمقتضى ذلك أن تكون الزانية أحق باللعن، لكن لم يلعنها

الشارع.

۳۹۸

الفقه

ومنها غير ذلك مما لا أستحضره.

له كُلُّ يومٍ سَقْطَةٌ في مَسَائِلَ تُعَدُّ مِن الدِّينِ القَويمِ وَتُحْسَبُ فليس يَخَافُ الله فيما يَقُولُهُ وليس يُراعِي الحَقِّ إذ هو يَكْتُبُ ولكن يُريدُ أن يُقَالَ شَرِيفُنَا أَجَابَ وَأَفْتَى، نِعْمَ ما قَالَ مَذْهَبُ ويحرص أن يَلْقَى قَبُولا الرأيهِ مِنَ النَّاسِ حِرْصًا بالغا ويُرِغَبُ (۱) ويَكْرَهُ جِدًا أَنْ يُقَالَ لِرَأْيِهِ خَطَاءُ (۲) فَيَعْلُوهُ اكْتِتَابٌ ويَغْضَبُ وليس لنا شخص صَوابٌ كَلَامُهُ بلا خَطَأَ إِلَّا النبيُّ المُقَرَّبُ

(۱) بتشديد الغين المكسورة، أي: يُرغب الناس في العمل برأيه، تارةً بالخلف على أنَّ ما قاله صواب، وتارة يقسم على الشخص أن يعمل بقوله، أو يهدده بالهجر إن لم يعمل

به، أو يقول له: «اعمل به على رقبتي».

(۲) خطاء كسحاب.

الصبح السافر

۳۹۹

خاتمة فيها مسائل المسألة الأولى

بقي من أدلة وجوب إتمام المسافر خلف المقيم أربعة:

11

1 - حديث في "صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «أما يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قبلَ الإِمَامِ أَن يجعل اللَّهَ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارِ ؟ أو يجعل الله صُورَتَهُ صُورَةً حِمَارٍ؟». في هذا الحديث وعيد شديدٌ للمأموم الذي يسبق إمامه بشيء من أركان الصلاة، والمسافر الذي يقصر خلف المقيم فيسلم قبل إمامه من ركعتين أولى بهذا الوعيد، فيجب عليه أن يتم الصلاة مع إمامه المقيم؛ لئلا يقع تحت طائلة

الوعيد المذكور.

٢ - في "الموطأ" عن أبي هريرة قال: «الذي يَرْفَعُ رَأْسَهُ ويَخْفِضُهُ قبلَ الإِمَامِ فَإِنَّما ناصَيتُهُ بِيدِ شَيْطَانٍ». هذا الحديث مرفوع حُكْمًا؛ لأنه ليس للرأي فيه مجال ولا دخل للاجتهاد فيه، وهو يفيد أن المأموم الذي يسبق إمامه بشيء من أركان الصلاة يفعل ذلك بإرشاد الشيطان وتحريكه، والمسافر الذي يسلّم من ركعتين قبل إمامه يصدق عليه أن ناصيته بيد شيطان، فيجب عليه أن يتم مع إمامه؛ لئلا تبطل صلاته يكون الشيطان يحركه فيها. - ثبت في الحديث الصحيح عند الطبراني وغيره: أنَّ مخالفة المأموم لإمامه في أفعال الصلاة كانت جائزةً في أوائل الهجرة، فكان الرجل إذا أتى والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يصلّي بالصحابة، يسأل أحد المأمومين بإشارة يده:

الفقه

كم صلى؟ فيجيبه المأموم بإشارة يده: أنه صلى ركعتين أو ثلاثا. فيصلي المسبوق ما فاته ثُمَّ يدخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بقية صلاته، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «لا أجد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على حالةٍ إِلَّا دخلت معه فيها، فإذا سلَّم أتيتُ بما فاتني». فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قد سَنَّ لكم معاذ ، فافْعَلُوا مِثل مَا فَعَلَ، أَو فَاقْتَدُوا بِهِ».

فهذا الحديث نسخ جواز المخالفة السابقة، وأصبحت متابعة المأموم لإمامه واجبة، والمسافر الذي يسلّم قبل إمامه المتم خالف إمامه، فعمل بحكم منسوخ، والعمل بالحكم المنسوخ باطل، فصلاته باطلة، كما لو استقبل المصلي

بيت المقدس.

- بعد فتح مكة جاءت وفود العرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أفواجا لإعلان إسلامها وتعلم أحكام الدين، فكانوا يتمون معه الصلاة، ولم يقل: «أقصروا»، كما قال لأهل مكة في حَجَّة الوداع: «أتموا، فَإِنَّا قومٌ سَفْرٌ»، ولو قال لهم: «أقصروا لنقله إلينا الصحابة الذين نقلوا أحاديث الاستنجاء والسواك، ونحو ذلك، بل هذا أهم؛ لأنه يتعلَّق بالصلاة التي هي أهم أركان الدين بعد الشهادتين، فنحن نجزم بأنهم كانوا يتمُّون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأن مخالفة المأموم لإمامه نُسخت بحديث معاذ السابق.

المسألة الثانية

قال ابن أبي شيبة في "المصنف": «فالمسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا»، وصدر الباب بحديث عائشة رضى الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: كان يتمُّ الصلاة في السفر ويقصر، ويصوم ويفطر، ويؤخّر

الصبح السافر .

٤٠١

الظهر ويُعجِّل العصر، ويُؤخِّر المغرب ويُعجِّل العشاء»، وهو حديث صحيح

كما قال الدارقطني.

ثُمَّ روى ابن أبي شيبة بعد هذا الحديث الآثار الآتية:

فروي عن أبي نجيح المكي قال: اصطحب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر، فكان بعضهم يُتِمُّ وبعضهم يَقْصُرُ، وبعضهم يصوم

وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء». وروى عن أبي قلابة قال: إن صَلَّيت في السَّفَر ركعتين فالسُّنَّة، وإن صليت أربعًا فالسُّنَّة».

وروى عن بسطام بن أسلم قال: سألتُ عطاء عن قَصْرِ الصَّلاة في السَّفَر ؟ قال : إِن قَصَرْتَ فَرُخُصَةً، وإِن شِئتَ أَتَمْتَ».

وروى عن ميمون بن مهران أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة في السَّفَر ؟ فقال : إن شئت ركعتين وإن شئت فأربع.

المسألة الثالثة

أعلن أخي - السيد أحمد - رجوعه عن القول بوجوب قصر المسافر خلف الإمام المتم، ورأى أنَّ حديث ابن عباس في "صحيح مسلم" صريح في وجوب إتمام المسافر مع إمامه المتم، «فقد سأله موسى بن سلمة: إذا صلينا معكم صلَّينا أربعًا، وإذا صلَّينا في رحالنا صلينا ركعتين؟!، فأجابه ابن عباس تلك سُنَّة أبي القاسم».

فكان إعلانه الرجوع إلى هذا الحديث إنصافا محمودا، ولكن بعض

٤٠٢

الفقه

تلامذته لم يرجع إليه، واستمرَّ على القول بوجوب قصر المسافر خلف إمامه

المتم، وهو خطأ محضّ لا دليل يؤيده ولا حُجَّة تسنده، اللهمَّ إِلَّا التعصب

للرأي، هداه الله.

المسألة الرابعة

اختلف في المسافة التي يصح فيها القصر على أقوال، كثير منها شاذ

ومردود؛ لأنه يفتح باب التساهل في الصلاة والصيام، كالذي يقصر الصلاة

أننا

إذا ذهب إلى المطار لتوديع مسافر، وفي الخروج للنزهة بظاهر البلد مع أم نعلم أن مولانا الإمام الوالد - رحمه الله ورضي الله عنه- كان يدرس "صحيح البخاري" بالجامع الأعظم بطنجة، وكان الإخوان الصديقيون بأصيلة يصلون الصبح، ويركبون دوابهم فيصلون طنجة في الساعة الحادية عشرة، ويحضرون درسه ويصلون الظهر معه، ويعودون إلى بلدهم فيصلون قبل المغرب بمدة، وكان أحيانًا يذهب إلى سيدي قاسم للنزهة، فيعلمون بأصيلا، فيذهبون إليه ويقضون معه اليوم هناك، ثُمَّ يعودون إلى بلدهم.

والحكمة في شرعيَّة القصر والفطر في السفر هي المشقة، أو مظنتها، والسفر القصير كالسفر إلى أصيلا أو المطار أو النزهة لا مظنة فيه للمشقة أصلا، فالترخص فيه بالقصر ونحوه تساهل كبير، بل تلاعب بالنصوص وإبطال

للعبادة.

ونحن نعلم أنَّ الله حيث أطلق لفظ السفر الشاق الذي يحتاج صاحبه إلى الرخصة، فالآية التي أطلقت السفر هي من قبيل العام المخصوص، والذين أخذوها على عمومها لم يفهموا معنى الرخصة ولا حكمتها، فلا بأس علينا إذا

الصبح السافر

٤٠٣

خالفناهم في اجتهادهم المخطئ.

ونرى السفر الذي يصح فيه الترخص بالقصر ونحوه هو السفر الذي لا يقدر صاحبه أن يعود إلى بلده في اليوم الذي سافر فيه، وهي مسافة ٦٠ كيلو متر، فإن من سافر هذه المسافة ماشيًا على أرجله أو راكبًا دابَّة، لا يمكنه أن يرجع في نفس اليوم إلى بلده، فيصح له القصر، والفطر، وغير ذلك من الترخص، أما أقل من هذه المسافة فالترخص فيها تساهل وتلاعب، والله أعلم.

المسألة الخامسة

القصر رخصةٌ بلا شك - ولو قيل بوجوبه - والرخصة لا تستمر؛ لأنها لو استمرت صارت حكمًا أصليّا، والمفروض في الرخصة أنها حكم عارض، هذا خلف، إذا فالقصر له نهاية فمتى ينتهي ؟

صح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم مكث في غزوة تبوك ثمانية عشر يوما يقصر الصلاة، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلَّم ذلك في حَجَّة الوداع. وحيث أن القصر على خلاف الأصل؛ لعذر السفر، فالمسافر إذا زاد على

هذه المدة وجب عليه الرجوع إلى الأصل، وهو إتمام الصلاة. نعم، لو سافر شخص لقضاء مصلحة لا يطول أمدها في تقديره، فإنه يقصر ما دام ينتظرها؛ لأنه لا ينوي إقامة. وهذا محمل ما روي عن ابن عمر: أنه مكث في أذربيجان ستة أشهر يقصر الصَّلاة، لأنه كان في جيش، وحبسهم مطر غزير، والجيش لا يقيم بمكان إلَّا بمقدار الراحة أياما قلائل وهم لا يعرفون جو أذربيجان، ولا مقدار ما يستمر

٤٠٤

الفقه

المطر فيها، فمكثوا مكرهين، ينتظرون الصحو بين لحظة وأخرى، فلهذا قصر

ابن عمر.

أما أن يسافر الشخص إلى بلد يريد الإقامة فيه لعمل أو غيره، فيجب عليه

الإتمام بلا نزاع، ولو قصر فصلاته باطلة.

ألا ترى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين وصل إلى المدينة مهاجرًا قاصدا الإقامة فيها ألغى حكم السفر فصلَّى الجمعة قبل أن يستقر بها؟، مع أنه ما صَلَّى الجمعة في سفرٍ قَطُّ، وقال: «لا مُجمعة لمسافر»، وأمر المهاجرين الذين سبقوه

إلى المدينة بإقامة الجمعة؛ لأنهم صاروا مقيمين وهذا واضح جدا، وبالله التوفيق.

١١ - إزالة الالنياس هما أَخْطَاً فيه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ

۱ - جَوَازُ الصَّلاةِ حَاسِرَ الرَّأْسِ.

٢ - الصَّلاةُ بِالنِّعَالِ.

إزالة الالتباس

٤٠٧

1- إذهاب اللبس عن جواز الصلاة حاسر الرَّاسِ

مقدمة

الحمد لله الذي رَفَعَ قَدْرَ العلماء، وجعلهم نجوما يُهتدى بهم من الظلماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترتفع بها عن حَضِيضِ الجهلاء، وأشهد أنَّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله سيد الأصفياء، صلى الله عليه وآله وسلم صلاة وسلاما دائمين إلي يوم اللقاء.

وبعد: فإن كثيرين من العامة يستقبحون الصَّلاة بدون عمامة، ويستعظمون أمرها، ويُبالغون في انتقاد من يصلي وليس على رأسه غطاء من طاقية ونحوها، كأنه صلى بادي العورة أو غير مستقبل القبلة، وطالما أفهمتهم الحق فلم يفهموه، وبيَّنتُ لهم الصواب فلم يقبلوه، وحاولت أن أجد لديهم دليلا على ما يقولون فما وجدت شيئًا سوى العناد والتعصب، اللهمَّ إِلَّا نفرًا مِن متعلمي أولئك العوام استدلوا بقوله: يَببَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: ٣١] وبالأحاديث الواردة في فضل الصلاة بالعمامة، وبالقياس حيث قالوا: «لا يليق بالواحد منا أن يقابل ملكًا من الملوك أو عظيما وهو عاري الرأس لما في ذلك من الإخلال بالأدب، فكذلك لا يليق الوقوف بين يدي الله في الصلاة والإنسان عاري الرأس.

هذا ما قالوه وهذا كل ما يمكن أن يستدلوا به، ونحن نريد في هذه الكلمة الوجيزة أن نبطل استدلالهم ونبيّن أن تغطية الرأس ليس شرطا في صحة الصلاة ولا كمال لها، فنقول وبالله التوفيق ينحصر الكلام هنا في ثلاثة فصول.

٤٠٨

الفقه

وينحصر في

الفصل الأول

في الكلام علي الآية

المسألة الأولى: في سبب نزولها

قال ابن عباس: «كانت المرأةُ تَطُوفُ بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يُعِيرُنِي تَطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلى فَرجِهَا، وتقول :

اليومَ يَبْدُو بَعْضُهُ أو كُلَّهُ فَما بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلَّهُ فنزلت هذه الآية: يبَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: ۳۱] رواه مسلم في "صحيحه"، وقال مجاهد والزجاج وغيرهما: «نزلت في ستر العورة في الصلاة».

المسألة الثانية: ليس بين القولين المذكورين تضارب ولا تناقض لأن الطواف بالبيت صلاة يجب فيه ما يجب في الصلاة من ستر العورة والطهارة وغيرهما، ولهذا ترجم البخاري في "صحيحه" بقوله: «باب وجوب الصلاة في النّياب» وقوله تعالي: يَنبَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: ۳۱] ونقل ابن حزم في "المحلى" الاتفاق على أنَّ المراد بالآية ستر العورة، وسلّم كلامه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".

المسألة الثالثة : لا يصح الاستدلال بالآية المذكورة على استحباب العمامة للصلاة: كما يسبق إلي ذهن كثير من العوام؛ لأن الأمر في الآية للوجوب ومنه استنبط العلماء وجوب ستر العورة في الصلاة والطواف، ولبس العمامة ليس

إزالة الالتباس

٤٠٩

بواجب إجماعا، لا داخل الصلاة ولا خارجها، فكيف تشمله الآية؟ هذا لا يمكن أبدًا لتباين الدليل والمدعى، لا يُقال يجوز أن يكون الأمر مرادا به الوجوب والندب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه كما ذكر في كتب الأصول، فيدل بحقيقته على وجوب ستر العورة، وبمجازه على ندب العمامة لأنا نقول : أولا: القول بجواز استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز معًا - وإن قال به بعض الأصوليين ورجحه ابن السبكي في "جمع الجوامع" ونُسب إلي الشافعي غلطا - هو قول باطل لا يعوّل عليه؛ لأن الحقيقة والمجاز متنافيان في المفهوم

والماصدق فكيف يمكن اجتماعهما ؟.

ثانيا: لو سلمنا إمكان هذا الاجتماع المستحيل فهو إنما يتأتى إذا كان اللفظ عاما يستغرق أفرادا كثيرة كالمفرد المحلّى، والمفرد المضاف، والفعل في سياق النفي أو النهي، أما إذا لم يكن اللفظ عاماً فلا يصح اجتماع الحقيقة والمجاز باتفاق الأقوال والآراء، ولا شك أنَّ الفعل في الآية الكريمة وهو: خُذُوا

في سياق الإثبات فهو من قبيل المطلق لا العام، والمطلق لا يفيد الاستغراق البدلي؛ فبطل الاستدلال بالآية على استحباب العمامة للصلاة، وبالله التوفيق.

٤١٠

الفقه

الفصل الثاني

في الكلام علي الأحاديث

ونحن نستوعبها بقدر الحال على سبيل الاستعجال فنقول:

الحديث الأول

عن جابر بن عبد الله مرفوعًا: رَكْعَتَانِ بعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِن سبعين ركعةً بلا

عامة». رواه أبو نعيم والديلمي.

قال الحافظ السخاوي: «لا يثبت». وقال المناوي: «حديث غريب». قلت: وهذا الحديث مع ضَعْفِهِ أقوى ما ورد في هذا الباب.

الحديث الثاني

عن ابن عمر مرفوعا: «صَلاةُ تَطَوُّع أو فَريضَةٍ بِعِمامَةٍ تَعْدِلُ خمسا وعشرين صلاة بلا عمامة، وجُمعَةٌ بعِمامَةٍ تَعْدِلُ سبعين جمعة بدون عِمَامَةٍ». رواه الديلمي

وابن عساكر.

قال الحافظ ابن حجر: «حديث موضوع». وكذا الحافظ السخاوي.

الحديث الثالث

عن أنس مرفوعًا: «الصَّلاةُ في العمامة بعشرة آلافِ حَسَنةٍ». رواه الديلمي.

قال الحافظ السخاويُّ: «موضوع».

الحديث الرابع

عن أبي الدرداء رفعه: «إنَّ الله عزّ وجلَّ وملائكته يصلون على أصحاب

العمائم يومَ الجمعةِ». رواه الطبراني والعقيلي في "الضعفاء" وابن عدي وقال:

إزالة الالتباس

٤١١

إنه منكر». وأورده ابن الجوزي في الموضوعات"؛ لأن في سنده راويا كذَّابًا.

الحديث الخامس

عن أنس مرفوعا: «إِنَّ الله ملائكةٌ مُوَكَّلين بأبواب الجَوامِعِ يومَ الجُمُعَةِ

يَسْتَغْفِرُون لأصحاب العمائم البيض». رواه الخطيب في "التاريخ". قال الحافظ الذهبي: «موضوع». وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات".

الحديث السادس

عن واثلة ابن الأَسْقَعِ رفعه: «إنَّ الله يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجدِ يصلُّون على أصحاب العمائم. رواه الطبراني من طريق بشر بن عون،

عن بكار بن تميم، عن مكحول، عن واثلة.

قال ابن حبان: بشر له نسخةٌ نحو مائة حديث كلها موضوعة». وقال

الحافظ ابن طاهر: «أحاديث بشير نسخة موضوعة».

فهذه جملة الأحاديث التي استند إليها من قال بسنية العامة للجمعة أو الصلاة، كأبي طالب المكي المالكي في "قوت القلوب"، والغزالي في "الإحياء"، وابن حجر في "تحفة المحتاج" و ذر الغمامة"، والمناوي في "شرح الجامع الصغير" و "الشمائل"، والباجوري في "شرح الشمائل" وغيرهم. وحال هذه الأحاديث كما ترى، ودعوى ابن حجر في "التحفة" أنها تنجبر بكثرة طرقها يرد عليها بأنّ الانجبار إنما يكون حيث لا يكون في الطرق كذابون أو متهمون بالكذب كما هو مُبيَّنٌ في محله وبالله التوفيق.

٤١٢

الفقه

الفصل الثالث

في الكلام على القياس الذي ذكروه

وهو قولهم: «لا يليق بالواحد منا أن يقابل مَلِكًا مِن الملوك أو عظيما وهو عاري الرأس، فكذلك لا ينبغي أن يقف بين يدي الله حاسر الرأس. والجواب على هذا من وجوه الأول: أنَّ السنية وهي الحكم الشرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولا تثبت بمثل هذا الكلام الذي يختلف باختلاف أذواق الناس ومشاربهم.

الثاني: أنَّ هذه الأمور تختلف باختلاف العادات والتقاليد فمن البلاد من يكون عادة من أهلها تعرية الرأس حين مقابلة الملوك والعظماء؛ فعلى هذا يسنُ

في حقهم تعرية الرأس وقت الصلاة ولو كانوا شافعية. الثالث: أن قياس ذلك منقوض بالحَجّ حيث أوجب الله على الحجاج حَسْرَ رؤوسهم في الطواف والصلاة وغيرهما، وذلك المكان أفضل بقعة، والعبادة التي تؤدى فيه أفضل عبادة بنص الحديث الصحيح، فلو كان غطاء الرأس في الصلاة من الأدب مع الله لنبه عليه في هذا الموطن الشريف ولم يهمله وَمَا كَانَ ربُّكَ نَسِيا } [مريم: ٦٤] .

الرابع: ما ورد عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس قلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، وربما وضعها بين يديه إذا

صلَّى». رواه الطبراني وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب".

وروى الروياني وابن عساكر عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله

إزالة الالتباس

٤١٣

عليه وآله وسلم يلبس القلانس تحت العمامة، ويلبس العمائم بغير قلانس، وكان يلبس القلانس اليمنية ذوات الآذان في الحرب، وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه إذا كان يصلّي. فظاهر هذين الحديثين أنه كان يعري رأسه أحيانا في الصلاة وهما وإن كانا ضعيفين فالأصل يؤيدهما.

تمت رسالة: "جواز الصلاة حاسر الرأس".

٤١٤

الفقه

بسم الله الرحمن الرحيم ٢- الصلاة بالنعال

مع

يستقبح كثير من العامة الصلاة بالنعال وينكرون على من يفعلها . أنها ثابتة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، قال البخاري في "صحيحه": باب الصلاة في النعال»، حدثنا آدم ابن إياس : قال : حدثنا شعبة قال: أخبرنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال : سُئِلَ أنس بن مالك: أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يُصَلِّي في نعليه؟ قال: نعم. رواه مسلم، والترمذي،

والنسائي.

وفي الباب أحاديث كثيرة عن أبي سعيد الخدري عند أحمد، وأبي داود، وابن خزيمة وابن حبان، والحاكم. وعن أنسي من طريقين آخرين أحدهما عند الطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به، وثانيهما عند البزار

وعن عبد الله ابن مسعود، من ثلاثة طرق أحدها عند ابن ماجه، وثانيها عند الطبراني بإسناد فيه ضعف، وثالثها عند البزار والطبراني والبيهقي بإسناد

ضعيف.

وعن عبد الله ابن أبي حبيبة عند أحمد والبزار والطبراني. وعن عبد الله بن عمرو بن حُرَيْثٍ عند الترمذي في "الشمائل" والنسائي. وعن أوس الثقفي عند ابن ماجه.

وعن عبد الله بن الشخير من طريقين أحدهما عند مسلم، والثاني عند الطبراني. وعن أبي هريرة من طرق أحدها عند أبي داود، والثاني عند أحمد والبيهقي، والثالث عند البزار والطبراني بإسناد ضعيف، والرابع عند ابن مَرْدُويَه بإسنادِ

إزالة الالتباس

ضعيف، أيضًا.

810

وعن عطاء الشيبي عند ابن منده في "معرفة الصحابة" وابن قانع والطبراني

بإسناد ضعيف جدا.

وعن البراء بن عازب عند أبي الشيخ بإسناد ضعيف.

وعن ابن عباس من طريقين أحدهما عند البزار والطبراني وابن عدي

بإسناد ضعيف جدا، والثاني عند الطبراني.

وعن ابن عمر عند الطبراني.

وعن فيروز الديلمي عند الطبراني بإسناد جيد. وعن مجمع بن جارية عند أحمد بإسناد ضعيف.

وعن الهِرْمَاس بن زيادٍ عند ابن حِبَّان في "الثقات" والطبراني. وعن أبي بكرة عند البزار ، وأبي يعلى وابن عدي بإسناد فيه ضعف.

وعن أبي ذرّ عند أبي الشيخ والبيهقي.

وعن عائشة عند الطبراني بإسناد صحيح.

وعن أعرابي من الصحابة عند ابن أبي شيبة وأحمد.

وعن شداد بن أوس عند أبي داود وابن حبان بإسناد صحيح، وسنذكر

لفظه بعد.

فهؤلاء أحد وعشرون صحابيا يروون الصلاة في النعال بألفاظ وروايات وطرق، بل ورد بإسناد ضعيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالي: ينبَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: ۳۱] قال: «الصَّلاةُ

في التعالِ».

٤١٦

الفقه

فالذين يحرصون على تغطية الرأس في الصلاة ويعترضون على من يصلي حاسر الرأس لم لا يعترضون على أنفسهم في ترك هذه السُّنَّة التي بلغت حد التواتر على مذهب الحافظ السيوطي وجماعة، هلا بحثوا قبل أن يعترضوا أيهما أقوى دليلا الصلاة بالعمامة أم الصلاة في النَّعال؟ والله در البوصيري حيث يقول: « إِنَّ الهَوَى مَا تَوَّلَىٰ يُصْمِ أَو يَصِمِ

فإن احتجوا بما ذكره ابن دقيق العيد حيث قال : «الصلاة في النعال من الرخص لا من المستحبّات»؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة، وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح، قال: «إلا أن يرد دليل بالحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر». فالجواب على هذا من وجوه :

الوجه الأول: أنَّ الصلاة في النعال مستحبة لا رخصة لأمرين : أولهما: ما صح عن شدّاد ابن أوس مرفوعًا: «خَالِفُوا اليهود فإنهم لا

يُصَلُّون في نِعالهم ولا خفافِهم». ورواه البزار عن أنس ولفظه: «خالِفُوا اليهودَ وَصَلُّوا فِي خِفَائِكُمْ وَنِعَالِكُم فإنهم لا يُصَلُّون في خفافِهم ولا نعالهم». وإسناده ضعيف.

وروى ابن مَرْدُويَه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مما أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ الأُمَّةٌ لُبْس نِعالهم في صَلَاتِهِم».

فهذه الأحاديث تفيد استحباب الصلاة في النعلين لأجل مخالفة اليهود،

إزالة الالتباس

٤١٧

ومخالفة اليهود وسائر الكفَّار من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية كما لا يخفى. وقد ورد عن ابن مسعود مرفوعا: مِن تَمامِ الصَّلاةِ الصَّلاةُ في النَّعلين». رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه ضعف. ثانيهما: أنَّ النعال مما يُتجَمَّل به لما ثبت في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : «لا يدخل الجنَّةَ مِن كان في قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِن كِبْرِ». فقال رجلٌ: إِنَّ الرَّجُل يُحِبُّ أن يكون ثوبه حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنةٌ قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله جميل يحب الجمال، والكبر بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ».

الوجه الثاني: أنَّ الصلاة في النعال - لو سلمنا أنها رُخصةٌ- يستحبُّ فعلها

أيضًا الحديث: «إِنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُهُ كما يُحِبُّ أَن توْنَى عَزائِمُهُ». ولأنَّ الرخصة صَدَقَةٌ مِن الله كما في الحديث في صلاة الخوف، والله يحبُّ

من عباده أن يقبلوا صدقته، لأنه أكرم الكرماء.

الوجه الثالث: أنَّ مباشرة النَّعل للأرض التي تكثر فيه النجاسات لم يهملها الشارع، بل نبه عليها وذكر ،علاجها، فروى أبو داود وغيره عن أبي سعيد، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نعالهم فلما انصرف قال لهم : لم خَلَعْتُم؟» قالوا: رأيناك خَلَعْتَ فَخَلَعْنا، فقال: إن جبريل أتاني فَأَخْبَرَنِي إِنَّ بهما خَبَيًّا فإذا جَاءَ أَحَدُكُم المسجدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ وليَنْظُر فيها، فإن رَأَى خَبَنَّا فَليَمْسَحْهُ بالأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فيها».

وفي الباب أحاديث بهذا المعنى تفيد أنَّ ذلك النَّعل في الأرض مُطَهَّر لها مما

يعلق بها من نجاسات فلا علاج بعد علاج الشارع، ولا كلام بعد كلامه.

٤١٨

الفقه

نعم يتجه أن يقال الصلاة بالنّعال في المساجد يؤدي إلي تلويث البسط والحصر المفروشة بما ينزل من النَّعل من فضلات الطريق وترابه، وفي ذلك ضياع المال المنهي عنه شرعًا؛ فتجنَّب لهذا الغرض، لكن إذا كان الشخص يصلي في فضاء من الأرض أو في مسجدٍ غير مفروش فينبغي له استعمال النَّعل في صلاته اتباعًا للسُّنَّة ومخالفة لليهود ، كما تقدَّم في الحديث، بل ثبت عن أنس ابن مالك أنه قال: لم يخلع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نعليه في الصلاة إلَّا مرة، فخلع القوم نعالهم فقال لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لِمَ خَلَعْتُم نعالكم». فقالوا رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: «إنَّ جبريل عليه السلام أخبرني

أنَّ فيهما قَذَرًا». يعني نَجَسًا. رواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد صحيح. وهذا آخر ما أردنا كتابته في هذه الكلمة الوجيزة المختصرة، راجين من الله أن يُلقي عليها القبول، ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا الهوى والغرض، وأن يُبَصِّرنا بعيوب أنفسنا، وأن يشغلنا بمُداواتها وإصلاحها عن عيوب غيرنا، وأن يرزقنا الإخلاص في جميع أقوالنا وأعمالنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

تمت بحمد الله رسالة: "الصلاة بالنعال".

إزالة الالتباس

حديث الأعمال

٤١٩

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد سيد المرسلين،

ورضي الله عن آله الطاهرين، وصحابته الأكرمين.

وبعد: فقد روينا من طريق الإمام أبي عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاء: أخبرنا أبو الوفاء المؤهل ابن الحسن بن عيسى الماسر جسي: حدثنا عمرو بن محمد بن يحيى العثماني: حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك، عن عبدالرحمن بن عبدالله، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة القرشي قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم غداةً فقال: «إِنِّي رأيتُ البارِحَةَ عَجَبًا، رأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتي أتاهُ مَلَكُ المَوتِ ليَقْبِضَ رُوحَهُ فَجَاءَهُ بِرُّ والدَيْهِ فَمَنَعَهُ، ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي قد بُسِطَ عليه عذابُ القَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوءه للصَّلاةِ فَمَنَعَهُ. ورأيتُ رجلا من أمتي قد اختوَشته ملائكة العذاب فجاءَتْهُ صَلاتُه فخَلَّصَتْهُ مِن بينهم. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي يَلْهَثْ عَطَشًا كُلَّمَا وَرَدَ حَوْضًا طُرِدَ فجاءَهُ صَوْمُهُ رمضان فسَقَاهُ. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي والمؤمنون حِلَقًا حِلَقًا كَلَّما أتي حَلْقَةً طُرِدَ فجاءَهُ اغتسالُهُ مِن الجَنابَةِ فأجلَسَهُ إِلى جَنْبِي. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمتي بين يديه ظُلْمَةٌ، ومِن خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ، وَمِن تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ، وهو يتسَكَّعُ في الظُّلْمَةِ، فجاءَهُ حجَّهُ وعُمْرَتُهُ فَأَخْرَجَاهُ مِن الظُّلْمَةِ وأَدْخَلاهُ النُّورَ. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي يُكَلَّمُ المؤمنين فلا يُكَلَّم فجاءَتْهُ صِلَتْهُ الرَّحَمَ فقالت: يا مَعْشَرَ المؤمنين كلموه فإنه كان واصلا لرَحِمِهِ فكلَّمَهُ المؤمنون وصافحوه وكان معهم. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ وَشَرَرِهَا بِيَدِهِ عَن وَجْهِهِ فَجَاءَتْهُ

٤٢٠

الفقه

صَدَقَتُهُ فكانت ظِلَّا على رَأْسِهِ وسِتْرًا على وَجْهِهِ. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي جَاثِيَا على رُكْبَتَيْهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الله حِجَابٌ فجاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ على الله عزّ وجلَّ. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتي قد أخذته الزبانية مِن كُلَّ مكانٍ فجاءَهُ أَمْرُهُ بالمعروف ونهيه عن المُنكَرِ فَخَلَّصَاهُ مِن بينهم فَأَدْخَلاهُ . ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي يُؤتَى صَحِيفَتَهُ مِن قِبل شماله فجاءَهُ خَوْفُهُ مِن الله تعالى فأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فجعلها في يَمِينِهِ. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي على شَفِيرِ جَهَنَّمَ

.

مع ملائكة الرحمة.

فجاءَهُ رَجَاؤُهُ في الله عزَّ وجلَّ فخَلَّصَهُ مِن ذلك. ورأيتُ رجُلًا مِن أُمَّتين

قد

هَوَى فِي النَّارِ فَجاءَتْهُ دُمُوعُهُ التي بَكَى مِن خَشْيَةِ الله فاستَنْقَذَتْهُ مِن ذلك. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي قائما على الصِّراط يَرْعَدُ كما تَرْعَدُ السَّعْفَةُ في في ريح عاصِفٍ فجاءَهُ حُسْنُ ظَنَّهِ بِالله فَسَكَنَ رَوْعُهُ ومَشَى على الصِّراطِ . ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمتي على الصراط يَحْبُو أحيانًا ويَزْحَفُ أحيانًا ويتعَلَّقُ أحيانًا فجاءَتْهُ صَلَاتُهُ عَلَى فَأَقامَتْهُ على قَدَمَيْهِ فَمَضَى على الصراط. ورأيتُ رَجُلًا مِن أُمَّتِي انتهى إلى أبواب الجنَّة كلَّما انتهى إلى بابِ أُغْلِقَ دُونَهُ فَجَاءَتْهُ شهادة «أن لا إله إِلَّا الله» فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَتْهُ الجَنَّة».

لهذا الحديث طُرُقٌ عن سعيد بن المسيب أفردها التاج الشبكي بجزء

خاص، وهو حديث عظيمٌ يشتمل على مواعظ وأخلاق وآداب وأحكام،

وسنقدم إلى القراء الكرام شرحه في رسالة مستقلة قريبا بحول الله.

١٢ - القَوْلُ السَّدِيدُ

۱۲

في حُكم اجتماع الجُمُعَةِ والعِيدِ

القول السديد

٤٢٣

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد

وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته الأنصار والمهاجرين. وبعد: فإنّي أُدرّس للطلبة بزاويتنا عمرها الله بذكره، كتاب "نيل الأوطار"، للعلامة الشوكاني رحمه الله تعالى، وتدريسي لهم بطريق البحث والتحقيق، ومناقشة الشوكاني في استنباطاته، والتنبيه على ما يحصل له من غلط في الكلام على الأسانيد وأسماء الرُّواة، وفي تصحيح المتون أو تضعيفها، ولا ننتقل من باب حتى تتمه من جميع جهاته، بحيث لا يبقى للطلبة ما يحتاج إلى سؤال أو استيضاح. ولو جمع ما أُقرّره على هذا الكتاب، كان حاشية عليه تبين ما فيه من خطأ

وصواب.

ولما وصلنا إلى باب ما جاء في اجتماع الجمعة والعيد، وجدناه يميل إلى أنَّ العيد إذا حل في يوم جمعة، فإنَّ حلوله يُسقط فرض الجمعة، وأنه لا دليل على وجوب صلاة الظهر بدلها.

فأفهمت الطلبة أنَّ هذا مِن شُذوذ الشوكاني رحمه الله، مثل شذوذه بإنكار

وجوب خطبة الجمعة.

وبينت لهم ذلك بدليله، فطلب مني بعض الطلبة، أن أُحرِّر رسالة في هذا لأهميته، فأجبت طلبه بهذا الجزء الذي سميته: "القَولُ السَّديد في

الموضوع

٤٢٤

الفقه

حكم اجتماع الجمعة والعيد" وأُحب أن أنبه أولا: أن خطأ الشوكاني في هذه المسألة وغيرها، لا يُنقِصُ قَدْرَهُ، ولا يخدِشُ اجتهاده؛ لأنَّ الخطأ ليس بعيب ولا ذمّ، لكن الذي يُعاب أشدَّ العيب ويُذم أكبر الذَّم هو الإصرار على الخطأ بعد معرفته، وقد حصل هذا من بعض الرواة، فدمهم النقاد، وضعفوا روايتهم من أجله، والله المسؤل أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا.

متى فرضت الصلاة؟

لا خلاف بين العلماء أنَّ الصَّلوات الخمس فُرضت بمكة ليلة الإسراء، كما

ثبت في أحاديث المعراج المتواترة.

ومتى فرضت الجمعة؟

مذهب الجمهور كما قال الحافظ في "الفتح": أنها فُرضت بالمدينة، بعد

الهجرة.

وقال أبو حامد الإسفراييني من الشَّافعية: «فُرضت الجمعة بمكة»،

واستغربه الحافظ في "الفتح"، وقال النووي في "المجموع": «فيه نظر». قلت: لعل مستنده ما رواه الدارقطني من طريق المغيرة بن عبدالرحمن،

عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله ، عن ابن عباس، قال: أُذن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالجمعة، قبل أن يُهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير : : «أما بعد: فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النَّهار عن شطره، عند الزَّوال من يوم الجمعة

القول السديد

٤٢٥

فتقربوا إلى الله بركعتين قال: فهو أول من جمع، حتى قدم النبيُّ صلَّى الله عليه

وآله وسلّم المدينة فجمع عند الزَّوال في الظهر، وأظهر ذلك. قلت: هذا الحديث يفيد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أذن بإقامة

الجمعة على سبيل الندب وهو بمكة، فلما هاجر إلى المدينة وصلاها تطوعًا أول مرة نزلت آية الجمعة بفرضيتها.

والحاصل: أنَّ الجمعة شُرعت بمكة على سبيل الاستحباب، ثمَّ فُرضت بالمدينة. ولعل أبا حامد أراد أنّها شُرعت بمكة، وعبّر بقوله: «فُرضت» سهوا

منه رحمه الله تعالى.

هل صليت الجمعة قبل وجوبها؟

حديث ابن عباس المذكور آنفا، يُفيد ذلك.

وروى عبدالرزاق، عن مَعْمَرٍ، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه ونذكر الله ونشكره فيه، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زُرَارَةَ، فصلى بهم يومئذٍ وذكَّرَهم فسموه الجمعه، حتى اجتمعوا إليه وذبح لهم أسعد بن زُرَارَةَ شاةً، فَتَغَدُّوا وَتَعَشَوا منها لِقِلَّتهم. فأنزل الله بعد ذلك: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9]. وهذا مرسل صحيح الإسناد.

٤٢٦

الفقه

وروى عبدالرزاق عن ابن

جريج،

قال: قلت لعطاء: مَن أوَّل مَن جَمَّعَ؟

قال: رجل من بني عبدالدار زعموا قلت أبأَمْرِ النبي صلى الله عليه وآله

وسلَّم؟ قال: فمه؟

والرجل من بني عبدالدار، وهو مصعب بن عمير.

وروى أبو داود وابن حِبَّان عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك : أنَّ أباه كان إذا سمع ا النداء . ء يوم الجمعة؛ ترحم لأسعد بن زُرَارَةَ، فقلت له: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زُرَارَةَ كلَّما سـ سمعت الأذان للجُمعة، ما هو ؟ قال: لأنه أوَّل مَن جَمَّعَ بنا في نَقِيعِ الخضمات، من حرة بني بياضة. قلت: كم كنتم؟ قال:

أربعون رجلًا.

جمع

الحافظ بين الروايتين بأنَّ أسعد كان إماما وخطيبا، ومصعب بن كان أميرًا أمرهم بالتجميع، وحرة بني بياضة: بفتح الحاء المهملة، قرية على ميل من المدينة وبنو بياضة بطن من الأنصار، ونقيع بالنون، والخضيمات

عمیر

بفتح فكسر.

خطبة الجمعة فرض

قال ابن رشد في بداية المجتهد: اتفق المسلمون على أنَّ الجمعة خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا في الخطبة هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها؟ أم لا؟ فذهب الجمهور : إلى أنها شرط وركن، وقال قوم: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك: على أنها فرض، إلَّا ابن

الماجشون» . اهـ

القول السديد

٤٢٧

وقال الحسن وابن سيرين وابن حزم أيضًا أنها غير فرض، ومال إليه الشوكاني. ورأوا أنَّ مواظبة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على الخطبة لا يدل على وجوبها؛ لأنَّ الفعل لا يدل على الوجوب، وهذا صحيح.

قال ابن حزم وقد أقدم بعضهم فقال: إن قول الله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللهِ ﴾ [الجمعة: ۹] إنَّما مُراده إلى الخطبة، وجعل هذا حُجَّةً في إيجاب فرضها، ومن لهذا المقدم أنَّ الله تعالى أراد بالذكر الخطبة؟، بل أول الآية وآخرها يُكذِّبان ظنَّه؛ لأنّ الله تعالى إنما قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ

الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9].

ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: ١٠] فصح أنَّ الله افترض السعي إلى الصَّلاة إذا نودي إليها، وصح أنَّ الذكر المأمور بالسعي إليه هو الصَّلاة». اهـ

وهذا ليس بصحيح، بل الذكر الذي أوجب الله السعي إليه هو الخطبة، بذلك فسر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم الآية، وليس بعد بيانه بيان،

ولو تَفَطَّن له ابن حزم، ما عَدَلَ عنه إلى غيره.

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن اغْتَسَلَ يومَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى فكأَنها قَرَّبَ بَدَنَةٌ ، ومَن رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّها قَرَّبَ بَقَرَةٌ، وَمَن راحَ في السَّاعَةِ الثَّالثة فكأَنَّها قرَّب كَبْشًا أَقْرَن، ومن راح في السَّاعَةِ الرابعة فكأَنَّها قرب دَجَاجَةٌ ، ومَن راح في السَّاعَةِ الخامسة فكأنما قرَّب بَيْضَةٌ، فَإِذا خَرَجَ الإِمَامُ

٤٢٨

الفقه

حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».

وفي رواية للبخاري: «فإذا خَرَجَ الإمامُ طَوَوْا صُحُفَهَمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» زاد ابن عيينة عن الزهري في آخر الحديث : فمَن جاء بعد ذلك فإنها يجيء لَحَقِّ

الصَّلاةِ». وهذه الزيادة عند ابن ماجه بإسناد صحيح. وفي "مسند" أحمد بإسناد حسن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كان يومُ الجُمُعَةِ قَعَدَتِ الملائكةُ على أبواب المسجِدِ فيكتبون النَّاسَ مَن جاء مِن النَّاسِ عَلى مَنَازِلِهِمْ، فرجلٌ قَدَّمَ جَزُورًا، ورجلٌ قَدَّمَ بَقَرَةً، ورجلٌ قَدَّمَ شَاةٌ، ورجلٌ قَدَّمَ دَجَاجَةً، ورجلٌ قَدَّمَ عُصْفُورًا، ورجلٌ قَدَّمَ بَيْضَةً»، قال: «فإذا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، وَجَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، طُويَتِ الصُّحُفُ، ودَخَلُوا المسجد يَسْتَمِعُونَ الذَّكْرَ »

وروى أحمد وأبو داود عن سَمُرَةَ: أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: «احْضَرُوا الذِّكْرَ وادْنُوا مِن الإمامِ، فإنَّ الرَّجِلَ لَا يَزالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُوْخَّرَ في الجنَّة وإِنْ دَخَلَها». فهذه الأحاديث، فسرت الذكر في الآية بالخطبة، فتكون واجبة؛ لأنها المراد

بإيجاب السعي إليها، وإذا جاء نَهْرُ الله بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِل. وهذا التفسير النبوي موافق للمعنى المعقول، ذلك أنَّ الصَّلاة لها وقت معلوم أوجب الشارع أداءها فيه، ولم يوجب السعي إلى صلاة عند النداء لها،

فلما قال الله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9]، كان لا بد أن يكون ذكر الله غير الصَّلاة التي تُؤدَّى كل يوم، وهو الخطبة التي تشتمل على وعظ النَّاس وتذكيرهم وتعليمهم مسائل دينهم.

القول السديد

٤٢٩

يُضاف إلى ذلك أنَّ إطلاق الذكر على الصَّلاة مجاز؛ لاشتمالها عليه، قال الله

تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: ١٤]، والحقيقة مُقدَّمة على المجاز؛ لأنَّها

الأصل.

دليل آخر على وجوب الخطبة

روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا قُلتَ لصَاحِبِكَ يومَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ. والإمامُ يَخْطُبُ، فقد لَغَوْتَ».

وفي "المسند" عن علي عليه السَّلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم

قال: «مَن قال: صه فقد تَكَلَّمَ، وَمَن تَكَلَّمَ فلا جُمُعَةَ لَهُ».

وروى أحمد والبزار والطبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: مَن تَكَلَّمَ يومَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ؛ فهو كمثل الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا والذي يقول له : أَنْصِتُ، ليست له جُمعة». والأحاديث كثيرةُ في هذا المعنى تفيد أنَّ من تكلم والإمام يخطب ولو بكلمة خير مثل: أنصت، فلا جُمعة له، وذلك يُفيد وجوب الخطبة؛ إذ لو لم تكن واجبةً، لما وجب الإنصات لها، ولما امتنع الكلام حين إلقائها، ألا ترى إلى خُطبة العيد، لما كانت مندوبة استحب استماعها.

هل صلاة الجمعة أصل أو بدل؟

قال ابن رشد في بداية المجتهد: «أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور؛ لكونها بدلا من واجب وهو الظهر».اهـ

ونقل صاحب البحر الزخار" عن مالك والشافعي ومحمد بن الحسن

٤٣٠

الفقه

وزُفَر وإسحاق بن راهويه أنّها أصل بنفسها، وإليه مَيْلُ الشوكاني، وربَّحَهُ صاحب " البحر" أيضًا، وهو ضعيفٌ.

والراجح ما ذهب إليه الجمهور وهو الموافق للواقع، فإنَّ من المعلوم بالضرورة أنَّ الصَّلوات الخمس فُرضت ليلة المعراج، ونزل جبريل عليه السلام - صبيحة تلك الليلة، فبين للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم كيفيتها، ووقت أدائها بدءًا ونهاية، واستقر الأمر على ذلك.

فلما فرضت صلاة الجمعة بالمدينة حلت محل ظهر ذلك اليوم، فكانت

بدلا منه، وهذا مما لا شك فيه.

والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُصَلِّ الجمعة في السَّفر قطُّ، وإِنَّما كان

يُصلي الظهر؛ لأنّها الأصل.

وينبني على هذه المسألة أمران:

أحدهما: هل الخطبتان بدل من الركعتين؟

روی عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب قال: قال عمر بن الخطاب الخطبة» موضع الرَّكعتين، من فاتته الخطبة صلَّى

أربعا».

وروى ابن أبي شيبة عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثت عن عمر بن الخطاب أنَّه قال: «إنَّها جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يُدرِك الخطبة صلَّى أربعا». إسنادهما صحيح.

وروى البيهقي عن سعيد بن جبير، قال: «كانت الجمعة أربعًا، فجعلت الخطبة مكان الركعتين.

القول السديد

٤٣١

قال ابن حزم وقال عطاء وطاووس ومجاهد: من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة ليصلها إلَّا أربعًا؛ لأنَّ الخطبة أُقيمت مقام الركعتين».

وكذا قال الضّحاك ومكحول: «إنّما قصرت صلاة الجمعة من أجل الخطبة، فمن لم يخطب فليصل أربعًا».

وروى عبدالرزاق عن إبراهيم النخعي، قال: «إذا لم يخطب الإمام يوم الجمعة صلَّى أربعًا».

وروى ابن أبي شيبة عن الحسن، قال: «الإمام إذا لم يخطب صلَّى أربعًا». وروى عبدالرزاق عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: صلَّيتُ مع رجل صلاة الجمعة، فلم يخطب، وصلَّى أربعًا فخطَّأته، فلما سألت عن ذلك، إذا هو قد أصاب. قلت: هذا يدل على انصاف ابن سیرین رحمه الله تعالى. والأمر الثاني: إذا لم يحضر صلاة الجمعة مع الإمام لعذر أو لغيره، صلَّى الظهر أربعًا. قال ابن حزم والجمعة إذا صلاها اثنان فصاعدا، ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، ومن صلاها وحدها صلاها أربع ركعات، يُسر فيها كلها؛ لأنها الظهر» . اهـ

.

وهذا هو الصَّواب؛ لأنَّ الظُّهر هي الأصل كما سبق بيانه، فإذا لم يتيسر

حضور الجمعة وجب الرجوع إلى الأصل، ويؤيد هذا أدلة:

الدليل الأول:

روى الشيخان عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال:

٤٣٢

الفقه

مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصَّلاةِ فقد أَدْرَكَ الصَّلاةَ».

قال الترمذي في "سننه" : باب فيمن يدرك من الجمعة ركعة»، وروى هذا الحديث، وقال عقبه: «هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وغيرهم، قالوا: من أدرك من الجمعة ركعة صلَّى إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسا، صلَّى أربعًا،

وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق».اهـ

وقال البيقهي في "السنن": باب من أدرك من الجمعة ركعة»، وروى الحديث المذكور من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ: «من أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصَّلاةِ فقد أَدْرَكَهَا». قال الزُّهري : والجمعة من الصَّلاة». قال البيهقي: وفي هذه الرواية دلالةٌ على أنَّ لفظ الحديث في الصَّلاة

مطلق، وأنها بعمومها تتناول الجمعة كما تتناول غيرها من الصلوات. اهـ

الدليل الثاني:

روى النسائي من طريق يونس، عن الزهري، عن سالم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن صَلَاةٍ مِنْ الصَّلواتِ فقد أَدْرَكَهَا، إِلَّا أَنَّه يَقْضِي ما فَاتَهُ». مرسل صحيح الإسناد، وهو يشمل صلاة

الجمعة أيضًا. الدليل الثالث:

روى الدارقطني من طريق عبد الله بن نُمير، ومن طريق عبدالعزيز بن مسلم، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: «مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ فقد أَدْرَكَها، وليُضِف إليها أُخْرَى» إسناده صحيح.

القول السديد

٤٣٣

وروى ابن ماجه والدارقطني أيضًا من طريق بقية، ثنا يونس بن يزيد

الأيلي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر به مرفوعا.

قال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله». قلت: عادة المتقدمين ترجيح الإرسال على الوصل، والوقف على الرفع؛ لأجل الاحتياط بدون دليل.

وهذا الحديث صح عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفا، فلا عبرة بما أعله به أبو حاتم وغيره وإن سكت عليه الحافظ ؛ لأنَّ القاعدة: أنَّ الثقة إذا رفع الحديث أو وصله، وجب قبوله.

الدليل الرابع:

روى النسائي من طريق سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن أَدْرَكَ مِن صَلاةِ الجُمُعَةِ رَكْعَةً فقد أَدْرَكَ». قال العلامة أبو الطيب السيد صديق حسن خان القنوجي في كتاب "الموعظة الحسنة بما يخطب في شهور السنة: أخرج النسائي من حديث أبي

هريرة بلفظ : «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ فقد أَدْرَكَ الجُمُعَةَ».

ولهذا الحديث اثنا عشر طريقًا، صحح الحاكم ثلاثا منها، قال في "البدر

المنير": هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث، والباقي ضعيف. الدليل الخامس:

روى الطبراني والبيهقي من طُرُق صحيحة عن ابن مسعود، قال: «من

أدرك من الجمعة ركعة صلَّى إليها أخرى، ومن فاته الركعتان صلَّى أربعًا».

٤٣٤

الفقه

وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبدالله بن معدان، عن جدته، قالت: قال لنا عبد الله بن مسعود: «إذا صَلَّيتُنَّ يوم الجمعة مع الإمام فصلِّين بصلاته، وإذ صَلَّيتُنَّ في بيوتِكُنَّ فَصَلَّين أربعًا».

وروى البيهقي عن نافع عن ابن عمر قال: «إذا أدركت من الجمعة ركعة، فأضف إليها أخرى، وإن أدركتهم جلوسًا فصل أربعًا». إسناده صحيح. وروى عبدالرزاق بإسناد صحيح عن أبي نضرة، قال: جاء رجل إلى عمران بن حصين، فقال: رجلٌ قد فاتته الجمعة كم يُصلّي ؟ قال عمران: ولم تفوته الجمعة؟ فلما ولى الرجل، قال عمران: أما إنَّه لو فاتتني الجمعة صَلَّيتُ أربعًا. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء وطاوس ومجاهد قالوا: «من لم يدرك الخطبة صلى أربعًا».

وروى عبد الرزاق مثله عن قتادة والثوري، قال: وبه نأخذ

وروى عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن علقمة والأسود، قالا: «إذا أدرك الرجل يوم الجمعة ركعة صلَّى إليها ركعة، فإن وجدهم جلوسا صلَّى أربعًا». وروى ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد ، عن حسين بن ذكوان، عن الحسن

وابن سيرين مثله.

وروى عبد الرزاق عن مَعْمَرٍ، عن الزهري وقتادة مثله. وروى هو وابن أبي شيبة من طريق الزبير بن عدي، عن الضحاك مزاحم : : أنَّه صلَّى مع إمامٍ لم يخطب يوم الجمعة، فصلى الإمام ركعتين. قال:

فقام الضحاك ، فصلى ركعتين بعدما قضى الصَّلاة، جعلهنَّ أربعًا.

بن

قال النَّوريُّ : وقال غيره - أي غير الزبير - : استقبل الصلاة أربعًا، ولم يعتد

القول السديد

٤٣٥

بما صلَّى الإمام، وتقدَّمت آثار بهذا لمعنى في ترجمة الخطبة بدل ركعتين. الخلاصة: يستخلص من هذه الأحاديث والآثار، ثلاثة أمور: أحدها: أنَّ الخطبة شرط في صحة الصَّلاة ركعتين، فإذا صلَّى جماعة يوم

الجمعة بدون خُطبة، وجب أن يصلوا أربعًا.

ثانيها: أن من أدرك مع الإمام أقل من ركعة، وجب أن يُصلي أربع ركعات. ثالثها: أنَّ من فاتته الجمعة، صلَّى الظهر أربع ركعات.

ويُستخلص منها أيضًا:

الدليل السادس:

وهو الإجماع، قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن من فاتته الجمعة من المقيمين، أن يصلوا أربعًا» . اهـ ( ص ٤١) من كتاب "الإجماع".

(تنبيه) قال المالكية من لم يذهب لحضور الجمعة فلا يجوز له أن يُصلي الظهر حتى تنتهي صلاة الجمعة، وهذا مبني على قول مالك: أنَّ الجمعة أصل، فلا يجوز الانتقال إلى البدل إلَّا بعد تعذر الأصل.

وتقدم قول الجمهور: أنها بدل، وعليه تجوز صلاة الظهر قبل انتهائها.

إيراد وجوابه

قد يخطر بالبال حديث عمر : صلاة الأَضْحَى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان». وقد يظن أنه

معارض لما ذكر هنا من الأحاديث والآثار.

ولو صح أنَّه معارض لها، لوجب ترجيحها عليه لكثرتها وصحة أسانيدها

٤٣٦

الفقه

ووقوع الإجماع عليها، لكن من تأمل وأمعن النظر في الأدلة لم يجد بينها

معارضة، وبيان ذلك من وجوه

الأول: أنَّ لفظ صلاة الجمعة في عرف الشرع، اسم لمجموع الصَّلاة والخطبة والجماعة، ولذلك لا يقال: صلاة السبت أو صلاة الاثنين؛ لأنه لا يشترط فيها خُطبة ولا جماعة، فالمراد بصلاة الجمعة في كلام عمر، تلك الأمور

مجتمعة.

وابن حزم الذي استدل بهذا الحديث على نفي وجوب الخطبة، اعترف بأنَّ الجماعة من مسمى الجمعة، حيث قال: من صلاها وحده صلَّى أربعا لأنها ظهر»،

وهو مخطيء في نفي الخطبة، كما سبق بيانه، وقد ثبت حديث يشير إلى ما قررته. روى أبو داود وابن خزيمة عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في حديث: «ومَن لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ كَانت لَهُ ظهرًا»، فهذا الحديث يُشير إلى أنَّ الجمعة إذا فقدت شرطها تكون ظهرا، ولا تبقى حينئذٍ جُمعة، والظهر أربع ركعات.

وروى عبدالرزاق عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما الذي أدركه الإنسان

يوم الجمعة قصر ، وإلّا أو فى الصلاة؟ - يعني صلَّى أربعًا - قال : الخطبة. الثاني: سبق حديث ابن ماجه من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في التبكير إلى

الجمعة، وقال في آخره: «فمن جاء بعد ذلك، فإنَّما يجيءُ لحقِّ الصَّلاة». أنَّ أفاد الحديث أن ثواب التبكير ينتهي بخروج الإمام، وهذا يدل على الذكر، كما سبق بيانه وأنّها من مُسمَّى الجمعة ولو كانت صلاة

الخطبة هي

القول السديد

٤٣٧

الجمعة ركعتين فقط كما فهم من كلام عمر خطأ، لكانت الملائكة تطوي الصحف عند إقامة الصَّلاة لا قبلها، ولما كان التبكير يسقط بخروج الإمام. الثالث: تقدَّم حديث ابن عباس: أذن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بالجمعة قبل أن يُهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، وأنه كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بالمدينة. وهو يُصرِّح أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يستطع التجميع بمكة، ولو كانت الجمعة ركعتين فقط، لاستطاع أن يصليها حيث كان في بيته أو في الحرم.

الرابع: ثبت في الصحيحين: أنَّ عثمان أتى إلى الجمعة وعمر يخطب، فأنكر

عليه تأخره، فاعتذر عثمان.

وهذا دليل على أنّهما كانا يعرفان وجوب الخطبة، وأن المقصر في حضورها يستحق الإنكار، ولو لم تكن واجبةً لما أنكر عمر، ولما اعتذر عثمان، وهذا في

غاية الوضوح.

إعتراض وجوابه

اختار الشوكاني أنَّ الشَّخص إذا فاتته صلاة الجمعة صلاها ركعتين، واحتج بأنَّ القضاء يكون مثل الأداء لا زائدا عليه، وهذا من شذوذه رحمه الله.

وهو مردود بوجهين:

الأول: مخالفته للإجماع الذي حكاه ابن المنذر.

الثاني: أن «القضاء»: فعل العبادة بعد ،وقتها كصلاة العصر بعد المغرب والذي تفوته الجمعة فيصليها ظهرًا لا يكون قاضيًا، بل مُعيدًا لها في عُرف الأصوليين؛ لأنه أعاد عبادة في وقتها لفقد شرطها، والإعادة تزيد على الفعل

٤٣٨

الفقه

المعاد كما هو معلوم، وعجيب أن يخفى على الشوكاني مع أنَّه أُصولي متين.

اجتماع الجمعة والعيد

عن زيد بن أرقم -وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: نعم، صلَّى العيد أول النَّهار، ثُمَّ رخص في الجمعة، فقال: «مَن شَاء أن يُجَمَّعَ فَليُجَمِّع».

ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وصححه علي بن

المديني، وفي إسناده إياس بن أبي رملة، وهو مجهول.

وروى البيهقي عن ذكوان أبي صالح قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوم الجمعة ويوم عيد، فصلَّى ثُمَّ قام فخطب الناس، فقال: «قد أَصَبْتُمْ ذِكْرًا وخَيْرًا وَإِنَّا مُجَمَّعُونَ فَمَن أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ فَليَجْلِسْ - أي في بيته - ومَن أحَبَّ أَنْ يُجَمَّعَ فَليُجَمِعْ». هذا مرسل صحيح الإسناد وهو مُخصّص لعموم الحديث الذي قبله، حيث بين أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال في خطبة العيد: «قد أَصَبْتُمْ ذِكْرًا وخَيْرًا» والذكر هو الخطبة، فكانت الرخصة خاصة بمن صلى العيد، ولا تعم جميع الناس.

يؤيد ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عمر قال: اجتمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم فِطْرِ ويوم جمعة، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم العيد، ثُمَّ أقبل عليه بوجهه فقال: «يا أيها النَّاس قد أَصَبْتُمْ ا خَيْرًا وأَجْرًا، وإِنَّا مُجَمَّعُونَ فمَن أراد أنْ يُجمَّعَ معنا فليُجَمِّع، ومَن أحبَّ أَنْ يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ فَليَرْجِعْ. في إسناده راويان، قال الحافظ الهيثمي : «لم أجد من

القول السديد

٤٣٩

ترجمهما ؛ فهما في عداد المجهول.

وقد تقرّر في علم الحديث والأصول: أنَّ المرسل إذا اعتضد بحديث موصول - ولو ضعيفًا - تبيَّنت ،صحته، ويُعمل به كما يُعمل بالحديث الصحيح، وعلى هذا فمرسل أبي صالح وحديث ابن عمر يقضيان بأن

الرخصة تخص من حَضَرَ صلاة العيد، ويؤيدهما فعل عثمان رضي الله عنه. روى مالك عن الزُّهريّ، عن أبي عبيد مولى عبدالرحمن، قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، فجاء فصلَّى ثُمَّ انصرف فخطب فقال: إنَّه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن أحبَّ من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فليرجع، فقد أذنت له.

مناقشة الشوكاني

قال في "نيل الأوطار"، في الكلام على حديث زيد بن أرقم: قوله: «ثم رَخَّصَ في الجمعة» فيه أنَّ صلاة الجمعة يوم العيد يجوز تركها، وظاهر الحديثين عدم الفرق بين من صلى العيد ومن لم يُصَلِّ، وبين الإمام وغيره؛ لأنَّ قوله: لمن شاء» يدل على أنَّ الرخصة تعم كل واحدٍ» . اهـ

وما استظهره غير ظاهر، بل الظاهر وهو الواقع: أنَّ الرُّخصة لمن حضر صلاة العيد، كما ثبت في مرسل أبي صالح وحديث ابن عمر، وهو المعقول من جهة المعنى، فإنَّ من يُصَلِّي العيد في الجبَّان ربما يلحقه مشقة في العودة إلى الجمعة، لا سيما والجبان الذي فيه المصلَّى يكون بظاهر البلد، فرخص له الشارع أن يُصلي الظهر في بيته.

٤٤٠

الفقه

أما من لم يصل العيد فكيف يُرخص له في ترك الجمعة؟! والرخصة إنَّما تكون لعذر كما تقرر في الأصول، والعيد ليس بعذر؛ لأنه لا مشقة في وجوده. فالشوكاني كان في هذه المسألة ظاهريًا أكثر من الظاهرية أنفسهم، ولم ينظر

إلى معنى الرخصة وكيفية تطبيقها مع أنه أصولي بارع.

وبالغ في ظاهريته، فقال: ويدل على عدم الوجوب - أي عدم وجوب الجمعة - وأن الترخيص عام لكل أحدٍ، ترك ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذ ذاك، وقول ابن عباس: «أصاب السُّنَّة»، وعدم الإنكار عليه من أحدٍ من الصحابة» . اهـ

فعل ابن الزبير

روى النَّسائيُّ عن وَهْبٍ بن كَيْسانَ، قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخَّر الخروج حتى تعالى النَّهار، ثُمَّ خرج فخطب، ثُمَّ نزل فصلَّى ولم يُصل للناس يوم الجمعة، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: «أصاب السُّنَّة». ولأبي داود عن عطاء، قال: اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير، فقال: «عيدان اجتمعا في يوم واحد»، فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة، ولم يزد عليهما حتى صلى العصر.

وروى أبو داود عن عطاء بن أبي رباح، قال: صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار، ثُمَّ رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا، فصلينا وحدانا،

وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: «أصاب السُّنَّة». وهذه الرواية لم يذكرها صاحب "المنتقى"، فلذلك لم يتكلم عليها

القول السديد

٤٤١

الشوكاني. وفيها عنعنة الأعمش، وهو مدلّسٌ.

قال الخطابي: «أما صنيع ابن الزبير، فإنَّه لا يجوز عندي أن يُحمل إلَّا على مذهب من يرى تقديم صلاة الجمعة قبل الزَّوال، وقد روى ذلك ابن مسعود،

وقال عطاء كل عيد حين يمتد الضُّحى: الجمعة والفطر والأضحى.

وحكى إسحاق بن منصور عن أحمد أنَّه قيل له: الجمعة قبل الزوال أو بعده؟ فقال: إن صُلِّيت قبل الزَّوال فلا أعيبه . وكذلك قال أبو إسحاق، فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير، صلَّى الركعتين على أنها جمعة، وجعل العيدين في معنى التبع لها » . اهـ

وقال المجد ابن تيمية معلقا على رواية وهب بن كيسان: «إنَّها وجه هذا أنَّه

رأى تقدمة الجمعة قبل الزَّوال، فقدمها واجتزأ بها العيد» . اهـ

قال الشوكاني: «لا يخفى ما في هذا الوجه من التعشف» . اهـ

قلت: لا تعسف فيه، بل ظاهر رواية وهب تؤيده، حيث قال: «فأخَّر الخروج حتى تعالى النَّهار، فما أخر الخروج إلا ليصلي الجمعة، مع أنه يعلم أنَّ السُّنَّة التعجيل بصلاة العيد، ثمّ إنَّه قدم الخطبة، وهو دليل ثانٍ على أنه صلى الجمعة. ففعل ابن الزبير لا دليل فيه على إسقاط الجمعة بالعيد، بل هو صلى

الجمعة، وجعل العيد تبعا لها، ومنطويًا فيها.

توضیح قول ابن عباس: «أصاب السنَّة»

قول ابن عباس: «أصاب السُّنَّة» يحتاج إلى توضيح وبيان، فإن كان المراد به ما فهمه الشوكاني : أنه صلى العيد وترك الجمعة، فهذا خلاف السُّنَّة من جهة أنه أخر صلاة العيد، ومن جهة أنَّه لم يصل الجمعة وهو إمام، ومن جهة أنَّه لم

٤٤٢

الفقه

ينبه المصلين إلى الرُّحْصَةِ وكان تنبيههم لازما.

وإنَّما الذي أصاب السُّنَّة هو عثمان، فإنَّه صلى العيد مبكرًا، وبين الرخصة

للمصلين في ترك الجمعة، وجمع هو ومن معه.

تقديم الجمعة سُنَّة

وإن كان المراد به ما فهمه الخطابي وابن تيمية أنه صلى الجمعة وأنه أصاب السنة في تقديمها قبل الزَّوال؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم صلاها كذلك قليلًا، فهذا صحيح، وهو المؤيَّد بالقواعد، لا ما فهمه الشوكاني رحمه الله

تعالى.

قال عطاء في روايته التي تقدمت: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير في يومٍ واحدٍ، فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليها

حتى صلى العصر. قوله: «فجمعهما جميعًا»، يعني أنه صلَّى الجمعة وجعل العيد تبعا لها، لا معنى الجمعهما إلا ذلك، ولهذا قدَّم الخطبة كما مر في رواية وهب بن كيسان. ولهذا قال : لم يزد عليها حتى صلى العصر؛ لأنَّه صلَّى الجمعة، وهذا واضح

جدا.

وقول الشوكاني تعليقا على قول عطاء هذا: «قوله: «لم يزد عليهما حتى صلى العصر» ظاهره أنه لم يصل الظهر غفلة كبيرة منه عن قول عطاء: فجمعهما جميعا فصلاهما ركعتين»، إلا أن يكون فهم من عبارة عطاء أنَّ ابن الزبير صلى العيد وجعل الجمعة تبعا له، وهذا فهم يجل عنه مقام الشوكاني. وقد غاب عنه أن رواية عطاء هذه مخدوش في صحتها؛ لأنَّ في سندها

القول السديد

٤٤٣

عنعنة الأعمش كما سبق، وهو مدلّس.

ثُمَّ قال مسترسلا في استنباطه من فعل ابن الزبير: «وفيه أنَّ الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة، لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء، حكى ذلك عنه في "البحر" والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأنَّ الجمعة الأصل، وأنت خبير بأنَّ الذي افترضه الله على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير

عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم» . اهـ ويظهر أنَّ أحدا سبق إلى مثل هذا الاستنباط، فكتب العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني يردُّ عليه بقوله: «ولا يخفى أ أن عطاء أخبر أنَّ ابن الزبير لم يخرج لصلاة الجمعة، وليس ذلك بنص قاطع أنَّه لم يصل الظهر في منزله، فالجزم بأنَّ مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيدا على من صلَّى صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح، لاحتمال أنَّه صلَّى الظهر في منزله، بل في قول عطاء: أنَّهم صلّوا وُحدانًا -أي الظهر - ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يُقال: إنَّ مراده صلاة الجمعة وحدانًا، فإنَّها لا تصح إلا جماعة إجماعا، ثم القول بأنَّ الأصل صلاة الجمعة والظهر بدل عنها قول مرجوح ، بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء والجمعة متأخر فرضها ، ثُمَّ إذا فاتت وجب الظهر إجماعا فهي البدل عنه، وقد . حققناه في

رسالة مستقلة» . اهـ ، وكلامه نفيس.

وقد بينت أنَّ ابن الزبير صلَّى الجمعة، ولذلك لم يخرج من منزله، وعطاء صلى الظهر مُنفَرِدًا كما صرح بذلك، فنسبة القول إليه بسقوط الجمعة والظهر

٤٤٤

الفقه

عمَّن صلى العيد غلط ، بل لا يصح القول بذلك عنه، ولا عن غيره.

مسألة دقيقة

آية الجمعة أوجبت الخطبة بإيجاب السَّعي إليها، حسب تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولم تتعرّض لإيجاب الصَّلاة لأنها فُرضت ليلة الإسراء، وحملها على الصلاة كما قال ابن حزم وكثير من المفسرين مردود بالتفسير النبوي الصَّحيح، وبقاعدة أصولية وهي: «إذا دار الأمر بين التأكيد والتأسيس فحمله على الأخير أولى؛ لأنَّه يُفيد حُكْمًا جديدًا»، واستفيد كون صلاة الجمعة ركعتين من حديث ابن عباس السابق، ومن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أنَّ الخطبتين بدل من الركعتين.

فقول الشوكاني: وأنت خبير بأنَّ الذي افترضه الله على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة» إن كان مستندًا في ذلك إلى آية الجمعة فهو مخطيء؟ لأنها لم تتعرض لإيجاب الصَّلاة، كما تبين. ولو سلمنا أنَّ المراد بالذكر في الآية الصَّلاة على القول المخالف للحديث الصحيح، فإيجاب صلاة الجمعة لم يكن مبتدأ في ذلك اليوم الذي نزلت فيه الآية، بل سبقه إيجاب الظهر ليلة الإسراء، فكان إيجاب صلاة الجمعة بدلًا عن الظهر حتما لا مفر من القول بذلك لأنه الواقع. وإذا فاتت الجمعة أو تُركت وجب الرجوع إلى الأصل الذي هو الظهر،

وهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى دليل، وعليه وقع الإجماع قبل الشوكاني. ومع ذلك تعسفه بذكر الدليل الذي صرح بأنه لا يعلمه، وهو ثلاثة:

القول السديد

٤٤٥

الأول: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ومَن لَغَا وَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ

كانت له ظهرًا» وقد مرَّ تخريجه .

فيه إشارة واضحةٌ إلى أنَّ الجمعة إذا فقدت شرطها، أو تركت فإنها تصير

ظهرًا، فيصلي أربع ركعات، وفيه أيضًا تأييد للقول بأنَّ الظهر أصل. الثاني: مفهوم قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فَمَن شاء أن يُجَمعَ فليُجَمِّع يُفيد بطريق المنطوق أن الرخصة في ترك التجميع، وبطريق المفهوم ا أنَّ الظهر لا رخصة في تركه.

وعلى هذا المفهوم انبنى الدليل الثالث: وهو إجماع الفريقين القائلين بأصلية الظهر وبأصلية الجمعة على أنَّ صلاة الظهر واجبة على من لم يصل الجمعة في يوم العيد وفي غيره، وعطاء لم يصح عنه خلاف ذلك كما سبق التنبيه عليه. وقد تساهل الشوكاني كثيرًا حيث اختار تعميم الرخصة في ترك الجمعة لمن لم يحضر العيد، واختار سقوط الظهر عمَّن ترك الجمعة لأدلَّةٍ مختلف في صحتها وفي دلالتها على مطلوبه، وما كان ينبغي له ذلك وهو المتمكن في علم الأصول العارف بقواعد الاستنباط، ولكن الإنسان لا يخلو من الخطأ والنسيان والكمال الله تعالى، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وقع الفراغ منه، يوم السبت الموافق للواحد والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وأربعمائة وألف.

١٣ - إستماع الصُّم

-

لإِثْبَاتِ تَحريم غُسْلِ الابن للأُم

إسماع الصم

٤٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين، وبعد: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يَقْبِضُ الله العِلْمَ انْتِرَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن النَّاس، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلماءِ، حَتَّى إذا لم يُبْقِ عالما اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». صَدَقَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم. خَلتِ البلاد من العلماء وتصدر للفتوى من لا يُحسنها ولا يستحقها، وكثر بفتاويهم الجهل والضلال، وأوقعوا من استفتاهم أو سمع كلامهم في مخالفة أحكام الشريعة مخالفة صريحةً قبيحةً لا يجوز السكوت عليها، وصدق عليهم قول الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لنفتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: ١١٦]. وتلك الفتاوى الآثمة كثيرة يعسر تتبعها، لكني أفردت الكلام على اثنتين منها لأني سُئلت عنها وألح عليَّ الطلبة وغيرهم في الكتابة عليهما لعظم

ضررهما.

ولولا ذلك ما كتبت فيهما حرفًا؛ لأن الإنصاف غير موجود، والاعتراف بالخطأ من المخطئ مفقود ، وإلى الله المشتكى من ذهاب العلماء ومن كثرة الجهل

والاختلاف.

وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

٤٥٠

أصول الفقه

الفتوى الأولي

شخص متزوج وأراد أن يأخذ امرأة أخرى وسأل: هل يجوز له أن يتزوج على امرأته بنت أختها؟

فأجابه بعض المتفيهقين بالجواز، واستدل بأنَّ الله حرم الجمع بين الأختين فقط، وعلمت أن العمل بهذا شائع بين كثير من الناس يجمعون بين المرأة

وخالتها، وهذا النكاح باطل؛ لأنه حرام بالسُّنَّة المتواترة وبالإجماع. أما السُّنَّة: فروى أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تُنكَحَ المرأة على عمَّتِها أو خالَتِها». وفي رواية لهم أيضًا: «نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يُجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها».

وروى أحمد والبخاري والترمذي عن جابر قال: «نهى النبيُّ صلَّى الله عليه

وآله وسلم أن تُنكَحَ المرأة على عمتها أو خالتها».

وفي رواية: «نهى أن تُنكَحَ المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها». زاد أبو هريرة في صحيح البخاري: فنرى - أي: نعتقد خالة أبيها بتلك المنزلة». يعني أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وخالة أبيها. وللحديث طرق عن علي عليه السلام، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، وأبي أمامة، وسمرة، وأبي الدرداء، وعتاب بن أسيد، وسعد بن أبي وقاص، وزينب امرأة

إسماع الصم

ابن مسعود.

٤٥١

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وأبي يعلى، والبزار، والطبراني، وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصلةً» . اهـ فالحديث متواتر.

وأما الإجماع: فقال الإمام الشافعي: تحريم الجمع بين مَن ذُكر، هو قول من لقيته من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك». اهـ

وقال الترمذي بعد رواية الحديث: العمل على هذا عند عامة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا، أنه لا يحل للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها». اهـ

وقال ابن المنذر : الست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسُّنَّة واتفق أهل العلم على القول به لم يضر خلاف من خالفه . اهـ

قال الحافظ ابن حجر: وكذا نقل الإجماع ابن عبد البر، وابن حزم، والقرطبي، والنووي، لكن استثنى ابن حزم - عثمان البتي، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة واستثنى القرطبي الخوارج، وقال: ولا يعتد

بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين» . اهـ

وقال القاضي عياض في شرح مسلم : (وأجمع المسلمون على الأخذ بهذا

النهي إلا طائفة من الخوارج لا يُلتفت إليها». اهـ

٤٥٢

أصول الفقه

وفي "صحيح مسلم " قال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة». قال عياض: «وهذا صحيح؛ لأن كلا منهما يطلق عليه عمَّةٌ وخالةٌ وإن عَلَون». ونقل في "البحر الزخار " القول بالجواز عن البتي وبعض الخوارج والروافض. فتبين من هذا إجماع السلف وأهل السُّنَّة وأصحاب المذاهب المتبوعة ومعهم الزيدية على المنع ، فمن عقد على امرأة وعمتها أو خالتها، فالعقد باطل لا يصح، ولو عقد على إحداهما بعد الأخرى فالعقد الأخير باطل، وكذلك لا يصح الجمع بين المرأة وعمَّة أبيها ، أو خالة أبيها، ومن جمع بينهما فهو زان، يجب عليه العقوبة مع التفريق بينهما، والله أعلم.

الفتوى الأخرى

وهي فتوى آئِمةٌ أيضًا، وقد عمَّ البلاء بها عند بعض العامة الذين لا يعرفون قبيلا من دبير، يعمد أحدهم إلى أمه حين تموت فيغسلها بنفسه ولا يدعوا امرأة تُغسلها.

وهذه بدعة لم يسبق لها مثيل ولذلك سميتها: «بِدْعَةُ البِدَع» فإنَّ البدع على

كثرتها لم يكن فيها هذا النوع العجيب الذي لا يخطر على بال إنسان. ولا أدري المصلحة التي دعت إليها؟ إلا أن تكون تلك المصلحة عدم دفع أجرة الغاسلة!

وإن في غسل الرجل لامرأته خلافًا بين العلماء مع أنه يجوز له من كشف عورتها ما لا يجوز لابنها، وقد ماتت بنت النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حياته فلم يُغسلها، لكن دعا أُمَّ عطية التي تُغسل النِّساء وعلمها كيفية غسلها

إسماع الصم

٤٥٣

فغسلتها وهو خارج البيت وقال لها: إذا فَرَغْتِ فَأَعْلِميني». فلما فرغت

أعلمته فأعطاها إزاره وأمرها أن تلف بنته فيه.

ففي "الصحيحين" وغيرهما عن أُمّ عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم حين توفيت ابنته فقال: اغْسِلُنَها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك بماء وسِدْرٍ واجعلنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا فإذا فرغتُنَّ فَآذِنَّني». فلمَّا فَرَغْنا آذَنَّاهُ فألقَى إلينا حِقْوَهُ فقال: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ». يعني الْفِفْنها به.

قال الحافظ ابن حجر: «وهو أصل التبرك بآثار الصاحين». اهـ والحقو بكسر الحاء وفتحها وبسكون القاف الإزار.

فالذي فعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هو الواجب في حقٌّ مَن ماتت له امرأةٌ ذات تحرم منه كأمه أو بنته أو أخته، يدعو مَن يُغسلها مِن النِّساء

ويُجهزنها، ولا يجوز أن يباشر غسلها بنفسه، فإن فعل كان عاصيا انما عند الله

تعالى لأنه فعل حراما بالإجماع.

نصوص العلماء في الموضوع

قال ابن قدامة في "المغني": «فصل: وليس لغير من ذكرنا من الرجال غسل أحد من النساء، ولا لأحدٍ من النساء غسل غير من ذكر من الرجال،

وإن كنَّ ذات رَحمِ محرم، وهذا قول أكثر أهل العلم.

وقد رُوي عن أحمد أنه حُكي له عن أبي قلابة غسل ابنته، فاستعظم ذلك ولم يعجبه، وذلك أنها محرّمةٌ حال الحياة فلم يُجز غسلها كالأجنبية وأخته من

٤٥٤

أصول الفقه

الرضاع، فإن لم يوجد من يُغسلها، فقال مُهَنَّا: «سألت أحمد عن الرجل يغسل أخته إذا لم يجد نساء؟ قال: لا. قلت: فكيف يصنع ؟ قال: يغسلها وعليها ثيابها يصب الماء صبا، قلت لأحمد: وكذلك كل ذات مَحرَمٍ تُغسل وعليها ثيابها؟

قال : نعم وذلك لأنه لا يحل مسها. والأولى أن تُيَمَّمَ الأجنبية. وقال الحسن، ومحمد، ومالك، والشافعي: لا بأس بغسل ذات محرمه عند

الضرورة».

وقال النووي في "المجموع" بعد أن ذكر أن المرأة إذا ماتت وليس لها زوج يُغسلها النّساء وأولا هنَّ ذوات محارمها كبنتها وأختها: «فإن لم يكن نساء أصلا غسلها الأقرب فالأقرب من رجال المحارم على ما سبق، فيما إذا مات رجل فيقدم الأب ثُمَّ الجد ثُمَّ الابن على الترتيب السابق».

ثُمَّ قال: «فرع: في مذاهبهم في غسل الرجل أمه وبنته وغيرهما من محارمه: ذكرنا أن مذهبنا جوازه بشرطه السابق يعني فقد النساء أصلا- وبه قال أبو قلابة والأوزاعي ومالك، ومنعه أبو حنيفة وأحمد، دليلنا أنها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة».اهـ

وفي "فتح القدير " من كتب الحنفية ما نصه: «وإذا ماتت المرأة ولا امرأة فإن كان محرم من الرجال يممها باليد والأجنبي بالخرقة، ويغض بصره عن

ذراعيها».

وفي "المدونة الكبرى": قال مالك: إن ماتت المرأة مع رجال لا نساء

معهم، فإن كان فيهم ذو محرم منها غسلها من فوق ثوب، ولا يُفْضِ بيده

إسماع الصم

٤٥٥

الجسدها، وإن لم يكن ذو محرم يمم وجهها ويديها إلي الكوعين». اهـ وهذا في "مختصر الشيخ خليل" أيضًا ونصه: « والمرأة: أقْرَبُ امرأةٍ ثُمَّ أجنبية، ولُكَ شَعْرُهَا ولا يُضَفَرُ، ثُمَّ عَرَمٌ فوق ثوبِ ثُمَّ يُمَّمَتْ لِكُوعَيْهَا». اهـ وانظر "شرح الزرقاني" عليه.

وفي "أقرب المسالك" و"شرحه" للعلامة الدردير ما نصه: «فإن لم يكن للمرأة زوج ولا سيّد فأقرب امرأة لها تُغسلها فالأقرب لها، فتقدم البنت فالأم فأخت شقيقة ... إلخ، ثُمَّ بعد من ذكرت أجنبيةً، ثُمَّ إن لم توجد أجنبيةٌ غَسَّلها محرم ويستر وجوبًا جميع بدنها ولا يباشر جسدها بالدلك بل بخرقه كثيفة يلفها الغاسل على يده ويدلك بها، ثُمَّ إذا لم يوجد تحرمٌ يُممَت الميتة لكُوعَيْها لا لِرْفَقَيْها» . اهـ

وقال ابن رشد في بداية المجتهد: «وأما من يجوز أن يُغسل الميت فإنهم اتفقوا على أنَّ الرجال يُغسلون الرجال والنساء يُغسلن النِّساء، واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين، على ثلاثة أقوال: فقال قوم: «يُغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق النياب». وقال قوم: يُيمم) كلَّ واحدٍ منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء». وقال قوم: «لا يُغسل أحدهما صاحبه ولا يُتمّمه، بل يدفن من غير غسل، و به قال الليث بن سعد».

٤٥٦

أصول الفقه

وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر أو الأمر على النهي، وذلك أن الغسل مأمور به ونظر الرجل إلى بدن المرأة، والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه، فمن غلب النهي تغليبًا مطلقا أعني لم يقس الميت على الحي في كون طهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال: «لا يُغسل واحد منها صاحبه ولا يُيَمّمه». ومَن غلب الأمر على النهي، قال: «يُغسل كل واحد منهما صاحبه». أعني غلب الأمر على النهي تغليبًا مطلقا، ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أنَّ النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكلا الصنفين، ولذلك رأى مالك أن يُيَمّم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط، لكون ذلك منها ليس بعورة، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين؛ لأنه ليس في الرجل عورةٌ إلَّا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور، فأما مالك فاختلف قوله في هذه المسألة، فمرة قال: «يُيَمّم كلُّ واحدٍ منهما صاحبه» قولا مطلقا، ومرة فرق في ذلك بين المحارم ،وغيرهم ومرةً فرَّق بين ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصّل عنه في ذوي المحارم ثلاثة أقوال:

أشهرها: أنه يُغسل كل واحد منهما صاحبه على النياب.

والثاني: أنه لا يُغسل أحدهما صاحبه لكن يُيمّمه مثل قول الجمهور. والثالث: الفرق بين الرجال والنساء، أعني تُغسل المرأة الرجل ولا يُغسل

الرجل المرأة.

إسماع الصم

٤٥٧

فسبب المنع: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لا يحل له أن ينظر إلى مواضع الغسل من

صاحبه، كالأجانب سواء.

وسبب الإباحة: أنه موضع ضرورة، وهم أعذر في ذلك من الأجنبي. وسبب الفرق: أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال، ولم يحجب الرجال عن النساء».اهـ وهو تحقيق نفيس.

الخلاصة

يتلخص مما بيناه ونقلناه : أنَّ غسل الرجل لامرأة ذات تحرم لا يجوز، بل هو حرام بلا خلاف، وإنما حصل الخلاف في حالة الضرورة، ومع ذلك لم يجز أحد من العلماء أن يفضي الرجل إلي بدن ذات تحرمه، أو ينظر إليها وهي مُجرَّدة من الثياب، بل يُغسلها بثيابها ويلف على يده خرقة يدلكها بها. والله يَقُولُ الْحَقِّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: ٤].

٤٥٨

تتمة

أصول الفقه

أوجب الله الاستئذان على الأبوين والمحارم في قوله تعالي: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَنْزِنُوا كَمَا اسْتَتَذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [النور: ٥٩] أخرج ابن جرير عن زيد ابن أسلم: أنَّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أستأذن على أُمي؟ قال: «نعم، أتحبُّ أن تراها عريانة؟!».

وروى مالك في "الموطأ"، وابن جرير، والبيهقي في "السنن": عن عطاء بن يسار أنَّ رجلا قال: يا رسول الله أستأذن على أُمي؟ قال: «نعم» قال: إني معها في البيت، قال: استأذن عليها قال: إني خادمها أفأستأذن عليها كلما

دخلت؟ قال: « أتحب أن تراها عُريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها ». وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في "الأدب المفرد"، والبيهقي: عن حذيفة رضي الله عنه : أنه سئل : أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم إن لم تفعل رأيت منها ما تكره .

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: ليستأذن الرجل على

والدته، فإنما نزلت: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُم في ذلك.

رضي

وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في "السنن": عن ابن مسعود

الله عنه : أنَّ رجلا سأله أستأذن على أُمِّي؟ فقال: نعم، ما على كل

أحيانها تحب أن تراها».

وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في "الأدب المفرد عن جابر رضي ا

إسماع الصم

٤٥٩

قال: «ليستأذن الرجل على والده وأُمه وإن كانت عجوزا، وأخيه وأخته

وأبيه».

وروى سعيد بن منصور، والبخاري في "الأدب"، وغيرهما: عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في

حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت، أستأذن عليها؟

قال: نعم ، إِنَّ الله يقول: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَعْذِنُوا كَمَا

اسْتَذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ، فالإذن واجب على خلق الله أجمعين. أفادت هذه الأحاديث والآثار وجوب الاستئذان على الأُم لئلا يراها

ولدها عريانة، وهذا مستحسن في عرف الناس وعادتهم أن يدخل الرجل على والدته وغيرها من محارمه وهنَّ في ثيابهنَّ مستورات غير عارياتٍ، وهو أدعى للحشمة والوقار، فكيف يجوز للرجل أن يدخل على أُمه وهي على المغسل عريانة ؟! وهل هي تحب أن يراها كذلك ؟

هي بالضرورة لا تحب ذلك ولا تقبله، فهو بعمله عاص لها ومخالف لرغبتها وهذا نوع من العقوق، بل لو لم يحرم الشرع غسل الرجل لأمه الميتة،

كانت المروءة والكرامة تأبيانه وتستقبحان عمله.

والإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: «لو أعلم أن الماء البارد ينقص

مروءتي ما شربته».

ذلك أن الرجل يعيش في المجتمع بمروءته وكرامته محترما مقدرًا، فإذا

٤٦٠

أصول الفقه

فقدهما فقد الاحترام والتقدير، فأي مروءة وأي كرامة لمن يدخل على أُمه وهي ميتة على المغسل عريانة، ويفضي بيده إلي ثديها وصدرها وفخذيها وفرجها وهو يُغسلها ؟!!

تالله إنَّ من يقوم بهذا العمل الشائن لهو أشبه بالحيوان الأعجم الذي لا يدرك ولا يعقل، ويجب أن يُعزّر ويُؤدَّب؛ لانتهاكه حرمة والدته، وامرأة الأب مثل الأم سواء؛ لأنَّ الشرع حَرَّم على الرجل النظر إلى بدن امرأة كان أبوه يستمتع بها، وجعل ذلك مقتا والعياذ بالله.

(ملحوظة): أولئك الجهلة الذين يُغسلون أُمهاتهم لا يلتزمون بحالة الضرورة التي نص عليها العلماء، وهي مفقودة لكثرة النساء الغاسلات لكنهم اتخذوا ذلك العمل القبيح ديدنا لهم وعادةً وتركوا حكم الدين وراءهم

ظهريا، فماذا أعد الله لهم من أليم العذاب؟

إنه سبحانه المنفرد بعلم ذلك، والمجازي كل نفس بما كسبت هنالك.

فهرس الموضوعات

الفهرس

مقدمة .

فهرس الموضوعات

۱ - ذَوْقُ الحَلاوَةِ ببيانِ امْتِناعِ نَسْخِ التَّلَاوَةِ.

هذا البحثُ مما لم يُسبَق المُصنِّفُ إليه..

٤٦٣

۹

استشهاد المصنف بقول ابن مالك رحمه الله: (وإذا كانت العلوم منحًا إلهيَّة، ومواهب اختصاصيَّةً، فغير مُستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخرين ما عشر فهمه

على كثير من المتقدمين».. حقيقة النَّسْخِ .

لفظُ النَّسْخِ له ثلاثةُ مَعَانٍ في اللغة..

جواز النسخ ووقوعه..

حكمة النسخ في الأحكام .

دخول النسخ في هذه الأحكام ضروري لا بد منه .

أقسام النسخ ...

هل تنسخ التلاوة؟ ..

أمثلة لما قيل بنسخ تلاوته.........

الأسباب التي اقتضت امتناع نسخ التلاوة .

إشكال: حول تعارض نسخ التلاوة مع كلام الله القديم.

تعريف الحكم الشرعي..

9.

۱۰

۱۰

۱۰

۱۱

۱۱

۱۲

۱۲

۱۳

۱۷ .......

۲۱

۲۱

الجواب عن آيتين: الأولى: قول الله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ

٤٦٤

أصول الفقه

بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِها .

۲۲

.......

ما رُوي عن الصحابة والتابعين من حمل النسخ في الآية على نسخ اللفظ

والتلاوة، يردُّه أمران ....

أمر ثالث يردُّ ذلك التفسير .

۲۳

٢٤

الآية الثانية: قوله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ...

ما ينسخ من الأحكام.

أقسام الحكم الشرعي.

قد ينسخ الحكم مرتين..

الواجب إذا نسخ لا يعود واجبًا .

الحِكْمَةُ من عدم عودة الواجب بعد نَسْخِهِ .

خاتمة الكتاب ..

٢٤

٢٥

٢٥

٢٦

۲۷

۲۷

۲۸

فائدةٌ مُهمَّةٌ نفيسة: حول إبداء العلامة المحقق أبو القاسم ابن الشاط اعتراضًا

وجيها على تعريف الخبر عند الأصوليين.

الخلاصة من هذه الفائدة.

تمهيد.........

٢ - فَتْحُ الغَني الماجِدِ ببيانِ حُرِّيَّةِ خَبَرِ الوَاحِدِ

مقدمة في تعريف خبر الآحاد...........

المسألة الأولى: هل يفيد العلم أو الظنَّ فقط ؟!..

۲۸

.......

۳۰

۳۳

Tε........

갔 갔 풍

٤٦٥

الفهرس

٣٦

دليل القائلين بأن خبر الواحد يفيد العلم، ورد الجمهور عليهم ... تنبيه: خبر الواحد لا يُقال إلا على خبر غير المعصوم كصحابي أو تابعي أو راو

من رواة الأحاديث، أما خبر المعصوم فيُسمى خبر حُجَّة ودليلا وبرهانا .. ٣٧ المسألة الثانية: خبر الآحاد حُجَّةٌ يعمل به في بابي الفتوى والشَّهادة بدليل

الإجماع . الدليل من القرآن .

الدليل من السنة .

۳۸

٤٠

٤٤

الأحاديث الدالة على حُجَّيَّة خبر الواحد كثيرة جدًّا زادت على حد التواتر

المقرر.

.....

٤٤٠

تنبيه: حول قول الزرقاني في "شرح المواهب": «لم نر أحدا ذكر لفظ كتاب

النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى المنذر».

اعتراض حول صحة الاحتجاج بخبر الواحد والجواب عليه...........

دليل الإجماع..

٥٠

٦٦

٩٦

97....

.......

۹۹

۱۰۰

......

خاتمة .

مقدمة .

ما هو الجهل ؟ .

الخطأ من جهل.

- القَوْلُ الجَزْل فيها لا يُعْذَرُ فيه بالجَهْلِ

الجهل الذي لا يكون عذرً ا لصاحبه .

٤٦٦

الجهل الذي لا يكون عذرًا الصاحبه أنواع ...

الأول: جهل الكفَّار بالله وبرسوله، إذا بلغتهم الدعوة

الثاني: جهل المبتدع ...

الثالث: جهل الباغي

أصول الفقه

..........

1.1..

1.1......

الرابع: جهل المقدم على تفسير القرآن أو آية منه، برأيه المجرد من غير الرجوع

إلى كتب التفاسير المعتمدة.

........

التحذير من بعض التفاسير المعاصرة.

................

1......

الخامس : جهل المقدم على الفتوى في الدين بغير تثبت ولا رجوع إلى ما قرره

........

الأئمة علماء الشريعة . منصب الإفتاء منصب خطير في الدين؛ لا يقوم به إِلَّا مَن تأهل له بشروط مُبيَّنة في مؤلفات خاصة ..

1.ε......

السادس: جهل الذي يدعوا إلى الاكتفاء بالقرآن، وترك السُّنَّة ...........١٠٤ السابع: جهل مَن يُفرّق بين السنة العملية، فيعمل بها، وبين السنة القولية فلا

يعمل بها .......

1.E..........

1.........

الثامن: جهل الذي يقول: إنَّ الله لم يُحرم الخمر في القرآن ............ التاسع: جهل من لا يعرف حُرمة أخذ العُشُور على تجار المسلمين، مما كان

يُسمى بالمكس، ويُسمَّى الآن بالجمارك ..

.......

العاشر: جهل الذي يدعو إلى تبرُّج المرأة ..

الحادي عشر: جهل من يتجنَّس بالجنسية الأوروبية .

1.0........

1.7.......

1.7.........

الفهرس .

٤٦٧

الثاني عشر: جهل المكتري الذي يبيع مفتاح الدكان أو المنزل الذي

یکتریه......

۱۰۷.۰۰۰

الثالث عشر: جهل المكتري الذي يطلب من صاحب المنزل مبلغًا من المال

۱۰۷.۰

ليُسلّمه منزله. الرابع عشر: جهل صاحب كتاب "السنة بين الفقهاء وأهل الحديث". ..۱۰۷ الخامس عشر : جهل وزير الأوقاف المغربي

1A...

۱۱۰۰۰۰۰

السادس عشر: جهل الشاعر الذي قال: وإذا سألتُكَ أن أراك حقيقة .....۱۰۸ الجهل الذي يكون عذرًا لصاحبه، وذكر أمثلة له. خاتمة في ألفاظ تدور على ألسنة كثير من الناس، وهي دائرة بين الكفر

......

.......

والحرمة..... تتميم: حول الجهل في العبادة لا يُعذر صاحبه عند المالكية ..............۱۱۷ تنبيه حول: من دفع زكاته لكافر أو غني جهلا بحاله .

الخلاصة .....

خاتمة الكتاب.

ITY................

۱۲۳...

IYO.......

الإشارة إلى قصيدة الشيخ بهرام في نظم مسائل لا يُعذر فيها بالجهل.......١٢٥

مقدمة.

-

٤ - إتقان الصنعة في تحقيق معنى البِدْعَةِ

(۱) معنى البدعة.

(۲) الترك لا يقتضى التحريم ..

(۳) فعل الخير مندوب إليه في الكتاب والسُّنَّة..

۱۲۹........

۱۳۰......

۱۳۲۰

IT........

......

٤٦٨

(٤) حديث «كل بدعة ضلالةٌ من العام المخصوص .

أصول الفقه

١٣٤٠٠٠٠

ما أحدث وله أصل في الشرع يشهد له يُسمَّى سُنَّةً حسنةً ............١٣٦

أمثلة البدع الواجبة..

أمثلة البدع المحرمة..

أمثلة البدع المندوبة..

أمثلة البدع المكروهة ..

أمثلة البدع المباحة..

.......

(٥) العلماء متفقون على تقسيم البدعة .

(٦) البدعة المذمومة ما ليس له أصل في الشرع ..

(۷) أدلة تخصيص حديث : كل بدعة ضلالة).

ITV......

ITV......

IMA.......

ITA........

ITA.........

ITA.....

Ira......

1ε........

الحديث الأول : «مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حَسَنةٌ فله أَجْرُها وَأَجْرُ مَن عَمِل بها

بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء..... الحديث . الحديث الثاني: مَنِ اسْتَنَّ خيرًا فاسْتُنَّ به كان له أجره كاملا و

١٤٠

ومن أجور من

1ε.......

استن به، لا ينقص من أجورهم شيئًا.... الحديث......... الحديث الثالث: مَن سنَّ سُنَّةٌ حَسَنةً فعُمِل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن يَنقُصَ مِن أجورهم شيئًا.... الحديث ..............١٤١ الحديث الرابع: «مَن سَنَّ خيرًا فاسْتُنَّ به كان له أَجْرُهُ ومِن أُجورٍ مَن تبعه غير منتقص من أجورهم شيئًا .... الحديث ..... الحديث الخامس: «من سن سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد

١٤١٠٠

الفهرس مماته حتَّى تُترك .... الحديث...

٤٦٩

181........

تنبيه حول مسألة مهمَّةٍ تُعِين على فهم هذه الأحاديث ويُدرك بها الفرق بين

ثلاث حقائق شرعية .

١٤٢٠

الحديث السادس: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ ........١٤٤ الحديث السابع عن معاذ بن جبل قال: أُحيلت الصَّلاة ثلاثة أحوال...»

الحديث........

120.........

.......

الحديث الثامن: عن سعيد بن المسيب أنَّ بلالا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُؤذنه بصلاة الفجر، فقيل: هو نائم، فقال: الصَّلاة خير من النوم، الصَّلاة خير من النوم، فأُقِرَّت في تأذين الفجر؛ فثبت الأمر على ذلك ....١٤٨ الحديث التاسع: عن رفاعة بن رافع الزُّرقي قال: كنَّا نُصلّي يوما وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سَمِعَ اللهُ لَن حَمدَه .... الحديث ..... الحديث العاشر : عن أنس: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: «يا مَن لا تَراهُ العُيونُ، ولا تُخَالِطُهُ الظُّنون، ولا يَصِفُهُ الواصِفُونَ... الحديث . الحديث الحادي عشر : قصَّة قتل حُبَيْب، وصلاته ركعتين قبل قتله، قال: «وهو

أَوَّل مَن سَنَّ صلاة ركعتين عند القتل..

القرآن يؤيد البدعة الحسنة..

البدعة نوعان .

189...

189......

10.

101.......

JOY.........

٤٧٠

البدعة التي تتعلق بأصول الدين...

١ - بدعة إنكار القدر...

۲ - بدعة الجهمية .

٣- بدعة مشبهة الحَشُويَّة..

٤ - بدعة الخوارج..

ه - بدعة القول بحوادث لا أوَّل لها .

٦ - بدعة القاديانية.

البدعة التي تتعلق بالفروع وذكر أمثلة لها......

1 - تعدد الجمعة .

٢ - إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب.

٣- إعادة الجمعة.

- الأذان للظهر مرتين.

أصول الفقه

١٥٢.....

JOY.........

10Y.........

١٥٣.....

10ε.....

100........

100........

lov........

lov.....

109.........

109.........

١٦٠...

ه - أن يُؤذِّن ثلاثة على المنار واحدًا بعد آخر، عند طلوع الخطيب إلى المنبر ١٦٠

٦ - جهر النَّاس بالقراءة في المسجد .

- إرسال اليدين في الصَّلاة .

- قراءة الحزب جماعة بعد الصُّبح والمغرب

- قراءة القرآن على الميت . ١٠ - الذكر في تشييع الجنازة... ۱۱ - رفع اليدين في الدُّعاء بعد الصَّلاة..

17.......

171........

1TY........

178........

170.

١٦٥ .......

الفهرس .

۱۲ - السُّحَةُ .

٤٧١

170.....

تنبيه حول يضاعف وتعدّد الذكر بعدد ما أحال الذاكر على عدده، وإن لم

يتكرر الذكر في نفسه ١٣ - الذكر بعد الأذان.

١٦٩...........

179.

١٤ - الصَّلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بعد الصَّلاة المكتوبة : ..۱۷۰ ١٥ - الذكر بعد المكتوبة باسم «اللطيف» مائة مرّة أو أكثر، ودعاء الله به ۱۷۰۰ ١٦ - السيادة في الأذان والإقامة والتشهد في الصَّلاة .

الدليل أن سلوك الأدب أفضل..

IV................

IVY.......

۱۸ - الفدية عن الميت.........

IVE....

تنبيه حول اعتراضات على أبيات من بردة البوصيري والرد عليها ......١٧٦

۱۹ - الاحتفال بالمولد النبوي .

نبذة مما أحدثه الصحابة بعد العهد النبوي..

الله عنه أحدث الاجتماع في التراويح .

ر بن الخطاب رضي الله عنه أ عمر

WWW..........

......

۱۸۰۰۰

۱۸۰

.........

زيادة: «الصلاة خير من النوم في أذان الصبح بأمر عمر رضي الله عنه ... ۱۸۰

جمع القرآن......

اعتراف الشاطبي بجمع المصحف، وسماه مصلحة.

تغيير مكان مقام إبراهيم في عهد عمر.........

زيادة أذان يوم الجمعة في السوق في عهد عثمان ..........

۱۸۰۰۰۰

۱۸۱.......

۱۸۲۰

JAY.........

تنبيه: حول ما شاع في المغرب من أذان ثلاثة مؤذنين واحدا بعد آخر يوم

٤٧٢

الجمعة....

أصول الفقه

JAY....

توسيع مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناء جداره بالحجارة المنقوشة

والقصّة في عهد عثمان رضي الله عنه..

JAY.....

جمع الناس على مصحف واحد، وتحريق ما سواه من قرآن في عهد عثمان

رضي الله عنه .

........

فائدة حول تحريق عثمان الصُّحف......

JAE.....

1AO...

.......

علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه أنشأ صلاةً على النبي صلى الله عليه وآله .

100.....

وسلم كان يُعلمها للناس... عبدالله بن مسعود غيّر صيغة السّلام على النبي في التشهد بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من الخطاب إلى الغيبة باجتهاد منه ...........١٨٦ عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما - زاد التسمية في أول التشهد، ولم تصح زيادتها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم.........

۱۸۷۰

۱۹۲...

التلبية في الحج زاد فيها عمر وابنه عبدالله والحسن بن علي رضي الله عنهم ١٨٨ زاد الناسُ في التلبية بحضور النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأقرهم .....۱۸۹ التنبيه على تغيير لفظ الوارد بما ليس بوارد. من قبيح التعنت، ما كتبه الألباني على صلاة ابن مسعود، والرد عليه .....۱۹۳ الصلاة في مسجد فيه قبور التنبيه على صورة قد تشتبه على بعض الناس فيظنها تخصيصا أو استثناء من حديث: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا».

197...........

۱۹۹........

الفهرس .

الجلوس على القبر ...

بناء المساجد على القبور..

٤٧٣

۲۰۰۰۰

Y..........

التنبيه على الفرق بين بناء المسجد على القبر وبين أن يدخل قبر في مسجد

٢٠٥..

Y.V....

YA.......

۲۱۰۰۰

مبني.

مسألة: في الرد عل الألباني .

الجواب على من قال : المراد بالمسجد البيعة مجازا ..

مسألة: في قضاء الفوائت.

مقدمة.

ه - حُسْنُ التفهم والدَّرْكِ لمسئلةِ التَّركِ

السبب في تأليف الرسالة.

تمھی

ما هو الحكم الشرعي ؟ .

أقسام الحكم الشرعي. ما هو الترك؟ .

أنواع الترك .

......

الترك لا يدلُّ على التحريم..

الأدلة على أنَّ التَّرك لا يُفيد الحرمة..

۲۱۷.۰۰

۲۱۷.......

TIA........

TIA......

TIA...

T19..........

۲۱۹........

۲۲۱۰۰

TYY........

أقوال غير مُحرَّرة: حول ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم شيئًا والرد

YYE......

عليها .

٤٧٤

كلام ابن تيمية في استدلاله بالترك والرد عليه.

أصول الفقه

٢٢٤٠٠٠٠

حديث صحيح لا يردُّ قولنا . ماذا يقتضي الترك؟.

........

إزالة اشتباه حول ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.

...

YYO.........

YY......

YYV.....

تتميم: لا يجوز للمسلم أن يتجرأ على الحكم بالتحريم إلا بدليل صريح من

الكتاب أو السُّنَّة .

نماذج من الترك .

الخاتمة .

المقدمة..

٦ - الأدلة الرَّاجِحَةُ على فَرْضِيَّة قِرَاءَةِ الفاتحة

[ أقوال الأئمة وأدلتهم ] .

أدلة الحنفية .

أدلة المالكية .

أدلة الشافعية.

الترجيح.

YYA..........

۲۳۰

٢٣٥........

٢٣٦.....

YEY.........

٢٥٠.....

٢٥٣....

أسباب ترجيح قراءة الفاتحة في الصَّلاة الجهرية والسرية للمنفرد والمأموم

والإمام .

٢٥٣......

فصل: الفاتحة فرضٌ في صلاة الجنازة أيضًا لأنها صلاة في عُرف الشرع...٢٥٥ ذهب الحنفية والمالكية إلى ترك قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، واستدلُّوا

٤٧٥

الفهرس .

بحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا صَلَّيْتُم على الميت فأخْلِصُوا له الدُّعاء». وهو

غلط من وجوه.

YOV.....

إذا خلت صلاة الجنازة من قراءة الفاتحة فإنها تكون باطلة، وتجب إعادتها ولو

على القبر ..

- الحَجَّةُ المُبيِّنَةُ لفهم عِبارَةِ المُدَوَّنة

YOA.........

YTI.....

٢٦١.....

المقدمة..

نص المدونة في مسألة السدل.

ذكر بعض من صنف في سُنِّيَّة وضع اليمين على الشمال في الصلاة .......٢٦٢ تحدي الشيخ أبي شعيب الدكالي لمن يتعصب لإرسال اليدين بأن يأتي بحدث

ولو ضعيف.....

المراد بعبارة المدونة، وتعريف السّياق والسِّباق ..

٢٦٢٠٠

YY.......

مراد الإمام مالك بقوله: «لا أعرف ذلك أي الاعتماد على القبض في

الفريضة».

.......

مذهب مالك يحتاج إلى تنقيح وتحرير .

...

Tε......

٢٦٥..........

الإشارة إلى كتاب "وقوف "القرآن" للشيخ الهبطي وكثرة الأخطاء الواقعة

٢٦٦٠.....

٢٦٧.......

فيه.

خاتمة الكتاب.

٤٧٦

مقدمة .......

- كشف أنواع الجهل فيما قيل في نُصْرَةِ السَّدْل

تعصب بعض المتأخرين من المغاربة للسدل.

أصول الفقه

۲۷۳۰۰۰۰۰

۲۷۳۰۰

حديث في السَّدل موضوع..

ذكر الدعاوى والرد عليها..

TVE........

٢٧٥...

الدعوى الأولى: حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر القبض، فهو دليل على السَّدِّل .

٢٧٥...

الدعوى الثانية: كل حديث لم يذكر القبض في صفة الصلاة، يدلُّ على

السدل ..

TVO.....

أحاديث صفة الصلاة التي لم تذكر القبض مطلقة، فتقيَّد بالأحاديث التي ذكر

فيها القبض، ولا دلالة فيها على السَّدّل إطلاقا.

الدعوى الثالثة: السَّدِّلُ ناسخ للقبض .

وهي باطلة من وجوه .

الدعوى الرابعة: السَّدِّلُ عمل أهل المدينة..

وهي باطلة أيضًا من وجوه..

الدعوى الخامسة : تضعيف حديث "الصحيحين" في القبض..

وهي باطلة جدا.....

الدعوى السادسة : ذم القبض بكونه من فعل بني إسرائيل..

الدعوى السابعة: تضعيف أثر عبد الكريم بن أبي المخارق.....

TV......

TV......

TVT.....

TVA..........

YVA........

۲۸۰

۲۸۰۰

YAY..........

YAY........

الفهرس

٤٧٧

الدعوى الثامنة : السَّادِل يشبه الميت، وهو أقوى في تحقيق الخشوع ........٢٨٤ هذا الجزء بمسائل: المسألة الأولى: أحاديث وضع اليدين إحداهما على

و نختم ه

الأخرى في الصلاة متواترة ..

YAT......

المسألة الثانية: رواية ابن القاسم عن مالك - في التفرقة بين الفريضة والنافلة في

وضع اليمنى على اليسرى غير صحيحة .. المسألة الثالثة: بطلان الدعوى بأن السدل هو الأصل .

YAY.... YAA........

أنواع الترجيح بحسب المدلول كما ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول " ..۲۸۸ المسألة الرابعة: لم يقل أحد من أهل السُّنَّة بحرمة القبض، وإنما قاله الروافض

الإمامية..

YAA..........

المسألة الخامسة: هل كان الأئمة والحفاظ الذين اعتبروا القبض من سنن الصَّلاة وهيآتها استنادًا إلى الأحاديث المتواترة لا يعرفون ما في أحاديث القبض

من ضعف مزعوم، ونسخ ،موهوم، حتى جاء الخضر الشنقيطي فعرف ما لم يعرفوه، وبين ما جهلوه.

۲۸۹........

المسألة السادسة: الرد على من تعصب في نُصرة السدل بأنكم مُقلّدة، ووظيفة المقلد أخذ قول إمامه، وليس له أن يستدل ويُحاجج ويرجح ويضعف ...٢٩٠ المسألة السابعة : موقف غير لائق للشيخ عليش في مسألة السدل لا يليق بأهل الإنصاف .....

۲۹۰

الخاتمة: احتج بعض المتعصبين للسَّدِّل لكراهة القبض بقول الله تعالى في صفة المنافقين: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ * وهذا استدلال طريف يصح أن يذكر في

٤٧٨

أصول الفقه

أخبار المغفلين..

مقدمة

9 - الرَّأي القويمُ فِي وجُوبِ إِثْمَامِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ المُقِيمِ

۲۹۲....

۲۹۷.۰۰۰

مسألة: صلاة المسافر ركعتان مقصورتان من أربع، والدليل على ذلك

أمور..

معنى: «وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ».

.....

۲۹۹.......

۳۰۱۰۰۰۰۰

صلاة ركعة في الخوف ليست فرضًا عند من يقول بها، بل تجوز الزيادة عليها (ت)............

................

الجواب على الآثار التي تُعارض القول بأن صلاة المسافر مقصورة من

.........

تمام. مما يوجب تأويل تلك الآثار أيضًا إفادتها أنَّ صلاة السَّفَر أصل لا مقصورة،

وأنَّ صلاة الحَضَر هي الزائدة. وهذا مُخالِفٌ لنص القرآن أَن نَقْصُرُوا مِنَ الصلوة وإجماع المسلمين في تسميتها مقصورة (ت)...

.......

مسألة: معنى قول سيدنا عمر رضي الله عنه: صلاة الشفر ركعتان» .....۳۰۷

مسألة: أنواع الرخصة.........

مسألة: اقتداء المقيم بالمسافر .

مسألة: اقتداء المسافر بالمقيم.

A..........

9.

حول قول طاوس والشَّعبيّ وداود في اقتداء المسافر بالمقيم.............٣١٤

أدلة الفريقين...

lo........

الفهرس .

دليل القائلين بعدم الصحة .

دليل القائلين بالصحة.

دليل القائلين بوجوب إتمام المسافر خلف المقيم.

التنقيح والترجيح.

....

٤٧٩

٣١٥٠٠

٣١٥.

10.

TIA...........

الرد على ابن حزم في اعتراضه على الجمهور واستدلاله بالقياس ..........۳۱۹ الغرض من المناظرة في المسائل الشرعيَّة هو الوصول إلى حكم سالم من النقد

والنقض (ت) .

مناقشات في أثر ابن عباس ..

۳۲۹.....

مسألة: إذا انتم مسافر بمسافرٍ متمَّ وَجَبَ الإتمام أيضًا عند الجمهور .....٣٣٢ مسألة: في اختلاف الناس في إتمام عثمان الصلاة بمنى وهو مسافر .......٣٣٥ توضيح قول المخالف: «العبرة برواية الراوي، لا برأيه» (ت) ...........٣٣٦

الخلاصة ........

wwɅ..........

تمسك إسحاق بن راهويه وابن حزم بعمومات تقبل التخصيص بالأدلة التي تمسك بها الجمهور، وجمع بين الأدلة، فكانوا أسعد وأقعد (ت)...........٣٤٠٠

خاتمة .

مقدمة

-١ - الصُّبْحُ السَّافِرُ فِي تَحْقِيقِ صَلَاةِ المُسافِرِ

EY........

EV........

٣٤٧٠٠٠

رسالة الشيخ محمد عايش عبيد الشافعي للسيد عبد الله بن الصديق . مسألة: صلاة الصبح ركعتان مقصورتان من أربع ركعات ..............٣٤٩

TOY............

.......

تقسيم ابن القيم قصر الصلاة إلى نوعين والرد عليه .

٤٨٠

أصول الفقه

جعل الشارع لكل صلاةٍ عنوانًا يخصها، فعنون صلاتي المرض والخوف

باسمها، وخصَّ القصر بصلاة السفر .

٣٥٣٠

إبطال حمل الحنفية وَضَعَ شَطْرَ الصَّلاةِ» على معنى رفعه ابتداء .......... ٣٥٥ مسألة فرضت الصلاة أربعًا لا اثنين .

Too.......

مسألة: قول عائشة رضي الله عنها: «فُرضت الصَّلاة ركعتين ركعتين، فأُقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة «الحَضَر» لا يصلح .

roq..........

خطأ الحنفية، ومعهم ابن حزم وابن تيمية وابن القيم في القول بوجوب قصر

صلاة السفر .

القَصْرُ في السَّفَرِ مندوب....

٣٦٣٠٠٠

70.........

أدلة القائلين بوجب القصر في السفر وبيان خطأهم في الاستدلال ........٣٦٥

بیان شذوذ قول ابن عباس من وجهين..

ذكر الأدلة على أن حكم القصر في السفر هو الجواز.

٣٦٦......

A...........

جرأة ابن تيمية في ردّ من يُخالف رأيه، ومقارنة حديثية بينه وبين

الدار قطني.

۳۷۱۰۰۰۰۰۰۰۰

ابن تيمية كان ضعيفًا في علم عِلل الحديث، وكان يحكم على الحديث برأيه،

وضرب أمثلة على ذلك..

يُحكم بوضع الحديث لسببين .

۳۷۲۰۰۰۰۰

......

استنكار الإمام أحمد رحمه الله لحديث السيدة عائشة رضي الله عنها والجواب

عليه ....

Tvo.......

الفهرس . بيان الخطأ في فهم حديث السيدة عائشة رضي الله عنها .

٤٨١

V.......

إشكال خطير يَرِدُ على المستدلّين بقول عائشة لوجوب القصر في السَّفَر يتعسّر

التخلص منه، أو يتعذر..

VA.........

قاعدة أصولية: «الشيء قد يُباح ثُمَّ يحرم مرَّتين». مثلا: كنكاح المتعة أُبيح ثُمَّ

.....

۳۷۹.......

TV9................

حرم، ثُمَّ أُبيح ثُمَّ حُرِّم إلى يوم القيامة .. قاعدة أصولية: «الذي يُنسَخ من الأحكام هو : الواجب والمحرم والمباح، أما المندوب فلا يُنسخ ؛ لأنه فضيلة، والفضائل لا تُنسَخ. حديث موضوع عن ترك القبض في الصلاة، وبيان أنَّ العراقي لم يؤلف كتاب "البدور الملتمعة" بل لا وجود لهذا الكتاب، والأوزاعي ليس له مسند ۳۷۹۰۰ مسألة: إتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وبعض الصحبة رضي الله عنهم في

السفر يقتضي أنَّ القصر غير واجب..

مسألة: في إعادة الصلاة .

TA..........

مسألة: في فهم كلام ابن عبّاس عن صلاة السفر .

مسألة: في الإجماع على وجوب إتمام المسافر خلف المقيم.

الخلاصة ....

شذوذ القول بأن صلاة الخوف ركعة وبيان ذلك من وجوه

أنواع صلاة الخوف............

٣٨٥....

MAT......

YAA.......

۳۹۰

......

۳۹۰

القول بأن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا صلى مع الإمام بمنّى صلى أربع ركعات ثم إذا انصرف إلى منزله صلَّى فيه ركعتين أعادها ضعيف، بل باطل

٤٨٢

مردود؛ لأمور.

أصول الفقه

۳۹۱۰۰۰۰۰

الحكم الشرعي كالجواز مثلا يكفي لإثباته دليل واحد، ولا يشترط فيه

تعدد الأدلة باتفاق الأصوليين والفقهاء.......

۳۹۲......

إتمام المسافر خلف إمامه المتمّ واجب؛ لأدلة متعدّدة ..

.......

إنْ قَصَرَ مُسافر خلف إمامه المتم فصلاته باطلة باتفاق الفريقين ..........۳۹۳

أغلاط صاحب المنكر العظيم .

خاتمة فيها مسائل

٣٩٦٠٠٠٠٠

99.........

المسألة الأولى: بقي من أدلة وجوب إتمام المسافر خلف المقيم أربعة ......٣٩٩ المسألة الثانية: المسافر إن شاء صلَّى ركعتين، وإن شاء صلَّى أربعًا .........٤٠٠ المسألة الثالثة: رجوع السيد أحمد بن الصديق عن القول بوجوب قصر المسافر

خلف الإمام المتم ..

المسألة الرابعة: المسافة التي يصح فيها القصّر .

ε.\.........

EY.........

المسألة الخامسة : مُدَّة القصر .

....

١١ - إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثيرٌ مِن النَّاسِ

1 - إذهاب اللبس عن جوازِ الصَّلاة حاسر الرَّأْسِ..

مقدمة

الفصل الأول: آية : يَنبَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ .

المسألة الأولى في سبب نزولها .

EV........

ε V..........

EA.........

.........

EA.........

المسألة الثانية: رفع التعارض بين القولين في سبب نزول الآية............٤٠٨

الفهرس

٤٨٣

المسألة الثالثة : لا يصح الاستدلال بالآية المذكورة على استحباب العمامة

للصلاة .

......

EA..........

القول بجواز استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز معًا قول باطل لا يعوّل

عليه .

الفصل الثاني: في الكلام على الأحاديث الواردة في سُنّيَّة العمامة. الحديث الأول : رَكْعَتَانِ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِن سبعين ركعة بلا عمامة .........٤١٠ الحديث الثاني: «صَلاةُ تَطَوُّع أو فَريضَةٍ بعِمامَةٍ تَعْدِلُ خمسا وعشرين صلاةً بلا

عِمامَةٍ، وجُمعَةٌ بِعِمامَةٍ تَعْدِلُ سبعين جمعةً بدون عِمَامَةٍ». الحديث الثالث: «الصَّلاةُ في العِمامة بعشرة آلافِ حَسَنةٍ ..

٤١٠

٤١٠

الحديث الرابع: «إنَّ الله عزّ وجل وملائكته يصلون على أصحاب العمائم يومَ

الجمعة ..

٤١٠

الحديث الخامس: «إنَّ الله ملائكةٌ مُوَكَّلين بأبواب الجوامع يومَ الجمعةِ

يَسْتَغْفِرون لأصحاب العَمائِمِ (البيض).

11.....

الحديث السادس: «إنَّ الله يبعث الملائكة . يوم الجمعة على أبواب المسجد يصلُّون على أصحاب العمائم ..

11.......

الفصل الثالث: في الكلام على القياس الذي ذكروه وهو قولهم: «لا يليق بالواحد منا أن يقابل مَلِكًا مِن الملوك أو عظيما وهو عاري الرأس، فكذلك لا ينبغي أن يقف بين يدي الله حاسر الرأس. والجواب على هذا من وجوه ٤١٢ خاتمة رسالة: "جواز الصلاة حاسر الرأس".

٤١٣٠٠

Ελε

أصول الفقه

٢ - الصَّلاة بالنعال ..

E\ε........

ثبوت الصلاة في النعال عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن أحد وعشرين

صحابيًا بألفاظ ورواياتٍ وطُرُقِ..

{\ε......

قول ابن دقيق العيد الصلاة في النعال من الرُّخص لا من المستحبات»،

والجواب عليه .

........

17...........

إذا كان الشخص يصلّي في فضاء من الأرض أو في مسجد غير مفروش فينبغي

له استعمال النعل في صلاته اتباعًا للسُّنَّة ومخالفة لليهود

خاتمة رسالة: "الصلاة بالنعال " .

مقدمة .

١٢ - القولُ السَّديدُ فِي حُكْمِ اجتماعِ الجُمُعَةِ والعِيدِ

EIA.......

EVA......

٤٢٣٠

الإشارة إلى شرح السيد عبد الله بن الصديق كتاب "نيل الأوطار" للعلامة الشوكاني بطريق البحث والتحقيق، ومناقشة الشوكاني في استنباطاته، والتنبيه على بعض أخطاء...........

EYY.......

تنبيه خطأ الشوكاني في هذه المسألة ،وغيرها لا يُنقِصُ قَدْرَهُ، ولا يخدِشُ

اجتهاده........ متى فرضت الصلاة؟ .

ومتى فرضت الجمعة ؟ .

......

هل صُلِّيت الجمعة قبل وجوبها؟ .

خطبة الجمعة فرض ..

EYE........

EYE........

EYE.........

EYO.........

EY........

الفهرس .

دليل آخر على وجوب الخطبة..

٤٨٥

EYA...

كثرة الأحاديث التي تفيد أن من تكلم والإمام يخطب ولو بكلمة خير، مثل:

أنصت فلا جُمعة له، وذلك يُفيد وجوب الخطبة .

هل صلاة الجمعة أصل أو بدل ؟..

EYA.........

ETA...

٤٣١٠

ذكر الأدلة على أن الظهر هو الأصل والجمعة بدل منه . حديث: «مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصَّلاةِ فقد أَدْرَكَ الصَّلاةَ» ................٤٣١ حديث: «مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن صَلاةِ مِن الصَّلواتِ فقد أَدْرَكَهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي ما

فاته ..

حديث: «مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الجُمُعَةِ فقد أَدْرَكَها، وليُضِف إليها أُخْرَى» . ٣٢ الحديث: «مَن أَدْرَكَ مِن صَلاةِ الجُمُعَةِ رَكْعَةً فقد أَدْرَكَ» ...............٤٣٣٠ خبر: «من أدرك من الجمعة ركعة صلَّى إليها ،أخرى، ومن فاته الركعتان صلَّى أربعا...........

٤٣٣

حول قول المالكية: من لم يذهب لحضور الجمعة فلا يجوز له أن يُصلي الظهر

حتى تنتهي صلاة الجمعة ......

إيراد وجوابه...........

ETO..........

ETO........

حول حديث وقد يظن أنه معارض لما ذكر هنا من الأحاديث والآثار ....٤٣٥

إعتراض وجوابه.

ETV.........

اختار الشوكاني أنَّ الشَّخص إذا فاتته صلاة الجمعة صلاها ركعتين، وهو

مردود من وجهين.

ETV.......

اجتماع الجمعة والعيد.

أصول الفقه

ETA......

المرسل إذا اعتضد بحديث موصول - ولو ضعيفا - تبيَّنت صحته، ويُعمل به

كما يُعمل بالحديث الصحيح..

مناقشة الشوكاني في كلامه عن اجتماع الجمعة والعيد ..

فعل ابن الزبير في اجتماع الجمعة والعيد..

توضیح قول ابن عباس : «أصاب السُّنَّة))..

تقديم الجمعة سُنَّة والدليل عليه .

..

εra..........

Era........

٤٤٠

{{ \..........

EET........

مسألة دقيقة: آية الجمعة أو جبت الخطبة بإيجاب السعي إليها ............٤٤٤

خاتمة الكتاب ....

مقدمة .

١٣ - إسماع الصُّمَّ لاثباتِ تحريمِ غُسْلِ الابن للأم

٤٤٥٠٠٠٠

EE9........

تصدر للفتوى من لا يُحسنها ولا يستحقها، وكثر بفتاويهم الجهل

والضلال

EE9......

{0.......

الفتوى الأولي: هل يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وخالتها؟.. إجماع السلف وأهل السُّنَّة وأصحاب المذاهب المتبوعة ومعهم الزيدية على أن من عقد على امرأة وعمتها أو خالتها فالعقد باطل لا يصح، ولو عقد على

إحداهما بعد الأخرى فالعقد الأخير باطل. الفتوى الأخرى: تغسيل الرجل لأُمّه.

وهذه نصوص العلماء في الموضوع.

εOY....

εOY..........

٤٥٣٠

الفهرس .

نصوص العلماء في غسل الرجل المحارمه من النساء .

الخلاصة.

.......

.....

٤٨٧

٤٥٣

εOV.......

غسل الرجل لامرأة ذات تحرم لا يجوز، بل هو حرام بلا خلاف، وإنما حصل

الخلاف في حالة الضرورة.

تتمة

٤٥٧.....

εOA..........

أوجب الشارع الاستئذان على الأُم لئلا يراها ولدها عريانة، فكيف يجوز للرجل أن يدخل على أُمه وهي على المغسل عريانة؟! وهل هي تحب أن يراها

كذلك؟...

......

εOA.........

ملحوظة : الذين يُغسلون أُمهاتهم لا يلتزمون بحالة الضرورة التي نص عليها

العلماء ....

فهرس الموضوعات ...

٤٦٠٠٠٠

٤٦٣٠