بسم الله الرحمن الرحيم
موسوعة الحافظ عبد الله في 133 لغة
المجلد الحادي عشر : الفقه الإسلامي
1 - الإنارة بأدلة زكاة التجارة.
٢ - القول المشرق لسبب صوم المغرب برؤية المشرق. ٣- دفع الشك والارتياب في تحريم نصارى أهل الكتاب. - الاستقصاء لأدلَّةِ تَحريم الاستمناء.
ه - التنصيص على أنَّ حَلْقَ اللحية ليس بتَنْمِيص. ٦ - تعريف أهل الإسلام بأن نقل العُضو حرام. - أمنية المتمنِّي في تحريم التبني.
- واضِحُ البُرهان على تحريمِ الخَمْرِ والحَشِيشِ في القُرْآنِ.
ويحتوي على:
التصوف الإسلامي
۱ - الإعلام بأنَّ التصرُّفَ مِن شريعة الإسلام. ٢ - حُسْنُ التلطَّفِ في بيانِ وجوبِ سلوكِ التصوف.
- سِلْسِلَةُ الطَّريقةِ الصِّدِّيقيَّة.
٤ - الدُّرَرُ النَّقيَّة في أذكار وأدابِ الطَّريقةِ الصِّدِّيقيَّة.
ه - إنشاء الأنام إلى ما يُتْلَى مِنَ السُّورِ والأَذْكَارِ في الأَيَّامِ.
۱ - الإنارة
بادِلَّةِ وجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ
الإنارة بأدلة زكاة التجارة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وآله الأكرمين.
وبعد: فهذا جزء كتبته في بيان وجوب زكاة التجارة، حملني على كتابته أنّي حين وصلت في تدريس نيل الأوطار" إلى كتاب الزكاة، ذكر لي بعض الطلبة
أنَّ شخصا يزعم أنه لا يوجد حديث يدلُّ على وجوب زكاة التجارة. وهذا جهل كبير، يظهر الكشف عنه في هذا الجزء بحول الله ومشيئته. والله الموفق، وهو المستعان.
الفقه
وينحصر الكلام هنا في مبحثين
المبحث الأول
في أدلة الوجوب
وهي: الأول؛ قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِ عليهم [التوبة: ۱۰۳] لفظ أموالهم عام ، لأنه جمع مضاف، والمال في اللغة العربية : كل ما تمول وتملك، وفي الحديث الصحيح: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما له من ماله ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى، وما سوى ذلك
فهو ذاهب وتاركه لغيره». والحديث في "صحيح مسلم".
فأموالهم في الآية يشمل النقدين والماشية، والحبوب، وعُرُوضُ التجارة وغيرها. ولا يُخص منه شيء إلا بدليل.
الثاني: قوله تعالى: ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: ٢٦٧].
قال ابن مسعود و مجاهد: من حلالات ما كسبتم بالتجارة والصناعة». نقله البغوي في "تفسيره".
وقال القرطبي: هذا خطابٌ لجميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، واختلف العلماء في المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب، وعبيدة السلماني، وابن سيرين هي الزكاة المفروضة نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد.
قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أنَّ الآية
الإنارة بأدلة زكاة التجارة
۱۱
في التطوع، نُدبوا على أن لا يتطوعوا إلَّا بمختار جيد. والآية تعم الوجهين. لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها، والأمر على الوجوب ، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع
صدقةً
في
بالقليل فكذلك له أن يتطوّع بنازل في القَدْر، ودرهم خير من تمرة» . اهـ فالآية تدل على زكاة التجارة وزكاة ما تُنبته الأرض من الحبوب والثمار إلَّا ما خصه دليل. الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما بعث معاذا إلى اليمن، فقال: « ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أنَّ الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم . أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ على فقرائهم». رواه البخاري والدارامي. فلفظ «أموالهم» عام يشمل التجارة وغيرها. الرابع: حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: « في الإبل صَدَقَتُها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز صدقته، ومَن رَفَعَ دنانير ودراهمَ أو فِضَّةٌ لا يَعُدُّهَا لغَرِيم، ولا يُنفِقُها في سبيل الله فهو كَنْزُ يُكْوَى به يوم القيامةِ». رواه الحاكم من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام: ثنا عمران بن أبي
أنس بن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر به.
قال الحافظ في "تلخيص الحبير": «هذا إسناد لا بأس به. وقال في "الدراية": «إسناده حسن».
۱۲
الفقه
طريق آخر للحديث روى البزار والدارقطني، والبيهقي من طريق موسى بن عبيدة : حدثني عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال : بينما أنا جالس عند عثمان جاءه أبو ذرّ فسلم عليه فقال له عثمان: كيف أنت يا أبا ذر ؟ قال : بخير. ثُمَّ قام إلى سارية فقام الناس إليه فاحتوشوه، فكنت فيمن ،احتوشه، فقالوا: يا أبا ذر حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال سمعت رسول الله يقول: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها،
وفي البقر صدقتها، وفي البَر صدقته». قالها بالزاي.
موسى بن عبيدة: هو الربدي، ضعيف مع صلاحه.
قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": «ذكر في أول زكاة التجارة قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «في البَزِّ صدقتة» هو بفتح الباء، وبالزاي، وهذا وإن كان ظاهرا لا يحتاج إلى تقييد، فإنها قيدته لأني بلغني أن بعض الكتاب صحفه بضم الباء وبالراء. قال أهل اللغة: البز: الثياب التي هي أمتعة البزاز». الخامس: حديث سمرة ، روى أبو داود ، ومن طريقه البيهقي، عن جعفر بن سعد: حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه، عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ رسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمرنا أن نُخرج الصدقة من الذي نُعد للبيع. ورواه الدارقطني في "سننه" والطبراني في "معجمه" عن سَمُرَة به، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يأمرنا برقيق الرجل، أو المرأة الذين هم تلاده وهم عملة لا يريد بيعهم ألا يخرج عنهم الصدقة، وكان يأمرنا
أن نُخرج الصدقة من الذي يُعدُّ للبيع.
قال ابن عبدالبر: رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن».
الإنارة بأدلة زكاة التجارة
۱۳
لكن قال عبد الحق في "أحكامه " : حُبيب ليس بمشهور، ولا نعلم روى عنه إلَّا جعفر بن سعد، وليس جعفر ممن يُعتمد عليه. قال ابن دقيق العيد: وسلمان بن سمرة بن جندب : لم يعرف ابن أبي حاتم بحاله، وذكر أنه روى عنه ربيعة وابنه حبيب. وقال الحافظ عن سليمان هذا: مقبول». فالحديث ضعفه قريب، وسكت عنه أبو داود والمنذري، لا سيما وهو مؤيَّد بالأدلة قبله وبما يأتي بعده، وهي الموقوفات على الصحابة والتابعين.
المبحث الثاني
الآثار
روى الشافعي في "الأم"، وأحمد في "المسند"، وعبدالرازق، وابن أبي شيبة، والدارقطني في "السنن"، والبيهقي في "السنن" أيضًا، من طريق يحيي ابن سعيد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه أنه قال: كنت أبيع الأدمَ ،والجعَابَ، فمرَّ عمر بن الخطاب، فقال: «أد صدقة مالك».
فقلت: يا أمير المؤمنين إنما هو في الأُدمِ. قال: «قومهُ، ثُمَّ أخرج صدقته». ورواه الشافعي أيضًا عن سفيان: حدثنا ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه مثله.
ولفظ رواية الشافعي: مررت بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعلى ظهري آدمة أحملها، فقال عمر: أدَّ زكاتك يا حماس. فقلت : يا أمير المؤمنين مالي غير هذه التي على ظهري وآهبة في القرظ . فقال : ذاك مال فضع. قال: فوضعتها بين يديه، فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة».
١٤
الفقه
آدمة: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. وآهبة: جمع إهاب بكسر الهمزة، وهو الجلد غير المدبوغ. والقرظ : بفتحتين، ما يدبغ به الجلد.
وعمر رضي الله عنه أخذ الزكاة من هذه العروض لأنها مال، استنادا إلى عموم الآية والحديث.
وروى عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: «في كل مال يُدار في عبيد أو دواب، أو بز للتجارة، تدار فيه الزكاة كل عام». إسناده صحيح. وروى البيهقي من طريق أحمد بن حنبل: ثنا حفص بن غیاث: ثنا عبيد الله بن
عمر، عن نافع عن ابن عمر قال: ليس في العُرُوض زكاةُ إِلَّا ما كان للتجارة». إسناده صحيح أيضًا.
وروى عبدالرزاق، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب قالوا: «في العروض تدار الزكاة كل عام، لا يُؤخذ منها الزكاة حتى يأتي ذلك الشهر عام
قابل».
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن ابن سيرين قال: «في المتاع يقوم ثُمَّ
تؤدى زكاته».
وروى أيضًا عن إبراهيم النخعي قال: «كل شيء أريد به التجارة ففيه
فيه
الزكاة، وإن كان لبنا أوطينًا». قال: وكان الحكم يرى ذلك. وروى أيضًا عن يونس عن الحسن في رجل اشترى متاعًا فحلت الزكاة؟ فقال: «یزگیه بقيمته يوم حت». وروى أيضًا: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي إسحاق، عن الزهري، عن حميد بن
الإنارة بأدلة زكاة التجارة
۱۵
عبد الرحمن، عن عبدالرحمن بن عبد القاري وكان على بيت المال مع عبدالله ابن
، جمع عمر أموال التجارة فحسب عاجلها وآجلها،
العطاء الأرقم، فإذا خرج ا ثُمَّ يأخذ الزكاة من الشاهد والغائب.
وروى عبدالرزاق عن الثوري، عن محمد بن سالم، عن الشعبي، قال: ليس في شيء من الدواب زكاة إلا أن تكون لتجارة إلا الغنم والإبل والبقر». وروى عبدالرزاق، عن الثوري قال: ليس في الحُمُرِ زكاة إلا أن تكون
لتجارة».
وروى أيضًا عن ابن جريج قال: قال عطاء في البز: «إن كان يُدار كهيئة الرقيق زكّى ثمنه».
وروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حيان، وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد بن عبدالملك وسليمان وعمر بن عبدالعزيز، فذكر أن . عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن انظر من مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يُديرون من التجارات، من كل أربعين دينارًا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا، ومَن مرَّ بك مِن أهل الذمة فخُذ مما يُديرون من التجارات، من كل عشرين دينارًا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا، واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابًا إلى مثله من الحول».
السادس: الإجماع، حكاه ابن المنذر وعبارته: «وأجمعوا على أنَّ في
العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول».
١٦
الفقه
وهو يقصد إجماع السلف قبل المائة الثانية، فلا يَرِدُ عليه الاعتراض بخلاف داود الظاهري المتوفى سنة (۲۷۰)، لأنه أدرك الخلاف بعد انعقاد الإجماع.
قال الزرقاني في "شرح الموطأ": وقال :داود: "لا زكاة في العروض بوجه كان لتجارة أو غيرها الخبر: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة». ولم يقل إلا أن ينوي بهما التجارة، وتُعقب بأنَّ هذا نقض لأصله في الاحتجاج بالظاهر لأنَّ الله تعالى قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] فعلى أصلهم تؤخذ من كل مال إلَّا ما خُص بسُنَّةٍ أو إجماع فتؤخذ من كل مال ما عدا الرقيق
والخيل، ولأنه لا يقيس عليهما ما في معناهما من العروض.
وقد أجمع الجمهور على زكاة عُرُوض التجارة، وإن اختلفوا في الإدارة والاحتكار، والحُجَّة لهم ما تقدَّم من عمل العُمَرين، وما نقله مالك من عمل
أهل المدينة، وخبر أبي داود كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن نُخرج الزكاة مما نُعده للبيع.
قال الطحاوي : ثبت عن عمر وابنه زكاة عروض التجارة، ولا مخالف لهما من الصحابة"، وهذا يشهد أن قول ابن عباس وعائشة: "لا زكاة في
العروض" إنما هو في عروض القِنْية». اهـ كلام الزرقاني.
وحديث: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة». رواه البخاري
ومسلم.
قال الحافظ في "الفتح": واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة. وأجيبوا بأنَّ زكاة التجارة ثابتة
الإنارة بأدلة زكاة التجارة
۱۷
بالإجماع، كما نقله ابن المنذر ،وغيره فيخص به عموم هذا الحديث والله
أعلم . اهـ وقال القاضي عياض في شرح مسلم: «هذا الحديث حُجَّةٌ للكافة في أنه
لا زكاة فيها اتخذ من ذلك للقنية، بخلاف ما اتخذ للتجارة».
وقال الإمام النووي: هذا الحديث أصل في أن أموال القِنْية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف إلَّا أنَّ أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان ونفرًا أوجبوا في الخيل إذا كانت إناثًا أو ذكورًا وإناثًا في كل فرس دينارًا وإن شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم، وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريح في الرد عليهم . اهـ ورواه الترمذي وقال عقبة: والعمل عليه عند أهل العلم أنه ليس في الخيل السائمة صدقة، ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة صدقة، إلا أن يكونوا
:
للتجارة، فإذا كانوا للتجارة ففي أثمانهم الزكاة إذا حال عليها الحول». اهـ وفي السيارات التي تُتَّخذ للتجارة تجب الزكاة في أثمانها أو قيمتها إذا حال عليها الحول لأنها عُرُوض للتجارة.
فظهر مما أوردناه أنَّ زكاة التجارة واجبة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، ولم ينكر وجوبها إلَّا الظاهرية، وهم معروفون بالشذوذ فلا عبرة بخلافهم
وبالله التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.
٢ - القَوْلُ المُشْرِقُ
السبَبِ صَوْمِ الْمَغْرِبِ بِرُؤْيَةِ المَشْرِقِ
القول المشرق
۲۱
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله ناصر الحق وهازم الباطل وخاذل أربابه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد أحبابه، والرّضا عن آله الكرام وخيار أصحابه، وعمن تبع هدیه و تأدب بآدابه. أما بعد: فإنَّ شقيقنا الحافظ أبا الفيض ألف كتابا سماه: "توجيه الأنظار إلى
توحيد المسلمين في الصوم والإفطار دعا فيه إلى وجوب اتحاد المسلمين في صيام رمضان وفطرهم منه، تفاديًا لما يحصل في كل سنة من التفرقة والاختلاف، حيث نجد البلاد الحجازية يبتدئ رمضان فيها يوم الجمعة مثلا، ويبتدئ في مصر يوم السبت، أما المغرب فيبتدئ يوم الأحد.
ويحصل مثل هذا الاختلاف في عيد الفطر وفي عيد الأضحى، وهذا يورث بلبلة في الأفكار وتباعدًا بين المسلمين، وربما يؤدي إلى قطيعة وتصارم. فإنَّ الحجاز أو العراق حين يعلم أن مصر أو ليبيا مثلا لم تعمل برؤيته مع ثبوتها بالطريق الشرعي يحصل له نفورٌ واشمئزاز يستمر على طول الأيام حتى ينتهي إلى جفاء، وهذا خطرٌ كبيرٌ يزيد في التفرقة بين المسلمين ويساعد على تشتیت جهودهم. فكان تلافي هذا الخطر بتوحيد المسلمين في مواسمهم الدينية من صيام وفطر وتضحية أمرًا بالغ الأهمية يؤيده الدين بتعاليمه السمحة المرضية، وتقتضيه ظروفهم السياسية، ودعا إليه مؤتمر علماء المسلمين المنعقد بالقاهرة المعزية، وهو مع ذلك مذهب المالكية والحنفية.
۲۲
الفقه
لكن شخصا يحب العناد لأجل العناد ويهوى الخلاف لذات الخلاف آلمه أن يسبق أبو الفيض إلى هذه الفكرة النبيلة السامية التي تواطأ على الدعوة إليها علماء ومثقفون من مختلف البلاد الإسلامية، ولم يستطع إبطالها بدليل أو تعليل؛ لأن كتاب: "توجيه الأنظار" محص الأدلة ونقحها، واستعرض الآراء وسبرها، ودلل وعلل، وحاجج ونافح، وقدم للقراء بحثًا محررًا، منقحًا مُهذَّبًا، ليس فيه ثلمة ولا لوائد أن يزيد عليه كلمة.
فماذا يفعل صاحبنا المريض بالعناد والخلاف؟ لقد جهد جهده، وأكل ذهنه، وعصر مخه واستلهم رأيه، ثم طلع بما سماه «إشكالا» طنطن به ودندن، وتغنى بمدحه وأفتن واستبد به الغرور حتى زعم أن الجواب عنه من مستحيلات الأمور، ودعا الذين يصومون ويفطرون برؤية المشرق مستشرقين
عيبا لهم ونقصا، لتشبيههم بالكفار الذين يستشرقون. وقد كنت أجبت عنه بجوابين ظنتهما كافيين في رجوعه إلى الصواب وداعيين إلى اعترافه بخطئه، والاعتراف بالخطأ مكرمة لا تعاب، غير أنه لج في
الخصام والعناد، وعاد إلى تفسير إشكاله بما زاده بطلانا وفسادًا على فساد. فكتبت هذه الرسالة وأصبت مقاتل إشكاله بهذه العجالة، ولم أقصد بتحريرها أن أرده إلى حظيرة الصواب أو أضمه إلى فئة المنصفين أولي الألباب،
لأنه يرى الرجوع عن رأيه منقصة وعابًا، خطاً كان الرأي أو صوابا.
وإنما قصدت أن أنقذ من انخدعوا به إن كان عندهم بعض من علم أو بقية من إنصاف، حتى يعودوا إلى جادة الطريق ويدعوه وما اختار من الانحراف والله الموفق الهادي إليه فوضت أمري وعليه اعتمادي.
القول المشرق
۲۳
مقدمة
تمهد بها لموضوع بحثنا، وهي تشتمل على مسائل:
١ - الحكم الشرعي: ينقسم قسمين:
حكم تكليفي: وهو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير. فإن اقتضى الفعل اقتضاء جازمًا فإيجاب والفعل واجب أو فرض كالصلاة والصيام والزكاة.
وإن اقتضى ترك شيء اقتضاء جازمًا فتحريم، والفعل حرام ومعصية. وإن اقتضى ترك شيء اقتضاء غير جازم فكراهة، فالفعل مكروه كصلاة نفل بعد العصر.
وإن خير فإباحة والفعل مباح كالبيع والإجارة، وتناول الطيبات. وحكم وضعي أي جعلي، وهو خطاب الله المتعلق بجعل الشيء سببا أو شرطا أو مانعا.
فالسبب هو ما يلزم من وجوده وجود الحكم ومن عدمه عدمه»،
كالزوال؛ إذا وجد وجبت صلاة الظهر، وإذا لم يوجد لم يجب الظهر. والشرط: هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ولا عدمه»، كالطهارة من الخبث والحدث؛ شرط في صحة الصلاة فإذا فقدت الطهارة فقدت الصلاة شرعًا، وإذا وجدت لم توجد الصلاة، لجواز أن يتطهر في وقت لا تجوز فيه الصلاة. والمانع: هو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود
٢٤
الفقه
الحكم ولا عدمه»، كالحيض؛ وجوده يمنع وجوب الصلاة والصوم، لكن عدمه يوجب الصلاة والصيام لأن الحائض قد تطهر في وقت لا يجبان فيه
واللزوم المذكور في هذه التعريفات شرعي، وليس بعقلي.
- اليوم في عرف الشرع: هو الوقت الواقع بين طلوع الفجر، وغروب
الشمس». والليل: هو الزمان الواقع بين غروب الشمس وطلوع الفجر . ولا يخفى أن البلاد المشرقية، يبتدئ اليوم فيها قبل البلاد المغربية بساعة وساعتين وأكثر حسب اختلاف أطوال البلاد وقرب بعضها من مطلع
الشمس، وينشأ عن ذلك سبق بلاد على غيرها في الشروق والغروب.
فالعراق يسبق الحجاز بنصف ساعة، والحجاز يسبق مصر بنصف ساعة أيضًا، ومصر تسبق المغرب بساعتين، وهكذا كلما كان بلد أقرب إلى مطلع الشمس كان سابقا على غيره في الشروق.
ولكن هذا الاختلاف وصف طردي، أي لغو لم يعتبره الشارع وإنما اعتبر
اليوم كله فأوجب صيامه في رمضان وفطره في العيدين.
ثم إن اعتبر اليوم في كل بلد بحسب طوله في بدايته ونهايته ولم يعتبر اليوم في المشرق بالنسبة للمغرب ولا العكس لأن فروق الزمن تمنع من ذلك، فإذا غربت الشمس بالمشرق وجب عليهم صلاة المغرب، وأفطروا إن كانوا صائمين، لكن لا يجب على المغاربة صلاة المغرب في ذلك الوقت ولا يفطرون إن كانوا صائمين، لأن يومهم لم ينته بعد ، حتى إذا انقضت الساعات التي سبقهم بها المشرق وغربت الشمس عندهم حل لهم الإفطار حينئذ ووجب عليهم صلاة المغرب.
القول المشرق
٢٥
فيوم الخميس مثلا في المشرق هو يوم الخميس نفسه في المغرب، وإن كان تتقدم بدايته في المشرق وتتأخر نهايته في المغرب، كما تتقدم بعض البلاد على أخرى في قطر واحد، فبين فاس وطنجة فرق في الوقت، كما بين أسوان والقاهرة أيضًا. هذا أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
٣- وكذلك الليل يختلف بداية ونهاية مع المشرق كاختلاف النهار لما سبق
بيانه، غير أن الشارع اعتبره في عدة أحكام
۱ - جعل الهلال الذي يظهر فيه سببًا لوجوب الصيام والفطر في رمضان
وتعيين يوم عرفة لوقوف الحجاج به، قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا الرُؤْيَتِهِ».
۲ - جعله فطرًا للصائم وإن لم يأكل، قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِن ها هنا وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِن ها هنا وغَرَبَتِ الشَّمْسُ فقد أَفْطَرَ
الصَّائِمُ».
ولهذا لما سئل تقي الدين السبكي عن صائم حلف لا يفطر على حار ولا بارد، والطعام إما حار أو بارد، فكيف يبر في يمينه؟ فأجاب: «يبر في يمينه بغروب الشمس»، واستدل بهذا الحديث.
جعله ظرفًا لركن من أركان الصيام، وهي النية، قال النبي صلى الله
عليه وآله وسلَّم: «مَن لم يُبيِّتْ الصِّيَامَ مِن اللَّيْلِ فلا صِيَامَ لَهُ».
فأي شخص يريد الصيام يجب عليه أن ينويه، في جزء من الليل، وإضافة الليلة
إلى الصيام في قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَامِ ﴾ الآية [البقرة: ۱۸۷].
٢٦
الفقه
لأنها تشتمل على ركن من أركانه وهي النية قال الحدوشي: والفقهاء يعنون النية الفارقة فقط دون النية الصادقة وهذا غلط واضح وقصور قبيح
بل لا بد منهما معا.
فصل
إذا تمهدت هذه المقدمة، فنقول : مذهب المالكية والحنفية وجمهور العلماء أنه إذا ثبتت رؤية هلال رمضان في بلد، وجب الصيام على بقية البلاد الإسلامية. فإذا رؤي الهلال في الحجاز مثلا، وجب الصيام على العراق والشام واليمن ومصر وليبيا والمغرب وغيرها؛ لأن الهلال يولد مرة واحدة ولا يمكن أن تراه جميع البلاد دفعة لأسباب جغرافية تمنع من ذلك.
لا يجوز أن يقال: «لكل قطر رؤية خاصة به». لأنه يلزم عليه أحد أمرين: إما أن يكون في السماء هلالان وأكثر ، يظهر لكل قطر هلال، وهذا باطل. وإما أن الهلال يولد أكثر من مرة ليظهر في عدة أقطار، وهذا أشد بطلانا
من الأول. ومعنى وجوب الصيام على الأقطار: إذا رؤي الهلال بعد غروب الشمس يوم الخميس في الحجاز مثلا، وجب الصيام على الحجاز بلد الرؤية وعلى مصر والمغرب برؤية الحجاز، كذا قرر الفقهاء ونصوصهم موجودة في مظانها من
كتب الفقه.
فإن قيل: كيف يجب الصيام على المغرب برؤية مصر أو الحجاز وبينهما فرق كبير في الزمان؟ لأنه إذا كان الوقت في مصر السادسة مساء، يكون
القول المشرق
۲۷
الوقت في المغرب الرابعة.
فالجواب: أن الاختلاف في الوقت بالتقديم والتأخير يعتبر من الناحية الخاصة باليوم نفسه، بمعنى أنه لا يجوز صلاة الظهر في المغرب بزوال الشمس في الحجاز أو مصر، ولا يفطر الصائم في المغرب بغروب الشمس فيهما أيضًا كما سبق بيانه.
أما بالنسبة لأمر عام كرؤية الهلال التي يلزم عنها عموم الشهر لسائر البلاد فهو لغو لم يعتبره الشرع كما مر في المقدمة، لأنه نتيجة اختلاف أطوال البلاد وقرب بعضها من مطلع الشمس ، وإنما اعتبر منضبطا ناط به الحكم وهو الاشتراك في الليل، إن المغرب يشترك مع المشرق في الليل وهو الذي ربط بينهما وقديما قال الشاعر:
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيَّانـــا فــــذاك بنـــاتــــاني
فاعتبر جمع الليل بينه وبين أم عمر و تدانيا وقربا بينهما.
الليل.
فصل
تبين لك مما حرَّرناه أنَّ سبب صيام المغرب برؤية المشرق هو الاشتراك في
وسبق في المقدّمة أنَّ السبب: «ما يلزم من وجوده وجود الحكم، ومن عدمه عدم الحكم». والاشتراك في الليل كذلك، فإنه إذا وجد وجد صيام المغرب برؤية المشرق، وإذا لم يوجد لا يجب الصيام، هذا هو سبب الحكم وعلته، لا شيء آخر غيره. وبعد ما استمعت إلى ما بسطناه وأوضحناه، فاستمع إلى ما قاله صاحب
۲۸
الفقه
الإشكال، واحمد الله على نعمة العقل الذي أنعم به عليك، واسأله أن يُريك الحق حقا ويرزقك اتباعه، ويُريك الباطل باطلاً ويرزقك اجتنابه، فإنَّ من الخذلان أن تنعكس الأمور في عقل شخص وقلبه فيرى الحق باطلا والباطل
حقا، كما تلمسه في الثنايا هذا الإشكال، وبين سطوره وكلماته.
وإليك خلاصته
العمل برؤية المشرق معناه أن يعتبر العامل نفسه في الشهر الذي رؤي هلاله بالمشرق بحيث يلتزم حكمه في الصوم وفي الكراء وفي كل شيء، فإذا رؤي هلال رمضان بالمشرق وجب على العامل برؤيته أن يعتبر نفسه في رمضان من وقت الرؤية - الذي هو الساعة الثالثة بعد الظهر بالمغرب - فيصوم في تلك الساعة؛ لأنه الوقت من رمضان المشرق باتفاق العقلاء، فإن قال: لا يلزمني الصوم إلا بعد الغروب، سألناه عن ذلك الوقت الذي بين الساعة الثالثة التي رؤي فيها الهلال بالمشرق وبين الغروب من أي شهر هو ؟ فإن قال: «من شعبان»، كان قد ترك العمل برؤية المشرق ورجع إلى العمل برؤية المغرب، حيث لم يعتبر نفسه في رمضان المشرق ولم يلتزم حكمه من وقت ثبوت الرؤية، وإن قال: من «رمضان كان مفطرًا في الوقت الذي هو من رمضان باعتبار الرؤية التي يقول بها، وكان مخالفًا للشرع ولعلم الفلك، لأن الشهر في الشرع وفي الفلك لا يكون أوله نهارا. انتهى الإشكال العجيب !! وهو فاسد الاعتبار؛ لا بتنائه على شفا جرف هار. و بیان فساده من وجوه
الأول: أن اعتبار العامل لنفسه في رمضان المشرق شيء اخترعه من مخه ولا
القول المشرق
۲۹
أصل له في كلام الفقهاء، فلا عبرة به.
الثاني: أن ذلك الاعتبار الذي اخترعه إما أن يجعله شرطا للعمل برؤية
المشرق أو سببا له.
والأول باطل، لأنهم صرحوا بأن معنى العمل برؤية المشرق: صيام اليوم التالي للرؤية وصاحب الكلام أدرى بمعناه، فلا يجوز أن ندع شرحهم
ونتمسك بشرح نسبه إليهم، متقول عليهم.
فلم يبق إلا أن يكون سببًا، وهو باطل أيضًا بالوجوه الآتية:
الثالث: أنهم عللوا صوم المغرب برؤية المشرق للاشتراك في الليل، وهو يقضي على ذلك الاعتبار ويهدمه من أساسه، لأن الساعة التي يرى فيها هلال رمضان بالمشرق لا يحصل بها اشتراك في الليل فلا يجب صيام على المغرب، سواء اعتبر العامل نفسه في رمضان المشرق أم لم يعتبر.
الرابع: ينشأ عن ذلك الاعتبار مفاسد، منها: أن يعتبر العامل نفسه في نهار المشرق فيصلي الظهر في الساعة العاشرة صباحًا بوقت المغرب، ويصلي العصر في الساعة الواحدة، إذ لا فرق في الاعتبار بين الصلاة والصوم، ولا بين الليل
والنهار.
ومن خذلان صاحب الإشكال أن اخترع ذلك الاعتبار ليفسد به قول
الداعين إلى صيام المغرب برؤية المشرق، فوقع به في فساد، لم يخطر على باله. الخامس: أن الأحكام الفقهية لا تبنى على الاعتبارات المخية لكن تبنى على الأسباب الشرعية، والعمل برؤية المشرق حكم فقهي بني على سبب شرعي، وهو الاشتراك في الليل.
۳۰
الفقه
السادس: قرر أهل الأصول في مبحث المناسبة: «أن الوصف الذي يبنى عليه الحكم لا بد أن يكون مناسبا له».
بمعنى أن يترتب على انبناء الحكم عليه مصلحة يقصدها الشارع كمظنة المشقة التي علل بها الفطر وقصر الصلاة في السفر، فإنه ترتب عليها التخفيف،
وهو مقصود للشارع، قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: ١٨٥].
وكذلك الاشتراك في الليل مناسبة لصيام المغرب برؤية المشرق لأنه يترتب عليه اتحاد المسلمين في شعائر دينهم، والاتحاد أهم مقاصد الدين بعد الإيمان، حتى إن عمر رضي الله عنه لما رأى الصحابة يصلون التراويح فرادى ساءه منظر تفرقهم واختلافهم في القيام والركوع والجلوس والسجود. فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه يؤمهم، ولما خرج مرة أخرى ووجدهم يصلون مجتمعين سره منظر اتحادهم، وقال: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ». وكره بعض التابعين للمصلين في جماعة أن يتنفلوا بعض الصلاة فرادي وقال: «بينما هم جميع اختلفوا».
واعتبار العامل نفسه في رمضان المشرق لا مناسبة فيه بل لا وجود له، وإنما اخترعه صاحب الإشكال ليفسد به قول الداعين إلى الاتحاد، ناسيا قول الله
تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: ١٠٣].
السابع: أن السبب الذي بني عليه الحكم يجب أن يكون مطردًا لا يختلف في صورة من صور الحكم، كالزوال لوجوب الظهر، ومغيب الشفق لوجود
القول المشرق
۳۱
العشاء، والاشتراك في الليل لوجوب صيام المغرب برؤية المشرق، فهذه
الأسباب قائمة مطردة، لا تتخلف على مدى الدهر.
أما باعتبار العامل نفسه في رمضان المشرق فأمر عدمي لا وجود له إلا في ذهن المعتبر، وليس كل واحد يلاحظ هذا الاعتبار أو يتفطن له كما هو الشأن في الاعتبارات الذهنية الخيالية.
فكيف يبنى حكم فقهي على أمر خيالي لا وجود له؟ وكيف ينسب القول به أو بما يلزم عنه إلى العلماء الذين يوجبون الصيام برؤية المشرق وهم أعقل وأذكى من أن ينطقوا بهذا السخف ؟!
فإن قال: هو لازم لقولهم، قيل :له نعم في مخك بحسب فهمك، أما عند العلماء فلا تلازم بينهما ولا تقارب.
الثامن: أن ذلك الاعتبار يؤدي إلى أن يكون الناس في رمضان قسمين: من لاحظ واعتبر نفسه في رمضان المشرق وجب عليه الصيام، ومن لم يلاحظ لم يجب عليه الصيام، ولم يعهد في فريضة عينية أن تجب على شخص دون الآخر إلا لعذر كمرض مثلا.
فإن قيل: يجب على الشخص أن يعتبر نفسه في رمضان المشرق، كما قال صاحب الإشكال فيها مرَّ عنه، فإذا رؤي هلال رمضان بالمشرق وجب على
العامل برؤيته أن يعتبر نفسه في رمضان من وقت الرؤية.
قلنا: يبطلهما ما يأتي، وهو:
التاسع: أن الواجبات المطلقة تكون أسبابها أمورًا غير مقدورة للمكلف، خذ مثلا الصلوات الخمس ؛ أسباب وجوبها أوقات خارجة عن قدرة المكلف،
۳۲
الفقه
كالزوال والغروب، والصيام سببه ظهور ،الهلال، والزكاة سبب وجوبها حولان الحول، بل التكليف من أصله يُناط بسبب ليس في طاقة الشخص؛ وهو البلوغ.
بخلاف الواجبات المقيدة فإن أسبابها أفعال المكلف لأنها إنها وجبت عقوبة عليه وكفارة عنها، كالواجبات التي أوجبها الشارع على القاتل المخطئ، والمظاهر، والمفطر في رمضان عمدا، والحانث في يمينه، والناذر نذر اللجاج، وذلك الاعتبار فعل المكلف، لا يجوز أن يكون سببا للصيام الذي هو فريضة مطلقة. وقد جعل الشارع ظهور الهلال لها سببًا ولا يجوز أن نوجب ذلك الاعتبار لأنه لم يأت بوجوبه آية ولا حديث ولا اقتضاء قياس.
بل لا أصل له كما قدمنا ، وإنما اخترعه صاحب الإشكال في مخه ليفسد قول الداعين إلى توحيد المسلمين في الصيام والإفطار، ولم يكن له ورع يمنعه من نسبته إليهم وإلزامهم وهم بريئون منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب. العاشر: إنه على فرض الاعتبار في الأحكام الفقهية وأسبابها، فإيراده على الوجه الصحيح هنا أن يقال: إذا رؤي هلال رمضان في المشرق، وجب على العامل برؤيته: أن يعتبر نفسه في تلك الساعة التي هي ا الساعة الثالثة بعد الظهر أنه رأى الهلال كما رآه أهل المشرق، وحينئذ لا يجب عليه الصيام في تلك الساعة، لأن المقرر في علم الفقه أن رؤية الهلال نهارًا تعتبر لليلة المقبلة.
قال العلامة الشيخ خليل في "المختصر": «ورؤيته نهارًا للقابلة». وبناء على ذلك يصوم المغرب مع المشرق في اليوم التالي للرؤية هذا هو الاعتبار الصحيح الذي عمي على صاحب الإشكال فلم يهتد إليه لتعصبه
القول المشرق
۳۳
الشديد ولدده في الخصومة.
الحادي عشر: قدمنا أن المشرق يسبق المغرب في الشروق والغروب بساعتين، وأن يوم الخميس مثلا في المشرق هو يوم الخميس في المغرب، غير أنه يبتديء وينتهي في المشرق قبل المغرب، فإذا رؤي بعد غروب شمسه في المشرق هلال رمضان، فلا أحد من العقلاء يقول عن الساعات التي بقيت منه في المغرب تعتبر من رمضان لأسباب:
١- أنه لم يعهد في يوم أن يكون بعضه من شعبان وبعضه من رمضان، بالنسبة لقطر ولا بالنسبة لقطرين.
۲- أن الزمان كما عرَّفه الحكماء: عرض غير قار بتشديد الراء- أي أنه حركة الفلك إلى أمام لم يتوقف إلا ساعة من نهار ليوشع، كما ثبت في "صحيح البخاري"، ولا يعود إلى خلف.
فإذا غربت الشمس بالمشرق يوم الخميس مثلا، خلفت بعدها ثلاث ساعات منه في المغرب، فإذا اعتبرنا تلك الساعات من رمضان فقد رجعنا بالزمان إلى خلف ثلاث ساعات، ثم قفزنا بها قفزة واحدة، فجعلناها من رمضان الذي لم تشرق شمس أول يوم منه في المشرق بعد!.
والرجوع بالزمان إلى خلف ثم القفز به إلى أمام في لحظة محال لا يقبله عقل إطلاقا، فكيف قبله صاحب الإشكال ؟! حيث سحب حكم رؤية الهلال بالمشرق يوم الجمعة على بقية يوم الخميس من شعبان بالمغرب فجعلها من رمضان مدعيًا وجوب صومها ولم يلتفت إلى فروق الوقت بين القطرين، لاختلاف أطوال البلاد وقرب بعضها بعضًا من مطلع الشمس، مما يؤدي إلى
٣٤
الفقه
تقدم بعضها على بعض ببضع ساعات.
نعم، لم يلتفت إلى هذا، ولا إلى ما قاله الفقهاء والفلكيون: إن الساعات الباقية على غروب الشمس بالمغرب هي بقية يوم الخميس من شعبان، جغرافيا وفلكيا وفقهيًا وزمنيًا، وأن الصيام لا يجب على المغرب إلا يوم الجمعة، بعد اشتراكهم مع المشرق في ليلة الجمعة التي رؤي فيها الهلال، ولعله اعتبر الزمن سيارة بيده ضمانها فهو يردها إلى خلف ويقدمها إلى أمام مسابقة بين المشرق
والمغرب.
بل هذا الاعتبار ناشئ عن اعتبار السابق، ولازم له لزوم الظل الناعت لأن من يقتطع ثلاث ساعات من نهار شعبان ويعتبرها من رمضان، لا يتم له ذلك إلا بأن يعتبر الزمان سيارة يقدمها راكبها ويؤخرها حسب الهوى الفقهاء-
والمزاج، أما بحسب الواقع الجغرافي للبلاد فالعقلاء جميعًا - ومنهم الـ يعرفون أن المشرق يسبق المغرب ببضع ساعات، ويدركون الضرورة العقلية أنهم لا يستطيعون اقتطاع ساعة أو أكثر من شهر شعبان بالمغرب وضمها إلى رمضان المشرق. أن يوم الصيام لا بد أن يتقدم عليه ليلة يحصل في جزء منها نية الصوم، وتلك الساعات الباقية من نهار شعبان لم يتقدم عليها ليل ينوي فيها صيامها
فلا تكون من رمضان بل تبقى من شعبان كما خلقها الله كذلك. ومن عجيب أمر صاحب الإشكال وتناقضاته المكشوفة أن يعمد إلى الاشتراك في الليل الذي هو سبب صيام المغرب برؤية المشرق ويدعي أنه لا علاقة له بالموضوع مع أنه وصف مناسب للحكم، مطرد لا يختلف كما مر بيانه
٣٥
القول المشرق
مفصلا، ثم ينتزع بقية يوم من شعبان بالمغرب فيضمها إلى رمضان باعتبار
خيالي ولا عبرة به ويبني عليه الزامات لا تلزم إلا في عقل سقيم. وليس هذا شأن الباحث عن الحقيقة الراغب في الوصول إلى الحق، ولكنه شأن العنيد الألد الخصم الذي يسير في أبحاثه ومناقشاته على مبدأ «معزة ولو طارت» وهو في الحقيقة مخلص لهذا المبدأ، متمسك به أشد التمسك لم يتخل عنه لحظة ولا ابتعد عنه قيد أنملة، والثبات على المبدأ يمدح ولا يعاب، ينظر
الثاني عشر.
فصل
نعيد فيه ذكر الحكم مصحوبًا بسببه لإغلاق باب الهرب على صاحب الإشكال، ولقطع شغبه، فنقول :
ا
إذا رؤي هلال رمضان بعد غروب الشمس يوم الخميس في المشرق فلا يجب على أهل المغرب صيام في تلك اللحظة التي توافق الساعة عندهم لأنهم ليسوا في رمضان بل هم لا زالوا في بقية يوم الخميس من شعبان، حتى إذا انقضى اليوم عندهم بغروب شمسه ودخلوا في ليلة الجمعة، فحينئذ فقط يجب عليهم الصيام برؤية المشرق لوجود سببه وهو الاشتراك في الليل أما قبل ذلك فلا يجب عليهم صيام حتى ولو اعتبروا أنفسهم مقيمين بالمشرق هذا معنى عمل المغرب برؤية المشرق في مذهب المالكية والحنفية وجمهور العلماء وهو الموافق لعلم الفلك والفروق الوقت بين البلاد وحسب أطوالها. وما يقال سوى ذلك مما اخترعه صاحب الإشكال وهول به كله هذر
٣٦
الفقه
وهذيان يجب طرحه في زوايا الإهمال والنسيان ويلهب ظهر مفتعله بسياط
الدليل والبرهان فإن أنصف ورجع فالخير لنفسه أراد وإن أصر على الخلاف وألحف في العناد، فنحن له بالمرصاد، والله ولي التوفيق.
تمت الرسالة " البيان المشرق لسبب صيام المغرب برؤية المشرق" وهي رسالة ناصعة لامعة، جامعة مانعة وكشفنا بها عن وجه الحق ما غشيه من
ضباب، وأقفلنا في وجه المتعنت للهرب كل باب
والحمد لله في البدء والختام ، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد خير الأنام
وعلى آله الكرام، ورضي الله عن صحابته الأعلام.
تم تبييضها عصر يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ا تسعين وثلاثمائة وألف هجرية.
٣- دَفْعُ الشَّكُ والارْتِيابِ عن تحريم نِسَاءِ أَهْلِ الكِتَابِ
زواجُ النَّصَارى قبحُهُ متزايد يؤدي إلى كفر البنين مؤكدا ومَنْ يرضَ كُفَرَ ابن له فهو كَافِرٌ وإِنْ زَعَمَ الإسْلامَ قولا مفنَّدا وقد يَكْفُرُ الزَّوْجُ اتَّبَاعَا الزَوْجِهِ فيدخل في نار الجحيم مخلدا عليك بذاتِ الدّين إن كنتَ راغبا زواجًا صحيحًا تبد فيه مُسَدَّدا وذر عنكَ أهلَ الكُفْرِ واحْذَرُ زواجَهُمْ فشرهموا يبدوا كثيرا منددا زواجهموا في عصرنا كلـه زنـا وعقد زواج باطل حيثما بدا وأولاد هذا العقد ليسو الرِشْدَة فيكثر جيل الخبثِ فَرعًا وتَحتَـدا
دفع الشك والارتياب
٤١
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين،
ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد: فهذا جزء كتبته في تحريم الزواج باليهوديات والنصرانيات لما يترتب عليه من مفاسد ومضار في الدين والدنيا، مع اندفاع كثير من المسلمين في هذا الزواج المزري بدينهم والداعي إلى كفر أولادهم والعياذ بالله تعالى، وهم لا يرون في ذلك حجرًا ولا عيباً لانطماس بصيرتهم وجهلهم بقبح ما ينشأ عنه من كفر الأب بكفر أولاده حيث رضى به وأقره، وسميته: "دفع الشك والارتياب عن تحريم نساء أهل الكتاب".
وكان الباعث لي على تأليفه وقوع السؤال عن حوادث مؤلمة وقعت في
الزواج بالنصرانيات يأتي ذكر بعضها إن شاء الله تعالى. والله المسؤول أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم ويهدينا الصراط
المستقيم.
٤٢
الفقه
هل يجوز التزوج بالنصرانيات؟
حصل خلاف في ذلك بين العلماء:
قالت طائفة : حرَّم الله نكاح المشركات في سورة (البقرة) في قوله تعالى:
وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَ ﴾ [البقرة: ٢٢].
ثُمَّ خص من هذه الجملة نساء أهل الكتاب فأحلهن في سورة (المائدة) في قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِل قَمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا اتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ [المائدة: ٥].
قال الإمام الشافعي في الآية : وقد قيل: هذه الآية في جميع المشركين ثم نزلت الرخصة بعدها في إحلال نكاح الحرائر من أهل الكتاب خاصة كما جاءت في ذبائح أهل الكتاب، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ قَمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ . اهـ
وقال إسحاق الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرَّموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية». قال النحاس: «ومن الحجّة لقائل هذا مما صح سنده أنَّ عبد الله بن عمر كان إذا سُئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرَّم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله».
دفع الشك والارتياب
٤٣
ورد النحاس هذا القول بأنه: «خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة؛ لأنه قد قال بتحليل نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة
منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة.
ومن التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وطاووس وعكرمة والشعبي والضَّحَّاك، وفقهاء الأمصار عليه.
وأيضًا فيمتنع أن تكون الآية في (سورة البقرة) ناسخة للآية في (سورة المائدة) لأن (البقرة) من أول ما نزل بالمدينة و(المائدة) من آخر ما نزل، وإنما الآخر ينسخ الأول. وأما حديث ابن عمر ، فلا حُجَّة فيه؛ لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا موقفاً فلما سمع الآيتين؛ في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ ، وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل».اهـ
وقال البخاري في صحيحه: باب قول الله تعالى: وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ [البقرة: ۲۲۱]: «حدثنا قتيبة : حدثنا الليث، عن نافع: أنَّ ابن عمر كان إذا سئل عن
نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرَّم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله». قال الحافظ ابن حجر في شرحه المريُبيّن البخاري حكم ا المسألة لقيام الاحتمال، فالأكثر أنها على العموم وأنها خصت بآية (المائدة)، وعن بعض
٤٤
الفقه
السلف أن
وغيره.
المراد بالمشركات هنا عبدة الأوثان والمجوس، حكاه ابن المنذر
ثم أورد المصنف قول ابن عمر في نكاح النصرانية، وقوله: «لا أعلم من الإشراك شيئًا أكثر من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهذا مصير منه إلى استمرار حكم عموم آية (البقرة)، فكأنه يرى أن آية (المائدة) منسوخة، وبه جزم إبراهيم الحربي، ورده النحاس فحمله على التورع كما سيأتي. وذهب الجمهور إلى أنَّ عموم آية (البقرة) خص بآية (المائدة) و
ا وهي قوله: وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5] فبقي سائر المشركات على أصل التحريم. وعن الشافعي قول آخر: أنَّ عموم آية (البقرة) أريد به خصوص آية (المائدة). وأطلق بن عباس أن آية (البقرة) منسوخة بآية (المائدة)، وقد قيل: إن ابن عمر شذ بذلك. وقال ابن المنذر : «لا يحفظ عن أحد من الأوائل أنه حرم
ذلك» . اهـ
لكن أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن أن عطاء كره نكاح اليهوديات والنصرانيات، وقال: كان ذلك والمسلمات قليل»، وهذا ظاهر في أنه خص الإباحة بحال دون حال. وقال أبو عبيد المسلمون اليوم على الرخصة. وروي عن عمر أنه كان يأمر بالتنزه عنهن من غير أن يحرمهن. وزعم ابن المرابط تبعا للنحاس وغيره أن هذا مراد ابن عمر أيضًا، لكنه خلاف ظاهر السياق.
لكن الذي احتج به ابن عمر يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من أهل
دفع الشك والارتياب
٤٥
الكتاب لا من يوحد ، وله أن يحمل آية الحل على من لم يبدل دينه منهم. وقد فصل كثير من العلماء كالشافعية - بين من دخل آباؤها في ذلك الدين قبل التحريف أو النسخ أو بعد ذلك وهو من جنس مذهب ابن عمر،
بل يمكن أن يحمل عليه». اهـ كلام الحافظ.
ونوضح مواضع فيه تحتاج إلى توضيح:
فقوله: «وأطلق ابن عبّاس القول بأن آية (البقرة) منسوخة بآية (المائدة)». يعني: أنها مخصوصة؛ لأن أكثر المتقدمين يطلقون النسخ ويريدون التخصيص كما هنا.
وقوله: «وعن الشافعي قول آخر: أن عموم آية (البقرة) أريد به خصوص آية (المائدة)». يعني: أن (البقرة) حرمت المشركات غير الكتابيات، فتكون من العام الذي أريد به الخصوص، أما على القول المشهور أن آية (البقرة) حرمت المشركات عامة كتابيات وغير كتابيات وخصت آية (المائدة) خصوص الكتابيات، فتكون من العام المخصوص.
وقوله: «وقد فصل كثير من العلماء الشافعية... إلخ».
يريد أن الشافعية وغيرهم فصلوا القول في إباحة الكتابية فقالوا: إن كان آباؤها دخلوا في الدين المسيحي أو اليهودي قبل دخول التحريف فيه أو قبل نسخه بالإسلام فيجوز نكاحها؛ لأنها من الذين أوتوا الكتاب حقيقة، وإن كان آباؤها دخلوا في الدين بعد تحريفه أو نسخه فلا يجوز نكاحها لأنها ليست من أهل الكتاب حقيقة. وقد كنت أميل إلى هذا الرأي، أن النصارى اليوم تنصروا بعد دخول
٤٦
الفقه
التحريف فيه وبعد نسخه بالإسلام فليسوا بكتابيين، فلا يصح التزوج
بنسائهم ولا أكل ذبائحهم.
11
ثم وقعت على ما ينفي ذلك في صحيح البخاري" عن ابن عباس في الكتاب الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل وفيه: «أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويَتَأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: ٦٤] .
قال الحافظ في "فتح الباري" في الكلام على هذا الحديث: «واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل وهم ممن دخل
في النصرانية بعد التبديل، وقد قال له ولقومه: يَنأَهْلَ الْكِتَابِ ، فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب، خلافًا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل، والله أعلم. الخلاصة: حرمت آية (البقرة) نكاح المشركات عامة، ووقع عليه إجماع العلماء، أما آية (المائدة) فأباحت زواج المسلم بالكتابية فحصل الخلاف بين الآيتين بالعموم والخصوص، وللعلماء في الجمع بينهما مسلكان
۱ - مسلك الجمع : بتخصيص آية (البقرة) بآية (المائدة) : وهذا مذهب جماعة من الصحابة: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله
دفع الشك والارتياب
٤٧
وابن عباس وجابر وحذيفة.
وجماعة من التابعين : سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وطاووس ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي والجمهور.
٢ - مسلك الترجيح بتحريم زواج الكتابيات تمسكًا بعموم آية البقرة: حكى إبراهيم الحربي هذا القول عن طائفة من العلماء وفي مقدمتهم
عبد الله بن عمر ، صح النقل عنه بذلك، والإمام البخاري له ميل إليه.
ولهذا القول دليلان
أحدهما: تقديم مفسدة التحريم على مصلحة الإباحة، كما تقرر في الأصول. ثانيهما: قوله تعالى: أَوَلَيْكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: ٢٢١]، ولا شك أن الكتابيات داعيات إلى النار بمقالهن وحالهن فعلة التحريم متحققة فيهن والحكم يوجد بوجود علته.
(تنبيه): اعتبر الجمهور جواز إباحة الكتابيات رخصة، واستحبُّوا التورع عنها ورغبوا في ترك الزواج بهنَّ.
روى ابن أبي شيبة عن عبد الملك قال: سألت عطاء عن نكاح اليهوديات
والنصرانيات فكرهه وقال : كان ذلك والمسلمات قليل.
وروى الشافعي، ومن طريقه البيهقي في "السنن" عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا، فلما رجعنا طلقناهن.
ΕΛ
الفقه
وروى عبد الرزاق في "المصنف" عن قتادة قال: إن حذيفة نكح يهودية في زمن عمر فقال عمر: طلقها فإنها جمرة ، قال : أحرام هي؟ قال: لا، فلم يطلقها حذيفة لقوله، حتى إذا كان بعد ذلك طلقها.
قول عمر: فإنها جمرة، يشير إلى قوله تعالى : أَوَلَيْكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ . ورواه البيهقي من طريق أبي وائل قال تزوج حذيفة رضي الله عنه يهودية فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها فقال : إن أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات.
وروى عبد الرزاق عن عامر بن عبد الرحمن بن نسطاس أن طلحة بن
عبید الله نكح بنت عظيم اليهود فعزم عليه عمر إلا طلقها. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أحب إلي لو لم ينكحهن مسلم. وقال ابن حبيب من أئمة المالكية بالأندلس : ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى، مستثقل مذموم وكتب مُحسّي "الهداية" من كتب الحنفية، على قول المؤلف: «ويجوز تزويج الكتابيات»، ما نصه: «والأولى ألا يفعل ولا يأكل ذبيحتهم إلا لضرورة» . اهـ وقد حصل هذا فقد ترك كثير الزواج بالمسلمات وهرعوا إلى الزواج بالنصرانيات حبا الجمالهنَّ، مع ما في ذلك من مفاسد يأتي التنبيه عليها بحول الله. ثم التزوج بالكتابيات شرطه ألا تكون حربية، فإن كانت من أُمَّةٍ تحارب المسلمين لم يجز التزوج بها إجماعا.
روى ابن أبي شيبة عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لا يحل نكاح نساء أهل الكتاب إذا كانوا حرباً.
دفع الشك والارتياب
٤٩
روى أيضًا عن أبي عياض قال نساء أهل الكتاب لنا حلال إلا أهل الحرب فإن نساءهم وذبائحهم عليكم حرام.
وروى أيضًا عن الحكم قال: إن من أهل الكتاب من لا يحل لنا مناكحته ولا ذبيحته أهل الحرب.
والنصارى في هذا العصر يحاربون المسلمين محاربة حقيقية، فالإنجليز
احتلوا الهند منذ قرون وأذاقوا المسلمين هناك أنواع الذل والهوان. وانتشر الإسلام بجهاد الخلفاء العثمانيين في ألبانيا ويوغوسلافيا ورومانيا وبلغاريا والنمسا، فقام الإنجليز بمحاربة الإسلام في تلك البلاد حتى قضي عليه ولم يبق فيها إلا مساجد خاوية وأوقاف عليها وعلى كتب العلم من عهد الدولة العثمانية.
ثم سعوا في إبطال الخلافة الإسلامية حتى كان السلطان عبد الحميد آخر خليفة أسقطوه بعد الحرب العالمية الأولى، واحتلوا مصر والعراق وعمدوا إلى الشام فجعلوا أقاليمه الأربعة دويلات صغيرة، فأعطوا سوريا ولبنان لفرنسا، وسموا الأردن إمارة وجعلوا عليها الأمير عبدالله، وتركوا فلسطين تحت أيديهم ليسلموها إلى اليهود تنفيذا لوعد بلفور لعنه الله، وأطلقوا لفرنسا يدها
في مراكش، لتسكت عنهم في مصر.
وفرنسا احتلت الجزائر وتونس منذ مدة طويلة.
وإيطاليا احتلت طرابلس وأذاقت أهلها ألوانا من العذاب.
وإسبانيا تحتل سبتة ومليلية وبعض الجزر بالمغرب إلى الآن.
وبعد الحرب العالمية الأخيرة اغتصب اليهود بمعاونة إنجلترا وأمريكا
0.
الفقه
فلسطين وأنشأوا بها دولة إسرائيل، واعترف بها دول النصارى في هيئة الأمم المتحدة وأيدوا حقها في اغتصاب فلسطين والقدس، والمنصف منهم من
يطلب أن يكون للفلسطينيين دولة بجانب دولة اليهود، وهذه محاربة علنية. يضاف إلى ذلك ما يُصرّح به المستشرقون من طعن في الإسلام ونبي الإسلام، وما يقوم به المبشرون بالتبشير بالنصرانية في بلاد المسلمين، وما تصرح به اليونسكو في نشراتها من الطعن في المسلمين وتاريخهم، سوى ما يأتي من زعمائهم في بعض المناسبات من تصريحات تنضح بالحقد والعداوة للدين الإسلامي، مثل محاربة الإنجليز للإخوان المسلمين وقولهم: إنهم أخطر من
الشيوعية.
ولما رشح الأستاذ حسن البنا نفسه رحمه الله تعالى للبرلمان المصري في دائرة الإسماعيلية أبلغ السفير البريطاني مصطفى النحاس رئيس الوزراء أنهم لا يقبلون ترشيح حسن البنا أبدًا بحال، ولم يتم ترشيحه.
وتم الانقلاب الذي قام به جمال عبدالناصر بمساعدة الأمريكيين وتأييدهم، وكان شرط الأمريكيين على جمال أن يقضي على الإخوان المسلمين،
فنفذ الشرط في عام ١٩٥٤ وقضى عليهم كما هو معلوم.
وتردد في الصحف والمجلات أنَّ الحكومة السودانية تريد تنفيذ الأحكام الشرعية فاتصلت أمريكا برئيس الحكومة السيد صادق المهدي، وأفهمته أنها مستعدة لمساعدتها في أزمتها الاقتصادية بالقمح وغيره، بشرط ألا تنفذ أحكام
الإسلام.
وكيسنجر لعنه الله صرَّح في مؤتمر صحفي حين كان هو وزيرا للخارجية
دفع الشك والارتياب
الأمريكية بقوله: لا نسمح بقيام دولة إسلامية.
۵۱
فالنصارى يحاربون المسلمين بعملهم وقولهم وسلوكهم، لا فرق فيهم بين
دولة وأخرى، فيحرم الزواج بنسائهم بالإجماع.
وينبني على ذلك أنَّ عقد الزواج بإحداهن عقد فاسد؛ لأنه عقد محرَّم،
على
والعيش معها بهذا العقد عيش في زنا، لأن القاعدة الشرعية أنَّ العقد : حرام لا ينعقد ولا يحل. فالمتزوج بالنصرانية اليوم إنما يتزوج بزانية؛ لأن عقد زواجها غير صحيح فهما زانيان، وإلى هذا يشير قول عمر الملهم: فإني أخشى أن تعاطوا المومسات. يريد أن المسلمين سيكثرون التزوج بالكتابيات على وجه حرَّمه الشرع كما هو حاصل الآن، فيكون الزواج زنا، والكتابية حينئذ مومسة.
دليل آخر للتحريم
التحريم سدا للذريعة
من القواعد الشرعية المقرَّرة: أنَّ الوسائل تُعطى حكم المقاصد، فالوسيلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى المحرم محرمة.
فغسل جزء من الرأس عند غسل الوجه في الوضوء واجب؛ لأنه وسيلة
لإتمام غسل الوجه الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وسب معبودات الكفَّار هو في الأصل قربةٌ، لكن لما كان وسيلة إلى أن يسب الكفار المعبود الحق حرَّمه الله تعالى فقال: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُوا اللَّهَ عَدُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ
۵۲
الفقه
فيتهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: ١٠٨].
فسب معبودات النصارى حرام؛ لأنه يؤدّي إلى سب الله تعالى.
وقال تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا أَنْظُرْنَا [البقرة: ١٠٤]، كان الأنصار يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «راعنا» أي انظرنا، وكان اليهود يقولون هذه الكلمة تشبها بالأنصار ويقصدون أنه فاعل من الرعونة وهي الحمق، فحرَّم الله هذه الكلمة لأنها تؤدي إلى شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم . ولهذه القاعدة أمثلة من الكتاب والسُّنَّة وأقوال العلماء وهي قاعدة متفق عليها. وزواج المسلم بالنصرانية في هذا العصر فيه مفاسد توجب تحریمه
منها : أنَّ زوجها المسلم يجاملها بإظهار التبرك بالصليب.
حكى لي أحد الأخوة أنه عاد مريضًا متزوّجا بنصرانية، وأظنه كان شريفا، قال: فوجدتُ فوق رأسه صليبًا مُعلَّقًا، فقلت له: ما هذا يا فلان، فاعتذر بأن
زوجته فعلت ذلك فكيف حاله لو وافته المنية على هذه الحال؟!
ومنها: أنها لا تغتسل من الحيض، وزوجها لا يأمرها بذلك، والله تعالى يقول: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، فهو يأتيها في نجاسة دائمة، وهي نجاسة شرعية.
ومنها: أن النصرانية لا تلتزم بالحجاب الشرعي ولا تعرفه، فهي تلتقي بأصحاب زوجها المسلم وهي عارية الصدر مكشوفة الذارعين في حضوره
وغيبته، وفي الدار وخارج الدار، وهو لا ينكر ذلك ! بل ربما يرضاه ويقره !! .
دفع الشك والارتياب
ومنها:
٥٣
أن النصارى لا يعرفون البكارة ولا يهتمون بها، فقد تذهب
بكارتها في زنا - وهو المؤكَّد - ثُمَّ يتزوجها مسلم !! ولما كنت في أمريكا علمت أن البنت تمشي مع شاب مدة ويتصل بها، ثم لا
يعجبها فتتركه، وتتصل بشاب آخر وهكذا حتى تقع في شاب تحبه فتتزوجه بعد أن زالت بكارتها.
ومنها: أن تشترط النصرانية على المسلم الذي يتزوجها أن البنات يتبعنها في دينها، وقبوله هذا الشرط كفر وإن لم تولد البنات، وفي طنجة من تزوج إنجليزية على هذا الشرط.
ومنها: وهو أشدها قبحا أن الأولاد يتنصرون حتما، تبعا لأمهم النصرانية؛ لأن الزوج إذا مات ضمَّتهم الأم إليها وربَّتهم على دينها، وإذا طلقها فلا
يسمح له القانون أن يأخذ أولاده، بل يبقون مع والدتهم النصرانية. وأذكر بعض الحوادث شاهدتها أو سئلت عنها، وهي نموذج لما لم أذكره
وعنوان عليه:
١ - كان شخص يسكن بوادي حرصان بطنجة وهو متزوج بإسبانية، له منها ثلاث بنات كبراهن اسمها عائشة، وكنت أراهنَّ إذا ذهبت لزيارة إحدى خالاتي، إذ كنَّ من جيرانه، وبعد مدة توفي الأب، فأخذت الأم بناتها الثلاث وسافرت بهنَّ إلى أسبانيا، وهن الآن نصرانيات.
٢- وكان شخص يسكن بالسقاية الجديدة بطنجة، أعرف داره ومررت عليها مرات، وهو من أشراف ،وزان تزوَّج بفرنسية وأنجب منها ثلاثة أولاد، توفي أيضا فأخذت زوجته أولاده إلى فرنسا فهم يعيشون معها والعياذ بالله.
٥٤
الفقه
شخص من كبار الموظفين بالرباط تزوّج نصرانية فرنسية وله منها أربعة أولاد حصل بينه وبينها نزاع استحكم أمره، فدبرت أمر السفر في خفية منه، وفي يوم رجع إلى بيته فوجده خاليًا، وعلم أنها سافرت إلى فرنسا، فذهب إليها لينقذ أولاده منها فلم يفلح وعاد بخفي حنين وأولاده الأربعة هم نصاری فرنسیون!!
- شريف من أولاد ابن عجيبة تزوّج نصرانية أسبانية، وعاش معها في مدريد وتوفي، فأولاده ،نصارى، ويحكى من كرامات سيدي الحاج عبدالقادر بن عجيبة أنه قال : سيكون في ذريتنا نصارى !!.
ه - شخص يشتغل طبيبًا في بلجيكا وهو من جملة المغاربة الذين يشتغلون هناك، تزوج نصرانية وخلف منها ثم انفصل عنها، فلم يستطع أخذ أولاده منها بحكم القانون، وخطب بنت رجل هنا في طنجة وبعث أبو المخطوبة يسأل عن هذا الزواج فأجبته.
٦- شخص تزوج بنصرانية وله منها أولاد ثم طلقها ولم يأخذ أولاده بحكم القانون، وخطب من بعض الناس هنا.
لما كانت بمصر عرفت قضية من هذا القبيل شخص اسمه محمود ذهب إلى انجلترا يتعلَّم، وتزوج إنجليزية وخلف منها ولدا ثم قامت الحرب العالمية الأولى فرجع إلى مصر واستقرَّ بها وتزوّج، أما الإنجليزية فربت ولدها وكبر وتزوج وأنجب أربعة أولاد وأخبرته أمه أن والده بمصر وأعطته صورته واسمه وعنوانه وحضر إلى القاهرة وعرف عنوان أبيه بحي باب الشعرية، الحي الذي فيه ضريح الشيخ عبدالوهاب الشعراني، واتصل بوالده
دفع الشك والارتياب
٥٥
ونشرت صورتهم في الأهرام محمود الأب في الوسط عن جانبه أولاده
المصريون المسلمون، وعن جانبه الآخر أولاده النصارى من الإنجليز !!. - محمد بوكماخ من أهل طنجة تزوج ألمانية وأنجب ولدين ثم مرض مرضا اقتضى أن تعمل له عملية جراحية ولم تنجح، فمات وأخذت امرأته الولدين إلى بلدها ألمانيا.
٩- في بلدة القنيطرة معالجة بلجيكية وهي متعصبة في مسيحيتها، لها أولاد من زوجها المغربي الموجود معها، وهي تعلم أولادها في خفية من أبيهم طقوس دينها، وقيل لها كيف حال أولادك في الميراث ؟ فأجابت: أولادي لا يرثون من أحد وسيبقون مسيحيين.
هذا وأبوهم لا يعرف عنهم شيئًا ولا يعتني بتعليمهم شؤون الدين، فوزره عند الله كبير ولو كفروا مع أمهم فيعذبه الله معهم عذاب الكفار، وهذا من المواضع التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله.
وهناك حوادث كثيرة وقعت وتقع في بلجيكا وألمانيا وهولندا وأمريكا بحيث يحصل القطع بأن من تزوج نصرانية لابد أن يكون أولاده نصارى. وفي المغرب أيضًا تتكرر وقائع من هذا القبيل، والمسلمون يتزوجون النصرانيات لأغراض شخصية من الجمال والمال ونحوهما ويدعون
المسلمات من قرابتهنَّ .
وأسجل هنا منقبة عظيمة لمسلمي الباكستان:
مع
ذلك
لما ذهبت إلى لندن اتصلت بكثير منهم يشتغلون في أعمال ووظائف خطيرة، ونزلت عند بعضهم أيامًا باستدعاء منهم، وحضرت احتفالاتهم
07
الفقه
بالمولد النبوي وهم لا يجيدون النطق بالعربية إلا في قراءة القرآن، وحضرت احتفالاتهم العائلية الخاصة، وباحثتهم بواسطة ولدنا أحمد درويش الذي يتقن اللغة الإنجليزية - لعن الله أصحابها - فلم أجد أحدًا منهم يتزوج إنجليزية أبدا، ووجدت أولادهم متمسكين بالدين، يتعلمون القرآن على أستاذ خاص ويحضرون مع آبائهم الجمع والجماعات والمحاضرات الدينية التي يلقيها بعض العلماء، فسررت بهذا العمل من إخواننا المسلمين الباكستانيين حياهم الله وبياهم، ووقانا الشر وإياهم.
أما أولاد المسلمين الذين يتزوجون نصرانيات فهم كفار مثل أمهاتهم، ولا
يستطيع آباؤهم أن يردوهم إلى دينهم فتعسا لهم ونحشا.
وأذكر هنا قصة الصحابي الذي رغب أن يتزوج كتابية فردته خائبا : كانت هند ابنة النعمان بن المنذر ملك الحيرة من أجمل نساء العالم، وكانت نصرانية مثل أبيها، وكانت متزوجة بعدي بن زيد، فلما قتله أبوها ترهبت
وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة، حتى ماتت. ولما كان المغيرة بن شعبة واليا على الكوفة مرَّ بديرها ودخل عليها بعد أن استأذن فأذنت له، وبسطت له مِسْحًا فجلس عليه، وقالت له: ما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبًا.
قالت: والصليب، لو علمتُ أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم : ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت بنته، فبحق معبودك أما هذا أردتَ ؟ قال : إي والله، قالت: فلا سبيل
إليه، ثم قام وانصرف وقال فيها:
دفع الشك والارتياب
OV
أدركتِ ما مَنَّيتُ نفسي خاليا الله درك يا ابنــــة التعـانِ فلقد رَدَدْتِ على المغيرة ذِهْنَهُ إنَّ الملوك نقيَّةُ الأذهان يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي فالصدق خير مقالة الإنسان وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويسألها عن حالها؟ فقالت في
أبيات:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سُوقَةٌ نَتَنصَّفُ فأُفٍّ لدنيا لا يَدُومُ نَعِيمُها تُقَلِّبُ تاراتٍ بنا وتصَرَّفُ قولها: نتنصف؛ أي نستخدم، والمنصف بوزن مقعد الخادم، ويقال : بوزن
منبر أيضًا.
وعكس هذه القضية، قصة شاب من الإخوان المسلمين بمصر، كان في السجن وهرب منه وسافر إلى مالطة وتعرف بها على رجل أعمال نصراني وتردد عليه فرأته ابنته ورغبت في الزاوج به فعرض عليه أبوها أن يتزوجها ويشترك معه في تجارته الواسعة، فامتنع مع أنه لا يملك شيئًا، ثم سافر إلى بعض البلاد الأوروبية لإتمام تعليمه.
جواز نكاح الكتابية استثناء
تقدم أن نكاح الكتابية من قبيل الرخصة وبيان ذلك: أن الأصل هو تحريم نكاح الكافرات؛ لأن اختلاف الدين بين الزوجين يوجب تنافرًا لا يهنأ معه عيش، ثم رخص الشارع في زواج الكتابية لعذر كما حصل للصحابة في زمن الفتح بالكوفة، فإنهم تزوجوا الكتابيات لعدم وجود المسلمات، وكما قال
الفقه
عطاء: كان نكاح الكتابيات إذ المسلمات قليل.
ولهذا نص المالكية والشافعية والحنفية على كراهة نكاح الكتابية إلا لضرورة، ولا ضرورة مع وجود المسلمات العفيفات اللائي يطمئنَّ الزوج لعفتهنَّ وبكارتهن. أما إذا كانت الكتابيات من أمَّة حربية كما هو الحال في هذا العصر فالزواج
بهنَّ حرام بالإجماع، ولما فيه من المفاسد التي بينا بعضها. والزواج بهنَّ يعتبر زنا؛ لأنه على خلاف ما حده الشارع، وهو أحد أنواع
الزنا التي تقع اليوم باسم الزواج.
والنوع الثاني: ما يحصل من كثير من الشبان، يتصل أحدهم ببنت ويرافقها ، فإذا حملت منه تزوج بها وهي حامل منه ودخل بها، فهذا زنا.
والنوع ا فتشتكيه فيستدعيه البوليس ويلزمونه بالزواج بها أو الحبس، فيعقد عليها وهي
الثالث: أن يرافق البنت أيضًا، فإذا شعر بحملها هرب منها،
حامل
والنوع الرابع: كان معروفًا أيام الجاهلية قبل الإسلام، كانت البغي من بغايا العرب تزني مع ناس من عشاقها، فإذا حملت ووضعت أرسلت إليهم فحضروا وأخبرتهم بما كان منهم معها، وأن نتيجته مولودها الذي يرونه بين يديها، ثم تختار واحدًا منهم فتقول له هذا ابنك يا فلان، فيلتصق الولد به وينسب إليه ولا يستطيع إنكاره.
وهذا النوع من الزنا قد أحيته بنات الآن تمشي إحداهن مع الشبان فإذا حملت اختارت واحدا منهم لمصلحة لها في اختياره، وادعت أنه صاحبها
دفع الشك والارتياب
۵۹
فيخيره البوليس بين أمرين: إما الزواج بها فورا، وإما أن يذهب إلى الحبس،
فيختار الزواج ويتم العقد في الحال.
النوع الخامس : وهو أشد أنواع الزنا قبحًا وأقبحها فحشا ألا هو زواج النصراني بالمسلمة، وهذا مع الأسف الشديد يقع في طنجة وفي العرائش وفي الجزائر، تارة يدعي الإسلام وينطق بالشهادة كذبًا وفي حالات كثيرة يتزوج
المسلمة علانية من غير أن يدعي إسلاما ولا ينطق بشهادة!!.
وتحريم زواج الكافر بالمسلمة مع كونه منصوصا في القرآن الكريم هو معلوم من الدين بالضرورة، فمن اعتقد جوازه فهو كافر جزمًا.
ذكر بعض حوادث زواج نصراني بمسلمة: وأذكر حادثة سئلت عنها أيضًا نصراني إيطالي يشتغل مهندسا عند حكومة المغرب، وقد أشرف على ستين من عمره، وهو متزوج، رأى فتاة مسلمة عمرها ١٩ سنة فأعجبته وأحب الزواج بها وكلمها فرضيت بشرط أن ينطق بالشهادة فنطق بها وأثبت إسلامه أمام القاضي، لكن إجراءات قانونية لم يستطع إتمامها، فحالت دون زواجه بها، فأفتاهم بعض المتساهلين المتلاعبين بأن يتزوجها بالطريق العرفي، ورضيت البنت وأمها وخالتها، وتوقف أبوها وبعث يسألني، فأجبته بأن هذا الزواج لا يجوز ولا يصح، وأن نطق الإيطالي بالشهادة لا يكفي لزواج البنت لأنه لم يكن إسلامًا صحيحًا، بل لغرض الزواج، قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَ كُمُ الْمُؤْمِنَتُ مُهَاجِرَاتٍ من دار
الكفر إلى دار الإيمان فَامْتَحِنُوهُنَّ } [الممتحنة: ١٠].
الفقه
قال ابن عباس : امتحانها أن تستحلف بالله ما خرجت لبغض زوجها ولا لالتماس دنيا، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبًّا الله ولرسوله، فاستحلفها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فحلفت فلم يردها.
والذي يسلم ليتزوج مسلمة إسلامه لغرض، فهو غير صحيح، ويمنع من الزواج بها معاملة له بنقيض مقصوده
ولما كنت بمصر أيام الملك فاروق كان من موظفي القصر الملكي شخص قبطي اسمه رياض، أحب فتحية أخت فاروق وأحبته هي أيضًا، وأحب أن يتزوجها مدعيا الإسلام، فصدر قرار ملكي يمنع زواجها، ونشر في الجرائد، فهربت والدة فاروق بابنتها ورياض معها إلى أمريكا، وادعت أنه أسلم إسلاما صحيحًا، وأنه يقرأ (سورة الإخلاص)، وتزوج فتحية بدعوى إسلامه وخلف منها أولادًا، ثم تبيَّن أنه نصراني وتنصرت معه، وأخذ أموالها ومجوهراتها ثم قتلها وهي نصرانية والعياذ بالله وأمها تنصرت أيضًا وتزوجت بأمريكي نصراني !!.
ومنذ سنتين مات نصراني وترك زوجة مسلمة عملت له فدية أعدت طعاما ودعت طلبة تلوا القرآن ودعوا للميت وأخذوا أجرًا فحكم المرأة والطلبة أنهم ليسوا مسلمين قطعا؛ لأن هذا العمل الذي صدر منهم يعد تكذيبا للقرآن ومصادمة له، فالله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ هُمْ سسَعِيرًا خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرا } [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥]. ويقول : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا
دفع الشك والارتياب
٦١
أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: ١١٣]، فكيف يجوز لمسلم بعد هذا أن يترحم على كافر أو يستغفر له أو يهدي له قرآنا أو
صدقة؟!، من فعل شيئًا من هذا فهو ليس بمسلم، نسأل الله العافية. ومنذ أيام سمعنا في إذاعة الجزائر أن أمرأة سألت المفتي قائلة: إنها تزوجت
نصرانيا، وخلفت منه أو لادا فما حكم الأولاد؟
فأجابها المفتي: إنَّ زواجها بالنصراني زنا، وأن الأولاد منه أولاد زنا، وهي فتوى صحيحة جدا.
وقد حصلت حادثة كتبت عنها بعض المجلات، حاصلها أن فتاة مغربية من الدار البيضاء ذهبت إلى هولندا وتزوجها ،نصراني، وعلمت أختها المتزوجة فسعت في الطلاق من زوجها المغربي، وذهبت إلى تلك المدينة بهولندا ليتزوجها نصراني مثل أختها !!.
وهذه الحادثة تدل على تسابق المسلمات إلى الزواج بالنصارى، وهذا
انسلاخ من الدين والعياذ بالله تعالى.
والويل الشديد لمسلمة تتزوّج نصرانيا، ويجب عليها أن تراجع دينها
وتعجل بالتوبة من فعلها الشنيع.
٦٢
الفقه
تتميم
حكم ذبائح النصارى
سبق عن أبي عياض والحكم أن أهل الكتاب إذا كانوا حربيين تحرم ذبائحهم كما تحرم نساؤهم؛ لأنهم في هذه الحالة لا يؤمن منهم . أن يقدموا للمسلمين ذبائح لا يقرها الإسلام ككونها موقوذة مثلًا.
وهذا من فقه هذين الإمامين وبعد نظرهما رضي الله عنهما، فلا يوجد في ذبائح النصارى اليوم ما يتم على الطريق الشرعية، كما أخبرني فضيلة الأستاذ الشيخ فؤاد البرازي الواعظ بجيش الإمارات العربية، فقد أوفدته الحكومة إلى أوروبا ليبحث مسألة ذبائحهم التي يرسلونها إلى البلاد الإسلامية، فبحث وحقق وشاهد المجازر وما يخنق فيها، فما وجد فيها ما يوافق شريعة الإسلام. واليهود لعنهم الله أحسن حالا في هذا الباب، فإنهم لا يأكلون ذبائح النصارى وإنما يأكلون الذبائح التي يقرها حاخامهم، وألزموا شركات الطيران أن تقدم لهم اللحوم التي تتم بطريقتهم الخاصة. ولما كنت بأمريكا سألت الأمريكيين المسلمين عن اللحوم التي يقدمونها ؟ فقالوا: إنهم يذبحونها بمعرفتهم، وقالوا : إذا كنت في الطائرة وأردت أن تأكل لحما مذبوحا على الطريقة التي يبيحها الشرع فاطلب الكثير، وهو من
ذبائح اليهود.
والعجب من الشيخ محمد عبده؛ بعث إليه المسلمون من الترانسفال جنوب أفريقيا يسألونه عن لبس البرنيطة وعن البقرة التي تضرب على رأسها بساطور فتموت.
دفع الشك والارتياب
٦٣
فأفتاهم بإباحة البرنيطة مدعيًا أن الإسلام ليس له زي معين، وأباح لهم
أكل البقرة الموقوذة قياسًا على قول ابن العربي المعافري بإباحة الدجاجة التي يقتلها النصراني بفتل عنقها، لأنها طعامه.
ورد عليه علماء الأزهر مبينين خطأه في فتواه، منهم الشيخ يوسف
الشبرا نجومي، وردودهم مطبوعة.
والإسلام نهى عن التشبه بالكفار في لبسهم وفيما يختص بهم، بل الإسلام
ما أتى إلا بمخالفتهم كما هو معلوم لمن تتبع فروعه وقواعده وأريد أن أقول: إن الشيخ محمد عبده أخطأ في فتواه من الناحية السياسية مضافًا إلى خطئه في الناحية الدينية، فكان يجب عليه أن يراعي مصلحة
المسلمين الغرباء في تلك البلاد البعيدة عن الأقطار الإسلامية، فيفتيهم بـ
م بتجنب لبس البرنيطة واتخاذ غطاءًا للرأس يعرفون به كالعمامة مثلا، والبرنيطة شعار خاص بغير المسلمين، حتى إن أتاتورك لعنه الله حين انسلخ من الإسلام وأعلن أن تركيا دولة لا دينية، اتخذ البرنيطة شعارًا يُعرفون به أنهم غير مسلمين. وصرح المالكية بأن اللبس المختص بالكفار كالزنار والبرنيطة يكون لبسه ردة إن فعل محبة أو رغبة فيه.
ولما كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخًا للأزهر في عهد حكومة جمال خيبه الله تركوا الطربوش الذي كان غطاء للرأس عند جمهور المصريين، وأرادوا أن يتخذوا البرنيطة بدله واستفتوا شيخ الأزهر في ذلك فلم يوافق، لكنه رأى في مجلة الشؤون الاجتماعية أنه وافق على لبس البرنيطة، فاحتج على رئيس تحرير
المجلة، فقال له: إنه أمر بنشر هذا الخبر، فاستقال الشيخ من منصبه.
٦٤
الفقه
وكانت الحكومة عازمة على تنفيذ المشروع، لكن عاقتهم عنه عوامل من أهمها استقالة الشيخ فجأة، وبقي الشعب المصري من ذلك الوقت عاري
الرأس، ترك الطربوش فلم يرجع إليه، ووقاه الله لبس البرنيطة والحمد الله. ثم إن الشيخ محمد عبده أخطأه التوفيق في إباحة الموقوذة لمسلمي الترانسفال، كان يجب عليه وهو مفتي مصر بلد الأزهر مطمح أنظار المسلمين أن يكلم حكومته لتتصل بحكومة الترانسفال وتطلب منها مراعاة مصلحة المسلمين وتعين منهم من يقوم بذبائحهم على الوجه الذي يرضاه دينهم، وبذلك يثبت وجودهم وتحترم شريعتهم.
هكذا كان يجب عليه أن يفعل، لكنه لم يكن موفقا فيما سلك، فكأنه قال للمسلمين الذين استفتوه : لا عليكم ألا تهتموا بلباس إسلامي ولا بذبيحة إسلامية، ولكن ذوبوا في النصارى واندمجوا فيهم بحيث لا يكون لكم وجود ولا كيان، وهذا مآل فتواه ومغزاها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقد فتح بفتواه باب التساهل للمتساهلين الذين نهجوا على منهاجه، فأباحوا الموقوذة والدجاج المقتول بالكهرباء، وأثموا بما أفتوا به، وشاركهم في الإثم الشيخ محمد عبده الحديث : ومَن سَنَّ سُنَّةٌ سَيِّئَةٌ فعليه إثمها وإثم مَن عَمِلَ بها من غير أن ينقص من إثمهم شيء». ومن هؤلاء المتساهلين الشيخ يوسف القرضاوي، وله أيضًا شطحات وشذوذات في كتاب "فقه الزكاة".
ومن المتساهلين أيضًا وزير الأوقاف بالمغرب فإن من إرشاداته للعلماء الذين توفدهم الحكومة إلى أوروبا لتعليم العمال هناك أن يقول لهم: لا يقولوا
دفع الشك والارتياب
لهم عن شيء إنه حرام، كل شيء حلال !!.
والمقصود بكلامه إباحة الموقوذة وما شابهها.
10
٦٥
ويصدق على هؤلاء المتساهلين عموم قول الله تعالى: يُحرفون الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: ۱۳]، فَوَيْلٌ لَهُم مِّمَّا كَنَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: ٧٩].
وهذه أبيات جادت بها القريحة في موضوع ذبائح النصارى :
ذبائح أهلِ الكُفْرِ ليست مُباحَةً وإن كثر الإفتاء فيها مسهلا فليس يجوز الأكل منها مؤكّدًا وتحريمها قد جاء في الذكر منزلا ففيه أتى تحريم وقد مُصرّحًا وإن كان من أهل الكتاب مسجلا وتحليله تحريف حكم شريعة وفاعله يجزى عذابًا منكلا تم تحرير هذا الجزء يوم عرفة، سنة ثمان وأربعمائة وألف هجرية، والحمد
الله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الأكرمين.
٤ - الاسْتِقْصَاء
لأدِلَّةِ تحريم الاستمناء
هذا كِتابٌ ل يؤلف مِثْلُهُ إِلَّا كتابا واحدا للمُرْتَضَى لكن كتابي جامع ومحقق للبحث لم يَتْرُكُ سَبِيلًا يُبْتَغَى وبُحُوتُهُ مَدْعُومَةٌ بأدلة بَلَغَتْ إجادتها حدود المنتهى أرجو من الله الكَريمِ رِضَاءَهُ حتَّـى أنــال بــه كَمَالَ المُبتَغَى
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۷۱
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد
وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد:
فقد كتب إليَّ شاب من بورسعيد يسألني عن حكم الاستمناء وما جزاء فاعله؟ وماذا ينشأ عنه من الأدواء؟ وذكر أنَّ أكثر الشبان متورطون فيه لغلبة
الشهوة عليهم، وكثرة نظرهم إلى الفتيات المتبرجات.
يوم
فأجبته إجابة مختصرة كافية نشرت في مجلة" الإسلام" في العدد الصادر الجمعة (۱۱) من ذي القعدة (الحرام من سنتنا هذه سنة ثمان وخمسين
وثلاثمائة وألف هجرية، ختمها الله بخير.
ثم ظهر لي أن أفرد موضوع الاستمناء لعظم ضرره وعموم البلوى به بكتاب مستقل أدرج فيه الإجابة المذكورة، مع إيراد دلائل لم تذكر فيها وأفند فيه شُبه القائلين بإباحة هذا الفعل الخطير - وما أقلهم وأوهى شبههم قياما بخدمة ناحية من نواحي المجتمع الذي أصبح في حاجة شديدة إلى كثير من الإصلاح والتهذيب في جميع نواحيه.
وكتابي هذا هو ثاني كتاب في هذا الموضوع بعد رسالة السيد مرتضى الزبيدي المسماة بـ"القول الأسد في حكم الاستمناء باليد" ذكرها في شرح "القاموس" ولم نقف عليها.
۷۲
الفقه
فإن وُفِّقتُ إلى الصواب فتلك منة من الكريم الوهاب، وإلَّا فأملي من الله
ألا يحرمني الثواب، وسميته: "الاسْتِقْصَاءُ لِأَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الاسْتِمْنَاءِ".
أنيب.
ورتبته على مقدّمة وبابين وخاتمة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلتُ وإليه
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۷۳
مقدمة
الاستمناء في اللغة: استدعاء خروج المني بغير جماع سواء أكان باليد أم
بغيرها من الطرق المستعملة في ذلك.
قال الفيومي في "المصباح" : واستمنى الرجل: استدعى منيه بأمر غير الجماع حتى دفق» . اهـ ويسمى الاستمناء بالخضخضة أيضًا، وبجلد عميرة، كما ذكره أبو حَيَّان في "البحر المحيط" وذكر أن العرب يكنون عن الذكر بـ «عميرة» على صيغة
التصغير، وسيأتي نحوه في كلام القرطبي مع الاستشهاد عليه ببيت شعر.
الله
وقال ابن الأثير في النهاية" ما لفظه: «في حديث ابن عباس رضي ال عنهما: سئل ابن عباس عن الخضخضة، فقال: هو خير من الزنا، ونكاح الأمة خير منه. الخضخضة: الاستمناء وهو استنزال المني في غير الفرج، وأصل الخضخضة التحريك» . اهـ
ومثله في "السان العرب" لابن منظور، وأثر ابن عباس هذا سيأتي الكلام عليه بحول الله تعالى.
وفي "القاموس": «والخضخضة تحريك الماء والسويق ونحوه، والاستمناء باليد» . اهـ
قلت: التعبير باليد جرى على الغالب المعتاد من أن الاستمناء يكون باليد. وعبارة ابن الأثير أعم وأشمل.
ومثلها عبارة "تلخيص النهاية" للسيوطي، ونصها: «الخضخضة:
γε
الفقه
الاستمناء». وفي "القاموس" أيضًا ما نصه وأبو عمير كنية الذكر، وجلد
عميرة كناية عن الاستمناء باليد» . اهـ
فتلخص مما ذكر في هذه المقدمة الوجيزة أن «الاستمناء»، و«الخضخضة»، و «جلد عميرة» ألفاظ تطلق على معنى واحد هو استنزال المني بأمر غير الجماع. وهو ما يسمى في مصر بـ (العادة السرية؛ لأن الغالب في هذه الخصلة الخبيثة أنها تلح على صاحبها الذي تعودها إذا خلا بنفسه لا سيما إذا استعرض في مخيلته ما وقع نظره عليه من الصور الجميلة، ومن هنا وقع في شركها كثير من الشباب وكادت تودي بهم إلا من حفظه الله منها ومن بلاياها
(۱)
وأضرارها، وهذا ما دعاني إلى تأليف هذا الكتاب النافع إن شاء الله تعالى.
(۱) كان هذا قبيل الحرب العالمية الثانية حيث كان الرخاء وفراغ الوقت يحملان الشباب
على اللهو والعبث.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
الباب الأول
في تحريم الاستمناء وبيان دليله
yo
ذهب المالكية والشافعية والحنفية وجمهور العلماء إلى أن الاستمناء حرام، وهذا هو المذهب الصحيح الذي لا يجوز القول بغيره، وعليه أدلة كما سيتبين بحول الله تعالى.
الدليل الأول
قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا ملكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٧].
وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة ،ظاهر فإن الله تعالى مدح المؤمنين بحفظهم لفروجهم مما حرَّم عليهم وأخبر برفع الحرج واللوم عنهم في قربانهم لأزواجهم وإمائهم المملوكات هم مستثنيًا ذلك من عموم حفظ الفروج الذي مدحهم به. ثم عقب بقوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى أي طلب وراء ذلك أي سوى ذلك المذكور من الأزواج والإماء فَأُولَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ أي الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام؛ لأن العادي هو الذي يتجاوز الحد، ومتجاوز ما حده الله ظالم بدليل قوله تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٢٩] فكانت هذه الآية عامة في تحريم ماعدا صنفي الأزواج والإماء، ولا
شك أنَّ الاستمناء غيرهما فهو حرام ومبتغيه ظالم بنص القرآن.
٧٦
الفقه
وإليك نصوص المفسّرين وغيرهم من العلماء التي تؤيد ما قررناه وتؤكده: قال الإمام القرطبي في تفسيره" عند الكلام على هذه الآية ما نص المراد منه مما يتعلق بمسألتنا : (قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكًا عن الرجل يجلد عميرة، فتلى هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَجِهَكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٧].
وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة وفيه يقول الشاعر: إذا حَلَلْتَ بــوادٍ لا أنيس به فاجلِد عُمَيْرَةَ لا داءً ولا حرج (1) ويسميه أهل العراق الاستمناء، واستفعال من المني، وأحمد بن حنبل على ورعه يجيزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد والحجامة، وعامة العلماء على حرمته.
قال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت مسألة وياليتها لم تقل، ولو قام الدليل على
جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها.
فإن قيل: فقد قيل: إنه خير من نكاح الأمة.
قلت: نكاح الأمة ولو كانت كافرة - على مذهب العلماء - خير من هذا،
(۱) هذا البيت حجة في العربية لكنه ليس بحجةٍ في تحسين هذا الفعل القبيح؛ لأن قائله شاعر جاهلي ليس له وازع من دين ولا خُلُقٍ، فهو كأشعار الجاهلية التي افتخر
أصحابها بالزنا والقتل والإغارة على الآمنين.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۷۷
وإن كان قد قال به قائل أيضًا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير ؟!.
قوله تعالى: ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَجهِمْ قال الفراء: أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُم في موضع خفض معطوفة على أزواجهم، وما مصدرية (۱) وهذا يقتضي تحريم الزنا وما قلناه من الاستمناء. ووَرَآءَ بمعنى سوى، وهو مفعول به ابتغى ) أي: من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: «أي : فمن ابتغى ما بعد ذلك، فمفعول الابتغاء محذوف، و وراء ظرف، وذلك يشار به إلى كل مذكور مؤنتا كان أو مذكرًا، فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ أي المجاوزون الحد، من «عدا» أي: جاوز الحد
وجاز» . اهـ
قلت كلام القرطبي من أوله إلى قوله فكيف بالرجل الكبير؟!» هو كلام ابن العربي في الأحكام، وزاد بعد قوله : وعامة العلماء على حرمته»، ما نصه: «وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا به» . اهـ
وقال الإمام البغوي في تفسير قوله تعالى : لا فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ ما لفظه : أي الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام، فيه دليل على أن الاستمناء حرام وهو قول أكثر العلماء» . اهـ ومثله في "تفسير الخازن".
(۱) والمعنى: أو ملك أيمانه وليست موصولة كما قد يتوهم.
۷۸
الفقه
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره" ما لفظه: «وقد استدل الإمام الشافعي ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة: وَالَّذِينَ هُمْ لفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ قال: «فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال الله تعالى: ﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَبِكَ هُمُ الْعَادُونَ . اهـ
قلت: للإمام الشافعي في الاستدلال بالآية على تحريم الاستمناء عبارتان أحببت أن أذكرههما بنصهما: ١ - جاء في كتاب النكاح من "الأم" ما نصه: «باب الاستمناء: وقال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ قرأ إلى الْعَادُونَ قال
الشافعي: «فكان بينا في ذكر حفظهم لفروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم تحريم ما سوى الأزواج وما ملكت الأيمان، وبين أن الأزواج وملك اليمين من الآدميات دون البهائم، ثم أكدها فقال عزَّ وجلَّ: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ ) فلا يحل العمل بالذكر إلا في الزوجة أو في ملك اليمين ولا يحل الاستمناء، والله أعلم . اهـ ٢- وجاء في الجزء الخامس من "الأم" تحت ترجمة: «ما جاء في عدد ما يحل من الحرائر والإماء وما تحل به «الفروج ما لفظه: «وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ ﴾ دليل على أمرين : أحدهما: أنه أحل النكاح وما ملكت اليمين.
والثاني: يشبه أن يكون إنما أباح الفعل للتلذذ وغيره بالفرج في زوجة أو ما
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۷۹
ملكت يمين من الآدميين، ومن الدلالة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَبِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) وإن لم تختلف الناس في تحريم ما ملكت اليمين من البهائم، فلذلك خفت أن يكون الاستمناء حراما من قبل أنه ليس من الوجهين الذين أبيحا للفرج» . اهـ
فهاتان العبارتان من الإمام ،واضحتان وبمقتضاهما حكم الشافعية
بتحريم الاستمناء وحكوه عن الإمام الشافعي قولا واحدا.
وقال النسفي في "تفسيره : فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ طلب قضاء شهوة من غير هذين فَأُوْلَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ * الكاملون في العدوان، وفيه دليل تحريم
المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة» . اهـ
وقال العلامة الآلوسي في "تفسيره" بعد الكلام على معنى الآية إجمالا، ما لفظه: ويدخل فيما وراء ذلك: الزنا واللواط ومواقعة البهائم، وهذا مما لا خلاف فيه، واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها، فقال الجمهور: هو داخل فيما وراء ذلك أيضًا فيحرم»، وذكر الخلاف في هذه المسألة، ورجح مذهب الجمهور تمسكا بعموم الآية. وتكلم على نكاح المتعة فذكر أن الشيعة أباحوه، ورد كلامهم أيضًا ثم قال: وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمَّى الخضخضة وجلد عميرة، فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان أحمد بن فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد
المني
حنبل يجيزه لأن والحجامة، وقال بن الهمام يحرم، فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به،
فالرجاء أن لا يعاقب» . اهـ
۸۰
الفقه
وقال أبو محمد بن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" تحت ترجمة: «باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب ما لفظه ولا تباشر بفرجك أو بشيء من جسدك ما لا يحل لك، قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حفظون ) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وراءَ ذَلِكَ فَأُولَبِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) .
فكتب في شرحه العلامة الشيخ زروق ما نص المراد منه: «ومباشرة الفرج تكون بثلاثة : الزنا واللواط والاستمناء.
فالأولان محرمان إجماعًا، والاستمناء مختلفٌ فيه، فذهب الجمهور إلى المنع، وقال أحمد: «هو كالفصادة»، وعن الحسن: «إنما هو ماؤك فأرقه»، وعن مجاهد: «كانوا يعلمونه صبيانهم ليستعفوا به عن الزنا وعن ابن عباس: الخضخضة خير من الزنا».
ودليل المنع قوله تعالى: إِلا عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ ﴾ وليس هذا بواحد منهما ولا يدخل المملوك في الاستثناء بدليل القرآن بالأزواج وحكى بعض المقيدين جوازه عن الشافعي، وهو باطل، بل هو عن الشيعة الخارجين (۱) عن الحق.
(۱) قرأت من كتب الشيعة الزيدية كتاب "البحر الزخَّار في فقه الأئمة الأطهار" فلم أرَ فيه هذا القول.
وقرأت من كتب الشيعة الإمامية بعض مختصرات فقههم فلم أره فيها أيضًا. وما أظنه يصح عن طائفة تنتمي إلى الإسلام؛ لأنه لواط محرم بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، وكان الشيعة خارجين عن الحق لأن مذهبهم في العقيدة مذهب المعتزلة إلا
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۸۱
ولما تكلم ابن العربي في "الأحكام" على هذه الآيات ذكر مذهب الإمام أحمد، ثم قال: «وهذا من الخلاف الذي لا يجوز العمل به، وليت شعري لو كان فيه نص صريح بالجواز أكان ذو همةٍ يرضاه لنفسه؟! وما يذكر فيه من الأحاديث ليس فيها ما يساوي سماعها . اهـ
قلت: كذا قال، ولعله لم يقف على حديث أنس الآتي بعد - إن شاء الله
تعالى - فإن ضعفه قريب، بل هو حسن لاعتضاده كما سيأتي.
ذلك
- يعني
فإن قيل: إن الاستدلال بالآية المذكورة على تحريم الاستمناء غير تام، لما أبداه أبو حَيَّان من مناقشته فيه، فقد جاء في تفسيره المسمى بـ"البحر المحيط" ما نصه: «كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد، فاستدل على منع الاستمناء بهذه الآية، يعني وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ } الآية. ﴾ فقلت: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها، وكان ذلك كثيرًا فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك، وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد
قليلا منهم مثل الحاكم وأبي نعيم وغيرهما من أهل الحديث الذين تشيعوا وهم من
أهل السنة. وقد قال الذهبي: «إنَّ التشيع والاعتزال تآخيا منذ القرن الخامس». قلت: بل تآخيا قبل ذلك بالنسبة للزيدية؛ لأن زيد بن عليّ إمامهم كان تلميذ واصل بن عطاء المعتزلي في العقيدة، فمنذ ذلك الوقت والزيدية معتزلة، إلا أنهم يترضون عن الشيخين ولا يسبون عائشة، أما الإمامية فهم مع اعتزالهم يبغضون الشيخين
وعائشة.
۸۲
الفقه
فيهم في شعر فيهما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك». اهـ ومعنى هذا قصر الآية على الزنا؛ لأنه الذي كان معتادًا للعرب فعله بخلاف الاستمناء فلم يكن معتادًا للعرب فلا تشمله الآية بالتحريم، هذا
حاصل كلام أبي حَيَّان
وهو باطل من وجوه
الأول: المقرر في علم الأصول أنَّ العادة الفعلية لا تُخصص العام، فإذا قال الشارع: الطعام بالطعام ربا وكانت عادة العرب تناول البر، فالواجب عند جمهرة الأصوليين حمل الطعام على عمومه فيكون كل طعام بطعام ربا ولا يجوز قصره على البر الذي اعتادوه
وكذلك يقال هنا، فإذا كان العرب قد اعتادوا الزنا ولم يعتادوا الاستمناء مع كونه معروفًا لهم ثم جاءت الآية عامة وجب أن نبقيها على عمومها فتكون شاملة للزنا والاستمناء وغيرهما، ولا يجوز تخصيصها بالزنا الذي اعتادوه إلا بدليل شرعي، وهو هنا مفقود.
قال العلامة الآلوسي بعد نقله لكلام أبي حيان ما نصه: «وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة "القاموس" فالظاهر أن هذا الفعل كان موجودًا فيما بينهم، وإن لم يكن كثيرًا شائعاً كالزنا، فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده. وفي "الأحكام " : إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام، فقد اتفق
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۸۳
الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره، وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره، خلافًا لأبي حنيفة عليه الرحمة، وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد، فلا تكون العوائد حاكمة عليه.
نعم، لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم، والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام.
هي .
وثانيا قاضية على الاستعمال الأصلي» . اهـ وذكر الإسنوي في "شرح المنهاج" نقلا عن الغزالي وأبي الحسن البصري والآمدي ومن تبعه: «أنه لا إشكال في أن العادة القولية تخصص العام كما إذا كان من عادتهم إطلاق الطعام على المقتات خاصة، ثم ورد النهي عن بيع
مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون
الطعام بجنسه متفاضلا فإن النهي يكون خاصا بالمقتات».
قال الإسنوي: «وأما العادة الفعلية ففيها مذهبان وذلك كما إذا كان من عاداتهم أن يأكلوا طعامًا مخصوصًا وهو البر مثلا فورد النهي المذكور وهو بيع الطعام بجنسه، فقال أبو حنيفة: يختص النهي بالبر لأنه المعتاد. وخالفه الجمهور فقالوا بإجراء العموم على عمومه، هكذا نقله الآمدي وابن الحاجب
ΛΕ
الفقه
وغيرهما»، ثم قال: «وعلى هذا فالمراد من قول الجمهور: أن العادة لا تخصص أن غير المعتاد يكون ملحقا بالمعتاد في الدخول. اهـ
فظهر من هذا أن الاستمناء داخل في عموم الآية وإن لم يكن معتادًا
للعرب كالزنا، لأن هذا من العادة الفعلية وهي لا تخصص عند الجمهور. والعجب أن أبا حيان ظاهري والظاهرية أشد الناس تمسكًا بعمومات الشارع لا يخصصونها إلا بالقرآن أو سُنَّة صحيحة كما يعلم من كتاب "الإحكام" لابن حزم ولا يعتبرون كثيرًا من المخصصات التي اعتبرها جمهور
الأصوليين. الثاني: أن عدم تفاخر العرب بالاستمناء لا يدل على عدم اعتيادهم له فقد يكون معتادًا لهم ولكنهم لا يتفاخرون به لأنهم يرونه مثل قضاء الحاجة، إنما يلجؤن إليه للضرورة في ساعة الخلوة كما قال الشاعر :
إذا حَلَلْتَ بـــوادٍ لا أنــيـس بـــه فاجلِد عُمَيْرةَ لا داءً ولا حَرَجُ وليت شعري أي مفخرة في هذا الفعل الدنيء حتى يتفاخر به العرب ويعطونه حظا من أشعارهم؟! وهم إنما كانو يتفاخرون بالزنا لما فيه من الدلالة على قوة الجماع وهي تدل على كمال الرجولة ومتانة الجسم وصحة أعضائه وصاحب هذه الأوصاف يكون في غالب العادة قويا شجاعًا يكافح الأهوال وينازل الأبطال، والشجاعة تلازم الكرم عادة وهما - أعني الشجاعة والكرم أقصى ما تتمدح به العرب، وانظر إلى معلقة امرئ القيس تجده تمدح فيها بالكرم والإقدام مضمومين إلى تغزله وتمدحه بالزنا في قوله:
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
فمِثْلُكِ حُبْلَى قد طَرَقْتُ ومُرْضِع فالهيتها عن ذي تَمائِمِ تحول
إلى آخر كلامه.
٨٥
وهكذا إذا تتبعت غالب قصائدهم التي تمدحوا فيها بالزنا تجدهم تمدحوا
فيها أيضًا بالجرأة والإقدام أو بالبذل والإنفاق أو بهما جميعا.
المقصود أنهم كانوا يتفاخرون بالزنا لما كانوا يرون فيه من الدلالة على كمال الرجولة المستلزم للخصال المحمودة، ولا كذلك الاستمناء وإنه لا يدل على شيء مما ذكر فلهذا لم يتفاخروا به، لا لأنهم لم يعتادوه.
الثالث: لو قصرت الآية على الزنا كما يقول أبو حَيَّان لم يكن فيها حينئذ كبير . فائدة؛ ذلك لأن الزنا ثبتت حرمته وتوعد عليه في عدة آيات، قال تعالى:
وَلَا تَقْرَبُوا الزِنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ٣٢].
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: ٢].
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاءَ اخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون ﴾ [الفرقان: ٦٨] الآيات.
فلو حملت آية المؤمنون على خصوص الزنا لم يكن فيها من فائدة غير التأكيد لما تضمنته هذه الآيات وهي فائدة قليلة بخلاف ما لو أبقيت على
عمومها فإنها تفيد حكمًا زائدا على ما في الآيات المذكورة وتؤسسه. وإذا احتمل الكلام التأسيس أو التأكيد فلا شك أن حمله على التأسيس
أرجح من حمله على التأكيد كما تقرر في علم الأصول.
فإن قيل: يرد على ما قرّرته إيراد آخر، وهو أن الآية جاءت في معرض
الفقه
المدح للمؤمنين والثناء عليهم، والعام الوارد في سياق المدح أو الذم فيه خلاف بين علماء الأصول، وممن قال بأنه لا يعم الإمام الشافعي وبعض أصحابه وصححه الكيا الهراسي وعلى هذا لا تكون الآية شاملة للاستمناء ولا يستفاد منها حرمته؛ لأنها إنما سيقت لمدح المؤمنين بحفظ فروجهم فتقصر على ذلك. فالجواب على هذا الإيراد من وجهين الأول: أنه وإن يكن خلاف في العام الوارد في سياق المدح أو الذم
تمسكا
فالراجح المعمول به من ذلك الخلاف هو إبقاء العام على عمومه بمدلول اللفظ وهذا مذهب الجمهور قال الشوكاني في "إرشاد الفحول": وهو الراجح لعدم التنافي بين قصد العموم والمدح أو الذم، ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة» . اهـ
وهو المصحح أيضًا في "جمع الجوامع" وغيره من كتب الأصول للعلة المذكورة وهي عدم التنافي بين العموم وبين قصد المدح أو الذم وثبت القول بالعموم عن جماعة من الصحابة في هذه الآية نفسها. فأخرج مالك عن الزهري، وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب أن نيارا الأسلمي استفتى عثمان بن عفان في امرأة وأختها بملك اليمين، فقال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى، ولم أكن لأفعل ذلك. يعني بالآية التي أحلتهما آية المؤمنون التي نتكلم عنها لقوله تعالى فيها: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ ﴾ [المؤمنون: ٦]، ويعني بالآية التي
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
حرمتهما قوله تعالى: وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
[النساء: ٢٣].
۸۷
وجاء مثل قول عثمان عن علي عليه السلام، رواه ابن أبي شيبة والبزار و ابن مردويه من طرق عنه.
وجاء مثل هذا أيضًا عن محمد بن الحنفية، رواه ابن حزم في "المحلى"، من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: سألت ابن الحنفية عن الأختين المملوكتين، فقال: حرمتهما آية وأحلتهما آية.
وجاء عن ابن عباس إباحتها عملا بهذه الآية. أخرج ابن حزم في "المحلى" من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يعجب من قول علي عليه السلام: حرمتهما آية وأحلتهما آية»، ويقول: إلا ما ملكت أيمانكم هي مرسلة.
قلت: كذا جاءت الرواية، ولكن التلاوة إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتهم فتوقف عثمان وعلي وابنه محمد بن الحنفية في الأختين المملوكتين، وقولهم: «أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى دليل واضح على أنهم كانوا يرون أن
العام الوارد في سياق المدح أو الذم يبقى على عمومه كما قدمنا عن الجمهور. وإنما توقفوا لتعارض العمومية في نظرهم وفي إباحة ابن عباس لهما دليل على أمر آخر وهو أنه كان يرى أن العام المذكور يبقى على عمومه وإن عارضه عام آخر وهذا قول لبعض الأصوليين وإن صح في "جمع الجوامع" خلافه أي أنه يبقى على عمومه ما لم يعارضه عام آخر ، والجمهور حرموا الجمع بين
۸۸
الفقه
الأختين المملوكتين في الوطء ووافقهم علي عليه السلام كما صح عنه في "مصنف ابن أبي شيبة" وغيره ترجيحا لعموم قوله تعالى: ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ .
وذكروا للترجيح وجوها، منها أن العموم الأول محرم والعموم الثاني مبيح، وحيث تعارضا قدم الأول لما في التحريم من درء مفسدة الفعل المنهي
عنه، ودرء المفاسد مهم في نظر الشارع، حتى إنه قدمه على جلب المصالح. يدل لذلك حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» وهذا الحديث من جوامع الحكم وقواعد الإسلام كما قال الإمام النووي وغيره. ومما يجب التنبيه عليه أن القول المتقدم في الإيراد عن الإمام الشافعي لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يكون غير صحيح عنه وغلط من نسبه إليه، وإما أن يكون مرجوعا عنه.
ودليلنا على ما نقول أننا رأينا الإمام الشافعي ذكر آية المؤمنون في "الأم" واستنبط منها أشياء من جملتها حرمة الاستمناء ولا شك أن كتاب "الأم" هو
أصل مذهبه الجديد وهذا يدل على أنه يرى رأي الجمهور.
الوجه الثاني من وجهي الجواب: أن الخلاف المذكور في العام الوارد في سياق المدح أو الذم محله إذا لم تكن في الكلام قرينة تدل على إرادة العموم، أما إذا وجدت القرينة فيبقى العام على عمومه اتفاقا من غير خلاف. وآية المؤمنون فيها قرينتان تدلان على العموم
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۸۹
أولاهما: الاستثناء في قوله تعالى: إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ والاستثناء أقوى القرائن في هذا الباب ولذا جعله الأصوليون معيار العموم وقالوا: كل ما جاز الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام ذلك لأنه لا يتأتى دخوله في كلام إلا إذا كان فيه عموم ضرورة أنه - أعني الاستثناء- إخراج ما لولاه لدخل في الكلام فدخوله في هذه الآية قرينة واضحة على إرادة العموم. ثانيهما: تعقيب قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ ) بقوله تعالى : فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ . فإن تعقيب الآيتين على هذا النسق يدل على أن الآية الثانية أتى بها لتفيد حكما عامًا هو تحريم غير ما استثني في الآية الأولى فيكون التحريم المستفاد منها واقعا على الزنا واللواط والاستمناء وعلى كل ما صح أنه غير الأزواج والإماء وهذا من المناسبة بين هاتين الآيتين والحكمة في تناسقهما - فيما نراه- والعلم عند الله .
الدليل الثاني
قال الله تعالى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَا مَّا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
[النور: ٣٣].
تدل هذه الآية على حرمة الاستمناء من وجهين
الأول: أن الله تعالى أمر فيها بالاستعفاف، والأمر يدل على الوجوب كما تقرر في علم الأصول فيكون الاستعفاف واجبًا، وحيث وجب، وجب اجتناب ما ينافيه كالزنا واللواط والاستمناء ونحوها، فتكون هذه الأشياء واجبة الاجتناب محرمة الفعل؛ لأن الاستعفاف الواجب لا يتحقق إلا
۹۰
باجتنابها جميعا.
الفقه
فإن قيل: هذه الآية تدل على جواز الاستمناء خلافا لما ادعيت؛ لأن الاستمناء يفعل بقصد الاستعفاف عن الزنا كما جاء عن مجاهد، قال: «كانوا يعلمونه صبيانهم ليستعفُّوا به عن الزنا، وإذن فهو من أفراد الاستعفاف المأمور به فتكون الآية دالة على جوازه.
فالجواب: أن الإمام الشافعي ذكر هذا الإيراد وتولى الجواب عنه، قال في "الأم" عقب العبارة التي نقلناها عنه في الكلام على الدليل الأول، ما نصه: فإن ذهب ذاهب إلى أن يحله لقول الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِي هُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فيشبه أن يكونوا إنما أمروا بالاستعفاف عن أن يتناول المرء بالفرج ما لم يبح له فيصبر إلى أن يغنيه الله من فضله فيجد السبيل إلى ما أحل الله والله أعلم، وهو يشبه أن يكون في مثل معنى قول الله عزّ وجلَّ في مال
اليتيم: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ [النساء: ٦] وإنما أراد بالاستعفاف أن لا يأكل منه شيئًا» . اهـ
ومعنى
كلامه أن الاستعفاف في الآية السابقة، يراد به حفظ الفرج من
جميع أنواع الشهوة زنا ولواط واستمناء وأن من لم يجد السبيل إلى النكاح ففرض عليه أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله فيجد السبيل إلى ما أحل الله ونظير هذه الآية آية اليتيم فإن المراد بالاستعفاف فيها أن لا يأكل القيم الغني من مال اليتيم شيئًا لا قليلا ولا كثيرًا. هذا إيضاح جواب الإمام الشافعي، ويدل عليه ما جاء في باب الاستمناء
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۹۱
من "الأم" عقب ما نقلناه آنفًا ونصه: وقال الشافعي في قول الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَا مَّا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ : معناها - والله أعلم: ليصبروا حتى يغنيهم الله تعالى، وهو كقوله تعالى في مال اليتيم: وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ليكف عن أكله بسلف أو غيره . اهـ
ويؤيده أن الاستعفاف في الآيتين مطلق فتقييده ببعض أنواع الاستعفاف يحتاج إلى دليل وهو مفقود وليس قول مجاهد بدليل فلا يقيد به مطلق کتاب ولا سنة.
ووجه آخر يبطل الإيراد المذكور، وهو أنه لو كان الاستمناء من الاستعفاف لكان واجبا؛ لأن الاستعفاف واجب بالآية المتقدمة وبغيرها من
الأدلة، والقول بوجوب الاستمناء حدث في الدين وخرق لإجماع المسلمين. فإن قيل: يجوز أن يكون الأمر بالاستعفاف في الآية مستعملا في حقيقته و مجازه فيكون بالنسبة إلى ترك الزنا واللواط للوجوب حقيقة وبالنسبة إلى فعل الاستمناء للجواز على سبيل المجاز، والجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد هو مذهب بعض أهل الأصول ورجحه الشبكي في "جمع الجوامع" وقد حمل الشافعية قول الله تعالى: أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [المائدة: ٦] على المعنيين اللمس باليد وهو المعنى الحقيقي، والوطء وهو المعنى المجازي، وعلى هذا لا يلزم من القول بأن الاستمناء من الاستعفاف أن يكون الاستمناء واجبًا لما مر
بیانه
فالجواب: أن الجمع بين الحقيقة والمجاز منعه جمهور أهل العربية فيهم أهل
۹۲
الفقه
البيان قاطبة، وجميع الحنفية، وجمع من المعتزلة، والمحققون من الشافعية. قال الشوكاني في "إرشاد الفحول": «وهو الحق، لتبادر المعنى الحقيقي من اللفظ من غير أن يشاركه غيره في التبادر عند الإطلاق وهذا بمجرده يمنع من إرادة غير الحقيقي بذلك اللفظ المفرد مع الحقيقي». اهـ
فالقول بجواز الجمع بينهما ضعيف كما ترى فلا يصح حمل الآية عليه وإنما تحمل على القول الراجح المعروف.
ولو سلمنا جدليًا صحته ورجحانه فلا يصح أيضا حمل الآية عليه وذلك
لوجهين: أحدهما: أن المعنيين هنا متنافيان لأن الاستعفاف بالنظر إلى الزنا ونحوه ترك، وبالنظر إلى الاستمناء فعل، والفعل والترك متنافيان فكيف يجمع بينهما
في لفظ واحد؟! وأين القرينة التي تميز بين المتروك والمفعول؟. ثانيهما: أن اللفظ هنا لا يساعد على الجمع بين المعنيين لأنه فعل في سياق الإثبات فلا يعم وهذا بخلاف قوله تعالى: أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فإن المعنيين فيه غير متنافيين كما هو ظاهر والفعل واقع في سياق الشرط فلذا ساغ الجمع فيه بين الحقيقة والمجاز لأن الفعل في سياق النفي والشرط يعم على ما في ذلك الجمع من ضعف كما علمت.
وكذلك لا يصح حمل الأمر بالاستعفاف على الوجوب والجواز أيضا بناء على رأي من يرى أن الأمر مشترك بين الوجوب والندب والإباحة ويكون استعماله هنا فيهما من باب استعمال المشترك في معنييه معا وهو جائز عند الشافعي والقاضي أبي بكر الباقلاني لأن هذا الحمل يرد عليه جميع ما ورد على
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۹۳
الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ويرد عليه أيضًا وجه آخر زائد على ما تقدم وهو أن القول بأن الأمر مشترك بين الوجوب والندب والإباحة ضعيف، وكذلك القول بأنه موضوع للقدر المشترك بين هذه الثلاثة أو بين الأولين فقط أو بأنه مشترك بين الأحكام الخمسة، كل هذه الأقوال وغيرها مما ذكر في كتب الأصول ضعيفة واهية.
والقول الراجح المعمول به هو أن الأمر للوجوب حقيقة وأنه لا يستعمل في الندب أو غيره من المعاني إلا بقرينة تدل على ذلك فإن تجرد عن القرينة فهو للوجوب. هذا هو الذي ارتضاه الجمهور من الفقهاء والأصوليين على اختلاف مذاهبهم، وهو الذي أملاه أبو الحسن الأشعري على أصحاب أبي إسحاق الإسفراييني ببغداد وصححه ابن الحاجب والإمام الرازي والبيضاوي وجماعة. واستدلال الجمهور على ذلك بدلائل لغوية وشرعية ونظرية وهي مبسوطة في كتب الأصول فلتنظر هناك.
فتلخص مما ذكرناه أن الأمر بالاستعفاف في الآية للوجوب فقط لا يصح غير ذلك وأن الاستعفاف واجب عن جميع أنواع الشهوة، وبالله التوفيق. الوجه الثاني: أن الله تعالى أوجب في الآية الاستعفاف على من لم يستطع
القيام بتكاليف النكاح، حيث قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَا مَّا حَتَّى يغنيهم الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [النور: ۳۳] ولم يجعل بين النكاح والاستعفاف واسطة فاقتضى ذلك تحريم الاستمناء، ولو كان مباحًا لبينه في هذا الموطن لأن هذا مقام بيانه إذ أحوج ما يكون الرجل إلى جواز الاستمناء إذا لم يجد سبيلا إلى
٩٤
الفقه
النكاح لا سيما عند توقان نفسه إلى الوطء فلما سكت عنه في هذا المقام الذي يقتضي بيانه دل على أنه حرام، لأن القاعدة المقررة عند الأصوليين أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية بعد أن ذكر أن فيها أربع مسائل، وذكر ثلاثا منها، ما نصه: «المسألة الرابعة من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب أن يتزوج وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وجاء كما في الخبر الصحيح»، ثم ذكر حكم غير التائق ثم قال: «ولما لم يجعل الله عزّ وجلَّ بين النكاح والعفة درجة دل على أن ما عداهما محرم ولا يدخل فيه ملك اليمين لأنه بنص آخر مباح، وهو قوله: أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَهُمْ فجاءت فيه زيادة ويبقي على التحريم الاستمناء ردا على أحمد، وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه» . اهـ وقال الإمام العلامة أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي، في "أحكام القرآن" له ما نصه: قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاعًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ أمرهم بالتعفف عند تعذر النكاح عما حرمه الله تعالى وذلك على الوجوب وفيه دليل على أن إباحة الاستمتاع موقوفة على النكاح ولذلك يحرم ما عداه ولا يفهم منه التحريم لملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المال لا يقدر على شراء الجارية غالبًا وفيه دليل على بطلان نكاح المتعة ودليل على تحريم الاستمناء» . اهـ كلامه وهو مؤيد لما قررناه.
وقال العلامة الآلوسي في تفسير هذه الآية بعد كلام، ما نصه: «والمذكور
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۹۵
في معتبرات كتبنا - يعني الحنفية - أن النكاح يكون واجبًا عند التوقان، أي شدة الاشتياق بحيث يخاف الوقوع في الزنا وكذا - فيما يظهر - لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن استمناء بالكف ويكون فرضًا بأن كان لا يمكنه الاحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه حديث: «ومن لم يَسْتَطِعْ فعليه بالصَّوْمِ...» الحديث. فلو قدر على شيء من ذلك لم يبقَ النكاح فرضًا أو واجبًا عينًا بل هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم». اهـ
فجعل من موجبات النكاح أن لا يقدر الرجل على منع نفسه من الاستمناء، وهو يؤيد ما قدمناه أن الاستعفاف واجب عن أنواع الشهوة جميعها.
الدليل الثالث
أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: (يا معشرَ الشَّبابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم الباءَةَ فليتزوج فإنه أَغَضُّ للبَصَرِ وأَحْصَنُ للفَرْجِ، وَمَن لم يَسْتَطِعْ فعليه بالصَّوْمِ
فإِنَّه له وِجَاءُ». قال الإمام النووي له : اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن
مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء» . اهـ و«الوجاء» بكسر الواو والمد: رض الأنثيين ودقهما. وإطلاقه على الصوم
97
الفقه
هنا تشبيه بليغ
وجه دلالة الحديث على المقصود أنَّ الشارع أرشد عند العجز عن مؤن النكاح إلى الصوم ولو كان الاستمناء مباحًا لبينه في هذا الموطن، لكنه سكت
عنه فدل ذلك على أنه حرام لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.
وإلى هذه القاعدة المتقررة يشير ابن حزم في كثير من استدلالاته بقوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسيَّا [مريم: ٦٤] وذلك لأنه إذا كان الله لا ينسى – وتنزه ربنا عن النسيان وعن كل نقص فسكوته سبحانه أو سكوت رسوله المبلغ . عنه في
-
معرض البيان لشيء من أفعال المكلفين عن شيء آخر يشبهه أو يجانسه لا يكون نسيانا أو ذهولا - تعالى الله عن ذلك ولكنه يفيد قصر الحكم على ذلك الشيء
المبين حكمه، ويكون ما عداه وهو المسكوت عنه مخالفا له في الحكم. فإن كان المنصوص عليه بالبيان مأذونا فيه كان المسكوت عنه ممنوعا كما في الحديث المذكور، وإن كان العكس فالعكس، وهو معنى قولهم: «السكوت في
معرض البيان يفيد الحصر»، وهي قاعدة عظيمة بنى عليها العلماء كثيرًا من
الأحكام. هذا وقد استدل بعض العلماء بالحديث المذكور على حرمة الاستمناء أيضا
لكن على وجه آخر أحببت أن أذكره تتميما للفائدة:
جاء في "فتح الباري" أثناء الكلام على هذا الحديث، ما نصه: «واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۹۷
أسهل. وتعقب دعوى كونه أسهل لأن الترك أسهل من الفعل» . اهـ قلت: الاستدلال وجيه والتعقيب متعقب ذلك أن الصوم وإن كان تركا فهو أشد من الفعل وأشق على النفس من كثير من الأعمال لأنه حبس للنفس وكبح لها عن شهواتها.
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ يُضاعَفُ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ، قال الله تعالى: إلَّا الصوم فإنه لي وأنا أَجْزي به، يَدَعُ شَهْوَتَه وطَعامَه مِن أجلي»
الحديث. ولم تكن هذه المزيَّة للصوم إلا لما فيه من المشقة. أما الاستمناء وإن كان فعلا فهو سهل يسير موافق لغرض النفس ولا يستغرق فعله من الزمان ما يستغرقه الصوم لا جرم أن العدول عنه إلى الصوم دليل على حرمته فيكون في الحديث دلالة على حرمة الاستمناء من وجهين: الأول: السكوت عنه في معرض البيان.
الثاني: العدول عنه إلى الصوم الذي هو أصعب.
الدليل الرابع
أخرج الطبراني، عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله إني رجل تشق علي هذه العزبة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي؟ قال:
لا، ولكن عليك بالصِّيامِ فَإِنَّها تَحْفَرَةٌ».
المخفرة: بفتح الميم والفاء، على وزن مفعلة، من الخفر، بسكون الفاء،
وهو: الحماية والمنع، يقال: خفره إذا حماه ومنع عنه طالبه.
۹۸
الفقه
ومعنى الحديث: أن الصوم يخفر الصائم، أي يحميه من الشهوة ويمنعها عنه. ثم إن رواة هذا الحديث ثقات غير عبد الملك بن قدامة الجمحيي وثقه ابن معين وضعفه أبو حاتم وغيره، وأصل الحديث في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاس بلفظ آخر.
وأخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يا رسول الله ائذن لي في الخصاء. قال: «صم واسأل الله
من فضله». قال الحافظ الهيثمي : «فيه راو لم يسم، وبقية رواته ثقات. وأخرج أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله ائذن لي أن أختصي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «خصاء أمتي الصيام والقيام». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام».
وروى الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: شكا رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ليس منا من خَصَى أَوِ اخْتَصَى ولكن صُمْ ووفِّرْ شَعرَ جَسَدِك (۱)) .
الخصاء: استلال الخصيتين وهما البيضتان ومعنى خصى استل بيضتي
غيره، واختصى استل بيضتي نفسه.
(۱) يقصد توفير شعر الرأس لأنه إذا وفره شغل بغسله وتمشيطه وتنظيفه وذلك يلهيه عن التفكر في شؤن العزوبة، ويمكننا أن نأخذ من هذا الحديث إشارة إلى مزاولة الشباب بعض الألعاب الرياضية التي تشغلهم عن المسائل الجنسية.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۹۹
وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أن هؤلاء الجماعة من الصحابة سألوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يرخص لهم في الاختصاء - وهو حرام في الآدميين - ليدفعوا به مشقة العزوبة عن أنفسهم ويستريحوا من
عناء
شهوتهم وعناء مقاومتها، فلم يرخص لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأرشدهم إلى الصوم فلو كان الاستمناء جائزا لأرشدهم إليه لأنه أسهل من الاختصاء ومن الصوم فلما لم يرشد إليه دلّ على أنه حرام لأن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر كما مر .
ونظير هذه الأحاديث ما أخرجه جعفر الفريابي في كتاب "القدر" والجوزقي في "الجمع بين الصحيحين" والاسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما على البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قلت: يارسول الله، إني ق رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء فائذن لي أن أختصي. فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «يا أبا هريرة، جف القلمُ بما أنت لاقٍ فاختَصِ على ذلك أو ذر». إسناده صحيح. ولذا علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم. قال الحافظ في "فتح الباري": «وليس الأمر في الحديث لطلب الفعل - أي فعل الاختصاء بل هو للتهديد وهو كقوله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: ۲۹] والمعنى: إن فعلت أو لم تفعل فلابد : من نفوذ القدر. وليس إذنًا في الاختصاء بل فيه إشارة إلى النهي عن ذلك كأنه
الفقه
أنه
قال: إذا علمت أن كل شيء بقدر الله فلا فائدة في الاختصاء وقد تقدم أ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك وكانت
وفاته قبل هجرة أبي هريرة بمدة» . اهـ باختصار.
وحاصل كلامه أن الاختصاء حرام للنهي عنه في حديث عثمان بن
مظعون وأن الأمر به في حديث أبي هريرة للتهديد. فهذا الحديث مثل الأحاديث التي قبله في الدلالة على حرمة الاستمناء بل هو أصرح منها؛ ذلك أن أبا هريرة اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم شبابه وخوفه من العنت وهو الزنا وكرر شكايته ثلاث مرات ومع هذا لم يرشده النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الاستمناء كما لم يرخص له في الاختصاء وهذا أبلغ ما يكون في الدلالة على التحريم. قال الحافظ في "فتح الباري": «فإن قيل: لم لم يؤمر أبو هريرة بالصيام لكسر شهوته كما أمر غيره؟.
فالجواب أن أبا هريرة كان الغالب من حاله ملازمة الصيام لأنه كان من أهل الصفة. قلت: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج الحديث. لكنه إنما سأل عن ذلك في حال الغزو كما وقع لابن مسعود وكانوا في حال الغزو يؤثرون الفطر على الصيام للتقوي على القتال، فأداه اجتهاده إلى حسم مادة الشهوة بالاختصاء كما ظهر لعثمان، فمنعه صلى الله عليه وآله وسلّم من ذلك وإنما لم يرشده إلى المتعة التي رخص فيها لغيره لأنه ذكر أنه لا يجد شيئًا، ومن لم يجد شيئًا أصلا لا ثوبًا ولا غيره
فكيف يستمتع ؟! والتي يستمتع بها لابد لها من شيء . اهـ
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۰۱
(۱)
قلت: كان نكاح المتعة مرخصًا فيه حال الضرورة كالغزو (1) ونحوه ثم
حرم نهائيًا في غزوة خيبر وفيها أسلم أبو هريرة فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليأذن له فيه بعد تحريمه النهائي.
أخرج
الدليل الخامس
الحسن بن عرفة في جزئه المشهور قال: حدثني علي بن ثابت
الله عنه،
الجزري، عن سلمة بن جعفر عن حسان بن حميد عن أنس رضي ا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سبعةُ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِليهم يومَ القِيامَةِ ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين ويُدخلهم النَّارَ في أول الداخلين إلَّا أن يتوبوا ومَن تَابَ تابَ الله عليه : الناكِح يَدَهُ، والفاعل، والمفعول به، ومُؤْمِنُ الخمر، والضارب والديه حتّى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس،
والناكح (۲) حَلِيلَة جارِهِ». ورواه الحاكم أيضًا قال: حدثنا عبد الرحمن بن أحمد المقري: حدثنا زنجويه بن محمد حدثنا أحمد بن محمد المنحل بن تميم القرشين عن عمر بن
(۱) تكرر تحريم نكاح المتعة وإباحته مرَّتين أو أكثر، ثُمَّ حَرَّمه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في غزوة خيبر تحريما نهائيا فلم يبح بعدها إطلاقا، ومِن ثَمَّ أجمع أهل السُّنَّة على تحريمه وشد الإمامية بإباحته.
"1
عن
(۲) أي الزاني بها، لانتهاك حرمة الجار ، وفي مسند أحمد" بإسناد رجاله ثقات، المقداد بن الأسود -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله و لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: حرام، حرَّمه الله عزّ وجل ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال
رسول الله : «الأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره .
۱۰۲
الفقه
زُرَارَةَ: حدثنا علي بن ثابت الجزري، عن سلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فذكره باللفظ السابق، إلا أنه
قال: ويدخلهم النار مع الداخلين ، ولم يقل: «و من تاب تاب الله عليه». وجه الدلالة من هذا الحديث: أن فيه وعيدًا شديدا على الاستمناء وذلك يقتضي تحريمه كما هو واضح لأن الوعيد لا يكون إلا على فعل محرم أما الجائز والمكروه كراهة تنزيه (1) فلا وعيد على فعلهما ولا عتاب.
فإن قيل: هذا الحديث ضعيف لأن الحافظ الذهبي ذكر في كتاب "الميزان" مسلمة بن جعفر وقال: يجهل هو وشيخه حسان بن حميد، ولذا قال تلميذه الحافظ ابن كثير في تفسيره: «هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف لجهالته» . اهـ
ونصَّ على ضعفه أيضًا الحافظ في " التلخيص الحبير"، وإذا كان ضعيفا فلا يصح الاحتجاج به على حرمة الاستمناء ذلك لما تقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث أن الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام، وإنما يعمل به في الفضائل والترغيب والترهيب كما نقله النووي وغيره عن جماهير العلماء بل قال القاضي أبو بكر بن العربي: «لا يعمل بالضعيف مطلقا لا في الفضائل ولا في الأحكام بطريق الأولى».
فالجواب على ذلك من وجوه
الأول: أن قولهم: الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام محله إذا
(1) أما المكروه كراهة تحريم ففي فعله إثم وعليه عقاب كالمحرم.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۰۳
استقل الحديث الضعيف بإثبات حكم لم يؤيد فيه بدليل آخر، أما إذا أيد معناه فيعمل به من غير خلاف ويكون حينئذ صحيح المعنى وإن كان ضعيف اللفظ
من حيث السند.
وهذا الحديث الذي أوردناه من هذا القبيل فإن ما أفاده من تحريم الاستمناء لم يستقل به بل أيدته فيه الدلائل السابقة وليس بينه وبينها من فرق في ذلك إلا أنه أفاد التحريم بالخصوص وتلك الدلائل أفادته بالعموم فيكون الحديث حجة في مسألتنا بلا نزاع.
أما ما فيه من الوعيد فهو من باب الترهيب فيعمل به فيه على رأي
الجمهور، بل حكى الإمام النووي الإجماع عليه في بعض كتبه. وقول ابن العربي في المنع من ذلك شاذ لم يوافقه عليه أحد إلا صاحب كتاب "نزل الأبرار" على أن بعض العلماء حمل كلامه على الضعيف الشديد الضعف المسمى بالواهي وهو لا يعمل به اتفاقا وبذلك يكون ابن العربي موافقا للجمهور.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث له طريق آخر، فقد ذكر الحافظ في "التلخيص" أن أبا الشيخ وجعفرًا الفريابي روياه من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي(۱) عن عبد الله بن عمرو.
(۱) بضم الحاء المهملة والباء الموحدة، ويقع كثيرًا في كتاب "الترغيب والترهيب": الجبلي أو الجبلي وهو تصحيف، ولهيعة بفتح اللام وكسر الهاء، وهو عبد الله بن لهيعة كان
عالم مصر والخبير بآثارها.
الفقه
وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث في المتابعات كما قال الحافظ الهيثمي في
غير موضع من مجمع الزوائد" بل حسن له أحاديث تفرد بها. ولو شئنا أن نغلو كما غلا بعض المعاصرين حيث ادعى أن ابن لهيعة ثقة ثبت حجة لقلنا إن الحديث من هذا الطريق على شرط الصحيح، لكن يمنعنا من ذلك ما في ابن لهيعة من الكلام عند أهل الحديث وإن كان لم يتهم بفسق ولا كذب وأكثر ما ضعف به اختلاطه بعد احتراق كتبه أما هو فصدوق وقد بين حاله شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله في "إبراز الوهم المكنون" وذكر أن عمل المحدثين استقر على تحسين أحاديثه، فبانضمام هذين الطريقين يكون الحديث من قبيل الحسن لغيره وهو حجة بلا نزاع. الوجه الثالث: ولو سلمنا أن الحديث لم يرتق بمجموع الطريقين إلى درجة الحسن فهو معمول به أيضًا.
وقولهم: الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام هو مما خالف فيه عمل
فقد
العلماء قولهم، ذلك أنهم استدلوا في كتبهم بكثير من الأحاديث الضعيفة. سرد شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله في كتاب "المثنوني والبتار" جملة من الأحاديث الضعيفة التي أخذ بها المالكية ثم قال بعد سردها ما نصه: على أن الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة في الأحكام ليس خاصا بالمالكية بل كل الأئمة يحتجون به.
ولذلك كان قولهم: الضعيف لا يعمل به في الأحكام قولا ليس على إطلاقه كما يفهمه جل الناس أو كلهم، لأنك إذا نظرت في أحاديث الأحكام التي أخذ بها الأئمة على الاجتماع والانفراد تجد فيها من الضعيف ما لعله يبلغ
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
1.0
نصفها أو يزيد (۱) وربما وجدت فيها المنكر والساقط القريب من الموضوع. إلا أن بعضها قالوا فيه: «تلقي بالقبول»، وبعضها قالوا: «انعقد الإجماع على مضمونه»، وبعضها قالوا: «وافقه القياس». وبقي منها ما لم يجدوا له دعامة فاحتجوا به على علاته وانفراده، غير ناظرين إلى ما أصلوه من أن الضعيف لا يعمل به في الأحكام كما هو الواجب. لأن ما ورد عن الشارع صلى الله عليه وآله وسلم -وإن كان ضعيف السند- لا يعدل عنه إلى غيره، إذ الشرع شرعه والقول قوله.
والضعيف غير مقطوع بعدم نسبته إليه ما لم يكن واهيًا أو معارضا بأصل أقوى منه، فلسنا نعيب الاحتجاج به عند عدم ورود غيره بل نرى التمسك به هو الأولى والواجب، وإنما نعيب الاضطراب في شأنه وهو تركه عند المدافعة والاستهجان والعمل به عند الموافقة والاستحسان». إلى أن قال: «فكم من حديث ضعيف احتج به الإمام الشافعي - رضي الله عنه في كتبه، بل سأله أصحابه أن يملي عليهم ما صح من السنن فامتنع وأجاب بأن الصحيح من السنن قليل.
-
كما أنه احتج برجال اشتهروا بالضعف عند غيره وبلغه الجرح فيهم فلم يكن ذلك مانعا له من الاحتجاج بخبرهم، وكذلك مالك احتج بالمراسيل والبلاغات وبرجال متفق على ضعفهم عند أهل الحديث.
(۱) انظر "نصب الراية" للحافظ الزيلعي، و"التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر، وتخريج أحاديث "بداية المجتهد" لشقيقنا الحافظ أبي الفيض، فستجد كثيرًا من
الأحكام بناها الأئمة على أحاديث ضعيفة.
١٠٦
الفقه
وهكذا بقية الأئمة ما منهم أحد إلا وقد اضطر إلى الأخذ به في كثير من الأحكام، وصرح بعضهم بأنه عنده أقوى من الرأي ومقدم على القياس ». قلت: هذا مذهب أحمد وأبي داود.
ثم قال: بل قدمه أبو حنيفة على القياس في مسائل متعددة وأقرب طريق يوصلك إلى التحقق بهذا ما يذكره الترمذي في "السنن" عقب أحاديث ينص
على ضعفها وغرابتها ثم يقول : وعليه العمل عند أهل العلم» . اهـ كلامه. قلت : وقد رأيت كتابا يسمى "المعيار" لأحد حفاظ المائة الثامنة رتبه على الأبواب الفقهية وذكر في كل باب منه الأحاديث الضعيفة التي أخذ بها الأئمة الأربعة مجتمعين ومنفردين وهو مفيد في بابه نفيس جدا وقفت على نسخة مخطوطة منه قريبة من زمن المؤلف ولعله الحافظ ابن الملقن. إذا تقرر هذا، فالحديث الذي أوردناه ليس بأقل شأنا من الأحاديث التي احتج بها الأئمة وهي ضعيفة بل لعله أحسن حالا من كثير منها لأن ضعفه خفيف ولأنه مؤيد بالأدلة التي أوردناها قبله إذ قد تضافرت كلها على تحريم
الاستمناء.
ثم وقفت على طريق آخر، عن عبد الله بن عمرو أحببت أن أذكره. روى أبو الليث السمرقندي في كتاب "تنبيه الغافلين" بإسناده، من طريق علي بن محمد الوراق: حدثنا ابن أنعم هو عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم
ويقول لهم: ادخلوا النار مع الداخلين الفاعل والمفعول -يعني اللواط-
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۰۷
والناكح يده، وناكح البهيمة (۱) وناكح المرأة في دبرها وجامع المرأة وابنتها والزاني بحليلة جاره، والسابع المؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، إلا أن
يتوب .
إسناده ضعيف الجهالة علي بن محمد الوراق (٢).
لكن بانضمامه إلى الطريقين السابقين يكتسب قوة، ولا يضر اختلاف لفظي الحديث في تعداد السبعة حيث ذكر في أحدهما ما لم يذكر في الآخر فإن ذلك يقع في كثير من الأحاديث وهو محمول على اختلاف المناسبة التي لأجلها
ورد الحديث. على أن اللفظين هنا اتفقا على عد المستمني في السبعة كما هو ظاهر.
الدليل السادس
ثبت في علم الطب أن الاستمناء يورث عدة أمراض: منها: أنه يضعف البصر ويقلل من حدته المعتادة إلى حد بعيد. ومنها : أنه يضعف عضو التناسل ويحدث فيه ارتخاءا جزئيًا أو كليًا، بحيث
(1) في سنن أبي داود وغيرها، من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه». قال الخطابي: قد عارض هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة». قلت: يشير بهذا إلى أن الحديث غير معمول به عند الأئمة، أما نكاح المرأة في دبرها فقد صحت الأحاديث في تحريمه والوعيد عليه باللعن، بل أخبرت أنه كفر. (٢) أما علي بن محمد الوراق الذي روى عن الباغندي فمتهم بالكذب.
۱۰۸
الفقه
يصير
فاعله أشبه بالمرأة لفقده أهم مميزات الرجولة التي فضل الله بها الرجل
على المرأة فهو لا يستطيع الزواج.
وإن فرض أنه تزوج فلا يستطيع القيام بالوظيفة الزوجية على الوجه المطلوب، فلابد أن تتطلع امرأته إلى غيره؛ لأنه لم يستطع إعفافها وفي ذلك مفاسد لا تخفى.
ومنها: أنه يؤثر ضعفًا في الأعصاب عامة نتيجة الإجهاد الذي يحصل من
تلك العملية.
ومنها: أنه يؤثر اضطرابًا في آلة الهضم فيضعف عملها ويختل نظامها. ومنها: أنه يوقف نمو الأعضاء خصوصًا الإحليل والخصيتين فلا تصل إلى حد نموها الطبيعي.
ومنها: أنه يؤثر التهابًا منويًا في الخصيتين فيصير صاحبه سريع الإنزال إلى
حد بعيد بحيث ينزل بمجرد احتكاك شيء بذكره أقل احتكاك (۱). ومنها: أنه يورث ألما في فقار الظهر وهو الصلب الذي يخرج منه المني
وينشأ عن هذا الألم تقويس في الظهر وانحناء.
ومنها: أنه يحل ماء فاعله فبعد أن يكون منيه غليظا ثخينا كما هو المعتاد في مني الرجل يصير بهذه العملية رقيقًا خاليًا من الدودات المنوية وربما تبقى فيه دويدات منوية ضئيلة لا تقوى على التلقيح فيتكون منها جنين ضعيف ولهذا
(1) ومثل هذا الالتهاب يحصل للمرأة أيضًا فقد ذكر لي من أثق به أن بنتا أكثرت من الاستمناء أيام المراهقة فحصل لها التهاب منوي فكانت تنزل من أدنى لمس.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۰۹
تجد ولد المستمني - إن ولدله - ضعيفًا بادي الأمراض ليس كغيره من الأولاد
الذين تولدوا من مني طبيعي.
ومنها : أنه يورث رعشة في بعض الأعضاء كالرجلين.
ومنها: أنه يؤثر ضعفًا في الغدد المخية فتضعف القوة المدركة ويقل فهم فاعله بعد أن يكون ذكيًا وربما يبلغ ضعف الغدد المخية إلى حد يحصل معه خبل في العقل.
ومنها: أنه يورث على الوجه صفرة تنذر بحلول السل، والعياذ بالله تعالى. ومنها ما ذكره الشيخ داود الأنطاكي في "تذكرته": «أنه يورث عما في
الصدر».
كل هذه الأمراض تنشأ عن الاستمناء، ومن أراد التفصيل والإيضاح
فليرجع إلى الكتب التي استخلصنا منها ما ذكرناه وهي: ١- كتاب "الاستمناء" تأليف الدكتور .هـ. فورنيه، وتعريب الدكتور
مقصود، مطبوع بمطبعة الآداب والمؤيد. ۲- كتاب الضعف التناسلي عند الرجال والنساء" للدكتور حسين الهراوي، طبع بدار الكتب المصرية.
- كتاب "العلاقات الجنسية للدكتور حبيب موسى، طبع بمطبعة صلاح الدين بالإسكندرية. ٤- كتاب "الضعف التناسلي" للدكتور ،فخري، طبع بالمطبعة العصرية. وأول هذه الكتب أوسعها.
وحيث ثبت أن الاستمناء يورث هذه الأمراض، فهو حرام، لأن القاعدة
۱۱
الفقه
المقررة في أصول الفقه: أن «الأصل في المضار التحريم»(۱). ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا
الله
ضرار». أخرجه ابن ماجه عن عبادة بن الصامت وعن ابن عبّاس رضي ا عنهم، وله طرق عن أبي سعيد الخدري، وجابر، وعائشة، وأبي هريرة، وعمرو ابن عوف المزني، ومن مرسل أبي جعفر.
وقد استوفيت الكلام عليها في تخريج أحاديث "منهاج البيضاوي"
والحديث وإن كان خبرًا في اللفظ فالمراد به النهي كما قال شراح الحديث. والمعنى: لا تضر نفسك ولا تضر غيرك، وهذا الحديث من جوامع الكلم وقواعد الإسلام لأنه أفاد قاعدة عظيمة تدخل تحتها جزئيات كثيرة، ولهذا قال أبو داود صاحب "السنن": «الفقه يدور على خمسة أحاديث». فذكرها وعد منها هذا الحديث.
(تنبيه): رأيت في كتاب التوراة المسمَّى عند الكتابيين بـ"العهد القديم" نصا يدل على أن الاستمناء كان عندهم قبيحًا ممنوعا فأحببت أن أذكره ليكون كتابي جامعا لأكثر ما قيل في الموضوع ولم أقصد الاستدلال والاحتجاج كما فعل بعض أهل العصر في كتاب له في قصص الأنبياء" فإنه أكثر فيه من الاستدلال بنصوص التوراة والإنجيل حتى أنه قدمها في بعض المواضع على
(۱) تتمة القاعدة: «والأصل في المنافع الإباحة، فهي ذات شقين دليل شقها الأول مذكور معها في الأصول، ودليل الشق الأخير آية : لا خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جمِيعًا ﴾ [البقرة: ٢٩].
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۱۱
أحاديث في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة المعتمدة، وردَّ كثيرًا من الأحاديث الصحيحة تحكما منه بعقله الفاسد ورأيه الكاسد وهذا خذلان نسأل الله العافية بمنه وإليك النص المشار إليه:
جاء في الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين: «وأخذ يهوذا زوجة لعير بكره واسمها: ثاماز، وكان عير بكر يهوذا شريرا في عيني الرب فأماته الرب، فقال يهوذا لأونان: ادخل على امرأة أخيك وتزوج بها وأقم نسلًا لأخيك فعلم أونان أن النسل لا يكون له فكان إذا دخل على امرأة أخيه أنه أفسد على الأرض لكيلا يعطي نسلًا لأخيه فقبح في عيني الرب ما فعله، فأماته
أيضًا» . اهـ
هذا هو النص، وهو صريح في استقباح الاستمناء وذلك يدل على أنه كان ممنوعا عندهم، وإنما قال يهوذا لأونان أقم نسلًا لأخيك لأنه كان من عادتهم التي يتدينون بها أن الرجل إذا مات من غير عقب فأول مولود يولد في عائلته بعد موته ينسب إليه على أنه ابنه تخليدا لذكرى الميت حتى لا ينسى، هكذا جاء
في كتبهم.
۱۱۲
الفقه
الباب الثاني
في رد القول بجواز الاستمناء
تقدم في كلام القرطبي وغيره عزو القول بجواز الاستمناء للإمام أحمد. هكذا أطلقوا العزو ولم يفصلوا، لكن رأيت في كلام ابن القيم ما يفهم منه أن الإمام أحمد لم يجز الاستمناء إلا في حال الضرورة كالفقر والسفر ونحو
ذلك.
فقد جاء في كتاب بدائع الفوائد " ( ج ٤ ص (٩٦) ما نصه: «فصل: إذا قدر
الرجل على التزوج أو التسري حرم عليه الاستمناء بيده قاله ابن عقيل». قال: وأصحابنا وشيخنا لم يذكروا سوى الكراهة، لم يطلقوا التحريم. قال: «وإن لم يقدر على زوجة ولا سُرّية (۱) ولا شهوة له تحمله على الزنا؛ حرم
عليه الاستمناء، لأنه استمتاع بنفسه والآية تمنع منه، يعني آية المؤمنون.
قال: «وإن كان متردد الحال بين الفتور والشهوة ولا زوجة له ولا أمة؛ كره ولم يحرم. وإن كان مغلوبًا على شهوته يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير جاز له ذلك، نص عليه أحمد.
وروي أن الصحابة كانوا يفعلونه في غزواتهم وأسفارهم.
وإن كانت امرأة لا زوج لها واشتدت غلمتها فقال بعض أصحابنا: يجوز
(۱) بضم السين المهملة وكسر الراء المشددة، هي الأمة، نسبة إلى السر وهو الجماع، أو أن صحابها يسرها، أي: يخفيها عن ضرتها الحُرَّة، وقال الأخفش: «هي مشتقة من السرور؛ لأن صاحبها يسر بها».
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۱۳
لها اتخاذ الأكرنبج، وهو شيء يعمل من جلود على صورة الذكر فتستدخله
المرأة أو ما أشبه ذلك من قثاء وقرع صغار.
قال: والصحيح عندي أنه لا يباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إنما أرشد صاحب الشهوة إذا عجز عن الزواج إلى الصوم ولو كان هناك معنى غيره لذكره» . اهـ كلامه، وهو ظاهر فيما قلناه.
وقال الحافظ في "الفتح" في الكلام على حديث: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ما نصه : وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء
وهو عند الحنابلة وبعض الحنفية، لأجل تسكين الشهوة» . اهـ كلامه. قلت: قد تقدم في كلام ابن الهمام - وهو حنفي - أن «من غلبت عليه
الشهوة ففعله إرادة تسكينها فالرجاء أن لا يعاقب» . اهـ
وقال العيني في "عمدة القاري" في الكلام على الحديث المذكور ما نصه: واستدل به بعض المالكية على تحريم الاستمناء وقد ذكر أصحابنا الحنفية أنه يباح عند العجز لأجل تسكين الشهوة». اهـ
وقال ابن حزم في "المحلى" "باب التعزير» منه (ج١١ ص٣٩٢) بعد الكلام على مساحقة النساء، وأنها معصية ) يجب فيها التعزير، ما نصه: «فلو (1) عرضت فرجها شيئًا دون أن تدخله حتى تنزل، فيكره هذا، ولا إثم فيه.
(1) كبيرة، كما في "الزواجر" لابن حجر الهيتمي وروى الطبراني في "الأوسط"، عن أبي هريرة مرفوعا: «ثلاثة لا تُقبل لهم شهادة أن لا إله إلا الله: الرَّاكِبُ والمركوب والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر». حديث ضعيف غريب، والمراد بالراكب والمركوب اللواط، وبالراكبة والمركوبة: مساحقة النساء.
١١٤
الفقه
وكذلك الاستمناء للرجال سواء بسواء لأن مس الرجل ذكره بشماله (۱) مباح المرأة فرجها كذلك (۲) مباح بإجماع الأمة كلها، فإذ هو مباح فليس
ومس
.
هنالك زيادة على المباح إلا التعمد لنزول المني فليس في ذلك حراماً أصلا لقول الله تعالى: وَقَدْ فَصَلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُم ﴾ [الأنعام: ١١٩] وليس هذا مما
فصل لنا تحريمه فهو حلال لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: ٢٩] إلا أننا نكرهه لأنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل، وقد تكلم الناس في هذا فكرهته طائفة وأباحته أخرى.
ثم روى في الكراهة قول مجاهد : سئل ابن عمر عن الاستمناء فقال: ذلك
نائك نفسه.
وروى عن أبي يحيى عن ابن عباس أن رجلًا قال له: إني أعبث بذكري حتى أنزل ؟ قال : أفٍّ، نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا (۳).
(۱) قيد بالشمال لأنَّ مسَّ الذَّكَر باليمين حرام في مذهبه؛ للحديث الصحيح: «لا يمس
منذ
أحدكم ذكره بيمينه». وقال عثمان رضي الله عنه: ما مسست ذكري بيميني أسلمت. وقال أبو العالية ما مسست ذكري بيميني منذ خمسين سنة. (٢) أي بشمالها لا بيمينها لما تقدم. (۳) قال السيد مرتضى في "شرح الإحياء": «هذا تنبيه على أن العزب المغتلم مردد بين ثلاثة شرور : أدناها نكاح الأمة، وأشد منه الاستمناء باليد، وأفحشه الزنا، ولم يطلق ابن عباس في قوله المذكور الإباحة في شيء منه لأنهما أي نكاح الأمة والاستمتاع بمعالجة - محذوران شرعًا فيفزع إليهما حذرًا من الوقوع في محذور أشد منهما، كما يفزع إلى تناول الميتة حذرا من هلاك النفس، فليس ترجيح أهون الشرين في معنى
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
وروي في الإباحة عن رجلٍ، عن ابن عباس أنه قال: وما هو إلا أن يعرك
أحدكم زبه حتى ينزل الماء.
وروي عن قتادة عن العلاء بن زياد عن أبيه: أنهم كانوا يفعلونه في
المغازي - يعني الاستمناء - يعبث الرجل بذكره يدلكه حتى ينزل. قال قتادة وقال الحسن في الرجل يستمني - يعبث بذكره حتى ينزل قال: كانوا يفعلونه في المغازي.
وعن جابر بن زيد أبي الشعثاء قال: هو ماؤك فأهرقه. يعني الاستمناء. وعن مجاهد :قال كان من مضى يأمرون شبابهم باستمناء يستعفّون بذلك. قال عبد الرزاق: وذكره معمر ، عن أيوب السختياني أو غيره، عن مجاهد،
عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسًا بالاستمناء.
وعن عمرو بن دينار ما أرى بأسًا بالاستمناء.
ثم قال ابن حزم بعد رواية هذه الآثار - ما نصه: «الأسانيد عن ابن عباس وابن عمر في كلا القولين مغموزة، لكن الكراهة صحيحة عن عطاء، والإباحة المطلقة صحيحة عن الحسن وعن عمرو بن دينار وعن زياد أبي العلاء وعن مجاهد، ورواه من رواه من هؤلاء عمن أدركوا، وهؤلاء كبار
التابعين لا يكادون يروون إلا عن الصحابة رضي الله عنهم» . اهـ كلامه . وفي "شرح الإحياء" للسيد مرتضى الزبيدي، في باب النكاح منه ما نصه:
الإباحة المطلقة ولا في معنى الحظر المطلق وليس قطع اليد المتآكلة من الخيرات وإن
كان يؤذن فيه عند إشراف النفس على الهلاك فهذا الأخذ بأهون الأمرين». اهـ
١١٦
الفقه
وقرأت في كتاب اختلاف الفقهاء" لابن جرير الطبري ما نصه : واختلفوا في الاستمناء فقال العلاء بن زياد لا بأس بذلك، كنا نفعله في مغازينا. حدثنا بذلك محمد بن بشار العبدي قال: حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي، عن قتادة عنه (۱)
وقال الحسن البصري والضحاك بن مزاحم وجماعة معهم مثل ذلك. وقال ابن عباس : هو خير من الزنا، ونكاح الأمة خير منه.
وقال أنس بن مالك: ملعون من فعل ذلك.
وقال الشافعي: لا يحل ذلك، حدثنا بذلك عنه الربيع. وعلة من قال بقول العلاء: أن تحريم الشيء وتحليله لا يثبت إلا بحجة ثابتة؛ يجب التسليم لها، وذلك مختلف فيه».
ثم ذكر كلاما لم يتيسر لي فهمه لنقص أو تحريف وقع في كلتا النسختين المصرية والمغربية وفي القطعة المطبوعة من كتاب "اختلاف الفقهاء" لأنها منقولة عن شرح الإحياء أيضًا.
ثم قال: «وعلة من قال بقول الشافعي؛ الاستدلال بقول الله عزّ وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ )) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ )) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَتِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: ٥ - ] فأخبر جل ثناؤه أن من لم يحفظ فرجه عن غير زوجته وملك يمينه فهو من
(۱) لكن تقدم في كلام ابن حزم روايته عن قتادة عن العلاء، عن أبيه، ويمكن أن يكون روي عنهما جميعا .
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۱۷
العادين، والمستمني عاد بفرجه عنها . اهـ منه بلفظه، سوى العبارة التي
حذفناها للخلل الواقع فيها.
قلت هذه
هي أقوال من أجاز الاستمناء مطلقا أو في حال الضرورة، وهي أقوال ضعيفة واهية لا يصح الاعتماد عليها كما قال أبو بكر بن العربي -
وصدق فيما قال : ليس هذا من الخلاف الذي يجوز العمل به . اهـ
ولولا أني قصدت ردها وإبطال شبهها لما ذكرتها لأنها - مع ضعفها - سخيفة لإباحتها هذا الدنيء كما اعترف ابن حزم نفسه بدناءته حيث قال: «إنه ليس من مكارم الأخلاق ولا من الفضائل وإذ هو ليس كذلك فهو من دنيء الأخلاق ورذائلها، وهذا وحده كاف في التنفير منه والابتعاد عنه لما روى البيهقي وغيره عن الحسين بن علي عليهما السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إِنَّ الله تعالى يحبُّ مَعالي الأمور وأشرافها ويُبغِضُ (۱) سفاسِفَها».
«معالي الأمور»: هي كلُّ خُلُقٍ كريم وخصلة دينية فاضلة، و«السَّفاسف» بفتح السين: الحقير الدنيء من كل شيء. فالاستمناء مبغض (۲) عند الله تعالى
بنص الحديث.
ثم إن الذين أجازوا الاستمناء مطلقا استدلوا بما ذكره ابن حزم وهو: «أن
(۱) بضم الياء وكسر الغين: مضارع أبغض، ويأتي هذا الفعل في كثير من الأحاديث في الترغيب والترهيب فيشكله مصححه أحيانًا بفتح الياء والغين وهو لحن وتحريف في
الحديث.
(۲) بضم الميم وفتح الغين، وقولهم: «مبغوض لحن.
۱۱۸
الفقه
مس الذكر مباح وليس الاستمناء زيادة على ذلك إلا التعمد لنزول المني وليس ذلك حرامًا لقول الله تعالى: وَقَدْ فَصَلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: ١١٩] وليس الاستمناء مما فصل لنا تحريمه فهو حلال لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُم ما في الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: ٢٩] لا نعلم لهم دليلًا غير هذا».
وهو باطل، ذلك أن التعمد لنزول المني حرام لأنه استمتاع المرء بنفسه وآية (المؤمنون) (۱) تمنع منه.
أما قول الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فهو دليل لنا، لأن الله تعالى فصل لنا تحريم الاستمناء بالأدلة السابقة في الباب الأول، وهي ستة: آيتان من القرآن الكريم وأربعة أحاديث نبوية. وأما الذين أجازوه للحاجة بقصد تسكين الشهوة -وهم بعض الحنفية
وأغلب الحنابلة إلا ابن عقيل فإنه وافق الجمهور - فاستدلوا بأمرين: أحدهما: القياس، وهو أن المني فضلة في البدن فجاز إخراجه عند الحاجة كما يجوز إخراج الدم بالفصد والحجامة.
ثانيهما: ما ورد أن الصحابة كانوا يفعلونه في أسفارهم ومغازيهم.
لا دليل لهم غير هذين ولا دلالة فيهما كما يتبين مما يأتي:
أما القياس، فهو باطل لوجهين
الوجه الأول: أنه مخالف للأدلة السابقة، فهو فاسد الاعتبار، إذ القاعدة
المقررة في الأصول: أن القياس إذا خالف النص من كتاب أو سنة كان فاسد
(۱) (المؤمنون» تكررت هذه الكلمة مضمومة على الحكاية.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
الاعتبار فلا يعمل به.
۱۱۹
الوجه الثاني: أن من شرط القياس مساواة الفرع الأصل، والقياس المذكور
لم توجد فيه المساواة، بل بين الأصل والفرع فوارق كثيرة، فيكون باطلا. ذلك أن المني ليس بفضلة كالدم، وعلى تقدير كونه فضلة فهو يخالف الفصد والحجامة في الأحكام المترتبة عليهما، أما كون المني ليس بفضلة بل هو مادة حيوية في الجسم فالدليل عليه أمور: الأول: أن الله تعالى قال في معرض تعداد نعمه والاستدلال على وحدانيته وكمال قدرته : أَفَرَيَتُمُ مَا تُمْنُونَ ) وَأَنتُمْ تَخَلَقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَلِقُونَ ﴾ [الواقعة: ٥٨ - ٥٩] فهذا يدل على أن المني ليس بفضلة إذ لو كان كذلك لما ذكره في هذا الموطن الذي عدد فيه بعض نعمه، كما أنه تعالى لم يذكر في كتابه الكريم في معرض الامتنان أو الاستدلال شيئا من الفضلات كالدم ونحوه. قاعدة نفيسة
وهنا قاعدة نفيسة يجب أن نشير إليها، وهي أن الله تعالى لا يمتن على عباده بأمر حقير كالفضلات وإنما يمتن عليهم بأمر عظيم الأهمية لهم فيه منافع
دنيوية.
اقرأ الآيات الآتية: وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ )) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالُ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أنقا لَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بِلِيغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمُ ) والْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: ٥ - ٨]
۱۲۰
الفقه
ا هو الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ سيمون ) يُنْبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَرَاتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَثَةٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يذكرون ) وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِييًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةُ تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ، وَلَعَلَكُمْ تَشْكُرُونَ ) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنهَرا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) وَعَلَمَةٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَرُونَ ) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورُ رحِيمٌ ﴾ [النحل : ۱۰ - ۱۸].
وقد امتن سبحانه مُعدّدًا نعمه على عباده في عدة سور من القرآن الكريم، كسورة (إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وأنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَرَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَابِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَهَاتَنكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومُ كَفَّارٌ } [إبراهيم: ٣٢ - ٣٤].
وفي سورة (الرعد) في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنهَرا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي أَلَّيْلَ النَّهَارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۲۱
يتَفَكَّرُونَ ) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعُ مُتَجَوِرَاتُ وَجَنَّتُ مِنْ أَعْنَبٍ وَزَرْعُ وَنَخَيلُ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانِ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: ٣ - ٤] . -
وسورة (النحل) في الآيات التي سبق ذكرها، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ الآيات [النحل: ٦٥].
وسورة (فاطر) في قوله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَابِعُ شرابهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجُ ﴾ الآية [فاطر: ۱۲]، وفي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَتٍ تُختَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ بِيضُ وَحُمْرُ تُخْتَلِفُ الوانها و غرابيب سود الآية [فاطر: ٢٧]
وسورة المرسلات)، في قوله تعالى الرتَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَانَا أَحْيَاهُ وَأَمْوَانَا الآية [المرسلات: ٢٥ - ٢٦]
وسورة (عبس)، في قوله تعالى: فلينظر الإنسَنُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَا صَبَنَا الْمَاءَ صَبَا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْتَنَ فِيهَا جَال وَعِنَبا وَقَضَبَا وَزَيْتُونَا وَتَخَلا وَحَدَابِقَ غلَبَا وَقَكِهَةً وَأَنا مَشَعَا لَكُمْ وَلِأَنْعَمكُمْ ﴾ [عبس: ٢٤ - ٣٢].
فإذا تدبر القارئ هذه الآيات ونحوها من آيات الامتنان وجد أن الله تعالى قد امتن بنعم جزيلة ومنافع جليلة وهكذا شأنه سبحانه وتعالى في الاستدلال والاحتجاج لا يستدل إلا بالأمور العظيمة الدالة على ألوهيته ووحدانيته وتفرده بالقدرة التامة التي لا يعتريها وهن ولا خلل، والآيات في هذا كثيرة
۱۲۲
الفقه
أغلبها مذكور في السور المكية.
فهذه قاعدة نفيسة يجب أن يُتنبه لها؛ لأنها من أسرار القرآن الكريم التي قد
يغفل عنها كثير من الناس. فإن قيل: ينافي ما ذكرته في المني من أن ذكر الله له في معرض تعداد النعم يدل على عظم أهميته وأنه ليس بفضلة؛ أننا وجدنا الله تعالى وصفه بالمهانة في قوله تعالى: تُرجَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَاء مَهِينٍ ﴾ [السجدة: 1] الوَتَخَلَقَكُم مِّن ماو مهين فَجَعَلْتَهُ في قرار مكين المرسلات : ۲۰ - ٢١) وهذا يقتضي حقارة المني وأنه فضلة كسائر الفضلات.
فالجواب: أنه لا تنافي ولا تعارض لأن المهين في الآيتين معناه: الضعيف، وهذا الوصف ذكره الله تعالى دليلا على قدرته حيث خلق من ماء ضعيف بشرًا
قويا.
وقد صور ابن القيم في بدائع الفوائد" مناظرة بين فقيهين يقول أحدهما
بطهارة المني والآخر بنجاسته وكان الظفر فيها للأول. ومما جاء فيها استدلالا على الطهارة ما نصه: (وأيضًا فإن الله تعالى أخبر عن هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعذرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي فالمهين
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۲۳
ههنا الضعيف ليس هو النجس الخبيث . اهـ
فعلم منه أن وصف المني بالمهين لا يدل على الحقارة وإنما هو للحكمة
المذكورة.
ثم لا يخفى أن كلام ابن القيم هذا يصلح أن يكون وجها رابعا يدل على أن المني ليس بفضلة.
الأمر الثاني: أن الله كرَّم الإنسان وفضَّله كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾ [الإسراء: ٧٠].
والمني منه يتكون الإنسان ويتخلق وليس من المعقول أن يتخلق الإنسان الذي كرمه الله من فضلة كسائر الفضلات وهذا أحد الوجوه التي استدل بها الشافعية على طهارة المني وهو دليل ظاهر قوي. الأمر الثالث: أن المني يخرجه الإنسان على وجه الاستمتاع واللذة، بل إخراجه هو اللذة الكبرى وهو المقصود من النكاح الذي رغب فيه الشارع لما ينشأ عنه من النسل الموجب لتكثير الأُمَّة، وسائر الفضلات يخرجها الإنسان من باب دفع الضرر والخبث كالبول والغائط، أو من باب التداوي كالفصد والحجامة، أو من باب التنظيف والتجمل كالمخاط والبزاق، فهذه الأمور تدل على أن المني ليس بفضلة ودلالتها ظاهرة قوية.
هذا وقد وجدت ابن القيم اختار هذا القول وأيده، فرأيت أن أنقل كلامه لما فيه من الفائدة.
١٢٤
الفقه
قال في كتاب "التبيان في أقسام "القرآن" بعد أن تكلم على كيفية خروج المني وأنه يخرج من جميع أجزاء البدن ما هذا لفظه: «فإن قيل: فهذا اختيار منكم لقول من قال: إن المني يخرج من جميع أجزاء البدن، وهذا وإن كان قد قاله كثير من الناس فقد خالفهم آخرون وزعموا أنه فضلة تتولد من الطعام وهي من أعدل الفضلات ولهذا صلحت أن تكون مبدأ الإنسان وهو جسم متشابه في نفسه. قيل : القول الأول هو الصواب ويدل عليه وجوه
منها عموم اللذة بجميع أجزاء البدن.
ومنها: مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين.
ومنها: أن المشابهة الكلية تدل على أن البدن كله أرسل المني ولولا ذلك لكانت المشابهة بحسب محل واحد، فدل على أن كل عضو أرسل قسطه
ونصيبه فلما انعقد وصلب ظهرت محاكاته ومشابهته له. ومنها: أن الأمر لو كان كما زعمه أصحاب المقالة الثانية من أن المني جسم واحد متشابه في نفسه لم تتولد منه الأعضاء المختلفة المتشكلة بالأشكال المختلفة لأن القوة الواحدة لا تعمل في المادة الواحدة إلا فعلا واحدا فدل على أن المادة في نفسها ليست متشابهة الأجزاء. ومنها: أن المني فضلة الهضم الآخر وذلك إنما يكون عند نضج الدم في العروق وكونه مستعدا استعدادًا تامًا لأن يكون من جوهر الأعضاء ولذلك يحصل عقب استفراغه من الضعف أكثر مما يحصل من استفراغ أمثاله من الدم ولذلك يورث الضعف في جوهر الأعضاء الأصلية فدل على أنه مركب من
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۲۵
أجزاء كل منها قريب الاستعداد لأن يكون جزءًا من عضو، ولذلك سماه الله : سلالة والسلالة فعالة من السل وهو ما يسل من البدن كالبخار كما سمى أصله: سُلالة من طين ﴾ [المؤمنون: ۱۲] لأنه استلها من جميع الأرض كما في "جامع الترمذي"، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض».
ثم ذكر حجج من زعم أن المني فضلة وردها.
وأما أن المني على تقدير كونه فضلة مخالف للفصد والحجامة في الأحكام فذلك ظاهر، لأن خروج المني يوجب الغسل ويفطر الصائم، بخلاف الفصد والحجامة فلا يوجبان الغسل ولا يفطران(۱) الصائم.
كما أن المني طاهر على الراجح، بخلاف الدم الخارج بالفصد والحجامة فإنه نجس بالإجماع. والمني لا يجوز أخذ الأجرة عليه بخلاف الفصد والحجامة، فإنه يجوز أخذ
الأجرة عليهما.
وهكذا إذا تتبعت الأحكام المترتبة على المني في أبواب الفقه من عبادة ونكاح وطلاق تجدها مخالفة لأحكام الفصد والحجامة التي لا تخرج عن
أبواب العبادة والإجارة.
ومع
هذه الفوارق الواضحة كيف يصح القياس؟! ومتى ينعقد ؟!.
(۱) في مذهب أحمد قول بأن الحجامة تفطر لحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» والجمهور
على خلافه وفي الحديث كلام من حيث دلالته.
١٢٦
الفقه
وقد قال ابن القيم - أثناء المناظرة المشار إليها آنفًا ردًا على من قاس المني على العذرة والبول بعد أن بين نتانتها وقبحها - ما نصه: «ولا كذلك هذه الفضلة الشريفة التي هي مبدأ خيار عباد الله وساداتهم وهي من أشرف جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه ومعها من روح الحياة ما تميزت به عن سائر الفضلات فقياسها على العذرة أفسد قياس في العالم وأبعده عن الصواب . اهـ
ومثله يقال في قياس المني على دم الفصد والحجامة سواء بسواء. وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في مغازيهم وأسفارهم فلا يدل على المقصود لوجوه الأول: أن فعل الصحابة ليس بحُجَّةٍ؛ لأن فيهم المجتهد الذي يخطئ ويصيب وفيهم المقلد الذي يقلد صحابيًا مثله، وكل من فعلي المجتهد والمقلد
لا حجة فيه.
الثاني: أنَّ هذا الفعل حكاه عنهم بعض التابعين وهم: زياد أبو العلاء، والحسن، ومجاهد، ولم يذكروا أن الصحابة فعلوا ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه اطلع عليه وحيث لم يذكروا ذلك فهو أثر موقوف لا حجة فيه (1)
(۱) والعجب أن ابن حزم أزرى كثيرًا على الذين يحتجون بأقوال الصحابة وأفعالهم وصرح بأن مذهبه أن قول الصحابي: كنا نقول كذا، أو نفعل كذا، لا يحتج به ولو أضافه إلى عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ما لم يصرح بإقراره صلَّى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وتجده هنا يحشد آثارا عن التابعين يحكون فيها فعل الصحابة
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۲۷
الثالث: ولو فرضنا أن هذا الفعل من الصحابة حجة ودليل بناء على قول
من يرى الاحتجاج بقول الصحابي وفعله؛ فهو معارض هنا بالأدلة المذكورة في الباب الأول. والقاعدة المقررة في الأصول: أن الدليلين إذا تعارضا على وجه لا يمكن
معه الجمع بينهما وجب الترجيح بتقديم الأقوى على الأضعف. وبناء على هذا يكون أدلة التحريم أرجح وأقوى لوجهين:
أحدهما: أنه من كلام الله وكلام رسوله ولا شيء يقوم معهما فضلا عن أن يقدم عليهما.
ثانيهما: أنها تُحرّم وفعل الصحابة يبيح، والمقرر في الأصول: ترجيح
التحريم على الإباحة؛ لما سبق بيانه في الباب الأول.
تنبيهان
(التنبيه الأول): وقع في كلام ابن حزم وابن القيم الذي نقلناه أول هذا الباب جواز الاستمناء للمرأة.
زاد ابن القيم ناقلا عن بعض الحنابلة: «أنه يجوز لها أن تستدخل في فرجها شيئًا يشبه الذكر»، وكل ذلك خطأ قبيح لا يجوز الأخذ به ولا التعويل عليه،
للاستمناء، ثم يدعم تلك الآثار بأنها عن كبار التابعين وهم لا يكادون يروون إلا عن الصحابة، حقا إن هذا العجيب!. أن الحسن ومجاهد رويا كثيرًا عن التابعين وهب أن الأمر كما قال؛ فإن فعل الصحابة ليس بحُجَّةٍ كما قرره ابن حزم نفسه في كتاب "الأحكام" وهو صحيح.
۱۲۸
الفقه
والصواب الذي لا محيد عنه حرمة الاستمناء للمرأة أيضًا للأدلة السابقة إذ
النساء شقائق الرجال في الأحكام.
ثم لا يخفى أن استدخال المرأة شيئا في فرجها مع ما فيه من الضرر عليها - أشد في التحريم من مجرد الاستمناء ولذا وافق ابن حزم على تحريمه، وكان البعض من الحنابلة في إباحتهم له غير موفق.
(التنبيه الثاني): قال السيد مرتضى في "شرح الإحياء" ما لفظه: «وفي صرة الفتاوى لبعض المتأخرين من أصحابنا - يعني الحنفية - ما نصه: ومن الناس من قال أن الاستمتاع بالكف لا يفسد الصوم، وهل يباح له ذلك في غير رمضان؟ قالوا: إن أراد الشهوة لا يباح، وإن أراد تسكين الشهوة فنرجوا ألا يكون مؤاخذا ولا آتما والفرق بين فعل الإباحة وعدمها البزاق، فإن لم يكن فللتسكين وسئل ابن نجيم عمن استمنى بكفه في رمضان فأجاب: يلزمه القضاء والكفارة لفساد صومه، والله أعلم . اهـ كلامه.
وهذا مذهب المالكية أيضًا، أما الشافعية والحنابلة فيجب عندهم القضاء
فقط، لأن الكفارة لا تجب عندهم في إفساد صوم رمضان إلا بالجماع عمدًا. والذي قال أن الاستمناء لا يفسد الصوم هو ابن حزم، نص عليه في "المحلى" وهو قول شاذ، يوازيه في الشذوذ قول بعض متأخري الشافعية: «إن
شرب الدخان لا يفطر الصائم». حكاه الباجوري.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۲۹۰
الخاتمة وفيها فصلان
الفصل الأول
في ذكر السؤال والفتوى الذين نشرتهما في "مجلة الإسلام"، فقد رأيت ذكر هما في هذا المحل أليق لما في ذلك من المناسبة التي لا تخفى. جاء في العدد الثالث والأربعين من السنة الثامنة للمجلة المذكورة ص ١٣ تحت عنوان: جلد عميرة، ما هذه صورته
جائني خطاب من حضرة ح. أ.ع ببورسعيد يقول فيه بعد الديباجة
والتحية-:
نحيط علم فضيلتكم بأن لنا رغبة شديدة جدا في معرفة هذا الحديث، وهو: «لا ينكح أحدكم نفسه بيده فيأتي بيده يوم القيامة وهي حبلى». فهل هذا الحديث صحيح ؟ (۱) ومن فعل هذا الفعل فماذا يكون جزاؤه؟ ومن تاب عنه بعد معرفته أنه حرام ورجع إليه ثاني مرة وتاب وهو غير مصر عليه ورجع إليه فماذا يكون عقابه؟ وإذا تاب وأقسم يمينا بالله العظيم ثلاثا - وبعد مرور الشهور عاد إليه عقب نظرات كثيرة إلى المحرمات. فماذا يفعل الآن؟ وهو شاب عمره لا يزيد عن ١٩ سنة. وعن شرط كل هذه الأعمال وهو محافظ على الصلوات الخمس.
فرجاؤنا الإفادة: ماذا يعمل في هذه الأيام الفاضلة؟ لأجل أن يعفو الله عنه، وهو راجع إلى ربه نادم على ما فعل ويريد أن يعرف ضرر هذا الفعل
(۱) ليس بصحيح، بل لا أصل له لكن ورد معناه عن العطاء كما يأتي في الفتوى.
۱۳۰
الفقه
ومنفعة التوبة النصوح وشروط التوبة الصحيحة وصيغة التوبة وكم يستغفر الله ؟ وفي أي وقت يتلوها؟ ودعاء يحفظ من هذا الداء، وماذا يعمل في اليمين؟ لأجل أن يحظى برضاء الله ويكون من الناجين يوم الدين برحمة من الله وبفضل منكم، وعسى أن يكون النفع على أيديكم وتكونوا سببا في معرفة هذا الداء الخفي الذي لم يطرق على بال أحد من العلماء عندنا في بورسعيد. أفيدونا ولكم منا الشكر ومن الله الثواب الجزيل لأن كثيرًا من الشبان
غارقون في تلك المعصية وتقبلوا فائق الاحترام.
الجواب
جائني هذا الخطاب في العشر الأواخر من رمضان ولم يتيسر لي أن أجيب عنه إذ ذاك لعروض سفر وشواغل استمرت إلى الآن وشغلت بالي حتى كدت أنساه، ثم رأيت أن أختلس من وقتي فرصة أجيب فيها جوابًا مختصرًا بقدر ما يسمح به الحال راجيًا أن يكون فيه مع اختصاره الكفاية والله الموفق وبيده الهداية، فأقول: من تأمل الخطاب المذكور وجده يصور حالة شبان هذا العصر أتم تصوير ويعبر عما وقعوا فيه من ورطة هذا الفعل القبيح الذي هو أخطر الأدواء وأشدها ضررًا على الجسم والعقل والدين فبينما ترى الشاب من هؤلاء المصابين بجلد عميرة قوي الأعضاء . النشاط يشتعل ذكاء وفتوة ويلتهب
جم
حماسًا وقوة تجري نضرة الشباب في وجهه ويغلي دم الحياة في عروقه.
إذا أنت تراه - وقد أنهكه ذلك الفعل - خائر الأعضاء فاقد النشاط قد
استحال ذكاؤه إلى غباوة وأفن، وانقلب حماسه وقوته إلى ضعف ووهن،
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۳۱
وصارت نضرته صفرة تنذر بحلول داء عياء، وهبطت حرارة الدم فيه بنسبة ما
أخرج من الماء، والتحق بالشيوخ الهرمى وهو لما يزال بعد في سن الشباب. كل هذه البلايا بفضل ذلك الفعل الخبيث، ولا غرو فإن ماء الرجل قوة عقله ونضارة وجهه ومخ ساقه وخلاصة عروقه فاستخراجه على غير الوجه المشروع يؤدي حتما إلى أسوأ النتائج (۱).
ومما لا شك فيه أن هذا الفعل حرام عند المالكية والشافعية والحنفية وجمهور الأئمة.
وممن نص على حرمته الإمام البغوي والقاضي أبو بكر بن العربي، والحافظان ابن كثير وابن الملقن والامام المجتهد التقي ابن دقيق العيد، والعلامة ابن الهمام، والمحقق ابن قاسم العبادي، وشيخ الإسلام الشيخ عبدالله الشرقاوي، ومفتي بغداد السيد الآلوسي، وجماعة يطول ذكرهم.
ودليلهم على حرمته قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ إِلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٧].
قال حرملة بن عبد العزيز : سألت مالكًا عن الاستمناء باليد فتلا هذه الآية». أي مستدلا بها على التحريم كما هو ظاهر.
(1) ينسب إلى الرئيس ابن سينا هذا البيت:
احْفَظْ مَنيَّكَ ما اسْتَطَعْتَ فإنَّه ماء الحياة يُصَبُّ في الأرحام
وهو من جملة قصيدة تشتمل على نصائح وحكم.
۱۳۲
الفقه
واستدل بها الشافعي أيضًا، قال ابن كثير : وقد استدل الإمام الشافعي ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَفِظُونَ ) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ ﴾ قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ » . اهـ
وقال البغوي عند قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَيْكَ هُمُ الْعَادُونَ : «أي الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام فيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول أكثر العلماء.
واستدل بها أيضًا تقي الدين ابن دقيق العيد كما نقله أبو حيان. والاستدلال بها ظاهر لا غبار عليه، لأن الله تعالى مدح المؤمنين بأنهم حافظون لفروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في ذلك
لأنه مباح لهم. ثم قال: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ) أي خلاف ذلك المذكور من الأزواج والإماء فَأُولَيكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يستفاد من تعريف الطرفين، وكون المسند إليه معرفًا بالإشارة وتوسيط ضمير الفصل بينهما فإن هذا يفيد تأكيدًا بالغا وأنهم بلغوا في العدوان بحيث استحقوا أن يجعلوا جنس العادين أو جميعهم. ولأجل ما في هذا التركيب البليغ من التأكيد البالغ قال الآلوسي: «ولا
يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه». اهـ
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۳۳
قلت: والذي يدخل في العموم الزنا واللواط ووطء الجارية المعارة لذلك وإتيان البهيمة والاستمناء (۱) فكل هذه الأشياء يشملها قوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ا ذلك وتفيد الآية حرمتها على أبلغ وجه.
وقد حاول أبو حيان أن يخدش في هذا الاستدلال فقال: «إن الآية نزلت لذم ما اعتاده العرب من فعل الزنا والتفاخر به في أشعارهم وقصائدهم وإعلانهم له حتى إنه كان لبغايا العرب رايات يعرفن بها ليقصدهن من أرادهن ولا كذلك الاستمناء، فإنه لم يكن معتادًا لهم ولا له ذكر في شيء من أشعارهم فلا يظهر شمول الآية له».
هذا معنى ما حاوله وهي محاولة باطلة فاشلة لأنه متى كان الاستمناء معروفا للعرب فالآية شاملة له ولابد سواء اعتادوه أم لم يعتادوه، إذ مما تقرر في علم الأصول : أن العادة (۲) لا تخصص العام. فإذا قال الشارع الطعام بالطعام ربا وكانت عادة العرب تناول البر فقط فالواجب حمل الطعام في كلام
(۱) ووطء بنات البحر بناء على ما تقرر في الأصول أن العام يشمل الصورة النادرة، وقد أجاز الشافعية المسابقة على الفيل أخذا بعموم حديث: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل وإن كانت المسابقة على الفيل نادرة. فكذلك الحال هنا، فتكون الآية بعمومها شاملة لبنات البحر وهي حيوانات بحرية تظهر في بحر قزوين، وهي على شكل المرأة لها ثدي وفرج وتصدر منها أصوات كالقهقهة فإن ظهرت على وجه الماء جذبها البحارة إلى السفينة وجامعوها ثم يردونها إلى البحر هكذا ذكر القزويني وغيره
ممن كتبوا في عجائب المخلوقات.
(٢) أي الفعلية، كما مر بيانه في الباب الأول.
١٣٤
الفقه
الشارع على عمومه الشامل للبر وغيره ولا يجوز قصره على البر الذي اعتادوه. وكذلك يقال هنا فإذا كان العرب قد اعتادوا الزنا ولم يعتادوا الاستمناء كما يقول أبو حيان ثم جاءت الآية عامة، فليس من المعقول أن نقصرها على ما اعتادوه فنكون قد حكمنا العادة في كلام الشارع وهذا ما لا يقبله عقل ولا
يؤيده نقل.
ثم مما يبطل محاولة أبي حيان هذه استدلال مالك والشافعي بالآية على تحريم الاستمناء، وهما عربيان صليبة، بل نص كثير من العلماء على أن الشافعي حجة في اللغة العربية بصرف النظر عن إمامته في الدين، فهل فاتهما وهما بهذه المثابة من العرب والعربية ما أدركه أبو حيان؟!. ولئن فاتهما ذلك كيف لم يتفطن له ابن العربي والبغوي وابن كثير وغيرهم ممن استدلوا بهذه الآية؟! ، اللهم غفرا.
ووجه آخر يبطل محاولة أبي حيان وهو أنه لو قصرت الآية على الزنا الذي اعتاده العرب كما يقول ؛ لم يكن فيها كبير فائدة لأن الزنا ثبتت حرمته وتوعد عليه في عدة آيات غير هذه تنصيصا عليه بخصوصه فلا معنى لقصرها عليه والحالة هذه بل يجب حملها على العموم كما هو المتعين في عمومات كلام الشارع حتى يقوم دليل على التخصيص. فبهذه الأوجه الثلاثة بطلت محاولة أبي حيان، وثبت أن الآية تدل على تحريم الاستمناء وهو مذهب الأئمة.
ومن الأحاديث والآثار في هذا الباب مارواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۳۵
حميد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «سبعةٌ لا يَنْظُرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكّيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار في أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومَن تَابَ تابَ الله عليه: الناكِحُ يَدَهُ، والفاعل والمفعولُ به، ومُدمن الخمر، والضارب والديه حتّى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتّى يلعنوه، والنَّاكِحَ حَلِيلَة جاره».
مسلمة بن جعفر : قال الحافظ الذهبي: «يجهل هو وشيخه حسان». فالحديث فيه ضعف ومع ذلك يعمل به في هذا الباب؛ باب الترهيب، لأن الحديث الضعيف يعمل به في الفضائل والترغيب والترهيب كما نص عليه الأئمة: أحمد بن حنبل، وعبد الرحمن بن مهدي، والحاكم، والبيهقي، والنووي، وغيرهم. على أن الحديث ضعفه خفيف كما علمت إذ ليس في سنده كذاب ولا متهم ولا شديد الضعف، وإنما فيه مجهول جهالة خفيفة كما يشعر بذلك قول الذهبي: يجهل.
وقال عبدالرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد
قال: سئل ابن عمر عن الاستمناء فقال: «ذاك نائك نفسه». وروى سفيان الثوري ، عن الأعمش، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، عن ابن : أن ، رجلًا قال له : إني أعبث بذكري حتى أنزل، قال: أف، نكاح الأمة
عباس: أ
خير منه وهو خير من الزنا.
الزنا.
قلت: معنى قول ابن عباس : هو خير من الزنا أن حرمته أخف من حرمة
١٣٦
الفقه
وروى البغوي عن ابن جريج قال: سألت عطاء عنه فقال: مكروه، سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى، وأظنهم هؤلاء.
وروى أيضا عن سعيد بن جبير قال: عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون
بمذاكيرهم. وهذه الآثار وإن كان في بعضها مقال من حيث السند فإنما أوردتها
استئناسا لا احتجاجًا إذ لاحجة في أحد بعد كلام الله ورسوله.
وحيث ثبت بالدليل الذي قدمناه وغيره أن الاستمناء حرام فجزاء فاعله أن يعذب في الآخرة بما ذكر في الحديث السابق إلا أن يتوب أو يعفو الله عنه وجزاؤه في الدنيا أن يعزر كما نص عليه ابن الملقن في "شرح المنهاج" ونقله العلامة الشيخ زروق عن مذهب الحنابلة وهو الجاري على قواعد الأئمة الأربعة، لأن من المقرر عندهم فيما أحسب أن كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة ففيها التعزير ) لأنه من باب تغيير المنكر الواجب على الإمام إقامته ولهذا كان عمر رضي الله عنه يعلو بدرته كل من رآه مخالفا للشرع فيما لا حد فيه تعزيرا له حتى لا يعود، فإن تاب فاعل الاستمناء توبة صحيحة تاب الله عليه وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ [الشورى: ٢٥] فإن عاد بعد ذلك فليحدث توبة أخرى صحيحة فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
(۱)
(۱) وهي عقوبة موكولة إلى اجتهاد الإمام إما بالجلد على ألا يزيد على عشر جلدات لحديث: «لا تعزير فوق عشرة أسواط»، وأجاز الشافعية الزيادة عليها بشرط ألا يبلغ أقل الحدود وهو أربعون جلدة في حد الخمر، وإما بأخذ جزء من المال ووضعه في
بيت مال المسلمين، وإما بغير ذلك مما يكون رادعا.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
كما ثبت في الحديث.
۱۳۷
وإن حلف ألا يعود ثم عاد إلى فعله وجب مع تجديد التوبة كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين بما يشبعهم أو كسوتهم بأقل ما يسمى كسوة عند الشافعية ولو طاقية أو منديلا فإن لم يستطع الإطعام ولا الكسوة فليصم ثلاثة
أيام (1).
توبة».
وشروط التوبة الصحيحة
۱ - الندم على الذنب وهو أهم الشروط كما يدل على ذلك حديث: «الندم
٢- وترك الذنب في الحال.
والعزم المصمم على عدم الرجوع إليه.
فمتى تحققت هذه الشروط كانت التوبة صحيحة مكفرة للذنوب وموجبة
لرضاء الله تعالى ومغفرته ومصفية للقلب من أدران المعاصي وصدئها مع
فوائد أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
وكيفية التوبة
أن تتوضأ وتصلي ركعتين بنية صلاة التوبة وإن صليتهما في فضاء من الأرض فهو أحسن الحديث ورد في ذلك (۲)، وتستغفر الله بأي صيغة شئت فإنه
(۱) لا يشترط فيها التتابع فيجوز صومها متفرقة. (۲) روى الأربعة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله
۱۳۸
الفقه
ليس للاستغفار في هذا الموطن صيغة خاصة، والصيغة التي يلقنها بعض أئمة المساجد لمن يقول له من العوام «توبنا» ؛ لم يرد بها حديث ولا أثر، وإنما هي من عمل بعض المشايخ، وليست التوبة ألفاظا تتلى ولكنها عزم على ترك الذنب وندم ، كما تقدم.
غير أن الأحسن في الاستغفار أن يكون بصيغة واردة كسيد الاستغفار، وهو: «اللهم أنت ربي ... إلخ، أو : «استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه»، أو : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت. أو غير ذلك من الصيغ الواردة وإن اقتصرت على «استغفر الله» كفاك. وأكثر من الاستغفار فإنه يمحو الذنوب ويذهب الحزن ويُسهل الرزق كما جاء في الحديث، وإن استطعت الزواج ولم يكن عندك عائق من طلب علم ونحوه فتزوج فإنه ليس شيء أصلح لدين المؤمن من الزواج، فإن لم تستطعه فعليك بالصوم، فقد ثبت في الحديث: (يا معشر الشباب من استطاع منكم
إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله الآية [آل عمران: ١٣٥]». حسنه الترمذي، هذه صلاة التوبة. وروى البيهقي، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما أذنب عبد ذنبًا ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى فيه ركعتين واستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفر الله له». حديث مرسل. براز، بكسر الباء: فضاء
من الأرض.
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
۱۳۹
الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطعه عليه بالصوم فإنه له وجاء». الوجاء بكسر الواو رض الأنثيين ودقهما كما يفعل بالفحل
من الضأن والماعز إذا أريد منعه من طروق الأنثى ليسمن ويكثر لحمه. وهو هنا تشبيه بليغ شبه الصوم لإضعافه الشهوة بالوجاء الذي يذهب
بها بتاتا ليفيد أن للصوم في منع النفس وتقليل شهواتها تأثيرًا كبيرًا. هذا دواء الشارع لمن هو على حالتك أيها الشاب، فروض نفسك على الصوم وتعاهدها به الفينة بعد الفينة، فإن لم تستطع فجاهد نفسك واكبح جماح شهواتها وكن قوي العزيمة شديد الشكيمة لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية.
ولا تسترسل مع الخيال فإنك ترجع منه إلى عالم الحقائق كمثل هائم على وجهه أو حالم في نومه. واشغل نفسك في خلوتك بما يدفع عنك التفكر فيما يفضي بك إلى الاستمناء، إما بتلاوة القرآن أو بذكر من الأذكار أو بمطالعة كتب علمية أو نحو ذلك مما يلهيك عن ذلك الفعل الخبيث.
وحذار حذار أن تعود إليه أو تستحلي المداومة عليه فإنه داء خطير وبيل يضعف البصر وينهك القوى ويجهد الأعصاب ويقضي على عضو التناسل فلا يستطيع فاعله إعفاف امرأته إن تزوج ويحل ماء الرجل فتقل أو تنعدم منه القوة الحيوية التي يتخلق منها الجنين. ولهذا لا يرجى من صاحبه نسل يفيد المجتمع، بل إما أن يكون لا نسل له أو له نسل ضعيف كثير الأمراض قليل المرح المعهود في مثله، فهو كالزهرة
١٤٠
الفقه
الذابلة أو الوردة الحائلة، ويورث مرض السل - والعياذ بالله- لبعض فاعليه ممن يكون عندهم قابلية ذلك المرض، ويورث الخبل في العقل والفساد في التفكير. إلى غير ذلك من أضراره المجربة التي لا يشك فيها إلا جاهل، هذا عدا ما يعقبه من سخط الله وعذابه، زد على ذلك أنه فعل دنئ لا يرضاه إلا دنئ الهمة ساقط النفس وأعيذك بالله أن تكون كذلك.
فتب إلى الله واستغفره والجأ إليه لأن يقطع عنك هذا الداء، فإنه إذا علم منك صدق اللجأ كشف عنك ما بك وقبل توبتك وأنالك من طاعته منالا. واحرص على قراءة هذا المقال وتفهمه واقرأه على إخوانك وأصحابك لعلهم يهتدون، هداك الله ووفقك ودفع عنك الشهوات ومواقع الشبهات والسلام عليك ورحمة الله.
تمت الفتوى وهي كافية في الموضوع جامعة لأهم ما جاء فيه بحيث أن من
اقتصر عليها أغنته عن كثير من المطالعة والمراجعة.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
الفصل الثاني
في الحض على غض البصر وحفظ الفرج
١٤١
قال الله تعالى: قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فروجهن ﴾ [النور: ٣٠ - ٣١].
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يأمر
المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وحفظ فروجهم عن المحرمات. وأخبر تعالى أن ذلك أزكى لهم وأطهر لأنه أبعد عن الريبة وأدعى إلى
اطمئنان الناس على أنسابهم وأعراضهم وأجلب لرضا الله ومحبته. كما أخبر سبحانه أنه خبير بما يصنعون لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فمن قارف محرما ببصره أو بفرجه فالله خبير بعمله وناظر إليه ومُجازيه على ذلك يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ تُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ﴾ [آل عمران: ٣٠].
ثم لا يخفى أن غض البصر وحفظ الفرج عن المحرمات لا خلاف بين
المسلمين في وجوبهما للآية المذكورة وغيرها من الأدلة.
وأخرج أحمد من طريق المطلب بن عبدالله بن حنطب، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اضْمَنُوا لي سِتّا مِن أَنفُسِكُمْ أَضْمَنْ لكمُ الجَنَّةَ : اصْدُقُوا إِذا حَدَّثْتُم، وأَوْفُوا إِذا وعَدْتُم، وأدوا إذا اؤْتُمِنتُم، واحْفَظُوا فُرُوجَكُم، وغُضُّوا أبصارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ».
١٤٢
الفقه
صححه ابن حبان والحاكم.
وأخرج أحمد والبزار والطبراني بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «العَيْنَانِ تَزْنِيانِ
والرَّجُلانِ تَزْنِيانِ والفَرْجُ يَزْنِ».
وزنا العينين: هو نظرهما إلى المحرمات، وزنا الرجلين: المشي بهما إلى المحرمات كما جاء مفسرا في حديث آخر .
فأخرج مسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كتب على ابنِ آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النَّظَر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان
زناه الكلام، واليد زناها البَطْشُ والرَّجُلُ زناها الخطا، والقَلْبُ يَهْوَى ويتمنَّى،
ويُصَدِّق الفرجُ ذلك أو يُكَذِّبُه».
ورواه البخاري أيضًا مختصرًا.
وفي رواية لمسلم، وأبي داود ، واللفظ له واليدانِ تزنيان فزناهما البطشُ، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَلُ». قال النووي رحمه الله تعالى: «معنى الحديث: أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنا فمنهم من يكون زناه حقيقيًا بإدخال الفرج في الفرج الحرام ومنهم من يكون زناه مجازا بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده أو يقبلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنا، أو النظر أو اللمس أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب. فكل هذه أنواع من الزنا المجازي. والفرج يصدق ذلك أو يكذبه : معناه أنه قد
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
١٤٣
يحقق الزنا بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك
والله أعلم». اهـ
وأخرج الطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «التَغْضُنَّ أبصاركم (۱) ولتحفظن فروجكم أو ليكسفنَّ الله وجوهكم». وأخرج الطبراني أيضًا بإسناد رجاله ثقات غير واحد فهو مجهول، عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله».
وأخرج أبو داود والترمذي عن بريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لعلي عليه السلام: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما
لك الأولى وليست لك الآخرة». حسنه الترمذي.
وأخرج أحمد والطبراني، واللفظ له، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما من مسلم ينظرُ إلى امرأةٍ رَمْقَةٌ ثُمَّ يَغُضُّ بصره إلَّا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه». ورواه البيهقي وقال: «إنما أراد أن يقع بصره عليها من غير قصد فيصرف
(۱) لتغضُنَّ: بضم الغين والضاد المعجمتين وفتح النون المشددة، وهي نون التوكيد. ولتحفَظُنَّ : بفتح الفاء وضم الظاء وفتح نون التوكيد المشددة.
ليَكسِفَنَّ: بفتح الياء المثناة التحتية وكسر السين المهملة وفتح الفاء ونون التوكيد المشددة، ومعنى كسف الوجوه إذهاب نور الإيمان منها، نسأل الله العافية.
١٤٤
الفقه
بصره عنها تورعا».
وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما مِن صباحٍ إِلَّا وَمَلَكانِ يناديان: ويلٌ للرجال مِن النِّساء وويل للنساء من الرجال». صححه الحاكم. وأخرج الطبراني بإسنادٍ صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «الأَن يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُم بِمِخْيَطِ من حديد خيرٌ له مِن أَن يَمَسَّ امْرَأَةٌ لا تحِلُّ له».
وأخرج الطبراني أيضًا بإسنادٍ لا بأس به عن وحشي بن حرب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لعلكم تفتحون بعدي مدائن عظامًا وتتخذون في أسواقها مجالس فإذا كان ذلك فردوا السَّلامَ وغُضُّوا مِن أبصاركم واهْدُوا
الأَعْمَى وأَعِينوا المظلوم».
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن يَضْمَنُ لي ما بين لَحَيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أَضمَّنتُ
له الجنة».
ما بين لحييه اللسان، وما بين رجليه الفرج، ومعنى الحديث: أن من حفظ لسانه وفرجه دخل الجنة.
وأخرج ابن حِبَّان في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا صَلَّتِ المرأةُ خَمْسَهَا وَأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا وأطاعَتْ بَعْلَها دَخَلَتْ مِن أي أبواب الجنَّةِ شاءت».
الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء
١٤٥
وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظله يومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ وشاب نشأ في عبادة الله عزَّ وجلَّ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالمساجِدِ، وَرَجُلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذات مَنْصِبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَ فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذَكَرَ الله خاليا ففاضت عيناه». هذا حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يظلنا في ظله ويشملنا وسائر أحبابنا بكرمه وفضله، ويمن علينا بالإخلاص في كتابنا هذا وفي غيره من الأعمال، ويبلغنا مما نرجوه من فيض عطائه جميع الآمال.
والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على نبينا وشفيعنا سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
تم الكتاب وكان الفراغ من تأليفه ضحوة يوم السبت الثاني من شهر المحرم الحرام فاتح سنة تسع وخمسين وثلثمائة وألف جعلها الله سنة فتح وخير على جميع المسلمين، وألف بين قلوبهم، وجمع شملهم، آمين.
إنه على ذلك قدير، وإنه عليه لهين يسير ، وهو تعالى بالإجابة جدير.
-0
التنصيص
على أنَّ الخَلْقَ ليس بتنميص
التنصيص
مقدمة
١٤٩
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وآله الأكرمين.
وبعد: فقد جاءني خطاب من بلجيكا، بعثه الطالب محمد الودراسيي الذي
كان يحضر دروسي بزاويتنا الصديقية عمرها الله بذكره يقول فيه: نرجوكم أن تجيبونا على السؤال التالي ولكم جزيل الشكر: إن بعض الناس هنا ببلجيكا يسموننا بالمتنمصين، ويدخلوننا تحت حديث: «لعن الله النَّامِصَةَ والمتنمصة». حيث أننا نزين لحانا بحلق بعض الشعر الذي يعلو
.
الوجنتين، فهل فعله أحد الصحابة أو التابعين؟ أو أحد الأئمة الأربعة؟ فإن كان هذا ا يوجد ، ففي أي كتاب نجده؟ وما حكمه في الشريعة السمحة؟. ونقول: ما ذكره السائل عن بعض الناس شيء لا أصل له، بل هو إحداث قول
في الدين بدون دليل، وإثمه عند الله كبير، نسأل الله العفو والعافية. وقبل أن نفيض في الجواب نوجه إلى تلك الطائفة سؤالًا فنقول لهم: من أين أتيتم بهذه البدعة القبيحة؟! وما دليلكم عليها؟
فقد رجعنا إلى كتب اللغة: "المجمل"، و"النهاية"، و"القاموس"، و"شرحه"، و"أساس البلاغة" ، و"المصباح"، و"مختار الصحاح"، فما وجدنا فيها أن الحلق: تنميص، أو أنه مثله!.
ورجعنا إلى كتب شروح الحديث مثل: "شرح مسلم" للإمام النووي، والعلامة الأبي، وشرح البخاري" للحافظ ابن حجر، فرأيناهم تكلموا على
10.
الفقه
الحلق والتنميص ولم يقولوا أنهما سواء، فكيف صح لكم أن تتجرءوا على لعن
حالق اللحية أو بعضها بمجرد بدعة أحدثتموها لا أصل لها في الدين؟!
وهذه كتب اللغة والحديث تحكم لنا عليكم.
ثم نشرع في بيان بطلان هذه البدعة من وجوه عشرة.
التنصيص
هي
الوجه الأول
أن الحلق والتنميص حقيقتان متغايرتان في اللغة العربية
فالحلق: إزالة الشعر الظاهر على البشرة بالموسى، مع بقاء بصيلاته التي ب أصوله وجذوره، ولهذا يبدأ ظهور الشعر بعد يومين من حلقه، أما النمص فهو اقتلاع الشعر بأصوله بالمناص، أي: الملقاط، بحيث لا ينبت إلا إذا تخلقت بصيلاته من جديد، فلذلك يتأخر نبات الشعر المقلوع بالنمص مدة يتم
فيها تخلق بصيلاته، وهذا معلوم بضرورة الحس والمشاهدة.
الوجه الثاني
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين الحقيقتين أيضًا فقال في الحلق: «أَعْفُوا اللَّحَى وخَالِفوا المجوس»، وقال في النمص: «لَعَنَ اللهُ النَّامِصَةَ والمتنمصة، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاشِرَةَ والمُسْتَوْشِرَةَ، وَالْمُتفَلَّجَاتِ للحُسْنِ الْمُغَيَّرَاتِ خَلْقَ اللَّه».
فأعطى صلَّى الله عليه وآله وسلّم لكل حقيقة حكمها مع بيان علته، نهى عن حلق اللحية حين أمر بإعفائها وعلله بمخالفة المجوس، ولعن النامصة وما معها وعلل اللعن بتغيير خلق الله.
ولم يكن هذا التفريق من الشارع مصادفة أو عفو الخاطر بل هو مقصود له
مبني على التفريق في اللغة العربية التي هي لغة القرآن والسنة.
١٥٢
الفقه
الوجه الثالث
الاستدراك على الشارع ممنوع
علل الشارع إعفاء اللحية بمخالفة المجوس فحينئذ تعليل حلقها بالتشبه بالنساء وبتغيير خلق الله تعليل باطل مردود
لأنه استدراك على الشارع، والاستدراك عليه ممنوع، لأن الشارع لا ينسى فيذكر ولا يغفل فينبه. والخلاف في جواز التعليل بعلتين محله في العلل المستنبطة، أما العلة المنصوصة للشارع فلا يزاد عليها جزما، لأنه أعلم بالعلة
المناسبة للحكم، وغيره لا يعلم مثله.
الوجه الرابع
لا يجوز قياس الحلق على التنميص
لأن شرط القياس أن يكون الأصل والفرع متساويين في العلة، كقياس النبيذ على الخمر، لتساويهما في الإسكار، والعلة هنا متباينة، فعلة الحلق: موافقة المجوس، وعلة النمص : تغيير خلق الله، فكيف يصح القياس ؟! .
الوجه الخامس
لا يقاس منصوص على منصوص
ولا يجوز القياس أيضًا لأن شرط صحته عند الأصوليين: أن يقاس فرع مسكوت عنه على أصل منصوص، كقياس الأرز في الربا على البر، والأرز لم
ينص عليه، فألحق بالقمح المنصوص عليه.
وهنا حلق اللحية منصوص عليه في حديث: «اعفُوا اللحى»، فإنه يفيد
التنصيص
١٥٣
النهي عن حلقها، فكيف يقاس منصوص على منصوص ؟! هذا لا يكون.
الوجه السادس
إلحاق الحلق بالتنميص باطل
تقرر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية أصل الاشتقاق، والشارع حين لعن النامصة ووصفها بتغيير خلق الله ، دلّ على أن علة ذلك . النمص، فإلحاق الخلق بالتنميص باطل بنص الحديث؛ لأنه خَصَّصَ العِلَّة
بالتنميص.
الوجه السابع
اللعن وتغيير خلق الله لا يشمل حلق اللحية
هي
لو أراد الشارع إزالة الشعر مطلقًا لقال: «لعن الله الحالق والنامصة»، أو «لعن الله من أزال شعر وجهه»، لكنه لم يقل ذلك فدل على أن اللعن وتغيير
خلق الله لا يشمل حلق اللحية أبدا بحال.
الوجه الثامن
تقرر في الأصول أيضًا أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بين في الحديث من يوصف بتغيير خلق الله وحكم بلعنه، وهي النامصة، والمتنمصة والواصلة، والمستوصلة،
والواشمة، والمستوشمة والواشرة، والمستوشرة، والمتفلجة للحسن. ولم يزد على ذلك، فجزمنا بأن حلق اللحية ليس من هذا القبيل أصلا.
١٥٤
الفقه
الوجه التاسع
تقرر في الأصول أيضًا أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
وقد ثبت في الصحيح في بعض طرق حديث النامصة أنه كان إجابة السؤال امرأة عن وصل الشعر فبيّن لها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم حكم الوصل، وضم إليه ما في معناه ولم يذكر حلق اللحية، ولو كان مثل النمص لذكره هنا،
لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز».
الوجه العاشر
تقرر في الأصول أيضًا أن القياس إنما يكون في الأحكام
كقياس الأرز على البر في الربا، وقياس النبيذ علي الخمر في الحرمة، وقياس النباش على السارق في قطع اليد، أما العقوبات المعنوية كاللعن، والغضب، وعدم دخول الجنة، فلا يجوز القياس فيها، بل يوقف على الوارد فيها لأن الشارع وحده يعلم من يستحق تلك العقوبة، ونحن لا نجرؤ أن نعممها بقياس، لأننا وجدنا الشارع لعن النامصة و لم يلعن الزانية مع أن الزنا أشد وأقبح، ولعن قاطع الرحم ولم يلعن قاطع الطريق، ولعن السارق ولم يلعن الغاش ولا الغاصب، وعليه فقياس حلق اللحية على التنميص في اللعن، قیاس باطل مردود باتفاق الأصوليين وغيرهم.
التنصيص
الخلاصة
100
حالق اللحية مُتشبّه بالمجوس كما صح في الحديث، ودعوى أنه متشبه بالنساء ومُغيّر لخلق الله وملعون دعوى باطلة يردها الحديث حسبما مرَّ بيانه مفصلًا.
أما حلق الشعر الذي يعلو الوجنتين فهو من التجمل المطلوب شرعا، ولا يضر عدم فعل الصحابة والتابعين له، بل لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله، لم يدل على حرمته ولا كراهته، لأن ترك الشيء لا يدل على منعه كما بينته في رسالة حسن التفهم والدرك"، والنهي هو الذي يدل على التحريم والكراهة.
تنبيه
في مصر يقتلع كثير من الناس بعد حلق لحاهم ما يبقى من شعر رقيق حول الشارب وعلى الوجنتين بالمنماص أو بالفتلة التي تعمل عمل المناص، وهذا تنميص حقيقي لا قياس فيه، وحيث أن الشارع حرمه على النساء مع احتياجهن للتجمل به فالرجال أولى بتحريمه وهو في حقهم أشد قبحا، لأنه تنعيم للبشرة لا يليق برجولتهم، والله تعالى أعلم.
١٥٦
الفقه
الخاتمة
حالق
ثم بعد هذا البيان الذي فصلناه بالأدلة والقواعد، فالذي يسمي . اللحية أو حالق شعر الوجنتين متنمصا فهو كاذب آثم لأنه نسب إلى الدين قولا ترده الأحاديث والقواعد ولم يقله أحد من العلماء، وهو إلى جانب هذا لعن من لا يستحق اللعن فتكون لعنته مردودة عليه كما صح في الحديث، زيادة على اللعنة التي يستحقها لكذبه في الدين والله ولي التوفيق.
٦- تعريف أهل الإسلام بأن نقل العضو حرام
تعريف أهل الإسلام
۱۵۹
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد وآله الأكرمين. وبعد: فإنّي لما كنت بمصر من أربع سنوات سألني جماعة من طلبة الطب بالإسكندرية عن مسائل من علم الطب أرادو أن يعرفوا حكم الشرع فيها، فأجبتهم عنها برسالة سميتها "أجوبةٌ هامة في الطب"، وقد طبعت
بالإسكندرية والقاهرة.
وكان من جملة أسئلتهم: هل يجوز نقل عضو من صحيح إلى مريض، ومن
ميت إلى حي؟ فأجبت: بأن نقل العضو من شخص لآخر لا يجوز؛ لأنَّ أعضاء الإنسان ليست ملكا له، فلا يملك التصرف فيها ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله
وسلَّم أنَّ في المسلم ٣٦٠ مفصلا، وأنه ينبغي له كل مطلع شمس أ أن يقدم صدقات بعددها، وأنه يقوم مقام الصدقات طاعات أخرى كالتسبيح
والتحميد والتهليل والتكبير بعددها.
ذلك أنَّ الأعضاء ملك الله تعالى، لا يجوز إزالة عضو منها إلَّا إذا كان به مرضٌ يُخشى أن يتسرب منه إلى بقيَّة الأعضاء، فيجب بتره حفظا لها وإبقاء
عليها.
وقد ظهرت الأكلة في رجل عروة بن الزبير، أحد فقهاء المدينة وعلمائها،
وأخبره الأطباء أنَّ رجله إذا لم تُقطع فسيسري الداء إلى غيرها، فقطعها. وبعض المتحذلقين يُسوّغ نقل عضو من ميت الى حي بقوله: الحيُّ أفضل
17.
الفقه
من الميت. وهذا قول باطل؛ فإن الصالح الميت أفضل من الفاسق الحي، والعادل الميت أفضل من الظالم الحي.
وقلت في صدر هذا الجواب: أمَّا نقل عضو من ميت فور موته كعين أو كلوة إلى مريض، فهذا مما شاع عند الأطباء الأوروبيين وقلدهم فيه أطباء المسلمين، وهو خطأ كبير؛ لأنَّ الدين الإسلامي يحترم الميت ولا يُجيز نقل عضو
منه إلى غيره كيفما كانت الأسباب، ولو أوصى المسلم قبل موته بأن يُنقل منه عضو لمصلحة مريض، لا تنفذ وصيته. انتهى ما أجبت به. ثُمَّ رأيت في جريدة "اللواء الإسلامي" (العدد ٢٢٦ بتاريخ الخميس ٢٧ من جماد الآخرة سنة ١٤٠٧هـ بحثًا للشيخ متولي الشعراوي، عنوانه الإنسان لا يملك جسده فكيف يتبرع بأجزائه أو يبيعها؟!»، وجاء كلامه موافقا لما أجبت به، وتوسع في الاستدلال له، وهذا هو الصواب، وما سواه
خطأ محض. لكن الناس يسارعون إلى تقليد النصارى فيما يأتي عنهم، تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «التتبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شِبْرًا بشير وذراعا بذراع ..... وليس هذا ..... وليس هذا بعجيب من العوام تباع كل ناعق، وإنما العجيب أن يُسرع أهل العلم إلى تسويغ ذلك، والسعي في إيجاد دليل له بتكلُّف وتعسُّف لا يُقبلان.
فقد رأيت في جريدة المسلمون" بتاريخ (٤) شوال ١٤٠٧ هـ - ٣٠ مايو ۱۹۸۷ م ) هذا الخبر العجيب المؤلم : أجازت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
برياسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نقل عضو
أو
تعريف أهل الإسلام
١٦١
جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمّيّ إلى آخر، إذا دعت الحاجه إلى ذلك وأمن الخطر في نزعه، وغلب الظن على نجاح زرعه ، كما أفتت الهيئة أيضًا بجواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مضطر إلى ذلك ».
وقد لفت نظري في هذه الفتوى الباطلة أمران:
۱ - ذكر الذمي، ولا أدري أين يوجد هذا الذمي ؟!
۲- اضطراب الهيئة حيث اكتفت أولا بالحاجه، ثُمَّ اشترطت الاضطرار،
وهذا علامة على البطلان.
وقد بلغني أنَّ بقاعدة: «الضرورات تبيح المحظورات»، وعهدي بهذا الشيخ أديبا لغويا، فماله
الشيخ أحمد الشرباصي أفتى أيضًا بجواز ذلك مستدلا
وللفتوى الفقهية؟! أنا أعرفه معرفة تامة وكان بيني وبينه مودة وصداقة. ورأيت في جريدة "الأهرام" بتاريخ (۱۹۷۸/۳/۸): أن رجال الدين والقانون مشغولون مع رجال الطب لوضع تنظيم لعمليات انتزاع أعضاء أو أنسجة من جسم الإنسان بعد وفاته أو في حالة الاحتضار لكي تنقذ إنسان
آخر. وكلمة: «رجال الدين عبارة مسيحية لا يعرفها المسلمون، وأنا أبين - بحول الله - بطلان هذه الأقوال، وأنه لا حاجة ولا ضرورة تبيح نقل عضو من لآخر، وأبين معنى القاعدة المشهورة «الضرورات تبيح المحظورات»،
شخص
فإن كثيرا من الناس يفهمونها على غير وجهها ونسأل الله الإعانة والتوفيق فهو الموفّق المعين.
١٦٢
الفقه
زكاة الجسم والأعضاء
11
ثبت في "صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنه خُلِقَ كلُّ إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مِفْصَلٍ، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعَزَل حجرًا عن طريق النَّاس، أو شَوْكَةً أو عَظْما عن طريقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائةِ السُّلامَى، فأنه : يمشي
وقد زَحْزَحَ نفسه عن النَّارِ».
صغير
السلامي، بضم السين وفتح الميم: كلُّ عَظْمِ قال العلامة الأبي في "شرح مسلم": «والمقصود من الحديث ما أشار إليه في الطريق الآخر: أنَّ على كل أحدٍ في كل يوم من الصدقة بعدد ما فيه من المفاصل شكرًا الله تعالى أن جعل فيه تلك المفاصل، وخالف بين أقدار أصابعه فقدر بذلك على القبض والبسط وتمكّن من الأعمال، ولو كان دون مفصل أو كانت أصابعه مستوية، لكان كالخشبة ولم يتمكن من عمل شيء، وإلى هذا
المعنى أشار بقوله تعالى : بلى قادِرِينَ عَلَى أَن شُوَى بَنَانَهُ ﴾ [القيامة : ٤] . وقال العلامه الطيبي : العل تخصيص السُّلامى - وهي المفاصل من العظام بالذكر، لما فيه من دقائق الصنائع التي تتحيّر الأوهام فيها، ولهذا قال تعالى: بلى قادرينَ عَلَى أَن تُوَى بَنَانَهُ : أي نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية كخف البعير وحافر الحمار، لا يمكن أن يعمل بها شيئًا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل من
فنون الأعمال دقها وجلها، ولهذا السر غلب الصغار من العظام على الكبار». اهـ
تعريف أهل الإسلام
١٦٣
أحاديث تؤيد هذا المعنى
روى الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين ،صدقةٌ، ويُعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، ويُميطُ الأذى عن الطريق صدقة».
وروى أحمد وأبو داود عن بُرَيْدَة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة». قالوا فمن يطيق ذلك يا رسول الله ؟! قال: «النخامة في المسجد ،تدفنها، والشئ تنحيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضُّحى تُجزئ عنك». صححه ابن خزيمة، وابن حبان.
وفي "صحيح ابن حبان" عن أبي ذر رضي الله عنه: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس مِن نَفْسِ ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس». قيل : يارسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها؟! فقال: «إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُميطُ الأذى عن الطريق، وتُسمعُ الأَصَمَّ، وتهدي الأعمى، وتُدِلُّ المستدل . على حاجته، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك». زاد البيهقي: وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن طريق الناس صدقةٌ، وهديك الرجل في أرض الضلالة صدقة».
١٦٤
الفقه
صرحت هذه الأحاديث بأن جسم الإنسان وأعضاءه ملك لله تعالى،
خَلَقها له لينتفع بها في أعماله فلا يملك التصرف فيها بهبة أو بيع أو تبرع. وهكذا حرم الله الانتحار وتوعد المنتحر بالخلود في النار، لأنه أزهق نفسا لا يملكها، فكان متعدّيًا ظالما وقد كتبت جزءًا سميته "قمع الأشرار عن جريمة الانتحار" طبع بمصر. أفادت الأحاديث المذكورة أيضًا أنَّ للجسم وأعضائه زكاة ينبغي للمسلم أن يؤديها كل يوم، وإنما لم يوجبها الشارع كما أوجب زكاة المال وزكاة الفطر، لأجل المشقة فيها، لكنه مع ذلك حضّ عليها ورغب فيها.
أدلة منع نقل العضو
قال الله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: وَلَا مُرَتَهُمْ فَلَيُغَيرنَ خَلْقَ اللَّهِ
[النساء: ١١٩].
اللفظ
تشمل هذه الآية بعمومها نقل عين أو كُلْيَةٍ أو قلب من شخص لأخر، وتشمل أيضًا خصاء العبيد الذي كان يفعله الخلفاء بعبيدهم ليدخلوا على نسائهم، كل هذا تغيير لخلق الله تشمله الآية الكريمة، ونزولها في فقء عين الأنعام وشق آذانها، لا يجعلها خاصة بذلك؛ لأنَّ «العبرة بعموم | لا بخصوص السبب». وهذه قاعدة أصولية معلومة، وقد ثبت هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم. روى الشيخان واللفظ للبخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحُسن المغيرات خلق الله تعالى، مالي لا ألعن من لعن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم،
تعريف أهل الإسلام
170
وهو في كتاب الله تعالى».
وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكرٍ -رضي الله عنهما، قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: يا رسول الله إنَّ لي ابنة عُريسًا أصابتها حصبة فتمزّق شعرها أفأصله؟ فقال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة». وله طرق في الصحيحين.
عُرَيسا» بضم العين وفتح الراء وكسر الياء المشددة: تصغير عروس، والحصبة بفتح الحاء وسكون الصاد بنُورٌ تخرج في الجلد. وتمزق الشعر بالراء والزاي: سقوطه.
شكت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مرض بنتها، وطلبت منه أن يأذن لها في وصل شعرها على سبيل العلاج، فلم يأذن لها في ذلك، فدل على
شيئين:
١ - أنَّ العلاج بنقل عضو لا يجوز، بل وفاعله يلعن. ٢ - أنَّ من أُصيب بداء فقد بسببه شعرًا أو عضوًا لا يجوز له أن يكمله من شخص آخر .
وعلة ذلك: أنه تغيير لخلق الله، وتدليس، وفيه مثلةٌ وهي محرمة، وتصرف الإنسان فيما لا يملك، ومنافٍ لكرامة الآدمي. قال الإمام النووي رحمه الله: «وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا وهو الظاهر المختار، وقد فصله أصحابنا فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف، سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف، لعموم
١٦٦
الفقه
الأحاديث، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الأدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه» . اهـ المراد منه .
وتكلَّم القرطبي في تفسيره" على خصاء الآدمي، وقال: «إنه مصيبة»، وذكر أضراره، ونقل عن ابن عبدالبر أنه قال: «لا يختلف فقهاء الحجازيين وفقهاء الكوفيين أنَّ خِصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز لأنه مثلةٌ، وتغيير لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود». اهـ وهو مُجمع عليه. (الخلاصة): تبيَّن مما سبق من الآية والأحاديث وأقوال العلماء تحريم نقل عضو
من صحيح إلى مريض، ومن ميت إلى حي ، كيفما كانت الأسباب والدواعي. احترام الإسلام للميت
يتبيَّن احترام الإسلام للميت المسلم من الأحاديث الآتية: روى أحمد، وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «كسرُ عَظْمِ المَيْتِ ككسرِ عَظْمِ الحَيِّ».
ورواه الدارقطني بزيادة: «في الإثم». حسنه ابن القطان، وقال ابن دقيق العيد: «إنه على شرط مسلم»، وذكره مالك في "الموطأ" بلاغًا عن عائشة موقوفاً ، ورواه ابن ماجه عن أ ن أم سلمة. وروى مسلمٌ ، والأربعة إلَّا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر».
قال العلامة الآبي في شرحه : وكالجلوس على القبر في المنع الاستناد إليها، والاتكاء عليها كذلك، وكذا المشي بالقبر بطريق أخرى ولا سيما
تعريف أهل الإسلام
١٦٧
بالنعال، فإن دعت الضرورة إلى المشي عليها، تُخطيت القبور، ولا يبيح المشي
عليها وجود طريق قديمةٍ عليها؛ لأن ذلك يزيدها إهانة».
وروى ابن ماجه بإسناد حسن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لأن أمشي على جمرة أوسيف، أو أَخْصِفَ نعلي برجلي أحبُّ إليَّ من أن أمشي علي قبر». قلت: هذا غاية ما يكون في احترام الميت، ومنع أي عمل يؤذيه أو يهين كرامته، فكيف يتجرأ بعض المفتين على تجويز انتزاع جزء منه بدون دليل إلَّا الانسياق مع النصارى الذين لا يرجعون في عملهم إلى خلق ولا دين؟!! عقوبة من نقل عضوا
تقرر عند العلماء كما قال ابن تيمية وغيره: أنَّ كل معصية ليس فيها حد، فيجب فيها التعزير وعلى هذا فالطبيب الذي ينقل عضوا من شخص لآخر، يُعزره الحاكم بما يكون رادعا له عن العودة الى هذا العمل، ولا يعفيه من عقوبة التعزير احتجاجه بأن قدَّم علاجًا حسبما تقتضيه مهنته؛ لأن العلاج الذي يقبل منه ويُعذر فيه إذا أخطأ هو العلاج الذي أذن فيه الشارع، أما نقل العضو فقد حرمه الشرع ولم يسمح به.
والشخص الذي يسمح بنقل جزء منه لدواء أو لغيره يعزّر ويؤدَّب لئلا
يعود، وله مع ذلك عقاب في الآخرة إلَّا أن يتوب. روى مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه: أنَّ الطفيل بن عمرو الدوسي هاجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بالمدينة، وهاجر معه و ، رجل من قومه، فاجتووا المدينة - يعني لم يوافقهم جوها - فمرض الرجل فجزع
١٦٨
الفقه
فأخذ مَشَاقِصَ فقطع بَراحِمَة - يعني مفاصل الأصابع- فشخبت -سالت أصابعه دما - حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربُّك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: مالي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: «اللهم وليديه فاغفر». أفاد الحديث أنَّ من تصرف في عضو منه بتبرع أوغيره فأنه يُبعث يوم القيامة ناقصا منه ذلك العضو عقوبة له، فمن تبرع بعين بعث أعور، ومن تبرع
بقلب أو كلية فلا يرد له ذلك العضو.
الضرورات تبيح المحظورات
فهم الناس هذه القاعدة على غير وجهها، واستعملوها في غير موضعها،
فغلطوا فيها فهما وتطبيقا.
والصواب أن يقال: الضرورة هي الحالة التي تقوم بالشخص المضطر لا
بغيره، فتلجئه إلى شيء محرّم لإنقاذ نفسه، مثل ما سبق عن عروة بن الزبير أنه قطع رجله لتسلم بقية أعضائه.
ومثل ما إذا مرض شخص مرضًا اقتضى بَثّر بعض أعضائه بعملية جراحية،
ومثل ما إذا عسرت ولادة امرأة فشق بطنها لإخراج المولود، ولا تتحقق الضرورة إلَّا إذا كانت الحالة التي قامت بالمضطر ليس لها بديل مثل الصور المذكورة، فإن كان لها بديل فهي من قبيل الحاجة لا الضرورة، مثل ما يحصل من بعض الناس أن يقترض مالا بالربا ليبني بيتا يسكنه، ويظنها ضرورة، وهذا خطأ؛ لأن سكنى
تعريف أهل الإسلام
١٦٩
الشخص في ملكه له بديل، وهو سكناه في بيت بالإيجار.
وهكذا يجب أن تفهم الضرورة، ويعرف الفرق بينها وبين الحاجة التي قد
تشتبه بها على كثير من الناس.
وليس من الضرورة إنقاذ مريض بأخذ عضو من صحيح، بل هذا فساد جسم لإصلاح آخر.
وليس من الضرورة انتهاك حرمة ميت بانتزاع جزء منه لعلاج شخص حي. وبالجملة ليس من الضرورة علاج شخص على حساب آخر، بل هذا غير
مقبول ولا معقول، وهو عمل منكر يأباه الله ورسوله والمؤمنون. (حكاية): روي عن حذيفه العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلى ابن ب أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته، فإذا هو قد مات فرجعت الى ابن عمي فإذا هو قدمات.
عمي:
وهذه الحكاية لا تصح، لأنَّ حذيفه مجهول، وعلى فرض صحتها، لا يجوز
أن تعارض الأدلة التي ذكرنها، ولكن محلها باب الرقاق والمواعظ . خبر غريب مؤلم:
رأيت في جريدة "المسلمون" (عدد ١٦ بتاريخ ٦-١٢ رمضان ١٤٠٥/ ٢٥ - ٣١ مايو (۱۹۸۵) خبرًا حاصله: أنَّ طبيبا جرَّاحًا سودانيا كتب هذا
۱۷۰
الفقه
السؤال: السيد رئيس مجلس الإفتاء الشرعي بالسودان؛ أرجو الموافقة والسماح لي بالبدء في إجراء عملية جراحية أعيد بها يد أحد المواطنين المقطوعة إلى مكانها الطبيعي، وهذه اليد قطعت حدا في سرقة. فأجاب مجلس الإفتاء برفض الطلب، وعلل الرفض بما هو معقول شرعًا وعادةً، وهذا هو الحق.
لكن المؤلم حقا أن يجيز بعض أهل العلم ردَّ يد السارق المقطوعة إلى مكانها
غافلين عما فيه من افتياتٍ على الشارع واستدراك عليه، وكلاهما محرم. وادعى بعضهم أن يد السارق بعد قطعها صارت ملكًا له، وهذا الادعاء ترده الأحاديث التي سبق ذكرها وهي تفيد أن أعضاء الإنسان ملك الله تعالى.
والقول بجواز ردّ يد السارق بعد قطعها من الاجتهاد المحرَّم الذي يأثم صاحبه، ويعاقبه الحاكم على هذا الاجتهاد الخاطئ الآثم.
وقد ورد حديثان يقطعان النزاع، ويلقمان المجوّزين حجر الخيبة والحسرة: ۱ - روى الدار قطني والحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُتِيَ بسارق قد سرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما إِخَالُه سَرَقَ»: فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال: «اذهبوا به فاقطعوه، ثُمَّ احْسِمُوه، ثُمَّ ائتوني به، فقُطع فأُتِيَ به، فقال: «تب إلى الله»، فقال: تبتُ إلى الله، فقال: «تاب الله عليك». صححه ابن القطان.
والحسم كي موضع القطع بالنار لينقطع الدم، لأن منافذ الدم تنسد به،
ولأنه ربما استرسل الدم فيؤدي إلى التلف.
تعريف أهل الإسلام
۱۷۱
وظاهر الحديث يقتضي وجوب الحسم لكونه أمرًا، ولا صارف له عن
معناه الحقيقي. قاله الشوكاني.
وجه الدلالة من الحديث على تحريم ردّ الكفّ إلى موضعها، أنَّ الشارع أمر بالقطع وأمر بالحسم علاجا له، ولم يذكر غيره، وهو في مقام بيان الحكم وما يلزم عنه، فدل على تحريم ردّ الكفّ المقطوعة، لأنَّ القاعدة المقررة في الأصول: «أنَّ السكوت في مقام البيان يُفيد الحصر».
بن عبيد
۲- روى الأربعة عن عبدالرحمن بن مُحيّريز، قال: سألنا فُضالة . عن تعليق اليد في عنق السارق أَمِنَ السُّنَّة؟ قال: أتي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بسارق فقطعت يده ثُمَّ أُمر بها فعلقت في عنقه. حسنه الترمذي. وروى البيهقي أنَّ عليا - رضي الله عنه - قـ - قطع سارقًا فمروا به ويده معلقة
في عنقه.
تعليق اليد في عنق السارق تحقيق للنكال الذي ذكره الله في آية السرقة، ورد الكفّ إلى موضعها يمنع تحقيق النكال المطلوب فيكون حراما. - وحديث ثالث: وهو حديث المخزومية التي سرقت وأهم قريشا شأنها واستشفعوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فيها، فلم يقبل استشفاعهم وأمر بقطعها.
وجه الدلالة من هذا الحديث أنه كان يمكن أن يقطع يدها، ثُمَّ يدعو الله أن يرد إليها كفَّها، فيجمع بين إقامة الحد وتحقيق رغبة قريش، ولم يفعل، فدل على أنه لاسبيل إلى ردّ الكفّ المقطوعة، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم ردَّ
عين قتادة بعد أن سالت عن حدقتها في الجهاد فكانت أحسن عينيه وأصحهما.
۱۷۲
الفقه
والسر في ذلك أنَّ من تلف منه عضو بسبٍ غير محرَّم جاز له رده بعلاج، ومن تلف منه عضو بسب حد ، لم يجز له أن يرده، ولا يجوز لغيره أن يسعى في
رده.
أما الزاني فإن الشارع أوجب فيه أمرين: الجلد، وأن يشهده طائفة من المؤمنين، فشهود الطائفه من تمام الحد للتشهير بالمحدود وبيان شناعة ما فعل،
فإذا عُولج بعد ذلك من أثر الجلد، لم يكن عليه من بأس، والله أعلم. ومسألة أخرى شاعت بين المسلمين في هذا العصر تقليدا للنصارى خذلهم الله، وهي الإضراب عن الطعام، وهو محرَّم في الشرع تحريما بالغا، ومن
مات من ذلك الإضراب، مات منتحرا، والعياذ بالله تعالى.
قال القرافي في "الفروق": «لو منع من نفسه طعامها وشرابها حتى مات فإنه آثم قاتل لنفسه». قال: والفرق بين ترك الغذاء أنه يحرم، وبين ترك الدواء
أنَّ
فلا يحرم ضروري النفع».
الدواء غير منضبط النفع، فقد يفيد وقد لا يفيد، والغذاء
وقال أيضا: «والفرق بين ترك دفع الصائل، وبين ترك الغذاء والشراب حتى يموت أن ترك الغذاء هو السبب التام للموت لم يضف إليه غيره، وترك دفع الصائل سبب ناقص في الموت، لا يتم إلا بإضافة فعل الصائل إليه».اهـ ذكر هذا في الفرق السابع والأربعين بعد المائتين.
تم تحرير هذا الجزء يوم الثالث من ذي القعدة سنة ١٤٠٧ هجرية، أحسن الله
ختامها.
- أُمنية المتمنِّى في تحريم التبني
رَّمَ اللهُ النَّبنِّي أَبَدًا فالذي يَفْعَلُهُ الآنَ اعْتَدَى والذي يُبنى عليه باطل وضَلال ليس فيه هُدَى إِنَّما كُلُّ الهُدَى في تركه واتباع الحــــي حيــث بــــدا
أمنية المتمني .
۱۷۷
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
أما بعد: فقد سألني تلميذ فاضل أن أكتب رسالة في التبني الذي شاع استعماله في طنجة وغيرها من البلاد المغربية، وعاد الناس باستعماله إلى عهد
الجاهلية الأولى، مع أنَّ الإسلام أبطله وأبطل ما يترتب عليه من أحكام. فأسعفت طلبه بتحرير هذه العُجالة التي سميتها: "أُمْنِيةُ المُتمَنِّي فِي تَحْرِيمِ
التبني".
والله المسئول أن يوفقنا للسداد، ويهدينا طريق الرشاد.
۱۷۸
الفقه
ما هو التَّبنِّي؟
كان من عادة العرب في جاهليتهم أنَّ الرجل إذا أعجبه شخص لنشاطه أو ذكائه أو ظروفه تبناه أي دعاه ابنا له، وأشهد على ذلك وصار يُنسب إليه دون والده الحقيقي، ويُسمَّى دَعِيَّا بوزن غَنِيٌّ ؛ لأنَّه ليس بابن حقيقة، وإن كان له حكم الابن عندهم في الميراث والزواج وغيرهما، واستمرَّ حُكْم التَّبنِّي مَعْمُولًا به في الإسلام حتى أبطله الله تعالى.
قصة تبنّي زيد بن حارثة
روى ابن مَرْدُويَه في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان من أمر زيد ابن حارثة رضي الله عنه أنه كان في أخواله بني معن من طئ، فأُصيب في عِلمةٍ مِن طَيِّئ فقدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها، فأوصته عمته خديجة رضي الله عنها - أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه، فلما جاء وجد زيدًا يُباع فيه، فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها، وقال لها: إنّي قد ابتعتُ لك غلاما ظريفا عربيا، فإن
أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه فإنَّه أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته. فتزوجها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو عندها، فأعجبَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ظُرفه، فاستوهبه منها فقالت: هو لك، فإن أردت عتقه،
فالولاء لي، فأبى عليها فوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك. قال: فشبّ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ إِنَّه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشَّام، فمرَّ بأرض قومه، فعرفه عمه فقام إليه فقال: من أنت يا
أمنية المتمني .
۱۷۹
غلام؟ قال: غلامٌ مِن أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا، قال: فَحُرِّ أنت؟ أم مملوك؟ قال: بل مملوك ، قال : لمن ؟ قال : لمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب فقال له: أعربي أم أعجمي ؟ قال : بل عربي، قال: ممن أهلك؟ قال: من كلب، فقال: من أي كلب؟ قال: قال من بني عبد ود قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي، قال: ومن أخوالك؟ قال: طيئ، قال: ما اسم أمك قال: سعدى، فالتزمه وقال: ابن حارثة، ودعا أباه وقال يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يُؤثرني على أهله وولده ورزقت منه حبا، فلا أصنع إلا ما شئت.
فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه،
فإنك ابن سيد قومك، فإنَّا سنرفع لك في الفداء ما أحببت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُعْطِيكُم خيرًا من ذلك». قالوا: وما هو ؟ قال: «أُخيّره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه». قالوا: جزاك الله خيرًا، فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا زيد، أتعرف
هؤلاء؟». قال: نعم، هذا أبي وعمي وأخي.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فأنا مَن قد عرفت، فإن اخْتَرتهم
۱۸۰
الفقه
فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا مَن تَعْلَم». فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدًا أبدًا، أنت مني بمكان الوالد والعم.
قال له أبوه وعمه : يا زيد تختار العبودية على الحرية؟!
قال: ما أنا مفارق هذا الرجل.
فلما رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم حرصه عليه، قال: «اشْهَدُوا أَنَّه حُرِّ، وَأَنَّه ابني يَرِثُنِي وَأَرِثُه».
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه، فلم يزل زيد في الجاهلية
يُدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٥] فدعي زيد بن حارثة.
إبطال التَّبنِّي
قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ [الأحزاب: ٤]. أدعياء جمع دَعِي، والمعنى: ما جعل الله الأشخاص الذين تتبنونهم، أبناءكم حقيقة؛ لأنَّ البنوة أصالة في النسب، والدَّعِيُّ ملصق غير أصيل، ولا يجتمع في الشخص أن يكون أصيلا وملصقا من جهة واحدة ذلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ﴾ [الأحز ٤]. أي: لا حقيقة له. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: ٤] تعريض بأن قولهم
في الظهار والتبني ليس بحقِّ، وليس بسبيل الرشد.
ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِم الذين ولدوهم هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ﴾ أي: أعدل
عند الله [الأحزاب: ٥].
أمنية المتمني .
۱۸۱
وفي "الصحيحين" و"الترمذي" و"النسائي" عن ابن عمر: أنَّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ما كنا ندعوه إلَّا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: ٥] فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل».
وروى ابن عساكر من طريق زيد بن شيبة، عن الحسن بن عثمان، قال: حدثني عِدة من الفقهاء وأهل العلم، قالوا: كان عامر بن ربيعة يقال له: عامر بن الخطاب، وإليه يُنسب، فأنزل الله فيه، وفي زيد بن حارثة، وسالم مولى أبي حذيفة
والمقداد بن عمرو : ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: ٥]. وروى عبدالرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن عائشة: أنَّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرًا - تبنّى سالما وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زيدا، وكان من تبنّى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه، ووَرِثَ مِن ميراثه، حتى أنزل الله في ذلك: أَدْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ ﴾ [الأحزاب: ٥] فَرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب كان مَوْلًى وأخا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو، إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إنَّ سالما كان يُدعى لأبي حذيفة، وإنَّ الله قد أنزل في كتابه ادْعُوهُمْ لِآبَابِهِمْ وكان يدخل علي وأنا وحدي ونحن في منزل ضيّق ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَرْضِعي سالما تَحْرُمي عليه».
۱۸۲
الفقه
قصة زواج زيد بزينب
عن ابن عبّاس وغيره: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم دخل على زينب خاطبًا ومعها أخوها عبدالله بن جحش ، فرَضيَا لظنهما أنَّه يخطبها لنفسه، فلما علما أنه يخطبها لزيد لم يَرْضَيا، وقالت له :زينب أنا خير منه حَسَبا، وبنت عمتك، فلم أكن لأفعل. وكانت امرأة فيها حدةٌ ، فنزلت هذه الآية ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ ) يعني : عبد الله ولا مؤمنة يعني : زينب إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ) يعني: النكاح في هذه الموضع أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ يعني: ليس لهم أن يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾ [الأحزاب: ٣٦]. قالت زينب: «قد أطعناك، فاصنع ما شئت». فزوجها زيدًا، ودخل عليها. وهذه الآية وإن كانت بسبب زواج زينب، فهي : عامة؛ لأنَّ العبرة بعموم اللفظ كما تقرر في الأصول.
وقد روى عبدالرزاق وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن طاوس: أنَّه
سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر ؟ فنهاه.
وقال ابن عباس : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ
هُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
فاستدل بالآية على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم حين نهى عن
الصَّلاة بعد العصر لم يبق المؤمن خيار في أن يصليها .
أمنية المتمني .
۱۸۳
استطالة زينب على زوجها
كانت زينب تستطيل على زيد بحسبها ، وأنها بنت عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مَولى، وكانت فيها حدةٌ وفيها جمال، وكان زيد يشكوها للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ويريد طلاقها وهو يأمره بالصبر، فنزلت هذه الآية وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وهو زيد وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بإعتاقه حين جاء يشكو امرأته زينب مريدا طلاقها أَمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ ولا تطلقها وَاتَّقِ الله في معاشرتها وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وهو أمره لك بزواجها وَتَخْشَى النَّاسَ أن يقولوا تزوج محمد زوجة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ ﴾ [الأحزاب: ۳۷].
أقوال ساقطة
۱- عن محمد بن يحيى بن حَبَّان - بفتح المهملة بعدها موحدة- قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه فلم يجده، فقالت له زينب ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل فأبى أن يدخل، فأعجبته فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن: «سبحان الله العظيم سبحان مصرف القُلُوب»، فجاء زيد فأخبرته امرأته فأتى زيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأُفارقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أَمْسِك عليك زَوْجَك». فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم. وهذا خبر مرسل وهو كذب مكشوف، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
١٨٤
الفقه
هو الذي خطب زينب لزيد، فكيف لم تعجبه حتى صارت زوجة له؟!! وكيف يجرؤ زيد أن يقول لولي نعمته ومُربّيه، وهو في الوقت نَفْسِهِ نبيه: لعل زينب أعجبتك فأفارقها؟!... وورد قريب من هذا عن عكرمة.
٢- عن قتادة قال: جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا نبي الله إنَّ زينب قد اشتد عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أُطلقها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اتق الله وأَمْسِك زَوْجَك»، قال: والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحب أن يُطلقها.
قلت: هذا مع كونه مرسلا كذب، وتهجم على الغيب، ومن أعلمه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كان يحبُّ أن يطلقها؟! وهل جاءه وحي بذلك؟ أم ماذا؟! ألم يعلم قتادة أنَّ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيدا بإمساك زينب، وهو يحب طلاقها، يدخل في باب النفاق؟! وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مُنزَّه عن ذلك؟
- عن قتادة أيضًا قال تتميها لحديثه المار آنفًا: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَج
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ﴾ [الأحزاب: ۳۸].
يقول: كما هَوَى داود النبي - عليه السَّلام - المرأة التي نظر إليها فهويها فتزوجها، فكذلك قضى الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم فتزوج زينب، كما كان سنة الله في داود أن يزوجه تلك المرأة» . اهـ
وهذا كذب محض وافتراء قبيح، وأشهد بالله أنَّ داود عليه السلام - ما نظر امرأة ولا هويها، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما هَوَى زينب، ولا
أحب طلاقها، ولعن الله الكذابين الذين يلصقون بالأنبياء ما هم منه برءاء.
أمنية المتمني
ومحمد بن يحيى بن حَبَّان وقتادة لم يكذبا، لكن يُعاب عليهما أن يصدقا مثل
هذا الكذب ويروياه، نسأل الله أن يتجاوز عنهما.
القول الصحيح
عن علي بن زيد بن جدعان، قال: قال لي علي بن الحسين، ما يقول الحسن في قوله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ [الأحزاب: ٣٧]؟ فقلت له، فقال: لا. ولكنَّ الله أَعْلَمَ نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ زينب -رضي الله عنها- ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكو إليه، قال: «اتقِ اللهَ وأمسك عليك زَوْجَك»، فقال الله: قد أخبرتك أَنِّي مُزوِّجُكَها، وتُخفي في نفسك ما الله مبديه؟
قال القرطبي: «قال علماؤنا وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي
وغيرهم، والمراد بقوله تعال : وتَخشَى النَّاسَ ﴾ [الأحزاب: ٣٧] إنَّما هو إرجاف المنافقين، بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء، وتزوج بزوجة ابنه. قال: «فأما ما رُوي أنَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم هوى زينب، وربما أطلق بعض المجان لفظ «عَشِق»، فهذا إنَّما يصدر عن جاهل بعصمة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته، قال الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول": وقد أسند إلى علي بن الحسين قوله السابق: فعلي ابن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم، جوهرًا من الجواهر ودرا من الدرر، أنَّه إنما عتب الله عليه في أنَّه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال
١٨٦
الفقه
بعد ذلك لزيد: أمسك عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [الأحزاب: ٣٧]؟ وأخذتك خشية النَّاس أن يقولوا تزوج امرأة ابنه، والله أحق أن تخشاه؟
وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيئة؛ ألا ترى أنه لم يُؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء غير خطيئة إلَّا أنَّ غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن النَّاس. استشكال وجوابه
قال ابن العربي: فإن قيل: لأي معنى قال له: أمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وقد أخبره الله أنها زوجه.
قلنا: أراد أن يختبر منه مالم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أنَّ الفراق لا بد منه؟ وهذا
تناقض.
قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصّحيحة لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أنَّ الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنَّه لا يؤمن، فليس في مخالفة الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما».
زواج النَّبي بزينب
قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَحْتَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَجِ أَدْعِيَا بِهِمْ إِذَا قَضَوا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٧]. عن أنس قال: لما انقضت عِدَّة زينب قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله
أمنية المتمني
وسلَّم لزيد: «فاذْكُرها عليَّ».
أتاها
۱۸۷
قال: فانطلق زيد حتى أ
ا وهي تُحمَّرُ عَجِينها، قال: فلما رأيتها عَظُمت
في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها؛ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يذكرك. قالت : ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ رَبِّي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فدخل عليها بغير إذن.
وروى الإمام جعفر الصادق عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في قوله تعالى: وَطَرًا زَوَحْنَكَها لا أعلمه الله بذلك ، دخل عليها بغير إذن ولا تجديد عقد، ولا تقرير صداق، وهذا من خصوصيَّاته التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع المسلمين.
إرجاف المنافقين
أشاع المنافقون أن محمدًا تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾
[الأحزاب: ٤٠].
إبطال التَّبنِّي عموما وخصوصاً
أبطل الله في هذه الآية التبني بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وأبطله في الآية السَّابقة وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ [الأحزاب: ٤].
بالنسبة للنَّاس عامة.
۱۸۸
الفقه
التبني لا يجوز
يحرم على المسلم أو المسلمة أن يتبنى طفلًا أو طفلةً كيفما كانت الأسباب
والدواعي، ومن فعل ذلك فقد عصى الله وتحمل إنما كبيرًا. وبعض الناس لا يكون له أولاد، وعنده مال يخاف أن يرثه بعده إخوته الذين يكون بينه وبينهم خُصومةٌ فيتبنى طفلا، ويثبته في الحالة المدنية؛ ليَحْرم إخوته من الميراث، فمعصية هذا مضاعفة وإثمه شديدٌ؛ لأنه ضم إلى معصية
التبني؛ حرمان ورثته، وكلاهما عند الله عظيم.
التبني يشبه الزنا
من مفاسد الزّنا ونتائجه أنَّ الزَّاني أو الزانية يدخل في العائلة شخصا دخيلًا، فتختلط الأنساب ويعظم الفساد، وكذلك المتبنِّي يضم للعائلة شخصا غريبًا عنها لا علاقة له بها، فهو والزنا في هذه المفسدة سواء، ولذا حرمه الشارع وشدّد فيه.
فعل الخير مطلوب
إذا أحب شخص أن يُربي يتيما أو فقيرًا حتى يبلغ رشده فله عند الله ثواب كبير، وإذا أحب أن يوصي له بشيء من ماله وتكون الوصية في حدود الثلث فثوابه أكثر وأجره أبقى، لكن تبنيه حرام ولو كان أبوه مجهولاً.
وجوب التقاط الرضيع
يحصل في بعض الأحيان أن تَلِد امرأةٌ في الحرام وتخشى الفضيحة، فتترك مولودها بجانب الطريق أو على باب دارٍ وتلوذ بالفرار، فمن وجده فلا يجوز له أن يتركه على ذلك الحال، بل يجب أن يأخذه إنقاذا له من الهلاك، ويربيه في
أمنية المتمني .
بيته أو يسلّمه إلى ملجأ أو إلى مَن يَعْلَم أَنَّه يربيه ويعتني به.
ولد الزنا
۱۸۹
روى ابن عدي وأبو نعيم في "الحلية" من طريق مجاهد، عن أبي هريرة مرفوعًا: «لايَدْخُلُ الجنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ». وأعله الدارقطني بأنَّه منقطع.
وله طرق عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص، لكن فيها مجاهيل وضعفاء واضطراب، وقد ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وتُعقِّبَ بأَنَّه ضعيف، ومع ضعفه يعارضه أمران:
قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: ١٦٤]، كُلُّ أَمْرِي بِمَا كَسَبَ
رهين ﴾ [الطور : ۲۱]، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: ۳۸] :
روى الطبراني في "الأوسط": عن عائشة، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «وَلَدُ الزَّنا ليس عليه من إثم أبويه شيء» ثُمَّ قرأ: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . قال ا الحافظ الهيثمي : فيه جعفر بن محمد بن جعفر المدائني ولم أعرفه، لكن قال الحافظ السخاوي: «سنده جيدٌ». قلت: وهو مؤيد بالقرآن. وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الحديث المذكور ليس مُخالِفًا للقرآن ولا للقواعد، وأوَّلُوه بعدة تأويلات أجودها ما قرأته في كتاب التدوين" في تاريخ قزوين" للإمام الرافعي عن الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني: أنَّه كان في جماعة من العلماء تذاكروا حديث: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ وَلَدُ زِنْية» وتكلَّموا في معناه وتوجيهه، فقال الطالقاني: إذا مات طفل أبواه مؤمنان الحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، كما جاء النَّص به في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتُهُمْ ذُرِّيَّتُهُم
۱۹۰
الفقه
بِإِيمَنِ الْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّنَهُمْ ﴾ [الطور: (۲۱] الآية، وهذا في ولد الرشدة، أما ولد الزنا فلا يدخل الجنة بعمل أصليه ولا يلحق بهما، أمَّا الزَّانِي فنسبه منقطع به، وأمَّا الزانية فشؤم زناها وإن صلحت يمنع من وصول بركة صلاحها إليه، وهذا تأويل جيد جدير بالقبول، وبه يزول الإشكال، ولذلك استحسنه العلماء من الطالقاني أحد أئمة الشَّافعية.
اختلاف العلماء في تأويل حديث: «فَرْخُ الزِّنا شرُّ الثلاثة».
اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال
روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «وَلَدُ الزَّنَا شَرُّ الثلاثة».
وفي رواية الطحاوي في "مشكل الآثار": بلفظ «فَرْخُ الزِّنا شر الثلاثة».
اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال:
ذهب الطحاوي في "مشكل "الآثار" إلى أنَّ الحديث ورد في إنسان بعينه، لمعنى كان فيه، واستدل بما أخرجه من طريق عروة، قال: بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثلاثة» فقالت: يرحم الله أبا هريرة ساء سمعا فساء إجابةً، لم يكن الحديث على هذا إنَّما كان رجل يؤذي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقيل: يا رسول الله أما إنَّه مع ما به وَلَدُ .زنا. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هو شَرُّ
الثلاثة».
قلت: هذا الحديث رواه الحاكم في "المستدرك " مُطوَّلًا من طريق سلمة بن
أمنية المتمني .
۱۹۱
الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، قال: بلغ عائشة أنَّ أبا هريرة يقول: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لأن أُمَتَّعَ بسَوْطٍ في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أَنْ أَعْتِقَ وَلَد زِنا وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ولد الزنا شر الثلاثة، وأنَّ الميت يعذب ببكاء الحي» فقالت عائشة : رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة. أما قوله: «لأنْ أُمَتَّعَ بِسَوْطٍ في سبيل الله أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَن أُعتِقَ وَلَدَ زِنا» فإنها لما نزلت فَلَا أَقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾ [البلد: ۱۱ – ۱۲]، قيل: يا رسول الله، ما عندنا ما نَعتِقُ، إلَّا أنَّ أحدنا له جارية سوداء تخدمه وتسعى عليه، فلو أمرنا هنَّ فَزَنَيْنَ فجئن بالأولاد فأعتقناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لأن أُمَتَّعَ بسَوْطٍ في سبيل الله، أحبُّ إليَّ مِن آمر بالزِّنا ثُمَّ أُعتِقَ الوَلَد». وأما قوله: «ولد الزنا شر الثلاثة فلم يكن الحديث على هذا، إنَّما كان رجل من المنافقين، يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «مَن يعذرني مِن فلان؟ فقيل: يا رسول الله مع ما به؛ ولد زنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هو شَرُّ الثلاثة». والله عزّ وجلَّ يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الأنعام: ١٦٤].
وأما قوله: «إنَّ الميتَ ليُعَذِّبُ ببكاء الحيّ»، فلم يكن الحديث على هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مرَّ بدار رجل من اليهود قد مات وأهله يبكون، فقال: «إنَّهم يبكون عليه، وإنَّه ليُعَذِّب»، والله عزَّ وجلَّ يقول:
۱۹۲
الفقه
لا يكلف اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦]. صححه الحاكم على شرط مسلم، وليس كذلك؛ سلمة ليس من شرط
مسلم، وهو صدوق كثير الخطأ كما في "التقريب"، وفي السند عنعنةٌ
إسحاق.
ابن
روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عبدالكريم، قال: كان أبو ولد الزنا يكثر أن يمر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: هو رجل سوء يا رسول الله، فيقول صلى الله عليه وآله وسلّم: «هو شَرُّ الثلاثة»، يعني: الأب. قال: فحول الناس الولد شر الثلاثة، وكان ابن عمر إذا قيل: «ولد الزنا شر الثلاثة»، قال: بل هو خير الثلاثة
قال الخطابي : هذا الذي تأوّله عبد الكريم أمرٌ مظنون لا يدرى صحته، والذي جاء في الحديث إنَّما هو: «وَلَدُ الزّنا شرُّ الثلاثة، فهو على ما قاله رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وقول ابن عمر هو خير الثلاثة معناه أنه لا إثم عليه في الذنب الذي
باشر والده.
قال بعضهم: «إنَّما صار ولد الزنا شرا من والديه؛ لأن الحد قد يقام عليهما فتكون العقوبة مختصة بهما وكفَّارة لهما، وهذا من علم الله لا يدري ما يصنع به» . اهـ وهذا ضعيف أو باطل.
روى البيهقي في "السنن" من طريق معاوية بن صالح: حدثني السَّفَرُ بن نسير أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إِنَّمَا قالَ: «وَلَدُ الزِّنَا سُرُّ الثلاثة» إِنَّ أبويه أسلما ولم يُسْلِم هو، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هو شر
أمنية المتمني . الثلاثة»، قال البيهقي: وهذا مرسل.
۱۹۳
قلت: والسِّفَر ضعيف ووقع في عون المعبود"، و"شرح تهذيب السنن"
في التعليق عليه السَّفَر بن بشير بالموحدة والشين المعجمة، وهو خطأ. روى البيهقي من طريق سفيان الثوري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال : سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن وَلَدِ
الزنا؟ فقال: «هو شَرُّ الثلاثة» قال سفيان: يعني إذا عمل بعمل والديه. قلت: وعمل والديه أنّهما خلَّفَاه من الزنا فإذا خلف ولدا من الزنا أيضًا
كان شرا منهما.
روى البيهقي أيضًا عن ابن عباس قال: ولد الزنا شر الثلاثة؛ لأنَّ أبويه
يتوبان.
روى البيهقي أيضًا عن رجل، عن الحسن، قال: إنَّما سُمِّيَ ولد الزنية شر الثلاثة؛ أنَّ أُمه قالت له: لست لأبيك الذي تُدعى به، فقتلها، فسُمِّيَ شر
الثلاثة.
قال الخطابي : وقد قال بعض أهل العلم: معناه: إنَّه شر الثلاثة أصلا وعنصرا ونسبا ومولدا؛ وذلك لأنَّه خُلق من ماء الزَّاني والزانية، وهو ماء خبيث. وقد روي في بعض الحديث «العِرْقُ دساس» فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه، ويدبَّ في عُروقه، فيحمله على الشر ويدعوه إلى الخبث، وقد قال الله سبحانه في قصة مريم: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: ۲۸]. فقضوا بفساد الأصل على فساد الفرع . اهـ قلت: فتكون شريته من جهة الوراثة لا دخل للعقوبة فيها، وعلم
١٩٤
الفقه
الوراثة صحيح أثبته النقل والعقل.
فأما ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو بن
العاص مرفوعا في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ﴾ [الأعراف: ۱۷۹].
قال: «إِنَّ اللَّهَ لا ذَرَأَ جَهَنَّمَ مَا ذَرَأَ، كَان وَلَدُ الزِّنَا مِّمَّن ذَرَأَ جَهَنَّم». فهو حديث واه لا تجوز روايته، ومعناه باطل وبقية الآية ترده هم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَهُمْ أَعْيُنُ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَذَانُ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أَوَلَيْكَ كَالْأَنْعَمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَيكَ هُمُ الْغَفِلُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۷۹] الآية. وولد الزنا إن لم يكن فيه هذه الصفات، لم يكن ممَّن ذَرَأَه الله لجهنَّم.
هل يجوز إعتاقه؟
روى أبو داود والحاكم والبيهقي حديث: «ولد الزنا شر الثلاثة» في كتاب
العتق، إشارة إلى كراهة عتق ولد الزنا، ومرَّ الجواب عنه بما فيه كفاية. وفي "الموطأ": «قال مالك: إنَّه بلغه عن المقبري أنه قال: سُئل أبو هريرة عن الرجل تكون عليه رقبةٌ هل يعتق فيها ابن زنا؟ فقال أبو هريرة: نعم ذلك يُجزئ عنه.
وحدثني مالك : أنَّه بَلغه عن فضالة بن عبيد الأنصاري وكان من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّه سُئل عن الرجل تكون عليه
رقبة، هل يجوز له أن يعتق ولد زنا؟ قال: نعم، ذلك يُجزئ عنه.
وفي "موطأ محمد": «أخبرنا مالك حدثنا نافع: أنَّ عبد الله بن عمر أعتق
١٩٥
أمنية المتمني . ولد زنا وأُمه. قال محمد : لا بأس بذلك وهو حسن جميل. بلغنا عن ابن عباس، أنه سئل عن عبدين أحدهما لبغيَّة، والآخر لرِشْدَةٍ أيهما يُعتق؟ قال: أغلاهما ثمنًا. فوجدوا ولد الزَّانية أكثر هما ثمناً بدينار، فأمر به. قال محمد: فهكذا نقول، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا» . اهـ
وقول ابن عباس رواه البيهقي في "السنن"، وروي عن الشعبي مثله. وعن عائشة أنها قالت في أولاد الزنا : أعتقوهم وأحسنوا إليهم. وعن نافع: أن ابن عمر أعتق غلاما له ولد زنا.
وعن نافع عن ابن عمر: أنه أعتق ولد زنية، وقال: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنْ نَمُنَّ على مَن شَرِّ منه، قال الله تبارك وتعالى:
فَإِمَّا مَنَا بَعْدُ وَإِمَا فِدَاهُ ﴾ [محمد : ٤].
وعن الحسن: أنَّه كان يرى ولد الزنا وغيره في العتق سواء، وهذه الآثار
مروية في "سنن البيهقي".
وروى عبد الرزاق عن مَعْمَرٍ، عن الحسن وقتادة، قالا: «يجوز في الرقبة الواجبة ولد الزنا؛ لأنَّ كلَّ مولود على الفطرة».
وروى عبدالرزاق عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنَّ الزبير بن موسى بن ميناء أخبره أنَّ أم صالح ابنة طارق بن علقمة أخبرته: أنها سألت عائشة أم المؤمنين عن إعتاق أولاد الزنا، فقالت: «أعتقوهم وأحسنوا إليهم». ورواه هو والبيهقي من طريق ابن عيينة، عن الزبير بن موسى، عن أمّ حكيم ابنة طارق، عن عائشة مثله، قال: وأظنه قال: قالت: «واستوصوا بهم».
١٩٦
الفقه
وروى عبدالرزاق عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب قال في أولاد
الزنا: «أعتقوهم وأحسنوا إليهم».
وروي أيضا عن خارجة بن زيد: أنَّ زيد بن ثابت أعتق غلاما له مجوسيا،
وأعتق ولد زنية.
مَن كَرِه إعتاقه
روی عبد الرزّاق عن الزهري: أنَّ عمر بن الخطاب قال: «لأن أحمل على نعلين في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أن أعتق ولد زنا».
ورواه البيهقي من طريق الزهري، عن أبي حسن مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل: أنَّه
سمع امرأة تسأل عبد الله بن نوفل في غلام لها ابن زنية، في رقبة كانت عليها ؟ قال عبدالله : لا أراه يقضي الرَّقبة التي عليك عتق ابن زنية، قال عبد الله : سمعت عمر بن الخطاب يقول: «لأنَّ أحمل على نعلين في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أعتق ولد زِنْية». وروى عبدالرزاق، عن مَعْمَرٍ ، عن أبي عمر المدني قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال : إنها كانت عليَّ رقبةٌ، ثُمَّ ابتعتُ مِن رجل رقبةٌ فَأَعتَقتُها، ثُمَّ أُخبرت أن صاحبها التقطها التقاطاً. فقال ابن عمر لم يقبل الله منك رقبتك، فاذهب فخُذ ورقك، قال فإنّي قد أعتقتُها ، قال : قد أمرتك هو ذاك، لا تجزيء عنك». قلت: الرواية عن ابن عمر بعتق ولد الزنا أصح.
وروى عبد الرزاق عن طاوس قال : لا يجزئ ولد الزنا في الرقبة الواجبة، وروى مثله عن الزهري.
۱۹۷
أمنية المتمني . قلت: مذهب الجمهور وفي مقدمتهم ابن عبّاس وابن عمر وزيد بن ثابت وفضالة بن عبيد وعائشة وأبو هريرة أنَّ عتق ولد الزنا حسن جميل يجزئ عن الرقبة الواجبة، وهو الرَّاجح؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما شرط في كفَّارة القتل رقبة مؤمنة لا غير، فولد الزنا المؤمن يكفي عتقه في أي رقبة واجبة بلا شك.
الخلاصة
ولد الزنا مثل غيره من المسلمين، إن كان صالحا تقيَّا أو عصى ثُمَّ تاب ومات تائبا فله الجنة، وإن مات عاصيًا فهو تحت المشيئة، إما أن يُعاقب على عصيانه ثُمَّ يدخل الجنَّة بشفاعة أو عفو، وإما أن يعفو الله عنه فلا يعذَّبه، وهذا حال جميع المسلمين.
إمامة ولد الزنا وشهادته
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع قال : حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن ولد الزّنا قالت ليس عليه من خطيئة أبويه
شيء، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: ١٦٤]. وعن الزهري قال: «كان أئمة
من ذلك العمل». يعني من أولاد الزنا.
وقال إبراهيم النخعي: «لا بأس أن يؤم ولد الزنا».
وعن مطرف، عن الشَّعبيّ : أَنَّه سُئل عن إمامة ولد الزنا؟ فقال: «إنَّ لنا
إماما، ما نعرف له أبا».
وعن الشعبي أيضا قال: «تجوز شهادته ويَوْمُ».
وعن الحسن قال: «ولد الزنا وغيره سواء».
۱۹۸
الفقه
وعن الرَّبيع بن المنذر الثَّوري قال: سألت الحارث العكلي عن ولد الزنا
يوم؟ قال: نعم. وقال أبو حنيفة سألت عطاء عن ولد الزنا يؤم القوم؟ فقال: لا بأس به
أليس منهم أي أولاد الزنا من هو أكثر صومًا وصلاةٌ مِنَّا؟
هذه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" بأسانيدها. وفي "مصنف عبدالرزاق" عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى عطاء عن ولد الزنا إذا كان رضًا - أي مرضيَّا - أيؤمُّ القوم؟ قال : نعم . سلیمان: ونحن نرى ذلك.
وعن ابن جريج قال: أن عمرو بن دينار ما رأى بأسا.
قال
وعن زهير بن أبي ثابت قال: سمعت الشعبي يقول: «ولد الزنا ينكح، وينكح إليه، وتجوز شهادته ويؤم».
وعن مَعْمَرٍ قال: سألت الزهري: هل يؤم ولد الزنا؟ قال: «نعم، وما
شانه (۱)»، قلت: فالمخنث؟ قال: «لا، ولا كرامة، ولا يؤتم به».
وقال ابن حزم في "المحلى": «مسألة: والأعمى والبصير والخصي والفحل والعبد والحر وولد الزنا والقرشي سواء في الإمامة في الصَّلاة، كلُّهم جائز أن يكون إماما راتبا، ولا تفاضل بينهم إلا بالقراءة والفقه، وقدَمِ الخير والسِّنّ فقط ، وكَرِه مالك إمامة ولد الزنا، وكون العبد إماما راتبا، ولا وجه لهذا القول؛ لأنه لا يوجبه قرآن ولا سُنَّةٌ صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع ولا قول صاحب،
وعيوب النَّاس في أديانهم وأخلاقهم، لا في أبدانهم وأعراقهم، قال الله .
(۱) فعل ماضي معناه: عابه.
أمنية المتمني
۱۹۹
وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَنْقَنَكُمْ ﴾ [الحجرات: ١٣]. ولو كان لشيء مما ذكرنا حُكم في الدين لما أغفله الله على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : ٦٤] . والعجب كلُّه في الفرق بين الإمام الراتب وغير الراتب!! وروي عن وكيع عن الربيع بن صُبيح عن الحسن، قال: ولد الزنا رجل من المسلمين، يوم وتجوز شهادته إذا كان عَدْلًا.
وذكر آثارًا عن إبراهيم النخعي والزهري والحسن والشعبي وغيرهم ذكرناها فيما مضى آنفًا.
فإمامة ولد الزنا جائزةٌ مُطلقًا بإجماع التابعين، إلَّا ما نُقل عن عمر بن عبدالعزيز ومجاهد بإسنادين ضعيفين أنهما كرهاها، ولا وجه للكراهة كما قال
ابن حزم.
وكذلك أجمع الأئمة بعد التابعين، على صحة إمامة ولد الزنا، وشهادته إذا
كان عَدْلًا.
وهذا آخر ما أردت كتابته وتحريره، في موضوع غفل النَّاس عن تحريمه في القرآن، بل اعتبره بعضهم نوعا من أنواع الخير والطاعة، ولم يعلموا أنَّ ما حرَّمه الله يكون شَرًا لا خيرًا، ومعصية لا طاعة.
وأنَّ الله تعالى لا يتقرب إليه عبد بما حرَّمه عليه، والله يقول الحق وهو
يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين.
۲۰
تتمة
الفقه
منذ أكثر من خمسين سنةً، حَضَرَ إلى طَنْجَة شامي اسمه الحاج عيسى، واتصل بمولانا الإمام الوالد -رضي الله عنه - . الله عنه - وأخذ عنه نسبة الطريقة، وكان مجتهدا في العبادة والذكر محافظا على الصلوات الخمس ورواتبها، ولسانه لا يفتر عن الذكر، وتزوّج في دشر حسانة من قبيلة أنجرة، وخلف ولدين اسم أكبر هما محمد ثُمَّ اختفى مدَّةً، ثُمَّ ظهر بعد نحو عشر سنوات في باخرة إنجليزية مرَّت بطنجة في طريقها إلى الشرق، ورآه بعض المريدين في الباخرة، وعَلِمَ أَنَّه يهودي ذاهب إلى فلسطين، أما ولده محمد فقد حفظ القرآن وتعلم شيئًا من علم العبادات، وكان مدرّسًا للصبيان يعلمهم القرآن، ويخطب الجمعة، ويصلي بالناس الصَّلوات وكان صالحًا، وعلم بعض الناس بحكاية والده، فتوقفوا عن الصَّلاة خلفه، وأفتاهم بذلك بعض الجهلة بدعوى أنه ابن زنا، أو أن أباه يهودي، وكلُّ ذلك خطأ قبيح، بل إنَّ أباه حين تزوج كان مسلما ثُمَّ ارتدَّ فنكاحه قبل ردته صحيح.
واضِحُ البُرْهَانِ
على تحريم الخَمْرِ والخَشِيش في القُرْآنِ
الخمرُ رِجْسٌ فَاجْتَنِبُهَا مُطْلَقًا إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جَنَّةَ الرَّضْوانِ وحَشِيشَةٌ أَفْــونُ جَوْزَةُ بَابِل تَبا لها مُؤذِيَةَ الإِنســـــانِ الشَّرْعُ حَرَّمَهَا وَبَيَّنَ إِثْمَهَا لَا تَقْرَبَنَّهَا تَنْجُ مِنْ خُسْرَانِ واقْرَأْ لِتَعْرِفَ قُبْحَهَا وفَسَادَهَا هَذَا الْمُؤلَّفَ وَاضِحَ البُرْهَانِ جَمَعَ البُحُوثَ مُفَصلًا أَنْوَاعَهَا مُتَضَمَّنَا تَوْضِيحَهَا بِبَيَانِ
واضح البرهان
٢٠٥
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي وَهَبَ الإنسانَ العقل وجعله سبب التكليف، وكرمه بذلك على كثيرٍ مِن خَلْقِهِ وشَرَّفَهُ أَيَّما تشريف، وحَرَّم عليه استعمال ما يُؤثر في هذه الهبة الإلهية بإزالة أو تخدير أو تفتير، وتوعده على ذلك وحذره أيما تحذير. والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد الذي وصفه مولاه ذو الجلال بأنه يُحرم على أُمَّته الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال، ورضي ا
و
الله
عن
آله
الأطهار من سائر الأرجاس والأوزار وعن صحابته الأخيار، وعمن تبع صراطهم السوي من الموفقين الأبرار.
أما بعد: فقد ظهر في هذا الزمن الذي كَثُر شَره، وقَل خيره فكرة خبيثةٌ فَشَتْ بين كثير من المتعلمين - في زعمهم وهم في الواقع جهلاء- ردَّدوها في مجالسهم الخاصة ثُمَّ تناقلوها في المحافل العامة، وجادلوا عنها وجالدوا، وأبدأوا القول فيها وأعادوا حتى استمالوا إليهم بعض مَن ضَعُفَ عِلمه أو سقم فهمه، وأصبح من العسير على بعض المتمسكين بدينهم، الغير (1) على أن يناقشوهم أو يباحثوهم؛ لأن أولئك المتعلمين أو الجهلاء زخرفوا عقيدتهم القول ونمقوه، فخلعوا على الباطل رُوَاءَ الحَقِّ، وألبسوا الضلالة ثوب الهداية،
(۱) بضم الغين والياء: جمع غَيُور ، مثل رَسُول ورُسُل، ومن الأغلاط الشائعة بين الكتاب والأدباء قولهم: الغيورين، وهو غلط، كجمعهم خروفًا على خراف، وهو خطأ
شنيع، والصواب خرفان، بكسر الخاء وسكون الراء.
٢٠٦
الفقه
وساقوا دعواهم الفاسدة وفكرتهم الخبيثة مساق الاستدلال على مقتضى القواعد المعهودة فيما يبدو للنظر، حيث قالوا: ليس في القرآن دليل صريح في تحريم الخمر، بل غاية ما جاء فيه قوله تعالى عن الخمرِ والمَيْسِرِ والأَنصابِ: فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [المائدة: ٩٠]، والأمر بالاجتناب لا يقوى قوة التحريم المصرح به في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخنزير ﴾ [المائدة: ٣] الآية. فالتحريم في هذه الآية ونحوها صريح قاطع، بخلاف الاجتناب في الخمر
فليس صريحا في التحريم فضلا عن أن يكون قاطعا. وغرضهم بهذا الكلام المموّه التوصل إلى إباحة الخمر والتنصل مما ورد في
السُّنَّة من أدلة تحريمها ولعن بائعها ومشتريها وشاربها.
لكنهم لم يصنعوا شيئًا سوى أنهم برهنوا على أنهم ضعفاء الفهم، بسطاء التفكير، قليلو الإدراك؛ لأن في القرآن الكريم أحد عشر دليلا على تحريم الخمر
والتشديد فيها، بحيث تكون في أقصى دركات التحريم.
بل نَظَمَها القرآنُ مع الشرك بالله سبحانه وتعالى في سلك، لينفي عن
قبحها وتحريمها كلَّ وَهُم وشك.
غير
أنَّ تلك الأدلة يحتاج استخراجها إلى شيء من الفكر الناضج والتفهم الصحيح والتأمل الدقيق، فيظهر تحريم الخمر صريحًا ويصير قبحها لكل أحدٍ
واضحا.
وهذا شأن القرآن الكريم، من تَدَبَّرَه وتفكر وتأمل فيه وتبصر، استخرج منه لآلئ المعاني وغُرَر الفوائد، أمَّا من فهمه فهما سَطْحِيًّا فلا يحظى منه إِلَّا
واضح البرهان
۲۰۷
بالمعنى الظاهري الذي يدركه كل واحد.
فلهذا كتبت هذا الجزء في بيان دلالة القرآن الكريم على تحريم الخمر، مع بيان تحريمها من السُّنَّة النبوية الشريفة، وأضفت إليه بيان تحريم المخدرات، كالحشيشة ونحوها، وسمّيته واضح البرهان على تحريم الخمر والحشيش في
القرآن".
ورتبته على بابين وخاتمة، والله المسئول أن يُثيبني عليه، وأن يجعله عملا مقبولا لديه، وأن يرزقني التوبة والهداية إلى الرشاد، إنه كريم جواد.
واضح البرهان
۲۰۹
الباب الأول
في استنباط تحريم الخمر من القرآن الكريم
قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الْخَيْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةُ فَهَلْ أَنتُم مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: ٩٠ -۹۱]، قال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": «يُستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رِجْسًا، وقد سُمِّي به ما أجمع على تحريمه وهو الخنزير، ومن قوله: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ؛ لأن ما كان من عمل الشيطان حرم تناوله(۱) ومن الأمر بالاجتناب وهو للوجوب، وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح (۲) المرتّب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببًا للعداوة والبغضاء
(1) لأن الله تعالى قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُو فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: ٦] أخبر الله سبحانه أنَّ الشيطان عدوّ لنا، وأمرنا أن نتخذه عدوا، فيحرم علينا كل ما نُسب إليه من أقوال وأعمال، والخمر من عمل الشيطان، فهي حرام. (۲) والفلاح هو الفوز في الآخرة - يجب علينا تحصيله بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، قال تعالى: (قَدْ أَفَلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: ١]، وبين فلاحهم بما فعلوه من
الطاعات، وما اجتنبوه من المعاصي فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ [المؤمنون: ٢] الآيات، ورتب حصول الفلاح في آيات كثيرة على فعل طاعة أو اجتناب معصية، وحيث رتب الفلاح في هذه الآية على اجتناب الخمر وما معها، فيكون تناولها حراما؛ لأنها ضد الفلاح المطلوب.
۲۱۰
الفقه
بين المؤمنين، وتعاطي ما يُوقع ذلك حرام (۱)، ومن كونها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصَّلاة (٢) ، ومن ختام الآية بقوله: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ، فإنه استفهام
معناه الرَّدْع والزَّجْر (۳)، ولهذا قال عمر لما سمعها: انتهينا. انتهينا». اهـ وقال الإمام أحمد بن يحي بن المرتضي الزيدي المتوفى سنة (٨٤٠هـ) في كتاب "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" في «كتاب الأشربة» منه ما نصه: (والخمر مُحرَّمةٌ إجماعًا، لقوله تعالى: يجسُ ، فحرمتها الآية من وجوه حيث قرنها بالأزلام وسماها رِجْسًا، ومن عمل الشيطان، وقال تعالى: فاجتنبوه ، وقال أيضًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، ووصفها بالصد عن ذكر الله، وقال تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ . اهـ
(1) لأن الله تعالى قال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوأَوَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم منْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ وَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٣] أوجب الله في هذه الآية الاتحاد والتآلف، ونهانا عن التفرُّق، وبيَّن مَضَارَّ العداوة وما تؤدي إليه من
دخول النار، وحيث أنَّ الخمر توقع في العداوة والبغضاء فتكون مُحرَّمة.
(۲) وقد قال الله تعالى: إن الصلوة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: ٤٥] وما يصد عنهما يكون مدعاة لصدهما فيحرم، والخمر تصد عنهما فهي مُحرَّمةٌ .
(۳) فيكون معناه ارتدعوا و انزجروا وانتهوا عن شرب الخمر، ولذا قال عمر: انتهينا يا رب؛ لأنه فهم منه زجرًا يزعج القلوب، ويرغمهما على الانتهاء من هذه المحرمات.
واضح البرهان
۲۱۱
فاتفق كلامه مع كلام أبي بكر الرازي في استنباط أدلة تحريم الخمر من الآية الكريمة إلا في موضع واحدٍ فالرازي لم يذكر قرنها بالأزلام، وابن المرتضى لم يذكر إيقاعها في العداوة والبغضاء، وكل منهما يقتضي تحريم الخمر، إلا أن دليل قرنها بالأزلام يُستفاد منه مع ضميمة آية أخرى دليل ثامن، والآية الأخرى هي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصْبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَهِ ذَلِكُمْ فِسْقُ ﴾ [المائدة: ٣]
فصرح الله في هذه الآية بتحريم الاستسقام بالأزلام وسماه فسقا، وحيث
قرن الله الخمر بالأزلام في الآية المتكلّم عليها فتكون مُحرَّمةً وفِسْقًا مثلها. فتبين من هذا: أنَّ الآية تدل على تحريم الخمر من ثمانية أوجه، كلُّها واضحة في التحريم لا تقبل احتمالا أو تأويلاً، إلَّا أننا نريد أن نبين أنَّ الأمر بالاجتناب للوجوب إدحاضًا لزعم أولئك الجهلة الذين ينازعون في ذلك؛ لبعدهم عن فهم اللسان العربي، وقصورهم عن تذوق أساليب القرآن الكريم وما فيه من المعاني والأسرار.
ثُمَّ إِنَّ الكلام على قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ ينحصر في ناحيتين: الناحية الأولى في معنى الاجتناب المستفاد . من مادة اللفظ، ومعناه في اللغة: أن تجعل الشيء جانبًا وناحية، بعيدًا منك. فيكون معنى فاجتنبوه : فاجعلوا الرِّجْسَ من الخمر والميسر والأنصاب في جانب وأنتم في جانب آخر،
وهذا أبلغ ما يكون في تحريم هذه الأشياء والبعد عنها والتنفير منها.
۲۱۲
الفقه
الناحية الثانية في مدلول الأمر المستفاد من صيغة اللفظ، ذلك أن فَاجْتَنِبُوهُ أمر بالاجتناب، والأمر يدل على الوجوب حقيقةً، والدليل على ذلك من القرآن أيضًا، وذلك في بضعة مواضع:
الأول: قوله تعالى في قصة آدم وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) (۱) [الأعراف: ۱۱-۱۲].
المراد بالاستفهام في الآية الذم واللوم باتفاق العلماء، فقد ذم الله سبحانه وتعالى إبليس على ترك السجود لورود الأمر به، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما ذمه الله ولا لامه؛ لأن الدم لا يكون إلا على ترك واجب.
وأيضًا: لو لم يكن الأمر للوجوب لكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني
(۱) تدل هذه الآية على أنَّ إبليس كان محاطبًا بالسجود لآدم وإن لم يكن من الملائكة؛ لأن الأمر للأعلى - وهم الملائكة - أمر للأدنى - وهو إبليس - بالأولى، وفي هذه الآية مع قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ ريه ﴾ [الكهف: ٥٠] دليل على عصمة الملائكة؛ لأن الله تعالى أثبت أنهم أطاعوا الأمر جميعا، واستثنى من ذلك إبليس، وأخبر أنَّ سبب فِسْقِهِ وعصيانه كونه من الجن، فثبت أن الملائكة ،معصومون، وأنَّ الجنَّ غير معصومين، وما يروى عن ابن عباس: أنَّ إبليس كان من صنف من الملائكة يقال لهم: الجن، غير صحيح عـ عنه، ولو صح فالقرآن يرده؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوا ﴾ [الكهف: ٥٠] و الملائكة لا ذريَّة لهم؛ لأنهم لا يتناسلون .
واضح البرهان
۲۱۳
السجود، ولا أوجبته علي . لكنه لم يقل ذلك، لأنه علم أنَّ السجود واجب عليه بالأمر، بل عَدَلَ إلى قوله : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
[الأعراف: ۱۲].
الثاني: قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رأَيْنَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ﴾ [طه: ۹۲ – ۹۳]، وكان موسى حين ذهب إلى المناجاة أمر هارون بما جاء في الآية الأخرى: ﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَرُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف : ١٤٢]، فسمَّى موسى أخاه هارون عاصيّا؛ لظنه أنه خالف أمره، ولا يُسمَّى عاصيا إلا تارك الواجب، أمَّا تارك المندوب فلا يُسمَّى عاصيا . الثالث: قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي: يعرضون
عنه فلا يمتثلونه أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: ٦٣] توعد الله مخالف الأمر بالفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، وما ذاك
إلَّا لأنَّ الأمر يدل على الوجوب؛ لأن تارك المندوب لا يستحق فتنةً ولا عذابًا.
(1) الضمير في أمر يعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذه الآية كالتي بعدها وهي : ووَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمرهم ) [الأحزاب: ٣٦] دليل على وجوب اتباع أوامر الرسول الزائدة على القرآن؛ لأن الله تعالى أثبت لرسوله أمرًا، وأوجب اتباعه، وحذَّر من مخالفته، والأوامر التي في القرآن هي أوامر الله لا تُنسب إلى رسوله حقيقة ولا مجازا، بل ليس له فيها إلا
التبليغ، وهذا واضح لاخفاء فيه، فالمبتدعة مُلزومون باتباع السُّنَّة بنص القرآن .
٢١٤
الفقه
الرابع: قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ همُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، قضى في الآية بمعنى: أمر، والمعنى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة في أن يفعلوا أو لا يفعلوا، بل لابدَّ من امتثال الأمر وتنفيذه حتما محتما، فهذا قاطع في أنَّ الأمر للوجوب، لا سيّما وقد خَتَمَ الآية بقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
الخامس: قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَا بلَغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: ٦٧]، قال ابن حزم: «في هذه الآية بيان جَلي رافع لكل شكٍّ في أنَّ من لم يفعل ما أمر به فقد عصى؛ لأنه تعالى بيَّن أنَّ نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يُبلغ كما أمر فلم يفعل ما أمر به، ولا معنى لهذا الخبر إلَّا أَنَّ
خلاف الأمر معصية».اهـ أدلة أخرى مبسوطةٌ في كتب الأصول، وفيما ذكرناه من الأدلة
وبقيت
كفاية في المقصود وهو دلالة الأمر على الوجوب - فالأمر في آية الخمر يدل على وجوب اجتنابها قطعا هذا لو كان وحده ، كيف وقد انضم إليه تسميتها رجسًا ومن عمل الشيطان، وتصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء... إلخ ما سبق ؟ وإذا كان اجتنابها واجبًا كان شربها حراما، ولهذا فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من الآية تحريم الخمر، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة، ونحن نورد بعضا منها :
واضح البرهان
ففي
٢١٥
"مسند أبي داود الطيالسي عن ابن عمر قال: نزلت في الخمر ثلاث
آيات، فأول شيء نزل: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ [البقرة: ۲۱۹] الآية، فقيل: حُرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله تعالى، ثُمَّ نزلت هذه الآية: لَا تَقْرَبُوا الصِّلَوْةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى *
فسكت
عنهم،
[النساء: ٤٣]، فقيل : حُرّمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نشربها قُرْبَ الصلاة، فسكت عنهم، ثُمَّ :نزلت يتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ الآيتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «حُرِّمَتِ الخَمْرُ».
وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي هريرة قال: حُرمت الخمر ثلاث مَرَّاتٍ : قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها؟ فأنزل الله عزّ وجل: يستلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) الآية، فقال الناس: ما حُرِّما علينا ، إنما قال: فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ ، وكانوا يشربون حتى إذا كان يوم من الأيام صلَّى رجل من المهاجرين، أم أصحابه في المغرب وخَلَط في قراءته، فأنزل الله عزّ وجلَّ فيها آيةً أغلظ منها: ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَلوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصَّلاة وهو مُفِيقٌ، ثُمَّ أُنزِلت آيةٌ أغلظ منها: يَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
٢١٦
الفقه
تُفْلِحُونَ الآية، قالوا: انتهينا يا ربَّنا فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فُرشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان فأنزل الله عزَّ وجل: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ الآية [المائدة: ۹۳] ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لو حُرِّمَتْ عَليهِمْ لتَرَكُوها كما تَرَكْتُمْ». إسناده حسن.
وفي "صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب بالمدينة، يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِالخَمْرِ، ولعلَّ اللهَ يُنْزِلُ فيها أَمْرًا، فمَنْ كان عِنْدَهُ منها شيء فليبعه (۱) ولينتفع بِهِ». قال: فما لبثنا إلا يسيرًا، حتى قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ فمَنْ أَدْرَكَتْهُ هذه الآية - يعني آية المائدة - وعِنْدَهُ منها شيء فلا يَشْرَبْ ولا يبع»، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها، أي:
أراقوها.
وفي "الصحيحين عن أنس قال: كنت ساقي القوم -يوم حُرمت الخمر - في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلَّا الفضيخ - البسر والتمر - فإذا مُنادٍ يُنادِي (٢): ألَا إِنَّ الخمر قد حُرِّمت، قال: فجَرَتْ في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة:
(1) في هذا دليل للقاعدة الفقهية المقرَّرة وهي: «الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يأتي
دليل بالتحريم".
(۲) فيه دليل لحجية خبر الآحاد، والعمل به.
واضح البرهان
۲۱۷
اخرج فأهرقها، فهرقتها، فقالوا أو قال بعضهم: قتل فلان، قتل فلان، وهي
في بطونهم. فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَتِ ﴾ [المائدة: ۹۳] .
ورواه البزار بإسناد صحيح عن أنس، وزاد فيه: أنه كان يسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبا دجانة، حتى مالت رءوسهم إذا سمعت مُناديًا ينادي: ألَا إِنَّ الخمر قد حُرمت. فأهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا طيب أم سليم، ثُمَّ خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون حتى بلغ فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ ، فقال رجل: يا رسول الله فما منزلة من مات وهو يشربها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ الآية. وفي "المسند" و"السنن" عن عمر رضى الله عنه قال: «اللهم بين لنا في
الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في (البقرة): يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ الآية، فدعي عمر فقُرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في سورة (النساء): يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَوَةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى ، فدعي عمر فقُرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيا، فنزلت الآية التي في (المائدة)، فدعي عمر فقُرئت عليه، فلما بَلَغَ قوله
۲۱۸
الفقه
تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ، قال عمر: انتهينا». صححه علي بن المدني
والترمذي.
قال العلماء: نزلت في الخمر أربع آيات بمكة: قوله تعالى: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْتَبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾ [النحل: ٦٧]، وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلال.
ثُمَّ إنَّ عمر ومعاذا وآخرين قالوا: يا رسول الله أَفْتِنا في الخمر، فإنها مُذْهِبَةٌ
للعقل، مسلبة للمال، فنزل قوله تعالى: فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) [البقرة: ٢١٩]، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ يُقَدِّمُ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ، فَمَن كان عِنْدَهُ شيءٌ مِنْها فَلْيَبعَهُ». فتركها قوم لقوله: ﴿إِثْمُ كَبِيرُ ،
وشربها قوم لقوله: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .
ثُمَّ صنع عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه طعاما، فدعا ناسا من الصحابة وأتاهم بخمر، فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فتقدم بعضهم ليصلي بهم ، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» هكذا إلى آخر
السورة بحذف «لا»، فأنزل الله تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَوَةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى [النساء: ٤٣]، فحُرِّم السُّكْر في أوقات الصلاة، فحرمها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قومٌ في أوقات الصلاة فقط، فكان أحدهم يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره، وبعد صلاة الصبح فيصحوا إذا جاء وقت الظهر. واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالاً من المسلمين - فيهم سعد بن أبي
واضح البرهان
۲۱۹
وقاص - وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثُمَّ إنهم افتخروا عند ذلك واستبوا، وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد، فشجّه مُوضِحَةٌ (۱).
فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكا إليه الأنصاري، فقال: «اللهمَّ بيّن لنا في الخَمْرِ بيانًا شافيا». فأنزل الله تعالى: ﴿يَاتها
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية ، فقال عمر: انتهينا يا رب.
وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام، قال أنس رضي الله عنه: حُرمت الخمر،
ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حَرَّم عليهم شيئًا أشد منها. قال الإمام الرازي في تفسيره " : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أنَّ الله تعالى عَلِم أنَّ القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم، فلا جرم در جهم في التحريم رِفقًا بهم.
ومن الناس من قال: إنَّ الله حرم الخمر بآية (البقرة)، ثُمَّ نزل قوله تعالى: ولَا تَقْرَبُوا الصَّلوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى ، فاقتضى تحريم شربها أيضًا؛ لأن شاربها تتعذر عليه الصلاة مع السُّكّر فكان المنع من ذلك منعا من الشرب ضمنا، ثُمَّ
نزلت آية (المائدة)، فكانت في غاية القوة في التحريم.
وفي "الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أنه قال في خطبته
(۱) بضم الميم وكسر الضاد وهي الشجة التي تظهر عظم الرأس.
۲۲۰
الفقه
على منبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّه نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وهي من خمسة : العنب، والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما
خَامَر العقل».
فقوله
رضي
الله عنه: انزل تحريم الخمر»، يقصد بذلك آية (المائدة)،
وقوله: «والخمر ما خامر العقل»، يقصد به: أن الخمر التي كانت شائعة بين العرب من الأنواع الخمسة المذكور، ومع ذلك فليس التحريم خاصا بها ولا قاصرًا عليها، بل كل ما خامر العقل وأسكره: يُسمَّى خمرا في اللغة، ويكون
حراما في الشرع.
وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «نَزَلَ تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شَرِبوا، فلمَّا ثَمِلَ القومُ عَبَثَ بعضُهم ببعض، فلما أن صَحَوا جعل الرجلُ يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول: صنع هذا أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى: منتَهُونَ ، فقال ناس من المتكلّفين هي رجسٌ، وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحدٍ،
فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إلى: المحسنين .
وفي "مسند أحمد" بإسناد صحيح عن الفضل بن عيسى الرقاشي قال : كنَّا عند عبدالله بن مُغَفَّل رضى الله عنه فتذاكرنا الشراب، فقال: الخمر حرام،
واضح البرهان
۲۲۱
فقلت: الخمر حرام في كتاب الله عزّ وجلَّ، فقال: فإيش تريد؟ ترى(۱) ما
سمعت من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ .
والحنتم والمقير (٢).
سمعته ينهى عن
الدباء
الخمر من
فانظر كيف فهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تحريم ا الآية، وهو أعلم العلماء بكتاب الله وبمراد الله منه (۳)، وكذلك فهم الصحابة
(۱) في هذا دليل على أمرين: الأول: فهم التابعين حرمة الخمر من القرآن، الثاني: أنهم كانوا حريصين على سماع السُّنَّة واتباعها، كحرصهم على سماع القرآن واتباعه، فليسمع مبتدعة هذا العصر الذين يحاربون السُّنَّة، ويريدون أن يؤخروها عن وضعها الذي وضعها الله فيه، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون . (۲) الدباء - بضم الدال وتشديد الباء : هو القرع، والحنتم - بفتح الحاء والتاء بينهما نون ساكنة جرار خضر مدهونة، والمقير - بوزن المعظم - : هو المطلي بالقار، هذه أسماء لأواني كانوا ينتبذون فيها، وسبب النهي عن الانتباذ فيها: أنَّ الشراب إذا نبذ فيها أسرع في الشدة والسُّكر، ثُمَّ لما شكوا قلة الأواني رخص لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في الانتباذ في هذه الأواني وغيرها، وقال: «لا تشربوا مُسْكِرًا».
(۳) هذا هو اعتقادنا، وهو الذي أجمع عليه المسلمون، ولكن مبتدعاً جاهلا شدَّ عن هذا الإجماع فزعم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم اجتهد في فهم القرآن، وكان فهم غيره هو الصواب !!!
هكذا قال صاحب كتاب "اجتهاد الرسول" في عدة مواضع منه. منها : أنه لما تكلّم عن قصة وفاة عبد الله بن أبي بن سلول، وإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الصلاة عليه إجابة لطلب ابنه عبدالله ، ومعارضة عمر في ذلك، ونزول
قوله تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا نَقُم عَلَى قَبْرِهِ ﴾ الآية [التوبة: ٨٤].
۲۲۲
الفقه
قال: «ومن اطلع على هذه الروايات التي دونت في كل تواليف الحديث، وفي مقدمتها "البخاري" و"مسلم"، يعرف أنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد فاستغفر لبعض المنافقين، واجتهد فصلى عليه فعاتبه الله على ذلك، بل ربما يسترسل في تخريجها فيرى أنه صلى الله عليه وآله وسلَّم اجتهد فوق ذلك في فهم القرآن، وأنَّ فَهُمَ غيره كان هو الصواب» . اهـ انظر (ص ۱۱۷) من الكتاب المذكور.
واسمع حكم الإسلام في هذا المبتدع ومن قال بقوله: قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في كتاب "الإحكام" أثناء الكلام على الأوامر والنواهى - بعد أن أسند من طريق مسلم - عن ابن عمر قال: «لما تُوفَّي عبد الله ابن أبي بن سلول، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ليُصَلِّي عليه، فقام عمر فقال: يا رسول الله أُتصَلّي عليه وقد نهاك الله أن تُصَلّي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما خَيَّرني الله تعالى فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْهُمْ سبعين مرة فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: ٨٠] ، وسأزيد على السبعين»، قال: إنه منافق. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا نَهُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ [التوبة: ٨٤]». قال ابن حزم: ففي هذا الحديث بيان كافٍ في حمل كل شيء على ظاهره. فحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم اللفظ الوارد بـ أو على التخيير، فلما جاء النهي ا المجرد حمله على الوجوب». إلى أن قال: «فإن قال قائل: فما مراد الله بالتخيير الذي حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه ؟ وبذكره تعالى السبعين مرة؟ أتقولون: إنه أراد تعالى ما قال عمر بن
الخطاب من أنه لا يُصَلِّى عليهم ولا يستغفر لهم، ثُمَّ نزلت الآية الأخرى مبينة؟
واضح البرهان
۲۲۳
فالجواب: أنا - وبالله تعالى التوفيق - لا نقول ذلك، ولا يسوغ لمسلم أن يقوله، ولا نقول: إنَّ عمر ولا أحدًا من ولد آدم عليه السَّلام فَهم عن الله شيئًا لم يفهمه عنه نبيه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وهذا القول عندنا كُفْرٌ مُجرَّد، وبرهان ذلك: أنَّ الله تعالى لو لم يرض صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على عبد الله بن أبي، لما أقره عليها، ولأنزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم، فصح أنَّ قول عمر كان اجتهادًا منه أراد به الخير، فأخطأ فيه، وأصاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم ، وأجر عمر في ذلك أجرًا واحدًا». انتهى.
وانظر بقيَّة كلامه (ص ۲۰ ج (۳) من "الإحكام" مطبعة السعادة. فانظر كيف وقع هذا المبتدع بجهله في الكفر وهو لا يشعر، ولو كان عنده عقل وتبصر لأدرك أنه لا يجوز في حكمة الله أن يختار لرسالته شخصا في فهمه نقص، أو يكون غيره أسعد بالصواب في فهم الوحي منه، إذ لو جاز ذلك لزم عليه كفريات
ومفاسد أقربها: أن ترتفع الثقة بفهم الرسول للقرآن وغيره من أمور الدين.
وأيضًا: فإن الله تعالى قال لنبيه : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤] فكيف وكل الله إلى نبيه تبيين الذكر للناس، وفيهم من هو أصوب فهما منه؟!! أرأيت كيف وقع هذا المبتدع الجاهل في الكفر ومعارضة القرآن وهو لا يدري؟!! ومن جهله أيضًا أنه نسب العصمة وصفا الله تعالى، فقال في كتابه الخاطئ: والعصمة الله وحده»، مُكرّرًا لها في بضع مناسبات، وهذه العبارة لا تجوز في جانب الله
تعالى لأمرين: الأول: أنه لم يرد ما يدل على جوازها في الكتاب ولا في السُّنَّة . الثاني: أنَّ العصمة مَلَكَةٌ تمنع من تقوم به من الوقوع فيما يدمُ شَرْعًا، والملكة، بفتح اللام: هيئة راسخةٌ في النَّفْس، فهي عَرَضٌ مخلوق الله تعالى، وهي من الأوصاف الخاصة بالأنبياء والملائكة عليهم السلام، فلا عصمة لغيرهم من المخلوقات، أما الله سبحانه وتعالى فله الكمال المطلق.
٢٢٤
الفقه
وهم عرب بسَليقَتِهم، فصحاء بفطرتهم، هذا إلى أنهم لازموا الرسول
لهجة
وعاصروا التنزيل وشهدوا الوحي، أفيصحُ بعد هذا لقوم خالطتهم . أعجمية، وأفسدت لسانهم رطانة تركية، أن يتبجحوا بأنَّ القرآن لا يدل على
تحريم الخمر؟ ولا على وجوب اجتنابها؟! تالله إنها لجرأة على الله، وتقول على كتابه بغير علم ولا برهان، ولكنها الأهواء تُعمِي وتصم. نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويوفقنا إلى تذوق أسرار كتابه، وتفهم معاني
خطابه.
فصل
تبين مما أوردناه: أنَّ في الآية ثمانية أدلة، كل دليل منها كافٍ في تحريم
الخمر.
وفيها دليل تاسع يُعلم من موازنتها بأخرى، هي قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَنِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ النُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج: ۳۰-۳۱]
فإذا تأملت هذه الآية ووازنتها بآية (المائدة)، وجدت
وتعالى سوى بين الشرك والخمر في شيئين:
١ - كونهما رجسًا.
۲ - ووجوب اجتنابهما.
وهذا أقوى ما يكون في الدلالة على تحريم الخمر وقبحها.
أن الله سبحانه
وأشار إلى هذا الدليل الإمام العلامة أبو حَيَّان في تفسيره "البحر المحيط".
واضح البرهان
۲۲۵
وسبق الصحابة إلى فهم هذا المعنى وهم سباقون إلى كل خير، فروى الطبراني وابن مردويه والحاكم من طريق طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : ما نَزَلَ تحريم الخَمْرِ مَشَى أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعضُهم إلى بعض، فقالوا: «حُرِّمَتِ الخَمْرُ
وجُعِلَتْ عِدْلًا للشِّرْكِ». صححه الحاكم والمنذري والهيثمي وابن حجر. قال أبو الليث السمرقندي: «المعنى أنه لما نزل فيها: أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها، عادلت قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأوثان . اهـ وروى النسائي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقول: ما أُبالي شَرِبْتُ الخَمْرَ أو عَبَدتُ هذه السَّارِيَةَ مِن دُونِ اللَّه».
فأبو موسى إنما يقصد بهذا الكلام ما قصده الصحابة -وهو أحدهم-
حين قال بعضُهم لبعض : حُرّمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك. ونقل السمرقندي عن مسروق بن الأجدع أنه قال: «شارب الخمر كعابد الوَثَنِ، وشارب الخمر كعابد اللات والعُزَّى».
بل أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى ذلك، حيث يقول: «مَن لَقِيَ اللَّهَ مُؤْمِنَ خَيْرٍ لَقِيَهُ كعَابِدِ وَثَنِ». رواه ابن حِبَّان في "صحيحه" عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد من طريق آخر صحيح عن ابن عباس أيضًا، ولفظه: مُؤْمِنُ الخَمْرِ إِن مَاتَ لَقِي اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنِ».
واضح البرهان
۲۲۵
وسبق الصحابة إلى فهم هذا المعنى وهم سباقون إلى كل خير، فروى الطبراني وابن مردويه والحاكم من طريق طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : ما نَزَلَ تحريم الخَمْرِ مَشَى أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعضُهم إلى بعض، فقالوا: «حُرِّمَتِ الخَمْرُ
وجُعِلَتْ عِدْلًا للشِّرْكِ». صححه الحاكم والمنذري والهيثمي وابن حجر. قال أبو الليث السمرقندي: «المعنى أنه لما نزل فيها: أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها، عادلت قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأوثان . اهـ وروى النسائي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقول: ما أُبالي شَرِبْتُ الخَمْرَ أو عَبَدتُ هذه السَّارِيَةَ مِن دُونِ اللَّه».
فأبو موسى إنما يقصد بهذا الكلام ما قصده الصحابة -وهو أحدهم-
حين قال بعضُهم لبعض : حُرّمت الخمر، وجعلت عدلا للشرك. ونقل السمرقندي عن مسروق بن الأجدع أنه قال: «شارب الخمر كعابد الوَثَنِ، وشارب الخمر كعابد اللات والعُزَّى».
بل أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى ذلك، حيث يقول: «مَن لَقِيَ اللَّهَ مُؤْمِنَ خَيْرٍ لَقِيَهُ كعَابِدِ وَثَنِ». رواه ابن حِبَّان في "صحيحه" عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد من طريق آخر صحيح عن ابن عباس أيضًا، ولفظه: مُؤْمِنُ الخَمْرِ إِن مَاتَ لَقِي اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنِ».
٢٢٦
الفقه
فالحديث يشير إلى معادلة الخمر للشرك، وإنما قيد الإدمان لأجل قوله:
لقي الله كمعابِدِ وَثَنِ»؛ لأن مَن تاب من الخمر قبل موته لا يكون مُدمِنًا،
فيرجى من فضل الله ألا يحشره كعابد وَثَن.
فصل
وفي الآية دليل عاشرٌ يُعلَم مِن موازنتها بآية أخرى أيضًا هي قوله تعالى: قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَى مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِهِ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمَا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرِ فَإِنَّهُ رِجْسُ ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، صرح الله في هذه الآية بتحريم لحم الخنزير، وبين العِلَّة في تحريمه بأنه رجس، وتشاركه في هذه العِلَّة الميتة والدم المسفوح، ثُمَّ صرَّح في الخمر بأنها رِجْسٌ، فتكون مُحرَّمة بالعِلَّة نَفْسِها التي حَرَّم الله لأجلها الخنزير، وما ذكر م
معه.
قرر هذا الاستدلال قوم من العلماء، ونقله عنهم الإمام ابن عطية في
"تفسيره" وهو استدلال واضح لا غبار عليه.
وبقي
فصل
دليل حادي عشر يستفاد من آيتين، هما: قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
ربي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْى بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: ۳۳] . مع تعالى في الخمر والميسر : وقُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كَبِرُ } الآية.
قوله
قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم: «الخمر حرام بنص القرآن وسُنَّة فمن استحلها ممن سمع
الأمة.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وإجماع ) النص في ذلك وعلم بالإجماع فهو كافر مرتد حلال الدم والمال.
٢٢٦
الفقه
فالحديث يشير إلى معادلة الخمر للشرك، وإنما قيد الإدمان لأجل قوله:
لقي الله كمعابِدِ وَثَنِ»؛ لأن مَن تاب من الخمر قبل موته لا يكون مُدمِنًا،
فيرجى من فضل الله ألا يحشره كعابد وَثَن.
فصل
وفي الآية دليل عاشرٌ يُعلَم مِن موازنتها بآية أخرى أيضًا هي قوله تعالى: قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَى مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِهِ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمَا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرِ فَإِنَّهُ رِجْسُ ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، صرح الله في هذه الآية بتحريم لحم الخنزير، وبين العِلَّة في تحريمه بأنه رجس، وتشاركه في هذه العِلَّة الميتة والدم المسفوح، ثُمَّ صرَّح في الخمر بأنها رِجْسٌ، فتكون مُحرَّمة بالعِلَّة نَفْسِها التي حَرَّم الله لأجلها الخنزير، وما ذكر م
معه.
قرر هذا الاستدلال قوم من العلماء، ونقله عنهم الإمام ابن عطية في
"تفسيره" وهو استدلال واضح لا غبار عليه.
وبقي
فصل
دليل حادي عشر يستفاد من آيتين، هما: قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
ربي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْى بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: ۳۳] . مع تعالى في الخمر والميسر : وقُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كَبِرُ } الآية.
قوله
قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم: «الخمر حرام بنص القرآن وسُنَّة فمن استحلها ممن سمع
الأمة.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وإجماع ) النص في ذلك وعلم بالإجماع فهو كافر مرتد حلال الدم والمال.
واضح البرهان
۲۲۷
فأما القرآن فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر إلى قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ فأمر تعالى باجتناب الرّجس جملةً، وأخبر سبحانه أنَّ الخمر مِن الرّجس ففرض اجتنابها؛ لأن أوامر الله تعالى على الفرض حتى يأتي نص آخر يبين أنه ليس فرضا، وقال تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، فنص تعالى على تحريم الإثم.
وقال تعالى: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ ، فصح أنَّ الإثم حرام، وأنَّ في الخمر إنما، وأن مواقعها مواقع إثم فهو مواقع
المحرم نصا، وأمَّا مِن السُّنَّة فمعلوم مشهور» . اهـ وقال أبو حَيَّان: «فما كان إنما أو اشتمل على الإثم فهو حرام، والإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كثيرًا أو كبيرًا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، وكيف
يُقدم على ذلك مع التصريح بالخسران؟ إذا كان الإثم أكبر من النفع. وقال الحسن: ما فيه الإثم محرَّم، ولما كان في شربها الإثم سُمِّيت إنما في
قول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ذَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُول انتهى كلامه
وقال أبو جعفر النحاس: «استدل بعضهم لتحريم الخمر بقوله تعالى: قل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ ، فلما أخبر: أنَّ في الخمر
واضح البرهان
۲۲۷
فأما القرآن فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر إلى قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ فأمر تعالى باجتناب الرّجس جملةً، وأخبر سبحانه أنَّ الخمر مِن الرّجس ففرض اجتنابها؛ لأن أوامر الله تعالى على الفرض حتى يأتي نص آخر يبين أنه ليس فرضا، وقال تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، فنص تعالى على تحريم الإثم.
وقال تعالى: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ ، فصح أنَّ الإثم حرام، وأنَّ في الخمر إنما، وأن مواقعها مواقع إثم فهو مواقع
المحرم نصا، وأمَّا مِن السُّنَّة فمعلوم مشهور» . اهـ وقال أبو حَيَّان: «فما كان إنما أو اشتمل على الإثم فهو حرام، والإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كثيرًا أو كبيرًا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، وكيف
يُقدم على ذلك مع التصريح بالخسران؟ إذا كان الإثم أكبر من النفع. وقال الحسن: ما فيه الإثم محرَّم، ولما كان في شربها الإثم سُمِّيت إنما في
قول الشاعر:
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ذَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُول انتهى كلامه
وقال أبو جعفر النحاس: «استدل بعضهم لتحريم الخمر بقوله تعالى: قل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر فِيهِمَا إِثْمُ كَبِيرُ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ ، فلما أخبر: أنَّ في الخمر
۲۲۸
الفقه
إنما كبيرًا، ثُمَّ صرَّح بتحريم الإثم، ثبت تحريم الخمر بذلك».اهـ وهو استدلال
في غاية الوضوح.
فصل
فهذه أحد عشر دليلا مستخرجة من القرآن الكريم، وتدل كلها على تحريم الخمر ليس فيها تكلُّف ولا تعمل، وإنما تحتاج إلى شيء من التدبر والتأمل. ولو ظفر بها ووُفِّق إلى استخراجها أزهري معروف بالابتداع لما عرج على غيرها في محاضرات ثلاث ألقاها في المذياع منذ عدة أسابيع، تحدث فيها عن تحريم الخمر. استمعت إليه فإذا هو يستدل بالأحاديث النبوية يدعم بها كلمته ويُقوِّي حُجَّته، مع أني أعرفه حق المعرفة منحرفًا عن السُّنَّة، رادا لها في أغلب الأوقات بدعوى أنها روايات (۱) ، حاضًا على إهمالها، وعدم الرجوع إليها في تفسير
ان
(۱) جربنا عليه ذلك عدة مرات فيما كتبه من مقالات أو ألقاه من محاضرات، مع الأحاديث التي يردها بدعوى الروايات مُحرَّجة في كتب الأئمة: مالك، وأحمد،
والبخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأضرابهم. بهذه الدعوى الخبيثة، دعوى الرّوايات أنكر أحاديث متواترة مقطوعا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كأحاديث خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، والميزان، والاستشفاء بالقرآن الكريم. بل زاد جرأة ووقاحة حيث زعم في مقال له بعنوان: «شخصيات الرسول»، ونشرته مجلة الرسالة" الملحدة في أحد أعدادها الممتازة بمناسبة عيد الهجرة النبوية: «أنه لا يجب اتباع الرسول فيما قضى به
بل تجوز مخالفته إذا اقتضت المصلحة ذلك»!!.
۲۲۸
الفقه
إنما كبيرًا، ثُمَّ صرَّح بتحريم الإثم، ثبت تحريم الخمر بذلك».اهـ وهو استدلال
في غاية الوضوح.
فصل
فهذه أحد عشر دليلا مستخرجة من القرآن الكريم، وتدل كلها على تحريم الخمر ليس فيها تكلُّف ولا تعمل، وإنما تحتاج إلى شيء من التدبر والتأمل. ولو ظفر بها ووُفِّق إلى استخراجها أزهري معروف بالابتداع لما عرج على غيرها في محاضرات ثلاث ألقاها في المذياع منذ عدة أسابيع، تحدث فيها عن تحريم الخمر. استمعت إليه فإذا هو يستدل بالأحاديث النبوية يدعم بها كلمته ويُقوِّي حُجَّته، مع أني أعرفه حق المعرفة منحرفًا عن السُّنَّة، رادا لها في أغلب الأوقات بدعوى أنها روايات (۱) ، حاضًا على إهمالها، وعدم الرجوع إليها في تفسير
ان
(۱) جربنا عليه ذلك عدة مرات فيما كتبه من مقالات أو ألقاه من محاضرات، مع الأحاديث التي يردها بدعوى الروايات مُحرَّجة في كتب الأئمة: مالك، وأحمد،
والبخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأضرابهم. بهذه الدعوى الخبيثة، دعوى الرّوايات أنكر أحاديث متواترة مقطوعا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كأحاديث خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، والميزان، والاستشفاء بالقرآن الكريم. بل زاد جرأة ووقاحة حيث زعم في مقال له بعنوان: «شخصيات الرسول»، ونشرته مجلة الرسالة" الملحدة في أحد أعدادها الممتازة بمناسبة عيد الهجرة النبوية: «أنه لا يجب اتباع الرسول فيما قضى به
بل تجوز مخالفته إذا اقتضت المصلحة ذلك»!!.
واضح البرهان
القرآن الكريم، وفي الكشف عن معنى بعض آياته.
۲۲۹
فأدهشني هذا التحول منه ، ثُمَّ أدركت أنه ألجئ إلى السنة الجاء؛ لأنه لم يُسعفه فكره باستخراج دليل واضح من القرآن الكريم، يقطع دعوى
المتخرصين المنازعين في تحريم الخمر. ولعله يتنبه بهذا إلى عرفان قدر السُّنَّة المُشرَّفة، وأنه لا غنى عنها في فهم القرآن وتفصيل ما أجمله وتوضيح ما أبهمه، وأنها ركن من أركان التشريع الإسلامي، وأصل من أصول الدين المحمدي، بل عليها وعلى القرآن الكريم
تنبني سائر الأدلة من إجماع وقياس وغيرهما.
نعم، ل
لعله
، يتنبه إلى هذا - وإن كان لا يجهله - فيعود إلى حظيرة الصواب،
وما السُّنَّة النبوية إِلَّا صِنو الكتاب (۱).
وقد رد عليه في هذا المقال الخاطئ برسالة خاصة فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله، كما رددت عليه في نزول عيسى عليه السلام بكتابين أحدهما "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" والآخر "عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام" وفي ضمنها رةٌ ضمني عليه في مسألة الدَّجال، ورددتُ عليه في الاستشفاء بالقرآن برسالة كمال الإيمان في التداوى بالقرآن" وهذه الردود كلها مطبوعة، وأرجو أن يوفقني الله تعالى للرد عليه في مسألة الميزان. (۱) صنو الكتاب: أي أخوه كناية عن وحدة مصدرهما، وذلك أنَّ العلماء قسموا الوحي إلى قسمين: وحي متلو؛ وهو القرآن. ووحي غير متلو؛ وهو السُّنَّة. أخذا من قوله في الحديث الصحيح: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ». ثُمَّ ما كان السُّنَّة اجتهادًا منه عليه السلام فهو وحيّ خفي، وغيره وحي ظاهر. راجع كتب
من
الأصول .
واضح البرهان
القرآن الكريم، وفي الكشف عن معنى بعض آياته.
۲۲۹
فأدهشني هذا التحول منه ، ثُمَّ أدركت أنه ألجئ إلى السنة الجاء؛ لأنه لم يُسعفه فكره باستخراج دليل واضح من القرآن الكريم، يقطع دعوى
المتخرصين المنازعين في تحريم الخمر. ولعله يتنبه بهذا إلى عرفان قدر السُّنَّة المُشرَّفة، وأنه لا غنى عنها في فهم القرآن وتفصيل ما أجمله وتوضيح ما أبهمه، وأنها ركن من أركان التشريع الإسلامي، وأصل من أصول الدين المحمدي، بل عليها وعلى القرآن الكريم
تنبني سائر الأدلة من إجماع وقياس وغيرهما.
نعم، ل
لعله
، يتنبه إلى هذا - وإن كان لا يجهله - فيعود إلى حظيرة الصواب،
وما السُّنَّة النبوية إِلَّا صِنو الكتاب (۱).
وقد رد عليه في هذا المقال الخاطئ برسالة خاصة فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله، كما رددت عليه في نزول عيسى عليه السلام بكتابين أحدهما "إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان" والآخر "عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام" وفي ضمنها رةٌ ضمني عليه في مسألة الدَّجال، ورددتُ عليه في الاستشفاء بالقرآن برسالة كمال الإيمان في التداوى بالقرآن" وهذه الردود كلها مطبوعة، وأرجو أن يوفقني الله تعالى للرد عليه في مسألة الميزان. (۱) صنو الكتاب: أي أخوه كناية عن وحدة مصدرهما، وذلك أنَّ العلماء قسموا الوحي إلى قسمين: وحي متلو؛ وهو القرآن. ووحي غير متلو؛ وهو السُّنَّة. أخذا من قوله في الحديث الصحيح: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ». ثُمَّ ما كان السُّنَّة اجتهادًا منه عليه السلام فهو وحيّ خفي، وغيره وحي ظاهر. راجع كتب
من
الأصول .
۲۳۰
الفقه
(تنبيه) : ألف بعض علماء الحنفية كتابًا جمع فيه الألفاظ المكفّرة، ورتبه على
ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الألفاظ المتفق على أنها كفر.
الثاني: في الألفاظ التي اختلفت فيها.
الثالث: في الألفاظ التي يُخشى الكفر على من تكلم بها.
وذكر في الفصل الأول قول الشخص: لم تثبت حرمة الخمر في القرآن»،
أي فيكون قائله كافرًا باتفاق
قال العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي، موضحا له ما نصه: «وكُفر زاعم أنه لا نصَّ في القرآن على تحريم الخمر ظاهر؛ لأنه مستلزم لتكذيب
القرآن الناص في غير ما آية على تحريم الخمر.
فإن قلت غاية ما فيه أنه كذب، وهو لا يقصد الكفر.
قلت: ممنوع؛ لأنه كذب يستلزم إنكار النص المجمع عليه المعلوم من
الدين بالضرورة» (۱).
(۱) توضيح كلامه أنه إذا أنكر الشخص ثبوت حرمة الخمر في القرآن، استلزم ذلك
إنكار الآيات الدالة على تحريم الخمر، وإنكار آية من القرآن كفر كما هو معلوم.
۲۳۰
الفقه
(تنبيه) : ألف بعض علماء الحنفية كتابًا جمع فيه الألفاظ المكفّرة، ورتبه على
ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في الألفاظ المتفق على أنها كفر.
الثاني: في الألفاظ التي اختلفت فيها.
الثالث: في الألفاظ التي يُخشى الكفر على من تكلم بها.
وذكر في الفصل الأول قول الشخص: لم تثبت حرمة الخمر في القرآن»،
أي فيكون قائله كافرًا باتفاق
قال العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي، موضحا له ما نصه: «وكُفر زاعم أنه لا نصَّ في القرآن على تحريم الخمر ظاهر؛ لأنه مستلزم لتكذيب
القرآن الناص في غير ما آية على تحريم الخمر.
فإن قلت غاية ما فيه أنه كذب، وهو لا يقصد الكفر.
قلت: ممنوع؛ لأنه كذب يستلزم إنكار النص المجمع عليه المعلوم من
الدين بالضرورة» (۱).
(۱) توضيح كلامه أنه إذا أنكر الشخص ثبوت حرمة الخمر في القرآن، استلزم ذلك
إنكار الآيات الدالة على تحريم الخمر، وإنكار آية من القرآن كفر كما هو معلوم.
واضح البرهان
الباب الثاني
في تحريم الخمر من السنة النبوية الشريفة
۲۳۱
اعلم أنَّ الأحاديث الواردة في الخمر بالغة حد التواتر؛ لتعدد طرقها،
وكثرة رواتها في "الصحاح" و"السنن" و"المسانيد" و"المعاجم"، وغيرها من
كتب السُّنَّة المطهرة، ثُمَّ هي ثلاثة أنواع :
١ - نوع يُصرح بتحريم مطلق الخمر.
٢ - نوع يُصرح بتحريم قليل ما أسكر كثيره.
نوع يفيد التحريم بطريق الوعيد كلعن شارب الخمر وتهديده
بالعذاب في الآخرة ونحو ذلك.
ونحن نوردها على هذا الترتيب، لكن لا بطريق الاستيعاب، بل نورد من
كل نوع جملة تكون كافية في المقصود، والله المستعان وعليه التكلان.
واضح البرهان
الباب الثاني
في تحريم الخمر من السنة النبوية الشريفة
۲۳۱
اعلم أنَّ الأحاديث الواردة في الخمر بالغة حد التواتر؛ لتعدد طرقها،
وكثرة رواتها في "الصحاح" و"السنن" و"المسانيد" و"المعاجم"، وغيرها من
كتب السُّنَّة المطهرة، ثُمَّ هي ثلاثة أنواع :
١ - نوع يُصرح بتحريم مطلق الخمر.
٢ - نوع يُصرح بتحريم قليل ما أسكر كثيره.
نوع يفيد التحريم بطريق الوعيد كلعن شارب الخمر وتهديده
بالعذاب في الآخرة ونحو ذلك.
ونحن نوردها على هذا الترتيب، لكن لا بطريق الاستيعاب، بل نورد من
كل نوع جملة تكون كافية في المقصود، والله المستعان وعليه التكلان.
۲۳۲
الفقه
النوع الأول
1 - عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال: بعثني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إِنَّ شرابًا يُصنع بأرضنا يقال له: المزرُ مِن الشَّعير، وشراب يقال له: البتعُ من العسل؟ فقال: كلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
٢ - عن عائشة رضى الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن البتع؟ فقال «كل شرابٍ أَسْكَرَ فهو حَرَام». رواه أحمد والبخاري ومسلم. - عن جابر بن عبدالله رضى الله عنهما : أن رجلا قدم من جيشان - وجيشان من اليمن - فسأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أومسكر هو ؟ قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كل مسكر حرام، إنَّ على الله عَهْدًا لمن يشرب المُسْكِرَ أن يسقيه من طيئَةِ الخَبَالِ». قالوا: وما طينةُ الخبال يا رسول الله؟ قال: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أو «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ». رواه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم.
٤ - عن ابن عمر رضی الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَن شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنيا فَاتَ
وهو يُدْمِنُها لم يَتُبْ؛ لم يَشْرَبُها في الآخِرَةِ». رواه مسلم وأبو داود.
وفي رواية لمسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ حَرَامٌ».
قلت: هذا يفيد أنَّ مُدمِنَ الخَمْرِ لا يدخل الجنَّة؛ لأن الله تعالى قال في حق أهل الجنَّةَ : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَرٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ اسِنٍ وَأَنْهَرٌ مِّن لَّبَنِ لَّمْ يَنْغَيَّرٌ
۲۳۲
الفقه
النوع الأول
1 - عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال: بعثني النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إِنَّ شرابًا يُصنع بأرضنا يقال له: المزرُ مِن الشَّعير، وشراب يقال له: البتعُ من العسل؟ فقال: كلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
٢ - عن عائشة رضى الله عنها قالت: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن البتع؟ فقال «كل شرابٍ أَسْكَرَ فهو حَرَام». رواه أحمد والبخاري ومسلم. - عن جابر بن عبدالله رضى الله عنهما : أن رجلا قدم من جيشان - وجيشان من اليمن - فسأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أومسكر هو ؟ قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كل مسكر حرام، إنَّ على الله عَهْدًا لمن يشرب المُسْكِرَ أن يسقيه من طيئَةِ الخَبَالِ». قالوا: وما طينةُ الخبال يا رسول الله؟ قال: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أو «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ». رواه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم.
٤ - عن ابن عمر رضی الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَن شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنيا فَاتَ
وهو يُدْمِنُها لم يَتُبْ؛ لم يَشْرَبُها في الآخِرَةِ». رواه مسلم وأبو داود.
وفي رواية لمسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ حَرَامٌ».
قلت: هذا يفيد أنَّ مُدمِنَ الخَمْرِ لا يدخل الجنَّة؛ لأن الله تعالى قال في حق أهل الجنَّةَ : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَرٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ اسِنٍ وَأَنْهَرٌ مِّن لَّبَنِ لَّمْ يَنْغَيَّرٌ
واضح البرهان
۲۳۳
طَعْمُهُ وَأَنْهَرُ مِنْ خَيْرِ لَذَّةٍ لِلشَّرِينَ وَأَنْهَرُ مَن عَسَلٍ تُصفى [محمد: ١٥]، فلو كان مُؤْمِنُ الخمر من أهل الجنة لشرب من خمرها؛ لأن من دخل الجنَّة لا يحرم شيئًا من نعيمها أصلا؛ لأنه لا عقاب فيها ولا حرمان.
ه - عن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي. ٦ - عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «كُلُّ مُحَمَّرٍ خَرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام». رواه أبو داود بإسناد صحيح. عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام». رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ على كُلِّ مُؤْمِنٍ». رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. - عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنه: أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه أبو داود.
ورواه أحمد ولفظه: «إِنَّ الله تعالى حَرَّمَ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ، والكُوبَةَ، والغُبيراء». الكوبة بضم الكاف، قيل: النّرد، وقيل: الطبل الصغير، والغبيراء بالتصغير : شراب من الذرة، يعمله الحبشة. ولهذا الحديث، أعني كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام»، طرق: عن عمرو، وزيد بن ثابت، وخوات بن جبير، وقيس بن سعد، وقرة بن إياس، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وميمونة أم المؤمنين، والأشج العصري، وغيرهم.
واضح البرهان
۲۳۳
طَعْمُهُ وَأَنْهَرُ مِنْ خَيْرِ لَذَّةٍ لِلشَّرِينَ وَأَنْهَرُ مَن عَسَلٍ تُصفى [محمد: ١٥]، فلو كان مُؤْمِنُ الخمر من أهل الجنة لشرب من خمرها؛ لأن من دخل الجنَّة لا يحرم شيئًا من نعيمها أصلا؛ لأنه لا عقاب فيها ولا حرمان.
ه - عن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي. ٦ - عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «كُلُّ مُحَمَّرٍ خَرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام». رواه أبو داود بإسناد صحيح. عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام». رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ على كُلِّ مُؤْمِنٍ». رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. - عن عبدالله بن عمرو رضى الله عنه: أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رواه أبو داود.
ورواه أحمد ولفظه: «إِنَّ الله تعالى حَرَّمَ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ، والكُوبَةَ، والغُبيراء». الكوبة بضم الكاف، قيل: النّرد، وقيل: الطبل الصغير، والغبيراء بالتصغير : شراب من الذرة، يعمله الحبشة. ولهذا الحديث، أعني كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام»، طرق: عن عمرو، وزيد بن ثابت، وخوات بن جبير، وقيس بن سعد، وقرة بن إياس، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وميمونة أم المؤمنين، والأشج العصري، وغيرهم.
٢٣٤
الفقه
١٠- عن عبدالرحمن بن وَعْلَةَ قال: سألت ابن عباس عما يُعصر من العنب ؟ فقال ابن عباس: إنَّ رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم راوية خمر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هل عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّم شُربها؟» قال: لا، قال: فسار إنسانًا.
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «بمَ سَارَرْتَهُ؟» قال: أمرته ببيعها، فقال: «إنَّ الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّم بَيْعَها». قال: ففتح المزادَةَ حتى ذهب ما فيها، رواه مسلم في "صحيحه".
١١ - عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول: «إِنَّ اللهَ ورسوله حَرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»(۱).
فقيل: يا رسول الله، أرأيتَ شُحُومَ الميتة، فإنه يُطلى بها السُّفن، ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا ، هو حرام». ثُمَّ قال: «قاتل الله اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوه (۲) فباعُوهُ وأَكَلُوا ثَمَنَهُ». راوه البخاري ومسلم. ١٢ - عن نافع بن كَيْسان: أنَّ أباه أخبره: أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، وأنه أقبل من الشام ومعه زقاق خمر يريد بها التجارة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إني
(۱) فالصائغ الذي يعمل الصلبان ويبيعها يرتكب كبيرة، وكسبه من بيعها خبيث مثل بيع الخمر أو الخنزير، بل أشد؛ لأن الصليب يسجد له الكفار. (٢) أي: أذابوه يعنى المذكور من الشحوم ليزعموا أنهم ما باعوا شحما، وهذا من تحايلاتهم لعنهم الله، ويشبههم في هذا مَن يُسمِّي الخمر بغير اسمها؛ ليتوصل إلى شربها.
٢٣٤
الفقه
١٠- عن عبدالرحمن بن وَعْلَةَ قال: سألت ابن عباس عما يُعصر من العنب ؟ فقال ابن عباس: إنَّ رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم راوية خمر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هل عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّم شُربها؟» قال: لا، قال: فسار إنسانًا.
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «بمَ سَارَرْتَهُ؟» قال: أمرته ببيعها، فقال: «إنَّ الذي حَرَّمَ شُرْبَها حَرَّم بَيْعَها». قال: ففتح المزادَةَ حتى ذهب ما فيها، رواه مسلم في "صحيحه".
١١ - عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول: «إِنَّ اللهَ ورسوله حَرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»(۱).
فقيل: يا رسول الله، أرأيتَ شُحُومَ الميتة، فإنه يُطلى بها السُّفن، ويُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: «لا ، هو حرام». ثُمَّ قال: «قاتل الله اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوه (۲) فباعُوهُ وأَكَلُوا ثَمَنَهُ». راوه البخاري ومسلم. ١٢ - عن نافع بن كَيْسان: أنَّ أباه أخبره: أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، وأنه أقبل من الشام ومعه زقاق خمر يريد بها التجارة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إني
(۱) فالصائغ الذي يعمل الصلبان ويبيعها يرتكب كبيرة، وكسبه من بيعها خبيث مثل بيع الخمر أو الخنزير، بل أشد؛ لأن الصليب يسجد له الكفار. (٢) أي: أذابوه يعنى المذكور من الشحوم ليزعموا أنهم ما باعوا شحما، وهذا من تحايلاتهم لعنهم الله، ويشبههم في هذا مَن يُسمِّي الخمر بغير اسمها؛ ليتوصل إلى شربها.
واضح البرهان
۲۳۵
أتيتك بشرابٍ جَيَّدِ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوه
فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا كَيْسانُ، إِنَّهَا قد حُرِّمَتْ بَعْدَكَ». قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ قال: «إنَّها حُرِّمَتْ ، وحُرِّمَ ثَمَنْها». فانطلق كَيْسان إلى الزقاق، فأخذ أرجلها فهراقها. رواه الإمام أحمد في "المسند".
النوع الثاني
- أ 1 - عن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره. رواه النسائي، وصححه ابن حِبَّان. قال النسائي : «في هذا الحديث دليل على تحريم الشكر قليله وكثيره» . اهـ
قلت: لأن النهي يدل على التحريم شرعا (۱).
- عن عائشة رضى الله عنها: أنها سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وما أَسْكَرَ الفَرَقُ مِنه فَمِلْءُ الكَفِّ مِنه حَرَامٌ». وفي رواية: «فالحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ». رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه ابن حِبَّان. الفرق بفتح الفاء والراء-: مكيال يسع ستة عشر رَطّلا. - عن عمرو بن العاص : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما
(۱) شرعًا، والأدلة على ذلك كثيرةٌ، مبسوطةٌ في كتب الحديث والأصول، منها: أنَّ الله تعالى قال عن آدم لما خالف النهى بأكله من الشجرة : وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ، فَعَوَى ثم اجنبهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: ۱۲۱ - ۱۲۲].
ومنها: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: إذا أَمَرْتُكُم بِشيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وإذا
نهيتكم عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوه». حديث صحيح وهو في "الأربعين النووية".
واضح البرهان
۲۳۵
أتيتك بشرابٍ جَيَّدِ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوه
فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا كَيْسانُ، إِنَّهَا قد حُرِّمَتْ بَعْدَكَ». قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ قال: «إنَّها حُرِّمَتْ ، وحُرِّمَ ثَمَنْها». فانطلق كَيْسان إلى الزقاق، فأخذ أرجلها فهراقها. رواه الإمام أحمد في "المسند".
النوع الثاني
- أ 1 - عن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره. رواه النسائي، وصححه ابن حِبَّان. قال النسائي : «في هذا الحديث دليل على تحريم الشكر قليله وكثيره» . اهـ
قلت: لأن النهي يدل على التحريم شرعا (۱).
- عن عائشة رضى الله عنها: أنها سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وما أَسْكَرَ الفَرَقُ مِنه فَمِلْءُ الكَفِّ مِنه حَرَامٌ». وفي رواية: «فالحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ». رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه ابن حِبَّان. الفرق بفتح الفاء والراء-: مكيال يسع ستة عشر رَطّلا. - عن عمرو بن العاص : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما
(۱) شرعًا، والأدلة على ذلك كثيرةٌ، مبسوطةٌ في كتب الحديث والأصول، منها: أنَّ الله تعالى قال عن آدم لما خالف النهى بأكله من الشجرة : وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ، فَعَوَى ثم اجنبهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه: ۱۲۱ - ۱۲۲].
ومنها: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: إذا أَمَرْتُكُم بِشيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وإذا
نهيتكم عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوه». حديث صحيح وهو في "الأربعين النووية".
٢٣٦
الفقه
أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه عبد الرزاق والنسائي وابن ماجه. ٤- عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَام». رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وصححه ابن حِبَّان.
ه - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" والطبراني في معجمه الكبير" و"الأوسط".
٦- عن خوات بن جبير رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه الطبراني في معجميه "الكبير"
و"الأوسط"، والدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك". عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه الطبراني في معجميه
و"الأوسط".
-A
وه و
"الكبير"
عن المختار بن فُلْفُل قال: سألتُ أنس بن مالك عن الشُّرْبِ في
11
الأوعية، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن المزفتة، وقال: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، قال: قلتُ: وما المُرَفَّتَه؟ قال: الْمُقَيَّرَةُ. قال: قلتُ: فالرَّصَاصُ والقَارُورَةُ ؟ قال : ما بَأْسُ بِهِمَا، قال: قلتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَهما، قال: دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ؛ فإنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قال: قلتُ له: صَدَقْتَ السُّكْرُ حَرَامٌ، فالشَّرْبَةُ والشَّرْبَتان على طعامنا؟ قال: المُسْكِرُ قَلِيلُهُ وكَثِيرُه حَرَامٌ. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
٢٣٦
الفقه
أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه عبد الرزاق والنسائي وابن ماجه. ٤- عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَام». رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وصححه ابن حِبَّان.
ه - عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" والطبراني في معجمه الكبير" و"الأوسط".
٦- عن خوات بن جبير رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه الطبراني في معجميه "الكبير"
و"الأوسط"، والدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك". عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». رواه الطبراني في معجميه
و"الأوسط".
-A
وه و
"الكبير"
عن المختار بن فُلْفُل قال: سألتُ أنس بن مالك عن الشُّرْبِ في
11
الأوعية، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن المزفتة، وقال: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، قال: قلتُ: وما المُرَفَّتَه؟ قال: الْمُقَيَّرَةُ. قال: قلتُ: فالرَّصَاصُ والقَارُورَةُ ؟ قال : ما بَأْسُ بِهِمَا، قال: قلتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَهما، قال: دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ؛ فإنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. قال: قلتُ له: صَدَقْتَ السُّكْرُ حَرَامٌ، فالشَّرْبَةُ والشَّرْبَتان على طعامنا؟ قال: المُسْكِرُ قَلِيلُهُ وكَثِيرُه حَرَامٌ. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
واضح البرهان
النوع الثالث
۲۳۷
١ - عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَها، ومُعْتَصِرَهَا، وشاربها، والمَحْمُولَةَ ،إليه، وبائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا، وساقيها، ومُسْقَاهَا». رواه أحمد بإسناد صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: «معتصرها» أي طالب عصرها، ومن هنا صرح العلماء بحرمة بيع
العنب لمن يعلم أنه يعصره خمرا؛ لأنه يدخل في اللعن.
٢ - عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومُعتصرها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحْمُولَةً إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها والمُشتَرِي لها، والمشترى له» (۱). رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات.
- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن زَنَى، أو شَرِبَ الخَمْرَ ، نَزَعَ اللهُ منه الإيمان كما يَخْلَعُ الإِنسانُ
القَمِيصَ مِن رَأْسِهِ». رواه الحاكم بإسناد صحيح.
- عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله
(۱) ولو لم يشربها، كأن اشتراها ليسقيها لضيوفه كما يحصل عادة في الأفراح فهو ملعون مع الشاربين، وكلُّ من ساعد على معصية يكون شريكا في إثمها وإن لم يفعلها، كمن يُقدم الأكل أو الماء الفطر في نهار رمضان بغير عذر، فهو مثله في الإثم، وإن ظل صائما، وهذا ما لا خلاف فيه.
واضح البرهان
النوع الثالث
۲۳۷
١ - عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد، إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ، وَعَاصِرَها، ومُعْتَصِرَهَا، وشاربها، والمَحْمُولَةَ ،إليه، وبائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا، وساقيها، ومُسْقَاهَا». رواه أحمد بإسناد صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم. قوله: «معتصرها» أي طالب عصرها، ومن هنا صرح العلماء بحرمة بيع
العنب لمن يعلم أنه يعصره خمرا؛ لأنه يدخل في اللعن.
٢ - عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومُعتصرها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحْمُولَةً إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها والمُشتَرِي لها، والمشترى له» (۱). رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات.
- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن زَنَى، أو شَرِبَ الخَمْرَ ، نَزَعَ اللهُ منه الإيمان كما يَخْلَعُ الإِنسانُ
القَمِيصَ مِن رَأْسِهِ». رواه الحاكم بإسناد صحيح.
- عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله
(۱) ولو لم يشربها، كأن اشتراها ليسقيها لضيوفه كما يحصل عادة في الأفراح فهو ملعون مع الشاربين، وكلُّ من ساعد على معصية يكون شريكا في إثمها وإن لم يفعلها، كمن يُقدم الأكل أو الماء الفطر في نهار رمضان بغير عذر، فهو مثله في الإثم، وإن ظل صائما، وهذا ما لا خلاف فيه.
۲۳۸
الفقه
وسلم قال: « ثلاثةٌ لا يَدْخُلُونَ الجنَّةَ : مُؤْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بالسِّحْرِ، ومَن مَاتَ مُدْمِنًا لِلخَمْرِ سَقَاهُ الله جلَّ وعَلَا مِن نَهْرِ الْغُوطَةِ» قيل: وما نَهْرُ الغُوطَةِ؟ قال: «نَهْرٌ يَجْرِي مِن فُرُوحِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ ». رواه أحمد، وأبو يعلى، وصححه ابن حبان والحاكم.
قلت: هذا جزاء شارب الخمر المدمن، أمَّا الشارب غير المدمن فجزاؤه كما
تقدم في حديث صحيح أيضًا: «أن يُسْقَى مِن طِيئَةِ الخَبَالِ»، وهي عُصارة أهل
النَّارِ، نسأل الله العافية.
ثُمَّ ما هو الإدمان؟
عن عبدالله بن أبي أوفى قال: مَن مَاتَ مُدِّمِن خمرٍ . مات كعابد اللات
(),
والعُزَّى، قيل: مدمن الخمر هو الذي لا يَسْتَفِيق من شربها؟ قال: لا، ولكن هو الذي يشربها إذا وجدها ولو بعد سنين ه - عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنَّ أبا بكر وعمر وناسا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو : أسأله؟ فأخبرني أنَّ أعظم الكبائر شرب
الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأكثروا ذلك ووثبوا إليه شِيَعًا، حتى أتوه في داره. فأخبرهم: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ مَلِكًا مِن مُلُوكِ بني إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بين أنْ يَشْرَبَ الخَمْرَ أَو يَقْتُلَ نَفْسًا أَو يَزْنِيَ أو يَأْكُلَ لحمَ الْخِنْزِيرِ أو يَقْتُلُوهُ إِنْ أَبَى فاختار أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَأَنَّهُ لَا شَرِبَهَا لم
(۱) أي: هو الذي لا يكون عنده عزم على تركها .
۲۳۸
الفقه
وسلم قال: « ثلاثةٌ لا يَدْخُلُونَ الجنَّةَ : مُؤْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بالسِّحْرِ، ومَن مَاتَ مُدْمِنًا لِلخَمْرِ سَقَاهُ الله جلَّ وعَلَا مِن نَهْرِ الْغُوطَةِ» قيل: وما نَهْرُ الغُوطَةِ؟ قال: «نَهْرٌ يَجْرِي مِن فُرُوحِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ ». رواه أحمد، وأبو يعلى، وصححه ابن حبان والحاكم.
قلت: هذا جزاء شارب الخمر المدمن، أمَّا الشارب غير المدمن فجزاؤه كما
تقدم في حديث صحيح أيضًا: «أن يُسْقَى مِن طِيئَةِ الخَبَالِ»، وهي عُصارة أهل
النَّارِ، نسأل الله العافية.
ثُمَّ ما هو الإدمان؟
عن عبدالله بن أبي أوفى قال: مَن مَاتَ مُدِّمِن خمرٍ . مات كعابد اللات
(),
والعُزَّى، قيل: مدمن الخمر هو الذي لا يَسْتَفِيق من شربها؟ قال: لا، ولكن هو الذي يشربها إذا وجدها ولو بعد سنين ه - عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنَّ أبا بكر وعمر وناسا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو : أسأله؟ فأخبرني أنَّ أعظم الكبائر شرب
الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأكثروا ذلك ووثبوا إليه شِيَعًا، حتى أتوه في داره. فأخبرهم: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ مَلِكًا مِن مُلُوكِ بني إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بين أنْ يَشْرَبَ الخَمْرَ أَو يَقْتُلَ نَفْسًا أَو يَزْنِيَ أو يَأْكُلَ لحمَ الْخِنْزِيرِ أو يَقْتُلُوهُ إِنْ أَبَى فاختار أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ وَأَنَّهُ لَا شَرِبَهَا لم
(۱) أي: هو الذي لا يكون عنده عزم على تركها .
واضح البرهان
۲۳۹
يَمْتَنِعُ مِن شيءٍ أرادُوهُ مِنْهُ» وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا مُجيبا: «ما من أحدٍ يَشْرَبُهَا فَيَقْبَلَ الله له صَلَاةً أربعين ليلةٌ ولا يَمُوتُ وفِي مَثَانَتِهِ منها شيء إلَّا حُرِّمَتْ عليه بها الجنَّةُ، فإنْ مَاتَ فِي أربعين ليلةٌ مَاتَ مَيْتَةٌ جاهلية». رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" بإسناد صحيح، وصححه
الحاكم على شرط مسلم. قوله : وأَنَّهُ لا شَرِبَهَا لم يَمْتَنِعُ مِن شيءٍ أرادُوهُ مِنْهُ؛ لأنه فقد عقله الذي يُميز به بين الضارّ والنافع، وبين الحلال والحرام، ومن هنا كانت الخمر أعظم الكبائر كما في هذا الحديث.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن عبدالله بن عمرو بن العاص أيضًا قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الخمر، فقال: «هي أَكْبَرُ الكبائر، وأُمُّ الفَوَاحِشِ ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ تَرَكَ الصَّلاةَ، وَوَقَعَ على أُمِّه وخَالَتِهِ
وعَمَّتِهِ».
وإنما أرسل الصحابة إلى عبد الله بن عمرو يسألونه؛ لأنه كان يكتب الأحاديث التي يسمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم (۱).
(۱) بإذن منه صلى الله عليه وآله وسلَّم في الكتابة، ففي صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحد أكثر حديثًا مِنِّي إِلَّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب، وفي "المسند" وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: «ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي
ولا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتابة عنه فأذن له».
واضح البرهان
۲۳۹
يَمْتَنِعُ مِن شيءٍ أرادُوهُ مِنْهُ» وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا مُجيبا: «ما من أحدٍ يَشْرَبُهَا فَيَقْبَلَ الله له صَلَاةً أربعين ليلةٌ ولا يَمُوتُ وفِي مَثَانَتِهِ منها شيء إلَّا حُرِّمَتْ عليه بها الجنَّةُ، فإنْ مَاتَ فِي أربعين ليلةٌ مَاتَ مَيْتَةٌ جاهلية». رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" بإسناد صحيح، وصححه
الحاكم على شرط مسلم. قوله : وأَنَّهُ لا شَرِبَهَا لم يَمْتَنِعُ مِن شيءٍ أرادُوهُ مِنْهُ؛ لأنه فقد عقله الذي يُميز به بين الضارّ والنافع، وبين الحلال والحرام، ومن هنا كانت الخمر أعظم الكبائر كما في هذا الحديث.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن عبدالله بن عمرو بن العاص أيضًا قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الخمر، فقال: «هي أَكْبَرُ الكبائر، وأُمُّ الفَوَاحِشِ ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ تَرَكَ الصَّلاةَ، وَوَقَعَ على أُمِّه وخَالَتِهِ
وعَمَّتِهِ».
وإنما أرسل الصحابة إلى عبد الله بن عمرو يسألونه؛ لأنه كان يكتب الأحاديث التي يسمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم (۱).
(۱) بإذن منه صلى الله عليه وآله وسلَّم في الكتابة، ففي صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحد أكثر حديثًا مِنِّي إِلَّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب، وفي "المسند" وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: «ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي
ولا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتابة عنه فأذن له».
٢٤٠
الفقه
ويؤخذ من هذا: أنَّ كبار الصحابة قد تخفى عليهم أحاديث وتوجد عند صغارهم، وقد خفيت على أبي بكر وعمر رضى الله عنهما سُنَنٌ وُجدت عند المغيرة وأبي سعيد وغيرهما من صغار الصحابة.
٦- عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يَقْعُدَنَّ على مَائِدَةٍ يُدَارُ عليها الخَمْرُ ومَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يَدْخُلِ الحَمَّامَ إِلَّا بِإِزارِ، وَمَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يُدْخِلْ حَلِيلَتُهُ الحمام». رواه أحمد في "المسند".
وروى الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس مثله مع تغيير في الترتيب وزاد: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يَشْرَبِ الخَمْرَ، وَمَن كان
يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ ليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَحْرَم».
وفي "المسند" و"سنن أبي داود وصحيح "الحاكم عن عبد الله ابن عمرو قال: كنت أكتب كلّ شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأوما بأصبعه إلى لسانه، فقال: «اكتب فوالذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ». صححه الحاكم، وسلَّمه الذهبي، وله طُرُقٌ منها ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب: أنَّ شعيبا حدثه ومجاهدًا: أنَّ عبد الله بن عمرو حدثهم: أنه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم». قلت: عند الغضب والرضا؟ قال: «نعم، إنه لا يَنْبَغِي لي أن أقولَ إِلَّا حَقًّا».
٢٤٠
الفقه
ويؤخذ من هذا: أنَّ كبار الصحابة قد تخفى عليهم أحاديث وتوجد عند صغارهم، وقد خفيت على أبي بكر وعمر رضى الله عنهما سُنَنٌ وُجدت عند المغيرة وأبي سعيد وغيرهما من صغار الصحابة.
٦- عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يَقْعُدَنَّ على مَائِدَةٍ يُدَارُ عليها الخَمْرُ ومَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يَدْخُلِ الحَمَّامَ إِلَّا بِإِزارِ، وَمَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يُدْخِلْ حَلِيلَتُهُ الحمام». رواه أحمد في "المسند".
وروى الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس مثله مع تغيير في الترتيب وزاد: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يَشْرَبِ الخَمْرَ، وَمَن كان
يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فَلا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ ليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا تَحْرَم».
وفي "المسند" و"سنن أبي داود وصحيح "الحاكم عن عبد الله ابن عمرو قال: كنت أكتب كلّ شيءٍ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأوما بأصبعه إلى لسانه، فقال: «اكتب فوالذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ». صححه الحاكم، وسلَّمه الذهبي، وله طُرُقٌ منها ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن عمرو بن شعيب: أنَّ شعيبا حدثه ومجاهدًا: أنَّ عبد الله بن عمرو حدثهم: أنه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: «نعم». قلت: عند الغضب والرضا؟ قال: «نعم، إنه لا يَنْبَغِي لي أن أقولَ إِلَّا حَقًّا».
واضح البرهان
٢٤١
عن عثمان بن . عفان رضی الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الخَبَائِثِ، فَإِنَّه كان رَجُلٌ من قبلَكُمْ يَتَعَبَّدُ ويَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتُهُ امْرَأَةٌ) أَرْسَلَتْ إِليه خادِمًا، فقالت: إِنَّا نَدْعُوكَ لشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ فَطَفِقَتْ كلَّما يَدْخُلُ بابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إلى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ جَالِسَةٍ، وعندها غُلامٌ وبَاطِيَةٌ فيها خَمْرٌ ، فقالت: إنا لم نَدْعُكَ لشَهَادَةٍ، ولكن دَعَوْتُكَ لتَقْتُلَ هذا الغُلامَ أو تَقَعَ عَلَيَّ، أو تَشْرَبَ كَأْسًا مِن هَذَا الْخَمْرِ، فَإِن أَبَيْتَ صِحْتُ بِكَ وفَضَحْتُكَ» قال: «فلما رَأَى أَنَّه لا بُدَّ له مِن ذلك، قال: اسْقِينِي كَأْسًا مِن هذا الخَمْرِ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا مِن الخَمْرِ ، فقال : زِيدِيني، فلم يزل حتَّى وَقَعَ عليها، وقَتَلَ النَّفْسَ ، فَاجْتَنِبُوا الخَمْرَ فإنَّه والله لا يجتمعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أبدًا، لَيُوشِكَنَّ أحدُهُما يُخْرِجُ صَاحِبَهُ». رواه ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي الدنيا في كتاب ذم المسكر" ، ورواه البيهقي في "السنن" مرفوعًا وموقوفا، وذكر أنه المحفوظ . قلت : الموقوف هنا له حكم المرفوع. ۹ - عن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة قد حَرَّمَ الله تبارك وتعالى عليهم الجنَّةَ: مُؤْمِنُ الخَمْرِ، والعاقُ والدَّيُّوثُ الذي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الخَبَثَ». رواه أحمد والنسائي والبزار،
(۲)
وصححه الحاكم (٢).
(۱) أي: عَشِقَتُهُ. (۲) وروى الطبراني بإسنادٍ رواته ،ثقات، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ مُدْمِنُ خَيْرٍ، ولا عَاقٌ، ولا مَنَّانٌ». قال ابن عباس: فشَقَ ذلك عليَّ؛ لأن المؤمنين يُصيبون ذنوبا، حتَّى وجدت ذلك في كتاب الله عزّ وجلَّ: في
واضح البرهان
٢٤١
عن عثمان بن . عفان رضی الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الخَبَائِثِ، فَإِنَّه كان رَجُلٌ من قبلَكُمْ يَتَعَبَّدُ ويَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتُهُ امْرَأَةٌ) أَرْسَلَتْ إِليه خادِمًا، فقالت: إِنَّا نَدْعُوكَ لشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ فَطَفِقَتْ كلَّما يَدْخُلُ بابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إلى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ جَالِسَةٍ، وعندها غُلامٌ وبَاطِيَةٌ فيها خَمْرٌ ، فقالت: إنا لم نَدْعُكَ لشَهَادَةٍ، ولكن دَعَوْتُكَ لتَقْتُلَ هذا الغُلامَ أو تَقَعَ عَلَيَّ، أو تَشْرَبَ كَأْسًا مِن هَذَا الْخَمْرِ، فَإِن أَبَيْتَ صِحْتُ بِكَ وفَضَحْتُكَ» قال: «فلما رَأَى أَنَّه لا بُدَّ له مِن ذلك، قال: اسْقِينِي كَأْسًا مِن هذا الخَمْرِ، فَسَقَتْهُ كَأْسًا مِن الخَمْرِ ، فقال : زِيدِيني، فلم يزل حتَّى وَقَعَ عليها، وقَتَلَ النَّفْسَ ، فَاجْتَنِبُوا الخَمْرَ فإنَّه والله لا يجتمعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أبدًا، لَيُوشِكَنَّ أحدُهُما يُخْرِجُ صَاحِبَهُ». رواه ابن حبان في "صحيحه"، وابن أبي الدنيا في كتاب ذم المسكر" ، ورواه البيهقي في "السنن" مرفوعًا وموقوفا، وذكر أنه المحفوظ . قلت : الموقوف هنا له حكم المرفوع. ۹ - عن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة قد حَرَّمَ الله تبارك وتعالى عليهم الجنَّةَ: مُؤْمِنُ الخَمْرِ، والعاقُ والدَّيُّوثُ الذي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الخَبَثَ». رواه أحمد والنسائي والبزار،
(۲)
وصححه الحاكم (٢).
(۱) أي: عَشِقَتُهُ. (۲) وروى الطبراني بإسنادٍ رواته ،ثقات، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ مُدْمِنُ خَيْرٍ، ولا عَاقٌ، ولا مَنَّانٌ». قال ابن عباس: فشَقَ ذلك عليَّ؛ لأن المؤمنين يُصيبون ذنوبا، حتَّى وجدت ذلك في كتاب الله عزّ وجلَّ: في
٢٤٢
الفقه
۹ - عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «اجْتَنِبُوا الخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَر». رواه الحاكم وصححه. ١٠ - عن أسماء بنت يزيد رضى الله عنهما : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول : مَن شَرِبَ الخَمْرَ لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلةٌ، فإنْ مات ماتَ كَافِرًا، وإن تَابَ تَابَ اللهُ عليه، فإن عَادَ كَان حَقًّا على اللَّهُ أَن يَسْقِيَهُ من طيئَةِ الخَبَالِ». قيل: يا رسول الله وما طيئَةُ الخبال؟ قال: «صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ». رواه أحمد بسند حسن، ورواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد حسن أيضًا.
فهذه بضعة وثلاثون حديثاً، هي بعض من ا الأحاديث الكثيرة المصرحة
بتحريم الخمر والمتوعدة على شربها باللعنة والعذاب وغضب الله تعالى. قال بعض العلماء: نهى الله عزّ وجلَّ عن الخمر، بقوله تعالى : إِنَّمَا الخمر والميسر إلى قوله : فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ .
وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الخَبَائِثِ - يعني الخمر - فمن لم يجتنبها فقد عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ واسْتَحَقَّ العذاب بذلك». قال تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهين } [النساء: ١٤].
العاق: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ الآية [محمد: ٢٢] وفي المنان: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَتِكُم بِالْمَن وَالْأَذَى الآية [البقرة: ٢٦٤]، وفي الخمر:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَرْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ ﴾ الآية [المائدة: ٩٠].
٢٤٢
الفقه
۹ - عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم: «اجْتَنِبُوا الخَمْرَ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَر». رواه الحاكم وصححه. ١٠ - عن أسماء بنت يزيد رضى الله عنهما : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول : مَن شَرِبَ الخَمْرَ لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلةٌ، فإنْ مات ماتَ كَافِرًا، وإن تَابَ تَابَ اللهُ عليه، فإن عَادَ كَان حَقًّا على اللَّهُ أَن يَسْقِيَهُ من طيئَةِ الخَبَالِ». قيل: يا رسول الله وما طيئَةُ الخبال؟ قال: «صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ». رواه أحمد بسند حسن، ورواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد حسن أيضًا.
فهذه بضعة وثلاثون حديثاً، هي بعض من ا الأحاديث الكثيرة المصرحة
بتحريم الخمر والمتوعدة على شربها باللعنة والعذاب وغضب الله تعالى. قال بعض العلماء: نهى الله عزّ وجلَّ عن الخمر، بقوله تعالى : إِنَّمَا الخمر والميسر إلى قوله : فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ .
وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الخَبَائِثِ - يعني الخمر - فمن لم يجتنبها فقد عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ واسْتَحَقَّ العذاب بذلك». قال تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهين } [النساء: ١٤].
العاق: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ الآية [محمد: ٢٢] وفي المنان: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَتِكُم بِالْمَن وَالْأَذَى الآية [البقرة: ٢٦٤]، وفي الخمر:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَرْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ ﴾ الآية [المائدة: ٩٠].
واضح البرهان
٢٤٣
جلد شارب الخمر
والخمر إلى جانب ما تقدَّم إحدى الكبائر التي أوجب الشارع فيها الحد،
كالزنا والقتل والسرقة.
وإليك بعض الأحاديث في حَدٌ شارب الخمر :
۱ - عن أنس رضى الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُتي برجل
قد شرب الخمر، فجَلَدَهُ بجَرِيدَتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار النَّاسَ، فقال عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانين (۱)، فأمر به عمر». رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
٢- عن عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعيمان - أو ابن النعيمان - شاربا، فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من كان في البيت أن يضربوه، فكنت
فيمن ضربه، فضربناه بالنعال والجريد . رواه أحمد والبخاري.
عن السائب بن يزيد قال: كنا نؤتَى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وفي إمْرَةِ أبي بكر، وصَدْرًا مِن إِمْرَة عمر، فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمرة عمر فجلد فيها
أربعين، حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين. رواه أحمد والبخاري أيضًا. ٤ - عن أبي هريرة قال أُتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم برجل قد شرب، فقال: «اضْرِبُوه». قال أبو هريرة فمنَّا الضارب بيده، ومنا الضارب
(۱) هكذا جاءت الرواية: «وحقها ثمانون ، ولكن تخرج على حذف الخبر، وتقديره: جلد ثمانين، حذف المضاف وبقي المضاف إليه على جره.
٢٤٤
الفقه
بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: «لا
تقولوا هكذا ، لا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ». رواه أحمد والبخاري وأبو داود. قلت: إنما نهى صلى الله عليه وآله وسلَّم عن الدعاء بالخزي على الشارب؛ لأن ذلك كان بعد إقامة الحد عليه وتطهيره به والواجب أن يدعى للمحدود، بعد إقامة الحد بالتوبة ونحوها.
كما ثبت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أمر سارقا بعد قطع يده -
بالتوبة، فلما تاب، قال له: «تَابَ الله عليك».
بل ثبت عند أبي داود - في الحديث المذكور - بعد قوله: «لا تُعِينُوا عليه الشيطان». قوله عليه الصلاة والسلام ولكن قولوا اللهمَّ اغْفِرْ له اللهم
از حمه».
-0
ه عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أنَّ رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه عبدالله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجُلِد.
قال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَلْعَنُوا، فوالله ما عَلِمْتُ، إِنَّه يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (۱). رواه البخاري.
(۱) ما علمت ما : مصدرية، والمعنى: والله :علمي إنه يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، والحديث يفيد: أن المعصية لا تنفي عن المؤمن حُبَّه الله ولرسوله؛ لأنها تحصل في فترة غفلات
نفسانية.
واضح البرهان
٢٤٥
هذا ما انتقيناه من الأحاديث الكثيرة في حَدٌ شارب الخمر، وقد انعقد الإجماع على ذلك، حكاه القاضي عياض، وتقيُّ الدين ابن دقيق العيد، ومحيي
الدين النووي، والحافظ ابن حجر، وغيرهم.
وإنما اختلفوا في تعيين عدد الجلد. فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه إلى أنَّ الشارب يجلد ثمانين جلدة، والقول الآخر للشافعي وهو الصحيح: يجلد أربعين جلدة، وهو قول أحمد وأبي ثور وداود الظاهري، وعن أحمد رواية: بأنه ثمانون.
فإن زعم مبتدع زائغ أَنَّ حَدَّ شارب الخمر لا يوجد في القرآن.
قلنا: وحَدُّ اللُّواط لا يوجد في القرآن مع أنه أفحش من الخمر، ورجم
الزاني المحصن لا يوجد في القرآن مع أنه أفحش من الخمر (۱) أيضًا، وحَدُّ المرتد لا يوجد في القرآن، وهو أقبح من اللُّواط والزنا والخمر؛ لأنه خروج عن الملة والعياذ بالله تعالى، فأخذ المسلمون الحدود الواجبة على هذه المحرمات من سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم اتباعًا لأمر القرآن بذلك، حسبما بيناه في الباب الأول، والله الموفق.
(۱) ذكر الحافظ المنذري وغيره أنَّ الزّنا أعظم إنما عند الله تعالى من الخمر، وإن كانتا كبيرتين، بل ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الزِّنا يلي الكفر، واستدل بحديث أبي مالك الطائي التابعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِن ذَنْبٍ بَعْدَ الشَّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهُ مِن نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحَمٍ لَا تَحِلُّ لَهُ». رواه ابن أبي الدنيا
وغيره .
٢٤٦
الفقه
قتل شارب الخمر بعد جلده ثلاث مرات
1 - عن أبي الرمداء - وهو صحابي اسمه ياسر، نزل مصر - : أنَّ رجلا -: منهم شرب، فأتوا به نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فضربه، ثُمَّ شرب الثانية، فأتوا به النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، قال: فما أدري أفي الثالثة أم الرابعة، أمر به فحمل على العَجَل (۱) فضرب عنقه». رواه الطبراني، والدولابي، وابن منده، والبغوي.
٢ - عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا سَكِرَ ،فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ سَكِرَ ،فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ سَكِرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ».
رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم وله طُرُقُ،
وقال ابن حبان: معناه إذا استحل ولم يقبل التحريم» (٢).
عن معاوية: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال في شارب الخمر: إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا
ووو
عنقة.
رواه عبدالرزاق وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه ابن
حِبَّان، وابن حزم، والذهبي.
٤ - عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضی الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله
(۱) بفتح العين والجيم، جمع عَجَلة بفتحهما أيضًا، وهي: خشب يحمل عليها .
(۲) لأن من استحل الخمر يكون مُرتدا يجب قتله.
واضح البرهان
٢٤٧
عليه وآله وسلَّم قال: «مَن شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ الخَمْرَ
فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ».
قال: فكان عبد الله يقول : ائتوني برجل شرب الخمر ثلاث مراتٍ، فلكم علي أن أضرب عنقه. رواه عبد الرزاق وإسحاق بن راهويه والحاكم والطبراني وغيرهم.
قال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني من طرق، ورجال هذا الطريق رجال
الصحيح". ه - عن شُرَحْبيل بن أوس الكِنْدِي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الخمر: «إنْ شَرِبها فاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ في الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ». رواه أحمد والحاكم والطبراني وابن مَنْدَه "معرفة الصحابة".
قال الحافظ بن حجر في "الفتح": رواته ثقات، وصححه الحاكم من وجه آخر». اهـ وقال الحافظ الهيثمي عن سند أحمد: رجاله رجال الصحيح، غير يزيد
ابن أبي كبشة فوثقه ابن حِبَّان» . اهـ وللحديث طرق عن ابن عمر، وجابر ، وجرير، وأبي سعيد الخدري، وابن
مسعود، وغيرهم.
وبه أخذ عبدالله بن عمرو بن العاص وبعض الظاهرية وابن حزم والجمهور قالوا: إِنَّ القتل منسوخ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُتي برجل قد شَرِبَ أربع مراتٍ فجَلَدَهُ ولم يقتله، فرأوا أنَّ القتل قد رفع، وفي
٢٤٨
الفقه
المسألة كلام ليس هذا موضع بسطه.
وسواء أكان القتل منسوخا أم غير منسوخ فإنَّ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، وتنفيذه بالفعل في الشارب من قوم أبي الرمداء البلوي دليل
على تشديد الشارع في الخمر، واهتمامه بتحريمها تحريما قاطعا باتًا. يؤيد ذلك ويؤكده ما رواه أبو داود في "سننه" عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، فقلت: يا رسول الله إنَّا بأرض باردة، نعالج فيها عملاً شديدًا، وإنا نتَّخِذ شرابًا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يُشكر؟ قلت: نعم، قال: «فاجْتَنِبُوه». قلت: فإنَّ النَّاسَ غير تاركيه، قال: «فإن لم يَتْركُوه فقاتِلُوهم».
وما رواه أحمد وأبو يعلى، والطبراني بإسناد حسنٍ، عن أُمّ المؤمنين أُم حبيبة رضي الله عنها: أنَّ أُناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعلمهم الصَّلاة والسُّنَن والفرائض، ثُمَّ قالوا: يا رسول الله إنَّ لنا شرابا نصنعه من القمح والشعير؟ قالت: قال: «الغبيراء؟» قالوا: نعم، قال: لا تَطْعَمُوه». ثُمَّ ما أرادوا أن ينطلقوا، سألوه عنه، فقال: «الغبيراء؟» قالوا: نعم، قال: «لا تَطْعَمُوه». قالوا: فإنهم لا يدعونه، قال: «مَن لم يَتْرُكْهُ فَاضْرِبُوا
عنقه.
فأنت ترى كيف أوجب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قتل شارب الخمر المصر عليها، المانع في تركها؛ لأنه جُرْثُومة فسادٍ يجب استئصاله؛ لئلا يُعْدِي من يتصل به من أفراد المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف.
واضح البرهان
يجوز التداوي بالخمر
٢٤٩
١ - عن أُمّ سلمة قالت اشتكت ابنة لي، فَنَبَلْتُ لها في تَورِ، وفي رواية: گوز، فدخل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو يغلي فقال: «ما هذا؟» فقلت: إنَّ ابنتي اشتكت فنبذت لها هذا، فقال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ لم يَجْعَل شِفَاءَ كُم فِي حرام». رواه أحمد وأبو يعلى والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح، وصححه ابن حبان.
- عن وائل الحضرمي : أنَّ طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن الخمر، فنهاه، وكَرِه أن يصنعها، فقال: إنها أصنعها للدواء، فقال: «إِنَّهُ ليس بدَوَاء ولكِنَّهُ دَاءُ».
رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه".
عن عبد الله بن عمر: أنَّ نفرًا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلموا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء من أمورهم، فخرجوا حتى إذا كانوا بعقبة منى ذكروا شرابًا لهم، فقالوا: نسينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن شراب لنا ببلادنا، لا يصلح لنا غيره، فرجع رجلٌ منهم، حتى انتهى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إن أصحابي نسوا أن يسألوك عن شراب لهم ببلادهم لا يصلح لهم غيره، وإن أرضنا أرضًا بارِدَةً، وإنَّ أرضنا أرض محمَّة، وإنا قوم نحرث فلا نقوى على أعمالنا إلا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيَسْكِرُ؟» قال: نعم، قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». فرجع إليهم فأخبرهم، فقالوا: إنا لا نراك
٢٥٠
الفقه
أخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بما يدخل علينا من المرفق، قال: فرجعوا بأجمعهم، حتى انتهوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقالوا: يا رسول الله إنَّا نسينا أن نسألك عن شراب لنا ببلادنا لا يصلح لنا غيره، وإن أرضنا باردَةً، وإن أرضنا أرض مَحَمَّةٍ، قال: ما هو ؟». قالوا: المزر، قال: أَيْسْكِرُ؟» قالوا: نعم، قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ (۱) حَرَامٌ، إِنَّ على الله حتما أن لا يشربها أحد في الدنيا إلَّا سَقَاهُ الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة مِن طِينَةِ الخَبَالِ، وهل تَدْرِي ما طِينَةُ الخَبَالِ؟». قال : «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ».
رواه أبو الحسن أحمد بن عبد العزيز بن ترتال في "جزئه" قال: حدثنا الحسين - يعني ابن إسماعيل المحاملي - حدثنا خلاد بن أسلم: أخبرنا النضر بن شميل : أخبرنا عبد الملك بن قدامة : سمعت عبد الله بن دينار يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول: فذكره، وهذا حديث حسن. ـ عن أُم الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله خَلَقَ الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام». رواه الطبراني بإسناد رجاله ثقات. ه - عن أبي وائل قال : اشتكى رجلٌ مِنَّا ، فنَعِتَ له الشكر، فأتينا عبد الله بن مسعود فسألناه، فقال: إنَّ الله لم يجعل شفاءَكُم فيهما حَرَّمَ عليكم. رواه الطبراني
بإسناد صحيح. ٦- عن إبراهيم النخعي قال : قال ابن مسعود: لا تسقوا أولادكم الخمر،
(۱) هذا حديث صريح في نفي ما يزعمه أصحاب الخمر من المنافع، فلا دفء فيها، ولا
دواء ولا نشاط، بل كلها ضرر ، وقد أدرك العلم الحديث هذا أخيرًا وأيده.
واضح البرهان
٢٥١
فإنَّ أولادكم وُلِدُوا على الفِطَّرة، أتسقونهم ما لا يحل لهم؟ إثمهم على من
سقاهم، فإنَّ الله لم يجعل شفاءَكُم فيهما حَرَّم عليكم.
رواه الطبراني بإسناد . أيضًا، ورواه داود بن نصير في "نسخته" صحيح
عند
بإسناد صحيح عن مسروق، عن ابن مسعود، وله طرق صحيحةٌ أخرى . أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما، وعلقه البخاري بصيغة الجزم في «كتاب الأشربة» من "صحيحه" في باب شرب الحلواء والعسل.
فانظر - هداك الله - كيف شدَّد الشارع في الخمر، وحرم تناولها للدواء؛ لأن الإثم وذهاب العقل والإيمان في تعاطيها محقق مقطوع به، وحصول الشفاء بها مظنون، بل موهوم، ولا يجوز لمسلم أن يخاطر بإيمانه وبعقله في سبيل الحصول على شفاء يتوهمه أو يظنُّه، نعم لو خاف على نفسه، أو على عضو منه التلف، وتعيَّنت الخمر للدواء، وجزم بحصول البرء بها جاز التداوي بها حينئذ؛ نظرًا لحالة الاضطرار، وهذا كما لو شرق بلقمة ولم يجد ما يُسيغها به إلا خمرا، جاز إساغة اللقمة بها للضرورة، وهذه حالات نادرة لا تكاد تقع، ومع هذا لو صبر المضطر لرأى من كَرَمِ الله وفضله وفرجه ما يُغنيه عن تعاطي الخمر، أو غيرها من المحرمات.
قال ابن قدامة في كتاب "المغني": "وكذلك المضطر إليها لدفع الغُصَّة بها إذا لم يجد مائعا سواها، فإنَّ الله تعالى قال في آية التحريم: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ
وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: ۱۷۳]، وإن شربها لعطش نظرنا، فإن كانت ممزوجة بما يروي العطش أبيحت لدفعة عند الضرورة، كما تُباح الميتة عند
٢٥٢
الفقه
المَخْمَصَةِ، وكإباحتها لدفع الغُصَّة.
وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة: أنه أسره الروم، فحبسه طاغيتهم
.
في بيت فيه ماءً ممزوج بخمرٍ ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، ثُمَّ أخرجوه حين خشوا موته، قال: والله لقد كان الله
أحله لي لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمّتكم بدين الإسلام.
وإن شربها صِرفًا، أو ممزوجةً بشيءٍ يسير لا يروي من العطش، أو شربها للتداوي، لم يبح له ذلك وعليه الحد» . اهـ
قلت: عبدالله بن حذافة السهمي : صحابي توفّي بمصر ودفن بمقبرتها، وذلك في خلافة عثمان رضى الله عنه، وقصته مع ملك الروم طويلة، حصلت حين وجه عمر رضى الله عنه جيشًا إلى الروم، فيهم عبدالله ابن حذافة، وكان من قصته حين أسر أن قال له ملك الرُّوم: تَنَصَّر، أُشْرِئُكَ فِي مُلْكِي فَأَبَى، فأمر به فصلب وأمر برميه بالسهام، فلم يجزع، فأنزل، وأُمر بقدرٍ فصُبَّ فيها الماء وأغلي عليه وأمر بإلقاء أسير فيها، فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به ،بکی، قال: رُدُّوه، فقال: لم بَكَيْتَ ؟ قال : تمنيت أنَّ لي مائة نفس تلقى هكذا في الله ! فعجب الملك، وقال: قبل رأسي، وأنا أُخلي عنك، فقال: وعن جميع أساري المسلمين ؟ قال نعم، فقبل رأسه فخَلَّى عنهم، فقدم ، بهم على عمر، فقام عمر فقبل رأسه.
وهذه قصة مشهورة رواها البيهقي في "دلائل النبوة"، وابن عساكر في
"التاريخ"، وغيرهما من طرق، وكان عبد الله إلى جانب هذا فيه دعابة. قلت: جديرٌ بمن كان مثل عبدالله بن حذافة في قوة العقيدة، ورسوخ
واضح البرهان
الإيمان أن يمتنع عن الخمر والخنزير، وإن اضطر إليهما اضطرارا.
٢٥٣
عَلَى قَبْرٍ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ وَنَأْتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
فصل
أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : أنَّ ناسا مِن الأُمَّةِ يُسَمُّون الخمر بغير اسمها، وبذلك يستَحِلُّون شُربَها. ونحن نذكر بعض الأحاديث في ذلك،
ثُمَّ نتبعها بتوضيح ما أشارت إليه:
1 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «اليَشْرَبَنَّ أُناسٌ مِن أُمَّتِي الْخَمْرَ، يُسَمُّونَهَا بِغَيرِ اسْمِها».
رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان.
ورواه ابن ماجه ولفظه: «ليَشْرَبَنَّ ناسٌ مِن أُمَّتِي الخَمْرَ، يُسَمُّونها بغير اسمها، يُعْزَفُ على رُؤوسِهِم بِالمَعَازِفِ والمُغَنِّيَّاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، ويجعل منهم القِرَدَةَ والخَنازِيرَ».
وللبخاري في "الصحيح" عن أبي عامرٍ أو أبي مالك الأشعري، وكلاهما صحابي، سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «ليَكُونَنَّ مِن أُمَّتِي أَقوام يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، والحَرِيرَ، والخَمْرَ، والمَعَازِفَ...». الحديث.
ورواه البخاري في "التاريخ" وأحمد وابن أبي شيبة عن أبي مالك الأشعري بلفظ: اليشر بن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تغدو
عليهم القيان، وتروح عليهم المعازف». الحديث.
٢- عن عبادة بن الصامت رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
٢٥٤
الفقه
وآله وسلَّم: التَسْتَحِلَنَّ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي الْخَمْرَ بِاسْمِ يُسَمُّونَهَا إِيَّاهُ». رواه أحمد. ورواه ابن ماجه ولفظه: «تَشْرَبُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الخَمْرَ بِاسْمِ يُسَمُّونَهَا
إيَّاهُ». وإسناد الحديث جيد.
وروى عبدالله بن أحمد، عن عبادة أيضا: «والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ أُناسٌ مِن أُمَّتِي على أَثَرِ وبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهْوِ، فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنازِيرَ بِاسْتِحْلَاهِمُ المَحَارِمَ، وَالْخَاذِهِمُ القَيْنَاتِ، وشُرْبِهِمُ الخَمْرَ، وَبِأَكْلِهِمُ الرِّبا، ولُبْسِهمُ الحَرِيرَ». ٣- عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَذْهَبُ اللَّيالي والأيَّامُ حَتَّى تَشْرَبَ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي الخَمْرَ يُسَمُّونها بغير اسْمِها».
رواه ابن ماجه.
- عن ابن مُخيّريز، عن رجل من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِن أُمَّتِي الخَمْرَ يُسَدُّونَها بغير اسْمِها». رواه النَّسَائِيُّ
بإسناد جيد. ه - عن عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ ما يُكْفَأُ الإسلام، كما يُكْفَأُ الإناءُ كَفْ الخَمْرِ». قيل: وكيف ذاك يا رسول الله وقد بين الله فيها ما بَيَّن؟ قال: «يُسَمُّونها بغير اسمها، فيَسْتَحِلُّونها». رواه الدارمي
بإسناد لين، ورواه ابن أبي عاصم من طريق آخر، عن عائشة أيضًا. ٦- عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكُ ورَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكُ أَعْفَرُ، ثُمَّ مُلْكُ وجَبَرُوتٌ يُسْتَحَلُّ فِيهَا الْخَمْرُ والحَرِيرُ ».
رواه الدارمي وقال: «معنى أعفر : يشبهه بالتراب، لا خير فيه».
واضح البرهان
٢٥٥
قلت يستفاد من هذه الأحاديث أمور:
الأول: وقوع ما أخبر به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم من تحايل بعض الناس للتوصل إلى استباحة الخمر باستحداث أسماء لها لم تكن معروفةً في عهد
النبوة، أو بدعوى منفعة من المنافع الجائزة، ولكن ذلك لا يفيدهم شيئًا. قال أبو عبيد: «جاءت في الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة، فذكر منها: السكر بفتحتين قال : وهو نقيع التمر إذا أغلي بغير طبخ، ومنها: الجعة - بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير، والسكركة: خمر الحبشة -من الذرة». إلى أن قال: «وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر، وهي داخلة في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَشْرُبونَ الخَمْرَ، يُسَمُّونها بغير
اسمها»؛ ويؤيد ذلك قول عمر : الخَمْرُ ما حَامَرَ العَقْلَ . اهـ
وسبقته إلى هذا عائشة رضي الله عنها: روى ابن وهب والبيهقي: أنَّ أبا مسلم الخولاني حَجَّ، فدخل على عائشة، فجلعت تسأله عن الشام، وعن بردها؟ فقال: يا أُم المؤمنين، إنهم يشربون شرابا لهم، يقال له: الطلاء، فقالت: صدق رسول الله وبلغ حين سمعته يقول: «إِنَّ نَاسًا مِن أُمَّتِي يَشْرَبُونَ الخَمْرَ يُسَمُّونها بغير اسمها».
وفي "صحيح البخاري عن أبي الجويرية قال: سألت ابن عباس عن البَاذَقِ ؟ - نوع من الشراب فقال : سَبَقَ محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم البَاذَقَ، فما أَسْكَرَ فهو حَرَامٌ. قال ابن بطال وغيره من شُرَّاح البخاري: «يعني: سَبَقَ حكم محمد بتحريم الخمر، وتسميتهم لها بغير اسمها، وليس تغييرهم للاسم بمُحَلِّل له إذا كان
٢٥٦
الفقه
يُشكر . اهـ
وفي "صحيح الإسماعيلي" عن أبي حَيَّان التيمي: قلت: يا أبا عمرو - يعني الشعبي- شيءٌ يصنع في السند من الأرز يقال له: السادية (1) يدعى الجاهل فيشربه فيصرعه ؟ فقال : لم يكن هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، ولو كان لنهى عنه، ألا ترى أنه قد عمَّ الأشربة كلَّها فقال: «الخَمْرُ
ما خَامَرَ العَقْلَ»، وأصل هذا الأثر في "صحيح البخاري" مختصرًا.
فقد وجد التحايل من قديم، لكن كان في دائرة محصورة ضيقة، وكان المتحايلون يخشون سَطْوَةَ العلماء العالمين بالله، الذين كانوا يُنكرون المنكر،
ويقفون في وجه من يحاول اقتحام شيء من المحرمات، كائنا من كان. أما في عصرنا هذا - عصر التحلل والانحلال - فإنَّ العلماء يُشجعون على اقتحام المعاصي بما يُصدرون من فتاوى ونشرات، يعلم الله أنها صدرت لأغراض شخصيَّة ليس الله ولا لدينه فيها من نصيب، فقد ظهرت أشربة
(۱) قال الحافظ في "الفتح": "هذا الاسم ما وجدته في "النهاية" ولا في "الصحاح" ولعله فارسي، فإن كان عربيا فلعله الشاذبة، قال في "الصحاح": الشاذب: المتنحي عن وطنه، فلعل الشاذبة تأنيثه، وسميت الخمر بذلك لكونها إذا أحاطت بالعقل تنحت به عن وطنه، أمَّا الباذق المتقدم في كلام ابن عباس، بكسر الذال المعجمة وقيل بفتحها فهو: فارسي معرب، قيل: هو الطلاء، وقيل: هو المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر، وقال ابن سيده هو من أسماء الخمر». انتهى .
ورأيت الشهاب الأقفهسيَّ في كتاب إكرام" من يعيش بتحريم الخمر والحشيش":
نقل بعضهم، قال: هو السوبية ؛ قلت: هذا بعيد؛ فإن السويبة لا تُشكر.
٢٥٧
واضح البرهان
مستحدثة مُسْكِرَةٌ مثل الشمبانيا والبيرة والبوظة (1) وشاع شربها في كثير من الطبقات والبيئات، وشربها كثير من العلماء بحُجَّة أنها هاضمةٌ، أو : الأعذار
الشهيّة، أو تُذهب غثيان الصدر، أو تُدر البول، إلى غير ذلك من
الواهية.
فهي "
(۲)
تفتح
وبلغني: أنَّ بعض علماء المغرب ألف رسالة في إباحة البيرة، فإن صح هذا محاربة الله ولرسوله، وأجرأ من هذا وأقبح أن بعض العلماء هنا في مصر صرح (1) بإباحة الويسكي والكونياك، بدعوى أنَّ هذه الأنواع نظيفةٌ مُعَقِّمةٌ، لا ينسحب عليها المعني الذي حرَّم الله لأجله الخمر عند العرب؛ لأن تلك الخمر كانت تُستعمل بطريقة بدائية، لا تخلو من قذارة وأوساخ، وهذا كفر لا خفاء فيه. ومنهم من تحايل على إباحة الخمر بطريقة أخرى، فلجأ إلى بعض الأقوال المفرقة بين خمر العنب وغيرها، وبين ما اشتد غليانه وما لم يشتد، فتبيح بعض ذلك دون بعض على تفصيلات مبسوطة في محالها أقوال مهجورة وهي منبوذة، ولو صحت عن أربابها لكانت مَردودةً عليهم، ولكانوا هم ومَن يقلدهم فيها داخلين في قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يَشْرَبُ نَاسٌ مِن أُمَّتِي
(۱) وكشراب ماء الحياة المعالج بالتقطير، ويسميه المغاربة: المحيا، على طريقة النحت، ألف فيه ابن غازي رسالةً حسنةً بين فيها أنه من أقبح أنواع المسكرات، فما في "شرح ميارة "الكبير" في نواقض الوضوء، عن ابن غازي من أنه لم يجزم في رسالته - المذكورة - بأن ماء الحياة مُسكِرٌ غَلَط نبه عليه ابن الحاج في "حاشيته".
وكالمريسة وهي: شراب شائع بين أهل السودان.
(۲) على ما بلغني من شخص يعمل معه في مكتبه بمحل وظيفته.
٢٥٨
الفقه
الخَمْرَ يُسَمُّونها بغير اسمها». وإثم هؤلاء المتحايلين أشد ممن يشرب الخمر معتقدًا حرمتها؛ لأن ارتكاب المعصية مع الاعتراف بأنها معصية أهون من ارتكابها مع اعتقاد إباحتها.
قال الفقيه أبو الليث السمرقندي الحنفي: «شارب المطبوخ إذا كان يُسكر أعظم ذنبًا من شارب الخمر؛ لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالا، وقد قام الإجماع على أنَّ قليل الخمر وكثيره حرام، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر » . اهـ
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقد سبق إلى نحو هذا بعض قدماء الشعراء في أول المائة الثالثة، فقال - يعرض ببعض من كان يفتي بإباحة المطبوخ وأَشْرَبُهَا وأَزْعُمُهَا حَرَامًا وأَرْجُو عَفْوَ رَبِّ ذِي امْتِنَانِ ويَشْرَبُهَا وَيَزْعُمُهَا حَلَالًا وتِلْكَ عَلَى المُسِيءِ خَطِيئَتَانِ قلت: ولهذا أخبر الحديث أنَّ هؤلاء المستحلين للخمر وللزنا يعذبهم الله في آخر الزمان بالخَسْفِ والقَذْفِ، ويمسخهم قِرَدَةً وخَنازير، لاستحلالهم
المحرمات.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن أبي موسى الأشعري قال: أتي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بنبيذ في جَريرٍ له نَشِيش، فقال: «اضْرِبُوا بهذا(۱) الحائِطَ، فإِنَّ
هذا شَرَابُ مَن لا يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ».
(۱) بهذا، أي: النبيذ، الحائط منصوب؛ لأنه مفعول للأمر، وهو: اضربوا.
واضح البرهان
٢٥٩
الثاني: إباحة الزنا، وهو المراد بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اليَكُونَنَّ
مِن أُمني أقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ...». الحديث.
و «الحر» بكسر الحاء وتخفيف الراء هو الفرج.
واستحلال الزنا حاصل يعمد الرجل إلى امرأة يتفق معها على الزنا، ويريد أن يتخلَّص من الإثم فيقول لها: هَبي لي نفسك، فتقول: وهبتُ لك نفسي، فيأتيها ويعتقد أنه فعل مباحًا؛ لأنها لما وهبت نفسها له صارت زوجته في تلك اللحظة، وهذا هو استحلال الزّنا في أبشع صوره وأقبحها، وهو شائع بين كثير من الجَهَلَة المتورعين، وبعض المتعلمين والمتحذلقين. وأخبرني رجل عامي يحافظ على الصلاة في أوقاتها، ويخاف الله فيما يزعم: أنه فعل هذا مرَّاتٍ، فأخبرته أنَّ هذا زنا محض، وإثمه مضاعفٌ؛ لأنه ارتكاب للزنا واستحلال له وإصرار عليه.
ومن استحلال الزنا أن يتزوج الرجل المرأة بعقد عُرفي لمدة مُعيَّنة - كشهرٍ أو سنة أو أكثر - أو يتزوجها بشرط ألا تلد، فإن ولدت طلقها، أو بشرط ألا تلد أنثى، فإن ولدتها طلقها، وشرط الزواج الذي أباحه الله ورسوله: أن يكون بمهر وولي وشهود، وأن يُعلن ولا يخفى، وألا يتقيَّد بمدة محدودة، وألا يشترط
فيه عدم الولادة مطلقًا أو عدم ولادة أنثى، فإن هذا من أمر الجاهلية الأولى. والزواج بلفظ الهبة خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يجوز لغيره، بدليل قوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَها خَالِصَةً لَكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأحزاب: ٥٠].
. ٢٦٠
الفقه
الثالث: إباحة الحرير، وهذا حاصل أيضًا، فإنَّ لبس الحرير شائع بين كثير من الناس، خصوصا العلماء والقُرَّاء يلبسون الحرير الصرف لا يرون فيه حُرْمَةٌ ولا
كراهية، ولم أرَ أحدًا من علماء الأزهر اجتنب لبس الحرير، إلا أفرادا قلائل (۱). الرابع: إباحة المعازف وهي آلات اللهو والطَّرَب، وظاهر الحديث يدل على حرمتها، وذهب بعض العلماء منهم ابن حزم الظاهري إلى جواز سماع الغناء بالآلات وبدونها، وحصل السيوطي في ذلك أربعة أقوال: حُرمة الغناء مطلقا، جوازه مطلقا، حُرمته مع الآلات وجوازه بدونها، جوازه للصوفية
القرطبي
لاستعانتهم به على الذكر وترقيق القلب وتهييج الشَّوْقِ إلى الله تعالى. وفي المسألة كلامٌ كثير ليس هذا محل تفصيله وتمحيصه، وإن كان بي (۲) قد حكى الإجماع على حرمة المعازف والاستماع إليها. الخامس: وقوع المسخ على الذين يستحلون الخمر والزنا ويأكلون الربا، فيمسخهم الله قِرَدَةً وخَنَازِيرَ ، ويُعذِّب طائفةٌ منهم بالخَسْفِ، وبالقَذْفِ أي: يقذفون بحجارة من السماء، فكل هذا حاصل وواقع في آخر الزمان حين يتحلل الناس من الدين، ويستحلُّون المحرمات، ولا ينافي هذا قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقِّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ انْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ
(۱) منهم صديقنا المرحوم الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي صاحب رسالة "لسان الدفاع والحجاج عما أورد من الشبه في قصة الإسراء والمعراج ".
(۲) صاحب كتاب "المفهم في شرح صحيح مسلم".
واضح البرهان
اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: ۳۲ - ۳۳].
لأن الآية أفادت شيئين :
٢٦١
الأول: أنَّ الله لا يستأصلهم بالإمطار أو المسخ، أو نحو ذلك من العذاب كما فعل بالأمم السالفة.
الثاني: أنَّ الله تعالى لا يُعذَّبهم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فيهم، فلم يقع في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خَسْفٌ ولا مَسْخُ ولا قَلْفٌ إطلاقا، وذلك لكرامته على الله، أمَّا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فلا مانع أن يقع ذلك لبعض الأمة، ولا يكون عاما لجميعها.
وهذا هو الذي أفادته الأحاديث، فاتفقت الأدلة ولم يكن بينها تعارض والحمد لله، ولهذه المناسبة أنقل ما ذكره العلامة العارف أبو محمد عبدالله بن أسعد اليافعي في نشر المحاسن "الفاشية" عن الشيخ العارف ابن الزعب - بكسر الزاي وسكون العين اليمني: أنه كان يتردَّد للحج والزيارة من أقصى اليمن، ويمدح النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وصاحبيه بقصيدة عند قدومه المدينة المنورة وينشدها تجاه القبر الشريف، فلما فرغ من إنشاده في بعض زياراته جاء بعض الرافضة والتمس منه أن يكون عنده ضيفًا، فمضى معه وهو لا يعلم حاله، فلما صار في داره أخرج له عبدين فلزماه حتى قطعا لسانه، ثُمَّ قال له: اذهب إلى الذين مدحتهما ليردَّاه لك مكانه، فأخذ لسانه ووقف به عند القبر الشريف، وشكى وبكى، فلما كان تلك الليلة رآه صلَّى الله عليه وآله وسلّم في النوم وعنده صاحباه رضى الله عنهما وهما متحزنان، فأدنى صلى الله عليه وآله وسلم الشيخ، وأخذ لسانه بيده الكريمة ورده مکانه، فانتبه ولسانه صحيح،
٢٦٢
الفقه
فسافر إلى بلده ثُمَّ عاد للحج والزيارة على عادته، فلما فَرَغَ مِن إنشاده طلب منه رجل أن يذهب معه، فوافقه فجاء به إلى الدار التي لا ينكر، وقال له: ادخل فدخل واثقا بالله ومتوكلا عليه، فأكرمه ذلك الرجل وبالغ في الإكرام، فلما فرغ من الطعام جاء به إلى مكان في الدار ، وإذا فيه قرد، فقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا الذي قطع لسانك، مَسَخَهُ الله إلى ما ترى، وأنا ولده» . اهـ قال اليافعي: «إِنَّ هذا منقول بصحيح الإسناد، واشتهر في آفاق البلاد» (۱) اهـ.
فصل
قوله صلى الله عليه وآله وسلّم في حديث عائشة رضي الله عنها: «إِنَّ أَوَّلَ ما يُكْفَأُ الإسلامُ كما يُكْفَأُ الإناءُ كَفْءُ الخَمْرِ». يحتاج فهمه إلى إعرابه، وتفسير
مفرداته.
أما إعرابه: فـ «أول» اسم «إِنَّ» منصوب بها، و«گف» بفتح الكاف خبرها مرفوع، وهو مضاف إلى «الخمر»، والإضافة لإفادة السببية، ويصح أن تكون إضافة «كف» إلى «الخَمْرِ» من إضافة المصدر إلى فاعله، والمفعول محذوف: وهو ضمير يعود على الإسلام، والتقدير : كَفْءُ الخَمْرِ إِيَّاه، أي: الإسلام. وأما تفسير مفرداته فـ«الكفء». - بفتح الكاف: مصدر كفأ الإناء كفاً إذا أمالها أو صب فيها، والمعنى: إنَّ أوَّلَ ما يُمالُ الإسلام ويُعدل به عن جادته الواضحة كما تُمال الإناء لصبّ ما فيها، إمالته بسبب الخمر؛ لتجرؤ الناس على
(1) ليس بكثير ولا مُستبعد وقوع مثل هذه الكرامة للشيخين رضي الله عنهما.
واضح البرهان
٢٦٣
شربها، وتحايلهم لاستحلالها بتسميتها بغير اسمها، كالطلاء والجمعة والبيرة والشمبانيا ونحو ذلك، وقد حصل ما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل في باب الإخبار بالغيبيات، وهو باب من المعجزات واسع.
فصل
قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حديث أبي عبيدة: «أوَّلُ دينكم نبوَّة
ورحمةٌ». يشير إلى عهده صلَّى الله عليه وآله وسلم خير العهود وأفضلها. وقوله: «ثُمَّ مُلْكُ ورَحْمَةٌ يشير إلى عهد الخلفاء الراشدين، وسماه مُلكًا مجازا مشاكلة لما بعده، وفي حديث آخر: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، وقد حسبت فتم عددها يوم تنازل الحسن بن علي عليهما السلام لمعاوية بن أبي سفيان على شروط أخل بها معاوية. وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ثُمَّ مُلكٌ أَعْفَر» يشير إلى عهد الأمويين وعهد العباسيين، وسماه في حديث آخر: «مُلْكًا عَضُودًا» إشارة إلى ما حصل فيه من المظالم. وقوله: «ثُمَّ مُلْكُ وجَبَروت» يشير إلى آخر عهد العباسيين حين استولى الأتراك والديلم على أزمة الحكم ولم يبق للخليفة العباسي إلا الاسم، وإلى ما بعده من العهود.
وقوله: (يَسْتَحِلُّونَ فيها الخَمْرَ والحَرِيرَ يشير إلى عهد الملك الأعفر، وما
بعده من العهود؛ لأن التساهل في الخمر والحرير ظهر في عهد الأمويين، وفي عهد معاوية بالذات، أما في عهد الخلفاء الراشدين فلم يوجد شيء من ذلك
أصلا، والله أعلم.
٢٦٤
الخاتمة
الفقه
رأينا بمناسبة الكلام على الخمر أن نتكلم على الحشيش الذي شاع استعماله في هذه الأزمنة المتأخرة، وصار أغلب الناس يعتقد إباحته، وأحوطهم من يعتقد كراهته فقط.
وقد صرح بحرمته علماء المذاهب الأربعة، بل أفرده جماعة بالتأليف: العلامة بدر الدين الزركشي له رسالة "زهر العريش في الكلام على
منهما
الحشيش".
ومنهم
العلامة شهاب الدين ابن العماد الأقفهسي له كتاب "إكرام من
يعيش باجتناب الخمر والحشيش".
ومنهم الإمام أبو بكر محمد ابن الإمام أبي العباس أحمد بن محمد بن الحسن القسطلاني له كتاب "تكريم المعيشة بتحريم الحشيشة".
ومنهم الإمام محفوظ ابن الإمام شمس الأئمة محمد بن التمرتاشي الحنفي له رسالة في تحريم الحشيشة.
ومنهم عماد الدين ابن أبي شريف له رسالة في تحريم الحشيشة وجوزة الطيب، وتكلم فيها على سائر المخدرات.
ومنهم العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي له كتاب "تحذير الثقات عن استعمال الكفتة والقات" وتكلم فيه على سائر المسكرات
والمخدرات.
ومنهم الفقيه الصوفي الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي، سُئِلَ وهو في
واضح البرهان
٢٦٥
بيت المقدس عن مسائل خمسة وكان السؤال الخامس منها عن الأفيون والحشيش والبرش - وهو معجون من الحشيش - فأجاب عنه بجوابِ مُطوَّل يعادل في عدة صفحاته رسالة "زهر العريش".
ومنهم العلامة الشيخ محمد أبو عياشة الدمنهوري الشافعي، قرأت في مكتبته رسالة مختصرة من زهر العريش" لا أدري أهي من تأليفه؟ أم لا؟. وللعلامة المؤرّخ تقي الدين المقريزي في "الخطط" بحث واسع ممتع في
الحشيش (1)
ونحن نأتي إن شاء الله تعالى بتلخيص وجيز، لما في هذه الكتب وغيرها،
والله الموفق.
(۱) دعاه إلى كتابته أنه أثناء الكلام على أرض الطبالة وما مر بها من أدوار، قال: «وفيها بقعة تعرف بالجنينة - تصغير -جنة - من أخبث بقاع الأرض، يعمل فيها بمعاصي الله عزّ وجل، وتعرف ببيع الحشيشة التي يبتلعها أراذل الناس، وقد فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشوا زائدا، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعا كثيرًا، وتظاهروا بها من غير احتشام بعدما أدركناها تعد من أرذل الخبائث، وأقبح القاذورات، وما شيء في الحقيقة أفسد لطباع البشر منها، ولاشتهارها في وقتنا هذا عند الخاص والعام بمصر والشام والعراق والروم، تعيَّن ذكرها والله تعالى أعلم.
ثُمَّ قال: «ذكر حشيشة الفقراء»، وذكر بحثه الطويل المشار إليه.
٢٦٦
أول ظهور الحشيش
الفقه
ذكر الزركشي وغيره: أنَّ ظهورها كان على يد حيدر في سنة خمسين وخمسمائة تقريبًا، ولهذا سميت حيدرية، وذلك أنه خرج هائها بنفر من أصحابه فمرَّ على هذه الحشيشة فرأى أغصانها تتحرك من غير هواء، فقال في
نفسه هذا السر فيها، فاقتطف وأكل منها، فلما رجع إليهم أعلمهم أنه رأى فيها سرا، وأمرهم بأكلها.
وقيل: ظهرت على يد أحمد القلندري، ولذلك تسمى: «القلندرية»، والأطباء يسمونها: «القنب الهندي»، ومنهم من يسميها: «ورق الشهدانج»، وتسمى أيضًا: «الغبيراء».
قال صاحب السوانح " : ويُسمَّى بالكف»، أنشدني تقي الدين الموصلي كف كف الهموم بالكف فالكشف شفاء للعاشق المهموم بابنة القنب الكريمة لا بابنة کرم بعد البنت الكروم ونقل تقي الدين المقريزي في "الخطط" عن الشيخ حسن بن محمد الشيرزاي في كتاب السوانح الأدبية في مدائح القنبية" قال: سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازي الحيدري عن السبب في الوقوف على هذا العقار - يعني: الحشيش - ووصوله إلى الفقراء خاصَّةً وتعديه إلى العوام عامة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرا - رحمه الله - كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الغذاء، وكان قد اتخذ ببعض جبال خراسان زاوية وفي صحبته جماعة من الفقراء، وانقطع في ركن منها أكثر من عشر سنين لا يدخل عليه أحد غيري، قال : ثُمَّ إنه خرج ذات يوم وقت القائلة - وقد اشتد الحر - منفردًا بنفسه إلى
واضح البرهان
٢٦٧
الصحراء، ثُمَّ عاد وعليه نشاط وسرور على خلاف عادته، وأذن لأصحابه في الدخول عليه، وأخذ يحادثهم فسألوه عن ذلك؟ فقال: خطر لي أن أخرج إلى الصحراء منفردًا، فخرجت فوجدت كل نبات ساكنا لا يتحرك لعدم الريح وشدة القيظ، ووجدت نبانًا له ،أوراق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف، ويتحرك من غير عنف كالثَّمِل النشوان، فجعلت أقطف منه أورقًا وآكلها، فحصل لي من الارتياح ما شاهدتموه ، ثُمَّ قال: قوموا بنا لأطلعكم عليه، فلما رأيناه، قلنا: هذا نبات يعرف بالقنب، فأمرنا بالأكل منه، ففعلنا وعدنا إلى الزاوية، فوجدنا من الفرح والسرور ما عجزنا عن كتمانه، فأمر الشيخ بكتمان هذا العقار إلا عن الفقراء، وأوصانا ألا نعلم به عوام الناس، فزرعناه في الزاوية في حياة الشيخ حيدر وأمرنا بزرعه حول ضريحه بعد وفاته، وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين، وأنا في خدمته لم أره يقطع أكلها، وكان يأمرنا بتقليل الغذاء، وأكل هذه الحشيشة
وتوفي الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة وستمائة بزاويته في الجبل، وعمل على ضريحه قبةٌ عظيمةٌ ، وكان أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل
خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسره، فاستعملوه.
قال: ولم تزل الحشيشة شائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس، ولم يكن يعرف أكلها أهل العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ومحمد بن محمد صاحب البحرين - وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحملها أصحابهما معهم، وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى
٢٦٨
الفقه
الشام ومصر والروم فاستعملوها.
وقد نسب إظهار الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديب محمد بن علي بن
الأعجمي الدمشقي في أبيات منها :
دع الخمر واشرب من مدامة حيدرٍ معتبرة خضراء مثل الزبرجد يعاطيكها ظبي من الترك أغيد يميس على غصن من البان أملد وكذلك نسبها إلى الشيخ حيدر الأديب أحمد بن محمد بن الرسام الحلبي في أبيات منها: وإذا هممت بصيد ظبي نافر فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا لذوي الخلاعة مذهب المتخمس قال: «وقد حدثني الشيخ محمد الشيرازي القلندري: أنَّ الشيخ حيدرا ما أكل الحشيشة في عمره البتة، وإنها عامة أهل خراسان نسبوها إليه لاشتهار أصحابه بها، وأنَّ إظهارها كان قبل وجوده بزمان طويل، وذلك أنه كان بالهند شيخ يسمى بيررطن، هو أول من أظهر لأهل الهند أكلها ولم يكونوا يعرفونها قبل ذلك، ثُمَّ شاع أمرها في بلاد الهند، حتى ذاع خبرها ببلاد اليمن، ثُمَّ فشا إلى أهل فارس ، ثُمَّ ورد خبرها إلى أهل العراق والروم والشام ومصر في السنة التي قدمت ذكرها، يعني: سنة ٦٢٨ هجرية».
قال: «وكان بيروطن في زمن الأكاسرة، وأدرك الإسلام وأسلم، وأنَّ الناس من ذلك الوقت يستعملونها، وقد نسب إظهارها لأهل الهند: علي بن
مكي في أبيات أنشد فيها من لفظه، وذكر قصيدة جاء في آخرها:
واضح البرهان
٢٦٩
فقم فانف جيش الهم واكفف يد العنا بهندية أمضى من البيض والسمر بهندية في أصل إظهارها أكلها إلى الناس لا هندية اللون كالسمر تزيل لهيب الهـم عنــا بأكلها وتهدي لنـــا الأفـــراح في الـســـــر قال: «وأنا أقول: إنه قديم معروف منذ أوجد الله الدنيا، وقد كان على عهد اليونانيين، والدليل على ذلك ما نقله الأطباء في كتبهم عن بقراط وجالينوس من مزاج هذا العقار وخواصه ومضاره». انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في كتاب "الإصابة" ما نصه: «بيررطن الهندي: شيخ كان في زمن الأكاسرة ، له خبر مشهور في حشيشة القنب، وأنه أول من أظهرها بتلك البلاد، واشتهر أمرها عنه باليمن، ثُمَّ أدرك هذا الشيخ الإسلام
.
فأسلم، ذكره الشيخ حسن ابن محمد الشيرازي في كتاب "السوانح" عن شيخه الشيخ جعفر ابن محمد الشيرازي» . اهـ
وقال ابن تيمية: «إنما لم يتكلّم عليها الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء السلف؛ لأنها لم تكن في زمانهم، وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار» . انتهى قلت: الحشيشة قديمة - بناء على ما مر عن "السوانح" - إلَّا أنها لم تشتهر، ولم يفشُ استعمالها في البلاد العربية وما جاورها إلا في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، يؤيد هذا ما ذكره المقريزي حيث قال: «وما برحت هذه الخبيثة تعد من القاذورات حتى قدم سلطان بغداد أحمد بن أويس فارا من تيمورلنك إلى القاهرة في سنة خمس وتسعين وسبعمائة، فتظاهر أصحابه بأكلها وشنع الناس عليهم،
۲۷۰
الفقه
واستقبحوا ذلك من فعلهم وعابوه عليهم، فلما سافر من القاهرة إلى بغداد وخرج
منها ثانيا وأقام بدمشق مدة تعلم أهل دمشق من أصحابه التظاهر بها» . اهـ ولما فشت بين الفقراء - الدراويش - وسموها: «أسرار»، قال الشيخ محيي الدين ابن العربي قدس سره في كتابه "شجون المسجون وفنون المفتون": قل لمن أكل حشيشة الفقراء: مَن أمَّ مَرامَه بالوسائط من المركبات والبسائط فقد أخطأ الصواب، ودخل من غير باب . اهـ ورأيت ما يدل على أنَّ الحشيش ظهر قبل التاريخ المذكور، فقد نقل الشيخ النابلسي عن ابن الصائغ: أنه سئل شمس الأئمة الكردي عن الحشيشة التي هي ورق القنب الهندي ؟ فقال : لم ينقل عن أبي حنيفة وأصحابه فيها شيء ؛ لأن أكلها لم يظهر في زمنهم فبقيت على أصل الإباحة كما في سائر النباتات، ولم يؤثر عن السلف بعدهم شيء في حِلّها ولا حرمتها إلى زمان المزني، حتى فشا أكلها وشاع تناولها فأفتى المزني بحرمتها على مذهب الشافعي، وكان أول ظهورها في عراق العرب، والمزني ببغداد فبلغ فتواه إلى القاضي أسد بن عمرو -صاحب أبي حنيفة - وكان بعراق العجم، فقال: إنه يباح - يعني إذا لم يسكر، فلما عمت بليّته وشملت الأماكن فتنته اختار أئمة ما وراء النهر حرمته
واتفقوا على ما أفتى به المزني من حرمة أكله وحرمة تناوله، وأفتوا بإحراقها وإن كان ثمنها خطيرًا، وجعلوا قيمتها هدرًا، وأمروا بتأديب بائعها، وقال علماؤنا : من قال بحله فهو زنديق مبتدع فاسق، وحكموا بوقوع طلاق (۱) آكل
(۱) صرح بوقوع طلاق متعاطي الحشيش غير واحد، وهو ظاهر؛ لأن الحشيش لا يفقد الشخص معه الوعي إلا في بعض حالات نادرة لا تكاد تذكر، بخلاف الخمر فإنَّ
واضح البرهان
۲۷۱
الحشيش إذا سكر منه زجرا له» . اهـ
(1)n
نقله حافظ الدين النسفي في "شرح التمرتاشي" ومثله في "جامع
الفتاوى القارئ الهداية" عن شمس الأئمة السرخسي.
هل الحشيش مسكر ؟
نص كثير من الأطباء والعلماء بأحوال النبات على أن الحشيش مسكر منهم أبو عبدالله محمد بن أحمد المالقي العشاب - المعروف بابن البيطار - وكمال
الدين بن واصل، بل حكى الزركشي إجماعهم على ذلك.
قال ابن البيطار في كتاب "الجامع لقوى الأدوية والأغذية": «ومن القنب
شاربها يفقد وعيه ولا يدري بما يجري حواليه، ولهذا اختلف العلماء في وقوع طلاق السكران، وقال بعض السلف : مَن زوج ابنته من شارب الخمر فقد أعطاها لمن يزني بها؛ لأنه يُطلق ولا يشعر، وطلاقه نافذ.
لطيفة: حكى الصيدلاني في شرح المختصر" عن المزني: أنه كان يقول بوقوع الطلاق علي السكران، حتى مرَّ يوما بسكران مطروح على الأرض وقد استقاء ما في جوفه من الطعام، وكلب يلحس فمه، وهو يقول للكلب: حاشاك يا سيدي، فرجع المزني وقال بعدم وقوع طلاق السكران وذكر ابن أبي الدنيا أنه مَرَّ بسكران وهو يبول في يده ويغسل به يده كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا، والماء طهورًا، قلت: مَن وصل إلى هذا الحد صار في عداد المجانين.
(۱) وهذا هو الصحيح، فالحشيش ظهر في القرن الثالث لكنه كان منتشرا في بعض البلاد كعراق العرب، وما وراء النهر ، وإنما انتشر في الشرق كله عند مجيء التتار، كما قال
ابن تيمية وغيره، بل هي قديمة كما سبق فيما نقلناه عن المقريزي.
۲۷۲
الفقه
نوع ثالث يقال له القنب ولم أرَهُ بغير مصر يزرع في البساتين، ويُسمى: الحشيشة أيضًا، وهو مُسْكِرٌ جدًا إذا تناول منه الإنسان يسيرًا قدر درهم أو در همين، حتى إنَّ مَن أكثر منه أخرجه إلى حال غريبة، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وربما قَتَلَتْ (۱). اهـ
وكذلك الفقهاء صرَّحوا بأنَّ الحشيش مُسْكر، منهم الإمام أبو إسحاق الشيرازي في كتاب "التذكرة في الخلاف"، ومحيي الدين النووي في "شرح المهذب"، والشهاب الأقفهسي في كتاب "إكرام من يعيش"، وهؤلاء شافعية،
قال الزركشي في زهر" العريش: ولا يعرف فيه خلاف عندنا،
يعني
الشافعية» . اهـ وممن عده مُسْكِرًا من غير الشافعية تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح مختصر ابن الحاجب" في فقه المالكية، وأبو العباس ابن تيمية الحنبلي في "فتاواه الكبرى"، وابن القيم في "زاد المعاد"، ونقل الشيخ عبدالغني النابلسي الحنفي ذلك عن كتاب تنوير الأبصار وجامع البحار" من كتب الحنفية، وعللوا ذلك بأنَّ السُّكْرَ معناه تغطية العقل، ومنه قوله تعالى: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكَرَتْ أبْصَرُنَا ﴾ [الحجر: ١٥]، أي: غُطّيت، وهذا المعنى موجود في الحشيش.
يجففه
(۱) بقية كلامه: ورأيت الفقراء يستعملونها على أنحاء شتى، فمنهم من يطبخ الورق طبا بليغا ويدعكه دعا جيدا حتى يتعجن ويعمل منه أقراصا، ومنهم من : قليلًا ثُمَّ يخمضه ويفركه باليد ويخلط به قليل سمسم مقشور وسكر ويستفه ويطيل مضغه، فإنهم يطربون عليه، ويفرحون كثيرًا، وربما أسكرهم فيخرجون به إلى الجنون أو قريب منه، وهذا ما شاهدته من فعلها». انتهى
واضح البرهان
۲۷۳
قال الزركشي: ويحكى عن بعض من يتناولها : أنه كان إذا رأى القمر يظنُّه
لجة ماءٍ فلا يُقدم عليه» . اهـ أما شهاب الدين القرافي المالكي فخالف في ذلك، وقال: إنَّ الحشيش مفسد - أي مُحدّر - وليس بمُسْكر، قال في "الفروق": «نص العلماء بالنبات على أنها الحشيشة - مُسْكِرٌ ، والذي يظهر لي أنها مُفْسِدَةٌ، ونحن نفرق بين المفيد والمسكر والمرقد. أنَّ التناول من هذه إما أن تغيب معه الحواس أو لا، فإن غابت معه الحواس - كالسمع والنظر واللمس والشم والذوق - فهو المرقد، وإن لم تغيب ه الحواس فإما أن يحدث معه نشوة وسرورٌ كالخمر، والمفسد: هو المشوّش للعقل في عدم السرور الغالب . اهـ
معه
والخصه الشيخ خليل في "التوضيح " فقال: «المسكر : ما غَيَّب العقل دون الحواس، مع نشوة وفرح، والمفسد: ما غيب العقل دون الحواس، لا مع نشوة
وفرح كعسل البلادر، والمرقد: ما غَيَّب العقل والحواس كالشيكران».اهـ وعلى هذا فالحشيش مُفْسِدٌ - أي مُحدّر - وليس بمسكر، وهذا هو الذي صححه المالكية، ونصَّ عليه غير القرافي أبو الحسن في "شرح المدونة"، وابن مرزوق، وأبو عبد الله بن الحاج صاحب "المدخل"- وضعفوا قول الشيخ المنوفي: إنَّ الحشيش مسكر. واستدل القرافي لما قاله باختلاف الأعراض التي تظهر على كل من السكران ومتناول الحشيش، حيث يميل السكران إلى الشجاعة والمسرة وقوة النفس وحب البطش بالأعداء والمنافسة في العطاء، ولذلك تجد شُراب الخمر
٢٧٤
الفقه
(1)
تكثر عرابيدهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح، ويوجد بينهم قتلى أو
جَرْحَى بخلاف متناولي الحشيش، فإنهم لا يميلون إلى العربدة والوثوب والبطش، بل هم همدة سكوت.
قال: «والحشيش يثير الخلط الكامن في الجسد، فصاحب الصفراء يحدث له الحشيش حدة، وصاحب البلغم يُحدث له سباتًا وصمتا، وصاحب السوداء
يُحدث له بكاء وجزعًا، وصاحب الدم يُحدث له سرورًا بقدر حاله. وأما المسكرات: فلا تكاد تجد أحدًا ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور،
بعيد عن تصور البكاء والصمت». انتهى كلامه مُلخصا. وهو ينطبق على الأعم الأغلب من حال الفريقين، فإن وجد بعض السكارى أو بعض الحشاشين بخلاف ذلك فهو من قبيل الشاذ النادر، والنادر لا حكم له، فاعتراض الزركشي عليه مُرجّحًا: أنَّ الحشيش مُسِكِرٌ ليس في
محله.
وقال العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي - بعد حكاية الخلاف في أنَّ الحشيش مسكر ، أو مُحدّرٌ ما نصه والحق في ذلك: خلاف الإطلاقين - إطلاق الإسكار، وإطلاق الإفساد وذلك أنَّ الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل، وهذا الإطلاق أعم، ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشوة وطَرَب، وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق، فعلى
(۱) قيل للعباس بن مرداس الصحابي - في أيام الجاهلية - : لم لا تشرب الخمر ؟ فإنها تزيد في جرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم.
واضح البرهان
۲۷۵
الإطلاق الأول بين المسكر والمُخَدِّر عموم مطلق، إذ كلُّ مُحدِّرٍ مُسْكِرٌ وليس كل مسكر مخدرًا، فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة وغيرهما، المراد منه
التحذير، ومن نفاه أراد به معناه الأخص». انتهى
قلت: ومنه تعلم أن كلام الإمام القرافي في غاية التحرير.
حكم الحشيش
تقدم: أنَّ المزني أفتى بحرمته على مذهب الشافعي. ووافقه أئمة ما وراء النهر من الحنفية.
وفي "شرح "الوهبانية لابن الشحنة الحنفي:" ذكر في "المبتغى" - في مسائل شتى - قال: ويحرم أكل الحشيش وهو ورق القنب، وقد اتفق مشايخنا ومشايخ الشافعي رضى الله عنه على تحريم تناوله، وأفتوا بإحراقه (۱) مع خطر قيمته، وأمروا بتأديب بائعه والتشديد على أكلته فالآن فتوى المذهبين على حرمته، حتى قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: من قال بحل أكله فهو زنديق
مبتدع». انتهى. وممن نص على تحريمه النووي في شرح المهذب"، وابن القسطلاني في كتاب "تكريم المعيشة"، والاقفهسي في كتاب "إكرام من يعيش"، والزركشي في "زهر العريش"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية" قبيل الكلام على غزوة خيبر، وابن حجر الهيتميُّ الفقيه في "الزواجر" و"الفتاوى الفقهية" و "تحذير الثقات من تناول الكفتة والقات".
(۱) وقال تقي الدين ابن دقيق العيد لا ضمان على متلف الحشيشة، كالخمر.
٢٧٦
الفقه
وقال تقي الدين الحصني الشافعي في شرح المنهاج " ما نصه: «مسألة: ما حكم الحشيش التي تسطل ؟ هذه المسألة لم أرَ فيها نقلاً، وقال القرافي المالكي: "يجب على أكله الحد والتعزير؛ لارتكابه أمورًا قبيحة".انتهى، وما قاله صحيح؛ لأنها تثير نشوة ولذة وطَرَبًا كالخمر، وتزيل العقل، فدخلت في عموم الأدلة، بل هي أولى من الخمر؛ لأنها تورث قبائح مع ذلَّةٍ، والله أعلم». انتهى وكأنه لم يقف على رسالة "زهر العريش" لشيخه الزركشي- ففيها نقول بالتحريم عن كبار الشافعية.
وأما الحنابلة فقال ابن تيمية في باب الأشربة من "مجموعة الفتاوى" - بعد أن تكلَّم على الخمر - ما نصه: (والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كَفَرَ (۱)، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول، والحشيشة كالعذرة» . انتهى ( ص ٢٥٦ ج ٤ ) من "مجموعة الفتاوى". وأما المالكية: فقد صرّح بتحريمها منهم غير واحد، كالمنوفي وتلميذه الشيخ خليل، وابن مرزوق وميارة، وابن الحاج، والصفتي، بل حكى القرافي: الإجماع على ذلك، فقال في "الفروق": «يحرم أكل الحشيش بالإجماع» انتهى، ونقل الإجماع ابن تيمية أيضًا.
(۱) هذا غلو شديد، رده الزركشي فقال: لأن تحريم الحشيشة ليس معلوما من الدين بالضرورة ولو قلنا إنها مجمع على تحريمها، وشرط كفر منكره أن يكون دليل الإجماع قطعيا على أحد الوجهين، ودليل الإجماع على تحريمها ليس قطعيا»، هذا توضيح كلام الزركشي، وإنما يكفر منكر المجمع على تحريمه المعلوم من الدين بالضرورة، كالزنا والخمر والربا.
واضح البرهان
۲۷۷
وتكلم العلامة المحدث شمس الحق في "عون المعبود شرح سنن أبي داود ( ج ۳ ص ۳۷۰ - ۳۷۹) على الحشيشة والأفيون ونحوهما من المخدرات،
وحكى الإجماع على تحريمها أيضًا، فراجعه إن شئت.
دليل تحريم الحشيشة
علمت مما سبق: اتفاق العلماء من المذاهب الأربعة على تحريمها، وإنما اختلفوا هل هي مُسْكِرة أو تُحدّرة؟
فالذين قالوا بالأول استدلوا بحديث: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». والذين قالوا
كل
بالثاني استدلوا بحديث: نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن : مسكرٍ ومُفتر» ، رواه أحمد وأبو داود من حديث أُم سلمة رضي الله عنها بإسنادٍ حسن (۱)
(۱) سألني بعض الحنفية عن دليل تحريم الحشيش من الحديث؟ فذكرت له الحديث المذكور، فقال: ما رتبته؟ قلت: حديث حسن، قال لا يكفي، قلت: لم؟ قال: لأنه لا يفيد إلا الظن، فأدركت ضعفه في علم الأصول؛ لأن الأحكام الفقهية - كالحرمة والكراهة ونحوهما - لا يشترط في دليلها القطع، بل يكتفى فيها بما يفيد الظن كما هو معلوم، ولعله أراد ما جاء في "الكنز" و"شرحه" لملا مسكين، ونصه: «المكروه إلى الحرام أقرب عندهما - أي أبي حنيفة وأبي يوسف وقال خلف بن يحيى: المكروه إلى الحلال أقرب، ونص محمد: "كُل مكروه حَرَامٌ"، وإنما لم يطلق عليه لفظه؛ لأنه لم تثبت حرمته بدلیل قطعي كما في الحرام». انتهى. وحاصل ذلك: أن ما ثبت تحريمه بدليل قطعي كالزنا والربا وشرب الخمر - يقال فيه: «حرام»، وما ثبت تحريمه بدليل ظني كالحشيش - يقال فيه: «مكروه كراهة
۲۷۸
الفقه
قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف.
وقال الزركشي: «هذا الحديث أول دليل على تحريم الحشيشة بخصوصها، فإنها إن لم تكن مُسْكِرةً كانت مُفْتِرَةً مُخَدّرةً، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وثقل رءوسهم بواسطة تبخيرها الدماغ». انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في الكلام على حديث: «كل شَرَابٍ أَسْكَرَ فهو حَرَامٌ» ما نصه: «واستدل بمطلق قوله: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، على تحريم كل مسكر ولو لم يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة؛ لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة، فقد ثبت في "أبي داود" النهي عن كُل مسكر ومفتر، وهو بالفاء، والله أعلم». انتهى. وقال العلقمي في "شرح الجامع الصغير": «حُكيَ أَنَّ رجلًا من العجم قدم القاهرة، وطلب دليلا على تحريم الحشيشة، وعقد لذلك مجلسًا حضره علماء العصر، فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بحديث أُم سلمة: "نهى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفْتِر"، فأعجب الحاضرين». انتهى.
قال الزركشي: وأيضًا فإنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما كان هذا
تحريم، فالإثم موجود فيهما، وهذه تفرقة اصطلاحية لا تؤثر في جوهر الموضوع، نعم، يترتب عليه ما سيأتي أن حرمة الحشيش دون حرمة الخمر، ثُمَّ لا تنسى أنَّ : الحنفية صرَّحوا بتحريم الحشيش كما مر ؛ لما فيه من المفاسد والمضار.
واضح البرهان
۲۷۹
وصفه كان حرامًا كالخمر، وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ [الأعراف: ١٥٧]، وأي خبث أعظم مما يفسد العقول التي اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها، وقد حرَّم الله إذهاب العقول باستعمال ما يزيلها أو يفسدها ويخرجها عن مخرجها المعتاد، ولا شك أن تناول الحشيشة يظهر أثر التغير في انتظام الفعل والقول المستمد كماله من تصرف العقل شرعًا وعرفًا». انتهى، فهذان دلیلان آخران يضمان إلى ما سبق.
والخلاصة: أنَّ الأدلة على تحريم الحشيش خمسة: الأول: حديث: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، على القول بأنها: مسكرة، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، أو حديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفتر»، على القول بأنها: مُخدرة، وهو الصحيح عند
المالكية.
الثاني: الإجماع، حكاه القرافي وابن تيمية وشمس الحق.
الثالث: أنها تصد.
عن ذكر الله وعن الصلاة، فتكون في معنى الخمر من
هذه الجهة، ومعنى صدها: أنَّ متناولها لا يجوز له أن يصلي حتى يذهب أثرها
من عقله، ومن صلى قبل ذهاب أثرها فصلاته لا تصح.
قال الشيخ عبد القادر النعيمي الشافعي: ورأيت في آداب القضاء لبعض من أدركناهم - سماه "الديباج المذهب" -: «وهذه الحشيشة المعروفة؛ حكمها
حكم الخمر في وجوب قضاء الصلوات». انتهى.
قلت ونقل الزركشي، عن القاضى الحسين في "التعليقة" قال: «إذا شرب
۲۸۰
الفقه
البنج وغيره مما يزيل العقل فعليه قضاء الصلاة والصوم، بعد الإفاقة كالسكران». انتهى.
الرابع: أنها من الخبائث، وهي مُحرَّمة بقوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ . الخامس: ما فيها من الضرر الحسي والمعنوي، والقاعدة الشرعية: «أن ما فيه مَضَرَّةٌ، فهو حَرَامٌ»، والحديث: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَار». وهو حديث صحيح له طرق ذكرتها في تخريج أحاديث "منهاج البيضاوي" في الأصول.
مضار الحشيشة
قال محمد بن زكريا الرازي الطبيب: إنها تولد أفكارًا كثيرة، وتُجفّف
المني، وتجفيفه إنما يكون من قلة الرطوبة في الأعضاء الرئيسية». انتهى. قال صاحب "السوانح ": والفقراء إنما يقصدون استعماله -مع ما يجدون من اللذة - تجفيفًا للمني، وفي إبطاله قطع لشهوة الجماع كي لا تميل إلى ما يوقع
في الزنا». انتهى، وهذا عذر لا يبيح تعاطي الحشيش كما لا يخفى. ونقل أبو بكر القسطلاني في "تكريم المعيشة" عن بعض أئمة أهل الشام:
«أنها تُصدّع الرأس، وتُظلم البصر، وتعقد البطن، وتُجفّف المني». ونقل الأقفهسي عن بعضهم : أنَّ في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية، منها: أنها تُجفّف الرُّطوبات، وتعرض البدن لحدوث الأمراض كالسل ونحوه، وتورث النسيان (۱)، وموت الفجأة، واختلال العقل، وتكسب
(۱) ومن هنا قالوا إنها تنسي الشهادة عند الموت، نسأل الله السلامة، وكذلك ينشأ عن تجفيفها للرطوبات قلة الريق في فم شاربها، بحيث يضطر إلى شرب الماء وغيره من
واضح البرهان
۲۸۱
الرعشة، وتنتن الفم، وتحرق الدم، وتُسوَّد الأسنان وتحفرها، وتصفر اللون، وتقلل الحياء، وتورث كثرة المراء، وتسقط شعر الأجفان، وتظهر الداء الخفي، وتفتر الأعضاء، وتُضيّق النَّفَسَ، وتقوي الهوس، وتؤثر في العين الغشاوة وقلة النظر، وتؤدّي إلى إتلاف الكيس، ومجالسة إبليس وتورث الكسل والفشل، وتجعل الأسد كالجعل، وتصير العزيز ذليلا، تجعل الفصيح أبكما، والذكي أبلها، تذهب الفطنة، وتورث البطنة، فصاحبها بعيد عن السُّنَّة، طريد من الجنَّة، موعود من الله اللعنة إلا أن يقرع من الندم سنه، ويحسن بالله
ظنه». انتهى، ملخصا منه ومن الزركشي.
وذكر ابن البيطار: «أنها خبيثة ،الطعم، كريهة الرائحة، قال: ولهذا يتحايل بعض من يتعاطاها على تطييبها بما يسوغ تناولها من السمسم المقشور والسكر». انتهى.
وقال صاحب كتاب "إصلاح الأدوية": «إن الشهدانج: عسر الانهضام، رديء الخلط للمعدة، ورأيت من خواصها أنَّ كثيرًا من ذوات السموم - كالحية ونحوها - إذا شمت ريحها هربت ومن وجد فعلها وأحب أن يذهبه فليقطر في منخريه شيئًا من الزيت، وليأكل من اللبن الحامض، ومما يكسر قوة
فعلها: السباحة في الماء الجاري، والنوم يبطله». انتهى باختصار. وممن تكلّم على الحشيش من الأطباء القدماء: حنين بن إسحاق، وابن جزلة في كتاب "منهاج البيان" ، ويحيى بن ماسويه في كتاب "تدبير أبدان
السوائل، وكذلك تورث الإمساك الشديد.
۲۸۲
الفقه
الأصحاء"، وغيرهم، وذكروا له خواص ومنافع - إلى جانب ما فيه من
أضرار - وتلك المنافع إن صحت إنما تجوز تعاطيه للتداوي فقط. وقال الشيخ العارف عفيف الدين أبو محمد عبدالله اليافعي في كتاب "الترغيب والترهيب" بعد أن صرح بتحريم الحشيشة، واستدل بالحديثين - السابقين، ونقل كلام ابن تيمية : ما نصه: فوالله ما فرح إبليس، بمثل فرحه بالحشيشة، إذ زيَّنها للأنفس الخبيثة، فاستحلوها وسموها "القيمة الراحة ولقيمة الفكر" وإنما هي لقيمة الهم والحزن في الآخرة لمن لم يتب منها». انتهى. وقال المقريزي في "الخطط": فما بلي الناس بأفسد من هذه الشجرة لأخلاقهم، ولقد حدثني القاضي الرئيس تاج الدين إسماعيل بن عبدالوهاب المخزومي - قبل اختلاطه عن الرئيس علاء الدين ابن النفيس: أنه سئل عن هذه الحشيشة، فقال: اعتبرتها، فوجدتها تورث السفالة والرذالة، وكذلك جرَّبنا في طول عمرنا من عاناها، فإنه ينحط في سائر أخلاقه إلى ما لا يكاد أن يبقي له من الإنسانية شيء البتة». انتهى. ثُمَّ ذكر المقريزي - في ختام بحثه الذي أشرنا إليه أول الخاتمة - : أنَّ شخصا من ملاحدة العجم قدم القاهرة، وصنع الحشيشة بعسل خلط فيها عدة أجزاء مجففة، وسماها «العقدة» وباعها خفية، فشاع أكلها بين كثير من الناس، ثُمَّ
وصف آكليها بعدم الحياء، وبسفالة الأخلاق، بل بتجردهم من الإنسانية. وقال بعضهم فيها : قُل لَمَنْ يَأْكُلُ الحَشِيشَةَ جَهْلًا یا خَسِيسا قد عِشْتَ شَرَّ مَعِيشَةِ دِيَةُ العَقْلِ بِدُرَّةٍ فلماذا يا سَفِيها قد بِعْتَها بِحَشْيشَةِ
واضح البرهان وقال آخر:
۲۸۳
ما للحَشِيشَةِ فَضْلُ عِنْدَ آكِلِهَا لكنَّه غير مَهْدي إِلى رَشَده حمرَاءُ فِي عَيْنِهِ خَضْرَاءُ فِي يَدِهِ صَفْرَاءُ فِي جَوْفِهِ سَوْدَاءُ فِي جَسَدِهِ
وقال آخر:
يا مَنْ غَدَا أَكْلُ الحَشِيشِ شِعَارُهُ وغَدَا فَلَاحُ عَوَارِهِ وَشِمَارُهُ أَعْرَضْتَ عَن سُنْنِ الهُدَى بِزَخَارِفٍ لَّا اعْتَرَضْتَ لِمَا أَشِيعِ ضِرَارُهُ العقلُ يَنْهَى أَنْ تَميل إلى الهَوَى والشَّرْعُ يَأْمُرُ أَنْ تُبَعدَ دَارُهُ
فمن ارتدى برِدَاءِ زَهْرَةِ شَهْوَةٍ فيهــا بـــدا للنَّاظِرِين خَسَارُهُ أقصر وتُب عن شُرْبِها مُتعَوَّذَا مِن شَرِّها فهو الطَّوِيلُ عَشَارُهُ وجاء في "المجلة الطبية الشرعية المصرية " ( عدد ١ سنة أولى، بتاريخ شهر
١ - ١٩٤٠) بحث في الحشيش وتحليله، وبيان خواصه النباتية والكيماوية، وفيه مما يتعلق يبحثنا ما نصه:
التسمم الوقتي: يحدث بواسطة تعاطي كميات قليلة من الحشيش، ويشاهد في باديء الأمر ميل إلى الحركة، وحرارة في المعدة، وأيضًا في الصدر، ثُمَّ ثقل في الرأس، ثُمَّ تخدير العضلات حيث تنتشر من الأعضاء الداخلية إلى الخارجية وتكون مصحوبة بتنميل أو أكلان، فإذا زادت الكمية كان هناك شعور بعسر التنفس، وانحراف المزاج، ثُمَّ دوار وألم في الخلق، ثُمَّ جفاف في الفم، ثُمَّ ثقل عام، فإذا زادت الكمية يطرأ نوم عميق هاديء وثقل. وبعد الإفاقة ترتسم هذه المظاهر على وجهه.
٢٨٤
الفقه
التسمم المزمن: إدمان الحشيش يكسب الوجه نوعا من الوحشية والغباوة، وتكون الإجابة بصعوبة، والحركات بطيئة، ويفقد الشهية، وتفتر العزيمة، ولا يقوى المدمن على العمل». انتهى.
هل الحشيش نجس ؟
تقدم أنَّ الحشيش مُسْكِرٌ عند الشافعية والحنفية والحنابلة، وعلى هذا فهل
هو نجس؟
قال الطوسي في "المصباح" : «الحشيشة نجسةً إن ثبت أنها مُسْكِرَةٌ»، وغلطه الأقفهسي والزركشي وغيرهما، وقالوا: لا يصح حكايته عن مذهب الشافعي؛
لأن محيي النووي - وهو شيخ الشافعية - قال: إنها طاهرة، ولم يحك فيه خلافا. وقال ابن تيمية في كتاب "السياسة الشرعية": «الحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام أيضًا، يجلد شاربها كما يجلد شارب الخمر، لكن لما كانت جامدة ليست شرابا، تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال: في مذهب أحمد وغيره فقيل: نجسة، وهذا هو الاعتبار الصحيح، وقيل: لا؛ لجمودها، وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها». انتهى.
أي فيكون جامدها طاهرا، ومائعها نجسًا.
وقال القرافي في "الفروق": «سُئِل بعض فقهاء العصر عمَّن صَلَّى بالحشيشة معه هل تبطل صلاته؟ فأفتى إنه إن صَلَّى بها قبل أن تحمص أو تصلق، صحت صلاته، أو بعد ذلك بطلت صلاته؛ لأنها إنما تغيب العقل بعد التحميص أو الصلق، أما قبل ذلك - وهي ورق أخضر - فلا - قال القرافي - وسألت عن هذا
واضح البرهان
٢٨٥
الفرق جماعةً ممن يعانيها؟ فاختلفوا على قولين: منهم من سلَّم هذا الفرق (۱) وقال لا تؤثر إلا بعد مباشرة النَّار، ومنهم من قال: تؤثر مطلقا، وإنما تحمص لإصلاح طعمها وتعديل كيفيتها، فعلى القول بعدم الفرق تبطل الصلاة مطلقا، وعلى القول بالفرق يكون الحق ما قاله المفتي، إن صح أنها من المسكرات، وإلَّا صحت الصلاة مطلقا، وهو الذي اعتقده أنها من المفسدات، والمفسدات لا تبطل
الصلاة، كالبنج والشيكران وجوزة بابل». انتهى كلام القراقي.
قلت: الصحيح أنَّ الحشيشة طاهرة (۲) كما قال النووي، وقطع به تقي الدين ابن دقيق العيد في شرح فرعي ابن الحاجب" بل حكى الإجماع عليه، وكذلك الأفيون وسائر المخدرات طاهرة أيضًا.
قال الزركشي: ليس لنا نبات نجس العين قط، إلَّا النبات الذي يُسقي بالنجاسة، فإنه نجس العين عند الصيدلاني، حتى قالوا في السم الذي هو
نبات: إنه طاهر، مع أنه أشد ضررا من الحشيش». انتهى.
فمن صلى وهو يحمل حشيشا أو أفيونا فصلاته صحيحة بلا نزاع.
(1) وممن اعتمد هذا الفرق ورجّحه الفقيه أبو عبد الله المقري، فقال في "قواعده": «إنها الخلاف فيها بعد قليها وتكييفها للأكل، وإلا فهي كالعنب للخمر، لا يحرم عينه ولا
زرعه إجماعا». اهـ
(۲) سواء قلنا إنها مسكرة أو مخدّرةً، فهي على كلتا الحالتين طاهرة.
٢٨٦
الفقه
هل يجلد شارب الحشيش ؟
تقدم عند ابن تيمية أنَّ شارب الحشيش يُجلد كشارب الخمر، وكذلك قال الزركشي، مُستدِلًا بأنَّ أدلة الحد في السكر تشمل الحشيش، ولأن صاحبه
يهذي، وإذا هذي افترى فيجلد حد الفرية، ثُمَّ نقل وجوب الحد
الماوردي (1).
عن
وصرح بوجوب الحدّ أيضًا الحافظ الذهبي، وضعفه الأقفهسي في "إكرام من يعيش" قال: «الأن شرط القياس في الحدود المساواة، وهذه الأشياء -يعني المخدرات لا تشبه الخمر في تعاطيها؛ لأنها أي الخمر - تورث عربدة وغضباً وحَميَّة، والسكران يزيد شره وعربدته بالسكر، بخلاف آكل المخدرات
(۱) وقال بعض العلماء: اعلم أنَّ الحشيشة المعروفة حرام كالخمر، يحد أكلها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في متعاطيها تخنت قبيح، وديانة عجيبة، وغير ذلك من المفاسد، فلا يصير له من المروءة شيء البتة، ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع وفساده، وانقلابه إلى شر من طبع النساء، ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلا عن الأجانب ما يقضي العاقل منه بالعجب العجاب.
والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصيال على الغير، وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة
ورأى آخرون من العلماء تعزير آكلها كالبنج، ومما يقوي القول بأنه يحد؛ أن أكلها ينتشي ويشتهيها كالخمر وأكثر، حتى لا يصبر عنها، وتصده عن ذكر الله وعن الصلاة، مع ما فيها من تلك القبائح». انتهى.
واضح البرهان
۲۸۷
فإنه وإن زال عقله يسكن شره؛ لفتور بدنه وتحدره، وكثرة نومه، وأيضًا: فالحشيش ونحوها طاهرة، والخمر ،نجسةٌ، فيناسب تأكيد الزجر عنها، بإيجاب ألح. وأيضًا: فالخمر يحرم تعاطي قليلها للنجاسة، بخلاف الحشيش فإنه لا يحرم أن يتعاطى منه ما لا يسكر ، فبطل القياس». انتهى كلامه.
وفي فتاوى المرغيناني من كتب الحنفية: «المسكر من البنج ولبن الرماك (۱): حرام، ولا يُحد شاربه، قاله الفقيه أبو حفص، ونص عليه شمس الأئمة السرخسي». انتهى.
وحكى الأقفهسي عن مذهب الشافعي: «أن في الحشيش التعزير». قلت: وهكذا الحكم . عند المالكية والحنفية، وبعضهم قال: إنَّ فيه الحد والتعزير، ونقله الزركشي عن كتاب "الذخيرة" للقرافي، وهذا غلو وتشديد لا معنى له، وهو قول ساقط.
والقرافي نفْسُه صَرَّح بإسقاط الحدّ في الحشيش، حيث قال في "الفروق": تنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام الحد، والتنجيس وتحريم اليسير. والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة، فمن صلى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعا، ويجوز تناول اليسير منها». انتهى
كلامه.
والخلاصة: أنَّ المُخدّرات فيها التعزير لا غير، وهو بحسب اجتهاد الإمام،
على ألا يبلغ أقل الحدود.
(۱) بكسر الراء: جمع رمكة - بفتح الراء والميم - وهي: الأنثى من البراذين.
۲۸۸
الفقه
ومما جاء فيها من التعزير ما حكاه المقريزي في "الخطط" فإنه بعد أن نقل كلام ابن البيطار في الحشيش ، قال ما نصه: «فانظر كلام العارف بها، واحذر من إفساد بشريتك، وإتلاف أخلاقك باستعمالها، ولقد عهدناها، وما يرمى بتعاطيها إلا أرذل الناس، ومع ذلك فيأنفون من انتسابهم لها؛ لما فيها من
الشنعة.
وكان قد تتبع الأمير سردون الشيخوني - رحمه الله - الموضوع الذي يعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق وحكر واصل ببولاق وأتلف ما هذه الشجرة الملعونة، وقبض على من كان يبتلعها من أطراف
هنالك
من
الناس ورذلائهم، وعاقب على فعلها بقلع الأضراس، فقلع أضراس كثير من العامة في نحو سنة ٧٨٠ هـ».
قلت: هذا تشديد في التعزير ما كان ينبغي ارتكابه، ومثله في التشديد
الحكم فيها بالأشغال الشاقة المؤبدة.
هل الحشيشة من الكبائر ؟
صرح الحافظ الذهبي بأن تعاطي الحشيش كبيرة، وفيها الحد كالخمر، قال في كتاب "الكبائر": وهي أخبث من الخمر، من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في متعاطيها تخنيث ودياثة وقوادة، وغير ذلك من الفساد، والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة» . انتهى، وانظر بقية كلامه.
حجر
وصرح الحافظ أبو زرعة العراقي بأنَّ الحشيشة كبيرة أيضًا، وذكرها ابن
ر الهيتمي في "الزواجر" كما هو معروف.
واضح البرهان
۲۸۹
هل حرمة الحشيش مثل حرمة الخمر ؟
في "تنوير الأبصار" و"جامع البحار" من كتب الحنفية: «ويحرم أكل البنج والحشيش والأفيون، وذلك كله حرام؛ لأنه يُفسد العقل حتى يصير الرجل فيه صاحب خلاعة وفساد، ويصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، لكن تحريم ذلك دون تحريم الخمر». انتهى، وكذا في كتاب "الجوهرة" من كتب الحنفية أيضًا، وهذا واضح لا خفاء فيه.
هل ينتقض وضوء شارب الحشيش ؟
من تناول الحشيش أو غيره من المخدّرات فغاب عقله انتقض وضوؤه كما نص عليه المالكية والحنفية، وكذلك عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الحشيش
عندهم مسكر
ومن هنا يعلم أنَّ مَن يُصَلِّي وهو متأثر من شرب الحشيش أو أكله فصلاته باطلة، ويجب قضاؤها.
قول شاذ
ذكر سليمان الرازي في تقريب الغريبين" في الكلام على حديث أبي داود «أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفْتِر»: «إِنَّ النهي عن المسكر حرام، وعن المفتر مكروه، وجمع بينهما في الحديث». انتهى.
قال النابلسي نقلا عن بعضهم: «فعلى هذه المقالة، لا يُعزر آكل الحشيش والبنج لعدم تحريمها، وإنما يحرم من المسكر الشراب خاصة، ولعله يفرق بينها وبين الخمر بأنها تستعمل للدواء بخلاف الخمر، وبأنها طاهرة قطعا بخلاف الخمر، وبأنه لا يُحد آكلها بخلاف الخمر، ولا يجب طرحها بخلاف الخمر، ولا
۲۹۰
الفقه
يحرم اقتناؤها بخلاف الخمر، ولا يحرم أكل يسيرها بخلاف الخمر». انتهى. وهذا قول ضعيفٌ شاذ، يخالف ما تقرّر عند أهل الحديث والأصوليين أنه: «إذا ورد النهي عن شيئين مُقترنين، ثُمَّ نصَّ على حكم النهي عن أحدهما - من حرمة أو غيرها - أعطي الآخر ذلك الحكم، بدليل اقترانهما في نهي واحد»، وفي الحديث المذكور ذكر المفتر مقرونا بالمسكر، وتقرر عندنا تحريم المسكر بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، فيجب أن يُعطَى المفتر حكمه بقرينة النهي عنهما بلفظ واحد انتهى (۱).
(تنبيه) : للأصوليين قاعدة أخرى نُبينها لئلا تشتبه بهذه القاعدة فيختلط الأمر على من لم يمارس علم الأصول.
وبيان ذلك أنَّ العلماء كثيرًا ما يُصرحون في كتب الحديث والاستنباط بأن دلالة الاقتران ضعيفةٌ، يعنون بذلك أنه إذا ورد في آية أو حديث أشياء متعاطفة، وكان أحد تلك الأشياء معلوم الوجوب مثلا فلا نقول إن سائرها واجب، بدليل قرنه في الذكر بما هو واجب؛ الجواز أن يكون بعضها مندوبا وجمع بينه وبين الواجب بطريق عطف النسق نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «عَشْرُ مِن الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وإعْفَاءُ اللَّحْيَةِ والسَّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الماءِ، وقَصُّ
(1) ولا يصح أن يقال : يجوز أن يكون النهي بالنسبة للخمر للتحريم، وبالنسبة للحشيش يفيد الكراهة، بناء على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، وهو الذي رجحه الشبكي في "جمع الجوامع "؛ لأن هذا القول ضعيف رده علماء البيان قاطبة، وجمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأن من شرط المجاز أن يكون في اللفظ
قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي للفظ، فكيف يصح الجمع بينهما والحالة هذه ؟!!
واضح البرهان
۲۹۱
الأَظْفَارِ، وغَسْلُ البَرَاحِمِ، ونَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ العَانَةِ، وانْتِقَاصُ الماءِ». قال رواي الحديث: ونسيت العاشرة إلَّا أن تكون المَضْمَضَةَ»، فإعفاء اللحية واجب للأحاديث الدالة على ذلك في "الصحيحين" لكن لا يصح أن
نقول بوجوب الاستنشاق والسواك بسبب اقترانهما في الحديث مع إعفاء اللحية، بل هما مندوبان عطفا عطف نسق على واجب، إذا تقرر هذا فالأشياء المتعاطفة: إما أفعال، أو أوامر، أو نواهي، أو أوامر ونواهي.
فالأفعال كما في الحديث المذكور، والأوامر كما في قوله تعالى: كُلُوا
مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: ١٤١]، فالأكل جائز
وإيتاء الحق واجب.
والنواهي كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَسُبُّ أَحَدُكُمْ الدَّهْرَ، فإِنَّ الله هو الدَّهْرُ ، ولا يَقُولُنَّ أَحَدُكُم للعنب الكَرْمَ، فَإِنَّ الكَرْمَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ». فالنهي الثاني للكراهة قطعًا، والأول للتحريم إذا كان الساب يعتقد أن للدهر تأثيرا في الحوادث، بل يكفر بذلك؛ لأن الذي يُصرف الدهر ويُقلب الليل والنهار هو الله.
والأوامر والنواهي كما في قوله تعالى: وَقُلْنَا يَكَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا نَقَرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ٣٥]
فالأمر بالأكل للإباحة، والنهي عن الشجرة للتحريم.
فأنت ترى حكم هذه الأمثلة متباينا وإن جمع بينهما بالعطف في سياق
الكلام، ومجرد عطف بعضها على بعض لا ينهض دليلًا على تماثلها في الحكم؛
۲۹۲
الفقه
لأن دلالة الاقتران ضعيفةٌ، وهذا بخلاف حديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن كُلِّ مُسْكِرٍ ومُفتر»، فإن هنا شيئين - وهما المسكير والمفتر -
اندرجا تحت نهي واحد، فوجب أن يتماثلا في مدلوله وهو التحريم. وبهذا البيان ظهر الفرق واضحًا بين القاعدتين، والله ولي التوفيق.
هل يجوز إطعام الحيوان بالحشيش ؟
قال الأقفهسي: ويحرم إطعامها الحشيشة- للحيوان؛ لأن إسكار
(1)
الحيوان حرام». انتهى ونص على ذلك أيضًا في الرسالة المختصرة من "زهر العريش"، قال النابلسي: «فإن دعت إلى ذلك حاجةٌ، كما إذا أطعمه ليزيد أكله فيسمن، فهذا
غرض صحيح، فيحتمل جوازه».
هل يجوز بيع الحشيش ؟
قال الأقفهسي: ويجوز بيع الحشيش قطعا؛ لأنها من جملة الأدوية». ونقل عن ابن القسطلاني في "تكريم" المعيشة": «أنَّ فيها منافع من تحليل النفخ، وطرد الرياح، وتنقية الأبرية من الرأس عند غسله بها، والأبرية: مرض يحدث بسطح الرأس، وهو قشور بيض، وقال: ولا يستعملها الأصحاء، فإنه يحدث عنها السبات والخدر والإساءة ،والهذر فإن ما كان بهذه المثابة يتعيَّن اجتنابه؛ لما يشتمل عليه من المضار التي هي مباديء دواعي الهلاك». انتهى.
(۱) وقال ابن حجر في "الزواجر": «يحرم إطعام الحشيشة الحيوان أيضًا؛ لأن إسكاره حرام أيضًا».
واضح البرهان
۲۹۳
وكذا قال الزركشي، إلا أنه صرح بأن بيعها لمن يتحقق منه تعاطيها حرام،
كما يحرم بيع العنب لمن يعصره خمرا.
تنبيهات
الأول: قال الزركشي : لو لم يتضرر شخص بأكل الحشيش ولم يَسْكَر بها، فالظاهر أنها لا تحرم عليه للطهارة وعدم الضرر». انتهى.
وهذا من الفوارق بينها وبين الخمر، حيث أن الخمر يحرم منها القليل والكثير، أسكر أو لم يسكر ؛ لورود النص بذلك صحيحًا مشهورًا ولنجاستها، لكن قد يقال: إذا لم تؤثر الحشيش في متعاطيها النشوة التي يرغبها، فلماذا يستعملها؟ فإنها لا تدفع جُوعًا ولا تردُّ عطشا، وإن صرح الزركشي والأقفهسي بجواز أكلها عند المَخْمَصَة - أي المجاعة- لظنهما أنها تشبع، وهو
غلط.
الثاني: ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ عماد الدين ابن أبي شريف ألف رسالة في تحريم جوزة الطيب والحشيشة. ونزيد هنا: أنه وقع نزاع بين أهل الحرمين ومصر في جوزة الطيب، ورفع فيها سؤال إلى شيخ الشافعية في عصره الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي، فأفتى بحرمتها، ونقل عن تقي الدين ابن دقيق العيد: أنها مسكرة، واعتمده المتأخرون من المالكية والشافعية. لكن تقدم في كلام القراقي: أنَّ جوزة بابل -وهي جوزة الطيب- من المفسدات، وجعل الأقفهسي حرمة جوزة الطيب أشد من حرمة الحشيش،
٢٩٤
الفقه
حيث جعلها أصلا والحشيشة فرعًا، فإنه حكى ما نقله القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في الحشيشة بين كونها ورقًا أخضر فلا تسكر، وبين كونها محمصة فتسكر ثُمَّ قال: والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب، والزعفران، والعنبر، والأفيون، والبنج، وهو من المسكرات المخدرات، ذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة" ) . انتهى، فجعل الحشيشة ملحقة
بجوزة الطيب.
لكن نصَّ عماد الدين ابن أبي شريف في رسالته المشار إليها أن حرمتها دون حرمة الحشيش، وهذا هو الصحيح، بل يجوز استعمالها في بعض المأكولات للإصلاح.
أما الزعفران والعنبر فلا وجه لتحريمهما؛ لأنهما من الطيب الذي
يستعمل لإصلاح الأكل وللتدفئة، وليس فيها تخدير.
الثالث: ما تقرّر في الحشيش والأفيون والبنج وجوزة الطيب من الحرمة والضرر ينطبق على بقية المخدّرات، مثل: البانجو والكوكايين والهيروين
ونحوها (۱). أما الكفتة والقات: فقد ذكر الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي أنَّ أهل اليمن
(۱) مثل الكولا: وهو نباتٌ مُرُّ الطعم، يأكله أهل السنغال بكثرة، معتقدين أنه يفيدهم
قوة في الناحية الجنسية، كما يعتقد متعاطو الحشيشة فيها ذلك أيضًا.
وأخبر من ذاقه في بلدة باماكو من السنغال أنه مثل القات، فعلى هذا لا يكون حراما في رأى ابن حجر الهيتمي حسبما ما مرَّ عنه من أنه لم يجزم بتحريم القات في كتاب "تحذير الثقات".
واضح البرهان
٢٩٥
اختلفوا فيها، وبعثوا إليه بثلاث مصنفات؛ اثنان في تحريمها، وواحد في حلها، فألف كتابه المشار إليه سابقا "تحذير الثقات ، لكنه لم يجزم بتحريمها، إذ لم يقم له دليل على إسكارهما أو تخديرهما، وعلى هذا: فلا يحرم شرب التمباك أيضًا؛ لأنه لا تخدير فيه، وكذلك الجوراك الذي يشربه أهل مكة.
نعم إن ثبت ضرر عن شربها ثبت تحريمها.
ومثلهما في هذا الحكم الدخان المعسل ، وهو شائع بكثرة بين أهل الريف في مصر، وضرره مُحقق، بخلاف التمباك والجوراك، وقد كنت قرأت كتابا لبعض علماء اليمن اسمه "قمع الشهوة عن تناول التمباك والكفتة والقات والقهوة" والكفتة نبات مثل القات. وعلى ذكر القهوة ينجر الكلام إلى تحريمها أو عدمه، والذي نراه فيها: أنها ليست بحرام ولا مكروهة؛ لأنه لا تخدير فيها ولا ضرر، وإنما تنبه الفكر
وتهضم الطعام.
جماعة
غلط، بل هو
وكذلك الشاي جزم . من العلماء بتحريمه، وهو حلال، وقد أخبرني مولانا الأستاذ الإمام الوالد رضي الله عنه: أنه قرأ مؤلفات في تحريم السكر بدعوى أنه يستعمل فيه الدم؛ لأجل أن ينعقد ) وعظام الميتة،
(۱) ومع ذلك، فالسكر طاهر بالاستحالة؛ لأن الدم الذي يوضع فيه استحال، أي: انقلب إلى حقيقة السكرية، وكذلك الحكم في عظام الميتة التي توضع فيه لتبيضه. والطهارة بالاستحالة من القواعد الفقهية المقررة، فقد نص الفقهاء على أنَّ الخمر إذا تحجر أو خلل صار طاهرا؛ لأنه انقلب من حقيقة الخمر إلى حقيقة الخل، والمالكية يقولون بنجاسة المني، وهم مع ذلك متفقون على طهارة الحيوان الذي يتخلق منه سواء
٢٩٦
الفقه
ليبيض بعد احمراره، وهذه شبهة بعض من حرم شرب الشاي. وأخبرني أنه قرأ للعلامة الأديب الشريف السيد سليمان الحوات في الرد
على من حرم السكر رسالة اسمها : "تغيير المنكر فيمن حرَّم السكر". أما الدخان والنشوق: فقد تكلمت عليهما بما فيه كفاية في "خواطر دينية"
فارجع إليها.
وهذا آخر ما وفقني الله إلى تحريره وتنقيحه، وكان الفراغ منه ضحوة يوم الثلاثاء، الثالث من شهر رمضان المعظم سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف
هجرية.
ثُمَّ عدت عليه بزيادات و تنقیحات، فرغت منها عصر يوم الثلاثاء، الثالث والعشرين من شهر صفر الخير، سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وألف أحسن الله
عاقبتها.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه ووالاه.
أكان إنسانًا أم غيره؛ لأنه باستحالته إلى حقيقة أخرى - وهي الحيوانية - صار طاهرا.
واضح البرهان
۲۹۷
الشعراء وحشيشة الفقراء
وقد وقفت على العدد (۷ - ۸) مجلد (۳۱) من "مجلة العرفان"، التي تصدر
عن
الحشيش
في صيدا، بتاريخ ١٣٦٤هـ - ١٩٤٥م، فوجدت فيه مقالة للأستاذ سليمان ظاهر - عضو المجمع العلمي العربي، ألقاها محاضرة في محطة الشرق الأدني، سنة ۱۹٤٢ - فأردت أن أثبتها هنا؛ تتميما للفائدة، وإن كانت هي بقية بحث نشر أوله في العدد ( ٥ - ٦) من المجلة المذكورة، ولم نقف عليه. وهذا نص المقالة المشار إليها :
إنَّ الشعراء الذين لهم في كل عرس قريض، وأولعوا بوصف كل ما تبصره عيونهم، وتحس به مشاعرهم، ولم يفتهم وصف ظاهرة من ظواهر الحياة والاجتماع، وأفردوا للخمرة وأوصافها بأروع الأوصاف باب من القريض سموه بالخمريات أحجموا عن مدح الحشيشة ووصفها، وقد يكون بينهم المبتلى بتعاطيها، وما ذاك إلا لخشتها، ولما لها من الأثر في انحطاط أخلاق من يستعملها، وما يظهر عليهم من الأحوال الغريبة، وما لها من النتائج السيئة
التي تنفر منها نفوس الطبقات التي هي أرق من طبقة متعاطيها. وبعد: فإن ما ورد من ذمّ الشعراء لها وإن كان قليلا فهو يزيد أضعافا مضاعفة على ما مدحت به.
ومن ذلك: بيتان لتقي الدين الموصلي المتقدمان.
ومنه قصيدة لمحمد بن علي بن الأعجمي الدمشقي يعزو بها إظهار الحشيشة واستعمالها إلى الشيخ حيدر - من مشايخ الطرق- أثبتها المقريزي في
۲۹۸
الفقه
بحثه عن الحشيشة في "خططه" مستهلها:
دع الخمر واشرب من سلافة حيدر معنبرة خضراء مثل الزبرجد ومنه قول أحمد بن الرسام الحلبي، ويعزو استعمال الحشيشة للشيخ حيدر المذكور وأتباعه:
وإذا هممت بصيد ظبي نافر فاجهد بأن يرعى حشيش القنبس واشكر عصابة حيدر إذ أظهروا لذوي الخلاعة مذهب المتخمس ومنه قول علي بن مكي، ينسبها إلى الهند: فقم فانف جيش الهم واكفف يد العنا بهندية أمضى من الهند والسمر بهندية في أصل إظهار أكلها إلى الناس لا هندية اللون
استحضار الحشيشة واستعمالها:
أما استحضاراتها فهي تنقسم إلى طبية وغير طبية، وهو ما يستحضر للأكل والإسكار، وله طرقٌ كثيرة يستحضر أكلا وشرابًا وتدخينا، صرفا وممزوجا بغيره من العقاقير.
يقول الرشيدي من مترجمي "خلاصة الأثر" في وصف القهوة: يقولون لي: قهوة البن هل تحل وتُؤمَنُ آفَاتُها؟ فقلت: نَعَم هي مَأْمُونَةٌ وما الصَّعْبُ إِلَّا مُضَافَاتُها وسئل عن مضافاتها؟ فأجاب : هي ما يستعمل معها من المكيفات (۱).
(۱) لا يضاف إليها الآن إلا نبات الحبهان، بفتح الحاء وتشديد الباء المفتوحة، قاع قلة
واضح البرهان
مضار الحشيشة
۲۹۹
لئن فرض لها الطب بعض المنافع، فإن مضارها تربو عليها أضعافا مضاعفة، وإثمها أكبر من نفعها فالحشيش كما يقول الدكتور حسن باشا محمود من مقال نشره في المجلد الحادي عشر من مجلة المقتطف عام ١٨٨٦ - يضر بالإنسان ضررًا لا مزيد عليه، وذلك بتأثيره في حواسه وجسمه وعقله، ويعرف الحشاش بأنه يكون أصفر اللون، جاحظ العينين، مسبول الأجفان، يتكلم ببطء، وألفاظه خاصَّةٌ به وقوته الطبيعية تقل رويدا رويدا كقوته العقلية، ويميل إلى النوم، وأكثر الحشاشين مصاب بالنزلات الشعبية المزمنة وأغلبهم مصاب بالبله.
الحشاشون أو الأساسون في التعبير الفرنجي يطلق كتاب الفرنج على الإسماعليين أو القرامطة اسم الحشاشين أو
الأساسين؛ لما يروى عنهم من أنهم أول من فشا فيهم استعمال الحشيشة. وأن الحسن بن الصباح صاحب قلعة الموت والملقب بشيخ الجبل، ومؤسس دولة القرامطة في الشرق في بلاد إيران سنة ٤٨٣ هـ سنة ٩٩٠م؛ لما انتهى إليه الأمر وخضع له قرامطة إيران والعراق والشام، قسم طائفته إلى ثلاث رتب الدعاة، الرفاق الفداوية، وإن الرتبة الثالثة - وهي الفداوية - التي كان ينتقم بها من خصومه كان يتخذ استعمال الحشيشة وسيلة لإخضاعها إلى مشيئته وتصريفها بما يريد من ضروب الانتقام، حيث يري
بلهجة المغرب: وهو نبات طيب الطعم لا تخدير فيه .
.۳۰۰
الفقه
هذه الرتبة بتأثير تخدير الحشيش وما يبعثه في نفوسها من التخيلات والأوهام
صور الجنان ونعيمها جزاءً للمطيع، وصور الجحيم وشقائها عقابًا للعاصي، فإذا صحت من سكر الحشيشة حدثت بما رأت وشاهدت من صور النعيم والجحيم. أما مؤرخو العرب والإسلام، فلم نجد في المصادر التاريخية التي بين أيدينا ما ينطبق على هذه الرواية () ، اللهم إلا ما جاء في "صبح الأعشى" عند ذكره لأتباع المستعلي الفاطمي: «ثم هم المستعلوية - يعظمون راشد الدين سنان وهو رجل كان بقلاع الدعوة بأعمال طرابلس في زمن صلاح الدين بن أيوب انتهت رياستهم إليه، قال في مسالك الأبصار": وكان رجلا صاحب سيميا فأراهم به ما احتل به عقولهم من تخييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنات النعيم، وأشخاص من مات منهم على عصيان أئمتهم في نار الجحيم، فثبت ذلك عندهم، واعتقدوه حقا».
ويقول في مكان آخر: إن من اشتهروا بالفداوية: وهم المستعلوية لا النزارية، واشتهروا بالفداوية؛ لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه، وسنان متأخر عن الحسن بن الصباح بما يناهز القرن ، ولعل استهواء سنان لأتباعه بما يسمى: السيميا، هو نوع مما استهوى به الحسن ابن الصباح أتباعه.
ولعل في هذه الرواية ما يؤيد ما كتبه الفرنج وروى الثقات (۲) في مثل هذا
(۱) بل هي من تلفيقات المستشرقين الذين دأبوا على تلفيق أكاذيب يعيبون بها الشرقيين عامة، والمسلمين منهم خاصة. (۲) كانت الحشيشة تزرع في مصر أيام ابن البيطار ، كما مرَّ في كلامه، وهو من أهل القرن
السادس.
واضح البرهان
۳۰۱
الاستهواء بالحشيشة لفرقة باطنية نشأت في الزمن الأخير، وصنعت ما صنعه
الحسن بن الصباح وسنان.
محاربة الحكومات للحشيشة ومستعمليها قديما وحديثا
إن عادة استعمال الحشيشة لم تكن مما يمكن التجاهر به كالمسكرات السائلة، وكادت تكون منذ ظهرت واتخذت سكرًا ومُحدرًا قيد الكتمان والخفاء، ومستعملوها في الغالب هم من الطبقة المنبوذة، بل وكل مستعمل لها مهما يكن له من المنزلة هو معدود في هذه الطبقة، ولذلك لم نجد فيها تصفحناه من المراجع التاريخية خبرًا يتعلق بمحاربتها، اللهم إلَّا ما رواه المقريزي حيث قال في فصله الممتع في حشيشة الفقراء وكان قد تتبع الأمير سودون الشيخوني - رحمه الله - الموضع الذي يعرف بالجنينة من أرض الطبالة وباب اللوق، وحكر واصل ببولاق وأتلف ما هنالك من هذه الشجرة الملعونة وقبض على من كان يبتلعها من أطراف الناس ورذلائهم، وعاقب على فعلها بقلع الأضراس، فقلع أضراس كثير من العامة في نحو سنة ٧٨٠هـ - ١٣٨٨ م - وما برحت هذه الحشيشة تعد من القاذورات. لم نجد ذكرًا لهذه الحشيشة في تاريخ ابن الوردي" و"ابن ساباط" و"ابن صالح" و"الأمير حيدر "الشهابي" و"الخالدي"، ولا ذكر لمحاربتها في كتب هؤلاء المؤرخين، حتى ولا في "تاريخ الجبرتي"، مع أنَّ استعمالها كان ذائعا في عهودهم، وقد حارب العلماء وذوو السلطان ما هو أقل ضررا منها، بل ما لا يعد من الضرر في جنب مضارها، كالقهوة والتبغ والتنباك، وكان ما أُلف من الكتب والرسائل في تحريم التبغ أضعاف ما أُلف في الحشيشة.
۳۰۲
الفقه
يذكر المحبي في ترجمة السلطان مراد ابن السلطان أحمد العثماني المتوفى سنة ١٠٤٩ هـ - ١٦٣٦م - : أنه أبطل القهوات في جميع . ممالكه، والمنع من شرب القهوة بالتأكيدات البليغة، وأما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وهما من أعظم أزمنة انتشارها استنباتا وتجارة واستعمالا فقد صرفت الدول الأوربية وحلفاؤها من الدول الشرقية التي شاء القدر أن تكون بلادها من منابتها - مجهودات عظيمة في محاربتها، وترصد طرق
المتاجرين بها ومستعمليها وزراعها، وفرضت عليهم العقوبات الشديدة. وقد منيت هذه البلاد والديار المصرية مع كل هذا التشديد باستنباتها والإتجار فيها، ولا غرو فإن رواجها وتوفر رغبات المبتلين باستعمالها وإنفاقهم المال في تحصيلها، رأى منه المستنبتون والمتاجرون مادَّةٌ من الأرباح فياضة المعين، ورأوا منها حجر الكيمياء المزعوم، ضاربين عرض الحائط الأديان والحكومات لها، ولم تفتهم الحيلة، والحيلة لا حدود لها إذا لم تصغ النفوس الضعيفة إلى وازع من ضمير ودين وأمنت سلطان الحكومة بما تخترعه من أساليب للفرار من عقوبات ذلك السلطان.
بتحريم
ومن المؤسف أن يكون فريق من الناس يزعم الوجاهة، من أعظم
مروجي زراعتها والاتجار فيها.
هل استعمال الحشيشة عادة في الطبقة المنحطة فقط؟
الذي ظهر لنا من مصادر هذه المحاضرة أنه قد مني بالحشيشة غير الصنف المرذول من الناس، فسرى استعمالها إلى فريق مُترَفٍ.
يقول الدكتور حسن باشا محمود ويسوؤنا أن نقول: إنَّ الحشاشين كثير
واضح البرهان
۳۰۳
في هذه الديار، وهم من كل الطبقات والحشيش الوارد إليها سنويا يبلغ ثمنه:
نحو نصف مليون جنيه، مع أن الحكومة تمنع إدخاله منعا باتا.
قوم الدكتور قيمة الوارد من الحشيشة إلى الديار المصرية في عام ١٨٨٦م،
وماذا تكون قيمة المستهلك فيها اليوم ؟ إذا ضم إلى مستهلكيها في بلاد الكاتب
المستهلكون من البلاد الأخرى؟ لا جرم أنه كثير جدا. هذا أثر استهلاكها في أموال البلاد دع أثرها في العقول والأخلاق والآداب العامة والصحة، يقول المقريزي: «لما كان في سنة ٨١٥هـ - ١٤١٢م، شاع التجاهر بالشجرة الملعونة، فظهر أمرها واشتهر أكلها وارتفع الاحتشام
من الكلام بها، حتى لقد كادت أن تكون من تحف المترفين.
وقد مر ذكر فريق ممن كان له مكانة في العلم والأدب ابتلي باستعمالها واستعمال ما يضاهيها من المكيفات، وهناك غيرهم ممن لا يتسع لنا الوقت
والمجال لتعداد أسمائهم .
تاريخ ظهور الحشيشة، ومعرفة خواصها المسكرة:
أما ظهور الحشيشة فقديم معروفٌ، منذ أوجد الله تعالى الدنيا، كما يقول المقريزي : أنها كانت على عهد اليونان وعرف أطباؤهم خواصها الطبية، وعرفها أطباء العرب، وذكرها لغيرهم، ولم يكن عزو إظهارها إلى الشيخ حيدر - المتوفى سنة ٦١٨ هـ - ١٢٢م - إلَّا أسطورة.
يقول الدكتور حسن باشا محمود الحشيش ويُسمَّى أيضًا: بالقنب الهندي والشهدانج، والحشيشة، بحسب البلاد التي يزرع فيها أصله من بلاد الصين والهند، ونقل إلى بلاد الأعجام وزرع فيها، واستعمله الأعجام مسكرا، كما
٣٠٤
الفقه
استعمله الهنود من قبلهم، ثُمَّ نقل إلى مصر في القرن الخامس للهجرة وزرع فيها. وهذا القول إذا صح، وكان له مستند تاريخي، وصح ما عزي إلى شيخ الجبل الحسن بن الصباح القرمطي من استعماله له مع أتباعه، كان ذلك مما يزيد في بطلان القول بعزوه إلى الشيخ حيدر، والقول بأن التتار هم الذين حملوها إلى العراق وبلاد الشام التي اجتاحوها بغزوهم البلاد الإسلامية، وإسقاطهم خلافة بني العباس في بغداد سنة ٦٥٨ هـ - ١٢٥٩م. وإذا صح ما قيل أنَّ أهل العراق لم يكونوا يعرفون سرها حتى ورد إليها صاحب هرمز و محمد بن محمد صاحب البحرين وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الخليفة المستنصر بالله سنة ٦٢٨ هـ - ١٢٣٠م - فحملها أصحابهما معهم، وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق، ووصل
خبرها إلى الشام ومصر والروم؛ فيضعف قول الدكتور حسن باشا. ومهما يكن من أمر الخلاف في بدء ظهورها واستعمالها مُسْكِرًا، مما المؤرخ تحقيقه، فقد شملت مضارها هذه البلاد، وقاست منها الأمرين. خُذْ ما رَأَيْتَ ودَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ
في طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
يهم
لحائه
أما النوع المسكر من الحشيشة، وغير المسكر وهو ما يستخرج من - الحبال والخيوط، ووضعهما النباتي، وما إلى ذلك من الأبحاث، فإنَّ المجال أضيق من أن أعرض له بهذه المحاضرة ، وهو بأن يُفرد له كتاب بالتأليف أجدر من أن يحاضر به والسلام عليكم.
موسوعة
العلامة المتفنّن الجامع بين المَعْقُولِ والمَنْقُولِ سيدي الشريف عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (١٣٢٨ - ١٤١٣) ه شص
قدم لها
الشريف الدكتور
عبد المنعم بن عبدالعزيز بن الصديق
إشراف
الدكتور محمود سعيد بن محمد ممدوح
المجلد الحادي عشر
التصوف الإسلامي
۱ - الإعْلَامُ
بأنَّ النَّصُوَّفَ مِن شَرِيعَةِ الإسلام
الإعلام
۳۰۹
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي منح أولياءَهُ جَزيلَ عطائِهِ، ووهب أصفياءه جليل حبائِهِ، لهم بمظهر من مظاهر أسماءه، فتاهت عقولهم في مشاهدة عظمته وكبريائه، وطافت أرواحهم هائمة في قُدسِ سَنائِهِ، وأفناهم عن أنفسهم فلم يشاهدوا سواه في أرضه وسَمائِهِ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها ليوم لقائه، ونستوجب بها جميل جزائه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل رسله وأنبيائه أفاض عليه مولاه من أنواع العلوم والمعارف ما تنوء الجبالُ الشُّمُّ بحمل أعبائه ، صلى الله عليه وآله وسلم صلاةٌ وسلاما خالدين مع خلود الدهر باقيين بعد فنائه، ورضي الله عن آله الكرام حماة الدين الدافعين عنه بالسيف والبرهان حملات أعدائه، وعن أصحابه
الفخام، والتابعين لهم بإحسان إلى قيام الساعة وساعة القيام. أما بعد: فإنَّ التصوف كبيرٌ قَدْرُه ، جليل خطره، عظيمٌ وَقْعُه، عمیق نَفْعُه، أنواره لامعة، وأثماره يانعة واديه قريع خصيب وناديه يندو لقاصديه من كل خير بنصيب، يُزَكِّي النَّفس من الدَّنَس، ويُطَهِّرُ الأنفاس من الأرجاس، ويُرقي الأرواح إلى مراقي الفلاح، ويُوصِلُ الإنسان إلى مرضاة الرحمن.
وهو إلى جانب هذا ركن من أركان الدين، وجزء متمم لمقامات اليقين، خلاصته تسليم الأمور كلها الله، والالتجاء في كل الشؤون إليه، مع الرضا
بالمقدور، من غير إهمال في واجب أو مقاربة محظور.
۳۱۰
التصوف
كثرت أقوال العلماء في تعريفه، واختلفت أنظارهم في تحديده وتوصيفه،
وذلك دليل على شرف اسمه ومُسماه، يُنبئ عن سمو غايته ومرماه.
فقيل: «التصوف: الجد في السلوك إلى مَلِكِ الملوكِ».
وقيل: «التصوف الموافقة للحقِّ، والمفارقة للخلق».
وقيل: «التصوف: ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة». وقيل: «التصوف: الرغبة إلى المحبوب في درك المطلوب.
وقيل: «التصوف حفظ الوفاء وترك الجفاء».
إلى غير هذا من الأقوال التي تبلغ نحو ألف، حكاها الحافظ الصوفي أبو نعيم الأصفهاني في كتابه "حلية الأولياء".
وسئل الإمام أبو القاسم الجنيد - سيد الطائفة عن التصوف، فقال: تصفية القلب عن موافقة البَريَّة، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء الله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة». اهـ ولعل هذا أبلغ ما قيل في التصوف وكشف حقيقته.
وإن كانت الأقوال السابقة مختلفة في اللفظ والمبنى، فهي متفقة في الغاية
والمعنى، وإنما عبر كل قائل بحسب مَدْرَكِهِ ومَشْرَبِه.
وعلى نحو اختلافهم في التصوف اختلفوا في معنى الصوفي واشتقاقه. فقال الإمام أبو عليّ الرُّوذَبارِيُّ - وقد سُئل عن الصوفي-: «مَن لبس
الإعلام
۳۱۱
الصُّوفَ على الصفا، وأطعم الهوى ذوقَ الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا،
وسلك منهاج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلَّم».
الكدر،
وقال الإمام سهل بن عبدالله التُسْتَرِيُّ: «الصوفي من صفا عن ا وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر». وأنشد الإمام تقي الدين السبكي:
تنازع النَّاسُ في الصُّوفي واختلفوا قدمًا وظَنُّوه مُشْتَقًا مِن الصُّوفِ ولستُ أنْحَل هذا الاسم غير فتى صافى فصو في حتَّى لُقِّبَ الصُّوفي وهذان البيتان لأبي الفتح البستي.
وقال العلامة الشيخ محمد ميارة المالكي في "شرح المرشد المعين": "وفي اشتقاق التصوّف أقوال، إذ حاصله اتصافُ بالمحامد وترك للأوصاف المذمومة، وقيل: من الصفاء».
وقال المحقق أبو حفص الفاسي المالكي: «ظهر لي أنه منسوب إلى الصوف، لأنه في الغالب شعاره ودِثاره، ولأن هذا اللفظ - يعني لفظ صوفي - مشتمل على ثلاثة أحرف منقطعة من ثلاث كلمات دالة على ثلاث معان هي أوصافه المختصة به: فالصاد من الصفاء، والواو من الوفاء، والفاء من الفناء».
قال العلامة ابن الحاج وقد أشرت إلى ذلك في ثلاثة أبيات، فقلت: صفا منهل الصُّوفي عن عِلَلِ الهوى فما شابَ ذاك الورد مِن نفْسِهِ حَظِّ ووَفَّى بعهد الحب إذالم يكن له إلى غير مَن يهوى التفات ولا لحظ تحت آية الإظلام شمس نهاره وقد ذهبت منه الإشارة واللفظ
۳۱۲
ثم إن التصوف مبني على الكتاب والسنة، لا يخرج عنهما قيد أنملة.
قال الإمام الجنيد: «علمنا هذا مشيَّد بالكتاب والسُّنَّة».
التصوف
وقال أيضًا: «الطريق إلى الله تعالى مسدود إلا على المقتفين آثار رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم».
وقال سهل التُسْتَري - أحد أئمة القوم : «أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب المعاصي، والتوبة، وأداء الحقوق».
وقال أبو العباس الملثّم - أحد كبار الصوفية-: «لم تكن الأقطاب أقطابا، والأوتاد أوتادا، والأولياء أولياء، إلا بتعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفتهم به، وإجلالهم لشريعته وقيامهم بآدابه».
وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي الغُماري: من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا
به رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مُدَّعِ».
وقال: «ليس هذا الطريق بالرهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر، واليقين في الهداية، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَيمَةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِنَايَتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: ٢٤]
وقال أيضا: «ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السُّنَّة، فمن أعطيهما وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مُفترِ كذَّاب، أو ذو خطأ في العلم
بالصواب، كمن أُكرم بشهادة الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب».
وقال تاج الدين السبكي في "جمع الجوامع" - وهو من الكتب المقررة في
الإعلام
۳۱۳
الأزهر -: «ونرى أن طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريقٌ مُقوّم». قال شارحه الجلال المحلّي: «فإنه خال من البدع، دائر على التسليم والتفويض والتبري مِن النَّفْس».
وقال التاج الشبكي أيضًا في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم": «الصوفية حياهم الله وبياهم ، وجمعنا في الجنَّة نحن وإيَّاهم، وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعبا ناشئًا عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المتلبسين بها، والصحيح أنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة. ومن ثم قال الجنيد: «التصوّف استعمال كل خُلُقٍ سَنيٌّ، وترك كل خُلُقٍ دَنِي». وقال أبو بكر الشبلي - تلميذ الجنيد -: «التصوف: ضبط حواسك، ومراعاة أنفاسك». وقال ذو النون المصري: «الصوفي من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإذا سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق. وقال علي بن بندار تلميذ الجنيد:
.
«التصوف: إسقاط رؤية الخَلْقِ ظاهرا وباطنا». وهذه عبارات متقاربة. والحاصل أنهم أهل الله وخاصته، الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويُستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم و م وعنا بهم. وللقوم أوصاف وأخبار اشتملت عليها كتبهم، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله: «جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافّة . من عباده، بعد رسله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، جعل الله قلوبهم معادن أسراره، واختصهم بين الأمة بطوالع أنواره فهُمُ الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق، ومن أوصاف هذه الطائفة الرأفة والرحمة والعفو والصفح وعدم
المؤاخذة».
٣١٤
التصوف
وقد كثر في هذا الزمان الذي طغى شره على خيره، من يُنكر التصوف ويزعم أنه دخيل على الإسلام، جاء به مُسلِمةُ الكتابيين والبوذيين ومَنْ على شاكلتهم، وأنَّ الصوفية أصحاب بدع وخرافات، إلى غير ذلك من الدعاوى التي يأباها العقل، ويُكذِّبها النقل، فانتدبنا لإبطالها بهذا الكتاب الذي نرجو الثواب عليه من الله تعالى والتزمنا فيه إيراد الأدلة . الكتاب والسنة، من وقَصَدْنَا إيضاح الدلالة بعبارة مبسطة هادئة خالية من التعقيد، مع الاستشهاد
بكلام أئمة المسلمين وعلمائهم، ومن الله نستمد المعونة والتوفيق.
الإعلام
٣١٥
فتوى لمولانا الإمام الوالد رضي الله عنه
في فتوى لمولانا الشيخ الإمام الوالد - رضي الله عنه- أجاب بها من سأله
عن أول من أسس الطريقة، وهل تأسيسها بوحي سماوي؟
جاء فيها: «وأما أول من أسس الطريقة، وهل تأسيسها بوحي...؟ إلخ. الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أُسس في الدِّين
فلتعلم
أَنَّ
المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم - بعد ما بينها واحدًا واحدا - دينا، فقال: «هذا جبريلُ جاءَ يُعلِّمُكُم دينكم».
فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتُشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليُحرز الداخل فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة، الضامنة لمحرزها والقائم بها السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والضامنة أيضًا محرزها كمال الدين، فإنه كما في الحديث- عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك؛ لتركه ركنا من أركانه، ولهذا نص المحققون على وجوب الدخول في الطريقة وسلوك طريق التصوف وجوبًا عينيا، واستدلوا على الوجوب بما هو ظاهر عقلا ونقلًا، ولسنا بصدد بيان ذلك الآن. وقد بين القرآن العظيم من أحوال التصوف والطريقة ما فيه الكفاية، فتكلم على المراقبة والمحاسبة والتوبة والإنابة والذكر والفكر، والمحبة والتوكل والرضا، والتسليم، والزهد والصبر والإيثار والصدق، والمجاهدة، ومخالفة
٣١٦
التصوف
الهوى والنفس.
وتكلم على النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة، وعلى الأولياء والصالحين والصديقين والمؤيَّدين وغير هذا مما يتكلَّم فيه أهل التصوف والطريقة رضي الله عنهم، فاعرف وتأمل. وأما قولك: هل ما أُسست الطريقة .... إلخ. فجوابه يعلم مما قبله، فإنها
إذا كانت من الدين بل هي أشرف أركانه وكانت بوحي كما قلناه، وكان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا من المسارعة إلى امتثال أمر الله، كانوا بالضرورة أول داخل فيها وعامل بمقتضاها وذائق لأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا والمجاهدة لأنفسهم ومحبة الله ورسوله والدار الآخرة، والصبر والإيثار والرضا والتسليم، وغير ذلك من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله وتُوصل إلى قربهما، وهي المعبّر عنها بالتصوف
والطريقة.
وكما كانوا رضي الله عنهم على هذه الحالة الشريفة كان أتباعهم أيضًا عليها - وإن كانوا دونهم فيها وكذلك كان أتباع التابعين... وهلم جراء إلى أن ظهرت البدع وتأخرت الأعمال وتنافس الناس في الدنيا، وحييت النفوس بعد موتها فتأخرت بذلك أنوار القلوب، ووقع ما وقع في الدين وكادت الحقائق تنقلب، وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة الأولى من الهجرة ولم يزل ذلك يزيد سنة بعد سنة إلى أن وصل ذلك إلى حالة تخوف منها السلف الصالح على الدین، فانتدب عند ذلك العلماء الحفظ هذا الدين الشريف
فقامت طائفة.
منهم.
الحفظ مقام الإسلام وضبط فروعه وقواعده، وقامت
الإعلام
۳۱۷
أخرى بحفظ مقام الإيمان وضبط أصوله وقواعده على ما كان عند سلفهم
الصالح، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان وضبط أعماله وأحواله. فكان من الطائفة الأولى: الأئمة الأربعة وأتباعهم رضي الله عنهم، وكان
من
الطائفة الثانية: الأشعري وأشياخه وأصحابه، وكان من الطائفة الثالثة:
الجنيد وأشياخه وأصحابه.
فعلى هذا ليس الجنيد هو المؤسس للطريقة - لما ذكرناه من أنها بوحي إلهي - وإنما نسبت إليه لتصديه لحفظ قواعدها وأصولها، ودعائه للعمل بذلك عندما ظهر التأخر، ولهذا السبب نُسبت العقائد للأشعري، والفقه للأئمة الأربعة، مع أن الجميع بوحي من الله تعالى».
وهذا تحقيق نفيس بالغ النهاية في الحسن والإيجاز، ما ترك لمنصف قولًا. وهذه أحاديث في تأييد مذهب الصوفية، مشفوعة بما يوضح معناها ويبين
وجه الدلالة منها على ما تقتضيه القواعد الحديثية والأصولية.
عبدالله الصديق الغماري
۳۱۸
التصوف
الحديث الأول
الإحسان - المراقبة - المشاهدة
عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جُلُوسٌ عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض النِّيابِ، شديد سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثرُ السَّفرِ ولا يعرفه مِنَّا أحدٌ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى رُكبتيه ووضع كفّيه على فخذيه - تأدبا كهيئة المتعلم - وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدا رسول الله ، وتُقيمَ الصَّلاةَ ، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتَحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا». قال صَدَقتَ. قال: فعجبنا له يسأله ويُصدقه !! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ ، وتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ». قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلمَ مِن السَّائل»، قال: فأخبرني عن أَمَاراتِها؟ قال: «أن تَلِدَ الأَمةُ ربَّتها، وأن ترى الحفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البُنْيانِ». فانطلق الرجل، فلبثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قال: «يا عمر أتدري من السائلُ؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يُعلِّمُكُم دِينَكُم».
رواه مسلم في "صحيحه"، ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وله ألفاظ وطرق، وهو حديث مستفيض.
قال الهروي في منازل السائرين": «هذا الحديث إشارة جامعة المذهب
الإعلام
هذه الطائفة».
۳۱۹
قال شارحه : لأن أصل هذه الطريقة الخاصة: كمال المعرفة، ودوام المراقبة للحق سبحانه في الحركات والسكنات بل في الأنفاس واللحظات، حتى يستولي سلطانُ الحقِّ على القلوب، فيضمحل ما تعلقت به أو سكنت إليه من الأحوال والخطوب.
فالإحسان يشتمل على مقامين المراقبة ثُمَّ المشاهدة، والحديث بدأ بالمشاهدة إشارة إلى علوّها وسُموّها وأنها المقصد الأهم، أما في السلوك والترقي فيكون البدء بالمراقبة، لأن دوامها يُورث المشاهدة.
ولهذا لما أراد الجنيد الدخول في الطريق وذهب إلى خاله وأستاذه السَّرِي السَّقَطي يُفضي إليه برغبته قال له: يا بني إني ألقنك ثلاث كلمات، إذا أردت
أن تنام من الليل فقل عند نومك الله معي، الله ناظر إليَّ، الله شاهد علي. قال الجنيد: فواظبت عليها نحو شهر ، ثم قال لي أستاذي: يا بني إذا كان الله معك وناظر إليك وشاهد عليك فهل يصح أن تعصيه ؟!
قال الجنيد: فنفعني الله بهذه الكلمات طوال حياتي، كلما هممت بمعصية تذكرتها فما عصيت الله قط.
فانظر كيف لقنَ السري تلميذه الجنيد مقام المراقبة لأنه يوصل إلى المشاهدة القلبية، أما المشاهدة البصرية فهي في الدنيا خاصة بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم تُعطَ لغيره، قال ابن عبّاس: «إن الله أعطى الخلة لإبراهيم،
والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلَّم».
وفي "صحيح مسلم" في حديث الدجّال، وأنه يقول للناس: «أنا ربكم»،
۳۲۰
التصوف
قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى
يموت.
وسئل الإمام مالك: لامير المؤمنون ربهم في الدنيا وإنما يرونه في الآخرة؟ فأجاب بأنهم في الدنيا فانون والفاني لا يرى الباقي، وفي الآخرة أُعطوا أبصارًا باقية، فرأوا الباقي بالباقي
ولهذه المناسبة أذكر حادثة وقعت في بغداد: فقد رفع إلى الخليفة أن أحد
مشايخ الطريق ادعى أنه رأى الله ببصره وقامت عليه البينة، فأمر بقتله. فعلم القطب الكبير الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه - وهو حنبلي المذهب صوفي المشرب فذهب إلى الخليفة وقال له: إن هذا الشيخ ضاقت عنه العبارة فصدر عنه ما لا يقصد، فقال الخليفة وماذا يقصد؟ فقال الشيخ عبد القادر: إنه شاهد الله ببصيرته فانعكس نور بصيرته على بصره فشاهد ذلك النور، فصدر عنه ما سمعتموه. فقال ذلك الشيخ: والله ما أردت إلا هذا. وصدر الحكم ببراءته، وسلامة عقيدته. وهكذا أغلب الألفاظ المشكلة المنقولة عن بعض الصوفية، لها محامل
صحيحة ووجوه من التأويل حسنة، ولكن المعترضين عليهم مغرضون.
الإعلام
۳۲۱
الحديث الثاني
محاربة الله لمن عادى أولياءه - وطريق الولاية
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضْتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحْبَبْتُه، كنتُ سَمْعَهُ الذي يسمعُ به وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ التي يَمْشِي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني
لأُعِيذَنَّه».
رواه البخاري في "صحيحه"، وله طرق عن عائشة، وأبي أمامة، وعلي، وأنس، ومعاذ، وحذيفة. في هذا الحديث بيان مبدأ طريق الصوفية ونهايته، ذلك أنهم يبدأون بالمجاهدة ولا يزالون يجاهدون أنفسهم ويجتهدون في تطهير قلوبهم من كل ما يُباعد عن الله، وتزيينها بكل ما يُقرّب إليه من الأقوال والأعمال والأحوال، ولزوم الإقبال عليه ودوام المثول بين يديه في كل وقت وعلى كل حال بحسب الإمكان، حتى يصلوا إلى مقام الفناء، ومن وصل منهم إلى هذا المقام كان محبوبا ملحوظا ومربوبًا محفوظاً، فني عن نفسه وبقي بربه، فكان الله ولي أمره
و حافظ سره، فهو لذلك سمعه وبصره ويده ورجله، أي: متولي شؤونه كلها.
۳۲۲
التصوف
الحديث الثالث
علم الظاهر والباطن
عن أبي بن كعب رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أنّ موسى قال للخَضِرِ - عليهما السَّلام : هل أتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمنِ مما عُلمتَ رُشْدًا؟، قال: إنَّكَ لن تستطيع معي صبرا يا موسى إنِّي على علم من علم الله علَّمَنِيه لا ينبغي لك أن تعلمه، وأنت على علمٍ عَلَّمكَ الله لا ينبغي لي أن أعْلَمه». أي جميعه، وكذا قوله لا ينبغي لك أن تعلمه أي جميعه.
قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": «وتقدير ذلك معتبر؛ لأن الخضر كان يعرف مِنَ الحُكْم الظاهر ما لا غنى للمكلف عنه، وموسى كان
يعرف مِنَ الحكم الباطن ما يأتيه بطريق الوحي».اهـ
وهذا الحديث رواه أصحاب الكتب الستة من طرق، وفيه إثبات علم الباطن الذي يقول به الصوفية، ولهذا قال الجمهور: «إن الخضر نبي، وكان علمه معرفة بواطن أوحيت إليه، وعلم موسى الحكم بالظاهر». نقله أبو حيان في "البحر المحيط".
فالجمهور - كما ترى موافقون للصوفية على إثبات الباطن والظاهر، وأنّ
لكل منهما أهلا يختصون به، فماذا يقول المعترضون؟! إلا أن في الحديث إشكالا أجاب عنه الحافظ ابن حجر بما سبق في كلامه،
وسلك في الجواب عنه الشيخ سراج الدين البلقيني في "شرح البخاري" مسلكا آخر حيث قال: هذا الحديث قد يشكل ، فإن العلم المذكور في الجهتين
الإعلام
۳۲۳
كيف لا ينبغي علمه ؟ وجواب هذا الإشكال أن علم الحقائق والكشوف ينافي علم الظاهر، فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر الذي هو . مكلف به أن يعلم الحقائق للتنافي، ولا ينبغي للعالم بالحقيقة أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس
مكلفا
ا به، الذي ينافي ما عنده من الحقيقة، ويمكن حمل العلم على تنفيذه، والمعنى: لا ينبغي لك أن تعلمه لتعمل به؛ لأن العمل به مناف لمقتضى الشرع، ولا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه؛ لأنه منافٍ لمقتضى الحقيقة، فعلى هذا لا يجوز للولي التابع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اطلع على حقيقة أن ينقذ ذلك بمقتضى الحقيقة، وإنما عليه أن يُنفّذ الحكم الظاهر» . اهـ ويؤيد حمل العِلم على التنفيذ ما جاء في رواية لمسلم: «أنّ الخضر قال لموسى عليه السَّلام: إنك لن تستطيع معي صبرًا، وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبراء شيء أُمرت به أن أفعله، إذا رأيته لم تصبر». فهذا صريح في حمل العلم
على تنفيذه.
وفي الحديث مسألة أخرى أشار إليها العلامة الأبي في "شرح مسلم" حيث قال - في شرح قول موسى : هل أتبعك... إلخ -: «علم الخضر هو العلم بالمغيبات الموهوبة الدينية غير المكتسبة، فكيف يسأل تعليم مالا يكتسب ؟! وكان الشيخ يعني شيخه الإمام ابن عرفة، الذي قيل فيه إنه المجدد على رأس المائة الثامنة - يُجيب بأن ذلك قد يكون باعتبار تعلم أسبابه،
فيمكن اكتسابها بالتزام نوع من طاعة الله تعالى. اهـ وهو يشير إلى ما اتفق عليه الصوفية أنَّ المجاهدة والتزام الذكر مع حضور القلب يُورث علوما وهبية، ويؤيده ما رواه الحسين المروزي في "زوائد الزهد"
٣٢٤
التصوف
لشيخه عبد الله بن المبارك فقال : حدثنا أبو معاوية: أنبأنا حجاج، عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ أخلص الله أربعين يومًا ظَهَرَتْ ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه». إسناده صحيح.
ورواه ابن عدي في "الكامل" من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، ورواه أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي أيوب بإسناد ضعيف أيضًا. الحديث الرابع
للقرآن ظاهر وباطن
عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لكل آية ظهر وبطن، ولكلّ حرفٍ حَدٌ، ولكلٌّ حَدٌ مَطْلَع».
رواه الفريابي في تفسيره" بإسناد صحيح، ورواه أبو عبيد في "فضائل القرآن"، عن الحسن أيضًا، بإسناد حسن.
وروى أبو يعلى، والبزار والطبراني في "الأوسط"، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أُنزل القرآن على سبعة أحرف
لكل آية منها ظهر وبطن». رجال الحديث ثقات، كما قال الحافظ الهيثمي. قال ابن النقيب في تفسيره: ظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر. وبطنها: ما تضمنته من الأسرار التي أطْلَعَ الله عليها أرباب الحقائق». اهـ والحد: هو الغامض من المعاني والمطلع: ما يتوصل به إلى معرفته، ولا يتوصل إلى غامض المعاني إلا أرباب الحقائق بما أفاض الله عليهم من الأسرار
والمعارف.
الإعلام
٣٢٥
علي عليه السلام عنده علم الظاهر والباطن
روى أبو نعيم في "الحلية" ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : «إنَّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلا له ظهر وبطن، وإنَّ عليَّ بن أبي
طالب عنده منه علم الظاهر والباطن».
?
فهذا تصريح
وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنا نتحدث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عهد إلى علي سبعين عهدا لم يعهده إلى غيره». بأن الصحابة كانوا يعترفون لعلي بتفوقه في علوم الحقائق والأسرار، وهذا مما لا نزاع فيه، وقد قال فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا مدينة العلم وعلى بابها». وهو حديث صحيح، كما بينه شقيقي ا أبو الفيض في كتاب "فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي". وقال ابن عباس: «سلّم الصحابة لعلي تسعة أعشار العلم، وشاركهم في العشر العاشر».
الحافظ
وكان عمر رضي الله عنه يقول: «أعوذ بالله من قضية ليس لها أبو حسن يعني عليا عليه السّلام، وقال أيضًا: «لولا عليّ لهلك عمر». ونَصَّ المناوي على أن عمر لم يكن يبعث عليا في الفتوحات مع شجاعته الفائقة لاحتياجه إلى
علمه.
وحصلت حادثة في عهد أبي بكر رضي الله عنه أشكلت عليه وعلى الصحابة، فأرشدهم ابن عبّاس إلى إحالتها على علي عليه السلام، فلما أجاب
عنها وحَلّ مُغْلَقَها ، قال له أبو بكر والصحابة: «يا مُفرج الكروب».
٣٢٦
التصوف
وهذه الحادثة مروية بإسنادها في كتاب "المجتنى" لابن دريد، ولهذا كان علي - عليه السلام - أستاذ الصوفية ورئيسهم، كما قال الجنيد وابن العربي الحاتمي وغيرهما، وسلسلة الطريق لا تتصل إلا به ولا تنتهي إلا إليه، بالتلقين والاقتداء والصحبة، كما فصله أخي في "البرهان الجلي".
الحديث الخامس
علوم الحقائق لا يُنكرها إلا المغرورون
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِنَ العلم كهيئة المكنون لا يعلمُهُ إلَّا أهل العِلْم بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله». رواه الطبسي في "الترغيب"، ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" وهو حديث ضعيف، لكنه يتأيد بشيئين :
أحدهما: ما ثبت في صحيح البخاري"، عن أبي هريرة أيضا قال: حفظت من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثته لقُطع هذا البلعوم».
قال البخاري: «البلعوم: مجرى الطعام وهو بضم الباء».
وفي رواية: «القُطع هذا يعنى رأسه، فذلك الوعاء الذي لم يبثه محمول على الأحاديث التي فيها بيان أمراء السُّوء من بني أ أمية، وعلى الأحاديث التي تتعلق بأشراط الساعة والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه طبعه، كما حصل من مبتدعة العصر: إنكار المهدي ونزول عيسى وخُروج الدجال والميزان وغير ذلك، وعلى ما تلقاه من الأسرار والحقائق التي يضيق نطاق كثير
الإعلام
۳۲۷
من الناس عن فهمها فيبادرون إلى إنكارها .
ثانيهما: ما هو واقع مشاهد فلا يُنكر علوم الصوفية وما وهبهم الله من الحقائق إلا الأغرار المفتونون أصحاب مطامع وأغراض، ومما يصحح به الحديث الضعيف عند أهل الحديث أن يكون الواقع على وفقه، لأنه ليس بعد
الواقع المشاهد دليل.
الحديث السادس
علم الباطن هو العلم النافع
عن الحسن، عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العلم علمان، فعلم ثابت بالقلبِ فذاك العلم النافع، وعلم في اللسان فذاك حُجَّةُ الله على عباده».
رواه الخطيب في التاريخ»، وحَسَنهُ الحافظان زكي الدين المنذري، وزين الدين العراقي، وأعله ابن الجوزي فلم يُصب، ورواه أبو نعيم، والديلمي في
"مسند الفردوس" من حديث أنس بإسناد ضعيف.
وهذا الحديث أورده قطب الدين القسطلاني -وهو قبل القسطلاني
صاحب "المواهب اللدنية" - في كتابه في التصوف شاهدًا للحديث السابق يشير بذلك إلى أن العلم الثابت بالقلب هو علم الباطن، بدليل حديث: «من أَخْلَصَ الله أربعين يومًا ظَهَرَتْ ينابيعُ الحكمةِ مِن قلبه على لسانه». وقد تقدم تخريجه، وأن علم اللسان هو علم الظاهر، وهو حُجَّة الله على عبده إذا لم يعمل به، وإنما كان علم الباطن الذي هو علم القلب نافعًا؛ لأنه لا يحصل للشخص
۳۲۸
التصوف
إلا بعد المجاهدة والعمل بالعلم الظاهر، إذ هو نتيجته وثمرته، بخلاف علم
الظاهر فلا ينتفع به إلا من يعمل به، وليس كل عالم عاملا.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره" من طريق سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله، فذاك العالم الكامل - الجَمْعِهِ بين علمي الظاهر والباطن - وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، لا يخشى الله، فذلك العالم الفاجر». وإنما كان هذا فاجرا، لأنه لم يعمل بعلم الظاهر، والأول من علماء الباطن وهو من الأبرار لأنه خشي الله واتقاه وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
الله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ۲۸۲]
الحديث السابع
الإلهام- التحديث
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لقد كان فيما قَبْلَكُم مِن الأمم مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فإنه عمر». وفي رواية: قد كان فيمن قَبْلِكُم مِن بني إسرائيل يُكَلَّمون من غير أن
يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر». رواه البخاري.
ورواه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها - ولفظه: «قد كان يكون
في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فعمر منهم».
قال ابن وهب : تفسير محدَّثون - بفتح الدال المشددة : مُلهمون. قال أكثر العلماء: «الملهم : هو الرجل الصادق الظن، يُلْقَى في روعه شيء
الإعلام
من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به».
۳۲۹
وقيل: «مُكَلَّم تُكلّمه الملائكة من غير نبوّة». كما تقدّم في إحدى روايتي أبي
هريرة.
وجاء في حديث أبي سعيد الخدري قيل يا رسول الله، وكيف يُحدث؟
قال: «تتكلم الملائكة على لسانه». رواه الجوهري في "فوائده". قال الحافظ ابن حجر : ويحتمل ردّه إلى المعنى الأول، أي تكلّمه في نفسه وإن لمير مكلّما في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام».
وقوله: «فإن يكن في أمتي أحدٌ...» إلخ، قال الحافظ ابن حجر: «قيل لم يُورد هذا القول مورد الترديد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى ، وإنما أورده مورد التأكيد كما يقول الرجل: إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء، وقيل: الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم، حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واحتمل عنده صلى الله عليه وآله وسلّم ألا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك لاستغنائها بالقرآن
عن حدوث نبي.
وقد حصل ذلك - أي حصل الاستغناء بالقرآن - حتى إن المحدث منهم بفتح الدال المشددة - إذا تحقق وجوده لا يحكم بما وقع له، بل لا بد من عرضه على القرآن، فإن وافقه أو وافق السُّنَّة عُمل به وإلا تركه، وهذا - وإن جاز أن
يقع لكنه نادر - ممن يكون أمره منهم مبنيا على اتباع الكتاب والسُّنَّة. وتمخضت الحكمة في وجودهم وكثرتهم بعد العصر الأول، في زيادة
۳۳۰
التصوف
شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها لكون
نبيها خاتم الأنبياء، عُوّضوا بكثرة الملهمين» . اهـ كلام الحافظ.
هذا وقد اهتم علماء الأصول بالإلهام، وعقدوا له بحثًا خاصا تكلموا فيه على معناه والاحتجاج به قال التاج الشبكي في "جمع الجوامع": «الإلهام: إيقاع شيء في القلب يُثلج له الصدر». أي ينشرح له.
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول": «دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية، وحكى الماوردي، والروياني في كتاب" القضاء" في حجية الإلهام خلافًا، قال الزركشي في البحر المحيط": «واختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام، منهم الإمام الرازي في "تفسيره" في أدلة القبلة، وابن الصلاح في "فتاواه"، فقال: إلهام خاطر الحقِّ مِن الحقِّ، قال: ومن علامته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض آخر».
وقال أبو علي التميمي في كتاب "التذكرة في أصول الدين": «ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارًا للعباد على سبيل الإلهام، بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى، واحتج بقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: ۲۹] ، أي ما تفرقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخرَجا ﴾ [الطلاق: ٢] أي من كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: ۲۸۲] فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم الله
الإعلام
۳۳۱
تعالى بترك المنهيات وامتثال المأمورات، وخبره صدق ووعده حق. واحتج شهاب الدين السهروردي على الإلهام بقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى ام مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [القصص: ٧]، وبقوله صلى الله عليه وسلم وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّمْلِ ﴾ [النحل: ٦٨]، فهذا الوحي هو مجرد الإلهام، ثم إن من الوحي علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن من أمتي المحدثين والمكلّمين وإن عمر لمينهم»، وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّنَهَا فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا
وتقونَهَا ﴾ [الشمس: ۷ - ۸] فأخبر أن النفوس ملهمة.
واختار السهروردي أنّ الإلهام حُجَّةٌ لمن وقع له دون غيره، ومال إليه سعد الدين التفتازاني في بعض مصنفاته، والراجح عند الجمهور أنه ليس بحُجَّةٍ، لانتفاء العصمة، وهو قول جمهور الصوفية أيضًا.
الحديث الثامن
الحقيقة
عن أنس: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لقي رجلًا يُقال له: حارثة، في بعض سكك المدينة فقال : كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقا، فقال: «إنّ لكلّ قول حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟»، فقال: عزفت نفسي عن الدُّنيا، فأسْهَرْتُ ليلي وأظْمَأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنّي أسمع عواء أهل النار. فقال: «مؤمن نور الله قلبه». وفي رواية: «عرفتَ فالزم، مؤمنٌ نَوَّرَ الله قلبه».
رواه البزار في "مسنده"، والبيهقي في "الشعب"، وله طرق عند ابن المبارك
۳۳۲
التصوف
في "الزهد"، وعبد الرزاق في "التفسير"، والطبراني في "المعجم"، وابن منده. في هذا الحديث إثبات المجاهدة والزهد وجولان الروح في العرش والجنة والنار بطريق التفكير والمشاهدة القلبية، وفيه أيضًا إثبات الحقيقة وهو المقصود هنا.
قال شارح "منازل السائرين": حقيقة الشيء عند أهل هذا الشأن: علاماته الدالة عليه»، واستدل بهذا الحديث.
قال الحافظ السيوطي: ويظهر لي أن أهل هذا الشأن إنما سَمُّوا عِلمهم علم الحقيقة، أخذا من لفظ الحقيقة في هذا الحديث، وقد ظهر لي أن نسبة علم الحقيقة إلى علم الشريعة كنسبة علم المعاني والبيان إلى علم النحو، فهو سره عليه، فمن أراد الخوض في علم الحقيقة من غير أن يعلم الشريعة فهو من الجاهلين، ولا يحصل على شيء، كما أنّ من أراد الخوض في أسرار علم المعاني والبيان من غير أن يُحكم النحو فهو يخبط خبط عشواء، وكيف يُدرك أحوال الإسناد، والمسند إليه، والمسند ومتعلقات الفعل، من لم يعرف المبتدأ
ومبني
من الخبر، والفاعل من المفعول ؟! هذا بين لكل أحد. والحقيقة سر الشريعة ولبها الخالص، كما أن المعاني والبيان سر النحو ولطائفه، والتصوف فقه بلا شك، فإن أكثره تكاليف واجبة ومندوبة، ومنها محرمة ومكروهة، وقد نصَّ على أن أبواب التصوف من الفقه جماعة من أهل الأصول، ووافقهم ابن الشبكي في "جمع الجوامع".
واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء، بالعبارة التي ألِفُوهَا في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان، وكانوا أول قائل بها،
الإعلام
۳۳۳
وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مُستغربة لم يألفوها، ولهذا قال بعضهم: الحقيقة أحسن ما يُعلم، وأقبح ما يُقال.
وأنا أورد لك مثالاً تعرف به صحة ذلك، قال في منازل السائرين": حقيقة التوبة ثلاثة أشياء تميز الثقة من الغرة، ونسيان الجناية، والتوبة عن الفقيه هذا اللفظ استغربه جدا، وقال: كيف يُتاب من
.
التوبة أبدا». فإن سمع ! التوبة؟! وإنما يُتاب من المعاصي، وتقرير معناه: أنَّ العبد إذا كمل في رجوعه إلى الله لم يلتفت إلى أعماله، ولم يسكن إليها، توبةً كانت أو غيرها، فيتوب من سكونه إلى توبته؛ لأن التوبة - وإن كانت من كَسْبِ العبد - فهي من خَلقِ الله
وتوفيقه، ولو لم يتب عليه، كما تاب، قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: ۱۱۸]، فرؤية العبد التوبة من نفسه ذنب يُستغفرُ منه، بل عليه أن يشهد محض منة الله عليه بها وتوفيقه لها، ويلغي نفسه أصلا عن درجة الاعتبار، وهذا مقام الفناء في التوبة، وهي أول منازل السائرين ويقاس به مقام الفناء في التوحيد، فلا يشهد في توحيده صُنْعا، بل محض مِنّة الله عليه به وتوفيقه له، وهذا المعنى إذا عُرِضَ على الفقيه بهذه العبارة المألوفة، كان أول قائل به، وناصر
له» . اهـ
وقال سلطان العلماء الإمام عزّ الدين بن عبدالسلام في "قواعد الأحكام": «الطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها وتفسد بفسادها: تطهيرها من كل ما يُباعد عن الله، وتزيينها بكل ما يُقرب إليه ويُزلف لديه، من الأحوال والأقوال والأعمال وحسن الآمال، ولزوم الإقبال عليه والإصغاء إليه، والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من
٣٣٤
مي
التصوف
الأحوال، على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملل، ومعرفة ذلك ، الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات وغير ذلك مما ذكرناه من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لجل الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفةٌ لدق الشريعة، ولا ينكر شيئًا منها إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات، وهم شر من قطاع الطريق؛ لأنهم يَقْطَعُون طريق الذاهبين إلى الله تعالى». اهـ فتلخص من جميع ما تقدَّم: أن الحقيقة صنو الشريعة، بل هي لبها وسِرها الخالص، وأن ما يُثار حولها من اعتراضات قد تصل إلى الكفر أحيانًا، مرجعه
إلى أمرين:
أحدهما : صَوْعُ معانيها في عباراتٍ غامضة غير مألوفة، كما أشار إليها
الحافظ السيوطي. ثانيهما: تَشَبه الدخلاء بأهل الحقائق، كما أشار إليه عز الدين بن
عبد السلام، وجَعَل هؤلاء الدخلاء شرا من قطاع الطريق. وهذا ما حمل رجال العشيرة المحمدية - وَفَقَهم الله تعالى- على القيام بحملة واسعة لتطهير التصوّف مما ألصق به من بدع وخرافات، وإرجاعه إلى ما كان عليه أيام السلف الصالح من السموّ الروحي، والتهذيب الخلقي، وَفَّقَ اللهُ الخُطى وحَقَّقَ الآمال.
الإعلام
۳۳۵
الحديث التاسع المكاشفة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «اتقوا فِراسَةَ المؤمن فإنه يَنْظُرُ بنورِ الله». رواه الترمذي، وابن جرير، وابن
أبي حاتم ورواه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الطب النبوي"، والترمذي
الحكيم في "نوادر الأصول"، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. ورواه ابن جرير، وأبو نعيم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه ابن جرير من حديث ثوبان رضي الله عنه، ولفظه: «احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وينطق بتوفيق الله».
وهو حديث حسن كما قال الحافظان نور الدين الهيثمي، وجلال الدين
السيوطي، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" فلم يُصب. وروى ابن جرير والبزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله عبادًا يعرفون النَّاسَ بالتَّوَسم». إسناده على شرط الحسن. هذا الحديث أصل في الكشف الذي يقع لكثير من الأولياء، تجد الواحد
منهم يكاشف الشخص بما حصل منه في غيبته كأنه كان حاضرًا معه، ونَصَّ الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في شرح حديث قتل خبيب رضي الله عنه على: « أن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام والماء، والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي ونحو ذلك، قد كُثر جدا حتى صار وقوع ذلك
٣٣٦
التصوف
ممن يُنسب إلى الصلاح كالعادة» . اهـ
وقال أيضًا في شرح حديث في خمس لا يعلمهنَّ إلا الله»: «وأما ما ثبت بنص القرآن أن عيسى عليه السَّلام قال أنه يُخبرهم بما يأكلون وما يدخرون، وأن يوسف قال أنه ينبئهم بتأويل الطعام قبل أن يأتي، إلى غير ذلك مما ظهر من المعجزات والكرامات، فكل ذلك يمكن أن يُستفاد من الاستثناء في قوله تعالى: إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ [الجن: ۲۷] فإنه يقتضي اطلاع الرسول على بعض الغيب، والولي التابع للرسول عن الرسول يأخذ وبه يُكرم، والفرق بينهما: أن الرسول يطلع على ذلك بأنواع الوحي كلها، والولي لا يطلع على
ذلك إلا بمنامٍ أو إلهام والله أعلم . اهـ
عن
عائشة - رضي !
الحديث العاشر
الخلوة والانقطاع إلى الله
الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلَّم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّثُ فيه
وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك». رواه البخاري. في هذا الحديث دليل للصوفية في الخلوة والانقطاع عن الخلق في الزوايا
والمساجد.
قال العارف أبو محمد بن أبي جمرة في "بهجة النفوس": «في الحديث دليل على أنَّ الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه
الإعلام
۳۳۷
وآله وسلَّم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد
امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم الله له من مقامات الولاية». اهـ ولأن الخلوة تعين على التفكر في عظمة الله وسعة قدرته، وعموم نعمته وباهر حكمته، وقد كان تعبد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في خلوته بغار حراء تفكرًا واعتبارًا، وحضّ القرآن الكريم على التفكر في غير آية، منها قوله
تعالى: إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَتِ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَما وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران:
[191-19.
وأيضًا فإن الخلوة أَجْمَعُ لقلب المريد، وأعونُ له على التفرغ لذكر الله، وأبعد عن الرياء، وأيضًا فإن الخلوة تُبعِدُ المريد عن مواطنِ اللَّغْوِ واللَغَط، وتهيئه لقبول الواردات الإلهية والتجليات الربانية، ولهذا رغب الشارع فيها وجَعَلَها من العادات المطلوبة، وأفردها فقهاء المذاهب بباب خاص لها، هو "باب الاعتكاف" ذكروا فيه أحكامه وشروطه وآدابه، وثَبَتَ في "الصحيحين". أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فيلزم المسجد النبوي ويعتزل نساءه، ويُقبل على العبادة والذكر وتلاوة القرآن، ولا يخرج إلا لقضاء حاجة الإنسان.
وفي "سنن أبي داود"، بإسناد لا بأس به، عن عائشة -رضي الله عنها- على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس
قالت: «السنة .
امرأة ولا يُباشرها، ولا يخرج الحاجة إلا لما لا بد له منه».
۳۳۸
التصوف
فهذه هي الخلوة التي اتخذها الصوفية، وسموها: تجريدا؛ لأن المريد يتجرد من العلائق والعوائق، وينقطع إلى الذكر والعبادة مدة قد تطول وقد تقصر بحسب استعداده وما قسم له، لكنهم صرحوا مع ذلك بأن المريد إذا كان له عمل يتكسب به كالتجارة أو صناعة مثلا، فلا ينبغي له تركه إلى الخلوة والتجريد، بل يبقى في عمله الذي أقامه الله فيه، ويستطيع أن يذكر الله في حالته تلك وفي أوقات فراغه ولهذا قال ابن عطاء الله في "الحكم": «إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العَلِيَّة».
.
ودليلهم على ذلك: حديث كعب بن عُجْرةَ رضي الله عنه قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ،رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم من جَلَدِه ونشاطه، فقالوا يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله ! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن كان خَرَجَ يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرجَ يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرجَ يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومُفاخرةٌ فهو في سبيل الشيطان». رواه الطبراني بإسناد
صحيح.
وقد كان في الصحابة أهل التجريد وأصحاب الأسباب، أما أهل التجريد: فهم أهل الصُّفَّة، كانوا نحو سبعين صحابيا، مقيمين بالمسجد النبوي
لا أهل لهم ولا مال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يُنفق عليهم. واسمع إلى أبي هريرة يتحدث عن نفسه وعنهم-وهو أحدهم فيقول:
الإعلام
۳۳۹
«والذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكَبِدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قَعَدتُ يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ بي أبو بكرٍ، فسألته عن آية في كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فلم يفعل، ثم مرَّ ،عمر، فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فلم يفعل.
ثم مر أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلَّم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، فقال: يا أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحَقُّ وَمَضى، فاتَّبَعْتُه ، فدخل فاستأذن فأُذِنَ له، فدخل فوجد لبنا في قدح، فقال: «من أين هذا اللبن ؟ قالوا أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «يا أبا
هريرة». قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي». قال: وأهل الصُّفّة أضياف الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. فأتيتُهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا فأُذِنَ لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هريرة قلت لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم». فأخذتُ القدح فجعَلْتُ أعطيه الرجل فيشرب حتى يُروى، ثم يَرُدُّ عليَّ القَدَح، حتى انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقد رُوي القوم كلهم، فأخذ القَدَحَ فوضعه على يده، فتبسم فقال: يا أبا هريرة»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «وبقيتُ أنا وأنت». قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب»، فشربت، فقال: «اشرب»، فشربت فما زال يقول: «اشرب»، حتى قلت: لا
٣٤٠
التصوف
والذي بعثك بالحق، لا أجد له مسلكا، قال: «فأرني»، فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمَّى، وشرب الفَضْلة. رواه البخاري وغيره.
وجاء في حديث لأبي هريرة أن أهل الصفة كانوا سبعين صحابيا. قال الحافظ ابن حجر: وليس المراد حصرهم في هذا العدد، بل المراد عدتُهم في أول الأمر، وإلا فمجموعهم أضعاف ذلك. وقد سرد أبو نعيم أسماءهم في أول "الحلية" فزادوا على المائة.
وأما أصحاب الأسباب فمعظم الصحابة، فالأنصار كانوا أهل نخل وزرع، والمهاجرون أهل تجارة، وفيهم الخلفاء الأربعة، إلا عليا عليه السلام، فإنه كان على حال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم من الزهد وترك الأسباب إلا في القليل النادر، ولذا كان من أوصافه اللازمة له مع لزوم الشجاعة والعلم - زهده.
الفتوة
قال الأستاذ أبو القاسم الجنيد: «الفتوة كف الأذى، وبذل الندى». وقال أبو القاسم القشيري: أصل الفتوَّة أن يكون العبد أبدا في أمر
غيره".
ونقل عن شيخه الأستاذ أبي علي الدقاق أنه قال: «هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإن كل أحد في القيامة يقول:
نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: « أُمَّتِي أُمتي». ثم استدل القشيري لهذا الخلق بما رواه بإسناده عن أبي هريرة، عن زيد بن
الإعلام
٣٤١
ثابت، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يزال الله في حاجة العَبْدِ ما دام العَبْدُ في حاجة أخيه المسلم». وهذا الحديث رواه الطبراني أيضًا بإسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ المنذري.
وفي "صحيح مسلم" والسنن الأربعة عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامةِ، ومن يَسَّر على معسر في الدُّنيا، يسر الله عليه في الدُّنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدُّنيا، ستر الله عليه في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
وفي "الصحيحين": عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجَتِهِ، ومن فرج عن مسلمٍ كُرْبةٌ فَرج الله عنه بها كربة من كرب يوم
القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». وهذا الخلق - أعني الفتوة - مرجعه إلى سخاوة النفس، وهو شرط في المريد، كما قال جدنا العارف الكبير أبو العباس أحمد بن عجيبة الحسني في: "شرح المباحث الأصلية، فقد قالوا مِنْ أَقبح القبيح صوفي شحيح». ثم هو يشتمل على عدة معان:
الأول: الإيثار، وقد مدحه الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: ٩]
وسبب نزول هذه الآية ما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة: أنَّ رجلًا
٣٤٢
التصوف
أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: من يَضُمُّ أو يُضِف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال : هيني طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيَّأت طعامها وأصبحتْ سِراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها ،فأطفأته، فجعلا يُرِيَانِهِ كأنهما يأكلان فباتا طاوِيَيْنِ. فلما أصْبَحَ غدا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: «ضَحِكَ الله الليلة، أو عجب من فعالِكُم، فأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر : ۹] . الرجل الذي اشتكى الجهد هو: أبو هريرة، والأنصاري الذي ضَيَّفَه هو : أبو طلحة. وروى ابن مردويه في تفسيره"، عن ابن عمر: «أُهدي لرجل رأسُ شاة، فقال إن أخي وعياله أحوج منا إلى هذا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحد
إلى آخر، حتى رجعت إلى الأول بعد سبعة، فنزلت الآية».
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون نزلت بسبب ذلك كله». اهـ ومن أروع مواقف الإيثار عند الصوفية، ما حكاه الجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع" فقال: ولا التفات لَنْ رَمَاهم في جملة الصوفية بالزندقة عند خليفة السلطان، حتى أمر بضرب أعناقهم، فأمسكوا، إلا الجنيد فإنه تستّر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور شيخه، وبُسِطَ لهم النَّطْع، فتقدم من
الإعلام
٣٤٣
آخرهم أبو الحسين النوري للسياف فقال له: لو تقدمت؟! فقال: أوثر أصحابي بحياة ساعة، فبهت وأنهى الخبر للخليفة، فردّهم إلى القاضي، فسأل النوري عن مسائل فقهية فأجابه عنها، ثم قال أي النوري : وبعد، فإن الله عبادا إذا قاموا قاموا بالله وإذا نطقوا نطقوا بالله ... إلخ كلامه، فبكى القاضي وأرسل للخليفة يقول : إن كان هؤلاء زنادقة فما على وجه الأرض مسلم فَخَلى سبيلهم رحمهم الله ونفعنا بهم . اهـ والخليفة هو: أبو الفضل جعفر المقتدر، والقاضي هو : الإمام إسماعيل بن إسحق أحد أئمة المالكية.
الثاني: هدية المريد إلى شيخه ودليلها من القرآن والسنة.
أما القرآن فقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِمُوا بَيْنَ يَدَى نجونَكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: ۱۲] قال علي عليه السلام: لما نزلت هذه الآية، قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما ترى أدينارًا؟» قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار». قلت: لا يطيقونه، قال: «فكم؟ قلت: شعيرة، قال: «إنك
لزهيد». قال: فنزلت: أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى بَعُونَكُمْ صَدَقَتِ ﴾ [المجادلة: ١٣]، قال: «فبي خفف الله عن هذه الأُمَّة».
رواه ابن جرير، والترمذي وحسنه. وقوله: «شعيرة»: يعنى وزنها من ذهب. وقال علي أيضا: «إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد ولا يعمل بها أحد
بعدي، آية النجوى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَجَيْتُمُ الرَّسُولَ الآية [المجادلة: ١٢] قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنت كلما ناجيته قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نُسِخَت، فلم
٣٤٤
التصوف
يعمل بها أحد فنزلت: أَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا } الآية. رواه الحاكم، وصححه على شرط الشيخين، وسلمه الذهبي.
وروى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «نزلت في يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَجَيْتُمُ الرَّسُولَ الآية، فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنك لزَهِيدٌ»، فنزلت: وَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَنَكُمْ صَدَقَاتِ الآية .
وفي سنده راو مختلف فيه، ويمكن الجمع بينه وبين الأول: بأن كلا من علي
وسعد لم يطلع على قصة الآخر، فتكلم بحسب ما في علمه.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَنَكُمْ صَدَقَةً الآية، وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفِّفَ عن نبيه عليه السلام، فلما قال ذلك، جَبنَ كثير من المسلمين وكَفّوا عن المسألة، فأنزلَ اللهُ بعد هذا: ﴿ وَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يدَى نَجْوَنَكُمْ صَدَقَتِ الآية، فوسع الله عليهم ولم يُضَيق.
يؤخذ من هذا: أن تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول كانت واجبة ثم نُسخت، وإذا نُسِخَ وجوب شيء بقي استحبابه بل سنيته، كما في صوم
عاشوراء، كان واجبًا ثم نُسخ برمضان فبقي سُنَّة. وأما السنة فما ثبت بالتواتر في قضايا متعددة، أن الصحابة كانوا يهدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ثيابًا وطعامًا وغيرهما، وكان يقبل هديتهم، وتقدم قريباً حديث أبي هريرة في أهل الصُّفَّة، وفيه: «إذا أتته صدقة بعث بها
الإعلام
٣٤٥
إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها».
وفي "مسند أحمد" بإسناد صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:
كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة». وفي "المسند" أيضًا بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا أُتي بطعام من غير أهله سأل عنه، فإن قيل هدية أكل، وإن قيل صدقة، قال: «كلوا ولم يأكل بل أمر عليه الصلاة والسلام بقبول الهدية ونهى عن ردها، ففي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه مَنْ هو إليه أفقر مني، فقال: «خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرِفٍ ولا سائل، فخذه فَتَمَوَّلْهُ، فإن شئت كله، وإن شئت فتصدق به، وما لا، فلا تُتبعه نفسك». قال سالم بن عبدالله: «فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحدًا شيئا، ولا يرد شيئا أُعطيه».
وفي "المسند" بإسناد رجاله ثقات، عن المطلب بن عبدالله بن حنطب قال: أهدى عبدالله بن عامر إلى عائشة -رضي الله عنها - نفقة وكسوة، فقالت للرسول: أي بني لا أقبل من أحدٍ شيئًا. فلما خرج الرسول قالت رُدّوه عَليَّ، فردوه. فقالت: إني ذكرت شيئًا، قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: يا عائشة، من أعطاك عطاءً بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رِزْقٌ عَرَضَهُ الله
عليك».
٣٤٦
التصوف
وفي "المسند" أيضا بإسناد صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها: أنَّ امرأة أهدت إليها رِجلَ شاة تُصُدِّقَ بها عليها - أي على المرأة - فأمرها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن تقبلها. وفي "المسند" أيضًا بإسناد صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن آتاه الله مِن هذا المال شيئًا من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه». فهذه الأدلة المتعدّدة وغيرها مما لم نذكره اختصارًا، مستند شيوخ الصوفية على ممر الزمان في قبول هدايا المريدين من نقود وثياب وطعام وغير ذلك، ثم هم ينفقونها على الزوّار في البيت أو الزاوية، فتكون منفعتها عامة، وبذلك يَعْظُم ثواب المُهْدِي ويَكْثُر أجره. أضف إلى ذلك أن الهدية - وإن قلت قيمتها - توجد محبة ومودة بين المهدي والمهدى إليه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلّم: تهادوا تحابوا». رواه أبو يعلى عن أبي هريرة بإسناد جيد، وله طرق. ولا شك أن المريد إنما ينتفع في السلوك على قدر حب شيخه له وعنايته به، بل كل طالب علم من العلوم، لا يُدرك من العِلم غايته إلا بقدر حب أستاذه له، وعنايته بتعليمه، ومن الحكم السائرة: «مَنْ عرف ما طلب، هان عليه ما بذل». الثالث: الضيافة، والأحاديث في الأمر بها والحضّ عليها كثيرة بالغة حد
التواتر المعنوي، ويكفي حديث الصحيحين: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وقد جعلها الظاهرية فرضًا على الحضري والبدوي والفقيه والجاهل، والجمهور على أنها سُنّة مُرغَبُ فيها، وهي من مكارم الأخلاق ومحاسن الشَّيَم، وللصوفية خصوصا الشاذلية- في القيام بحقها
الإعلام
٣٤٧
القدح المعلَّى، فزوايا الشاذلية في مدن المغرب وقراه مُعَدَّة لاستقبال الضيوف، لا ينزل بها غريب إلا لقي أهلا يُكرمونه ، ويُتحفونه، وإن كان في حاجة إلى مساعدة مدوه بها، وذلك بأن يجمع مُقدَّم الزاوية من الفقراء -الدراويش- مبلغا من المال يُقدّمه للضيف عند سفره، وإن كان من أهل الطريق أو ذوي
الفضل والعلم تسابقوا إلى إكرامه في بيوتهم، ومهاداته بما يليق به. والمقصود أنّ الزوايا عندنا أشبه بالفنادق العامة المعدة لاستقبال النزلاء، إلا أنها لا تأخذ أجرا، بل تساعد من يرجو المعونة وتهادي من يستحق التكريم، هذا إلى ما يقوم به أصحابها من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإقامة حفلات للمولد النبوي الشريف تكون خيرًا وبرا للمساكين والضعفاء بما يتناولون من طعام وصدقات.
هذا بعض فضل التصوّف ومزاياه في القُطر المراكشي، قبل أن تكثر فيه النزعة الوهابية، مع ابتلائه بالأحزاب السياسية التي فرقت بين أهله وجعلتهم شيعًا وفِرَقًا، وبَنّت فيه جُرْثُومة التَحَلُّل من الأخلاق والدين، نسأل الله اللطف
والسلامة.
الرابع: صلة الإخوان والأقارب وغيرهم بمختلف أنواع الصلات المادية والأدبية، وفي ذلك أحاديث كثيرة تفوق الحصر، منها ما تقدم قريبا، ومنها ما في "أوسط معاجم الطبراني" عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: أفضل الأعمال إدخال السرورِ على المؤمن، كَسَوتَ عَوْرَتَهُ أَو أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أو قضيت له حاجته».
ورواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر، ولفظه: «أحب الأعمال إلى الله عزّ
٣٤٨
التصوف
وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعا، أو
تقضي عنه دينا».
وله طرق وألفاظ ،متعددة، وأهل التصوّف مضرب المثل في التواصل والتعاون ومساعدة أصحاب الحوائج في قضائها، وكأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عناهم بقوله: «إنّ الله خلقا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناسُ إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله». رواه الطبراني من حديث
ابن عمر، وله طرق.
وممن أخذ من هذا الخلق بالحظ الأوفر: مولانا الشيخ الإمام الوالد رضي الله عنه، فقد كان لا يمر عليه يوم دون أن يقضي دينًا عن مدين، أو يدفع أُجرة عن شخص تأخر في دفع الإيجار ، أو يكسو فقيرًا ليس عنده ثياب وإذا كان له أولاد كساهم . معه، أو يُصلح بين متخاصمين طالت خصومتهما واشتد عداؤهما ، فَيَدَعَهُما أخوين متحابين، أو يشفع عند الحاكم في مظلوم - على أن يبعث رسولا من طرفه، فما مشى إلى حاكم قط، ولقد أنقذ بشفاعته شخصا من الإعدام حكمت به عليه الحكومة الإسبانية الغاشمة لاتهامه بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم - ويتعاهد بيوتا كثيرة في الأعياد والمناسبات، كزكاة الفطر، واللحم في عيد الأضحى، وغير ذلك. أمَّا تَصَدُّقه بالثياب التي عليه، وقعوده في البيت، حتى يتيسر له غيرها، فقد حصل منه مرات عديدة، حتى كان بعض الإخوان ممن له عليه دالة يعتب عليه في ذلك، فيظهر له من الثقة بالله والتوكل
عليه ما يحمله على تشجيع الشيخ في الاستزادة من التصدق والإعطاء. هذه أخلاق الصوفية كما شاهدناها عيانًا، وقرأنا عنها في كتب التراجم
الإعلام
٣٤٩
والطبقات، فإذا وجد في شيوخ الطريقة من هو على ضدّ هذه الخصال، فهو
دعي دخيل، والتصوف بريء منه ومن أمثاله.
مسألة
ويجب هنا أن نعرض لرد مسألة طالما تشدّق بها المنتقدون للتصوّف، ذلك أنهم يزعمون أنّ الصُّوفية أصحاب كسل وخُمول وتواكل، وأن الإسلام يدعو إلى العمل والكسب والسعي في طلب الرزق، وهذا كلام مَن قَصُرَ نظره على الجانب المادي الضيق المحدود، وانصرف عن الجانب الروحي الواسع الشامل، مع أن الإسلام راعى الجانبين، وأعطى لكل منهما حظه من العناية والاعتبار، بل غَلَّب الجانب الروحي لأنه أعم وأبقى، وأسباب الرزق كما تكون مادية للعوام كالتجارة والصناعة مثلا، تكون روحيّة للخواص كالصلاة والتقوى، قال تعالى: وَأَمْر أَهْلَكَ بِالصَّلَو وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْتَلْكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾ [طه: ۱۳۲]، وقال: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخرَجا وَيَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: ٢- ٣]، وقال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ان يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مدْرَارًا [نوح: ١٠ - ١١]. وتقدم أنّ أهلَ الصُفّة كانوا أكثر من مائة، لا أهل لهم ولا مال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يُنفق عليهم، ولم يقل لهم: تكسبوا واسعوا على رزقكم بالتجارة وغيرها. نعم، لم يقل لهم هذا أصلا، بل دافع الله تعالى عنهم، حين قال المنافقون في حقهم لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى ينفضُوا فرد الله تعالى عليهم بقوله: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
٣٥٠
التصوف
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون: ۷]، وهذا شرف عظيم لأهل الصفة، ينطوي
على التنويه بما كانوا عليه من الانقطاع للعبادة والتفرغ لها.
أما ما رواه أبو داود في مراسيله ، عن أبي قلابة: أن ناسا من الصحابة قَدِمُوا يثنون على صاحب لهم خيرًا، قالوا ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة ولا نزلنا منزلاً إلا كان في صلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فَمَنْ كان يكفيه ضَيْعَتَه؟» حتى ذكر من كان يَعلِفُ جمله أو دابته؟ قالوا: نحن. قال: «فكلكم خير منه». فهو حديث ضعيف؛ لأنه مُرسَل. وعلى فرض صحته، فهو محمول على أنَّ ذلك الشخص كان يستخدم غيره في شؤونه الخاصة به، كعلف دابته وتهيئة مكان نومه وإعداد طعامه ونحو ذلك، كما هو صريح الحديث، وليس من المروءة أن يستخدم الشخص غيره في مثل ذلك، بل يقوم هو بنفسه بإعداده، لاسيما في السفر المبني على التعاون التام. ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أراد الصحابة - وكانوا معه في سفر - أن يطبخوا طعامًا لغدائهم، وتعهد بعضهم بذبح الشاة، وآخر بسقي الماء، فتعهد هو صلى الله عليه وآله وسلم بجمع الحطب، فقال الصحابة نكفيك هذا يا رسول الله، قال: علمت أنكم تكفونني ذلك ولكن كرهت أن أتميز عنكم». أو كما قال.
وهذا من كمال المروءة، وآداب الصحبة والمعاشرة، وهو بمعزل عما نحن فيه، فالذين يستدلون بذلك الحديث المرسل على الكسب والسعي، مخطئون في فهمه، مع غفلتهم عن ضعفه.
الإعلام
٣٥١
ومما يؤيد ما نقول: حديث أنس قال: كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فكان أحدهما يأتي النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «لعلك
تُرزق به». رواه الترمذي، وصححه الحاكم وسلَّمه الذهبي.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أخبر الأخ المحترف، بأن الله يرزقه ببركة إنفاقه على أخيه المتفرغ للعبادة وملازمة الرسول، وليس بعد بيان الله ورسوله
بیان.
الأولياء
قال الله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [يونس: ٢٢ - ٦٤] قال الزمخشري في "الكشاف": «الوليُّ: مَن تَولّى الله بالطاعة، فتولاه الله
بالكرامة».
وقال السعد في شرح العقائد النسفية ، والجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع ": «الولي : العارف بالله حسبما يمكن المواظب على الطاعات، المجتنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات».
وقيل: الولي من يحب أخاه المؤمن لا يُحبه إلا لله، وقيل غير ذلك. وهذه الأقوال - وإن كانت في الظاهر مختلفة - فهي في الحقيقة متفقة، إذ ما من ولي إلا وهو مُتَّصِفٌ بما ذُكِرَ فيها من الصفات ومتَّسم بغيرها من كريم
٣٥٢
التصوف
الخلال والسمات، وجاءت الأحاديث في هذا الباب مختلفة كاختلاف الأقوال، وذلك محمول على اختلاف الأحوال، مع قصد الشارع الحض على أنواع من فضائل الأعمال، ونحن نورد منها ما تيسر :
1 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب...» الحديث، وتقدم أول
الكتاب.
٢- عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ من عباد الله ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يَغْبِطُهُم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى قالوا: يا رسول الله، فخبرنا مَنْ هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى ،نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناسُ» ثم قرأ: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: ٦٢].
كثيرة.
رواه أبو داود في "سننه"، وروى النسائي نحوه عن أبي هريرة، وله طرق
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاث مَن كُنَّ فيه استَحقَّ وِلاية الله : حِلمٌ أصيل يدفع به سَفَه السَّفيه عن نفسه، ووَرَعٌ صادقٌ يَحْجِزُهُ عن معاصي الله، وخُلُق حَسَنٌ يداري به النَّاسَ». رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الأولياء".
الإعلام
٣٥٣
- عن عمرو بن الجموح رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب الله تعالى ويبغض الله، فإذا أحب الله تبارك وتعالى وأبغض الله، فقد استحق الولاية الله». رواه أحمد في "المسند".
ه - عن ابن عباس قال: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَنْ هم أولياء الله؟ قال: هم الذين يُذْكَرُ الله عند رؤيتهم». رواه النسائي، والبزار. ورواه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وغيرهما عن سعيد بن جبير مرسلًا. وله طرق، منها عن أنس قال: قالوا أينا أفضل، كي نتخذه جليسا معلما؟، قال: «الذي إذا رُؤيَ ذُكِرَ الله برؤيته». رواه الحكيم الترمذي.
٦- عن
عائشة
الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله رضي
وسلم: «ما جُبِلَ ولي الله عزَّ وجلَّ إِلَّا على السَّخاءِ وحُسْنِ الخُلُقِ». رواه أبو الشيخ ابن حيان في "كتاب الثواب".
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «قال الله تعالى: حقَّتْ محبّتي للمتحابين في، وحقَّتْ محبتي
للمُتَزاوِرين في، وحقت محبَّتي للمُتَجالِسين في، الذين يُعمرُون مساجدي بذكري، ويُعَلِّمُون النَّاسَ الخير، ويدعونهم إلى طاعتي، أولئك أوليائي الذين أُظِلُّهم في ظلّ عَرْشي، وأُسْكِنُهم في جواري، وأؤمنهم من عذابي، وأُدخلهم الجنة قبل الناس بخمسمائة عام، يتنعمون فيها وهم خالدون»، ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
٣٥٤
التصوف
يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: ٦٢] رواه ابن مردويه في "تفسيره".
- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يقول الله تعالى: إنّما أتقبل الصَّلاة لِمَنْ تواضع لعظمتي، ولم يتعاظم على خَلْقي، وكَفَّ نفسه عن الشهوات ابتغاء مَرْضاتِي، فقطع نَهارَهُ في ذكري، ولم يَبِتْ مُصِرًا على خطيئته، يُطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم الضعيف، ويؤوي الغريب، فذاك الذي يُضيء وجهه كما يُضيء نور الشمس، يدعوني فالبي، ويسألني فأعطي، ويُقْسِمُ على فَأَبَر قَسمه، أجعل له في الجهالة علما، وفي الظلمة نورا، أكلأه بقوتي، وأستحفظه ملائكتي». رواه أبو نعيم في "الحلية"، والبزار بنحوه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، يستخلص الباحث من مجموعها أنَّ الولي
مَن تولَّى الله بأنواع القُرُبَات، فتولاه الله بأنواع من المواهب والمكرمات. وتلحق بالأحاديث السابقة أثرًا جامعا في وصف الأولياء، رواه أحمد في "الزهد"، وابن أبي حاتم في "التفسير" ، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون يا عيسى، من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى أجل الدُّنيا حين نظر الناسُ إلى عاجلها، وأماتوا منها ما يَخْشَونَ أن يُميتهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها ،استقلالا ، وذكرهم إيَّاها فَوَانًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، وما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، بليت الدنيا عندهم فليس يُجددونها، وخربت بينهم فليس يُعمرونها،
الإعلام
٣٥٥
وماتت في صدورهم فليس يُحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، ويرفضونها فكانوا برفضها هم الفرحين، وباعوها فكانوا ببيعها هم المربحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات، فأحبوا ذِكْرَ الموتِ وتركوا ذِكْرَ الحياةِ، يحبون الله تعالى ويستضيئون بنوره
ويضيئون به، لهم خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب و به نطقوا وبهم عُلِمَ الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلا مع ما نالوا، ولا أماني دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون». الأبدال
وهم طائفةٌ من الأولياء يُسمَّونَ بهذا الاسم، وقد وردت أحاديث وآثار في تسميتهم ووصفهم وعلاماتهم وأماكن وجودهم، أفردها الحافظ السيوطي برسالة خاصة سماها "الخبر" الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال"، قال في خطبتها: (وبعد: فقد بلغني عن بعض من لا علم عنده، إنكار ما اشتهر عن السادة الأولياء، من أنَّ منهم أبدالًا ونقباء ونُجباء وأوتادا وأقطابا، وقد وردت الأحاديث والآثار بإثبات ذلك، فجمعتها في هذا الجزء لتستفاد، ولا يُعوّل على إنكار أهل العناد. ولو فرض أنه لم يرد في ذلك حديث ولا أثر، وكان مجرد اصطلاح تواطأ عليه الصوفية، لما صح إنكاره؛ لأنَّ كلَّ طائفة من طوائف العلماء: كالفقهاء، والأصوليين، والنحاة، والمناطقة، وأهل المعاني اصطلحوا على ألفاظ لها معاني خاصة، يتفاهمون بها فيما بينهم ودوّنوها في كتبهم، وصارت جزءا من
٣٥٦
التصوف
علومهم، ولم يعترض عليهم أحد في ذلك. فما وجه تخصيص الصوفية بالاعتراض؟! على أن لفظ الأبدال اشتهر في عهد السلف، ووصف به جماعة من الأئمة.
قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" - بعد أن تكلم على بعض طرق حديث الأبدال - : ومما يتقوى به الحديث ويدل لانتشاره بين الأئمة، قول إمامنا الشافعي - في بعضهم - : كنا نعده من الأبدال»، وقول البخاري في غيره كانوا لا يشكُون أنه من الأبدال»، وكذا وصف غيرهما من والحفاظ والأئمة غير واحد بأنه من الأبدال . اهـ
النقاد
ونُقل عن يزيد بن هارون أحد الحفاظ قال: «الأبدال هم أهل العلم».
وعن الإمام أحمد: «إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟». وممن وُصِفَ بأنه من الأبدال الحسن البصري، وحماد بن سلمة، وأبو توبة الحلبي شيخ أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، ومحمد بن واسع، وحسان بن أبي سنان، ومالك بن دينار، ووكيع بن الجراح، وخالد بن معدان، وغيرهم كثير تجد تراجمهم في كتب الرجال وطبقات الحفاظ، ومن راجع "تذكرة الحفاظ" للذهبي، وتهذيب التهذيب" لابن حجر، وجد فيها كثيرًا من الحفاظ وصفوا بالبَدَلية.
وبعد هذا، فاستمع إلى بعض الأحاديث في هذا الموضوع:
١ - عن أم سلمة )
رضي
الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم:
يكون اختلاف عند موتِ خليفة، فيخرج رجل من المدينة هاربًا إلى مكة،
الإعلام
٣٥٧
فيأتيه ناس من أهل مكة، فيُخْرجونه وهو كاره، فيُبايعونه بين الركن والمقام، ويُبعث إليه بعثُ من الشام، فيُخْسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك، أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق...» الحديث، رواه أبو داود، وأحمد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والحاكم، والبيهقي، وهو حديث
صحيح.
٢ - عن شريح بن عبيد قال: ذكر أهل الشام عند علي بن أبي طالب عليه السلام -وهو بالعراق- فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الأبدال بالشام وهم أم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلًا، يُسقى بهم الغيث، ويُنتصر : على الأعداء، ويُصرف عن أهل الشام بهم العذاب». رواه أحمد بإسناد صحيح،
بهم
إلا أن فيه انقطاعا بين شريح وعلي. ورواه الحسن بن عرفة، وابن عساكر عن شريح أيضًا قال: ذكر أهل الشام عند علي عليه السلام فقالوا يا أمير المؤمنون العنهم، فقال: لا، إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنَّ الأبدال بالشام يكونون، وهم أربعون رجلًا، بهم تُسقون الغيثَ، وبهم تنصرون على أعدائكم، ويُصرف عن أهل الأرض البلاء والغَرَق».
وفي
"المستدرك "، عن عبدالله ابن زرير الغافقي أنه سمع عليا يقول: «لا
تسبوا أهل الشام فإن فيهم الأبدال ، وسُبُّوا ظَلَمَتَهم». صححه الحاكم، وسلّمه
الذهبي.
٣٥٨
التصوف
والآثار عن علي عليه السلام في الأبدال كثيرة، واردة بطرق متعددة، وهي
مرفوعة حكمًا، لأنها مما لا مجال للرأي فيه.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: الن تخلو الأرض من أربعين رجلًا مثل خليل الرحمن، فبهم تُسقون وبهم تنصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر». قال سعيد: وسمعت قتادة يقول: «لسنا نشك أن الحسن البصري - منهم». رواه الطبراني في
"الأوسط"، قال الحافظ الهيثمي: «إسناده حسن».
- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الأبدال في هذه الأمة ثلاثون مثل خليل الرحمن عزّ وجلَّ، كلما
مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا». رواه أحمد، وهو حديث حسن.
وفي "مسند البزار"، و"معجم الطبراني، عنه أيضًا قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا يزال في أُمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض، وبهم
تُمطرون، وبهم تُنصَرون قال قتادة: إني أرجو أن يكون الحسن منهم». وقوله في هذا الحديث «ثلاثون» لا ينافي أنهم أربعون كما في الأحاديث الكثيرة؛ لأن العدد لا مفهوم له، أو أخبر أنهم ثلاثون ثم أعلمه الله بزيادتهم إلى
أربعين. ه - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «خيار أُمتي في كلّ قرنٍ خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون، ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل الله من الخمسمائة مكانه، وأدخل
الإعلام
٣٥٩
من الأربعين مكانهم قالوا: يا رسول الله دلّنا على أعمالهم، قال: «يَعْفُونَ عَمَّن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويتواسون فيما آتاهم الله». رواه الطبراني، وأبو نعيم، وتمام، وابن عساكر. وروى الخلال في كرامات الأولياء"، عنه أيضا قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يزال أربعون رجلًا يحفظ الله : بهم الأرض، كلما مات رجل أبدل الله مكانه ،آخر، وهم في الأرض كلها». وهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين، فهما مؤيَّدان بالأحاديث السابقة وغيرها.
بم استحق الأبدال تلك الرتبة؟
رتبة البدلية من الرتب العزيزة لا تُنال إلا بشروط بينتها الأحاديث والآثار، فإذا ادعى شخص أنه من الأبدال أو ادعي فيه ذلك، وكان خلوا من تلك الشروط ، عَلِمنا أن دعواه باطلة وعرفنا أنه جملة الدخلاء الذين من
شوهوا التصوّف وأهله بما اقترفوا من آثام.
فمن شروط الأبدال ما تقدم قريبا : أنهم يعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى مَن أساء إليهم، ويتواسون فيما آتاهم الله تعالى، وهذه صفات عزيزة قلَّ مَنْ
يتخلق بها.
ومن شروطهم ما جاء في الحديث عن عليّ عليه السلام- قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الأبدال؟ قال: «هم ستون رجلا»، فقلت: يا رسول الله جَلَّهم لي، قال: «ليسوا بالمتنطعين ولا بالمبتدعين ولا بالمتعمقين، لم ينالوا ما نالوا بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بسخاء
٣٦٠
التصوف
الأنفس وسلامة القلوب والنصيحة لأئمتهم».
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب" الأولياء" ، والخلال في "كرامات الأولياء"،
وزاد في رواية أخرى: «إنهم يا علي في أُمتي أقل مِنَ الكبريت الأحمر». وجاء في حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ دِعامة أُمتي عُصَبُ اليمن ، وأبدال الشام وهم أربعون رجلًا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، ليسوا بالمتماوتين ولا بالمتهالكين ولا المتناوشين، لم يبلغوا ما بلغوا بكثرة صوم ولا صلاة، وإنما بلغوا ذلك بالسَّخاء وصحة القلوب والمناصحة لجميع المسلمين».
وورد عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إن بدلاء أُمتي لم يدخلوا الجنَّة بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن دخلوها برحمة الله وسلامة الصدور وسَخاوة الأنفُس والرحمة بجميع المسلمين». رواه الحكيم
الترمذي، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وغيرهما. وروى ابن أبي الدنيا في "كتاب الأولياء": عن بكر ابن خُنيس يرفعه: «علامة أبدال أُمتي أنهم لا يلعنون شيئًا أبدا».
فالمبتدعة ومن على شاكلتهم من المتنطعين والمتعمقين والمتزمتين لا نصيب لهم في رتبة البدلية، وكذلك المتماوتون المتهالكون الذين يتكلفون السمت
والوقار. نعم، ولا ينالها اللعانون الطعانون، سُفهاء اللسان، خُبثاء القلب. ولذا قال الحارث ابن حومل الرجاء بن حيوة -وهما تابعيان : «يا رجاء اذكر لي رجلين صالحين من أهل بيسان بلد الشام - فإنه بلغني أن الله تعالى اختص أهل بيسان برجلين صالحين من الأبدال، لا يموت واحد إلا أبدل الله
الإعلام
٣٦١
مكانه واحدا، ولا تذكر لي منهما متماوتا ولا طَعَانًا على الأئمة، فإنه لا يكون منهما الأبدال». رواه ابن عساكر وغيره.
فالأبدال : أسخياء سُمَحَاء، سَلِيمُو الصدور ، لا يحملون حقدًا ولا غشاء أعفاء اللسان، لا يلعنون ولا يَسُبُّون وهم - إلى جانب هذا إيجابيون في الحياة، يرحمون المسلمين وينصحونهم ويسعون في إيصال الخير لهم، وببركاتهم
وتوجهاتهم ينزل الغيث، ويُكشف الكرب، ويحصل النصر على الأعداء. لا جَرَمَ إن كان انقراضهم في آخر الزمان إيذانا بانقراض الخير، وانتهاء الدنيا، كما جاء في حديث عن أنس مرفوعا: «فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم فعند ذلك تقوم الساعة». رواه الترمذي الحكيم، وابن شاهين، وابن عدي وغيرهم. النجباء والنقباء والأوتاد والغوث
هذه رتب في الولاية اصطلح عليها الصوفية، وهي مأخوذة عن سلف الأمة وأئمتها، فعن أبي الطفيل - وهو صحابي - عن علي - عليه السلام- قال:
«الأبدال بالشام، والنجباء بالكوفة». رواه ابن عساكر. ورُوِيَ عنه . أيضا قال: «الأبدال من الشام والنجباء من أهل مصر، والأخيار من أهل العراق.
وروى ابن عساكر أيضًا عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: الأبدال بالشام، والنجباء بمصر، والعُصَب باليمن، والأخيار بالعراق». وروى هو والخطيب البغدادي، عن الكتاني قال: «النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون ، والأخيار سبعة، والعُمد أربعة، والغوث
٣٦٢
التصوف
واحد. فمسكن النقباء ،المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض والعُمُد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العُمُد، فإن أجيبوا، وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته».
والعمد - بضم العين والميم- هم الأقطاب، أربعة في كل وقت، وهم والعُصَب - بضم العين وفتح الصاد، ويقال: عصائب، كما تقدم في حديث أم سَلَمَة - : طائفة من الزهّاد، كما في "النهاية".
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو حاتم الرازي - الإمامُ العَلَم - : حدثنا عثمان بن مطيع: حدثنا سفيان بن عيينة قال : قال أبو الزناد - أحد شيوخ الإمام مالك - : «لما ذَهَبَت النبوة، وكانوا أوتاد الأرض، أخلف الله مكانهم يعني الأنبياء- أربعين رجلًا من أُمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم، يُقال لهم الأبدال، لا : يموت الرجل منهم حتى يُنشيء الله مكانه آخر يخلفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم على مثل يقين إبراهيم عليه السلام، لم يَفْضُلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام ولا بحُسن التخشّع ولا بحسن الحلية، ولكن: بصدق الورع وحسن النية وسلامة القلب والنصيحة لجميع المسلمين، ابتغاء مرضاة الله بصبر وخير وبر ولب حليم، وتواضع في غير مذلة، لا يلعنون أحدا ولا يُؤذون أحدا، ولا يتطاولون على أحد تحتهم ولا يُحقرونه، ولا يحسدون أحدا فوقهم ليسوا بمتخشعين ولا متماوتين ولا معجبين، لا يحبون
لدنيا ولا يحبون الدنيا ليسوا اليوم في وحشة ولا غدًا في غفلة».
الإعلام
الكرامات
٣٦٣
اتفق أهل السنة على إثبات الكرامات وأنّ الله يخص بها بعض أوليائه،
للأدلة الدالة على وقوعها في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، بل المتواترة. قال الإمام أبو الحسن الأشعري - إمام الأشاعرة- في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": جملة ما عليه أهل الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يردون من ذلك شيئا»، وذكر العقيدة، إلى أن قال: وأنّ الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم». وقال في آخر العقيدة: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه ویرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب». ونقله الحافظ ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وقال الإمام الحافظ القدوة محيي الدين النووي في كتابه "بستان العارفين": اعلم أنَّ مذهب أهل الحقِّ إثبات كرامات الأولياء، وأنها واقعة موجودة مستمرة في الأعصار، ويدل عليها دلائل العقول وصرائح النقول، أما دلائل العقل فهي أمر يمكن حدوثه ولا يؤدي وقوعه إلى رفع ا أصل من أصول الدين، فيجب وصف الله تعالى بالقدرة عليه، وما كان مقدورًا كان
جائز الوقوع، وأما النقول: فآيات في القرآن العظيم، وأحاديث مستفيضة». وفي "شرح المقاصد" لسعد الدين التفتازاني: «ظهور كرامات الأولياء، تكاد تلحق بمعجزات الأنبياء، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع
٣٦٤
التصوف
والأهواء، إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم قط ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء مع اجتهادهم في أمور العبادات واجتناب السيئات فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يُمزقون أديمهم ويمضغون لحومهم لا يسمونهم إلا باسم الجهلة المتصوفة ولا يعدونهم إلَّا في عداد آحاد المبتدعة، قاعدين تحت المثل السائر: «أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل»، ولم يعرفوا أن مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة، واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة، وإنما العجب من بعض فقهاء السُّنَّة، حيث قال - فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية، وفي ذلك اليوم بمكة - : أن من اعتقد جواز ذلك يكفر، والإنصاف ما ذكره الإمام النَّسَفي، حين سُئل عما يُحكى أن الكعبة كانت تزور أحدًا من الأولياء، هل يجوز القول به؟ فقال:
نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة». وليت شعري، ماذا كان يقول ذلك الفقيه المتسرع إلى الإكفار لو رأى مخترعات اليوم، وشاهد الطائرة تنقل الشخص في بضع ساعات مسافات تقطع في شهور ؟! فإذا كان العلم وصل إلى هذا وأكثر منه فكيف
كانت
نستبعده على قدرة الله تعالى؟!.
ومما يعاب على فقهاء الحنفية تسرعهم إلى الإكفار لأسباب بعيدة عن الكفر، ومن قرأ باب الردّة في كتبهم رأى العجب، من ذلك قولهم: من صغر
عمامة العالم فقال : عُميمة فإنه يكفر؛ لأنه صغر ما عظم الله !. ومما ثبت بالشُّهرة ما حكاه العلامة أحمد بابا التنبكتي المالكي في "نيل
"1
الابتهاج بتطريز الديباج عن الشيخ عبد الخالق التونسي، عن شيخه شعيب
الإعلام
٣٦٥
ابن الحسن الأندلسي الشهير بأبي مدين الغوث -وهو شيخ ابن العربي الحاتمي - قال: سمعت أن رجلًا يُسمَّى موسى الطيار يطير في الهواء ويمشي على الماء، وكان رجل يأتيني عند طلوع الفجر فيسألني عن مسائل الناس، فوقع لي ليلة أنه موسى الطيار الذي أسمع به، فلما طلع الفجر نقر الباب رجل فإذا هو الذي يسألني، فقلت له: أنت موسى الطيار؟ قال: نعم. ثم سألني وانصرف، ثم جاءني مع آخر، فقال لي: صلَّيتُ الصبح ببغداد، وقدمنا مكة فوجدناهم في الصبح فأعدنا معهم وبقينا في مكة حتى صلينا الظهر، فجئنا القدس، فوجدناهم في الظهر، فقال صاحبي هذا نُعيد . فقلت: لا،
معهم،
فقال: ولم أعدنا الصبح بمكة ؟ فقلت له كذلك كان شيخي يفعل وبه أمرنا، فاختلفنا. قال أبو مدين فقلت لهم أمّا إعادة الصبح بمكة فإنها عين اليقين وببغداد علم اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين، وصلاتكم بمكة وهي أم القرى فلا تعاد في غيرها، قال: فقنعا به وانصرفا».
والمقصود أن كرامات الأولياء أجمع على إثباتها علماء السُّنَّة، ووافقهم من المعتزلة أبو الحسين البصري، وقد أفرد هذا الموضوع بالمؤلفات الكثيرة، وكتابنا "الحجج البينات في إثبات الكرامات" مهم جدًّا . جدا ينبغي مراجعته، ففيه ما لا يوجد في غيره، مع تخريج الأسانيد، وتوخي الصحة بغاية الدقة.
ونشير هنا إلى بعض الأدلة توفية للبحث حقه:
١ - الأمر الخارق للعادة إن ظهر على يد مدّعي النبوة، فإما أن يكون قبل النبوة أو بعدها، فإن كان قبلها كَشَقٌ صدره الشريف، وإظلال الغمامة له في مسيره إلى الشام، سُمّي: إرهاصا، وإن كان بعدها: فإما أن يكون مصحوبًا
٣٦٦
التصوف
بالتحدي: كالقرآن وانشقاق القمر ، فيُسمَّى معجزة، وإما أن يكون غير مصحوبا بالتحدي: كحنين الجذع، ونبع الماء من الأصابع الشريفة، فيُسمى: آية. وإن ظهر الخارق للعادة على يد مدّعي النبوة بخلاف مُراده، سُمّي: إهانة، مثل ما روي أن مسيلمة الكذاب دعا لأعور بأن يفتح الله عينه فعمي، ومسح بيده رأس يتيم فقرع، وَبَلَغَهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم تَفَلَ في بئرٍ فكثر ماؤها وعَذَّب بعد أن لم يكن كذلك، فتفل هو في بئرٍ ليَعْذُب ماؤها، فصار ملحًا أُجاجًا.
وإن ظهر الخارق على يد مؤمن صالح فهو : الكرامة، أو على يد فاسق كالساحر مثلا فهو استدراج، وقد يقع الخارق لبعض عوام المسلمين تخليصا له من محنة أو مكروه، ويسمى معونة.
۲- قولهم: «ما وقع معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة للولي » محمول على الآيات التي لم يقع بها التحدي، أما المعجزة التي وقع بها التحدي: كالقرآن الكريم، فلا.
نبه على هذا المعنى العلامة الأبي في شرح مسلم"، ونحوه قول القشيري:
إن كرامات الأولياء لا تنتهي إلى نحو ولد دون والد». اهـ
يشير إلى ولادة عيسى عليه السلام، فهي آية من الله لنبيه ولأُمه بسببه، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: ٥٠]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَنُ وَلِنَجْعَلَهُ وَآيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [مريم: ۲۱]
في القرآن الكريم آيات تُثبت كرامات الأولياء، منها قصة أصحاب
الإعلام
٣٦٧
الكهف ونومهم أكثر من ثلاثة قرون... إلخ ما قصه الله من خبرهم العجيب
ولم يكونوا أنبياء.
ومنها قصة مريم عليها السلام، وأن زكريا عليه السلام كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زكريا المحرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ
مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: ۳۷] وقد كانت صديقة بنص القرآن. ومنها في قصة سليمان عليه السلام قول الذي عنده علم من الكتاب: انا انيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ [النمل: ٤٠] وأتى به في غمضة عين، أي سرير ملكة سبأ.
وأما الأحاديث فكثيرة جدًّا نذكر منها عشرة كلها صحيحة: 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجِيكُم من هذه الصخرة إلَّا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما - أي لا أقدم في شرب اللبن عليها - أهلا ولا مالا فنأى بي طلب شجر يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاعون - عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا
٣٦٨
التصوف
يستطيعون الخروج». قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «قال الآخر: اللهم
مني،
كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ الناس إلى فأردتها عن نفسها ، فامْتَنَعَت . حتى ألمت بها سَنةٌ من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلي : ب بيني وبين نفسها فَفَعَلَت، حتى إذا قَدَرْتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لك أنْ تفض الخاتم إلا بحقه، فَتَحَرَّجْتُ من الوقوع عليها، فانْصَرَفْتُ عنها وهي أحب الناس إليَّ، وتَرَكْتُ الذهب الذي أعْطَيْتُهَا، اللهمَّ إِنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها».
قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «وقال الثالث: اللهم استأجَرْتُ أُجَرَاء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فَتَمَّرْتُ أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال لي: يا عبد الله أد إلى أجري فقلتُ: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبدالله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن
فيه، فانفرجت الصخرة فانطلقوا يمشون». رواه البخاري ومسلم. ٢- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جُريج، كان يُصلِّي، جاءته أُمه فَدَعَتْه، فقال: أجيبها أو أُصلي؟، فقالت: اللهم لا تمته . وجوه المومسات، وكان جُريج في صومعته فتعرضت له امرأةٌ فكلمته، فأبى، فأنت راعيًا، فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقالت: من جُريج، فَأَتَوْهُ
تريه
الإعلام
٣٦٩
فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلَّى، ثُمَّ أَتى الغلام فقال: مَن أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي. وكانت امرأة تُرضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، فأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه». قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يمُصُّ أصبعه، «ثم مُرَّ بِأَمَة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها وقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت له ذلك، فقال: الراكب جبّارٌ مِنَ الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سَرقْتِ زَنَيْتِ، ولم تفعل». رواه البخاري ومسلم.
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشْهِدهُم ، قال : كفى بالله شهيدًا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صَدَقَتْ، فدفعها إليه إلى أجل مُسمَّى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يَقدُمُ عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زَجْجَ موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تَسَلَّفْتُ فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا ، فقلتُ: كفى بالله كفيلا، وسألني شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جَهِدْتُ أن أجد مركبا، أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها حطبًا
۳۷۰
التصوف
لأهله، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيتُ فيه قال: هل كنتَ بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدى عنك الذي بَعَثْتَ في الخشبة، وانصرف بالألف دينار راشدا». رواه البخاري، وأحمد، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم.
- عن أبي هريرة أيضًا أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «بَيْنا رجل في فَلَاةٍ من الأرض، فسمع صوتا في سَحَابة : اسْقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحابُ، فأفرغ ماءه في حَرّة، فإذا شَرْجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كُلَّه، فتتبع الماءَ، فإذا رجلٌ قائم في حديقة يُحوِّلُ الماء بِمِسْحَاته، فقال له يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان - للاسم الذي سمع في السحابة - فقال له: يا عبدالله لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان - لاسمك - فيما تصنعُ فيها؟ قال: أما إذ قُلْتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وأكل أنا وعيالي ثلنا، وأرَدُّ فيها
تله.
رواه مسلم في صحيحه.
ه - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لما أُسري بي مرت بي رائحة طيبة، فقلت: ما هذا الرائحة؟ قالوا ماشطة بنت
بسم
الله، فقالت ابنة
فرعون وأولادها، سقط مشطها من يدها، فقالت فرعون أبي؟ قالت: ربي هو ربُّك وربُّ أبيك، قالت: أَوَلَكِ ربِّ غير أبي؟! قالت: نعم، فدعاها فقال: ألك رب غيري ؟! قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمر
الإعلام
۳۷۱
ببقرة من نحاس فأُخيَت، ثم أمر بها لتلقى فيها وأولادها، فألقوا واحدًا واحدًا حتى بلغ رضيعا فيهم، فقال: قعي يا أُمه ولا تقاعسي، فإنك على الحق». رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي، وصححه الحاكم، وابن جبان، وغيرهما.
٦- عن أبي سعيد الخدري أن أسيد بن حضير بينما هو يقرأ ليلة في مِرْبَدِه إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضًا، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى - ابنه - فقمتُ إليها، فإذا هو مثل الظُّلة فوق رأسي فيها أمثال الشرج، عَرَجَت في الجو حتى ما أراها، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلتُ: يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مرْبَد لي، إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «اقرأ يا ابن حضير قال: فقرأتُ، ثم جالت أيضًا فقال: «اقرأ يا ابن حضير» قال: فقرأتُ، ثم جالت أيضًا، فقال اقرأ يا ابن حضير» قال: فانصرفت، وكان يحيى قريبا منها، فخشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظُّلة فيها أمثال الشرج، عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: تلك الملائكة كانت تَتَسَمَّع لك ولو قرأت لأصبَحَتْ يراها الناس، ما تستتر
منهم». رواه الشيخان ورواه مسلم من حديث البراء بن عازب. وكان أسيد بن حضير حَسنَ الصوت، كما في رواية أَبِي عُبَيد، عن أُيّ بن كعب، وجاء في رواية الإسماعيلي: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: اقرأ أسيد فقد أُوتيتَ من مزامير آل داود ، وكان يقرأ في تلك الليلة سورة
البقرة، كما في رواية البخاري.
۳۷۲
التصوف
ووقع نظير هذه الكرامة لصحابي آخر اسمه ثابت بن قيس بن شماس، فروى أبو عبيد في فضائل القرآن ، عن جرير بن يزيد: أن أشياخ أهل المدينة حدثوه: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس، لم تزل داره البارحة تُزهر مصابيح ؟! قال: «فلعله قرأ سورة البقرة» قال: فسئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة.
عن أنس: أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار، تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، حتى ذهب من الليل ساعة، في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل منهما عصاه، فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر، فمشى كل منهما في ضوء أهله. رواه عبدالرزاق وهذا لفظه وأحمد، والبخاري،
عصاه حتى بلغ والحاكم، وغيرهم، وفي رواية للأخيرين تعيين الرجل من الأنصار بأنه:
عباد بن بشر. - روى مالك، عن عبدالرحمن بن أبي صعصعة، أنه بَلَغَه أن عمرو بن الجموح وعبدالله بن عمرو الأنصاري - والد جابر - كانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحَفَر السيل قبرهما، فحفر عليهما ليُغيَّرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا ،بالأمس، وكان أحدهما قد جُرح فوضع يده على ، فدفن وهو هكذا، فأشيلت يده عن جرحه ثم أُرسلت، فرجعت كما
جرحه،
كانت، وكان بين أحد وبين ما حفر عليهما ستة وأربعون سنة.
وروى البغوي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كتب معاوية إلى عامله بالمدينة: أن يُجري عينا إلى أحد، فكتب إليه عامله: إنها لا تجرى إلا على
الإعلام
۳۷۳
قبور الشهداء، فكتب إليه: أن أنفذها، قال جابر: فرأيتهم - يعني شهداء أُحد يخرجون على رقاب الرجال، كأنهم رجالٌ نُوَّم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه، فانبعثت دما.
وهذه القصة بلغت حد الاستفاضة أو التواتر، لأن عامل معاوية نادى في المدينة يحضّ الناس أن يخرجوا لنقل موتاهم، فخرج مَنْ لا يُحصى مِنَ الأنصار وغيرهم، وشاهدوا هذه الكرامة العجيبة بعد بضع وأربعين سنة من استشهادهم رضي الله عنهم.
۹ - روى مالك في "الموطأ" بإسناد على شرط "الصحيحين": أن أبا بكر رضي الله عنه استرجع عند وفاته أرضًا كان وهبها لعائشة . رضي الله عنها، وقال - يطيب خاطرها - : إنما هما أخواك وأختاك - أي لم أسترجع الأرض الموهوبة إلا لمصلحة الورثة الذين هم إخوتك - قالت لأبيها رضي الله عنهما: إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ أي ليس لي أخت غير أسماء فمن الثانية؟ فأجابها الصديق رضي ا الله عنهما : ذو بطن بنت خارجة . هي امرأته وكانت حاملا أراها جارية، فولدت بعد وفاته بنتا.
۱۰ - روى الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي - عن سعيد بن عبدالعزيز، أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أقسم يوم أحد فهزم المشركون، وأقسم يوم الجمل اسم موقعة- فَغَلبوا أهل البصرة، وقيل له يوم صفين بكسر الصاد والفاء المشددة، موضع كان فيه قتال بين علي عليه السلام وبين معاوية - لو أقسمت؟، فقال: لو ضربونا بأسيافهم حتى نبلغ هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل، فلم يقسم، فقتل يومئذ.
سعفات
٣٧٤
التصوف
وقال يوم أحد:
أقسمت يا جبریل و یا میگال
لا يغلبنا معشـ
رضُلال
إنا على الحق وهم جهال
وقد أخرج الطبراني في "الأوسط"، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كَمْ مِن ذِي عِمْرَينِ لا ثوبَ له، لو أَقْسَمَ
على الله لأبره، منهم عمار بن ياسر».
وباب الكرامات بحر خضم مترامي الأطراف، وفي كتابنا "الحجج البينات في إثبات الكرامات استيفاء بالغ لكثير من أنواعها المتعددة فعليك
بقراءته.
حلقات الذكر
للحافظ السيوطي -رضي الله عنه - الله عنه- في هذا الموضوع رسالة اسمها "نتيجة الفكر في الجهر بالذكر " قال في أولها: «الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سألت أكرمك الله عما اعتاده السادة الصوفية من عقد حلق الذكر،
والجهر به في المساجد، ورفع الصوت بالتهليل، وهل ذلك مكروه أو لا؟ الجواب: أنه لا كراهة في شيء من ذلك، وقد وردت أحاديث تقتضي استحباب الجهر بالذكر، وأحاديث تقتضي استحباب الإسرار به، والجمع بينهما: أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما جمع النووي بمثل ذلك بين الأحاديث الواردة باستحباب الجهر بقراءة القرآن، والأحاديث
الإعلام
۳۷۵
الواردة باستحباب الإسرار بها. ثم أورد خمسة وعشرين ما بين حديث وأثر،
نقتطف منها ما يلي: ۱ - روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرَنِي، فإن ذكرني في
تقيه ذكرته في تقبي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير من مليه». قال: «والذكر في الملإ لا يكون إلا عن جهر». قلت: والحديث رواه بقية الستة إلا أبا داود.
۲- روى البزار بإسناد صحيح، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك
(
خاليًا وإذا ذكرتني في ملإ ذكرتك في ملإ خير من الذين تذكرني فيهم". ٣- روى الشيخان واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنَّ الله تبارك وتعالى ملائكة سيّارةً فُضُلًا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء، فإذا تفرقوا عَرَجُوا وصَعِدُوا إلى السماء، فيسألهم الله عزَّ وجلَّ- وهو أعلم - من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يُسبحونك ويُكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: فما يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب، قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا ربِّ، قال: وهل رَأَوْا ناري؟ قالوا: لا، قال:
٣٧٦
التصوف
فكيف لو رَأَوْا ،ناري، قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: يقولون: رب فيهم فلان عبد
خَطَّاءُ، إنما مَرَّ فجلس معهم، فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يَشْقَى
جليسهم».
:
بهم
- روى البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا يا رسول الله، وما رياض الجنة، قال: حلق الذكر». قلت: رواه الترمذي وحسنه.
ه روى الطبراني، وابن جرير عن عبدالرحمن بن سهل بن حنيف، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم -وهو في بعض أبياته وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِي الآية [الكهف: ۲۸] فخرج يلتمسهم، فوجد قوما يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس، وجاف الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: «الحمد لله الذي جعل في أُمَّتِي مَن أمرني أن أصْبِرَ نفسي معهم».
وروى أحمد في "الزهد"، عن ثابت قال : كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فَمَرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فَكَفُوا، فقال: «ما كنتم تقولون؟» قلنا: نذكر الله، قال: «إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحْبَبْتُ أنْ أُشارككم فيها»، ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أُمَّتِي مَن أُمرت أنْ أَصْبِرَ نفسي معهم ..
للحديث طرق كثيرة.
قلت:
ثم قال السيوطي: إذا تأمَّلت ما أوردنا من الأحاديث، عرفت من
الإعلام
۳۷۷
مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر، بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما، وأما معارضته بحديث: (خير الذكر الخفي» فالجمع بينهما: بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء، أو تأذى به مصلون أو نيام، والجهر في غير ذلك أفضل لأنّ العمل فيه أكثر، ولأنَّ فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب الذاكر ويجمع همه ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم ويزيد في النشاط، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث. فإن قلت: قال الله تعالى: وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، قلتُ: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مكية كآية الإسراء وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَائِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء: ١١٠]، وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالقرآن، فيسمعه المشركون فيسُبُّون القرآن ومَن أنزله، فأمر بترك الجهر سدا للذريعة، كما نهى عن سب الأصنام لذلك بقوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُوا اللَّهَ عَدُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: ١٠٨] وقد زال هذا المعنى الآن، أشار إلى ذلك ابن كثير في "تفسيره". الثاني:
أنَّ جماعةً من المفسّرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن
جرير، حملوا الآية على الذاكر حالة قراءة القرآن، وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن تُرفع عنده الأصوات، ويؤيده اتصالها بقوله: ﴿ وَإِذَا
قُرِئَ الْقُرْوَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]
الثالث: ما ذكره الصوفية: أنّ الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه
۳۷۸
التصوف
وآله وسلم، الكامل المكمَّل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة، فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيرًا في دفعها، فإن قلت: فقد قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: ٥٥]، وقد فُسّر
الاعتداء بالجهر في الدعاء
قلت الجواب من جهتين:
أحدهما : أنَّ الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه، والحاكم وصححه: عن أبي نعامة : أنَّ عبد الله بن مُغَفَّلِ سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «سيكون في
هذه الأمة قوم يعتدون في الدُّعاء». فهذا تفسير صحابي، وهو أعلم بالمراد. الثاني: على تقدير التسليم فالآية في الدعاء لا في الذكر، والدعاء بخصوصه الأفضل فيه السِّر، لأنه أقرب إلى الإجابة، ولذا قال تعالى: إذ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيَّا } [مريم: ٣] ، ومِن ثَمَّ اسْتُحِبَّ الإسرار بالاستعاذة في الصلاة اتفاقا؛ لأنها دعاء.
فإن قلت: فقد نُقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد، فقال: «ما أراكم إلا مبتدعين»، حتى أخرجهم من المسجد، قلت: هذا الأثر يحتاج إلى بيان سنده ومَن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم؟، وعلى تقدير ثبوته فهو مُعارَضُ بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة، وهي مقدمة عليه عند التعارض.
الإعلام
۳۷۹
ثم رأيتُ ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، قال الإمام أحمد في كتاب "الزهد": حدثنا حسين بن محمد المسعودي، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلَّا ذكر الله فيه، وأخرج أحمد في "الزهد" : عن ثابت البناني قال: «إنَّ أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام أمثال الجبال، وإنهم ليقومون من ذكر الله تعالى ما عليهم منها شيء». هذا ملخص رسالة نتيجة الفكر، وهي مطبوعة بتعليقاتي عليها، فليراجعها من أرادها.
الذكر بالاسم المفرد
اعترض بعض الفقهاء على الصوفية عنايتهم بالاسم المفرد ولهجهم به زاعما أنّ الذكر به بدعة وأنه لا يشتمل على جملة مفيدة مثل الأذكار الواردة نحو: «لا إله إلا الله والحمد لله، والله أكبر»، وإلى غير ذلك، وقد تولى الرد على هذا الاعتراض مولانا الشيخ الإمام الوالد رضي الله عنه- في بحث وافٍ كاف ننقله بنصه من مجموعة فتاواه وبحوثه في علوم مختلفة. قال - تغمده الله برضوانه : «الحمد الله، ما نقله الحطاب آخر باب الردّة من شرحه لـ " مختصر خليل" من أنَّ عزّ الدين بن عبدالسلام سُئل عمن يذكر بصيغة : «الله الله» مقتصرا على ذلك، هل هو مثل: سبحان الله، والحمد لله ؟ إلخ. فأجاب بقوله: «هذه بدعة لم تُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولا عن أحد السلف... » . إلخ.
۳۸۰
التصوف
مردود من وجوه:
أولها: ما ورد في صحيح مسلم ، من قوله عليه الصلاة والسلام: « لا تقوم الساعة حتى لا يَبْقى من يقول: الله الله وفي رواية له: «حتى لا يقول أحد: الله الله»، فإنّ هذا الحديث الشريف شاهد لذكره وتكراره كما ترى، ولا سيما على رواية النصب، وقد ردَّ جماعةٌ من المحققین به علی ابن عبدالسلام، منهم: سيدي عبد القادر الفاسي، والعارف الشعراني، وابن عبدالسلام بناني، وجماعة يطول ذكرهم.
ثانيها: أنا لا نُسَلَّم أنَّ الذكر لا يكون إلا جملة، فقد قال تعالى: وَلِلَّهِ الأسماء الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: ۱۸۰] بناء على أنَّ المراد بالدعاء الذكر
والتسمية. ثالثها: أنا وإن سلَّمْنَا أنَّ الذكر إنما يكون جملة، فقول الذاكر: «الله الله»، جملة تقديرا، إذ معناه يا الله، أو الله أعظم أو الله أكبر، أو نحو ذلك، وحذف
النداء مع غير المندوب والمُضْمَر والمستغاث جائز اتفاقا، كما في الألفية. رابعها ما ورد في بعض الأحاديث من أنَّ العبد إذا قال: الله، يشهد له كل
من يسمعه. ذكره ابن زكري، والعهدة عليه.
خامسها تواطؤ السادات الصوفية على ذكره والاستهتار به - أي الولوع به سلفهم وخلفهم وهم من الصِّدِّيقين، وقد قالوا: «إذا اختلفت أقاويل العلماء فعليك بما قاله الصدّيقون منهم، لمزيد نورهم وكمال عرفانهم وقربهم من الله ورسوله، والسادات الصوفية لا خلاف عندهم في ذكره، بل لا يصح
الإعلام
۳۸۱
عندهم الفتح والسير في المقامات إلا بواسطته، ولهم فيه تأليف وترتيبات على حسب الأحوال والمقامات.
قال العارف المحقق شهاب الدين أحمد الغزالي: «ما دمت ملتفتا إلى ما سوى الله، فلابد لك من النفي والإثبات بلا إله إلا الله، وما دمت تعتمد على رياسة العلم والجاه، فلابد لك من النفي والإثبات بلا إله إلا الله، وما دمت ترى في الوجود سواه، فلابد من لا إله إلا الله، فإذا غبت في الكل عن الكل،
استوحشت من نفي لا إله، ووقفت على إثبات إلا الله، وقُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: ٩١].
وقال العارف الشعراني في "المنن": «ويما منّ الله به علي، مواظبتي أول دخولي لطريق القوم على ذكر الله بلفظ الجلالة الله أربعا وعشرين ألف مرة كل يوم وليلة، على عدد الأنفاس الواقعة في الليل والنهار، ليكون حُكمي - إن شاء الله - حكم من لم يغفل عن الله نفسا واحدًا، ثم قال: قال الشيخ محيي
1
الدين وينبغي لمن يذكر الله بلفظ الجلالة أن يحقق الهمزة ويُسَكِّن الهاء، فإن فتح الهاء وأسقط الهمزة ووصل الهاء باللام المدعمة، كان تلفظه بها كتلفظه بكلمة: هلا، فلا يُفتح عليه بشيء، لأنه تعالى ما هو مسمى بذلك الاسم ثم
قال: وصورة الذكر بالجلالة أن يقول: «الله الله»، حتى ينقطع نَفَسُه» . اهـ وذكر أبو على الدقاق أنَّ رجلا كان يقول: «الله الله» دائما، فأصاب حجر
رأسه فشجه فقطر منه الدم وكتب على الأرض: «الله الله». وبقي النوري في منزله سبعة أيام لم يأكل ولم يشرب ولم ينم وهو
۳۸۲
التصوف
يقول: «الله الله الله»، فأعلم الجنيد بذلك فقال: انظروا أمحفوظة عليه أوقاته أم لا؟ فقالوا له: إنه يصلّي الفرائض ، فقال : الحمد لله الذي لم يجعل للشيطان عليه سبيلا.
وسئل الشبلي: لم تقول: «الله الله، ولا تقول: لا إله إلا الله؟ فقال: لا أبغي له ضدا، فقال السائل: أريد أعلى من هذا، فقال أخشى أن أوخذ بين وحشية النفي والإثبات، فقال أريد أعلى من هذا فقال: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي حَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: ٩١] فزعق السائل ومات فتعلق أولياؤه بالشبلي فقال لهم: روح دعيت
فسمعت، فلبَّت وأجابت، فما ذنبي ؟ فقال الخليفة: خلو سبيله، لا ذنب له. قال العارف أبو الوفاء وتعليل هذا المذهب أن نفي الشيء إنما يحتاج إليه عند حضور ذلك الشيء بالبال، فمن لا يخطر بباله شريك لا يُكلف نفي الشريك، والكامل لا يخطر بباله ولا بخياله إلا الله فيكفيه أن يقول: الله الله» . اهـ وقال القطب الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: «اليكن ذكرك: الله الله، فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور، وليس النور مقصودًا لذاته بل لما يقع به من الكشف والعيان، فينبغي الإكثار من ذكره واختياره على سائر الأذكار، لتَضَمُّنه الجميع ما في لا إله إلَّا الله من العقائد والعلوم والآداب والحقوق، فإنه يأتي في: (الله)، وفي: (هو)، ما لا يأتي في غير هما من الأذكار . اهـ
قال الشيخ زروق ولهذا اختاره المشايخ ورجحوه على سائر الأذكار، وجعلوا له خَلَوَات، ووصلوا به إلى أعلى المقامات والولايات، وإن كان منهم
من اختار في الابتداء: لا إله إلا الله، وفي الانتهاء: الله الله» . اهـ
الإعلام
۳۸۳
وقال ابن حجر في "الفتاوى الحديثية": «ذكر لا إله إلَّا الله أفضل من ذكر الجلالة مطلقًا بلسان أهل الظاهر، وأما عند أهل الباطن فالحال عندهم يختلف
باختلاف حال السالك، فمن هو في ابتداء أمره ومقاساة شهود الأغيار وعدم
انفكاكه عن التعلق بها يحتاج إلى النفي والإثبات حتى يستولى عليه سلطان الذكر، فإذا استولى عليه فالأولى له لزوم الإثبات أعني الله الله» . اهـ باختصار. وقال الجنيد: «ذاكر هذا الاسم ذاهب عن نفسه متصل بربه قائم بأداء حقه ناظر إليه بقلبه، قد أحرقت أنوار الشهود صفات بشريته . اهـ
قال الشيخ محيي الدين: ومن أراد أن يُفتح عليه بذكر هذا الاسم الشريف، فليتخذ خلوة وليترك سائر الأذكار والأوراد غيره، ولا يذكره من حيث أنه يدل على العين فقط، بل لابد أن يستحضر أنه يذكر من لا تحصره الأكوان، ومن له الوجود المطلق التام، فبهذا الاستحضار تحصل الثمرة، التي
هي النور الذي يقع به الشهود ،والعيان وهذا الاستحضار هو المعبر
بالبساط». اهـ
وفي صلاة القطب مولانا عبد السلام بن مشيش: «الله الله الله». ثلاث مرات، أفيجترئ أحدٌ أن يفوه في ذلك بعيب أو طعن وريب؟! كلا، وكيف وأصول الشريعة لا تأباه، ولا تدل على خروجه عن ذكر الله لفظا ولا معنى، إلى غير هذا من نصوص أولياء الله الدالة على استحباب ذكره.
قال شيخ الشيوخ سيدي عبد القادر الفاسي - بعد كلام في هذا المعنى: ولا يخفى هذا على من له ممارسة باصطلاحهم، فيكفينا التسليم والتصديق لما قصرت عنه مداركنا من مذاهبهم:
٣٨٤
التصوف
فاشْدُدْ يَدَيْكَ على تَسْلِيمِ ما فَعَلُوا وظنَّ خيرًا ولا تَعْبَأَ بِمَنْ عَذَلا إذ التصديق بطريقهم ولاية والاعتراض عليهم جناية، قال: وليس في كلام عزّ الدين تصريح بإنكار أو بغيره، بل غاية ما قال: أنه لم يُنقل عن السلف، وكم من أشياء لم تنقل عن السلف وهي مشروعة، إذ البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة كما هو معلوم، فلا ينبغي الإنكار على من يذكر هذا الاسم الشريف، ولا التوقف فيه . اهـ كلام سيدي عبد القادر الفاسي، وهو وحده كاف في رد كلام ابن عبد السلام، والله تعالى أعلم . اهـ
قلت: ثبت عن بلال رضي الله عنه الذكر بالاسم المفرد، قال أبو داود: قُرئ على سلمة بن شبيب وأنا شاهد قال حدثنا عبدالرزاق: حدثنا مَعْمَر عطاء الخراساني قال: كنت عند سعيد بن المسيب فذكر بلالا فقال: كان شحيحا على دينه، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال: «الله الله»، وذكر بقية الحديث في شراء أبي بكر رضي الله عنه بلالا وإعتاقه.
عن
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كان أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأنه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر رضي الله عنه فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وأصهر وهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد».
الإعلام
٣٨٥
وهذا خبر مشهور، وَرَدَ في كتب السيرة بطرق، فكيف يقال بعد هذا: إنّ الذكر بالاسم المفرد لم ينقل عن السلف؟! على أن الأوامر التي حضت على ذكر الله في الكتاب والسنة - وهي كثيرة - تشمل الذكر بالاسم المفرد لا محالة، فاشتراط وروده بعينه - رغم شمول مطلق الأوامر له - تعسف يأباه الإنصاف، ونريد أن نقول - زيادة على ما تقدم - : أنّ الشارع أذِنَ في إنشاء أذكار من بنات أفكار الذاكر، بل حضّ عليها فروى الطبراني في "الأوسط" بسند جيد - كما قال الحافظ الهيثمي - عن أنس: أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضًا، ولا بحر ما، في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه، فلما فرغ من صلاته، دعاه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وَوَهَبَ له ذهبًا أُهدِي له من بعض المعادن، وقال: «وهبتُ لك الذهبَ بِحُسْنِ ثنائِكَ على الله عزَّ وجلَّ».
فتأمل هذا الحديث تجده يأذن في إنشاء أذكار وأدعية، من غير تقيد بالوارد، بل يمكننا أن نقول : كل ما أنشأه الصوفية من أذكار وأوراد وأدعية
فهو من قبيل الوارد لدخوله في عموم هذا الحديث، وبالله التوفيق.
٣٨٦
التصوف
موقف العلماء من الصوفية
علمت - فيما سبق أول -الكتاب أن الدين ينبني على ثلاثة أركان الإيمان الإسلام، الإحسان، وأن التصوّف هو مقام الإحسان، وأن المقامات والأحوال التي يتكلم فيها الصوفية كلها واردة في الكتاب أو السنة بالعبارة الصريحة أو الإشارة الواضحة، وأنّ الصحابة - خصوصا منهم أهل الصفة - كانوا متخلقين بأخلاق الصوفية، وكذلك التابعون وتابعوهم وهَلُمَّ جَرا، وعلى هذا فلا عجب أن يكون موقف علماء المسلمين من الصوفية موقف التأييد والتعاضد والمساندة، وكان الأئمّة أهل الفقه والكلام، وأكابر أعلام الإسلام كما يقول الحافظ السيوطي - يصحبون أهل الطريق، ويحضرون مجالس وعظهم ويبالغون في الثناء عليهم، وينقلون عباراتهم وإشاراتهم في
دروسهم وتصانيفهم.
وإليك بعض الأدلة على ذلك:
۱ - نقل الإمام زروق في قواعده والتنائي عن الإمام مالك أنه قال: «مَن تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقّه ولم يتصوّف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق» . اهـ
فانظر كيف اعتبر الإمام مالك رضي الله عنه التصوّف والفقه جزأين متلازمين لا يتم أحدهما إلا بالآخر.
۲- قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: صحبت الصوفية، فلم أ
أستفد
منهم سوى حرفين، وفي رواية سوى ثلاث كلمات، قولهم: «الوقت سيف إن
۳۸۷
الإعلام
لم تقطعه قطعك»، وقولهم: «نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل»، وقولهم: «العدم عصمة». نقله الحافظ السيوطي وغيره، والإمام الشافعي يعده الصوفية من الأبدال. روى الحاكم، والخطيب بسند صحيح عن إسماعيل بن إسحاق السراج قال: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أنَّ الحارث هذا – يعني المحاسبي - يُكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه، ففعلت، وحضر الحارث وأصحابه، فأكلوا وصلوا العتمة، ثم قعدوا بين يدي
.
الحارث وهم سكوت إلى قريب نصف الليل، ثم أخذ الحارث في الكلام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخر، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدتُ الغرفة فوجدت أحمد قد بكى حتى غشي عليه، فلما تفرقوا، قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا، فلا أرى لك صحبتهم . اهـ
قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": «إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم، فإنه مقام ضيّق لا يسلكه كل أحد، ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه» . اهـ وقال الحافظ الخطيب أيضًا في تاريخ بغداد": أخبرنا أبو عبدالرحمن إسماعيل بن أحمد الحيري: أنبأنا محمد بن الحسين السلمي قال: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يحكي عن ابن الأعرابي قال: قال أبو حمزة: «كان الإمام أحمد بن
حنبل يسألني في مجلسه عن مسائل ويقول: ما تقول فيها يا صوفي؟». قلت: كفى بهذا القول من الإمام أحمد ردا على مقلديه، كابن تيمية
۳۸۸
التصوف
وأذنابه الذين ينكرون على الصوفية، ويرمونهم بالكفر والإلحاد. هذا، وأما ما اشتهر بين كثير من الناس أنّ الشافعي وأحمد اجتمعا بشيبان الراعي وسألاه عن أشياء في الصلاة والزكاة، فليس بصحيح، لأن الإمامين لم
یدر کا زمن شیبان، بل كانا بعده كما في "المقاصد الحسنة" للحافظ السخاوي. ٤ - كان أبو العباس بن سُريج - أحد أئمة الشافعية - يحضر مجلس الجنيد
ويسمع كلامه، ويقول: «أشهد أنّ لهذا الكلام صولة ليست بصولة مبطل». وروى القشيري في "الرسالة" ، والخطيب في "تاريخ بغداد"، من طريق أبي الحسين علي بن إبراهيم الحداد قال: حضرت مجلس أبي العباس بن سريج فتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن أعجبت به، فلما رأى إعجابي قال: هذا ببركة مجالستي لأبي القاسم الجنيد». ه - ذو النون المصري أحد أئمة الصوفية وعظمائهم، قال الحافظ أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر " : كان عالما، فصيحا، حكيما، أصله من النوبة، وقال الحافظ مسلمة بن قاسم: كان رجلا صالحا، زاهدا، عالما، ورعًا، متفننا في العلوم، واحدا في عصره، ولم يَسْلَم من نقد الجهلة واعتراضاتهم، ولهذا قال الحافظ الذهبي في "الميزان": كان ذو النون ممن امتحن وأوذي، لكونه أتاهم بعلم لم يعهدوه، كان أول من تكلّم بمصر في ترتيب الأحوال في مقامات الأولياء، فقال الجهلة هو ،زنديق قال السلمي: لما مات أظلت الطيور
جنازته» . اهـ ومثله في "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر العسقلاني، وهذه الشهادة من هذين الحافظين الكبيرين تدمع أعداء الصوفية - خصوصا الحانقين- بالجهل.
الإعلام
۳۸۹
٦ - ذكر التاج الشبكي في "طبقات الشافعية": عن ابن السمعاني أنه روى بسنده: أن أبا القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية - حج سنة من السنين، وقد حجّ في تلك السنة أربعمائة نفس من قضاة المسلمين وأئمتهم من أقطار البلاد وأقاصي الأرض، فأرادوا أن يتكلم واحد منهم في حرم الله، فاتفق الكل على الأستاذ أبي القاسم، فتكلم هو باتفاق منهم.
ذكر التاج الشبكي أيضًا، أنَّ الأئمة كانوا يحضرون مجالس أبي نصر عبدالرحيم بن أبي القاسم القشيري، وهو صوفي كأبيه، وممن كان يحضر دروسه في الكلام الإمام أبو إسحاق الشيرازي فقيه العراق، وشيخ الشافعية على الإطلاق، قال السبكي أيضًا ومما عُظَّم به أبو نصر: أن إمام الحرمين - وهو عصريه - نقل عنه في كتاب "الوصية" من "النهاية" وهذا فخار لا يعدله شيء . اهـ
-- قال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله - وهو من فقهاء المالكية ومشايخ الصوفية - في كتاب "لطائف المنن": سمعت الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد - وهو إمام مجتهد يقول : ما رأيت أعرف بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقال أيضا: وأخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر، قال: حضرت بالمنصورة في خيمة فيها الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، والشيخ مجد الدين علي بن وهب القشيري - هو والد تقي الدين بن دقيق العيد - والشيخ مجد الدين الإخميمي، والشيخ محيي الدين بن سراقة، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، ورسالة القشيري تُقرأ عليهم وهم يتكلمون، والشيخ أبو الحسن صامت، إلى أن فرغ كلامهم، فقالوا: يا سيدي نريد أن نسمع كلامك، فقال: أنتم سادات
۳۹۰
التصوف
الوقت وكبراؤه، وقد تكلَّمتم، فقالوا: لابد أن نسمع . منك، فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة والعلوم الجليلة، فقال الشيخ عز الدين - وقد خرج من صدر الخيمة وفارق موضعه - اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله . اهـ
قلت: كان اجتماع هؤلاء الأعلام في المنصورة سنة (٦٤٨هـ) الحضور المعركة الفاصلة بين المسلمين والصليبين، وقد انتهت بانكسارهم وأسر لويس التاسع ملك فرنسا، ويؤخذ من هذه القصة احترام العلماء خصوصا سلطان العلماء وتلميذه ابن دقيق العيد - للصوفية في شخص أبي الحسن الشاذلي زعيم الطائفة ومجدد رسومها، كما يؤخذ منها اشتراك الصوفية في الواجبات الدينية كالجهاد وغيره مما يعود على المجتمع الإسلامي بالخير العميم، وإذا لاحظنا أن الشاذلي حضر تلك المعركة بعد أن كُفَّ بصره، وجاء يسعى إليها من الإسكندرية، علمنا ما كان يأخذ به الصوفية أنفسهم من التمسك بعزائم الأمور، ومشاق الأشياء، ولا غرو في ذلك، فهم أهل عزيمة صادقة، وهمة خارقة، وحزم لا يلين، وجد في العمل والدأب متين، وكأنها عناهم الشاعر بقوله: على قدر أهلِ العَزْمِ تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرام المكارِمُ وتَعظُم في عينِ الصَّغيرِ صِغَارُهَا وتَصْغُرُ في عين العظيمِ العَظائم ۹ - كان العلماء الأجلاء يحضرون دروس تاج الدين بن عطاء الله السكندري، وكانت حلقات دروسه في الأزهر أرحب الحلقات، يرتادها أعظم الجماعات، وممن أخذ عنه طريق الشاذلية وتخرج به في التصوف: الإمام
الإعلام
۳۹۱
الحافظ المجتهد قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وقرأ عليه كتاب "الحكم"
له، وقال فيه: «إنه متكلّم الصوفية على طريق الشاذلية».
وعلى ذكر كتاب "الحكم" نقول: إن العلماء اعتنوا به قراءةً وشرحًا ونظما، فكان يُدرّس في الأزهر إلى عهد قريب وآخر مَنْ أقرأه شيخنا عالم مصر
ومفتيها، الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه الله، وكان يُدَرِّس أيضًا بجامع القرويين بفاس، وهو أكبر معهد علمي بشمال أفريقيا، بني قبل الأزهر بخمسين سنة، وحضر فيه أئمة أعلام مثل: ابن خلدون، والمقري صاحب "نفح الطيب"، أما شروح الحكم فلا تكاد تُحصى كثرة، ولقد شرحه الشيخ زروق ثلاثين شرحًا، وشرحه العلامة المحقق الشيخ الطيب بن كيران شرحًا مؤَيَّدًا بالسُّنَّة، فأعقب كل حكمة بحديث يؤيد معناها، وهو شرح نفيس يقع
في مجلدين، ومن شروح الحكم: شرح جدنا الإمام الولي الكبير، والقطب الشهير، أبي العباس أحمد بن عجيبة الحسني المتوفى سنة (١٢٢٤هـ)، وهو شرح عظيم، يقل نظيره بين الشروح على كثرتها، ونظم "الحكم" جماعة كثيرون، منهم شقيقنا الأكبر الحافظ أبو الفيض السيد أحمد بن الصديق، وفي "دائرة المعارف "الإسلامية" أنّ "الحكم" تُرجمت وشرحت باللغة التركية
وغيرها.
١٠ - ذكر العلامة القاضي أبو عبدالله محمد الطالب ابن الحاج في "حاشية المرشد المعين" -وهو منظومة في التوحيد والفقه المالكي والتصوف-: «أن غالب من يشار إليه من علماء الظاهر ممن له تميز وشفوف ونبوغ في الحفظ
۳۹۲
التصوف
والإتقان، إنما نال بمخالطة بعض العارفين كابن سريج بمخالطة الجنيد، والعز بن عبدالسلام بمخالطة أبي الحسن الشاذلي، والتقي بن دقيق العيد بمخالطة أبي العباس المرسي» . اهـ
والأدلة كثيرة جدًّا على أنَّ العلماء كانوا يعتبرون التصوّف من الدين،
ويعدون الصوفية من الصفوة المختارين.
تم بحمد الله
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
٢- حُسْنُ التلطَّفِ
في بيان وجوب سلوك التصوف
حسن التلطف
۳۹۵
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي منح أولياءَهُ جَزيلَ عطائِهِ ، ووهب أصفياءه جليل حبائِهِ، لهم بمظهر من مظاهر أسماءه، فتاهت عقولهم في مشاهدة عظمته وكبريائه، وطافت أرواحهم هائمة في قُدسِ سَنائِهِ، وأفناهم عن أنفسهم فلم يشاهدوا سواه في أرضه وسَمائِهِ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له شهادة ندخرها ليوم لقائه، ونستوجب بها جميل جزائه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل رُسُله وأنبيائه، أفاض عليه مولاه من أنواع العلوم والمعارف ما تَنوء الجبالُ الشُّمُّ بحمل أعبائه، صلى الله عليه وآله وسلم صلاةً وسلاما خالدين مع خلود الدهر باقيين بعد فنائه، ورضي الله عن آله الكرام حماة الدين الدافعين عنه بالسيف والبرهان حملات أعدائه، وعن أصحابه
الفخام، والتابعين لهم بإحسان إلى قيام الساعة وساعة القيام. أما بعد: فإنَّ التصوف كبيرٌ قَدْرُه ، جليل خطره، عظيمٌ وَقْعُه، عمیق نَفْعُه أنواره لامعة، وأثماره يانعة واديه قريع خصيب وناديه يندو لقاصديه من كل خير بنصيب، يُزَكِّي النفس من الدَّنَس، ويُطَهِّرُ الأنفاس من الأرجاس، ويُرقي الأرواح إلى مراقي الفلاح، ويُوصِلُ الإنسانُ إلى مرضاة الرحمن. وهو إلى جانب هذا ركن من أركان الدين وجزء متمم لمقامات اليقين، خلاصته تسليم الأمور كلها الله، والالتجاء في كل الشؤون إليه، مع الرضا
بالمقدور، من غير إهمال في واجب أو مقاربة محظور.
كثرت أقوال العلماء في تعريفه واختلفت أنظارهم في تحديده وتوصيفه،
٣٩٦
التصوف
وذلك دليل على شرف اسمه ومُسمَّاه ، يُنبئ عن سمو غايته ومرماه.
فقيل: «التصوف: الجد في السلوك إلى ملك الملوك».
وقيل: «التصوف: الموافقة للحق، والمفارقة للخلق». وقيل: «التصوف: ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة».
وقيل: «التصوف : الرغبة إلى المحبوب في درك المطلوب.
وقيل: «التصوف حفظ الوفاء وترك الجفاء».
إلى غير هذا من الأقوال التي تبلغ نحو ألف، حكاها الحافظ الصوفي أبو نعيم ا الأصفهاني في كتابه "حلية الأولياء".
وسئل الإمام أبو القاسم الجنيد - سيد الطائفة عن التصوف، فقال: تصفية القلب عن موافقة البَريّة، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة» . اهـ
ولعل هذا أبلغ ما قيل في التصوف وكشف حقيقته. وإن كانت الأقوال السابقة مختلفة في اللفظ والمبنى، فهي متفقة في الغاية
والمعنى، وإنها عبر كل قائل بحسب مَدْرَكه ومشربه.
وعلى نحو اختلافهم في التصوف اختلفوا في معنى الصوفي واشتقاقه فقال الإمام أبو عليّ الرُّوذَبارِيُّ - وقد سئل عن الصوفي: «من لبس الصوف على الصفا، وأطعم الهوى ذوقَ الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك
حسن التلطف
۳۹۷
منهاج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم».
وقال الإمام سهل بن عبد الله التُسْتَريُّ: «الصوفي من صفا عن الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله من البشر ، واستوى عنده الذهب والمدر». وأنشد الإمام تقي الدين السبكي
تنازع النَّاسُ في الصُّوفي واختلفوا قدمًا وظَنُّوهُ مُشْتَقَا مِنَ الصُّوفِ ولستُ أنْحَل هذا الاسم غير فتى صافى فصو في حتَّى لقبَ الصُّوفي
وهذان البيتان لأبي الفتح البستي.
وقال العلامة الشيخ محمد ميارة المالكي في "شرح المرشد المعين": «وفي اشتقاق التصوّف أقوال، إذ حاصله اتصاف بالمحامد وترك للأوصاف المذمومة، وقيل: من الصفاء».
وقال المحقق أبو حفص الفاسي المالكي: «ظهر لي أنه منسوب إلى الصوف، لأنه في الغالب شعاره ودِثاره ، ولأن هذا اللفظ - يعني لفظ صوفي - مشتمل على ثلاثة أحرف منقطعة من ثلاث كلمات دالة على ثلاث معان هي أوصافه المختصة به فالصاد من الصفاء، والواو من الوفاء، والفاء من الفناء».
قال العلامة ابن الحاج وقد أشرت إلى ذلك في ثلاثة أبيات، فقلت: صفا منهل الصُّوفي عن عِلَلِ الهوى فما شابَ ذاك الورد مِن نفْسِهِ حَظِّ ووفى بعهد الحب إذ لم يكن لـــه إلى غير مَن يهوى التفات ولا لحظ تحت آية الإظلام شمس نهاره وقد ذهبت منه الإشارة واللفظ إلى غير ذلك من الأقوال التي تجدها مسطورة في كتب القوم.
۳۹۸
فصل
التصوف
والتصوف مبني على الكتاب والسنة كما قال الجنيد: «عِلمنا هذا مُشيَّد بالكتاب والسنة». وقال أيضًا: «الطَّريق إلى الله تعالى مسدود على خلقه إلا
المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
وقال التَّاج ابن الشبكي في "جمع الجوامع": «ونرى أنَّ طريق الشيخ
الجنيد وصحبه طريقٌ مُقوم».
قال جلال الدين المحلي في "شرحه": «فإنَّه خال من البدع دائر على التسليم والتفويض والتبري من النفس.
وقال سهل بن عبد الله - أحد أئمة القوم: «أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأكل الحلال، وكفُّ الأذى، واجتناب المعاصي، والتوبة، وأداء
الحقوق».
وقال أبو العباس أحمد الملثم - أحد أئمة القوم: لم تكن الأقطاب أقطابا، والأوتاد أوتادا والأولياء أولياء، إلا بتعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفتهم به وإجلالهم لشريعته وقيامهم بآدابه».
وقال شيخ الشيوخ أبو الحسن الشاذلي الغماري رضي الله عنه: «من دعا
إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مُدَّع». وقال أيضا: «اليس هذا الطريق بالرَّهبانية ولا بأكل الشعير والنُّخَالة وإنَّما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَبِمَةً
حسن التلطف
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِنَايَتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: ٢٤].
۳۹۹
فمن
وقال أيضًا : ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السُّنَّة . أعطيهما وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفترِ كذَّابٌ، أو ذو خطا في العلم
بالصواب كمن أكرم بشهادة الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب».
ونصوصهم في هذا المعنى كثيرة جدا يعسر تتبعها.
وحكى العارف الشعراني في مقدمة "الطبقات": «إجماع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله - عزَّ وجلَّ - إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها، وخاصها وعامها، وناسخها ومنسوخها، وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك». اهـ
والحكمة في هذا الإجماع الذي حكاه الشعراني ظاهرة؛ لأنَّ الشخص إذا تصدر للمشيخة، والإرشاد اتَّخذه المريدون قدوةً لهم ومرجعا يرجعون إليه في مسائل دينهم وغيرها فإذا لم يكن متقناً لعلم الشرع مُتبحرًا فيه أَضَلَّ المريدين بفتواه فأحل لهم الحرام وحرَّم عليهم الحلال وهو لا يشعر، وقد تعرض لأحد المريدين مسألة عويصةٌ في الطلاق أو البيوع، أو الميراث، ويرجع فيها إلى شيخه الذي لا يُتقن الشرع فيفتيه بما يتراءى له فيقع الشيخ والمريد في الخطأ والضَّلال وهما لا يشعران.
وأيضًا فأغلب البدع والخرافات إنّما دخلت في الطريق بسبب المشايخ الذين تصدَّروا بغير علم، ونصبوا أنفسهم للإرشاد من غير أن يكونوا مستحقين لهذا المنصب الجليل؛ ولولا ذلك لبقي الطريق نقيا سليما كحاله على
عهد الجنيد وبشر الحافي والحارث بن أسد المحاسبي وأضرابهم.
فصل
التصوف
ولكون التصوف مبنيًّا على الكتاب والسنة دخل فيه عُظماء العلماء، وانضم إلى زمرة أهله فُحول من الكبراء كالحافظ أبي نعيم، والإمام عز الدين بن عبد السلام، والحافظ ابن الصَّلاح والإمام النووي، وتقي الدين السبكي، وابنه تاج الدين السبكي، والحافظ السيوطي، وغيرهم.
قال الشافعي: صحبت الصُّوفيَّة فاستفدت منهم كلمتين: قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك وقولهم نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك
بالباطل» . اهـ
أعجب
وتكلم أبو العباس ابن سريج في درسه مرَّة بكلام حسن الحاضرين فقال: «هذا ببركة مجالستي لأبي القاسم الجنيد». وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري - وهو صوفي -: «إذا لم يكن للفقيه علم بأحوال القوم واصطلاحاتهم فهو فقيه جاف».
وكان الإمام الكبير أبو المحاسن يوسف الفاسي - أحد رجال سلسلة الطريقة الصديقية - تلميذ القطب الكبير سيدي عبدالرحمن المجذوب وعلى يديه فتح عليه وصار جامعا بين العلم والولاية، وكذلك العلامة الإمام عبدالواحد بن عاشر الأنصاري كان تلميذا للعارف الكبير الشيخ محمد التجيبي الشهير بابن عزيز. قال العلامة ابن الحاج وغالب من يُشار إليه من علماء الظاهر ممن له تميز وشُغُوف ونُبوغ في الحفظ والإتقان إنّما نال بمخالطة بعض العارفين، كابن
حسن التلطف
٤٠١
شريج بمخالطة الجنيد، والعز بن عبد السَّلام بمُخالطة أبي الحسن الشاذلي
والتقي ابن دقيق العيد بمخالطة أبي العباس المرسي». اهـ وكذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد بن المبارك اللمطي شيخ علماء عصره كان تلميذا للقطب الكبير سيدي عبدالعزيز الدباغ الحسني، ونقل عنه من
المواهب والأسرار ما أثبت بعضه في كتاب "الإبريز".
وهكذا لا تجد عالما كبيرا ومُحققًا شَهِيرًا، إلا دخل في طريق القوم والتمس البركة من أهلها، ونال الحظوة بسبب الانتساب إليها، وهذا أمر معلوم يُدركه من قرأ تراجم العلماء وتتبع سيرهم واستقصى أخبارهم، ومن لم يعرف ذلك أو ا يعتد به فهو جاهل مُتعنّت لا اعتداد به ولا عبرة بما يقول.
فصل
وسلوك طريق التصوف واجب محتم؛ لا يكمل دين المرء إلا به، وبيان
ذلك من وجوه الوجه الأول: أنّه مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة المبينة في حديث جبريل الطويل، ولا شك أنَّ الدِّين يجب اتباعه أركانه بجميع الإيمان، والإسلام، والإحسان
وجاء في إحدى فتاوى والدي رضي الله عنه في هذا الموضوع ما نصه: وأما أول من أسس الطريقة، وهل تأسيسها بوحي، فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السَّماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي؛ إذ هي بلا شك
مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة، التي جعلها النَّبيُّ صلَّى الله
٤٠٢
التصوف
عليه وآله وسلَّم بعد ما بينها واحدًا واحدا دينا فقال: «هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم». فغاية ما تدعو إليه الطَّريقة وتُشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان؛ ليُحرز الداخل فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة، الضامنة لمحرزها والقائم بها السَّعادة الأبدية في الدنيا والآخرة؛ والضامنة أيضًا لمحرزها كمال الدين فإنَّه كما في الحديث - عبارة عن الأركان الثلاثة؛ فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه؛ ولهذا نص المحققون على وجوب الدخول في الطريقة، وسلوك طريق التصوُّف وجوبًا عينيا، واستدلُّوا على الوجوب بما هو ظاهر عقلا ونقلا ولسنا الآن بصدد بيان ذلك.
وقد بين القرآن العظيم من أحوال التّصوُّف والطَّريقة ما فيه الكفاية، فتكلم على المراقبة والمحاسبة والتّوبة والإنابة والذكر والفكر والمحبة والتوكل والرضا والتسليم والزهد والصبر والإيثار والصدق والمجاهدة ومُخالفة الهوى والنَّفس، وتكلَّم عن النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة، وعلى الأولياء والصالحين والصديقين والمؤيَّدين، وغير هذا مما يتكلم فيه أهل التصوف والطَّريقة رضي الله عنهم فاعرف وتأمل». اهـ وهو نفيس جدا.
الوجه الثاني: أنَّ التَّصوُّف هو العلم الذي تكفل بالبحث عن علل النفوس وأدوائها، وبيان علاجها ودوائها؛ لتصل إلى مرتبة الكمال والفلاح وتدخل في
ضمن قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَنهَا ﴾ [الشمس: 9]ولا شك أنَّ علاج النفس من أمراضها وأدرانها أمرٌ يوجبه الشرع القويم ويستحسنه العقل السليم، ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين الإنسان والحيوان.
حسن التلطف
٤٠٣
الوجه الثالث: أنَّ التَّصوُّف عُنِي بتهذيب الأخلاق وتزكيتها، ومخالفة هوى النفس والأخذ بعزائم الأمور، والارتفاع بالنفس عن حضيض الشهوات إلى حيث تتمتع بما تورثه الطاعة من لذة روحية تصغر بجانبها كل لذةٍ مهما عظم
قدرها.
الوجه الرابع : أنَّ التَّصوُّف هو خلق الصَّحابة والتابعين والسلف الصالح، بهم، والاهتداء بهديهم بهديهم، وقد بيَّن ذلك والدي رضي ا
الله
الذي أمرنا بالاقتداء . عنه في فتواه التي نقلنا منها ،آنفًا، فقال عقب كلامه السابق ما نصه: «وأما قولك هل أسست الطريقة ... إلخ، فجوابه يُعلم مما قبله، فإنَّها إذا كانت من الدين -بل وهي أشرف أركانه- وكانت بوحي كما قلناه، وكان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا من المسارعة إلى امتثال أمر الله ، كانوا بالضرورة أول داخل فيها، وعامل بمقتضاها، وذائق لأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا، والمجاهدة لأنفسهم، ومحبة الله ورسوله والدار الآخرة، والصبر والإيثار والرّضا والتسليم، وغير ذلك من الأخلاق التي يُحبها الله ورسوله، وتوصل إلى قربهما، وهي المعبر عنها بالتصوف والطريقة، وكما كانوا رضي الله عنهم على هذه الحالة الشريفة كان أتباعهم أيضًا عليها وإن كانوا دونهم فيها وكذلك كان أتباع الأتباع وهلم جراء إلى أن ظهرت البدع وتأخَّرت الأعمال، وتنافس النَّاس في الدنيا وحَيَت النفوس بعد موتها؛ فتأخرت بذلك أنوار القلوب، ووقع ما وقع في الدين وكادت الحقائق تنقلب، وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة الأولى من الهجرة، ولم يزل ذلك يزيد سنة بعد سنة، إلى أن وصل ذلك إلى حالةٍ تَخوَّف منها السلف الصالح على
٤٠٤
التصوف
الدين، فانتدب عند ذلك العلماء لحفظ هذا الدين الشريف، فقامت طائفةٌ منهم بحفظ مقام الإسلام وضبط فروعه وقواعده، وقامت أُخرى بحفظ مقام الإيمان وضبط أصوله وقواعده على ما كان عند سلفهم الصالح، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان وأعماله وأحواله.
فكان من الطَّائفة الأولى الأئمة الأربعة وأتباعهم -رضي الله عنهم- وكان الطائفة الثانية الأشعري وأشياخه وأصحابه وكان من الثالثة الجنيد من وأشياخه وأصحابه، فعلى هذا ليس الجنيد هو المؤسس للطَّريقة لما ذكرناه من
أنَّها
ا بوحي إلهيّ؛ وإنما نسبت إليه لتصدّيه لحفظ قواعدها وأصولها ودعائه للعمل بذلك عندما ظهر التأخر عنها؛ ولهذا السبب نفسه نسبت العقائد
للأشعري والفقه للأئمة الأربعة مع أنَّ الجميع بوحي من الله تعالى». اهـ وهو تحقيق بالغ يُعلم منه أنَّ ما يُسمَّى الآن تصوفًا وطريقةً لم يتجاوز ما كان عليه الصحابة والتابعون من الأخلاق الفاضلة والصفات الجميلة التي
حَضّر الله ورسوله على التخلُّق بها ومدَحَا أصحابها في غير آية وحديث. الوجه الخامس: أنَّ في سلوك الطَّريق صحبة المشايخ العمل، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وقد أمر الله بذلك في قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَذَابَ إلى القمان: ١٥] قال الإمام زروق والإنابة لا تكون إلا بعلم واضح، وعمل صحيح، وحالي ثابت لا ينقضه كتابٌ ولا سنة. الوجه السادس : أنَّ سلوك الطَّريق يُنوِّر بصيرة الشخص ويسمو بهمته؛ حتى لا يبقى له تعلق إلا بالله ولا يكون له اعتماد إلا عليه؛ فيصير مصون السر عن الالتفات إلى الخلق مرفوع الهمة عن تأميلهم اكتفاء بالحق متحققاً
حسن التلطف
٤٠٥
بالحقيقة في جميع الأحوال متوسما بالشريعة في الأقوال والأفعال. وهذا أعلى ما يُطلب من المؤمن، وإليه أشار عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله
-
لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». وبايع الصحابة - منهم ثوبان مولاه والصديق صاحبه - على ألا يسألوا النَّاس شيئًا؛ وذلك لرفع الهمة عن الخلق والاكتفاء بالالتجاء إلى الحق.
الوجه السابع: أنَّ في سلوك الطريق بصحبة شيخ مُرشد عارف خروجًا من رعونات النفس، وحماية للمريد من كلّ ما يمنعه من الوصول إلى الله تعالى من أنواع الجهل والغرور ودواعي الهوى الموقعة في ظلمة القلب وإطفاء النور؛ ولهذا قال ابن عطاء الله في "لطائف المنن": شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي مازال يجلو مرآة قلبك حتّى تتجلى فيه أنوار ربك، ونهض بك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتّى وصلت إليه، ولازال محاذيًا لك حتى ألقاك بين يديه فزج بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك . اهـ
وقال أيضا: «إنَّما يكون الاقتداء بولي دلك الله عليه، وأطلعك على ما أودعه من الخصوصيَّة لديه، فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيَّته؛ فألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد يُعرفك برعونة نفسك، ويدلك على الجمع على الله، ويعلمك الفرار عما سوى الله، ويُسايرك في طريقك حتّى تصل إلى الله. يوقفك على إساءة نفسك ويُعرفك بإحسان الله إليك؛ فيفيدك معرفة إساءة نفسك الهرب منها وعدم الركون إليها، ويفيدك العلم بإحسان الله إليك الإقبال عليه والقيام بالشُّكر إليه والدوام على ممر الساعات بين يديه»،
٤٠٦
التصوف
قال: «فإن قلت: فأين من هذا وصفه؟ لقد دللتني على أغرب من عنقاء
مغرب !!
فاعلم أنه لا يعوزك وجود الدالين وإنما يعوزك وجدان الصدق في طلبهم. جد صدقًا تَجِد مُرشدًا، وتجد ذلك في آيتين من كتاب الله تعالى، قال الله عزّ وجل: أَمَن يُجِيبُ الْمُضْطَرَ إِذَا دَعَاهُ ﴾ [النمل: ٦٢]، وقال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد : ۲۱] فلو اضطررت إلى من يُوصلك إلى الله اضطرار الظمآن إلى الماء، والخائف إلى الأمن؛ لوجدت ذلك أقرب إليك من وجود طلبك، ولو اضطررت إلى الله اضطرار الأم لولدها إذا فقدته؛ لوجدت الحق منك قريبا ولك مُجيباً، ولوجدت الوصول غير متعذر عليك ولتوجه الحق بتيسير ذلك عليك . اهـ
الوجه الثامن: أنَّ في سلوك الطَّريق الإكثار من ذكر الله والاستعانة بصحبة الشيخ على ذلك، ولا شكّ أنَّ الذِّكر يُصفّي القلوب ويدعو إلى اطمئنانها كما قال تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: ۲۸] فإنَّ الله تعالى لم يقيده بحد ولا شرط ولا نهاية حيث قال تعالى: يَنَايُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٤١ - ٤٢]، وكلُّ أَمْرٍ أَمَرَ الله به في القرآن جعل له حدا وشرطا ونهايةً إِلَّا الذكر.
فلهذه الوجوه التي ذكرناها وغيرها كان سلوك طريق التصوف واجبًا والانخراط في سلك أهله أمرًا لازما، ونحن لا ننكر أنه دخل في الطريق دخلاء أدعياء وجُهلاء ،أغبياء، اتَّخذوا الطَّريق سُلَّما لتحصيل أغراضهم
حسن التلطف
٤٠٧
وشهواتهم، وابتدعوا فيه بدءًا ما أنزل الله بها من سلطان، وزعموا أنهم أهل الحقيقة يجوز لهم ما يكون محرما في الشريعة وكذبوا؛ فإنَّ الشريعة والحقيقة صنوان وما خالفت الشريعة الحقيقةَ قَطُّ إِلَّا في نظر جاهل.
فمثل هؤلاء ليسوا من الصُّوفية في شيء، وأول من يبرأ منهم الصوفية، ومن الظلم البين أن يعترض بعض النَّاس بفعل هؤلاء الجهلة ويجعله حُجَّة على التصوف والصُّوفيَّة؛ فما التَّصوُّف إِلَّا اتِّباع الكتاب والسنَّة وما الصوفية
إلا قوم جاهدوا أنفسهم فهداهم الله وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩] .
تَمَّ حُسن التَّلَطَّفِ
في بيان وجُوبِ سُلُوك التصوف.
٣- سِلْسِلَةُ الطَّريقةِ الصِّدِّيقيَّة
سلسلة الطريقة
٤١١
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، وآله
وصحبه أجمعين.
وبعد هذه سلسة الطَّريقة الشاذلية الصِّدِّيقية التي أنشأها شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، القطب الكامل، والفرد الواصل، الحافظ المجتهد أبو عبدالله سيدي محمد (۱) ابن البَدل الكبير، والعارف الشَّهير، صاحب الكرامات الكثيرة
(١) ولد سنة (١٢٩٥هـ) وتوفي سادس شوال سنة (١٣٥٤هـ)، وترجمته مستوفاة في كتاب "سبحة العقيق في ترجمة سيدي محمد بن الصديق"، واختصارة المسمى "بالتصور والتصديق"، كلاهما لنجله الحافظ الناقد أبي الفيض السيد أحمد بن محمد بن الصديق، وقد ترجمه جماعة من تلامذتة بعدة مؤلفات، ووالده سيدي الحاج الصديق ترجمته مستوفاة في "سبحة العقيق" أيضًا.
أما جده سيدي الحاج أحمد فقد أفرد ترجمته أيضًا السيد أحمد بكتاب خاص سماه: المؤذن بأخبار سيدي أحمد بن عبد المؤمن وكانت ولادته سنة (١٢٠٠هـ) ووفاته ضحوة يوم الأربعاء سابع عشر جمادى الأولى سنة (١٢٦٢هـ) وقد أخبر بانقضاء أجله، وأن عمره كعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من جملة كراماته الكثيرة، وجده الأدنى عبد المؤمن مترجم في كتاب "المؤذن"، ومن كراماته أنه كان يذهب لرعي الغنم فيتركها في حفرة لا مرعى بها ولا ماء، وربما ترك ذئبا يحرسها ويذهب للصلاة في مكة، ويرجع بالغنم أخر النهار وهي شبعانة ريَّانة، تُوفّي أوائل القرن الحادي عشر، وقبره بغمارة ظاهر يزار.
وجده الأعلى سيدي عبد المؤمن بن علي مترجم أيضًا في "المؤذن"، و"سبحة العقيق"، وسبب اشتهاره بأبي قبرين أنَّه تُوفّي ببلدة ورطاس من قبيلة بني يزناسن
٤١٢
التصوف
سيدي الحاج الصدّيق بن الإمام العلامة شيخ المقرئين وأهل الحديث القُطب الجامع أبي العباس شهاب الدين سيدي الحاج أحمد ابن سيدي محمد بن قاسم بن محمد بن محمد ابن الولي الشهير صاحب الكرامات العجيبة سيدي عبدالمؤمن بن محمد ابن القطب الكبير صاحب الكرمات الظاهرة سيدي عبد المؤمن الشهير بأبي قبرين ابن علي بن الحسن بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن سعيد بن مسعود بن الفضيل بن علي بن عمر بن العربي بن علال بن موسي بن أحمد بن داود ابن قطب المغرب مولانا إدريس ابن القطب الأكبر فاتح المغرب وناشر الإسلام بين ربوعه مولانا إدريس ابن الإمام مولانا عبدالله الكامل ابن سيدنا الحسن المثنى ابن مولانا الحسن ابن الإمام علي كرم الله
وجهه ورضي الله عنه.
وهي هذه:
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد مهبط الوحي، ومنبع الرحمات
ودفنه أتباعه هناك، فجاء أتباع له ببلدة بيدر من القبيلة نفسها ونقلوه إليها فلما علم أهل ورطاس؛ ذهبوا ليردوه إلي مدفنه الأوَّل، فامتنع أهل بيدر وحصل بين أهل البلدين نزاع كاد يفضي إلى المقاتلة فبينما هم كذالك، إذ وقف الشيخ على بعضهم في رؤيا منامية، وقال له لما هذا النزاع، وأنا موجود بالقبرين فمرهم يكشفوا عن القبرين فسيجدونني فيهما، فلما أخبرهم الرائي بذلك ،فعلوا، فوجدوا الشيخ في كلا القبرين؛ فرضي الفريقان وبنى كل منهما على القبر الذي عنده قبَّة، وهما موجودتان إلى وقتنا هذا مزارتين مقصودتين.
سلسلة الطريقة
٤١٣
وبعد: فيقول العبد الفقير محمد بن الصَّدِّيق الغماري أصلا، الحسني نسبًا، المالكي مذهبًا، الأشعري عقيدة، الدّرقاوي طريقة أصلح الله حاله: لا يخفى على ذوي البصائر والعقول أنَّ الفنون كلَّها لابد فيها من واسطة، ومن لا
واسطة له في فنّه لا بركة له فيه، ولو حصل فيه علي الغاية القصوى. فبركة الفن - أيُّ فنّ كان وسره وروحه وجود الواسطة فيه، فمن رزق الواسطة في فنّه رُزق الفنَّ ،وبركته، ومن حُرِمها حرم الفن وبركته، وهذا الأمر لا يحتاج إلي برهان؛ إذ ليس الخبر كالعيان. هذا وإنَّ التصرُّف أولاها بذلك وأحقها بما هنالك، فمن لا شيخ له في
جميع العلوم - وخصوصا التصوُّف - لا يُعبأ به ولا يُلتفت إليه، بل هو عندهم لقيط لا أبَ له، وسقيط لا طعم فيه، بل حتّي لو فُرِض أنَّ شيئًا من المعارف والأذواق حصل لأحدٍ على سبيل خرق العادة بلا واسطة، فالمتعين عليه أن يستند إلى الواسطة أدبا مع الشريعة المطهرة؛ إذ جاءت باعتبارها، وأمرت بشكرها، وأيضًا فإنَّ الاستناد إليها أي الواسطة- فيه كمال ورفعة قدر وجلال؛ لأن فيه خروجًا من رعونات النفس والأنانية، إلى رفعة التّواضع والعبودية، وناهيك بها عِزًا وشرفًا ورفعةً وفخرا؛ إذ هي سبب للحرية بل هي في الحقيقة عينها، ولو صح لأحدٍ شيء بلا واسطة لما كان لمولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم جبريل واسطةً، مع أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل منه، ففي تقديم المفضول على الفاضل رفعة لعبودية الكمال. فافهم وانظر إلي أمر الله حين أمر الملائكة بالسجود لآدم مع أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ينفتح لك الباب، وتفهم سر الخطاب، فما عظمت
٤١٤
التصوف
الحرية في أحدٍ إلا كانت العبودية فيه أعظم؛ إذ ما شُرِّف من شُرِّف إلَّا بها، ولا طرد من طرد إلَّا بالدَّعوى والركون إلي الحرية والأنانية، وبالجملة فما أفلح من أفلح، إلا بصحبة من أفلح. ومن كلام الجنيد: «سبق في علم الله القديم أن
لا يدخل أحد إلي حضرته إلا علي يد عبد من عباده».
وقال القطب المرسي: «ما صارت الأبدال أبدالًا، إلا بمجالسة أمثالنا». وحيث كان الأمر هكذا وجب علينا أن نذكر سندنا ونبين نسبتا في هذه الطَّريقة الدرقاوية، التي هي لبُّ الطَّرق الاتصالية الجامعة بين الجيلانية والشاذلية، المؤسسة علي الكتاب والسُّنَّة، والمخصوصة بالنفحات الربانية؛ إذ في اتصال سببنا بسببهم ونسبتنا بنسبتهم استمطار الرحمات الإلهية، واستنزال النفحات القدسيّة، وتحريك السلسلة النبوية، مع أنَّ الإسناد من الدين في كل
وقت وحين طال الزمان أو قصر ، قل عدد الوسائط أو كثر. فنقول: أخذنا هذه الطَّريقة النبوية عن شيخنا وقدوتنا نور الملة والدين، ورحمة الله للقاصدين، الواقف في باب الله الذي لا يميل في وقت من أوقاته إلى سواه، سلطان العارفين، وقطب الواصلين سيدي ومولاي محمد بن إبراهيم الفاسي (١) أطال الله بقاءه، وبلغه في الدارين مقصوده ومطلوبه، وهذا
(۱) ترجمة هذا القطب ومن فوقه إلى مولانا عبد السلام بن مشيش مذكورة في "سبحة العقيق"، "والمؤذن"، وغيرهما تشرفتُ بزيارة الكثير منهم، فزرت ضواريح سيدي محمد بن إبراهيم، وسيدي محمد أيوب، وسيدي عبد الرحمن الفاسي، وسيدي يوسف الفاسي بفاس، وزرت ضريح سيدي عبدالرحمن المجذوب بمكناس وزرت ضريح جدنا سيدي الحاج أحمد بقبيلة بني منصور من قبائل غمارة، وزرت ضريح ابن
سلسلة الطريقة
٤١٥
الشيخ شأنه عند الله عظيم، وقدره جسيم ما رأينا ولا سمعنا في زماننا هذا مثله، وشرح حاله يستدعي مجلدات، ولسنا بصدد ذلك الآن، وهو أخذها عن شيخه العارف الرباني سيدي عبد الواحد بناني الفاسي أيضًا، وهو عن شيخه الهائم في الله العارف المحبوب سيّدي محمد أيوب دفين زاويته بفاس، وهو أخذها عن جدنا الشريف، أعجوبة الزَّمان، العالم بالعلمين الظاهر والباطن، القطب الجامع السالم مدده الجاري سيدي الحاج أحمد بن عبد المؤمن الغماري، وهو عن إمام الأولياء، ومدد الأقطاب ،والأصفياء، بحر المعارف الإلهية، ومعدن الأسرار الربانية، برزخ البحرين، وشيخ الثقلين، الذي كان لغير الله لا يأوي سيدنا ومولانا العربي الدَّرقاوي، دفين بني زروال، وهو عن بحر البحور، ومعدن الخمور أبي الحسن سيدي علي الجمل دفين زاويته بفاس، وهو أخذ عن سيدي العربي، وهو أخذ عن والده سيدي أحمد بن عبدالله، وهو أخذ عن سيدي قاسم الخصاصي، وهو أخذ عن سيدي محمد فتحا ابن عبدالله المكني معن، وهو أخذ عن سيدي عبد الرحمن الفاسي محشي "تفسير الجلالين" وصغرى السنوسية"، وهو عن أخيه القطب أبي المحاسن سيدي يوسف الفاسي، وهو عن القطب سيدي عبد الرحمن المجذوب، وهو عن أبي الحسن
مشيش بجبل العلم من قبيلة بني عروس شددنا الرحلة لزيارته من مدينة أصيلا، وشهدنا عند وصولنا إليه كرامة عجيبة، وكثير من النَّاس بمصر يظنُّون أنَّ عبدالسلام بن مشيش هو عبد السلام الأسمر، وهو خطأ كبير؛ فإنَّ ابن مشيش متقدم على الأسمر ببضع مئات من السنين، وابن مشيش مراكشي ما خرج عن مراكش وبه
دفن، والأسمر طرابلسي وهو مدفون بطرابلس إلي غير ذلك من الفوارق.
٤١٦
التصوف
سيدي علي الشَّيهر بالدوار، عن أبي اسحاق سيدي إبراهيم أفحام الزرهوني، عن القطب الجامع سيدي أحمد زروق عن القطب الحضرمي، عن أبي زكرياء القادري، عن القطب سيدي علي وفا، عن والده القطب سيدي محمد بحر الصفا، عن القطب سيدي داود الباخلّي عن تاج الدين سيدي بن عطاء الله صاحب "الحكم" ، عن القطب أبي العباس المرسي، عن قطب الأقطاب سيدي أبي الحسن الشاذلي الغماري، عن القطب مولانا عبدالسلام بن مشيش دفين جبل العلم، عن القطب سيدي عبد الرحمن المدني (1) المشهور بالزيات، عن القطب تقي الدين الفقير - بالتصغير - وهو عن القطب فخر الدين، عن
(۱) هذا القطب ومن فوقه إلى القطب سيدي سعيد الغزواني ذكرهم بالترتب المذكور في هذه السلسلة المباركة تقي الدين أبو عبدالله محمد الإسكندري سبط أبي الحسن الشاذلي على ما قيل في كتابه "النبذة المفيدة"، وكتابه "شفاء الغليل ودواء العليل"، وذكر أنه وجد هذا الإسناد منقولاً عن تاج الدين ابن عطاء الله فنقله كما وجده، وقال أبو العباس الفاسي في "المنح الصَّافية": «ذكر غير واحد أنَّ هذا الإسناد وُجد بخط ابن عطاء».
وانظر بقية ما يتعلق بهذا الإسناد في كتاب "البرهان الواضح الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلي علي واتصال السَّند بأبي الحسن الشاذلي" لشقيقنا الحافظ الناقد أبي الفيض السيد أحمد بن الصِّدِّيق حفظه الله، وهو كتاب نفيس يدل على غزارة العلم، وسعة الاطلاع، ما رأيت في الكلام على سند الشادة الشاذلية خصوصا، وسائر الصوفية عموما أوسع ولا أحسن منه.
وأما أبو محمد جابر فقد رجح شقيقنا المذكور أنه جابر بن عبد الله الصحابي، وبيَّن ذلك بما يراجع في كتابه السابق.
سلسلة الطريقة
٤١٧
القطب نور الدين، عن القطب تاج الدين محمد، عن القطب شمس الدين التركي، عن القطب زين الدين القزويني، عن القطب أبي إسحاق البصري، عن القطب أبي القاسم أحمد المرواني، عن القطب أبي محمد سعيد، عن القطب سعد، عن القطب أبي محمد فتح السُّعود، عن القطب سيدي سعيد الغزواني، عن القطب سيدي أبي محمد جابر ، عن أوّل الأقطاب وأجل الأصحاب سيدنا الحسن بن فاطمة الزهراء عن والده باب مدينة العلم مولانا علي كرم الله وجهه، عن سيد المرسلين، وحبيب ربّ العالين سيدنا محمد عليه الصلاة والسَّلام، عن الحق جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته. هذه سلسلتنا الروحانية، ونسبتنا النورانيَّة، ومن أراد الوقوف على أحوال هولاء الأقطاب؛ فليطالع المطوّلات كـ"طبقات الشعراني" وغيرها؛ فإنَّه يقف فيها على معالي أحوالهم، وعوالي أخلاقهم، أماتنا الله على محبتهم وحشرنا
في زمرتهم. قال القطب أبو العباس المرسي: «طريقتنا هذه متصلة بالأقطاب، إلي قطب الرحمن سيدنا محمد عليه الصَّلاة والسَّلام».
قلت: ويكفي الإنسان شرفًا وفخرًا وعزا ورفعة أن يعرف رجال هذه السلسة النورانية المحمَّديَّة؛ فإنَّها سلسلة الذَّهب الإبريز، التي من تمسك بمحبة رجالها نال رضا الملك العزيز، أمَّا من دخل فيها وكان حلقة من حلقاتها فلا يصف الواصف فضله، ولا يلحق أحد شأنه وقدره.
فقد قال القطب الشعراني -رضي الله عنه - في فوائد النسبة العامة: «إنَّ المنتسب يكون كالحلقة في السلسلة، لا يتحرك في أمرٍ إِلَّا تحركت السلسلة كلها
٤١٨
التصوف
معه إلى مولانا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، بخلاف غير المنتسب فإنَّه يتحرك وحده ويسكن وحده . اهـ
هذه فائدة النسبة العامة، وأما النسبة الخاصة، التي هي . عبارة عن سلب المريد الإرادة للشيخ، ففائدتها الفتح الرباني، والعلم الصمداني، وكما اتصل سندنا بأهل العلم الباطن، كذالك والحمد لله اتّصل سندنا بأهل العلم الظاهر، في جميع العلوم من نحو، وبيان، ومنطق، وأصول، وفقه، وحديث، وغير ذلك من علوم الشريعة، وليس هذا المحل مقصودًا لبيان ذلك، وسنجعل لذلك إن شاء الله فهرسة جامعةً، نذكر فيها إجازة شيوخنا من أهل الظاهر (۱) والباطن. هذا وتمن دخل في هذه الطَّريقة النبوية المحمَّديَّة، وتمذهب بمذاهب أهلها القوية حبنا الولد البار، والنّجلُ السَّارُّ الأخ في الله الطالب الأمجد سيدي
(فلان) أصلحه الله وبلغه مقصوده، وجعله من العلماء الراسخين، وأولياء الله الكاملين إنَّه علي كل شيء قدير، وعلى هذا الأخ أن يعض على هذه الطريقة عضًا، ويرفض الهوى والدنيا رفضًا، ويتأدب بأداب الطريقة، حتّى ينال من
(1) من شيوخه رضي الله عنه شيخ الجماعة العلامة السيد أحمد بن عمر الزكاري الحسني، وشيخ الجماعة العلامة السيد جعفر الكتَّاني الحسني، وولده العلامة المحدث السيد محمد بن جعفر الكتاني، والعلامة الولي الكبير مولاي عبدالمالك الضرير العلوي الحسني، ومفتي فاس العلامة السيد المهدي الوزاني الحسني، والنحوي البارع السيد محمد الكامل الأمراني الحسني، والعلامة المحقق السيد محمد القادري الحسني، والعلامة سيدي حمدون بن الحاج السلمي المرداسي، وخطيب جامع القرويين أبو جيدة الفاسي الفهري وغيرهم.
سلسلة الطريقة
٤١٩
المعارف الإلهية مقصوده وأمله، وكما أدخلناه على يدنا في علم طريقة أهل الباطن، كذلك نطلب الله أن يكرمه على يدنا بدرجة عالية في علم الظاهر ليكون إمام وقته، ومجدد عصره.
ومما نوصي به ملازمة التَّقوى في السر والعلانية، ومجانبة أهل المعاصي والأخلاق الشيطانية، وليشتك إلى الله في أحواله، وليعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال. اللهم يامن يعلم الكوائن ما ظهر منها وما بطن، أصلح حالنا وحال هذا الأخ ما ظهر منه وما بطن بجاه مولانا رسول الله وحبيب الله سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
٤٢٠
التصوف
إجازة السيد عبد الله بن الصِّدِّيق بالطريقة الصدِّيقية يقول الفقير خادم الحديث عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري: أخذت الطَّريقة الشاذلية الصدّيقية عهدًا وتلقينا عن والدي بسنده المذكور في هذه السلسلة المباركة، بعد أن أخذت عنه كثيرًا في علم الحديث، والفقه، والنحو، وأخذت أيضًا عن شقيقي الأكبر الحافظ الناقد السيد أحمد شيئًا قليلا من علم النحو، وكثيرا من علم الحديث ورحلت إلى فاس فحضرت في جامع القرويين أكبر معهد في شمال أفريقيا، وأقدم من الأزهر على كبار علمائه (۱) في جميع علوم الشريعة حتّى ارتويت من معينهم العذب الصافي، وحصلت على إجازات، وغيرها مما تنشرح له صدور ذوي الهمم العاليات، ثُمَّ حصلت في الجامع الأزهر علي شهادة العالمية الأزهرية فلي بحمد الله صلة وثيقة بعلوم الشريعة، والحقيقة وقد أجزت لأخينا في الله .
بهذه الطريقة النبوية الشريفة، وأذنت له في نشرها، والدعوة إليها حفظه الله وأعانه، ومن نزغات الشيطان صانه، وبالتَّقوى والاستقامة جمله وزانه، إنَّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
(۱) منهم شيخ الجماعة العلامة السيد عبد الله الفضيلي الحسني، والمحقق البارع السيد الراضي السناني الحسني، والعلامة الأصولي السيد الحسين العراقي الحسيني، والعلامة السيد الحبيب المهاجي الحسني، وشيخ الجماعة السيد أحمد بن الجيلاني الأمغاري الحسني، والقاضي العباس ابن القاضي أبي بكر بناني، والعلامة الشيخ محمد بن الحاج السلمي، وابن عمه العلامة الشيخ محمد بن الحاج، والمحقق البارع السيد أحمد القادري الحسني. وأجاز لي بالطريقة أيضًا شقيقي المذكور يسر الله لي وله الأمور.
سلسلة الطريقة
٤٢١
وصيَّة العارف بالله سيدي محمد بن الصديق إلى إخوانه الحمد لله وبعد، فأوصيكم بتقوى الله في السر والعلانية، وبالإقلاع عن
الأمور التي تستوجب الحرمان، فإنَّ طلب الإمداد بغير استعداد كالسفر بلا زاد، وأوصيكم بمراعاة الأنفاس وحفظ الحواس، والرضى بالموجود والصبر على المفقود، والوفاء بالعهود وكثرة الركوع والسجود، وترك التدبير والاختيار مع المدبر المختار، والعمل بالسنة والاقتداء بالأئمة، ومرافقة المتبتل الطائع،
ومجالسة المنيب الخاشع ومعاشرة الوقي الخاضع، وزيارة الساجد الراكع. وكن يا أخي جوّال ،الفكر، جوهري الذكر، كثير العلم، عظيم الحلم، واسع الصدر، وليكن ضحكك تبسما، واستفهامك تعلما، ناصحا للغافل، معلما للجاهل، لا تؤذي من يؤذيك، ولا تدخل فيما لا يعنيك، ولا تشمت بمصيبة، ولا تلوث لسانك بغيبة، صادق القول، بارئًا من الجهل والحول،
واقفًا عند الشبهات أبا لليتيم بشراك في وجهك، وحزنك في قلبك، مشغولا
بفكرك، لا تفشي سرًّا، ولا تهتك سترا، كثير العبادة، طالبًا أبدًا للزيادة، كثير الصمت، تحمل أذى من جهل عليك، عفوا عمن أساء إليك، ترحم الصغير وتوفّر الكبير، أمينا على الأمانة، بعيدًا عن الخيانة، صبورًا عند الشدائد، قليل المؤونة، كثير المعونة طويل القيام كثير الصيام، تُصلّي رهبة، وتصوم رغبةً، غاضًا للطَّرف، قليل الزلل، كثير العمل، أديبا مع الأولياء، كلامك حكمة، ونظرك عبرة، قليل الضَّجر، لا تكشف عورةً، لا حقودًا ولا حسودا، تطلب الأمور من أعلاها، مُعمّرًا الأرض بجسمك، وللمقابر بروحك، لابسا ثياب
التَّواضع، متجردا من الطمع، متوكلا على المدبر الصانع.
٤ - الدُّرَرُ النَّقية
في أذكار وآداب الطريقةِ الصِّدِّيقية
الدرر النقية
٤٢٥٠
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله الذي أنار قلوب العارفين بذكره ، وأفاض عليهم سَيْبًا مِن سِره، أحمده وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادةً نغترف بها من موارد كرمه وبره، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل عبد قام بعبادة مولاه وشكره، صلي الله وسلم عليه وعلى آله الغُرِّ الكرام، ما أعقب الضّياء الظلام، وبَزَغَ بدر التمام. أما بعد: فإن ذكر الله جل شأنه تطمئن به القلوب، وتُمحى به الذنوب،
ا
وتفرج به الكروب، يُزيل عن النفس شجاها، ويُقربها إلى حضرة مولاها، يلين القلب والجوارح فتخشع لعظمة الله وسطوته، وتدمع العين فَرَقًا من هيبته، ويُحرك الشوق من الذاكر فتهتز الأطراف تَوَقانًا إلى القرب من قدس الله وسناه، ويُقوي رجاء العبد في حصول مغفرة ربه ورضاه، أمر الله به وبيَّن فضله في غير آية من القرآن العظيم، فقال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: ۱۵۲]، وأي شرف أعظم من أن يذكر الله عبده في حضرة قدسه وفي مثل هذا يقول الشاعر:
لك البشارة فاخلع ما عليك فقـد ذُكِرْتَ ثُمَّ على ما فيك مِن عِوَجِ وقال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَينُ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: ۲۸]، وقال عزّ شأنه: ايُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٤١ - ٤٢] ، وقال جل جلاله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
٤٢٦
التصوف
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَنِنِينَ وَالْقَيْنَتِ وَالصَّدِقِينَ وَالصَّدِقَاتِ وَالصَّبِرِينَ وَالصَّبِرَاتِ وَالْخَشِعِينَ وَالْخَشِعَتِ وَالْمُتَصَدِقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّمِينَ وَالصَّبِمَتِ وَالْحَفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَفِظَتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات. وأما الأحاديث الواردة في فضل الذكر والاجتماع عليه والإكثار منه فكثيرة جدا، فمنها الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى قال: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نَفْسِه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ - أي جماعة - ذكرته في ملإ خير منهم - يعني الملائكة». رواه البخاري
ومسلم. وقال أبو الدرداء رضي | الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا أُنبِّئُكُم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مَلِيكِكُم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق - يعني الفضة- وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم». قالوا: بلى. قال:
«ذكر الله». حديث حسن صحيح رواه الإمام أحمد في "مسنده" وغيره. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله ملائكة سيَّارَةً فُضُلًا يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عَرَجوا وصَعِدوا إلى السماء، فيسألهم الله عزّ وجلَّ -وهو أعلم : من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك ويكبرونك
الدرر النقية
٤٢٧
ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك
جنتك، قال وهل رَأَوا جنتي؟ قالوا: لا يا رب. قال: فكيف لو رأوا جنتي؟
.
قالوا: ويستجيرونك، قال: ومما يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا ربّ، قال: وهل رأوا ناري؟ فيقولون: لا يا ربِّ، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، فيقولون: ربَّ فيهم فلانٌ عبد خطاء إنها مر فجلس معهم، فيقول: وله غفرت هم القوم لا يَشْقَى بهم جَليسُهم». أخرجه مسلم في "صحيحه". وقال معاذ بن جبل رضى الله عنه -: «ما شيء أنجى من عذاب الله مِن
ذِكْرِ الله». رواه أحمد والترمذي وغيرهما. إلى غير هذا من الأحاديث والآثار. ولما كان الذكر بهذه المنزلة الشريفة والرتبة المنيفة جعله الصوفية شعارهم، واتخذوه وسيلة لتهذيب المريد وتصفية ،روحه وتطهير نفسه من كدرات الأغيار، وتدرجوا بالمريد في أنواع الأذكار، بحسب قوة استعداده و قبول آنيته. والذكر جائز بأي صيغة تخلو من اللحن والتحريف؛ لأن الشارع لم يفرض في الذكر صيغة معيَّنةً، فإليك أيها المريد الصِّدِّيقي الصادق الورد والوظيفة والآداب، داوم على قراءتها وتأدب بآدابها وسترى بركتها في نفسك ومالك
وأهلك، وفقك الله تعالى وألهمك التوفيق والسداد.
٤٢٨
التصوف
بسم
حزب الفتح الصديقي
يقرأ يوميا صباحا ومساء
الله الرحمن الرحيم ربَّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خَيْرُ الفاتحين ، اللهم لك الحمد كلُّه ولك الملك كلُّه بيدك الخيرُ كلُّهُ إِليكَ يُرْجَعُ الأمر كله علانيتُهُ وسِرُّهُ، فأهل أنْ تُحمَدَ إِنَّكَ على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي
جميع ما مَضَى مِنْ ذَنْبي واعْصِمْنِي فيما بَقِيَ مِن عُمْرِي وَارْزُقْنِي عَمَلًا زَاكِبًا تَرْضَى بِهِ عَنِّي وَتُبْ عَلَيَّ. اللهمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ (۱) أَشْهِدُكَ وأَشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وملائكتك وجميع خَلْقِكَ أَنَّكَ أنت الله لا إله إلَّا أنت وأنَّ محمَّدًا عبدك ورسولُكَ. (أربع مرَّاتٍ). سبحان الله وبحمده لا قوة إلا بالله، ما شاءَ الله كان وما لم يَشَأْ لم يكن، أعلمُ
أنَّ الله على كل شيءٍ قدير وأنَّ الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ عِلْمًا. (ثَلاثُ مَرَّاتٍ). اللهم فاطِرَ السَّمواتِ والأرض عالم الغيب والشهادةِ ربَّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكَهُ أَشْهَدُ أنْ لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه. اللهم فارج الهم كاشف الغَمِّ مُجيب دعوة المُضْطَرِّين رحمنَ الدُّنيا والآخرة ورَحيمُهُما، أنت تَرحمني؛ فارحمني رحمةً تُغنيني بها عن رحمةِ مَن سِوَاكَ. (ثلاث
مرات).
أعوذ بكلماتِ الله التَّامَّاتِ التي لا يُجاوِزُهُنَّ بَةٌ ولا فَاجِرٌ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وذَرَأ وبَرَأ، ومِن شَرِّ ما يَنْزِلُ مِن السَّماءِ ومِن شَرِّ ما يَعْرُجُ فيها، ومِنْ شَرِّ مَا ذَرَا (۱) وفي المساء: أمْسَيْتُ
الدرر النقية
٤٢٩
في الأرض ومِن شَرِّ ما يَخْرُجُ منها، ومِن شَرِّ فِتَنِ الليلِ والنَّهَارِ، وَمِن شَرِّ كل
طارِقٍ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بخير يا رحمنُ.
بسم الله الكبير أعوذُ بالله العظيمِ مِن شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَارٍ، وَمِن شَرِّ حَرٌ
النار. (ثلاث مرات).
اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِن قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِن نَّفْسٍ لا
تَشْبَعُ، وَمِن دُعاء لا يُسْمَعُ. لا إله إلا أنت سبحانك اللهمَّ استَغْفِرُكَ لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زِدْنِي عِلَّما ولا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ رحمةٌ إِنَّكَ أَنتَ الوهاب.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطِرَ السَّموات والأرض، عالم الغيب والشهادةِ أَنتَ تَحكُمُ بينَ عِبادِكَ فيما كانوا فِيهِ يَختَلِفُون، اهدني لما اخْتُلِفَ
فيه مِن الحَقِّ بإذنِكَ، إِنَّكَ أَنتَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
اللهمَّ اغْفِرْ لي خطيئتي وجَهْلي وإسْرَافي في أمري، وما أَنتَ أَعْلَمُ به مِنِّي، اللهمَّ اغْفِرْ لي هَزْلي وجِدّي وخَطَئِي وعَمْدِي وكلُّ ذلكَ عِنْدِي، اللهمَّ اغْفِرْ لِي ما قَدَّمْتُ وما أَخَرْتُ وما أَسْرَرْتُ وما أَعْلَنْتُ، أنت المُقَدِّمُ، وأنت المُؤَخِّرُ، وأنت على كل شيء قدير. اللهم إني أسألُكُ صِحَّةَ إيمان، وإيمانًا في خُلُقٍ حَسَنٍ، ونَجاحًا يَتْبَعُهُ فلاح،
ورحمةً منك وعافية ومغفرة منك ورِضوانا.
اللهم إني أسألك نَفْسًا بكَ مُطمئنةً، تُؤمنُ بلِقائِكَ، وتَرضَى بقضائِكَ،
وتقنع بعطائك.
٤٣٠
التصوف
يا حي يا قيوم برحمتِكَ أَستَغِيثُ، أصلح لي شأني كُلَّهُ ولا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي
طَرْفَةَ عَيْنٍ. اللهم رب السمواتِ وربَّ الأَرَضِينَ وربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ، وفالقَ الحَب والنَّوى، ومنزلَ التَّوراة والإنجيل والقرآن، أعوذُ بكَ مِن شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٌّ أنت آخذ بناصيته، أنت الأوَّلُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليسَ دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عَنِّي الدِّينَ وأغنني من الفقر. اللهم إني أسألك الثَّبَاتَ في الأمر، وأسألك عزيمة الرُّشْدِ، وأسألك شُكْرَ نِعمتِكَ وحُسْنَ عبادتِكَ، وأسألك لِسَانًا صادقا وقَلْبًا سَلِيمًا، وأعوذُ بك منْ شَرِّ ما تعلم، وأسألك من خير ما تَعلَمُ وأستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغُيُوبِ. اللهم إني أسألك فِعْل الخيراتِ، وتركَ المُنكَرَاتِ، وحُبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردتَ فِتنة قوم فتوفَّني غيرَ مَفْتُونِ، اللهم إني أسألك حُبَّكَ وحُبَّ مَن يُحِبُّكَ وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلى حُبِّكَ. اللهم إني أسألك رحمةٌ من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شَعَنِي، وتُصْلِحُ بها غائبي، وترفعُ بها شاهدي، وتُزَكِّي بها عملي، وتُلْهِمُنِي بها رَشَدِي، وتردُّ بها أُلْفَتِي، وتَعْصِمُني بها مِن كُلِّ سُوءٍ، اللهم أعطني إيمانًا
ويقينا ليس بعده كُفْرٌ ، ورحمةً أنالُ بها شَرَفَ كرامتك في الدُّنيا والآخِرَةِ. اللهم إني أسألك الفوز في العطاءِ (۱)، ونُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وعَيْشَ السُّعَدَاءِ
(۱) ويروى: فِي الْقَضَاءِ.
الدرر النقية
٤٣١
والنَّصْرَ على الأعداء.
اللهم إني أُنزِلُ بك حاجتي وإنْ قَصُر رأيي وضَعُفَ عملي، افتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصُّدُورِ، كما تُجِيرُ بين البُحُورِ، أَن
تُجيرَني مِن عَذَابِ السَّعِيرِ، ومِن دَعْوَةِ القُبُورِ، وَمِن فتنةِ القُبُورِ.
اللهم ما قَصُرَ عنه رأيي ولم تبلغه نيّتي ولم تبلغه مسألتي من خير وعدتَهُ أحَدًا مِن خلقِكَ، أو خير أنتَ مُعْطِيهِ أحَدًا مِن عِبادِكَ، فَإِنِّي أَرْغَبُ إليك فيه، وأسألُكَه برحمتك يارب العالمين.
اللهم ذا الحبل الشَّديد والأمرِ الرَّشِيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنَّةَ يوم الخُلُودِ، مع المُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ المُوفِينَ بِالعُهُودِ، إِنَّكَ رَحيمٌ وَدُودٌ ، وأنتَ تفعلُ ما تُرِيدُ.
اللهم اجعلنا هادين ،مُهتَدِين غير ضالّين ولا مُضِلَّين، سلما لأوليائك وعَدُوًّا لأعدائك، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَن أَحَبَّكَ ونُعَادي بعداوتك مَن خَالَفَكَ.
اللهم هذا الدعاء وعليك الاستجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان. اللهم اجعل لي نُورًا في قبري، ونُورًا في قلبي، ونُورًا مِن بين يَدَيَّ، وَنُورًا مِن خَلْفِي، ونُورًا عن يميني، ونُورًا عن شمالي، ونُورًا مِن فَوْقي، ونُورًا مِن تحتي، ونُورًا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شَعْرِي، ونُورًا في بَشَرِي، ونُورًا في لحْمِي، ونُورًا في دَمِي، ونُورًا في عِظَامِي، اللهم أعظم لي نُورًا، وأعطني نُورًا، واجعل لي نُورًا. سُبْحَانَ الذي تَعَطَّفَ بالعِزَّ وقال به سُبْحَانَ الذي لَبِسَ المَجْدَ وتَكَرَّمَ به، سُبْحَانَ الذي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلَّا له، سُبْحَانَ ذِي الفَضْلِ وَالنَّعَمِ، سُبْحَانَ ذِي
٤٣٢
التصوف
المجد والكَرَمِ، سُبْحَانَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليمًا كثيرًا. وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: ٥٣].
اللهم اجمعنا على محبتك، وأعنا على طاعتك وخدمتك، وطهرنا تطهيرًا نَصْلُحُ به لحضرتك، ولقا نبيك عليه السَّلام، وزدنا فيك تحيرا، وبك افتتانا، وغيبنا فيك عن كلّ شيءٍ سواك، حتّى لا نكون إلا بك ولك، واحفظنا فيك سائر يومنا، وبقيَّة عُمُرِنا حتَّى تتوفَّانا، وأنت عنا راضي، ونحن عنك غير مفتونين، بحق مولانا رسول الله .
سبحان ربك ربِّ العِزَّة عما يَصِفُونَ ، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ
العالمين». اهـ
اللهم صل على سيدنا محمد عبدِكَ ونبيك ورسولك النبي الأُمي (۸۰ مرة)
عصر الجمعة.
لنا بها جميع
اللهمَّ صَلِّ على محمد صلاةٌ تُنْجِينا بها من جميع الأهوال والآفاتِ، وتَقْضِي الحاجاتِ، وتُطَهِّرُنا بها من جميع السَّيِّئاتِ، وترفَعنا بها أعلى الدرجاتِ، وَتُبَلِّغُنا بها أقْصَى الغاياتِ مِن جميع الخيْرَاتِ، في الحياة وبعد المماتِ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
اللهمَّ صَلِّ صلاة كاملة، وسلّم سلاما تاما، على نبي تَنْحَلُ به العُقَدُ، وتَنْفَرِجُ به الكُرَبُ، وتُقضَى به الحوائج، وتُنَالُ به الرَّغَائِبُ وحُسْنُ الخَوَاتِيمِ، ويُسْتَسْقَيَ الغَمَامُ بوجهِهِ الكريم.
الدرر النقية
٤٣٣
ورد الطريقة الصديقية
أستغفر الله. (مائة مرة).
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله
وصحبه وسلّم. (مائة مرة).
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء
قدير. (مائة مرة).
يقرأ هذا الورد بعد صلاة الصبح ومثله بعد صلاة المغرب، فبالتزام الشخص لهذا الورد يصير من أهل الطريقة منسوبًا إليها ومحسوبًا عليها، ولا يصح تركه إلا لعذر كمرض مانع.
٤٣٤
التصوف
المعارف الذوقية في الوظيفة الصديقية
اللهم صل وسلم بفيض جودك الواسع الممدود، على قطبِ الوجود، وعين أعيان دائرة الشُّهودِ، المتوج بتاجِ إِنَّا أرسلناك شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، مَن مِنه انشقَّتِ الأسرار المودعة في نور روحانيته الموصوفة بكنتُ نبيًّا وآدم بين الرُّوح والجسد، وانفلقت الأنوار المشعة من ذاته على عالم الكون تهديه إلى الأبد، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السَّلام، وفيه ارتقتِ الحقائق الممكنة الكامنة في عالم الثبوت، لأنه الإنسانُ الكامل الصفاتِ والنعوت، وتنزَّلت علوم آدم بتجلّ وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما، فأعجز الخلائق بلوغ مَدَاهُ، كيف ولواء الحمد بيده تَحْتَهُ آدَمُ ومَن عَدَاهُ، وله تضاءلتِ الفهوم في سائر العلوم، بإفاضة رأيتُ ربِّي في أحسن صورة، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدتُ بَرْدَها في نَحْرِي، فتجلَّى لي كلُّ شيءٍ وَعَرَفْتُ، فلم يدركه منا سابق باجتهادِ الأعمال، ولا لَاحِقٌ أَدْرَكَهُ فيضُ النَّوَال، فرياض الملكوت بزهر جماله السَّاري في عالم الوجود مُونِقَةٌ، وحياضُ الجبروت بفيض أنواره
المتلألئة في عالم الشُّهود متدفقة، ولا شيء إِلَّا وهو به مَنُوطٌ، في كل عروج وهبوط، إذ لولا الواسطة في وُصُول الإمدادِ وحُصُول الإسعادِ لذهب كما قيل الموسوط، بدليل: إنَّما أنا قاسم والله يُعطي. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسولُ لوجدوا الله تَوَّابًا رحيما. صلاة كاملةً تليق بك من حيث ألوهيتك، صادرةً منك من حيث ربوبيتك، تُرْجَى إليه تكريما
الدرر النقية
٤٣٥
لقَدْرِهِ العظيم، مصحوبًا بخِلْعَةِ لقد جاءكم رسول من أنفُسِكُم عزيز عليه ما
.
عَيْتُم حريص عليكم بالمؤمنين رؤفٌ رحيم. وسلاما تاما يتنزل في معارج القدس، على بِسَاطِ الأنس، يليق به كما هو أهله.
اللهم إنه سِرُّكَ الجامع الجميع الكمالات الإنسانية، المُزكَّى مِنْ حضرتك العليَّة بصفة وإنك لعلى خلق عظيم ، الدَّال بجميع الحالات عليك، المؤيَّد منك بشهادة والله يعلم إنَّك لرسوله، من يُطع الرسول فقد أطاع الله، قل إن كنتم تُحبَّونَ الله فاتبعوني يُحببكم الله. وحِجَابُكَ الأعظم القائم لك بتمام العبودية، شكرًا على ما أوليتهُ مِن رفيع الرتبة وعظيم المنزلة، إنَّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ ويُتمَّ نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا. الخاضع بين يديك لمقام الربوبية، الذي شرفته في مقام القُرْبِ بشرفِ سبحان الذي أسرى بعبده. فأوحى إلى عبده ما
أوحى.
.
أسعد
اللهم الحقني في الباطن ونَفْسِ الأمرِ بنَسَبِهِ الجسماني، إلحاقا يَجْبُرُ ما نَقَصَ من رواتب الأعمال، ويَصِلُ ما انقطعَ من وارداتِ الأحوال، حتى أ بالاندراج في عموم قضيَّة: «كل سبب ونسب ينقطعُ يوم القيامةِ إِلَّا سَبَبي ونَسَبي»، وحققني في نفسي وحالي ووجداني بحَسَبِهِ الرُّوحاني، تحقيقا يقطع مني حظ الشيطان، ويُدخلني في زُمْرَةِ: «إنَّ عبادِي ليس لك عليهم سلطان». وعرفني إيَّاهُ معرفةً كاشفةً لفضائله وفَوَاضِلِهِ، أَسْلَمُ بها من مَوَارِدِ الجهل بك وبه، في مخارج الأمرِ ومداخله، وأَكْرَعُ بها مِن مَوَارِدِ الفضل الواصل منك إليه، وأنهل من عين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. إنما بعثت رحمةً مُهداةً. واحملني
٤٣٦
التصوف
في سيري إليك على سَبِيلِهِ الواضحة للسَّالك، لا يَزِيعُ عنها إِلَّا هَالك، قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. إلى حضرتك القُدُّوسِيَّةِ التي إليها ينتهي سير الواصلين، وعندها تقفُ مَطَايا السَّالكين، وأنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى . حَمَلًا مَحْفُوفًا بِنُصْرَتِك الربَّانِيَّةِ ، حتى أنجو مِن غَوَائل الطَّرِيقِ وَمُضِلَّاتِ الهوى، وأسْتَمْسِكَ بعُدَّة وتزوَّدوا فإنَّ خير الزاد التقوى. واقذف بي على جيش الباطل فأدمَعَهُ بصَوْلةِ الحقِّ، وأدْحضَهُ بقوَّة الصدق، فإذا عَزَمَ الأمرُ فلو صدقوا الله لكان خيرًا لهم. وما النَّصْرُ إلَّا مِن عند الله. وزُج بي في بحارِ الأَحَدِيَّة الذاتية المحيطة بجميع هياكل الحقائق والمعاني المنزهة . عن الكثرة والقِلَّةِ والكلية والجزئية والتباعد والتداني، ألا إنه بكل شيء مُحيط. وانسلني من أو حال التوحيد الموقعَةِ في ظُلُماتِ الشُّبَه والترديد، إلى فضاء تنزيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. وأغرقني في عين بَحْرِ الوِحْدَةِ الشُّهوديَّةِ، مع القيام بأداء حقوق العبودية، قل كل من عند الله ما أصابك مِن حَسَنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نَفْسِك، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أُحِسَّ إِلَّا بِها، تحققا وتعلَّقا بإتحاف عناية: فإذا أحببته كنتُ سَمْعَهُ الذي يسمعُ به ، وبَصَرَهُ الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجلَهُ التي يمشي بها، واجعل الحِجَابَ الأعظم من حيث الإفاضة
القرآن من
لَدُنْ
والتلقين حياةَ رُوحي، وكذلك أوحينا إليك رُوحًا مِن أمرنا، وإنك لتلَقَّى حكيم عليم، وروحه من حيث التوصل والتمكين سر حقيقتي، حتى أتذوّق سِر : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، وحقيقته من حيث الهداية واليقين جامع عوالمي الظاهرة والباطنة، في
الدرر النقية
٤٣٧
جميع أطوارها الجليَّة والخَفِيَّة؛ لأتحقَّقَ بالوِراثة النبوية، والخلافة المحمدية، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون بتحقيق الحقِّ الأوَّل في التعين الأول بإشارة كنتُ أَوَّلَ النَّاسِ خَلْقًا وآخرهم بَعْثًا، وجعلني فاتحا وخاتما، مع بشارة وإذ أخذ الله ميثاق النَّبيِّين لما آتيتكم من كتاب وحكمةٍ ثُمَّ جاءكم رسولٌ مُصدَّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصُرُنَّه. يا أوَّلُ ليس لأوَّليَّتِهِ ابتداء، يا آخِرُ تَقَدَّسَ عن لحوقِ الفناء، ياظاهر لا يلحقه خفاءٌ يا باطِنُ تَرَدَّى برِدَاء العظمة والكبرياء، اسمع
ندائي مع ظهور فقري إليك والتجائي بما سمعت به نداء عبدِكَ زكريا واجعلني صادق القول وفيًّا، وارزقني قلباً تقياً، من الشرك نقيا، لا جافيًا ولا شقيا، وانصرني بك لك نصرًا مؤزّرًا، إن ينصركُم الله فلا غالب لكم، وأيدني بك لك تأييدًا مُظَفَرًا حتى أكون في جماعة أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، واجمع بيني وبينك بقَطْعِ العَلَائِقِ النَّفْسَانِيةِ، وَمَنْعِ القَوَاطِعِ الشَّهْوَانية، حتى أُشَرَفَ بخطاب يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضيَّةً، وحُل بيني وبين غيرك حتى لا أشاهد في الكون إلا أثر إحسانك وبرك، وما بكم من نعمة فمن الله الله الله الله). الله واحدٌ أحد، الله وتر صَمَدٌ، الله لم يكن له كفوا أحدٌ، الله قوي قادر ، الله عزيز قاهر، الله عليمٌ غافر، إنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن، وأوجب عليك البيان، لرادك إلى معاد، يوم تحقُّ لك السيادة على جميع العباد، ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يَبْعَثَكَ رَبُّك مقاما محمودا، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا مِن أمرنا رَشَدًا، واغفر لنا مغفرةً عامةً تجلو عن القلب كلَّ صَدا، ورقنا في معارج مدارج إِنَّ الله
٤٣٨
التصوف
وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين، وخاتم النبين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وشفيع المذنبين، اللهم اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على سيدنا محمد رسول الخير وإمام الهدى، ونبي التوبة وعين الرحمة، اللهم اجعل أفضل صلواتك وأزكاها ، وأجل تسليماتك وأنماها على من أرسلته رحمةً عامةً، وبعثته نعمةً مهداة، سيدنا محمد الذي شرحتَ صَدْرَهُ، ورفعتَ ذِكْرَهُ، وقَرَنْتَ اسمه باسمك، وجعلت طاعتهُ مِن طاعتِكَ، وخَلَعْتَ عليه مِن وَصْفِكَ ونَعْتِكَ، اللهم ارزقنا تمام محبَّته، واتباع سنته، والتأدب بآداب شريعته، والتمسك بأذيال آله وعترته واحشرنا في زمرته، واجعلنا في الرعيل الأول من أهل شفاعته، اللهم إنا نتوسل به إليك، ونستشفع به لديك، أن تقبل أعمالنا، وأن تُحسن أحوالنا، وتنير بالمعارف قلوبنا، وتُفرِّجَ مِن كُدُورات الأغيار كروبنا.
ربَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَسِرِينَ رَبَّنَا ايْنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَيْنِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وائِنَا مَا وَعَدَ تَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْرْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْيَعَادَ قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن نَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الْحَقِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
الدرر النقية
٤٣٩
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَتَيكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَابِمَا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ .
شهدنا بذلك وأقررنا به فاكتب اللهم شهادتنا عندك، وأعظم جزائنا عليها، وأكرم نزلنا بها واجعلها حُجَّتنا لديك يوم لقائك، ونجنا بها من سوء عذابك يوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِى وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَأَغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَعُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ العظيم ما هُوَ اللهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) هُوَ اللهُ الْخَلِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ العزيز الحكيمُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( اللَّهُ الصَّمَدُ لم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (ثلاث مرات)
ثم المعوذتين، ثم بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوي الذين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
٤٤٠
التصوف
هذه الوظيفة تقرأ قبل إقامة الحضرة، وذلك بأن يجتمع الإخوان فيفتتحون الحضرة بقراءة سورة الفاتحة، ثم "المعارف الذوقية في الوظيفة الصديقية" حتى إذا وصلوا إلى : وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ﴾ [النحل: ٥٣] استمروا في ذكر الاسم المفرد «الله» جلوسًا بصوت متوسط نحو (۲۰) مرة)، ثم يقومون للذكر به قياما . إنشاد القصائد الوعظية وما يناسبها، ثُمَّ يجلسون فيقرأ أحد مع الإخوان بعض آي الذكر الحكيم، ثم يُتمُّون قراءة الوظيفة ويختمون الحضرة بالدعاء الآتي مع رفع الأيدي وهو :
«اللهم اجمعنا على محبتك، وأعنا على طاعتك وخدمتِكَ، وطهرنا تطهيرًا نصلح به لحضرتك ولقا نبيك عليه السلام، وزدنا فيك تحيرا وبك افتتانا، وغيبنا فيك عن كل شيء سواك، حتى لا نكون إلا بك ولك، واحفظنا فيك سائر يومنا، وبقية عُمُرِنا حتّي تتوفَّانا وأنت عنا راضي، ونحن عنك غير مفتونين، بحق مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، سُبْحانَ رَبِّك ربِّ
العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين». ثُمَّ يتصافحون مع تقبيل الأيدي، ويتذاكرون فيما يهمهم من أمر دينهم
ودنياهم.
الدرر النقية
٤٤١
صلاتان أنشأهما
أبو الفضل سيدي عبدالله بن الصديق
رحمه الله تعالى
: اللهمَّ صَلِّ على عَبْدِكَ المُكَمَّلِ، وَرَسُولِكَ الْمُبَجَّلِ، وَخَلِيلِكَ الْمُفَضَّلِ، سيدنا محمد الذي مَنَحْتَهُ المَقامَ المَحْمُودَ ، والحَوْضَ المَورُودَ، وَأَخَذْتَ لأَجْلِهِ على الأنبياء المواثيق والعُهُودَ مِفْتاحِ الكَائِنَاتِ، وخِتَامِ النُّبوَّاتِ، وتَجلَى الأَسْمَاءِ والصَّفَاتِ، صَلاةٌ تُفَرِّجُ بِها عَنَّا الكَرْبَ وتَقْضِي لَنَا بِهَا الْحَاجَاتِ، وتَفْتَحُ لَنَا بِها أبوابَ القُرْبِ وتُيَسِّرُ بها أَسْبَابَ المَكْرُمَاتِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الْأَرْجَاسِ، وصَحَابَتِهِ المُخَاطَبِينَ بـ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: ١١٠]،
وسَلَّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلى يومِ الدِّين، والحمد الله رَبِّ العالمينَ .
*
اللهمَّ صَلِّ وسَلّم على عَبْدِكَ ونَبِيِّكَ سَيِّدنا محمَّدٍ الذي نَطَقَ لَهُ الْحَجَرُ، وسَجَدَ لَهُ الشَّجَرُ ، وانْشَقَّ بإشَارَتِهِ القَمَرُ ، وزَالَ بِبَرَكَةِ مَسْحِهِ عَن ذَوِي العَاهَاتِ الضَّرَرُ ، نَبَعَ مِن أصَابِعِهِ الشَّرِيفَةِ المَاءُ النَّمِيرُ، وَنَزَلَ بِدُعَائِهِ المَطَرُ الغَزِيرُ، وانْزَاحَ بَغَوْثِهِ الكَرْبُ عِن الخَلْقِ الكَثِير، صَلاةً وسَلَامًا يَكُونَانِ سَبَبًا في كَشْفِ كُرْبَتِنا، وتَفْرِيحِ غُمَّتِنا، والتَّعْجِيلِ بِزَوال شِدَّتِنا.
اللهمَّ اجْعَلْ صَلاتَنا عليه وَسِيلَةُ إليك، واقْبَلْ اسْتِشْفَاعَنَا بِهِ لَدَيْكَ، فَإِنَّهُ رَسُولِكَ الطَّاهِرُ المُطَهَّرُ ، وحَبِيبُكَ الشَّفِيعُ المُشفَعُ هُنا وفِي المَحْشَرِ، وَارْضَ اللهم
عن آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَصَحَابَتِهِ مِن الأَنصَارِ والمُهَاجِرِينَ . انتهى
٤٤٢
التصوف
غُمَّتِي
استغاثة للمصنف أنشأها سنة ۱۳۸۰ هجرية سَأَلْتُكَ يا اللهُ يَا مَن لَهُ التَّنَا تُفَرِّجُ فَضْلًا مِنَكَ عَنِّي مُصِيبَتِي ويا رَبُّ يا رحمنُ فَارْحَمْ تَذَلَّلي إليكَ وادْرِكْنِي بِنَصْرٍ وعِزَّةِ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ أَنتَ فَارْافُ بحَالَتِي ويا بريــا تَوَّابُ تَقَبَّل تَوْبَتِي ويـا صَمَدُ أُنهي إليكَ مَطَالِبي لتقضَى وَمِنها تَحرُ كُل خَطِيئَةِ عَفُوٌّ غَفُورٌ فَاعْفُ عَنِّي وَعَافِنِي بسترِكَ يا سَبَّارُ تَسْمَلُ زَلَّتِي وأنتَ جَوادٌ مَاجِدٌ مُتَفَضّل فجُدْ لِي بِفَضْلِ مِنكَ يُذْهِبُ عِلَّتِي ويا مُنْعِمُ انْعِـمْ عَليَّ تَكَرُمَا بِمَنْكَ يَا مَنَّانُ تَكْشِفُ كُرْبَتِي ويا أَحَدُ مَــالي ســواكَ يُمِدُّنِي مِن الخَيْرِ ما يَقْضِي بتَفْريحِ غُ ويا حَيُّ يَا قَيُّومُ أَحْيِي قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ كَيْ تَنْجُو بِهِ يَوْمَ شِدَّةِ أَعْنِي وعَجَّل يا مُغِيثُ فإنَّني يَسْتُ مِن الدُّنيا وأهلِ المُرُوءَةِ وأَسْأَلُ رَبِّي أَنْ يُواصِلَ بِرَّهُ على مَن وَفَى بِالعَهْدِ فِي وَقْتِ أَزْمَتِي إلهي لَقَدْ يَمَّمْتُ بابَكَ ضَارِعًا إليكَ فَأَرْغِدْنِي بِفَيْض ونِعْمَةِ إلهي أَجِبْ وَاسْمَعْ دُعَائِي فَإِنَّنِي قَصَدْتُكَ لا أَرْجُو سِواكَ بِدَعْوَتِي إلهي وخَلَّصْنِي مِن الكَرْبِ والأَذَى وَأَذْهِبْ سَرِيعا عَنِّي كُلَّ مَضَرَّةِ إلهي وتَوِّجْنِي بِنَصْركَ عَاجِلا ففَإِنِّي شَرِيدُ الفِكْرِ مِن هَـوْل شِدَّتِي إلهي ونَجِّنِي مِن الأَزْمَةِ التي أُتِي بي إليها كي تُحقِّ مُنيتي دَعَوْتُكَ يا الله يا واسِعَ العَطَا فحقق دُعَائِي وَاسْتَجِبْ لَرَجَاوَتِي
الدرر النقية
٤٤٣
بجَـاءِ رَسُولِ الله أَفْضَلِ شَافِعِ وأَكْمَلِ تَخلُوقِ أَتَى بِنُبُوَّةِ رَسُولٌ كريمٌ واسعُ الصَّدْرِ سَيِّدٌ أَمِينٌ وَفِيُّ ذو الخِصال العَظِيمَةِ حبيبٌ إِلى الرَّحمنِ أَعْظَمُ مُرْسَلِ خَلِيلٌ نَجِيٌّ نَالَ أَعْظَمَ رُتْبَةِ صَفِيٌّ لَهُ عِندَ الإِلِهِ مَزِيَّةٌ سراج مُنِيرٌ عَمَّ كُلَّ البَريَّةِ فمِـنْ نُورِهِ كَانَ النَّبِيُّون كُلُّهُم ومِنْ نُورِهِ كانتْ جَميعُ الخَلِيقَةِ وكان نَبـــا حيثُ آدَمُ صُورَةٌ مُجَندَلَةٌ بَيْنَ المياهِ وطِينَةِ أَجَلَّ إِلهُ العَرْشِ قَدْرَ نَبِيِّـهِ فَعَظَمَهُ عند النّداءِ بِكُنْيَةِ وفي آيةِ المِيثَاقِ عَهْدٌ مُؤكَّدٌ من الله للرُّسُلِ الكِرَامِ بِجُمْلَةِ وفي آية الرّبا دَليلُ حَياتِهِ دَوَامَــا بــلا ثنيا إلى يَوْمِ نَفْخَةِ وكَرَّمُهُ المَوْلَى بِمَدْحِ صِفَاتِهِ وطَهَّرَهُ مِن كُلِّ عَيْبِ وَوَصْمَةِ وأَعْلَى عَلَى كُلِّ النَّبِيِّينَ قَدْرَهُ وشَرَّفَهُ ليلَ العُرُوحِ بِرُؤيَةِ تَجَلَّى عليه لَيْلَها مَعَارِف وعِلْمٍ وأَسْرارٍ وقُرْبٍ وحَظْوَة وما زَالَ يَرْقَى بَعْدَ ذاك مَرَاتِبًا من العِلْمِ والعِرفان في كُل لحظَةِ نبي أتى بالدِّينِ سَهْلًا مُيَسَّرًا بعيدا عن التَّشْدِيدِ أو أي كُلْفَةِ نبي سَخِيُّ الكَفَّ أَسْخَـى مـن يجود ولا يَخْشَى مِن أَيَّةِ عَيْلَةِ نبي حَلِيمٌ ذو أَنَاةٍ يَزِينُها رَزَانَةُ رأي لا يَمِيلُ لِطَيْشَةِ نبي يُحِبُّ اليُسْرَ والعَفْوَ وَالوَفَا ويَبْغَضُ - طَبْعًا فِيهِ - كُلَّ نَقِيصَةِ نبي أَتَى بِالزُّهْدِ فِي هَذِهِ الدُّنَا ولو شَاءَهَا جَاءَتْ بأَدْنَى إِشَارَةِ
٤٤٤
التصوف
نبيٌّ غَنِيُّ القَلْبِ بِالله وَحْدِهِ فمَوْلَاهُ قَدْ أَغْنَاهُ عَن كُلِّ زِينَةِ نبي تَوَلَّى اللهُ عَنْهُ دِفَاعَهُ وخَيَّبَ قَوْمًا قَدْ رَمُوهُ بِجِنَّةِ نبي لَهُ يَومَ القِيامِ شَفَاعَةٌ وجَاهُ عَرِيضُ عِندَ رَبِّ البَرِيَّةِ نبي أَتَى بالمعجزاتِ قَوَاطِع فمِنها حَنينُ الجِذْعِ في يومٍ جُمعَةِ ومِنها انشقاق البَدْرِ فِي وَسَطِ السَّما وتَأْخِيرُ شَمْسِ حِين كان بمَكَّةِ ونَبْعُ مِــاءٍ مِنْ أَصَابِعِ كَفِّهِ فَأَرْوَى نَصِيرًا للجُمُوعِ الغَفِيرَةِ وأَطْعَمَ الفا أو يَزِيدُونَ دَا جِنَّـا فَأَشْبَعَهُم وَالأَكْلُ فاضَ بِكَثْرَةِ وأَسْمَعَ تَسْبيحَ الطَّعَامِ لِصَحْبِهِ الكرام وكانوا يَأْكُلُون بسفْرَةِ وأبرأَ أَسْقَامًا بِنَفْتِ لِسَانِهِ وأَذْهَبَ أَوْصَابًا وبُوْسًا بِلَمْسَةِ فصَلَّى عليه اللهُ ما ذَرَّ شَارِقٌ وما دامَتِ الدُّنيا إلى يومِ نَفْخَةِ وسَلَّم تَسْلِيما إلى يوم بعثنــا وأَسْعِدْنا بالقُرْبِ مِنْهُ وحَظْوَةِ
الدرر النقية
آداب الطريقة الصديقية
أدب المريد مع الله تعالى
٤٤٥
يلزم المريد من الأدب مع ربه: أن يكون واقفًا مع حدود الشريعة غير متعدّ لها ولا متهاون فيها، وأن يكون مواظبا على فعل السنن ونوافل الخيرات فبذلك يحظى بحب مولاه ورضاه عنه، جاء في حديث قدسي صحيح: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ به، وبَصَرَهُ الذي ينصر به ويده التي يَبْطِشُ بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه».
وأن يكون راضيا بما يجريه الله من تصاريف الأقدار، قال -عليه الصلاة والسلام- في وصيته لابن عباس رضى الله عنهما: «واعلم أنَّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخْطِئك». ولا شك أنَّ المريد إذا تحقق بهذا وعلمه اطمأن قلبه ورضي بما يصرفه في الكون ربُّه.
وأن يتوجه بسؤاله إلى الله في كل شيء، قال تعالى: ﴿وَسْتَلُوا اللَّهَ مِن
فضلِهِ ﴾ [النساء: ۳۲]، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «إذا سألت فاسأل الله»، وفي حديث آخر: «ليسأل أحدكم ربَّه حاجته كلها حتّى يسأله شِسْعَ نعله إذا انقطع. وحصل لبعض السَّلَف ضيق في معيشته حتى هم أن يطلب من بعض إخوانه، فرأى في منامه قائلا يقول له : أيحسن بالحرّ المريد إذا وجد عند الله ما
يريد أن يميل بقلبه إلى العبيد؟ فاستيقظ وهو أغنى الناس قلبًا.
٤٤٦
التصوف
وأن يكون متأدبا مع الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، متخلّقا بسنته مقدّما لها على كل شيء، معظما لأهل بيته وصحابته، وهذا لا يحتاج إلى برهان؛ فقد نص الله في غير آية من القرآن على وجوب تعظيم رسوله والتأدب في حقه، وجعل طاعته طاعة الله، ونفي الإيمان عمن لم يرضَ بحكمه، وتوعد من خالف أمره بالفتنة والعذاب الأليم.
أدب المريد مع شيخه
يلزم المريد الأدب مع شيخه: أن يعظمه ويوقره، وألا يتقدم بين يديه بقول أو فعل، وأن يذبّ عنه في غيبته، وألا يحضر في مجلس يُنال فيه من عِرْضِ شيخه، وأن يستأذنه في الخروج إذا كان حاضرًا، وألا يخالف ما يُشير به عليه الشيخ ... إلى غير ذلك مما لذكره محل آخر.
وهذه الآداب استخرجها الصوفية مما أدَّب الله به الصحابة في القرآن وأمرهم أن يستعملوها مع النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام-، ولا شك أنَّ المشايخ خلفاؤه في الإرشاد والتعليم والتهذيب، كما قال عليه الصلاة والسَّلام: «العلماء ورثة الأنبياء». فتلزم هذه الآداب في حقهم بطريق الوراثة، ولهذا ينبغي ويتأكَّد في حق المريد قبل دخوله في الطريق أن يتخيَّر الشيخ الذي تتحقق فيه الوراثة النبوية، وذلك بأن يكون عالما بالشريعة متمكنا فيها، عالما بالقرآن والسُّنَّة؛ لأنه لا إرشاد ولا سلوك إلا بما كان مطابقا للشرع متمشيا مع أحكامه، ومن لم يكن متمكنا في العلم متزيّنا بالاستقامة لا يصلح للإرشاد؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه.
الدرر النقية
٤٤٧
آدب المريد مع إخوانه
يلزم المريد من الأدب مع إخوانه أن يحترمهم ولا يرى لنفسه فضلا عليهم، ويواسي محتاجهم ويَعُودُ مريضهم ويعلّم جاهلهم، ويتعاون معهم على إقامة شعائر الطريق، ويتغاضى عمن أخطأ منهم في حقه ويلتمس له العُذْرَ في ذلك ويحمل حاله على تَحمَل حَسَنٍ، ويخدمهم بنفسه، وإذا قابل أحدا منهم بدأه بالبشر ،والمصافحة، ومَن زلَّ منهم نَصَحَهُ بالحُسْنَى مِن غير أن يحتقره أو
يشنع عليه. ويلزمه من الأدب مع المقدَّم أن يُعظَّمه ولا يتقدم عليه، ويسمع كلامه ويعتبره نائبا عن الشيخ وعلى المقدَّم أن يُعنى بمسائل الإخوان ويتعاهدهم بالمذاكرة المرة بعد المرة، ويتفقد غائبهم ويلين لهم الجانب، ويساوي بينهم في
المعاملة.
أدب المريد مع المسلمين
يلزمه من الأدب معهم : أن يعاملهم بالصدق، ويتواضع معهم من غير أن يطمع في أحدٍ منهم، ولا يخافه ولا يخشاه ، ويسعى في منفعتهم، ويحب لهم من الخير ما يحبه لنفسه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : «لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِهِ».
فإذا حافظ المريد على هذه الآداب وواظب عليها كان موقنا صادقًا، ونال من الله تعالى ما يبتغيه، وفقنا الله جميعا لما فيه الخير والسداد، وأنالنا رضاه إنه جواد کریم رؤوف رحیم.
٤٤٨
التصوف
وصية جامعة
السيد
ونختم هذه المجموعة بوصية جامعة لجملة من الواجبات والآداب، في رسالة كتبها مولانا وإمامنا ومنشئ طريقتنا العارف الأكبر سيدي الشيخ محمد بن الصِّدِّيق لأهل مدينة العرائش بالمغرب الأقصى وهي:
إلى إخواننا في الله وأحبائنا فيه كافّة، فقراء العرائش حفظكم الله وسلام عليكم ورحمة الله تعالى، أما بعد:
فأحبكم أحبكم الله ورسوله - أن تقوموا بالوظائف الدينية القلبية
والقالبية؛ ففيها السعادة الأُخروية والراحة الأبدية.
فمن الوظائف النطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما الذي هو ثبوت الوحدانية الله ذاتا وصفةً وفعلا، وثبوت رسالة مولانا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلّم مع تصديقه فيما جاء به عن الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه. فمنها وهو أهمها بعد الشهادتين أداء الصلوات الخمس في أوقاتها المعينة لها، مع إيقاعها في الجماعة، والإتيان شروطها من الطهارة بجميع الكبرى والصغرى، واستقبال القبلة، وستر العورة.
وإتقان الوضوء بإتقان الاستبراء الذي هو: استفراغ ما في المحلين من
الأذى، مع الاستجمار بالأحجار إن أمكن، والغسل بالماء بعده. والإتيان بجميع الفرائض والسُّنن والمستحبات، ولا بد مع هذا من
المحافظة على النوافل كالوتر والفجر والرواتب القبلية والبعدية.
ومنها: الزكاة فأدُّوها إن وجبت عليكم، ولا بد فإنها طهارة وبركة وسبب
للغنى.
الدرر النقية
٤٤٩
واحفظوا مع هذا جوارحكم التي هي: الأذن والعين واللسان والبطن واليد والفرج والرجل من المنهيات، فلا تسمعوا إلَّا الوعظ والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تنظروا إلى ما لا يحل لكم من النساء والصبيان والأمتعة، واحفظوا ألسنتكم من الكذب والغيبة والنميمة والزور والبهتان، وأيديكم من إذاية الناس في أبدانهم وأموالهم، وبطونكم من الحرام، وفروجكم من مماشة مالا يحل لكم وأرجلكم من المشي في غير طاعة الله، وقلوبكم من العجب، والكبر، والرياء، والحسد والبغض، والغل، والحقد، والغش، والخديعة، والمداهنة، وحب الرياسة والتقدم، وحب المدح وخوف الذم والاهتمام بالرزق، والخوف من الخَلْقِ. وتفكروا في مصنوعات الله، واستحضروا اطلاعه عليكم في جميع الحالات، ولا تستعظموا هذا فإنه سهل
إن استعنتم عليه بالله. ثم المؤكد به عليكم الاجتماع لذكر الله وقت فراغكم من الأشغال وخصوصا فيما بين المغرب والعشاء، وفيما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، ففي ذكر الله في هذين الوقتين من الفضل والثواب شيء عظيم، وتزاوروا في الله وتحابوا فيه، وواسوا مُحتاجكم، وصلوا أرحامكم، وعُودوا مرضاكم وتَوَاصَوا بالحقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبِرِ، واحتملوا أذى من أذاكم، ولا تجالسوا من يقطعكم عن ذِكْرِ الله ولا تخالطوه؛ فإنه يميت قلوبكم، وفي موتها فساد الدين وضعف اليقين، وفي ذكر الله ذكره ورضاه ومجالسته وطمأنينة القلب، وفي الاجتماع عليه رياض الجنة، وغشيان الرحمة، ونزول السكينة، وحفوف الملائكة، حسبما وردت به الأخبار، وصحت عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله
٤٥٠
وسلم الآثار.
التصوف
وإياكم والإنصات لمن يصدكم أو يلومكم فإنه شيطان مارد ومطرود شارد، ولا تُسيئوا لأحدٍ من عباد الله، ولا تخافوه ولا ترجوه؛ فإن الأمور كلها بيد الله لا يملك أحد لأحدٍ منها ضرا ولا نفعا ولا خفضًا ولا رفعا، وصونوا قلوبكم من الطمع في الخلق فإنه الفقر الحاضر والذل الظاهر، واعلموا أنكم إن فعلتم هذا ثبتت خصوصيتكم، ونلتم مطلوبكم من ربكم، أعانكم الله وقواكم ومن نزغات الشيطان حفظكم ووقاكم، والسلام.
ه - إرْشَادُ الأَنام
إلى ما يُتْلَى مِنَ السُّورِ والأَذْكَارِ في الأيام
إرشاد الأنام .
مقدمة
٤٥٣
الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوبُ، وتنفرج بدعائه الكروب، أحمده وأشهد أن لا إله إلا هو غفَّار الذُّنوبِ، ستّارُ العيوب، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمدا عبده ونبيه وخليله ونجيه، أرسله شاهدًا ومبشّرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، فبلغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وأقام للتوحيد أعلاما، وهدم للشّرك أوثانًا وأصناما، فصَلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وذريته، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيا عن أمته.
وبعد: فهذا كتاب "إرشاد" الأنام إلى ما يتلى منَ السُّور والأذكار في الأيام" يحتوي على فصول بعددِ أَيَّام الأسبوع، ينتظمُ كل فصل منه شيئًا من القرآن الكريم، ثمَّ بعضَ صِيَغ الصَّلاة الإبراهيميَّة ودعوات وتسبيحات وتحميدات أو استغفارات وتعوذات، والتزمنا في كل ذلك أن يكون مما ورد في السُّنَّة، ولم
نلتزم تخريج جميع ما فيه منَ الصَّلوات والأذكار والدعوات لأمرين: الأول: أنَّ التخريج يُشوِّشُ على الذاكر ويغرقُ فكره، فيفقد بذلك رُكنا هاما من أركان الذكر، وهو التدبر والتفكر.
الثاني: الاكتفاء بذكر المصادر التي نقلنا منها، وهي مصادر موثوق بها، لإمامة أصحابها، وتبريزهم في علم الحديثِ الشَّرِيفِ، والله المسئول أن يقبل
مني هذا العمل، ويُثيبني عليه، إنَّه جواد كريم واسع الفضل العميم.
٤٥٤
التصوف
المبحث الأول
كثير منَ النَّاسِ يَميلون إلى قراءةِ الأذكار والأدعية يتلمسون في قراءتها اطمئنان قلوبهم، وراحة نفوسهم، وجلاءَ صدورهم، ويُنزلون ما يعن لهم من مهمات الأمور ببابِ مولاهم وناصرهم، ويطلبون منه كشف ضرهم وكفاية ما
أهمهم
لكنهم يُقبلون على كتب الأذكار والأوراد التي ألفها مشايخ الطرق ومن على شاكلتهم يشغلون بها معظم أوقاتهم، مع أنَّ تلك الكتب تشتمل على أذكار غير واردة، والذكرُ بها جائز وإن منعه الوهَّابيون المتزمتون؛ لأنَّ الأمر بالذكر يشمل الوارد وغيره. لكن لا نزاع أنَّ الذكر الوارد أفضل وأكمل.
فهذا ما حداني إلى تأليف هذا الكتاب وجمعه مما ورد عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم عسى أن يتجه محبو الذكر وطالبوه إلى الذكر الوارد فسيجدون فيه سر الوحي ونور النبوة، وبرَكةَ التَّلاوة، ويلقون أثره نورًا في قلوبهم، وانشراحًا في صدورهم، وخشوعًا الله يستولي على أحاسيسهم وشعورهم، وحينئذ يتذوقون معنى قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: ۲۸] .
المبحث الثاني
اشتمل هذا الكتابُ على ثلاثة أشياء: سُورٍ وآياتِ، وصلوات، ودعوات
بالمعنى الشامل للتسبيحات والتحميداتِ والتَّعوذاتِ والاستغفاراتِ. فأما السور والآياتِ فاعتمدنا فيها على الأحاديث الواردة في فضلها، ابن كثير، الترغيب والترهيب" للحافظ
وهي مخرجة في: "تفسير" الحافظ
إرشاد الأنام
٤٥٥
المنذري، "المتجر الرَّابح في ثواب العمل الصالح" للحافظ الدمياطي. وأما الصَّلوات فاقتصرنا منها على الصيغ الإبراهيمية الواردة، واعتمدنا
في إيرادها على كتاب "الإعلام" بفضلِ الصَّلاة على النبي عليه الصلاة
والسَّلام" للإمام أبي عبد الله محمَّد :
بن
عبدالرحمن بن علي بن عبدالرحمن
النميري، فقد اعتنى بجمع الصيغ الواردة مع عزوها لَمَنْ رواها.
وأما الدعوات: فأخذناها من كتاب "النَّصيحة في الأدعية الصحيحة"
.
للحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي، وأخذنا بعض التسبيحات والتحميدات
من كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري.
المبحث الثالث
قال الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: ١٥٢]. وقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلوة إن الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
وقال سبحانه: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٣٥] وقال جل شأنه: ﴿يَنَايُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا
اذكرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٤١ - ٤٢]. )
وقال سبحانه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مدْرَارًا وَيُمْدِ ذكر بِأَمْوَلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلَ لَكُمْ جَنَّتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنهرا ﴾ [نوح: ۱۰ – ۱۲]،
والآيات في هذا كثيرة.
-
٤٥٦
التصوف
وفي الحديث الصحيح : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتُ عليهِمُ السَّكينةُ، وغشيتهمُ الرَّحمةُ، وحقَّتْهُم
الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
وقال صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ والحسنة بعشر أمثالها، لا أقولُ ألم حرفٌ ولكن ألف حرف ولام حرفٌ وميم
حرف» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه» رواه مسلم في "صحيحه".
وقال صلى الله عليه وآلهِ وسلَّم: عليك بتلاوة القرآن فإنَّه نور لك في
شغله
الأرض وذخر لك في السَّماء» رواه ابنُ حِبَّان في "صحيحه". وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يقول الرَّبُّ تبارك وتعالى: من . القرآن عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» رواه الترمذي وحسنه. وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مثلُ البيت الذي يُذكر الله فيه، والذي لا
يُذكر الله فيه مثل الحي والميت» رواه الشيخان.
وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرتُه في ملإ خير منهم» رواه الشيخان. وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الدُّعاء هو العبادة». رواه الترمذي
وصححه.
إرشاد الأنام
٤٥٧
أحمد.
وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» رواه الإمام
وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ لِزِمَ الاستغفار جعل الله له من كلَّ هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيثُ لا يحتسب». رواه الأربعة إِلَّا الترمذي وصححه الحاكم. وقال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦] قال البخاري في "صحيحه": قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤُه عليه عند الملائكة. وقال ابن عباس: يصلون
يبركون» . اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : والمقصود من هذه الآية أنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملإ الأعلى بأنَّه يُثني عليه عند الملائكة المقربين.
٤٥٨
التصوف
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ
يون الذين إياكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: ١ - ٧].
أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوبُ إليه (ثلاثا). هو الله، الرَّحمنُ الرَّحِيمُ، الملك، القُدُّوسُ، السَّلامُ، المؤمِنُ، المهيمِنُ، العزيز، الجبار، المتكبّر، الخالق البارئ المصوِّرُ، الغَفَّارُ، القهَّارُ، التَوَّابُ، الوهاب، الخلاق، الرَّزَّاقُ الفتّاحُ العليم، الحليم العظيم، الواسع، الحكيم، الحي القيوم، السَّميعُ، البصيرُ، اللَّطيف، الخبير، العلي، الكبير، المحيط، القدير، المولى، النَّصيرُ ، الكريمُ الرَّقيبُ ، القريب المجيب، الوكيل، الحسيب، الحفيظ، المقيتُ، الودود ، المجيد، الوارث، الشهيد، الولي، الحميد، الحق، المبين، القوي المتين، الغنيُّ ، المالك، الشَّديد القادر، المقتدر، القاهر، الكافي، الشاكر، المستعان، الفاطر، البديع، الغافر، الأول، الآخرُ، الظَّاهرُ، الباطنُ، الكفيل، الغالب، الحكم، العالم الرَّفيعُ ، الحافظ، المنتقم، القائم، المحيي، الجامع، المليك، المتعال، النورُ، الهادي الغفورُ، الشَّكورُ، العفو، الرؤوفُ، الأكرم، الأعلى، البر، الحفي، الربّ، الإله، الواحد، الأحد، الصَّمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
تنزه عن الشريك والمعاند، وتقدَّسَ عن أن يكون له ظهير أو مساعد، أوجد المخلوقاتِ ببديعِ صُنْعه، وعظيمٍ قدرته وصرف أمورهم على مقتضى حكمته، ويسرهم لما قضَاهُ في سابق مشيئته، لا راد لما قضاه ولا مانع لما أعطاه،
إرشاد الأنام
٤٥٩
بيده الميزان، يخفضُ ويرفعُ، ويعطي ويمنعُ، ويضر وينفع، لا ملجأ منه إلَّا إليه ولا اعتماد إلا عليه، حي لا يموتُ، والملائكة والجن والإنس يموتون، كلُّ شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجَعُون.
أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عددًا، يعلم ما تكنه الضمائر وما تنطوي عليه السرائر، وما يعزب عن ربِّك من مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السَّماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلَّا في كتاب مبين.
لا تحتويه الجهات، ولا تمرُّ عليه السُّنون والأوقات السماوات والأرضُ في قبضته ، والخلقُ جميعًا تحتَ قهر سطوته، وكل شيء خاضع لعظمته لا تشبه ذاته الذوات، ولا تلحقه سمات المحدثاتِ، يكشف الكربات، ويستر السوءاتِ، ويغفرُ الزَّلَّاتِ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهار، ويبسط يده بالنَّهار ليتوب مسيء الليل، الكبرياء رداؤُه، والعظمة إزاره، والنُّورُ حجابه، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
اللهم أنت أجود من سُئل ، وأوسعُ من أعطى، وأنت الملك لا شريك لك، والفرد لا يدَّ لك، كلُّ شيءٍ هالك إلا وجهك، لن تُطاع إلا بإذنك، ولن تُعصَى إلا بعلمك، أخذت بالنواصي، وكتبت الآثار ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، والحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت والخلقُ خلقك والعبد عبدك، وأنت الله الرّؤوف
الرَّحيم.
نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السَّماوات والأرضُ، أن تستر
عوراتنا، وتؤمن روعاتنا، وأن تعافينا من كل سوء وبلية.
٤٦٠
التصوف
اللهمَّ إِنَّا نعوذ بك من دركِ الشَّقاء وجهد البلاء، وشماتة الأعداء. تبارك اسمك وجل ثناؤك وعزّ جارك ولا إله غيرك. ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلَّا أنت، يا ذا الجلال والإكرام، ويا ذا الطول والإنعام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
إرشاد الأنام
٤٦١
(سورة الكهف).
الفصل الأول: وِرْدُ يوم الجمعة
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيمَ إِنَّك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيمَ إِنَّك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيمَ إِنَّك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيمَ إِنَّك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيمَ وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد،
٤٦٢
التصوف
والسَّلام عليك أيُّها النَّبي ورحمة الله وبركاته.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا
محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورًا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي
نورا.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامُ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: ۱۸۰ - ۱۸۲].
إرشاد الأنام
(سورة يس).
الفصل الثاني: وِرْدُ يوم السبت
٤٦٣
اللهم اجعل صلواتك وبركاتِك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد،
كما جعلتها على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيمَ إِنَّك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى أزواجه وذريَّته، كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وأزواجه وذريَّتِه، كما باركت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك، كما صليت على آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا
إبراهيم.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك كما صليت على سيدنا إبراهيم
وبارك على سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا
إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم.
اللهم آتنا في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عَذابَ النَّارِ.
اللَّهمَّ إِنِّي أعوذُ بكَ مِنَ الهم والحزن، والبخل والجبن، وضِلَعِ الدِّينِ وغَلَبَةِ
٤٦٤
التصوف
الرجال والهرم، وأعوذُ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والمماتِ،
وأرذل العمر.
اللهم إنِّي ظلمت نفسي ظلما كثيرًا ولا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا أَنتَ، فاغفر لي
مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفورُ الرَّحيم.
اللهم اغفر خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني،
اللهمَّ اغفر لي جَدّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررت وما أعلنتُ، وما أنتَ
أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخِّرُ وأنت على كل شيء قدير. اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذابِ النَّار، وفتنة القبر وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. اللَّهم اغسل خطاياي بالماء والثّلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثَّوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
والمغرب.
اللَّهمَّ إِنِّي أعوذُ بك من الكسل والهَرَمِ والمغرم والمأثمِ. اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك
عصمة
من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء وشماتة الأعداء. اللهم إني أسألك الهدى والسداد. اللهم أصلح لي ديني الذي هو : أمري، وأصلح لي دنياي التي هي معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر. اللهم إني أعوذُ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذابِ . اللَّهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
القبر.
إرشاد الأنام .
٤٦٥
اللَّهمَّ إِنِّي أعوذُ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا
تشبع ومن دعوة لا يُستجاب لها.
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك،
ومن جميع سخطك. اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السَّماواتِ والأرض عالم الغيب والشَّهادةِ أنت تحكم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف
فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَنْ تشاءُ إلى صراط مستقيم. اللَّهمَّ رَبَّ السَّماواتِ وربَّ الأرضِ وربَّ العرش العظيمِ، ربنا وربَّ كلِّ شيء فالق الحبّ والنَّوى، مُنزّل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذُ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك
شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر.
سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) وَسَلَامُ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: ۱۸۰ - ۱۸۲].
٤٦٦
التصوف
(سورة الإسراء).
الفصل الثالث: ورد يوم الأحد
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على آل سيدنا إبراهيم في العالمينَ إِنَّك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على آل سيدنا إبراهيم في العالمينَ إِنَّك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم صل على سيدنا محمّد النَّبيِّ الأُمِّي وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد النَّبِيِّ الأُمي وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمَّد النَّبيِّ الأُمِّي وعلى آل سيدنا محمد كما صلَّيتَ على سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمَّد النَّبِيِّ الأُمِّي كما باركت على سيدنا
إرشاد الأنام .
٤٦٧
إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إني أعوذُ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك
منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. اللهم أعني ولا تُعنّ عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر
علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على منْ بغَى عليَّ.
اللهم اجعلني لك شكارًا، لك ذكارًا، لك رهابًا، إليكَ مِطَوَاعًا إليك مُحبتا أواها منيبا، ربِّ تقبل توبتي واغسل حويتي، وأجب دعوتي وثبت حُجَّتي
واهد قلبي، وسدد لساني، واسْلُلْ سَخِيمة قلبي.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) وَسَلَامُ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: ۱۸۰ - ۱۸۲].
٤٦٨
التصوف
(سورة الزمر).
الفصل الرابع ورد يوم الإثنين
اللهم صل على سيدنا محمَّد النَّبيِّ الأُمِّي وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على آل سيدنا إبراهيم، اللهم بارك على سيدنا محمد كما باركت على آل سيدنا إبراهيم، اللهم صل على سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على سيدنا محمد
وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على آ