المجلد الثاني عشر : كتاب الأدب والمتفرقات
ويحتوي على:
١ - حُسْنُ البَيانِ في ليلة النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ. ٢ - غايةُ الإِحْسانِ في فَضْلِ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَفَضْلِ رَمَضَانَ. ٣- إتحاف النبلاء في فَضْلِ الشَّهَادَةِ وأنواع الشهداء. القولُ المسموع في بيان الهجر المشروع.
ه - النَّفْحَةُ النَّكِيةُ فِي أَنَّ الهَجْرَ بِدْعَةٌ شِرْكِيَّةٌ. ٦ - قَمْعُ الأَشْرَارِ عَن جَرِيمَةِ الأَنْتحَارِ.
۷ - الرؤيا في الكِتابِ والسُّنَّةِ.
۱ - حُسْنُ البَيَان
فِي لَيْلَةِ النَّصْفِ مِن شَعْبان
حسن البیان
१
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا دائما بدوامك، ولك الحمد حمدًا باقيا ببقائك، ولك الحمد حمدا لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدا لا جزاء لقائله إِلَّا رضاك. ونسألك اللهم أن تُصَلِّي أفضل الصلوات، وتسلّم أكمل التسليمات، على من جعلت وجوده ،نعمةً ورسالته رحمةً، وفضلته على جميع المخلوقات، وشرفت به عالم الأرض والسموات سيدنا محمد عبدك النبي الأمي، الطاهر الزَّكي، وارضَ اللهم عن آله بحور النَّدَى، وليوث العِدَى، الذين طهرتهم من الرَّجْسِ تَطْهِيرًا، وأعطيتهم فضلًا كبيرًا، فكانوا سادة الأمة، وهداة الأئمة. إنَّ عُدَّ أَهْلُ التَّقَى كانوا أتَمَّتَهُم أوقِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ وأصحابه اللذين ناصَرُوه ونَصَرُوه، وآزَرُوه وعَزَّرُوه وحَفِظُوا حُرمَته، وبلغوا شريعته، ففازوا بالعِزَّة في الأولى والسعادة في الأخرة، أولئك حزب الله
أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: ٢٢]. أما بعد: فإنَّ الله جلت قدرته وتعالت عَظَمَتُه، فاوت بين خَلْقِه في المناصب، وجعلهم طبقاتٍ مُتباينة المراتب، فمنهم رسل وأنبياء، وصديقون وشهداء، وعلماء أفاضل، ونُجباء ،أماثل، ومنهم كَفَّارٌ فَجَرَةٌ، وفُسَاقٌ خَسَرَةٌ وجَهَلَةٌ أغبياء، ومَلاحِدَةٌ أشقياء، ليتميّز الشَّقِيُّ من السَّعِيد، والمقرَّب مِن البعيد، وليظهر عليهم فضل الله وعَدْلُه ، وتَنْفُذَ فيهم مَشِيئتُهُ وحُكْمُهُ، ولو شاء ربُّك لجعل النَّاسَ أُمَّةً واحدةً، لكن أراد أن تتجلى آثار ربوبيته، ويتبيَّن للعقلاء
الأدب والمتفرقات
عجزهم عن فهم خَفِي حِكمته، وكما فاوت - سبحانه- بين أنواع الإنسان، فاوت بين أنواع الأمكنة والأزمان، فجعل لبعض الأماكن فضلا على غيرها في العبادة والدُّعاء، وجعل بعض الأزمنة مواسم للهبة والعطاء، )
ومن
ذلك
مَغْفِرتِهِ،
ليلة النصف من شعبان، التي يتجلّى الله فيها على خَلْقِهِ . بعموم وشمول رحمتِه، فيغفر للمُستغفرين، ويرحم المسترحمين ويُجيب دعاء السائلين، ويُفرج عن المكروبين، ويُعْتِقَ فيها جماعةٌ مِن النَّارِ، ويكتب فيها الأرزاق
والأعمال. وقد اشتهر فضل هذه الليلة قديمًا عند الناس، فكانوا يُحيونها بالعبادة والذكر والدعاء، وإن اختلفوا في صفة إحيائها هل يكون جماعة أو فرادى؟ وهل يكون في المسجد أو البيت؟ وهل تخصيصها بشيء زائد من العبادة على سائر الليالي بدعة؟ أو غير بدعة؟ ذهب إلى كل من هذه الأقوال قائل، ورجّح ما ذهب إليه بما تيسر لديه من الدلائل، والأحاديث في هذا الباب لا تخلو من ضعف أو انقطاع، وإن كان بعضها أخف ضعفًا وأولى بالاتباع، ولا سيّما وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ في الليلِ ِلسَاعَةً لا يُوافِقُها رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِن أَمْرِ الدُّنيا والآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ». وذلك كل ليلة، ولا شك أن ليلة النصف تدخل في هذا العموم؛ فيتأكد قيامها والاجتهاد بالعبادة فيها، عسى أن تشمل المتعبد فيها عنايةً من الله تمحو أوزاره وذنوبه، وتُفرّج كروبه، وتَسْتُر عُيوبه.
حسن البیان
۱۱
ففي "معجم الطبراني" وغيره، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اطْلُبُوا الخَيْرَ دَهْرَكُم وتَعَرَّضُوا لَنَفَحَاتِ رَحْمَةِ رَبِّكُم؛ فَإِنَّ اللَّه نَفَحَاتٍ مِن رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بها مَن يشاءُ مِن عِبادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ ويُؤْمنَ رَوْعَاتِكُمْ». وسيأتي حديث محمد بن مسلمة بمعناه في هذه الرسالة إن
شاء الله .
۱۲
الأدب والمتفرقات
فصل
سألني كثير من الناس في عِدَّة مناسبات عمَّما ورد في ليلة النصف من شعبان من الصلاة والدعاء وغيرهما، فكنت أجيبهم بما يحضرني في ذلك إمَّا مشافهة باللسان أو كتابة في المجلات الإسلامية، ولم أُدون ما أجبت به في كتاب خاص
لأني كنت أراه لضالته - لا يستحق التدوين، حتى كانت هذه السنة وعاد سؤال الناس كعادتهم، رأيت أن أُحَرِّر رسالة صغيرة الحجم، غزيرة العلم، كثيرة الفوائد والدُّرَر، قليلة الفُضُول والهذر، واستعنت الله على إنشاءها وإتمامها في ظرف يسير مِن الزَّمان، فله الحمد وله الشكر وهو المستعان وعليه التكلان، وسميتها: "حُسْنُ البيان في لَيْلَةِ النَّصْفِ مِن شَعْبَان".
وفي هذا الموضوع مؤلفات كثيرة الجماعة من العلماء، منها كتاب: " الايضاح والبيان" لابن حجر الهيتمي الفقيه الشافعي، ومن قبله ألف الحافظ أبو الخطاب بن دحية الأندلسي كتاب: "ما جاء في شهر شعبان"، وللعلامة الأجهوري شيخ المالكية في عصره كتاب في ليلة النصف أيضًا، وليس من غرضنا استقصاء ما كتب في هذا الباب؛ فإن ذلك يطول، ولكن غرضنا الإشارة والتنبيه والله الموفق لا رب غيره ولا خير إلا خيره.
بدء الاحتفال بليلة النصف من شعبان
كان بدء الاحتفال بهذه الليلة أنّ التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان ا ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم كانوا يعظمونها، ويجتهدون في العبادة فيها ويقال: بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، وعنهم أخذ الناس تعظيمها واشتهر
حسن البیان
۱۳
أمرها في البلاد الإسلامية، وحصل الخلاف بين العلماء فيها؛ فأمَّا طائفةٌ مِن عباد أهل البصرة وغيرهم فوافقوا أهل الشام تعظيم هذه الليلة، وأما أكثر علماء الحجاز فأنكروا ذلك وقالوا بل هو بدعة، منهم عطاء وابن أبي مليكة، وفقهاء أهل المدينة فيما نقله عنهم عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وهذا قول أصحاب مالك وغيرهم.
وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال ما أدركنا أحدًا من مشيختنا ولا فقهائنا - يعني بالمدينة - يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلا على سواها.
وقيل لابن أبي مليكة إنَّ زيادًا النميري يقول: إنَّ أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر فقال : لو سمعته وبيدي عصا لضربته، وكان زياد قاصا.
صفة إحياء هذه الليلة
اختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها فمنهم من قال يُستحَبُّ إحياؤها في المساجد جماعة؛ وهذا رأي خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما فإنهم كانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخّرون ويتكحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك فقال في قيامها في المسجد جماعة: «ليس ذلك ببدعةٍ»، نقله عنه حرب الكرماني في "مسائله" ومنهم من قال : يكره الاجتماع فيها للصلاة والقصص والدُّعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها الخاصة نفسه وهذا قول الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام.
وذهب إلى ترجيح الأوّل مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه فإنه كان يأمر
١٤
الأدب والمتفرقات
الأخوان بإحياء هذه الليلة في الزاوية الصدِّيقيَّة بالذكر والقرآن والدعاء، ثُمَّ
يتفرقون عن ذَوَاقٍ.
وقد نقل البيهقي في "السنن الكبرى" عن الإمام الشافعي أنه قال: «بلغنا أنه كان يقال: إنَّ الدعاء يُستجاب في خمس ليال؛ في ليلة الجمعة، وليلة الأضحى، وليلة الفِطَّر، وأوَّل ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان». وورد عن عمر بن عبدالعزيز أنه كتب إلى عامله بالبصرة: «عليك بأربع ليال من السنة فإنَّ الله يُفرغ فيهنَّ الرحمة إفراغا: أول ليلة من رجب، وليلة
النصف من شعبان، وليلة الفِطر، وليلة الأضحى».
فضل هذه الليلة
ورد في فضل هذه الليلة وقيامها واستجابة الدعاء فيها أحاديث لا تخلو من مقال حتى قال أبوبكر بن العربي المعافري : ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه». وإن كان في هذا غلو وإفراط، ونحن هنا نلخص ما ورد من الأحاديث والآثار مع الأشارة إلى ما فيها من ضعف وإعلال، سالكين طريق الإنصاف كما هو شأننا - إن شاء الله - في كل ما نكتب وبالله التوفيق.
الحديث الأول
الله عنه، عن
أخرج ابن ماجه في "سننه": عن علي بن أبي طالب رضي ) النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا كانت ليلةُ النَّصْفِ مِن شعبانَ، فقُومُوا لَيْلَهَا، وصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إلى سماء الدنيا، فيقول: أَلَا مِن مُسْتَغْفِرِ لي فأغْفِرَ لَهُ، أَلَا مُسْتَرْزِقُ فَارْزُقَهُ، أَلَا مُبْتَلِّى فأُعَافِيَه، ألا كذا ألا كذا، حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ».
حسن البیان
١٥
وهكذا رواه عبدالرزاق وغيره، وفي سنده أبو بكر بن عبدالله بن أبي سبرة،
متروك، وقال أحمد: «كان يضع الحديث ويكذب».
الحديث الثاني
أخرج الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال: «أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَن يَحِيفَ الله عليك ورَسُولُهُ»، قلتُ: يا رسول الله، إنّي . أَنَّكَ أَتيْتَ بعضَ نِسَائِكَ ، فقال: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النَّصْفِ مِن شعبانَ إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَغْفِرُ لأكثرَ مِن عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ».
قال الترمذي : حديث عائشة لا نعرفه إلَّا مِن هذا الوجه، وسمعت محمدًا - يعني البخاري - يُضعف هذا الحديث ؛ وذلك لأن فيه انقطاعا في موضعين».
الحديث الثالث
أخرج ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ في ليلةِ النَّصْفِ مِن شَعِبانَ فَيَغْفِرُ لَجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لمُشْرِك أو مُشَاحِنٍ». وهو من رواية ابن لهيعة وفيه كلام، عن الضَّحَّاك بن أيمن
الكلبي قال الذهبي: «لا يُدرَى مَن هو ».
الحديث الرابع
أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «إنَّ اللهَ ليَطَّلِعُ إلى خَلْقِهِ ليلةَ النَّصْفِ مِن شعبانَ، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لَاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وقَاتِلِ نَفْسٍ». وإسناده لين كما قال الحافظ المنذري.
١٦
الأدب والمتفرقات
الحديث الخامس
أخرج الطبراني، وابن حِبَّان في "صحيحه" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلى جَمِيعِ خَلْقِهِ لَيْلَةَ النَّصْفِ من شعبان، فيَغْفِرُ لَجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا تُشْرِك أَو مُشَاحِنٍ».
رضي
الحديث السادس
أخرج الطبراني، والبيهقي، من طريق مَكْحُولٍ، عن أبي ثعلبة الخشني الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يَطَّلِعُ اللَّهُ عَبَادَهُ لَيْلَةَ النَّصْفِ مِن شَعْبانَ، فَيَغْفِرُ للمؤمنينَ، ويُمْهِلُ الكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ». قال البيهقي: وهو بين مكحول وأبي ثعلبة مرسل جيد» . اهـ قلت: فيكون فيه انقطاع؛ لأن مكحولا لم يسمع من أبي ثعلبة.
الحديث السابع
أخرج البزار والبيهقي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : «يَنْزِلُ اللهُ إلى السَّماءِ الدُّنيا لَيْلَةَ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا لَرَجُلٍ مُشْرِكِ، أو رَجُلٍ فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ». وإسناده لا بأس به كما قال الحافظ المنذري.
الحديث الثامن
أخرج البيهقي بإسناد ضعيف عن عثمان بن أبي العاص، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : «إذا كان لَيْلَةُ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ نَادَى مُنَادٍ: هَل مِن مُسْتَغْفِرِ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هل مِن سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ فَلا يَسْأَلُ أَحَدٌ شَيئًا إِلَّا أُعْطِي إِلَّا زَانِيَةً
حسن البیان
۱۷
بفَرْجِهَا أو مُشْرِكًا». هكذا جاء في رواية البيهقي.
عن
وجاء في رواية غيره مطلقا غير مقيد بليلة النصف، ففي ' "المسند" الحسن البصري قال : مرَّ عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة، فقال: ما يُجلسك هنا؟ قال : استعملني على هذا - يعني زيادًا - فقال له عثمان: ألا أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله
المكان - يعني )
صلى الله عليه وآله وسلَّم ؟ فقال : بلى، فقال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كان لداودَ نبي الله عليه السلام ساعَةٌ يُوقِظُ فيها أَهْلَهُ، يقول يا آل داود، قومُوا فَصَلُّوا فإِنَّ هذه السَّاعَةَ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ فيها الدُّعاءَ إِلَّا
لسَاحِرٍ أو عَاشِر فركب كلاب بن أمية سفينة فأتى زيادًا فاستعفاه فأعفاه. رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «تُفْتَحُ أبوابُ السَّماءِ نِصْفَ اللَّيْلِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: هل مِن دَاعٍ فيُسْتَجَابَ له، هَل مِن سَائِلٍ فَيُعْطَى، هل مِن مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ . عنه، فلا يَبْقَى مُسْلِمٌ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلَّا اسْتَجَابَ الله عزَّ وجلَّ له، إِلَّا زَانِيَةً تَسْعَى بِفَرْجِهَا، أو عَشَارًا». ولا تنافي بين هذه الروايات كما لا يخفى على أنَّ ليلة النصف تشملها رواية أحمد والطبراني بطريق العموم.
الحديث التاسع
أخرج البيهقي عن العلاء بن الحرث: أنَّ عائشة قالت: قَامَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مِن الليل يُصَلِّي فأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قد قبِضَ ، فلما رأيتُ ذلك قُمتُ حتَّى حَرَّكْتُ إنهامَهُ فَتَحَرَّكَ ، فَرَجَعْتُ ، فلما رَفَعَ
إلى رأسَهُ مِن السُّجُودِ ، وفَرَغَ مِن صلاتِهِ، قال: «يا عائشة - أو يا حميراء -
۱۸
الأدب والمتفرقات
أَظَنَنْتِ أَنَّ النبيَّ قد خَاسَ بِكِ؟ قلتُ: لا والله يا رسول الله ولكنني ظَنَنتُ أنَّك قُبِضْتَ لطول سجودك، فقال: «اتَدْرِينَ أَيَّ لَيْلَةٍ هَذِهِ؟» قلتُ: الله ورسولُهُ أعلم، قال: «هذه ليلةُ النّصْفِ مِن شَعْبَانَ، إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ على عِبادِهِ فِي ليلة النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ المُسْتَغْفِرِينَ، وَيَرْحَمُ المُسْتَرْحِمِينَ، وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الحقد كما هم». قال البيهقي: «هذا مرسل جيد، ويحتمل أن يكون العلاء أخذه من مكحول . اهـ
الحديث العاشر
أخرج البيهقي عن مكحول، عن كثير بن مُرَّة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : « فِي لَيْلَةِ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا مُشْرِكًا أو
مُشَاحِنًا». قال البيهقي: «هذا مرسل جيد» . اهـ قلت: لأن كثير بن مرة تابعي.
حسن البیان
الآثار الواردة في هذه الليلة
۱۹
وأما الآثار فمنها ما ورد عن نَوفِ البِكَالي: أنَّ عليا عليه السلام خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها ينظر إلى السماء فقال: إنَّ هذه الساعة ما دعا الله أحدٌ إلَّا أجابه، ولا استغفره أحدٌ في هذه الليلة إِلَّا غَفَرَ له، ما لم يكن عشَارًا أو ساحرًا أو شاعِرًا أو كاهِنًا أو عريفًا أو شرطيًا أو جابيًا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف: «الكوبة» الطبل. و«الغرطبة»: الطنبور - اللهم رب داود، اغفر لمن دعاك في هذه الليلة ولمن استغفرك فيها.
ومنها ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" قال: حدثنا أبو معشر، عن أبي حازم ومحمد بن قيس، عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان؛ ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك، أو مشاحن، أو قاطع رحم.
فيستفاد من هذه الأحاديث والأثار استحباب قيام هذه الليلة والاجتهاد فيها بتلاوة القرآن والذكر والدُّعاء تعرضًا لنفحات رحمة الله، كما جاء في حديث رواه الطبراني وغيره عن محمد بن مسلمة مرفوعا: «إِنَّ الله في أيام الدَّهْرِ نَفَحَاتُ فتَعَرَّضُوا لها، فلعلَّ أَحَدَكُم أَن تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا». وما أحسن قول بعض الفضلاء: فقُمْ لَيْلَةَ النَّصْفِ الشَّرِيفِ مُصَلِّيَا فَأَشْرَفُ هذا الشَّهْرِ لَيْلَةُ نِصْفِهِ فكم من فتى قَدْ بَاتَ في النِّصْفِ آمِنًا وقد نُسِخَتْ فِيهِ صَحِيفَةُ حَيْفِهِ فَبَادِرُ بِفِعْلِ الخَيْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ وحَاذِرٌ هُجُومَ المَوْتِ فِيهِ بصرفِهِ وصم يَوْمَهُ الله واحْسِنُ رَجَاءَوهُ لتَظْفَرَ عند الكَرْبِ مِنْهُ بِلُطْفِهِ
الأدب والمتفرقات
ما يقال من الدعاء في هذه الليلة
ورَدَ في ذلك حديثان عن عائشة رواهما البيهقي :
أحدهما: عنها قالت: دَخَلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فوَضَعَ عنه ثَوْبَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَتِمَّ أَنْ قامَ فَلَبِسَهُما؛ فَأَخَذَتْني غَيْرَةٌ شديدةٌ ظَنَنْتُ أَنَّهُ يأتي بعض صُوَيْحِباتي، فَخَرَجْتُ أَتبَعَهُ فَأَدْرَكْتُهُ بالبَقِيعِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ- يَسْتَغْفِرُ للمؤمنين والمؤمنات والشُّهداء، فقلتُ بأبي وأُمِّي أنتَ في حاجةِ رَبِّكَ، وأنا في حاجةِ الدُّنيا فَانْصَرَفْتُ، فَدَخَلْتُ حُجْرَتي وَلي نَفَس عالٍ، ولحقني رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «ما هذا النَّفَسُ يا عائشة؟»، فقلتُ: بأبي وأُمي أتيتني فوضَعْتَ عنك ثَوْبَيكَ ثُمَّ لَمَّ تَسْتَتِمَّ أَنْ قمتَ فَلَبِسْتَهُما فَأَخَذَتني غَيْرَةٌ شديدة، ظَنَنتُ أَنَّكَ تأتي بعضَ صُوَتِحِباتي حتَّى رأيتُكَ بالبَقِيعِ تَصْنَعُ ما تصنع، قال: يا عائشةُ، أكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عليك ورسوله، بل أتاني جبريل عليه السَّلام، فقال: هذه الليله ليلةُ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ واللَّهُ فِيهَا مُتَقَاءُ مِن النَّارِ بِعَدَدِ شُعُورِ غَنَمِ كَلْبِ لا يَنْظُرُ الله فيها إلى مُشْرِكِ، ولا إلى مُشَاحِنٍ، ولا إلى قَاطِعِ رَحِمٍ، ولا إلى مُسْبِلٍ، ولا إلى عَاقٌ لِوَالِدَيْهِ، ولا إلى مُؤْمِنِ خَمْرٍ» قالت: ثُمَّ وَضَعَ عنه ثَوْبَيْهِ، فقال لي: «يا عائشةُ تَأْذَنِينَ لي في قيام هذه اللَّيلةِ؟»، فقلت: نعم بأبي وأُمِّي، فقام فَسَجَدَ ليلا طويلًا حتَّى ظننتُ أَنَّهُ قُبِضَ، فقمتُ الْتَمِسُهُ، ووضَعْتُ يَدِي على باطن قَدَمَيْهِ فَتَحَرَّكَ فَفَرِحْتُ وسَمِعْتُهُ يقول في سجُودِهِ: «أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِن عِقَابِكَ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، جَلَّ وَجْهُكَ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عليك أنتَ كما أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ»، فلما
حسن البیان
۲۱
أصبحَ ذَكَرْتُهُنَّ له فقال: «يا عائشةُ تَعَلَّمْتِهُنَّ؟»، فقلتُ: نَعَمْ، فقال: «تَعَلَّمِيهِنَّ وَعَلْمِيهِنَّ ، فإِنَّ جبريل عليه السَّلام عَلَّمَنِيهِنَّ وَأَمَرَنِي أَن أُرَدْدَهُنَّ فِي السُّجُودِ» ثانيهما: عنها قالت: كانت ليلةُ النّصف من شعبان ليلتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عندي، فلما كان في جَوْفِ اللَّيلِ فقدتُهُ، فَأَخَذَنِي ما يأخُذُ النِّسَاءَ مِن الغَيْرَةِ فتلقَّفتُ بمِرْطي أما والله ما كان خَقٌّ، وَلا قَزْ، ولا حَرِيرٌ، ولا ديباج، ولا قُطْنٌ، ولا كَتَّان، قيل لها مِمَّ كان يا أم المؤمنين؟، قالت: كان سُدَاهُ شَعرًا ومُحمَتُهُ مِن أوبارِ الإبل، قالت: فطَلَبْتُهُ في حُجَرِ نِسَائِهِ فلم أجده فانصرفت إلى حجرتي فإذا أنا به كالثّوبِ السَّاقِطِ وهو يقول في سجوده: «سَجَدَ لَكَ خَيَالِي وسَوَادِي، وآمَنَ بك فُؤادي، فهذه يَدِي ومَا جَنَيْتُ بها عَلَى نَفْسِي يا عَظِيمُ يُرْجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ، يَا عَظِيمُ اغْفِرِ الذَّنْبَ العَظيمَ، سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلْقَهُ وشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رأسَهُ، ثُمَّ عادَ ساجدًا، فقال: «أعوذُ برضاك مِن سَخَطِكَ، وأعوذُ بعَفْوِكَ مِن عقابك، وأعوذُ بك مِنْكَ لا أُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نَفْسِكَ، أقول كما قال أخي داودُ، أَعْفُرُ وَجْهِي فِي الترابِ لسَيَّدي، وحَقٌّ له أنْ يُسْجَدَ»، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فقال: «اللهم ارزقني قَلْبًا تَقِيًّا مِن الشَّرِّ نَقِيَّا لا جافيًا ولا شَقِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَدَخَلَ معي في الحَمِيلَةِ ولي نَفَسٌ عَال، فقال: «ما هذا النَّفَسُ يا مُحَميرَاءُ؟»، فأخبرتُهُ فَطَفِقَ يمسح بيديه على رُكبتي، وهو يقول: «وَيْحَ هاتين الرُّكبتين ما لَقِينَا هذه الليلة، ليلة النُّصْفِ مِن شعبانَ يَنْزِلُ اللهُ تعالى فيها إلى السَّماءِ الدُّنيا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا الْمُشْرِكَ وَالْمُشَاحِنَ». وهذا الحديثان ضعيفان.
۲۲
الأدب والمتفرقات
أصل الدعاء المشهور بين العوام
اعلم أن الدعاء الذي يقرأه الناس بعد صلاة المغرب من هذه الليلة لا
أصل له بتلك الكيفية المعروفة، وقراءة سورة يس) ثلاث مراتٍ كل مرَّةٍ بنيَّةٍ،
والصَّلاة التي يصلونها بين الدعاء والدعاء بنية خاصة لقضاء حاجةٍ مُعيَّنةٍ، كل ذلك باطل لا أصل له، ولا تصح الصلاة إلا بنية خالصة لله تعالى، لا لأجل
غرض من الأغراض؛ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ : [البيئة: ٥] وحديث: «يس لِما قُرِئَتْ لَهُ». باطل مكذوب وإن اغتر به كثير من الناس، فينبغي اجتناب هذه الأمور وتنبيه العامة إلى اجتنابها، وتعليمهم ما ينبغي فعله في هذه الليلة مما ورد في الأحاديث السابقة، فهي وإن كانت ضعيفةً خير مما ابتدعه الناس، والضعيف يُعمَل به في فضائل الأعمال بشروط معروفة في محلها، وقد ذكرتها بأمثلتها في مقدمة " الأربعين الغمارية". نعم، وردت جمل من ذلك الدعاء عن ابن مسعودٍ فقد أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" وابن أبي الدنيا في "الدعاء" عنه قال: ما دَعَا قط عبد بهذه الدَّعَوَاتِ إِلَّا وَسَّعَ الله عليه في مَعِيشَتِهِ يا ذَا المَنَّ فلا يُمَنَّ عليك، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام لا إله إلَّا أَنتَ، ظَهْرُ اللَّاجِثِينَ، وَجَارُ المُسْتَجِيرِينَ، وَمَأْمَنُ الخَائِفِينَ، إن كنتَ كتبتني عندك في أُمَّ الكتابِ شَقِيًّا، فامْحُ عَنِّي اسمَ الشَّقَاءِ، وأثبتني عندك سَعِيدًا مُوَفَّقًا للخير، فإنَّك تقول في كتابك:
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: ٣٩].
هذا أصل الدعاء كما ورد وهو مع ضَعْفِه غير مُقيَّد بليلة النصف من
حسن البیان
۲۳
شعبان ولا بساعة من ساعتها، ثُمَّ هو مبني على جواز المحوِ والإثبات في الأرزاق والشقاء والسعادة، وفي ذلك خلاف بين العلماء من الصحابة وغيرهم
ليس هذا محل بسطه.
أما مازيد في الدعاء بعد ذلك من قولهم: «إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شعبان المكرم.... إلخ، فهو من زيادة الشيخ ماء العينين الشنقيطي، ذكره في كتاب "نعت "البدايات" وكتب هذا الشيخ ملأى بالأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ لأنه لم يكن من أهل الحديث.
هل هذه الليلة تنسخ فيها الآجال؟
قال الله تعالى في أول (سورة الدخان) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: ٣ - ٤] الآية، فذهب عكرمة وغيره من المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان، ووردت في ذلك أحاديث ضعيفة، بعضها أشد ضعفًا من بعض، ولا بأس أن نذكرها تتميما للفائدة فنقول : الحديث الأول
أخرج الخطيب في "التاريخ" من طريق عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم شعبان كله حتّى يصله برمضان، ولم يكن يصوم شهرًا تامًا إِلَّا شعبان فإنه كان يصومه كله، فقلت: يا رسول الله إنَّ شعبان لمن أحب الشهور إليك أن تصومه ! فقال: «نعم يا عائشة، إنه ليس نفس تموتُ في سَنَةٍ إِلَّا كُتِبَ
٢٤
الأدب والمتفرقات
أَجَلُها في شعبانَ، وأُحِبُّ أن يُكتَبَ أجلي وأنا في عبادة ربي، وعمل صالح». ورواه
أبو يعلى بنحوه.
الحديث الثاني
أخرج البيهقي في كتاب الدعوات الكبير" عنها: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قام يُصَلِّي ليلة النصف من شعبان وقال: «في هذه الليلةِ يُكْتَبُ كُلُّ مُوْلُودٍ وهَالِكِ مِن بني آدمَ، وفيها تُرْفَعُ أَعْمَاهُم، وَتَنْزِلُ أَرْزَاتُهُمْ». قال البيهقي:
في هذا الإسناد بعض مَن يُجهَل».
الحديث الثالث
أخرج حميدُ بن زَنْجَوَيْه والديلمي : عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تُقْطَعُ الآجَالُ مِن شعبان إلى شعبان، حَتَّى إِنَّ الرجُلَ لَيَنْكِحُ ويُولَدُ له وقد خَرَجَ اسْمُهُ فِي المَوْتَى».
الحديث الرابع
أخرج الخطيب في "رواة مالك" عن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «يَفْتَحُ اللهُ الخَيْرَ في أربع ليالٍ: لَيْلَةِ الأَضْحَى، ولَيْلَةِ الفِطْرِ، ولَيْلَةِ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ يُنسَخُ فيها الآجال والآرزاقُ، ويُكتَبُ فيها
الحاج، وفي لَيْلَةِ عَرَفَة إلى الأذان».
الحديث الخامس
قال حَميدُ بن زَنْجَوَيْه: حدثنا عبد الله بن صالح: ثنا الليث، عن عقيل، عن
الزهري قال: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: قال رسول الله
حسن البیان
٢٥
صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تُقْطَعُ الآجَالُ مِن شعبان إلى شعبانَ، حَتَّى إِنَّ
الرُّجَلَ يَنْكِحُ ويُولَدُ له وقد خرج اسْمُهُ في المَوْتَى».
قال الزهري: وحدثني أيضًا عثمان بن محمد بن المغيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما مِن يومٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ إِلَّا يقول: مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَعْمَلَ فَيَّ خَيْرًا فَليَعْمَلْهُ فَإِنِّي غير مُكر عليكم أبدًا، وما من يومٍ إِلَّا يُنادي مُنادِيان من السماء يقول أحدهما : يا طالب الخَيْرِ أَبْشِر، ويقول الآخر: يا طالب الشَّرِّ أقصر، ويقول أحدهما: اللهمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهمَّ أَعْطِ مُمسكًا تَلَفا».
وهكذا رواه ابن جرير والبيهقي في "شعب الأيمان". وهو حديث مرسل.
الحديث السادس
أخرج بن مَرْدُويَه وابن عساكر عن .
عائشة
رضي
الله عنها قالت: لم يكن
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم في شهر أكثر صياما منه في شعبان؛ لأنه ينسخ فيه أرواح الأحياء في الأموات، حتى إنَّ الرجل يتزوج وقد رُفْعَ اسْمُهُ فيمن يَمُوتُ، وإِنَّ الرَّجُلَ ليحج وقد رُفِعَ اسْمُهُ فيمَن يَمُوتُ.
الحديث السابع
أخرج الدِّينَوَرِيُّ في "المجالسة" عن راشد بن سعد: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه
واله وسلم قال: «في ليلةِ النَّصْفِ مِن شعبانَ يُوحِي اللَّهُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ بِقَبْضِ
كُلُّ نَفْسٍ يُرِيدُ قَبْضَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ».
وهذا حديث مرسل.
٢٦
الأدب والمتفرقات
الحديث الثامن
أخرج بن أبي شيبة: عن عطاء بن يسار قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في شهر أكثر صياماً منه في شعبان، وذلك أنه ينسخ فيه آجال
من ينسخ في السنة. وهذا مرسل أيضًا وآخره مقطوع.
فهذه الأحاديث هي مستند من قال أنَّ ليلة النصف تنسخ فيها الآجال والأرزاق وغيرها كما سبق عن عكرمة.
وورد مثل ذلك عن عطاء بن يسار، فقد روى ابن أبي الدنيا عنه قال : إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال : اقْبِضُ مَن في هذه الصحيفة، فإنَّ العبد ليَغْرِسُ الغِراس، ويَنْكِحُ الأزواج، ويَبْنِي البُنْيان وإِنَّ اسْمُهُ قد نُسِخَ فِي المَوتَى. لكن هذه الأحاديث ضعيفة كما قلنا، والقرآن يفيد خلاف ما أفادته فإن الله تعالى قال: إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةً إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
[الدخان: ٣ - ٤] الآية، ثُمَّ قال تعالى : إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]. فأفادت هذه الآية أنَّ الليلة المباركة في (سورة الدخان) هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان، وإلى هذا ذهب الجمهور كما قال الحافظ ابن رجب، ولم يلتفتوا إلى الأحاديث المذكورة لضعفها ومخالفة القرآن لها، وهذه طريقة
الترجيح. ولك أن تسلك طريقة الجمع بما رواه أبو الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنَّ الله . يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويُسَلّمها إلى أربابها في ليلة القدر، وحاصل هذا أنَّ الله يقضي ما يشاء في اللوح المحفوظ ليلة
حسن البیان
۲۷
النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر سلَّم إلى الملائكة صحائف بما قضاه، فيسلم إلى ملك الموت صحيفة الموتى، وإلى ملك الرزق صحيفة الأرزاق،
وهكذا كلُّ مَلَك يتسلَّم ما نيط به، وفي قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
أشار إلى هذا والله أعلم حيث قال : يُفْرَقُ ولم يقل: «يقضى» أو «يكتب» والفرق التميز بين الشيئين، فالآية تشير إلى أنَّ المقضيات تُفْرَق ليلة القدر بتوزيعها على الملائكة الموكَّلين بها، أما كتابتها وتقديرها فهو حاصل في ليلة نصف شعبان كما في الأحاديث المذكورة، وبهذا يُجمع شمل الأقوال المتضاربة
في هذا الباب ويُرْأَبُ صَدْعُها ، والحمد لله ربِّ العالمين .
۲۸
الأدب والمتفرقات
من لا يغفر لهم في هذه الليلة
إذا تأملت الأحاديث التي أوردناها وجدتها تُخبر بعموم مَغْفِرة الله لعبادة في ليلة نصف شعبان إلَّا أشخاصًا معدودين لا تشملهم مغفرة الله، ولا تنالهم رحمته والعياذ بالله لاتصافهم بصفات قبيحة وتلبسهم بخلال شنيعةٍ، إِلَّا مَن تاب منهم وصلح فإنَّ الله يتوب عليه ويُبدِّل سيئاته حسنات، كما قال الله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَلِحَا فَأُولَتَبِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَةٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الفرقان: ٧٠]. وإليك أسماء الأشخاص المحرومين من المغفرة في هذه الليلة لتجتنب ما حُرِموا بسبه :
إن الشرك لظلم عظيم
المشرك: وجديرٌ به أن يُحرَم ويمنع؛ لأنه ارتكب أقبح الذنوب، وتلبس بأعظم الظلم، قال الله تعالى: إن الشرك لظامُ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: ۱۳] وقال
تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: ٤٨]. ومثل المشرك في الحِرمان من المغفرة؛ الكافر وهو الذي لم يعتنق دين
الإسلام لقوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ } [آل عمران: ٨٥].
التشاحن يمنع المغفرة
المشاحن: وهو الذي في قلبه حقد على أخيه المسلم لهوى في نَفْسِه، وهذا الحقد والتشاحن يمنع المغفرة في أغلب أوقاتها، ففي "صحيح مسلم": عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «تُفْتَحُ أبواب الجنَّةِ يومَ
حسن البیان
۲۹
الإثنين، ويوم الخميس، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عبد لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانت بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فيُقال: أَنْظِرُوا هذين حتَّى يَصْطَلِحَا». قال أبو داود: «إذا كانت الهجرة الله فليس من هذا بشيء، فإن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هَجَرَ
بعض نسائه أربعين يوما، وابن عمر هجر ابنا له إلى أن مات» (۱) . اهـ قلت: وللحافظ السيوطي في هذا الموضوع رسالة لطيفة اسمها: "الزجر بالهجر" ثُمَّ ما ذكرناه في معنى الشحناء هو المشهور.
وقيل: بل الشحناء المانعة من المغفرة هي الحقد على الصحابة وبغضهم، هذا أحد قولي الأوزاعي، والقول الثاني له: أنَّ الشحناء هي الابتداع ومفارقة الجماعة، وفي معنى هذا قول ابن ثوبان المشاحن هو التارك لسُنَّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، الطاعن على أُمته، السافك دمائهم.
وظاهر الأحاديث بل صريحها يفيد أن الشحناء المانعة من المغفرة هي تهاجر ا الأقران وتحاقدهم الشحناء بهذا المعنى تستلزم غيرها مما ذكر بطريق الأولى؛ لأنه إذا كان هَجْرُ مطلق المسلم والحقد عليه يمنع المغفرة فيكون ترك السنة، واتباع البدعة، وبغض الصحابة أولى بالمنع وأجدر بالحرمان، وهذا واضح.
أعظم الذنوب بعد الكفر
القاتل: والقتل أعظم الذنوب بعد الكفر وهو من السبع الموبقات، وفي "سنن أبي داود" عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «كل ذنبٍ عسى الله أن يَغْفِرَهُ إِلَّا رَّجُلٌ يَمُوتُ مُشْرِكًا، أو يَقْتُلُ مؤمنًا
(۱) بينت خطأ هذا الرأي في كتاب: "النفحة الذكية في أنَّ الهَجْرَ بِدْعَةٌ شِركيَّة" والإسلام يعتبر الهجر من الكبائر مطلقا في الدين والدنيا.
۳۰
الأدب والمتفرقات
متعمدا». صححه ابن حبان والحاكم.
والأحاديث في تعظيم أمر القتل كثيرة، ويكفي قول الله تعالى: ﴿ وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ٩٣].
لا يدخل الجنة قاطع
قاطِعُ الرَّحِمِ: وقَطْعُ الرَّحِمِ من الكبائر، ففي "الصحيحين" عن جبير بن مطعم: أنه سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ قاطِع».
قال سفيان: يعني قاطِعَ رَحِمٍ. وفي "المسند" بإسنادٍ رجاله ثقات عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ أعمال بني آدمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ فَلا يُقْبَلُ عَمَلُ قاطِعِ رَحِمٍ». وقد توعد الله قاطِعَ الرَّحِمِ باللعنة وغيرها في قوله تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾
[محمد: ۲۲].
الذي لا ينظر الله له يوم القيامة
المسيل: والمراد به من يُسْبِل ثيابه ويجرُّها فَخْرًا وتَكَبَّرًا. ففي "صحيح البخاري" عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «بينما رَجُلٌ مَن كان قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخَبَلاءِ خُسِفَ به، فهو يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلى يوم القيامة».
وفي "صحيح البخاري" أيضًا: عن ابن عمر أيضًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لم يَنْظُرُ اللَّهُ إِليه يومَ القِيامَةِ».
حسن البیان
۳۱
وفي "صحيح مسلم : عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرِ» فقال رجلٌ: إِنَّ الرجل يجب أن يكون ثوبه حَسَنًا ونعله حَسَنًا قال: «إِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقُّ وَغَمْطُ النَّاسِ».
والمقصود أنَّ الفَخْرَ والخيلاء والكبر تمنع صاحبها المَغْفِرة؛ لأنه نازَعَ اللَّهَ تعالى فيها اختص به؛ لأن الكبرياء لله وحده، والله لا يحبُّ كُلَّ مُحتالٍ فَخُورٍ.
عقوق الوالدين
العاق لوالديه والعُقُوق هو الدَّاهية الدَّهْيَاء، وأصل كل مصيبة وبلاء، وليس من ذنبٍ يُعجل الله عقوبته في الدُّنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه من العذاب في الآخرة غير البغي والعُقُوق، فتجد العاق يلاحقه البؤس والشَّقَاء في كل مكان، ويرافقه سوء الحظ ونكد الطالع أينما كان، هذا بعض ما يلقاه في الدنيا وأما في الآخرة فيكفيك دليلا على عِظَمِ جُرمِهِ قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم : ثلاثةٌ حَرَّمَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليهم الجنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالعَاقُ، والدَّيُّوثُ الذي يُقِرُّ الخَبَثَ فِي أَهْلِهِ». حديث صحيح رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من
حدیث عبدالله بن عمرو بن العاص.
وفي حديث آخر : عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع حَقٌّ على الله أن لا يُدْخِلَهُم الجنَّة ولا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ الْخَمْرِ،
وآكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حَقٌّ، والعَاقُ لوالِدَيْهِ».
وقبحُ العُقُوقِ أوضح من أن يستدل عليه، فلنقتصر على هذا ففيه كفاية.
۳۲
الأدب والمتفرقات
الخمر أم الخبائث
مُؤْمِنُ الخَمْرِ والخَمْرُ - أعاذاك الله - أُمُّ الخبائث، وأصل البلايا، تُذْهِبُ العقل والدين، وتُسْقِط المروءَةَ، وتَدَعُ صاحبها عُرْضَةٌ لسُخرية الأطفال وتضاحكهم منه كما هو مشاهد، وقد رأيت في الحديث المتقدم قريبا أَنَّ مُؤْمِنَ الخمر تحرم عليه الجنة ونعيمها؛ وذلك لأن الخمر تُعادل الشرك، وشاربها يُحْشَرُ كعابدِ وَثَنِ.
فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حُرمت الخَمْرُ مَشَى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعضُهم إلى بعض وقالوا: حُرِّمَتِ الخَمْرُ وجُعِلت عِدْلًا للشرك.
في "صحيح ابن حِبَّان" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن لَقِيَ اللَّهَ مُدْمِنَ خَيْرٍ لَقِيَهُ كَعَابِدِ وَثَنِ». ولا شكّ أنَّ عابِدَ الوَثَنِ لا يدخل الجنَّة، فكذلك من كان مثله؛ فلهذا لا يدخل مُدمِنُ الخَمْرِ الجنَّةَ بنص الحديث.
ومثله في هذا أيضًا مديم الزّنا؛ فقد أخرج الخرائطي وغيره، عن أنس بن الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المقيم على الزنا
مالك رضي !
كعَابِدِ وَثَنِ».
الزانية بفرجها
الزانية بفَرْجِها وهي التي تحترف وتتكسب منه، وفي الحديث الصحيح: شَرُّ الكَسْبِ حُلْوانُ الكَاهِنِ، وَمَهْرُ البَغِيِّ».
والزنا أعظم عند الله من شرب الخمر ، وهو الثالث في الترتيب؛ لأن أكبر
حسن البیان
۳۳
الكبائر الشّرك ثُمَّ القَتْلُ ثُمَّ الزِّنا، وبعض العلماء قدمه على القتل ولكن الراجح أنه بعده، وقد سماه الله فاحشة في قوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِلَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ٣٢].
وصح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَن زَنَى أو
شَرِبَ الخَمْرَ نَزَعَ اللَّهُ مِنه الإيمان، كما يَخْلَعُ الإِنسانُ القَمِيصَ مِن رَأْسِهِ». إذا كان هذا حال مَن زَنَى مَرَّةً فما ظنك بمن يتَّخِذ الزنا طريقا للكسب والتعيش ؟! ثُمَّ ما ظنك بمن يساعدها على ذلك ويُعطيها ترخيصا به؟! وبربك قل لي كيف يستجيب الله لقوم هذا حالهم، وكيف ينصرهم على أعدائهم، مع أنهم قد أحلُّو بأنفسهم عذاب الله واستحقُوا عِقابه؟!
فيا أيها المسلم الحريص على إحياء ليلة نصف شعبان إن كنت تريد أن يقبلك الله ويشملك برحمته وغفرانه فابتعد عن هذه الكبائر الموبقات، وطهر نفسك منها ومن غيرها بالتوبة والاستغفار؛ فإن الله يبسُطُ يده بالليل ليتوب مسى النَّهارِ حتى تطلع الشمس من مغربها ... وابك على خطيئتك، وعُضَ يد النَّدَمِ على ما فَرَطَ منك، وما أحسن قول بعض الفضلاء: بَكَيْتُ عَلَى نَفْسِي وحَقَّ لِي البُكَا وما أنا مِن تَضْييع عُمْرِي فِي شَكٍّ لئن قُلتُ أَنِّي فِي صَنِيعِي مُحْسِنٌ فإني في قولي لذلك ذو إنكِ لَيالي شَعْبَانَ وَلْيَلَةَ نِصْفِهِ بأَيِّةِ حَالٍ قَدْ تَنَزَّلَ لِي صَكي وحَقَّ لُعْمِرِي أَنْ أُدِيمَ تَضَرُّعِي لعل إلهَ الخَلْقِ يَسْمَحُ بالفَـك
٣٤
الأدب والمتفرقات
هل وردت صلاة معينة في هذه الليلة
لم ترد صلاةٌ معيَّنة في هذه الليلة من طريق صحيح ولا ضعيف، وإنما وردت أحاديث موضوعةٌ مكذوبة لا بأس أن ننبه عليها لئلا يغتر بها العوام، ومن في حُكْمِهم من العلماء الذين لا يعرفون الحديث، وإليك بيانها:
الحديث الأول
روى ابن الجوزي في "الموضوعات": عن علي عليه السَّلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال : «يا عليُّ، مَن صَلَّى مِائَةَ رَكْعَةٍ فِي لَيْلَةِ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بفاتحة الكتاب و«قل هو الله أحد» عشر مرات»، قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يا عليُّ، مَا مِن عَبْدِ يُصَلِّي هذه الصَّلَواتِ إِلَّا قَضَى اللهُ عزَّ وجلَّ له كلَّ حَاجَةٍ طَلَبَها تِلْكَ اللَّيلَةِ». قيل: يا رسول الله وإن كان الله تعالى كتبه شَقَيًّا يجعله سعيدًا؟ قال: والذي بعثني بالحقِّ يا عليُّ، إِنَّه مكتوب في
اللُّوحِ المَحْفُوظٍ أَنَّ فلان بن فلانٍ خُلِقَ شَقِيًّا لِيَمْحُوهُ اللَّهُ ويجعله سعيدًا». ثُمَّ ذَكَرَ حديثاً طويلًا فيه كثير من المبالغات والمجازفات، وقد حكم ابن الجوزي بوَضْعِهِ.
الحديث الثاني
روى الجوزقاني في كتاب "الموضوعات والأباطيل" عن ابن عمر مرفوعا: مَن قَرَأَ ليلة النصف من شعبان ألف مَرَّةٍ قل هو الله أحد» في مائة ركعة لم يخرج من الدُّنيا حتَّى يبعث الله إليه في مَنامِهِ مِائَةَ مَلَكِ، ثلاثون يُبشِّرونه بالجنَّة، وثلاثون يُؤمنونه مِن النَّارِ ، وثلاثون يَعْصِمُونه مِن أن يُخطئ، وعشرة يَكِيدُونَ من عاداه». حديث مكذوبٌ، حَكَمَ ابن الجوزي وغيره بوضعه.
حسن البیان
۳۵
الحديث الثالث
روى الجوزقانيُّ أيضًا عن علي عليه السَّلام قال : رأيتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليلة النصف من شعبانَ قامَ فَصَلَّى أربع عشرة ركعةً، ثُمَّ جلس بعد الفراغ فقرأ بـ «أم القرءان» أربع عشرة مرَّةً، و«قل أعوذ برب الناس» أربع عشرة مرة، وآية الكرسي مرَّةً، ولقد جاءكم رسول» الآية، فلما فرغ من صلاته سألته فقال: «مَن صَنَعَ مثل الذي رأيتَ كان له كَعِشْرِينَ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ، وصيام عشرين سَنَةٌ مَقْبُولَةً، فإن أصبحَ في ذلك اليوم صائما كان له كصيام سنتين سنة ماضِيَةٍ وسَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ». حديث مكذوبٌ حَكَمَ بوضعه البيهقي وابن الجوزي والسيوطي وغيرهم.
الحديث الرابع
روى ابن الجوزي في الموضوعات" عن أبي هريرة مرفوعا: «مَن صَلَّى ليلةَ النصف من شعبان ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة «قل هو الله أحد» ثلاثين مرَّةً، لم يخرج حتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِن الجنَّةِ». حديث مكذوبٌ حَكَم بوضعه ابن
الجوزي، ووافقه السيوطي وغيره.
الحديث الخامس
قال الذهبي في "الميزان" : محمد بن سعيد الطبري - لا يُدرَى مَن هو - عن محمد بن عمرو البجلي - مجهول مثله - حدثنا النضر بن شميل: ثنا شعيب بن
صَلَّى
عبد الملك: حدثني الحسن البصري: ثنا أنس رضي الله عنه مرفوعا : مَن ليلة النصف من شعبان خمسين ركعةً قضى الله له كل حاجة طلبها تلك الليلة،
وإن كان كُتِبَ في اللوح المحفوظ شَقِيًّا يمحو الله ذلك ويحوله إلى السَّعادَةِ،
٣٦
الأدب والمتفرقات
ويبعث إليه سبعمائة ألف مَلَكِ يبنون له القُصُورَ في الجنَّة، ويُعطَى بكل حرفٍ قرأه سبعين حوارء، منهنَّ مَن لها سبعون ألف وَصِيفٍ وسبعون ألف وَصِيفَةٍ». وذكر حديثا طويلًا فيه كثير من المبالغات والمجازفات، قال الذهبي: فقبَّح الله مَن وَضَعَهُ فلقد فاه من الكذب والإفك بما لا يوصف». ووافقه الحافظ ابن حجر في "السان الميزان".
الحديث السادس
روی ابن الجوزي في "الموضوعات" عن أبي جعفر الباقر مرفوعا: «مَن قَرَأَ ليلة النصف من شعبان (قل هو الله أحد ألف مرَّةٍ في عشر ركعات لم يمت حتى يبعث الله إليه مائة مَلَكِ، ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من العذاب، وثلاثون يقومونه أن يُخطئ، وعشرة أملاك يكبتون أعداءه». قال ابن الجوزي: «حديث موضوع». فهذه الأحاديث كما ترى مكذوبةٌ مُختلَقةٌ لا يجوز العمل بها في فضائل
الأعمال باتفاق العلماء، ونبه على ذلك أهل الحديث.
قال الحافظ العراقي في "المغني": حديث صلاة نصف شعبان باطل». اهـ وقال النووي في "المجموع": «أما صلاة الراغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، فليستا بسنتين بل هما بدعتان قبیحتان مذمومتان، ولا تغتر بذكر أبي طالب المكي لهما في "قوت القلوب" والغزالي في "إحياء علوم الدين"، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإنَّ كل ذلك باطل.
حسن البیان
۳۷
ولا يغتر أيضًا ببعض من اشتبه عليه حكميهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابها، فإنه غالط في ذلك، وقد صنف العز بن السلام كتابا نفيسا في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد» . اهـ وسئل الحافظ ابن الصلاح بما صورته: «ما تقولون فيمن ينكر على من يصلي صلاة الرغائب ونصف شعبان ويقول إنَّ الزيت الذي يستعمل فيهما - أي في المساجد - حرام ويقول: إنَّ ذلك بدعة، ولا لهما فضل ولا ورد في الحديث فيهما فضل وشرفٌ، فهل هو على الصواب أو على الخطأ؟ أفتونا
مأجورين». فأجاب بما نصه: «أما الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب فهي بدعة وحديثها موضوع، وما حدث إلا بعد الأربعمائة من الهجرة، وليس لليلتها تفضيل على أشباهها من ليالي الجمع. وأمَّا ليلة النصف من شعبان فلها فضيلة وإحياؤها بالعبادة مستحب، ولكن على الانفراد من غير جماعة، واتخاذ الناس لها ولليلة الرغائب موسما وشعارًا بدعةٌ مُنكَرةٌ ، وما يزيدون فيه على العادة من الوقيد غير موافق للسنة
ومن العَجَبِ حِرْصُ الناس على البدع في هاتين الليلتين وتقصيرهم في المؤكَّدات الثابته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، والله المستعان وهو أعلم».اهـ
ووافقه عز الدين بن عبد السلام، إلَّا أنَّ ابن الصلاح رجع عن فتواه المذكورة، ورأى استحباب صلاة الرغائب وليلة النصف مع اعترافه ببطلان
حديثهما، وألف رسالة في بيان استحباب ذلك.
ورد عليه ابن عبد السلام برسالة أخرى وحصلت بينهما منافرة ووحشة.
۳۸
الأدب والمتفرقات
قال ابن حجر الهيتمي في "الإيضاح والبيان": «ولقد أنصف العزّ العلماء في عصرهما ومن بعدهما، فشهدوا له بأنه على الحقِّ، وأنَّ مُخالفه غالط في جميع ما أيده وانتحله، حتى أخص جماعة ابن الصلاح وتلامذته - وهو العالم الكبير والحافظ الشهير الشيخ أبو شامة المقرئ المحدّث- فإنه تعجب مما قاله شيخه ابن الصلاح وبالغ في تغليطه وإنكاره» . اهـ
قلت: لأبي شامة في هذا الموضوع كتاب اسمه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" قرأته والحمد لله.
والنووي أيضًا مع كونه تلميذ ابن الصلاح الخاص به لم يوافق شيخه بل وافق ابن عبد السلام كما سبق في كلامه آنفًا.
وممن انتصر للعز بن عبد السلام من المتأخرين عن عصرهما تقي الدين
السبكي ونقل كلامه ابن حجر الهيتمي في "الإيضاح والبيان" فارجع إليه.
حسن البیان
الخلاصة
۳۹
إذا تأمل القارئ ما كتبناه، وتمعن فيما حرَّرناه استخلص منه الأمور الآتية: الأول: أنَّ فضل ليلة النصف من شعبان ثابت في الجملة، وأنَّ إنكاره على سبيل الإطلاق كما فعل ابن العربي المعافري غلط.
الثاني: أنَّ إحياءها بأنواع العبادات مُستحب، والإحياء لا يكون إلَّا بالليل كما هو معلوم، والأحاديث تفيد ذلك كما تقدم.
الثالث: أنَّ ما يفعله العوام عقب مغرب تلك الليلة من قراءة (سورة يس) ثلاث مرات بنيَّاتٍ مُتعدّدات مع الدُّعاء المعروف.. إلخ بدعةٌ مُنكَرةٌ لا ينبغي فعلها؛ لاشتمالها على مفاسد، أقبحها ارتكان كثير من الناس على هذا الدعاء فيظل الواحد منهم طول سنته مُرتكبًا للمعاصي والموبقات لا يُحدث نَفْسَه بالتوبة؛ لأنه يعتقد أنه بالدعاء المذكور يغفر الله له كل ما عمل، ويُحوّل اسمه من ديوان الأشقياء إلى ديوان السعداء.
الرابع: أنَّ صلاة مائة ركعةٍ أو خمسين أو اثنتي عشرة بصفة خاصة في هذه الليلة باطل لا أصل له ولا ينبغي فعله وللإنسان أن يصلّي ما قدر عليه من غير تقييد بعددٍ معين. الخامس: أنَّ الإنسان ينبغي له أن يستقبل هذه الليلة بتوبة صادقة مخلصة ليفوز ببشارة قوله تعالى : ويَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفَرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّتِ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ يَوْمَ لَا يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: ۸] .
۲ - غَايَةُ الإِحْسَانِ
في فَضْلِ زَكَاةِ الفِطْرِ وَفَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ
الإهداء
إلى الذين لم يراعوا حرمة هذا الشَّهْرِ فَأَقْطَرُوا فيه ..
إلى الذين لم يراعوا حُرمة الصومِ فأتموا فيه ....
إلى الذين اتخذوا شهر رمضان وسيلة لاقتناص الملذات، وطريقاً لنيل الشهوات .... إلى هؤلاء جميعا أهدي هذا الكتاب
أبو الفضل
عبد الله بن محمد بن الصديق
الغماري الحسني
٤٤
مقدمة
الأدب والمتفرقات
الحمد لله الغني الكريم، الرؤوف الرحيم، خَلَقَ العِبادَ على مراتب ودرجات، وجعل لهم في أيام دَهْرِهِم مواسمَ للخيرات، فالسعيد مَن وُفِّق لاغتنام تلك المواسم، واتَّخذ فيها لطاعة مولاه خُطى ومراسم، أحمده سبحانه على ما وفّق وهَدَى، وأعتصم به جل شأنه مِن سُلوك سبيل الرَّدَى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ننجو بها من العذاب غَدًا، وأشهد أنَّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من دعا إلى طريق الهدى،
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ما كَرَّ الجديدان، وتعاقب الملوان (۱). أما بعد: فإنَّ شهر رمضان شهرٌ كبير القَدْرِ، جليل الخطر، أنزل الله فيه
القرآن هدى للناس وبيِّناتٍ مِن الهُدَى ،والفرقان، وأكرم الصائمين فيه باستجابة الدعاء وعُموم الغُفران، وهيَّاً لهم أسباب الطاعة فيه بفتح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتَصْفِيدِ مَرَدَةِ الجان، وضاعف ثواب صومه مُضاعَفَةٌ لا يَقْدِرُ قَدْرَها إنسان إلى غير ذلك من الفضائل التي يضيق عنها البيان، حتى لقد جاء وصفه في بعض الأحاديث (۲) بأنه سيد الشهور، وكيف لا؟! وهو شهرٌ تَكْثُر فيه الخيرات ويَعْظُم السرور، وتُهذَّبُ الطباع وتلين العرائك، ويصير الصائمين أشبه بالملائك.
وهذا كتاب صغير الحجم غزير العِلم، كبير الفائدة، جَمُّ العائدة، يكشف
(۱) «الملوان»: الليل والنهار . انظر "لسان العرب" لابن منظور (١٥ / ٢٩٠). (۲) في "مسند البزار" بإسناد ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «سَيِّدُ الشُّهُورِ شَهْرُ رمضانَ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةٌ ذو الحِجَّة».
غاية الإحسان
ޑ
لقارئه عن جوانب من فضل هذا الشهر العظيم، ويُبين عما ورد فيه من أنواع
التكريم.
ما أوردت فيه إلَّا حديثا صحيحًا يُحتج به في كل حال، أو حديثًا ضعيفًا يُقبل في فضائل الأعمال، وأبحثُ جَنَى ثَمَرِهِ ليَنَالَ كل قاري مِن خيره،
وحشوته بفوائد يحتاج إليها العالم قبل غيره، وقصدي بذلك أن تنالني دعوة صالحة من بعض القُرَّاء الكرام والله المسؤول أن يُكرمنا وأحبابنا بخير الدنيا والآخرة، وأن يوفقنا ويستر عوراتنا ويؤمِّن رَوْعَاتنا، بفضله وكرمه إنه جواد
كريم.
أبو الفضل
عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني
٤٦
الأدب والمتفرقات
كيف كان بدء الصيام
ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشُورَاءَ تصومه قريش في الجاهِلِيَّةِ، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يَصُومُهُ، فلما قَدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأَمَرَ بِصِيامِهِ، فلمَّا نَزَلَ رمضان كان رمضانُ الفَريضَةَ، وتُرِكَ عاشُورَاءُ، فكان مَن شَاءَ صَامَهُ وَمَن شَاءَ لم يَصُمْهُ.
وفي "الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عاشوراءُ يَصُومُهُ
أهل الجاهِلِيَّةِ فَلمَّا نَزَلَ رمضانُ قال: «مَن شَاءَ صَامَهُ ومَن لم يَشَأْ لم يَصَمْهُ». وفي "الصحيحين" أيضًا عن علقمة قال: دَخَلَ الأشعث بن قيس على ابن مسعود رضي الله عنه وهو يَطْعَم بفتح الياء والعين أي يأكل فقال: يا أبا عبدالرحمن، اليوم عاشوراء !! فقال ابن مسعود: كان يُصَامُ قبل أن يَنْزِلَ رمضان فلما نَزَلَ رمضانُ تُرِكَ، فَادْنُ فَكُل.
وفيهما أيضًا، عن ابن عباس رضي ا الله عنه قال: قَدِم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم المدينة فرأي اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: «ما هذا؟» قالوا:
.
هذا يوم صالح نجى الله بني إسرائيل من عَدوّهم فصامه موسى قال: «فأنا أَحَقُّ بموسى مِنكُم». فصامَهُ وأَمَرَ بِصِيامِهِ.
قلت: كانت قريش تصوم يوم عاشوراء وتُعَلِّمُهُ بكِسْوَةِ الكعبة فيه.
وجاء في المجلس الثالث من مجالس" الباغندي الكبير"، عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال : أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية فعَظُم في صدورهم، فقيل لهم صُومُوا عاشوراء يُكفر ذلك.
غاية الإحسان
٤٧
وأما صوم اليهود يوم عاشوراء فهو شُكْرُ الله على إنجاء موسى وبني
إسرائيل، وإغراق فرعون
وظاهر هذه الأحاديث التي أوردناها أنَّ صوم يوم عاشوراء كان مفروضا ثُمَّ نُسخ بفرضيّة رمضان، وبهذا قال الحنفية، وهو وجه في مذهب الشافعية. والمشهور عندهم وهو قول الجمهور أنه لم يجب صوم قطُّ قبل رمضان، لا عاشوراء ولا غيره، والأول أصح.
وكان فرضيَّة صوم عاشوراء سنة قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم المدينة، وفي السنة الثانية نزل صوم رمضان.
كيف تدرجت أحوال الصيام
روى الإمام أحمد في "المسند" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : أُحِيلَتِ الصَّلاةُ ثلاثةَ أَحْوَالٍ وأُحِيلَ الصِّيَامُ ثلاثةَ أَحْوَالٍ، فَأَمَّا أَحْوَالُ الصَّلاةِ: فَإِنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قَدِمَ المدينة وهو يُصَلِّي سبعة عشر شَهْرًا إلى بيتِ المقدس، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَنزَلَ عليه قَد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ
قبْلَةً تَرْضَهَا ﴾ [البقرة: ١٤٤]، فَوَجَهَهُ اللَّهُ إلى مكَّةَ قال: فهذا حَوْلٌ. قال: وكانوا يَجْتَمِعُونَ ِللصَّلاةِ ويُؤْذِنُ بها بعضُهم بعضًا حَتَّى نَقَسُوا أو كادوا يَنقُسُونَ. قال ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِن الأنصار يُقال له عبدالله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا رسول الله، إني رأيتُ فيما يرى النائم - ولو قلتُ إني لم أكُنْ نائما لصَدَقْتُ إِنِّي بَيْنَا أَنا بين النَّائِمِ واليَقْطَانِ إِذ رأيتُ شَخصًا عليه ثَوْبَانِ أخْضَرَانِ فَاسْتَقْبَلَ القِبلَةَ، فقال: الله أكبر. الله أكبر.
٤٨
الأدب والمتفرقات
أشهد أن لا إله إلَّا اللهُ مَثْنَى مَثْنَى حَتَّى فَرَغَ مِن الْأَذَانِ، ثُمَّ أَمْهَلَ سَاعَةٌ. قَالَ: ثُمَّ قال مثل الذي قال غير أنَّه يَزِيدُ في ذلك قد قامَتِ الصَّلاةُ، قد قَامَتِ الصَّلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «عَلَّمْهَا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ بها». فكان بِلال أَوَّلَ مَن أَذَّنَ بها. قال: وجاءَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ فقال: يا رسول الله، إِنَّه قد طَافَ بي مثلُ الذي أَطَافَ به غير أنَّه سَبَقَني. فهذان حالان.
قال: وكانوا يأتون الصَّلاةَ وقد سَبَقَهُم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بِبَعْضِها فكان الرَّجُلُ يُشير إلى الرَّجُلِ : كم صَلَّى ؟ فيقول: واحدة أو اثنتين، فيصليهما ثُمَّ يدخل مع القوم في صلاتهم، قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدًا إلَّا كنتُ عليها ثُمَّ قَضَيْتُ ما سَبَقَنِي، قال فجاء وقد سَبَقَهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ببعضها قال: فثبتَ مَعَهُ فلمَّا قَضَى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قام فقضى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّهُ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذُ فهكذا فاصْنَعُوا». فهذه ثلاثة أحوال.
وأما أحوال الصيام، فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قَدِمَ المدينة فجعل يَصُومُ من كُلِّ شَهْرٍ ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثُمَّ إِنَّ الله فَرَضَ عليه الصيام وأنزل الله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الذينَ مِن قَبْلِكُم إلى قوله وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مسكين ﴾ [البقرة: ١٨٣ - ١٨٤] فكان من شاءَ صَامَ ومَن شَاءَ أَطْعَمَ مِسكينًا فأجزأ ذلك عنه . ثُمَّ إِنَّ الله عزّ وجل أنزل الآية الأخرى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
غاية الإحسان
٤٩
الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: ١٨٥].
فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر،
وثَبَتَ الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان. قال: وكانوا يأكلون ويَشْرَبون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِن الأنصار يقال له: صِرْمَةُ، كان يعمل صائما حتَّى أمسى فجاء إلى أهله حتى صَلَّى العِشاءَ، ثُمَّ نام فلم يأكل ولم يشرب حتَّى أصبح، فأصبح صائمًا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقد جَهَدَ جهدًا شديدًا فقال: مالي أراك قد جَهَدْتَ جَهْدًا شديدًا؟». قال: يا رسول الله، إني عملت أمس فجئتُ فألقيتُ نَفْسِي فنِمْتُ فأصبحت حين أصبحت صائما. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك؛ فأنزل الله عزّ وجلَّ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نسابكم إلى قوله: ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا القِيَامَ إلى اليلِ ﴾ [البقرة: ١٨٧]. وأخرجه أيضًا أبو داود والحاكم.
فتبين من هذا الحديث أنَّ الصيام تدرّج على ثلاثة أحوال : أحدها: صيام عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهرٍ، ثُمَّ فُرِضَ الصِّيَامُ على
التخيير، بمعنى أنَّ مَن شاء صام ومن شاء أفطر وفَدَى بالإطعام. وثانيها: نَسْخُ التخيير وفرض الصيام على كل مقيم صحيح، وبقي
الإطعام في حق الشيخ الهرم الذي لا يستطيع الصيام.
0.
الأدب والمتفرقات
قال البخاري في "الصحيح": وأما الشيخ الكبير الذي لم يطق الصيام فقد أَطْعَمَ أنس بعد ما كَبِرَ - عامًا أو عامين عن كل يوم مسكينًا خُبْزًا ولحما وأفطر، وكذلك فعل عطاء بعدما كَبِرَ وضَعُفَ عن الصيام.
ثالثها: إباحة الأكل والشرب طول الليل قبل النوم وبعده، وكان قبل ذلك من نام قبل أن يأكل وجب عليه مواصلة الصوم إلى اليوم الثاني، وكان سبب الإباحة والتخفيف حادثة الأنصاري وعمر رضي الله عنهما كما جاء في هذا الحديث الذي نتكلم عنه، وثبت مثله في "صحيح البخاري" أيضًا.
وصرمة الأنصاري اضطرب الرواة في اسمه كثيرا، والصواب في ذلك على ما حققه الحافظ ابن عبد البر :أنه : أبو قيس صرمة بكسر الصاد وسكون الراء ابن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بفتح الغين وسكون النون بن عدي بن النجار. قال ابن إسحاق: «كان صرمة رجلًا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثُمَّ أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه طامت ولا جنب، وقال: أعبد ربَّ إبراهيم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، أسلم فحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا بالحقِّ، مُعظما الله
في الجاهلية». قال سفيان بن عيينة، عن يحيي بن سعيد قال : سمعت عجوزا من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس يختلف إلى صِرمة بن قيس يتعلَّم . منه هذه الأبيات،
قالها صرمة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي:
غاية الإحسان
۵۱
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يُلْفِي صَدِيقًا مُوَاتِيا ويَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَليَرَ وَاعِيـا فلما أتانَا وَاسْتَقَرَّبِهِ النَّوَى وأَصْبَحَ مِسْرُورًا بِطَيِّبَةَ رَاضِيا وأَصْبَحَ لَا يَخْشَى ظُلَامَةَ ظَالِم بَعِيدٍ ولا يَخْشَى مِن النَّاسِ باغِــا بَذَلَنا لَهُ الأَمْوالَ مِنْ حِلَّ مَالِنَا وأَنفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى وَالتَّاسِيَا تعادِي الذي عادَى مِن النَّاسِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الحبيب المواتيا ونَعْلَمُ أَنَّ اللهَ لا شيء غَيْرُهُ وأَنَّ كِتَابَ الله أَصْبَحَ هَادِيا
هل فرض صوم رمضان من قبلنا؟
اختلف العلماء: هل كان صوم رمضان مفروضًا على أهل الكتاب من قبلنا أو لا؟ فذهب الحسن البصري والسُّدِّي إلى أنَّ رمضان كان مفروضا على الأمم السابقة، واستدلا بحديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعا: «صِيامُ
رمضانَ كَتَبَهُ اللهُ على الأُمَمِ مِن قَبْلِكُمْ». وهو حديث ضعيفٌ. وروى الطبراني في "الأوسط" عن دَغْفَل بن حَنْظَلَة النسابة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان على النَّصَارَى صَوْمُ شَهْرِ رَمضانَ، وكان عليهم مَلِكٌ فَمَرِضَ فقال: لئن شَفَاهُ اللهُ ليَزِيدَنَّ عشرة أيامٍ ثُمَّ كان عليهم مَلِكٌ بَعْدَهُ فَأَكَلَ اللَّحْمَ فَوَجِعَ، فقال لئن شَفَاهُ اللهُ ليَزيدَنَّ ثمانية أيامٍ ثُمَّ كان عليهم مَلِكٌ بَعْدَهُ فقال: ما نَفْرُغُ مِن هذه الأيامِ أَن نُتِمَّها ونجعل صَوْمَهَا في
الربيع، فصارت خمسين يومًا». وإسناده صحيح.
إلَّا أنَّ الطبراني رواه في "الكبير" بإسناد صحيح أيضًا موقوفًا على دَغْفَل،
٥٢
الأدب والمتفرقات
ولم يرفعه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ودَغْفَل - بوزن جَعْفَر - لم تثبت له صحبة. وذهب الجمهور إلى أنَّ الصوم إنما فُرض على الأمم السابقة مطلق الصوم، غير مُقيَّد برمضان.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا معْدُودَاتِ ﴾ [البقرة: ١٨٣ - ١٨٤].
قال: كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكان هذا صيام الناس قبل ذلك، ثُمَّ فرض الله شهر رمضان.
وورد مثله عن معاذ، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وزاد لم يزل هذا الصوم مشروعا من زمان نوح عليه السلام إلى أن
نسخ الله ذلك بصوم شهر رمضان . اهـ ولهذا عد
، شهر رمضان من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم، انظر
كتاب "الخصائص الكبرى" للحافظ السيوطي.
قصة الرجل الذي جاء يسأل عن الإسلام
ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن أنس بن مالك قال: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في المسجد دخل رجل على جَمَل فأناخَهُ في المسجد، ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قال لهم: أَيُّكُم محمَّدٌ؟
والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مُتَكى بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب - أي يا ابن عبد المطلب
غاية الإحسان
٥٣
فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «قَدْ أَجَبْتُكَ». فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: إني سائلك فمشدّد عليك في المَسْأَلَةِ فلا تَجِد عليَّ في نَفْسِكِ. فقال: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ». فقال : أسألُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، اللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلى النَّاس كلهم؟ فقال: «اللهمَّ نَعَمْ». قال: أُنشِدُكَ بالله، اللهُ أَمَرَك أَن تُصَلِّي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نَعَمْ». قال أَنشدك بالله، الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السَّنة؟ قال: «اللهم نَعَمْ». قال: أنشدك بالله، الله أَمَرَك أن تأخذ هذه الصَّدَقة من أغنيائنا فتقسمها علي فقرائنا؟ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهمَّ نَعَمْ». فقال الرجل: آمنتُ بما جِئْتَ به، وأنا رسول مَن
ورائي مِن قومي، وأنا ضِمَامُ بن ثَعْلَبَةَ أخو بني سعد بن بكر.
وفي رواية عن أنس قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن شيء فكان يُعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أن الله أرسلك. قال: صَدَقَ». قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله». قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله». قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله». قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال، الله أرسلك؟ قال: «نَعَمْ». قال : وزَعَمَ رسولُك أنَّ علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: «نَعَمْ» قال: فبالذي أرسلك اللهُ أَمَرَك بهذا؟ قال: «نَعَمْ». قال: وزَعَمَ رسولك أنَّ علينا زكاةً في أموالنا ؟ قال : صَدَقَ». قال: فبالذي أرسلك، الله أمرك بهذا؟ قال: «نَعَمْ». قال : وزَعَمَ رسولُك أنَّ علينا صوم شهر رمضان في سَنَتِنا؟ قال: «صَدَقَ». قال : فبالذي أرسلك، اللهُ أَمَرَك بهذا ؟ قال: «نَعَمْ». قال:
٥٤
الأدب والمتفرقات
وزَعَمَ رسولُك أنَّ علينا حَجَّ البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: «صَدَقَ». قال : ثُمَّ وَلَّى ، قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنَّ ولا أنقُصُ منهنَّ . فقال
النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لئن صَدَقَ ليَدُخَلَنَّ الجنَّة».
قلت: نهى الله سبحانه - الصحابة عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فيما لم ينزل به قرآن ولا دَعَتْ إليه ضرورة تعليم مثلا.
وكان سبب النهي ما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استهزاء فيقول الرجل : مَن أبي ؟ ويقول الرجل تَضِلُّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم
هذه الآية: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْتَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: ١٠١] حَتَّى فَرَغَ مِن الآية كلها.
فكان الصحابة بعد نزول هذه الآية لا يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إِلَّا لعارض مُهمَّ، وكانوا يحبون أن يأتي الرجل الغريب العاقل يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيستفيدون من ذلك.
وممن وَفَدَ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مِن الغُرباء العُقلاء ضمام بكسر الضاد بن ثعلبة أَوْفَدَهُ قومُهُ سنة تسع، فأظهر من حُسنِ أدبه وكمال عقله في سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ما لفت نظر الصحابة إليه، حتى . رضي الله عنه: «ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام، وقال
قال . عمر ابن عباس رضي الله عنه: «ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام». ثُمَّ ما رَجَعَ ضِمام إلى قومه بني سعد بن بكر صدقوه وآمنوا، وفي هذه القصة فوائد ولطائف بينها شُرَّاح الحديث.
غاية الإحسان
٥٥
أسهم الإسلام الثمانية
أخرج البزار عن حذيفة حذيفة رضي الله عنه، وأبو يعلى عن علي عليه السّلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام - يعني الشهادتين - سَهُمُ، والصَّلاة سَهْمُ، والزَّكَاة سَهُمْ، وَالصَّومُ سَهُمْ، وَحَج البيتِ سهم، والأَمْرُ بالمَعْرُوفِ سَهُمُ، والنَّهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سَهُم، وقد خَابَ مَن لا سَهْمَ لَهُ». وورَدَ موقوفا على حذيفة من كلامه، قال الدار قطني وغيره: «وهو أصح».اهـ
قلت: كانت أسهم الإسلام ثمانية على عدد أبواب الجنة، وخُصَّت هذه الأسهم بالذكر دون غيرها لأن الخمسة الأولى أركان الإسلام وقواعده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهما صلاح المجتمع واستقامة أحواله، ولا خير في مجتمع يخلو من القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانظر كيف لعن الله بني إسرائيل لتفريطهم في هذا الواجب العظيم، قال تعالى: لين الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم
(YA)
ذالك بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: ۷۸ - ۷۹].
والجهاد أساس الدين وعصام اليقين، به تُدفَع عَائِلَةُ المعتدين، وتُنال العِزَّة التي كتبها الله للمؤمنين، وما هان المسلمون اليوم وامتهنت كرامتهم وضاع استقلالهم إلا بتركهم الجهاد في سبيل الله، وركونهم إلى الراحة، وإقبالهم على مصالحهم الشخصية، ولا صلاح يُرجَى لهم إلا بالرجوع إلى دينهم والعمل
٥٦
الأدب والمتفرقات
على استعادة مجدهم ومكافحة قوى الاستعمار وإزالة عوامل الشر والفساد، نسأل الله أن يلهمنا الرشاد والسداد.
فتح أبواب الجنة في رمضان
أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّةِ وخُلَّقَتْ أبوابُ النَّارِ وصُفّدَتْ
الشياطين».
وفي رواية لمسلم: «فَتَّحَتْ أبوابُ الرَّحْمَةِ، وخُلِّقَتْ أبوابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ
الشياطين».
«خُلقت بضم الغين وتشديد اللام المكسورة، «وصفدت»: بضم الصاد
وتشديد الفاء المكسورة.
أسباب
قال عياض: يحتمل أنه على حقيقته وأن ذلك علامة للملائكة على دخول الشهر وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارةٌ عما يفتحه الله لعباده من الطاعات، وهي لدخول الجنة، وتغليق أبواب النَّار عبارةٌ عن صَرْفِ الهِمَمِ عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النَّار، وتصفيد الشياطين عبارةٌ عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات» . اهـ
وقال التُورْبِستِيُّ في "شرح المصابيح": «فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد، تارةً ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنّم كناية عن تنزّه أنفُس الصُّوَّام عن رِجْسِ الفواحش
غاية الإحسان
والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات».اهـ
OV
ورجح القرطبي وابن المنير وغيرهما أنَّ فتح أبواب الجنة وغلق أبواب جهنَّمَ وتصفيد الشياطين على ظاهره وحقيقته، وأنه لا ضرورة تدعو إلى تأويله. قال ابن المنير: «وأمَّا الرواية التي فيها أبواب الرحمة وأبواب السماء فمن تصرف الرواة، والأصل أبواب الجنة بدليل ما يُقابله وهو غلق أبواب جهنم». وقال القرطبي: «فإن قيل: نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا، فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك ؟ فالجواب: إنَّ المعاصي إنها تقل عن بعض الصائمين، وهم الذين صاموا صوما حافظوا على شروطه وآدابه، أو أنَّ الصفد بعض الشياطين وهم المَرَدَة كما جاء في رواية النسائي: وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّياطين». والمَرَدَة هم العُتاة والأكثرون فسادًا. أو أنَّ المقصود من تصفيد الشياطين تقليل الشرور في رمضان، وهذا أمر مشاهد، فإنَّ الشرور في رمضان أقل منها في غيره، أو أن تصفيد
وقوع
الشياطين أجمعين لا يمنع وقوع الشرور والمعاصي، لأنها تقع بأسباب أخرى كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة والشياطين الإنسيَّة التي هي أقوى في بعض الحالات من الشياطين الجنية.
تنبيه: قال بعض العارفين: «تصفيدُ الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له: قد كُفَّت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك
الطاعة ولا فعل المعصية.
۵۸
الأدب والمتفرقات
صيام رمضان يُكفر الذنوب
أخرج النسائي عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن صام رمضان إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، وَمَن قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ». ورواه أحمد بزيادة: «وما تأخَّرَ». وإسناد
هذه الزيادة صحيح أيضًا، والحديث في "الصحيحين" بدون هذه الزيادة. وقال الخطابي : «قوله: «إيمانًا واحْتِسَابًا» أي: نيَّةً وعزيمةً، وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نَفْسُه، غير كاره له، ولا مستثقل لصيامه،
ولا مستطيل لأيامه، لكن يغتنم طول أيامه لعِظَم النواب» . اهـ وقال البغوي: قوله :احتسابا: أي طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه، ويقال: فلان يحتسب الأخبار ويتحسبها أي يتطلبها».اهـ
واختلف في الذنوب التي يُكفّرها صوم رمضان هل هي الصغائر والكبائر أو الصغائر فقط؟ جزم بالأول ابن المنذر، وإليه ميل الأبي، وجَزَمَ بالثاني إمام الحرمين، وعزاه النووي للفقهاء، ودليلهم ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجمعة إلى الجمعَةِ، ورمضان إلى رمضانَ مُكَفِّرات لما بينهنَّ إذا اجْتُنبَتِ
الكبائر». فقيَّد تكفير الذنوب في هذا الحديث باجتناب الكبائر .
قال الحافظ ابن حجر : وهو أي التكفير المذكور في حق من له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلَّا كبائر خُفّف عنه منها مقدار ما لصاحب الصغائر،
ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك».
تنبيه : إنما يُكَفِّر صوم رمضان الذنوب كلها أو بعضها على الخلاف- إذا
غاية الإحسان
رضي
۵۹
راعى الصائم حدوده وحافظ على شرائطه لما ثبت عن أبي سعيد الخدري الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن صَامَ رمضانَ وعَرَفَ حُدُودَهُ، وتَحَفَّظَ ما يَنْبَغِي له أن يَتَحَفَّظَ كَفَّرَ ما قَبْلَهُ». رواه ابن حِبَّان في "صحيحه"، والبيهقي في "السنن".
فضل الجود في شهر رمضان
في "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أَجْوَدَ النَّاسِ، وكان أَجْوَدُ ما يكون في رمضان حين يَلْقَاهُ جبريل عليه السلام وكان يَلْقَاهُ في كلّ ليلة من رمضان فيُدارِسُهُ القُرآنَ، فَلَرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أَجْوَدُ بالخيرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ». ورواه الإمام أحمد بزيادة في آخره وهي: «لا يُسأل عن شيء إِلَّا أَعْطَاهُ». الجود: سعة العطاء وكثرته، والله تعالى يوصف بالجود، ومن أسمائه الجواد، بفتح الواو المخففة.
وفي "سنن الترمذي": عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبي
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ». وفي "الترمذي" أيضًا عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن ا الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن ربه تعالى قال: يا عِبادِي لو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ ومَيَّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ ويَابِسَكُمْ اجْتَمَعُوا على أتْقَى قَلْبِ عَبْدِ مِن عِبَادِي مَا زَادَ ذلك في مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ولو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيْكُمْ وَمَيِّنَكُمْ وَرَطْبَكُمْ ويَابِسَكُمْ اجْتَمَعُوا على أَشْقَى قَلْبِ عَبْدِ مِن عِبادِي مَا نَقَصَ ذلك مِن مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، ولو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وحَيَّكُمْ وَمَيْنَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ
الأدب والمتفرقات
اجْتَمَعُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كلُّ إِنْسَانٍ منكم ما بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سائل منكم ما سَأَلَ ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكِي إِلَّا كما لو أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالبَحْرِ فغَمَسَ فيه إبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إليه، ذلك بأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ، عَطَائِي
كَلامٌ وعَذَابِي كَلامٌ إِنَّمَا أَمْرِي لَشَيءٍ إِذا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقول له: كُنْ فَيَكُونُ». وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أجود بني آدم على الإطلاق كما في هذا
الحديث.
وفي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلَّم أَحْسَنَ الناسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ. وكان جوده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يتضاعف في رمضان ويزداد، وذلك
لأسباب: أحدها: أن شهر رمضان موسم الخيرات؛ لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُؤثر متابعة سُنَّة الله في عباده. ثانيها: أن الصدقة في رمضان أفضل منها في غيره لما جاء في "سنن الترمذي" وغيره عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَفْضَلُ
الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ رمضانَ». ثالثها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم فيستوجب بذلك مثل أجرهم، لما جاء في سنن: "الترمذي" و"النسائي" و"ابن ماجه"، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «مَن فَطَّرَ صَائِبًا كان له مِثْلُ أَجْرِهِ غَير أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِن أُجْرِ الصَّائِمِ شيء».
وفي رواية للنسائي وابن خزيمة في "صحيحه": «مَن جَهَّز غَازِيًا، أو جَهَزَ
غاية الإحسان
٦١
حَاجًا، أو خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أَو فَطَّرَ صَائِبًا، كان له مِثلُ أُجُورِهِمْ مِن غَير أَنْ يَنْقُصَ
مِن أُجُورِهِمْ شَيء». رابعها أن شهر رمضان شهر المواساة والتعاون والمساعدة، لما رواه ابن خزيمة والبيهقي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خَطَبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر يوم من شعبان قال: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قد أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِن أَلْفِ شَهْرٍ، شَهْرٌ جَعَلَ اللَّهُ صِيامَهُ فَريضَةً، وقِيامَ لَيْلِهِ نَطَوُّعًا، مَن تَقَرَّبَ فيه بخَصْلَةٍ كان كمن أدى فريضَةً فيما سواه، ومَن أدَّى فريضَةً فيه كان كمَن أدَّى سبعين فريضَةً فيما سواه، وهو شَهْرُ الصَّبْرِ ، والصَّبْرُ ثَوَابُهُ الجَنَّةُ ، وشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ فِيهِ، مَن فَطَّرَ فيه صَائِما كان مَغْفَرِةٌ لذُنوبِهِ، وعِتَقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وكان له مِثْلُ أَجْرِهِ مِن غير أن يَنْقَصُ مِن أَجْرِهِ شيء». قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يُفطّر
الصائم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يُعْطِي اللَّهُ هَذا الثَّوابَ مَن فَطَّرَ صائما على تَمرَةٍ أو شَرْبَةِ ماءٍ أو مَذْقَةٍ لَبَنٍ، وهو شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وآخِرُهُ عِتْقُ مِن النَّارِ، مَن خَفَّفَ عن مَلُوكِهِ فيه غَفَرَ اللَّهُ لَه وأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ؛ فاسْتكْثِرُوا فيه مِن أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتينِ تُرْضُونَ بهما رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتِينِ لا غِنِّي بِكُمْ عنهما، فأَمَّا الخَصْلَتَانِ اللَّتانِ تُرْضُونَ بها رَبَّكُم: فشهادة أَلَّا إِله إِلَّا الله ، وتَسْتَغْفِرونَهُ، وأمَّا الخصلتانِ اللَّتَانِ لا غِناءَ بِكُم عنهما: فتسألون الله الجنَّةَ وتعودُونَ به مِن النَّارِ، وَمَن سَقَى صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِن حَوْضِي شَرْبَةٌ لَا يَظْمَأُ
حتَّى يَدْخُلَ الجنَّةَ».
٦٢
الأدب والمتفرقات
فلهذه الأسباب وغيرها كان جُوده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يتضاعَفُ في رمضان، وينبغي لنا، بل يتأكَّد في حَقّنا أن نَقْتَدِي به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
في فعل الخير وكثرة الجودِ في هذا الشهر العظيم المبارك.
فضل تلاوة القرآن في شهر رمضان
وأما تلاوة القرآن في شهر رمضان فلها فضل كبير، بل يؤخَذُ من هذا الحديث - كما قال النووي - أنها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان ذكر أفضل منها أو يساويها لفعله النبي وجبريل صلى الله عليهما وسلم بدلا من مدارسة القرآن، وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها.
كان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان.
وكان النَّخَعِيُّ يقرأ القرآن في كلِّ ثلاث ليال في رمضان، وفي العشر الأواخر يقرأه في كل ليلتين.
وكان قتادة يختم القرآن في سبع ليال دائما، وفي رمضان في كل ثلاث ليال،
وفي العشر الأواخر منه في كل ليلة، وكان يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال : إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومُجالَسَةِ أهل العِلم، ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمةً يقرأها في غير الصلاة، وكذلك أبو حنيفة، وقال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف
غاية الإحسان
٦٣
وجمع إليه أصحابه.
وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في
شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت
والمقصود أن شهر رمضان شهر القرآن ينبغي الإكثار فيه من التلاوة بقدرِ الإمكان، ومن الحكمة في ذلك أن ينضم القرآن إلى الصيام في الشفاعة للعبد يوم القيامة، لما جاء في "المسند" عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الصِّيامُ والقَرْآنُ يَشْفَعَانِ ِللعَبْدِ يَوْمَ القِيامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَي رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ بالنَّهارِ فَشَفَعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ فشَفَعْني فيه، فيَشْفَعانِ». صححه الحاكم.
ما أعطيته هذه الأُمَّة في شهر رمضان
أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي في شَهْرِ رَمَضانَ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ نَبِيٍّ مِن قَبْلي، أما واحدةٌ فإِنَّهُ إذا كان أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِن شَهْرٍ رمضانَ يَنظُرُ اللَّهُ عَزَّ وجلَّ إليهم، ومَن نَظَرَ اللهُ إليه لم يُعَذِّبْهُ أَبَدًا، وأمَّا الثانية فَإِنَّ خَلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِين يُمْسُونَ أَطْيَبُ عند الله مِن رِيحِ المِسْكِ، وأما الثالثة فإِنَّ الملائكة تَسْتَغْفِرُ لهم في كل يومٍ ولَيْلَةٍ، وأما الرابعة فإِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ فيقول لها: استعَدِّي وتزيَّني لعبادي أَوْشَكَ أَنْ يَسْتَرِيحُوا مِن تَعِبِ الدُّنيا إلى دَارِي وكَرامَتِي، وَأَمَّا الخامسة فإنَّه إذا كان في آخِر لَيْلَةٍ غَفَرَ الله لهم جميعًا».
فقال رجل من القوم أهي ليلة القَدْرِ ؟ فقال: «لا، ألم تر إلى العمال يعملون
٦٤
الأدب والمتفرقات
فَإِذَا فَرَهُوا مِن أَعْمَاهُم وُنُوا أُجُورَهُم».
وروى أحمد والبزار والبيهقي نحوه من حديث أبي هريرة، هذه خمس خصال أكرم الله بها الصائمين مِن أُمَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في شهر
رمضان.
أولها: نظر الله إليهم في أول ليلةٍ نظرة عناية ورحمة، ومَن نَظَرَ اللهُ إليه كذلك لم يُعَذِّبْهُ أبدًا. ثانيها : خَلُوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك. والخلوف بضم الخاء وفتحها - تغير رائحة الفم لما يحدث من خُلُو المعدة بترك الأكل، ومعنى كونه أطيب عند الله من ريح المسك: أنَّ الله يُثيب عليه في الآخرة حتى تكون له رائحة أطيب من ريح المِسْكِ، وقيل ينال الصائم من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا.
وأخذ الشافعي من هذا الحديث ونحوه كراهة السواك للصائم بعد الزَّوال؛ لأن السواك يُذْهِبُ الخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك. وأجازه مالك طول النهار للصائم؛ لأن الخلوف إن كان من المعدة فالسواك لا يُذْهِبه، وأيضًا فإنَّ المقصود من مدح الخلُوفِ الثَّناء على الصوم
وبيان مزيَّته، وليس المقصود نفس الخلوف فذها به وبقائه سواء. ويؤيد مذهب المالكيَّة ما رواه الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم بفتح الغين وسكون النون قال: سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أيُّ النَّهارِ ؟ قال : غُدْوَةً أو عَشِيَّةٌ. قلت: إِنَّ النَّاسَ يكرهونه عَشِيَّةٌ، ويقولون إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَخَلُوفُ فَمِ
غاية الإحسان
70
الصَّائِمِ أَطْيَبُ عند الله مِن رِيحِ المِسْكِ». قال: سبحان الله!! لقد أمرهم بالسواك وما كان بالذي يأمرهم أن يُيبسوا أفواههم عمدًا، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شر.
ثالثها: استغفار الملائكة لهم، واستغفار الملائكة للمؤمنين ثابت بنص القرآن في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَتِهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَابِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) وقهم السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَيذٍ فَقَدْ رَحْمَتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر: ۷ - ۹] .
والحكمة في استغفار الملائكة للمؤمنين أنهم حين تكلموا في بني آدم وقالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: ٣٠] أمرهم الله بالاستغفار للمؤمنين منهم جَبْرًا لما وقع، ففيه تنبيه على أنَّ مَن تكلَّم في غيره ينبغي أن يَسْتَغْفِرَ له، ثُمَّ إِنَّ استغفار الملائكة للصائمين استغفار خاص يدل على مزيد العناية بهم.
رابعها تزيين الجنَّة وإعدادها طول شهر رمضان لاستقبال الصائمين
القائمين.
خامسها مغفرة الله لهم ليلة العيد حين ينتهون من أداء .
صوم رمضان وقيامه ويُكبرون الله على ما هداهم إليه من نعمة الصيام والقيام، وقد جاء في
الأدب والمتفرقات
حديث ضعيف عن ابن عبّاس عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ لَيْلَةَ عيد الفِطْرِ تُسَمَّى لَيْلَةَ الجائِزَةِ؛ وذلك لأنَّ اللهَ يُجْزِلُ العَطَاءَ للصَّائمين غَدَاةَ العِيدِ، وَيَشْمَلُهُم بِعَفْوِهِ وسَتْرِهِ ورِضَاهُ».
وهناك خصال أخرى غير هذه الخمس أكرم الله بها الأُمة المحمدية في
رمضان، منها:
۱ - عِتْقُ ناسِ مِن النَّارِ عند كل إفطار، لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الله عند كلِّ فِطْرٍ مُتَقَاءُ».
وفي "مسند البزار " : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله تبارك وتعالى عُتَقَاء في كل يوم وليلة -يعني
في رمضان وإنَّ لكل مسلم في كل يوم وليلةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ».
وفي "سنن الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا كان أوَّلُ ليلةٍ مِن شهر رمضان صُفّدتِ الشياطين ومَرَدَةُ الجنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنَّةِ فلم يُغلق منها بابٌ ويُنادِي مُنادِ : يا باغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ ويا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَاللَّهُ عُتَقَاءُ
مِن النَّارِ وذلك كل ليلة». والصحيح أن .
عدد العتقاء
غير
. مُقيّد بعددٍ مُعيَّن، وجاء تحديده في بعض
الأحاديث بستمائة ألفٍ، وفي بعضها بستين ألفا، وفي بعضها بألف ألف، ولكن
تلك الأحاديث ضعيفة مضطربة لا يصح الاعتماد عليها.
تنبيه: شرط مَن يعتقه الله في رمضان ألَّا يُفْطِر على مُحرَّم، فإن أفطر على
غاية الإحسان
٦٧
محرم لم يكن له في الإعتاق نصيب، لما جاء في "معجم الطبراني الصغير" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله عزّ وجلَّ عتقاء في كلّ ليلة من شهر رمضان، إِلَّا رَجُلًا أَفْطَرَ على خَمْرٍ».
الله
ومنها: فتح أبواب الجنَّة، وإغلاق أبواب جهنم، وتصفيدُ الشياطين، وقد تقدم الكلام عليها قريبًا. ومنها: استجابة الدعاء، روى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي ا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال يوما وحَضَرَ رمضان: أتاكُمْ رمضانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يَغْشَاكُم الله فيه فيُنْزِلِ الرَّحْمَةَ، وَيَحُطُ الخَطَايَا ويَسْتَجِيبُ فيه الدعاء، يَنْظُرُ الله تعالى إلى تَنَافُسِكُم فيه، ويُباهِي بِكُمْ مَلائِكَتَهُ،
فَأَرُوا اللَّهَ مِن أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ». وفي "المسند" و"سنن ابن ماجه والترمذي" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهم: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لها أبوابَ السماء، ويقول الربُّ: وعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ ولَو بعد حين». حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان.
ولفظ رواية الترمذي: «الصَّائِمُ حين يُفْطِرُ ..... والباقي سواء.
وفي "سنن البيهقي" بإسنادٍ فيه ضعف عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ لِلصَّائِمِ عند فِطْرِهِ لَدَعْوَةٌ مَا ترد». وكان عبد الله بن عمرو يقول عند فطره: «اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ذنوبي».
۶۸
الأدب والمتفرقات
باب الريان للصائمين
في "الصحيحين" وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ في الجنَّةِ بابًا يُقَالُ له الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ. الصَّائِمُونَ يومَ القِيامَةِ، لا يَدْخُلُ منه أَحَدٌ غيرهم، فإِذا دَخَلُوا أُغْلِقَ فلم يَدْخُلْ
منه أَحَدٌ».
منه
أكرم الله الصائمين فجعل لهم بابا في الجنة خاصا ابهم، لا يُزاحمهم فيه غيرهم، وتلك مزيَّةٌ تدل على ما للصوم من الفضل عند الله تعالى.
الصوم جنة ووقاية
ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قال الله عزَّ وجلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ له إِلَّا الصَّومَ فإنه لي وأنا أَجْزي به، والصيامُ جُنَّةٌ - بضم الجيم - فإذا كان يومُ صَوْمِ أَحَدِكُم فَلا يَرْفُتُ ولا يَصْخَبُ، فإن سَابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ فليَقُلْ إِنِّي صَائمٌ، والذي نَفْسُ محمَّد بيده خَلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عند الله مِن رِيحِ المِسْكِ، للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُها : إذا أَفْطَرَ فَرحٌ بِفِطْرِهِ، وَإِذا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ».
اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: «الصيام لي وأنا أَجْزِي بِهِ». مع أنَّ الأعمال كلها له سبحانه وتعالى وهو الذي يجزي بها، وذهبوا في تأويل ذلك إلى مذاهب. منها : أنَّ الصيام لا يقع فيه رياء؛ لأنه نيَّة وإمساك. هذا رأي أبي عبيد. ويؤيده ما رواه البيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الصيامُ لا رِيَاءَ فيه، وقال عزَّ وجلَّ: هو لي وأنا أَجْزِي بِهِ».
إسناده ضعيف، ولو صح لكان قاطعا للنزاع كما قال الحافظ.
غاية الإحسان
79
ومعنى أنَّ الصوم لا رياء فيه : أنه لا يدخله الرياء بفعله؛ لأنه لا يطلع عليه غير الله تعالى، بخلاف غيره من الطاعات يدخل في فعلها الرياء؛ لأنها أعمال تُشاهَد كالصَّلاة ونحوها. نعم، قد يدخل في الصوم من جهة الإخبار عنه، كمن يصوم ثُمَّ يُخير النَّاسَ أنه كان صائمًا.
كما يُحكى عن بعض المغفلين أنه كان كثير الصلاة، فبينما هو يتنفّل في بعض مساجد الكوفة والناس يُعجبون مِن كثرة صلاته وحُسنها، إذ التفتَ وقال لهم: وأنا مع ذلك صائم.
فالصيام قد يدخله الرياء من جهة التحدث عنه لا من جهة فعله. ومنها: أن الإضافة في قوله: «الصّيام لي» للتشريف والتعظيم كما يقال: المسجد بيت الله، وإن كانت البيوت كلُّها الله.
ومنها: أنَّ الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات، من صفات الرب
جل جلاله، فلما تقرّب الصائم إليه بما يوافق صفة من صفاته أضافه إليه. قال القرطبي : معناه أنَّ أعمال العباد مُناسبة لأحوالهم إلَّا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحقِّ، كأنه يقول : إِنَّ الصائم يتقرب إليَّ بأمرٍ هو
مُتعلّق بصفةٍ مِن صِفاتي» (۱).
ومنها: أن
ا معنى قوله وأنا أجزي به، أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه
وتضعيف حسناته.
(۱) ومنها أنَّ الصوم لم يُعبد به إلَّا الله تعالى، فإنَّ المشركين تقربوا لآلهتهم بركوع أو سجود
أو تضرع ودعاء أو تقديم قربان، ولم يتقرب أحد منهم بصوم لآلهته، فمعنى قوله:
الصوم لي» أنه لم يُعبَد به غيري.
۷۰
الأدب والمتفرقات
قال القرطبي: معناه أنَّ الأعمال قد كُشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تُضاعَفُ مِن عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلَّا الصيام فإنَّ الله يُثيب عليه بغير تقدير؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا يُوفَى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: ١٠] والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال والصوم صبر؛ لأن الصائم يُصبر نَفْسَهُ ويحبسها عن سائر الشهوات وهذا رأي سفيان بن عُيِّينَة وأبي عبيد. هذا بعض ما اخترناه في تأويل هذه الجملة من الحديث، وقد استقصى
.
أبوبكر الطالقاني في كتاب حظائر "القدس" وجوه التأويلات فيه فأوصلها إلى بضعة وخمسين، ومعنى قوله: (والصيام جُنَّة) بضم الجيم وشد النون- أي: وقاية وستر مِن النَّارِ.
قال ابن العربي : إنما كان الصوم جُنَّةٌ مِن النَّار لأنه إمساك عن الشهوات والنار تحفوفة بالشهوات، فمَن كَفَّ نَفْسَهُ عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترا له من النار في الآخرة، ولكون الصّيامِ جُنَّةً، والجنَّة تنخرق بالمعاصي عقب بقوله: «فإذا كان يومُ صَوْمِ أَحَدِكُم فَلا يَرْفُتُ» بضم الفاء، أي: يتكلم بكلام فاحش ولا يَجْهَلُ) أي: لا يفعل فعل الجهال من الصياح والسَّفَه ونحو ذلك، وفي رواية: ولا يَصْحَبُ بالصاد والسين، وبفتح الخاء، والصخب أي: الصياح وهو من فعل الجهال أيضًا.
وفي رواية الطبري: ولا يَسْخَر» وهي صحيحة في المعنى(۱) لأن السخرية بالقول أو الفعل جهل، لقوله: «فإن سابه أحدٌ أو قاتَلَهُ فليَقُلْ: إني صائم، إني
(۱) وإن لم تصح رواية.
غاية الإحسان
صائم».
۷۱
وفي رواية سعيد بن منصور : فإن سابَّهُ أحدٌ أو مَارَاهُ». أي جادله. وفي رواية النسائي من حديث عائشة : وإن امرؤٌ جَهَلَ عليه فلا يَشْتِمُهُ ولا يسبه». والمقصود من هذه الروايات ابتعاد الصائم عن كل ما يوقعه في الإثم. واختلف: هل يقول إني صائم بلسانه ويخاطب بها خصمه، أو يقولها في نَفْسِهِ ؟ جزم بالثاني المتولي من أئمة الشافعية ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجح النووي الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذب": «كل منهما حَسَنٌ، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حَسَنًا» . اهـ
للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفَرَحُهُما: إِذا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ»: أي فرح بزوال جوعه وعطشه، وهذا الفرح طبيعي، أو فرح بفطره من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته، ومعونة على مستقبل صيامه، ففرح كل واحد بحسبه.
وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ»: أي فرح بجزاء صومه وثوابه الذي يجده عند ربه سبحانه وتعالى.
تنبيه: أخذ الحافظ ابن عبد البر من كون الصيامِ جُنَّةٌ مِن النَّارِ ترجيحه على سائر العبادات، ويؤيده ما رواه النسائي وابن خزيمة عن أبي أمامة رضي الله عنه
قال: قلت: يا رسول الله ، مرني بعمل قال: «عليكَ بالصَّوْمِ فَإِنَّه لا عِدْلَ لَهُ». بكسر العين - قلت: يا رسول الله مرني بعمل. قال: «عليك بالصَّوْمِ فَإِنَّه لا مَثِيلَ
له». قلت: يا رسول الله مرني بعمل. قال: «عليك بالصَّوْمِ فَإِنَّه لا مِثْلَ لَهُ». ورواه ابن حِبَّان في "صحيحه" في حديث قال: قلت يا رسول الله دلّني
۷۲
الأدب والمتفرقات
على عمل أدخل به الجنة. قال: عليك بالصَّوْمِ فَإِنَّه لا مثيلَ لَهُ». قال: وكان أمامة لا يرى في بيته الدَّخان نهارًا إلَّا إذا نَزَلَ بهم ضيف. وهو حديث
أبو
صحيح.
قال الحافظ ابن حجر : والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة». قلت: ويكفي دليلا على ترجيحها أنها فرضت ليلة المعراج والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في سِدرة المنتهى، على أنَّ عبارة ابن عبد البر ليست صريحةً في
ترجيح الصوم على الإطلاق، والله أعلم.
متي يكون الصوم جنة؟
تقدم أنَّ الصيام جُنَّةُ مِن النَّارِ ، لكنَّه لا يكون كذلك إِلَّا إِذا سَلِم من آفات اللسان وغيرها من المعاصي، كما جاء مُبيَّنا في عِدَّة أحاديث: ففي "المسند" عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: الصيامُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقُها». زاد الدارمي في روايته: «بالغيبة».
وفي "الصحيح" عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ النُّورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فليس الله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ
وشَرَابَهُ».
وفي "المعجم الصغير" للطبراني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ الخَنَا والكَذِبَ فَلا حَاجَةَ اللهِ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ».
وفي "المعجم الأوسط للطبراني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
غاية الإحسان
۷۳
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الصيامُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْهُ». قيل: «وبِمَ
يَخْرِقُهُ؟» قال: «بكَذَبٍ أو غِيبَةٍ».
فبينت هذه الأحاديث أنَّ الصِّيامِ الذي لا يسلم صاحبه من كذب أو غيبة
أو قول زورٍ أو نحو ذلك من المعاصي لا يكون مقبولاً . عند الله، وبالتالي لا يكون جُنَّةٌ لصاحبه مِن النَّارِ.
قصة الصائمتين اللتين اغتابتا الناس
أخرج أحمد وابن أبي الدنيا وأبو يعلى، عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ امرأتين قد صَامَتا، وأنَّ رَجُلًا قال: يا رسول الله إِنَّ هاهنا امرأتين قد صامتا، وأنها قد كادتا أن تموتا من العَطَشِ. فَأَعْرَضَ عنه أو سَكَتَ ثُمَّ عَادَ، وأُرَاهُ قال: بالهاجرة - يعني وقت الظهر - قال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتنا أو كادتا أن تموتا. قال: «ادْعُهُما» قال: فجاءتا. قال: فجئ بقدح أو عُس - بضم العين وتشديد السين: قَدَحٌ كبير - فقال لإحديهما: «قيئي». فقاءت فيحا ودما وصديدًا ولحما حتى ملأت نصف القَدَحِ، ثُمَّ قال للأخرى: «قيئي». فقاءت من قيح ودَمٍ وصَدِيدٍ ولحم عبيط - بفتح العين أي طري وغيره حتى ملأت القَدَحَ ، ثُمَّ قال: «إِنَّ هاتين صَامَنَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ هُما وَأَفْطَرَنَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عليهما، جَلَسَتْ إِحْدَاهُما إلى الأُخْرَى فَجَعَلْنَا تَأْكُلَانِ مِن لُحُومِ النَّاسِ».
روى أبو داود الطيالسي في "المسند"، وابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة"، والبيهقي، عن أنس قال: أمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بصوم يوم وقال:
٧٤
الأدب والمتفرقات
لا يُفْطِرُ أحد منكم حتّى آذنَ لَهُ». فصامَ الناسُ، حتّى إذا أمسوا فجعل الرجل يجئ فيقول: يا رسول الله إني ظَلَلْتُ صائما فأذن لي فأفطر. فيأذن له، حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنها تستحيان أن تأتياك فأذن لهما فلتُفْطِرا. فأَعْرَضَ عنه، ثُمَّ عاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عنه، ثُمَّ عاوَدَهُ فأَعْرَضَ عنه، ثُمَّ عاوَدَهُ فأَعْرَضَ عنه، فقال: «إنهما لم تَصُوما وكيف صَامَ مَن ظل هذا اليوم يأكُلُ حُومَ النَّاسِ، اذهب فمُرْهُما وإن كانتا صائمتين فليَسْتَقِينًا». فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا فقاءت كل واحدةٍ عَلَقَةً مِن دَمٍ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فأخبره، فقال: «والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لو بَقَيَتَا في بُطُونِما لأَكَلَتْهُما النَّارُ».
وقد أخذ الإمام الأوزاعي بهذا الحديث والذي قبله فقال: «إِنَّ الغيبة تُفْطِر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم». وحكي عن عائشة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها، وعن إبراهيم النَّخَعي -
شيخ أبي حنيفة - قال: «كانوا يقولون الكذب يُفطر الصائم».
وذهب ابن حزم إلى أنَّ كل معصية كيفما كانت تُبطل الصوم وتُفْسِدُه، لكن الجمهور يرون أنَّ المعاصي من غيبة وغيرها، إنما تُبطل ثواب الصوم وتُذهب فائدته المترتبة عليه من قبول الدعاء وغفران الذنوب، وكفى بهذا خِزْيًا
وحرمانًا، ولهذا حَضَ السَّلَفُ على صيانة الصوم وحفظه من الآفات. فروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «ليس الصيام من الشّرابِ والطَّعامِ وَحْدَهُ، ولكنه من الكَذَبِ، والبَاطِلِ واللَّغْوِ». ورُوي أيضًا عن علي كرم الله وجهه مثله.
غاية الإحسان
Vo
وروي أيضا عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: «إذا صُمتَ فليَهُم سمعك، وبَصَرُك ، ولِسَانُك عن الكَذَبِ والمأثم، ودَع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يومَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سواء».
وقال أبو ذر رضي الله عنه: «إذا صُمْتَ فتحفّظ ما استطعت».
وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد وقالوا: «نُطَهَّر صيامنا». وقال ميمون بن مهران: «أهون الصومِ ترك الطعام والشراب». مضاعفات الحسنات والسيئات في رمضان
ولا شك أن الحسنات والسيئات تُضاعَفُ بحسب الشخص والزمان والمكان، فالحسنة في نَفْسِها حسنةٌ، ولكنَّها من رجال الدين وأهل الحكم أحسن، والسيئة في نَفْسِها سيِّئَةٌ ولكنها ممن يُقتدى به أسوأ، وكذلك بالنسبة للمكان والزمان، ولهذا كانت الحسنات والسيئات في شهر رمضان مضاعفة؛ الحُرمة هذا الشهر العظيم.
ففي معجمي الطبراني "الأوسط" و"الصغير" عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أمتي لم يُخزَوا ما أقاموا شهر رمضانَ»، قيل: يا رسول الله : وما خِزيهم في إضاعة شهر رمضان؟ قال: «انْتِهَاكُ المَحَارِمِ فيه، مَن زَنَى فِيهِ أو شَرِبَ فِيهِ خَمْرًا لَعَنَهُ اللَّهُ ومَن في السَّمواتِ إلى مِثْلِهِ مِن الحَوْلِ، فإن ماتَ قبل أن يُدْرِكَهُ رمضانُ لم تبقَ له عند الله حَسَنةٌ يتّقي بها النَّارَ ، فاتقُوا شهر رمضانَ؛ فَإِنَّ الحَسَناتِ تُضاعَفُ فيه ما لا تُضَاعَفُ فيما سواه، وكذلك السيئات».
٧٦
الأدب والمتفرقات
الصيام على أنواع
نقل ابن العربي المعافري عن بعض الزهاد أنَّ الصوم على أربعة أنواع: صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع.
وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل.
وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله تعالى وعبادته. وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله تعالى، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة.
وهذا النوع الأخير أَحَدُ ما أُوّل به قوله في الحديث القدسي السابق: الصَّوْمُ لي وأنا أَجْزِي بِهِ أي صوم خواص الخواص؛ لأنه صيام عن جميع الكائنات، وفطر على مشاهدة خالقها يوم القيامة، وهذا مقام عال كما قال الحافظ؛ فلا ينبغي حصر المراد من الحديث فيه لنُدْرَةِ وقوعه، وإنما يؤخذ مِن الحديث بطريق الإشارة، ولعل قائله أراد ذلك لأنه منقول عن بعض الزهّاد
والله أعلم.
المحرُومُ مِن حُرِمَ خَيْر رمضان
أخرج الحاكم عن كعب بن عجرة بفتح العين وسكون الجيم- رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «احْضَرُوا المِنبرَ». فَحَضَرْنا فلما ارتقى درجةً قال: «آمين». فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: «آمين». فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: «آمين». فلما نزل قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه؟ قال: «إنَّ جبريلَ عَرَضَ لِي فقال: بَعُدَ مَن أَدْرَكَ رمضان فلم يُغْفَرْ لَهُ. قلت: آمين، فلمَّا رَقِيتُ الثانية قال: بَعُدَ مَن ذُكِرْتَ عِنْدَهُ
غاية الإحسان
۷۷
فلم يُصَلِّ عليك. فقلت ،آمين فلما رَقِيتُ الثالثة، قال: بَعُدَ مَن أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ الكبرُ عِنْدَهُ أو أَحَدُهُما فلم يُدْخِلَاهُ الجنَّةَ . قلت: آمين». صححه الحاكم، وله طرق وألفاظ.
ومعنى «بعد»: أبعده الله -كما جاء في رواية أخري- ومن أبعده الله دخل النار. ومعنى قوله: «أَدْرَكَ رمضانَ فلم يُغْفَرْ لَهُ» أنه قصر في هذا الشهر بارتكاب المخالفات ولم يُلهم توبةً حتى انتهى رمضان ولم يُغْفَر له. بَعُد مَن ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك وفي رواية: ومَن ذُكِرْتَ فلم يُصَلّ عليك فأَبْعَدَهُ اللهُ». وهذا يقتضي وجوب الصلاة عليه إذا ذكر اسمه
عنده
- وهو كذلك فإن تكرر ذكر اسمه في المجلس مرَّاتٍ كَفَّت الصلاة عليه أول
مرة.
وقوله: «بعد مَن أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ الكِبَرُ - بكسر الكاف وفتح الباء وضم الراء - عنده أو أحدهما - بفتح الدال - فلم يُدْخِلَاهُ الجنَّة» معناه أنه قصر في حَقٌّ والديه الكبيرين، ولم يُبرهما فاستحق البُعْدَ ودخول النار، نسأل الله السلامة والعافية.
فضل السحور
في "الصحيحين" وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «تَسَخَرُوا فَإِنَّ فِي السَّحَوُرِ بَرَكَةٌ». السَّحَوُر» : بفتح السين وبضمها.
وتوجيه ما فيه من البركة أنه اتباع للسُّنَّة، ومُخالفة لأهل الكتاب، ويُقَوِّي
على العبادة.
وفي "صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله
۷۸
الأدب والمتفرقات
عليه وآله وسلّم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ». يعني أنَّ السَّحُور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لأن الله أباح لنا
ما حرم عليهم، ومخالفتنا لهم تقع موقع الشكر على تلك النعمة. وفي "المسند" بإسنادٍ قوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «السَّحُورُ كُلُّهُ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ ولو أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جَرْعَةً مِن ماءٍ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على المتسحرين». صلاة الله على عبده رحمته إيَّاه وصلاة الملائكة: دعاء واستغفار.
تنبيهات
الأول: ينبغي تأخير السَّحُور وتعجيل الفطر، وأن يكونا على تمر أو فيهما تمر لما ورد في ذلك من الأحاديث، ففي "الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرِ مَا عَجَّلُوا
الفِطْرَ». وفي "مسند أبي يعلى" عن أنس قال: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَطُّ صَلَّى المَغْرِبَ حَتَّى يُفْطِرَ ولو على شَرْبَةٍ مِن ماء. صححه ابن
خزيمة وابن حبان.
و في "أوسط معاجم الطبراني" بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّا مَعْشَرَ الأنبياءِ أُمِرْنا أن نُعَجَّلَ فِطْرَنا، وأن نُؤخِّرَ سَحُورنا، وأن نَضَعَ أَيماننا بفتح الهمزة- على شَمائِلنا
في الصَّلاةِ».
غاية الإحسان
۷۹
فالسحور من سنن الأنبياء أعطاه الله لهذه الأُمَّة إكراما لنبيها صلى الله عليه
وآله وسلم.
وفي "سنن أبي داود عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلَّم قال: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ». صححه ابن حِبَّان.
وفي "سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه"، عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَليُفْطِرْ على تمر فإنه بَرَكَةٌ، فإنْ لم يَجِدْ تَمرًا فالماء فإنه طَهُورٌ». صححه الترمذي وابن حبان.
وفي "مسند أبي يعلى" عن أنس قال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
يُحِبُّ أن يُفْطِر على ثلاث تمرات أو شيء لم تُصِبْهُ النَّارُ .
الثاني: طعام السَّحُور إذا كان حلالاً من النعيم الذي لا يُحاسب عليه لما رواه البزار والطبراني في "الكبير" عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «ثلاثة ليس عليهم حِساب فيها طَعِمُوا - إن شاء الله تعالى- إذا كان حلالا : الصَّائِمُ، والمُتسَخَّر، والمرابط في سبيل الله». في إسناده ضعف. الثالث: ينبغي للصائم عند إفطاره أن يقول ما ورد في ذلك، ففي "سنن أبي داود" و"النسائي" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أفطر قال: «ذَهَبَ الظُّمَأُ وابتلتِ بتشديد اللام العُرُوقُ، وثَبَتَ الأَجْرُ إن شاء الله تعالى».
وفي " أوسط معاجم الطبراني" عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا أفطر قال: «بسم الله اللهم لك صُمْتُ وعلى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ».
۸۰
الأدب والمتفرقات
ورواه الطبراني في "الكبير" من حديث ابن عباس وزاد في آخره: «فتقبل مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ». وروى ابن السنّي عن معاذ بن زهرة: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم
إذا أفطر قال: «الحمد لله الذي أَعَانَنِي فَصُمْتُ، وَرَزَقَنِي فَأَفْطَرْتُ». هذه جملة أذكار واردةٍ يختار الصائم منها ما شاء، فإن شاء أن يجمعها كلها فليقل: «بسم الله الحمد لله الذي أعانني فصُمْتُ، ورَزَقَنِي فَأَفْطَرْتُ، اللهم لكَ صُمْتُ، وعلى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ، فتقَبَّل مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، ذَهَبَ الظَّمَأُ وابْتَلتِ العُروقُ وثَبَتَ الأَجْرُ إن شاء الله تعالى». تقدم أنَّ للصائم عند فَطْرِهِ دعوة ما تردُّ، فلا ينسى أن يدعو بما شاء من الخير.
قيام رمضان
في "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن قام رمضان إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِهِ». لا خلاف أنَّ قيام رمضان مندوب وليس بواجب، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما.
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يُرَغَبُ في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثُمَّ يقول: «مَن قَامَ رمضانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ». ثُمَّ اختلف بعد ذلك هل فعله بالبيت أفضل أو بالمسجد؟ فاستحب مالك أن يكون في البيت؛ لحديث: «صلاة أَحَدِكُم في بَيْتِهِ أفضل إلَّا المكتوبة». ولأنه أحوط لسلامة النيَّة. واستحبَّ غيره أن يكون في المسجد؛ لأنه فعله صلى الله
غاية الإحسان
عليه وآله وسلم ولأن عمر استحسنه حين رأى الناس عليه.
۸۱
قال الليث بن سعد: «لو أقامه الناس في البيوت وعَطَّلوا المساجد منه
أُخبِرُواء على الخروج ؛ لأن قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه». وبكونه في المسجد أفضل أخذ أحمد والحنفية وابن عبدالحكم من أئمة المالكية، واختلف فيه أصحاب الشافعي
قيامه صلى الله عليه وآله وسلم بالناس في رمضان
في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم خَرَجَ من جوف الليل فصلّى في المسجد تعني في رمضان كما في رواية للبخاري فصَلَّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم في الليلة الثانية فصَلُّوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة فخرج فصلُّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فطَفِقَ يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس ثُمَّ تشهد فقال: «أما بعد، فإنه لم يخف عليَّ شَأْنكم الليلة، ولكني خَشِيتُ أَن تُفْرَضَ عليكم صلاة الليل فتَعْجَزُوا عنها».
منهم
رجال
يؤخذ من هذا الحديث استحباب قيام رمضان جماعةً في المسجد، وإنما تركه صلى الله عليه وآله وسلّم رِفقًا بأُمَّته لئلا يُفْرَضَ عليهم، وهو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم كما قال . عنه خالقه ومولاه. قال الزهري : فتُوفِّي رسول الله صلَّى الله عليه
۸۲
الأدب والمتفرقات
وآله وسلم والناس على ذلك أي على ترك الجماعة في القيام ثُمَّ كان الأمر
على ذلك في خلافة أبي بكرٍ وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه. قال عبد الرحمن بن عبد بالتنوين - القاري خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعٌ متفرّقون يُصَلِّي الرجل لنَفْسِهِ ويُصلي الرجل فيصلِّي بصلاته الرَّهْطُ، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثل، ثُمَّ عَزَمَ فجمعهم على أبي بن كعب، ثُمَّ خرجت معه ليلةً أخرى والناس يصلُّون بصلاة قارئهم قال عمر: «نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوَّله، وهذا بدء اجتماع الناس على صلاة القيام في المسجد.
عدد ركعات القيام
ثبت في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، وقد سألها أبو سلمة بن عبدالرحمن: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يُصَلِّي أربعًا فلا تسأل عن حُسْنِهِنَّ وطُولهنَّ، ثُمَّ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطُوهنَّ، ثُمَّ يصلّي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن تُوتِرَ؟ قال: «يا عائشة، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنامَانِ وَلا يَنامُ قَلْبِي».
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُصَلِّي في رمضان عشرين ركعة والوِتر.
إسناده ضعيف.
غاية الإحسان
۸۳
قال الحافظ : وقد عارضه حديث عائشة هذا المخرَّج في "الصحيحين"
مع كونها أعلم بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلا من غيره». اهـ قلت: ويعارضه أيضًا ما رواه أبو يعلى، والطبراني في "الصغير"، عن جابر رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر، فلما كانت القابِلَةُ اجتمعنا في المسجد ورَجَوْنا أن يخرج إلينا، فلم نزل فيه حتى أصبحنا، ثُمَّ دخلنا فقلنا يا رسول الله اجتمعنا في المسجد ورَجَونا أن تُصَلِّي بنا! قال: إني خشيت - أو: كَرِهْتُ أَن يُكْتَبَ عليكم». في إسناده ضعف.
والمقصود أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى في رمضان أكثر من ثمان ركعاتٍ غير الوِتر، فمن اقتصر عليها في قيامه فهو أفضل، ومن زاد عليها فلا حَرَجَ لأن الشرع لم يمنع من الزيادة على ثمان
ركعات، ولأنه ثبت عن السَّلَف أنهم صلُّوا عشرين ركعةً وأكثر وأقل. فعن داود بن قيس قال : أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبدالعزيز -يعني في المدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا.
وعن الزعفراني، عن الشافعي قال: رأيت الناس بالمدينة يقومون بتسع
وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق.
وعن نافع قال: لم أدرك الناس إلا وهم يصلُّون تسعًا وثلاثون يوترون منها بثلاث. وعن زرارة بن أوفى أنه كان يُصَلِّي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين
ويوتر. وعن سعيد بن جبير أربعًا وعشرين، وقيل: ست عشرة غير الوِتر.
ΛΕ
الأدب والمتفرقات
وعلى هذا جرى العمل عندنا بالمغرب، يصلُّون بعد العشاء ثمان ركعات جماعة في المسجد، ثُمَّ يعودون بعد السَّحُور فيصلُّون ثمانيا أخرى ويوترون
بثلاث.
وقال الترمذي: «أكثر ما قيل فيه أنها تُصَلَّى إحدى وأربعين ركعة، يعني بالوتر. وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة
ركعة، قال ابن إسحاق: هذا أثبت ما سمعتُ في ذلك. اهـ قال الحافظ : وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل». اهـ والله أعلم.
ليلة القدر
سُمِّيت ليلة القَدرِ لتقدير الله تعالى فيها ما يكون في تلك السنة من الأرزاق والآجال وغير ذلك، والمراد بهذا التقدير إظهار ذلك للملائكة عليهم السلام وهي المراد بقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَرَكَةِ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِندِنَا ﴾ [الدخان: ٣ - ٥].
وذهب الروافض إلى أنَّ ليلة القَدْرِ رُفِعَتْ ولم يعد لها وجود، ولكن الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة أنها باقيةٌ مُستمِرَّةً إلى يوم القيامة، وإنما رفع تعيينها لا غير. وقد روى عبد الرزاق عن عبد الله بن يَخْنَس قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أنَّ ليلة القدر رُفعت، قال: «كذب من قال ذلك».
وروي عن عبد الله بن شريك قال : ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنه أنكرها،
فأراد زِر بن حُبَيشِ أَن يَحْصِبَهُ - أي يرميه بالحصباء فمنعه قومه.
غاية الإحسان
۸۵
متى تكون ليلة القدر ؟
اختلف العلماء في تعيين ليلة القَدْرِ ، وفي أي ليلة تكون؟ وذهبوا في ذلك مذاهب شتّى وَصَلت إلى بضعة وأربعين مذهبا، كل مذهب استدل صاحبه بما ترجح عنده، وأقرب الأقوال فيها أنها في رمضان وفي العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، وهو مذهب جماعة من الصحابة منهم: أبي بن كعب وعمر وابنه حذيفة، وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة، وقول أكثر
العلماء.
علامة ليلة القدر
في "صحيح مسلم" عن زر بن حبيش قال: سمعت أبي بن كعب يقول – وقيل له إن عبد الله بن مسعودٍ يقول: «مَن قامَ السَّنَةَ أَصابَ ليلةَ القَدْرِ» -: «والله الذي لا إله إلَّا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني ووالله إني لأعلم أي ليلةٍ هي هي الليلةُ التي أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتُها أن تطلع الشمس في صبيحةِ يومها بيضاء لا شُعاع لها».
وعدم شعاعها: قيل لأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق لها يومئذ علامة لذلك، وقيل لأن الملائكة - عليهم السلام - حجبته بكثرة اختلافهم في النزول
والصعود تلك الليلة بكل أمر حكيم وبالثواب والأُجُور. قاله الأبي. وفي "صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حين طَلَعَ القَمَرُ وهو مِثْلُ شِقٌ جَفْنَةٍ؟».
٨٦
الأدب والمتفرقات
قال أبو الحسن القابسي : أي ليلة سبع وعشرين؛ فإنَّ القمر يطلع فيها بتلك الصَّفَةِ. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لَيْلَةُ القَدْرِ طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ».
وفي "المسند" بإسناد رجاله ثقات، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لَيْلَةُ القَدْرِ فِي العَشْرِ البَوَاقِي مَن قَامَهِنَّ ابتغاء حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ الله تبارك وتعالى يَغْفِرُ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِهِ وما تأخر، وهي
ليلة وثر تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ أَنها صافيةٌ بَلْجَةٌ، كأن فيها قَمَرًا ساطعًا، ساكنةً لا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلا يَحِلُّ لَكَوْكَبِ يُرْمَى به فيها حتَّى تُصْبِحَ، وأنَّ أمارتها أنَّ الشمسَ صَبيحَتِها تَخْرُجُ مُستويةٌ ليس لها شُعاع مثل القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، لا يَحِلُّ للشيطان أن يَخرُجَ معها يومئذٍ». «بَلْجَةٌ»: مُشْرِقَةٌ.
استنباط ابن عباس تعيين ليلة القدر
زَعَمَ ابن قدامة أنَّ ابن عبّاس استنبط تعيين ليلة القدر من عدد كلمات السورة، وأن كلمة هى من قوله: سَلَمُهى [القدر: ٥] سابع كلمة بعد العشرين من قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْتَهُ ﴾ [القدر: ١] الآية، فتكون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين.
ونقله ابن حزم عن بعض المالكيَّة وبالغ في إنكاره، وقال ابن عطية: «إنَّ
هذا من ملح التفاسير وليس من متين العلم».
واستنبط بعضهم ذلك من جهةٍ أخرى فقال: «ليلة القَدرِ تسعة أحرف،
غاية الإحسان
۸۷
وقد أعيدت في السورة ثلاث مرَّاتٍ فذلك . سبع وعشرين». اهـ وهذه الاستنباطات ليست من العلم في شيء، ولم يصح ما نقل منها عن ابن عباس ولا غيره والمعروف أن استنباط المعاني من عدد الحروف والكلمات بحساب الجمل الكبير والصغير عادة يهودية، تلقاها أصحاب الطَّوالع وضارِبُو الرمل، وبنوا عليها قواعد علمهم الكاسد ، ثُمَّ اعتمدها في هذا الزمان طوائف ا كافرة مثل البهائية لعنهم الله، وجعلوها أُسَ استدلالاتهم وقطب رحى
استنباطهم، وهي في الواقع لا تُسْمِن ولا تُغْنِي من جوع. نعم استنبط ابن عبّاس ليلة القَدْرِ بطريق أُخرى، فروى عبدالرزاق والطبراني وغيرهما عن ابن عباس قال: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فسألهم عن ليلة القَدْرِ فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، قال ابن عباس: فقلت لعمر: إني لأعلم أو أظنُّ أيَّ ليلةٍ هي.. فقال أي ليلة هي؟ فقلت: سابعة تمضي أو سابعة تبقى من العشر الأواخر. فقال عمر: من أين علمت ذلك؟ قلت: خَلَقَ اللهُ . سبع سماوات وسبع أرضين، وسبعة أيام، وإنَّ الشهر يدور على سبع، وخلق الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، وأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فَطِنتَ لأَمْرِ ما فَطِئًا له.
وكان قتادة يزيد عن ابن عباس في قوله ويأكل من سبع قال: هو قول الله
تعالى: فَأَنبَتَنَافِيها حبا ) وعنبا ﴾ [عبس: ۲۷ - ۲۸] الآية.
قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد قوي ولكن المتن غريب جدا. اهـ قلت: يعني أنَّ في هذه القصة غرابةٌ ونكارة، وهو كذلك، فالله أعلم
ΑΛ
الأدب والمتفرقات
بصحة هذا الكلام عن ابن عباس.
تنبيه: قال صاحبا "الكافي" و"المحيط" من الحنفية: من قال لزوجه أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين؛ لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر.
قصة المتخاصمين التي بسببها رفع تعيين الليلة
في "الصحيحين" عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ليُخْبِرنا بليلة القَدْرِ ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «خَرَجْتُ لأخبركم بليلة القَدْرِ فَتَلَاحَى فلان وفلانٌ فَرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خَيْرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
وفي رواية المسلم : فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان».
وفي رواية ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وآله وسلم لقيهما عند سدة المسجد فحجز بينها فكانت المخاصمة والملاحاة شؤمًا على الأمة، حيث رفع بسببها تعيين الليلة، والله أعلم.
هل علمها النبي بعد نسيانها؟
روی محمد بن نصر، عن واهب المغافري: أنه سأل زينب بنت أُم سلمة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعلم ليلة القدر ؟ فقالت: لا، لو علمها لما أقام الناس غيرها. قال الحافظ: وهذا قالته احتمالا وليس بلازم، لاحتمال أن يكون التعبد وقع
بذلك أيضًا فيحصل الاجتهاد في جميع العشر.
قلت: والصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلمها وذلك لأمرين:
غاية الإحسان
۸۹
أحدهما: ما نقله البخاري في "الصحيح" في قوله تعالى: وَمَا أَدْرَنَكَ مَا لَيْلَةُ
القديم ﴾ [القدر: ٢] عن سفيان بن عيينة قال: «كل شيء من القرآن «وما أدراك» فقد أخبره به، وكل شيء فيه «وما يدريك» فلم يخبره به».
ثانيهما: ما رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن، عن عبدالله بن أنيس
قال: يا رسول الله، أخبرني أيُّ ليلةٍ تُبتَغَى فيها ليلة القَدْرِ؟ فقال: «لولا أن تَتْركَ النَّاسُ الصَّلاةَ إِلَّا تلك الليلةَ لأَخْبَرْتُكَ».
وفي "مسند البزار" بإسنادٍ رجاله ثقات، عن مَرْثَد قال: لقيت أبا ذر عند الجمرة الوسطى فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأسأل عنها مني، قال: قلت يا رسول الله أنزلت على الأنبياء بوحي إليهم ثُمَّ ترفع؟ قال: «بل هي يوم القيامة».
قلت: يا رسول الله، أيتهنَّ هي؟ قال: «لو أُذِنَ لِي لأَنبَأَتكَ بها ولكن
التمسها في التسعين والسبعين بفتح العين فيهما ولا تسألني بعدها». قال : ثُمَّ أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يحدث، قلت: يا رسول الله في أي السبعين هي؟ فغضب عليَّ غضبةٌ لم يغضب عليَّ قبلها ولا بعدها مثلها، ثُمَّ قال: ألم أنهك عنها لو أُذِنَ لي لأنبأتك بها، ولكن وذكر كلمة أن تكون في السبع الأواخر». ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُعلمها بعد أن نُسيّها، ولم يُؤذن له في تعيينها لئلا يتكل الناس ويتركوا العبادة طول السنة؛ اعتمادًا على أنَّ ليلة القَدْرِ تُكَفِّر كل الذنوب.
۹۰
الأدب والمتفرقات
هل يُخبر بها مَن رآها؟
ذكر تقي الدين السبكي في "الحلبيات" استنباطا من قصة المتخاصمين التي أوردناها آنفًا أنه يؤخذ منها استحباب كتمان ليلة القَدْرِ لمن رآها، قال: «ووجه الدلالة أنَّ الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كلُّه فيما قَدَّر له، فيستحب اتباعه في ذلك»، قال: «والحكمة فيه أنه كرامةٌ ، والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف بين أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السَّلْب، ومن جهة أن لا يأمن من الرياء، ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر الله بالنظر إليها وذكرها للناس، ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور، ويستأنس له بقول يعقوب عليه السَّلام: لَا نَقْصُصْ رُهْ يَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ [يوسف: ٥] الآية».
كيف يراها الرائي؟
اختلف العلماء هل لها علامة تظهر لمن وفقت له؟، فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل: يرى الأنوار في كلّ مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة،
وقيل: يسمع .
.
سلاما أو خطابًا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من
وفقت له، واختار الطبراني: «أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه» . اهـ ، والله أعلم.
هل كانت ليلة القدر في الأمم من قبلنا؟
اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمَمِ السابقة، أو هي من
خصائص هذه الأمة؟
ففي
"الموطأ" قال مالك أنه سمع من يثق به من أهل
العلم يقول: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم رأى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصَرَ أعمار أُمَّته لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ
غاية الإحسان
۹۱
غيرهم؛ فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر. هكذا جاء مرسلًا، وروي
مسندا من وجه آخر .
وهذا يقتضي
أنها خاصة
بهذه الأمة، وبهج و به جَزَمَ ابن حبيب وغيره من
المالكية، ونقله هو وصاحب "العدة" من الشافعية عن الجمهور، وحكى
الخطابي الإجماع عليه، لكن الحديث يدل على خلاف ذلك.
ففي "المسند" و "سنن النسائي" عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضان أم في غيره؟ قال: بل هي في رمضان». قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا ،رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي إلى يوم القيامَةِ». وقد تقدَّم قريبًا، وهو صريح في أنَّ ليلة القَدْرِ كانت موجودة في الأمم السابقة، وإليه مال الحافظان ابن كثير وابن حجر العسقلاني، زاد الحافظ ابن حجر: أنَّ ما رواه مالك واعتمده الجمهور يحتمل التأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر .
والواقع أنه لم يرد حديث صحيح يدل على اختصاصها بهذه الأمة، بل قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِندِنَا ﴾ [الدخان: ٤ - ٥] يقتضي إنها لو كانت في الأمم السابقة أيضًا وإنما الذي يعد من خصوصيات هذه الليلة
إنزال القرآن في هذه الليلة، والله أعلم.
قيام ليلة القدر يُكفّر الذنوب
في "الصحيحين" وغيرهما، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صام رمضان إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». زاد في بعض الروايات
۹۲
عند
الأدب والمتفرقات الحافظ في
. النَّسائي وغيره: «وما تأخَّر». وفي هذه الزيادة كلام استوعبه كتاب " الخصال المكفّرة للذنوب المقدَّمَة والمؤخَّرَة".
هل يعطى ثوابها وإن لم يعلمها ؟
اختلف العلماء هل يحصل الثواب المرتّب على ليلة القَدرِ لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء؟ أو يتوقف ذلك على كشفها له؟، ذهب الطبري
والمهلب وابن العربي وجماعة إلى الأول، وذهب الأكثر إلى الثاني.
قال الحافظ : ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «مَن يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ فَيُوافِقها».
وفي حديث عبادة عند أحمد: «مَن قَامَها إيمانًا واحْتِسَابًا ثُمَّ وُفِّقَتْ لَهُ». قال النووي: معنى أنه يوافقها أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها، ويحتمل
أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك». وفي حديث زر بن حبيش، عن ابن مسعود قال: «مَنْ يَقُمُ الحَوْلَ يُصِبْ ليلة القدر». وهو محتمل للقولين أيضًا.
وقال النووي أيضًا في حديث: «مَن قَامَ رمضان» وفي حديث «مَن قامَ ليلةَ القَدْرِ»: «معناه: من قامه ولو لم يوافق ليلة القدر، ومن قام ليلة القدر فوافقها
حصل له، وهو جارٍ على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم.
قال الحافظ: وهو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر وإن لم يعلمها ولو لم توفق به، وإنما الكلام على حصول الثواب المعيَّن الموعود به، وفرَّعوا على القول باشتراط العلم جواز
غاية الإحسان
۹۳
أن يعلم بها شخص دون شخص فيكشف لواحد ولا يكشف لآخر ولو كانا
معا في بيت واحد» . اهـ
هل تمكن رؤيتها؟
تقدَّم أنَّ لها علامات تُعرف بها ويراها من وفقت له، ولكن ابن جرير الطبري لا يوافق على ذلك بل يرى في إخفاء ليلة القدر وعدم تعيينها دليلا على كذب من يزعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، قال: «إذ لو كان ذلك حقا لم يخف على كل من قام ليالي السَّنة فضلا عن ليالي رمضان».
وتعقبه ابن المنير بأنه: «لا ينبغي إطلاق قول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله، فيختص بها قوم دون قوم، والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم لم يحصر العلامة ولم ينف الكرامة» . اهـ
أقل ما يحصل به قيام الليل
قال مالك في "الموطأ": بلغني أنَّ سعيد بن المسيب قال: من شهد العشاء ليلة القدر يعني في جماعة فقد أخذ بحظه منها.
وقال الشافعي في القديم من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها.
وأخرج أبو الشيخ الأصبهاني، ومن طريقه أبو موسى المديني بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة مرفوعًا: من صلى العشاء الآخرة جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر.
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلًا أَنَّ النبيَّ صلَّى الله
٩٤
الأدب والمتفرقات
عليه وآله وسلم قال: مَن أَتَى عليه رمضانُ صَحِيحًا مُسْلِمًا صَامَ نَهَارَهُ وَصَلَّى وِرْدًا مِن لَيْلِهِ وغَضَّ بَصَرَهُ وحَفِظَ فَرْجَهُ ولِسَانَهُ ويَدَهُ وحافظ على صَلاتِهِ في الجماعة وبَكَّر إلى الجُمُعَةِ، فقد صَامَ الشَّهْرَ واسْتَكْمَلَ الْأَجْرَ وأَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ وفَازَ بِجَائِزَةِ الرَّبِّ». وهو حديث ضعيف أيضًا.
وعلى كل ففضل الله واسِعٌ ، ومَن شَهِد العشاء والصبح جماعة طول شهر رمضان فالرجاء ألا يُحرم من ليلة القَدْرِ، وبالله التوفيق.
هل يستحب الاغتسال ليلة القدر ؟
قال ابن جرير الطبري: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي
العشر الأواخر.
وكان إبراهيم النَّخَعِيُّ يغتسل ويتطيَّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة
القَدْرِ، وأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وكان أيوب السختياني التابعي يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر ويقول : ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين. وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما
حلة
ويطيبان المسجد بالنضوج والدخنة في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت البناني: كان لتميم الداري . اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
وروي عن أنس بن مالك أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب
غاية الإحسان
۹۵
ولبس حلة إزارًا ورداءًا، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. قال الحافظ ابن رجب: «تبيَّن بهذا أنه يستحبُّ في الليالي التي ترجى فيها ليلة القَدْرِ التنظف والتزين والتطيب بالغُسل والطيب واللباس الحسن كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد». قلت: ورد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل في العشر الأواخر من رمضان، ذلك لمكان ليلة القَدْرِ ، فأخرج ابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شدَّ المزر، واجتنب النساء، واغتسل بين
الأذانين بين المغرب والعشاء وجعل العشاء سَحُورًا.
وعن علي عليه السّلام أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل بين
العشاءين كل ليلة. يعني العشر الأواخر، في إسناده ضعف.
وروى ابن عاصم عن حذيفة: أنه قام مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلةً من رمضان فاغتسل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم وستره حذيفة، وبقيت فضلةٌ
فاغتسل بها حذيفة وستره النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
هل للنفساء والحائض نصيب من ليلة القدر ؟
قال جُوَير: قلت للضَّحَّاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القَدْرِ نصيب؟ قال: نعم، كل من تقبل الله عمله سيُعطيه نصيبه من ليلة القدر.
هذا أنَّ. ومعنى
هؤلاء أحسنوا العمل في شهر رمضان فتقبل الله منهم،
ومن تقبل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر، والله أعلم.
97
الأدب والمتفرقات
أي العمل أفضل في هذه الليلة؟
قال سفيان الثوري: «الدعاء» في هذه الليلة أحبُّ إليَّ من كثرة الصلاة، قال:
وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق».اهـ قال الحافظ ابن رجب ومراده : أنَّ كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا
يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسنًا.
وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءةً مُرتلةً لا يمرُّ بآيةٍ فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر.
وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القَدْرِ ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي». فالدعاء مُفضّل في هذه الليلة، والله أعلم.
إحياء ليلتي العيدين
يُستحب إحياء ليلة عيد الفطر وليلة عيد الأضحى بما تيسر من الذكر والصلاة لما ورد في إحيائهما من الأحاديث والآثار فإنها وإن كانت ضعيفة، يعمل بها في مثل هذا الباب من فضائل الأعمال، ففي "سنن ابن ماجه" عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن قَامَ لَيْلَتَي العيدين مُختسِبًا لم يَمُتْ قَلْبُهُ يومَ تَموتُ القُلُوبُ .
وروى أبو قاسم الأصبهاني في كتاب "الترغيب"، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أحْيَا الليالي
غاية الإحسان
۹۷
الخَمْسَ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ: ليلة التَّرْوِيَة، وليلة عرفة، وليلة النَّحْرِ، وليلة الفِطْرِ،
وليلة النَّصْفِ مِن شعبان».
وفي "معجم الطبراني الكبير" و"الأوسط" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أحيا ليلة الفطر وليلة الأَضْحَى لم يَمُتْ قَلْبُهُ يومَ تَمُوتُ القُلُوبُ».
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله على البصرة: «عليك بأربع ليال مِن السَّنة فإنَّ الله يُفْرِغُ فيهنَّ الرحمة إفراغا: أول ليلة من رجب،
وليلة النصف من شعبان، وليلة الفِطْرِ، وليلة الأَضْحَى». وقال الإمام الشافعي: بلغنا أنَّ الدعاء يُستجَابُ في خمس ليال: ليلة
الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان».
هل يكون إحياء ليلتي العيدين في جماعة؟
اختلف العلماء هل يستحبُّ إحياء هاتين الليلتين في جماعة أو لا؟ وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان، قال في رواية: لا يستحبُّ إحياؤها جماعة؛ لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وقال في رواية أخرى: يُستحَبُّ ؛ لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود
لذلك، وهو من التابعين.
أقل ما يحصل به الإحياء
قال النووي في "الأذكار": اختلف العلماء في القَدْرِ الذي يحصل به الإحياء فالأظهر أنه لا يحصل إلَّا بمُعْظَمِ الليل، وقيل: يحصل بساعة». اهـ
۹۸
الأدب والمتفرقات
استحباب التكبير ليلة عيد الفطر
يستحب التكبير ليلة عيد الفطر لقول الله تعالى - وقد ذكر صوم رمضان - وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَنَكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
[البقرة: ١٨٥].
قال الحافظ ابن كثير : ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَ نَكُمْ حتى ذهب داود الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر في قوله: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَنَكُمْ .
في مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر،
والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم . اهـ وفي كتاب "المحلى" لابن حزم الظاهري: «مسألة: والتكبير ليلة عيد الفطر فرض، وهو في ليلة عيد الأَضْحَى حَسَنُ ، قال تعالى، وقد ذكر صوم رمضان: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَتكُم بإكمال عدة صوم رمضان وجب التكبير، ويجزئ من ذلك تكبيرة، وأمَّا ليلة الأَضْحَى ويومه ويوم الفطر فلم يأتِ به أمر، لكن التكبير فعل خَيْرٍ وأَجْرٍ.
كيفية التكبير
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «أصح ما ورد في صيغة التكبير ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان :قال كَبِّرُوا الله ، الله أكبر ا الله أكبر كبيرا». ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبدالرحمن بن أبي ليلي، أخرجه
غاية الإحسان
۹۹
جعفر الفريابي في كتاب "العيدين".
وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد ، وقيل يُكَبّر ثلاثا ويزيد: «لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ... إلى آخره ، وقيل : يُكَبّر ثنتين بعدهما: «لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد»، جاء ذلك عن عمر، وعن ابن مسعود نحوه،
وبه قال أحمد وإسحاق يعني ابن راهويه وقد أحدث في هذه الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها » . اهـ كلامه. قلت: يكفي من ذلك : الله أكبر ثلاث مرّاتٍ، فإن زاد فهو خير وقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا: «زينوا أعيادكم بالتكبير». رواه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير"، وهو حديث ضعيفٌ وفيه نكارة، وإنما أوردناه هنا للتنبيه عليه حتى لا يُغتر به، والله أعلم.
يوم عيد الفطر يُسمى يوم الجائزة
أخرج الطبراني في "الكبير"، والحسن بن سفيان في "مسنده"، عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إذا كان يوم عِيدِ الفِطْرِ وَقَفَتِ الملائكةُ على أبواب الطريق فنادوا: اغْدُوا يا مَعْشَرَ المسلمين إلى رب كريم يمن بالخَيْرِ ثُمَّ يُثيبُ عليه الجَزيلَ، لقد أُمِرْتُم بقيام الليل فقُمْتُم، وأُمِرْتُم بصيامِ النَّهَارِ فَصُمْتُم ، وأَطَعْتُم رَبَّكُم، فاقبضوا جوائزكم. فإذا صلُّوا نادى منادٍ: ألا إِنَّ رَبَّكُم قد غَفَرَ لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم فهو يوم الجائزة». إسناده ضعيف.
وله شاهد من حديث ابن عباس عند البيهقي وأبي الشيخ ابن حَيَّان وقد
الأدب والمتفرقات
تقدم، وشاع بين كثير من الخطباء حديثُ يُرَدُّدُونه في خطبة العيد ولفظه: «مَن عَصَى الله في يوم عيد فكأنما عَصَاه يوم الوعيد وهو حديث باطل لا أصل له، وليس في الأحاديث ما يشهد له، والله أعلم.
استحباب الأكل قبل الصلاة يوم عيد الفطر
في "صحيح البخاري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدر ا لا يغدو يوم الفِطْرِ حتى يأكل تمراتٍ ويأكلهنَّ وِثرًا.
ورواه ابن حبان والحاكم وغيرهما، بلفظ : ما خرج يوم الفطر حتى يأكل
تمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر، وتُرًا. ومن الحكمة في تعجيل الفطّر قبل الصلاة ما أشار إليه ابن أبي جمرة وغيره: أنه لما وقع وجوب الفطّر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع. والحكمة في اختيار التمر ما فيه من الحلاوة المقوية للبصر بعد ضعفه بالصوم، ولعل الحلو مما يوافق الإيمان ويُعبر به في المنام، ويرقُ به القلب، وهو
أيسر من غيره.
ولهذا استحب ابن سيرين ومعاوية بن قرة وغيرهما من التابعين أن يُفْطِر على الحلو مطلقا كالعسل مثلا. وأما الحكمة في الإيتار فلأن الله وتُرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ، وَمَن لم يجد تمرا ولا حلوا فليفطر ولو على جرعة ماء.
غاية الإحسان
زكاة الفطر
۱۰۱
أخرج ابن شاهين في فضائل "رمضان" عن جرير بن عبدالله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صوم شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلا بزكاة الفطر».
قال ابن شاهين: حديث غريب جيد الإسناد.
قلت: إنما توقف رفع صوم رمضان على زكاة الفطر؛ لأنها فرضت جَبْرًا وتطهيرًا لما عسى أن يُصيبه الصائم من لَغْوِ أو رَفَتْ كما سيأتي في الحديث بعده،
فمن أراد رفع صيامه وقبوله فليُعَجِّل بزكاة الفطر.
حكمة فرضيتها
أخرج أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَرَضَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: صَدَقَةَ الفِطْرِ طُهِّرَةٌ للصَّائِمِ مِن اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وطُعْمَةً للمساكين ، فمَن أداها قبل الصَّلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن
أداها بعد الصَّلاة فهي صَدَقَةٌ مِن الصَّدَقات». صححه الحاكم.
طهرة» و«طعمة» - بضم | الطاء فيهما - يعني أنَّ الحكمة في فرض زكاة
الفطر تطهير الصائم من اللغو والرَّفَث، وإطعام المساكين في يوم العيد. قال الخطابي : قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم زكاة الفطر فيه بيان أن صدقة الفطر فرضٌ واجبٌ كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال، وفيه بيان أنَّ ما فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما فرض الله؛ لأن طاعته صادرة عن طاعة الله، وقد قال بفرضيَّة زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم، وقد عُلّلت بأنها طهرة للصائم من اللَّغْوِ والرَّفَثِ، فهي واجبةٌ على
۱۰۲
الأدب والمتفرقات
كل صائم غني ذي جِدَةٍ بكسر الجيم أي يسار أو فقير يجدها فاضلة على قوته، إذا كان وجوبها لعِلَّة ،التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليه، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب. وقد روى ابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزيّ، عن أبيه، عن جده قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية: قَدْ أَفَلَحَ مَن تَزَكَّى أي تطهر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
[الأعلى: ١٤ - ١٥]
قال: «أُنزلت في زكاة الفِطْرِ». هذا حديث ضعيف، وهذه السورة مكية، وزكاة الفطر فرضت بالمدينة.
نعم، يصح أن يؤخَذَ ذلك من الآية بطريق العموم للفظ، وسريان علة ، التطهير، كما ورد أنَّ : عمر ابن عبدالعزيز كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر
ويتلو هذه الآية: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: ١٤ - ١٥]. وعن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدًا إلى العيد فمر بي، فمررتُ به فقال: هل طَعِمْتَ شيئًا؟ قلت: نعم، قال: أفضت على نَفْسِك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك؟ قلت: قد وجهتها، قال: إنما أردتك هذه، ثُمَّ قرأ: وقد أَفْلَحَ مَن تَزَكَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، فَصَلَّى وقال : إنَّ أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء.
متى تخرج يوم العيد؟
أفضل وقت لإخراجها قبل صلاة العيد كما تقدم في حديث ابن عباس،
وروى الطبراني عن ابن عباس أيضًا قال: كنا نأكل ونشرب ونُخْرِجُ صَدَقَةَ
الفِطر، ثُمَّ نخرج إلى المصلَّى.
غاية الإحسان
۱۰۳
وفي "الصحيح" عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة. فإن أُخّرت الزكاة إلى ما بعد صلاة العيد صحت عند الجمهور؛ لأن يوم العيد كلُّه وقت لإخراجها، وإن كانت قبل صلاة العيد أفضل، فإن أُخرت عن يوم العيد كان حراما كما لو أخرت الصلاة عن وقتها، ويكون إخراجها بعد ذلك قضاء.
هل يشترط فيها النصاب ؟
لا يشترط في زكاة الفِطْر مِلْك النّصاب كما في زكاة المال، بل مَن مَلَكَ زيادة على قوته وقوت مَن تلزمه نفقته قَدْرَ زكاة الفطر وجب عليه إخراجها؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صاعٌ مِن بُر على كل امرئ، صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى، غنيّ أو فقير، أمَّا غنيكُم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أَعْطَى». رواه أحمد. وأيضًا فإنَّ زكاة الفطر شُرعت لتطهير الصائم، والفقير يحتاج إلى التطهير كما يحتاج الغنيُّ، ويصح للفقير الذي أدى زكاة فطره أن يأخذ زكاة الفطر مِن الغير باعتباره فقيرًا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وأمَّا فَقِيرُكُم فيرد الله عليه أكثر مما أَعْطَى».
مقدار زكاة الفطر
في "الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زكاةَ الفِطْرِ مِن رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير، على العبد والحرّ والذَّكَر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمَرَ بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
الأدب والمتفرقات
وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفطر صاعا من طعام.
وقال أبو سعيد : وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر». الأقط» بفتح الهمزة وكسر القاف لبن مجفف يابس يُستعمل عند العرب
للطبخ.
اختلف العلماء في تقدير زكاة الفطر لاختلافهم في تقدير الصاع، فالصاع أربعة أمدادٍ بمده عليه الصلاة والسلام، وتحرير ذلك بالكيل المعروف اليوم قدح وثلث على ما حرَّره الأجهوري شيخ المالكية في وقته، وعند الشافعية قدحان، وعند الحنفية قدح وسدس والزكاة تكون من الطعام المعتاد في البلد قمحا كان أو غيره، ويجوز دفع القيمة؛ لأنها أيسر وأكثر فائدة، ويصح للمرأة أن تعطي لزوجها الفقير، ولا يصح للرجل أن يعطي زكاته لزوجته الفقيرة؛ لأن مؤنتها واجبة عليه، ويجوز لفقيرين أن يدفع كل واحد منهما زكاته للآخر بشرط أن لا يكون ذلك على اتفاق سابق أو عادةٍ مُستمرة، بل يكون على سبيل المصادفة، ومن سافر وأوصى أهله أن يخرجوا عنه زكاة الفطر كفاه ذلك، ويستحب مع هذا أن يخرج زكاة البلد الذي سافر إليه، فإن لم يوصهم ولا
اعتادوا أن يخرجوا عنه وجب عليه إخراج زكاة الفطر.
هل يصح إخراجها قبل العيد؟
قال مالك عن نافع: أنَّ ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يجمع
.
عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة، ورواه الشافعي عن مالك، وقال: «هذا حسن
وأنا أستحبه». يعني تعجيلها قبل يوم الفطر.
غاية الإحسان
1.0
والمقصود أنه يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومين أو ثلاثة عند
المالكية، ويصح عند غيرهم إخراجها من أول رمضان، والله أعلم. الدعاء يوم العيدين
ورد حديث في دعاء يقال يوم العيد، وهو وإن كان ضعيفا يقبل في مثل هذا؛ لأن الدعاء مطلوب في القرآن والسُّنَّة، ولم يرد تعيين نوع منه بخصوصه، فالأمر فيه واسع، وهذا نص الدعاء المشار إليه: «اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ عِيشَةً تقيَّةً، ومِيتَةً سَوِيَّةٌ، ومَرَدًا غير مُخز ولا فاضح، اللهمَّ لَا تُهْلِكْنَا فَجْأَةً، ولا تَأْخُذْنَا بَغْتَةً، ولا تُعْجِلْنا عن حَقٌّ ولا وَصِيَّة، اللهم إنا نسألُكَ العَفَافَ والغِنَى والتَّقَى والهُدَى، وحُسْنَ عاقِبَةِ الآخِرَةِ والدُّنيا، ونعوذُ بك من الشَّلَّ والشَّقاقِ والرِّياءِ والسُّمْعَةِ في دينك، يا مُقَلَّبَ القُلُوبِ لا تُزِغْ قُلوبنا بعد إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوهَّابُ .
٣- إتحافُ النُبَلاءِ
في فَضْلِ الشَّهَادَةِ وأنواع الشُّهَدَاءِ
إتحاف النبلاء
۱۰۹
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي رَفَعَ قَدْرَ الشُّهداء، وجعلهم بعد استشهادهم في زُمْرَةِ الأحياء، لا تُحجب أرواحهم عن الجنَّة ونعيمها إلَّا لدَيْنِ ليس له أداء، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد سيّد الأنبياء، وإمام المخلصين والأصفياء، ورضي الله عن آله البَرَرَةِ الأتقياء، وصحابته الكرام الأوفياء.
أما بعد: فهذا جزء كتبته في فضل الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وبيان أنواع الشُّهداء الذين ورد ذكرهم في الأحاديث النبوية، مع بيان رتبتها، وسميته: "إتحاف النبلاء في فضل الشَّهادة وأنواع الشُّهداء".
ومن الله أطلب الإعانة والتوفيق، وأسأله الهداية لأقوم طريق.
۱۱۰
الأدب والمتفرقات
معنى الشهادة
لفظ «شَهِدَ من معانيه: حَضَرَ، قال الله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: ١٨٥] أي حضره. ومن أسماء الله تعالى: «الشهيد»، لأنَّه حاضر، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [الحديد: ٤]، وقال سبحانه: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا نَتَلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانِ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [يونس: ٦١].
والشهيد أيضًا القتيل في سبيل الله، ويُجمع على شهداء، واستشهد للبناء
للمجهول: قتل في سبيل الله، والاسم: الشهادة.
واختلف في سبب تسميته شهيدًا على أقوال:
أحدها: أنه مشهود له بالجنَّة، فشهید: فعيل بمعنى مفعول. ثانيها : أنَّ الملائكة تشهده، لتبشّره، وهو بمعنى مفعول أيضًا. ثالثها: أنَّ أرواح الشُّهداء حضرت إلى الجنة لأنهم أحياء عند ربهم،
وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنَّة، فالشهيد بمعنى الحاضر للجنة. رابعها: أنَّه شَهِد على نفسه الله عزّ وجلَّ حين لزمه الوفاء بالبيعة التي بايعه في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة [التوبة: ١١١]، فاتصلت شهادة الشهيد الحقِّ، بشهادة العبد، فسُمِّيَ
شهيدا.
خامسها : أنه سقط على الأرض حين استشهاده والأرض الشَّاهِدة. أمَّا الشَّهادة بمعنى الخبر القاطع الذي يؤديه الشَّخص أمام محكمة، فيرجعُ
إتحاف النبلاء
۱۱۱
معناها إلى الخضور أيضًا؛ لأنَّ الشَّخص يقطعُ بالشَّيء الذي يحضره ويراه، أو يسمعه ولهذا قال الفقهاء: يُشترط في الشَّهادة ثلاثة شروط، لا تتم إلا بها،
وهي: الحضور، والوعي، والأداء.
أما الحضور فهو شُهُودُ الشَّاهد للمَشْهُودِ.
وأما الوعي : فهو ضبط ما شَهِدَهُ وعَلِمَهُ.
وأما الأداء: فهو الإتيان بالشَّهادة على وجهها، عند الحاجة إليها. ولهذه المناسبة، ننبه على مسألتين:
الأولى: قول الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَيْكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّلِحِينَ ﴾ [النساء: ٦٩]. ليس المراد بـ«الشُّهداء» فيه: القتلى في سبيل الله؛ بل المراد: الشُّهداء المذكورون في قوله تعالى: وَجاءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ [الزمر: ٦٩]، وهم العُدُول في الدُّنيا والآخرة، القائمون بما أوجب الله عليهم من حقوقه وحقوق عباده؛ فلذلك جعلهم الله شهداء على الناس يوم القيامة، وهي رتبةٌ عظيمة تلي رتبة الصديقين.
الثانية: الشهادة والرواية كلاهما خبرٌ يُؤدِّيه الشاهد والرَّاوي، غير أنَّ
العلماء أو جمهورهم اشترطوا في الشَّهادة شروطا لم يشترطوها في الرواية، فقالوا: لا بُدَّ أن يكون الشَّاهد حُرّا، بخلاف الرّواية، فتجوز فيها رواية العبد. والشهادة لا تكفي فيها امرأةٌ واحدةٌ بل من امرأتين كما جاء في القرآن الكريم:
فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ [البقرة: ۲۸۲].
۱۱۲
منهما.
الأدب والمتفرقات
أما الرواية فتكفي فيها امرأةٌ واحدةٌ ؛ وسِرُّ ذلك يظهر من معرفة حقيقة كل
فالشهادة خبرٌ عن أمر خاص يُمكن الترافع فيه إلى الحاكم، كالخبر بأنَّ لفلان قبل فلان مبلغا من المال، أو أنَّ فلانًا سرق أو قذف أو قتل مثلا، فلما كانت الشهادة تتعلَّق بأشخاص مُعيَّنين تُلزمهم بدفع مال، أو توجب جلدهم، أو قطع أيديهم، أو قتلهم، شدَّد الفقهاء في شروط حاملها زيادة على شرط
العدالة، حتى يطمئن المشهود عليه، ويتقبل الحكم راضيا.
والرواية خبر عن أمرٍ عامٌ لا ترافع فيه كالأحاديث النبوية، فإنّها تعم الأمة كلها، فاكتفي فيها بعدالة الرّواي، حُرًّا كان أو عبدا أو ذكرًا أو أنثى،
والمسألة مبسوطة في كتب الأصول، وفيما ذكرناه هنا كفاية.
إتحاف النبلاء
۱۱۳
فضل الشهادة
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما أحدٌ يَدْخُلُ الجنَّةَ يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا وله ما على الأرضِ مِن شيء إِلَّا الشهيدُ، يَتَمَنَّى أن يَرْجِعَ إلى الدُّنيا، فيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لما يَرَى مِن الكَرَامَةِ». وروى النسائي عن أنس أيضًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يُؤتى بالرَّجُلِ مِن أهل الجنَّةِ يوم القيامة، فيقول الله: يا ابن آدم، كيف وَجَدْتَ مَنزِلَكَ؟ فيقول: يا ربِّ خَيرَ منزلٍ. فيقول: سَلْ وَتَمَيَّة. فيقول: ما أسأل وأتمنى إلَّا أن تَرُدَّني إلى الدُّنيا، فأقتل في سبيلك عشر مرَّاتٍ؛ لَا يَرَى مِن فضل الشَّهادة».
صححه الحاكم على شرط مسلم.
و «تمنه» بهاء ساكنة، وهي هاء السكت، مثل الهاء في قوله تعالى: لَيْتَنِي لَوْ أُوتَ كتبية [الحاقة: ٢٥]. وروى أحمد، والنسائيُّ عن ابن أبي عَمِيرَة رضي ا الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما مِنْ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ يَقِبِضُهَا رَبُّهَا تُحِبُّ أَن تَرجِعَ إليكم وأنَّ لها الدُّنيا وما فيها؛ غير الشَّهيد». قال ابن أبي عَمِيرَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لأن أقتل في سَبيلِ الله أَحبُّ إليَّ مِن أن يكون لي أهلُ
الوَبَرِ والمَدرِ». إسناده حسن. أهلُ الوَبَرِ: هم أهل البادية. وأهل المدرِ بفتح الميم والدال: أهل المدن.
والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُفضل القتل في سبيل الله على امتلاك
١١٤
الأدب والمتفرقات
الدنيا بحاضرتها وباديتها.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِي أَغْزُو فِي سبيل الله فأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأَقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأَقْتَلُ».
أفادت هذه الأحاديث عِظَمَ فضل الشَّهادة من جهتين:
الأولى: أنَّ المسلم إذا دخل الجنَّة، لا يُحِبُّ أنْ يخرج منها ويرجع إلى الدُّنيا، ضنا بنعيم ا الجنة أن يفارقه، وخوفًا من أن يذوق ألم الموت مرَّةً أُخرى، لكن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدُّنيا فيستشهد عشر مرات، ليستكثر من فضل الشهادة الذي شاهده. أما ألم الموت فإِنَّ الله صرفه عنه.
روى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ
أَحَدُكُمْ مَسَّ الْقَرْصَةِ». صححه الترمذي وابن حِبَّان.
الثانية: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تَمَنَّى أَنْ يُقتل في سبيل الله ثلاث مرَّاتٍ، ليُعطى رتبة الشَّهادة مُضافةً إلى رتبة النُّبوة. وقد أعطاه الله ما تمنى،
فمات شهيدا من أكلة خيبر صلى الله عليه وآله وسلّم.
ويؤخذ من تمنيه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقتل ويعود: أنَّ الممتنع عادةً -
-
وإن كان جائزا في العقل لا يطلب، ولا يُدْعَى به لأنَّ سنة الله في الكون جرت بعدم وقوعه (۱).
(۱) وصرح الفقهاء بأنَّه لا يجوز الدعاء بالممتنع شرعًا أو عادةً.
إتحاف النبلاء
١١٥
فضلُ الشهداء
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَنَا بَلْ أَحْيَاهُ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٩].
روى الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: قال لما قُتِلَ عبد الله بن عمرو بن حَرَام يوم أحد قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لأَبِيكَ؟» قلت: بلى. قال: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا فقال: يا عبد الله تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ. قال: يا رَبِّ تُحْيِينِي فَأَقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً. قال: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ الله هذه الْآيَةَ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أمْوَاتَا ﴾ [آل عمران: ١٦٩] الآية كلها». حسنه الترمذي، وصححه الحاكم. كفاحا : بكسر الكاف مواجهة، وهذا لا يعارض قول الله تعالى: وَمَا كَانَ
فالأول: كأن يدعو بالرحمة للكافر؛ لأنَّ النصوص الشرعية قاطعة في أنَّ الكُفَّار مخلدون في النار، ولا تنالهم الرحمة. قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ [التوبة: ١١٣]. وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خلِدِينَ فِيهَا أَولَيْكَ هُمْ شُرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ [البيئة: ٦] . كذلك لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع
المسلمين؛ لأنه لابد من تعذيب طائفة من عُصاتهم، كما ثبت به النص القاطع والثاني: كأن يدعو الله بأن يُحييه بعد الموت ليجاهد مثلا، أو يحيي أباه الذي مات، أو
نحو ذلك.
١١٦
الأدب والمتفرقات
لبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَاى حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ، مَا يشاء [الشورى: ٥١]. لأنَّ الآية تتعلق بالدُّنيا.
والمعنى: أنَّ الله تعالى لم يُكلَّم بَشَرًا على قيد الحياة إلا بطريق الوحي، كما أوحى إلى الأنبياء والرسل، أو يُكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى وآدم(۱) عليهما السّلام؛ لأنَّ الله لا يراه أحدٌ في الدُّنيا. وعبد الله بن عمرو ، 5 كلمه الله مواجهة، بعد انتقاله إلى عالم الآخرة.
والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول : واعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لا يَرَى رَبَّهُ حتَّى يَمُوت» (٢) . ثُمَّ يأتي سؤال ، وهو : لم اختص والد جابر بهذه الميزة؟ والجواب: أنَّه لم يوجد في شيء من طرق الحديث، ما يكشف عن سبب تلك الميزة، أو يشير إليه، ونحن في حِلّ من البحث عنه، ويكفينا اعتقاد ذلك تصديقا للنص. ولكنَّا نُحاول استخراجه باجتهادنا فنقول: أكرم الله والد جابر بهذه الكرامة فيها نظر؛ لأنه كان عنده بنات لم يتبرم بهنَّ رَبَّاهُنَّ وأكرمهُنَّ. ويوم استشهد، أخبر ابنه جابر بأنَّه ،مقتول، وأوصاه بهنَّ خيرًا، كما أوصاه بأن يقضي
(۱) ثبت في الحديث عن أبي ذر مرفوعا: أنَّ آدم نبي مُكَلَّم، وظاهر القرآن يفيد ذلك أيضًا، انظر كتابنا قصة آدم عليه السلام. (۲) وقد ذم الله اليهود - لعنهم الله - على طلبهم رؤيته في الدنيا لأنهم طلبوا ما لا يجوز. وموسى عليه السَّلام لما أكرمه الله بكلامه، طمع في رؤيته فطلبها، فقال الله له: كن تركني ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، أي لا تستطيع رؤيتي بجسمك الفاني، في دار الفناء، لكن تراني حين تصير من الخالدين في دار البقاء.
إتحاف النبلاء
۱۱۷
دينَه، يضاف إلى ذلك تمثيل المشركين به.
روى الشيخان عن جابر أيضًا رضي الله عنه قال: جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قد مثل به فوضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه فنهاني قومي، فسمع صوت صائحةٍ، فقيل : ابنة عمرو، أو أخت عمرو، فقال: «لِمَ تَبْكِينَ أو لا تَبْكِينَ مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا». يفيد الحديث: أنَّ الشهيد تُظِلُّه الملائكة بأجنحتها تكريما له، وهو من خصوصیات هذه الأمة المحمدية.
وروى أبو داود في سننه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الشَّهِيدُ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ من أهل بيته». صححه ابن حِبَّان.
وروى الطبراني باسناد حسن، عن أنس رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِذَا وَقَفَ الْعِبَادُ للحِسَابِ، جَاءَ قَوْمٌ وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ على رِقَابِهِمْ تَقْطُرُ دَمًا، فَازْدَهُمُوا عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَقِيلَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قيل:
الشُّهَدَاءُ كَانُوا أَحْيَاءٌ مَرْزُوقِينَ». ذَكَرَ السَّيْف في الحديث؛ لأنَّه السّلاح الغالب استعماله في ذلك الوقت، ويلحق به السلاح المستعمل اليوم، فشهداء عصرنا يأتون يوم القيامة حاملين سلاحهم الذي استعملوه، من بندقية ومَدْفَعِ ورَشَّاشِ وَمُسَدَّسٍ وقُنبلة وغيرها، ويؤخذ من الحديث: أنَّ الشُّهداء لا يُحاسبون.
وروى الطبراني بإسناد حسن أيضًا، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أفضل الجهادِ عندَ الله يومَ
۱۱۸
الأدب والمتفرقات
القيامةِ الَّذينَ يَلتقونَ في الصَّفُ فلا يَلْفِتونَ وجُوهَهم حتى يُقْتَلُوا، أولئك يَتَلَبَّطُونَ فِي الغُرفِ العُلْيا مِن الجنَّةِ يَضْحَكُ إليهم رَبُّكَ، إِنَّ رَبَّكَ إِذَا ضَحِكَ إِلى قوم فلا حِساب عليهم. فلاحه
«يَلْفتون»: بفتح الياء، وضمها لحن. «يَتَلَبَّطون»: يضطجعون. «يضحك
إليهم ربك : يرضى عنهم، فضحك الله إلى عبد رضاه عنه. وروى أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما" عن نعيم بن عمار رضي الله عنه: أنَّ رجلا سأل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أي الشهداء أفضل؟ قال: الَّذِينَ إِنْ يَلْقَوْا فِي الصَّفِّ لا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُمْ حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ يَنْطِلِقُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَا مِنَ الجُنَّةِ، ويَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّهم، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدِ فِي
الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ». إسناده حسن.
يلقوا بفتح الياء والقاف: أي يلقوا العدو. أفاد الحديث أنَّ الله يضحك إلى الشُّهداء في الدُّنيا وذلك عند استشهادهم. وروى الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «اللشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، ويُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الفَزَعِ الأَكْبَرِ ويُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنها خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما فيها، ويُزَوِّجُ اثْنَتَيْنِ وسبعين مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَعُ في سبعين مِنْ أَقَارِبِهِ». صححه الترمذي. ورواه أحمد والطبراني من حديث عُبادة بن الصامت بلفظ: «إنَّ للشَّهِيدِ عندَ الله سَبْعُ خِصَالٍ... فذكرها، وزاد عليها ويُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ». وإسناده حسن.
إتحاف النبلاء
۱۱۹
لفظ استُ خِصَال» غلط من بعض الرُّواة لـ"سنن الترمذي"؛ لأنَّ الخصال في الحديث سبعةٌ، وكذلك لفظ «سَبْعُ خِصَال» غلط أيضًا من بعض رواة المسند؛ لأنَّ الخِصال ثمانية.
يُؤيد ذلك: أنَّ الحدث أبا بكر أحمد النَّجَادِ أَسْنَدَهُ من حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لِلشَّهِيدِ عندَ الله
ثمان خصال ......
وذكرها مثل حديث عبادة بن الصامت في "مسند أحمد". وجدير بمن بذل نَفْسَهُ الله دِفاعًا عن دينه، وتصديقا لوعده: أن يُكرمه الله
بتلك الخصال الثَّمَانِي التي تدل على عِنَايَةِ الله بالشَّهيد، ورِضَاهُ عنه. وروى النسائي عن راشد (۱) بن سعدٍ رضي الله عنه، عن رجلٍ مِن أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم : أنَّ رجلا قال: يارسول الله ما بال المؤمنين يُفْتَنون في قبورهم إلَّا الشَّهيد؟ قال: «كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلى رَأْسِهِ فتنة». إسناده جيد.
أفاد الحديث أن الشهيد لا يَسأله الملكان في قبره؛ لأنَّ القصد بسؤالهما فتنة الميت وامتحانه والشَّهيد قد امتحن بأهوال الحرب وفزعاتها، وتعرضه للموت مرات وهو ثابت حتى استُشْهِدَ ، فكان ذلك امتحانا كافيًا في الدلالة
على قوة إيمانه.
(1) في كتاب "التذكرة" للقرطبي: رشدين بن سعد، وهو خطأ من الناسخ لم ينتبه له مصحح الكتاب.
۱۲۰
الأدب والمتفرقات
وروى ابن حبان في "صحيحه"، عن عُتْبَةَ عنبة (1) بن عبد السُّلَمي رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «القَتْلَى ثلاثةُ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سبيل الله، حتَّى إذا لَقِيَ العَدُوَّ قاتَلَهُم حَتَّى يُقْتَل، فذلك المُمْتَحَنُ في جَنَّةِ الله تحت عَرْشِهِ لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِفَضْلِ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ، ورَجَلٌ فَرِق على نَفْسِهِ مِن الذنوب والخطايا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سبيل الله حتى إذا لَقِيَ العَدُوَّ قاتل حتَّى يُقْتَلَ، فتلك مُمَصْمَصَةٌ تَحتُ ذُنُوبَهُ وخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ تَحامُ للخَطايا، وأُدْخِلَ مِن أي أَبواب الجنَّةِ شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها (٢) أفضل من بعض، ورَجُلٌ مُنافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، حَتَّى إذا لَقِيَ العَدُوَّ، قاتَلَ في سَبيل الله عزَّ وجلَّ (۳) حتَّى يُقْتَلَ، فذلك في
النَّارِ، وَإِنَّ السَّيْفَ لَا يَمْحُو النَّفاق». رواه أحمد بإسناد جيد.
«الممتحن بفتح الحاء: المشروح صدره. قال الله تعالى: أَوَلَيْكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ [الحجرات: 3]، أي: شرحها ووسعها. «فَرق» بفتح الفاء وكسر
الراء: خائف. مُصْمِصَة»: بضم الميم الأولى، وفتح الثانية، وكسر الثالثة: ماحية. «تحت» بضم الحاء: تمحو. «إِنَّ السَّيْفَ تَحاءُ للخطايا»: يفيد أنَّ الشَّهيد
(۱) عتبة بالتاء المثناة الفوقية. ويأتي أحيانًا في كتاب "الترغيب والترهيب" وغيره: عقبة بالقاف، وهو خطأ، وأبوه: «عبد» بدون إضافة. ومن كتبه عبد الله فقد أخطأ.
(۲) أي وبعض أبواب الجنة أفضل من بعض.
(۳) أي بحسب زعمه ودعواه. لكن الله يعلم أنه منافق.
إتحاف النبلاء
تُمحى عنه ذنوبه، لأنه بذل نفسه الله، فجُوزي بتكفير ذنوبه.
۱۲۱
وكثير من النَّاس يُعَمِّم هذا الحكم في كل مقتول، فيقولون في الشخص المقتول في خصومة ونحوها مُحيت عنه سيئاته، ويزيد بعضهم: أنَّ القاتل يتحمل ذنوب المقتول، ويستدل بحديث ما تَرَكَ القَاتِلُ على المَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ»، وذلك كله خطأ، والحديث ليس بصحيح، وعلى فرض صحته فهو محمول على
القتل في الجهاد.
والمعنى: أنَّ الكافر إذا قتل مسلما لم يترك عليه ذنبا؛ لأنَّ الشهيد تُكَفَّر ذنوبه كلها، أما المقتول في غير الجهاد فلا تُمحى ذنوبه بقتله، ولو كان مظلوما، نعم
يُكَفِّر
عنه بعضها، باعتبار القتل مصيبة نزلت به.
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أنه سأل جِبْرِيلَ عليه السَّلام عن هذه الآية؟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر: ٦٨]: مَنْ الَّذِينَ لَمْ يَشَأ اللهُ أنْ يصْعَقَهُم ؟ قال : هُمْ شُهَدَاءُ الله». قال الحاكم: صحيح الإسناد». أفاد الحديث: أنَّ الشُّهداء هم المُسْتَنُونَ من الصعق في الآية.
وبهذا قال الإمام الحليمي. قال: وهو مروي عن ابن عباس. وروى النحاس في كتاب "معاني القرآن" بإسناده عن سعيد بن جبير، في قول الله عزّ وجل : وإِلَّا مَن شَاءَ اللهُ ﴾ [الزمر: ٦٨]، قال: وهم الشهداء، هم ثنية الله عزّ وجل، متقلدوا السيوف حول العرش. وفي تعيين المستثنين في الآية أقوال خلاف هذا، ضعفها الإمام الحليمي.
۱۲۲
الأدب والمتفرقات
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ذُكِرَ الشَّهيد عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «لا تَجِفُ الْأَرْضُ مِن دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوجَنَاهُ، كَأَنَّهُهَا ظِفْرَانِ أَضَلَّنَا فَصِيلَيْهِما فِي بَرَاحٍ مِن الأَرضِ، وَفِي يَدِ كُلُّ واحِدَةٍ
حُلَّةٌ خَيْرٌ مِن الدُّنيا وما فيها».
«ظران»: بكسر الظاء وسكون الهمزة: ثنية ظئرة وهي المرضع. فصیليهما بفتح الفاء وكسر الصاد مثنى فَصِيل ولد الناقة الرّضيع.
«أضَلَّتا»: فقدتا. «براح» بفتح الباء: واسع.
«حلة»: بضم الحاء: كسوة. والمعنى: أنَّ الشَّهيد قبل أن يجفَّ دمه على الأرض، تُسْرِعُ إليه زوجتاه من الحور العين، في لهفة وشوق وحنانٍ كأنهما ناقتان مُرضعتان فقدتا ولدهما الرضيع، ثُمَّ وجدتاه في مكان واسع من الأرض، فأقبلتا عليه في عَطْفِ يفوق الوصف، ناهيك بعطف أُمّ وجدت ولدها بعد افتقاده مدة، وإنما أحضرتا له
كسوة؛ لأنَّ ثيابه التي استشهد فيها تمزقت واتسخت بتراب الأرض.
وروى البخاري عن سَمُرَة بن جُندب في حديث الرؤيا الطويل قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «رَأيتُ اللَّيلةَ رَجُلَينِ أتيَانِ ، فصَعِدًا : الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِ دَارًا هِي أَحْسَنُ وأَفْضَلُ ، لم أرَ قَطُّ أحسن منها، قالا: أما هذه
الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاء».
بي
إتحاف النبلاء
۱۲۳
ذنوب لا تُكَفِّرِها الشهادة
تقدم في الأحاديث السَّابقة أنَّ الشهيد يُغفر له في أول دفعةٍ مِن دَمِهِ، وأَنَّ ذنوبه تُكفّر باستشهاده، إلَّا أنه يُستثنى منها أربعة أمور:
الأول: الدَّيْن:
روى مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يُغْفَرُ للشَّهِيدِ كلَّ ذنبٍ !
الدين".
وروى مسلم أيضًا عن أبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- قام فيهم: فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيتَ (۱) إِنْ قُتلتُ في سبيل الله تُكَفَّرُ عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ في سَبِيلِ الله وأنْتَ صَابرٌ مُحْتَسِبُ مُقْبِلٌ غيرُ مُدْبِرِ». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف قُلْتَ؟» قال أرأيت إنْ قُتلتُ في سبيل الله أَتُكَفَّرُ عَنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ الله وأنتَ صَابرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ، غيرُ مُدْبِرٍ ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كيف قُلْتَ؟ قال: أرأيت إنْ قُتلتُ في سبيل الله أتكفّر عَنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ وَأَنْتَ صَابَرٌ مُحْتَسِبُ مقبل غيرُ مُدْبِرٍ». ثُمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «كيف قلت؟»
(۱) معنى «أرأيت» بفتح التاء: أخبرني.
١٢٤
الأدب والمتفرقات
قال: أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله أتكفّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ وأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلَّا الدِّينَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لي ذلك».
أفاد الحديث: أن جبريل -عليه السلام - نزل خاصة ليُخبر النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ الدَّيْن لا يُغفر للشَّهيد؛ لأنه حق لآدمي، لم يتنازل عنه، نعم إن تَرَكَ الشَّهيد ما يقضي منه دينه، أو أوصى بأن يقضى عنه، كما أوصى عبد الله ابنه جابرا، حين خرج في غزوة أحد أو قضاه عنه أحد أقاربه، أو بعض المسلمين، فإن الله يغفر له ولا يعاقبه عليه.
الثاني: العقوق:
ذكر شرحبيل بن سعد أنَّ أهل الأعراف قوم استشهدوا في سبيل الله، لكن خرجوا عصاة لآبائهم.
وروى ابن مردويه ، عن محمد بن المنكدر، عن رجل من مزينة، قال: سُئل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عمَّن استوت حسناته وسيئاته؟ وعن أصحاب الأعراف؟ فقال: «إِنَّهُم قومٌ خَرَجُوا عُصَاةٌ بِغَيرِ إِذْنِ آبَائِهِمْ. فَقُتِلُوا فِي سبيل الله».
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معشر : حدثنا يحيى بن شبل عن يحيى بن عبد الرحمن المدني، عن أبيه: سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن أصحاب الأعراف؟ فقال: «هُمْ نَاسٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْصِيَةِ آبَائِهِمْ فَمَنَعَهُم مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعْصِيَةُ آبَائِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
إتحاف النبلاء
١٢٥
ورواه ابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر، به (۱). ورواه ابن ماجه من حديث ابن عبّاس، وأبي سعيد الخدري، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير : والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة، وقصارها أن تكون
موقوفة. انتهى. الثالث: الأمانة:
روى الطبراني وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ، وَالْأَمَانَةُ في الصَّلَاة، والأمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ
الْوَدَائِعُ .
الرابع: النفاق
تقدم في حديث عُتبة : أنَّ الشَّهيد المنافق لا يُغْفَرُ له، ولا تُمحى خطاياه، وأنَّ السَّيْفَ لا يمحو النفاق.
وكذلك الشهيد الكافر، لا يُغفر له؛ لأنَّ شرط الشَّهيد أن يكون مسلما، فكما لا تصح صلاة الكافر ولا صيامه، كذلك لا تصح شهادته.
(۱) وأبو معشر ضعيف.
١٢٦
الأدب والمتفرقات
أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي الجِنَّةِ
قال تعالى : الان وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٩].
.
روى مسلم عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية؟ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، فقال: أمَا إِنَّا فقد سَأَلْنَا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرِ خُضْرٍ لها قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجنَّةِ حيثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تلك القَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطَّلَاعَة، فَقَالَ: هل تَشْتَهُونَ شيئًا؟ قالوا: أي شيءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حيثُ شئنَا، فَفَعَلَ ذلك بهم : م ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قالُوا: يا ربّ، نُرِيدُ أنْ تَرُدَّ أروَاحَنَا في أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةٌ أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ ليسَ هُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا».
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما أُصيب إخوانكم بأحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أرواحهم في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنهارَ الجَنَّةِ: تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ مُعلَّقةٍ في ظل العرش، فلما وجَدُوا طِيْبَ مأكلهم ومَشربهم ومقيلهم، قالوا: من يُبلِّغُ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنةِ نُرزقُ، لئلا يَرْهَدُوا في الجهاد ولا يَنكُلوا . الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم»، قال: «فَأَنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ الآية كلها».
إتحاف النبلاء
۱۲۷
هذه الآية نزلت في شهداء أحد.
-
وروى أبو أحمد الحاكم في "الكُنى" وابن مَنْدَه عن طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة - قال : أردت مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر - فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فذكرت ذلك له، فقال: «ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد، وعلقها في وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت فيه». إسناده ضعيف.
وروى الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه كعب، كان يحدث: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ نَسَمَةَ الْمُؤْمِن طَائِرٍ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةَ». لفظ المؤمن هنا عام، فيحمل على الشَّهيد أخذا بالقاعدة الأصولية ويكون
المعنى: أنَّ روح الشهيد المؤمن طائر يعلق، أي: يأكل من شجر الجنَّة. وإنما خصصنا عموم الحديث؛ لإجماع الأمة على أنَّه لا يجعل الأكل والنعيم في الجنة لأحد إلا للشهيد في سبيل الله ، حكى الإجماع القاضي أبو بكر بن
(۱)
العربي في "سراج المريدين " وغير الشهيد إذا كان صالحا يملأ عليه قبره خضرا، ويوسع له فيه، ويذهب روحه إلى البرزخ، مع تردده على القبر ليرد سلام الزائر ويقبل ما يهدى
(۱) لكن يرد عليه قول أبي هريرة وابن عمر الآتي: «أرواح المؤمنين في الجنة».
۱۲۸
الأدب والمتفرقات
إليه من دعوات وقراءة، قال الحافظ ابن عبد البر: ثبت عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّه قال: «مَا مِنْ مُسلِمٍ يَمُرُ على قَبْرِ أَخِيهِ كَان يَعْرِفَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلَّم عليه إِلَّا رَدَّ اللهُ عليه رُوحَهُ حَتَّى يَرُد عليه السَّلام». وروى الحسين المروزي في كتاب "الرقائق" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّه كان يقول : إذا قُتِلَ العَبْدُ في سبيل الله، كان أول قطرة من دمه إلى الأرض كفَّارة الخطايا، ثم يُرسل الله عزّ وجلَّ برَيْطة (١) من الجنَّة فيقبض فيها روحه، وصورة من صور الجنَّة فيركب فيها روحه، ثم يعرج مع الملائكة كأنه كان معهم والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء روح من الأرض طيبة، ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا ملك إلا صلى عليها ودعا لها، ويشيعها حتى يؤتى بها الرحمن فيقولون: يا ربنا هذا عبدك توفيته في سبيلك فيسجد قبل الملائكة، ثم تسجد الملائكة ،بعد ، ثم يطهر ويُغفر له، ثم يُؤمر
فيذهب به إلى الشُّهداء، فيجدهم في قباب من حرير في رياض خُضْرٍ، عندهم
حوت وثور، يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة في أنهار الجنَّة، فإذا أمسى وكز الثور بقرنه، فيذكيه فيأكلون لحمه، فيجدون فيه طعم كل رائحة في الجنَّة، ويبيت الثور في أثناء الجنَّة فإذا أصبح عدا الحوت عليه فوكزه بذنبه، فيذكيه فيأكلون في لحمه طعم كل رائحة في الجنَّة، ثم يعودون وينظرون إلى منازلهم من الجنَّة، ويدعون الله عزّ وجل أن تقوم الساعة، فإذا توفي العبد المؤمن، بعث الله عزّ وجلَّ إليه ملكين، وأرسل إليهما بخرقةٍ من
(۱) ربطة: بفتح الراء وسكون الياء: الكلاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفتين.
إتحاف النبلاء
۱۲۹
الجنة فقال: أخرجي أيتها النفس الطيبة، أخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح من مسك ما وجدها بأنفه قط، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من قبل الأرض روح طيبة ونسمة طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك إلا دعا لها، وصلى عليها، حتَّى يُؤتى
بها الرحمن، فتسجد الملائكة، ثم يقولون هذا عبدك فلان قد توفيته وكان يعبدك لا يشرك بك شيئًا، فيقول : مُرُوهُ فليسجد فتسجد النسمة، ثم يدعو ميكائيل فيقول: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين، حتى أسألك عنها يوم القيامة، ثمَّ يُؤمر فيُوسَعُ عليه قبره سبعين ذراعًا عرضه وسبعين ذراعا طوله، وينبذ له فيه الرياحين، ويُسْتَر بالحرير فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن معه، جُعِلَ له في قبره نورٌ مثل نور الشمس ويكون مثل العروس، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، قال: فيقوم من نومه كأنه لم يشبع من نومته. أين تذهب الأرواح بعد الموت
بمناسبة الكلام على أروح الشُّهداء، نتكلم على مستقر الأرواح بعد مفارقة
أجسادها، تتميما للفائدة وبالله التوفيق.
اعلم أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة اختلافا كبيرًا، فحكى الحافظ أبو عبد الله بن منده عن طائفة من الصحابة والتابعين: أنَّ أرواح المؤمنين عند
الله عزّ وجل، ولم يزيدوا على ذلك.
وحكى أيضًا عن طائفة من الصَّحابة والتابعين أيضًا أنَّ أرواح المؤمنين
بالجابية - بلد بالشام- وأرواح الكفار ببرهوت، بئر بحضرموت.
۱۳۰
الأدب والمتفرقات
وقالت طائفةٌ أُخرى: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببرهوت. وقال أبو هريرة وابن عمر أرواح المؤمنين في الجنة شهداء وغيرهم إذا لم يحبسهم عن الجنَّة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم بعفوه ورحمته وقالت جماعة أُخرى: الأرواح على أفنية قبورها.
وقال كعب الأحبار أرواح المؤمنيين في عليين، وفي السَّماء السابعة.
وأرواح الكفار في سجين، في الأرض السابعة، تحت جسد إبليس. وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكُفَّار في سجين.
وقال إسحاق بن راهويه وابن حزم وغيرهما: الأرواح كلها في السماء الدنيا، حيث رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج، وأرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السَّلام، وأرواح أهل الشقاء عن يساره، واستدل ابن حزم لهذا القول وحكى إجماع أهل العلم عليه. وبيان الراجح من هذا الأقوال، يقتضي ذكر أدلتها والموازنة بينها، وذلك ليس من غرضنا في هذه الرسالة، ويكفي هنا أن تعرف أنَّ أرواح الشُّهداء تَرِدُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها لما تقدَّم في الأحاديث السابقة، ولما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: أنَّ أم الربيع بنت البراء رضي الله عنها وهي أم حارثة بنت سراقة، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر - فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء ، فقال : يا أم حارِثَة: إِنَّهَا جِنَانُ فِي جَنَّةٍ وإِنَّ ابنك أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى».
إتحاف النبلاء
۱۳۱
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: رأَيْتُ جَعْفَرَ بن أبي طالب مَلَكًا يطيرُ فِي الجَنَّةَ ذَا جِنَاحَيْنِ يطيرُ منها حيثُ شاء، مُضَرَّجَةٌ قَوَادِمُهُ بالدَّمَاءِ» إسناده حسن.
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قُطِعَتْ يداه في سبيل الله يوم مؤته
فأبدله الله بهما جناحين.
وفي "صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في غزوة مؤتة قال: فالتمسنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فوجدناه في القتلى،
فوجدنا بما أقبل من جسده بضعا وتسعين بين ضربة ورمية وطعنة.
تنبيه: تقدم في حديث كعب بن مالك: «نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ»، وفي رواية الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن ابن مسعود: «أرواحُ الشَّهداء عند الله كَطَيْرٍ
خُضْرٍ». وروى ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن أبيه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أرواحُ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرِ خُضْرٍ تُعَلَّقُ في شجرِ الجنَّةِ». قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار": «هذا كله مطابق لرواية مالك،
فهو أصح من رواية من روى أنَّ أرواحهم في جوف طير خضير». انتهى. وقال أبو الحسن القابيسي: «أنكر العلماء قول من قال: في حواصل طير، لأنها
رواية غير صحيحة؛ لأنّها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها». انتهى. وقال القرطبي: «الرّواية صحيحة؛ لأنها في "صحيح مسلم" بنقل العدل عن العدل، فيُحتمل أن تكون (في) بمعنى: «على» فيكون المعنى: أرواحهم على جوف طير خضر، كما قال تعالى: ﴿وَلَا صَلَبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه:
۱۳۲
الأدب والمتفرقات
۱]، أي: على جزوع النخل، وجائز أن يُسمى الطير جوفًا؛ إذ هو محيط به
و مشتمل عليه، قال أبو محمد عبد الحق: وهو حسن جدا». انتهى. وقال إبراهيم بن شبيب في كتاب "الإفصاح ": «المنعم على جهات مختلفة، منها : ما هو طائر يعلق في شجر الجنة، ومنها ما يأوي إلى قناديل تحت العرش، ومنها ما هو في حواصل طير بيض، ومنها ما هو في حواصل طير خضر، ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير ومنها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم، ومنها: ما تسرح وتعود إلى جثتها تزورها، ومنها: ما تتلقى أرواح المقبوضين، وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل، ومنها: ما هو في كفالة آدم عليه السَّلام، ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام». انتهى. قال القرطبي : وهذا قول حسن؛ فإنَّه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع، والله بغيبه أعلم وأحكم». انتهى.
وكان المرحوم الأستاذ عبدالله الجيَّار، قد سألني مستشكلا: كيف تكون روح المؤمن في حوصلة الطير ؟ فذلك حبس لها وتضييق عليها، وهو بمعنى كلام القابسي وإن لم يطلع عليه.
.
فأجبته بأن الطير مركبة لها ، كما يركب أحدنا سيارة تحمله من مكان إلى آخر، ثم وجدت ابن القيم يقول: «إنَّ جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، فإنَّهم لما بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداؤه فيه؛ أعاضهم عنها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان، أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها».
ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشُّهداء في
إتحاف النبلاء
۱۳۳
جوف طير، وتأمل لفظ الحديث، فإنَّه قال: «نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَيْرٌ»، فهذا يعم الشهيد وغيره، ثمَّ خصَّ الشَّهيد بأن قال: هي في جَوْفِ طَيْرِ»، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، انتهى.
وروى بكر بن خُنيس، عن ضِرار بن عمرو، عن يزيد الرَّقَاشِي، عن أنس. وعن أبي عبد الله الشَّامي، عن تميم الداري، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إذا عَرجَ مَلَكُ الموتِ بروحِ المؤمِن إلى السَّماءِ استقبله جبريل في سَبْعِينَ ألفًا مِنَ الملائِكَةِ كلّ منهم يَأتِيه ببشارة من السَّماءِ، سِوَى بِشَارَةِ صاحِبِهِ فإذا ا انتهى به إلى العرش خرَّ ساجدًا، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لملكِ الموتِ: انطَلِقْ بروحِ عبدِي فَضَعْهُ فِي سِدْرٍ تَخْضُودٍ وطَلْحٍ مَنْضُودٍ وظِلٍ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبِ». إسناده ضعيف (۱).
تنبيه آخر : قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «والذي نَفْسِي بيده لو أنَّ رجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحِيِيَ ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحِيِيَ ثُمَّ قُتِلَ وعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الجنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ». هذا الحديث يوافق الحديث الصحيح الماضي: «يُغْفَرُ للشَّهِيدِ كُل ذَنْبٍ إِلَّا الدين». وهذا يدل على أنَّ الشَّهيد المدين لا يدخل الجنة، من حين استشهاده
ولا تكون روحه طيرًا يُعلق من شجر الجنَّة، فأين تكون؟
الجواب: تكون على نهر بباب الجنة، يخرج إليها رزقها بكرة وعشيا. روى عبد الله بن وهب وأحمد بن حنبل، عن ابن عباس عن النَّبيَّ صلَّى الله
(۱) لضعف بكر ويزيد الرقاشي.
١٣٤
الأدب والمتفرقات
عليه وآله وسلم قال: «الشُّهداء على بَارِقِ نَهَرٍ ببابِ الجَنَّةِ، يَخْرُجُ عليهم رِزْقُهم من الجنة بكرة وعشيّا». فهؤلاء الشَّهداء هم الذين عليهم دين، ويلحق بهم من
كان عليه حق لأمي.
قال القرطبي: «لأنَّ الدين ليس مختصا بالمال».
شهيد البحر
روى الحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «غزوةٌ في البحْرِ خيرٌ من عشرِ غَزَوَاتٍ في البر، ومن أجازَ البَحْرَ فكأَنها أجاز الأوْدِيَةَ كُلها، والمَائِدُ فيه كالمتشحط في دَمِهِ». قال الحاكم: لصحيح على شرط البخاري».
ورى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لَشَهِيدُ البَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَي البَرَّ، والمَائِدُ فِي البَحْرِ كالمُتَشَحْطِ فِي دَمِهِ فِي البَرِّ، وما بين المَوْجَتَيْنِ كقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ وإنَّ الله وَكَّلَ مَلَكُ الموتِ بِقَبْضِ الأَرْوَاحِ إِلَّا شَهِيدُ البَحْرِ فَإِنَّه يَتَوَلَى قَبْضَ أزواجهم، ويُغفرُ الشهيدِ البَرِّ الذُّنوب كُلهَا إِلَّا الدَّيْن، ولشهيد البحرِ الذُّنوب
كلها والدين».
قال القرطبي: في إسناده لين. أي ضعف. انتهى. إنما كان لشهيد البحر هذا الفضل العظيم؛ لما في ركوب البحر من مقاساة الأهوال واقتحام المخاطر، ولقد شاهدنا فيه الموت عيانا، حيث هاج علينا بالقرب من الإسكندرية وصار الموج يلف الباخرة لا وهي تتأرجح كريشة في
إتحاف النبلاء
۱۳۵
الأمثال
مهب الريح، ونحن لا نملك أنفسنا من الدوار والميد والقيء، واستعد رجال الباخرة لإنزال قوارب النَّجاة، ثم نجانا الله تعالى فسلمنا، ومن المتداولة المشهورة : راكب البحر مفقود والناجي منه مولود»، ولذلك أفتى
كثير من علماء المالكية بالأندلس بأنَّ ركوب البحر عذر يسقط فريضة الحج لعدم سلامة راكبه غالبا، وكان جدنا من قبل الأم العلامة العارف سيدي أحمد بن عجيبة عزم على الحج فركب الباخرة من طنجة ثم رجع من جبل طارق، لأنَّه حصل له دوار وميد وقيء، حتى فاتته الصَّلاة عن وقتها، فقال: لا يجوز الحج مع الصَّلاة، وإذا كان هذا حال راكب البحر في سفر اعتيادي آمن، فكيف
تضييع
حال راكبه في جهاد العدو وقتاله؟ لا شك أنَّ الخطر يتفاقم والمتاعب تزيد.
الله
ولهذا جاء في معاجم الطبراني الثلاثة، عن عِمران بن حُصَيْنٍ رضي ال عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ غَزَا في سبيل الله غَزْوَةً فِي البَحْرِ - والله أعلمُ بمن يَغْزُو في سبيلِهِ - فَقَدْ أَدَّى إلى اللَّهُ طَاعَتَهُ كُلَّها،
وطَلَبَ الجنَّةَ كُلَّ مَطْلَبِ، وَهَرَبَ مِنَ النَّارِ كُلَّ مَهَرَبٍ». إسناده ضعيف. وروى الطبراني في "المعجم الأوسط"، بإسناد ضعيف أيضًا عن وَائِلَةَ بن الأسْقَعِ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم «مَنْ فَاتَهُ الغَزْو مَعِي فَلْيَغْزُ فِي البَحْرِ».
تنبيه: قال القرطبي: «الدَّينُ إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أوعُسر ومات، ولم يترك له وفاء، فإنَّ الله تعالى لا يحجبه عن الجنة إن شاء الله تعالى، شهيدا كان أو غيره، لأنَّ على السُّلطان فرضًا أن يؤدّي . عنه، قال رسول الله
١٣٦
الأدب والمتفرقات
صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أوضَيَاعًا فعلى الله ورسولِهِ، وَمَنْ تركَ مالًا فَلِوَرَثَتِهِ». فَإِنْ لم يؤد عنه السلطان، فإنَّ الله تعالى يقضي عنه، ويرضي خصمه، والدليل على ذلك: ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الدَّيْنَ يُنْقِصُ (۱) أو يُقْبَضُ من صَاحِبِهِ يوم القيامة إذا مات ولم يُؤدِّهِ، إِلَّا مِنْ ثلاث خِلَالٍ: الرَّجُلُ تَضْعُفُ قوتهُ في سبيل الله فَيَسْتَدِينُ ِليَتَقَوَّى به لعدو الله وعدوه، ورجل يموتُ عندَه رجلٌ مسلم لا يجد ما يُكَفِّنْهُ فيه ويُوَارِيهِ إِلَّا بِدَيْنِ، ورجلٌ خَافَ على نفسهِ العَزَبَةَ فينْكِحُ خَشْيَةٌ على دِينِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَنْ هؤلاء يومَ القِيَامَةِ».
وأما من استدان في سفه أو سرف فمات ولم يوفه أو ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه، فهذا الذي يحبس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات والسيئات فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاما في الجميع وهو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين ودين، ويحتمل أن يكون قوله فيمن استدان ولم يفرط في الأداء وكان عزمه ونيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عنْهُ ، ومن أخذَهَا يُريدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ». أخرجه البخاري. على أنَّ حديث أبي أمامة في إسناده لين، وأعلى منه إسنادا وأقوى ما رواه
(۱) بالصاد المهملة مبنيًا للمعلوم، أي ينقص من عمل المدين بقدر الدين الذي عليه. أو يقبض بالضاد المعجمة مبنيًا للمجهول : أي يقبض من عمل المدين، فيعطى للدائن.
إتحاف النبلاء
۱۳۷
مسلم عن عبد الله بن عمرو، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: القَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كلَّ شيءٍ إِلَّا الدَّيْن». ولم يخص برا من بحرٍ.
ثم ذكر القرطبي حديث أبي قتادة، ثم قال : وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناده
الله
عن قاضي البصريين شُريح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي ا عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو صَاحِبَ الدِّينِ يومَ
القيامة فيقولُ : يا ابنَ آدَمَ فِيمَ أَضَعْتَ حُقَوقَ النَّاسِ؟ فِيمَ أَذْهَبْتَ أَمْوَاهُمْ؟ فيقول: يا رَبِّ ثم أُفْسِدُهُ ولَكِنْ أَصَبْتَ إِمَّا غَرفًا وَإِمَّا حَرَقًا(۱) فيقولُ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ اليَوْمَ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ على سَيْئَاتِهِ فَيُؤْمَرُ به إلى
الجنة». رواه من طرق. انتهى كلامه.
قلت خلاصة هذا البحث أنَّ شهيد البحر مثل شهيد البر يكفر عنه كل
شيءٍ إِلَّا الدَّين(۲)، والله تعالى أعلم.
شهيد الجو
لشهيد الجو من الفضل مثل ما لشهيد البحر؛ لأنَّ في ركوب الطائرة من الأخطار وعروض الميد والقيء مثل ما في ركوب الباخرة، بل قد يكون الخطر في ركوب الطائرة أعظم، ولقد ركبت طائرة في سفري إلى الحجاز فشاهدت ما حصل لبعض الركاب من دوار وقيء وكانت الطائرة تقع أحيانًا في مطب جوي فترتج إرتجاجة يَنْخَلِعُ لها قلوب الركاب ومن الناس من يختار ركوب
(۱) أو آفة من الآفات التي وقعت بغير تقصير منه.
(۲) والعقوق والأمانة والنفاق كما تقدم.
۱۳۸
الأدب والمتفرقات
الباخرة على ركوب الطائرة لأنَّ الخطر فيها أشد.
ويُستدل للقتال في الجو بما ثبت في صحيح البخاري" عن رفاعة الزرقي رضي الله عنه، أن جبريل عليه السَّلام قال للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من خيار المسلِمِينَ، قال: كذلك من شهد بدرًا من
الملائكة».
قلت: كانت الملائكة في بدر يقاتلون من الجو، شاهدهم كثير من الصحابة وبعض المشركين وكان المشرك في بدر تأتيه الضربة من فوق، لا يدري مَنْ ضربه فيقع مينا.
تنبيه: شهيد المعركة - هو الذي قتل في ميدان الحرب- لا يُغسل ولا يُصلَّى عليه، سواء أقتل في معركة بريَّة أم بحريَّة أم جويَّة، أما ما ورد من صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شهداء أحد فيحمل على أحد أمرين: ١ - إما أن يكون ذلك قبل نسخ الصلاة على الشهيد.
٢ - وإما أن يكون معنى الصلاة الدعاء لهم، والترحم عليهم. وبقية الشُّهداء الآتية أنواعهم يُغسلونَ ويُصلى عليهم كسائر موتى المسلمين، وإنما جعلهم الشَّارع في حُكم الشُّهداء لخصلة خير اتصفوا بها، أو المصيبة أصابتهم فقضت على حياتهم رحمة من الله لهم وتفضلا عليهم والله ذو الفضل العظيم.
إتحاف النبلاء
١- طالب الشهادة
۱۳۹
روی مسلم والأربعة، عن سهل بن
حنيف رضي
الله عنه: أنَّ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ سأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ
الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ».
وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ».
وروى الأربعة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أَنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «مَنْ قَاتل في سبيل الله فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الجنَّةٌ، سأل القتل مِنْ نَفْسِهِ صَادِقًا فقدْ وَجَبَتْ لَهُ الجنَّةُ، ومِنْ سَأَلَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ ومن نَفْسِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أو قُتِلَ فإنَّ لهُ أَجْرُ شَهِيد، ومن جُرِحَ جَرْحًا في سبيلِ اللَّهِ أوْ نُكِبَ نَكْبَةٌ فَإِنَّها تَجِيءُ يومَ القِيامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانت لَوْنُها لَونُ الزَّعْفَرانِ وريحها ريحُ المسْكِ». صححه الترمذي.
فواق: بضم الفاء، وتخفيف الواو : ما بين الحلبتين.
يفيد الحديث عِظَمٌ فضل الجهاد، ويفيد أنَّ من طلب الشَّهادة صادقًا بأن يكون قصده الجهاد في سبيل الله لنصرة دينه ثم مات على فراشه، فإن الله يعطيه أجر شهيد، ويبعثه في زمرة الشهداء؛ لأنَّ الله علم صدق نيته وشرف قصده، والقرآن يؤيد هذا، وذلك أن الهجرة قبل فتح مكة، كانت مفروضة، يعصي
.
تاركها، وكان بعض الصحابة يموت في الطريق قبل وصوله المدينة، فأنزل الله
تعالى: وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
١٤٠
الله
الأدب والمتفرقات
[النساء: ١٠٠] أي: فقد حصل له أجر المهاجر، وكتب في زمرة
المهاجرين.
وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإِنَّما لكل امريء ما نَوَى فمن كانتْ هِجْرَتُهُ إلى الله ورسولِهِ فَهَجْرَتُهُ إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لِدُنْيا يُصِيبُهَا أو امْرَأَةٍ يَتَزَوجَهَا فهجرتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِليه».
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رجلًا خطب امرأة بمكة يُقال لها: أم قيس، فقالت: لا أتزوجك حتى تهاجر ، فهاجر إلى المدينة وتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس.
الميت في سبيل الله
روى الآجري عن أبي مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ فَصَلَ في سبيلِ الله فَمَاتَ أو قُتِلَ، فهو شَهِيدٌ، أَو وَقَصَهُ فَرَسُهُ أو بَعيرُه، أو لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أو ماتَ على فِراشِهِ بأَيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللهُ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَإِنَّ
له الجنة». ورواه ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عتيك مرفوعا بمعناه. فصل: خرج قال الله تعالى وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ﴾ [يوسف: ٩٤]، أي: خرجت من مصر، والمعنى: أن المسلم إذا خرج للجهاد فمات في الطريق إلى الميدان موتا معتادًا، أو وقع عن دابته كفرس أو ناقة، أو صدمته سيارة أو لدغته حية أو عقرب، فمات بذلك فإنّه يكون شهيدا، كما لو قتل في المعركة، ويدخل الجنة.
إتحاف النبلاء
جملة من الشهداء
١٤١
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما تعدُّون الشُّهداء فيكم؟» قالوا: يا رسول الله من قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، قال: «إنَّ شُهداءَ أُمَّتِي إذًا لقليل». قالوا: فمن يا رسول الله ؟ قال: «مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومنْ مَاتَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومنْ مات في الطَّاعُونِ فهو شهيدٌ، ومن مَاتَ من البَطْنِ فهو شهيد». قال ابن مِقْسَمِ: أشهد على أبيك - يعني أبا صالح - أنَّه قال: «والغَرِيقُ شهيد». وروى مالك والبخاري عن أبي هريرة أيضًا، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «الشُّهداء خمسة: المطعون والمبْطُونُ، والغَريقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ
والشَّهيد في سبيل الله». وروى الأربعة إلَّا الترمذي عن جابر بن عتيك، قال: جاء رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يعود عبدالله بن ثابت، فوجده قد غلب عليه. فصاح به، فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وقال: «غلبنا عليك يا أبا الربيع». فصاحت النسوة ،وبكين، وجعل ابن عتيك يُسكتهن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «دَعْهُنَّ فإذا وجبَ فَلا تَبْكِيَنَّ بَاكِيةٌ»، قالوا: وما يا رسول الله ؟ قال : إذا مات قالت ابنته: والله إني لأرجو أن
الوجوب
(1)
(۱) هذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان واسع العلم باللغة العربية، حتى كان الصحابة - وهم -عرب- يسألونه عن ألفاظ منها لا يعرفونها، وسيأتي سؤال عائشة له عن الطاعون. ولهذا قال الإمام الشافعي في "الرسالة": «لا يحيط باللغة العربية إلا نبي». وذلك لسعتها، وتعدد فنونها.
.
١٤٢
الأدب والمتفرقات
تكون شهيدا، فإنَّك كنت قد قضيت جهازك، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله قد أَوْقَعَ أَجْرَهُ على نِيَّتَه، وما تعدُّون الشَّهادة؟» قالوا: القتل في سبيل الله ، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الشَّهادَةُ سَبْعٌ سِوى القَتْلُ في سبيل الله؛ المبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذاتِ الجَنَّبِ شهيد، والمطعون شهيد، والذي يَموتُ تحتَ الهَدْمِ شهيد، والمرأةُ
تموتُ بجُمْع شهيد».
صححه ابن حبان.
وروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: دخلنا على عبد الله بن رواحة نعوده، فأغمي عليه، فقلنا: رحمك الله، إن كنا لنحب أن تموت على غير هذا، وإن كنا لنرجوا لك الشهادة، فدخل النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نذكر هذا فقال: «وفِيمَ تَعدُّونَ الشَّهادة؟» فأرَم القوم، وتحرك عبدالله فقال: ألا تجيبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ ثم أجابه هو ، فقال : نَعدُّ الشَّهادة في القَتْلِ، فقال: «إِنَّ شهداءَ أُمتِي إِذًا لقليل، إنَّ في القتل شهادة، وفي الطاعون شهادة، وفي البطن شهادة، وفي الغرقِ شهادة، وفي النفساءِ يَقْتلها ولدُهَا جُمْعًا شهادةٌ».
أرم: بفتح الراء وتشديد الميم: سكت. جمعا بفتح الجيم وضمها وكسرها. وروى الطبراني أيضًا عن ربيع الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عاد ابن أخي جبر الأنصاري فجعل أهله يبكون عليه فقال لهم جبر: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصواتكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «دعْهُنَّ يَبْكينَ ما دَامَ حَيًّا، فَإِذَا وَجَبَ فَلْيَسْكُتُنَّ»،
إتحاف النبلاء
١٤٣
فقال بعضهم: ما كنا نرى أن يكون موتك على فراشك، حتى تقتل في سبيل الله مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أوما القتل إلَّا في سبيل الله؟ إِنَّ شهداءَ أُمتي إِذًا لقليل؛ إِنَّ الطَّعَنَ شهادة، والبطن شهادة، والطاعونَ شَهادة، والنفساء بجمع من شهادة، والحَرَقَ شهادة، والغرق شهادة، وذات الجنب شهادةٌ ». رجال إسناده محتج بهم في
الصحيح. الحرق، بفتح الحاء والراء: النَّار.
وروى أحمد عن راشد بن حبيش: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دخل على عبادة بن الصامت يعوده في مرضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أتعلمُونَ منَ الشَّهِيدُ مِنْ أُمتي؟» فأرَم القوم فقال عُبادة: سَائِدُونِي، فَأَسْنَدُوهُ فقال: يا رسول الله ، الصَّابر المحتسب. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ شُهداءَ أُمتي إذًا لقليل، القتْلُ في سبيل الله عزّ وجل شهادة، والطاعونَ ،شهادة، والغرقُ شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجُرُّهَا وَلَدُهَا بِسُرَرِهِ إلى الجنَّة»، قال: وزاد أبو العوام: «سَادِنُ بيتِ المَقْدِسِ
والحَرْقُ والسَيلُ».
إسناده حسن.
شملت هذه الأحاديث الخمسة - وهي حديث أبي هريرة، وحديث جابر بن عتيك، وحديث عبادة بن الصامت وحديث ربيع الأنصاري وحديث راشد بن حبيش، وهو صحابي معروف على أنواع من أسباب الشهادة، غير القتل في ميدان المعركة، نفصلها فيما يلي:
١٤٤
الأدب والمتفرقات
1- الطاعون
وهو وباء معروف نسأل الله العافية منه ومن كل بلاء، صحت الأحاديث
فيه أنه شهادة.
ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: «الطَّاعونُ شهادةٌ لكلِّ مُسلمٍ».
وفي "صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن الطاعون، فقال: «كان عذابًا يَبْعَثُهُ اللهُ على مَنْ كان قَبْلَكُم فجعلهُ اللهُ رحمةً للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكونُ فيهِ فَيَمْكُثُ لا يخرجُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّه لا يُصِيبُه إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ إِلَّا كَان لَهُ مثل أجر شهيد». وروى أحمد بإسناد حسن، عن أبي عسيب رضي الله عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَتَانِي جبريل عليه السَّلام - بالحُمَّى والطَّاعونِ فَأَمْسَكَتُ الحُمَّى بالمدينَةِ وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلى الشَّام، فالطاعون شهادةٌ لأُمتي ورِجْسٌ على الكافِرِ». وروى أحمد بإسناد حسن آ أيضًا عن جابر جابر رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الطَّاعونِ: «الفَّارُ منه كالفَّارٌ من
الله عنه، قال: سمعت
الرَّحفِ، ومَنْ صَبرَ فيه كانَ لَهُ أَجْرُ شهيد». الفار: بتشديد الراء: الهارب. وروى الحاكم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم اجعلْ فَنَاءَ أُمتي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ بالطَّعْنِ والطَّاعُونِ». قال الحاكم: «صحيح الإسناد».
إتحاف النبلاء
١٤٥
وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تَفْنَى أُمَّتِي إِلَّا بِالطَّعْنِ والطَّاعُون». قلتُ: يا رسول الله هذا الطَّعْنُ قد عرفنا، فما الطَّاعُون؟ قال:
اغُدَّةُ كغُدَّةِ البَعِيرِ المُقِيمُ بها كالشَّهِيدِ، وَالفَّارُّ مِنهُ كالفَّارٌ مِنَ الزَّحْفِ». وفي الطاعون أحاديث غير هذه جمعها الحافظ ابن حجر في جزء سماه بذل الماعون في أخبار الطاعون ، ثمَّ الحافظ السيوطي جمع جزءا سماه: «مَا رواهُ الوَاعُونَ مِنْ أَخْبِارِ الطَّاعُونَ».
٢- المبطون
وهو الذي يشتكي بطنه من إسهال، أو استسقاء أو نحو ذلك.
يقال : بطن بضم الباء وكسر الطاء: إذا اشتكى بطنه، فهو مبطون. روى الترمذي عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال سلمان بن صرد، لخالد بن عرفطة: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ قَتَلَهُ بَطْنَهُ لم يُعذَّب في قَبْرِهِ؟»، فقال أحدهما لصاحبه: نعم. حسنه الترمذي، وصححه
ابن حبان.
وروى النَّسائيُّ عن جامع بن شداد قال : سمعت عبدالله بن يسار يقول: كنت جالسا عند سليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكرا: أنَّ رجلا مات ببطنه فاشتهيا أن يشهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم: «مَنْ يَقْتِلُهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذِّب فِي قَبْرِهِ».
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني
١٤٦
الأدب والمتفرقات
جامع بن شداد فذكره.
وقال ابن المبارك في كتاب الجهاد ، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبدالله عن حميد بن عبدالرحمن وهو الحميري قال: كان رجل يقال له: عُمَمَةٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أصبهان غازيًا، في خلافة عمر قال: وفتحت أصبهان في خلافته فقال: اللهم إنَّ مُمَمَةٌ يزعم أَنَّه يُحِبُّ لقاءك فإن كان عُمةٌ صادقًا فاعزم له عليه وصدقه، اللهم لا ترد حممة، من سفره هذا، قال: فأخذه بطنه، فمات بأصبهان، فقام أبو موسى، فقال: يا أيها النَّاس ألا وإنَّا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما بلغنا علمه: أَلَّا أَنَّ مُمَمَةً شهيدٌ. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه"، وأحمد وإسناده صحيح.
الغريق
إذا سافر الشخص في البحر سفرًا مباحًا أو سفر طاعة ثم هاج البحر،
فغرق فإنَّه يكون شهيدا، كما تقدم في الأحاديث السابقة.
أما لو ركب البحر عاصيًا لأبويه أو أحدهما، أو قاصدا سرقة، أو قتلا أو غير ذلك من المعاصي فغرق؛ فإنَّه لا يكون شهيدًا، بل هو عاص بحسب نيته، كذاك المسافر في البر أو البحر ، لا يجوز له قصر الصَّلاة، أو فطر رمضان، إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾
[البقرة: ١٧٣].
٤- المطعون
وهو الذي يطعن بالرمح مثلا، فيموت من تلك الطعنة فهو شهيد.
إتحاف النبلاء
١٤٧
ه صاحب الهدم
وهو الذي وقع عليه بيت، أو نحوه فمات تحت الهدم، فإنَّه شهيد.
- صاحب ذا الجنب
وذات الجنب : دمل أو خرج كبر يظهر في باطن الجنب، وينفجر إلى داخل، قلما يسلم صاحبها، وذو الجنب الذي يشتكي جنبه بسبب ذلك الدمل، أو الخارج وهو يسمى: «دبيله». قال القرطبي: وفي بعض الآثار : المجنوب شهيد» يريد صاحب الجنب يقال منه : رجل جنب بكسر النون وفتح الجيم: إذا كانت به ذات الجنب، وهي «الشوصة».
٧- صاب الحريق
وفي رواية تقدَّمت والحريق شهادة) يعني: أن المسلم إذا مات محترقا بالنار غير منتحر ، فإنَّه يكون شهيدًا، ولو أحرقته نار قنبلة أو نحوها من
الأسلحة الحديثة، فإنَّه شهيد أيضًا.
-- المرأة تموت بجمع
وهي التي تموت بالنفاس وولدها في بطنها.
وقيل: التي تموت بالنفاس سواء ألقت ما في بطنها أو لا.
وقيل: التي تموت عذراء، لم يمسها الرجال.
وقيل: التي تموت قبل أن تحيض.
والصحيح الأول، يؤيده قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «والنُّفْساءُ يُجُرُّهَا
وَلَدُهَا بِسُرره إلى الجنَّة».
١٤٨
الأدب والمتفرقات
۹ - سادن بيت المقدس
تشد
السادنُ في الأصل: خادم الكعبة، ثم أطلق على كل خادم لأماكن العبادة، والمراد هنا: خادم المسجد الأقصى الذي هو أحد المساجد الثلاثة التي إليها الرّحال، وكان إليه مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. وهل سادن المسجد الحرام والمسجد النبوي كذلك لكونهما أفضل منه؟ أو يختص به النَّص؟ محل نظر .
١٠- المريض بالسل
وهو مرض معروف، عافانا الله منه بمنه.
فهذه عشرة أنواع من الشهادة الحكمية، اشتملت عليها الأحاديث الخمسة المذكورة، لكن ثبت في أربعة منها حديث يفيد تقييدها بأن تكون في سبيل الله. وهو ما رواه النسائي عن عقبة بن عامر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خمسٌ مَنْ قُبِضَ في شيءٍ منهُنَّ فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والمبطون في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد، والنفساء في سيبل الله شهيد». ظاهر هذا الحديث: أنَّ الغريق ومن ذكر بعده لا يكونون شهداء إلَّا إذا كانوا في سبيل الله، مع أنَّ الأحاديث الماضية أثبتت لهم الشهادة من غير تقييد في سبيل الله»، إلَّا أن يجاب بأنَّ الجار والمجرور متعلق بالخبر وهو شهيد،
ويكون المعنى والغريق شهيد في سبيل الله ... إلخ. وعلى هذا لا إشكال، أو أنَّ التقييد لإفادة أنَّ الغرق وما معه لا يكون شهادة إلَّا إذا كان في سبيل الله، بأن يكون مأذونًا فيه، أو في سببه، أما إن كان في
إتحاف النبلاء
١٤٩
سبيل الشيطان، بأن كان معصية فلا يكون شهادة، كأن غرق وهو في طريقه إلى
قتل أو سرقة مثلا، أو اشتكى بطنه لتناول محرم، كَسُم أو خمر مثلا.
أو كان النفاس بسبب نكاح غير شرعي هذا ما ظهر لي في تأويل هذا
الحديث، والله أعلم بمراد رسوله.
11 - المقتول دون ماله
روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال : يا رسول الله أرأيت (۱) إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِهِ مَالكَ»، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قَاتِلُهُ» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شَهِيدٌ» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «فهو في النار». ورواه النسائي، ولفظه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عُدي على مالي؟ قال: «فانشُد بالله». قال: فإن أبوا عليَّ؟ قال: «فانْشُدُ بالله». قال: فإن أبوا عليَّ؟ قال: «فانْشُدُ بالله» قال:
فإِنْ أبوا عليَّ؟ قال: «فَقَاتِل فإِنْ قُتلت ففي الجنَّة، وإِنْ قَتَلتَ ففي النَّارِ». يبين هذا الحديث حكم الصَّائِل الذي يريد أخذ مال الرجل بالقوة والغلب، فأمر صاحب المال أن يناشده الله ويستحلفه به ثلاث مرات فإن أبي الرابع مرة وأصر على أخذ ماله قاتله ودافع عن حقه، فإن قتله الصائل كان شهيدا ودخل الجنَّة؛ لأنَّه قتل وهو يدافع عن حق له، وإن قتل هو الصائل دخل النار؛ لأنه ظالم متعد يريد أخذ مال الناس بغير حق.
(۱) بفتح التاء؛ أي: أخبرني.
10.
الأدب والمتفرقات
ولأحكام الصائل باب مخصص في كتب الفقه الإسلامي، وفي "صحيح البخاري": عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «من قُتِلَ دُون مَالِهِ فهو شَهِيدٌ».
ورواه الترمذي بلفظ: قال: سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم
يقول: «من أُرِيدَ مَالَهُ بغير حقٌّ، فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فهو شهيد».
وفي رواية النسائي: «من قُتلَ دُون مالهِ مظلُومًا فهو شهيد».
١٢- المقتول دون مظلمته
روى النسائي عن سويد بن مقرن رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من قُتلَ دُون مَظْلَمَتهُ فهو شهيد». صححه الضياء
المقدسي.
مظلمته بفتح الميم واللام ما أخذ من الشخص ظلما، كأرض أو بهيمة،
أو ثياب، أو ما أشبه ذلك.
وروى أحمد في "المسند" . عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما من مُسْلِمٍ يُظْلَمُ مَظْلَمَةً فَيُقَاتِلَ فَيُقْتَلُ إِلَّا قُتِلَ شَهِيدًا».
إسناده حسن. (١٣- ١٤ (١٥) - المقتول دون دينه، أو أهله، أو دمه
كل واحد من هؤلاء الثلاثة شهيد.
روى الأربعة عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول : من قتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومن قُتِلَ دُون
إتحاف النبلاء
دمه فهو شهيد، ومن قُتل دُون دِينِهِ (۱) فهو شهيد، ومن قُتل دُون أَهْلِهِ فهو
شهيد». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
١٦- موت الغربة
روى ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «موتُ الغُرْبَةِ شهادة»، ورواه الدارقطني. بلفظ: «موتُ الغريب
شهادة».
ورواه أيضًا من حديث ابن عمر، وصححه.
وروى أبو بكر الخرائطي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «من مات غريباً مات شهيدًا».
وروى الخرائطي أيضًا من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ مَاتَ غريبًا ماتَ شهیدا» (۲)
(۱) يعني في غير الجهاد، كما حصل لمسلم هندي اسمه: عبدالقيوم فإنَّه سمع إنجليزيا من حكام الهند، يشتم النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقتله وقدم للمحاكمة، فحكم بإعدامه ولما سمعت والدته الحكم فرحت لأنَّ ابنها سيموت شهيدا، وهو شهيد بحق رحمه الله؛ لأنَّ الدفاع عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، دفاع عن الدين، والله تعالى يقول : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٦] يعني: يجب
عليهم أن يبذلوا أنفسهم فداءً لنفسه الكريمة على الله.
(۲) وروى الطبري والثعلبي والبيهقي في الشعب من طريق شريح بن عبيد الحضرمي
١٥٢
الأدب والمتفرقات
١٧- الميت مريضاً
روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من مات مريضًا مات شهيدًا ووُقِيَ فِتنةَ القَبْرِ وغُدِيَ عليه. وريح برزقِهِ مِنَ الجنَّة». إسناده ضعيف.
ليس المراد بالحديث مطلق المريض، بل هو محمول على مرض الطاعون؛ لما
أنَّ رسول الله
رواه النسائي وغيره، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: أنَّ ر صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يختصِمُ الشُّهَدَاءُ والمتوفُونَ على فُرُشِهِم إلى ربنا في الذين يُتَوَفُونَ في الطَّاعُونِ فيقولُ الشُّهداء: قُتِلُوا كما قُتلَنَا، ويقولُ المتوفّونَ على فُرشهم: إخْوانُنَا ماتُوا على فُرُشِهِم كما متنا فيقول ربنا تبارك وتعالى: انظروا إلى جِرَاحِهِم فَإِنْ أَشْبَهت جِرَاحَ المَقْتُولِينَ فَإِنَّهُم مِنْهُم. فَإِذَا جِرَاحُهُم قد أشْبَهَتْ جراحَ المُقْتُولِينَ».
وروى الطبراني بإسنادٍ لا بأس به عن عُتبة بن عبد رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: يَأْتِ الشُّهَدَاءُ والمتوَفُونَ بِالطَّاعونِ فيقولُ أصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ الشُّهداء، فيُقَالُ: انظروا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحَهُم كَجِرَاحِ
الشُّهَداءِ تَسِيلُ دَما كَرِيحِ المِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ فَيَجِدُونَهُم كذلك».
فهذان الحديثان يؤيدان أنَّ المراد بالمرض في حديث من مات مريضًا - إن صح- مرض الطاعون، ثمَّ إنَّ الأحاديث عينت أمراضا ثلاثة وصفت
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الإسلامَ بدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، أَلَا لا غُرْبة على مُؤْمِنٍ مَا مَاتَ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ فيها بَوَاكِيهِ إِلَّا بَكَتْ عَليهِ السَّمَاءُ والأَرضُ».
إتحاف النبلاء
١٥٣
أصحابها بالشهادة وهي الطاعون والبطن والسُّل، فلو كان كل مرض يحق
لصاحبه الشهادة، ما كان لتخصيص تلك الأمراض بالذكر معنى.
ثم وجدت القرطبي في "التذكرة" قال ما نصه: قوله عليه السَّلام: «من مات مريضًا مَاتَ شَهِيدًا» عام في جميع الأمراض، لكن قيَّده في الحديث الآخر : من يقتله بطنه وفيه قولان
أحدهما: أنه الذي يصيبه الذرب، وهو الإسهال لقول العرب: أخذه البطن، إذا أصابه الداء، وذرب الجرح: إذا لم يقبل الدواء، وذربت معدته:
فسدت.
الثاني: أنه الاستسقاء، وهو أظهر القولين فيه؛ لأنَّ العرب تنسب موته إلى بطنه، تقول: قتله بطنه، يعنون الدَّاء الذي أصابه في جوفه، وصاحب الاستسقاء قل أن يموت إلا بالذرب فكأنه قد جمع الوصفين وغيرهما من الأمراض، والوجود شاهد للميت بالبطن أنَّ عقله لا يزال حاضرًا، وذهنه باقيا إلى حين موته، ومثل ذلك صاحب السل إذ موت الآخر إنَّما يكون بالذرب، وليست حالة هؤلاء كحال من يموت فجأة، أو من يموت بالشام والبرسام، والحُميَّات لشدَّة الآلام ولورم أدمغتهم ولفساد أمزجتها، فإذا كان
الحال هكذا فالميت يموت وذهنه حاضر وهو عارف. انتهى.
ومعنى
، هذا: أنَّ المبطون وصاحب السل يعرفان لآخر لحظة: أنهما مقدمان
على الموت وهما صابران محتسبان فكانا شهیدین
كالذي يذهب للقتال وهو عارف أنه مقتول فيصير للمقاتلة وهو متوقع
للموت في أي لحظة حتى يستشهد.
104
الأدب والمتفرقات
۱۸- قراءة آخر (سورة الحشر)
روى الترمذي عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: منْ قال حِينَ يُصْبِحُ : ثلاث مراتٍ أعوذُ باللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ وقرأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَة الحشْرِ، وَكلَّ اللَّهُ بِه سبعينَ أَلفَ ملك يصلون عليه حتَّى يُمْسِي، فإنْ ماتَ مِنْ يَوْمِهِ مَاتَ شهيدًا، ومنْ قرأَهَا حين يُمْسِي فكذلك». قال الترمذي: «حسن غريب»، كذا نقل عنه القرطبي. ونقل ابن كثير : أنه قال: «حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه».
قلت: رواه الترمذي، عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيري، عن خالد بن طهمان عن أبي العلاء الحقاف عن نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار. وهذا إسناد ضعيف.
وهذه الآيات من آخر سورة الحشر : لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَدَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبَرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) هُوَ اللَّهُ الْخَلِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: ٢١ - ٢٤].
وروى الثَّعلبي من طريق يزيد الرقاش، عن أنس رضي الله
عنه :
أنَّ
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من قرأ آخرَ سُورة الحشر، إلى
إتحاف النبلاء
١٥٥
آخرها : لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ ، فماتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَاتَ شَهِيدًا». يزيد
الرقاش. ضعيف.
وروى ابن عدي والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من قرأَ خَوَاتِيمَ الحَشْرِ منْ ليل أو نهارٍ فَقُبِضَ في ذلك
اليوم أو اللَّيْلَة فقدْ أَوْجَبَ الجنَّة». إسناده ضعيف.
19 - الميت على وضوء
روى الآجري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أنسُ إن استطعت أن تكون أبدًا على وضوء فافعل، فإنَّ ملكَ
الموتِ إِذَا قَبَضَ رُوحَ العَبْدِ وهو على وضوء كُتِبَ له شهادةً».
قلت: هذا الحديث قطعة من حديث طويل يعرف بوصايا أنس، وهو حديث غير صحيح (۱).
۲۰- صلاة الضحى
روى أبو نعيم من طريق الشعبي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من صلَّى الضُّحى وصَامَ ثَلَاثَةَ أَيامٍ مِنْ كُلَّ شهر، ولم يترك الوتر في حضرٍ ولا سَفر كُتب له أجر شهيد». إسناده ضعيف
(۱) لكن جاء في حديث عبدالرحمن بن سمرة، في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي رأى فيها أعمالا تنجي من أهوال القيامة ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذَابُ القَبْرِ فَجَاءَهُ وضوءَهُ فَاستَنْقَذَهُ من ذلك. وقد حسنه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الترغيب والترهيب".
١٥٦
الأدب والمتفرقات
۲۱ - طالب العلم
روى البزار عن أبي ذرٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا جاء الموتُ لطَالبِ العِلْمِ وهو على هذه الحالة، مات وهو شهيد». إسناده ضعيف.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: منْ جاءَ أجله وهو يطلب العلم لقِيَ الله ولم يكن
بينه وبين النبينَ إِلَّا دَرَجَةَ النُّبوة» إسناده ضعيف أيضًا.
وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فهو في سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ».
قال الترمذي حديث حسن.
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الرُّدَينِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما من قومٍ يَجتَمِعُونَ على كتابِ اللَّهِ يَتَعَاطَوْنَهُ بِينَهُم إِلَّا كَانُوا أضْيَافًا لله ، وإِلَّا حَفَّتَهُم الملائكةُ حَتَّى يقومُوا أَوْ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيره، وما منْ عالم يخرجُ في طلب علم مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ أَوِ انْتِسَاخِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرَسُ (۱)؛ إِلَّا كان كالغَازِي الرَّائِحِ في سبيلِ اللَّهِ، وَمِنْ يُبْطِيءُ بِهِ عَملُهُ لمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
۲۲ - العاشق العفيف
روى الخطيب الحافظ من طريق سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن
أبي يحيى
القنات
عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله
(۱) بضم الراء: يذهب.
إتحاف النبلاء
١٥٧
وسلَّم قال: «مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ، فهو شهيدٌ (۱)). ورواه الزبير بن بكار ، عن عبدالملك بن عبدالعزيز بن الماجشون، عن
(۲)
عبدالعزيز بن أبي حازم، عن أبي نجيح ، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. ورواه الخطيب أيضًا من طريق سويد، عن أبي مسهر عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «من عَشَقَ فَعَفَّ ثُمَّ مات مات شهيدًا». وفي رواية «مَنْ عشَقَ وعَفٌ وكتَمَ وصبَر، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وأَدْخَلَهُ الجَنَّة».
تكلم العلماء في هذا الحديث، حتّى حكوا عن يحيى بن معين أنه قال: «لو كان عندي فرس ورمح لنزوت سويد بن سعيد، أي: لأنه كفر بهذا الحديث فيما ظنوا، لكنه لم ينفرد به ، وممن ضعف هذا الحديث ابن القيم في "زاد المعاد". ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض -رحمه الله - جزء: "درء الضعف عن حديث من عشق فعف"، وليس ذلك الجزء بيدي الآن لأنّي بعيد عن كتبي ومراجعي، غير أني أقول: ليس في إسناده كذَّاب ولا متهم بالكذب، وهو موافق للقواعد والأصول، ففي الصحيحين عن حديث السَّبْعَةِ الذين يظلهم الله في ظله:
(۱) في الحديث دليل المسألة نحوية وهي: مجيء فاءات العطف متعاقبة. ومثله قوله تعالى: فَدَ مدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّنَهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَهَا ﴾ [الشمس: ١٤ - ١٥]
في قراءة ورش، وقراءة حفص : وَلَا يَخَافُ عُقْبَهَا .
(۲) هو علي بن مسهر .
١٥٨
الأدب والمتفرقات
ورَجُلٌ دعته امرأةٌ ذاتَ منْصِب وجمالٍ فقال: إني أخافُ الله»، أكرمه الله بهذه الفضيلة لامتناعه عن المعصية مع وجود الداعي إليها، كذلك أثنى الله على يوسف عليه السّلام؛ لأنَّه بعد أنْ همَّ بالمرأة التي دعته إلى نفسها، رجع عنها قبل أن يعزم وقال: «معاذ الله».
والعاشق الذي يعف عن المعصية مع إلحاح العشق وتوقان النفس وتزيين
.
الشيطان، ويصبر ويقاوم مع كتمان حاله حتى يموت بقصة حبه جدير بأن يكون شهيدا؛ لأنه جاهد عدوّين نفسه والشيطان، وقد حارباه بسلاح العشق، وهو لا يكاد يخطيء المقاتل، بل قد يؤدّي بصاحبه إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى.
قال القرطبي: يُروى أنه كان بمصر رجل ملازم للمسجد للأذان والصَّلاة، وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة فرقى يوما المنارة، على عادته
ليؤذن، وكان تحت المنارة دار النصراني دقي، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار، فقالت له: ما شأنك؟! ما تريد؟! فقال: أنتِ أُريد، قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبت لبي وأخذت بجامع قلبي، قالت: لا أجيبك إلى ريبة قال لها: أتزوجك، قالت له: أنت مسلم، وأنا نصرانية وأبي لا يزوّجني بك، قال لها: أتنصر، قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر ليتزوجها، وأقام معهم في الدَّار ، فلما كان في أثناء النوم ذلك اليوم، رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات، فلا هو بدينه ولا هو بها، نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة ومن سوء الخاتمة». انتهى كلام
القرطبي.
إتحاف النبلاء
١٥٩
فما أوقع هذا البائس في هذه المصيبة إلا عشقه الجارف الذي أخذ عقله ولم يدع له مجالًا للتفكير في شيء سوى محبوبته التي هام بها، ولو أنه قاوم عشقه
وكبح جماح نفسه حتى مات لم يبعد في كرم الله أن يجعله من الشهداء. وقد وقع نظير هذه القصَّة في الأندلس لأديب نحوي، قال الوزير جمال الدين القفطي في كتابه إنباه الرواة بأنباء النحاة": «أحمد بن كليب النحوي، أديب شاعر أندلسي قد أفرط في حبّ أسلم بن قاضي الجماعة، إلى أن مات بذلك، وكان أسلم بن أحمد بن سعيد شاعرًا أديبا أيضًا، وله كتاب في أغاني زرياب، وكان من أحسن أهل زمانه وأجملهم، فوقع في حبه أحمد بن كليب، وقال فيه أشعارًا حتى غنّى بها المغنون في الأعراس، فانقطع أسلم عن مقابلته، فمرض حتى مات بمرضه، ولما حضرته الوفاة - وكان شيخه أبو عبدالله محمد بن خطاب النحوي يعوده – قال له: اسمع مني:
أسـلـم يـــا راحـــة العليــــل رفقا على القائم النحيل
وصلك أَشْهَى إلى فُؤادِي مِنْ رَحْمَةَ الخَالِقِ الجلي ومات عقبها، فانظر كيف وصل به العشق إلى هذه الخاتمة القبيحة؟! نسأل الله السَّلامة والعافية، من غضبه وعقابه.
٢٣- المقتول صبراً
روى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «قَتْلُ الرَّحِلِ صبرًا، كَفَّارَةٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ».
وروى البزار أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله
17.
الأدب والمتفرقات
وسلم قال: «قَتْلُ الصَّبْرِ لَا يَمْرُ بِذَنْبٍ إِلَّا تَحَاهُ». قتل الصبر: أن يُقتل الشخص محبوسًا مقيدًا، وهو منهي عنه في الحيوان، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله كتبَ الإِحْسَانَ على كلّ شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنُوا القِتْلَةَ. وإذا ذَبَحْتُم فأحسِنُوا الذَّبْحَ، وليُحدَّ أَحَدُكُم شَفْرِتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبيحته»، فإذا كان الإنسان مأمورًا بإراحة الحيوان المذبوح وذلك بالا يُقيَّد، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن من يصبر الدجاجة ليرميها، فلا شك أن تقييد الإنسان حال قتله يكون أشد تحريما وأعظم إثما، ويكون المقتول صبرًا تكفر ذنوبه كلها كالشهيد.
٢٤ موت يوم الجمعة أو ليلتها
روى أبو نعيم من طريق عمر بن موسى الوجيهي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «من مات ليلةَ الجُمُعَةِ أو يَومَ الجُمُعَةِ أُجيرَ من عذَابِ القَبْرِ، وَجَاء يومَ القِيَامَةِ وعليهِ طابع الشُّهداء» قال أبو نُعيم: غريب من حديث جابر ومحمد. تفرد به عمر بن
موسى الوجيهي». انتهى.
قلت: والوجيهي وضاع.
وروى أحمد والترمذي من طريق ربيعة بن سيف، عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَا مِن مُسلِمٍ يَمُوتُ يومَ الجُمُعَةِ أو لَيلَةَ الجُمُعَةَ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ القَبْرِ». قال الترمذي : هذا حديثٌ حسن غريب، وليس إسناده بمتصل، ولا
إتحاف النبلاء
١٦١
نعرف لربيعة بن سيف سماءًا من عبد الله بن عمر. انتهى.
ورواه الحكيم الترمذي في "نوادر" "الأصول" من طريق ربيعة بن سيف الإسكندري، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «منْ مَاتَ يَومَ الجمعةِ أو ليلةَ الجمعةِ وقَاهُ الله
فتنة القبر".
وهذا إسناده متصل.
٢٥ - المصروع عن دابته
روى الطبراني عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من صُرِعَ عن دابته فهو شهيد». إسناده ضعيف.
صرع، بضم الصاد: سقط عنها، والمراد: صُرع عن دابته وهو راكب بنية
ا
الجهاد، كما سبق في بحث: الميت في سبيل الله.
٢٦- الأمر لأمير جائر
روى الحاكم والضياء المقدسي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «سيّدُ الشُّهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قال إلى
إمام جائرٍ فَأَمَرَهُ ونهَاهُ فقَتَلَهُ». صححاه.
الشخص الذي يقوم إلى إمام جائرٍ ... فيأمره بالعدل واتباع الحق، وينهاه عن الظلم والانحراف وهو يعلم جوره وبطشه، فيغضب عليه الإمام ويقتله ويكون من سادات الشُّهداء؛ لأنَّه ضحى بنفسه وحياته، في سبيل كلمة حق
يقولها، ونصيحة يبذلها.
١٦٢
الأدب والمتفرقات
۲۷ - المؤذن المحتسب
روى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المؤذِّنُ المُحتسِبُ كالشَّهِيدِ المتشحط في دَمِهِ، وإذا مات لم يُدَوِّدْ فِي قَبْرِهِ».
وروى الطبراني أيضًا عن ابن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المؤذِّنُ المحتسِبُ كالشَّهِيدِ المُتَشَحَّطِ فِي دَمِهِ. يتمنَّى على الله ما
يَشْتَهِي بينَ الآذَانِ والإقامة». إسنادهما فيه رواثق، والحديث حسن.
وروى ابن ماجه والدارقطني في سنتهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من أَذَن ثِنْتَي عشْرَةَ سنةٌ وَجَبَتْ له الجنَّة، وكُتِبَ لهُ بكلِّ آذَانِ ستُّونَ حسنةً، وبكل إقامة ثلاثُونَ حسنةً». صححه الحاكم على شرط البخاري.
تنبيه: قوله في الحديث الأول : «وإذا ماتَ لم يُدوَدْ في قبرِهِ» يفيدُ: أَنَّ المؤذن ا المحتسب إذا مات لا يبلى جسمه مثل شهيد المعركة، وقد أثبتت المشاهدة ذلك. قال ابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء : كتب إلي أبو عبدالله محمد بن خلف بن صالح التيمي : أنَّ إسحاق بن أبي نباته، مكث ستين سنة يؤذن لقومه في مسجد بني عمرو بن سعد - يعني بالكوفة - وكان يعلم الغلمان في الكتاب ولا يأخذ الأجر، ومات قبل أن يحفر الخندق بثلاثين سنة، فلما حفر الخندق، وكان بين المقابر ذهب بعض أصحابه يستخرجه ووقع قبره في الخندق فاستخرجوه كما دفن لم يتغير فيه شيء، إلا أن الكفن قد جفّ عليه ويبس والحنوط محطوط عليه، وكان خضيبًا، فرأوا وجهه مكشوفا ، وقد ظهرا
الحناء
إتحاف النبلاء
١٦٣
في أطراف الشعر فمضى المسيب بن زهير إلى أبي جعفر المنصور، وهو على
شاطيء الفرات، فأخبره فركب أبو جعفر في الليل، حتى رآه فأمر به فدفن
بالليل، لئلا يفتتن الناس.
۳۷ - المائد في البحر
روى أبو داود عن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «المائِدُ في البحر الذي يُصِيبُهُ القَيْءُ له أجرُ
شهيد، والغَرِقُ له أجر شهيدين».
أم حرام بنت ملحان صحابية جليلة، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يدخل عليها فتطعمه وينام عندها، ودخل بيتها ذات مرة كعادته، فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام صلَّى الله عليه وآله وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك فقالت: يارسول الله ما يضحكك، قال: «ناس من أُمتِي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله يَرْكبونَ ثَبَجَ هذا البحرِ ملوكًا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة». فقلت یار سول الله: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها، ثم نام واستيقظ وهو يضحك فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس عُرِضوا عليَّ غُزاةٌ في سبيل الله كما قال في الأولى، فقالت يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «أنت من الأولين».
فلما كان زمن معاوية، بعث زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه يغزو قبرص، فركبت البحر معه وكان أمير الغزوة، فلما نزلوا إلى البر ركبت دابة، فصرعت عنها، فماتت شهيدة رضي الله عنها، وتقدم حديثان في المائد عند الكلام على شهيد البحر.
١٦٤
الأدب والمتفرقات
- التمسك بالسنة
روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المتمسك بسُنَتِي عند فسادِ أُمتِي له أجر شهيد». إذا انتشرت البدع بين المسلمين في العقيدة كبدعة الاعتزال أو الجهمية أو في التعصب للمذاهب الفرعية، واتخاذ كلام الأئمة دلائل تؤول لها ظواهر الكتاب والسنة، أو إحداث ما لا تشهد له قواعد الشرع أو لا تؤيده نصوصه، وجب التمسك بالسُّنَّة والدفاع عنها ونشرها بين المسلمين، ولما كانت السُّنَّة صنو الكتاب، وعليهما ينبني الدين الإسلامي كان المتمسك بها، والمدافع عنها شهيدا في حكم الشريعة؛ لأنه إنَّما تمسك بالدِّينِ وجاهد في دفع الفساد عنه، كما جاهد شهيد المعركة في الميدان.
هذا ما جاء في الأحاديث من أنواع الشُّهداء(۱)، ذكرناه باستيفاء حسبما بلغه علمنا ووصل إليه اطلاعنا مبينين رتبة الحديث وموضحين ما فيه من
إشكال أو إبهام. وللحافظ السيوطي رسالة أبواب السَّعادة في أسباب الشهادة"، ليست
هي عندي الآن، ولكنها فيما أظن لا تزيد على ما في كتابنا هذا - والحمد لله -
زيادة ذات قيمة.
(۱) بقي حديث من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله في زمرة الشهداء»، وهو
حديث ضعيف.
إتحاف النبلاء
١٦٥
الأولياء يعطون أجور الشهداء
روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ليسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا ولهُ كرَائمَ مِنْ مَالِهِ يأبى لها الذَّبْح وإنَّ الله خلقا من خلقه يأبي هُمُ النَّبِحُ: أقوام يجعلُ موتهم على فُرُشِهم ويُقْسم لم أُجورَ الشَّهداء».
وروى الطبراني وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الله تعالى ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ يَعْذُوهُم فِي رَحمتِهِ
يُجيبهم في عافية ويُمِيتُهُم في عافية وإذا تَوَفَّاهُم، تَوَفَّاهُم إِلى جَنَّتِهِ أولئكَ تَمرُ عليهم الفِتَن كقِطَعِ اللَّيلِ الْمُظْلِمِ وَهُمْ منها في عافية».
والأولياء جاهدوا أنفسهم في الله وخالفوا هواها حتى نالوا رضا الله، وصاروا ضنائن له، يحييهم في عافية، وينجيهم من فتن الوقت وأغياره، فإذا ماتوا على فرشهم، قسم لهم أجور الشُّهداء، لجهادهم في ذات الله وفنائهم فيه، وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم.
١٦٦
خاتمة
الأدب والمتفرقات
لا يفهمنَّ أحد من الأحاديث التي أوردناها داخل الكتاب في فضل الطاعون والسل وغيرها أنها ترغب في الاستسلام للمرض وتؤيد عدم مقاومته فإنَّ هذا فهم مخطيء وقد يكون خاطئًا إذا كان عن سوء قصد؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أمر بالتداوي وكان إذا مرض يعالج نفسه بالأدوية المعروفة في ذلك الوقت كما يصف الدواء لصحابته الكرام وقد جمع طبه عليه الصلاة والسَّلام في كتب خاصة مثل كتاب "الطب النبوي" لأبي نعيم وللمستغفري وفي كتاب زاد المعاد" من طبه صلَّى الله عليه وآله وسلم شيء غير قليل وصرّح علماء الإسلام بأن تعلم علم الطب فرض كفاية وأنَّ علم صحة الأبدان يعادل علم صحة الأديان.
لكن في بعض الحالات
يستعصي الداء ولا ينجع داوء ويتجه الطبيب
والمريض إلى رب الأرض والسماء.
فتلك الأحاديث جاءت لعلاج مثل هذه الحالات -وهي غير قليلة- وكأنها تقول للمريض الذي عجز الطب عن علاجه : لا تيأس من روح الله وفضله؛ فإنك إذا صبرت واحتسبت أعطيت ثواب شهيد، ولا يضيع مرضك شدى، وهذا علاج روحي عظيم، وهو من محاسن الدين الإسلامي، ومن خصوصياته التي تميز بها على سائر الأديان.
إتحاف النبلاء
١٦٧
حكاية الشاب الذي باع نفسه الله
روينا عن عبد الواحد بن زيد الصوفي الزَّاهد المشهور، قال بينما أنا يوما في مجلسنا هذا، وقد تهيأنا للخروج إلى الغزو، وقد أمرت أصحابي أن يتهيأوا غداة الإثنين.
وقد قرأ رجل في مجلسنا : إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة : ۱۱۱] الآية، فقام غلام ابن خمس عشرة سنة أو نحو ذلك - وقد مات أبوه وأورثه مالا كثيرًا- فقال: يا عبدالواحد إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ فقلت: نعم، حبيبي فقال: إني أشهدك يا عبدالواحد أني قد بعت نفسي ومالي بأن لي الجنَّة، فقلت له: إنَّ . حد السيف أشد من ذلك، وأنت صبي، وإني أخاف عليك ألا تصبر وتعجز عن ذا البيع.
فقال لي: يا عبد الواحد إنّي أبايع الله بالجنَّة، ثم أعجز؟ إني أشهدك أنّي بايعت الله، فتقاصرت إلينا أنفسنا، فقلنا : صبي يفعل ونحن لا نفعل؟ قال:
فخرج من ماله كله يعني تصدق به إلا فرسه وسلاحه ونفقته. فلما كان يوم الخروج، كان أول من طلع علينا فقال: السَّلام عليك يا عبد الواحد فقلت: وعليك السَّلام ورحمة الله وبركاته، أربح البيع، ثم سرنا وهو معنا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويخدمنا ويرعى دوابنا، ويحرسنا إذا بتنا، حتى دفعنا إلى بلاد الروم، فبينما نحن كذلك يوما إذ أقبل وهو ينادي: واشوقاه إلى العيناء المريضة حتى قال أصحابي: لعله وسوس الغلام، أو خلط
١٦٨
الأدب والمتفرقات
عقله، حتى دنا، وجعل ينادي يا عبدالواحد لا صبر لي، واشوقاه إلى العيناء المريضة! فقلت: حبيبي وما هذه العيناء المريضة؟ قال: إني غفوت غفوة، فرأيت كأنه أتاني آت فقال: أذهب بك إلى العيناء المريضة، فهجم بي على روضة، فيها شط نهر ماء غير آسن، فإذا على شط النهر جوار، عليهن من الحلى
والحلل ما لا أصف، فلما رأينني استبشرن بي وقلن: هذا زوج العيناء المريضة قد قدم، فقلت: السّلام عليكنَّ أفيكن العيناء المريضة؟ فقلن: لا، نحن خدم لها، وإماؤها، فتقدم أمامك، فتقدمت فإذا بنهر فيه لبن لم يتغير طعمه في روضة فيها من كل زينة فيها جوار، فلما رأيتهن افتتنت من حسنهن وجمالهن، فلما رأينني استبشرن وقلن : هذا والله زوج العيناء المريضة قد قدم علينا، قلت: السلام عليكن، أفيكن العيناء المريضة ؟ فقلن: وعليك السَّلام يا ولي الله نحن خدام لها، وإماء لها تقدم أمامك، فتقدمت فإذا بنهر آخر من خمر، على شط الوادي، فيه جوار، أنسينني من خلفت فقلت : السَّلام عليكن، أفيكن العيناء المريضة؟ فقلن: لا، نحن خدم لها، وإماء لها امض أمامك، فتقدمت فإذا بنهر آخر من عسل مصفى، وروضة فيها جوار لهم من النور والجمال ما أنساني من خلفت فقلت: السّلام عليكنَّ أفيكن العيناء المريضة؟ قلن: يا ولي الرحمن نحن إماء لها، امض أمامك فتقدمت فوقعت في خيمة من درة مجوفة، على باب الخيمة جارية عليها من الحلى ،والحلل ما لا أصفه، فلما رأتني استبشرت ونادت من الخيمة أيتها العيناء المريضة هذا بعلك قد قدم قال: فدنوت من الخيمة فدخلت عليها، فإذا هي على سريرها قاعدة، وسريرها من ذهب مكلل
إتحاف النبلاء
١٦٩
بالدر والياقوت، فلما رأيتها افتتنت بها، وهي تقول: مرحبًا بولي الرحمن، قد دنا لك القدوم علينا، فذهبت لأعتنقها فقالت: مهلا فإنَّه لم يأن لك أن تعانقني، فإنَّ فيك روح الحياة، وأنت تفطر عندنا الليلة، إن شاء الله تعالى، فانتبهت يا عبدالواحد، ولا صبر لي عنها، قال عبد الواحد: فما انقطع كلامه حتى ارتفعت لنا سرية من العدو، فحملنا عليهم، وحمل الغلام قال فعددت تسعة من العدو الذين قتلهم الغلام وكان هو العاشر فمررت به وهو يتشحط في دمه، فضحك ملء فيه، حتى فارق الدنيا.
۱۷۰
الأدب والمتفرقات
قصة أخرى تشبهها
وقريب من هذه القصة ما رويناه في كتاب "رسالة أبي القاسم القشيري" قال أخبرنا أبو عبدالله الشيرازي: حدثنا أبو الفرج الورثاني: سمعت علي بن يعقوب بدمشق، قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت قاسما الجوعي، يقول: رأيت رجلا في الطواف لا يزيد على قوله: قضيت حوائج
الكل، ولم تقض حاجتي، فقلت: مالك لا تزيد على هذا الدعاء؟ فقال: أحدثك، اعلم أنا كنا أنفس من بلدان شتّى، فخرجنا إلى سبع الجهاد، فأسرنا الروم، ومضوا بنا لنقتل فرأيت سبعة أبواب، فتحت من السماء وعلى كل باب جارية حسناء من الحور العين، فقدم واحد منا فضرب عنقه، فرأت جارية منهن هبطت إلى الأرض، بيدها منديل، فقبضت روحه حتى ضربت أعناق ستة منا، فاستوهبني بعض رجالهم، فقالت الجارية: أي شيء فاتك يا محروم؟ وغلقت الأبواب، فأنا يا أخي متأسف متحسر على ما
فاتني.
قال قاسم الجوعي: أراه أفضلهم؛ لأنَّه رأى مالم يروا، وعمل على الشوق
بعدهم.
آخر الكتاب. والحمد لله رب العالمين.
٤ - القَوْلُ الْمَسْمُوعُ
فِي بَيانِ الهَجْرِ المَشْرُوعِ
الهَجْرُهُجْرُ (۱) لا يجوزُ المُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ الإِخْوانَ والأَحْدَانَا فجَزَاؤُهُ نَارُ الجَحِيمِ كما أَتَى خَبَرُ الرَّسُولِ مُوَضّحًا وَبَيَانَــا إِلَّا الأَجْلِ الدِّينِ يَحسُنُ وَقْعُهُ زَجْرًا مُبَتَدِعَ أَتَى عِصْيَانَا
أو كان يَمْنَعُ شَرَّ مَهْجُورٍ بَدَا بَذِي النِّسَان، وحَاكِبًا (٢) سُلْطَانَا أو كان عن غَضَبِ لأَجْلِ خُصُومَةٍ إِنْ لم يَزِدْ فَوْقَ الثَّلَاثِ زَمَانَا لكِنَّهُ مَجْرٌ جَمِيلٌ يا فتى فاحْفَظُ لِسَانَكَ أَنْ تُرِدْ هِجْرانَا واقْرَأْ رَسَالَتَنَا بِإِمْعَانٍ تَجِدُ فيها المَسَائِلَ أُتَّبِعَتْ بُرْهَانَا
(1) إثم. (۲) الواو بمعنى: «أو».
القول المسموع
۱۷۵
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، خصوصا نبينا المصطفى
ورضي الله عن آله ومن لآثارهم اقتفى.
أما بعد: فهذا جزء لطيف ومجموع مُنيفٌ ، سميته: "القول المسموع في بيان الهجر المشروع"، تكلّمتُ فيه على حُكّم التهاجر والتشاحن، وبينت أنواعه، وما يجوز منها وما يحرم، وشرحت الأحاديث والآثار التي تحتاج إلى شرح وتفسير، وأوضحت فيه حقائق خفيت على خلق كثير، سالكا فيه الإنصاف، تاركًا طريق التعصب والاعتساف، ورتَّبته على فصول، ومن الله تعالى نستمد التوفيق ونسأله القبول.
١٧٦
الأدب والمتفرقات
فصل
تحريم الهجر
ثبتت أحاديث كثيرة في تحريم الهجر، نقتصر منها على عشرة:
1 - عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَن يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ». رواه البخاري ومسلم. يُعرض بضم الياء وكسر الراء، معناه: يُدبر.
ومعنى الحديث: أنَّ المتهاجِرين يلتقيان في الطريق، فيلوي كل واحد منهما وجهه عن الآخر، والذي يُخالف نَفْسَهُ منهما فيبدأ صاحبه بالسلام هو أفضلها
عند الله تعالى. ٢- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فيات دَخَلَ النَّارَ». رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
- عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : لا تَقَاطَعُوا ولا تَدَابَرُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَحَاسَدُوا، وكُونوا عِبادَ اللَّهِ إِخْوَانًا،
ولا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاث». رواه البخاري ومسلم. الأفعال الأربعة مفتوحة التاء في أولها، وقوله: «لا تَدَابَرُوا»، قال الخطابي : معناه: التهاجر والتصارم، مأخوذ من تولية الرجل دبره أخاه إذا رآه وأعرض
عنه . اهـ
ومعنى الحديث: أن المسلمين لا يجوز أن يحصل بينهم تقاطع ولا تدابر
القول المسموع
۱۷۷
ولا تَحاسُدٌ ولا تَباغُضُ، بل يجب أن يكونوا إخوانا متألفين، قال تعالى: إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: ١٠].
- عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسلِها فوق ثلاث ليالٍ، فإنّها ناكِبانِ عن الحق ماداما على صِرامِهما، وأولهما فَيْئًا يكون سَبْقُه بالفَيْءِ كَفَّارَةٌ له، وإِنْ سَلَّمَ فلم يَقْبَل ورُدَّ عليه سلامَهُ رَدَّتِ عليه الملائكةُ ، ورَدَّ على الآخر الشيطانُ، فإن ماتا على صرا مهما لم يَدْخُلا الجنَّةَ جَميعًا أبدًا». رواه أحمد في "المسند" بإسناد صحيح. صرامهما بكسر الصاد، أي: تقاطعها.
ومعنى الحديث : أن المتها جرين يكونان بعد ثلاث ليال، ناكبين: أي مائلين عن الحق ماداما متخاصمين، فإذا سبق أحدهما بالرجوع عن الخصام يكون سبقه بالرجوع ماحيا لإثم الهجر السابق، وإذا سلم على صاحبه لإنهاء الخصام معه، لكن صاحبه لم يقبل منه ورفض سلامه، ردت عليه الملائكة بدلا عنه، ورد الشيطان على صاحبه؛ لتمسكه بالهجر، فإن لم يرجعا عن الخصام حتى ماتا وهما متهاجران، لم يدخلا الجنة جميعًا أبدًا حتى تستوفيا قسطيهما من العذاب،
ثم يكون أقلهما بغضًا لصاحبه أولهما خروجا من النار. ويؤخذ من الحديث: أن المتهاجِرَينِ إذا ماتا كذلك، لا تلحقهما شفاعة، بل
لا بد من دخولهما النار.
ه - عن فَضَالة بن عُبَيدٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن هَجَرَ أَخَاهُ فوقَ ثلاث فهو فِي النَّارِ، إِلَّا أَن يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ
۱۷۸
برَحْمَتِهِ». رواه الطبراني بإسناد صحيح.
الأدب والمتفرقات
٦- عن أبي خِراش حَدْرَد بن أبي حَدْرَد- رضي الله عنه: أنه
سمع
فهو كسفك
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال : مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةٌ ف دمه». رواه أبو داود بإسناد صحيح. مَن هَجَرَ أخاه سنةً فقد حَرَمَهُ مِن أن يتعاون معه على فعل الخير، امتثالاً لقول الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبَرِ وَالتَّقْوَى [المائدة: ٢]، فكان بحرمانه كأنه قتله؛ لأن الميت لا يقدر على عمل خير إطلاقًا، والحديث يفيد بشاعة الهجر وشدَّة قبحه، حيث يُعطّل طاقة المتهاجِرَين المتجهة إلى الخير فتصير سلبية، بل
قد يوجهها نحو الشر بسعي كل واحد منهما في الإيقاع بخَصْمِهِ.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الو أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلا في الإسلامِ فَاهَتْجَرَا، لكان أحدهما خارجًا عن الإسلام حتَّى يَرْجِعَ»، يعني: الظالم منهما. رواه البزار بإسناد صحيح. كان بين العرب في الجاهلية إحَنٌ وضَغَائِن وخُصُوماتٌ فَرَّقَت بين كثير ، فأفاد الحديث أنه إذا أسلم رجلان كانت بينهما في جاهليتهما خصومة، فاهتجرا بعد إسلامهما - إحياء لسُنَّة الجاهلية - كان الظالم منهما، وهو المتمسك بالمتجر والخصام خارجا عن تعاليم الإسلام وأوامره التي تَحضُّ على الألفة
منهم،
والتآخي بين المسلمين، حتّى يضع يده في يد أخيه ويُسَلّم عليه ويُصافيه. - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يَحِلُّ لمؤمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فوقَ ثَلاثٍ، فَإِن مَرَّت به ثلاث فَلْيَلْقَهُ وليسلم عليه، فإنْ رَدَّ عليه السَّلام فقد اشْتَركَا فِي الْأَجْرِ، وإن لم يَرُدَّ عليه فقد
القول المسموع
۱۷۹
باءَ بالإِثْمِ، وَخَرَجَ المُسَلِّمُ مِن الهِجْرَةِ». رواه أبو داود بإسناد حسن. المسلم»: بفتح السين، وكسر اللام المشدّدة.
والمعنى:
: أنَّ المتهاجِرَينِ ينبغي لأحدهما بعد ثلاث ليال أن يذهب إلى أخيه
فيلقاه ويُسلم عليه، فإن ردَّ عليه السلام فقد اشتركا في الثواب؛ لإنهائهما الخصام وإحلال الصفاء محله، وإن لم يرد عليه، بل استمر في الهجرِ، كان الذي بدأه بالسلام خارجا من إثم القطيعة، وتحمل صاحبه إثمها وحده، ثُمَّ إذا قابله مرة أخرى فهل يسلّم عليه؟ قيل: نعم، وقيل: إذا تأكد أنه لا يرد عليه، فلا
يسلم. ٩- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تُعْرَضُ الأَعْمالُ في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امريء لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إلَّا امْرَأَ كانت بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ، فيقول: اتركوا هذين حتى يَصْطَلِحَا»، وفي رواية: «تُفْتَحُ أبواب الجنَّة يوم الاثنين والخميس، فيغفر الله لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانت بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ، فيقال: أَنْظُرُوا (۱) هذين حتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هذين حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَين حتَّى يَصْطَلِحَا». رواهما مسلم في "صحيحه"
والمعنى: أنَّ الأعمال تُعرضُ على الله تعالى، يوم الاثنين والخميس، ورواية: فتح أبواب الجنان كناية عن المغفرة وقبول الأعمال الصالحة من المؤمنين، إلَّا المتها جرين، فإنَّ الله تعالى يقول للملائكة: أخروا هذين، لا تَعْرِضُوا عملهما،
(1) أنظروا، بفتح الهمزة وكسر الظاء المشالة: أخروا.
۱۸۰
الأدب والمتفرقات
فإنّي لا أغفر لهما حتَّى يَصْطَلِحَا.
- ١٠ - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلى خَلْقِهِ ليلةَ النَّصْفِ مِن شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ الجميعِ خَلْقِهِ، إلَّا تُشْرِك، أو مُشَاحِنٍ». رواه الطبراني والبيهقي، وصححه ابن حبان. «يَطلع»: بفتح الياء وتشديد الطاء وكسر اللام. والمعنى: أنَّ الله تعالى يتجَلَّى على خَلْقِهِ ليلة النصف من شعبان، فيعمهم
بمغفرته، إلَّا أشخاصًا لا تشملهم المغفرة تلك الليلة حتى يتوبوا.
ذكر هذا الحديث منهم اثنين المشرك والمشاحن، وذكرت أحاديث أخرى بقيتهم، وهم: قاطِعُ الرَّحَمِ، وعَاقُ والديه، ومُدمِنُ خَيْرٍ، والمُخْتالُ، وقاتل نَفْسٍ بغير حَقٌّ، وبَغَي تتكسب بفَرْجِها، وصاحِبُ مَكْسِ.
فصل
سبب الهجر
أفادت الأحاديث السابقة: أنَّ هَجْرَ المسلم بعد ثلاثة أيام كبيرة، قال بعض العلماء: «لما فيه من التقاطع، والإيذاء، والفساد».اهـ
وزَعَمَ بعض الشافعية أنه صغيرةٌ، وهو ضعيف أو باطل؛ لأنه لو كان صغيرة لما توعدت الأحاديث عليه بدخول النَّار، ولما جعلته كسَفْكِ دَمِ المسلم، أما الهَجْرُ لمدة ثلاثة أيامٍ ، فقد رَخَّصَ فيه الشارع مراعاة للطباع البشرية، فإنَّ المسلم لا يخلو من أن يختلف مع أخيه المسلم في أمرٍ من أمور المعاملة أو غيرها، فيشتد اختلافهما ويمتد غضبهما فيهتجران، حتى إذا مرت ثلاثة أيام، وهدأت نفوسهما وسكن غضبهما وجب عليهما أن يرجعا إلى سابق مودتهما، ويصلا ما
القول المسموع
۱۸۱
انقطع مِن حَبْل أُخُوَّتها.
قال الإمام الخطَّابِيُّ: «فأمَّا الهجران أقل من ثلاث، فإنما جاز ذلك في
هجران المسلم أخاه لعَتُبِ ومَوْجِدَةٍ، أو لنبوة تكون منه، فرخص له في مدة الثلاث لقلتها، وجعل وراءها تحت الحظر». اهـ.
قلت: ومن هنا يتبيَّن أن حَظِّرَ الهَجْرِ عَزِيمَةٌ)، وأنَّ جوازه في الحالات المستثناة رُحْصَةٌ.
فصل
أنواع الهجر
قال العلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي في "الزواجر" بعد أن ذكر أحاديث النهي ما نصه: ويُستثنى من تحريم الهجر مسائل - ذكرها الأئمة وحاصلها : أنه متى عاد إلى صلاح دين الهاجِرِ والمهجور (۲) جاز، وإلا فلا». قلت: قد أشرتُ إلى تلك المسائل في سمير" الصالحين" بقولي: «تفصيل مسألة الهجر: أنَّ العاصي المجاهر بالمعصية أو المصر على فعلها: يُهجر بعد نهيه
(۱) قال السبكي في "جمع الجوامع": والحكم الشرعي إن تغيّر إلى سهولة لعُذْرِ مع قيام السبب للحكم الأصلي فرخصة، وإلا فعزيمة. بيان هذا التعريف هنا أنَّ الحكم الأصلي للهَجْرِ هو التحريم، وسببه الإيذاء والتقاطع، وتغيره إلى الجواز لعُذر العتاب أو الزَّجْرِ أو الوقاية يكون رخصة، مع وجود السبب للحكم الأصلي، لكن رُخُصَ فيه للعُذْرِ.
(۲) صلاح دين الهاجر في الهجر الوقائي، وصلاح دين المهجور في الهجر الإيجابي.
۱۸۲
الأدب والمتفرقات
وإسداء النصحية له (۱) ، وكذلك المبتدع المتفق على ابتداعه -مثل الخارجي، والمعتزلي- يهجر بعد مناقشته أيضًا - لعله يتوب ويُقلع، أما أن يختلف شخصان في مسألة فرعيَّة كالتوسل وما أشبهه - مما يختلف فيه الرأي، وتتجاذب الأدلة، فلا يصح الهجر بسببه؛ لأنه لاعصيان فيه ولا ابتداع، ومن هجر صاحبه بسبب ذلك كان آنها عاصيا (۲)، فإن كان المهجور قريبا له جمع إلى
إِثْمِ الهَجْرِ إِثْمُ قَطِيعَةِ الرَّحَمِ» . اهـ وأريد أن أبسط هنا التفصيل المذكور، بذكر أنواع الهجر، وحُكم كل نوع، مع التوسع في إيراد الأمثلة؛ لإيضاح جزئيات تلك الأنواع، وبيان انطباق
الحكم عليها. فالهجر ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
ا - هَجْرُ إيجابي زاجِرٌ : وهو يحصل ممن له حقُّ الزَّجْرِ والتأديب، إما بسلطة مادية كالحاكم والزوج والأب، أو سلطة معنوية: كالعالم المقتدى به، والصالح المطاع لفضله.
۲ - هَجْرُ وقائي مانع: وهو الذي يتقي الهاجر به شر المهجور، أو الافتتان به. هَجْرٌ سَلْبِيٌّ : لا زَجْرَ فيه، ولا مَنْعَ.
ويأتي بيانها على هذا الترتيب بحول الله تعالى.
(۱) كان مذهب ،عمر، وأبي الدرداء، والنخعي، وجماعة أنهم لا يهجرون عند الذنب وكان أبو الدرداء يقول: إذا تغيَّر أخوك واعوج، فلا تتركه لأجل ذلك، فإن الأخ
يعوج مرَّةً ويستقيم أخرى. (۲) وهو من أفراد الهجر السلبي.
القول المسموع
فصل
الهجر الإيجابي
۱۸۳
تخلفه
١ - ثبت في "الصحيحين" عن كعب بن مالك رضي الله عنه - في قصة ا
الواقفي
(1)e
عن غزوة تبوك هو ومُرَارَة بن ربيعة العامري، وهلال بن أُمَيَّة قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس». قال الإمام الخطَّابِيُّ: «فيه من العلم أنَّ تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عَتِّبٍ ومَوْجِدَةٍ، أو لتقصير يقع في حقوق
(۱) ثبت في صحيح البخاري" في هذه القصة من قول كعب: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، لي فيهما أسوة مرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أُمَيَّة
الواقفي. قال ابن القيم: «هذا الموضع مما عدَّ من أوهام الزهري، فإنه لا يُحفظ عن أحدٍ من أهل المغازي والسير، ذكر هذين الرجلين في أهل بدرٍ لا ابن إسحاق، ولا موسى بن
الا
عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر وكذلك ينبغي أ يكونا من أهل بدر، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهجر حاطبًا ولا عاقبه، وقد جس عليه، وقال لعمر لما هم بقتله: «وما يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ،
فقال: اعملوا ما شِئْتُم، فقد غَفَرْتُ لكم». وأين ذنب التخلف من ذنب الجس؟! قال أبو الفرج ابن الجوزي: المرأزل حريصًا على كشف ذلك وتحقيقه، حتى وجدت أبا بكر الأثرم قد ذكر الزهري، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يحفظ عليه خطأ، إلا في هذا الموضع، فإنه قال: إنَّ مرارة بن ربيعة وهلال بن أمية شهدا بدرا، وهذا المريقله أحد غيره، والغَلَط لا يُعْصَمُ منه إنسان». انتهى.
١٨٤
الأدب والمتفرقات
عشرة ونحوها، دون ما كان من ذلك في حقّ الدِّين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على ممر الأوقات والأزمان، ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق» . اهـ
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" في بيان الأحكام التي تؤخذ من هذا الحديث: «ومنها: ترك الإمام والحاكم ردَّ السلام على من أحدث حدثًا تأديبا له، وزجرا لغيره، فإنه صلى الله عليه وآله وسلَّم لم يُنقَل : أنه ردَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المغضب». اهـ وقال: «وفيه أيضًا دليل على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواءً له، بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكميَّة والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه، لا
إتلافه» . اهـ
الثلاثة
وقال أيضًا: «وفي نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كلام هؤلاء ة - يعني كعبا ورفيقيه - من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب المنافقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب، أما المنافقون فجر مهم أعظم من أن يُقابل بالهجر» . اهـ
۲- قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن عبد الله بن عامر، عن الزهري: أنَّ رجلًا سلم على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم - ثلاث مراتٍ - فلم يرد عليه، فقيل له: لم؟ فقال: «إنه ذو وَجْهَينِ». تَركُ رد السلام على هذا الرجل كان تأديبا له؛ لتخلقه بخُلُقٍ قبيح: وهو أن يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، وهذا
من شر أخلاق المنافقين.
القول المسموع
٣- عن عائشة رضي ة رضي الله عنها قالت: اعتل بعير لصفية بنت حيي، وعند زينب فضل ظهرٍ (۱) فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لزينب: «أَعْطِيها بعِيرًا». فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟، فغَضِبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم، فهَجَرَها ذا الحِجَّة والمحرَّم وبعض صفر. رواه أبو داود في "سننه". كان هَجْرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لزينب بوصفه زوجا لها، يملك حق تأديبها. أما هجره في الحديثين السابقين، فكان بوصفين اجتمعا له. كونه خليفةٌ يُنفذ حكم الله. وكونه قدوةً يُقتدى به. لقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ (٢) [الأحزاب: ۲۱].
٤- ثبت في صحيح مسلم" عن سعيد بن جبير: أن قريبا لعبدالله بن مُغَفَّل رضي ا الله عنه حذف، فنهاه عبدالله، وقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخَذْفِ، وقال: «إنها لا نَصِيدُ صَيْدًا، ولا تَنْكِي (٣) عَدُوًّا، ولكنَّها تَكْسِرُ السِّنَّ وتَفْقَأُ العَيْنَ». قال: فعاد فحذَفَ، فقال: أُحَدِّثك أن
(۱) «ظهر»: يطلق على البعير، والمعنى: أنَّ زينب رضي الله عنها كان عندها بعير زائد عن حاجتها للركوب. (۲) ذكر القرافي : أنَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان له أربع شخصيات: شخصية النبي المبلغ عن الله، وشخصيَّة الخليفة الذي يقيم أحكام الله، وشخصية القاضي
الذي يقضي بين الناس، وشخصيَّة المفتي الذي يُفتي فيما يجد من الحوادث. قلت: والأسوة أو القدوة داخلة في شخصيته الأولى.
(۳) «تنكي» بفتح التاء وسكون النون، وكسر الكاف، أي: تجرح العدو، أو تكثر فيه
الجراح.
١٨٦
الأدب والمتفرقات
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم نهى عن الخَذْفِ، ثُمَّ عدت تَخْذِفٌ، لا
أكلمك أبدًا.
قال الإمام النووي في هذا الحديث: «هجران أهل البدع والفُسُوقِ، ومنابذي السُّنَّة مع العلم (۱) ، وأنه يجوز هجرانه دائما، والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هَجَرَ لحظِّ نَفْسِهِ، ومعايش الدُّنيا، وأما أهل البدع
ونحوهم فهجرهم دائماهـ.
قلت: عبد الله بن مُغَفَّل صحابي فاضل، يستمد من صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قوةً معنويةً، وسلطة روحية تؤهله لزجر من يراه خارجا عن السُّنَّة بهجره، وإنه لما رأى قريبه عاد إلى الخذْفِ بعد سماع النهي عنه، معللا بأنه لا يصيد صيدا... الخ، عرف أنه مُستهتر، لا يحترم السُّنَّة ولا يطيعها، فهجره تأديبا وزَجْرًا. ه - في "مسند أحمد" عن مجاهد: أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : «إِذا اسْتَأْذَنَكُم نِساؤكُم بالليل إلى
المساجد فائذَنُوا هنَّ». فقال ابنه والله لنمنعهنَّ، فما كلمه عبد الله حتى مات. قلت: عبد الله بن عمر هجر ابنه بوصفه والده، يملك حق تأديبه وزجره ويحق لابنه أن يهجر ؛ لأنه صرح برد الحديث لغير عذر أبداه، أو تأويل استند
(۱) هذا القيد لابد منه في شرعيَّة هجر المبتدع النابذ للسُّنَّة، فإذا كان لا يعلمها أو علمها من طريق ضعيف لا يُحتج به أو أوّلها تأويلا سائغا - وهو من أهل التأويل - فلا يحل هجره، وهذا من جملة الأعذار التي ذكرها ابن تيمية في رسالته "رفع الملام عن الأئمة
الأعلام".
القول المسموع
۱۸۷
إليه، ولو أنه قال كما قالت عائشة رضي الله عنها: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ما أحدث النِّساء بعده، لمنعهنَّ الخروج إلى المسجد لما هجره (۱)
٦- أخرج ابن عساكر عن عمارة بن غزية قال: دخل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه على معاوية، فقال: صَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سمعته يقول: «يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ، إنكم سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةٌ، فعليكم بالصَّبْرِ.» فبلغت معاوية، فقال: صَدَقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، أنا أوَّل من
صدق، فقال أبو أيوب: أجراءة على الله ورسوله؟! لا أكلمه أبدًا.
رضي
في هذا الأثر غموض نوضّحه؛ ليفهم حقّ فهمه: كان الخلفاء الراشدون م يعطون للصحابة أعطياتهم المستحقة لهم في بيت المال، وكانوا
الله
عنهم
يقسمونها بالعدل، مع مراعاة من له يد في نصرة الإسلام وتأييده - كالمهاجرين والبدريين والأنصار - فلما جاء معاوية، آثر أعوانه بالعطاء، وفضلهم على الأنصار الذين أثنى الله عليهم في القرآن، فذكر أبو أيوب الحديث الذي سمعه من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأثرة؛ ليتعظ معاوية، ويرجع ويتوب، لكنه لم يرجع ، بل استمر على غيه، وقال: أنا أول من صدق، يعني أنه أول حاكم صدق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار، تصديقا عمليا، حيث آثر أعوانه عليهم.
وهذه جُرأة قبيحةً، تُؤذن بأنه لا يقيم لكلام الرسول وزنًا، فلذلك قال
(1) على أنَّ ابن حزم لم يأخذ بكلام عائشة، وقال: «إنَّ إباحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم دخول المسجد للمرأة عامة لا يجوز تخصيصها، إلا بنص منه».
۱۸۸
الأدب والمتفرقات
رضي
-
أبو أيوب مستنكرًا: أجراءة على الله ورسوله؟! وهجره زجرا. ثبت في صحيح مسلم" عن يحيي بن يعمر: «أن عبدالله بن عمر الله عنهما لما بلغه أنَّ قوما ظهروا بالعراق يقولون: لا قَدَرَ، وأنَّ الأمر أنف (1) أعلن براءته منهم وأظهر مقاطعتهم». وهو صحابي جليل، معروف بشدة اتباعه للسُّنَّة، وأولئك القوم -وهم القَدَريَّة- ابتدعوا في العقيدة بدعة إنكار القَدَرِ، وهي : تخالف القرآن مخالفة صريحة، حيث يقول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، والسُّنَّة المتواترة جعلته أحد أركان الإيمان، فبراءة ابن عمر منهم واجبة لأمرين: أ- تأديبهم على إحداث تلك البدعة التي تثلم الدين وتخدش العقيدة.
ب وتحذير المسلمين من الانخداع ببدعتهم.
أخرج الدرامي في "مسنده" عن سليمان بن يسار: «أن رجلا يقال له: صبيغ قدم المدينة فجعل يتساءل عن متشابه القرآن؟ فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعد له عراجين النخل، فقال مَن أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ، فأخذ
(1)-
عرجونا «فضربه بالجريد، حتى ترك ظهره دبره، ثُمَّ تركه حتى برا، ثُمَّ عاد، ثُمَّ تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له
من تلك العراجين، فضربه حتى دَمِي () رأسه»، وفي رواية عنده:
(۱) بضم الهمزة والنون، أي: مبتدأ لم يسبق تقديره، أما حديث: «المؤمِنُ كالجَمَلِ الْأَنْفِ إن قيد انقاد، فالأنف فيه بفتح الهمزة وكسر النون، أي: الجمل الذي يشتكي أنفه
من البرة التي تحط فيه ، وهو الجمل المخشوش أيضًا.
(۲) بفتح الدال، وكسر الميم، وفتح الياء المثناة من تحت.
القول المسموع
۱۸۹
إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري باليمن: لا يجالسه أحد من
المسلمين». فعمر رضي
الله عنه أمر بهجر صبيغ، بوصفه خليفة وقدوة، يملك حق
الزَّجْر من جهة الوصفين.
۹ - روى أحمد في "الزهد" عن سفيان، عن عبدالرحمن بن حميد الرؤاسي عن رجل من عبس: «أن ابن مسعود رضي | الله عنه رأى رجلا يضحك في جنازة، فقال: أتضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدًا».
ضحك الرجل في مثل هذا الموطن الذي يدعوا إلى التفكير في المصير، يدل على خلو قلبه من خوف الله تعالى، وأنه هازل في موضع الجد، فهجره ابن مسعود زجرا وتأديبًا. ۱۰ - روى ابن عون، قال: جاء رجل إلى محمد بن سيرين، فذكر له شيئًا من القَدَرِ، فوضع أصبعي يديه في أذنيه، وقال: إما أن تخرج عنِّي، وإما أن أخرج عنك».
١١- كان واصل بن عطاء المعتزلي - تلميذا للحسن البصري، فلما أحدث أقوالا مبتدعة في العقيدة طرده الحسن.
وذكر العلماء: أنَّ واصلا سُمِّي معتزليّا من ذلك الوقت، حين قال له
الحسن: «اعتزل مجلسنا».
۱۲ - روى عبد الله بن وهب عن الإمام مالك: أنه قال: «لا تجالس القدريَّة، وعادهم في الله تعالى» (۱).
(۱) وذكر أبو حاتم الرازي: إبراهيم بن المنذر من شيوخ البخاري- وقال: «عارف
۱۹۰
الأدب والمتفرقات
(۱) المشروع.
فالهجر في هذه الحالات نوع من التعزير ) قال العلامة ابن فرحون المالكي في "تبصرة الحكام": «قد عزّر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالهجر، وذلك في حقٌّ الثلاثة الذين خُلّفوا، وأمر عمر بهجر صبيغ الذي كان يسأل عن مشكلات القرآن، فكان لا يكلمه أحد» . اهـ
فصل
الهجر الوقائي
وأما الهجر الوقائي: فالأصل فيه السُّنَّة، والإجماع.
أمَّا السُّنَّة فحديثان: أحدهما: قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةٌ عند الله يومَ القِيامَةِ: مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتَّقاءَ فُحْشِهِ». رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
والآخر: قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن بَدَا جَفَا، ومَن اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَن أَتَى بابَ السُّلْطَانِ افْتَتِنْ». رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنه.
وأما الإجماع فقال ابن عبد البر : وأجمع العلماء على أنَّ من خاف من مكالمة أحد وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يدخل عليه مضرة دنياه: أنه يجوز له
بالحديث، إلا أنه خلط في القرآن، جاء إلى أحمد بن حنبل فاستأذن عليه، فلم يأذن له، وجلس حتى خرج فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام». (۱) التعزير بالزاي: عقوبة على المعاصي التي ليس فيها حد، وتكون: بالجلد، أو بالتأنيب، أو بالهجر، أو بأخذ بعض المال، ونحو ذلك مما يراه الإمام حسب اجتهاده.
القول المسموع مجانبته، والبعد عنه»، قال: «ورُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِن مُخَالَطَةٍ مُؤذِيةٍ».
۱۹۱
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم عن السُّدِّي - في قوله تعالى :
وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: ٧٢] قال: «يُعرضون عنهم
لا
يُكَلِّمونهم". وروى البيقهيُّ عن الربيع ابن سليمان قال: «سمعت الإمام الشافعي يقول: لاخير لك في صحبة من تحتاج إلى مداراته. فكل شخص فاحش
بذيء، أو خبيث مؤذي: يجوز اتقاء فحشه وأذاه بهجره.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما
ليس فيه».
وقال أبو ذر رضي الله عنه لسلمة : يا سلمة ، لا تغشى أبواب السلاطين،
فإنك لا تصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينك أفضل منه». فلهذا كان السلف يفرون من الأمراء اتقاء ضَرَرهم، ومخافة الافتتان . في الدين والدنيا.
بهم
۱- قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عمر - يغريه بالبيعة لمعاوية -: «هل لك أن تبايع لمن كاد الناس يجتمعون إليه ؟ ويكتب لك من الأرضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال ابن عمر: أُفٍّ لك، اخرج من عندي ثُمَّ لا تدخل عليَّ، ويحك !! إن ديني ليس بديناركم ولا بدرهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية»، رواه ابن سعد في " الطبقات". فهذا هجر وقائي كما هو ظاهر.
۱۹۲
الأدب والمتفرقات
۲- روى ابن سعد في الطبقات" قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، عن برد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقال وفدت على عبدالملك بن مروان وعنده محمد بن الحنفية والحجاج، فقال ابن الحنفية: يا أمير المؤمنين إن هذا يعني الحجاج قد آذاني واستخفَّ بحَقِّي، ولو كانت خمسة دراهم أرسل إلي فيها، فقال عبد الملك للحجاج : لا إمرة لك عليه، فلما ولى محمد، قال عبد الملك للحَجَّاج أدركه، وسُلَّ سَخيمته (۱)، فأدركه، فقال: إنَّ أمير المؤمنين قد أرسلني إليك؛ لأسل سخيمتك، ولا مرحبا بشر ساءك، ولا تسألني شيئًا إلا أعطيتك، فقال له محمد وتفعل؟ قال: نعم، قال: فإني أسألك الدهر». هذا هجر وقائي أيضًا.
صرم
- لما لقي المنصور عبد العزيز بن أبي رواد هرب منه، وتلا قول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
[المجادلة: ٢٢].
- وروى أبو أحمد العسكري في كتاب "المواعظ" من طريق نعيم ابن حماد قال: حدثنا محمد بن ثور، عن يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم لا تجعل لفاجِرٍ ، ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة، فإني وجدت فيها أوصيته إلى: ولا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: ۲۲] قال سفيان يرون هذه الآية نزلت فيمن يصحب السلطان»، ورواه الديلمي في مسند الفردوس" من طريق الحسن،
(۱) بفتح السين غضبه وسخطه.
11
القول المسموع
عن معاذ بن جبل، وإسناده ضعيف منقطع.
۱۹۳
والحديث غير ثابت؛ لأنه مرسل، وفي إسناده من تكلم فيه، ومتنه منكر، لا يليق أن يصدر عن مشكاة النبوة (۱) ، والاستدلال بالآية على هجر السلطان خطأ كبير، وبيانه: أنَّ الآية نزلت في قتال المسلمين لأقاربهم المشركين يوم بدر،
فلا يصح حملها علي السلطان، أو غيره من أهل الإسلام.
جميع
فقد يقول قائل: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فنقول له : معنى هذه القاعدة الأصولية: أنَّ اللفظ إذا كان عاما، يحمل على أفراده، وبناءً عليه: تكون الآية شاملة للكفار جميعا، ولا تختص بكفار
قريش، ولا بيوم بدر، فيجب على كل مسلم أن يُعادِي أقاربه الكفَّار في كل
زمان ومكان. لكن إذا حملنا الآية على الأمراء والسلاطين المسلمين، كما جاء عن عبدالعزيز بن أبي رواد وسفيان، فقد حملناها على معنى لا يشمله لفظها، ولا
(۱) لأن الله تعالى أنعم على نبيه بالرسالة والخلة، وأعطاه القرآن، ونصره على أعدائه، وأغناه عن مخلوقاته، فأي نعمة بعد هذا تأتيه على يد فاجر ؟! ثُمَّ إِنَّ الذي يخشى أن يميل قلبه إلى فاجر لنعمة أسداها إليه، يكون ضعيف النَّفْس خائر العزيمة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أقوى الناس نَفْسًا، وأصحهم عزيمة، لا تميله الدُّنيا بأسرها، فكيف يخشى أن تميله نعمةٌ مِن فاجرِ ؟!! ثُمَّ إنه لا يعقل أن يكون لأحد نعمةٌ على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، بل هو منة الله على عباده، ورحمته لهم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: ١٦٤]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَك الا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: ۱۰۷].
١٩٤
الأدب والمتفرقات
يدل عليه بمطابقة ولا تضمُّنٍ ولا التزام، وذلك: أنَّ لفظ : مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: ۲۲]، وصفٌ لازم للكفّار لزوم الظل لصاحبه؛ لأن المحادّة بتشديد الدال هيا المعائدة. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يُخبر الله عن الكفار المعاندين المحادين الله ورسوله، يعني: هم الذين في حد، والشرع في حد، أي: مُجانبون الحقِّ مُشاقُون
له، هم في ناحية والهدى في ناحية». اهـ
وقال الآلوسي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: ٥]، أي: يعادونهما ويشاقونها؛ لأنَّ كلَّا مِن المتعاديين في حد وجهة غير حد الآخر وجهته، كما أنَّ
كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه» (۱). اهـ
(۱) وذكر البيضاوي بعد هذا المعنى معنى آخر، فقال: «أو يضعون أو يختارون حدودًا غير حدود الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم». انتهى.
وراعي في هذا المعنى مناسبته لقوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ﴾ [البقرة: ۲۳۰]، قال المولى شيخ الإسلام سعد الله حلبي: وعلى هذا، ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء، الذين وضعوا أمورًا خلاف ما حده الشرع، وسموها: القانون، والله تعالى المستعان على ما يصفون». انتهى.
قال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: «وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين - قدس الله روحه- رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ يَبِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونَ الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: ٣]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن أين من يعقل؟! قال الآلوسي:
القول المسموع
۱۹۵
وقال الله تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوَلَيْكَ فِي الْأَذَلِينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: ٢٠ - ٢١]. فانظر كيف وَصَفَ المحادين بأنهم في الأذلّين، ولم يقل هذا في المؤمنين، بل قال فيهم: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: ]. وانظر كيف قال بعد ذلك : كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: ٢١]، أيصح أن يقصد
وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها؛ فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي، فتأمل، ثُمَّ إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن به الانتظام، ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها: مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد مُعيَّن، بل فوَّض الأمر في ذلك لرأي الإمام، فليس ذلك من المحادة لله . ورسوله في شيء، بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي، وهو أمر مهم للشارع، ويرشد إليه ما في "تحفة المحتاج": «أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفا صاحب الحقِّ؛ لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الإمام هو حق الله تعالى للمصلحة».
وفي كتاب "الخراج" للإمام أبي يوسف إشارة إلى ذلك أيضًا، ولا يُعكّر على ذلك ونحوه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: ٣]؛ لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حُكْمه تعالى، خصوصا أو عموما، ويرشد إلى هذا عدم التنكير على أحدٍ من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصًا عليه بخصوصه، وبذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه.
نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادمًا لما نطقت به الشريعة الغراء،
زائغا عن سنن المَحَجَّة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه». انتهى.
١٩٦
الأدب والمتفرقات
المسلمين الذين آمنوا بالله ورسله؟ أم هي نصّ في إرادة الكفَّار ؟ كما قال تعالى في آية أخرى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد [آل عمران: ۱۲] وفي (سورة المجادلة) أيضًا: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُنتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [المجادلة: ٥)، معنى كبتوا: أُخْزُوا وأُذلُّوا (۱). من هذا كله يتبيَّن أن لفظ المحادّة، وما اشتق منه : نص في الكفَّار لا يحتمل غيرهم، خلافًا للآلوسي الذي قال: «إنه ظاهر فقط»، فإنه غفل عما قررناه (۲).
(۱) مما يجب مراعاته في التفسير، حسبما نبهت عليه في جواهر البيان": النظر في سياق الآية، ومناسبتها لما قبلها وما بعدها، فإن الآيات في كل سورة متناسقة في ترابط
بديع، وتناسب عجيب، لا يدركه إلَّا من أعمل فكره مع إلهام وتوفيق. والمتدبر لسورة (المجادلة) يجدها قد فتحت ببيان حكم الظهار، على خلاف ما كان عند المشركين، وصرحت بأنه من حدود الله التي من رفضها يكون محادا الله ورسوله، وتخلصت إلى الكلام على المشركين، وما ينالهم من خزي وذِلَّةٍ، وأشركت معهم إخوانهم المنافقين واليهود، وعرضت بعض أقوالهم وأفعالهم القبيحة، معنونةً لهم بعنوان: المحادين الله ورسوله ووصمتهم جميعا بأنهم حزب الشيطان، وذكرت في مقابلتهم المؤمنين ومدحتهم، ووسمتهم بأنهم حزب الله، ولم يُقيَّد الإيمان في هذه السورة بالعمل الصالح كما قيد به في آيات أخرى؛ لأن المقصود هنا ذكر الموازنة بين طائفتين متناقضتين، طائفة الكفار بأنواعها الثلاثة، وطائفة المؤمنين صالحهم وفاسقهم، فلو أدخلنا بعض الطائفية الثانية في الطائفة الأولى لاختلت الموازنة، وبطلت المناسبة. (۲) ذكر أهل الأصول : أنَّ النصَّ نوعان، نص بمدلول اللفظ كالأعلام الشخصية، ونص بالقرائن المحتفة به، ومنه: المحادة هنا.
القول المسموع
۱۹۷
يضاف إلى ذلك : أنَّ الله تعالى علَّل النهي عن موادتهم في آية أخرى،
لأخيه
بعداوتهم لله وللمؤمنين وبكفرهم فقال سبحانه: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ ﴾ [الممتحنة: ١] (۱)، والمسلم لا يكون عدوا الله، ولذلك صح النهي عن قول المسلم المسلم عدو الله، ففي "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من حديث: ومن دعا رَجُلًا بالكُفْر، أو قال: عَدُوّ الله، وليس كذلك، إِلَّا حَارَ عليه». أي: رَجَعَ عليه القول، وهذا وعيد شديد، وفي القرآن الكريم: الله ولي الذينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَتَبَكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خلدون [البقرة: ٢٥٧]، فالمسلم لا يتناوله لفظ المحادة أبدا، ولو كان عاصيًا أو مبتدعا ولا يعادى، كما يعادى الكافر عدو الله ، نعم.
حكى القرطبي في شرح مسلم: «أنَّ طائفةٌ مِن القَدَريَّة - قد انقرضوا - كانوا يزعمون أنَّ الله تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، فهؤلاء كفَّار،
يصدق عليهم: أنهم مُحادون الله ورسوله، فإنه تعالى يقول: عَلَمُ الْغُيُوبِ [المائدة: ۱۰۹] عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشُّهَدَة [الأنعام: ٧٣]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
(۱) وقال تعالى - في السورة نفسها : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَوةُ
وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: ٤].
۱۹۸
الأدب والمتفرقات
عليم [الأنفال: ٧٥]، وهم ينفون علمه الغيب وينسبون له الجهل. تعالى الله عن قولهم عُلُوًّا كبيرًا.
والمقصود أن قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» يغلط كثير من الناس في تطبيقها، حيث يحملون باسمها لفظ الآية أو الحديث معنى لا يدل عليه ولا يقتضيه غافلين عما يجب مراعاته في مفاهيم الألفاظ ومقاصدها، كما حملوا قول الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ الآية [الفرقان: ۲۷]، على كل ظالم من المسلمين، وغفلوا عن سبب نزول الآية؛ فإنها نزلت في أُبي بن خلف، واللام في الظَّالِمُ للعهد، والمعهود: ظلم الكفر ، فهي تعم كل كافر، وحملها على المسلم الظالم نفسه بالمعاصي تحميل لها معنى لا تحتمله، ولا تدل عليه، بل ينافيه سياقها أيضا (۱). ومن الهجر الوقائي: هجر عوام المسلمين للفرق الضالة؛ لأن المبتدع قد يؤثر في الرجل العامي بقوَّة كلامه وسحر بيانه، فيزيغ عقيدته.
(1) لأن الآية تحكي على لسان الكافر قوله: يَنلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: ٢٧]، أي: بالإيمان به وبما جاء به، والمسلم لا يقول هذا الكلام يوم القيامة؛ لأنه آمَنَ وأسلم، ومعاصيه لا تُخلّده في النار، بل تلحقه الشفاعة أو رحمة الله، وتحكي الآية بقية قول الكافر: يَنوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَوْ أَتَّخِذْفُلَانَا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَ في الم [الفرقان: ۲۸ - ۲۹]. والمسلم لا يقول هذا أيضًا لأنه آمن بالذكر -وهو القرآن- ولم يضل عنه، وعمل بأوامره ، وإن خالفه في أشياء فلم يُخالفه كفرًا وتكذيبا، بل عصيانا يعترف به ويطلب من الله التوبة والغفران.
القول المسموع
۱۹۹
ومما شاهدته في هذا الصدد أني كنت أعرف شخصا مالكي المذهب أشعري العقيدة، تعرّف بشيعي إمامي وأصهر إليه، وحصل بينهما تالف وتمازج، وكنت أزورهما مرة بعد أخرى، وفي إحدى زياراتي لصاحبنا المالكي، وجدته يتناول عائشة - رضي الله عنها - ويذمها كما يذمها الإمامية، فبينت له خطيئته، وأزلت ما ألقي في ذهنه من شبه واهية حولها، وأفهمته: أنها زوجة الرسول في الجنَّة، فرجع إلى الحقِّ، وصار بعد ذلك لا يقبل من صهره الإمامي شيئًا حتى يعرضه علي.
وأخبرني صديقي - الأستاذ محمد الشريف: أنه كان يعرف شخصا من ذرية الشيخ البجيرمي - حسي "شرح المنهج " في فقه الشافعية- اتصل به بعض البهائية، وأثر فيه بكلامه وحسن بيانه فانضم إليهم.
قلت: قد أضل البهائية كثيرًا من عمال المحلة الكبرى، وضموهم إلى الباطل، فهجر هؤلاء وأمثالهم يقي عامة الشعب من إضلالهم وإفساد
عقيدتهم، والبهائية كفَّارٌ مُرتدون بلا نزاع.
فصل: الهجر السلبي
علم مما تقدَّم أنَّ الهجر الإيجابي يصدر ممن يملك حقَّ الزَّجْرِ، وأنَّ الهجر الوقائي يصدر ممن يخاف على نفسه شرَّ المهجور أو الفتنة بسلطانه أو ماله مثلا
ولذلك كانا مشروعين.
أما الهجر السلبي الخالي من الأمرين فهو ممنوع؛ لأنه لا خير فيه، ولا ثمرة ترجى منه، وضابطه : أن يحصل الهجر على أمرٍ مُختلف فيه بين العلماء، بالتحريم
وغيره.
۲۰۰
الأدب والمتفرقات
مثاله: أكل لحم الخيل: مباح عند الشافعية، حرام عند المالكية، ومع أ
أنَّ
دليل التحريم أقوى، لا يجوز لمالكي أن يهجر شافعيًا على أكل الخيل، أو إفتائه بإباحته، وإذا هجره على ذلك فهجره سلبي.
مثال آخر: شُرب الدخان فيه خلافٌ أيضًا؛ فالراجح عند المالكية تحريمه، وهو عند الشافعية مباح، أو مكروه كراهة تنزيهية، فلا يجوز هجر من يشربه، وهو هجر سلبي.
دروس
ولما كنت أطلب العلم بفاس، نهاني بعض الإخوان الصديقين عن حضور العلامة الشيخ العباس بناني - مع اعترافه بعلمه لأنه كان يشرب الدخان، فلم أسمع كلامه وحضرت عليه علم المقولات، و"مقدمة جمع الجوامع" في الأصول، وقسم التوحيد من منظومة ابن عاشر " بشرح الشيخ الطيب بن كيران، و "شرح السلم" للعلامة الشيخ محمد بناني.
وأهل المغرب يتشددون في الدخان (۱). مثال آخر: تردُّد العالم على السلطان طلبًا للمال ،مذموم، ولو حمل السلطان المال إليه في بيته، فالورع التنزه عنه، لكن لا يهجر إذا قبله بتأويل.
(۱) لاتفاق علمائهم على تحريمه، لم يشذ عنهم إلا الشيخ أحمد بابا السوداني التنبكتي، فإنه لما ظهر الدخان في زمنه ببلده تنبكتو - أفتى بإباحته، وأنشأ قصيدة تائية وذكر فيها منافعه وفؤاده، ولما حضر العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني إلى مصر لزيارة بعض الإخوان، دعاه أحد تجار المغاربة للغداء ببيته، وبينما هو جالس عنده في البيت شم رائحة الدخان فقام من فوره يريد مبارحة المكان فاعتذر إليه صاحب الدعوة واسترضاه حتى جلس، وله في تحريمه كتاب قرأته.
القول المسموع
۲۰۱
فهجر الإمام أحمد ليحيى بن معين حين قال: إني لا أسأل أحد شيئًا، ولو
حمل إلي السلطان شيئًا لأخذته؛ هجر سلبي.
وستأتي أمثلة أخرى ، بحول الله تعالى.
فصل: الابتداع في العقيدة
البدعة المحرمة المذمومة على الإطلاق هي الابتداع في العقيدة، كالقول بخلق القرآن، وإنكار القَدَر، وإثبات منزلةٍ بين الإيمان والكفر، ونحو ذلك، المقصودة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا -
وهي
ديننا - هذا ما ليس مِنْهُ، فهو رَدُّ». أي مردود. فبدعة العقيدة مردودة على كل حال، وأصحابها هم أهل البدع والأهواء، كالقدرية، والمعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والخطابية، وغيرهم من الفرق وهم الذين اختلف أهل الجرح والتعديل في قبول روايتهم على مذاهب مبسوطة في كتب المصطلح والأصول، وهم أيضًا الذين نهى ! عن مجالستهم وكلامهم.
الضالة،
السلف
ولما ألف الحارث بن أسد المحاسبي في الرد على المعتزلة، هجره الإمام أحمد، وقال له: إنك لابد تورد شبهتهم، وتحمل الناس على التفكر فيها، ثُمَّ ترد وهذا تشدد بالغ يُخالف طريقة القرآن، فإنه يحكي أقوال الكفار
عليهم
()
(۱) مما أخذ على الإمام الرازي في تفسيره " : أنه يذكر في بعض الأحيان أقوال المعتزلة أو الفلاسفة ويبسط أدلتهم بتفصيل، حتى إذا شرع في ردها لحقه كسل أو ملال،
فيقتصر في الرد، وقد يترك بعض أدلتهم فلا يردها، لنسيان ونحوه.
۲۰۲
الأدب والمتفرقات
وشبهتهم ويردها.
ومن تشدد الإمام أحمد: هجرانه لأبي ثور على تأويله لحديث: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدم على صُورَتِهِ؛ لأن مذهبه إبقاء الحديث على ظاهره في إثبات الصورة الله (۱)، وتفويض معناها إليه، مع تنزيهه عن الصورة المعهودة، لكن غاب عنه أمر ظاهر في الإعراب، وهو عود الضمير في صورته على آدم؛ لأنه أقرب مذكور، ولأنه المقصود من سياق الحديث. إذ أنَّ خَلْقَ الله لآدم معلوم بالضرورة العقلية، فالإخبار به يساوي الإخبار بأن الواحد نصف الاثنين، وإنما المراد الخبر بأنَّ الله خَلَقَ آدم على صورته التي أوجده بها. فأفاد الحديث أمرين:
(۱) قد يكون عذره في ذلك ما جاء في بعض طرق الحديث: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن»، فحصل التصريح بلفظ الرحمن بدلا من الضمير، لكنه تصرف من بعض الرواة حسب فهمه: أن الضمير يعود على الله ، وهو تصرف قبيح غير المعنى، وأوقع
لفظ
العلماء في إشكال، حيث ذهبوا يلتمسون وجوه التأويل له، فحمل بعضهم الصورة، على الصفة، وقال: المعنى: أن الله خلق آدم بصفات الحياة والعلم والقدرة
والإرادة والسمع والبصر والكلام، وهي الصفات المسماة بصفات المعاني القائمة بذات الله تعالى، وإن كانت صفة آدم حادثة وصفة الله قديمة، فلا شبه بينهما إلا في الاسم، وقال آخرون: بل المراد أن الله خلق آدم على صفته التي عم بها الكائنات: وهي الرحمة: التي أخبر عنها في الحديث القدسي أنها: سبقت غضبه، وفي رواية: غلبت غضبه؛ لأنها صفة ذاتية له تعالى بخلاف الغضب، فهو صفة فعل لا يتعلق إلا
بالشخص الذي يستحقه، ثم يزول بالتوبة والاستغفار.
القول المسموع
۲۰۳
- أنَّ آدم عليه السلام لم يكن نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ... إلى آخر الأطوار
التي تمر بالجنين في الرحم.
- أن آدم عليه السلام لم يكن من فصيلة الحيوان الأعجم ثُمَّ ترقى إلى أن صار قردًا ثُمَّ إنسانًا ، فالحديث كما ترى محكم واضح، وليس من قبيلة المتشابه كما فهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ثُمَّ إِنَّ الذي استقر عليه عمل أهل السُّنَّة: قبول رواية المبتدع من تلك الفرق الضالة إذا كان ثقة، إذا كان ثقة، وكتب السُّنَّة من صحاح، وسنن، ومعاجم،
وغيرها- ملأى بالرواية عن القَدَريَّة، والخوارج، والناصبية، والإباضية، وغُلاة الشيعة، ونحوهم، وكذلك كتب التفسير مشحونة بالنقل عن تفاسير المعتزلة وغيرهم كالرماني، والجبائي، والزمخشري، والطبرسي- لا يجتنبون منها إلا ما كان متعلقا بعقيدتهم المخالفة للسُّنَّة، ويقبلون غيرها. وللعلامة ابن المنير كتاب "الانتصاف" بيّن فيه ما في "تفسير الزمخشري"
من عقائد الاعتزال.
إذن، فهجران المبتدعة إنما هو في خصوص عقيدتهم المخالفة، أما في الحديث والتفسير وأصول الفقه وغيرها من العلوم الإسلامية فهم مثل علماء السُّنَّة، وفي كتب أصول الفقه عند المالكية والشافعية والحنفية آراء كثيرة منقولة عن أئمة المعتزلة، وكتبهم فيها تحقيقات علمية وفوائد نفيسة يجب الانتفاع بها؛ لأنها تراث إسلامي عظيم.
٢٠٤
الأدب والمتفرقات
فصل
الابتداع في الأمور الفرعية
وأما البدعة في الأمور الفرعية فليست مذمومة على الإطلاق، ولا ممدوحة كذلك، بل تنقسم بمقتضى ما فيها من المصلحة والمفسدة إلى أقسام
الحكم الخمسة: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهية، والإباحة. وقد بينها بأمثلتها سلطان العلماء عزّ الدين ابن عبدالسلام في "القواعد الكبرى"، وعليها يتنزّل قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بها، مِن غير أَن يَنْقُصَ مِن أُجُورِهم شيءٌ، وَمَن سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةٌ فعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بها، من غير أن يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِم شيء». ومن فعل شيئًا من أنواع تلك البدعة المذكورة لا يُسمَّى ضالا، ولا مُبتدعا؛ لأن وصف الضلال والابتداع
في عرف الشرع خاص بالمخالفة في العقيدة، لا يتجاوزها إلى غيره.
فصل: في المنكر
يُشترط في المنكَر الذي يجب إنكاره ، ويُهجّر صاحبه إذا أصر على فعله ألَّا يكون محل اجتهاد. قال الغزالي في "الإحياء" في شروط إنكار المنكر ما نصه: الشرط الرابع : أن يكون كونه مُنكَرًا معلوما بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن يُنكر على الشافعي أكله للضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي لايسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة
القول المسموع
٢٠٥
الجوار ... إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد» . اهـ
وقال أيضًا في منكرات المساجد: «فما يشاهد كثيرًا في المساجد: إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو مُنكَرٌ مُبطل للصلاة بنص الحديث، فيجب النهي عنه، إلا عند الحنفي الذي يعتقد أنَّ ذلك لا يمنع صحة الصلاة، إذ لا ينفع النهي معه» . اهـ
وقال ابن حجر الهيثمي في الزواجر": «ولا ينكر العالم إلا مجمعا على
إنكاره، أو ما يرى الفاعل تحريمه، دون ما عدا ذلك اهـ.
و مثال ما يرى الفاعل تحريمه أن يشرب مالكي أو شافعي نبيذا لا يُسكر، فإنه يجب إنكاره عليه؛ لأنه يرى تحريمه. ومما لا يجوز إنكاره لأنه محل اجتهاد : بناء القباب أو المساجد على القبور؛ لأنه مختلف فيه بين العلماء، فالذي يرى تحريمه لا يجوز له أن ينكر على من يرى جوازه أو ندبه ومنه الاستغاثة بالمخلوق كالولي، لا يجوز إنكاره ووصف فاعلها بالإشراك ، لأن من يجيزها يستدل بما ذكره ابن تيمية وغيره، مما خلاصته أن الاستغاثة لها معنيان
1- طلب إغاثة المخلوق بما يقدر عليه، كقوله تعالي: فَاسْتَغَتَهُ الَّذِي مِن شِيعَيهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوّهِ ﴾ الآية [القصص: ١٥]، فالإسرائيلي استغاث بموسى أن ينقذه من القبطي، فأغاثه بما يقدر عليه، وهو وَكُزُ القِبْطِي وإبعاده، وكذلك الاستغاثة بالولي هي طلب إغاثته بدعاء أو شفاعة أو نحوها مما يقدر عليه
.
وهذا المعنى جائز بلا خلاف.
٢٠٦
الأدب والمتفرقات
۲ - طلب خلق ما به الغوث، وهذا المعنى خاص بالله تعالى ، لا يطلب من
غيره، وهو المراد بقوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾ الآية [الأنفال: 9]، أي: تطلبون منه أن يخلق ما يغيثكم به.
ومثلها النصر ، جاء في القرآن الكريم بالمعنيين أيضًا، قال الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾ [الأنفال: ٧٢]، معنى النصر هنا: فعل ما يقدرون عليه من حمل السلاح وقتال المعتدي، وإبعاده عن المستنصرين بهم، أما قوله سبحانه : وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ ﴾ [آل عمران: ١٢٦]، فالمراد به خلق النصر وإيجاده، وتغليب طائفة على أخرى، وهذا المعنى خاص بالله تعالى، لا يقدر عليه غيره (۱).
وكذلك التصوف في جملته وتفاصيله، مما لا يجوز إنكاره، ولا اعتبار أحواله بدعًا مُحرَّمة، بسبب إنكار طائفة من الحنابلة له كابن تيمية، وابن القيم ومعهم المعتزلة؛ لأن علماء السُّنَّة من المذاهب الأربعة اعترفوا به، واعتبروه من
(۱) تجد القرآن الكريم يسند أشياء إلى أسبابها، مع أنها خاصة بالله تعالى، اقرأ قوله سبحانه: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا نَقْعُدْ بَعْدَ الذِكْرَى [الأنعام: ٦٨]، وَمَا أَنسَنِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذكَرَهُ ﴾ [الكهف: ٦٣] ، واسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَهُمْ ذِكْرَ الله ﴾ [المجادلة: ١٩]، والإنساء: محو المعلوم من الذاكرة، وهذا لا يقدر عليه الشيطان ولا يستطيعه، وإنما أسند إليه في هذه الآيات لتسببه فيه بوسوسته، فكذلك يجوز إسناد الإغاثة أو النصر إلى الولي؛ لتسببه فيه بدعوته أو شفاعته، مع أن هذا وذاك فعل الله حسب مشيئته.
القول المسموع
۲۰۷
العلوم الإسلامية المبنية على الكتاب والسُّنَّة، وما من مسألة فيه من مسائله المختلف عليها إلَّا وللصوفية دليل على صحتها(۱)، بل انضم إليه، وكان من جملة أهله أئمة كبارٌ ، مثل : أبي عمرو بن بُجَيد، وابن الأعرابي، وأبي نعيم، والمنذري، والنووي، وابن الملقن، والسيوطي، والدقاق، وأبي القاسم القشيري، والغزالي، والعز ابن عبد السلام، وابن المنير، والتقي السبكي، وابنه التاج الذي قال في "جمع الجوامع " عطفا على ما هو من عقائد أهل السُّنَّة ما نصه: «وأنَّ
طريق الجنيد وصحبه طريقٌ مُقَوَّم». اهـ، وغير هؤلاء كثير في البلاد الإسلامية. فصل
الحكم على المنكر
روى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لما وَقَعَتْ بنو إسرائيل في المعاصي، نهاهم علماؤُهُم فلم يَنتَهُوا، فجالَسُوهُم ووَاكَلُوهُم وشارَبُوهُم، فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عَصَوا وكانوا يَعْتَدُونَ». فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم - وكان مُتَكِنا- فقال: «لا والذي نفسي بيده حتَّى تَأْطُرُوهُم على الحَقِّ أَطْرًا». معنى «تَأْطُرُوهُم»: تعطفوهم وتردُّوهم إلى الحق. هذا الحديث ومثله أصل في إيجاد وظيفة المحتسب، وهو شخصٌ عَدْلٌ أمين عالم بما لابد منه من أحكام شرعيَّة، يُكلفه الحاكم بمراقبة الأسواق
(1) الأمثلة المذكورة في هذا الفصل كلها من الهجر السلبي.
۲۰۸
الأدب والمتفرقات
والشوارع والأماكن العامة، فإذا رأى مُنكَرًا أزاله، وعزّر فاعله، أو رفع أمره
إلى الحاكم؛ ليعزره بما يراه.
والحسبة من الوظائف الإسلامية المستحدثة، تكلم عليها الغزالي في "الإحياء"، وأنشئت فيها كتب ورسائل لابن تيمية وغيره)، وهي من البدع
الواجبة؛ لأنه يؤدي بها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذن فقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «حَتَّى تَأْظُرُوهُم على الحَقِّ أَطْرًا»، خطاب الحكام المسلمين أن يجبروا المجاهرين بالمعاصي والبدعة على الرجوع إلى الحق؛ لأن عندهم من قوة السلطة ما يمكنهم من ذلك، ولأن الحاكم إذا نهى عن أمر اعتبره منكرا في مذهبه وجب الانتهاء عنه، لو كان جائزا في نظر فاعله حسبما تقرر في كتب الفقه. وقد صرّح بعض الصحابة بأنهم فعلوا أشياء في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ تركوها حين نهى عنها عمر رضي الله عنه، أما أفراد الشعب فهم أحد رجلين: إمَّا عامي، وإمَّا عالم، فالعامي إذا خاف على نفسه أن يفتنه المبتدع هجره هجرا وقائيا كما تقدم، والعالم له حالان: 1 - أن يكون له من وفور علمه أو شدة ورعه أو كبر سنه أو عظم منزلته، ما يحمل المبتدع على الرجوع عن بدعته أو الكفّ عن الدعوة إليها إذا هجره، أو حرّض الناس على هجره، فالهجر في هذا الحال واجب؛ لأن له فائدة إيجابية.
(۱) وقد استحدثت في العُهود الأولى للإسلام، فقد ذكر ابن سعد في "الطبقات" في ترجمة عاصم بن سليمان الأحول : أنه كان قاضيًا بالمدائن في خلافة أبي جعفر المنصور،
وأنه كان بالكوفة على الحسبة في المكاييل والموازين.
۲۰۹
القول المسموع ٢ - ألا يكون له من الصفات المذكورة شيء، فلا يجوز له الهجر؛ لأنه هجر
سلبي لا ثمرة له، نعم، يستعين بالحاكم، أو بذي جاء في إزالة المنكر، أو ردّ
البدعة.
فصل
في الجهاد ضد المنكر
روى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما مِن نبي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَّا كان له مِن أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، ويَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إنه يَخْلُفُ مِن بعدهم خُلُوفٌ، يقولون مالا يَفْعَلُون، ويَفْعَلُون مالا يُؤْمَرون، فمَن جَاهَدَهُم بِيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُم بلسانه فهو مُؤمِنٌ، ومَن جَاهَدَهُم بِقَلْبِهِ فهو مُؤمِنٌ، ليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّةُ خَرْدَلٍ». فهم بعض الناس أنَّ الجهاد في هذا الحديث على حقيقته، وقال: «إنَّ الجهاد أعظم من القطيعة وأطم وأقبح أثرًا، وهذا خطأ كبير، فإنه لا يجوز لأفراد الشعب أن يحملوا السلاح، ويقاتلوا المبتدعة في الشوارع والبيوت، فإن ذلك أعظم مَفْسَدَة، وأشد ضَرَرًا من الابتداع والمبتدعة لما يلزم عليه من إزهاق الأرواح واضطراب الأحوال ، واختلال الأمن، هذا إلى أنَّ حمل السلاح للقتال لا يكون إلا بأمر الإمام وإذنه.
لكن المقصود بالجهاد هو التغيير والإنكار، والمعنى: فمن غير ما هم عليه وأنكره بيده فهو مؤمن، ومن أنكر ما هم عليه بلسانه فهو مؤمن، ومن أنكر ما هم عليه بقلبه فهو مؤمن، وسمَّى الإنكار جهادًا على سبيل المجاز؛ لما فيه من
۲۱۰
الأدب والمتفرقات
مشقة التجاذب بين الطرفين باليد وباللسان، يؤيد هذا: إضافة الجهاد إلى القلب، والقلب لا يُقاتِل لكنه منكر .
فهذا الحديث مثل الحديث الآخر الثابت في "صحيح مسلم" أيضًا: «من رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَليُغَيّره بيَدِهِ، فإن لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِن لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ». والأحاديث يُفسر بعضها بعضا، وتغيير المنكر باليد أو باللسان ممكن، بل هو مطلوب شرعًا، وقد غيَّر كثير من العلماء منكرات بأيديهم وبألسنتهم، واستجاب لهم الحُكّام في ذلك امتثالا لأمر الشرع.
فصل
في معنى الهجر
رضي
روى البخاري في "الصحيح" عن عائشة الله عنها: أن فاطمة والعباس عليهما السلام أنيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال لهما أبو بكر رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لا نُورَثُ، مَا تَرْكَنَاهُ صَدَقَةٌ، إنا يَأْكُلُ آل محمَّدٍ مِن هذا المال». قال أبو بكر: والله لا أدع أمرًا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يصنعه فيه إلا صنعته، قال : فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت. قلت: قد يستدل بعض الناس بهذا الأثر على جواز الهجر فوق ثلاثة أيام، لأجل معايش الدُّنيا، وهو استدلال غير صحيح؛ لأن ما وقع هنا لا يُعتبر هجرا حقيقة، إذ الهجر المنهي عنه: أن يتقابل ،شخصان فيعرض هذا ويعرض هذا، ولا يُسلّم أحدهما على الآخر ، وفاطمة عليها السلام - لم تكن تخرج من بيتها حتى
القول المسموع
۲۱۱
تقابل أبا بكر رضي الله عنه، ولم تكن في حاجةٍ إلى التردد عليه ، إذ لم تعرض لها قضية تقتضي الذهاب إلى الخليفة للفصل فيها، ثُمَّ إنها لم تعش بعد والدها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلا ستة أشهر، وهي مدَّةٌ قليلة، قد يغيب أحد الصديقين عن
الله عنه
استأذن
صديقه مثلها أو أكثر، تشغلهما شئون الحياة، ولا يعتبران متهاجرين. غاية ما في الأمر أنَّ بعض الرواة سمَّى خروج فاطمة - عليها السلام - من عند أبي بكر وهي غَضْبَى هجرًا تجوُّزًا، ألا ترى إلى العباس رضي الله عنه منع نصيبه من الإرث أيضًا ولم يهجر أبا بكر رضي الله عنه؟! بل كانا يتكلمان إذا تقابلا في الشارع وفي المسجد، ثُمَّ إنه ثبت أنَّ أبا بكرٍ رضي ا عليها وهي مريضةٌ ، فقال لها علي كرم الله وجهه-: هذا أبو بكر يستأذن؟ فقالت: أتأذن له؟ قال: نعم فأذنت له فدخل يعودها، وقال لها كلمته المشهورة: والله لَقَرابَةُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وهو صادق من غير يمين.
والذي نراه في هذه القصة وهو الحقيقة والواقع: أن فاطمة عليها السلام - أكرم نَفْسًا وأجل قدرًا من أن تهجر شخصا على شيء من الدُّنيا، فهي بنت أبيها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ووارثة خُلُقِهِ، وهي صِدِّيقةٌ أيضًا، وإنما الذي حصل: أنها لما طلبت حقها في الميراث مستندة إلى عموم قول الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَدِكُمْ ﴾ [النساء: (١١]، وفوجئت بمنع الصديق لها، مستدلا بالحديث المخصص للآية - ولم تكن سمعته من قبل - اعتراها غضب الصدمة المفاجأة، شأن الطبيعة البشرية، ثُمَّ لما عادت إلى بيتها، وهدأت نفسها، أدركت صدق أبي بكر رضي الله عنه فتركت الموضوع، ولو كان غير ذلك لما
۲۱۲
الأدب والمتفرقات
سكت علي عليه السلام عن طلب حقها، ولما سكت العباس عن طلب
حقه، وهو كان أحرص على المال وأكثر طلبا له.
عائشة
-رضي
ثبت في "صحيح البخاري" أيضًا عن عوف بن مالك بن الطفيل: «أنَّ الله عنها- حدثت: أنَّ عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهينَّ عائشة أو لأَحْجُرَنَّ عليها، فقالت : أهو قال هذا؟ قالوا: نعم قالت: هو الله علي نذرُ ألَّا أُكلّم ابن الزبير أبدا، فاستشفع إليها ابن الزبير حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أُشَفّع فيه أبدا، ولا أتحنَّث إلى
نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلَّم المسور بن مَخْرَمَةٍ وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث، وقال لهما: أنشدكما الله لما أدخلتماني على عائشة -رضي الله عنها - فإنها لا يحل لها أن تنذر ،قطيعتي فأقبل به المسور وعبدالرحمن، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا كلنا؟ قالت نعم ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما
الله
ابن الزبير، فلما دخلوا، دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة -رضي ا عنها وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلا كلمته، وقبلت منه، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا عليها من التذكرة والتحريج، طَفِقَت تذكرهما وتبكي، وتقول: إني نَذرتُ، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي، حتى تبل خمارها».
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": «أراد البخاري بإيراد أثر عائشة
القول المسموع
۲۱۳
هذا أن يُبين: أنَّ حديث النهي عن الهجرة ليس على عمومه، بل هو مخصوص
بمن هجر بغير موجب لذلك».اهـ
قلت: هذا الأثر أظهر في الاستدلال على جواز الهجر فوق ثلاث لغير
مصلحة الدين، لكنه لا دليل فيه كما يتبيَّن بحول الله تعالى.
-
وإن الناظر في هذه القصة بعين الفاحص المتأمل يجدها تفيد أشياء: 1 - أنَّ عائشة - رضي الله عنها - لم تهجر عبد الله بن الزبير لمعصية اقترفها، وإنما غضبت من اعتراضه على تصرُّفٍ من تصرفاتها، وكان لها أن تهجره بضعة أيام حتى يهدأ غضبها، لكنها أسرعت بنذر هجره؛ لحدةٍ كانت فيها ورثتها عن أبيها رضي الله عنها. ٢ - أنَّ ابن الزبير صَرَّح بأنَّ عائشة لا يحل لها أن تنذر قطيعته؛ لأن قوله:
والله لتنتهينَّ عائشة أو لأَحْجُرَنَّ عليها»، لا يستوجب ذلك (۱).
- أنَّ المِسْوَر وعبد الرحمن قالا لها: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن الهجرة، وأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلم تذكر لهما حديثا يُخصص ما أبدياه من الدليل. ٤ - أنها اعتذرت بالنذر ، واعتبرته مُخصصًا لحديث النهي عن الهجرة، وغاب عنها أنَّ هذا النذر لا يجب الوفاء (۲) به؛ لأنه يشتمل على قطيعة، لكنها
(1) يظهر أنها أرادت زجره بهجره؛ لأنه تعدى على مقامها، باعتراضه على تصرفها، وهي أُمه من جهة الإيمان: وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: ٦]، وخالته من جهة الرَّحَم؛ لأنها
أخت أُمه أسماء - رضي الله عنهم - لكنها اشتدت عليه، وجاوزت الحد المطلوب. (۲) لأنه يشتمل على معصية، وقد نسيت الحديث الذي روته عن النبي صلى الله عليه وآله
٢١٤
الأدب والمتفرقات
اجتهدت فأخطأت فهي مأجورة على اجتهادها غير مأخوذة بخطئها، لكن لا يجوز الاستدلال بقصتها على جواز الهجر غير المشروع؛ لأن النص بتحريم
الهجرة ثابت عام لا مُخصص له.
فصل
الإسراف في معنى الهجر
أسرف بعض الناس في استعمال الهجر السلبي، وقطع رَحِمَ إخوته ومعظم أقاربه زاعما أنهم ضالون مبتدعة بل وصف والده وأجداده بالضلال والابتداع وهو يعلم أنهم كانوا على عقيدة أهل السنة والجماعة (۱).
والعجيب أنه يرميهم بهذه الذميمة؛ لأمورٍ كان هو نفسه إلى عهد قريب يعتقد صحتها، ومعنى ذلك أنها أمورٌ لا تمس العقيدة أولا، وأنها ليست بدعا متفقا على بدعيتها ثانيًا، وإلا لما اعتقد صحتها ومشروعيتها معظم سني حياته، ثُمَّ أدركه الحرف على كبر فاعتقد بدعيَّتها، وطبق عليها أحاديث أخطأ في
وسلم أنه قال: «مَن نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَليُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أَن يَعْصِي اللَّهَ فَلا يَعْصِهِ». رواه
البخاري. (1) أهل المغرب كلهم مالكية، وليس في المالكية معتزلي ولا غيره من الفرق الضالة، وهذا مما امتاز به المذهب المالكي كما قال السبكي في "الطبقات"، أما الشافعية والحنفية، ففيهم معتزلة كثيرون، وفي المذهب الحنبلي مُشبهة، ومذهب الزيدية باليمن- عقيدته اعتزالية؛ لأن إمامهم زيدًا تلقى العقيدة عن شيخه واصل بن عطاء المعتزلي، ومن جهة أخرى ففي الجزائر وتونس وطرابلس طائفة الإباضية، أتباع عبدالله بن إياض - بكسر الهمزة - الخارجي، ولا يوجد أحد منهم في المغرب.
القول المسموع
۲۱۵
فهمها حسب قواعد علم الأصول.
وأعجب من هذا أنه يصرُّ على رمي إخوته وأصحاب والده بصفات النفاق والضلال والابتداع والفسوق كأن الله أباح له أعراضهم يمزقها كيف يشاء؟! لا يدع منهم حيا ولا ميتا (۱) ولا حاضرًا ولا غائبا، مع أنه يقرأ قول الله تعالى لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم في شأن المشركين: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جميلا ﴾ [المزمل: ۱۰]، ولم يأخذ منه عِظة وعبرة، ولا قال لنفسه: حيث أمر الله بالهجر الجميل في حقٌّ المشركين، فهو في جانب المسلمين أولى وأوكد. نعم، لو تدبّر تلك الآية حين قرأها لكفّ عن شتم إخوته وأقاربه، ولو تتبع كتب السُّنَّة لم يجد فيها إلَّا الهجر الجميل، لكنه لم يتدبر الآية، ولا تتبع كتب السُّنَّة؛ لأن عقله وقلبه متجهان إلى القطيعة السيئة المصحوبة بنهش الأعراض وهتك الأستار، فتلك القطيعة هي عنده سُنَّة الهجر التي يطلب من الله تعالى أن يعينه على إحيائها !
لذلك ألفت هذا الجزء لابيّن له خطأه بل خطيئته، وأنكر عليه هجره لعائلته وقطيعته لهم، وأنا أعلم مُسبقًا أنه سيرميني بالنفاق والضلال،
(۱) بل يُسمي الميت منهم: هالكًا ، وهو وصفٌ لا يطلق إلا على الميت الكافر، أما المسلم الذي يؤمن بالله ورسوله فلا يُسمَّى هالكًا وإن عصى . وانظر إلى قول الله تعالى حين تكلم على ميراث الكلالة: إن أمْرُوا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ [النساء: ١٧٦] الآية، ولم يقل: «إن مسلمٌ هَلَك ولا إن امرؤٌ مسلم هلك»، تجنبا لأن يوصف مسلم بالهلاك، وهو من دقائق القرآن الكريم .
٢١٦
الأدب والمتفرقات
وسيكتب ردا بالغا في الشتم والمغالطات، لكنه لن يمس الموضوع العلمي للكتاب؛ لأنه فوق طاقته، ولأنه غير ما اعتاد من السباب، وفقنا الله وإياه إلى
السداد والصواب.
والحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وآله الطاهرين.
- النفْحَةُ الذكية
في أَنَّ الهَجْرَ بِدْعَةٌ شِرْكِيَّة
الهَجْرُ إِثْمٌ لا يَجُوزُ المُسْلِ
أن يَهْجُرَ الإِخْوَانَ والخَلانا فجزاؤه نار الجحيم كما أتَى خَبَرُ النبي مُوضّحًا وبيانا والتجـرُ مُبْتَدَعْ لكُفَّارِ أَبو دِينًا أتاهُمْ سَاطِيعًا بُرْهَانا فاسْتَعْمَلُو الرَسُولِهِمْ أَعْرَاضهم واسْتَبْدَلُوا بِالطَّاعَةِ الهجــرانــا لا هَجْرَ في دِين وفي دنيا إذا ما قَدْ عَدَا فَوْقَ الثَّلَاثِ زَمَــانــا فإِذا أَتَى لَفْظُ الحَدِيثِ مُعَمَّا (۱) فقَضَى على مَن يَتْبَعُ الشَّيْطَانا و قَطِيعَةُ الأَرْحَامِ ليَسْت شِرْعَةً في ديننا أَعْظِـم بهــا عــــــــان و القَاطِعُ المَلْعُون في آي الكِتابِ له العَمَى (٢) نَصَّا فبِئْسَ هَوَانا و القاطِعُ الأَعْمَى لَهُ صَمَمٌ وسُوءُ مَغَيَّةٍ مِّمَّا أَتَى خُسْرَانا و العَاقُ لا تَسْأَل على أَمْوَالِهِ سَيَكُونُ في نارِ الجَحِيمِ مُهَانا
(۱) في الصحيحين: «لا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث». وهو نص في العموم. (۲) (آية) ۲٥) سورة الرعد) ، و (آیتا ۲۳/۲۲ سورة محمد)
النفحة الذكية
۲۲۱
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله المنعِمِ الوهاب، الرحيم التوَّاب، أنعم علينا بدين الإسلام وأمرنا بالتالف والوئام، ونهانا عن التفرق والخصام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة ورسول السَّلام دعا إلى وحدة الصفّ . ة الصفٌ وجمع ا الكلمة وضم الشَّمْلِ، وحرَّم الهجر والمشاحنة وشدَّد في تحريمها، وتوعد عليهما بدخول النَّارِ واستحقاق غضب الجبَّار، ورضى الله عن آله المكرمين الأطهار،
وصحابته المهاجرين والأنصار.
أما بعد: فإني -
كنتُ كتبتُ جزءًا سمَّيته: " القول المسموع في بيان الهجر
المشروع " قسمت فيه الهجر إلى ثلاثة أ ، ثلاثة أنواع:
١ - هجر إيجابي زاجرٌ ، يكون ممن له سلطة مادية كالحاكم والوالد، أو
سلطة معنوية كالأستاذ والقدوة.
٢ - هجر وقائي مانع يكون ممن يخاف على نفسه فتنة المهجور.
۳- هجر سلبي لا زجر فيه ولا وقاية.
وقلت أن الهجرين الأول والثاني مشروعان، والثالث ممنوع على الأصل في الهجر، وبينت ذلك بأمثلة من آثار تساهلت في إيرادها مع ضعف معظمها، لأني لم أوردها للاستدلال وإنما أوردتها على سبيل المثال، فجاء ذلك الجزء تحفة في بابه الجمعه أطراف البحث مع ترتيب وتهذيب، واخترعت فيه أسلوبًا لم أسبق إليه ولم أغلب بفضل الله - عليه وكان أحسن من رسالة "الزجر
بالهجر" للحافظ السيوطي حيث حشد فيها الآثار وحشر، وطوى من البيان ما
۲۲۲
الأدب والمتفرقات
حقه أن يُنشَر ، ولم يُرتِّب الأنواع ولا هذبها، ولم يبين مواقع الآثار المختلفة ولا
شذبها، فكانت رسالته خليطا من الآثار والأقوال، غير مرتبة ولا مُهذبة. و كنت حين كتبت ذلك الجزء مُتأثرًا بما قاله كثير من العلماء أن الهجر
لأجل الدين مشروع كهجر المبتدع وشارب الخمر ونحوهما. ثُمَّ عاودت البحث وأمعنت النظر مُسترشدا بقواعد الأصول وأسس البحث، فوجدتني مُحطئًا فيما قررتُ أشد الخطأ، بعيدا عن الصواب في اتباع من تأثرت بهم غاية البعد. . تبين لي بعد تمحيص وتحقيق أنَّ الصواب الذي ليس بعده إلا الخطأ حرمة الهجر بجميع أنواعه، ولا يوجد هَجْرٌ مشروع لأجل الدين ولا لغيره، حُرْمَةُ وأنه منابذ لروح التشريع الإسلامي.
و الذين قالوا بمشروعيته مخطئون ،و اهمون استندوا إلى ماليس بدليل
تو هموه دليلا، فهم مثابون على اجتهادهم مغفور لهم خطؤهم، لكن يحرم على الحاقدين المتنطعين أن يتخذوا خطأهم ذريعة لقطيعة الرحم وعقوق الوالدين،
ومصارمة من لم يوافق هواهم. و قد يُعذر المقلّد لمجتهد مخطئ إذا كان تقليده عن حسن نيَّةٍ، أَمَّا المقلد عن سوء قصد فهو آثم مغرور ، ولا يُعفيه من الإثم أن يورد آيات وأحاديث يوهم بإيرادها أنه من أهل الاستدلال والاحتجاج، بل هذا مما يضاعف إثمه ويغلظ عقوبته عند الله تعالى؛ لأنه أصر على التقليد بعناد، وحمل الآيات والأحاديث خلاف ما تقتضيه من المعنى المراد. وهذا جزء سميته "النَفْحَةُ الذَّكِيَّةُ في أنَّ الهَجْرَ بِدْعَةٌ شِرْكِيَّةٌ"، أوضحتُ
النفحة الذكية
فيه
أنَّ
۲۲۳
الهجر في الأصل ابتدعه المشركون قاطعوا به رُسُلَ الله الداعين إلى
توحيده، وأن الإسلام حرَّمه تحريما باتّا، وجعله من الكبائر الموبقات، ولم يرخص فيه لأحدٍ من المسلمين، إلا في حالة عذر ضروري كما رخص للمضطر في أكل الميتة، وما رخص فيه الشارع لعذر لا يكون مشروعا على الإطلاق، بل شرعيته مُقيّدة بحالة العذر لا يتجاوزها، ومن القواعد المقررة المعروفة: «أنَّ ما أُبيح للضرورة يتقدر بقدرِها». و ليس في الحالة التي أبيح فيها الهجر كون المهجور مبتدعا أو فاسقا بشرب خمر أو غيره، فإن الإسلام لا يعرف هجر المسلم لبدعته أو فسقه، بل ولا يُقره فضلا عن أن يُدعَى فيه أنه واجبٌ أو سُنَّةٌ، تالله إِنَّ هذه الدعوى
كاذبة، وسيأتي بيان ذلك مُفصَّلًا إن شاء الله تعالى.
٢٢٤
الأدب والمتفرقات
الهجر من فعل المشركين
البرهان
من المقرر المعلوم أنَّ الشخص إذا ضَعُفُ في ميدان المناظرة احتجاجه واختل برهانه، ولم يُسْعِفه بيانه، ووجد مُناظِرَه قويّ الحُجَّة . صحيح واضح البيان، لم يجد سبيلا لمقاومته إلا أن يهجره ويوصي أصحابه بهجره حتّى لا يتأثروا بحسن مَنْطِقِهِ فينضموا إليه.
وهذا هو ما فعله المشركون في مقاومة دعوة التوحيد، وهي الدعوة التي أيدتها قضايا العقول وشهد بصحتها الفِطَرُ السليمة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: ٣٠] ومِن
المشركين من لجأوا في محاربة دعوة التوحيد إلى طريقة بدائية حين كان العقل الإنساني ما زال في دور طفولته.
استمع إلى نوح عليه السلام، وهو يشكو إلى الله قومه: ﴿ وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَبْعَهُمْ فِي عَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا استكبارًا ﴾ [نوح: ٧]. قال ابن عباس: جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ما يقول. وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ : قال غَطُوا بها وجوههم لكي لا يروا نوحا ولا يسمعوا
كلامه
ونحن نعلم أنَّ الأطفال إذا تنازعوا في شيء من لعبهم يضع أحدهم أصبعه في أذنيه لئلا يسمع كلام منازعه يغيظه بذلك، وإذن فقد استعمل قوم نوح طريقة صبيانية.
النفحة الذكية
٢٢٥
ومن المشركين من استعمل التشويش كما يستعمل الآن في الإذاعة بين
الدول المتحاربة.
اتل قول الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ وا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: ٢٦].
قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه، ويقولون: لَا تَسْمَعُوا لهذا الْقُرْمَانِ وَالْغَوْافِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ . قال: بالتصفير والتخليط في المنطق.
وقال قتادة : وَالْغَوْا فِيهِ ، يقولون اجحدوه وأنكروه وعادوه.
ومنهم من يضيف إلى النهي عن سماعه سبه وسبَّ مَن أنزله.
قال ابن عباس: فكان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم - وهو متوار بمكة - إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن
أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَائِكَ ﴾ [الإسراء: ١١٠] الآية. والسب حُجَّة العاجز السفيه الحاقد؛ لأن ضعفه عن مقاومة خصمه
الغالب بالحجة، وحقده عليه، يحمله على التشفّي منه بشتمه. والله در بعض الظرفاء حيث يقول: إذا رأيت شخصا يشتم مناظره في مسألة عِلْميَّة، فاعلم أنه خَسِرَ القضية.
وأول من ابتدع الهجر من المشركين آزر والد إبراهيم عليه السلام، فإنه لما ضاق ذرعا بدعوة ابنه إلى التوحيد وعجز عن معارضة حُجَّته لم يجد مخلصا منه
و
إلا أن قال له: ﴿وَأَرَاغِبُ أَنتَ عَنْ الهَتِي بِإِبْرَاهِيمُ لَإِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَأَهْجُرْنِي
٢٢٦
الأدب والمتفرقات
مَلِيَّا } [مريم: ٤٦] أي اعتزلني دهرًا طويلا حتى لا أسمع دعوتك. وكذلك فعل المشركون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع صحابته؛ فإنه لما ضاق كفار قريش بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم اتفقوا فيما بينهم على أن يقاطعوا بني هاشم وبني المطلب فلا يُجالسونهم، ولا يُنكِحُونهم، ولا يعاملونهم في تجارة وغيرها. ودخل بنو هاشم وبنو المطلب شِعْبَ أبي طالب وظلُّوا في ضيق من العيش من أجل المقاطعة حتى سعى بعض زعماء المشركين في نقض صحيفة كُتبت بذلك وعُلّقت على الكعبة، وتم نقضها رغم معارضة أبي جهل لعنه الله.
وخرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأقرباؤه من الشعب بعد مقاطعة
استمرت ثلاث سنوات، والقِصَّة مبسوطة في كتب السيرة.
وعقد عتبة وعُتيبة ولدا أبي لهب، على رقية وأم كلثوم، بنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. فلما نزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1] قال لولديه: رأسي من رأسكما حرام إن لم تُطلقا بنتي محمد. وكذلك قالت لهما حمالة الحَطَبِ، فطلقا بنتي عمهما بأمر والديهما إمعانا في مقاطعته.
وحكى الله تعالى شكاة نبيه وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: ۳۰] هَجَرُوه وأعرضوا عنه؛ لأنهم لا يستطيعون سماع ما
فيه من الأدلة القاطعة والحجج النَّاصِعَةِ التي تَطْمَعُ الشَّرِكَ وتُبطِلُه.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَيذٍ لِلْكَفِرِينَ عَرَضَاكَ الَّذِينَ كَانَتْ ا أَعْيُتُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ﴾ [الكهف: ١٠٠ – ١٠١] أي كانوا
النفحة الذكية
۲۲۷
لا يستطيعون أن يسمعوا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم لشدَّة عداوتهم
له، فهم يهجرونه ويتعدون عنه.
أنَّ
وكذلك قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْتَونَ عَنْهُ ﴾ [الأنعام: ٢٦] يعني أ كفار مكة ينهون الناسَ عن مجالسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماع
كلامه، ويبتعدون عنه بأنفسهم مبالغة في مقاطعته ومقاطعة دينه.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَوْا عَلَى أَدْبَرِهِمْ نُفُورًا الإسراء: ٤٦] يؤذي المشركين أن يسمعوا القرآن ينادي بتوحيد الله، وأفراده بالألوهية، ويقرعهم بالأدلة الدامغة فيفِرُّون منه، ليريحوا أنفسهم من سماع ما
يكدر صفوهم، ويُبلبل بالهم.
قال ابن زيد في قوله: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبِّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَرِهِمْ نُفُورًا بغضًا لما يتكلم به، لئلا يسمعوه كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم
لئلا يسمعوا ما يأمرهم به من التوبة والاستغفار.
وروى البيهقي في "الدلائل" وابن عساكر وغيرهما عن جابر بن عبدالله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالما بالسِّحْرِ والكَهَانَةِ والشَّعْر . قال عُتبة بن ربيعة: علمتُ مِن ذلك عَلَّما وما يخفى عليَّ إن كان كذلك. فذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عارضًا عليه أن يُملكوه عليهم إن أراد أو يجمعوا له مالا إن أحبَّ الغِنَى، أو يعالجوه إن كان به جِنَّة. فقرأ عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم (حم
فصلت) حتى بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتَكُمْ صَعِقَةً مِّثْلَ صَعِفَةِ عَادٍ وَثَمُودَ
۲۲۸
الأدب والمتفرقات
[فصلت: ١٣ ] فأمسك عتبة على فيه وناشده الرَّحِمَ أن يكفَّ عنه، ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صباً إلى محمد، انتقلوا بنا إليه. فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلَّا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره. فإن كانت بك حاجةٌ جمعنا لك من أموالنا ما يُغنيك عن محمد. فغضب وأقسم بالله لا يُكلّم محمَّدًا أبدًا. وذكر بقية القصة في ثنائه على القرآن، وأنه ليس بشعر ولا كهانة ولا سِحْرٍ وأنه خاف نزول العذاب بهم؛ لأن محمدًا صادق ... إلى آخر ما هو مبسوط في كتب السيرة.
والشاهد من القِصَّة: أنَّ عتبة أقسم على هجر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم هَجْرًا دائمًا؛ لإرضاء إخوانه المشركين، ولأنه وجد للقرآن حلاوةً يَخْشَى أن تدعوه لمعاودة سماعه فامتنع منها بيمينه (۱).
وروى ابن عبدالبر في كتاب "الاستيعاب" عن الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: كنتُ رجلا شاعرًا سيّدًا في قومي فقدمت إلى مكة. فمشى إلى رجالات قريش، فقالوا: يا طفيل إنك امرؤٌ شاعر سيدٌ مُطاع في قومك. وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه، فإنها حديثه كالسحر فاحذره أن يُدْخِلَ عليك وعلى قومك ما أَدْخَلَ على قومنا وعلينا، فإنه يُفرّق بين المرء
(۱) ونظير هذا ما أخبرني به بعض الإخوان أنَّ وهَّابيًّا مِن أصحاب وهابي طنجة قال: إنه يريد مقابلتي ويرغب فيها إلا أنه يخشى أن أغلبه بالحجة فيرجع عن رأيه وهو يحبُّ التمسك به فلذلك لا يُقابلني.
النفحة الذكية
۲۲۹
وابنه، وبين المرء وزوجه وبين المرء ووالده. فوالله ما زالوا يُكَلِّمونني وينهونني أن أسمع منه حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أُذُني. فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفًا، ثُمَّ غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما في المسجد فقمت قريبا منه، فأبى الله إلَّا أن يسمعني بعض قوله، فقلت في نفسي: والله إنَّ هذا للعجز، والله إني امرؤٌ ثبت، ما يخفى عليَّ من الأمور حسنها ولا قبيحها. والله لأسمعن منه، فإن كان أمره رشدًا أخذت منه وإن كان غير ذلك ،اجتنبته، فنزعت الكرسفة من فالقيتها، ثُمَّ استمعت له فلم أسمع كلاما قط أحسن من كلام يتكلم به. فقلت
في نفسي : يا سبحان الله ما سمعت كاليوم لفظا أحسن منه ولا أجمل. ثُمَّ ذكر بقية القصة في إسلامه وذهابه إلى قومه داعيا للإسلام.
أذني
وهي صريحة في مقاطعة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم ونهي
الوافدين إلى مكة عن الاتصال به، وهو مُتضمن معنى قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْتَونَ عَنْهُ .
وروى المُسْتَغْفِري من طريق البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، قال: قال عمرو بن أُميَّة الدُّوسي: دخلت المسجد الحرام فلقيني رجال من قريش. فقالوا: إياك أن تَلْقَى محمَّدًا أو تسمع مقالته فيخدعك. ولكن قدر له أن يسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، مع تحفظه وتحرزه اتباعًا لوصية قريش. فلم يتمالك أن أعلن إسلامه، كما حصل لسميه عمرو بن الطفيل. وهذا هو ما يفعله مُبتدع طنجة، يحض أصحابه على مقاطعة آبائهم
۲۳۰
الأدب والمتفرقات
وأُمهاتهم، وهجر المسلمين بدعوى الابتداع. وألا يُسلموا عليهم ولا يردوا عليهم السلام. وأمر أولاده بمقاطعة أعمامهم، لما يغلي في قلبه من حقد وبغض
لإخوته على مخالفتهم له، وردهم لبعض أخطائه الكثيرة.
وروى ابن عبدالبر في كتاب "الاستيعاب" عن خالد بن سعيد بن العاص : أنه رأى في المنام أنه وُقفَ به على شفير جهنم، ورأى والده يدفعه فيها، ورأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخذ بحِقْوَيْهِ لئَلَّا يقع فيها، فَفَزِعَ وقال: أحلف بالله إنها لرؤيا حَقٌّ. ولقي أبا بكر رضى الله عنه فذكر ذلك له. فقال أبو بكر: أريد بك خيرًا هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يَحْجِزُك من أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها. فلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأجياد، فأسلم وسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامه وعلم أبوه فأرسل في طلبه من بقي من ولده -ولم يكونوا أسلموا - فوجدوه، فأتوا به أباه أبا أُحَيْحَة، فأنبه وبكته وشتمه وضربه بمقرعة في يده، حتّى كسرها على رأسه. ثُمَّ قال: تبعت محمدًا وأنت ترى
خلافه قومه، وما جاء به من عَيْبِ آلهتهم ، وعَيْبِ مَن مَضَى مِن آبائهم ؟! فقال: قد والله تبعته على ما جاء به. فغضب أبو أُحَيْحَة، ونال منه وشتمه وقال: اذهب يا لُكَعُ حيث شِئْتَ، والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فالله يرزقني ما أعيش به. فأخرجه، وقال لبنيه: لا يُكلّمه أحدٌ منكم إلَّا صنعت به ما صنعت به.
فأبو أُحَيْحَة، لم يجد حيلة في ابنه الذي أسلم إلا أن يهجره ويأمر أخوته
بهجره
النفحة الذكية
۲۳۱
وقال الزهري ومحمد بن جعفر بن الزبير لما رجع المشركون من وقعة بدر
إلى مكة. أقبل عمير بن وهب حتَّى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر، فقال: قبَّحَ الله العيش، بعد قتلى بدرٍ. قال عمير أجل والله ما في العيش خير بعدهم، ولو لا دين عليَّ لا أجد له قضاءً وعيال لا أجد لهم شيئًا لرحلتُ إلى محمد فقتلته، إن ملاتُ عيني منه. فإن لي عنده عِلَّةً أعتلُ بها عليه. أقول: قدمت من أجل ابني هذا الأسير. ففرح صفوان، وقال له على دينك، وعيالك أسوة عيالي في النفقة. لا يسعني شيء فأعجز عنهم. فاتفقا وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصقل وسُمَّ، وقال عمير لصفوان اكتم عليَّ إياها. وقدم عمير المدينة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وعمر ممسك بتلابيبه؛ لأنه كان من شياطين العرب وخبثائهم. فقال له النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَرْسِلْهُ يا عمر فأرسله. فقال: انعموا صباحًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد أَكْرَمَنا اللهُ عن تَحِيَّتك وجعل تحيتنا تحيَّة أهل الجنَّةِ وهو السَّلام» فقال عمير : إن عهدك بها لحديث. فقال: «ما أقدمك يا عمير؟» فقال: قدمت على أسيري عندكم تفادونا في أسرانا، فإنكم الأهل والعشيرة. فقال: «ما بال السيف في عُنُقِكَ؟» قال: قبحها الله من سيوفٍ، وهل أغنت عنا شيئًا إنما نسيته في عنقي حين نزلت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : «اصْدقني، ما أقدمك يا عمير؟ قال: ما قدمت إلَّا في طلب أسيري. فقال: «فماذا شرطت لصفوان في الحجر ؟ ففزع عمير، وقال: ماذا شرطت له؟ قال: «تحملت له بقتلي، على أن يعول أولادك ويقضي دينك، والله حائل بينك وبين ذلك».
فقال عمير : أشهد أنك رسول الله، وأشهد ألا إله إلا الله. كنا يا رسول الله
۲۳۲
الأدب والمتفرقات
تكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء. وإنَّ هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر كما قلت فأخبرك الله .به. فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق. ففرح به المسلمون، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: اجلس يا عمير نواسك وقال لأصحابه: «علموا أخاكم القرآن» وأطلق له أسيره. وجعل صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح يُنسيكم وقعة بدر. وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة: هل كان بها مِن حَدَثٍ؟ حتَّى قدم عليهم رجل، فقال: قد أسلم عمير، فلعنه المشركون. وقال صفوان: الله عليَّ ألَّا أكلمه
أبدا، ولا أنفعه بشيء. الحديث بطوله، وهو في كتب السيرة. ويلاحظ أنَّ صفوان المشرك نذر هجر عمير المسلم فاعتبر هجره قربة.
وكذلك مُبتدع طنجة يزعم أن هجر المسلمين طاعة وقربة. ويلح على تثبيت ذلك في عقول أصحابه البسطاء . اعتقاده في داخل نفسه أنه كاذب مخادع ؛ لأنه إنما يهجر المسلمين عامة وأخوته خاصَّةً لغرض شخصي لا علاقة له بالدين. وسنكشف عن ذلك الغرض موضحًا بالأدلة والشواهد فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.
فصل
يتبيَّن من المثل المذكورة في هذه المقدّمة أنَّ المشركين توافقوا على الهجر الذي جعلوه سلاحًا ضد رسول الله منذ عهد قوم نوح إلى عهد كفار قريش. ومن القواعد التي يجهلها ومابي طنجة أنَّ ما ابتدعه المشركون أعداء الله لا يمكن أن يشرعه الله لأوليائه المؤمنين، وجوبًا أو ندبا يتعاملون به فيما بينهم،
وإنما يشرعه ليعاملوا به الكفار معاملة بالمثل.
النفحة الذكية
۲۳۳
الكفار في
ألا ترى إلى الاسترقاق لما ظهر الإسلام وجده معمولا به عند بقاع الأرض شرقها وغربها عجمها وعربها فأجاز الله للمسلمين إذا جاهدوا الكفار أن يسترقُوا أسراهم من باب المعاملة بالمثل، وحرم عليهم إذا قاتلوا
البغاة أو الخوارج أن يسترقوا أسيرًا منهم لأنهم مسلمون.
كذلك الهجر، أجازه الله بالنسبة للكفّار معاملة بالمثل، قال تعالى:
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: ١٠] وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: ١٠٦] وحرمه على المسلمين فيما بينهم تحريبًا بالغا، وجعله من الكبائر الموجبة للنَّار ولم يُرخص لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام. و الأحاديث متواترة (۱) صريحة في تحريم الهجر تحريما باتا، ذكرت بعضها في "القول المسموع"، وهو مطبوع.
وقد غلط أبو داود رحمه الله حيث قال في "سننه" بعد أن روى جملةً مِن أحاديث تحريم الهجر: إذا كانت الهجرة الله، فليس من هذا في شيء، هَجَرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعض نسائه أربعين يوما، وابن عمر هَجَرَ ابنا
له إلى أن مات» . اهـ
و بیان غلطه من وجوه
1 - أنَّ هجر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لبعض نسائه أربعين يوما لا
(۱) رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنس، وأبو أيوب الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة وهشام بن عامر، وابن عباس، وفضالة بن عبيد، وحدرد بن أبي حدرد وابن مسعود، وجابر، ومعاذ بن جبل، وأبو موسى، وأبو بكر،
وابن عمر، وأبو ثعلبة، وعوف ابن مالك وابن عمرو بن العاص، وأسامة بن زيد.
٢٣٤
الأدب والمتفرقات
يصلح لتخصيص أحاديث تحريم الهجر؛ لأنه ضعيف، ولأنه من باب الإيلاء الذي يكون بين الرجل وزوجته.
٢- لو فرض صلاحيته للتخصيص، فهو يفيد تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في عموم تحريم الهجر؛ لأن المقرر في علم الأصول، في صور تعارض قوله وفعله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنَّ قوله إذا كان عاما له وللأُمَّة نحو: «لا : «لا يَحِلُّ مُسْلِمٍ أَن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث ليال» وجاء فعله مخالفا له،
كهجرة بعض نسائه أكثر من ثلاث يكون الفعل خاصا به ولا يشمل غيره
لأنه ليس مِن صِيَغِ العُموم. والدليل على هذه القاعدة ما رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أ عن أُمّ سلمة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم العصر، ثُمَّ دَخَلَ بيتي فصلى ركعتين قلت: يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها؟ قال: «قدم خالد فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر فصليتها الآن». فقلتُ: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتنا؟ قال: «لا».
وروى أبو داود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم
يُصلِّي بعد العصر وينهى عنها، ويواصل وينهى عن الوصال.
فأحاديث تحريم الهجر عمومها ثابت في حقنا بلا إشكال. ٣- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خَصص عموم تحريم الهجر بكونه
فوق ثلاث، فأفاد أن الهجر لمدة ثلاثة أيام جائز والعام لا يُخصص مرتين. - أن تخصيص عموم تحريم الهجر بإخراج الهجر لأجل الدين؛ استدراك على الشارع، والاستدراك عليه لا يجوز.
النفحة الذكية
۲۳۵
ه - أن تخصيص الشارع بثلاثة أيام، يشمل الهجر للدين أو الدنيا، فقصره على هجر الدُّنيا تصرف لا دليل عليه.
والذي أفادته الأحاديث الصحيحة المتواترة أنَّ هجر المسلم لأخيه كبيرة توجب النار، ولا يجوز إلا لمدة ثلاثة أيام، سواء كان لأجل الدين أو الدُّنيا. ٦ - أنَّ . هجر ابن عمر لابنه لا يصلح مخصصا للحديث (۱)، وإنما هو اجتهاد منه أخطأ فيه، فله ثواب اجتهاده، وخطأه مغفور لكن لا يجوز ترك
نص الشارع واتباع غيره.
فصل
و تحريم هجر المسلم للمسلم له أسباب وحكم منها: أنه بدعة شركيَّةٌ كما مَرَّ بيانه والإسلام إنما جاء لمخالفة المشركين في
بِدَعِهِمْ، خصوصا ما اتخذوه سلاحًا لمحاربة الدعوة الإسلامية.
ومنها: أنه منافٍ لروح الاسلام ومباين له، فالإسلام يدعوا إلى التواصل والتوادد والتعاطف والتآلف، والهجر يُؤدّي إلى التقاطع والتدابر والتباغض. ومنها: أنَّ الإسلام يدعو إلى إبداء النصيحة ويؤكد وجوبها، حتّى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الدين النصيحة» فأفاد بهذا الأسلوب البليغ: أنَّ
أحق
الدين ينحصر في النصيحة. إيذانًا بأنها من أهم مقاصد الإسلام، ومن تشريعاته بالاهتمام، وهي لا تختص بالعلماء وأولي الأمر، بل تُطلب مِن كُلِّ مَن يستطيع القيام بها، كالرجل في بيته والتاجر في متجره والصانع في مصنعه والأخ
(۱) وكذلك هجر عائشة لابن الزبير، وهجر عبدالله بن مغفل لبعض أقاربه.
٢٣٦
الأدب والمتفرقات
مع أخيه والصديق مع صديقه، ولا شكّ أنَّ الهجر يُعَطِّل النصيحة، إذ لا يمكن
أن يتناصح متهاجران.
ومنها: أن الهجر يُعطّل طاقة الخير في المتها جرين بالنسبة إلى بعضها. فلا
يتعاونان على فعل بر ولا يجتمعان على مصلحة.
ومنها: أنَّ الهجر يقضي بقبض يد المساعدة عن المهجور، وهو عقوق إن كان المهجور أحد الوالدين، وقطيعة رحم إن كان أحد الأقارب، والعاق والقاطع لا يدخلان الجنة. ومنها: أنَّ الهجر أمرٌ سَلْبيٌّ لا يمنع عاصيا من معصية، ولا يرد مبتدعًا عن بدعة، بل يبقى المهجور على ما هو عليه وكأنه يهزأ بالهاجر، متمثلا بقول الشاعر: كِلانا غَنِيٌّ عن أَخِيهِ حياته ونَحن إذا مِتْنا أَشَدُّ تَعَانِيا ولهذا لم يوجب الله علينا هجر الكفّار ، مع أنه قال عنهم : وَذَكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ﴾ [البقرة: ١٠٩]، وقال سبحانه: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ *
سواء [النساء: ٨٩].
والإرساليات التبشيرية تسعى جهدها في تكفير المسلمين بالمساعدات المالية والصحية وبالتعليم والمحاضرات، فالواجب مقاومتهم بالمثل، عملا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : «جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم وأموالكم»
ولم يقل: جاهدوهم بهجرهم؛ لأن الهجر سلاح العجزة المستضعفين.
وروى الترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
النفحة الذكية
۲۳۷
الما وَقَعَتْ بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ولعَنْهُمْ على لسان
داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكان مُتَكِنا فقال: «لا والذي نَفْسي بيده حتَّى تَأْظُرُوهُمْ على الحَقِّ أَطْرًا».
تأمل هذا الحديث جيدًا، تجده ينفي الهجر نفيًا باتا، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: حتَّى تهجروهم هَجْرًا. ولكن قال: «حتى تأطروهم على الحق أطرا» أي تعطفوهم على الحقِّ عطفاً. إما بسطوة الحكم، وإما بمداومة النصح
وتكرار الإرشاد مرَّةً بعد مرَّةٍ. فأمر بعلاجهم علاجًا إيجابيا مثمرا. وإنما لعن الله بني إسرائيل؛ لأنهم تركوا النهي عن المنكر كما جاء ذلك صريح في قوله تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرِ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: ٧٩]. ولم يقل : كانوا لا يهجرون أهل المنكر ؛ لأنَّ الهجر لا يرضاه الشارع، ولا يُقره كما مر بيانه.
والحديث ابن مسعود روايات، ففي رواية أبي داود: «كلا والله لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنْهَوُنَّ عن المُنكَرِ ولتأخُذُنَّ على يدِ الظَّالِمِ وتَأْطُرُنَّهُ على الحَقِّ أَطْرًا، أو تَقْصُرُنَّهُ على الحقِّ قَصْرًا». وفي رواية ابن أبي حاتم: «والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عن المُنكَرِ ولَتَأْخُذُنَّ على يَدِ المسيء ولتَأْطْرُنَّهُ على الحَقِّ أَطْرًا أَو لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ
بَعْضِكُمْ على بَعْضٍ أو لَيَلْعَنَكُمْ كَما لَعَنَهُمْ» وهي عند أبي داود أيضًا.
۲۳۸
الأدب والمتفرقات
والهاجر أول داخل في هذا الوعيد؛ لأنه لم يأمر بالمعروف ولا نهى عن منكر. ولعنة الله لم تنزل على بني إسرائيل لمجرَّد مواكلتهم أهل المنكر، بل لتركهم النهي كما مَرَّ ولرضاهم بفعل العُصاة، ومن المقرر المعلوم أن مواكلة الكافر جائزة، وهو أسوأ حالا من العاصي، وزوج اليهودية أو النصرانية يواكلها ويُشاربها وكفرها قائم بها .
ومنها:
أنَّ الهجر انعزال وانخزال، والإسلام ينهي عنهما ويحض على الجماعة ويجعل المنعزل المنخزل سهل الانقياد للشيطان لخروجه عن عامة المؤمنين. وضرب له مثلا بالشاة المنفَرِدَة عن الغَنَمِ يسهل للذئب اختطافها. روى الطبراني عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله اخْتَطَفَهُ الشيطانُ كما يَخْتَطِفُ
وسلَّم : «يَدُ الله على الجماعَةِ فإذا شَدَّ الشَّاذُ . منهم
الذِّتْبُ الشَّاةَ مِن الغَنَمِ». وروى أحمد والطبراني عن معاذ بن جبل: أنَّ نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِتْبُ الإِنسانِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ القَاصِيَةَ والشَّاذَّةَ، وَإِيَّاكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد». وفي الحديث أمر بتجنب طريقة المبتدعة الذين لا يُصَلُّون مع جماعة المسلمين
بدعوى أنَّ الإمام مُبتدع أو حالق لحيته مثلا.
ولقد بلغني عن أحدهم أنه حين ذهب إلى الحج لم يكن يُصَلِّي مع الجماعة في البيت الحرام والمسجد النبوي، بل كان ينتظر حتى تنتهي ! الصلاةُ ثُمَّ يُصَلِّي
هو ومن معه .
ومنها : أن الهجر يُعطّل حقوق المسلم بين المتها جرين فلا يُسَلَّم أحدهما على
النفحة الذكية
۲۳۹
الآخر ولا يرد سلام، ولا يعوده إذا مرض ولا يُشيع جنازته إذا مات، مع أنه
قد يعود صاحبه اليهودي أو النصراني ويُسَلَّم عليه !.
رأيت شخصا من هذه الطائفة سَلَّم عليه رجل مسلم فلم يرد عليه لاعتقاده
ابتداعه، ودخل على بقال نصراني فحيَّاه وصافحه وضحك إليه كأنه أخوه!. ومنها: أنَّ الهاجر يفرح إذا أصابت المهجور مصيبة، كما يحزن إذا أصابته نعمة، وهذا مناقض لروح الإسلام غاية التناقض.
ومنها: أنَّ المتهاجِرَين لا يجتمعان على خير أبدًا فقد يترك أحدهما صلاة الجماعة لأن خصمه إمام الصلاة، ويترك عيادة مريض أو تشييع جنازة لئلا
يقابل خصمه هناك.
ولقد سئلت عن شخص في بعض القُرَى ترك صلاة الجماعة والجمعة؛ لأن بينه وبين الإمام شحناء وتقاطعا، فأجبتُ بأنه آثم عاص، ولا عُذر له في التخلف عن الجماعة والجمعة.
ومنها: أن المتهاجِرَين يتجه كلّ منهما إلى تعييب خصمه وإفشاء عوراته،
بالصدق أو الكذب، فهما دائران بين الغيبة والبهتان وكلاهما كبيرة. ومنها: أن المتهاجِرَين قد يَسْعَى أحدهما في تعطيل مصلحة لخصمه، أو إفسادها، وقد بلغنا من ذلك وقائع وشاهدنا بعضها، وهي تدل على ما وصل إليه انحطاط بعض الناس بسبب تمسكهم بالهجر الممقوت، بحيث لو استطاع أن يقضي على خصمه ما تأخر لحظة ولا يرقب فيه إلَّا ولا ذِمَّةٌ. ومنها: أنَّ المتهاجِرَين يلعن أحدهما خصمه لعنا صريحا بدعوى فِسْقِهِ أو بدعته، ولعن المسلم المعيَّن لا يجوز.
٢٤٠
الأدب والمتفرقات
وفي "الصحيحين" عن ثابت بن الضَّحَّاك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كقَتْلِهِ».
ومنها: أن المتهاجِرين محرومان مما يفيض الله على المسلمين في مواسم
الخير، فصلاتهما لا تُرفع وعملهما موقوف حتى يَصْطَلِحا.
ولو لم يكن من قبائح الهجر إلا هذا لكان كافيا في الابتعاد عنه، ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: تُعْرَضُ الأعمال في كل اثنين وخميس، فيَغْفِرُ اللَّهُ في ذلك اليوم لكل امرئ لا يُشْرِكُ بالله شَيْئًا إِلَّا امْرَأَ كانت بينه وبين أخيه شَحْناء فيقول: اتْرُكُوا هَذَين
حتَّى يَصْطَلِحَا». وفي صحيح ابن حِبَّان" عن معاذ بن جبل، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلى جَميعِ خَلْقِهِ ليلةَ النَّصْفِ مِن شَعِبانَ فَيَغْفِرُ لَجَمِيعِ
خَلْقِهِ إِلَّا مُشْرِك أَو مُشاحِنٍ». وفي "سنن البيهقي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله
11
من
وسلَّم: «أتاني جبريل فقال: هذه ليلةُ النَّصْفِ مِن شعبان والله فيها عُتقاءُ . النَّارِ بِعَدَدِ شُعورِ غَنَمِ كَلْبِ لا يَنْظُرُ اللهُ فيها إلى مُشْرِكِ ولا إلى مُشاحِنٍ ولا إلى
قاطع رَحِمٍ ولا إلى مُسْبِل ولا إلى عاق لوالِدَيْهِ ولا إلى مُؤْمِنِ خَمْرٍ».
ومنها: أنَّ المتها جرين لا يردُّ أحدهما سلام الآخر لو سلَّم عليه، مع أنَّ ردَّ السلام (۱) مما خصَّ الله به المسلمين تشريفا لهم، وحسدتهم اليهود على ذلك.
(1) وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَيتُم بِنَحِيَّةٍ فَحَيُوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: ٨٦] فالآية توجب رَدَّ التحية على من بدأ بها، ولم تفرق بين صالح وفاسق
النفحة الذكية
٢٤١
روى الطبراني في "الأوسط" بإسنادٍ حسن عن معاذ بن جبل رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اليهود قومٌ حُسَدٌ، وإنَّهم لم يخشدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رَدَّ السَّلامِ، وإقامَةِ الصَّفُ، وقولهم خَلْفَ إمامهم في المَكْتُوبةِ آمين. فما أخسر صفقة مَن تَخلَّى عن هذه الفضيلة التي شرف الله بها المسلم، ويتخذ ترك ردّ السلام على أخيه ديدنا له وعادةً، منحازا بذلك إلى صف اليهود لَعَنَهُمُ اللهُ.
فصل
فرض الشارع عقوبات على المعاصي، وهي أنواع:
كفَّارَةٌ: وهي في حَقٌّ مُفْطِر يومٍ مِن رمضانَ عَمدًا، والمظاهر، والحانِثِ في
يمينه .
حَدٌ: وهو في الخرابة والقَتْلِ والزَّنا والقَذْفِ والسَّرِقَةِ واللُّواطِ وشُرْبِ الخمر
تعزيز : وهو في كل معصية لا كفارة فيها ولا حَدٌ، وهو أنواع: توبيخ ثبت في "الصحيحين عن أبي ذرّ قال : سابَيْتُ رَجُلًا مِن إخواني، فعيّرته بأمه، وفي رواية: قلتُ له يا ابن السوداء، فقال لي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يا أبا ذر أَعَيَّرَتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُةٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
ولا بين سني ومُبتدع، ولذا قال ابن عبّاسٍ مَن سَلَّم عليك مِن خَلْقِ اللَّه فَارْدُدُ عليه وإن كان مجوسيا ذلك بأنَّ اللهَ يقول: فَحَبُوا أَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ، ولا يوجد حديث يمنع رَدَّ التحيَّة على فاسق أبدًا.
٢٤٢
الأدب والمتفرقات
وجاء في رواية الوليد بن مسلم: أنَّ الرجل الذي عيره أبو ذر، هو بلال رضى الله عنهما، فوبَّخَهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم . أخذ بعض المال والأصل فيه مارواه أحمد والنسائي وأبو داود عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الزكاة قال: مَن أَعْطَاهَا مُوْتَجِرًا فله أَجْرُها، ومَن مَنَعَها فإِنَّا آخِذُوهَا، وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِن عَزَماتِ رَبِّنا وفي صحة هذا الحديث خلاف.
وأخذ به الشافعي في القديم، فقال: للإمام أن يعاقب بأخذ المال. ثُم رجع عنه وقال: «بهز ليس بحُجَّةٍ، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به». اهـ
وقال البيهقي وغيره: حديث بهز منسوخ»، وتعقبه النووي بأنَّ: «الذي ادعوه من أنَّ العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا
معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. اهـ
لفظ
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": «والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فإنه قال : في سياق هذا المتن ! وهم فيها الراوي و إنما آخذوها مِن شَطْرِ مالِهِ أي نجعل ماله ،شطرين، فيتخير عليه المصدق. ويأخذ
الصدقة من خير الشطرين عقوبةً لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا» . اهـ قال الشوكاني : والأخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال؛ لأنه زائد على الواجب».
قلت: وفي "صحيح مسلم" عن عمران بن حصين قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة،
النفحة الذكية
٢٤٣
فضجرت فلعنتها. فسمع ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ، فقال:
«خُذُوا ما عليها ودَعُوها فإِنَّهَا مَلْعُونُةٌ». الحديث.
قال القرطبي: «يؤخذ منه العقوبة بالمال».
وانظر كتاب "الاعتصام " الباب الثامن منه، والمثال السادس.
وفي المسألة كلام كثير ، ينظر في "نيل الأوطار".
الضرب: ثبت في الصحيحين عن أبي بُرْدَةَ بن نِيَارٍ قال : كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول : «لا يُجْلَدُ فوقَ عَشْرِ جَلْدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٌ مِن حُدودِ اللَّهِ». وفي رواية للبخاري: «لا عقوبة فوق عشر ضَرْباتٍ إِلَّا فِي حَدٌ مِن حُدودِ الله». وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: كانوا يضربون على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلَّم إذا اشتروا طعاما جزافًا أن يبيعوه في مكانهم، حتى
يُؤوه إلى رحالهم. قال الحافظ ابن حجر : استفاد منه جواز تأديب من خالف الأمر الشرعي فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب ومشروعية إقامة المحتسب في الأسواق،
والضرب المذكور محمولٌ على من خالف الأمر بعد أن علم به» . اهـ وروى الطبراني في "الأوسط" من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا تعزير فوق عشرة أسواط».
الحبس: روى البيهقي في "السنن" من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي ليلى عن إسماعيل عن أبي مجلز: أنَّ أخوين من جهينة كان بينهما عبد، فأعتق أحدهما نصيبه، فحبسه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم حتى باع غنيمة له.
٢٤٤
الأدب والمتفرقات
عنه.
وفي "السنن" غير ابن ماجه من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حَبَسَ رَجُلًا في تهمةٍ ثُمَّ خَلَّى عن صححه الحاكم، وروى له شاهدًا من حديث أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حَبَسَ رَجُلًا في تهمة يومًا وليلة، استظهارا أو احتياطا. إسناده
ضعيف.
وروى الطبراني في "الأوسط" عن نُبَيِّشَةَ : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حَبَسَ في تهمة. وإسناده ضعيفُ أيضًا.
وروى عبدالرزاق في "المصنف : أخبرنا ابن جريج: أخبرني يحيي بن سعيد بن عراك بن مالك قال: أقبل رَجُلان من بني غِفَارٍ حَتَّى نَزَلَا مَنْزِلًا بضَجُنانَ مِن مياه المدينة، وعندها ناس من غَطفان . معهم ظهر لهم. فأصبح الغَطَفَانِيون وقد فقدوا بعيرين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين، فأتوا بهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وذكروا له أمرهم، فحبس أحد الغفاريين وقال للآخر: «اذهب فالتمس فلم يك إلا يسيرًا حتَّى جاء بهما. فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للمحبوس: «اسْتَغْفِرْ لي» فقال: غَفَرَ الله لك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: «ولكَ ، وقَتَلَكَ في سَبيلِهِ» قال: فقُتلَ يومَ اليامَةِ. وروى أبو داود في "سننه" عن أزهر بن عبدالله الحرازي: أنَّ قومًا سُرِقَ لهم متاع، فاتهموا أناسًا من الحاكة. فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم . فَحَبَسَهُم أيامًا ثُمَّ خلى سبيلهم. فأتوا النعمان فقالوا: خَلَّيتَ سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ . فقال النعمان: إن شئتم ضربتهم فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذتُ من ظهوركم مثله. فقالوا: هذا حكمك؟ قال: هذا
النفحة الذكية
٢٤٥
حكم الله ورسوله.
النفي: روى البخاري عن ابن عباس قال: لَعَنَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المُخَنَّثين من الرجال، والمترجّلات مِن النِّساء، وقال: «أَخْرِجُوهُم مِن بيوتكم» قال: فأخرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فلانًا، وأخرج عمر
فلانًا. ترجم عليه البخاري: «باب نفي أهل المعاصي والمخنثين». ورواه الطبراني، وتمام في "فوائده" من حديث واثلة بن الأسقع، وقال فيه:
وأخرج النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنْجَشَةَ.
وروى أبو داود في "سننه" عن أبي هريرة : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أُتي بمُخَنَّتٍ قد خَضَبَ يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ بالحناء. فقال: «ما بال هذا؟!» فقيل: يارسول الله يتشبّه بالنِّساء، فأقر. فنفي إلى النقيع. فقالوا: يا رسول الله ألا تقتله؟ فقال: «إنِّي نُهِيتُ عن قتلِ الْمُصَلِّين». و«النقيع» بالنون: مكان خارج المدينة، وفيه أُقيمت أول جمعة، واسمه نقيع
الخضيمات.
ونفى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الحكم بن أبي العاص إلى الطائف؛ لأنه كان يحكيه في مشيته ويُشيع سِرَّهُ. وقصته معروفةٌ في كتب السيرة، و" الاستيعاب" و"الإصابة".
وروى أبو الحسن المدايني في كتاب "المغربيين" عن مسلمة بن محارب،
عن إسماعيل ابن مسلم: أن أمية بن يزيد الأسدي، ومولى مزينة: كانا يحتكران الطعام بالمدينة فأخرجهما عمر.
وروى أيضا قصة جعدة السلمي: أنه كان يخرج مع النساء إلى البقيع
٢٤٦
الأدب والمتفرقات
ويتحدث إليهنَّ . حتى كتب بعض الغزاة إلى عمر، يشكو ذلك فأخرجه. وقصته مبسوطة في كتاب "الإصابة" للحافظ ابن حجر.
ومن أنواع التعزير ما رواه البغوي في "الجعديات" قال: حدثنا علي بن الجعد: ثنا شريك، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر قال: أُتي عمر بشاهد زور، فوقفه للناس يوما إلى الليل. يقول: هذا فلان شاهد زُورٍ، فاعرفوه، ثُمَّ حَبَسَهُ.
والتعزير موكول إلى الإمام يفعله هو أو من ينوب عنه، كالقاضي أو المحتسب، وليس لغيره أن يفعله مع أحد، إلَّا الوالد مع ولده والزوج مع امرأته. وللإمام أن يترك تعزير شخص إذا رأى مصلحته في ذلك. وعليه يحمل حديث: «أَقِيلُوا ذَوي الهيئاتِ عَشَرَاتِهِمْ وحديث: «تَجافُوا عن ذنبِ السَّخِي» على فرض ثبوتهما، لكنهما غير ثابتين، أما الحد فلا يجوز تركه بعد وصوله إلى الإمام؛ لأنه حَقٌّ الله تعالى.
فصل
وليس الهجر من التعزير في شيء، لما سبق بيانه في ذكر أسباب تحريمه. والذين جعلوه من أنواع التعزير المشروعة، واستدلوا لمشروعيته بقصة كعب وصاحبيه، مخطئون من جهتين:
إحداهما : غفلتهم عن كونه بدعةً شِركِيَّة، ومنابذته لروح التشريع الإسلامي، وأنه يؤدي إلى الحقد والعقوق وغيرهما من المفاسد، وأنَّ الله لم يأمرنا بهجر الكفَّار، ولا حرَّم علينا معاملتهم.
ثانيتهما: أنَّ قِصَّة كعب وصاحِبيه لا تفيد مُدَّعاهم؛ لأنها قضيَّة عَيْنٍ وحكاية
النفحة الذكية
حال لا تتجاوز موردها. كما تقرر في الأصول.
و بيان ذلك من وجوه
٢٤٧
1 - أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر كعبا وصاحِبيه، باعتزال نسائهم من غير طلاق، ونحن نعلم أنه لا يجوز التعزير بذلك لإمام أو خليفة. فهو مما خَصَّصَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أولئك الثلاثة.
٢ - أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم نهى عن كلامهم بعد صِدْقِهِمْ وندمهم هم (١) والصدقُ دليل التوبة. وهذا نقيض ما يدعيه القائلون بمشروعية الهجر، فإنهم لا يختلفون أنه ينتهي بالتوبة ولو كان الحديث عاما لزم هجر العاصي بعد توبته، وهو باطل، إذن فالهجر خاص بأولئك الثلاثة لا يتعداهم. - أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لكعب حين أخبره بحقيقة
(۱) ذكر النووي أنَّ المبتدع ومن اقترف ذنبًا عظيما ولم يتب منه لا يُسلَّم عليهم... إلخ. قال الحافظ ابن حجر: التقييد بعدم التوبة جيد، لكن في الاستدلال لذلك بقصة كعب نظر؛ فإنه نَدِمَ على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته ألا يُكلَّم حتى تقبل توبته. ويمكن الجواب بأن الاطلاع على القبول في ، كان ممكنا وأمَّا بعده، فيكفي ظهور علامته من الندم والإقلاع وأمارة
قصة كعب .
صدق ذلك» . اهـ
قلت: تنبه الحافظ إلى أنَّ هجر كعب كان بعد توبته، ونظر في الاستدلال به لهجر المبتدع أو العاصي قبل التوبة، وهذا صحيح، لكن ما أجاب به ضعيف أو باطل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ضَمَّ إلى هجر كعب وصاحبيه، أمرهم باعتزال نسائهم، وهذا أمر لم يفعله مع غيرهم قط. فالقصة خاصة بأصحابها، من غير نزاع.
٢٤٨
الأدب والمتفرقات
تخلفه: «أما هذا فقد صَدَقَ، فقُمْ حَتَّى يَقْضِي الله فيك» وكذلك قال لصاحبيه، وهذا صريح في أنَّ هجرهم كان ينتظر به قبول توبتهم من الله تعالى بوحي ينزل عليه، فانتظار قبول التوبة دليل قاطع على الخصوصية؛ إذ لا يجوز لأحد أن
يهجر عاصيا بعد توبته حتى يتيقن قبولها من الله تعالى.
- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل توبة حاطب بن أبي بلتعة حين تجسس عليه، وأخبر أنه صَدَقَ فيها اعتذر به، وأنه من أهل بدر، ولم يهجره، وأرجأ قبول توبة مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وهما بدريان، مع أنَّ التخلف أهون من التجسس وذلك دليل على أنَّ الحكّم خاص بهم لا يجوز تعديته إلى غيرهم.
-0
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه عصاة ومخالفون،
فيرشدهم إلى التوبة ويستغفر لهم. وأخبر في غير حديث: «أَنَّ التوبة تمحو الذَّنْبَ، وتَصْقُلُ القَلْبَ».
و لم يوقف توبة أحدٍ حتَّى ينزل الوحي بقبولها كما فعل مع هؤلاء الثلاثة،
فذاك دليل قاطع على الخصوصية.
و لعل سائلا يسأل عن حِكْمَةِ تخصيصهم بهذا الحكم؟
والجواب: أنَّ تخلفهم عن الغزو صادف تخلف المنافقين مَرْضَى القلوب، قال كعب يحكي قصة تخلفه: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فطفت فيهم أحزنني أنني لا أرى إلا
رجلًا مَغْمُوصًا عليه النّفاق، أو رجلًا من عَذَرَ اللهُ مِن الضعفاء».
فلو أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل توبتهم واستغفر لهم كما فعل
مع . المنافقين ساء ظنُّ المسلمين بهم، واعتبروهم من جملة المغموص عليهم،
النفحة الذكية
٢٤٩
يؤيد ذلك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سأل وهو في تبوك عن كعب،
فقال له بعض الصحابة شغله النظر في عطفيه.
فكان من مصلحتهم ما فعله النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بهم مع ما فيه من امتحان لإيمانهم - حتَّى نزل فيهم قرآن يُتْلَى، أعلن قبول توبتهم وأخبر عن صدق مقالهم وحالهم، ووصف من اعتذروا كذبًا بأنهم رجس وأنهم فاسقون، وكان ذلك من أكبر نعم الله عليهم بعد الإسلام كما قال كعب رضي الله عنه. والحاصل: أنْ قِصَّة كعب وصاحِبَيهِ تدل بألفاظها وسياقها والظروف المحيطة بها على أنها قضية عين لا شائبة للعموم فيها.
فالعجب من الذين اقتطعوا منها حكاية الهجر وأغفلوا بقيتها كيف ساغ
لهم ذلك؟ وعلى أي أصل بنوه؟!
و لطالما نعى ابن حزم على الذين يستدلون ببعض الحديث فيما يوافقهم ويتركون بعضه الآخر، وهو محق في ذلك وقواعد الاستدلال تؤيده.
فصل
روى الدارمي عن سليمان بن يسار أنَّ رجلا يقال له صَبيعٌ قَدِمَ المدينة، فجعل يتساءل عن متشابه القرآن؟ فأرسل إليه عمر رضي الله عنه، وقد أعد له عَرَاجِينَ النَّخْلِ. فقال: مَن أنتَ؟ قال: أنا عبدالله صَبيعٌ. فأخذ عُرْجُونًا مِن تلك العراجين فضربه حتَّى دَمِي رأسُهُ، ثُمَّ تركه حتَّى بَرَأَ ثُمَّ عادَ، ثُمَّ تركه حتَّى بَرَأ، فدعا به ليعود. فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا. فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري باليمن: لا يجالسه أحد من المسلمين. وروى أيضا عن نافع أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه صلح حاله، فعفا
٢٥٠
عنه.
الأدب والمتفرقات
وقال أبو أحمد العسكري: اتهمه عمر برأي الخوارج. وروى إسماعيل القاضى في "الأحكام" من طريق هشام، عن محمد بن
سيرين، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: لا تجالس صبيعًا واحرمه عطاءه. أفاد هذا الأثر أنَّ . عمر رضي الله عنه عزّر صبيعا بالضرب والنفي والمقاطعة؛ لأنه رأى بنظره النافذ - وهو الملهم- أنَّ هذا أقرب طريق لتوبة صبيغ، وكذلك كان، فقد تاب وحسنت حالته. ولم ينقل عنه: أنه أمر بمقاطعة شخص غير صبيغ، وإنما كان يستعمل التوبيخ أو الدرة أو النفي. وكان من مذهبه ومذهب أبي الدرداء وإبراهيم
النخعي وجماعته أنهم لا يهجرون عند الذنب.
فاستعمال عمر للهجر في هذه الحادثة وحدها لا يدل على أنه مشروع عنده
ولكن الظروف اقتضته، فهو كأكل الميتة للمضطر.
و كان عمر رضي الله عنه عظيمًا في عيون الرعية مهابا في صدورهم يحترمون كلمته ويخشون سطوته، فإذا هجر أو أمر بهجرٍ كان أشد على المهجور من ضرب الجريد والحديد، ومع ذلك لم يستعمله إلا مرة واحدة على سبيل الترخص لا المشروعية المطلقة.
وليس لإمام أو قاضي أن يأمر أحدا بهجر عاص أو مبتدع، ولو أمر به لا يُطاع؛ لأن الهجر كبيرة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
النفحة الذكية
فصل
٢٥١
تصيد وهابي متزمت أحاديث توهم أنها تفيد مشروعية الهجر الدائم، وهو مخطئ في ذلك بل خاطئ آثم؛ لأنه حمل الأحاديث مالا تحتمله، ونسب ما لا
تدل عليه.
و تلك الأحاديث نوعان:
۱ - فعل نُسب إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مثل ما روى ابن أبي شيبة عن الزهري: أنَّ رجلا سلَّم على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثلاث
مرات فلم يرد عليه فقيل له: لم؟ فقال: «إنه ذو وجهين». حديث ضعيفٌ مرسلٌ مُنكَر المعنى؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
كان يرد السلام على المنافقين، وهم ذووا وجهين.
فهذا الحديث ونحوه، مما فيه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ترك رَدَّ السلام على شخص أو لم يُكَلِّمه خاص به صلَّى الله عليه وآله وسلم، لما سبق
بيانه في نقد كلام أبي داود رحمه الله.
هي
ثُمَّ إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه هجر شخصا مدةً كبيرة. ٢ - أحاديث قولية، وليس فيها حديث يفيد شرعية الهجر على الدوام، وإنما ظواهر وعمومات انتزع المتزمتُ منها ما يريد بطريق اللزوم البعيد، ولكنه أن تلك الظواهر والعمومات مردودة بصراحة الأحاديث الدالة على
لا يدري
تحريم
الهجر تحريمها باتا والقاعدة المقرّرة: «أنَّ النص يُقدَّم على الظاهر،
ويُخصص العموم».
٢٥٢
الأدب والمتفرقات
و حديث: «إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ مجوسًا، وإنَّ مجوس هذه الأُمَّةِ القَدَريَّة، فلا تَعُودُوهم إذا مَرِضُوا، ولا تُصَلُّوا عليهم إذا ماتوا» ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" ، واعترض عليه بأنَّ للحديث طرقا يرتقي بها إلى الحسن الجيد. و رواه أبو داود من حديث ابن عمر بلفظ : «القَدَريَّةُ تجوس هذه الأُمَّةِ، إن مَرِضُوا فَلا تَعُودُوهُمْ، وإن ماتوا فلا تَشْهَدُوهُمْ». و أعله الحافظ المنذري بالانقطاع ، لكن نقل الحافظ ابن حجرٍ أ أنَّ الحافظ
ابن
القطان، قال: «هو صحيح على شرط مسلم». و رواه أبو داود عن حذيفة بلفظ : «لكلِّ أُمَّةٍ مجوس، ومجوس هذه الأُمَّةِ الذين يقولون: لا قَدَرَ، مَن مات منهم فلا تَشْهَدُوا جَنازَتَهُ، وَمَن مَرِضَ منهم
فلا تَعُودُوهُ، وهم شيعةُ الدَّجَّالِ، وحَقٌّ على اللَّه أَن يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ». و في "صحيح مسلم" و "السنن الأربعة" عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القَدَر بالبصرة مَعْبَدٌ الجهني. فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن حاجَّيْنِ أو مُعتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القَدَرِ؟ فوفق الله لنا عبدالله بن داخلا في المسجد، فقلتُ: يا أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن، ويَتَقَفَّرون العِلْمَ يزعمون ألَّا قَدَرَ وأَنَّ الأمرَ أُنْفُ. فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وهم براء مِنِّي... ثُمَّ روى عن أبيه حديث
عمر
جبريل الطويل في السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان.
و فيه جعل الإيمان بالقدر جزءا في الإيمان.
النفحة الذكية
٢٥٣
أنف» بضمتين: مستأنفٌ، لم يسبق به قَدَرٌ ولا عَلَّمٌ من الله به، ولا يعلمه
إلا بعد وقوعه. تبين بهذه الروايات والطرق أنَّ القَدَرِيَّة الذين نهانا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن نُصلّي على موتاهم وأن نعود مرضاهم كفار خارجون عن الإسلام؛ لأنهم نفوا القَدَرَ وهو جزء من الإيمان، ونسبوا الجهل إلى الله تعالى عن ذلك عُلُوا كبيرًا.
فحمل الحديث على المبتدعة المسلمين يؤكّد ما قدمنا أنَّ المتزمت يحمل
الأحاديث ما لا تحتمله وينسب إليها ما لا تدل عليه. و لعله يجهل ما هو معلوم من الدين بالضرورة من وجوب الصلاة على الميت المسلم كيفما كان حاله، ولا يجوز دفنه حتى يُصَلَّى عليه، لعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صَلُّوا على صاحبكم». والمسلم صاحب للمسلمين
وأخوهم. وروى عبدالرازق وابن أبي شيبة عن عمرو ابن يحيي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم على ولد الزنا، وأُمه ماتت في نفاسها. ورواه الطبراني في " المعجم الكبير" من حديث ابن عمر.
و روی عبدالرزاق عن محمد بن زهير، والطبراني عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن جده: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مَرَّ على بئر فيها عبد أسود ميت، فأشرف على البئر، فإذا هو ملقى فيها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «ماله مُلقى في البئر؟» قالوا: يا رسول الله أنه كان جافي الدين
٢٥٤
الأدب والمتفرقات
يُصَلِّي أحيانًا، وأحيانًا لا يُصَلّي. فقال: ويحكم أخرجوه». فأمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فغُسل وكُفّن، وقال: «احْمِلُوهُ إن كادت الملائكة لتَسْبِقُنا» قال: وصَلَّى عليه. رواية الطبراني.
ورواية عبد الرازق: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ إن كادت الملائكة تحول بيني وبينه
آنفًا»، ثُمَّ أمر به فغُسل، ثُمَّ كَفَّنه من عنده، ثُمَّ صلى عليه.
قال ابن مسعودٍ: صَلِّ على مَن ماتَ مِن أهل قِبْلَتِنا وإن كان مَصْلُوبًا. وقال عطاء: لا أدع الصلاة على من قال: لا إله إلا الله. قال تعالى : ومِن بعْدِ ما تبين هُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: ١١٣] قال عطاء: فمن يعلم أنَّ هؤلاء - يعني العصاة- من أصحاب الجحيم؟
قال ابن جريج: فسألت عمرو بن دينار، فقال مثل قول عطاء. وقال عطاء بن أبي رباح ما كنتُ لأدع الصلاة على أحدٍ مِن أهل القِبْلَةِ، ولو كانت حبشية حُبْلَى مِن الزِّنا؛ لأن الله لم يحجب الصلاة إلا عن المشركين. وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة. وقال قتادة: ما أعلم أحدًا من أهل العِلم اجتنب الصلاة على من قال: لا إله إلا الله.
وقال ابن سيرين ما أدركتُ أحدًا يتأنَّم من الصلاة على أحد من أهل
القبلة. والآثار في هذا كثيرة تفيد إجماع الصحابة والتابعين على ذلك. وروى الحاكم عن أبي بردة قال: كنت جالسا عند عبيد الله بن زياد، فأُتي برؤوس الخوارج، كلما جاء رأس قلت إلى النَّار. فقال عبدالله بن يزيد
النفحة الذكية
٢٥٥
الأنصاري: أولا تعلم يا بن أخي أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: «إِنَّ عَذَابَ هذه الأُمَّةِ جُعِلَ فِي دُنْيَاهَا».
صححه الحاكم، وسلَّمه الذهبي.
و روى أبو يعلى بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتَّى سمعنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ به ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمن يشاء» وقال: «إنِّي ادَّخَرْتُ دَعْوَتِي شفاعةٌ لأهل الكبائرِ مِن أُمتي» فأمسكنا عن كثير مما كان في
أنفسنا ثُمَّ نطقنا بعد – يعني بالاستغفار - ورجونا.
وصح عن الشَّعبي: أنه قال في رجل قتل نَفْسَه: ما مات فيكم منذ كذا
وكذا، أحوج إلى استغفاركم منه.
و قال ابن حزم: ولقد خوفنا عزّ وجل، حتى نقول: قد هلكنا، إلَّا أننا على يقين من ألَّا خلود على مسلم في النَّارِ وإن لم يفعل خيرا قط غير شهادة الإسلام بقلبه ولسانه، ولا امتنع من شر قط غير الكفر ، ولعله قد تاب من هذه صفته قبل موته، فسبق المجتهدين. أو لعل له حسنات لا نعلمها تغمر سيئاته، فمن صلى على من هذه صفته أو على ظالم للمسلمين متبلّغ فيهم، أو على من له قبله مظالم لا يريد أن يغفرها له، فليدع له كما يدعو لغيره، وهو يريد بالمغفرة والرحمة ما يؤول إليه أمره بعد القصاص» . اهـ، وهذا مذهب أهل السُّنَّة جميعًا.
«لقد ربّانا الله تعالى في العفو والجنَّة، حتى نقول: فزنا،
و يحكى عن الفقيه سيدي علي بن ريسون أنه حضر جنازة رجل مسرف على نفسه، ورأى بعض الفقهاء المتزمتين امتنع من الصلاة عليه وذكر قول
٢٥٦
الأدب والمتفرقات
صاحب "المختصر": وصلى عليه غير فاضل». فقال سيدي علي: أنا غير
فاضل، وتقدم فصلى عليه.
و مات جارٌ لنا كان لا يُصَلِّي، فصلى عليه مولانا الإمام الوالد رحمه الله ورضي عنه (۱)
و قول المالكية: إنَّ الميت العاصي أو المحدود لا يُصلّي عليه أفاضل الناس خطأ لا دليل عليه، بل العاصي أحق بصلاة الفضلاء عليه وشفاعتهم فيه، وقد ادَّخَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شفاعته للخاطئين المتلوثين من أُمته، كما
صح في الحديث، وقال: «مَن اسْتَطَاعَ مِنكُمْ أَن يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ». و أي نفع أعظم من شفاعة المسلم في أخيه العاصي بصلاته عليه ودعائه
له ؟!.
نعم
كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا يُصَلِّي على المدين - في أول الأمر - حفظاً لحق الدائن. ولما فتح الله عليه بالفتوحات والغنائم والفيء ونشأ بيت المال، قال: «مَن تَرَكَ مالا فلوَرَثَتشهِ ومَن تَرَكَ دَيْنًا فَعَليَّ» وصلَّى على المدين
(۱) ومن بدع هذا الوهابي أنه كان صديق شخص اسمه علال الأزعر رحمه الله، وكان يهاديه ويتحفه، وبلغ من صداقته له أن احتفل مرة بليلة المولد في منزله. وكان يحلق لحيته، فلم يهجره، بل ظل صديقا له، ولما مات امتنع من الصلاة عليه، واحتج بأنه كان يحلق لحيته، فهل في التلاعب باسم الدين أعجب من هذا؟!!
ومن تلاعباته أنه مكث يُصلّي الجماعة والجمعة في زاويتنا الصديقية مدة عشرين سنة أو تزيد، ولما خرج منها حين عدت من مصر، صار يفتي الناس بأن الصلاة فيها باطلة؛ لأجل ما فيها من القبور !!
النفحة الذكية
وأدى دينه.
٢٥٧
و أما حديث: «مَن أحبَّ الله، وأَبْغَضَ الله، وأَعْطَى اللَّهِ، وَمَنَعَ الله فقد اسْتَكْمَلَ الإيمان». رواه أبو داود من حديث أبي أمامة.
فهو وارد على الوهَّابِيُّ المُتزَمّت؛ لأنه ينطبق أولا وبالذات على اليهود والنصارى وهو لم يهجرهم، ولا حتَّ أولاده وأصحابه على هجرهم. بل قال: إنَّ جيرة اليهود أفضل من جيرة المسلمين.
فإن زعم أنه يبغضهم بقلبه، وذلك كافٍ في الامتثال
قيل له: فلم لم تكتف ببغض قلبك لإخوتك وتلامذة والدك رحمه الله ورضي عنه، وأفرطت في بغضهم حتى حذرت أولادك وأصحابك من
مكالمتهم؟! فإن زعم أنهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى، كما قال في كتاب بعث به إلى ما هذا لفظه: «إنّي أعتقد أنك أضر على المسلمين من اليهود
والنصارى».
قيل له: هذا كفرٌ صُراح؛ لأنه يناقض ما عُلِمَ مِن الدِّين بالضرورة أنَّ الكفر أقبح المعاصي على الإطلاق، وأنه لا كبيرة ولا بدعة توازيه في القبح والضرر، فضلا عن أن تكون أضر منه، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من قال لأخيه كافر ولم يكن كذلك حَارَتْ عليه فما ظنك بمن يقول لأخيه: أنت أضر على المسلمين من الكفار. لا شك أن قائل هذا أولى بالكفر؛ لأنه استهون الكفر الذي جعله الله أقبح
المعاصي بلا استثناء.
٢٥٨
الأدب والمتفرقات
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": «وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعًا، ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما، لكونهما من أ أهل التوحيد في الجملة. و أجاب ابن بطال : بأنَّ الله أحكاما فيها مصالح للعباد، وهو أعلم بشأنها، وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يُعقل معناه، وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان
فهجران الكافر بالقلب وبترك التودُّد والتناصر لا سيما إذا كان حربيًّا، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبًا. ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية كلامه بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . اهـ كلام
الحافظ.
و الإشكال وارد على من زعم مشروعية الهجر، وجواب ابن بطال عنه بأنه الهجر تعبد، جواب باطل مردودٌ؛ لأنَّ الهجر على فرض مشروعيته، عقوبة يراد
بها الزجر والردع فهو معقول المعنى، ولأجل أنَّ الكافر لا يرتدع بالهجر، لم يشرع في حقه باتفاق.
و الجواب الذي نقله الحافظ أخيرًا هو الصحيح، ويُعلم منه أنَّ العاصي أو المبتدع إذا كان لا ينزجر بالهجر، فإنه لا يشرع في حقه، لانعدام ثمرته وفائدته. أنَّ الحافظ صرَّح بأن العاصي أو المبتدع المهجور، يشرع الكلام معه
على
بدعوته إلى الطاعة، ونهيه عن المعصية؛ لأن النصيحة واجبة، والهجر جائز باتفاق القائلين بمشروعيته ولا يجوز ترك واجب لأجل جائز.
النفحة الذكية
٢٥٩
و ليما رواه أبو داود عن عمار بن ياسر قال: قدمت على أهلي وقد تشققت يداي، فخَلَّقوني بزعفران. فغدوتُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلَّمْتُ عليه فلم يردَّ عليَّ وقال : اذهب فاغْسِلْ هذا عنك». فالنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع إعراضه عن عمار نَصَحَهُ بإزالة ما أعرض عنه لأجله. و حديث عبد الله بن عمرو قال : مَرَّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم رَجُلٌ عليه ثوبان أحمران، فسلَّم فلم يرد عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم . رواه أبو داود والترمذي. وهو حديث ضعيف؛ في سنده أبو يحيى القتات، قال المنذري : «كوفي لا يحتج بحديثه». وقال الحافظ ابن حجر: «حديث
ضعيف الإسناد، وإن وقع في بعض نسخ الترمذي أنه حديث حسن». اهـ و على فرض ثبوته فهو خاص بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما بَيَّنَّا مِن القاعدة المقررة في تعارض قوله وفعله. و الخلاصة: أنه لا يوجد دليل من الكتاب أو السُّنَّة الصحيحة يفيد جواز هجر العاصي أو المبتدع، وإنما يوجد الحديث المتواتر الذي يفيد أن الهجر كبيرة يوجب دخول النار، وأنه لا يجوز إلا لمدة ثلاثة أيام، على سبيل الرخصة، سواء أكان للدين أم للدنيا. و يوجد أيضًا القرآن والحديث المتواتر، يوجبان ردَّ السلام من غير فرق
بين صالح وعاص، ولا بين سُنَّيٌّ ومُبتدع. و لا يجوز تخصيصهما بقول صحابي، أو اجتهاد عالم، كما تقرر في علم الأصول، بل كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يردُّ السلام على المنافقين والكفّار، فهل العاصي والمبتدع أقبح شأنا منهم؟!
٢٦٠
الأدب والمتفرقات
وهذه مسائل تؤكد ما قدَّمناه من تحريم الهجر في الإسلام تحريما قاطعا، وتبين خطيئة مَن زَعَمَ مشروعيته :
۱- قال الله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيره ﴾ [النساء: ١٤٠] وهذه الآية تشير إلى قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ايْلِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ [الأنعام: ٦٨].
أفادت الآيتان النهي عن مجالسة الكفار وقت استهزائهم بآيات الله وكفرهم بها، حتى إذا خاضوا في حديث غير ذلك جازت مجالستهم، ولم يأمر بهجرهم على الدوام. فكيف يزعم زاعم أنَّ هجر العاصي أو المبتدع مشروع؟! تالله إنَّ هذا لكذب على الله تعالى، وتحريف لأحكام شريعته.
۲- قال القرافي في "الفروق" في الفرق بين قاعدة التفضيل بين المعلومات النصية: «القاعدة الثالثة: التفضيل بطاعة الله تعالى، وله مثل: أحدها: تفضيل
المؤمن على الكافر، ثانيها : تفضيل أهل الكتاب على عَبَدة الأوثان
فأحل الله عزّ وجلَّ طعامهم، وأباح تزويجنا نساءهم دون عبدة الأوثان، فإنه جعل ما ذَكُوه كالميتة، وتصرفهم فيه بالذكاة كتصرف الحيوان البهيمي من السباع والكواسر في الأنعام، لا أثر لذلك.
وجعل نسائهم كإناث الخيل والحمير محرّمات الوطء، كل ذلك اهتضام لهم الجحدهم الرسائل والرسل. وأهل الكتاب عَظُموا الرُّسل والرسائل من حيث الجملة فقالوا بصحة نبوة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء صلوات الله
النفحة الذكية
٢٦١
وسلامه عليهم، وبصحة التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب فحصل لهم هذا النوع من التعظيم والتمييز بحل طعامهم ونسائهم فجعل ذكاتهم كذكاتنا ونسائهم كنسائنا. ولم يلحقهم بالبهائم بخلاف المجوس ونحوهم، لما حصل لأهل الكتاب من الطاعة من حيث الجملة وإن كانت لا تفيد في الآخرة إلا تخفيف العذاب أما في ترك الخلود فلا» . اهـ
وإذا كانت نهاية تفضيل أهل الكتاب مساواة ذكاتهم لذكاتنا ونسائهم لنسائنا، وهو تفضيل جزئي، فكيف يصح لمتنطع أن يجعل العاصي أو المبتدع أحطّ قَدْرًا منهم فيوجب هجره إلى الأبد، مع أنه مُسلِم، والمسلم أفضل من الكافر بالنص والإجماع ؟ تالله إنَّ هذا لكذب على الله تعالى، وتحريف لأحكام
شريعته. - أوجب الله تعالى قتال المشركين عامَّةً، حتَّى يُسْلِموا فقال سبحانه: فإذا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوَةَ وَمَاتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُوا سبيلهم } [التوبة: ٥].
و قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أُمِرْتُ أَن أُقاتِل النَّاسَ حتَّى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وأموالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّها، وحِسابُهُمْ
على الله». رواه الشيخان، وهو حديث متواتر.
و خَص منهم أهل الكتاب فأجاز ترك قتالهم إذا دَفَعُوا الجزية ودخلوا في ذمتنا، وأباح أكل ذكاتهم وزواجنا بنسائهم قال تعالى: قَيلُوا اللَّذِينَ لَا
٢٦٢
الأدب والمتفرقات
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغَرُونَ
[التوبة: ٢٩].
و قال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ
إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَفِحِينَ ﴾ [المائدة: ٥].
في الآيتين تصريح بالعلة، وهي كونهم أوتوا الكتاب، ومعنى هذه العلة أنَّ الله تعالى خَصَّ اليهود والنصارى بتلك الأحكام احتراما لكتابه الذي أنزله عليهم، وإن كانوا قد حرَّفُوه.
و العاصي أو المبتدع أحق بالاحترام وأولى به؛ لأنه من أهل القرآن ومن أشرف الأمم، فكيف يصح لمتنطع أن يجعله أحطَّ قَدْرًا، وأبخس حَظًّا فيوجب
هجره على الدوام؟! لقد كذب على الله تعالى، وحَرَّف حُكْمَ شريعته.
- إذا صاحب مسلمٌ صالح عاصيّا أو مُبتدِعا ومال إليه حتى مات على معصيته أو بدعته، فإنه يموت مسلما يُصَلَّى عليه، وتُرجَى له المغفرة كما تُرجَى
للمسلمين. كان عمران بن حطان - بكسر الحاء وتشديد الطاء- من أهل السُّنَّة وتزوَّجَ خارجية ليردها إلى السُّنَّة، فغلبته على رأيه وانقلب خارجيا مثلها أو أشد ومات على ذلك، فلم يخرج من حظيرة الإسلام. واستمر أهل الحديث على رواية أحاديثه، كالبخاري وغيره.
النفحة الذكية
٢٦٣
وفي علماء المسلمين مُبتدعة كثيرون كعمرو (۱) بن عبيد وعكرمة وواصل بن
عطاء وأبي عبيدة والرماني والجبائي والزمخشري والماوردي والجوزجاني والهروي وابن تيمية وغيرهم. ولهم تصانيف في التفسير والحديث والأصول والفقه، وغيرها من العلوم الإسلامية، ومنهم من كان مضرب المثل في الزهد والورع مع ابتداعه، وكان الإمام زيد بن عليّ إمام الزيدية معتزليا في العقيدة، وأهل مذهبه باليمن معتزلةٌ، لا يعرفون عقيدةً غير الاعتزال، أخبرني بذلك
القاضی عبد الله بن عبدالكريم الجرافيُّ الصَّنْعَانِيُّ حينما كان يُصحح معي : " البحر الزخار" في فقه الزيدية.
کتاب
و إمارة عُمان - بضم العين وتخفيف الميم - على مذاهب الخوارج الإباضية، وفي ليبيا وتونس والجزائر طائفةٌ كبيرةٌ من الإباضية أيضًا، رأيتهم بمصر وجالستهم، وكان أحد علمائهم عضوًا معنا في جمعية الهداية الإسلامية، وكثيرا ما صلينا خلفه وقرأتُ من كتبهم "مسند" الربيع بن حبيب"، و"قناطر
الخيرات".
ودولة إيران الإسلامية على مذهب الإمامية وهم شيعة متطرفة، وكذلك أهل النَّجَفِ بالعراق ومن علمائهم العلامة السيد هبة الله الحسيني رحمه الله
كان شيخ علماء النَّجَف. كاتبته وأنا بمصر واستجزته فأجاز لي. و في الهند أيضًا شيعة إمامية ولم يقل أحدٌ من العلماء بهجر هؤلاء المبتدعة
(۱) كان عمرو بن عبيد سنيّا من أصحاب الحسن البصري، اشتهر بصحبته ثُمَّ اتصل به واصل بن عطاء، وأزاله عن مذهبه فصار معتزليا جلدا داعية.
٢٦٤
الأدب والمتفرقات
ومقاطعتهم؛ لأن الهجر ليس من الدين.
و أخبرني أحد الجزائريين بالأزهر أنَّ بعض الإباضيين عندهم طلبوا من الحاكم الفرنسي أن يُخصِّصَ لهم قطعة أرض لدفن موتاهم، فأجابهم إجابة حكيمة، قال لهم: إن كنتم مسلمين فادفنوا في مقابرهم، وإن كنتم نصارى فادفنوا في مقابرنا، ولم يعطهم قطعة الأرض.
والحاصل : أنَّ المبتدع أو العاصي مسلم، معاشرته لا تخرج عن الإسلام. أما إذا صاحب مسلم كتابيًا وأحبَّه ومال إلى دينه ومات على ذلك، فإنه يموت كافرًا والعياذ بالله تعالى، ولاحظ له في رحمة الله ولا في شفاعة نبيه إِنَّ الله لَعَنَ الكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٢) خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥] فكيف يزعم متنطع وجوب هجر العاصي أو المبتدع ومصاحبته لا تخرج المسلم من دينه، ولا يهجر الكتابي مع أنَّ معاشرته تفضي إلى الردة؟! لقد كذب على الله، وحَرَّف حُكْمَ شريعته.
ه - أباح الله للمسلمين زواج الكتابيات ولم يشترط على المسلم أن يهجر زوجته الكتابية ويُقاطعها، بل جعل لها من الحقوق مثل ما للزوجة المسلمة في وجوب الإنفاق عليها ومعاشرتها بالحسنى، وعدم الإضرار بها مع أن بغض الكفار واجب فرض، خصوصا اليهود لعنهم الله.
فكيف يصح لتنطع بـ بعد هذا أن يزعم وجوب هجر العاصي والمبتدع على
الدوام؟! لقد كذب على الله تعالى وحَرَّف حُكْمَ شريعته.
٦- إباحة الزواج بالكتابية معناه إدخال المسلم في بيته باختياره زوجةً
النفحة الذكية
٢٦٥
يهودية أو نصرانيةً ويواكلها ويُحاملها، ولا يجب عليه أن يدعوها للإسلام بل لا يجوز له أن يضطرها إليه بوعيد أو تهديد، ويستتبع زواجه بها أن يستقبل أقاربها الكفار في بيته إذا زاروها ولا يمنعها من مباشرة طقوس دينها في بيته. فهل هذا أخف قبحا من معصية المسلم أو بدعته ؟! لا يمكن أن يقول هذا مسلم؛ لأنه كفر صراح، إذن فكيف يصح المتنطع أن يزعم وجوب الهجر للعاصي أو المبتدع على الدوام؟! لقد كذب على الله تعالى، وحَرَّفَ حُكْمَ شريعته. إباحة زواج المسلم بالكتابية يؤول به أو بأولاده منها إلى الكفر، فقد تزوج كثير من المسلمين بنصرانيات، واتفقوا معهنَّ على أن تكون بنته منها تتبع أُمها في دينها وهذا كفر، وفي أسبانيا الآن بنات متنصرات مع أمهاتهنَّ وكان
آباؤهم مسلمين بطنجة وغيرها.
و من الناس من يتساهل مع زوجته النصرانية فيسمح لأولاده أن يكونوا على دينها ذكورًا أو إناثًا، ومنهم من يترك دينه إلى دين زوجته لحبه لها، ومنهم من تهرب زوجته إلى بلدها ومعها أولاده منها، فتنشئهم على دينها، ومنهم من
يموت ويترك أولاده صغارًا مع زوجته النصرانية فتربيهم على دينها. هذا كله حاصل ،واقع كتبت عنه الجرائد والمجلات، وصار معلوما
بالضرورة بحيث لا يمكن إنكاره.
و إذا كان الشارع أباح زواج الكتابية مع ما فيه من الخطر العظيم، فكيف يصح لمتنطع أن يزعم وجوب هجر العاصي أو المبتدع دائما خوفًا من معصيته أو بدعته ؟ ! لقد كذب على الله وحَرَّفَ حُكْمَ شريعته.
٢٦٦
الأدب والمتفرقات
- قال الله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: ١٤] هذه الآية مدنية، وهي نَضٌ في موضوعنا أَعْلَمَ الله المؤمنين فيها بأنَّ مِن أزواجهم وأولادهم عدوا لهم، وهي عداوة دينية، ولم يقل فاهجروهم ولا فصار موهم وإنما قال: ﴿فَاحْذَرُوهُمْ } والحذر إنما يكون مع المخالطة والمعاشرة كما هو معلوم.
وقوله تعالى: وَإِن تَعفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ [التغابن: ١٤] نزل يُرغب في العفو رجالًا من الصحابة حلفوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم الذين تبطوهم عن الهجرة، حتى فاتهم خير كثير. ومعنى فَاحْذَرُوهُمْ أي لا تطيعوهم فيما يُنبطُكم عن الدين. فالآية حُجَّةٌ قاطعةٌ تدمع المتنطّعَ الذي يحضُ أصحابه على عقوق آباءهم
وأمهاتهم، وقطيعة أرحامهم، بدعوى أنهم مبتدعة.
لقد كذب على الله تعالى وحَرَّفَ حُكْمَ شريعته.
۹ - روى الطبراني عن طلحة بن البراء: أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: ابسُطُ يدك أبايعك. قال: «علام؟» قلت: على الإسلام. قال: وإِن أَمَرْتُكَ بقَطِيعَةِ َوالِدَيْكَ؟ قلت: لا. ثُمَّ عدتُ له فقال مثل قوله، قلت: لا . ثُمَّ عدتُ الثالثة فقال مثل قوله، قلت: نعم. فقال: «يا طلحة، إنه ليس في
ديننا قطيعة الرحم، ولكن أحببتُ ألا يكون في دينك ريبة (۱). قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنه ليس في ديننا قطيعةُ الرَّحِمِ»
(۱) حدیث حسن
النفحة الذكية
٢٦٧
سالبة كلية، تنفي مشروعية قطعية الرَّحِمِ في دين الإسلام، فمن زَعَمَ شرعيَّة
مقاطعة مبتدع أو عاص، فقد كذب على الله تعالى وحَرَّف حُكْمَ شريعته. و روى أبو حاتم الرازي والطبراني عن كَرْدَمَ ابن قيس قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: نذرت لأنحرنَّ ذُودًا بمكان كذا وكذا، فقال: «هل فيه عيد من أعياد الجاهلية؟ أو قطيعة رَحِمٍ ؟ أو ما لا يملك؟ قلت: لا، فقال: «أُوفِ بِنَذْرِكَ» ثُمَّ قال: «لا نَذْرَ في قطيعةِ رَحِمٍ ولا فيما لا يَمْلِكُ ابن آدم».
الحقيقة أنَّ المتنطع اتخذ الهجر وسيلة لتحقيق غرض شخصي بحت. ذلك أنه مريض بحب الرياسة والجاه، وهذا المرض تمكن فيه بسبب زهوه وإعجابه بنفسه، ونشأ له عن هذا وذاك بغضه الشديد لمن يخطئه في رأي، أو يعارضه في قول. وكان أخوته يعارضونه في كثير من المسائل لكثرة غلطه، فيتألم ويغضب ويثور ) وكان يتحامى الاجتماع بهم في مجلس عام، وإذا استدعي إلى
(1)
(۱) حكى لي بعض الأخوة أن تذاكر معه مرة في مسألة من الزكاة، وكانا يمشيان في طريق الجبل بطنجة على سبيل الفسحة، قال ولما رددت عليه بعض قوله. توقف فجأة، واتجه إليَّ في غضب ظاهر، وحلف بالله إني إن عدت أناقشه، فإنه لا يكلمني، فتملكني الغضب وقلت له: لا تحلف عليَّ واحلف على أهل دارك. ونحن نتكلم في مسألة علمية، وأناقشك بالدليل، فإن كان عندك جواب عنه فاذكره وإلا فاسكت وأعجب من هذا أن الأخ سيدي حسنًا أخبرني أنه كان يدرس عليه وعلى الأخر الأكبر في علمين، وبعد مدَّةٍ علم بذلك، فخيَّره بين أن يدرس عليه وحده أو يفارقه وقال له: إني أحب من يدرس عليَّ لا يدرس على غيري. ومنعه من دراسته عليه! وهذه ديكتاتورية في العِلم لم يسبق لها نظير، ولهذا منع أولاده من القراءة على غيره؛
٢٦٨
الأدب والمتفرقات
صاحب الحفل ألا حفل، يوصي يستدعى أخوته، ويُخبره أنه لا يحضر إذا استدعاهم. وقد يفاجأ بوجودهم في مكان لا يظن وجودهم فيه. فيحصل له ما كان يهرب منه. يضاف إلى ذلك أنهم حين يكونون معه يقتسمون وإياه رياسة المجلس، ويشاطرونه نظرة الاحترام؛ لأن الناس يحترمونهم وإياه لأجل والدهم العظيم وهو لا يحب ذلك، بل يجب أن تتوجه الأنظار إليه ويقتصر الاحترام عليه. فماذا يفعل للتخلص من مضايقة إخوته ومعارضتهم؟ دله شيطانه على مقاطعته لهم وهجره إيَّاهم. لكن بماذا يُعلل ذلك للناس إذا لاموه؟ دله شيطانه أيضًا أن يقول : أنهم مبتدعة؟ وهجر المبتدعة واجب شرعا ونفّذ هذه الخطة الشيطانية التي سماها سُنَّةً، حيث قال لي في رسالة بعث بها إلى مصر: «إني عزمت أن أُحيي سُنَّة الهجر التي أُميتت في هذا العصر».
و كذب فيها ادعى، فما كان الهجر إِلَّا بِدْعَةٌ شِرْكِيَّةٌ وسُنَّةٌ شيطانية. ثُمَّ وصى أصحابه بمقاطعة إخوته مقاطعة تامة، وأوجب على أولاده مقاطعتهم أيضًا وألقى بذلك في روع أصحابه أن معارضة إخوته له لا قيمة لها عنده؛ لأن كلام المبتدعة ضلال فاستراح من جهتهم، لكن بقي ما ينغص عليه صفوه، فقد كان بعض مريدي والده يعارضونه الفينة بعد الفينة بأنه خالف والده، فكان يعتذر ببعض الأعذار تارةً، وأخرى يلوح بالطعن في والده ولا
لأنه يعلم أنهم حين يحضرون على غيره، سيقفون على معلومات صحيحة، تبين خطأ معلوماته بل فساد ،بعضها وسيخالفونه جزمًا، وهو لا يحب ذلك بل يغضبه ويبغضه. وهذا سر منع من يقرأ عليه من القراءة على غيره. وقد تبين لتلاميذه الذين
انفصلوا عنه واتصلوا بغيره أنهم كانوا على جهل عظيم وهم لا يشعرون.
النفحة الذكية
٢٦٩
يُصرح، وضاق بهذه الحالة من المعارضة، وأراد أن يغلق هذا الباب فصرح بأن والده ضال، وأنه يتبرأ منه كما تبرأ إبراهيم من أبيه!! وكأنه يقول لأولئك المريدين: هذا الوالد الذي تعارضون به رأيي وتحتجون به علي لا أعتبره؛ لأنه ضال، وهكذا صار عاقًا لوالده قاطعا لرحمه لأجل الرياسة والجاه اللذين بدأ في العمل لنيلهما، وهو مستعد لمصاحبة كل فاسق ومبتدع على مذهبه إلَّا أخوته ومريدي والده ومن على هديهم في معارضته وبيان خطيئاته فإنه لا يصالحهم أبدا، إلَّا بشرط اشترطه لمن توسط في الصلح بينهم وبينه، وهذا الشرط هو أن
يعترفوا له كتابة بأنهم مخطئون وهو مصيب.
فصل
و حديث: «من أحب الله، وأبغض الله، وأعطى الله، ومَنَعَ الله، فقد اسْتَكْمَلَ الإيمان». صريح في أنَّ الحبّ الله والبغض الله من كمال الإيمان وليس جزءا منه، ولا شرطا في صحته؛ لأن الإنسان يعرض له في حياته حب وبغض وإعطاء ومنع، فأراد الشارع أن يحضّر المسلم على أن تكون هذه الأفعال صادرة منه طمعا في ثواب الله تعالى لا لمصلحة دنيوية ولا لشهوة نفسية، وليس في الحديث إيجاب بعض الفاسق والمبتدع.
كيف وبغض الكافر ليس بواجب؟ وإنما الواجب ترك موالاته. ونبين
ذلك بقاعدة لا يعرفها الوهابي المتزمت ولم يسمع بها من قبل.
قال العلماء: الحب والبغض بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان، فإذا قيل إنَّ الله يجب كذا، فمعناه أنه لا يبغضه. وإذا قيل: لا يجب كذا، فهو يساوي أنه يبغضه،
فلا واسطة بينهما.
۲۷۰
الأدب والمتفرقات
أما بالنسبة إلينا، فهما ضِدَّان بينهما واسطةٌ ، فإذا قيل: فلان لا يحب فلانا
فلا يقتضي أنه يبغضه، وإذا قيل: لا يبغضه فلا يقتضى أنه يحبه؛ لجواز أنه لا يُحبه ولا يبغضه.
مثلا لو سُئلت عن شخص لا تعرفه، أو بينك وبينه معرفة سطحية: هل تحبه؟ فإنك تجيب: لا أحبه ولا أبغضه؛ لأنه لم يحصل منه ما يقتضي أحدهما، وهذا أمر مشاهدٌ يحسه كثيرٌ مِنَّا بحيث لا يمكن إنكاره.
و لهذا قلنا إنَّ الشارع لم يأمرنا ببغض الكفار، وإنما نهانا عن مولاتهم، وهي غير البغض قال الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: ٢٢]، وقال تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تلقون إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الْحَقِّ } [الممتحنة: ١] والمودة موالاة. وقال سبحانه: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَوْ تُخْرِجُوكُو مَن دِيَرِكُمْ أَن تَبَرُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَرِكُمْ وَظَهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَبِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾
[الممتحنة: ٨ - ٩]
وقال سبحانه: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَرَى أَوْلِيَاةُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمُ مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: ٥١]. نعم رغب الله في بغضهم من غير إيجاب، قال تعالى : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَ وَا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
النفحة الذكية
۲۷۱
بكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: ٤] فبغضهم من كمال الإيمان كما أفاده الحديث الماضي: «مَن أحب الله، وأبغض الله فقد اسْتَكْمَلَ الإيمان». و ليس بغضهم شرطًا في صحة الإيمان حتى يكون واجبا، وإذا لم يكن هجر الكفار ولا بغضهم واجبًا فكيف يزعم متنطع أنَّ هجر الفاسق أو المبتدع وبغضه واجب؟! لقد كذب على الله وحَرَّف حُكْمَ شريعته.
على أنه لو وجب بغض الكفار لما جاز أن يقاس عليهم المسلم العاصي أو المبتدع في وجوب بغضه؛ لأنَّ مِن أركان القياس مساواة الفرع للأصل في العِلَّة، والمساواة هنا مفقودة لأمور:
1 - أنَّ الكفَّار أعداء لنا بدلالة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أولياء الممتحنة: (١) والمؤمنون أخوةٌ بنص : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات : والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «المُسْلِمُ أخو المُسْلِمِ» ويقول:
[1.
صَلُّوا على صاحِبِكُمْ»، والعاصي أو المبتدع أخو المسلمين وصاحبهم. ٢ - أنَّ الكفار أعداء الله بشهادة : فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَفِرِينَ ﴾ [البقرة:
٩٨ ] والمؤمنون أولياؤه بنص : وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: ٦٨] . - أنَّ الكافر لا يغفر الله له إلَّا إذا ترك كفره إلى الإسلام، والعاصي أو المبتدع قد يغفر الله له وإن لم يتب: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء: ٤٨] قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨].
۲۷۲
الأدب والمتفرقات
- أن الكافر مُحلَّدٌ في النَّار لا تلحقه شفاعة أبدًا: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ
حدیث
واعد هُمْ سَعِيرًا خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥] والعاصي أو المبتدع وَأَعَدَّ تلحقه الشفاعة لحديث: «شَفَاعَتِي لَأَهْلِ الكَبَائِرِ مِن أُمَّتِي». وهو . صحيح. وحديث: هي لكم أي الشفاعة - ولمن قال لا إله إلا الله» وهو حديث صحيح أيضًا والأحاديث في هذا المعنى متواترة.
ه - أنَّ حقيقة الكفر تناقض حقيقة الإسلام والمتصف بالكفر نقيض المتصف بالإسلام، والمعصية والابتداع لا ينافيان الإسلام. و إذا كانت العِلَّة في بغض الكافر كفره، فكيف يجوز إلحاق العصيان والابتداع بها مع وجود الفوارق العظيمة، أهمها أنَّ الكافر عدو الله، والمؤمن
وليه، وهل يجوز في عقل عاقل أن يقاس ولي على عدو؟!
و في هنا تدرك خطيئة من يحمل آيات واردة في الكفار على بعض المسلمين، ويزعمه تعميما بحسب المعنى، ولكنه في الواقع تخريف آثم، وإليك
مثلا من ذلك :
قال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فَلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَ فِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَنِ خُذُولا ﴾ [الفرقان: ۲۷ - ۲۹] . فالآية واردة في أبي بن خلف الذي يندم على اتباعه عقبة بن أبي معيط في
ترك الإسلام بعد أن هم به.
والظالم فيها مراد به الكافر، وهي عامَّةٌ في كل كافر، وقال بعض المفسرين:
النفحة الذكية
۲۷۳
وحكم هذه الآية عام في حَقٌّ كل متحابين اجتمعا على معصية الله » . اهـ وهذا خطأ فاحش وتحريف لكلام الله تعالى؛ لأنَّ المسلم لا يندم ولا يعضُ على يديه ولو كان عاصيّا؛ لأنه اتخذ مع الرسول سبيلا بإسلامه، واتبع الذكر وهو القرآن فآمن به، بل لم يحك الله الندم والتلاوم يوم القيامة وتبرؤ المتبوع من التابع ولعن بعضهم بعضًا إلا عن الكفار.
اقرأ الآيات التالية: إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: ١٦٦]، ﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْ تُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَنَا موَدَّةً بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بعضُكُم بَعْضًا } [العنكبوت: ٢٥].
ولو تَرَى إِذِ الظَّلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَرَتِهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَ كُو بَلْ كُنتُم تُجرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [سبا : )
.[٣٣ -
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَأَهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ ()
الجحيم ﴾ [الصافات: ٢٢ - ٢٣].
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَ عَنِ الْيَمِينِ ) قَالُوا بَل لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: ۲۷ - ۲۹]. هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمُ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ
٢٧٤
الأدب والمتفرقات
صَالُوا النَّارِ قَالُوابَل أَنتُمْ لَا مَرْحَبابِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ [ ص: ٥٩ - ٦٠]. ثُمَّ اقرأ ما قاله الله عن المسلمين: الأخلاء على الكفر في الدُّنيا يو مانيم ) يومَ القيامَةِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُو كما سبق في الآيات التي أوردناها إِلَّا الْمُتَّقِين الا انه الذين اتقوا الكفر ولا يَعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا نَايَتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: ٦٧ - ٦٩] فقط. روى ابن جرير عن مُعْتَمِر بن سليمان، عن أبيه قال: سمعتُ أنَّ الناس حين يبعثون ليس منهم أحدٌ إِلَّا فَزع، فينادي منادٍ: يَنعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أنتم تحزنون فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها: الَّذِينَ ءَامَنُوا بِنَايَتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } فييأس الناس منها من غير المسلمين فيقال لهم:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [الزخرف: ٦٨-٧٠].
وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد: ۲۱] الآية فيها دليل على أنَّ الإيمان
وحده كافٍ في دخول الجنة. ثُمَّ نقول لأولئك المحرفين لكلام الله تعالى: إذا كان المسلم العاصي يعضُ على يديه نَدما كما يعضُّ الكافر، فما فائدة الإسلام الذي عاش فيه حياته؟ وما نتيجة الطاعات التي قدمها؟ ولو كانت المعاصي أو البدعة تمنع صحة الإسلام لاستوى الكافر والمسلم واللازم باطل بدليل قول الله تعالى: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقَا لَا يَستَونَ ﴾ [السجدة: ١٨].
النفحة الذكية
٢٧٥
و استدل المالكية والشافعية بهذه الآية على أنه لا يُقتَلُ مُسلم بكافر قصاصا؛ لأن المساواة شرط في القصاص، وقد نفاها الله في هذه الآية وفي قوله تعالى: لَا يَسْتَوى أَصْحَبُ النَّارِ وَأَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَابِزُونَ ﴾ [الحشر: ٢٠] فلا يقتص لكافر من مسلم، خلافًا للحنفية. وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يُقتَلُ مُسْلِمٌ بكافر» وهو يؤيد الأخذ بعموم الآيتين ولعلة عدم التساوي. فمن سوى العاصي أو المبتدع بالكافر في الهجر والقطيعة فقد خالف كتاب الله وسُنَّة رسوله، وحَرَّف حكم شريعته، فهو المحرف الكاذب وهو المبتدع حقيقة.
ثُمَّ إنه لا خلاف بين المسلمين أنه لا يجوز قتل العاصي أو المبتدع إذا لم يفعل ما يوجب قتله شرعًا، فكذلك لا يجوز هجره دائما؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم قال: «مَن هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةٌ فهو كَسَفْكِ دَمِهِ».
وإذ كان مجرد عصيان المسلم أو ابتداعه لا يُجيز قتله ولا هجره فإنه لا يجيز بغضه أيضًا؛ لأن الهجر والتقاطع والبغض إنما تشرع في حق الكافر عدو الله، لا في حق المسلم ولي الله. وأيضًا فإنَّ الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ ءَامَنُوابِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَيْكَ هُمُ الصِّدِيقُونَ ﴾ [الحديد: ۱۹] فالمسلم صديقٌ بنص هذه الآية، ولو كان عاصيا أو مُبتدِعا؛ لأنَّ العصمة لا تشترط في الصِّدِّيق، فكيف يزعم زاعم وجوب هجرا الصديق وبغضه كما يهجر الكافر الخبيث ويبغض ؟!
وكيف يصح الجمع بين من آمن بالله ورسله وبين مَن كفر بهما وكذَّب؟!
٢٧٦
الأدب والمتفرقات
والعصيان والابتداع لا يصلحان جامعا؛ لأنهما لا ينافيان التصديق، ولا
يمنعان الإسلام.
وأيضًا فان الله تعالى يقول: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: ٢] ثبتت أحاديث وآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وعن الصحابة والتابعين في معنى هذه الآية أن الكفار إذا رأوا عصاة المسلمين
خرجوا من النار برحمة الله قالوا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا. والذين يخرجون من النار بعد دخولهم فيها طائفة من عصاة المسلمين ومبتدعيهم، والكفار يتمنون أن لو كانوا مثل هؤلاء العصاة والمبتدعة حتى تنالهم الرحمة، ومعنى هذا أنَّ المسلم ماله الجنة وإن أصابه عذاب قبلها؛ لأنه يحبُّ الله ورسوله، ومعاصيه لا تُحبط عمله، فكيف يجوز هجر من هذا حاله أو بغضه أو لعنه أو مقاطعته ؟!
والحاصل أنه يحرم هجر المسلم العاصي أو المبتدع وبغضه ولعنه
ومقاطعته، ومن فعل شيئًا في ذلك فقد أتى كبيرة من الكبائر.
و ينبغي لوهابي طنجة أن يُصرح بالحقيقة ويقول أنه يقاطع أخوته ومريدي والده ويبغضهم لأنهم يخالفونه ويردون عليه قوله (۱) وهو يبغض من يخالفه ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، ويحب من يوافقه ولو كان أفسق الناس. و السُّنَّة التي يدعو إليها ليست سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، لكنها
(۱) وقد صرح بذلك، فقد أخبرني بعض الإخوان أنه سأله عن سبب مقاطعته لأخوته فأجابه بقوله: لأنهم لا يسمعون كلامي.
النفحة الذكية
۲۷۷
سنة رأيه وقوله، وإليك أمثلة من ذلك :
۱ - من وافقه على أنَّ حالق لحيته ملعون وصلاته باطلة فهو سُنّي، ومَن خالفه في ذلك فهو مبتدع ضالّ تجب مقاطعته.
٢ - من وافقه على أنَّ القصر في السفر واجبٌ فهو سُنّي، ومَن قال أن القصر رخصة غير واجبة فهو مبتدع ضال تجب مقاطعته.
من وافقه على أنَّ المسافر المصلّي خلف المقيم يقصر الصلاة فهو سُنّي،
ومن قال أن يتم الصلاة فهو مبتدع ضالّ تجب مقاطعته.
- من وافقه على تضليل والده ووصفه بالتخريف والجهل فهو سُنّي، ومن قال له والدك عالم تقيٌّ وَرعٌ ، شهد بفضله العدو والصَّدِيقُ، وتضليلك إيَّاه عقوق، فهو مُبتدع ضالّ تجب مقاطعته.
ه - من وافقه على أنَّ لكلِّ بلدٍ رؤيةً في الصوم والإفطار، فهو سُنّي، ومَن
خالفه في ذلك فهو مستشرق ومبتدع ضالّ تجب مقاطعته. ٦ - من وافقه على أنَّ قراءة القرآن على الميت بدعة غير جائزة فهو سُنّي، ومن خالفه في ذلك فهو مُبتدع ضالّ تجب مقاطعته.
كتبت له في مصر أقول له: إذا اخترت أن تكون ومابيا فلك ذلك، لكن ليس لك أن تصف والدك بالضلال، فأجابني بقوله: أن عدت تقول لي
وهاي، فإنّي أقاطعك إلى يوم القيامة !!
لنا ابنا عم، كلاهما درقاوي، أحدهما تكلم فيه ووصفه بالبلادة، فقاطعه
مقاطعة تامة، بحيث لم يعده في مرضه الذي مات منه، والآخر لم يعارضه فظل
يواصله ويزوره مرَّةً بعد أخرى حتى مات، وهو يعلم أنه درقاوي.
۲۷۸
الأدب والمتفرقات
٩- يقاطع إخوته المعارضتهم له، ويواصل أخواته وهو يعلم أنهنَّ على طريقة والدهن العظيم رحمه الله ورضي عنه؛ لأنهنَّ لا يعارضنه فيما يقول ويعتقدن فيه أنه عالم، ولو عارضنه فإنَّ معارضتهنَّ لا تتجاوز جدران بيتهنَّ، ولا تصل إلى أصحابه.
١٠ - أعرف شريفًا من أولاد ابن عجيبة درقاويا كأبيه يواصله الوهابي ويزوره؛ لأنه لم يعارضه في رأي. ۱۱ - له أصحاب وأصدقاء فيهم فُسّاق يوادهم ويحبهم؛ لأنهم لا يردون له
قولا، ولا يعارضون له رأيا.
۱۲ - يُطلق على مَن خالفه في رأيه: عدو الله، فإن كان يعتقده كذلك
حقيقةً فهي ردة، وإن لم يعتقده كذلك فهي كبيرة.
ثبت في صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث:
ومَن دعا رَجُلًا بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إِلَّا حارَ عليه». ١٣- كان أحد الشرفاء البقاليين يده اليمنى، يستعين به في كثير من مصالحه التي من أهمها سبُّ إخوته وكان يُحرّضه على أن يتعرض لهم بالإذاية، ثُمَّ خالفه في رأي له، فقاطعه وصار يصفه بالابتداع والضلال، وعامله صاحبه بالمثل، هذا وهما وهَّابِيَّان. ١٤ - كان طالب انجري تلميذا ملازما له، وكان من أقرب الناس إليه، لأنه لم يخالفه في رأي، ولما عُيّن في مسجد بأحد أسواق طنجة ذهب إلى ذلك المسجد وصلى خلفه وزكَّاه للمُصَلِّين هناك، وحرّضه أن يكتب إليَّ بمصر في مسألة صوم المغرب برؤية المشرق، فأجبته بما هو صواب في الموضوع، فبعث
النفحة الذكية
۲۷۹
كتابا آخر بتحريض منه أيضًا ينبئ عن قِصَّةٍ بالغة وسوء أدب كبير، هذا ولا يعرفني ولا أعرفه، ولكن المبتدع يُجرى أصحابه على سب أخواته ليسقط احترامهم في زعمه.
و من إخلاص هذا الطالب الأنجري للمبتدع أنه رآني من بعيد أمشي في اتجاه طريقه مصادفة، ومعي سيدي الحسن شيخه أيضًا فأشار إليه بيده مسلما، ثُمَّ نكص على عقبيه لئَلَّا يُسَلّم عليَّ، ثُمَّ خالفه في رأيه إذ مال إلى ترجيح إتمام المسافر خلف المقيم، وقدم له على ما بلغني - سؤالا مُحرِجًا لم يجد له جوابًا حاصله: أن وفود العرب بعد الفتح كانت تأتي إلى المدينة من أطراف الجزيرة العربية وكانوا يُصلُّون مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يتمُّون معه بالضرورة، ولم ينقل عنه أنه قال لهم قصروا كما قال لأهل مكة: «أتموا». فقاطعه المبتدع وأفتى أصحابه بألا يصلوا خلفه، وما قصر في ذمّه، مع أنهما في مذهب الوهابية صنوان.
١٥ - ذهب العمُّ سيّدي مصطفى يزوره مرَّةً كعادته معه، فاستقبله بغضب
شدید و شتمه وضجع فيه القول، وكان فيما قال له: «أنت : تمشي مع عبدالله لأنه يعلم أني أخالفه على طول الخط، ولكني لست أخالفه
الأحمق» يعنيني؛ عنادا وحبا في المخالفة، كما يفعل هو في خلافاته مع غيره، خصوصا أخوته.
وإنما أخالفه لأحد أمرين:
١ - خطأ ما اعتمده أو ضعف دليله.
۲ - شذوذ ما قلده من أقوال.
۲۸۰
الأدب والمتفرقات
و هذا بيان إجمالي لأهم المسائل التي خالفته فيها: ۱ - حلق اللحية كبيرة : أنا لقنته إيَّاه، وعنّي أخذه، ثُمَّ لما رجعت عنه لأنّي وجدته خطأ والصواب أن حلق اللحية صغيرة.
-۲- تعليله بالتشبه بالنِّساء، وبتغيير خلق الله قياسًا على حديث المتنمصة (١) ، أخذ هذا التعليل عن الألباني، وهو - وإن كان مُحدثًا - لا يعرف علم الأصول، ولذلك تجد استنباطاته الحديثية المتعلقة بالأحكام غالبها ما بين
(۱) وأذكر بالمناسبة أنَّ هذا الوهابي اخترع حكاية أو اخترعها له بعض أصحابه، وذكرها في بعض وريقاته، ليلمزني بالجهل. فدلت على جهله بالأصول وهو لا يشعر. قال حاكيًا عن بعض أصحابه: أنه لقيني في مكتبة ابن حزم، وسألني عن التنميص، فأجبته بأنه حرام، والمتنمصة ملعونة. فقال لي: وحالق اللحية؟ قلت له: ليس بملعون. فقال لي: إذا كانت المتنمصة ملعونة وهي امرأة أبيح لها التزين، أفلا يكون حالق اللحية ملعوناً مثلها؟ قال: فأجبته بأني حاقن
هذا معنى ما اخترعته أو اخترع له، فإعراضي عن جواب صاحبه لأني علمت جهله التام المركب والمكعب، وقولي له: إني حاقن، إشارة إلى الجواب الذي يستحقه !!
وهي حكاية غير صحيحة، ولو صحت
و قد بينت فساد هذا القياس في الصبح السافر"، و"تنوير البصيرة" لكني أعجب من هذا الوهابي كيف بلغ به الجهل إلى هذه الدرجة؟! مع أني درست له مقدمات "جمع الجوامع" وغيرها. وتلاميذي والحمد الله كلهم نبهاء إلا هذا الوهابي، ويظهر أن شؤم عقوقه لوالده ولشيخه سبب بلادته، نسأل الله العافية. و القياس الصحيح هنا أن يقال : يحرم التنميص على الرجل كالمرأة، بل هو أولى. وصاحب الحكاية الجهله، ترك هذا القياس الموافق للأصول وتمسك بقياس فاسد
ليرميني بالجهل، فصدق عليه المثل العربي: «رَمَتني بدائها وانْسَلَّت».
النفحة الذكية
ضعيف وباطل، وهذا منها وقد بينت بطلانه في غير هذا المحل.
۲۸۱
٢- وجوب القصر في السفر : هو مذهب الحنيفة وأخذ به ابن حزم ومن المتأخرين ابن تيمية وابن القيم واستدلوا بقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين فأُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وهذا الاستدلال خطأ؛ سببه عدم
فهم كلام عائشة، ولو فهموه لعدلوا عن القول بالوجوب جزمًا. ٣- وجوب قصر المسافر خلف المقيم، قول شاذ لم يقل به غير ابن حزم ولا دليل له أصلا، وقال إسحاق بن راهويه: «يجوز قصر المسافر خلف المقيم»، وقال تميم بن حذام: إذا أدرك المسافر الركعتين الأخيرتين مع المقيم اكتفي بهما، وهذه أقوال شاذة، فلذلك خالفناها (۱).
صوم المغرب برؤية المشرق فيه مذهبان معروفان، مذهب المالكية
(۱) روى ابن أبي شيبة عن أبي نجيح المكي، قال: اصطحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فكان بعضهم يتمُّ وبعضهم يقصر، وبعضهم يصوم وبعضهم يُفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء. وروى عن أبي قلابة قال: إن صليت في السفر ركعتين فالسُّنَّة، وإن صليت أربعًا فالسُّنَّة. وروى عن بسطان بن أسلم قال: سألت عطاء عن قصر الصلاة في السفر؟ فقال: إن قصرت فرخصة؟ وإن شئت أتممت . وروى عن ميمون بن مهلان أنه سأل سعيد بن المسيب عن الصلاة في السفر فقال : إن شئت ركعتين، وإن شئت فأربع. هذه الآثار بوب لها ابن أبي شيبة في "المصنف" بقوله: في المسافر إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أربعًا. وصدر الباب بحديث عائشة: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتم الصلاة في السفر ويقصر ، ويصوم ويفطر، ويؤخّر الظهر ويُعجل العصر، ويؤخر المغرب ويُعجل العشاء. وهو حديث صحيح كما قال الدار قطني.
۲۸۲
الأدب والمتفرقات
والحنفية بوجوب الصوم، ومذهب الشافعية بعدمه وقد اخترنا المذهب الأول، ورأينا أدلته أرجح، فلا معنى للتشنيع علينا وتسميتنا مستشرقين، لولا التعصب والعناد. ونحن لا نلزم أحدًا باتباعنا ولا نقول له: إن لم تَصُم معنا أو لم تفطر معنا لا نُكلمك إلى يوم القيامة.
و ما ذنبنا إذا كان الناس يسألوننا عن هلال رمضان أو شوال راغبين في الصوم والإفطار معنا. كما أني رأيت زوارًا جاءوا إلى الزاوية وهم صائمون أو مفطرون برؤية المغرب، فلم أكلمهم في ذلك؛ لأني لا أحب الرياسة ولا أحب أن أكون متبوعا. بخلاف الوهابي فإنه يُلْزِم أصحابه باتباع رأيه ويهددهم بالمقاطعة الدائمة إن لم يتبعوه؛ لأنه يحب أن يكون متبوعا مسموع القول، ومن أعجب ما سمعته عنه في هذه السنة بمكة: ما حدثني به بعض أصحابه أنه كان يوصيهم ويؤكد عليهم أن يقصروا الصلاة في الحرم المكي والمدني ولو صلوا مع الإمام الراتب !! ١٦- زاره في بيته الفقيه العلامة الحاج العربي العبادي وقدم له هدية فرحب به لأجل الهدية وأدخله الدار، فلما جرى الحديث . ، يتكلم في
سمعه
والده العظيم ويصفه بالضلال، فقال له: هذا عقوق فغضب المبتدع الوهابي، وقال له: قم اخرج من داري وطرده (۱). ۱۷ - ولهذه المناسبة أذكر ما حدثني به صديقه البقالي الذي كان يمينه وساعده قال والعهدة عليه: استدعيته مرة للغداء عندي فحضر وكان عندي
(۱) ولم يرد له ما أخذه منه.
النفحة الذكية
۲۸۳
ناس استدعيتهم، وبعد الغداء جرى الحديث في أمور مختلفة حتى جاء ذكر والدكم، فقال للحاضرين أنتم لا تعرفون والديي أنا أحدثكم عنه، وصار يذكر عنه معايب اندهشنا لها (1)، وكان اندهاشي أكثر من إشاعة هذا عن والده أمام أجانب عنه، قال: ولو كان والدي لسترت عليه. وسألت أنا أحد أولاده لأتأكد فقلت له: هل صحيح أن والدك يُضلّل جدك؟ فأجابني باعتزاز: هو يعلن ذلك ولا يخفيه قلت له وهل تبرأ منه كما تبرأ إبراهيم من أبيه؟ قال: نعم. قلت: لكن أبو إبراهيم مشرك وجدك مسلم عالم تقي. فأجابني بجواب
أبيه
يدل على منتهي الجهل، قال - ويالجهالة ما قال - آه إذا تبرَّأ إبراهيم مِن أ ! المشرك والشرك أعظم فبالأولى يتبرأ والدي من أبيه الضال؟ إي والله هذا
(۱) وهو كاذب فيما حكى عن والده، قاذف له، والغ في عرضه بعد وفاته، مع أنه لم يجالسه في حياته لحظة، ولا حضر عليه درسًا ولا سمع منه كلمة. وإنما سمع ما يحكيه الناس عن والده فلم يميز صدقه من كذبه والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «كفى بالمرء كَذِبًا أن يُحَدِّثَ بكل ما سَمِعَ». وأنا بحمد الله لازمت والدي رحمه الله وحضرت عليه في الحديث والفقه والنحو والبلاغة، سوى ما استفدته منه أثناء المذاكرة في مسائل شتى. وحين كتبت شرح الآجرومية " كنت أعرض عليه ما أكتبه أولا بأول فيصلح لي ما أخطأت فيه، ولما سافرنا إلى مصر كنت أكاتبه باستمرار، ولم يكتب له الوهابي خطابًا واحدًا، وكنت أكاتبه من فاس أيضًا وقبل سفري كنت أناقشه في المسائل العائلية الخاصة، وأبلغه ما أسمعه عنه من شائعات، فيصحح الوقائع وينفي الكذب ويبين التحريف. وبالجملة كان الوهابي أقلنا اتصالا بمولانا الوالد رحمه الله ورضي عنه، وأجهلنا بأحواله، لا يعرف عنه إلا ما يسمعه من أفواه الخادمات ومن في حكمهنَّ، فحديثه عنه كحديث شخص بعيد الصلة عنه.
٢٨٤
الأدب والمتفرقات
جوابه وهذه المناقشة حصلت بيني وبينه، وأنا مسئول عن كل كلمةٍ فيها. وقال لي أحد المريدين الصديقيين بأذني سمعت أخاك يتكلم في والده، لم يخبرني أحد عنه، سمعته في الجامع الكبير.
وكان الرجل الصالح الأخ مسعود رحمه الله يزوره ويتردد عليه باعتبار أنه أحد أولاد شيخه، وكان لا يُصدّق ما ينقل عنه من عقوق، حتى قال له في
بعض المناسبات: لو قلت لك ما كان يفعله الوالد لما اعتقدت فيه. فتأكد أنه عاق، وترك زيارته.
ولما كنا بمصر، وأتانا نعي مولانا الإمام الوالد رحمه الله ورضي عنه، أصابنا كرب شديد، وبتنا بشر ليلة بكاءً وحزنًا أنا والأخ الأكبر والحاج الشكارة، وكنت أنظر إلى الوهابي فأجده جامد الوجه، لم تنزل من عينه دمعة، ثُمَّ بلغني أنه لما مات صاحبه الأنجري في حادث تصادم، بكى عليه بكاء التكلي!! ومما لاحظته عليه أنه لا يترحم على والده إذا جاء اسمه في خطاباته إلى حين كان يكاتبني، ورأيت هنا خطابًا له بخطه كتبه لبعض الإخوان ذكر فيه والده مرات، لم يقل فيها. رحمه الله، وهذه معصية وعقوق؛ لأن الله تعالى يقول وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا ﴾ [الإسراء: ٢٤].
النفحة الذكية
٢٨٥
تتمة فيها مسائل
۱ - ابتدع هذا الوهَّابِيُّ بدعة شيطانية ليضمن بها التفاف أصحابه حوله،
وعدم انصرافهم عنه. وهي ذات شقين:
الشَّقُ الأول: أنه كذب عليهم وأفهمهم أن مواصلة من يسميهم مبتدعة حرام، فقاطعوا آبائهم وأمهاتهم وأصحابهم وانعزلوا عن عامة المسلمين متقوقعين، بعد أن صاروا عَقَقَةٌ قاطعين، فضمن بهذا ألا يسمعوا كلام خصومه، ولو سمعوه مصادفة لم يقبلوه.
والشَّقُ الآخر: أنه حرَّم عليهم قراءة كتب غيره ممن يسميهم مبتدعةً. وأكد عليهم أن يمتنعوا عن قراءة كتبي بصفة خاصة، وذلك حين علم بأني راجع من مصر، فحصرهم في دائرة معلوماته المخطئة غالبًا، والفاسدة أحيانًا. وصار يكذب عليهم ويظهر أمامهم بقوة الحُجَّة، فيقول لهم: إني رددت على خصومي، ولم يستطيعوا أن يردوا علي، مع أنهم ردوا عليه وبينوا جهله وخطأه لكن أصحابه لا يعلمون؛ لأنه سَدَّ في وجوههم باب القراءة والاطلاع بما ألقى في روعهم من كذب وخداع. ٢ - هذا الوهّاب يبغض أخوته بدرجات متفاوتة، فأنا أبغضهم إليه إطلاقًا بعد الأخ الأكبر، بحيث يود أن يعمى ولا يراني. وذلك لأسباب تقتضي المحبَّة والألفة والاعتراف بالجميل، لكنها عنده توجب الكراهية الشديدة، والمصارمة
التامة، والشتم القبيح:
1 - أني أكبر، وهو يرى لنفسه حقًا له على إخوته الصغار أن يحترموه، ويوقروه، ولا يرى مثل ذلك الحق لي عليه. بل أوسعني سبا وشتما بألفاظ
٢٨٦
الأدب والمتفرقات
بذيئة، تجرى بين السُّقاط والسفلة.
٢- أني أستاذه علمته النحو والأصول، وحين كان يؤلف رسالته في تحريمه حلق اللحية، كان يعرض عليَّ ما يكتبه منها صحيفة صحيفة، فأصلح له العبارة بحذف أو زيادة؛ لأنه كان حديث العهد بالكتابة، وكنت له مرشدًا ومعلما. ٣- أني نشرتُ له مقالات في مجلة الإسلام"، أشهر مجلة إسلامية في ذلك الوقت، فشهرت اسمه وعرفه الناس بعد أن كان مغمورًا، وهو كَنُودٌ جَحَودٌ لا يعترف بفضل لأحدٍ عليه حتَّى والده العظيم رحمه الله ورضي عنه وقدس نوره. و اشتد بغضه لي، وحنقه للأسباب الآتية: ١- كان في آخر شعبان ينشر وريقة يتحدى فيها الذين يصومون مع المشرق بإشكال زعم أنه لا حل له فأبطلته في جزء "التنصل والانفصال"، فلم يعد يذكره على لسانه ولا نشر تلك الوريقة بعده إذ تبين له أنه كان ينطق بالمحال، وهو لا يشعر.
٢ - أني تتبعت أغلاطه، وكشفتها لمن لا يعرفها فبينت بالدليل والقواعد: أن حلق اللحية ليس بكبيرة، وأنَّ تعليله بالتشبه بالنساء وبتغيير خلق الله مأخوذ من الألباني، وهو باطل، وأنَّ قياس الحالق على المتنمصة قياس فاسد؛
لأنه قياس منصوص على منصوص والشرط في صحة القياس أن يقاس
.
مسكوت على منصوص. و أنَّ القصر في السفر رخصةٌ غير واجبة، وأنَّ المسافر إذا صلى خلف المتم وجب عليه الإتمام، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أتم في السفر... إلى
النفحة الذكية
۲۸۷
غير ذلك مما أفردته بمقال أو رسالة.
أني واصلت متابعة أغلاطه رغم شتائمه القذرة ولم أبال بها، مع أنها سلاحه الذي اعتاد أن يسكت به خصومه هربًا من قذائف لسانه المنتنة.
ويتبجح بين أصحابه بأنه أسكت خصومه، ولكن بماذا أسكتهم؟! فمثله كمثل الحُبَارَى تهرب من الصقر فتَسْلَحُ عليه سَلحًا خبيث الرائحة.
وفي المثل : أَسْلَحُ مِن الحُبَارَى في الخوف، فسَلِّحُها سلاحها !!.
وهو مع
هذا كله مصاب بحلم اليقظة، ولليقظة أحلام، كما أن للنوم
أحلاما، وهذا مُقرَّر في علم النفس.
وحلم اليقظة: أن يتمنى الشخص حصول شيءٍ ويلح في تمنيه حتَّى يُخيَّل
إليه أنه قد وقع، فيتحدث عنه كأنه حقيقة واقعة، وما هو إلا حلم اليقظة. وهذا الوهابي تمنّى في نفسه أن أخرف ويذهب عقلي، وتلجلج ذلك في خاطره، حتى قال عنّي في بعض وريقاته أني خرف، ولا خرف ولا شيء، وإنما
هو حلم يقظة عنده، شفاه الله .
٤- له اجتهادات خرج بها عن جماعة المسلمين.
منها: صلاة الموظف في الكنيف محافظة على الوقت !!
ومنها: بلع المريض الدواء بدون ماء في رمضان ولا يفطر !! ومنها: وجوب عقوق الوالدين أو أحدهما إذا كانا درقاويين أو أحدهما !!
ومنها: وجوب قطيعة الرحم كذلك !!
ومنها: لا يساعد الشخص أبويه المحتاجين إذا كان عنده أولاد وقد أخبر آباء وأمهات أنَّ أولادهم كانوا يساعدونهم فلما اتصلوا بالوهابي منعوا تلك
۲۸۸
الأدب والمتفرقات
المساعدة تنفيذا لوصيته.
وثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكرٍ أنَّ أُمَّها زارتها وطلبت مساعدتها وهي مشركةٌ، فسألت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال لها: صلي أُمَّكِ». أي ساعديها. صلى الله عليك يا من قلت: «ليس في ديننا قطيعة
الرَّحِمِ". ه - كان قبل أن يتوهّب، انشأ قصيدةً في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما اعتنق الوهابية وتعمق فيها، طلب تلك القصيدة ممن كانت عنده، فشطب عليها بالحبر شطبًا ،تاما، بحيث لم يترك منها حرفًا يقرأ، ويظهر أنه شطب عليها ندما على إنشائها، وهذا قبيح جدا، لكنه أحسن من حيث أنه ستر عيبه في تلك القصيدة؛ لأنه لا يحسن الشعر ولا يعرف قواعده، فشعره ليس له ميزان ولا قافية، ولا ينطبق عليه بحر من بحور الشعر. لكن ينطبق عليه ميزان القرع المعروف عند العامة، وهو:
خبز وزيتون ومغفرة، قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا
أو خبز وزيتون ومغفرة، وأبو الحسن والقمر
٦- ومن حيله المكشوفة عندي والتي لا يعرفها عنه غيري أنه إذا وجد خصما قويًا أغلق عليه الباب في غلطةٍ مِن غلطاته الكثيرة وأحكم إغلاقه عليه
بما أبدى من دلائل وقواعد ولم يترك له منفذا ينفذ منه، فماذا يفعل؟
يبحث عن نقطة ضعفية في كلام خصمه لا تعلق لها بالموضوع، فيرد عليها، ويُطنطن برده ليوهم أصحابه أنه ردَّ على خصمه، أما أن ينصف ويعترف بالحقِّ، فهذا عنده محال، لا يقبله عقله أبدًا بحال.
النفحة الذكية
۲۸۹
مثال ذلك: وجدني أغلقت عليه باب الهرب في كتاب "الصبح السافر"، بما قررتُ فيه من بحوث فوق مستواه، حتى أن بعض أهل العلم بمصر حين قرأه كتب إلى يقول: إن كتابك كشف عن مسائل خفيت على ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من كبار العلماء. فعمد الوهَّابِيُّ إلى كلامي على شذوذ حديث ابن عباس: «إنَّ الله فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، والخوف ركعة». حيث ذكرت من وجوه شذوذه أنه صح في صلاة الخوف أنواع ليس فيها صلاتها ركعة، ولو كانت الركعة واجبة لما تركها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم والصحابة. فتعقب على كلامي بما نقله عن "الفتح" من ذكره رواية تفيد أنَّ الصحابة صلوها ركعة وهي رواية أخرجها النسائي، وضعفها الشافعي، وصححها ابن
حِبَّان فكان تعقبه حُجَّةً عليه.
وبيان ذلك من وجوه
أنه اعتراف منه بأنَّ ما في كتابي كله صحيح إلا هذه المسألة، لأنه لو وجد
فيه ما يتعقب غيرها لبادر إليه ولما سكت عنه.
أن تلك الرواية لا تبطل كلامي بل تؤيده؛ لأن الصحابة إذا صلوا صلاة الخوف ركعة، في بعض الروايات، كان ذلك دليلًا على أنَّ الركعة ليست
بفرض.
وقد شعر الوهابي بهذا فأجاب بأن مراد ابن عباس فرضت صلاة الخوف ركعة أي لمن اقتصر عليها.
۲۹۰
الأدب والمتفرقات
هذا الجواب حُجَّةٌ عليه أيضًا؛ لأننا نقول: معنى قول ابن عباس: فرض الله الصلاة في السفر ركعتين لمن اقتصر عليهما، ويكون الواجب في حق المسافر
الآمن أحد أمرين على التخيير صلاة أربع ركعات، أو ركعتين.
والواجب في حق المسافر الخائف أحد ثلاثة أمور على التخيير: صلاة أربع ركعات، أو ركعتين، أو ركعة وهذا في باب الواجب المخير المعروف في علم
الأصول. لم يتعقب قولي في بيان شذوذ الحديث المذكور : أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لم يصل صلاة الخوف ركعة قط؛ لأنه لم يجد إلى تعقبه سبيلا. وهذا دليل قاطع على صحة قولي، والحمد لله.
من المعقول أن يرجع الإنسان من خطأ إلى صواب ومن سيء إلى حسن، وهو مطلوب شرعًا وعقلا، أما أن يرجع من صواب إلى. خطأ
ومن
حسن إلى سيئ فهذا غير معقول، وقد حصل من الوهابي بضع مرات : كان عف اللسان، سليم ،الصدر، بساماً بَشُوشًا، فلما توهّب انتكس وصار شتامًا هَجَامًا على إخوته خاصَّةً والمسلمين عامة باللعن والقذف الصريح
حقودًا عليهم إلا من كان على رأيه عبوسًا قمطريرا.
رد على الألباني في تحريم الذهب على النساء وأصاب، ثُمَّ انتكس فقلده في ذلك الرأي القبيح، حتى أنه - على ما بلغني - لعن العلماء الذين أباحوا الذهب للنساء بإطلاق. رأيت له خطبة أنشأها في التحذير من ابن تيمية وآرائه الضالة، ثُمَّ توهب وانتكس وصار يترضى عنه ويقول كلما ذكره: قدس الله سره، مع أنَّ ابتداعه
النفحة الذكية
۲۹۱
معروف لا يُنكره إلَّا من أعماه التعصب.
والعجيب أنه (۱) حارب البدَعَ في الفروع وكان مُبتدعا في الأصول، فهو
يعتقد قدم العالم بالنوع، ويرى أنَّ الله لو أراد لاستقر على جناح بعوضة، وكان الله عنه وينتقصه، وآذى النبي صلى الله عليه وآله
ناصبيا.
يبغض
عليا رضي
وسلم بكلامه في فاطمة عليها السلام، حيث قال: «فيها شبه بالمنافقين»، إلى
غير ذلك من الطامات القبيحة.
وجميع البدع الفرعية التي أنكرها وحاربها لا تصل إلى قبح بدعة اعتقاد قدم العالم بالنوع، وإذاية النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في بنته، وبغض علي
عليه السلام.
فابن تيمية يصدق عليه الحديث: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَدَعُ
الجِزْعَ في عَيْنِهِ».
(1) أي: ابن تيمية.
٦ عن
- قَمْعُ الْأَشْرَارِ مِن جَرِيمَةِ الْانْتِحَارِ
قمع الأشرار
٢٩٥
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وآله الأكرمين.
أما بعد: فإني لما رأيتُ حوادث الانتحار شاعت في البلاد المصرية شيوعا عظيما بين الكهول والشُّبان من مختلف الطبقات (۱)، وفشا فيهم استحسان ذلك حتى صار أكثرهم يعد من قتل نفسه شهما شُجاعًا، جمعتُ هذا الكتاب، وبيَّنتُ فيه حكم الانتحار، وما ورد في شأنه من الوعيد الشديد؛ عسى أن يهدي
به أحدا فيكون ذلك خيرا لي مما طلعت عليه الشمس كما جاء في الحديث (۲).
الله
(1) ألفت هذه الرسالة سنة ١٣٥٢ هـ أو ٥٣ وهي سنةٌ كَثر فيها المنتحرون بشكل فظيع، فلم يكن يمر علينا يوم دون أن نقرأ في الجرائد أو نسمع من الناس خبر شاب انتحر لرسوبه في الامتحان، أو كهل ضاقت ذات يده، أو مريضي استعصى مرضه، أو عاشق أخفق في عِشْقِهِ، أو بنت أحرقت نفسها لأن أهلها زوجوها ممن لا تحبه، أو امرأة لأن زوجها تزوج عليها، أو نحو ذلك من مختلف الأسباب. (۲) وهو حديث أبي رافع مرفوعا: لأن يَهْدِيَ اللهُ على يَدَيْكَ رَجُلًا خيرٌ لك ممَّا طَلَعَتْ عليه الشَّمْسُ وغَرَبَتْ». ورواه الطبراني وغيره. وهو حديث حسن، وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام لما أعطاه الراية يوم فتح خيبر: الأن يَهْتَدِي بِكَ رَجَلٌ وَاحِدٌ خَيرٌ لكَ مِن مُمْرِ النَّعَمِ». والحمرُ النَّعَم هي الإبل ،الحمر، وهي أنفَسُ أموال العرب، يضربون بها المثل في نَفَاسَة الشيء، وأنه ليس شيء أعظم منه. قاله النووي.
٢٩٦
الأدب والمتفرقات
ورتبته على بابين وسميته: "قمعُ الأَشْرَارِ عَن جَرِيمَةِ الْانْتِحَارِ". والله أسأل أن ينفع به، إنه الجواد الكريم.
ومعنى الحديثين أن من كان سببا في هداية شخص إلى طريق الرشاد فإنَّ ذلك خير له من أن تكون له الدنيا بما فيها من نَفَائِس الأموال وذخائر الأعلاق. قال المناوي: لأن الهدى على يديه شعبة من الرسالة فله حظ من ثواب الرسل . اهـ
قمع الأشرار
۲۹۷
الباب الأول
في النهي عن الانتحار وما جاء من الوعيد في فعله
قال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَانَ وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: ٢٩ - ٣٠] فهذه الآية تنهى عن قتل الإنسان نَفْسَهُ كما أولها عمرو بن العاص بمسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقره. وذلك فيها أنبأنا أبو عبد الله محمد إمام بن برهان الدين أبي المعالي إبراهيم السقا: أنا أبي: أنا ثعيلب: أنا الشهاب أحمد بن عبد الفتاح الملوي: أنا عبدالله بن سالم البصري: أنا شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي: أنا سالم بن محمد
السنهوري. (ح) وأنبأنا عاليا محمد كمال الدين وأبو النصر ابنا أبي المحاسن القاوقجي قالا: أنا والدنا قال: أنا عابد السندي: أنا صالح الفُلانيُّ: أنا الشريف محمد بن
عبدالله المغربي قالا: أنا الشمس العلقمي أنا الجلال السيوطي الحافظ: أنا محمد بن مقبل الحلبي: أنا الصلاح بن أبي عمر المقدسي: أنا الفخر بن البخاري: أنا حنبل بن عبد الله بن الفرج المكي: أنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبدالواحد بن الحصين: أنا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب: أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال : حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: حدثني أبي: ثنا حسن بن موسى: ثنا ابن لهيعة: ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، أنه قال لما بعثه النبي
۲۹۸
الأدب والمتفرقات
صلى الله عليه وآله وسلَّم عام ذات السلاسل (۱) قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك؛ فتيممتُ ثُمَّ صليتُ بأصحابي صلاة الصبح.
قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت ذلك له، فقال: «يا عمرو، صَلَّيتَ بأَصْحَابِكَ وأنت جُنُب؟!» (۲) قال: قلتُ: يا رسول الله إني احتلمت في ليلةٍ باردة شديدة البرد، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أَهْلَك فذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: ٢٩] فتيممتُ ثُمَّ صليتُ. فَضَحِكَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ولم يقل شيئًا (۳). وهكذا رواه أبو داود قال ثنا ابن المثنى نا وهب بن جرير : نا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب يُحدِّث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي
أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، مثله (٤).
(۱) ذات السلاسل موضع وراء وادي القرى، وكانت غزوة ذات السلاسل في شهر جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة.
(۲) فيه دليل للمالكية والشافعية على أنَّ التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح الصلاة، وفيه أيضا دليل على صحة اقتداء المتوضئ بالمتيمم.
(۳) فيه دليل لمالك وأبي حنيفة ومن قال بقولهما أنَّ من تيمم لشدة البرد مخافة الهلاك لا تجب عليه إعادة الصلاة؛ لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أقر عمرًا على ما فعل، ولم يأمره بإعادة صلاة الصبح، ثُمَّ محل جواز التيمم لشدة البرد إذا لم يمكن تسخين الماء أو استعماله على وجه يُؤمَن معه الضرر، أمَّا إذا أمكن ذلك فالتيمم لا يُجزء اتفاقا. (٤) هذا الإسناد قوي كما قال الحافظ لكن حصل اضطراب فيه وفي المتن، حيث رواه
قمع الأشرار
۲۹۹
وقال أيضا: ثنا محمد بن سلمة نا ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمرو بن الحرث، عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس، عن عبدالرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أنَّ عمرو بن العاص كان على : سَرِيَّة. وذكر الحديث نحوه، غير أنه لم يذكر التيمم، وذكر أنه غسل مغابنه وتوضأ وضؤه للصلاة وصلى بهم.
-
قال الحافظ ابن كثير : 0 : (هذا) - والله اعلم أشبه بالصواب . اهـ
قلت: يعني أنَّ ذكر أبي قيس في السند أشبه بالصواب من إسقاطه، وذلك لما قيل: إن عبدالرحمن بن جبير لم يسمع من عمرو بن العاص، وقيل: بل سمع منه، ويؤخذ من صنيع الحافظ في "تهذيب التهذيب" ترجيحه. وللحديث طريق آخر عن ابن عباس ذكره ابن مَرْدُويَه في "تفسيره"
أبو داود والحاكم من طريق يحيى بن أيوب، وأحمد من طريق ابن لهيعة، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران، عن عبد الرحمن، عن عمرو به مرفوعا. ورواه أبو داود والحاكم أيضًا وابن حِبَّان، من طريق عمرو بن الحرث، عن يزيد بن
أبي حبيب بالسند نفسه، غير أنه قال: عن عبد الرحمن، عن أبي قيس، عن عمرو. ولم يذكر في الحديث التيمم، بل ذكر أنه غسل مغابنه وتوضأ، وهي مخالفة ظاهرة، وكنت أظنُّ أنَّ البخاري علق الحديث بصيغة التمريض لهذا، لكني وجدت الحافظ يقول: " علقه بالتمريض لأنه اختصره ، ويمكن الجمع بين الروايتين المختلفتين، أما في السند فبأن يجعل ذكر أبي قيس من المزيد في متصل الأسانيد، وهو لا يضر، وأما في المتن فبأن يحمل كما قال البيهقي - على أنه فعل ما في الروايتين جميعا، فيكون قد غسل ما أمكن وتيمم للباقي، قال النووي: «وهذا الجمع مُتعيّن».
۳۰۰
الأدب والمتفرقات
فقال: ثنا عبدالرحمن بن محمد بن حامد البلخي: ثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري: ثنا يوسف بن خالد: ثنا زياد بن سعد، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ عمرو بن العاص صلَّى بالناس وهو جُنبٌ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم ذكروا ذلك له، فسأله عن ذلك فقال : يارسول الله، خِفْتُ أن يقتلني البرد، وقد قال الله تعالى: وَلَا نَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: ٢٩] فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
جميع
يوسف بن خالد: هو السمتي ضعيف جدا، بل كذَّبه يحي بن معين. وقوله تعالى: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانَا وَظُلْمًا ﴾ [النساء: ٣٠] هو راجع إلى النهي قبله كما قال عطاء فيما رواه عن ابن جريج، وقال غيره: بل هو راجع إلى ما تقدَّم من قوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ [النساء: ٢٣] الآيات، إلى قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [النساء: ٢٩]. وعلى كل فالوعيد المذكور في الآية شامل لقتل الإنسان نفسه إما بطريق الخصوص أو العموم، فإن قيل: ورد عن أبي صالح وعطاء والحسن ومجاهد وعكرمة أنهم قالوا : معنى وَلَا نَقْتُلُوا أَنفُسَكُم : لا يقتل بعضكم بعضا، وقال غيرهم: معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه فكيف التوفيق بين هذين التأويلين وبين التأويل الأول ؟
قلنا: لو كانت المسألة من باب التعارض لرجّحنا التأويل الأول؛ لأنه في حكم المرفوع، ولكنه لا تعارض بل الآية شاملة للمعاني المذكورة كلها؛ لأن
قمع الأشرار
۳۰۱
الفعل فيها متضمن لمصدرٍ مُنكَرٍ ، والنكرة في سياق النفي والنهي ونحوهما
تفيد العموم بطريق الوضع على ما عرف من الأصول.
قال التاج ابن السُّبكي في "جمع الجوامع " ما نصه: «والنكرة في سياق النفي للعموم وضعا، وقيل لزوما وعليه الشيخ الإمام»، زاد شارحه: «كالحنفية». وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" بعد أن ذكر أيضًا النكرة في سياق النفي تعمُّ وَضْعا، واستدل له بوجهين ما لفظه: «واعلم أنَّ حُكم النَّكِرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي . اهـ
۳۰۲
فصل
الأدب والمتفرقات
أخرج البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الذي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُها في النَّارِ، والذي يَطْعُنُها يَطْعُنُها فِي النَّارِ».
وأخرجه البيهقي في "الشعب" ولفظه: «الذي يَخْنُقُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ، والذي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ، والذي يَطْعُنُ نَفْسَهُ يَطْعُنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ». يخنق، ويطعن بفتح أولهما وضم ثالثهما، والخنق والطعن معروفان،
عقبة
والاقتحام أن يرمي الشخص بنفسه في الأمر من غير رَوَيَّةٍ ، يقال : اقتحم . أو حفرةً، أي رمى بنفسه فيها، وتقحمها مثله. ومعنى الحديث: أن من قتل نفسه بخنق أو طعنٍ أو اقتحام عُذب به يوم
القيامة في النار، وهذا وعيد شديد نسأل الله السلامة والعافية. وأخرج البخاري من طريق الأعمش قال: سمعت ذكوان - يعني أبا صالح السمان - يُحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فقَتَلَ نَفْسَهُ فهو فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلدًا فيها أبدًا، ومَن تَحَسَّى سُمَّا فقَتَلَ نَفْسَهُ فسُمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فيها أَبَدًا، ومَن قَتَلَ نَفْسَهُ بحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بها فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».
وأخرجه مسلم والترمذي وابن مردويه من هذا الطريق بلفظ: «مَن قَتَلَ نَفْسَهُ بحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بها فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن
قمع الأشرار
۳۰۳
شَرِبَ سُمَّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فهو يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَن تَرَدَّى
مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فهو يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». التحسي: شرب الماء ونحوه في مهلة، فمعنى تحسَى سُما: شربه، ويتوجأ بها أي يضرب نفسه بها.
(۱)
وأخرج البخاري ومسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة: أنَّ ثابت بن الضَّحَّاك وكان من أصحاب الشجرة رضي الله عنه، حدثه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن حَلَفَ على (١) مِلَّةٍ غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال، وليس على ابن آدم نَذر فيما لا يَمْلِك، ومَن قَتَلَ نَفْسَهُ فِي الدُّنيا عُذْبَ به يومَ القِيامَةِ، ومَن لَعَنَ مُؤْمِنًا فهو كقَتْلِهِ ومَن قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فهو كقَتْلِهِ». هذا لفظ البخاري في إحدى الروايات.
ولفظ مسلم في إحداها أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة،
(۱) «على» بمعنى «الباء» للتعدية كما جاء مُفسَّرًا في رواية أخرى في "الصحيحين" أيضًا ولفظها: «مَن حَلَفَ بِمِلَّةٍ سوى الإسلام كاذبًا مُتعمدا فهو كما قال»، والحلف بغير الإسلام أن يقول: «هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا» أو «يكون كافرًا إن كان حصل كذا ونحو ذلك.
وفي الحديث وعيد شديدٌ عليه، بل ظاهره أنَّ من حلف بذلك يكون كافرًا كما قال، وهو محمول على ما إذا أراد الكفر وأضمره بقلبه، أو قصد تعظيم الملة التي حلف بها؟ لأن إرادة الكفر أو تعظيمه كل منهما كفر، فإن قصد مجرد الابتعاد من فعل المحلوف
عليه فلا يكفر. وهل تجب عليه كفارة يمين أو لا؟ قولان، الحنفية والثوري والأوزاعي وأحمد على الأول، والجمهور على الثاني.
٣٠٤
الأدب والمتفرقات
عن ثابت بن الضَّحَّاك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس على رَجُلٍ نذر فيما لا يَمْلِكُ ولَعْنُ المُؤْمِنِ كقَتْلِهِ، ومَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِشيءٍ فِي الدُّنْيا عُذْبَ به يومَ القِيامَةِ، ومَن ادَّعى دَعْوَى كاذِبةٌ ليتكثر بها لم يزده الله إِلَّا قِلَّةٌ، وَمَن حَلَفَ على يمين صبر (۱) فاجِرَةِ». أي لم يزده الله إِلَّا قِلَّةً فحذف الخبر من الجملة الثانية لدلالة
خبر الجملة الأولى عليه، وللحديث في "الصحيحين" ألفاظ وطرق.
وكذا أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح» ولفظه: «ليس على العَبْدِ نَذْرٌ فيها لا يَمْلِكُ، وَلَاعِنُ الْمُؤْمِنِ كقَاتِلِهِ، ومَن قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فهو كقَاتِلِهِ، ومَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيءٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِمَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ».
وروى الشيخان - واللفظ لمسلم - عن سهل بن سعد الساعدي رضي ا عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما
(۱) «يمين صبر» : بالإضافة، وأصل الصبر الحبس والإمساك، ويمين الصبر هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من أجلها إلى أن يحبس، قاله الخطابي. وورد تسميتها باليمين المصبورة في حديث رواه أبو داود والحاكم عن عمران بن حصين
وباليمين الصابرة في حديث رواه أحمد، عن أبي هريرة.
وفي الحديث من الأحكام والفوائد: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وتحريم لعن المؤمن ورميه بالكفر، واليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال غيره، والحلف بغير الإسلام، وقوله في الحديث: «كاذبًا» قال النووي: ليس للتقييد بل هي حال لازمة؛ لأن الحالف بملة غير الإسلام إما أن يكون معتقدا تعظيم ما حلف به فهو كاذب في اعتقاده، وإما أن يكون غير معتقد تعظيمه فهو كاذب في الصورة؛ لأنه عظمه بالحلف به، فهو دائما
كاذب». وفيه أنه لا يصح النذر فيما لا يملكه الشخص ولا يلزمه بنذره ذلك شيء.
قمع الأشرار
٣٠٥
مال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم إلى عَسْكَرِه ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلٌ لا يدع لهم شاذةً إِلَّا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أَمَا إِنه مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فقال رجل من القوم أنا صاحبه أبدا، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه ، قال : فجُرح الرجل جُرْحًا شديدًا فاستعجل الموت
فوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بالأرض وذُبَابَهُ بين ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تحامل عليه فقَتَلَ نَفْسَهُ. فخرج الرجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: «وما ذاك؟ قال : الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جُرحَ جُرْحًا شديدا، فاستعجل الموتَ فوضع نَصل سيفه بالأرض وذُبابَهُ بين ثدييه، ثُمَّ تحامل عليه فقَتَلَ نَفْسَهُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عند ذلك: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجنَّةِ فيما يَبْدُوا اللنَّاسِ، وهو من أ. ، وهو مِن أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ
أَهْلِ النَّارِ فيما يَبْدُو للنَّاسِ، وهو مِن أَهْلِ الجنَّةِ».
ورَوَيَا أيضًا - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل ممن معه يَدَّعِي الإسلام: «هذا مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فلمَّا حَضَرَ القتال قاتل الرَّجُلُ أَشدَّ القتال حتَّى كَثُرت به الجراحَةُ، فكاد بعض الناس يرتاب، فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أَسْهُما فَنَحَرَ نَفْسَهُ، فاشتد رجال من المسلمين
٣٠٦
الأدب والمتفرقات
اقم
فقالوا: يارسول الله صَدَقَ اللهُ حديثك ، انتحر فلانٌ فقَتَلَ نَفْسَهُ ، فقال : ( يافلان فأذن أنه لا يدخل الجنَّةَ إِلَّا مُؤمِنٌ، إنَّ اللَّهَ يَوْيَّدُ الدِّينِ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ». وأخرج البخاري ومسلم عن الحسن البصري قال: حدثنا جُندب بن عبدالله في هذا المسجد - يعني مسجد البصرة وما نسينا منذ حدثنا، وما نخشى أن يكون جُنْدُبُ كَذَبَ على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «كان فيمَن قَبْلَكُم رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بها يَدَهُ، فما رَقَا الدَّمُ حَتَّى مات، قال الله عزَّ وجلَّ: بادَرَنِي
عبدي بنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عليه الجنَّة». هذا لفظ البخاري.
ولفظ مسلم: «أَنَّ رَجُلًا ممن كان قبلك خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ انتَزَعَ سَهْما من كنانَتِهِ فنكَأَها فلم يَرْقَا الدَّمُ حَتَّى مات قال ربُّكُم: قد حَرَّمْتُ عليه الجَنَّةَ».
!
فصل
ما تقدم من الأحاديث يقتضي أ صريح . أن الانتحار كبيرة، بل من أكبر الكبائر؛ لأن ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الوعيد مثل التخليد في النار وتحريم الجنَّة، ما ورد إلَّا في معاصي قليلة عدَّها العلماء بسببه من أكبر الكبائر، فعد هذا منها واضح، واقتصر جماعة من العلماء على عده كبيرة، منهم الإمامان الدین ابن دقيق العيد، ومحي الدين النواوي، والفقيه ابن حجر الهيتمي. والمعنى في ذلك ما ذكره التقي ابن دقيق العيد: «أَنَّ نَفْسَ الإنسان ليست
ملكا له وإنما هي ملك الله تعالى؛ فلا يتصرف فيها إلا بما أذن الله». اهـ ولما فيه أيضًا من الجزع والتسخط لقضاء الله، واليأس من روحه ورحمته؛ لأن الشخص لا يُقدِم على قتل نَفْسِهِ إلَّا إذا نزلت به مصيبةٌ، فيطيش لها عقله
قمع الأشرار وينسى أن ما نزل به أمرٌ قدَّره الله وقضاه، وأنه إن صَبَرَ فَرَّج الله عنه، كما جاء بذلك القرآن والحديث، فتظلم عليه الدُّنيا حينئذ، ويستولي عليه الجَزَعُ واليأس، فلا يجد عند ذلك مُخلّصًا إلَّا قتل نَفْسِهِ، يرى بذلك أنه أراحها، ولا يدري أنه ، بفعله قدَّمها لعذاب دائم مستمر، لا يفتر عنه طرفة عين إلا أن يتداركه الله بلطفه ورحمته.
فصل
ثُمَّ ما ذكرناه من أنَّ الانتحار كبيرة متفق عليه بالنسبة للمنتحر المعصوم الدم، وهو الذي لم يفعل ذنبًا يوجب قتله شرعًا، فأمَّا إذا كان المنتحر مُهدَر الدم، كأن كان زانيًا مُحصَنًا، أو قاتل نفس مسلمة بغير حَقٌّ، فاختلف هل يكون الانتحار في حقه كبيرة أو لا ؟ فاختار الإمام عز الدين ابن عبدالسلام أنه صغيرة، قال ذلك في فتاويه الموصلية، وهي . جملة أسئلة بعث بها إليه خطيب الموصل شمس الدين عبدالرحيم عرف بابن الطوسي جاء في أولها: «هل يجوز للمكلَّف قتل نَفْسِهِ إذا علم أنه أتى ما يوجب القتل أو يستحب أو يحرم؟ فإذا
فعل ذلك هل يُسمَّى بَرا أو فاسِقًا؟».
فأجابه عز الدين بها هذا لفظه: «مَن تحتّم قتله بذنب من الذنوب لم يجز له أن يقتل نَفْسَهُ، وستره على نفسه أولى به، وإن أراد تطهير نفسه بالقتل فليقر بذلك عند ولي الأمر ليقتله على الوجه الشرعي، فإن قتل نَفْسَهُ لم يجز له ذلك، لكنه إن قتل نَفْسَهُ قبل التوبة كان ذنبه صغيرة؛ لافتئاته على الإمام، ويلقى الله فاسقا بالجريمة الموجبة للقتل، فإن قتل نفسه بعد التوبة فإن جعلت توبته مسقطة لقتله فقد لقي الله فاسقا بقتل نَفْسِهِ؛ لأنه قتل نفسا معصومة، وإن قلنا
۳۰۸
الأدب والمتفرقات
لا يسقط قتله بتوبته لقي الله عاصيا بافتئاته على الأئمة، ولا يأثم بذلك إثم مرتكب الكبائر؛ لأنه فوت حياة يستحق الله تفويتها، وأزهق نفسًا يستحق الرب إزهاقها، وكان الأصل يقتضي أن يجوز للآحاد القيام بحق الله في ذلك،
لكن الشرع فوَّضه للأئمة كي لا يفرط الاستبداد به في الفتن».اهـ واستظهر ابن حجر الهيتمي أن قتل المهدر لنَفْسِهِ كبيرة أيضًا، قال لأن الإنسان وإن أهدر دمه لا يباح له هو إراقته، بل لو أراقه لا يكون كفارة له؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلّم إنما حكم بالكفَّارة على من عُوقب بذنبه، وأمَّا
من عاقب نَفْسَهُ فليس في معنى من عُوقب» . اهـ
وهذا هو الصواب؛ لأن الأحاديث التي ذكرناها عامة، وإخراج المهدر منها يحتاج إلى دليل، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ما يُخصص تلك الأحاديث، فوجب التمسك بعمومها، والله أعلم.
فصل
تمسكت المعتزلة لدعواهم المعروفة، وهي أنَّ مُرتَكِبَ الكبيرة يخلد في النَّار (۱) بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حديث أبي هريرة: «خالِدًا مُحلَّدًا فيها
(۱) وهي دعوى باطلةٌ؛ يردُّها القرآن والسُّنَّة المتواترة المقطوع بها وإجماع أهل السُّنَّة، أمَّا القرآن فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَادُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: ٤٨] مع قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الخَسِرِينَ [آل عمران: ٨٥ ] وقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يره الزلزلة: ٧] والإيمان عمل خير لا بد له من جزاء، ولا يمكن أن يرى
قمع الأشرار
۳۰۹
جزاءه قبل دخول النار ثُمَّ يدخلها مُخَلَّدًا، لأنه باطل بالإجماع، فتعين الخروج من النار لقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ [التوبة: ۷۲] وآيات من هذا القبيل. وأما السُّنَّة: ففي "الصحيح" عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن شَهِدَ أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله؛ حَرَّمَ اللهُ عليهِ النَّارَ». أي
الخلود فيها.
وفي "الصحيح" أيضًا عن عبادة مرفوعًا مَن قال: أَشْهَدُ أن لا إله إِلَّا الله وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله وابن أُمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى
مريم ورُوحٌ مِنْهُ، وأَنَّ الجنَّة حَقٌّ، وأنَّ النَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ على ما كان مِن عَمَلٍ». وفي "الصحيح " أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا: «أَشْهَدُ أن لا إله إِلَّا الله وأَنِّي رسول الله، لا يَلْقَى الله بهما عَبْدٌ غير شاكٌ فيهما إِلَّا دَخَلَ الجنَّةَ».
ورواه ابن فيل والطبراني والحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي، من حديث أبي عمرة الأسدي وصححه ابن حبان أيضًا.
وفي "الصحيح " أيضًا عن عثمان مرفوعا: مَن مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا إِله إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الجنة». والمراد: لا إله إلا الله مع قرينتها محمد رسول الله ، بدليل ما تقدم وما سيأتي. وفي "الصحيح" عن معاذ بن جبل مرفوعا: «ما مِن عَبْدِ يَشْهَدُ أن لا إله إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النَّارِ».
وفي "الصحيح" أيضًا عن عتبان بن مالك مرفوعًا: «لا يَشْهَدُ أَحدٌ أن لا إله إِلَّا الله وأني رسول الله فَيَدْخُلَ النَّارَ أو تَطْعَمُهُ».
وفي "الصحيح" عن جابر مرفوعا: «مَن لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجنَّةَ، وَمَن لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ».
۳۱۰
الأدب والمتفرقات
وعن أبي ذر مرفوعا: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: بَشِّرْ أُمَّتِكَ أَنه مَن مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شيئًا دَخَلَ الجنَّةَ، قلت: يا جبريل وإن سَرَقَ وإن زَنَى؟، قال: نعم، قلت: وإِن سَرَقَ
وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شَرِبَ الخَمْرَ. وله لفظ آخر في "الصحيحين" أيضًا. وروى البزار والطبراني بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة مرفوعا: «مَن قال: لا إله إلا الله، نَفَعَتْهُ يوما مِن دَهْرِهِ يُصِيبُهُ قبل ذلك ما أَصابَهُ». وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «شَفاعَتِي لأَهْلِ الكَبَائِرِ مِن أُمتي». رواه الترمذي وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أنس ، ورواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة من طريق مالك بن دينار، عن أنس، ومن طريق يزيد الرقاشي وزياد النميري كلاهما عنه، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق محمد الباقر عن جابر، ورواه البيهقي من طريق الشعبي عن كعب بن عجرة، ورواه البيهقي وابن
عدي من حديث ابن عمر ، ورواه عبد الرزاق عن مَعْمَرٍ عن ابن طاوس عن أبيه. وصححه الترمذي وابن حِبَّان والحاكم والبيهقي والذهبي والسخاوي والسيوطي وغيرهم من الحفاظ، وهو حديث مشهورٌ مستفيض.
وعن ابن عمر مرفوعا: «خُيّرتُ بين الشَّفاعَةِ أو يَدْخُلُ نِصْفُ أُمَّتِي الجَنَّةَ فَاخْتَرَتُ الشَّفاعَة؛ لأنها أَعَمُّ وأَكْفَى، أما إنها ليست للمؤمنين المتقين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين». رواه أحمد والطبراني بإسناد صحيح.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد مرفوعًا: «أما أهلُ النَّارِ الذين هُمْ أَهْلُها، فإنهم لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَوْنَ، ولكنْ نَاسٌ أصابَتْهُمُ النَّارُ بذُنُوبِهِم - أو قال بخَطاياهم فأماتهم إمَانَةً حَتَّى إذا كانوا فَحْمًا، أَذِنَ بالشَّفاعَةِ، فجِيءَ بهم ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُوا على أنهارِ الجنَّة، ثم قيل: يا أهلَ الجنَّة، أفيضُوا عليهم، فيَنْبُتُونَ نباتَ الحِبَّةِ تكون في حَمِيلِ السَّيْلِ».
وهو في "صحيح البخاري" بلفظ آخر والمعنى واحد.
قمع الأشرار
۳۱۱
وأحاديث الشفاعة المصرحة بإخراج عصاة المؤمنين من النار ودخولهم الجنة بالغة مبلغ التواتر؛ إذ قد زادت طرقها على أربعين طريقًا فيما قرأته ووقفت عليه، ونص على تواترها جماعة من الحفاظ كالقاضي عياض والنووي والعراقي والسيوطي وغيرهم.
وكثير من طرقها في صحيحي البخاري ومسلم" وباقي الكتب الستة.
وقد روى الطبراني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا: «يُوضَعُ للأنبياءِ مَنَابِرُ مِن ذَهَبٍ يجلسون عليها، ويَبْقَى مِنْبَرِي لا أَجْلِسُ عليه، قائِمٌ بين يَدَيْ رَبِّ عَزَّ وجلَّ مُنتَصِبا لأُمَّتِي تَخَافَةَ أَن يَبْعَثَ بي إلى الجنَّةِ، وتَبْقَى أُمني بعدي، فأقول: يا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي. فيقول الله عزّ وجلَّ يا محمَّدُ ما تُرِيدُ أن أَصْنَعَ بِأَمَّتِكَ؟ فأقول: يا رَبِّ اعْدِلْ حِسَابَهُمْ، فَيُدْعَى بهم فيُحَاسَبُونَ، فمنهم مَن يَدْخُلُ الجنَّة برحْمَةِ الله، ومنهم مَن يَدْخُلُ الجنة بشفاعتي فما أزالُ أَشْفَعُ حَتَّى أُعْطَى صِكَاكًا برجالٍ قد بُعِثَ بهم إلى النَّارِ، وحَتَّى إِنَّ مَالِكًا خازِنَ النَّارِ يقول: يا محمَّدُ ما تَرَكْتَ لَغَضَبِ رَبِّكَ مِن أُمَّتِكَ مِن
نِقْمَةٍ.
وروى البزار والطبراني، عن علي عليه السلام مرفوعًا: «ما أَزَالُ أَشْفَعُ لأُمَّتِي حَتَّى يُنادِيني رَبِّي تبارك وتعالى فيقول: أقد رَضِيتَ يا محمد؟ فأقول: أي ربِّ رَضيتُ». إسناده حسن. وهل تراه يرضى وأحد ممن يؤمن به مخلد في النَّارِ ؟! هذا لا يكون أبدًا. وأما الإجماع: فقال الإمام النووي في شرح مسلم": «مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحقِّ مِن السَّلف والخلف أنَّ مَن ماتَ مُوحّدًا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون الذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفّق الذي لم يبتل بمعصية أصلا، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلا، لكنهم يردونها بمرورهم على الصراط، وهو منصوب على ظهرها، وأمَّا من كانت له معصية كبيرة ومات من
۳۱۲
الأدب والمتفرقات
أبدا»، وبقوله في حديث جُندب بن عبد الله: حَرَّمْتُ عليه الجنَّة». وأجاب أهل السنة عن الحديثين.
غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولًا وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثُمَّ يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحدمات على الكفر ولو عمل من أعمال البرِّ ما عمل. هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسُّنَّة وإجماع من يعتد به من الأئمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة بأن أفاد تخليد بعض أهل العصر في النار - وجب تأويله ليجمع بين نصوص الشرع . اهـ
وأيضًا، فقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى وقتنا على الصلاة على عصاة المؤمنين والترحم عليهم والاستغفار لهم، ولو كانوا محلدين في النار لما جاز ذلك أصلا، كما لا تجوز الصلاة على غير المؤمن ولا الدعاء له بالمغفرة أو الرحمة بإجماع
المسلمين؛ لأنه مُحلَّدٌ في النار مُعذَّب دائما، والعذاب والرحمة نقيضان لا يجتمعان. فبان مما ذكرناه أنَّ القول بتخليد عصاة المؤمنين في النار يُبطله الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة، ويُبطله وجه آخر من جهة العقل والمعنى، ذكره العلامة السعد في "شرح العقائد النسفية" وهو: أنَّ الخلود في النار من أعظم العقوبات، وقد جعل جزاء للكفر الذي هو أعظم الجنايات، فلو جوزي به غير الكافر كان زيادة على قدر الجناية فلا يكون عدلا ، وهذا الدليل يتمشَّى مع أصول المعتزلة كما لا يخفى فهو دليل
إلزامي.
وقد أطلت في هذا البحث بعض الإطالة لداع اقتضى ذلك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قمع الأشرار
فأما الجواب عن حديث أبي هريرة فمن وجوه:
۳۱۳
الأول: توهيم تلك الكلمة، قال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: «وروى محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٌ عُذْبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ». ولم يذكر فيه: «خالِدًا مُحلَّدًا فيها أبدًا»، وهكذا رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وهذا أصح لأن الروايات تجيء بأن أهل التوحيد يُعذَّبون في النار ثُمَّ يخرجون منها، ولا يذكر أنهم يخلدون
فيها». اهـ
وهذا جواب ضعيفٌ؛ لأن تلك الكلمة مع كونها مخرجة في "الصحيحين" وراويها ثقة لا مطعن فيه جاء على وفاقها القرآن، قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية
[النساء: ٩٣].
فهب أنا تجرأنا ووَهَّمنا رواية الأعمش، أفترى أن نوهم أصحاب القراءات
في رواية هذه الآية الكريمة؟!، كلا لاسبيل إلى ذلك.
الثاني: أنَّ الحديث محمول على من استحل ذلك فإنه يصير باستحلاله
كافرًا والكافر مخلد بلا ريب، وهذا أيضًا ضعيفٌ.
الثالث: أنه ورد مورد الزَّجْرِ والتغليظ وحقيقته غير مرادة. وهذا جواب ساقط لا ينبغي أن يلتفت إليه، وما ذكرته إلا للتحذير منه لأنه يتمشى مع قول
المرجئة في تعطيل نصوص الوعيد.
الرابع: أن المراد بالخلود طول المكث والإقامة المتطاولة كما يقال: «خلد الله
٣١٤
ملك السلطان»، قال الحافظ: «وهذا أبعدها». قلت: ليس بأبعد من الثالث ولا مما بعده وهو:
الأدب والمتفرقات
الخامس: وهو ما حكاه ابن التين عن بعضهم أنَّ المراد به رجلٌ مُعيَّنٌ، ولست أدري من أنبأه بهذا الرجل المعيَّن.
السادس: أنَّ الحديث تقديرًا والمعنى مُحلَّدًا فيها إلى أن يشاء الله، وهذا أيضًا
ليس بذاك.
السابع : أنَّ ذلك الوعيد جزاؤه إلَّا أن يتكرم الله تعالى، وقد تكرم سبحانه على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم وشهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بل تكرّم سبحانه وتعالى فسامح بعض فاعلي ذلك من غير سابقة عذاب. قال الحافظ : «وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث، ونحوه من أحاديث الوعيد» . اهـ
قلت: ويؤيده ما رواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: لما هاجر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو الدوسي وهاجر معه رجلٌ من قومه فاجتووا المدينة فَمَرِضَ فَجَزِعَ فأخذ مَشاقِصَ له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مُغطّبًا يديه فقال: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم. فقال: مالي أراك مغطيا يديك قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصَّها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم : «اللهم وليَدَيْه فاغْفِر». قال الإمام الحافظ النووي رحمه الله ورضي عنه ونفعنا به- في "شرح
قمع الأشرار
٣١٥
مسلم" ما لفظه: «في هذا الحديث حُجَّةٌ لقاعدة عظيمة لأهل السُّنَّةَ أَنَّ مَن قتل نَفْسَهُ أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة، وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار، وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإنَّ هذا عوقب في يديه ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر، والله أعلم . اهـ
ونقل ابن سلطان في شرح المشكاة عن التوربتشي أنه قال: «هذا الحديث وإن كان فيه ذكر رؤيا أريها الصحابي فإن قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم وليَدَيْهِ فَاغْفِر من جملة ما ذكرنا من الأحاديث الدالة على أنَّ الخلود غير واقع في حق من أتى بالشهادتين وإن قتل نفسه؛ لأن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم دعا للجاني على نَفْسِهِ بالمغفرة، ولا يجوز في حقه أن يستغفر لمن وجب عليه الخلود بعد أن نهي عنه» . اهـ
وأما الجواب عن حديث جُندب رضي الله عنه فهو أيضا من سبعة وجوه:
أولها: أنَّ الرجل استحلَّ ذلك الفعل - وهو الانتحار - فصار كافرًا. ثانيها: أنه كان كافرًا في الأصل وعُوقب بهذه المعصية زيادة على كفره، وهذا مبني على أنَّ الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وهو ما ارتضاه البيضاوي في "المنهاج" وصححه ابن الشبكي في "جمع الجوامع" وحكاه الشوكاني عن الجمهور وقال إنه الحق. ثالثها: أنَّ المراد أنَّ الجنَّةَ حُرّمت عليه في وقت ما، كالوقت الذي يدخل
فيه السابقون أو الوقت الذي يُعذَّب فيه الموحدون في النار ثُمَّ يخروجون، وهذا
٣١٦
أجودها.
الأدب والمتفرقات
رابعها أنَّ المراد جنةٌ مُعيَّنةٌ كالفردوس مثلا.
خامسها : أنَّ ذلك ورَدَ على سبيل التخويف والتغليظ وظاهره غير مراد،
وقد نبهناك فيها مرَّ على أنَّ هذا الجواب ساقط فلا تغفل.
سادسها: أنَّ التقدير : حَرَّمْتُ عليه الجنة إن شئت استمرار ذلك. سابعها: ما قاله النووي رضي الله عنه يحتمل أن يكون ذلك شرع من مضى أن أصحاب الكبائر يكفرون بفعلها». اهـ ثُمَّ رأيت الشوكاني في نيل الأوطار نزع في حديثي أبي هريرة وجندب إلى رأي آخر غير أهل السُّنَّة والاعتزال جميعًا، وذلك جعلهما مُخصصين لعموم الأحاديث الدالة على إخراج الموحدين من النار وهذا موافق لما تقرر في الأصول؛ أنه إذا تعارض عام وخاص خُصَّصَ العام بالخاص، لكن حديث جابر في قصة الرؤيا التي رآها الطِّفيل حُجَّةٌ لأهل السُّنَّة عليه، ولولا هذا الحديث كنت وافقته، وقد أجاب عنه بأن: «صاحب الطفيل لم يرد قتل نَفْسِهِ بقطع التراجم، وإنما حمله الضجر وما حلّ به من المرض على ذلك»، قال: بخلاف الرجل المذكور في حديث جندب فإنه قطع يده مريدا لقتل
نفسه» . اهـ
قلت: ما ذكره من أن صاحب الطفيل لم يرد قتل نَفْسِهِ إن أخذه من عدم تعذيبه فهو نوع من المصادرة؛ لأن أهل السُّنَّة يستدلون بذلك على أن قاتل نَفْسِهِ مُتعمدًا لا يُخلَّد في النار، على أنا نمنع أنه لم يرد قتل نَفْسِهِ فإن الظاهر أنه ما قطع براجمه ولا سيما في حالة الجزع إلا ليريح نَفْسَهُ بالموت وقوله: «قيل لي
قمع الأشرار
۳۱۷
لن نصلح منك ما أفسدت قد يؤخذ منه ذلك فإنه إذا لم يرد قتل نَفْسِهِ لا معنى لعقابه في يديه، وبالجملة ما أجاب به ضعيف؛ لأنه مجرد احتمال لم يقم عليه دليل فاطرحه وتمسك بما لأهل السنة، وبالله التوفيق.
فصل
استشكل ابن دقيق العيد وغيره قوله في حديث جُندب: «بادرني عبدي بنَفْسِهِ فإنه يقتضي أن قاتل نَفْسِهِ لو لم يفعل كان قد تأخر أجله وعاش لكنه بادر فتقدم. وأجيب عنه بجوابين ذكر هما الحافظ في "الفتح".
أحدهما: أن المبادرة من حيث التسبب في ذلك والقصد له والاختيار، وأطلق عليه المبادرة لوجود صورتها، وإنما استحق المعاقبة لأن الله لم يطلعه على انقضاء أجله، فاختار هو قتل نَفْسِهِ فاستحق المعاقبة لعصيانه.
ثانيهما: ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي: قضاء الله مطلق ومقيَّد بصفة، فالمطلق يمضي على الوجه بلا ،صارف، والمقيَّد على الوجهين، مثاله: أن يُقدَّر لواحد أن يعيش عشرين سنةً إن قتل نَفْسَهُ وثلاثين سنةً إن لم يقتلها، وهذا بالنسبة إلى ما يعلم به المخلوق كمَلَكِ الموت مثلا، وأمَّا بالنسبة إلى علم الله تعالى فإنه لا يقع إلا ما علمه، ونظير ذلك الواجب المخير فالواقع منه معلوم عند الله والعبد مُخيّر في أي الخصال يفعل» . اهـ
وهذا الجواب يطرد في كل حديث من هذا الباب، كحديث: «مَن سَرَّهُ أَن يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ ويُنْسَأُ فِي أَجَلِهِ أي يؤخّر، وحديث: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزيدُ في العمر»، وحديث: إنَّ المقتول يتعلَّق بقاتِلِهِ يومَ القِيامَةِ، ويقول: رَبِّ قتلني وظلمني وقَطَعَ أَجَلي»، وغيرها مما أخذ بظاهره المعتزلة وهولوا به على أهل
۳۱۸
الأدب والمتفرقات
السُّنَّة، والله أعلم. (۱)
(۱) تنبيه : في معنى القضاء والقدر والفرق بينهما وبعض ما يتعلق بهما : قال صاحب "المصباح": «القَدَرُ - بالفتح لا غير - القضاء الذي يُقَدِّره الله تعالى». اهـ وقال الراغب: «القَدَر بوضعه يدلُّ على القُدْرَة وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول: «وقدَّر الله الشيء» بالتشديد قضاه ويجوز بالتخفيف، ونقل الكرماني عن العلماء أنهم قالوا: القضاء هو الحكم الكُلَّيُّ الإجمالي في الأزل، والقَدَر: جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله. وهذا بمعنى قول بعضهم كما نقله الحافظ في كتاب الدعوات من "الفتح": «القضاء : الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل".اهـ وحاصل ما للمتكلمين في القضاء والقدر أنَّ الأول معناه الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيها لا يزال، والثاني إيجاد الأشياء على قدر مخصوص.
وقد نظم العلامة الشيخ الأجهوري المالكي ذلك في أبيات فقال: إرادَةُ الله مَعَ التَّعَلَّقِ في أَزَلٍ قَضَاؤُهُ فَحَفِّـ والقَدَرُ الإِيجَادُ الأَشْيَا عَلَى وَجْهِ مُعَينٍ أَرادَهُ عَلَا وبعضُهم قد قال مَعْنَى الأول العِلْمُ مَعْ تَعَلَّقِ فِي الأَزَل والقَدَرُ الإيجادُ للأُمُورِ عَلَى وِفاقِ عِلْمِهِ المَذْكُورِ وقال الإمام النووي - رضي الله عنه - في شرح مسلم": «واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أنَّ الله تعالى قدر الأشياء في القدم، وعَلِمَ سبحانه أنه ستقع
في أوقات معلومة عنده، وعلى صفاتٍ مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها
سبحانه وتعالى.
قمع الأشرار
۳۱۹
وأنكرت القَدَريَّة هذا وزَعَمتْ أنه سبحانه لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم، أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرًا، وسُمِّيت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر، قال أصحاب المقالات من المتكلمين وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القَدَريَّة في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن يقولون الخير من الله والشر من غيره . اهـ وأول من فاه بإنكار القدر وقال إنَّ الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها معبد الجهني، كما
جاء في "صحيح مسلم " فتبرأ منه الصحابة والتابعون وقتله الحجاج صَبْرًا. وقال الحافظ في "الفتح": والقَدَر مصدر، تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها - أقدره - بالكسر والفتح- قدرا وقدرا بفتح الدال وسكونها- إذا أحطت بمقداره، والمراد أنَّ الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثُمَّ أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكلُّ مُحدَثٍ صادرٌ عن علمه وقدرته وإرادته. هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية وعليه كان السَّلَف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمان الصحابة. وقد روى مسلم القصة في ذلك وحكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القَدَريَّة إنكار كون البارئ عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين. قال : والقَدَريَّة اليوم مُطْبقون على أنَّ الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السَّلَف في زعمهم بأنَّ أفعال العباد مقدورةٌ لهم وواقعةٌ منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلا أخف من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث وهم
۳۲۰
.
الأدب والمتفرقات
مخصومون بما قال الشافعي: «إِن سَلَّمَ القَدَرِيُّ العِلْمَ خُصِمَ يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم فإن منع وافق أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل تعالى الله عن ذلك . اهـ والقدرية الأولون النافون لعِلم الله كفَّارٌ بلا خلاف كما قال القاضي عياض رحمه الله، وأما المتأخرون منهم الذين يثبتون العِلْمَ ويزعمون أنَّ الشر بقدرة العبد وإرادته على جهة الاستقلال فهم ضالون زائغون، مخالفون لما أطبقت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويكفي ردّا عليهم قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَىءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله ﴾ [التكوير: ۲۹]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ شيءٍ بقدرٍ
حتَّى العَجْزِ والكَيْس». رواه مسلم، وفي حق هؤلاء ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: رواه أبو داود والحاكم وقال: «صحيح على شرط
هذه الأمة». القدرية مجوس
الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر». قال الخطابي: «إنما جعلهم مجوسًا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية، وكذلك القَدَريَّة يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره، والله سبحانه خالق الخير والشر جميعا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه خَلْقًا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما فعلا واكتسابا» . اهـ وقد ألف في إثبات القَدَر جماعةٌ مِن أهل السُّنَّة، فلابن وهب كتاب "القدر" ولأبي داود صاحب "السنن" كتابٌ خاص في القَدَر أيضا، وكذا للفريابي وللبيهقي
وغيرهم. والمقصود: أنَّ التصديق بالقَدَر جزء من الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به، كما دلت عليه الأحاديث المستفيضة وإجماع أهل الحقِّ، فيجب على الشخص أن يؤمِنَ بالقَدَرِ خيره
قمع الأشرار
الباب الثاني
في حكم الصلاة على قاتل نفسه
اختلف العلماء هل يُصلى عليه أو لا؟
۳۲۱
فقال عمر بن عبدالعزيز والأوزاعي وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة: لا
وشره حلوه ومُرّه، ويعلم أنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، كما يجب عليه أن يترك الخوض في القضاء والقدر، ويكل الأمر فيهما إلى الله؛ فقد
روى الطبراني عن ابن مسعود مرفوعًا: «إذا ذُكِرَ القَدَرُ فَأَمْسِكُوا». سنده حسن. وجاء النهي عن الخوض في القدر في عدة أحاديث، وروى الحاكم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: «أُخْرَ الكلامُ في القَدَرِ ِلشِرارِ أُمَّتِي في آخر الزَّمانِ». قال الإمام أبو المظفّر السمعاني: «القَدَر سر من أسرار الله تعالى التي ضرب من دونها الأستار، اختص الله به وحَجَبَهُ عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم فلم يعلمه نبي مرسل ولا مَلَكٌ مُقرَّب، وقيل إنَّ سَرَّ القَدَر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة ولا ينكشف لهم قبل دخولها . اهـ
ونقله الإمام النووي والحافظ وأقراه، ويؤيده حديث: «القَدَرُ سِرُّ الله» رواه ابن عدي وغيره وإسناده ضعيف، على أنه يجب أن تعلم أن ليس في القَدَرِ إجبار العبد على فعل المقدَّر كما يتوهم كثير من الناس، قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد وقهره على ما قدَّره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها» . اهـ والعلم ليس من خاصيته التأثير والإجبار كما هو معروف، والمسألة طويلة الذيل وفيما كتبناه كفاية، وبالله التوفيق.
۳۲۲
الأدب والمتفرقات
يُصلي عليه الإمام ولا غيره.
وقال أحمد: لا يُصلّي عليه الإمام ويُصلِّي عليه بقية الناس، واستدل بما رواه مسلم والأربعة من طريق سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: أُتي النبي
صلى الله عليه وآله وسلَّم بَرَجُل قَتَلَ نَفْسَهُ بمشاقِصَ له فلم يُصَلِّ عليه. ولفظ أبي داود: أنَّ رجلا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنَّ جاره قدمات قال: «وما يُدريك؟» قال: رأيته ينحر نَفْسَهُ بمشاقص معه، قال: «أأنت رأيته؟» قال: نعم، قال: «إذا لا أُصلّي عليه».
وأخرج تمام وابن عساكر من حديث أنس أنَّ رجلا قال: يا رسول الله، إِنَّ أمي أصابها جهد فلم تفطر حتى ماتت، قال: «اذهب فصل عليها فإنَّ أُمَّك قتلت نفسا». وقال ابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِيُّ، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وقتادة، وسفيان الثوري، ومالك، وإسحاق بن راهويه، وأبو حنيفة، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وزُفَر ، وداود بن علي الأصبهاني الظاهري، وجماهير العلماء : يُصلّي عليه الإمام وغيره، ويُفعل به ما يُفعل بموتى
المسلمين، وإثمه على نَفْسِهِ. قال مالك في "المدوَّنة": "يُصلَّى على قاتل نَفْسِهِ، ويُصنَع به ما يُصنَع بموتى
المسلمين، ويُورث، وإثمه على نَفْسِهِ .
واستدل ابن حزم لذلك بعموم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «صَلُّوا على صاحبكُم». والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة : ۷۱] هذا استدلال ابن حزم.
قمع الأشرار
۳۲۳
وقد استدل غيره بما رواه ابن ماجه من طريق الحارث بن نبهان، عن عتبة بن يقظان، عن أبي سعيد - هو المصلوب - عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صَلُّوا على كلِّ مَيِّتِ(۱) وجاهِدُوا مع كل أمير». وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء.
وأخرج الدارقطني بأسانيد ضعيفة جدا من حديث ابن عمر: «صَلُّوا
.
خَلْفَ مَن قال: لا إله إِلَّا الله ، وصَلُّوا على مَن قال: لا إله إِلَّا الله».
وأخرج الطبراني عنه مرفوعا أيضًا: صَلُّوا على مَن قال: لا إله إلا الله، وصَلُّوا وراء مَن قال: لا إله إلَّا الله». وفي سنده محمد بن الفضل، وهو كذَّابٌ، وله طرق واهية أصحها ما رواه الدارقطني والبيهقي من طريق مكحول عن
(1) أي كل ميت من المسلمين بدليل الأحاديث التي بعده، أما غير المسلم فتحرم الصلاة عليه لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلَا نَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا تُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: ٨٤] والإجماع على هذا؛ ولأنَّ الصلاة على الميت شفاعة له بما تشتمل عليه من الاستغفار له والترحم عليه، والكافر ليس من
أهل الشفاعة بل هو محروم منها أبد الآبدين كلما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
:
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء : ٥٦] وأدلة الكتاب والإجماع متضافِرَةٌ على هذا. ومن هنا تعلم أنَّ ما شاع استعماله في الجرائد المصرية من وصف موتى المسيحين وغيرهم من الكفار والملحدين بالمرحوم الخواجه فلان، أو المغفور له الخواجه فلان، ونحوه من العبارات التي تفيد الترحم والاستغفار مُحرَّم تحريما باتا لا رخصة فيه أبدا، فعسى أن يتنبه صحفيوا المسلمين إلى هذا الخطأ الذي يمس عقيدتهم في جوهرها
وصميمها فيتداركوه، وبالله التوفيق.
٣٢٤
الأدب والمتفرقات
أبي هريرة مرفوعا بنحو حديث ابن عمر ورجاله ثقات إلَّا أنه منقطع. وأخرج ابن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أي أبي الزبير - سألته أي جابرا - عن المرأة تموت في نفاسها مِن الفُجُور؟ ، قال : صل على من قال: لا إله إلَّا الله.
وقال بن أبي شيبة أيضًا : حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال : يُصلى على الذي قتل نَفْسَهُ وعلى النفساء من الزنا وعلى الذي يموت مريضًا من الخمر. وقال أيضا: حدثنا مروان بن معاوية عن ابن عون، عن عمران قال: سألت إبراهيم النَّخَعِيَّ عن إنسان قتل نَفْسَهُ، أَيُصَلَّى عليه؟ قال: نعم، إنما الصلاة سنة
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين قال: ما أعلم أن أحدا من أهل العلم ولا التابعين ترك الصلاة على أحد من أهل القبلة
تأتمها .
وقال ابن حزم في "المحلى" ما نصه: «وصح عن إبراهيم النَّخَعِي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحدٍ من أهل القبلة»، وصحَّ عن قـ قتادة أنه قال: صل على من قال: لا إله إلا الله، فإن كان رجل سوء جدًّا فقل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، ما أعلم أحدًا . من أهل العلم اجتنب الصلاة على من قال: لا إله إلَّا الله»، وصح عن ابن سيرين: «ما
أدركت أحدا يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة». اهـ باختصار. فهذه الآثار الصحيحة تنقل إجماع العلماء من الصحابة والتابعين على أنَّ
قمع الأشرار
٣٢٥
مرتكب الكبيرة يُصلَّى عليه، ودليله من جهة المعنى أنَّ الصلاة على الميت
شفاعة له، والعاصي أشد الناس احتياجا إليها فكيف نمنعها عنه. قال ابن حزم في "المحلى": «صح عن الحسن أنه قال: «يُصلى على من قال: لا إله إلا الله وصلَّى إلى القبلة، إنما هي شفاعةٌ»، وعن ابن مسعودٍ أنه سئل عن رجل قتل نَفْسَهُ: أَيُصَلَّى عليه؟ فقال: «لو كان يعقل ما قتل نَفْسَهُ»، وصح عن الشعبي أنه قال في رجل قتل نَفْسَهُ: «ما مات فيكم مذ كذا وكذا أحوج إلى استغفاركم منه . اهـ
وأما امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على الرجل الذي قتل نفسه كما مر في حديث جابر بن سمرة فقد أجاب عنه العلماء بأنَّ ذلك كان للتأديب وزجر الناس عن مثل فعله، كما قال النووي في "شرح مسلم"، قال: وصلت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الصلاة في أول الأمر على من عليه دينٌ زَجْرًا لهم عن التساهل في الاستدانة، ومن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «صَلُّوا على
.
صاحبكم». اهـ كلامه. ولما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" حديث جابر المذكور أعقبه بما نصه:
وذكر شريك عن أبي جعفر قال : إنها أدع الصَّلاة عليه أدبا له» . اهـ ومن ثَمَّ أخذ المالكيَّة أنه ينبغي لأهل الفضل والصلاح أن يجتنبوا الصلاة على الفُسَاقِ زَجْرًا وتأديبًا.
قال الشيخ خليل في باب الجنائز في "مختصره": «وكره صلاة فاضل على
بدعي أو مظهر كبيرة، والإمام على مَن حَدُّه القتل بحد أو قود ولو تولاه -أي
٣٢٦
الأدب والمتفرقات
القتل - الناس دونه» . اهـ
وقال ابن يونس: يكره للإمام وأهل الفضل أن يصلُّوا على البغاة وأهل البدع، قال أبو إسحاق وهذا باب الردع ، قال : ويُصلّي عليهم الناس، وكذلك المشتهر بالمعاصي، ومَن قُتل في قصاص أو رَجُمِ لا يُصلِّي عليه الإمام ولا أهل الفضل، وقال اللخمي : أرى فيمن حكمه الأدب أو القتل أو غير ذلك فمات قبل أن يؤدب بذلك أن يجتنب الإمام وأهل الفضل الصلاة عليه ليكون ذلك رَدْعًا لغيره من الأحياء» . اهـ
قمع الأشرار
خاتمة
۳۲۷
في النهي عن تمني الموت والدعاء به إلا إذا خاف أن يفتن في دينه
روى البخاري ومسلم من طريق النضر بن أنس قال: قال أنس رضي الله عنه: لولا أني سمعتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا تمنوا المَوْتَ»
لتمنيت.
وأخرج البخاري، من طريق قيس بن أبي حازم قال: أتينا خَبَّابَ بن الأرت نعوده وقد اكتوى سبعًا، فقال: لولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهانا أن نَدْعُوا بالموتِ لدَعَوْتُ به.
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يتمنَّ أَحَدُكُم المَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ
قبلَ أَنْ يَأْتِيَهُ؛ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ».
وأخرج أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يَتَمَنَّينَ أَحَدُكُم المَوْتَ مِن ضُرِّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَان لابدَّ فَاعِلًا فليقل: اللهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياةُ خَيْرًا لي، وتَوَفَّنِي إِذا كانت الوَفاةُ خَيْرًا لي». وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" ، ولفظه: «لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُم المَوْتَ لضُرَّ نَزَلَ بِهِ في الدُّنيا ولكن ليَقُلْ : اللهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياة خيرا لي، وتَوَفَّني ما كانت الوفاةُ خَيْرًا لِي وأَفْضَلَ». قال الحافظ في "الفتح": «هذا يدل على أنَّ النهي مُقيَّد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة؛ لأنَّ في التمني المطلق نوع اعتراضي ومراغمة للقدر المحتوم، وفي
۳۲۸
الأدب والمتفرقات
هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء». اهـ وأخرج أحمد والبزار بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تتمَنُّوا الموتَ فَإِنَّ هَوْلَ المَطْلَعِ شَديدٌ، وإِنَّ مِن السَّعادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمُرُ العَبْدِ ويَرْزُقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ الإِنابَةَ». وأخرج أحمد بسند ليّن، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكَّرَنا ورقنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء وقال: ياليتني مِتُ، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «يا سعد، أعندي تَتَمَنَّى المَوْتَ ؟!» فردَّد ذلك ثلاث مرّاتٍ ثُمَّ قال: «يا سعد، إن كنتَ خُلِقْتَ للجنَّةِ فما طالَ مِن عُمُرِكَ وحَسُنَ مِن عَمَلِك فهو خيرٌ لك».
وأخرجه الطبراني، ولفظه : لئن كنتَ خُلِقْتَ للنَّارِ وخُلِقَتْ لك، ما النَّار بشيء يُسْتَعْجَلُ إليها، ولئن خُلِقْتَ للجنَّة وخُلِقَتْ لك لأَن يَطُولَ عُمُرُك ويَحْسُنَ عَمَلُك خيرٌ لك».
وأخرج الإمام أحمد قال : ثنا أبو سلمة الخزاعي: أنا ليث ويونس قال: ثنا ليث -يعني ابن سعد عن يزيد بن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أُمّ الفضل: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دَخَلَ على العباس وهو يَشْتَكِي فتمنى الموت، فقال: «ياعبَّاسُ، ياعم رسول الله، لا تتمَنَّ المَوْتَ، إن كنتَ مُحْسِنًا تَزْدَادُ إِحْسَانًا إلى إِحْسَانِكَ خير لك، وإن كنتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤْخَرَ تَسْتَعْتِبْ خَيرٌ لك، فلا تتَمَنَّ المَوْتَ».
ورواه الحاكم وقال: «صحيح على شرطهما يعني الشيخين. ثُمَّ إِنَّ هذا النهي مُقيَّد بما إذا لم يخفِ الإنسان فتنة في دينه كما قاله غير واحد
قمع الأشرار
۳۲۹
من العلماء، فأما إذا خاف ذلك فيجوز له حينئذٍ تمنّي المَوْتَ والدُّعاء به ، ففي به، ففي القرآن العظيم حكاية عن مريم لما جاءها المَخَاضُ : لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيا منسيا [مريم: ۲۳] لعلمها أنَّ الناس سيتهمونها ويرتابون في أمرها إذا رأوها تحمل مولودًا لها من غير أن تكون ذات زوج، وقد حصل منهم ذلك كما قصه الله في كتابه.
وجاء في "الموطأ" عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «اللهمَّ كَبِرَتْ سِنِّي
وضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْني إليك غير مُضَيِّع ولا مُفَرِّط». فعمر رضي الله عنه بسط عذره في هذا الدعاء، وهو كبر سنه وضعف قوته وهما مظنة التفريط في حقوق الله وحقوق الناس، وذلك ما لا يرضاه عمر ولا
يخطر له على بال لا جرم أن دعا بالموت ليلقى ربَّه غير مُضَيِّع ولا مُفَرَّطٍ. وأخرج أحمد، وأبو عبيد في فضائل القرآن"، من طريق عثمان بن عمير،
عن زاذان أبي عمر عن عُليمٍ قال: كنا جلوسا على سطح معنا رجل من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم - قال يزيد بن هارون وهو شيخ أحمد وأبي عبيد في هذا السند: لا أعلمه إلَّا عَبسًا الغفاري- والناس يخرجون في الطَّاعُونِ، فقال عَبْسُ : ياطَاعُونُ خُذْني ثلاثًا يقولها، فقال له عُلَيمٌ : لِمَ تقول هذا؟! المريقُل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُم المَوْتَ فإنه عند انقطاع عَمَلِهِ، ولا يُرَدُّ فَيُسْتَعْتَبَ»؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «بادِرُوا بِالمَوْتِ سِتّا: إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بالدَّمِ، وقَطِيعَةَ الرَّحَمِ، وَنَشْرًا يَتَّخِذُونَ القُرْآنَ مَزامِيرَ
۳۳۰
الأدب والمتفرقات
يقدمونه (۱) يغنيهم وإن كان أقل منهم فقها».
(۱) الضمير في «يقدمونه يعود على الأحد المفهوم من المقام، وقد ذُكر صريحا في رواية الطبراني بلفظ : «يُقَدِّمون أحَدُهم يُغنّيهم وقد اشتمل هذا الحديث على ست خصال جعلها الشارع من أشراط الساعة وعلامة على قرب زمن وقوعها، وهي الأشراط
الصغرى.
ست خصال جعلها الشارع من أشراط الساعة وعلامة على قرب زمن وقوعها (ت) أحدها: إمرة السفهاء بكسر الهمزة - أي ولايتهم على الناس وتحكمهم في رقابهم كما تولى يزيد بن معاوية والحجاج ونحوهما أمر الناس وحكموا فيهم بما سجله
التاريخ.
ثانيها: كثرة الشُّرط - بضم الشين وفتح الراء وتسكن- واحدة شُرطة وشرطي - بسكون الراء فيهما - وهم الحراس الذين يكونون على أبواب الحكام والولاة يمنعون الناس من الدخول إليهم لقضاء مصالحهم، فلا يصل إليهم إلا ذو واسطة أو جاه، وبذلك تهمل كثير من الحقوق وتضيع كثير من المصالح وهو ظُلم بين، ولذا جاء في حديث صحيح: (مَن وَلِي أَمْرَ النَّاسِ ثُمَّ أَغْلَقَ بابَهُ دون المِسْكِينِ والمَظْلُومِ وذي الحاجة أَخْلَقَ الله تعالى أبوابَ رَحْمَتِهِ دُونَ حَاجَتِهِ، وفَقْرِهِ أَفْقَرُ ما يكون إليه». وإغلاق الباب كناية عمن يوقف عليه من الحراس لمنع الناس.
ثالثها: بيع الحكم، ومعناه أخذ الرشوة على الأحكام وهو كبيرة من الكبائر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم لعن الرَّاشي والمرتشي، وصح أنه قال: «الرَّاشِي والمُرْتَشِي في النَّارِ». وصح أيضًا أنه لعن الرائش وهو الواسطة الذي يسعى بين الرَّاشِي والمرتشي، وصح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه - قال: «الرَّشْوَةُ في الحكم كفر.
رابعها الاستخفاف بالدم، وهو أنواع منها ترك الاقتصاص من القاتل بعد ثبوت
قمع الأشرار
۳۳۱
موجبه بالطرق الشرعية.
ومنها قتل الشخص على سبب لا يوجب ذلك، كما يفعل كثير من المجرمين الاشقياء. وفي "صحيح البخاري ، عن ابن عمر مرفوعا: «لن يزالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا». وقال ابن عمر : من وَرَطَاتِ الأُمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سَفْكُ الدم الحرام بغير حِلَّه». وجاء في حديث حسن: «الزَوَالُ الدُّنيا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهُ مِن قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَير حَقٌّ».
ومنها: قتل المسلم بالكافر بدعوى أنه ذمّي، مع أنه لا ذمي يوجد الآن على الوجه الشرعي، وفي الحديث الصحيح: «لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكافِرٍ، ولا ذو عَهْدِ فِي عَهْدِهِ» بل هو حديث مشهور، وهو وإن كان خبرا في اللفظ فمعناه النهي.
خامسها قطيعة الرَّحِمِ، وهي تكون بهجران الأقارب من ذوي الرَّحِم أو إذايتهم أو عدم مواساتهم إن احتاجوا إليها، أو نحو ذلك مما يعد تقصيرًا من الشخص في حَقٌّ
أقاربه، وقد شدد الشارع في قطيعة الرَّحِم تشديدًا عدها العلماء بسببه من الكبائر. ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة مرفوعا: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنهم قامتِ الرَّحِم فقالت: هذا مَقامُ العائِذُ بك من القطيعة، قال: نعم، أما تَرْضِينَ أَنْ أَصِلَ مَن وَصَلَكِ وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك». ثُمَّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِعُوا أَرْحَامَكُمْ أَوَلَيْكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَرَهُمْ ﴾ [محمد: ٢٢ - ٢٣] والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ومن قطيعة الرحم بل هو من أشد أنواعها ما يحصل بين أفراد الأسرة الواحدة من التقاطع والتناحر بسبب الاختلاف في سياسة الأحزاب أو الترشح لعضوية النواب، فيتصدع بناء الأسرة وتدبُّ فيها عوامل الفساد، وينقلب الود والحنان بين الأخوة
۳۳۲
الأدب والمتفرقات
والأصهار ضغينة وحقدًا وغلا، وربما انتصر لكل من الفريقين أصحاب وأصدقاء فتتسع شقة الخلاف والشَّقاق؛ ويصعب حينئذ الوصول إلى طريق التألف والوفاق، وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى.
سادسها: نشؤ، أي ناشئة من الأمة وجيل منهم يتخذون القرآن مزامير يتغنون بقراءته ويراعون فيها أصول فنّ الغناء وأنواع الألحان، كالبياتي والحجاز والسيكة وأصبهان، ونحو ذلك كما هو مشاهد في أغلب قراء مصر، وهم يتبارون أيهم يكون أكثر غناءا في قرائته وتلحينا لها، وقد عاب ذلك عليهم قديما الإمام القرطبي في كتاب " التذكار في أفضل الأذكار" وقال إنَّ ما يفعلونه حرام باتفاق العلماء.
ثُمَّ قال: «إن وقوع هذا منهم تصديق لخبر الصَّادِقِ المَصْدُوقِ صلَّى الله عليه وآله وسلم وذكر ما رواه الترمذي الحكيم عن حذيفة مرفوعا: «اقرأوا القُرْآنَ بِلُحُونِ العرب وأَصْواتِها، وإيَّاكُم وَلُونِ أَهْلِ الفِسْقِ وحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يَرْجِعونَ بِالقُرْآنِ تَرْجِيعَ الغِناءِ والنُّوحِ لا يُجاوِزُ حَنَاجِرَهُم مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُم وَقُلُوبُ الذين يُعْجِبُهم شَأْنُهم».
وقد يحتج بعضهم لهذا بأنه من باب تحسين الصوت المطلوب في قراءة القرآن وهي مُغالطة؛ فإنَّ حُسْنَ الصوت وتحسينه غير الغناء قطعًا وبينهما تباين، فقد يكون الشخص حَسَن الصوت وهو لا يعرف الغناء، وقد يكون مُغنيّا وصوته قبيح، وما لنا نذهب بعيدا وهذا أبو موسى الأشعري أحسن الناس صوتا وقراءة بشهادة الرسول ومع ذلك ما عرف الغناء قط.
وكذلك سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما - كان حسن الصوت والقراءة حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع قراءته قال: «الحمد لله الذي جعل في أُمتي
مثل هذا». رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، ولم يكن يعرف الغناء أيضا بل هذا
قمع الأشرار
۳۳۳
ورواه الطبراني وابن شاهين من طريق موسى الجهني، عن زادان قال: كنت مع رجل من أصحاب النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقال له عابس أو ابن عابس على سطح فرأى الناس يتحملون فقال: ما للناس؟ فقيل: يَفِرُّون من الطاعون فقال : يا طاعُونُ خُذني... وذكر الحديث نحوه.
وأخرج أحمد من طريق النَّهَاسِ بن قَهُم أبي الخطاب، عن شداد أبي عمار الشامي قال: قال عوف بن مالك ياطاعون خُذني إليك. قال: فقالوا: أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ما عَمَّر المُسلِمُ كان خيرا له»؟ قال: بلى ولكني أخاف ستّا: إمارةَ السُّفَهَاءِ، وَبَيْعَ الحُكْمِ، وَكَثْرَةَ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن الناس على الإطلاق صوتا وقراءة وغيرهما وقال: «ليس مِنَّا مَن لم يَتَغَنَّ بالقُرْآنِ» وقال: «زَيَّنُوا أَصْوَاتَكُم بِالقُرْآنِ» وهو معنى حديث: «زيَّنوا القُرْآنَ بأَصْوَاتِكُم» فهو من باب القلب كما قال العلماء، لأن القرآن نور وزين لا يحتاج إلى تزيين أبدًا، ومع ذلك ما ثبت أنه غنى في قراءته ولا يليق الغناء به عليه الصلاة والسلام، فيجب علينا أن نقتدي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: ٢١].
ومما ذكرناه يُعلم أنَّ المراد بالتغنّي بالقرآن الوارد في الأحاديث هو تحسين الصوت في قراءته، وحسن المد والإظهار والإخفاء والغُنَّة، وغير ذلك مما يتوقف عليه تجويد القرآن، وما زاد عليه فهو داخل في لحون أهل الفسق ولحون أهل الكتاب، فليتنبه القراء إلى هذا ولينتهوا عما اعتادوه في قرائتهم من التغني المنكر باتفاق العلماء، وليعلموا أنَّ القرآن نزل بحزنٍ فليقرأوه بحزنٍ وتخشع كما جاء في الحديث، وفقنا الله وإياهم فهو الموفّق لا رب غيره.
٣٣٤
الأدب والمتفرقات
الشُّرَطِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحَمِ ونَشْءٌ يَنْشَوْن يَتَّخِذُونَ القُرْآنَ مَرَامِيرَ، وَسَفْكَ الدَّمِ. وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: رأيتُ رَبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ -يعني في المنام - فقال لي: يا محمد، قلت: لبَّيْكَ رَبِّي وسَعْدَيْكَ، قال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قلت: لا أَعْلَم، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ - أو قال: في نَحْرِي - فَعَلِمْتُ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ، قال: يا محمد، هل تَدْرِي فِيمَ يَختَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قلتُ: نَعَمْ، في الكَفَّارَاتِ، والكَفَّارَاتُ المُكْثُ في المساجِدِ بعد الصَّلاةِ، والمشي على الأقدامِ إلى الجماعات، وإِسْبَاغُ الوضوء في السَّبَرات، ومَنْ فَعَلَ ذلك عاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وكان مِن خَطِيئَتِهِ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وقال: يا محمد، إذا صَلَّيْتَ فقُل: اللهم إنّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المَسَاكِينِ ، وإذا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةٌ فَاقْبِضْنِي إِليكَ غيرَ مَفْتُونٍ، قال: والدَّرَجَاتُ إفشاءُ السَّلامِ، وإطْعَامُ الطَّعَامِ، وَالصَّلَاةُ باللَّيْلِ والنَّاسُ
نیام». (۱)
(۱) هذا الحديث دليل الجمهور على جواز ووقوع رؤية الله تعالى في المنام، وقد وَقَعَتْ الجماعة من السَّلَفِ كالإمام أحمد وحمزة بن حبيب الزيات -أحد أئمة القراءات وغيرهما، أما رؤية الله في اليقظة فهي وإن كانت جائزة عند أهل السُّنَّة لم تقع لأحدٍ في الدنيا ولن تقع؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لن تروا رَبَّكُم حَتَّى تَمُوتُوا». رواه مسلم؛ لأن موسى عليه السلام طلبها فلم يعطها فمَن دُونه أولى بألَّا يُعْطاها. واختلف العلماء هل حصلت الرؤية لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء؟ فأثبتها ابن العباس - رضي الله عنهما- ونفتها عائشة -رضي الله عنها- وانتصر لكل منهما
قمع الأشرار
۳۳۵
قال الترمذي: حديث حسن غريب». وأخرجه أحمد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: خَرَجَ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وهو طيِّبُ النَّفْسِ مُشْرِقُ الوَجْهِ فقلنا يارسول الله، إِنَّا نراك مُشْرِقَ الوَجْهِ
جماعة، ومن أراد بسط المقام فليرجع إلى "فتح الباري" للحافظ و"المواهب" وشرحها. والملأ الأعلى هم الملائكة، وقيل: بل هم المقربون منهم، وقوله: «فَوَضَعَ يَدَهُ بين كتفي» كناية على تجلّى الله عليه بصفة العِلم وإنعامه عليه به، فاليد يد نعمة لا جارحة، والوضع تعلق وتجلي من غير مَس ولا لمسي تعالى الله عن ذلك وتنزه .
وقوله: «حتَّى وَجْدت بَرْدَها فِي نَحْرِي كناية عن وجود الأثر والتحقق عقب التجلي والتعلق، ولهذا قال: فعلمت ما في السماوات وما في الأرض»، وقال في رواية أحمد: وتجلى لي كل شيءٍ وعَرَفْتُ»، والكفارات: هي نقل الأقدام إلى الجماعات أو الجمعات روايتان كلتاهما صحيحة، وانتظار الصلاة بعد الصلاة»: أي الجلوس في المسجد بقصد ذلك، وإسباغ الوضوء في السَّبَرات» وسُميت هذه كفارات لأنها تكفّر وتمحو صغائر الذنوب، أمَّا الكبائر فلا يُكفّرها إلَّا التوبة الصادقة، أو مغفرة
من الله شاملة
وإسباغ الوضوء بتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المغطي للبدن، والسبرات: بفتح السين والموحدة، جمع سَبرة بفتح السين وسكون الموحدة والسبرة الغداة الباردة، وقد تستعمل في مطلق الزمن البارد صباحًا كان أو غيره، وإسباغ الوضوء مطلوب في كل وقت، وإنما قيد في هذا الحديث بالسبرات لأنَّ الأوقات الباردة يشقُ فيها على النفس إتمام الوضوء ويصعب، وكلما كان العمل أشق كان أجره أعظم. وفي الحديث فوائد وأحكام ذكرها الحافظ زين الدين بن رجب في شرحه عليه في كتاب خاص سماه: "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" وهو مطبوع ينبغي الوقوف عليه لحسن فائدته، وبالله التوفيق.
٣٣٦
الأدب والمتفرقات
فقال: «وما يَمْنعُني وأتاني ربي الليلةَ في أحسن صورة...» وذكر الحديث نحو ما تقدم، وفي آخره: «يا محمد، إذا صَلَّيتَ فقل: اللهم إني أسألُكَ الطَّيِّبات وتَرْكَ المنكرات وحُبَّ المساكين وأن تتوبَ عليَّ وإذا أردت في الناس فتنةً فتوفَّني غير مفتون». قال الحافظ الهيثمي: «رجاله ثقات». وأخرجه الطبراني من طرق عن عبدالرحمن بن عائش، ورجال أحدها ثقات كما قال الحافظ الهيثمي.
وأخرجه البزار من حديث ثوبان رضي الله عنه بإسناد صحيح غير أنَّ فيه مجهولا، وأخرجه أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بإسناد ضعيف
ومحل الشاهد منه قوله : (وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقْبِضْني إليك غير مَفْتُونِ». فإن هذا دعاء بالموت مقيَّد بحالة الفتنة مخافة أن تصيب الداعي في دينه وهو أعز شيء لديه، فلذلك أجازه الشارع، أما إقدام الشخص على التخلص من الحياة بقتل نَفْسِهِ كما يفعل كثير من الجهلة فلا يجوز في حال من الأحوال أبدا بل هو كبيرة كسائر الكبائر العظيمة القبيحة، ويزيد عليها بأمر آخر وهو جميع المعاصي كالزنا والربا والخمر قد يمن الله على مرتكبها بالتوبة والإنابة فيأتيه أجله وهو تائبُ مُبتعد عنها، أمَّا الانتحار فإنَّ فاعله يموت متلبسًا به،
غير تائب لأنه سبب موته، وتلك ميتة سوء نعوذ بالله منها ومن كل بلية. وليكن هذا آخر ما أردنا جمعه في هذا المقام، والحمد لله في البدء والختام، والصَّلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام، وعلى آله الكرام وصحابته
الفخام.
- الرؤيا
في القرآن والسنة
بَدَا
إِنَّ النُّبوَّةَ أُنهيت بنبينا صلى عليه الله ما بَدْرُ بَ لا وَحْـي بعـد نبينا يَأْتي إلى شَخْصِ ولو بَلَغَ النَّهايَةَ فِي التَّقَى لكن فضل الله قد أبقى لنا رُؤْيا تُبشر أو تُحذِّر من رَدى فهي البشارة أُعطيت للمُتَّقِي وهي النَّدَارَةُ أَزْعَجَت مَن قد غَـوى قد جاءَ في القُرآنِ رؤيا يوسف وكذا الخليل بشأن ذبح والفِدا ونبينا قد كان يَسْأَلُ صَحْبَهُ مَنْ مِنكُمُو فِي نَوْمِهِ رُؤْيا رَأَى وكتابنا هذا يُنسق جَمعَها ولقد غَدا فيها عَزيزا مُفْرَدا فاقْرَأَهُ وادْعُ لنا بصالح دعوة واللهُ يَمْنَحُ فَضْلَه مِن احْتَدَا)
(۱) احتدا: اتَّبع. انظر "لسان العرب" لابن منظور (١٤/ ١٦٨).
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٤١
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله حقَّ حَمدِه، وما كلُّ نعمةٍ إِلَّا مِن عِنده، والصَّلاة والسَّلام على
سيدنا محمد رسوله وعَبْدِه، ورضي الله عن آله وصحبه وجُنْدِه.
أما بعد: فهذا كتاب في الرؤيا، ذكرتُ فيه ما جاء منها في القرآن العظيم والسُّنَّة المشرفة، كتبته على قِلَّةٍ مِن المواد، وضعف في الاستعداد، ولا يخلو مع
ذلك من نفائس اللطائف، وعوارف المعارف.
وقد كتب قبلي - في هذا الموضوع جماعة من الحفاظ، فلجعفر الفريابي كتاب "الرؤيا"، وكذا لأبي ذرّ الهروي، ولا بن أبي الدنيا كتاب "المنامات"،
وكذا الجعفر المستغفري. وكتابي أوسع وأعم بفضل الله.
والله المسؤول أن يرزقني التوفيق والقبول، ويُنيلني حصول المأمول.
الرؤيا في القرآن والسنة
مقدمة تشتمل على مسائل المسألة الأولى
٣٤٣
الرؤيا - بوزن فعلى - : ما يراه الشخص في منامه، وقد تُسهل همزتها. قال الواحدي : هي في الأصل مصدر ، كاليسرى، فلما جعلت اسما لما يتخيله النائم أُجريت مجرى الأسماء».
وقال الراغب: «الرؤيه بالهاء : إدراك المرئي بحاسة البصر، وتُطلق على ما يُدرك بالتخيل، نحو: أرى أنَّ زيدًا مسافر. وعلى التفكر النظري نحو: إنّي
أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ﴾ [الأنفال: ٤٨] ، وعلى الرأى، وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن» . اهـ
وقال القرطبي في شرح مسلم": قال بعض العلماء: وقد تجيئ الرؤيا بمعنى الرؤية، لقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّنْ يَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ * [الإسراء: ٦٠] فَزَعَم أنَّ المراد بها ما رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة
الإسراء من العجائب، وكان الإسراء جميعه في اليقظة». اهـ
وصح عن ابن عباس أنه رؤية عينٍ، وقال الحافظ ابن حجر: «ويحتمل أن تكون الحكمة في تسمية ذلك رؤيا، كون أمور الغيب مخالفة لرؤية الشهادة، فأشبهت ما في المنام» . اهـ والخلاصة : أنَّ الرؤيه -بالهاء : خاصَّةٌ بما يُدرك بحاسة البصر، والرؤيا -
بالألف: تُستعمل فيما يُدركه النائم غالبًا، وتُجمع على رُؤى بضم الراء
والتنوين، وقد تُستعمل قليلا فيما يُدرَك بحاسة البصر.
٣٤٤
الأدب والمتفرقات
المسألة الثانية
قال الإمام المازري في "شرح مسلم: «كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرةً منكرةً ؛ لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يُصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم.
والصحيح ما عليه أهل السُّنَّة: أنَّ الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها عَلَمًا على أمورٍ أخرى يخلقها في ثاني الحال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أنَّ الله خلق الغَيم علامة على المطر وقد يتخلف، وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسر، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضر ، والعِلم عنا عند الله تعالى» . اهـ
وكذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني : «إنَّ الرؤيا اعتقادات». لكن قال القاضي أبو بكر ابن العربي: الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يد ملك أو شيطان، إما بأسمائها أي حقيقتها، وإما بمكانها أي بعبارتها، وإما تخليط. ونظيرهما في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق في
قصد، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. هذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أنها اعتقادات، واحتج بأنَّ الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرًا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادًا؛ لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد.
والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب، من قبيل المثل،
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٤٥
فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات . اهـ
ويؤيد رأي الباقلاني قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فَالْأَرْضِ
ولتعلمهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: ۲۱]. فسمى الرؤيا حديثا، والحديث
يشتمل على نسبة تصديقية.
وقال القرطبي في شرح مسلم: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم، وبيان ذلك: أن الرؤيا إنما هي من إدراكات النَّفس، وقد غُيّب عنَّا عِلْمُ حقيقتها - أي النفس - وإذا كان كذلك، فالأولى ألا نعلم عِلْمَ إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أمورًا جُملية لا تفصيلية». ثُمَّ نقل القرطبي عن بعض أهل العلم: «أنَّ الله تعالى ملَكًا يَعْرِضُ المرئيات على المحل المدرِك من النائم فيمثل له صورة محسوسة، فتارةً تكون أمثلةً موافقةً لما يقع في الوجود، وتارةً تكون أمثلة لعان معقولة، وتكون في الحالين مُبشِّرةٌ ومُنذِرةً».
قال القرطبي: ويحتاج فيما نقله عن الملك إلى توقيف من الشرع، وإلا فجائز أن يخلق الله تلك المثالات من غير ملك، وقيل: إنَّ الرؤيا إدراك أمثلة
مُنضَبِطَةٍ في التخيل، جعلها الله أعلاما على ما كان أو يكون».اهـ
تنبيه
قال القاضي أبو بكر بن العربي: شدَّ بعض القَدَريَّة فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا، وشدَّ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة، وقال بعض المتكلمين: هي مدركة بعينين في القلب». اهـ وفي شرح الأبي لـ"صحيح
٣٤٦
الأدب والمتفرقات
مسلم: «قال صالح المعتزلي: الرؤيا هي رؤية العينين(١). وقال آخرون: هي بعينين يخلقهما الله تعالى في القلب، وسماع بأذنين يخلقهما الله تعالى. وقال أكثر تخيلات لا حقيقة لها ولا تدل على شيء».اهـ وهذا إنكار
المعتزلة: هي
للمشاهد المحسوس.
المسألة الثالثة
قال القاضي عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه ولا ضرب المثل له؛ لأنَّ هذا لا يُدْرِك شيئًا مع استغراق أجزاء قلبه؛ لأنَّ النوم يخرج الحي عن صفات التمييز والظن والتخيل، كما يُخرجه عن صفة العلم».
ظانا
وقال آخرون: بل للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ومتخيلا، وأمَّا العِلْم فلا؛ لأنَّ النوم آفةٌ تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة. نعم، إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل وبه يرى ما يتخيله، ولا تكليف عليه حينئذ ؛ لأن رؤياه ليست على حقيقة وجود
العلم ولا صفة التمييز، وإنما بقيت فيه بقيةٌ يُدرك بها ضرب المثل. وقال القرطبي: «فإن قيل: لا يصح تفسير الرؤيا بالإداراك، لأن النوم ضد عام للإدراك كما أنَّ الموت ضد عام له فلا يجامعه. فالجواب: أنَّ الجزء المدرك من النائم لا يحله النوم، فلم يجتمع الإدراك مع النوم، فالعين نائمة والقلب يقظان، كما قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «تنام عيني ولا ينام قلبي . اهـ
(۱) قال ابن حزم ذهب صالح تلميذ النظام إلى أنَّ ما يرى أحدنا في الرؤيا حق كما هو، وأن من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإنَّ الله اخترعه في ذلك الوقت بالصين». اهـ
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٤٧
المسألة الرابعة
روى الحاكم من طريق محمد بن عجلان، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه قال : لَقِيَ عمر عليَّا رضيا الله عنهما فقال : يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من عبد ولا أَمَةٍ ينام فيمتلئ نوما إِلَّا عُرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يَسْتَيْقِظُ دون العَرْشِ فتلك الرؤيا التي تَصْدُقُ، والذي يَسْتَيْقِظُ دون العَرْشِ فتلك الرؤيا التي تَكْذِبُ». قال الذهبي: في "تلخيص المستدرك ": «هذا حديث منكر ام يصححه المؤلف، ولعل الآفة من الراوي عن
ابن عجلان . اهـ
قال الحافظ : «الراوي عنه أزهر بن عبدالله الأزدي الخراساني، ذكره العقيلي في ترجمته، وقال: «إنه غير محفوظ»، ثُمَّ ذكره من طريق أخرى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي ببعضه، وذكر فيه اختلافًا في
رفعه ووقفه» . اهـ
قلت: هكذا رواه الحاكم ،مختصرا ورواه ابن مَنْدَه في كتاب "النَّفْس والرُّوح" مُطوَّلًا مِن طريق عبدالرحمن بن مَغراء الدوسي، عن الأزهر بن عبدالله الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه. وهو حديث منكر (1)
(۱) مما يُبيَّن نكارته اقتضاؤه أن الكافر إذا صدقت رؤياه يكون روحه قد عَرَجَ إلى العرش، وهذا باطل.
٣٤٨
الأدب والمتفرقات
وروى ابن مَنْدَه أيضًا من طريق بقيَّة بن الوليد قال: حدثنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الحضرمي، قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون كأخذ بيد، ويرى الشئ فلا يكون شيئًا.
فقال علي بن أبي طالب يا أمير المؤمنين يقول الله عزَّ وجلَّ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [الزمر: ٤٢] قال: والأرواح يُعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحقُّ، فإذا رُدَّت إلى أجسادها تلقتها
الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل.
وروى الطبراني من طريق علي بن أبي طلحة: أن عبدالله بن عباس قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين أشياء أسألك عنها. قال: سَل عما شئت. قال: يا أمير المؤمنين، مِمَّ يَذْكُر الرجل وممَّ يَنْسى؟ ومِمَّ تَصْدق الرؤيا ومِمَّ تكذب؟ فقال له عمر: إنَّ على القلب طخاوةٌ كطخاوة القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا انجلت ذكر ما كان نسي، وأمَّا مِمَّ تَصْدُق الرؤيا ومِمَّ تكذب : فإنَّ الله عزّ وجلَّ يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ في منامها [الزمر: ٤٢] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي تكذب. في إسناده انقطاع. وقال الحكيم الترمذي في "نواد الأصول": «وكل الله بالرؤيا ملكًا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها، ويضرب لكل على قصته
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٤٩
مثلا، فإذا نام مثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة لتكون له بشرى أو نذارةٌ أو معاتبة، والآدمي قد تسلّط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيُلبس عليه رؤياه إما بتغليطه فيها،
وإِمَّا بغفلة عنها ، ثُمَّ إِنَّ جميع المرائي تنحصر على قسمين:
الصادقة: وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم
بندور، وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم.
والأضغاث: وهي لا تنذر بشيء.
وهي أنواع:
الأول: تلاعب الشيطان ليُحْزِن الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هو لي ولا يجد من ينجده، ونحو ذلك. الثاني: أن يرى بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات مثلا، ونحوه من المحال عقلا.
الثالث: أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤيا ما جرت به عادته في اليقظة أو ما يغلب على مزاجه ويقع عن المستقبل غالبًا، وعن الحال كثيرًا، وعن الماضي قليلا». انتهى كلامه (۱).
(۱) وقال ابن حزم في "الفصل": «الرؤيا أنواع:
منها ما يكون من قِبَل الشيطان، وهو ما كان من الأضغاث والتخليط.
ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم. ومنها: ما يكون من غلبة الطبع، كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار والزهر والحمرة والسرور، ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج
٣٥٠
الأدب والمتفرقات
نفسه،
قلت: بقيت أنواع أخرى للرؤيا، تتبيَّن من الأحاديث التي نوردها. فروى أحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «الرؤيا ثلاث: فرؤيا حقٌّ، ورؤيا تُحدّث بها الرجل فن ورؤيا تخزين من الشيطان». وهو في صحيح مسلم" بلفظ: «الرؤيا ثلاث، فالرؤيا الصالحة بشرى من الله والباقى سواء».
وروى ابن ماجه بإسناد حسن عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الرؤيا ثلاث منها أهاويل الشيطان ليَحْزُنَ ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النُّبوَّة».
11
وفي "صحيح مسلم عن جابر قال: جاء أعرابي فقال: يارسول الله، رأيت في المنام كأنَّ رأسي قطع فأنا أتبعه - وفي رواية: تدحرج فاشتددتُ في أثره - فقال: «لا تُخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام».
فالرؤيا أنواع:
۱ - رؤيا حق، وهي الرؤيا الصادقة.
٢ - رؤيا باطلة، وهي رؤيا ملك أو نبي يأمر بمعصية.
- أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم.
- تلاعب الشيطان بالإنسان في المنام.
والمياه، ورؤية من غلب عليه السوداء للكهوف والظلم والمخاوف. ومنها ما يريه الله للحالم إذا صفت نفسه من أكدار الحسد، وتخلصت من الأفكار الفاسدة، فيشرف الله به على كثير من المغيبات التي لم تأتِ بعد.
وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق». اهـ
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٥١
ه - ما يهم به الرائي في اليقظة.
٦ - ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن اعتاد لعب النرد مثلا فرأى في المنام
أنه يلعبه.
- الأضغاث: وهي ما لا تدل على معنى مُحصل، بل هي مجرد تخيلات لا
مغزى لها، وفي القرآن: قَالُوا أَضْغَتُ أَحْلَم [يوسف: ٤٤].
وقال ابن القيم في كتاب "الروح": «الرؤيا ثلاثة أنواع: رؤيا من الله،
ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس، والرؤيا الصحيحة أقسام: منها: إلهام يلقيه الله في قلب العبد، وهو كلام يكلم به الربُّ عبده في المنام، كما قال عبادة بن الصامت وغيره. (۱)
ومنها: مثل يضربه ملك الرؤيا الموكَّل بها.
ومنها : التقاء روح النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم.
ومنها: دخول روحه إلى الجنة (۳)، ومشاهدتها، وغير ذلك». اهـ
(تنبيه): قال العلماء بالتعبير: إذا رأى الكافر أو الفاسق الرؤيا الصالحة فإنها تكون بشرى له بهدايته إلى الإيمان أو التوبة أو إنذارًا من بقائه على الكفر أو الفسق، وقد تكون لغيره تمَّن يُنسب إليه من أهل الفضل، وقد يرى ما يدل على الرضا بما هو فيه وتكون من جملة الابتلاء والغرور والمكر» . اهـ
(۱) رواه الطبراني عن عبادة مرفوعًا، وإسناده واه. انظر المسألة الثامنة. (۲) دخول الجنة في المنام جائز واقع، أما دخولها في اليقظة فلم يقع إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ادَّعى شخص أنه دخل الجنة يقظة يكون كافرًا بالإجماع. حكاه
القاضي عياض في "الشفا"، وابن جُزيٌّ في "القوانين الفقهية".
٣٥٢
الأدب والمتفرقات
المسألة الخامسة
روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان». وفي رواية له: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا حَلَمَ أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره، وليستعذ بالله منه، فلن يَضُرَّه».
الحلم" بضم ) الحاء وسكون اللام وتُضم ما يراه النائم حَسَنًا كان أو قبيحا، وغَلَب استعماله في القبيح، وأضيف إلى الشيطان؛ لأنه يناسب صفته التي هي الكذب والتهويل ونحو ذلك، بخلاف الرؤيا الصادقة فأنها أضيفت إلى الله للتشريف، وإن كان الكل بخلق الله وتقديره.
وروى البخاري أيضًا عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليُحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان،
فليستعد من شرها ولا يذكرها لأحدٍ فأنها لا تَضُرُّه».
وفي الصحيحين عن أبي سلمة قال : لقد كنت أرى الرؤيا فتمر ضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت أرى رؤيا تمرضني، حتى سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحبُّ فلا يحدث به إلَّا مَن يحبُّ، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر
الشيطان، وليتفل ثلاثا ولا يُحدّث بها أحدًا فإنَّها لن تَضُرَّه».
وفي رواية لمسلم: فليبصق عن يساره حين يهب من نومه ثلاث مراتٍ». وفي رواية له أيضًا: «الرؤيا الصالحة من الله ، فإن رأى أحدكم رؤيا حسنةً
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٥٣
فليبشر، ولا يُخبر إلا من يحبُّ». فليبشر : بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم
الشين.
وفي "سنن أبي داود" و"ابن ماجه" من حديث أبي رَزِينٍ: «ولا يقضُها إِلَّا على واد أو ذي رأي». واد - بتشديد الدال - : اسم فاعل من المودة.
وفي رواية الترمذي: «ولا تُحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا».
وفي "سنن الترمذي" من حديث أبي هريرة: «لا تقصُّ الرؤيا إلا على عالم أو ناصح». قال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
وهو عند
الحاكم من حديث أنس بلفظ: «فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا
يحدث بها إلا ناصحا أو عالما». قال الحاكم: «صحيح الإسناد». قال القاضي أبو بكر بن العربي: «أمَّا العالم فإنه يؤولها على الخير، مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يُرشد إلى ما ينفعه ويعينه عليه، وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يُعْلِمُهُ بما يعول عليه في ذلك أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيرا قاله، وإن جهل أو شك سكت». قال الحافظ ابن حجر: «والأولى الجمع بين الروايتين، فإنَّ اللبيب عبر به عن العالم، والحبيب عبر به عن الناصح» . اهـ قلت: والواد: أراد به الحبيب، وذو الرأي: أراد به اللبيب.
والحاصل أنَّ الذي يرى رؤيا صالحةً، ينبغي له أن يحمد الله عليها
ويستبشر بها ويقصَّها على عالم أو ناصح، أمَّا الذي يرى رؤيا يكرهها، فيتأكد
في حقه أمور:
١ - أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان ثلاثا .
٣٥٤
الأدب والمتفرقات
٢ - أن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا.
٣- ألا يذكرها لأحد أصلًا.
٤ - أن يتحوّل عن جنبه الذي كان عليه.
ففي "صحيح مسلم" عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحوّل عن جنبه الذي كان عليه».
ه - أن يصلّي، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: «فمن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحدٍ، وليقم فليصل». ويكفي أن يصلي ركعتين بنية التحصن من
شر الرؤيا.
٦- قراءة آية الكرسي، ذكرها بعض شراح البخاري، قال الحافظ: «ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة: «ولا يقربنك شيطان». فيتّجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة اهـ
قال العلماء في بيان حكمة هذه الأمور: - أنَّ الاستعاذة من شر الرؤيا لأنها مشروعة عند كل مكروه، والاستعاذة من الشيطان لما ثبت في بعض طرق الحديث أنَّ الرؤيا المكروهة منه، وأنه يُخيل
بها لقصد تحزين الإنسان والتهويل عليه. - والتفلُ : لطرد الشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارًا، وخُصت به الشمال لأنها محل الأقذار، والتثليث: للتأكيد، وقيل: فيه إشارة إلى
أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها.
والصلاة: لأن فيها التجاءا إلى الله تعالى وتوجها إليه، وقد كان النبي
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٥٥
صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا حَزَبَه أَمرٌ، فَزَع إلى الصلاة. - والتحول إلى الجنب الآخر للتفاؤل بتحول تلك الحال التي رأى فيه
الرؤيا المكروهة.
وقراءة آية الكرسي: لأنها تمنع الشيطان منه، كما ثبت في الصحيح. قال النووي: وينبغي أن يجمع بين هذه الأمور كلها، فإن اقتصر على
بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى، كما صرحت به الأحاديث» . اهـ قال الحافظ : «لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلب إلى أنَّ الاستعاذة كافية في دفع شرّها، وكأنه أخذه من قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْمَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّحِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانُ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: ٩٨ - ٩٩] فيحتاج مع
الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان» . اهـ
وقال القرطبي: «الصلاة تجمع ذلك كله، لأنه إذا قام فصلى تحوّل عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثُمَّ دعا الله تعالى في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه» . اهـ (تنبيه): ثبت في كيفية الاستعاذة ما رواه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي قال: إذا رأى أحدكم في منامه مايكره فليقل إذا استيقظ : أعوذ بما عادت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه، أن يُصيبني فيها ما أكره في ديني ودنياي».
وثبت فيما يقول إذا رأى أهاويل الشيطان ما رواه مالك في "الموطأ" قال:
بلغني . أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي فقال: «قل:
٣٥٦
الأدب والمتفرقات
أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعذابه وشر عباده، ومن همزات
الشياطين وأن يخضُرون».
وصَلَه النسائي من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان خالد بن الوليد يفزع في منامه فذكر نحوه، وزاد في أوَّله: «إذا اضطجعت فقل: الله... وذكر الحديث كما في "الموطأ"، وأصله في "أبي داود"،
بسم
"والترمذي" وحسنه، وصححه الحاكم.
المسألة السادسة
ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «الرؤيا الحَسَنةُ من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: «جزء من سبعين جزءا من النبوَّة».
وفيه أيضًا من حديث أبي هريرة ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النُّبوَّة». وفي الحديث روايات: منها: روى أحمد، وأبو يعلى من طريق سليمان بن عريب - بفتح العين المهملة – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «رؤيا الرجل المؤمن بشرى من الله جزء من ستة وأربعين جزءا من النُّبوَّة» قال سلیمان فحدثت به ابن العباس فقال قال العباس بن عبد المطلب: قال :
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «جزء من خمسين جزءا من النُّبوَّة». ومنها: روى أحمد عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «رؤيا الرجل المؤمن جزء من النُّبوَّة».
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٥٧
ومنها: روى ابن عبدالبر من طريق عبدالعزيز بن المختار، عن ثابت عن أنس مرفوعا: «جزء من ستة وعشرين جزءًا من النُّبوَّة». قال الحافظ ابن حجر: والمحفوظ من هذا الوجه كالجادة». اهـ، يعني ستة وأربعين كذلك ثبت في الصحيحين.
ومنها: روى الترمذي من حديث أبي رزين العقيلي: «جزء من أربعين». ثُمَّ رواه من طريق آخر كالجادة. ورواه البزار من حديث أبي هريرة، بلفظ: «أربعين» أيضًا، وسنده ضعيف.
ومنها: رواية: ستة وسبعين رواها الطبراني من حديث ابن مسعود، وسنده ضعيف.
ومنها: رواية: (أربعة وأربعين» رواها الطبري من حديث عبادة، وسندها
ضعيف.
ومنها: رواية «تسعة وأربعين» رواها ،أحمد ، والطبري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص.
وبقيت روايات أخرى، وأصحها مطلقا الرواية الأولى، وهي الجادة، ثُمَّ
رواية السبعين.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: رؤيا المؤمن الصالح هي التي تُنسب إلى أجزاء النبوة، ومعنى صلاحها استقامتها وانتظامها، وعندي أنَّ رؤيا الفاسق لا تُعد في أجزاء النُّبوَّة، وقيل: تُعدُّ في أقصى الأجزاء، وأما رؤيا الكافر فلا تُعدُّ
أصلا» . اهـ
وقال القرطبي: «لا تكون الرؤيا من أجزاء النُّبوَّة إِلَّا إذا وقعت من مسلم
٣٥٨
الأدب والمتفرقات
صادق صالح؛ لأنه الذي يُناسب حاله حال الأنبياء، وكفى بالرؤيا شرفًا أنها نوع مما أكرمت به الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وهو الاطلاع على شيء من علم الغيب، والكافر والكاذب والمخلّط - وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان فإنها لا تكون من الوحي ولا من النُّبوَّة، إذ ليس كلُّ مَن صَدَق في
حديث عن غيبٍ يكون خَبَرُه نبوَّةً، بدليل الكاهن والمنجم» . اهـ وقال ابن الجوزي: «لما كانت النُّبوَّة تتضمن اطلاعا على أمورٍ يظهر تحقيقها فيما بعد، وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها، وقيل: إن جماعة من الأنبياء كانت نبوتهم وحيا في المنام فقط، وأكثرهم ابتدئ بالوحي في المنام، ثُمَّ رُقُوا إلى الوحي في
اليقظة. فهذا بيان مناسبة تشبيه المنام الصادق بالنُّبوَّة» . اهـ (تنبيه): قال بعض شُرَّاح البخاري: لفظ: «من النُّبوَّة» ثبت في جميع طرق الحديث، ولم يأتِ في شيء منها لفظ : من «الرسالة» وكأن السر فيه: أنَّ الرسالة تزيد على النُّبوَّة بتبليغ الأحكام للمكلَّفين بخلاف النُّبوَّة المُجرَّدة، فإنها اطَّلاع على بعض المغيّبات، وقد يقرر بعض الأنبياء شريعة من قبله، ولكن لا يأتي بحكم جديد مُخالف لمن قبله. قال الحافظ : «فيؤخذ من ذلك ترجيح القول بأنَّ من رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، يأمر بحكم يخالف حكم الشرع المستقر في الظاهر :
أنه لا يكون مشروعًا في حقه ولا في حقّ غيره حتى يجب عليه تبليغه» . اهـ
(استشكال):
رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من أجزاء النبوة حقيقة، ورؤيا غيره من أجزاء النُّبوَّة على سبيل المجاز، لما تُنبئ عنه من أمورٍ غَيبيَّة. وهذا جواب
الرؤيا في القرآن والسنة
ضعیف (۱).
٣٥٩
قال الخطابي : المعنى: أنَّ الرؤيا تجئ على موافقة النبوة، لا أنها جزء باقٍ من النبوة»، وفيه بعد.
أنها جزء من علم النبوة، لأنَّ النبوة - وإن انقطعت- عِلْمُها باقٍ، لكن يَرُدُّ عليه ما حكاه ابن عبدالبر عن الإمام مالك أنه سُئل: أيعبر الرؤيا كل واحدٍ ؟
فقال: أبالنبوة يلعب ؟! ثُمَّ قال: «الرؤيا جزء من النبوة، فلا يلعب بالنبوة». وأجيب بأنَّ الإمام مالكًا لم يُرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها لما أشبهت
النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم قال ابن بطال: كون الرؤيا جزءًا من النبوة مما يُستعظم، ولوكانت من
(۱) لابن حزم في "الفصل " رأي قريب من هذا، حيث قال: «وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: أنه لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة، يراها الرجل أو تُرى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة، إلى جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، إلى جزء من سبعين جزءا من النبوة وقد تُخرج هذه النسب والأقسام على أنه - عليه السَّلام - إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام. فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزءا من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله، ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزءًا من نبوته وخصائصه وفضائله. ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزءا من نبوته وخصائصه وفضائله» قال: «وهذا هو ا! و الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف».اهـ وهو تأويل ضعيف متكلّف، والحديث يصرح بأنَّ الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، فكيف يصح حمله على ما ذكره ؟
٣٦٠
الأدب والمتفرقات
ألف جزء، فيمكن أن يُقال أن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، وهو الإعلام لغة، فعلى هذا، فالمعنى: أن الرؤيا خَبَرٌ صادق من الله، لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة نبأ صادق من الله لا يجوز عليه الكذب، فتشابهت الرؤيا والنبوة في صدق الخبر» . اهـ
قال المازري: «يُحتمل أن يُراد بالنبوة في هذا الحديث الخبر بالغيب لا غير، وإن كان يتبع ذلك إنذار أو تبشير، فالخبر بالغيب من ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته؛ لأنه يصح أن يُبعث نبيٌّ ويُقرّر الشرع ويُبين الأحكام وإن لم يُخبر في طول عمره بغيب، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوته ولا مبطلا لها، والخبر من النبي لا يكون إلا صدقا ولا يقع إلَّا حقا».اهـ قال القاضي أبو بكر ابن العربي: «أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يُبين أنَّ الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة؛ لأنَّ فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة» . اهـ
ظهر لي جواب لم أرَ أحدًا أشار إليه، وهو: أن رؤيا الأنبياء وحي -كما تقرر في علم الأصول - ويثبت بها تشريع، كما في قصة إبراهيم عليه السلام، ووقوعها للرجل الصالح لا يستلزم ثبوت النبوة له؛ لأنها مُركَّبة من ستة وأربعين جزءا، والمركَّب من أجزاء ينتفي بانتفاء جزء منها، فكيف يثبت
بواحد منها ؟!
وقد مكث عمران بن حصين ثلاثين سنة يسمع سلام الملائكة عليه كل ليلة ويسمعه أهل بيته معه، ولا يخفي أنَّ سلام الملائكة وسماعه من خصائص
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٦١
النبوة، ولم يقدح ذلك في انقطاعها بوفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما بيناه آنفا، وهذه مريم عليها السَّلام كلمتها الملائكة ببشارة وأوامر ومع ذلك سماها الله صديقة لأنَّ أجزاء النبوة لم تجتمع لها، والله تعالى أعلم.
المسألة السابعة
اختلف في أجزاء النبوة التي أشار إليها الحديث السابق: هل يمكن معرفتها؟ قال المازري: «لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملةً وتفصيلا، فقد جعل الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلمه جملةً لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل . اهـ
ومر آنفًا قول ابن العربي: «أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلَّا مَلكُ أو نبي». وقال الطبري: رواية السبعين عامةً في كل رؤيا صادقة من كل مسلم، ورواية الأربعين خاصة بالمؤمن الصادق الصالح، وأما بين ذلك فبالنسبة لأحوال المؤمنين . اهـ وقال ابن بطال: «أما الاختلاف في العدد قلة وكثرة، فأصح ما ورد فيها: من ستة وأربعين»، ومن سبعين»، وما بين ذلك من أحاديث الشيوخ. وقد وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين:
جلية ظاهرة: كمن رأى في المنام أنه يُعطى تمرا، فأعطي تمرا مثله في اليقظة،
فهذا القسم لا إغراب في تأويلها، ولا رمز في تفسيرها.
و مرموزة بعيدة المرام: فهذا القسم لا يقوم به حتى يعبره إلا حاذق، لبعد
ضرب المثل فيه.
٣٦٢
الأدب والمتفرقات
فيمكن أنَّ هذا من السبعين والأول من الستة والأربعين، لأنه إذا قلت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى الصدق وأسلم من وقوع الغلط في تأويلها، بخلاف ما إذا كثرت.
وقد عرضتُ هذا الجواب على جماعة فحسنوه، وزادني بعضهم فيه: أنَّ النبوة على مثل هذين الوصفين تلقاها الشارع من جبريل، فقد أخبر أنه كان يأتيه بالوحي مرة، فيكلمه بكلام فيعيه بغير كلفة، ومرة يُلقى إليه جملا وجوامع يشتد عليه حملها حتى تأخذ الرُّحَضاء(۱)، ويتحدر منه العرق، ثم يُطلعه الله على بيان ما أُلقي عليه منها» . اهـ
ونقل أبو سعيد السفاقسي: «أنَّ بعض أهل العلم ذكر أنَّ الله تعالى أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر ، ثُمَّ أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح». انتهى كلامه.
و تعقبه ابن ابطال ، فقال : « هذا التأويل يفسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدَّة التي بعد بَعْثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى موته.
والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى» . اهـ قلت: ويبطله وجه ثالث أيضًا، وهو ما قاله النووي: «أنه لم يثبت أن زمن
الرؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ستة أشهر».
وقال العارف ابن أبي جمرة مُنكِرًا لهذا التأويل أيضًا: «ليس فيه كبير فائدة، ولا ينبغي أن يُحمل كلام المؤيد بالفصاحة والبلاغة على هذا المعنى، ولعل قائله
(۱) بضم الراء وفتح الحاء: العرق الناشئ عن الحُمَّى.
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٦٣
أراد أن يجعل بين النبوة والرؤيا نوع مناسبة فقط، ويُعكّر عليه الاختلاف في
عدد الأجزاء» . اهـ
وذكر الحليمي تلك الأجزاء حسب اجتهاده - فقال:
أعلاها : تكليم الله بغير واسطة.
ثانيها: الإلهام بلا كلام.
ثالثها الوحي على لسان ملك، يراه فيكلمه.
رابعها : نَفْتُ الملك في رُوعِه، وهو الوحي الذي يُخص به القلب دون السمع. خامسها: كمال عقله، فلا يعرض له فيه عارض أصلًا.
سادسها قوة حفظه، فلا ينسى ما يُلقى إليه.
سابعها: عصمته من الخطأ في اجتهاده.
ثامنها: ذكاء فهمه، فيتسع لضروب من الاستنباط. تاسعها: ذكاء بصره، فيُره ما لا يرى غيره.
عاشرها ذكاء سمعه، فيسمع مالا يسمع غيره.
حادي عشرها : ذكاء شَمّه، كما وقع ليعقوب في قميص يوسف.
ثاني عشرها تقوية جسده، حتى سار في بعض ليلة مسيرة ثلاثين ليلة. ثالث عشرها: عُروجه إلى السماوات السبع.
رابع عشرها : مجئ الوحي له في مثل صلصة الجرس.
خامس عشرها: تكليم الشاة.
سادس عشرها: إنطاق النبات.
سابع عشرها: إنطاق الجزع.
٣٦٤
الأدب والمتفرقات
ثامن عشرها: إنطاق الحجر.
تاسع عشرها : إفهامه عواء الذئب، أن يفرض له رزقًا.
العشرون: إفهامه رغاء البعير.
الحادية والعشرون: أن يسمع الصوت ولا يرى المتكلم.
الثانية والعشرون: تمكينه من مشاهدة الجن.
الثالثة والعشرون: تمثيل الأشياء المغيَّبة له، كما مثل له بيت المقدس صبيحة
الإسراء.
الرابعة والعشرون: حدوث أمرٍ يعلم به العاقبة، كما قال في الناقة التي بركت في الحديبية: «حبَسها حابس الفيل».
الخامسة والعشرون: استدلاله باسم على أمر، كما قال لهم ما جاءهم سهيل بن عمرو : «قد سهل لكم الأمر».
السادسة والعشرون: أن ينظر شيئا علويًّا، يستدل به على أمر يقع في
الأرض كما قال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب .
السابعة والعشرون: رؤيته من وراءه. الثامنة والعشرون: اطلاعه على أمر يقع لمن مات قبل أن يموت، كما قال في حنظلة: رأيت الملائكة تُغسله». وكان استشهد وهو جُنب.
التاسعة والعشرون: أن يظهر له ما يستدل به على فتوح مستقبل، كما ثبت
ذلك يوم الخندق.
الثلاثون: اطلاعه على الجنَّة والنار في الدنيا.
الحادية والثلاثون الفراسة.
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٦٥
الثانية والثلاثون طواعية الشجر، حتى انتقلت بعروقها وغصونها من
مكان إلى مكانٍ ثُمَّ رجعت.
الثالثة والثلاثون إفهامه شكوى الغزالة.
الرابعة والثلاثون: معرفة تأويل الرؤيا بحيث لا يُخطئ.
الخامسة والثلاثون: حَزْر الرطب وهو على النخل أنه يجئ كذا وكذا وَسَقا
من التمر، فجاء كما قال.
السادسة والثلاثون: الهداية إلى الاحكام.
السابعة والثلاثون: الهداية إلى سياسة الدين والدنيا.
الثامنة والثلاثون: الهداية إلى هيئة العالم وتركيبه. التاسعة والثلاثون: الهداية إلى مصالح البدن بأنواع الطب. الأربعون: الهداية إلى وجوه القُربات.
الحادية والأربعون الهداية إلى الصناعات النافعة. الثانية والأربعون: الاطلاع على ما سيكون.
الثالثة والأربعون: الاطلاع على ما كان مما لم ينقله أحد قبله.
الرابعة والأربعون التوقيف على أسرار الناس ومحباتهم. الخامسة والأربعون: تعليم طرق الاستدلال.
السادسة والأربعون: الاطلاع على طريق التلطف في المعاشرة.
قال الحليمي: «فقد بلغت خصائص النبوة فيما مرجعه العلم ستة وأربعين وجها، ليس منها وجه إلا وهو يصلح أن يكون مقاربا للرؤيا الصالحة التي أخبر أنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والكثير منها وإن كان قد
٣٦٦
الأدب والمتفرقات
يقع لغير النبي لكنه للنبي لا يُخطئ أصلا ولغيره قد يقع فيه الخطأ» . اهـ قلت: مما لم يذكره من خصائص النبوة: إخبار الذراع له بأنها مسمومة، وإعلام الشجرة له بحضور وفد الجنّ، وتسبيح الطعام بين يديه حتى سمعه الصحابة وهم يأكلونه، ومخاطبته المرأة التي كانت تقم المسجد وهي في قبرها، وإخبارها له بأنها وجدت قم المسجد أفضل عمل.
وقال الغزالي في كتاب الفقر والزهد من "الإحياء" لما ذكر حديث: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وفي رواية: «بأربعين عاما»: «وهذا يدل على تفاوت درجات الفقراء، فكأنَّ الفقير الحريص على جزء من خمسة وعشرين جزءا من الفقير الزاهد ؛ لأنَّ هذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، ولا يُظن أن تقدير النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يتجزأ على لسانه كيفما اتفق، بل لا ينطق إلا بحقيقة الحقِّ، وهذا كقوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة». فإنه تقدير تحقيق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلَّا النبوة عبارةٌ عما يختص به النبيُّ ويُفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من
بتخمين؛
لأنَّ
الخواص، منها أنه يعرف حقاق الأمور بالله وصفاته وملائكته والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره، بل عنده من كثرة المعلومات وزيادة اليقين ما ليس عند غيره، وله صفةٌ تتمُّ له بها الأفعال الخارقة للعادات كالصفة التي تتم بها لغيره الحركات الاختيارية، وله صفةٌ يُبصر بها الملائكة ويُشاهد بها الملكوت كالصفة التي يفارق بها البصير الأعمى، وله صفةٌ بها يُدرك ما سيكون في الغيب،
ويطالع بها ما في اللوح المحفوظ، كالصفة التي يفارق بها الذكي البليد.
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٦٧
فهذه صفات كمالات ثابتة للنبي يمكن انقسام كل واحد منها إلى أقسام،
بحيث يمكننا أن نقسمها إلى أربعين جزءًا وإلى خمسين وإلى أكثر، وكذا يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءًا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا من جملتها، لكن لا يرجع إلَّا إلى ظنُّ وتخمين، لا أنه الذي أراده النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حقيقة». انتهى كلامه.
قال الحافظ في "الفتح": «وأظنه أشار إلى كلام الحليمي فإنه مع تكلفه،
ليس على يقين أنَّ الذي ذكره هو المراد، والله أعلم».
المسألة الثامنة
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما
المبشرات ؟ قال: «الرؤيا الصالحة».
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كشف الستارة ورأسه معصوبٌ في مرضه الذي تُوفّي فيه، والناس صفوفٌ خلف أبي بكر، فقال: «يا أيها النَّاسُ، إنه لم يبقَ مِن مُبشِّرات النُّبوَّةَ إِلَّا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له».
وروى النَّسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«إنه ليس يبقى بعدي من النُّبوَّة إلَّا الرؤيا الصَّالحة». صححه الحاكم. وروى أحمد بإسناد صحيح عن عائشة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا يبقى بعدي مِن النُّبوَّة إِلَّا المُبشِّرات». قالوا: يارسول الله، ما
٣٦٨
الأدب والمتفرقات
المبشرات ؟ قال: «الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له». وروى أحمد، والطبراني عن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لا نبوَّة بعدي إلَّا المُبشِّرات». قالوا: يارسول الله، ما المبشرات؟
قال: «الرؤيا الحَسَنةُ، أو قال: الصَّالحة». رجال إسناده ثقات.
وروى الطبراني عن حذيفة بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: ذهبت النُّبوَّة، فلا نبوَّة بعدي إلَّا المبشرات». قيل: وما المبشرات ؟
قال: «الرؤيا الصَّالحةُ يُراها الرجل أو تُرى له». رجال إسناده ثقات. وروى أحمد، وابن ماجه عن أمّ كُرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ذهبت النُّبوَّة وبقيت المبشرات». صححه ابن خزيمة وابن حبان.
وروى الحاكم عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الرسالة والنُّبوَّة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي». قال: فشق ذلك على الناس، فقال: «لكن المبشِّرات» فقالوا: يارسول الله، ما المبشرات ؟ قال: «رؤيا
المسلم، وهي جزء من أجزاء النُّبوَّة». صححه الحاكم على شرط مسلم. وروى الترمذي والحاكم من طريق أبي سلمة قال: نبتت عن عبادة بن الصامت، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، في قوله تعالى: ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيا ﴾ [يونس: ٦٤] قال: هي الرؤيا الصالحةُ يـ يراها المؤمن أو تُرى له». صححه الحاكم مع أنَّ فيه انقطاعا- وروى له شاهدا من طريق عطاء بن
يسار عن أبي الدرداء عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مثله.
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٦٩
ثُم وجدت أبا سعيد الواعظ أسنده في كتاب "التعبير" من طريق العباس بن الوليد بن مزيد: أخبرنا عقبة بن علقمة المعافري: أخبرني الأوزاعي: حدثنا يحيى بن أبي كثير : حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن: حدثني عبادة بن الصامت. فذكر الحديث، وبهذه الرواية انتفى الانقطاع وتم اتصال السند. وروى ابن مردويه في "تفسيره" عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عن قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[يونس: ٦٤] فقال: «هي الرؤيا الصالحة».
وروى أحمد .
عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [يونس: ٦٤] قال: «الرؤيا الصالحةُ يُبَشِّرُها المؤمن». الحديث. قال الحافظ الهيثمي: «في سنده
ابن لهيعة، عن دَرَّاج، وحديثهما حسن وفيهما ضعف، وبقية رجاله ثقات». وروى البزار، عن جابر بن عبدالله بن رئاب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تبارك وتعالى: ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [يونس: ٦٤] قال:
هي الرؤيا يراها المسلم أو تُرى له في سنده الكلبي، وهو ضعيف جدا. قال المهلب: «التعبير بالمبشّرات خرج للأغلب، فإنَّ من الرؤيا ما تكون
منذرة وهي صادقةٌ يُريها الله للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه» . اهـ قلت: والتعبير بالمسلم خرج للأغلب أيضًا فإنَّ رؤيا المرأة المسلمة كذلك. وروى الحكيم الترمذي، والطبراني عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رؤيا المؤمن كلام يُكلِّم به العبد ربه في المنام».
۳۷۰
الأدب والمتفرقات
قال الحافظ ابن حجر: «إسناده واه».
ونقل الحكيم الترمذي عن بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيا أَوْ مِن وَرَآبِي حِجَابٍ ) [الشورى: ٥١] أي في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنها قد يحضرها الشيطان». اهـ
المسألة التاسعة
روى البخاري عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَن رآني في المنامِ فَسَيَراني في اليقظة، ولا يتمثل الشَّيطانُ بي». ورواه مسلم، وزاد: «أو لكأنها رآني في اليقظة» على الشك.
ورواه ابن ماجه من حديث أبي جحيفة بلفظ : «مَن رآني في المنام فكأنما رآني
في اليقظة إنَّ الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي». وإسناده حسن.
ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بلفظ : «مَن رآني في المنام فقد رآني في اليقظة، إنَّ الشيطان لا يتمثل على صورتي». وصححه الترمذي وأبو عوانة. وهكذا رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عبدالله بن عمرو. وفي الصحيحين عن أبي قتادة قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: من رآني في المنام فقد رأى الحق».
وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري مثله ، بزيادة: «فإنَّ الشيطان لا
يَتَكَوَّنُني».
قال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۷۱
بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤياه على غير صفته إدراك للمثال، فإنَّ الصواب: أنَّ الأنبياء لا تُغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثل، وقوله: «فسيراني»، معناه: فسيرى تفسير ما رأى؛ لأنه حق وغَيّب ألقي إليه ، وقيل : معناه: فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص.
وأما قوله: «فكأنما رآني فهو تشبيه، ومعناه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًّا وحقيقة والثاني حقا وتمثيلا، وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال، فإن رآه مُقبلا عليه مثلا، فهو خير للرائي، وعلى العكس فبالعكس» . اهـ
وقال القرطبي: «الصحيح في تأويل هذا الحديث أنَّ مقصوده أنَّ رؤيته في كل حالة ليست باطلةً ولا أضغانا بل هي حق في نفسها ولو رُؤي على غير صورته، فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره، ويؤيده قوله: «فقد رأى الحق». أي: رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها، وإلا سعى في تأويلها، ولا يُهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير أو إنذار من شر، إما ليُخيف
الرائي، وإمَّا لينزجر عنه ، وإما لينبه على حكم وقع له في دينه أو دنياه» . اهـ قلت: اختلف العلماء في تأويل الحديث على أقوال، نلخصها فيما يلى:
۱ - أنَّ المراد به التشبيه، بدليل قوله: «فكأنما رآني في اليقظة».
٢ - أنَّ المعنى : مَن رآني في المنام فسيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة بطريق الحقيقة أو التعبير. قاله ابن العربي وغيره.
۳۷۲
الأدب والمتفرقات
- أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به ولم يره، فيكون مُبشِّرًا له بأن يراه
قبل موته. نقله ابن التين عن القزاز، وأبداه المازري احتمالا. - أنَّ من رآه في المنام يراه يوم القيامة رؤيةً خاصةً بمزيد تكرمةٍ وقُرب لا تحصل لمن لم يره في المنام. ذكره القاضي عياض، قال: «ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدةً». ه - أنَّ من رآه في المنام يراه في اليقظة في جميع العصور.
ونقل العارف أبو محمد ابن أبي جمرة عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في المنام، ثُمَّ رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك، واختاره الحافظ السيوطي، وذكر أنَّ الشخص من عوام المسلمين إذا رأى النبيَّ صلَّى الله
عليه وآله وسلَّم في المنام لا بد أن يراه في اليقظة ولولحظة خروج روحه تحقيقا لوعده الصادق.
أن فائدة رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «فسيراني في اليقظة». أي: من رآني رؤيا معظم الحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه قاله القرطبي، وفيه تلميح إلى ما حكاه ابن أبي جمرة. أن يكون مقصود رؤياه صلَّى الله عليه وآله وسلّم معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فيُعبَّر بحسب ما يراه الرائي من زيادة ونقصان أو إساءة أو إحسان. قاله القرطبي أيضًا. قلت: من هذا المعنى ما حكاه الشيخ خليل بن شاهين الظاهري: أنَّ رجلاً
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۷۳
رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المنام عريانا فغطّاه وقام مسرورًا من هذه الرؤيا، فسأل عن تعبيرها، فقال له المعبّر : النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم حق، وتغطيتك له تغطية للحق (۱).
(۱) وذكر الشيخ محي الدين بن العربي الحاتمي: «أنه رأى مرة في صباه في المنام في جامع إشبيلية، النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مينًا مُسَجَّى في بعض زواياه، فلما كان بعد ذلك بسنين، دخل ذلك الجامع مع بعض أهل بلده ليعبر من أحد أبوابه إلى الجانب الآخر لبعض مصالحه، فقال لصاحبه: إني لا أجوز الجامع حتى أركع فيه ركعتين، فقال له صاحبه: تعال نركع في تلك الزاوية، وأشار إلى ذلك الموضع الذي رأيت فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ميتا مُسَجّى، فأبيت، فقال لي: لم تتأب من الصَّلاة هناك؟ فأخبرته بالرؤيا وقلت: لذلك أكره الصلاة هناك، فتعجب وقال: رأيت الحق، وسأخبرك عن سر رؤياك: اعلم أن ذلك الموضع كان بيتي، وأراد صاحب بلاد المغرب أن يوسع الجامع فرفع أحد حيطانه واشترى البيوت التي كانت وراءه ليدخلها في المسجد ولم يبق إلا بيتي، فثامنوني عليه ولم يعطوني ما أرضى به، فأبيتُ، فأخذوه بغير رضاي بما اشتهوا، فالذي رأيت لم يكن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم إنما هو شرعه مات بالنسبة إلى هذا الموضع وسُتِر بصورة المبايعة، ولم تكن مبايعة صحيحة بل الموضع كان مغصوبا، وأما الآن فأشهدك أني قد تركت حقي للمسلمين، فتعال صل فيه فمضينا وصلينا وخرجنا لحاجتنا». نقل هذه الحكاية، عن الشيخ محي الدين تلميذه صدر الدين القونوي في "شرح الأربعين"، في الكلام على الحديث الثاني والعشرين، وهو حديث ابن مسعود: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي. وذكر صدر الدين أيضًا قال: رأيت في الليلة التي أُخذت بغداد بصبيحتها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم مكفّنا على نعش وأقوام يشدونه على النعش ورأسه
٣٧٤
الأدب والمتفرقات
ونقل القاضي عياض عن بعض العلماء قال: «خص الله نبيَّه بعموم رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتصوَّر في صورته لئلا يتذرع بالكذب على لسانه في النوم، ولما خرق الله العادة للأنبياء للدلالة على صحة حالهم في اليقظة واستحال تصور الشيطان على صورته في اليقظة، ولا على صفةٍ مضادة لحاله - إذ لوجاز ذلك لدخل اللبس بين الحق والباطل ولم يوثق بما جاء من جهة النبوة - حمى الله حماها لذلك من الشيطان وتصوره وإلقائه وكيده، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم ورؤيا غير النبي للنبي عن تمثيل بذلك، لتصح رؤياه في الوجهين ويكون طريقا إلى علم صحيح لا ريب فيه . اهـ
مكشوف وشعره يكاد يمس الأرض، فقلت لأولئك ما تصنعون؟ فقالوا: إنه مات ونحن نريد حمله ودفنه، فوقع في قلبي أنه عليه السَّلام لم يمت، فقلت لهم: ما أرى وجهه وجه میت، اصبروا حتى أتحقَّق الأمر، فدنوت إلى فمه وأنفه فوجدته يتنفس مما نفسا ضعيفًا، فصحت عليهم ومنعتهم . كانوا عازمين عليه، واستيقظت فزعا كئيبا، وعرفتُ بما كنت أعلم من هذه المسألة والتجارب المكررة أنَّ ذلك مثال حادث عظيم حدث في الإسلام، وقد كان الخبر وصل بأن المغول قد قصدوا بغداد، فضبطت التاريخ، فجاء غير واحد ممن حضر الوقعة من أهل الخبرة وذكر أن في ذلك اليوم أُخِذَت بغداد، فخرجت الرؤيا على نحو ما وقع لي في تعبيرها.
قلتُ: حكى هذه الرؤيا والتي قبلها تأييدًا لما قرره من أنَّ رؤيا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم على غير صورته الحقيقية لا يكون المرئي فيها ذاته الشريفة، بل ذلك المرئي صورة الشرع بالنسبة إلى اعتقاد الرائي أو حاله، أو بالنسبة إلى صفة أو حكم من أحكام الإسلام، أو بالنسبة إلى ذلك الموضع الذي رأى فيه الرائي تلك الصورة التي ظنها صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۷۵
وقيل - في عدم تمثل الشيطان به - : إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مظهر
الاسم الهادي، ولذلك قال تعالى يخاطبه : وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: ٥٢] والشيطان مظهر المضّل، والهداية والإضلال ضدان، فمنع الشيطان عن ظهور بصورته صلى الله عليه وآله وسلّم.
وروى ابن أبي عاصم بإسنادٍ ضعيف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن رآني في المنام فقد رآني فإنِّي أُرى – بضم الهمزة –
في كل صورة». قال العلماء: مَن رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في المنام، فقد رآه حقيقة؛ فإنَّ الشيطان لا يتمثل به، لكن إذا رآه على صورته كانت رؤياه على ظاهرها لا تحتاج إلى تأويل، وإن رآه على خلاف صورته كانت رؤياه تحتاج إلى تأويل. وقال العارف أبو محمد ابن أبي جمرة: من رآه في صورة حسنة فذاك حُسْنُ في دين الرائي، وإن كان في جارحةٍ من جوارحه شَيْنٌ أو نَقْصُ فذاك خَلَلٌ في الرائي من جهة الدين، وهذا هو الحقُّ. وقد جُرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه، حتى يتبيَّن للرائي هل عنده خَلَل أو لا؟ لأنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم نوراني، مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حُسْنٍ أو غيره تصوّر فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها ولا شَيْن، وكذلك يقال في كلامه صلى الله عليه وآله وسلَّم في النوم، أنه يُعرض على سُنّته فما وافقها فهو حقٌّ وما خالفها فالخَلَلُ في سمع ا الرائي،
فرؤيا الذات الكريمة حقٌّ، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره». أهـ
٣٧٦
الأدب والمتفرقات
قلت: حكى الحافظ في "الفتح" وجهين في النائم لو رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يأمره بشيء : هل يجب عليه امتثاله ولابد؟ أو لابد أن يعرضه على الشرع الظاهر ؟ قال: «فالثاني هو المعتمد» . اهـ
وقال القرافي: واختلف قول الفقهاء: لوقال لرائيه امرأتك طالق ثلاثا، وهو يجزم أنه لم يُطلق ثلاثا، هل يلزمه الطلاق ثلاثا لأنه صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يقول إلَّا حقا، أو لا يلزمه شيء؟ وهو الأظهر؛ لأن إخباره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في اليقظة مقدَّم على إخباره في النوم، لأنَّ احتمال الغلط في ضبط المثال في النوم أرجح من الغلط في ضبط عدم الطلاق، لأنَّ هذا لا يُتخَيَّل إلا على النادر من الناس، وأمَّا المثال في النوم فلا ينضبط إلَّا للأفراد من
الحفاظ لصفته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والعمل بالراجح واجب» . اهـ وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول : رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر جماعة من أهل العلم منهم ا الأستاذ أبو إسحاق- أنها تكون حُجَّةً
ويلزم العمل بها، وقيل: لا تكون حُجَّةً ولا يثبت بها حكم شرعي، وإن كانت رؤياه صلى الله عليه وآله وسلَّم رؤيا حق والشيطان لا يتمثل به، لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم ضبطه.
وقيل: إنه يعمل بها ما لم تُخالف شرعًا ثابتا، قال: ولا يخفاك أنَّ الشرع
الذي شرعه الله لنا، قد كمله الله عزّ وجلَّ وقال : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] ولم يأتنا دليل يدل على أنَّ رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال قولا أو فعل فعلا يكون حُجَّةً، وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم، لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم أو فعله حُجَّةٌ عليه ولا
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۷۷
على غيره من الأمة» . اهـ
قلت: حكى التاج السبكي: « أنَّ رجلا من أهل الشام رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في المنام يقول له في الموضع الفلاني ركاز، خذه ولا خمس عليك، فذهب إلى ذلك الموضع ووجد الرّكاز، واستفتى العلماء فأفتوه ألا خمس عليه، ورأوا ذلك خاصا به، إلا عز الدين بن عبدالسلام أفتاه بوجوب الخمس وقال له: إخراج الخمس ثابت بالتواتر ، ورؤياك غايتها أن تكون خبر آحاد، والتواتر مُقدَّم على الآحاد». وقال الأبي: «يُذكر أنَّ الشيخ الفقيه ابن البراء كان يقرأ في مسجد القبة من تونس، فأتاه رجل فقال له: رأيت البارحة النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وقال لي: «قل لفلان يعطيك جُبَّةٌ»، فقال له الفقيه قال لي أنا في اليقظة لا أعطيك شيئًا. فذهب الرجل، فدخل على الرجل الصالح أبي عبدالله المشتهر بالمغربي- في موضعه القريب من المسجد المذكور فأعطاه، فقيل له: إنَّ الرجل يتخرّص، فقال الشيخ: لو علمت أنه محق أعطيته» (۱).
(۱) روى حماد بن أسامة، عن عمر بن حمزة أخبرني سالم بن عبدالله، عن أبيه قال: قال عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في المنام لا ينظرني، فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ فقال: «ألست الذي تُقبل وأنت صائم؟ قلت: فوالذي بعثك بالحق لا أقبل بعدها وأنا صائم. قال ابن حزم في "المحلى": «الشرائع لا تثبت بالمنامات، لاسيما وقد أفتى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم عمر في اليقظة حيا بإباحة القبلة للصائم، وعمر بن حمزة: لا شيء . اهـ قلت: حديث إباحة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القبلة لعمر وهو صائم: رواه
۳۷۸
الأدب والمتفرقات
وللعلامة الشيخ حسن العطار، رسالة في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أشبع فيها القول، وتشتمل على نفائس.
تنبيهات
الأول: روى الطبراني في "الأوسط" عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن رآني في المنامِ فَسَيَرَانِي فِي اليَقَظَةِ، ولا يَتَمَثَّل الشيطانُ بي
ولا بالكعبة». وقال الطبراني: «لا تحفظ هذه اللفظة إلا في هذا الحديث». اهـ وقال الحافظ الهيثمي: «في سنده محمد بن أبي السري، وثقه ابن معين
وغيره، وفيه لين، وبقية رجاله رجال الصحيح . اهـ
قوله «ولا بالكعبة معناه: أنَّ الشيطان لا يستطيع أن يُخيل للنائم بنايةٌ تُشبه
بناية الكعبة؛ لأنها بناية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقبلة المسلمين. الثاني: قال أبوسعيد الواعظ في كتاب "التعبير": أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن حسن الكلابي بدمشق، قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن محمد الخزاعي، عن محمد بن المصفي، عن يحي بن سعيد | بن المصفي، عن يحي بن سعيد القطان، عن سعيد بن مسلم، عن أنس بن مالك: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن رآني في المنام فلن يدخلَ النَّار».
سليمان بن محمد الخزاعي، قال ابن عبد البر: «لا يُحتج به»، وقال الحافظ : أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وعمر بن حمزة ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وذكره ابن حِبَّان في "الثقات" وقال: «يُخطى».
وصحح له الحاكم وقال: «أحاديثه كلها مستقيمة». وهو من رجال مسلم.
الرؤيا في القرآن والسنة
«ما عرفت حاله». ومحمد بن المصفي يُدلّس تدليس التسوية.
۳۷۹
وروي أيضًا من طريق محمد بن المصفّي، عن بكر بن سعيد، عن سعيد بن
قيس، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لن يدخلَ النَّارَ من رآني في المنام». محمد بن المصفّي مدلس.
الثالث: قال العارف أبو محمد ابن أبي جمرة: يؤخذ من قوله: «فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي إن تمثلت صورته صلَّى الله عليه وآله وسلم في خاطره من أرباب القلوب وتَصَوَّرت له في عالم سره أنه يكلمه، أنَّ ذلك يكون حقا، بل ذلك
أصدق من مرأى غيرهم لما مَنَّ الله به عليهم من تنویر قلوبهم . اهـ
قال الحافظ ابن حجر : وهذا المقام الذي أشار إليه هو الإلهام، وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء، ولكن لم أرَ في شيء من الأحاديث وَصفَه بما وُصِفَت به الرؤيا: أنه جزء من النبوة، وقد قيل في الفرق بينهما: أنَّ المنام يرجع إلى قواعد مقررة، وله تأويلات مختلفة، ويقع لكل أحدٍد، بخلاف الإلهام فإنه لا يقع إلا للخواص، ولا يرجع إلى قاعدةٍ يُميَّز بها بينه وبين له الشيطان، وتُعقب بأنَّ أهل المعرفة بذلك ذكروا أنَّ الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب، والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر، فهذا إن ثبت كان فارقًا واضحًا ومع
ذلك فقد صرح الأئمة بأنَّ الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك».
قال أبو المظفر بن السمعاني بعد أن حكى عن أبي زيد الدبوسي من أئمة
الحنفية أنَّ الإلهام ما حرَّك القلب لعلم يدعو إلى العمل به من غير استدلال-: والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العمل به إلَّا عند فقد الحجج كلَّها في باب المباح، وعن بعض المبتدعة أنه حُجَّةٌ واحتج بقوله تعالى: ﴿ فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا
۳۸۰
الأدب والمتفرقات
وتقونَهَا ﴾ [الشمس: ۸] وبقوله: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى الغَلِ ﴾ [النحل: ٦٨] أي ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدمي بطريق الأولى، وذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اتقوا فراسة المؤمن». وقوله لوابصة: «ما حاك في صدرك فدعه وإن أفتوك». فجعل شهادة قلبه حُجَّةً مقدمة على الفتوى، وقوله: «قد كان في الأُمم مُحدَّثون». فثبت بهذا أنَّ الإلهام حق وأنه وحي باطن، وإنما حرمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه». قال: وحُجَّة أهل السنة: الآيات الدالة على اعتبار الحجة، والحث على التفكر في الآيات والاعتبار والنظر في الأدلة، وذم الأماني والهواجس والظنون وهي كثيرة مشهورة، وبأنَّ الخاطر قد يكون من الشيطان، وقد يكون من النفس، وكل شيء احتمل أن لا يكون حقا فليس بحق».
قال: «والجواب عن قوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَنَهَا ﴾ [الشمس: ٨ ] أَنَّ معناه: عرفها طريق العلم وهو الحُجَج، وأمَّا الوحي إلى النحل فنظيره في الآدمي فيما يتعلق بالصنائع وما فيه صلاح المعاش، وأما الفراسة فنسلمها لكن
لا نجعل شهادة القلب حُجَّةً؛ لأنَّا لا نتحقق كونها من الله أو من غيره . اهـ قال ابن السمعاني: وإنكار الإلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله بعبده ما يكرمه به، ولكن التمييز بين الحق والباطل في ذلك: أنَّ كلَّ ما استقام على الشريعة المحمدية ولم يكن في الكتاب والسُّنَّة ما يرُدَّه فهو مقبول، وإلا فمردودٌ يقع من حديث النفس ووسوسة الشيطان». قال: «ونحن لا ننكر أنَّ الله يُكرم عبده بزيادة نور منه يزداد به نظره ويقوى به رأيه، وإنما تنكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يُعرف أصله، ولا نزعم أنه حُجَّةٌ شرعية وإنما هو نور يختص الله به من
الرؤيا في القرآن والسنة
يشاء من عباده، فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحُجَّة» . اهـ
۳۸۱
وفي "جمع الجوامع": «الإلهام: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر يخص به الله تعالى بعض أصفيائه، وليس بحُجَّةٍ، لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره، خلافًا لبعض الصوفية». اهـ
وقال أبو علي التميمي في كتاب "التذكرة في أصول الدين": «ذهب بعض الصوفية إلى أنَّ المعارف تقع اضطرارًا للعباد على سبيل الإلهام بحكم وعد الله
سبحانه وتعالى، بشرط التقوى. واحتج بقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: ۲۹] أي: ما تُفرّقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: ٢] أي عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: ۲۸۲] هذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زَكَت أنفسهم وسَلَّمت قلوبهم لله
تبارك وتعالى بترك المنهيات وفعل المأمورات، وخبره صدق ووعده حق. واحتج السهروردي على الإلهام بقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أَمْ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: ۷]، وبقوله سبحانه: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [النحل: ٦٨] فهذا الوحي مجرَّد الإلهام، ثُمَّ إنَّ من الوحي علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة . قال صلى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ مِن أُمَّتِي الْمُحَدَّثين والمكَلَّمين» وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَنَهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَنَهَا ﴾ [الشمس: ۷ - ۸] فأخبر أن النفوس مُلهَمةٌ، والحديث الذي أشار إليه رواه الشيخان، ولفظ رواية مسلم: «قد كان يكون في الأمم قبلكم تُحدَّثون فإن يكن في أُمتي منهم
۳۸۲
الأدب والمتفرقات
أحد، فعمر منهم». قال ابن وهب: «تفسير محدثون: مُلهمون». وقال البيهقي في "شعب الإيمان": «هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى أن يحتاج إليه، أو يُحدَّث على لسان ملك بشيء من ذلك، كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ: وكيف يُحدث؟ قال: «يتكلم الملك على لسانه». وقد رُوي عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث: «يعني يُلقي في روعه». روعه - بضم الراء - قلبه . وقال القرطبي: «المحدَّثون: الملهَمون، يحدثون في ضمائرهم بأمور صحيحة، فهي من نوع الغيب، فتظهر على نحو ما وقع لهم، وهي كرامة من الله يُكرم بها من يشاء من صالح عباده، ومن هذا النوع الوارد فيها حديث الترمذي: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ، ثُمَّ قرأ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتِ لِلْمُتَوَسَمِينَ
[الحجر: ٧٥].
وقال الزركشي في البحر المحيط": اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام، منهم الإمام في تفسيره" في أدلة القبلة، وابن الصلاح في "فتاواه"، فقال: «إلهام خاطر الحقِّ مِن الحقِّ، ومن علاماته أن ينشرح له الصدر، ولا يعارضه معارض آخر». اهـ
وقال الغزالي في حديث استفت قلبك»: استفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حرَّم فيجب الامتناع، ثُمَّ لا نقول: على كل قلبٍ، فَرُبَّ قلب مُوَسوَس ينفي كل شيء، ورُبَّ متساهل يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفّق لدقائق الأحوال، فهو المحك
الذي يمتحن به حقائق الأمور، وما أعزّ هذا القلب» . اهـ
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۸۳
وقال الشوكاني: «على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدَّم من الأدلة، من أين لنا أنَّ دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة؟ وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟».اهـ والحاصل : أنَّ الإلهام ليس بحُجَّةٍ شرعية، لكن إذا أيده دليل شرعي ساغ لصاحبه أن يعمل به في حق نفسه، وهو مُلْحَقِّ بالكرامات كما سبق في كلام ابن السمعاني والقرطبي، والله أعلم.
الرابع: حديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنَّه ينظرُ بنور الله». رواه الترمذي، وابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه ابن جرير من حديث ابن عمر، ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة، ورواه ابن جرير من حديث ثوبان بلفظ : احذروا... الحديث. وهو حديث حسن كما قال الحافظ الهيثمي، والحافظ السيوطي، وأخطأ ابن الجوزي بذكره في "الموضوعات". وشاهده ما رواه البزار ، وابن جرير من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ لله عبادًا يعرفون النَّاس بالتوسم».
المسألة العاشرة
رؤيا الله تعالى في المنام، حكى ولي الدين العراقي في "شرح جمع الجوامع" خلافًا فيها عن الصابوني من الحنفية، والقاضي أبي يعلى من الحنابلة؛ لأنَّ ما يُرى في المنام خيال ومثال وهو في حق الله تعالى مُحال.
ولهذا بالغ ابن الصلاح في إنكارها، كما حكاه المحلي في "شرح جمع الجوامع"، لكن قال عياض في شرح مسلم : "ولم يختلف في جواز رؤية الله تعالى في المنام، حتى لو رؤي على صفة لا تليق كرؤيته في صفة رجل، للعلم
٣٨٤
الأدب والمتفرقات
بأنَّ ذلك المرئي ليس ذاته الكريمة؛ لاستحاله صفة الأجسام عليه». وقال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيته تعالى في النوم أوهام وخواطر في القلب يتعالى الله سبحانه عنها، وهي دلالة للرائي على أمورٍ مما كان أو سيكون كغيرها من الرؤيات».
قال القرافي: «هذا إن ادَّعاه من هو من أهله، كولي مُتَّقِ، ويكون ذلك تخصيصا لعموم قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾ [الأنعام: ١٠٣] وإذا قبل قول الولي في الكرامة الخارقة للعادة المخصصة للعلوم القطعية، فكيف في تخصيص العموم الذي لا يُفيد إلَّا الظَّنَّ؟! وأمَّا إن ادعاه من ليس من أهله كالعاصي أو المقصر فإنَّا نُكَذِّبه.
وأما رؤيته تعالى على ما يستحيل كرؤيته في صورة رجل يتقاضى من الرائي أمرًا أو يأمره بخير أو ينهاه عن شر، ويقول: «أنا الله لا إله إلَّا أنا فاعبدني» فهو أيضًا جائز، وتكون رؤيا تأويل تدل على ما كان أو سيكون كغيرها من الرؤيات فيسأل عن تعبيرها. والرائي يعلم أن ذلك المرئي ) المرئي أمر وارد من الله، أو خلقٌ من خلقه يدل على أمره ، وإطلاق اسم الله تعالى على ذلك المرئي تجاز، كما أطلق في حديث: ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» والمراد الرحمة، على أحد التأويلات». اهـ
وقال الغزالي في كتاب "المضنون به على غير أهله": «الحق أنا نطلق القول بأنَّ الله تعالى يُرى في المنام، كما نطلق القول بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُرى، لكن المرئي مثال محسوس من نورٍ وغيره من الصور الجميلة التي
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٨٥
تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقي المعنوي الذي لا صورة له ولا لون، ويكون ذلك المثال صادقا حقا وواسطة في التعريف، فيقول الرائي: «رأيت الله في المنام لا بمعنى رأيت ذاته، كما يقول: رأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا بمعنى أني رأيت ذات روحه أو ذات شخصه، بل بمعنى أنه رأى مثاله». قال: «فإن قيل: النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم له مثل، والله تعالى لا مثل له. قلنا: هذا جهل بالفرق بين المثل ،والمثال فليس المثال عبارة عن المثل، إذ
المثل: المساوي في جميع الصفات.
والمثال لا يُحتاج فيه إلى المساواة، فإنَّ العقل معنى لا يماثله غيره مماثلة حقيقية، ولنا أن نضرب له الشمس مثالا لما بينهما من المناسبة في شيء واحد
وهو
أنَّ
المحسوسات تنكشف بنور الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل
فهذا القدر من المناسبة كافٍ في المثال.
ويمثل في النوم السلطان بالشمس والوزير بالقمر، والسلطان لا يماثل الشمس بصورته ولا بمعناه ولا الوزير يماثل القمر، إلَّا أنَّ السلطان له استعلاء على الكل، ويعم أمره الجميع والشمس تناسبه في هذا القدر، والقمر واسطة بين الشمس والأرض في إفاضة النور كما أنَّ الوزير واسطة بين السلطان والرعية في إفاضة نور العدل، فهذا مثال وليس بمِثْلِ.
وقال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكُورٍ ﴾ الآية [النور: ٣٥]. ولا مماثلة بين نوره وبين الزجاجة والمشكاة، وعبر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن اللبن في المنام بالإسلام، والحبل بالقرآن، وأي مماثلة بين اللبن والإسلام وبين الحبل والقرآن؟! إلَّا في مناسبة، وهو أنَّ الحبل يتمسك به
٣٨٦
الأدب والمتفرقات
في النجاة، واللبن غذاء الحياة الظاهرة، والإسلام غذاء الحياة الباطنة، فهذه كلها مثال وليست بمثل فذات الله تعالى وذاته صلى الله عليه وآله وسلّم لا يُريان في المنام، وإنَّ مثالاً يعتقده النائم ذات الله تعالى وذات النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يجوز أن يُرى، وكيف يُنكر ذلك مع وجوده في المنامات؟! فإن لمريره بنفسه، فقد تواتر إليه عن جماعة أنهم رأوا ذلك» . اهـ وهو تحقيق نفيس. وعلى هذا فمعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث اختصام الملأ الأعلى: «رأيت ربي في أحسن صورة... الحديث: أنَّ الله تعالى أراد أن يُطلع نبيه على الملأ الأعلى وعلى ما شاء من غيبه من غير واسطة جبريل عليه السَّلام، فتعرف إليه بهذه الصورة التي كانت آلة أدت ما أوحى الله إليه بواسطتها، فهي مثال وليست بمثل، وعالم الرؤيا عالم مثال يُرى فيه ما ليس في صورة الجسم، فيُرى العِلم في صورة اللبن، والدين في صورة القميص، والعهد في صورة الحبل وهكذا.
بجسم
وقد اشتهر عن الإمام أحمد بن حنبل أنه رأى الله تعالى في المنام مرات، سأله في إحداها: «ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك؟ قال: كلامي يا أحمد. قال: بفهم أم بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فهم».
.
وروى أبو سعيد الواعظ عن عبدالله بن خفيف، قال: حدثني ابن أخت بشر بن الحارث قال: جاء رجل إلى بشر فقال: أنت بشر؟ قال: نعم. قال: رأيت الربَّ عزَّ وجلَّ في المنام وهو يقول: انت بشرًا وقل له: لو سجدت لي
على الجمر ما أديت شُكري، لما قد بيّنت اسمك في الناس.
وروي أيضًا عن عثمان الأحول - تلميذ أبي سعيد الخراز - قال: بات عندي
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۸۷
أبو سعيد فلما مضى ثلث من الليل صاح بي: يا عثمان، قم أسرج، فقمت فأسرجت، فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأني في الآخرة والقيامة قد قامت، فنودِيتُ فأوقفت بين يدي ربي وأنا أرعُد لم تبق على شعرةٌ إِلَّا قد ماتت، فقال: أنت الذي تُشير إليَّ في السماع بسلمى وبثينة؟! لولا أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين.
قلت: يقع لكثير من الصوفية الرمز للحضرة الإلهية بليلى وسعدى ونُعمى - بضم النون وسكون العين ونحو ذلك من أسماء النساء، وهو خطأ قبيح لا عذر لهم فيه إلا أن يقال: أنه خرج منهم في حالة شطح وعدم وعي؛ لأنَّ
الحضرة الإلهية أعلى وأجل من أن تكون موضع تغزل وتشبيب.
ومن
، الخطأ القبيح أيضًا تغزل المدّاح في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرمز إليه بالغزال وبالرشأ، وأنه سباهم بكحل عينه وحسن قوامه ونحو ذلك من ألفاظ الغزل التي يجل مقام النبوة عنها.
وروى أبو سعيد الواعظ عن أبي القاسم البزار، قال: قال علي بن الموفق حَجَجْتُ نيفا وخمسين حَجَّةً، وجعلت ثوابها للنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولأبوي، وبقيت حَجَّةٌ واحدةٌ فنظرت إلى أهل الموقف بعرفات وضجيج أصواتهم فقلت: اللهم إن كان في هؤلاء واحد لم يتقبل حَبُّه، فقد وهبت له هذه الحجة ليكون ثوابها له. قال: فبت تلك الليلة بالمزدلفة فرأيت ربي تبارك وتعالى في المنام، فقال: «يا علي بن الموفق، أعَليَّ تتسَخَّى ؟! قد غفرت لأهل الموقف ومثلهم معهم و وأضعاف ذلك، وشفّعت كل رجل منهم في أهل بيته وخاصته وجيرانه، وأنا أهل
۳۸۸
الأدب والمتفرقات
التقوى وأهل المغفرة» (۱).
(۱) قال القرطبي في "التذكرة": روي عن يحيى بن أكثم القاضي -وقد رؤي في النوم بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفنى بين يديه، ثُمَّ قال: يا شيخ السوء فعلت كذا وفعلت كذا، فقلت: يا رب ما بهذا حُدثت عنك، قال فبماذا حدثت عني يا يحيى؟ فقلتُ: حدثني الزهري، عن مَعْمَرٍ، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن جبريل، عنك سبحانك أنك قلت: إني لأستحيي أن أُعذِّب ذا شيبة شاب في الإسلام». فقال: يا يحيى صدقت، وصدق الزهري، وصدق مَعْمَرٌ، وصدق عروة وصدقت عائشة، وصدق محمد، وصدق جبريل ، وقد غفرت لك». قلت: هذا الحديث
لا أعرفه بهذا الإسناد، ويحيى لم يدرك الزهري، ومعمر من تلاميذ الزهري. لكن روى أبو يعلى بإسناد ضعيف عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: يقول الله تبارك وتعالى: إنّي لأستحيي من عبدى وأمتى يشيبان في الإسلام، فتشيب لحية عبدى ورأس أمتى في الإسلام أعذبها في النَّارِ بعد ذلك».
وذكر القرطبي أيضًا عن منصور بن عمار: أنه رُؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال لي: بماذا جئتني يا منصور ؟ قلت: بست وثلاثين حَجَّةً، قال: «ما قبلت منها واحدة»، ثُمَّ قال: «بماذا جئتني؟» قلت: بثلاثمئة وستين ختمة من القرآن. قال: «ما قبلت منها واحدة» ثُمَّ قال: بماذا جئتني؟» قلت: جئتك بك، قال سبحانه: «الآن جئتني، اذهب فقد غفرت لك».
وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق عبدالرحمن بن المطرف قال: رؤي منصور بن عمار بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وقال : يا منصور غفرت لك على تخليط منك كثير، إلا أنك كنت تحوش الناس تجمعهم- إلى ذكري».
ورؤي ابن نباتة بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال:
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۸۹
المسألة الحادية عشرة
روى أحمد عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم
قال: «أصدق الرؤيا بالأَسْحَار». صححه ابن حبان، والحاكم.
قال نصر بن يعقوب الدينوري: «إنَّ الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السَّحَر ولا سيما عند طلوع الفجر».
قلت: إنما كانت الرؤيا عند السَّحَر أصْدَقَ لسببين :
أحدهما: بعد عهد النائم باليقظة. والآخر: أ : أنَّ السَّحَر وقت التجلي الإلهي على عباده، وساعة إجابة الدعاء من
الداعين. وقال جعفر الصادق عليه السَّلام: «أسرع الرؤيا تأويلا رؤيا القيلولة». يعني: بعد رؤيا الأسحار، والسر في ذلك: أنَّ نوم القيلولة يُستعان به على قيام
الليل، فهو في حكم العبادة، لذلك كانت الرؤيا فيه يسرع تأويلها.
وروى علي بن أبي طالب القيرواني في كتاب "التعبير" من طريق مسعدة بن اليسع عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين قال: «رؤيا النهار مثل رؤيا
أنت الذي تخلص كلامك حتى يقال: ما أفصحه؟»، فقلت: سبحانك كنت أصفك، قال: «قل كما كنت تقول في دار الدنيا». فقلت: أبادهم الذي خلقهم، وأسكتهم الذي أنطقهم، وسيوجدهم كما أعدمهم، وسيجمعهم كما فرقهم. قال لي: «صدقت، اذهب
فقد غفرت لك».
۳۹۰
الأدب والمتفرقات
الليل. يعني الرؤيا بالليل والرؤيا بالنهار كلتاهما تُعَبَّر وتحصل. قال علي بن أبي طالب القيرواني: لا فرق في حكم العبارة بين رؤيا الليل والنهار، وكذا رؤيا النساء والرجال». وقال أيضًا: «إنَّ المرأة إذا رأت رؤيا ليست لها أهلًا فهي لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن الطفل لأبويه». قلت: يعني أن المرأة إذا رأت في رؤيا أنها تؤم الرجال أو تتولى الحكم عليهم أو نحو ذلك مما ليست أهلا له فالرؤيا لزوجها، فإن لم يكن لها زوج لأبيها أو أخيها أو أحد أقاربها، ومثلها الطفل والعبد إذا رأيا رؤيا لا يليقان لها فهي لأبوي الطفل وسيّد العبد، وقد تتحقق الرؤيا لغير الرائي وإن كان لها أهلًا، فقد رأيت رؤيا تحققت لشقيقي الحافظ أبي الفيض رحمه الله. وحكى ابن بطال في شرح البخاري" الاتفاق على أنَّ رؤيا المؤمنة الصالحة داخلة في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم-: «رؤيا المؤمن الصالح جزء
فهي
من ستة وأربعين جزءًا من النبوَّة».
المسألة الثانية عشرة
روى الترمذي عن علي عليه السَّلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَنْ كَذَبَ فِي حُلْمِهِ كُلَّفَ يوم القيامةِ عَقْدَ شَعِيرَةِ». زاد أحمد في روايته متعمدًا». قال الحافظ: «سنده حسن، وقد صححه
الحاكم، لكنه من رواية عبد الأعلى بن عامر، ضعفه أبو زرعة». اهـ
وروى الحاكم عن وائلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ أعظم الفِرْية أن يفتري الرجلُ على عَيْنَيْه، يقول: رأيتُ، ولم ير، أو يفتري على والديه، أو يقول: سَمِعَني ولم يَسْمَعْني». قال الحاكم: «صحيح على
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۹۱
شرط الشيخين»، وسلمه الذهبي.
وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي شُرَيحِ الخُزَاعِيُّ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنَّ من أَعْتَى النَّاسِ على الله مَن قَتَل غير قاتله، أو طلب
بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصر عينيه في النوم ما لم تُبصرا».
وفي "صحيح البخاري عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ من أَقْرَى الفِرى أن يُرِي عينه ما لم ترَ». «أفرى»: أفعل تفضيل : أي أعظم الكذبات و«الفرى» - بكسر الفاء وفتح
الراء : جمع فرية.
قال ابن بطال في شرح البخاري": «الفرية: الكذبة العظيمة التي يتعجب
منها » . اهـ
وفي "صحيح البخاري": أيضًا عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من تحلم بحُلْمٍ لم يرَه كُلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، : ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عُذب، وكلف أن ينفخ فيها الرُّوح وليس بنافخ».
«الآنك» - بالمد وضم النون-: الرصاص المذاب.
قال الطبري: «إنما اشتد الوعيد على الكذب في المنام مع أنَّ الكذب في اليقظة قد يكون أشد مفسدة منه، إذ قد يكون شهادة في قتل أو حد أو أخذ مال؛ لأن الكذب في المنام كذب على الله أنه أراه ما لم يره، والكذب على الله أشد من الكذب على المخلوقين لقوله تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
۳۹۲
الأدب والمتفرقات
ربِّهِمْ ﴾ [هود: ۱۸].
وإنما كان الكذب في المنام كذبًا على الله لحديث: «الرؤيا جزء من النُّبوَّة».
وما كان من أجزاء النبوة فهو من قِبل الله تعالى» . اهـ
وقال العارف أبو محمد ابن أبي جمرة: إنما سماه حُلْما ولم يسمه رؤيا لأنَّه ادعى أنه رأى، ولم ير شيئًا فكان كاذبًا والكذب إنما هو من الشيطان، وقد قال: إنَّ الحلم من الشيطان». كما مضى في حديث أبي قتادة، وما كان من الشيطان فهو غير حق، فصدق بعض الحديث بعضا».
قال: ومعنى العقد بين شعيرتين: أن يقتل إحداهما بالأخرى وهو مما لا يمكن عادةً، ومناسبة الوعيد المذكور للكاذب في منامه وللمصور : أن الرؤيا خَلْق من خَلْق الله وهي صورة معنوية فأدخل بكذبه صورة لم تقع، كما أدخل المصوّر في الوجود صورة ليست بحقيقة؛ لأنَّ الصورة الحقيقية هي التي فيها الروح، فكلف صاحب الصورة اللطيفة أمرًا لطيفا، وهو الاتصال المُعَبَّر - بالعقد بين الشعيرتين، وكُلف صاحب الصورة الكثيفة أمرًا شديدًا وهو أن يُتِمَّ
عنه
ما خَلَقه بزعمه بنفخ الروح فيه، ووقع وعيد كل منهما بأنه يُعَذِّب حتى يفعل ما كلف به وهو ليس بفاعل، فهو كناية عن تعذيب كل منهما على الدوام، والحكمة في هذا الوعيد الشديد أنَّ الأول كذب على جنس النبوة، وأنَّ الثاني نازع الخالق في قدرته» . اهـ والحكمة في صب الآنك في أذن من استمع حديث قوم وهم له كارهون
أنه جزاء من جنس العمل، صُبّ في أذنيه ما يكره لاستماعه قوما يكرهون
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۹۳
استماعه، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة عشرة
روى أبو يعلى في مسنده من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: قال
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الرؤيا لِأَوَّل عَابِرٍ». إسناده ضعيفٌ. ويشهد له ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبي رَزَينِ العقيلي، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: «الرُّؤيا على رِجْلِ طائرِ ما لم تُعبّر فإذا عُبرت وقَعَتْ. لفظ أبي داود، ولفظ رواية الترمذي: «سقطت». إسناده
حسن، وصححه الحاكم. ورواه الإمام أحمد من حديث معاوية بن حَيْدَةَ. وروى الحاكم من حديث أنس مرفوعا: «الرُّؤيا تقع على ما تُعبر، ومَثَلُ ذلك مَثَلُ رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما». قال الحاكم: صحيح». وسلّمه الذهبي، ورواه عبدالرزاق عن أبي قلابة مرسلًا.
وروى الدارمي، عن سليمان بن يسار، عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف - يعني في التجارة- فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقالت: إنَّ زوجي غائب وتركني حاملا، فرأيت في المنام أنَّ سارية بيتي انكسرت وأني ولدت غلامًا أَعوَر. فقال: «خير، يرجع زوجك إن شاء الله صالحا وتلدين غلامًا بَرًا». فذَكَرَت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتنَّ زوجك وتلدين غلاما فاجرًا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «مَة يا عائشة، إذا عَبَرْتم للمسلم الرؤيا فاعْبُرُوها على خير ف
فإنَّ
٣٩٤
الأدب والمتفرقات
الرؤيا تكون على ما يَعْبُرها صاحبها». قال الحافظ : «إسناده حسن». وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عطاء قال: «كان يقال: الرؤيا على ما أُولَت».
أفادت هذه الأحاديث: أنَّ الرؤيا تقع حسبما يُعبرها العابر الأول لكن خصصها البخاري بما إذا كان مصيبا في تعبيره فقال في صحيحه: «باب من لم ير الرؤيا لأول عابر، إذا لم يُصب واستدل بحديث الرجل الذي رأى ظُلة تَنْطُفُ سَمْنًا وعَسَلًا - وسيأتي إن شاء الله - وفيه: أنَّ أبابكر عبر الرؤيا، وقال:
فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبتُ أم أخطأتُ؟ فقال: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا».
قال الحافظ ابن حجرٍ : يؤخذ منه : أنَّ الذي أخطأ فيه لو بينه له لكان الذي بينه هو التعبير الصحيح ولا عبرة بالتعبير الأول، ونُقل عن أبي عبيد أنه قال : معنى قوله: «الرُّؤيا لأوّل عابر» : إذا كان العابر الأول عالما فعبر فأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل إلى مراد الله بذلك فيما ضربه من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فيسأل الثاني، وعليه أن يُخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول.اهـ قال الحافظ: «وهذا التأويل لا يساعد عليه حديث أبي رزين: «الرُّؤيا إذا عبرت وقعت». إلَّا أن يدَّعي تخصيص «عُبرت» بأن عابرها يكون عالما مصيبا فيرد عليه قوله في الرؤيا المكروهة: ولا يحدث بها أحدًا» فقد تقدَّم في حكمة هذا النهي أنه ربما فسرها تفسيرًا مكروهًا على ظاهرها، مع احتمال أن تكون
الرؤيا في القرآن والسنة
٣٩٥
محبوبة في الباطن فتقع على ما فَسَّر، ويمكن الجواب بأن ذلك يتعلق بالرائي، فله إذا قصها على أحدٍ ففسّرها على المكروه أن يبادر فيسأل غيره ممن يصيب
فلا يتحتّم وقوع الأول بل يقع تأويل من أصاب، فإن قصر الرائي فلم يسأل الثاني وقعت على ما فسر الأول» . اهـ
المسألة الرابعة عشرة
قال أهل التعبير : من أدب الرائي أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على وضوء، وأن يقرأ عند نومه والشمس والليل، والتين، وسورة الإخلاص، والمعوذتين»، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من سيء الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسيَّة، اللهم أرني في منامي ما أحب».
ومن أدب الرائي: ألا يقصها على امرأةٍ ولا عدو ولا جاهل، بل يقصها
على واد أو ناصح أو عالم، كما تقدم في الحديث.
وروى عبدالرزاق، عن مَعْمَرٍ عن سعيد بن عبدالرحمن، عن بعض علمائهم، قال: «لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تُخبر بها حتى تطلع الشمس». ومن أدب العابر ما رواه عبد الرزاق، عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: «فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا وشر لأعدائنا».
٣٩٦
الأدب والمتفرقات
وورد في حديث ضعيف عن عبد الله بن زمل (۱) قال : كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا صلَّى الصبح، قال: هل رأى أحد منكم شيئًا؟» فقلت: أنا يا رسول الله، قال: «خيرًا تَلْقَاهُ وشَرًا تَوفَّاهُ ، وخير لنا وشَر على أعدائنا، والحمد الله رب العالمين، اقصض رؤياك ...» . الحديث. ومن أدب العابر أيضًا ألا يعبّر عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل.
وقال بعض أهل التعبير : يستحب أن يكون تعبير الرؤيا من بعد طلوع
الشمس إلى الرابعة ومن العصر إلى قبل المغرب». لكن ترجم البخاري في صحيحه: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح»
وروى فيه حديث سَمُرَة الطويل الآتي إن شاء الله .
قال الحافظ : «الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس». ونقل عن المهلب في شرح البخاري" قال: «تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات: - لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها وقبل ما يعرض له نسيانها.
- والحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه. - وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه فيستبشر بالخير ويحذر من الشر ويتأهب لدفعه؛ فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذارًا لأمرٍ فيكون له مترقبا. فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار». اهـ.
(۱) زمل: بكسر الزاي وسكون الميم.
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۹۷
ومن أدب العابر : أن يحسن الاستماع إلى الرؤيا ثم يُفهم السائل الجواب.
ومنها: أن يتأنى في التعبير ولا يستعجل به.
ومنها: أن يكتم الرؤيا ولا يُفشِها لغير رائيها فإنها أمانة.
ومنها: أن يُميز بين أصحاب الرؤيا، فإنها تختلف باختلاف أحوال
أصحابها فيعبر لكل سائل بحسب حاله.
المسألة الخامسة عشرة
علم تعبير الرؤيا أو تأويل الأحاديث كما سماه القرآن الكريم
مأخوذ بالتوقيف.
ففي
-
أصله
"صحيح البخاري" عن ابن عمر قال: كنت غلامًا شابًا عَزَبًا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وكنت أبيت في المسجد، وكان من رأى مناما قصه على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، فقلتُ : اللهم إن كان لي عندك . فأرني مناما يعبره لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
خير،
قال ابن بطال في شرح البخاري": «فيه أنَّ أصل التعبير من قبل الأنبياء، ولذلك تمنى ابن عمر أن يرى رؤيا فيعبرها له الشارع ليكون ذلك عنده أصلا، وقد صرح الأشعري بأن أصل التعبير بالتوقيف من قبل الأنبياء وعلى ألسنتهم، وهو كما قال، لكن الوارد عن الأنبياء في ذلك - وإن كان أصلا - فلا يعم جميع المرائي، فلابد للحاذق في هذا الفنّ أن يستدل بحسن نظره فيرد مالم يُنص عليه إلى حكم التمثيل، ويحكم له بحكم النسبة الصحيحة، فيجعل أصلا يلحق به غيره كما يفعل الفقيه في فروع الفقه» . اهـ
۳۹۸
الأدب والمتفرقات
ولهذا صرح علماء التعبير بأنه لا يجوز لمن لا يعرف هذا العلم أن يعبر الرؤيا لأحد، ولو فعل يكون آنهما كما يأثم المفتي بغير علم. قال ابن جُزَيٌّ في كتاب "القوانين الفقهية": «ولا ينبغي أن يُعبّر الرؤيا إِلَّا عارف بها، وعبارتها على وجوه مختلفة، فمنها مأخوذ من اشتقاق اللفظ، ومن قلبه، ومن تصحيفه ومن القرآن، ومن الحديث، ومن الشعر، ومن الأمثال، ومن التشابه في المعنى، ومن غير ذلك، وقد تعبّر الرؤيا الواحدة لإنسان بوجه ولآخر بوجه حسبما يقتضيه حالهما» . اهـ
محمد
بن
وروى أبو عبيد في "فضائل القرآن ، وابن أبي داود في "المصاحف"، عن سيف قال: سألت الحسن عن المصحف ينقط بالعربية؟ (۱) فقال: أوما بلغك كتاب عمر: أن تفقهوا في الدِّين وأحسنوا عبارة الرؤيا وتعلموا العربية؟». وتقدَّم في المسألة السادسة: أنَّ الإمام مالكًا سُئِل: أيعبر الرؤيا كل
واحد ؟ فقال: «الرُّؤيا جزء من النُّبوَّة، فلا يلعب بالنُّبوَّة».
بها».
وقال ابن أبي زيد في "الرسالة": ولا ينبغي أن يُفسّر الرؤيا من لا علم له
قال أبو الحسن في شرحه" على قوله ولا ينبغي: بمعنى: ويحرم أن يفسر الرؤيا من لا علم له بها قال زروق: يعني الرائي وغيره لأنه يكون
(1) أي هل يجب نقط حروفه بالعربية أو يجوز نقطه على أساس لغة أجنبية؟ لأن نقط الحروف يختلف باختلاف اللغات، فأفاد الحسن البصري أن نقطه بالعربية واجب كوجوب قراءتة بالعربية، وأن أمر عمر بتعلم العربية قصد به المحافظة على عروبة القرآن نُطقا ونقطا، وإحسان عبارة الرؤيا يكون بمعرفة علم التعبير وضبط قواعده.
الرؤيا في القرآن والسنة
۳۹۹
كاذبا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: ٣٦] ومفهوم كلامه: أنه إذا كان له علم بها يفسّرها، وهو العالم بالكتاب والسنة وكلام العرب، وكان له فضل وصلاح وفراسة». اهـ
قال الشيخ علي الصعيدي في حاشيته فلا يجوز له تعبيرها بمجرد النظر في كتاب التفسير كما يقع الآن، فهو حرام، لأنها تختلف باختلاف الأشخاص ا والأحوال والأزمان وأوصاف الرائين. اهـ
وفي "شرح أقرب المسالك للشيخ الدردير: «والعلم بتعبير الرؤيا ليس من كتب كما يقع للناس من التعبير من ابن سيرين، فيحرم تعبيرها بما فيه، بل يكون بفهم الأحوال والأوقات وفراسة، وعلم بالمعاني». اهـ
وقال التازي في شرح "الرسالة": «فإن قيل : فالذي ينظر في الفروع التي وضعها من ألف في تعبير المنام كعلي بن أبي طالب القيرواني وغيره، فيجد نص ما رأى والجواب عليه؟ قيل: هذا كالمقلّد في الفروع، ينظر نص المسألة وجوابها وقد يغلط في التنظير . اهـ
وعليه، من نظر في كتب التعبير وغلب على ظنه أنه لم يغلط في التنظير لم يحرم عليه تأويل الرؤيا فيما يظهر.
وفي شرح جسوس للرسالة تعليقا على قول مالك: «أبالنُّبوَّة يُلعب؟» ما نصه: «أي لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جعل الرؤيا جزءا من أجزاء النبوة، وقد أخذ الحكم من مرائي أصحابه، كما في رؤيا الآذان(۱) ورؤيا ليلة
(۱) وأخُذُ السجدة في (سورة ص من رؤيا أبي سعيد الخدري، كما يأتي في الفصل الثاني
٤٠٠
الأدب والمتفرقات
القدر، وكل ذلك بناءً على أنها وحي، كما أشار إليه القرطبي ونقله الأبي».اهـ فمن الأنبياء المنقول عنهم كلام في التعبير يعقوب عليه السّلام، قال له ابنه
يوسف: يَتَأَبَتِ إِنِ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: ٤] فحذَره من ذكرها إخوته يبنى لَا تَقْصُصْ رُهْ يَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لك كيدا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [يوسف: ٥]. ثُمَّ بشره بما تدل عليه رؤياه: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الِ يَعْقُوبَ كَمَا أَنْتَهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: ٦]. ومنهم يوسف عليه السَّلام، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِتُعَلَمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: ٢١]، وقد عبر الرؤيا لصاحبيه في السجن، ثُمَّ لملك مصر كما يأتي بحول الله .
ومنهم سليمان عليه السَّلام رُوي أن رجلاً جاءه فقال: رأيتُ في المنام بستانًا مُزيَّنا وفيه أنواع الفواكه، وفيه خنزير كبير قاعد، وقيل لي: هذا البستان ملك هذا الخنزير، فتعجبت من ذلك ورأيت في هذا البستان خنازير كثيرةً تأكل فواكه البستان بإذن الخنزير الكبير. فقال له سليمان: ذلك الخنزير الكبير ملك ظالم، وباقي الخنازير: العلماء الآكلون الحرام، المطيعون لذلك الملك
الظالم، الذين يبيعون آخرتهم ودينهم بالدنيا ولا يخافون الله تعالى. وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم في الذروة من هذا العلم، وصح عنه
إن شاء الله تعالى.
الرؤيا في القرآن والسنة
فيه الكثير الطيب.
٤٠١
وفي حديث الصحيحين الآتي عن سَمُرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟». قال العلامة الطيبي: تحرير هذه العبارة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيد تعبير الرؤيا، وكان له مشارك في ذلك منهم؛ لأنَّ الإكثار من هذا القول لا يصدر إلا من تدرّب فيه ووثق بإصابته كقولك: كان زيد من العلماء بالنحو، ومنه قول صاحِبَي السجن ليوسف عليه السلام: نيتنا بتأويله إنَّا نَرَنكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: ٣٦]. أي من المجيدين في عبارة الرؤيا، وعليها ذلك مما رأياه منه» . اهـ
ثُمَّ كان أبو بكرٍ رضي الله عنه أعبر النَّاس للرؤيا بعده صلى الله عليه وآله
وسلّم.
قال أبو الحسن علي بن محمد الخزاعي في كتاب "تخريج الدلالات السمعية": «ذكر علي بن سعد الخولاني القيرواني في كتابه في التعبير: أنَّ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَعْبَرُ أُمَّتِي للرؤيا أبو بكرٍ وأسماء بنت عُمَيْسٍ»، وفي الصحيحين ذكرُ مرائي تقدم أبو بكر لتعبيرها، ثُمَّ سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تعبيره، فقال له: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا». اهـ والحديث الذي ذكره لا يصح، لكن روى ابن سعد عن محمد بن سيرين
قال: «كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم». وروى الديلمي في مسند الفردوس، وابن عساكر في "التاريخ"، عن
٤٠٢
الأدب والمتفرقات
سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُمرتُ أن أُولي الرؤيا أبا بكر». وهو حديث ضعيف.
وفي "مختصر السير" لابن فارس: وقد رأى عليه السلام رؤيا، قال: رأيت أني لَقِمتُ لقمةٌ من حَيْسٍ فالتذذتُ طعمها، فاعترض في حلقى منها
.
شيء، فأدخل على يده فنزعه. فقال أبو بكر : يا رسول الله هذه سرية من سراياك يأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض، فتبعث عليا فيسهله، فكانت سرية خالد إلى تهامة ووقع ما لم يُرضه عليه الصلاة والسَّلام؛ فبعث عليا عليه السلام (۱).
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة أسماء بنت عُميس من "الإصابة": «وكان عمر يسألها عن تفسير المنام، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره». اهـ ثُمَّ كان علي رضي الله عنه يجيد التعبير ويُتقنه.
ثُمَّ . عمر رضي الله عنه كان يجيد التعبير أيضًا، رُوي أن قاضي - حمص في عهده رأى كأن الشمس والقمر اقتتلا وتفرّقت الكواكب، فكان شطر مع
(۱) وروى عبدالرزاق في كتاب الحيض من "المصنف"، عن مَعْمَرٍ، عن أيوب، عن أبي قلابة : أنَّ رجلا قال لأبي بكر الصديق: رأيت في المنام أني أبول دما؟ قال: أنت رجل تأتي امرأتك وهي حائض، فاستغفر الله ولا تعد. وروى أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" في الجزء الأول، عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله قال: جاء رجل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: رأيت كأني أجري مع الثعلب أحسن جري؟ فقال: أجريت ما لا يجري، أنت رجل في لسانك كذب
فاتق الله عزَّ وجلَّ.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٠٣
الشمس وشطر مع القمر ، فقصَّ رؤياه على عمر، فقال له: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر، فقرأ عمر: فَمَحَوْنَاءَ ايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَاءَ ايَة النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: ١٢] وعزله من القضاء. فلما كانت وقعة صفّين بين علي ومعاوية انضم إلى جيش معاوية وحارب معه حتى قُتِل .
وكانت عائشة رضي الله عنها تجيد التعبير، تلقته عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم، وكذلك أختها أسماء كانت تجيد التعبير أيضًا، تلقته عن أبيها. قال القسطلاني في "شرح البخاري" في «باب غسل الدم من كتاب
الوضوء» حيث ذكر نبذة من ترجمة أسماء كانت عارفة بتعبير الرؤيا حتى قيل: أخذ ابن سيرين التعبير عن ابن المسيب، وأخذه ابن المسيب عن أسماء، وأخذته عن أبيها». اهـ
وكان سعيد بن المسيب أعبر الناس للرؤيا في عصره، وكان بعض الصحابة يسألونه عن التعبير، وقال له رجل: رأيت كأني أبول في يدي!! قال: تحتك
ات تحرم، فنظر الرجل ،وبحث، فوجد بينه وبين امرأته رضاعة. وعن سعيد تلقى محمد بن سيرين علم التعبير واشتهر به وظهرت فيه أقواله ودونت كلماته.
وممن اشتهر بهذا العلم أيضًا وتخصَّص فيه جعفر الصادق عليه السّلام كان إماما يُرجع إليه ويُؤخذ بأقواله.
وللحافظ أبي محمد الحسن الخلال كتاب "طبقات المعبرين" ذكر فيه نحو
خمسة آلاف من مشاهير المعبّرين، وجعلهم خمسة عشر قسما، في مقدمتهم
٤٠٤
الأدب والمتفرقات
الأنبياء، ثُمَّ الصحابة، ثُمَّ التابعون، ثُمَّ الفقهاء، ثُمَّ المذكرون(۱)، ثم المؤلفون،
إلى آخر ما أورده في كتابه المذكور (٢).
ثُمَّ ظهرت كتب في هذا العلم بأنواعه الثلاثة:
الأول: ما جاء في الرؤيا من الأحاديث والآثار، وذكرنا فيما مرَّ بعض الكتب المؤلفة في ذلك.
الثاني: أصول التعبير، ومن المؤلفات فيه كتاب "الأصول" لدانيال الحكيم، وكتاب "الدستور" لإبراهيم الكرماني، وكتاب "منهاج التعبير" الخالد الأصفهاني، وكتاب الكوكب المنير في أصول التعبير" لخليل بن شاهين
الظاهري. الثالث: تعبير الرؤيا وتأويلها، وفيه كتب كثيرة، منها: كتاب "الجوامع"، وهو مجموع من كلام ابن سيرين وأقواله وكتاب "التقسيم" المنسوب الجعفر الصادق، وكتاب "الإرشاد" الجابر المغربي، وكتاب "التعبير" لإسماعيل بن الأشعث، وكتاب "التعبير" للجاحظ، وكتاب "التعبير " لعلي بن أبي طالب
(۱) هم الوعاظ والقصاص.
(۲) قال الذهبي في ترجمة ابن الأنباري من تذكرة الحفاظ ": «قيل أنه كان يتردد إلى أولاد الراضي بالله يعلمهم، فسألته جاريةٌ عن تعبير رؤيا؟ فقال: أنا حاقن، ثُمَّ عاد من الغد، وقد صار عابرا، درس كتاب الكرماني . اهـ
ونقل السيوطي في بغية الوعاة هذه القصة عن أبي الحسن العروضي الذي شاهدها، وأبو بكر ابن الأنباري مع إمامته في النحو والأدب كان من حفاظ الحديث، وهو من شيوخ الدارقطني، وهو ثقةٌ خَيْرٌ دَينُ إلَّا أنه بخيل على يَسَارٍ عنده وجِدَةٍ.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٠٥
القيرواني، وكتاب "التعبير" لأبي سعيد الواعظ، وكتاب "التعبير المنيف والتأويل الشريف" لمحمد بن قطب الدين الأزنيقي، وكتاب "الإنذارات النومية" لأبي سليمان المنطقي، وكتاب تحفة الملوك في التعبير" لأبي العباس أحمد بن خلف بن أحمد السجستاني، وكتاب كنز الرؤيا" للمأموني، وكتاب "بيان التعبير" لعبدوس، وكتاب "كامل "التعبير" لأبي الفضل حبيش بن إبراهيم بن محمد النفيسي، وكتاب "الوجيز" لمحمد بن سامويه، وكتاب "المرقبة العليا في تعبير الرؤيا لأبي عبدالله محمد بن راشد البكري التونسي المالكي شارح مختصر ابن الحاجب"، وكتاب "الإشارات إلى علم العبارات" لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن عامر السالمي، ومثله لخليل بن شاهين الظاهري، وكتاب "الدر المنظم في السر المعظم" لمحمد القرشي النصيبي، وكتاب "فرائد الفوائد" لابن الدقاق، وكتاب "التعبير" لأبي طاهر إبراهيم بن يحيى بن غانم الحنبلي المعبر، وهو مرتب على حروف المعجم، وكتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للشيخ عبدالغني النابلسي الحنفي، وهو على أسلوب كتاب ابن غانم وأكبر منه بكثير، ومنظومة ألفية في التعبير للعلامة ابن الوردي الشافعي. ولمن كتب في التعبير أيضًا: ابن قتيبة، والإمام الرازي، وأوحد الدين عبداللطيف الدمياطي، وعبدالقادر الأشموني، وحسن الرملي، ونور الدين الغزاوي، وتقي الدين المقدسي، وشرف الدين الكركي، ويوسف
الكرخي الكربوني الإسكندري وشمس الدين حمدون الصفدي.
واعتنى كمال الدين الدميري في "حياة الحيوان" بتأويل ما يظهر في الرؤيا
من الحيوانات التي ترجم لها، وذكر أنَّ الخيل تحلم مثلما يحلم الإنسان.
٤٠٦
الأدب والمتفرقات
(تنبيه): روى البزار عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يُعبر على الأسماء. يعني يُعبر اسم سالم بالسلامة، ورباح بالربح، ونجاح بالنجاح، ويسار باليسر، وسهل بالسهولة، وهكذا (۱).
وروى الطبراني بإسنادٍ ضعيف عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن رآني في المنام فقد رآني في اليقظة، ومن رأى أنه يشرب ا فهي الفِطرة، ومن رأى أن عليه دِرْعًا من حديد فهي حصانة دينه، ومن رأى أنه يبني بيتًا فهو عمل يعمله، ومن رأى أنه غرق فهو في النار». وعند البزار عن أبي هريرة رفعه: «اللبن في المنام فطرة».
لبنا
وفي "صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «وأحبُّ القيد وأكره الغُل، والقيد ثبات في الدين»، وهو في "صحيح البخاري" بلفظ: «وكان يكره الغُل في النوم وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين». وقد اختلف الرواة في هذا الأثر، منهم من رفعه ومنهم من وقفه، ورجح الخطيب في "المدرج" رواية الموقوف.
قال القرطبي: هذا الحديث وإن اختلف في رفعه ووقفه فإن معناه صحيح؛ لأن القيد في الرجلين تثبيت للمقيَّد في مكانه، فإذا رآه من هو على حالة كان ذلك دليلا على ثبوته على تلك الحالة، وأمَّا كراهة الغُل، فلأنَّ محله الأعناق نكالا وعقوبةً وقهرا وإذلالا، وقد يسحب على وجهه ويخر على قفاه، فهو مذموم شرعًا وعادةً، فرؤيته في العنق دليل على وقوع حال سيئة للرائي
(۱) وروى ابن ماجه من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «اعتبروها بأسمائها، وكنوها بكناها، والرؤيا لأول عابر».
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٠٧
تلازمه ولا ينفك عنها، وقد يكون ذلك في دينه كواجبات فرط فيها، أو معاص ارتكبها، أو حقوق لازمة له لم يوفّها أهلها مع قدرته، وقد تكون في دنياه كشدَّةٍ تعتريه أو تلازمه» . اهـ
قال الحافظ: «وقد يكون الغُل في بعض المرائي محمودا، يعني إذا كان في غير العنق، فأخرج ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن مسروق، قال: مر صهيب بأبي بكر رضي الله عنهما فأعرض عنه، فسأله، فقال: رأيت يدك مغلولة على باب أبي الحشر رجل من الأنصار - فقال أبو بكر: جمع لي ديني إلى يوم
الحشر» .اهـ. قلت: هذا راجع إلى اختلاف التعبير لاختلاف حال الرائي كما سبق التنبيه عليه في أدب العابر. ومنه ما يُحكى عن ابن سيرين أنَّ رجلاً قال له: رأيت كأني أؤذن؟ فقال: تحج، وقال له آخر: رأيت كأني أؤذن؟ فقال: تُقطع يدك. قيل كيف فرقت بينهما؟ قال: رأيت للأول سيما حسنة فأولت: وَأَذَن فِي النَّاسِ بِالْحَج ﴾ [الحج:
.
:
٢٧] ورأيت للآخر سيما غير صالحة فأولت: ثُمَّ أَذَنَ مُؤَذِنُ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ ﴾ [يوسف: ٧٠].
وقال ابن القيم في فصل قدوم وفد بني حنيفة من "زاد المعاد" ما نصه: وأنبأني أبو العباس أحمد بن عبدالرحيم بن عبدالمنعم بن نعمة بن سرور المقدسي المعروف بالشهاب العابر - قال: قال لي رجل: رأيت في رجلي خلخالا، فقلت له: تتخلخل رجلك بألم، فكان كذلك.
٤٠٨
الأدب والمتفرقات
وقال لي آخر: رأيت كأنَّ في أنفي حلقة ذهب، وفيها حب مليح أحمر،
فقلت له: يقع بك رعاف شديد، فكان كذلك.
وقال لي آخر رأيت كُلا با معلقا في شفتي، فقلت: يقع بك ألم يحتاج إلى
الفصد في شفتيك، فجرى كذلك.
وقال لي آخر رأيت في يدي سوارًا والناس يبصرونه، فقلت له: سوء يبصره الناس في يدك فعن قليل طلع في يده طلوع. ورأى ذلك آخر، لم يكن يبصره الناس، فقلت: تتزوج امرأة حسنةً وتكون رقيقة.
قلت: عبر له السوار بالمرأة لما أخفاه وستره عن الناس، ووصفها بالحسن
لحسن منظر الذهب وبهجته، وبالرقة لشكل السوار.
والحلية للرجل تنصرف على وجوه، فربما دلت على تزويج العزب لكونها من آلات التزويج وربما دلت على الإماء والسراري، وعلى الغني، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائي وما يليق به. قال أبو العباس العابر وقال لي رجلٌ: رأيت كأنَّ في يدي سوارا منفوخا لا يراه الناس، فقلت له عندك امرأة بها مرض الاستسقاء. فتأمل كيف عبر له السوار بالمرأة؟ ثُمَّ حكم عليها بالمرض لصفرة السوار، وأنه مرض الاستسقاء الذي ينتفخ معه البطن.
قال: وقال آخر: رأيت كأنَّ في يدي خُلخالا وقد أمسكه آخر وأنا ممسك له وأصيح عليه وأقول: اترك خلخالي فتركه فقلت له: فكان الخلخال في يدك أملس ؟ فقال: بل كان خشنًا تألَّت منه مرة بعد مرة وفيه شراريف، فقلت له:
أمك وخالك شريفان ولست بشريف واسمك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٠٩
ردية يتكلم في عرضك ويأخذ مما في يدك، قال: نعم، قلت: ثُمَّ إنه يقع في يد ظالم
معتد ويحتمي بك فتشد منه وتقول : خل خالي، فجرى ذلك عن قليل. قلت: تأمل أخذه الخال من لفظ الخلخال ثُمَّ عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه : خَل خالي، وأخذ شرفه من شرائف الخلخال، ودل على شرف أمه إذ
هي
هي شقيقة خاله، وحَكَم عليه بأنه ليس بشريف إذ شرفات الخلخال الدالة على الشرف اشتقاقا . أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسان خاله رديء يتكلم في عرضه بالألم الذي حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة فهي خشونة لسان خاله في حقه، واستدل على أخذ خاله ما في يديه بتأذيه به وبأخذه من يديه في النوم بخشونته، واستدل بإمساك الأجنبي للخلخال ومجاذبة الرائي له على وقوع الخال في يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدل بصياحه المجاذب له وقوله خلخالي على أنه يُعين خاله على ظالمه ويشده منه، واستدل بقهره لذلك المجاذب له وأنه القاهر يده عليه على أن اسمه عبدالقاهر. وهذه كانت حال شيخنا هذا ورسوخه في علم التعبير، وسمعت عليه عدة أجزاء ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له
على
رحمه الله تعالى» . اهـ کلام ابن القيم رحمة الله عليه.
المسألة السادسة عشرة
قال أبوسعيد الواعظ في كتاب التعبير : أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدويه: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أحمد بن البراء: حدثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السَّلام: إنك قد نظرت في خلقي فهل رأيت منهم شبيها؟
21.
الأدب والمتفرقات
قال: لا يارب، وقد كرَّمتني وفضَّلتني وعظمتني، فاجعل لي زوجا تشبهني أسكن إليها حتى تعبدك وتوحدك معي، فقال الله تعالى له: نعم، فألقى عليه النعاس فخلق منه حوّاء على صورته وأراه في منامه ذلك -وهي أول رؤيا كانت في الأرض - فانتبه وهي جالسة عند رأسه، فقال له ربه: ما هذه الجالسة عند رأسك يا آدم؟ فقال: الرؤيا التي أريتني في منامي يا إلهي .
قلت: عبد المنعم كذَّاب، والله تعالى أعلم.
الرؤيا في القرآن والسنة
ما جاء في القرآن من الرؤيا
سجل القرآن الكريم ست مرائي نذكرها حسب ترتيبها في الزمن
الرؤيا الأولى
رؤيا إبراهيم عليه السلام
٤١١
قال الله تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبُ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّلِحِينَ ) فَبَشِّرْنَهُ بِغُلَمٍ حَليم ﴾ [الصافات: ۹۹ - ۱۰۱] هو إسماعيل عليه السَّلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعَى قَالَ يَبْنَى إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَتَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَهُ لِلْجَبِينِ وَنَدَيْنَهُ أَن يَا بْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) إِنَّ هَذَا هُوَ الْبَلَوا
الْمُبِينُ وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظيم ﴾ [الصافات: ۱۰۲ - ۱۰۷] قال عبدالوهاب النجار في كتاب "قصص الأنبياء": «كانت المنامات عند
الصالحين من عباد الله بمثابة الوحي والأمر المباشر .اهـ قلت: هذا خطأ كبير؛ فإنَّ المقرّر في علم الأصول أن رؤيا الأنبياء وحي،
والدليل عليه أمور:
الأول: أنَّ إسماعيل قال لأبيه: يابَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وما سماه أمرًا إِلَّا لأنه
وحي.
الثاني: أن إبراهيم لم يكن ليقدم على ذبح ابنه وحيده لمجرد الرؤيا لولا أنها
وحي حقيقة.
٤١٢
الأدب والمتفرقات
الثالث: تقدم الحديث الصحيح: «الرؤيا جزء من أجزاء النُّبوَّة». الرابع: روى ابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عينة، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «رؤيا الأنبياء في المنام وحي».
الخامس: في "صحيح البخاري عن عائشة قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة». وقال ابن عباس: «رؤيا الأنبياء وحي». وقال عبيد بن عمير: «رؤيا الأنبياء وحي»، ثُمَّ تلى هذه الآية: يَبُنَى إِلَى أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنى أذبحك وفرق أبوسعيد الواعظ
بين النبي والرسول بأنَّ النبي يكون وحيه رؤيا، والرسول يكون يقظة. والذبيح إسماعيل عليه السَّلام، كما بينته في "خواطر دينية" و"بدع التفاسير"، وقال بعض العلماء: إِنَّ الذبيح فُـدِيتَ إسماعيل نطق الحديث بـــذاك والتنزيل شَرَفٌ به خَصَّ الإله نبينا وأبانــه التفسير والتأويـــــــــل
ومما يدل لذلك أيضًا ما رواه أحمد في "المسند": حدثنا سفيان: حدثني منصور، عن خاله مسافع، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عثمان بن طلحة، وقالت مرة أنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت فنسيت أن آمرك أن تُخمّرهما فخمرهما، فإنه لا
الرؤيا في القرآن والسنة
ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي».
٤١٣
قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت
فاحترقا، وإسماعيل هو الذي كان بمكة لا إسحاق عليهما السلام.
قوله تعالى: وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قال ابن عباس: «هو الكبش الذي قربه ابن آدم فَتُقُبِّلَ منه فكان مخزونا». وفي الآية دليل على جواز نسخ الأمر قبل فعله(۱)، وهو الصحيح عند الأصوليين خلافا لمن منعه.
الرؤيا الثانية
رؤيا يوسف عليه السلام
قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَتَأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَجِدِينَ قَالَ يَبْنَى لَا نَقْصُصْ رُهْ يَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يوسف: ٤ - ٥]
وقال سبحانه: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُ وَالَهُ، سُجَّدًا وَقَالَ يَتَأَبَتِ هَذَا
تَأْوِيلُ رُ يَدَى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَارَتي حَقًّا ﴾ [يوسف: ١٠٠] قال ابن كثير: تكلّم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته وكانوا أحد عشر رجلًا سواه، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضَّحَّاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم». اهـ
(۱) ويدل لذلك أيضًا فرض خمسين صلاة في اليوم والليلة وردّها إلى خمس صلوات بمراجعة النبي صلي الله عليه وآله وسلم كما في حديث المعراج.
٤١٤
تنبيهان
الأدب والمتفرقات
طلحة: ثنا أسباط بن
حماد، عن
الأول: روى الحاكم من طريق عمرو بن . نصر، عن السُّدُّي، عن عبدالرحمن بن سابط، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جاء شيبان اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا النبي
محمد هل تعرف النجوم التي رآها يوسف يسجدون له؟ فسكت عنه صلى الله عليه وآله وسلّم حتى جاءه جبريل عليه السلام فأخبره بما سأله اليهودي، فلقي النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم اليهودي فقال: «يا يهودي الله عليك إن أنا أخبرتك لتسلِمَنَّ ؟ فقال : نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «النُّجومُ: حَدَثان والطارق والذَّبَّال وقابس والعُودان والفليق والنُّصْحُ والقَرُوحُ وذو الكنفان وذو الفَرَع والوثاب، رآها يوسف محيطة بأكناف السماء ساجدة له، فقصها على أبيه فقال له أبوه إنَّ هذا أمرٌ مُشتَتُ وسيجمعه الله إن شاء بَعْدُ».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم». قلت: بل هو حديث منكر لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأسباط بن نصر يحدث بمناكير، هذا منها، وهو من الإسرائيليات. الثاني: روى الطبري والحاكم والبيهقي في "الشعب" بإسناد صحيح، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: كان بين رؤيا يوسف وعبارتها أربعون عاما. وروى الطبري، والبيهقي مثله عن عبد الله بن شداد، وزاد: «وإليها ينتهي
أمد الرؤيا». يعني أن تعبيرها قد يتأخر إلى أربعين عاما (۱).
(۱) وذكر الحافظ ابن عبدالبر في كتاب "بهجة المجالس وأنس المجالس": «أنه قيل الجعفر
الرؤيا في القرآن والسنة
٤١٥
وروى ابن جرير عن الحسن قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن
التقيا ثمانون سنة»، وعنه أيضًا: «ثلاث وثمانون سنة».
وقال محمد بن إسحاق: «ذكر - والله أعلم - أنَّ غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة، وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو
نحوها». انتهى كلامه.
قلت: لا بأس بالاعتماد في هذا على أهل الكتاب؛ لأنه مجرد تاريخ لا يتعلق بعقيدة ولا بحكم شرعي ولا ثبت عندنا ما يخالفه.
الرؤيا الثالثة
رؤيا صاحبي السجن
قال الله تعالى في قصة يوسف : الوَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أرني أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَبَنِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْرًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْةُ نَبَتْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَتكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: ٣٦]
قوله إني أَربَنِي أَعْصِرُ خَمْرًا ، يعني: عنبا يصير بعد خمرا، قال
الضَّحَّاك: «وأهل عمان يسمون العنب خمرا).
قلت: لكن الفتيين مصريَّان ولغة مصر إذ ذاك .
هي
الهيروغليفية، والقرآن
الصادق رضي الله عنه: كم تتأخّر الرؤيا؟ فقال: خمسين سنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى كأنَّ كلبًا أبقع وَلَغ في دمه فأوَّلَه بأنَّ رجلا يقتل الحسين رضي الله
عنه، فكان شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين، وكان أبرص، فتأخرت الرؤيا بعده خمسين سنة. اهـ
٤١٦
حكى معنى ما قاله الفتيان بالأسلوب العربي ولم يحكه بلفظه .
الأدب والمتفرقات
وأوَّل يوسف رؤياهما فقال: ينصَبْحِيَ السَجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْرًا ﴾ [يوسف: ٤١] وهو الذي رأى أنه يعصر عنب (۱) وكان ساقي الملك،
فغضب عليه وسجنه ثُمَّ أطلقه ورده إلى عمله.
وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا فَيُصْلَبُ
فَتَأْكل الطَّيْرُ من رَأْسِهِ ، وكان خباز الملك، اتهم بأنه كان يريد أن يسم الملك
وثبتت التهمة عليه فصلبه.
بـ
وقوله: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْنَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: ٤١] هو بمعنى الحديث السابق: «الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبّر فإذا عُبرت وقعت». وهكذا تطابق القرآن والحديث.
وروى ابن جرير عن ابن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئًا وإنما تحالما ليجربا عليه فلما أخبرهما بالتأويل قالا: ما رأينا شيئًا. فقال لهما: قُضِيَ
الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ يعني أنَّ من تحلم بحلم باطل وفسره فإنه مُلْزَم
بتأويله». قلت: ظاهر القرآن يفيد أنهما رَأيا رؤيا حقيقة والتمسك بالظاهر واجب.
(۱) روى ابن أبي حاتم عن عكرمة : أنَّ السَّاقي قال ليوسف: رأيت فيما يرى النائم أنّي غرست حبة فنبتت فخرج فيها ثلاثة عناقيد فعصر تهن ثُمَّ سقيت الملك، فقال: تمكث في السجن ثلاثًا ثُمَّ تخرج فتسقيه.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤١٧
الرؤيا الرابعة
رؤيا ملك مصر
قال الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ إِنّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنُبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَةٍ يَتَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُبِّ يَنَيَ إِن كُنتُمْ للرة يا تعبرُونَ (3) قَالُوا أَضْغَتُ أَعْلَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَعْلَم بِعَلِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَأَذَكَرَ بَعْدَ أُمَةٍ ﴾ [يوسف: ٤٣ - ٤٥] أي: مدة، وكان يوسف أوصاه أن يذكره عند الملك فأنساه الشيطان ذلك حتى رأى الملك هذه الرؤيا فتذكر وقال: أنا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنُبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَتٍ لَّعَلَّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: ٤٥ - ٤٦] رأى الملك هذا المنام وهو أنه رأى سبع بقراتٍ جميلات سمينات طالعات من النهر فأرتعت في روضة، ثُمَّ رأى سبع بقراتٍ أُخَر قبيحاتٍ عِجَافًا خرجت من النهر وأكلت البقرات السمينة، فاستيقظ من منامه، ثُمَّ عاد إلى النوم فرأى سنابل حسنة خضراء طالعة في ساق واحدة، وإذا سبع سنابل يابسات
سبع
.
.
خلفها قد عَدَت على تلك السنابل الخضر فأكلتها، فهاله ما رأى وتعجب منه وطلب تفسيره من الكهنة وكبراء دولته فلم يكن عندهم علم به، وفسره يوسف عليه السلام: قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَابًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تأكلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعُ شِدَادُ يَا كُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ هُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يأتي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: ٤٧-٤٩]
٤١٨
الأدب والمتفرقات
وحاصل التفسير : أنَّ البقرات السمان والسَّنابل الخضر كناية عن سبع سنين خصبة متوالية تُنبت الأرض فيها ثمراتها وتُخرج بركاتها، ثُمَّ تعقبها سبع سنين مجدبة - وهي البقرات العجاف - تأتي على الأقوات وتهلكها، ثُمَّ بشَّرَهم بأنه بعد سنين الجدب المتوالية يأتي عام يغاثون فيه ويعصرون الأعناب والزيت وقصب السكر، ويُلاحظ هنا أمور
أحدها: أن يوسف عليه السَّلام ساق تعبير الرؤيا في أسلوب بين لهم به الطريقة التي يتقون بها الجدب الذي يصيب البلاد وتجنبهم مجاعة مهلكة، فكان عابرا ناصحا ومعلمها مرشدًا.
ثانيها : أنه زاد على التعبير المطلوب منه بشرى بعام الغوث.
ثالثها: أنه لم يُعنف صاحبه الذي نسي قضيته مدة بلغت سبع سنين بل عبر
له الرؤيا مُعرِضًا عن عتابه.
رابعها: أنه عبر لهم الرؤيا من غير أن يشترط عليهم إخراجه من السجن، وكان من حقه ذلك وهذا دليل على قوة صبره.
قال عبدالرزاق: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لقد عجبتُ من يوسف وصبره وكرمه - والله يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنتُ مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبتُ من يوسف وصبره وكرمه - والله يغفر له - حين أتاه الرسول ولو كنتُ مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر». إسناده صحيح، لكنه مرسل.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤١٩
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نحن أحقُّ بالشَّكٌ من إبراهيم (1) إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي المولى ﴾ [البقرة: ٢٦٠]، و ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي».
الرؤيا الخامسة
رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر
قال الله تعالى: إِذْيُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِك قليلا ﴾ [الأنفال: ٤٣] ضمير هم» يعود على المشركين الذين أتوا من مكة إلى بدر لقتال المسلمين.
روى الطبري عن مجاهد: إذْيُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ) قال : أراه الله إيَّاهم في منامه قليلا، فأخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتا لهم وكذا قال ابن إسحاق وغيره، وقيل: في منامك أي: في عينك، لأنها محل النوم وهذا خطأ.
(تنبيه): قال الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّه يَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَة فِي الْقُرْءَانِ [الإسراء: ٦٠] .
قال ابن عباس في قوله: وَمَا جَعَلْنَا الرُّه يَا الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ : رؤيا عين أُريها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ليلة أسري به وليست
(۱) أي ونحن لا نشك، فإبراهيم لم يشك نفي للشك عنه بأسلوب كنائي بليغ، وإبراهيم لم يشك بنص القرآن لكنه طلب عين اليقين بعد علم اليقين الذي كان عنده.
٤٢٠
برؤيا منام. رواه البخاري.
الأدب والمتفرقات
وكذا قال سعيد بن جبير والحسن وأبو مالك ومسروق وإبراهيم وقتادة وابن
جريج وابن زيد والضَّحَّاك ومجاهد ، ورجحه الطبري وابن كثير وغيرهما. وقيل: «إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة، فعجَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم السير إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون ، فقال أناس : قد رُدَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فكانت رجعته فتنتهم». روي هذا عن ابن عباس، وإسناده ضعيف. وقيل: إنَّ الله تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش يوم بدر حتى قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول: «هذا مضرعُ فلان، وهذا مضرعُ «فلان فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا
يستعجلون بما وعد.
وروى ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان - يعني بني أمية - ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكًا حتى مات، وأنزل الله عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّيَا
الَّتِي أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ إسناده ضعيفٌ.
وروى ابن مردويه من حديث الحسين بن علي رفعه: «إني رأيت كأنَّ بني
أمية يتعاورون منبري هذا فقيل : هي دنيا تنالهم ونزلت هذه الآية. ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث يعلى بن مرة،
ومن مرسل سعيد بن المسيب وأسانيدها ضعيفة كما قال الحافظ في "الفتح".
الرؤيا في القرآن والسنة
الرؤيا السادسة
رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية
٤٢١
قال الله تعالى: لَقَدْ صَدَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّةَ يَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللهُ عَامِنِينَ مُحَلَقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح: ٢٧]
أخرج الفريابي وعبد بن حميد، والطبري من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد - في هذه الآية قال: «أُري النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وهو بالحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه محلّقين قال: فلما نحروا الهدي قال
أصحابه: أين رؤياك؟!» فنزلت الآية.
وأخرج الطبري عن ابن زيد - في هذه الآية - قال: قال لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلّقين رؤوسكم ومقصرين». فلما نزل بالحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون
في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله: لَقَدْ صَدَفَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّمْ يَا بِالْحَقِّ فقرأ حتى بلغ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ إني لم أره - بضم الهمزة وكسر الراء- يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك.
وروى ابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس - في هذه الآية- قال: «تأويل رؤيا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في عمرة القضاء، قوله تعالى: فَجَعَل مِن دُونِ ذَلِكَ فَتَحَا قَرِيبًا ) قال مجاهد: النحر بالحديبية، فرجعوا ففتحوا خيبر ثم اعتمر بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه».
٤٢٢
الأدب والمتفرقات
وفي تفسير العلامة النيسابوري: «ثُمَّ قصَّ رؤيا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بيانا لإعجازه فإنَّ الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من
النبوة، وقصته أنه رأى في المنام أن مَلَكًا قال له: لَتَدْخُلُنَّ إلى قوله : لا
:
تَخَافُونَ فأخبر أصحابه بها ففرحوا وجزموا بأنهم داخلوها في عامهم، فلما صُدُّوا عن البيت واستقر الأمر على الصلح، قال بعض الضَّعَفَةُ: أليس كان يعدنا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن نأتي البيت فنطوف به؟! فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا، قال: فإنكم تأتونه وتطوفون به، فأنزل الله تصديقه.
ومعنى لَقَدْ صَدَفَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّه يَا : صدقه في رؤياه ولم يكذبه وقوله بِالْحَقِّ إما أن يكون متعلقا بصدق، أي صدقه فيما رأى صدقا متلبسًا بالحق، وهو أن يكون ما أراه كما أراه، وإما أن يكون حالا من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، يعني بالغرض الصحيح، وهو الابتلاء، وتميز المؤمن المخلص من المنافق المرائي.
وجوز أن يكون بِالْحَقِّ قسما لأنه اسم من أسماء الله سبحانه، أو لأنَّ المراد الحق الذي هو نقيض الباطل فتكون اللام في التَدْخُلُنَّ جواب القسم لا للابتداء، فيحسن الوقف على الرؤيا. وفي ورود إِن شَاءَ الله في خبر الله عزّ وجل، أقوال:
أحدها: أنه حكاية قول الملك في الرؤيا.
والثاني: أنَّ ذلك خارج على عادة القرآن من ذكر المشيئة، كقوله: يَغْفِرُ
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٢٣
لِمَن يَشَاء [آل عمران: ۱۲۹] وَيُعَذِّبَ الْمُنفِقِينَ إِن شَاءَ ﴾ [الأحزاب: ٢٤] والمعنى: أنَّ الله يفعل بالعباد ما هو الصلاح، فيكون استثناء تحقيق لا تعليق.
والثالث: أنه أراد لتدخلنَّ جميعًا إن شاء ولم يمت أحد أو لم يغب. والرابع: أنه تأديب وإرشاد إلى استعمال الاستثناء في كل موضع كقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقد دخل البقيع: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وليس في الموت استثناء.
الخامس: أنه راجع إلى حالة الأمن وعدم الخوف».اهـ
قلت: الاستثناء في حديث البقيع ليس من وقوع الموت ولا للتبرك، بل هو للتعليق حقيقة، وبيان ذلك: أنَّ الخاتمة مُغيَّبة لا يعلمها إلا الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم علم أمَّته إذا زاروا مقابر المسلمين أن يسلّموا عليهم ويقولوا: «وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون». أي: إن شاء الله موتنا على الإسلام لحقنا بكم؛ لأنَّ المسلم إن خُتم له بالكفر - والعياذ بالله تعالى - لم يلحق بموتى المسلمين بل بموتى الكفار.
٤٢٥
الرؤيا في القرآن والسنة
باب ما جاء في السنة من الرؤيا
يشتمل هذا الباب على ثلاثة أنواع:
۱ - ما رآه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم. ٢ - ما رآه الصحابة في عهده صلى الله عليه وآله وسلّم. ٣- ما رآه الصحابة بعده صلى الله عليه وآله وسلّم. وستفرد لكل نوع من هذه الأنواع فصلا بحول الله.
٤٢٦
الأدب والمتفرقات
الفصل الأول
ما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى
رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح».
رضي
وروى أحمد من طريق عبدالرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ
الله عنه -
. قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلَّى وتجوز في صلاته فلما سَلَّم قال: «كما أنتم». ثُمَّ أقبل إلينا فقال: «إني قمتُ من الليل فصليت ما قُدَّر لي، فنَعِستُ في صلاتي فاستثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورةٍ فقال: يا محمد أتدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلَّى لي كلُّ شيءٍ وعرفت، فقال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكَفَّارات قال: وما الكفَّارات؟» قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام، قال: سَلْ قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبّك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك». وقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنها حقٌّ فَادرُسُوها وتعلموها».
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٢٧
ورواه الترمذي وقال: «هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن
إسماعيل - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا صحيح». قلت الصواب في رواية أحمد والترمذي أنها من طريق يحي بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام عن أبي عبدالرحمن السَّكْسَكِي، عن مالك بن يخامر، عن . معاذ بن جبل. كذلك أخرجه الدارقطني في كتاب
"الرؤية"، وابن عدي، ونقل عن أحمد أنه قال: «هذه الطريق أصحها». أما عبدالرحمن بن عائش الحضرمي فيروي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشافهة: روى ابن خزيمة، والدارمي، والبغوي، وابن السكن، وأبو نعيم من طريق الوليد بن مسلم: حدثني عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللَّجلاج عن عبدالرحمن بن عائش الحضرمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «رأيت ربي في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد فيمَ يَختصِمُ الملأ الأعلى؟ قلت: أنت أعلم يا ربّ، فوضع كفه بين كتفي فوجدتُ بردها بين ثَدْيَيَّ فعلمت ما في السموات وما في الأرض» ثُمَّ على : وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: ٧٥] ثُمَّ قال: «فيمَ يَختصِمُ الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال وما الكفارات؟ قلتُ: المشي إلى الجمعات والجلوس في المساجد خلاف الصلوات، وإسباغ الوضوء أماكنه في المكاره، قال: قال الله عزّ وجلَّ: ومَن يفعل ذلك يَعِشْ بخير ويَمُتْ بخير ويكون من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن الدرجات إطعام الطعام، وبذل السَّلام، وأن تقوم بالليل والناس نيام، ثُمَّ قال: يا محمد، قل: اللهم إني أسألك فعل الطيبات، وترك المنكرات، وحبّ
٤٢٨
الأدب والمتفرقات
المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب عليَّ، وإذا أردتَ بقوم فتنةً فتوفَّني مفتون». فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «تعلموهنَّ فوالذي نفسي بيده إنهن الحق».
لم ينفرد به الوليد بن مسلم بل تابعه الوليد بن يزيد البيروتي. أخرج الحاكم والبيهقي، وابن . منده . من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه: حدثنا ابن جابر والأوزاعي قالا ثنا خالد بن اللجلاج: سمعت عبدالرحمن بن عائش يقول: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صلاة الصبح .... فذكر الحديث. قال الحافظ ابن حجر : لكن المحفوظ عن الأوزاعي ما رواه عيسي بن يونس والمعافى بن عمران كلاهما عن الأوزاعي، عن ابن جابر. أخرجه ابن السكن من رواية عيسى بن يونس، وقال في سياقه: سمعت خالد بن اللجلاج، عن عبدالرحمن بن عائش: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول...» فذكر الحديث.اهـ
قلت: يعني أن الأوزاعي يروي الحديث عن ابن جابر لا عن خالد. ورواه ابن خزيمة، والبغوي من طريق حماد بن مالك قال: حدثنا ابن جابر قال: بينا نحن عند مكحول إذ مرَّ به خالد بن اللجلاج فقال له مكحول : يا أبا إبراهيم، حدثنا حديث عبدالرحمن بن عائش، فقال: نعم، سمعت عبدالرحمن بن عائش يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول... فذكر الحديث نحو ما سبق، وفي آخره قال مكحول: «ما رأيت أحدًا أعلم بهذا الحديث من هذا الرجل».
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٢٩
ورواه الدارقطني في كتاب "الرؤية" من طريق عمارة بن بشر قال: حدثنا عبدالرحمن بن جابر قال : بينا نحن عند مكحول فمر به خالد بن اللجلاج... وذكر الحديث كما سبق مع كلام مكحول.
ورواه الطبراني من طريق خالد بن اللَّجْلَاج قال: سمعت عبدالرحمن بن عائش يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة.
قال... فذكر الحديث نحو ما سبق.
قال الحافظ الهيثمي : رجال الحديث ثِقاتٌ، وقد سئل الإمام أحمد عن حديث عبدالرحمن بن عائش، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم فذكر أنه
صواب . اهـ
فهذه الروايات تؤيد صحبة عبدالرحمن بن عائش، خلافًا لمن نفاها . وأما ما أخرجه أحمد، من طريق زهير بن محمد، عن يزيد بن يزيد بن جابر،
عن خالد بن اللجلاج، عن عبدالرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مشرق الوجه فقلنا: يا رسول الله إنا نراك مشرق الوجه فقال: «ما يمنعني
وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة...» وذكر الحديث نحو ما مر . وقال الحافظ الهيثمي : رجاله ثقات وهو معلول، وعلته أنه من رواية زهير بن محمد عن شامي، ورواية زهير عن الشاميين ضعيفة. قاله البخاري
وغيره.
وروى جعفر الفريابي في كتاب "الذكر" من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عائش، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا
٤٣٠
الأدب والمتفرقات
في فضل لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له قال: «فكان ناس ينكرون ذلك ويقولون لابن عائش: لأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فيقول: نعم، فأُري رجل ممن كان ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال: يا رسول الله أنت قلت كذا وكذا؟ وقص عليه حديثه فقال صلى الله عليه وآله وسلّم: «صدق ابن عائش».
وروى أبونعيم في "معرفة الصحابة" وفي "عمل اليوم والليلة" من طريق أبي معاوية، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عائش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله
التامات من شر ما خَلَقَ، لم يرَ في منزله ذلك شيئًا يكرهه حتى يرتحل عنه». قال سهيل: قال أبي : فرأيت عبدالرحمن بن عائش في المنام فقلت له: حدثك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هذا الحديث؟ قال: نعم.
قلت: هذا إسناد صحيح. قال أبو نعيم: تابعه - أي أبا معاوية - موسى بن يعقوب الزمعي عن
سهيل نحوه. وهذا والحديث اختصام الملأ الأعلى طرق أخرى: منها: طريق ابن عباس، ع ، عند الترمذي من جهة أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس. ورواه هو وأبو يعلى من جهة هشام الدَّسْتوائي، عن قتادة، عن أبي قلابة،
عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس. وقال الترمذي: «حديث حسن
غريب لكن قال أحمد: «أخطأ فيه قتادة».
ورواه أحمد من جهة أيوب عن أبي قلابة مرسلًا.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٣١
ورواه الدارقطني في كتاب "الرؤية" من طريق بكر بن عبدالله المزني، عن أبي قلابة مرسلًا أيضًا.
ومنها: طريق ابن عمر : أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تلبث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى طلعت الشمس أو كادت تطلع، ثُمَّ خرج فصلَّى بهم صلاة الصبح فقال: «اثبتوا على مصافكم» ثُمَّ أقبل عليهم، فقال لهم: «هل تدرون ما حَبسني عنكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال: «إني صليت في مصلاي فضُرب على أذني فجاءني ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصِمُ الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا ربّ، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثَدْيَيَّ، قلتُ: في الكَفَّارات والدرجات، قال: وما الكفارات والدرجات؟ قلتُ: الكفارات إسباغ الوضوء
خَلْفَ
عند الكريهات ومشي على الأقدام إلى الجماعات وجلوس في المساجد . الصلوات، وأما الدرجات فإطعام الطعام وطيب الكلام، والسجود بالليل والناس نيام، فقال لي ربي تبارك وتعالى: سَلْني يا محمد، قلت: أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحُبَّ المساكين، وأسألك أن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفَّني غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك، وحبَّ عمل يقربني إلى حبك، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي حتى أعلم أنه لا يصيبني
إلا ما كتب لي، ورضا بما قضيت لي». رواه البزار، وفي سنده ضعف. ومنها: طريق أبي أمامة رضي الله عنه، رواه الطبراني وفي سنده ليث بن أبي
سلیم
ومنها: ما رواه الدارقطني في كتاب "الرؤية" من طريق يوسف بن عطية،
٤٣٢
الأدب والمتفرقات
عن قتادة، عن أنس. ويوسف متروك.
ومنها: ما رواه سعيد بن بشير، عن قتادة بن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن
ثوبان. سعيد بن بشير ضعيف.
ورواه البزار من طريق أبي يحيى، عن أبي أسماء، عن ثوبان. قال الحافظ
الهيثمي: «أبو يحيى لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات».
وللحافظ ابن رجب جزء في شرح هذا الحديث اسمه: "اختيار الأولى في
شرح حدیث اختصام الملأ الأعلى" وهو مطبوع.
وقال نعيم بن
حدثنا
حماد: حدثنا ابن وهب عمرو بن الحارث،
عن
سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن أم الطفيل: أنها سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول: «رأيت ربي في أحسن صورة
شابا موفرا رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب».
قال النسائي : ومَن مروان حتى يُصدق على الله تعالى؟!»
وقال ابن حِبَّان: «هذا حديث منكر، ذكره في ترجمة عمارة من الثقات». وقال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب": «هو متن منكر». وقال في "الإصابة": «مروان متروك».
(تنبيه): يستدل بعض غُلاة أهل السُّنَّة بحديث رؤيا الله في المنام على إمكان رؤيته تعالى في اليقظة وهو خطأ؛ لأنَّ الله لا يُرى في المنام حقيقةً وإنما المرئي مثال يتعرف الله به إلى عبده ويُريه ما يريد أن يُبينه له من بشارة أو إنذار،
والمثال غير المثل كما سبق تحقيقه في المسألة العاشرة من المقدمة.
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٣٣
وسلَّم: «نصرتُ بالرعب، وأعطيتُ جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي». مفاتيح خزائن الأرض كناية عما فتح لأمته من البلاد والممالك وانتشار الإسلام بها.
وفي "صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينا أنا نائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هَلُمَّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القَهْقَرَى». وذكر حديث الحوض.
قوله: «بينا أنا نائم قال الحافظ ابن حجر: كذا بالنون للأكثر، وللكشميهني: «قائم» بالقاف، وهو أوجه والمراد به قيامه على الحوض يوم القيامة، وتُوجه الأولى بأنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم- قال: «أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أُدمِ الرجال، له لِمَّةٌ كأحسن ما أنت راءٍ من اللمم، قد رجلها تقطر ماءً، مُتَكنا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت. فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح ابن مريم، وإذا أنا برجل جَعْدٍ قَطَطْ أعور العين اليمنى كأنها عنبةٌ طافية، فسألت: من هذا؟ فقيل : المسيح الدجال».
وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يدخل على أم حرامٍ بنت ملحان - وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها يوما فأطعمته وجعلت تُفلّى رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله ؟
٤٣٤
الأدب والمتفرقات
قال: «ناسُ مِن أُمَّتِي عُرضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة». فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، ثُمَّ وضع رأسه ثُمَّ استيقظ وهو يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «أناسٌ مِن أُمَّتي عرضوا على غزاةً في سبيل الله كما قال في الأولى قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «أنت من الأولين».
فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين
خرجت من البحر فهلكت.
تبع البحر - بفتح الثاء والباء - وسطه ومعظمة، والحديث يدل على
مشروعية الغزو في البحر، وأنَّ المصروع عن دابته في الجهاد شهيد. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن فشربتُ منه حتى
إني لأرى الرّي يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فَضْلي عمر» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم». وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرَضُون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي (۱) ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرَّ على عمر بن
(۱) يعني أنَّ القميص قصير يبلغ ثدي الرجل فقط، ومنهم من يبلغ قميصه دون ذلك إلى
الركبة.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٣٥
الخطاب وعليه قميص يجرُّه قالوا ما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين». وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُرِيتُك في المنام قبل أن أتزوجك مرتين، رأيت الملك يحملك في
أنت
سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك فقلت له: اكشف فكشف فإذا هي أ فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه، ثُمَّ أُريتك يحملك في سرقة من حرير،
فقلت: اكشف، فكشف فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه». سرقة - بفتح السين والراء : شقة حرير أبيض، قوله: «إن يكن من عند الله يمضه». قال القرطبي: ظاهره الشك في صحة هذه الرؤيا، وهو مشكل». وأجاب القاضي عياض عن ذلك بثلاثة أوجه: الأول: أنه لم يشك في أنها رؤيا من الله تعالى، وإنما شَكٍّ هل هي على وجهها
وظاهرها فلا تحتاج إلى تأويل، أو المقصود منها غير معناها فتحتاج إلى تعبير. الثاني: أنه شَكٍّ هل هي زوجته في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط؟ الثالث: أنه لم يكن عنده شَكٍّ، وإنما كان محققا لكنه جاء به في صورة
الشك، وهذا نوع من البديع يسمى: تجاهل العارف، ومنه: أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجل وبين النقــا أ أنتِ أمْ أُمُّ سَالِمِ؟ لأنه لا يشك أنَّ الظبية ليست أم سالم، وبعض أرباب البلاغة يسمي هذا: مزج الشك باليقين».
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، قلت : لِمَن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب،
٤٣٦
الأدب والمتفرقات
فذكرت غَيْرته فوليت مُذبرًا». قال أبو هريرة: فبكى عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، ثُمَّ قال: أعليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله - أَغَار؟!
وروياه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب إِلَّا ما أعلم مِن غَيْرتك» قال: وعليك أغار يا رسول الله ؟!
قوله: «فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر» ليس وضوؤها لأجل صلاة؛ فإنَّ الجنة لا تكليف فيها، ولكن الوضوء يرمز إلى أنَّ الجنَّة لا تُنال إلَّا بالعبادة،
وأساسها الطهارة والنظافة فإنه لا يدخل الجنة إلا نظيف.
وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفَةٌ فقلتُ: مَن هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرًا بفنائه جارية فقلت: لمن هذا؟ فقال لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غَيْرتك». فقال عمر: بأبي وأُمِّي يا رسول الله أعليك أَغَار؟!
ورواه مسلم، ولفظه: «أُريتُ الجنَّة فرأيت امرأة أبي طلحة، ثُمَّ سمعت
خَشْخَشَةٌ أمامي فإذا بلال».
ورواه من حديث أنس ولفظه: «دخلتُ الجنَّةَ فسمعتُ خَشَفَةٌ فقلتُ: مَن
هذا؟ قالوا: هذه الغُمَيْصَاء بنت مِلْحَان أم أنس بن مالك».
الرُّمَيْصَاء والعُمَيْصَاء بالراء وبالغين بصيغة التصغير، والرَّمَصُ: ما
يخرج من العين، وكذلك الغَمَصُ. «خَشَفة»: مثل حركة وزنا ومعنى.
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٣٧
«خَشْخَشَة» بفتح الخاءين بينهما شين ساكنة حركة أيضًا. «الفناء» بكسر الفاء:
جانب الدار.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لبلال صلاة الغداة: «يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعةً، فإني سمعت الليلة خَشَفَ نعليك بين يدي في الجنَّة» قال بلال : ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعةٌ مِن أني لا أتطهر طهورًا تامًا في ساعةٍ من ليل ولا نهارٍ إلَّا صلَّيتُ بذلك الطهور ما كتب الله لي
أن أصلي. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا عليَّ وأهماني، فأوحي إلى أن انفخها، فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة».
وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته وقدم في بَشَرِ كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قطعة جريد حتى وقف مسيلمة في أصحابه فقال له: «لو سألتني هذه القطعة ما أَعْطَيْتُكَها، ولن تَعْدُو أمر الله فيك، ولئن أَدْبَرتَ ليعقِرنَّك الله، وإنِّي
لأراك الذي رأيتُ فيه ما رأيتُ، وهذا ثابتٌ يُجيبك عنِّي». ثُمَّ انصرف عنه. قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:
٤٣٨
الأدب والمتفرقات
إنَّك الذي رأيتُ فيه ما رأيتُ فأخبرني أبو هريرة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «بينا أنا نائم رأيتُ في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنها، فأُوحي إلي في المنام أن انفخها، فنفختمها فطارا، فأولتها كذابين يخرجان بعدي أحدهما الأسود العَنْسِيُّ، والآخر مُسَيلِمَةُ».
استشكال
قوله يخرجان بعدي فيه إشكال؛ لأنَّ الأسود العنسي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وحارب المسلمين وغلب على صنعاء وأخرج منها المهاجر بن أسد المخزومي عامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وانتشر أمره حتى قتله فيروز الديلمي.
ويجاب بأنَّ المراد بقوله «بعدي»: بعد نبوّتي، أو المراد: تغليب حال مسيلمة الكذاب، فإنه خرج بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وعظمت شوكته وجهز أبو بكر رضي الله عنه جيشًا لقتاله بقيادة خالد بن الوليد، واجتمع على مسيلمة جيش عظيم، وحصلت بينهم حروب لم يُسمع بمثلها، فكانت فتنة أشد من فتنة الأسود العنسي.
وروى مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم «رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كانا في دار عقبة بن رافع فأُتينا برُطَبٍ
من رطب ابن طاب، فأوَّلت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طَابَ». عقبة بن رافع أنصاري صحابي، ورطب ابن طاب نوع من ال
معروف، قال النووي: يضاف إلى ابن طاب رجل من أهل المدينة».
التمر
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٣٩
وروى الشيخان عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أراني في المنام أتسوَّك بسواك فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي : كبّر ، فدفعته إلى الأكبر». قوله: «فقيل لي كبر» قائل ذلك هو جبريل، كما جاء في معجم الطبراني"، وهو يفيد تقديم الأكبر سناً. وروى البخاري عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت امرأةً ثائرة الرأس سوداء خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة فأولت أن وباء المدينة ينقل إلى مَهْيَعة وهي الجُحْفَةُ. مَهيعة: بفتح الميم والياء، بينهما
هاء ساكنة.
وروى الشيخان عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنَّها اليمامة أو هَجَر فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هَزَزْتُ سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثُمَّ هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضًا بقرا والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحدٍ وإذا الخير: ما جاء الله
به من الخير ،بعد وثواب الصدق الذي أتانا الله به بعد يوم بدر».
ورأيت فيها بقرا» أي تذبح، كما في حديث ابن عباس عند أبي يعلى. وروى أحمد والنسائي والدارمي بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقرًا تُنْحَر، فأولتُ الدِّرْع الحصينة: المدينة، وأنَّ البَقَرَ : بَقْرُ والله خيرٌ» بقر: بفتح
٤٤٠
الأدب والمتفرقات
الباء وسكون القاف مصدر بَقَرَه إذا طعنه والمعنى: أنه أوّل البقر وهو النحر - بما أصاب الصحابة يوم أحد من القتل.
«والله خير» هذه الجملة من جملة الرؤيا كما جزم به عياض وغيره، والجملة مبتدأ وخبر، والمعنى: أنه رأى بقرا تذبح، ورأى أنه يقول: والله خير، أي: وصنع الله خير.
وعند ابن إسحاق في "المغازي": «وإني رأيت والله خيرًا رأيت بقرا تُنحر». وهذه الرواية أوضح، والواو ،للقسم، واسم الجلالة مجرور قسم، وخيرا مفعول رأيت وهو منصوب.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «بينا أنا على بئر أنزعُ منها إذ جاء أبو بكر وعمر فأخذ أبو بكر الدلو فنزع ذُنُوبًا أو ذنوبين وفي نَزْعِهِ ضعف فغفر الله له، ثُمَّ أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكرٍ فاستحالت في يده غَرْبًا فلم أرَ عبقريًّا مِن الناس يَفْرِي فَرِيَّه حتى ضربَ النَّاسُ بِعَطَنِ».
وروياه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دَلو فنزعتُ منها ما
شاء الله، ثُمَّ أخذها ابن أبي قحافة.... وذكر الحديث نحو ما سبق.
القليب البئر، والغرب بفتح الغين وسكون الراء: الدلو العظيمة، والنزع من البئر: الاستقاء منها، والعبقري السيد العظيم، والفري بفتح
الفاء وسكون الراء - القطع، والمعنى لم أر عظيما يعمل عمل عمر.
والحديث يشير إلى خلافة الشيخين وما كان فيها من خير للإسلام، وأنَّ
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٤١
مدة خلافة عمر كانت أطول من خلافة أبي بكر، وكثرت فيها الفتوحات
واستقر المسلمون وعمهم العدل والخير.
ورواه أبو ذر الهروي في كتاب "الرؤيا " من حديث ابن مسعود، وزاد في آخره: «فأولها يا أبا بكر قال ألي الأمر بعدك ويليه بعدي عمر، قال: «كذلك
عبرها الملك».
قال الحافظ : « في سنده أيوب بن جابر ضعيف، وهذه الزيادة منكرة».
وروى الطبراني بإسناد حسن عن أبي الطفيل: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بينا أنا أنزع الليلة إذ وردتُ على غنم سُودٍ وعُفْرٍ فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فجاء عمر فاستحالت غَرْبًا فملأ الحياض وأروى الواردة فلم أرَ عَبْقَرِيًّا أحسن نزعًا من عمر فأولت السُّودَ: العرب، والعُفْرَ العَجَم».
(تنبيه): روى أحمد وأبو داود، واختاره الضياء، عن سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ: أَنَّ رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأنَّ دَلُّوا دُلَّى من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفًا، ثُمَّ جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثُمَّ جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثُمَّ جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء. الدلو، يُذَكِّر ويؤنث. «دلّي» بكسر اللام المشدّدة: أُنزل. «عراقيها» بكسر العين وفتح القاف خشبتان تُجعلان على فم الدلو متخالفتين لربط الدلو. «تضلع» بالضاد المعجمة ملأ أضلاعه كناية عن الشبع. «انتشطت» بضم التاء
وكسر الشين: انتزعت واضطربت وسقط بعض ما فيها.
٤٤٢
الأدب والمتفرقات
في حديث ابن عمر وأبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هو الرائي، وفي حديث سَمُرَة : أنَّ رجلا أخبر النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أنه
رأى.
قال الحافظ : «هما قصَّتان تشد إحداهما الأخرى، وكأن قصة سمرة سابقة فنزل الماء من السماء - وهي خزانته - فأسكن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة - ثم أخرج منها بالدلو كما دلّ عليه حديث ابن عمر، وفي حديث سَمُرَة إشارة إلى نزول النصر من السماء على الخلفاء، وفي حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم، وكلاهما ظاهر من الفتوح التي فتحوها، وفي حديث سَمُرَة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي عليه السلام من الفتن والاختلاف عليه، فإنَّ الناس أجمعوا على خلافته ثُمَّ لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه، وامتنع معاوية في أهل الشام ثُمَّ حاربه بصفين، ثُمَّ غلب بعد بقليل على مصر وخرجت الحرورية على عليّ فلم يحصل له في خلافته راحة، فضرب المنام المذكور مثلا لأحوالهم رضوان الله عليهم أجمعين». اهـ كلام الحافظ، وهو نفيس.
وروى أبو داود من طريق الزهري، عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبدالله أنه كان يحدث : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أُري الليلة رجل صالح أنَّ أبا بكر نبطَ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما تَنوُّط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به
الرؤيا في القرآن والسنة
نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
قال أبو داود: ورواه يونس وشعيب ولم يذكرا عمر».
٤٤٣
قال الحافظ المنذري : فعلى هذه الرواية يكون الحديث منقطعا؛ لأن الزهري لم يسمع من جابر بن عبدالله».
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان فقال: «مَن كان اعتكف معي فليرجع؛ فإني رأيت ليلة القدر وإنّي أُنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وثر، وإني رأيت كأنّي أسجد في طين وماء». وكان سقف المسجد من جريد النخل وما نرى في السماء شيئًا، فجاءت قزعة فمطرنا فصلى بنا النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى رأيتُ أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصديق رؤياه. وروى البخاريُّ عن سَمُرَة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مما يُكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غَداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وأنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيَتْلَعُ رأسه فيَتَدَهْدَهُ الحجر ههنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثُمَّ يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قلت لهما سبحان الله ! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكَلُّوبِ مِن
222
الأدب والمتفرقات
حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقّي وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قفاه، ومَنْخَرِه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثُمَّ يتحوّل إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثُمَّ يعود
عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قلت سبحان الله ما هذان؟ قالا .
انطلق انطلق.
لي:
فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لَغَطِّ وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عُرَاةٌ وإذا هم يأتيهم لهيب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب
ضَوْضَوْا ، قلت لهما ما هؤلاء؟! قالا لي انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجلٌ سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح سَبَحَ ما سبح، ثُمَّ يأتي ذلك الرجل الذي قد جمع عنده الحجارة فيفْغَر له فاه فيلقمه حَجَرًا فينطلق يسبح ثُمَّ يرجع إليه، كلما رجع إليه فَغَر له فاه وألقمه حجرًا، قلت لهما ما هذان؟! قالا لي: انطلق انطلق
فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راءٍ رجلًا مَرأَةً. فإذا هو عنده نار يحشُها ويسعى حولها. قلت لها: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا، فأتينا على روضة مُعْتِمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظَهْرَي الروضة رجل طويل لا أكاد أن أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق. فانطلقنا فانتهينا إلى دَوْحةٍ عظيمة لم أر دَوْحَةً قطُّ أعظم منها ولا أحسن، قالا لي: إرق فيها فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فِضَّة،
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٤٥
فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجالٌ شَطْرٌ من خَلقهم كأحسن ما أنت راءٍ وشَطْرُ كأقبح ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، وإذا نهر معترض يجري كأنَّ ماءه المخض من البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثُمَّ رجعوا إلينا وقد ذهب عنهم ذ ذلك السوء وصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن، وها هو ذاك منزلك. فسما بصري صعدًا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قالا لي: هذاك منزلك، قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله، قالا لي أما الآن فلا وأنت داخله قلت لهما: فإنّي قد رأيت منذ الليلة عجبا! فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنا سنخبرك : أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يَثْلَغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ
القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشَرْشِرُ شِدْقه إلى قفاه، ومَنْخِرَهُ إلى قفاه،
وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فهم الزناة والزَّواني. وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلْقَم الحجارة، فإنه أكل الربا. وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشُها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنَّم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام، وأما
الولدان الذين حوله فكل مولود ولد على الفطرة.
فقال بعض المسلمين يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلّم: «وأولاد المشركين».
٤٤٦
الأدب والمتفرقات
قال: «وأما القوم الذين كانوا شطرًا منهم حسن وشطرًا منهم قبيح، فإنهم قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم، والدار الأولى التي دخلت
دار عامة المؤمنين وهذه الدار دار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل». وروى مسلم والترمذي أوَّله ، وهو كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم
يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟»
ورواه ابن أبي حاتم من طريق زيد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده علي عليه السَّلام قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يوما صلاة الفجر فجلس وذكر الحديث بطوله نحو حديث سمرة. قال الحافظ : «والراوي عن زيد ضعيف». يَتْلَغ رأسه»: يفتته. «يَتدَهْدَه الحَجَر»: يتدحرج، «كلوب»: بفتح الكاف وضمّ اللام المشدَّدة. «يُشَرْشِرُ شِدْقَهُ»: يشقُ جانب فمه بالكلوب. «ضَوْضَوْا» بفتح الضادين صرخوا، فَغَر فاه فتح فمه، «المرآة» بفتح الميم: المنظر. بخشها» بضم الحاء وشد الشين: يشعلها، «مُعْتِمة بضم الميم وسكون العين وكسر التاء: مُظلمة لكثرة أشجارها ، ظهري» بلفظ التثنية: وسط الروضة. «دَوْحَة» بفتح الدال والحاء المهملتين بينهما واو ساكنة: شجرة. «لبن» بفتح اللام وكسر الباء: «الآجر» الذي يُبنى به «شطر»: نصف، «المخض» بفتح الميم: اللبن، وكل شيء أبيض خالص البياض، «الربابة» بفتح الراء وتخفيف الباء: السحابة المتراكم بعضها فوق بعض. وقال الفريابي في كتاب "الرؤيا: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد: ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن سليم بن عامر الكلاعي قال:
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٤٧
حدثنا أبو أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبْعَي(۱) فأخرجاني وأتيا بي جبلًا وَعْرًا فقالا لي اصعد فقلت: لا أطيقه، قالا: إنا سنسهله لك، فصعدتُ حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بصوت شديد، فقلت: ما هذه الأصوات؟ فقالا: هذا عُوَاءُ أَهلِ النَّارِ.
ثُمَّ انطلقا . ا بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم تسيل دما،
فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم. ثُمَّ انطلقا بي، فإذا بقومٍ أشد شئ انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض،
فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزَّانون والزَّواني. ثُم انطلقا بي، فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين فقلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذَرَاري المسلمين. ثُمَّ شرفا بي شرفًا، فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة (۲).
ثُمَّ شرفا بي شرفًا آخر فإذا بنفر ثلاثة، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء
ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك». إسناده جيد. ورواه الطبراني باختلاف وزيادة ولفظه: عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعد صلاة الصبح فقال: «إني رأيت الليلة
العضد.
(۱) اصبعي بفتح الضاد وسكون الباء وفتح العين تثنية ضبع وهو ا (۲) زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة استشهدوا في غزوة مؤتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، ومؤتة : موضع بمشارف الشام.
٤٤٨
الأدب والمتفرقات
رؤيا فاعقلوها، أتاني رجلٌ فأخذ بيدي فاستتبعني حتى أتى جبلا طويلًا وَعْرًا فقال: إرقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك، فجعلت كلما وضعت قدمي وضعتها على درجة حتى استويت على سواء الجبل، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مُشقَّقة أشداقهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يقولون ما لا يعلمون، ثُمَّ انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء منظرًا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض، فقلت ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزَّوانِ، ثُمَّ انطلقنا فإذا نحن بموتى أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحًا فقلت: ما هؤلاء؟ قال: موتى الكفَّار، م انطلقنا ، فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجر، قلت: ما هؤلاء؟ قال: موتى المسلمين، ثُمَّ انطلقنا فإذا نحن برجال أحسن شيء وجها وأطيبه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الصِّدِّيقون والشهداء والصالحون...». الحديث، وإسناده جيد.
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" مطولًا، ولفظه: «بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضَبْعَي فأَتيا بي جبلًا وَعْرًا فقالا: اصعد، فقلت: إنّي لا أطيقه، فقال: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل فإذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قالا : هذا عُوَاءُ أهل النَّارِ، ثُمَّ انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مُشقَّقةً أشداقهم تسيل أشداقهم دما، قلت: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تَحِلَّة صومهم، فقال: خابت اليهود والنصارى»، فقال سليم ما أدري أسمعه أبو أمامة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أم شيءٌ من رأيه - «ثُمَّ انطلق بي، فإذا أنا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء
الرؤيا في القرآن والسنة
٤٤٩
الزَّانون، ثُمَّ انطلق بي فإذا أنا بنساء تنهش ثديهنَّ الحيَّات، قلت ما بال هؤلاء؟ قيل: هؤلاء يمنعن أولادهنَّ ألبانهنَّ (۱) ، ثُمَّ انطلق بي، فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين، قلت من هؤلاء؟ قالا : هؤلاء ذراري المؤمنين، ثُمَّ شرفا بي شرفًا فإذا بثلاثة يشربون من خمر لهم قلت مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء جعفر وزيد وابن رواحة، ثُمَّ شرف بي شرفًا آخر، فإذا أنا بنفر ثلاثة، قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيم وموسى وعيسى وهم ينتظرونك ورواه ابن حبان في صحيحه
أيضًا.
وروى الحاكم عن أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني رأيت في المنام غنما سوداء يتبعها غَنَم عُفْرُ، يا أبا بكر، اعْبُرها» فقال أبو بكر: يا رسول الله هي العرب تتبعك، ثُمَّ تتبعها العجم حتى تغمرها. فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «هكذا عَبَرها الملك بسَحَر».
ورواه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى