المجلد الثالث عشر : الأدب والمتفرقات
۱ - خواطر دينية الجزء الأول.
۲- خواطر دينية الجزء الثاني.
١ - خواطر دينية
الجزء الأول
ذِي خَواطِرُ دِيني وفوائد حَرَّرتُه
جاءت بفَضْلِ الهية
وبُحُوتُ عِلْمٍ عَالِيَة
ستنبطتها
فبَدَتْ جَوَاهِرٍ غَالِيَهُ
طتها بعِبَارَتِي فغَدَتْ قُطُوفَا دَانِيَــة خُذها إليك بهم واطلب لي تحوَ ذُنوبِيَة
خواطر دينية جـا
۱۱
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، قيوم السموات والأرضين، والصَّلاة والسَّلام على
نبيه الصادق الأمين، سيدنا محمد وآله الأكرمين، ورضي
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
الله
عن صحابته
فهذه ورقات كتبت فيها ما سنح لي من بحوث تتعلق بآيات من كتاب الله تعالى، وأحاديث نبوية، وغير ذلك من المسائل العلمية، واعتمدت فيها على حفظي وفهمي، إذ لم يكن لدي حين كتابتها مرجع علمي يُرجع إليه، إلَّا تفسير الجلالين.
وسيجد القارئ فيها تحقيقات نفيسة وفّقت إليها، وحلًّا لإشكال في بعض الآيات لم يهتد كثير من المفسرين إلى حَلَّه، واستنباطات ما سبقت إليها، ولا غلبت بفضل الله عليها . ولم أراع فيها التنسيق والترتيب لأني أردت أن أسجل ما جال بفكري من تلك المسائل كما اتفق وافتتحتها برسالة في معنى الإيمان المنجي يوم القيامة، لأثبت عقيدتي التي هي عقيدة الفرقة الناجية، تأسيا بمن فعل ذلك من العلماء قبلي. ولأني رأيت كثيرًا من المسلمين في هذا العصر لا يفهمون معنى الإيمان حقَّ الفهم، فيغلطون في بعض أركانه غلطا يؤدي إلى
خدش في عقيدتهم وهم لا يشعرون ، وفي ذلك خطر كبير لو يعلمون. والله أسأل وبنبيه إليه أتوسل أن يُسددني ويوفقني ويُعجل بتفريج كربتي،
إنَّه قريب مجيب.
۱۲
الأدب والمتفرقات
أركان الإيمان المنجي يوم القيامة
الحمد لله المتفرد بالعظمة والكبرياء، المنزّه عن الأنداد والشركاء، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء، ورضي الله عن آله وأصحابه السادات
الأتقياء.
هذه كلمات تبين أركان الإيمان المنجي يوم القيامة عند الله تعالى، وهي ستة: الإيمان بالله سبحانه
يجب على المكلف ذكرًا أو أنثى أن يعتقد بقلبه اعتقادا جازما لا يخالطه شيء من الشك أو التردد بأنَّ الله إله واحدٌ أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: ١١]. تنزه عن النقائص والآفات، وتعالى عن سمات المحدثات، لا يمر عليه زمان، ولا يحويه مكان؛ هو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، كان ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان.
ثم أوجد المخلوقات كلها من غير احتياج إليها، ولو شاء سبحانه ما أوجدها، كل ما سواه فقير إليه، وهو الغني الحميد.
لا تنفعه طاعةٌ ولا تضره معصية، إن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى
لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُوا رَضَهُ لَكُمْ ﴾ [الزمر: ٧].
لا يقع في مُلْكِهِ إِلَّا ما يُريد، فلا إيمان ولا فكر، ولا طاعة ولا معصية، ولا مصيبة كبرت أو صغرت، ولا نعمة دقت أو جلت، إلا بإرادته ومشيئته، وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ﴾ [النحل: ٥٣] مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
خواطر دينية جـا
۱۳
أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد:
، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنِ ﴾ [الرحمن: ٢٩].
يهدي ويُضِلُّ، ويُعزُّ ويُذلُّ، ويُشْقِي ويُسْعِد، ويُقرب ويبعد، ويُعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويخفض ويرفع لا ملجاً منه إلَّا إليه، ولا اعتماد إِلَّا عليه، حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم.
تفرد بالبقاء، وكتب على خَلْقِه الفناء، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْرُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: ۸۸] .
أحاط بكل شيءٍ عِلما، وأحصى كل شيءٍ عددًا، يَعْلَمُ خَابِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: ١٩].
ويطلع على مكنونات الضَّمائر ، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَلُوا مِنْهُ مِن قُرْءَانِ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْرُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ ﴾ [يونس :
.[11
وسع سمعه الأصوات، وعمّ بصره الموجودات، سَوَاءٌ مِّنكُر مَنْ أَسَر
الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِالَّيْلِ وَسَارِبُ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: ١٠].
قدرته عامة
وإرادته
شاملة، وحكمه نافذ، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ [طه: ٦]، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ
سريع الحساب ) [الرعد: ٤١].
١٤
الأدب والمتفرقات
لا إله إلا هو، له الأسماء الحُسْنَى والصفات العُلَى، وَسِعَتْ رحمته، وعمَّتْ نعمته، وتوالى على عباده جوده وفضله، بيده الملك والملكوت، وهو ربُّ العزّة والجبروت، يجيب المضطر إذا دعاه، ويقبل التّوبة ممن عصاه، لا يحفيه سؤال سائل، ولا يثقل عليه إنالة نائل، ولا يشغله شأنٌ عن شأن آخر من الشئون، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: ۸۲ - ۸۳] .
الإيمان بالملائكة:
وأن الملائكة عباد ،مُكْرَمون، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾
[التحريم: ٦ مخلوقون من نور، أُولِ أَجْنِحَةِ مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَعَ [فاطر: 1] لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتناكحونَ ولا يتناسلونَ يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: ٢٠] منهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت ومالك خازن النار، ومنهم حملة العرش، والحافون حوله، وسكّان السموات وخزنة الجنَّة، وخزنة النَّار، والكرام الكاتبون والحفظة للإنسان، ومنهم غير ذلك، وكُلُّهم رسل معصومين، قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَكَةِ رُسُلًا ﴾ [فاطر: ١] وليس فيهم عوام، بل كلهم خواص. وفيهم فاضل وأفضل، وهم أفضل من البشر جميعا إلا الأنبياء، ومن قال خلاف هذا بأن فضل عليهم بعض الصَّحابة أخطأ خطأ فاحشا، وقد أعطى الله للملك
منهم القدرة على الأعمال العظيمة التي لا يستطيعها الإنس والجن مجتمعين.
خواطر دينية جـا
الإيمان بالرسل
١٥
إنَّ الله تعالى رحمة بعباده أرسل إليهم رسلا منهم، اختارهم من أشرف العناصر وأكرم القبائل، مطهرين من سبئ الأخلاق ورذائل الأعمال، معصومين منذ نشأتهم من الكذب والخيانة وسائر المعاصي، جاءوا يدعون الناس إلى توحيد الله وعبادته، وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم فيما
يقولون.
إذْ مُعْجِزَاتِهِمْ كَقَوْلِهِ وَبَر صَدَقَ هذا العَبْدُ فِي كُلِّ خَبَرٌ وأهلك مكذبيهم بأنواع من العذاب وهم كثيرون، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ر (۷۸] والمذكور منهم في القرآن آدم إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب يوسف، شعیب، موسی، هارون، يونس، أيوب، اليسع إلياس ،داود سليمان، زكريا، يحيى، عيسى، ذو الكفل، محمد صلى الله عليهم جميعا.
[غافر:
وثبت في حديث أنَّهم ثلاثمائة وبضعة عشر ، وأنَّ الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والنَّبيُّ من ليس له شريعة أو ليس له كتاب، والإيمان بهم جميعا
واجب، فمن لم يؤمن بواحد منهم فهو كافر مخلدٌ في النار أبدًا.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ) أَوَلَتَيْكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقًّا ﴾ [النساء: ١٥٠ - ١٥١].
17
1
الأدب والمتفرقات
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا )
[الأحزاب: ٦٤ - ٦٥].
وليس فيهم امرأة، ومن ذكر في الأنبياء بعض النساء مثل أم موسى وأم عيسى استنادًا إلى أنه أُوحي إليهما وهم في ذلك؛ لأنَّ ما أوحي إليهما إنما هو بشارة ووعد بخير، ومثل هذا يحصل للصالحين، كما صح أن عمران بن حصين كانت الملائكة تسلّم عليه. وقد قال الله تعالى في مريم: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة: ٧٥] وهو نص في أنها غير نبية. ثمَّ إن الرسل والأنبياء تجري عليهم الأعراض البشرية من أكل ومقتضياته، ومعاملة بالتجارة وما شابهها، ومرض غير منفر، وما يحكى عن
مرض أيوب - عليه السلام - تشويهات إسرائيلية، يتنزه منصب النبوة عنها. وأفضل الرُّسل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، يليه إبراهيم عليه السلام
يليه موسى عليه السلام يليه عيسى عليه السلام، يليه نوح عليه السلام. أولو العزم من الرسل، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ
وهؤلاء هم مِيثَقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَريم ﴾ [الأحزاب: 7]. وقال سبحانه: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَضَىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: ١٣]. ومما يجب اعتقاده أيضًا ويكفر منكره، لوُرودِه في القرآن الكريم؛ أنّ الله
(1) يلي هؤلاء الثلاثة الملائكة؛ فهم أفضل من عيسى ونوح وبقية الرسل عليهم جميعا صلوات الله.
خواطر دينية جـا
۱۷
اتخذ إبراهيم خليلا، وكلَّم موسى تكليا، وأنَّ عيسى لم يُقتل ولم يُصلب بل رفعه الله إليه، وأنَّ نبينا محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلم رسول إلى العالمين الإنس والجن، وأنَّه خاتم النبيين، قال الله تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عبدِهِ، ليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: ١]. وقال سبحانه: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠]. وأن الإسلام هو دين الله في الأرض، ولا دين الله سواه، وأن معتنق غيره
من الأديان كافر؛ لا يقبل الله منه عملا، وأن مصيره إلى النَّار. قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: ١٩]. وقال عزّ وجلَّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣].
وقال سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ } [آل عمران : ٨٥ ].
وقد سمى الله أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى كفارًا في سورة البقرة والنساء والحشر والبينة وغيرها، وكُفرهم واضح لا خفاء فيه.
٤- الإيمان بالكتب
وأنَّ الله تعالى أنزل كتبا ،وصحفًا، ذكر منها صحف إبراهيم وموسى، والتوراة أنزلها على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن ختام الكتب السماوية وأفضلها والمهيمن عليها، سماه الله كتابا وذكرًا وحكيما وهدى ونورا وشفاء ورحمةً وروحًا وتنزيلا، إلى غير ذلك من الأسماء، وذلك
۱۸
الأدب والمتفرقات
دليل على علو قدره، وقد تحدى الله به الإنس والجن وأخبر أنهم لا يستطيعونَ أن يأتوا بمثله ولو كان بعضُهم لبعض ظهيرًا، وهو معجز من جهة نظمه وأسلوبه وروعته التي تأخذ القلوبَ وباستطراداته البديعة، وبما فيه من الأحكام التشريعية والأخبار الوعظية والحقائق العلمية، وغير ذلك مما
لاستقصائه موضع غير هذا.
ه الإيمان باليوم الآخر:
وأن الخلق بعد فنائهم مبعوثون فمحشورون للعرض على الله، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وهو يوم عسير على الكافرين، يسير على المؤمنين، هناك يعطى كل واحد كتاب أعماله، يقرأه بنفسه قارئًا كان أو غير قارئ، فيجد فيه ما فعله منذ بلوغه إلى وفاته من خير وشر وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَ أَ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: ٤٩] والمؤمنُ يأخذ كتابه بيمينه، والكافر يأخذه بشماله من وراء ظهره.
وتوزن الأعمالُ في ميزان له لسان وكفتان، فمن ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته فاز وربح ، ومن خفَّت موازينه بأن رجحت سيئاته خسر وهلك، ويمر الناس على الصراط - وهو على متن جهنم - فناج مسلم، ومخدوش مکردس
في ذلك اليوم العظيم الهول يَفِرُّ الْمَرَهُ مِنْ أَخِيهِ وَأَتِهِ، وَأَبِيهِ وَصَحِبَيْهِ، وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِي مِنْهُمْ يَوْمَيذِ شَأْنْ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧] ، في ذلك اليوم يتفرق الناس، فأصحاب اليمين إلى الجنَّة، وأصحابُ الشمال إلى النَّار.
وقد وصف القرآن الكريم بإفاضة وإسهاب هول يوم القيامة وما يحصل
خواطر دينية جـا
۱۹
فيه، كما وصف النار وأنواع عذابها، وحذَّر منها، ووصف الجنة ونعيمها، وشوق إليها، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها من غير سابقة عذاب.
وأصحاب الجنة خالدون فيها أبدًا، وأصحاب النار خالدون فيها أبدًا، أما عصاة المؤمنين الذين لم يتوبوا، أو لم تقبل توبتهم فيعذبون في النار بقدر عصيانهم ثم يخرجون منها إلى الجنَّة بشفاعة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، أو الملائكة، أو بعض إخوانهم المؤمنينَ، أو بمُجرَّد رحمة الله سبحانه وتعالى، ومن عصاة المؤمنين مَنْ لا يدخل النار أصلا، بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعفو الله سبحانه وتعالى.
ومِنَ الدَّليل على أنَّ عصاة المؤمنين لا يخلدون في النار، قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: ٧] أي: يرى ثوابه، ولا شك أن الإيمان خير، بل هو أصل الخير، فالمؤمن العاصي لابد أن يخرج من النَّار، ليرى ثواب إيمانه، ولا يجوز العكس، لأنَّ من يدخل الجنة لا يخرج منها،
قال الله تعالى: وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَمِينَ ﴾ [الحجر: ٤٨].
والدواب والطير وسائر العجماوات محشورة، لقوله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَارٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يحشرون [الأنعام: ۳۸] ليقتصّ لها من بعضها البعض، كما صح في الحديث: التُؤدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها يومَ القِيامَةِ حَتَّى إنَّه ليُقادُ للشَّاةِ الجَماءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ». أي تُعطى قرونًا تنطحها عليها بها كما نطحتها القرناء في الدنيا، وليقتص لها من الإنسان الذي قَسَا عليها بضرب، أو حملها ما لا تطيق، أو
۲۰
الأدب والمتفرقات
قتلها ولم تكن مما أذن في قتلها وبعد انتهاء القصاص يقال لها: كوني ترابا فتكون. فهناك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
ومَنْ زعم أن بعض الحيوانات مثل ناقة صالح، وكبش إسماعيل، وكلب
(1)
أهل الكهف، يدخل الجنَّةَ، وَهِمَ وهما شنيعا، وقال ما لا دليل عليه (تنبيه): الجن مثل الإنس فيما تقدم، فكافرهم يخلد في النَّار، وعاصيهم لا يُخلد فيها، ومؤمنهم يدخل الجنة؛ لأنّهم مكلَّفون مثلنا وفي (سورة الرحمن) وجه الخطاب إليهم مع الإنس مقترنين في الإنذار بالنار وعذابها، والبشارة بالجنة ونعيمها.
وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة والجمهور، ونسب إلى أبي حنيفة أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنَّةَ، وأنَّ جزاءهم أن يجاروا من النار ثم يصيرون ترابًا،
وهذا القول يخالف القرآن الكريم وقواعد الشريعة.
٦- الإيمان بالقدر:
وأنَّ القدر كله خيره وشره، حلوه ومره، واقع بإذن الله تعالى حسبما سبق في علمه القديم، قال تعالى: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ﴾ [التوبة: ٥١]. وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتَابِ مِن قَبْلِ أَن نَبَرَاهَا ﴾ [الحديد: ٢٢].
(۱) للشيخ حسن الجبرتي شعر في الحيوانات التي تدخل الجنة، ذكره ابنه الشيخ عبد الرحمن في ترجمته من عجائب الآثار"، وجاء في حديث موضوع أن ذئبا يدخل
الجنة، لأنه أكل ابن شرطي.
خواطر دينية جـا
۲۱
وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في وصيته لابن عباس: اعلم أنَّ ما
أخطأك لم يكن ليُصيبك وأنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك».
ولا ينفع الاحتجاج به في دفع عقاب المعصية، فقد حكى الله عن الكفار في (سورة الأنعام) و(النحل) وغيرهما أنهم يحتجون لكفرهم بالقدر، لكن لم يقبل لأنَّ الله تعالى أرسل الرُّسلَ، وأنزل الكتب، وبيَّن طريق الشر، فلم يبق للمكلف حُجَّةٌ يحتج بها ، والقَدَر غَيب لا يُعلم إلَّا بعد وقوعه، والمكلف يعاقب على إقدامه على الشَّرِّ باختياره قبل أن يعرف أنه مقدر عليه، فلا تكونُ
منهم،
المعرفة اللاحقة ذات أثر رجعي يبطل العقاب على الإقدام السابق. كذلك لا يجوز ترك العمل النافع في الدين والدنيا اتكالا على أنَّ ما قدر
لا بد أن يكون، ومن فعل ذلك يكون مفرّطا آنها.
وسر القَدَر مما اختصَّ الله بعلمه، لم يُطلع عليه أحد من خَلْقِه، وإِنَّما يُطْلِعهم
عليه بعد دخول الجنَّة، فهناك فقط ينكشفُ لهم الحجاب عما كان منه خفيّا. والكلام في القَدَر اشتغال بما لا يعني، والاحتجاج به عجز وسَفَه، والاتكال عليه تفريط وإهمال، فعلى المؤمن أن يسير على هدي الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرض على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجَز، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا ولكن قل : قَدَّر الله، وما شاء فعل، فإن «لو» تفتح عمل الشيطان». فهذا الحديث يوجب عليك العمل والحرص على ما ينفعك، وينهاك عن
۲۲
الأدب والمتفرقات
العجز والكسل، فإذا فعلت ذلك وجانبت الكسل والتفريط، ثم أصابك إخفاق مثلا، فذاك مرجعه إلى القَدَر، لا إليك، فلا تحاول أن تُتعب نفسك وفكرك بقولك: لو فعلت كذا كان كذا». فتلك محاولة من وسوسة الشيطان
وإيحائه، ليحزنك، فلا تصغ إليه ، ولكن قل: «هذا قدر الله وما شاء فعل». وهكذا يجب على المؤمن إذا أصابه شيء خارج عن إرادته، غير ناشئ عن تفريط منه أن يرده إلى قضاء الله وقدره، فبذلك يطمئن قلبه، وتهدأ نفسه،
ويستريح باله. هذه أركان الإيمان المنجي عند الله تعالى ذكرتها ملخصةً مبسوطة، خالية من المصطلحات العلمية والمسائل الخلافية ليسهل فهمها على الناس بشتى مستوياتهم، فاعرض إيمانك عليها، فإن وجدته مطابقا لها فتمسك به واحمد الله عليه، وإن وجدت فيه مخالفة لها، أو لبعضها ، فصحح إيمانك وعقيدتك، فبغير هذه الأركان، لا يصح إيمان.
والله المسئول أن يقبل هذا العمل، ويجعله سببا في التعجيل بتفريج كربتنا التي لا يفرجها غيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تلازم أركان الإيمان
وهذه الأركان متلازمة شرعًا، بمعنى أنَّ الإيمان ببعضها يستلزم الإيمان بسائرها، وإذا وجدت القرآن اقتصر على بعضها، فليس لأنه يكفي في الإيمان كما فهم بعض المعاصرين خطأ، بل لأنه يستلزم بقية الأركان في عُرفِ الشَّرع، فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَىٰ وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءَامَنَ
خواطر دينية جـا
۲۳
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: ٦٢] .
فهم منه بعض النَّاس أن الإيمان بالله واليوم الآخر يكفي في النَّجاة، ولا يشترط الإيمان بالرسل، وحاول أن يصدر بذلك فتوى من الأزهر، ليبني عليها ما كان يرمي إليه من توحيد بين الأديان الثلاثة، لكنَّه عُورض معارضة شديدة ردته عما كان يريد.
وذلك الفهم منه يدل على أنه لم يخبر قواعد الشرع، ولا عرف أسلوب القرآن الكريم، ولو تأمل وأمعن لأدرك أن الآية الكريمة سلكت أسلوب الاكتفاء، وهو من فنون اللغة العربيَّة، ذلك أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يستلزم الإيمان بالرسل وببقية الأركان، لأننا لم نعرفهما إلا عن طريق الرسل، فالإيمان بهما ملزوم، والإيمان بالرسل ،لازم ولا يعقل وجود ملزوم بدون
لازمه.
ثم إنَّ الإيمان بالرسول الواحد يستلزم الإيمان بجميعهم، كما أن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم، يدل على ذلك قوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، كَذَبَتْ عَادُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ۱۲۳] كَذَّبَتْ تمودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٤١]، كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٦٠]، كَذَّبَ أَصْحَبُ لَتَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الشعراء: ١٧٦]، مع أنَّ كلَّ قوم من هؤلاء كذبوا رسولهم فقط، فدل على أن تكذيب رسول تكذيب للجميع. ثم إن الآية مع هذا ذكرت وصفًا يستلزم شرعا الإيمان بجميع الرسل
٢٤
الأدب والمتفرقات
أيضا، وهو قوله تعالى: وَعَمِلَ صلحا ﴾ [القصص: ٦٧]، والعمل الصالح يختلف باختلاف شرائع الرُّسل، قال تعالى: لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَا جَا
[المائدة: ٤٨]
فرُبَّ عمل صالح في شريعة يكون محرما في شريعة بعدها، كما يُعلم بالموازنة بين شرائع الأديان السماوية، إذن فسبيل من يريد النَّجاة من اليهود والنصارى وغيرهم أن يؤمن بجميع الرسل، ويعمل صالحا في شريعة
الإسلام. والدليل على ما قدمناه قوله تعالى: قَالُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ
أوتُوا الكِتَبَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَغِرُونَ ﴾ [التوبة : ٢٩]. أخذت الآية بأنَّ أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لماذا؟ لأنَّ اليهود لا يؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام، والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فصع نفي الإيمان بالله واليوم الآخر في حقهم شرعًا، لانتفاء لازمه، ولا تُعتبر دعواهم بلسانهم، لأن الحقائق الشرعية يرجع فيها إلى عُرف الشرع. وهذا كما لو صلَّى أحد بدون وضوء مثلا، فإنَّ الشَّرع لا يعتد بصلاته تلك ويعدها باطلة، وإن كان هو في الواقع قد فعل أفعال الصلاة من قيام وقراءة وركوع وسجود، ومن القواعد المقرَّرة: أنَّ المفقود شرعًا كالمفقود حسا»،
وهذا واضح لا خفاء فيه.
خواطر دينية جـا
٢٥
لكن بعض المعاصرين زعم أن الآية سلكت سبيل المبالغة، وهذا زعم باطل يدل على ضعف صاحبه في فهم القرآن الكريم، وخُلو وفاضه من قواعد علم الشريعة، والدليل عليه أمور:
الأول: أنَّ الآية أمرت بقتال أهل الكتاب حتّى يعطوا الجزية، ففيها وجوب قتالهم، وأخذ الجزية منهم، والأحكام الشرعية لا تنبني على المبالغة. الثاني: أن الله لم يكن ليبيح دماء أهل الكتاب وأموالهم، بناءً على مبالغة
يصفهم بها، فلولا أنهم يستحقون ذلك بوصفهم المذكور ما أمر به. الثالث: أنَّ الآية وصفتهم بأنهم لا يُحرمون ما حرم الله ورسوله، أي كالخمر والخنزير، وهذا حقٌّ لا مبالغة فيه، وبأنهم لا يدينون دين الحق، أي الإسلام، وهذا أيضًا حقٌّ لا مبالغة فيه.
الرابع: أن المبالغة من أصلها غير موجودة في كلام الله ورسوله؛ لأنها
كذب، نبه عليه ابن القيم في كتاب "الفوائد".
الخامس: وهو . منشأ غلطه في فهم الآية أنه اغترّ بقول أهل الكتاب أنَّهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فاعتبر نفيه عنهم في الآية من قبل المبالغة تحريضا
على قتالهم، لكنه غفل عن أشياء
أحدها: فقدانهم لبعض أركان الإيمان كما سبق بيانه.
ثانيها: أن ذلك أفقدهم حقيقة الإيمان الشرعية، وإن ادعوها بلسانهم. ثالثها: أن الآية قصدت ذلك لا غيره، حيث أمرت بقتالهم، وهو حكم
شرعي وبنته على ثلاثة أسباب شرعيَّة:
الأول: فقدهم الإيمان الشرعي.
٢٦
الأدب والمتفرقات
الثاني: عدم تحريمهم ما حرم الله ورسوله.
الثالث: عدم اعتناقهم الدين الحق وهو الإسلام، فلو كان لذلك المعاصر فَهم وتذوق لقواعد الشَّريعة لأدرك أن الآية لا علاقة لها بالمبالغة أصلا، وقد كنت ألفت رسالة سمّيتها : "التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر" ذكرتُ خلاصتها في هذا الموضع، وبالله التوفيق.
تأبيد الكفار في النَّار
صرح الله بتأبيد خلود الكفار في النار في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: الأول: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩]. الثاني: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) خَلِدِينَ فِيهَا أبدا ﴾ [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥]. الثالث: في قوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أبدا ﴾ [الجن: ٢٣].
الآية الأولى في سورة النِّساء)، والثانية في (سورة الأحزاب)، وهما مدنيتان، والمراد بالكفَّار فيها أهل الكتاب والآية الثالثة في (سورة الجن)، وهي مكيَّة، والمراد بالعاصي فيها المشرك، وبذلك يكون القرآن الكريم صرح بتأبيد خلود الكفار في النار بجميع طوائفهم : كتابيين ومشركين، فمن زعم أن
بعض الكفار لا يخلدون في النار، فقد ألحد في دين الله وعارضَ كتاب الله .
خواطر دينية جـا
۲۷
هذا ومن الصيغ الدالة على التأبيد أيضا:
۱ - قوله تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ
[النساء: ٥٦].
.[٢٢
۲ - قوله تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الإسراء: ٩٧]. قوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَةٍ أُعِيدُوا فِيهَا ﴾ [الحج:
- قوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعيد وأفيها ﴾ [السجدة: ٢٠]، لأن «كلما» تدل على الدوام والتكرار، وهو معنى التَّأبيد.
-0
قوله تعالى: ﴿ لَا نُفَتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَةِ الخياط [الأعراف: ٤٠]، ودخول الجمل في إبرة الخياطة محال، فدخول الكفار للجنة محال فهم مؤبدون في النَّار.
٦- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِنَايَتِ اللَّهِ وَلِقَابِهِ أُوْلَيْكَ يَسُوا مِن
رحمتي [العنكبوت: ۲۳] أي جنتي، فيأسهم من دخول الجنة تأييد لهم في النَّار.
عيسى عليه السلام لا يشفع للنصارى
قول عيسى - عليه السلام- مجيبا الله تعالى: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: ١١٨].
سئلت من بعض أهل العلم (١) لم لم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم، مع أنَّه
(۱) هو الشيخ أحمد الأهواني الغزي، من علماء الأزهر.
۲۸
الأدب والمتفرقات
أنسب؟ فأجبت: لم يقل ذلك لئلا يكون مستشفعًا لهم ، وهم لا لا يستحقون
الشفاعة لكفرهم، والله ولي التوفيق.
من صيغ الوجوب
من الصيغ المفيدة للوجوب في القرآنِ وقوع المصدر أو اسمه في جواب شرط ملفوظ أو مقدر، مثال ذلك قوله تعالى: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ﴾ [النساء: ٩٢].
«من» اسم شرط، و «قتل فعل الشرط ، و تحرير» مصدر واقع في جوابه،
(1)
ودية» معطوف عليه، فالإعتاق والدية واجبان " بهذه الآية.
مثال آخر: قوله تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة ﴾ [البقرة: ٢٨٠]. «إن» حرف شرط، و «كان» فعله، ونظرة» اسم مصدر واقع في جوابه، فإنظار المعسر واجب.
مثال آخر: قوله تعالى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَدتُمُ الْأَيْمَنَ فَكَفَّرَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَكِينَ ﴾ [المائدة: ۸۹] الآية.
«كفارته» اسم مصدر واقع في جواب شرط محذوف للعلم به، تقديره: فإن حلفتم وحشتم فكفَّارته»، ومن هنا حكم العلماء بوجوبِ كَفَّارة اليمين. (تنبيه): إنظار المعسر واجب كما تقدم، ومسامحته سُنَّة مرغَبُ فيها، وهي
(۱) وسر ذلك أن المصدر في هذا الموضع بدل من اللفظة بفعله، وهو فعل الأمر، والتقدير: «فحرروا رقبة وسلموا الدية»، وهكذا بقية الأمثلة.
خواطر دينية جـا
۲۹
أفضل من الإنظار الواجب، وهذا من المواضع المستثناة الا المستثناة التي كانت السنة فيها أفضل من الواجب، على خلاف القاعدة وهي ثلاثة مواضع، نظمها الحافظ السيوطي في بيتين، هما: الفرضُ أفضل من تطوع عابد حتَّى ولو قد جاء منه بأكثر إلَّا التطهر قبل وقت وابتداء بالسلام كذاك إبـرا المعــــر
السكوت في مقام البيان يفيد الحصر
قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيا [مريم: ٦٤] أخذ منه العلماء قاعدة فقهية عظيمة، وهي: أنَّ السكوت في مقام البيان يُفيدُ الحصر، فإذا نَصَّ الله أو رسوله المبلغ : عنه ، على شيء بإيجابه، أو تحريمه، أو إباحته، وسكت عن شيء آخر يشبه المنصوص عليه أو يماثله، فالسكوت عنه يفيد أنه بخلاف المنصوص، فإن كان المنصوص واجبًا كان المسكوت غير واجب، وإن كان حراما كان المسكوت غير محرم، وإن كان مباحًا كان المسكوت غير مباح. وقد جاء الحديث مفصحًا عن هذه القاعدة، قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ الله فرض فرائض كالصَّلاة والزكاة «فلا تضيعوها» بل أدوها كما أمر بها «وحد حدودًا» كأحكام الطلاق والعدة والمواريث «فلا تعتدوها» فتظلموا أنفسكم، قال تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: ١ ] وحَرَّم أشياء كالزنا والخمر فلا تنتهكوها» فتستوجبوا عقاب الله تعالى وسكت عن أشياء تشبه ما نصَّ عليه أو تماثله وكان سكوته عنها «رحمة لكم غير نسيان لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴾ [طه: ٥٢] وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسيا [مريم:
الأدب والمتفرقات
٦٤] (فلا تسألوا عنها فلربما حرمت أو فرضت، فعجزتم عنها: يَأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْتَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: ١٠١].
فتأمل الحديث تجده يوضح تلك القاعدة، ويبينها غاية البيان.
مثال ذلك: قوله تعالى: وَأَنكِحُوا الْأَيْنَمَى مِنكُمْ وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإما بكم إلى قوله تعالى: وَلَيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَا مَّا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فضلِهِ ﴾ [النور: ۳۲-۳۳].
أباحَ الله في هذه الآية النكاح للمستطيع، وأوجب التعفف على من لم يستطع، وسكت عن الاستمناء فيكون حراما، ولو كان مباحًا لبينه في هذا
الموضع، وانظر كتابنا "الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء". مثال آخر: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هلكت قال «وما أهلكك؟ قال: واقعتُ أهلي في نهار رمضان، قال «هل تستطيع أن
تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟» قال:
لا ... الحديث.
عرض على المستفتي أنواع الكفَّارة الواجبة عليه وسكت عن قضاء اليوم
(1)
الذي واقع فيه، فدل على أن قضاءه غير واجب، وبهذا أخذ الظاهرية، وسكت أيضًا عن المرأة فدل على أنه لا كفارة عليها، وبه أخذ الأئمة فيما أظنُّ.
(۱) جاء في رواية عند البيهقي فيها أظن أنه أمره بصوم يوم مكان اليوم الذي جامع فيه، فإن صحت، أفادت وجوب قضاء اليوم.
خواطر دينية جـا
۳۱
حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- في قبره الشريف قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا إِن كُنتُم
مؤْمِنِينَ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: ۲۷۸ - ۲۷۹]. يفيد أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتي في قبره الشريف يحارب المرابين بالدعاء عليهم، أو بما يُناسب حياته البرزخيَّة، ولم أرَ مَنْ سبقني إلى هذا
الاستنباط.
أمر الله نبيه بالاستشفاع لأمته
قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. أمر من الله لنبيه بالاستشفاع لأمته، إذ الاستغفار استشفاع، ومثله قوله تعالى: فَاعلَم أَنه
لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد : ١٩]. والآيتان تؤيدان الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تُعرضُ على أعمالكم، فما وجدت من خير حمدت الله، وما وجدت من سبي استغفرتُ لكم»، وانظر كتابنا "نهاية الآمال في صحة حديث عرض الأعمال".
الأنبياء لا يبلون بعد الموت
قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ على سليمان الموت مات، ومكث قائما على عصا حولا والجن يعملون الأعمال الشاقة التي كلفهم بها لا يشعرون بموته، حتى أكلت الأرضَةُ عصاه كما قال تعالى: مَادَهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا
۳۲
الأدب والمتفرقات
دَابَّةُ الْأَرْضِ ( مصدر أرضت الخشبة بالبناء للمجهول أكلتها الأرضَةُ: تأْكُلُ مِنسَانه عصاه فَلَمَّا خَر وقع على الأرض بَيِّنَتِ الحِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: ١٤] العمل الشاق، لظنهم حياته وهو ميت. وهذه الآيةُ تُفيدُ أنَّ أجساد الأنبياء عليهم السلام لا تبلى، ولا يغيرها الموت، وعلى هذا دلَّتِ السُّنة المتواترة، وانعقد الإجماع.
فإن قيل: كيف علم أنه مكث سنة ؟
فالجواب: علم ذلك إما بأنَّ الجنَّ أخبروا بأنهم مكثوا سنة في العمل الشاق، وإما بأنهم حسبوا ما أكلته الأرضة في يوم وليلة، وعلى وزانه عرفوا
المدة.
الذبيح هو إسماعيل عليه السلام
اختلف في الذبيح: هل هو إسماعيل ؟ أو إسحاق عليهما السلام؟ وقال بكل طائفةٌ، وللحافظ السُّيوطي رسالة "القول الفصيح في تعيين الذَّبيح"
حشد فيها أقوال الطَّائفتين، وأحاديث وآثارا تدل لكليهما، ثم اختار التّوقف
(۱)
الجزم بأحدهما، وهذا منه عجيب! فإن التوقف إنما يصار إليه حيث تتكافاً الأدلة ولا مرجّح ، لكنه انخدع بالإسرائيليات وبالعلماء الذين اعتمدوها من قبله، ثم إنَّ الأحاديث التي أوردها دليلا للطرفين واهية، لا يجوز الاحتجاج بها، فلا أدري كيف خَفِيَ عليه حالها ؟! ونحن إذا تأملنا القرآن الكريم وجدناه يدلُّ دلالة قاطعة على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، وإليك البيان:
(۱) فلم يف بما ادعاه في العنوان، حيث لم يعين الذبيح.
خواطر دينية جـا
}
۳۳
1 - لما أنجى الله إبراهيم من النَّار، ترك قومه، وذهب مهاجرًا إلى الشام
وَقَالَ إِن ذَاهِب إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: ٩٩] فلما وصلها قال: رَبِّ هَبْ لِي من الصالحين [الصافات: ۱۰۰] قال الله تعالى: فَبَشَّرْنَهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] أي: ذي حلم كثير .
٢ - فكان هذا الغلام الحليم إسماعيل عليه السلام، ووصفه بالحلم يوافق قوله لأبيه حين أخبره بأمر الذبح قَالَ يَابَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِ إِن شَاءَ اللَّهُ من الصابرينَ [الصافات: ۱۰۲] وبالضّرورة لا يقدر على مواجهة هذا الموقف الذي تطيش عنده الأحلام إلا الحليم الصابر. -٣- ولكونه كان بكر أبيه ، ووحيده كان الامتحان بذبحه أشد، ولذا قال الله
تعالى: إِن هَذَا هُوَ الْبَلَتَوُا الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: ١٠٦].
٤ - قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِ الْكِتَبِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤]
وَعَدَ أباه بالصبر على محنة الذَّبح، ووفي بوعده، فاستحق الثناء على ذلك. ه- قال الله تعالى بعد حكاية الذَّبح والفداء: وَبَشَّرْنَهُ بِإِسْحَقَ نَبِيَّاتِنَ الصالحين [الصافات: ۱۱۲] فكان هذا دليلا على أن الذبح غيره من وجهين: أحدهما: أن البشارة به جاءت بعد مسألة الذبح.
ثانيهما: وهو القاطع في الموضوع؛ أن الله بشره به نبيًّا أي موعودًا بأنه يبلغ مبلغ الرجال ويصير نبيًّا، والبشارة خبر، والخبر لا يدخله نسخ، فمِنَ المستحيل
أن يأمره بذبحه.
٣٤
الأدب والمتفرقات
٦ - أنَّ الله وهب إسحاق لإبراهيم عليهما السلام، منحة له على استسلامه لمحنة ذبح ابنه الوحيد.
- قال الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَابِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَقَ يعْقُوبَ [هود: ٧١] هذه بشارة من الله تعالى بأن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، فمن المحال أن يأمر بذبحه، وهذا دليل قاطع أيضًا.
- قال الله تعالى عن ضيف إبراهيم: قَالُوا لَا نَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عليم [الحجر: ٥٣] وقيل أيضًا: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: ۲۸] فوصف إسحاق بالعلم الكثير ، وهذا العلم إما عن طريق الوحي، أو التعليم، وعلى كلا الحالين لا يمكن أن يأمر بذبحه، وهو دليل قاطع أيضًا.
٩ - أن إسماعيل بشَّر به إبراهيم من غير وعد بنبوته، ولا بأن يولد له ولد،
فكان من المعقول أن يؤمر بذبحه ابتلاء وامتحانا. ١٠ - أنَّ إسماعيل وهب لإبراهيم بدعائه كما تقدم، فأراد الله أن يمتحن
خليله في مطلوبه، ليبين أهليته لمقام الخلة. ١١ - أنَّ إسحاق وهب له بدعاء امرأته، حيث غارت من ضَرَّتها هاجر التي رزقت ولدًا ،دونها، والله أكرم من أن يمتحن امرأة في ولد وهبه لها بعد كبرها وعقمها.
١٢ - أن أعز ما تتمناه المرأة في بيت الزوجية أن تُرزق ولدا يعيش، وتفرح بزواجه وبأولاده، وعلى وفاق هذه الأمنية التي كانت تجول بخاطر سارة،
خواطر دينية جـا
جاءتها البشارَة وَأَمْرَ أَنَّهُ قَابِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشِّرْنَهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ [هود: (۷۱) فبشرها الله بولد ضمن لها حياته حتى تفرح به، وترى
ولده، فكيف يأمر بعد هذا بذبحه ؟!
١٣ - أنَّ مناسك الحج من طواف وسعي ورمي للجمار وذبح للضحايا وغيرها، مأخوذة عن إبراهيم وإسماعيل وهاجر، ولا علاقة لشيء منها بإسحاق، فدعوى أنَّه الذبيح، فرية إسرائيلية انخدع بها بعض علماء المسلمين، وما دَرَوْا أَنَّ اليهود حسدوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والعرب على أن اختص الله تعالى جدّهم إسماعيل بهذا الفضل، فحاولوا بكذبهم تحويله إلى جدهم إسحاق عليه السلام.
وجوب الخلود في الجنة والنار نقلي
قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ هُمْ فِيهَا زَفِيرُ وَشَهِيقُ الخَلِدِينَ فيها ما دامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءٌ غَيْرَ تجدون ﴾ [هود: ١٠٦ - ١٠٨].
اختلف في الاستثناء من الخلود في الموضعين، فقيل: إلا ما شاء ربُّك من الزيادة على مدة دوام السَّموات والأرض مما لا منتهى له، فيكون بمعنى خالدين فيها أبدا، وقيل: المراد سموات النَّار وأرضها، وسموات الجنَّة وأرضها، وهما مؤبدان، وذكر المشيئة على سبيل التبرك، فهو مثل قوله تعالى: لقَدْ صَدَفَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّمْ يَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ عَامِنِينَ
٣٦
الأدب والمتفرقات
لقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فتحا قَرِيبًا [الفتح: ۲۷] ذكرت المشيئة هنا للتبرك؛ لأنَّ وعد الله بدخولهم المسجد الحرام ،حق، وقيل: إلا ما شاء ربك من المدة التي مكنوها في الموقف قبل دخول النار والجنة، وقيل غير ذلك.
ويظهر لي وجه لعله يكون صوابًا إن شاء الله تعالى وهو: أنَّ الاستثناء في الموضعين ليس المراد به نفي تأبيد الخلود، بل نفي وجوبه، وأن عدمه تتعلق به القدرة لإمكانه، ويرشح هذا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: ۱۰۷]
.
فهو مثل قوله تعالى: ﴿ إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِنَاخَرِينَ [النساء: ١٣٣ ] لكنه لم يشأ، والمعنى: إلا ما شاء ربك من عدم الخلود، فله ذلك، لكنه لريشاً. والآية بهذا التقرير ترد قول من زَعم من المعتزلة ومَنْ يرى رأيهم: أن خلود النوعين واجب عقلا، وأن عدمه لا تتعلق به القدرة لاستحالته ولك أن تقول على فرض أنَّ الاستثناء مراد به نفي الخلود، تكون الآية دالة عليه بطريق المفهوم؛ لأنَّ الاستثناء من مفاهيم " المخالفة كما تقرر في علم الأصول، ودلالة المفهوم مؤخّرة عن دلالة المنطوق حسبما هو مقدر في محله فدلالة الاستثناء هنا غير معمول بها إلا من حيث التبرك ؛ لتصريح آيات أخرى بتأبيد خلود أهل النار فيها، وبتأبيد خلود أهل الجنة فيها.
(1)
وعليه
(۱) وهي عشرة: الصفة والشرط والعلة واللقب أي العلم، والاستثناء والعدو وظرف الزمان وظرف المكان والحصر والغاية. جمعها بعضهم في قوله:
صفٌ وَاشْتَرِطْ عَلل ولَقَبٌ ثَنْيا وعُدَّ ظَرْفَيهِ وحَصْرًا أَغْيا
خواطر دينية جـا .
۳۷
فرعون مات كافرًا
نُسب إلى الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه القول بقبول إيمان فرعون وافترق الناس بعده ثلاث فرق فرقة أيدته، منهم الجلال الدواني الصديقي. وفرقة خطأته وتحاملت عليه، منهم ملا علي القاري، وفرقة من الصوفية أوّلت كلامه بأنه لم يرد فرعون المعروف، وإنما أطلقه رمزًا على النفس في بعض أطوارها. لكن العارف الشَّعراني حقق في كتاب "اليواقيت والجواهر" نفي " صدور هذا القول عنه، ونقل نصوصًا من "الفتوحات "الملكية" تُثبت كفر فرعون. وهذا هو اللائق بعلمه وذكائه، بله ولايته وما ألهم من المعارف، ذلك
(1)
أن كفر فرعون وعدم قبول إيمانِه ثابت بنص القرآن ثبوتا قطعيا ليس للاحتمال فيه مجال، وإليك البيان
۱ - قال الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام: وَلَقَدْ مَنَنَا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُتِكَ مَا يُوحَى ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَأَقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوُّلِي وَعَدُولَهُ ﴾ [طه: ۳۷-۳۹] أخبر الله تعالى أنَّ فرعون عدو له ولرسوله موسى، إذ هو الذي التقطه بواسطة أعوانه، والخبر لا يدخُله نسخ، فهذا قاطع في أن فرعون مات كافرًا عدوا الله ورسوله.
(1) ثم تبيَّن لي أن كلامه في إثبات إيمان فرعون صريح صحيح، وهو مسبوق به، فقد حكى القاضي عبد الصمد الحنفي في "تفسيره" عن الصوفية أن الإيمان ينفع صاحبه
ولو حصل عند معاينة العذاب، لكن ما ذكرته هنا قاطع في كفر فرعون.
۳۸
الأدب والمتفرقات
۲- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ وَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي امَنَتْ بِهِ بنوا إسرءيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس : ٩٠ ] .
آمن فرعون عند المعاينة، وهو إيمان غير مقبول، لقوله تعالى: فَلَمَّارَأَوْا بأَسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَفِرُونَ ﴾ [غافر:
.[AO-Aε
ولذا رد الله عليه بقوله : الْتَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فاليومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ بحثتك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ [يونس: ۹۱ - ٩٢] عبرة وجثته موجودة بالمتحف الذي يضمها وغيرها من آثار قدماء
المصريين.
قال الله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَطِعِينَ [القصص: ۸] ،عاصين، هذا إخبار بأنَّ فرعون عاص، وعصيانه عداوته الله
ولرسوله، وهو قاطع في هلاكه على الكفر، كهامان .
- قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْثَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَبُ لَتَيْكَةِ أَوَلَيْكَ الْأَحْزَابُ ) إِن كُلُّ إِلَّا كَذَبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ ص: ١٢ - ١٤] أخبرت الآية أن فرعون كذَّب الرُّسل فاستحق عقاب الله تعالى وهذا قاطع أيضًا.
ه - قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَبُ الرَّيْسَ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ
خواطر دينية جـا
۳۹
وَإِخْوَانُ لُوطٍ ) وَأَصْحَبُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبعَ كُلَّ كَذَبَ الرُّسُلَ فَقَ وَعِيدِ [ق: ١٢-١٤] هذا مَا كُل
أيضًا خبر بأن فرعون كذَّب الرسل فاستحق العقاب، وهو قاطع في الموضوع. ٦- قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولَا شَهِدًا عَلَيْكُمْ مَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَهُ أَخَذَا وَبِيلًا ﴾ [المزمل: ١٥-١٦] شديدا، وهذا أيضًا خبر صريح.
- قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَيْهِ غَيْرِي فَأَوْقِدْلِي يَنهَمَنُ عَلَى الدِّينِ فَاجْعَل فِي صَرحا بناء عاليا مرتفعا : لعَلى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَذِبِينَ ( وَاسْتَكْبَرَهُوَ وَجُنُودُهُ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أيقنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ للحساب والعرض فَأَخَذْنَهُ وَجُنُودَهُ، فَنَبَذْنَهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الظالمين الكافرين وَجَعَلْنَهُمْ أَبِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ بدفع العذاب عنهم وَأَتْبَعْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعَنَ وَيَوْمَ القيمة هم مِن الْمَقْبُوحِينَ ﴾ [القصص: ٣٨-٤٢] المشوهين بالعذاب، أو المبعدين من الرحمة، وهذا أيضًا خبر صريح قاطع.
- قال الله تعالى: هل قد أَنَنكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَتْهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المقدس اسمه طلوى أذهَبْ إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى تجاوز الحد في الكفر فَقُلْ هَل لكَ إِلى أَن تَزَكَّى ) وَأَهْدِيكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) فَأَرَتْهُ الْآيَةَ الكبرى وهي
العصا
فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى ) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) فَأَخَذَهُ اللَّهُ
٤٠
الأدب والمتفرقات
نكال الآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ [النازعات: ٢١ - ٢٥] وَالْأُولَى وهي قوله: مَا عَلِمْتُ
-
لَكُم مِّنْ إِلَه غيرى [القصص: ۳۸] وكان بينهما أربعون سنة، ولو قبل إيمانه ما أخذه نكالا، ولا أخذا وبيلا كما مضى في آية المزمل.
٩- آيات في (سورة هود) و(الإسراء)، و(طه)، و(العنكبوت)، و (الحاقة)، و(الفجر)، وغيرها تصفه تارة بالكفر والتكذيب، وتارة بإضلاله قومه، وتنظمه تارة مع عاد وثمود وقارون في سلك واحد، وأخرى تدرجه مع من أهلكوا بالغرق أو الخسف أو الصيحة.
١٠ - مَنْ تتبع أسلوب القرآن الكريم في سياق أخبار الماضين، وقصص الأولين، استخلص منه قاعدة هامة تنفعه في هذا البحث وما يماثله، وهي: أن القرآن إذا ذكر قومًا أو شخصًا بالكفر والتكذيب، وأخبر عن إهلاكهم، وكرر ذلك، فهو دليل على أنهم هلكوا كفارا خاسرين، خذ لذلك مثلا قوم نوح، عاد، ثمود، قوم لوط، مدين، أصحاب الأيكة، قارون، هامان، فرعون، ذكرهم الله بالكفر والتكذيب، والاستكبار والفساد. وأخبر عن إهلاكهم تارةً في سياق واحد، وتارةً متفرقين، فهذا في صنيع القُرآن يدلُّ على أنهم هلكوا كافرين، وانظر إلى قوم يونس كيف تحدث . في قوله تعالى: فلولا فهلا كانَتْ قَرْيَةً أي أهل قرية امنت عند رؤية العذابِ فَنَفَعَهَا إِيمَتها أي لم ينفعها إيمانها حينئذ إلا لكن قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا . عند رؤية أمارة العذاب، ولم يؤخروا إلى حلوله كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: ٩٨] ينقضي فيه آجالهم
*
عنهم
خواطر دينية جـا
٤١
وفي قوله سبحانه: وَأَرْسَلْنَهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَو بل ويزيدُونَ فَقَامَنُوا عند معاينة أمارة العذاب فَمَتَّعْنَتَهُمْ إِلَى حِينِ ﴾ [الصافات: ١٤٨]، ثم لم يذكرهم بعد هذا ولا ذمهم. فلو أن الله قبل إيمان فرعون لسكت عنه كما سكت عن قوم يونس، لكنه ذمه بالكفر ،مرات، وذكر أن امرأته طلبتِ النَّجاة منه ومن عمله، وجعله مثلا للمستكبرين المفسدين، فاحفظ هذه القاعدة النفيسة التي لا تجدها في غير هذا
المكان.
حديث منكر
ورد في حديث: أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو رأيتني وأنا أدس من حال البحر في فم فرعون خشية أن تناله الرحمة». وهذا حديث منكر (۱)
اویلا
وجبريل لا يقول هذا لأنَّه نزل على أم موسى بقوله تعالى: ﴿ يَأْخُذُهُ عَدُوُّلِي وعدو له ﴾ [طه: ٣٩] وهو يعلم أن خبر الله لا يتخلَّف. ولو سُلَّم جَدَلًا أَنَّ الله أراد قبول إيمان فرعون، فلا يستطيع جبريل أن يمنعه بدس الطين في فمه ! وما كانت وظيفته قط منع قبول الإيمان، وبالله التوفيق.
(1) أي متنه منكر، وإن كان إسناده صحيحًا.
٤٢
الأدب والمتفرقات
الرسل المذكورون في (سورة البقرة)
قال الله تعالى: تِلكَ الرُّسُلُ ) تلك اسم إشارة أشير به إلى الرسل المذكورين من أول السُّورة إلى هذا الموضع وهم عشرة آدم وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلَّم فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بتخصيصه بمزية ليست لغيره مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ كموسى بنص القرآن، وآدم بظاهره وصريح الصحيح وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: ٢٥٣] هو محمد صلى الله عليه وآله
وسلم .
كنَّى
الحديث
عنه تفخيما وتعظيمًا، وتنكير درجات للتكثير والتعظيم، إذ رفعه درجات كثيرة عظيمة منها ختم النبوة به، وعموم رسالته، وإيتاؤه جوامع الكلم، وجعل الأرض له ولأمته طهورًا ومسجدا، وجهاد الملائكة معه، وغير
ذلك.
ويُؤخذ من الآية أمران:
الأول: أنَّ آدم رسول، وهو إجماع، مع أدلة أخرى من الكتاب والسنة،
بينتهما في قصة "آدم عليه السلام" ورسالته إلى أولاده.
الثاني: أنَّ سليمان عليه السلام رسول، وذكر أيضًا في آية: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
كما أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّنَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [النساء: ١٦٣ ] وفي آية وَتِلْكَ حُجَّتُنَا [الأنعام: ٨٣]. وبالله التوفيق.
خواطر دينية جـا
بنو إسرائيل لم يعودوا إلى مصر بعد غرق فرعون
٤٣
قال الله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَمَّنَ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: o] هم بنو إسرائيل كانوا مستذلين في أرض مصر وَنَجْعَلَهُمْ أَبِمَّةً يقتدى بهم وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين أرض الشام ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أرض الشام ونُرِى فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: ٦] يخافون من المولود الإسرائيلي الذي يكون هلاكهم على يديه.
ولأجل أن يرثوا أرضَ الشَّام، أمر الله موسى وهارون أن يطلبا من فرعون
إرسالهم معهما، قال تعالى: فَأَنْبَاهُ فَقُولَا إِنَّ رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَ يلَ [طه: ٤٧] إلى الشام فكفر فرعون وأبى إرسالهم لأنه كان يستخدمهم، فأرسل الله عليهم الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْعُمَلَ وَالصَّفَادِعَ وَالدَّمَ ﴾ [الأعراف: ١٣٣] فطلبوا من موسى أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم، ووعدوا بالإيمان وبإرسال بني
إسرائيل ثم نكثوا فأغرقهم الله، وأورث بني إسرائيل أرض الشام. قال تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا العذاب المذكور قَالُوا يَمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَن كَشَفْتَ عَنَّا الرَّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَ معك بني إِسْرَاءِيلَ ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَلِغُوهُ إِذَا هُمْ ينكتون و فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْتَهُمْ فِي الْيَهِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِنَايَتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غفِلِينَ )) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وهم :
بنو
إسرائيل مشرِفَ الْأَرْضِ مفعول ثان لأورثنا وَمَغَرِبَها معطوف
٤٤
الأدب والمتفرقات
عليه التي بَرَكْنَا فِيهَا ﴾ بالماء والشجر، صفة للأرض، وهي الشَّامِ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى هي قوله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَمَّنَ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوافِ الأرضِ [القصص: ٥] الآية. عَلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ بِمَا صَبَرُوا على أذى فرعون وقومِه وَدَمَرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من العمارة وَمَا كَانُوا
يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: ١٣٤ -١٣٧] يرفعون من البنيان. يتبين من هذه الآيات بوضوح أن بني إسرائيل بعد تجاوزهم البحر
ونجاتهم من فرعون أورثوا أرض الشام، ومكن لهم فيها ). ولم يثبت في التَّاريخ أنهم عادوا إلى مصر ومكثوا بها، فضلا عن إن يرثوها ويُمكن لهم فيها، فكيف ساغ للمفسّرين أن يقولوا: أن بني إسرائيل ورثوا
أرض مصر بعد غرق فرعون؟! وعلى أي شيء استندوا؟! القرآن لا يفيد ذلك، والتاريخ لا يثبته.
أما قوله تعالى: فَأَخْرَجْنَهُم مِّن جَنَّتٍ وَعُيُونِ ) وَكُنُوزِ وَمَقَاءِ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَهَا بَنِي إِسْراويل ) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِفِينَ ﴾ [الشعراء: ٥٧-٦٠] فالضمير في
وأورثتها هو منشأ غلطهم، حيث أعادوه على ما ذكر في الآية، ولو تأملوا وَأَوْرَثْنَها ما أوضحناه وتنبهوا له لأدركوا أن الضمير لا يمكن عوده إلى ما ذكر، لمخالفته للآيات الأخرى، ولأدركوا أن المعنى وأورثنا مثيلاتها بني إسرائيل في أرض الشام، ففي الآية شبه استخدام، وهو من المحسنات البديعية.
(1) لكن بعد أن مكثوا في التيه أربعين سنة، ومات هارون وموسى عليهما السلام.
خواطر دينية جـا
٤٥
ويدل على هذا أيضًا أمران:
أحدهما: قوله تعالى: فَدَعَارَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمَ تُجْرِمُونَ (٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِى
ليلا وهم بنو إسرائيل وإنَّكُم تُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوا ) ساكنا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَاءِ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فيها فكهين ) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَهَا قَوْمًا ءَ اخَرِينَ ﴾ [الدخان: ٢٤-٢٨] من قبط مصر، وليسوا بني إسرائيل كما قال المفسرون، وإلا لكان السياق كذلك وأورثناها عبادي الناجين، أو لقيل في الآية بعد ولقد نجيناهم من العذاب المهين بدلا من وَلَقَدْ نَجَيْنَا بَنِي إِسْرَ يلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [الدخان: ٣٠] فدلالة السياق تفيد أنَّ المورث قوم غير بني إسرائيل، والمفسرون غفلوا عن ذلك.
ثانيهما: قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام يخاطب قومه : يَقَومِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا نَرْنَدُوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَسِرِينَ ﴾ إلى قوله تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: ٢١-٢٦]. فهذه الحادثة حصلت بعد خروجهم من مصر؛ لأنهم لما تجاوزوا البحر قاصدين إلى الشام، علموا أن فيها قوما جبارين أشداء فجبنوا عن مقاتلتهم، وقالوا لموسى: إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلَا إِنَا هَهُنَا فَعِدُونَ ﴾ [المائدة: ٢٤] فعاقبهم الله بالتيه مكثوا تائهين في نحو أربعين ميلا من الأرض أربعين سنة، وفي التيه أنزلت التوراة، ورفع الله الجبل فوقهم
٤٦
الأدب والمتفرقات
إنذارًا لهم ليقبلوا أحكامها، وفيه أنزل عليهم المن والسلوى، وظللهم بالغمام وأنبع لهم من الحجر بضرب موسى - اثنتي عشرة عينًا، وفيه عبدوا العجل الذي صاغه السَّامري، وذهبوا ليعتذروا إلى الله من عبادته، فقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، وفيه أيضًا هلك معظمهم عقاباً لهم، وفيه توفى الله هارون عليه السلام رحمة له بمفارقتهم، ومات موسى عليه السلام بعد أن ضاق بمخالفات بني إسرائيل، وكثرة عصيانهم، غير أنه سأل أن يدنيه من الأرض المقدَّسة رمية بحجر ؛ ) ؛ فأدناه.
وبعد انتهاء التيه، أوحى الله إلى يوشع - وكان نبيا - بقتال الجبارين، فذهب بمن بقي معه من بني إسرائيل، وقاتلوا الجبارين وانتصر عليهم، واستقروا بفلسطين من أرض الشَّام، وهي المراد بالأرض في قوله تعالى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ
,(),
لبني اسراءيلَ أَسْكُنُوا الْأَرْضَ [الإسراء: ١٠٤]. أي الأرض المقدسة بالشّام. ولم يثبت أنهم عادوا إلى مصر، ولا يوجد بها شيء من معابدهم ولا أثر من
آثارهم.
الاستخدام
الاستخدام إطلاق لفظ بمعنى، وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، نحو: فسَقَى الغَضَا والساكِنِيهِ وإِن همُ شَبُوهُ بِينَ جَوانِحِي وضُلوعِي أطلق الغضا على شجر ،معروف، وأعاد عليه الضمير في «السَّاكنيه» بمعنى
(۱) «أل» في الأَرْضَ للعهد، والمعنى اسكنوا الأرض التي وعدتكم بها، ومنعكم من الذهاب إليها فرعون
خواطر دينية جـا
٤٧
المكان الذي ينبت فيه، وفي «شبوه» بمعنى النار المشتعلة من أعواده. ومثله قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَا السَّمَةَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَهَا رُجُومَا لِلشَّيَطِينِ * [الملك: ٥]، أطلق المصابيح على النجوم، وأعيد الضمير في وَجَعَلْتها بمعنى الشهب المنفصلة عن النجوم كالقبس، فتصيب الشَّياطين، كما قال تعالى في آية أخرى : إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِب [الصافات: ١٠) وهو من المحسنات اللفظية في علم البديع.
والآية الكريمة لما ذكرت أن فرعون وقومه تركوا جنات وعيونا وزروعا، وكان في الشام مثيلات لها ؛ أعادت الضّمير بهذا المعنى، فكان فيها محسنان: معنوي، وهو الإيجاز؛ إذ لو ذكر الكلام على الأصل لقيل: كذلك وأورثنا بني إسرائيل مثيلاتها في أرض الشام، وهو طويل لا داعي إليه.
ولفظي، وهو شبه الاستخدام وإنما قلنا شبه؛ لأن الضمير عاد على الجنات والعيون والزروع بمعناها، لكن مع اختلاف المكان، إذ المتروكة
بمصر، والموروثة بالشام، ومن هنا كان شبه الاستخدام.
معنى خيانة امرأتي نوح ولوط
قال الله تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتَا تَحتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: ١٠].
زعم بعض الجهلة ممن تسَوَّروا التفسير بغير عِلْمٍ، أنَّ المراد بالخيانة هنا: الزنا. وزاد فأكد بأن الله قال لنوح حين شفع لابنه : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك ا
٤٨
الأدب والمتفرقات
[هود: ٤٦] أي هو ابن زنا، كذا قال !!
وهي مقالة شنيعة تدل على جهل بمقام النبوة، وبما يجب له من تكريم
وإعظام، وإني أبرأ إلى الله من هذا القول وصاحبه.
وليست الخيانة هنا إلا المخالفة في العقيدة ومساعدة الكفار على زوجيهما، وهو خلافُ ما تقتضيه العشرة الزوجية من صفاء المودة؛ وحسن المراعاة، والدليل على ذلك أمور:
الأول: أن امرأة نوح كانت ترمي زوجها بالجنون، وتساعد قومها عليه في شتمه وإيذائه، وامرأة لوط كانت تدلّ قومها على ضيوفه إذا كانوا حسان الوجوه، لم ينقل عنهما غير ذلك.
الثاني: لو ثبت عليهما شيء من الزنا، لأسرع قومهما إلى تعييرهما به،
والتشنيع عليهما، لكنهم لم يعرجوا على ذلك بحال.
الثالث: أن من يقع الزنا في بيته وهو لا يشعر، كيف يكون أهلا لأن يدعو أمة؟ ويتزعم شعبا ؟ ! الرابع: أنَّ أقبح عار يلحق الرجل، ويسقط حرمته وكرامته، وقوع الزنا في أهله، فكيف ينسب إلى رسولين كريمين ؟!
الخامس: لا يجوز أن يقعَ الزّنا في بيت نبي يوحى إليه ولا ينتهه الله عليه، هذا محال؛ لأنَّ الله تعالى غيور، يبغض الفاحشة لعوام الناس، فكيف يرضاه في
بيت رسول يختاره لتلقي وحيه ودعوة الناس إلى توحيده وإقامة دينه؟!
السادس:
أنَّ من الشروط التي يجب عقلا توافرها في الرسل: الفطنة
والذكاء، والذي يقع الزنا في أهله وهو لا يشعرُ، يكون بالغ النهاية في الغفلة
خواطر دينية جـا
٤٩
والبلاهة، ولا يجوز أن يكون الرسول مغفلاً ولا أبله، بل الغفلة مذمومة في عموم الصالحين، ألا ترى إلى قول عمر رضي الله عنه: «الست بحب والحب لا يخدعني ؟
تجده يتبرأ من الغفلة، كما يتبرأ من الخبث، فهو ليس بخبيث، لكنه ليس من
الغفلة بحيث يخدعه خبيث، بل هو فَطِنٌ حَذِرٌ، شأن بقية إخوانه الصَّالحين. السابع: أن كفر المرأة لا يعيبها ، ولا يلحق زوجها بعار بسببه، لأنه ينشأ من عناد في الرأي أو اعتداد به أو تقليد للآباء، لكن زناها عار يشينها ويشين أهلها، لأنه ينشأ عن اغتلام الشهوة، وانحطاط الخلق، ودناءة الهمة، وسوء
التربية. ولهذا لما جاءت هند زوج أبي سفيان لتسلم -وهي من العنيدات في الشرك، المفتخرات به وعرض عليها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيما عرض ولا تزنين قالت مستنكرة: أوتزني الحرّة؟!
فمن ثم جاز أن تكون زوج النبي كافرة، ولم يجز أبدا بحال أن تكون زانية. الثامن: أَنَّ الله تعالى قال: وَنَادَى نُوحٌ أَبْنَهُ، وَكَانَ فِي مَعْزِل ﴾ [هود: ٤٢]
فنسبه إلى أبيه، وهو دليل قاطع على أنه ابنه، وأن أمه لم تزن به.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا الَ لُوطٍ غَيْتَهُم بِسَحَرِ ﴾ [القمر: ٣٤] فنسب الآل إليه، ومن بناته، فدل على أنهم آله حقيقة، وأن زوجه لم تزن بهن
وإن كانت كافرة.
أما قوله تعالى: قَالَ يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِك ﴾ [هود: ٤٦] فليس المراد به
الأدب والمتفرقات
نفي الولد منه، لأنه نسبه إليه أولا، فكيف ينفيه؟ هذا خلف! وإنما المراد: ليس
من أهلك الموعود بنجاتهم، لكفره، والكفّار لا نجاة له، ولا شفاعة تقبل فيه. والخلاصة: أنَّ ما نسب إلى امرأتي نوح ولوط من الزنا يبطله العقل، ويرده النقل، ويستقبحه العرف، وأنَّ قائله خالف الدين، وجانب الواقع، وباين الذوق. فتنة داود عليه السلام
قال الله تعالى: وَهَلْ أَتَنكَ نَبوُا الْخَصيم خبر هم إِذْ شَورُوا الْمِحْرَابَ
محراب داود عليه السلام، وهو مسجده الذي أعده للصلاة في بيته. وكان قد رتب أيام الأسبوع، فجعل يوما للقضاء بين الناس، ويوما للعبادة،
ويوما لأهله، ويوما ينظر فيه شئون معايشه، لأنه كان يأكل من عمل يده. وجاء هؤلاء الخصومُ في يوم العبادة، فمنعهم الحرس من الدخول، وهم مستعجلون يريدون الفصل في قضيتهم، فتسوروا المحراب و إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ ففزع منهم حيث نزلوا من جهة السقف، وظن أنهم يريدون به شرا، إذ الملك لا يخلو في العادة ممن يقصده بالشَّر من رعاياه قالُوا لَا تَخَفْ لا نقصدك بشر، نحن خَصْمَانِ فريقان، أو شخصان، كانت بيننا مشاركة في نعاج، واختلفنا فيها بحيث البَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُر بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِط لا تُجر وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاط أرشدنا إلى وسط الطريق، فاطمأن وسألهم عن قضيتهم، فقال أحدهم: إِنَّ هَذَا أَخي :أي: إسرائيلي مثلي وَلَهُ يَسْعُ وَتَسْعُونَ نتجة حقيقة، لا كناية عن النساء كما قيل، وَلِى نَعْمَةُ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ﴾
خواطر دينية جـا
۵۱
اجعلني كافلها بأن أضمها إلى نعاجي وعَزَّني غلبني فِي الْخِطَابِ أي
الجدال بقوة منطقه قال داود مصدرًا حكمه بعد موافقة الخصم على كلام
:
خصمه، أو ثُبوت البينة عليه لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُوَالِ نَعْجَتِكَ ليضمها إلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخلطاء الشركاء لبغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فلا يبغون، والبغي الظُّلم، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ «ما» لتأكيد القِلَّة وظن أيقن دَاوُدُ أَنَّمَا فَنَتَهُ ابتليناه بالفزع الذي حصل منه حين تسور الخصوم عليه المحراب، وما كان ينبغي له الفزع من المخلوق وهو في حضرة الخالق وعبادته فَاسْتَغْفَرَرَبَهُ من فزعه الذي لا يليق بمنصبه وَخَرَ راكعا
ساجدًا وَأَنَابَ [ ص: ٢١-٢٤] رجع إلى الله. فتبين من سياق القصَّة أنه كانت خصومة بين شركاء في نعاج حقيقة، وأنَّه لم يحصل من داود قبلها ما يستوجب لومه أو عقابه، وكل ما حصل منه فزعه
من الخصوم الذين هبطوا عليه من جهة السقف والفزع غريزة بشرية. فقد قال موسى وهارون من قبله ورَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى [طه: ٤٥] وما من رسول إلا وقد خاف إذاية قومه، غير انه اعتبر فزعه من المخلوق وهو بين يدي الخالق لا يليق بمنصبه الكريم، وعده ابتلاء وامتحانا، فاستغفر الله منه.
ولا أصل لما جاء في الإسرائيليات أنه نظر من طاق بيته فرأى امرأة عريانة تغتسل، فأعجبته، فسأل عنها، فقيل له: إنها امرأة شخص يقال له: أوريا، فبعثه إلى الحرب ليقتل، فانتصر وعاد، فبعثه ثانية وثالثة، حتى قتل، وتزوج امرأته،
or
وكان له تسع وتسعون امرأة.
الأدب والمتفرقات
وقيل: بل كانت خطيبة أوريا، فبعث داود يخطبها، ولم يعلم بخطبتها، فآثره أهلها على خطيبها الأول، فزوجوها له، وهي أم سليمان، فبعث الله إليه مَلَكَيْنِ، في صورة رجلين يختصمان في نعاج كنيا بها عن الزَّوجات، فلما قضى لهما صعدا إلى السماء، وهما يقولان قضى الرَّجل على نفسه، فأدرك خطأه وتاب. وبعضهم قال في خطأ داود إنَّه قضى للخصم قبل أن يسمع كلام خصمه، وبعد الحكم أدرك خطأه وتاب، وهذا باطل أيضًا، لأنَّ من البدهيات في القضاء ألا يحكم القاضي إلا بعد سماع الخصمين وإبداء حُجَجهما والموازنة بينهما، فكيف يخفى هذا الأمر البدهي على نبي آتاه الله الملك والحكمة وفصل الخطاب؟! والحاصل : أنَّ ما ذكرناه في فتنة داود عليه السلام، هو الصواب، فتمسك
به، وانبذ سواه، وبالله التوفيق.
فتنة سليمان عليه السلام
فتنة سليمان عليه السلام شوَّهتها الإسرائيليات، وحمل عليها المفسرون
قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُريستهِ، جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ ص: ٣٤]. فقالوا في فتنته: تزوج امرأة أحبها كما أحب أبوه والدته من قبله - وكانت تعبد الصنم في بيته بغير عِلْمِه، وكان ملكه في خاتمه -كما يقال في قصص الأطفال - فنزعه عند إرادة الخلاء، ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة، فجاءها جني في صورته، وأخذه منها، وقعد على كرسيه، وعكفت عليه الطير وغيرها. وجاء سليمان في غير هيئته، وقال: أنا سليمان فأنكره النَّاس، ثم توصل إلى
خواطر دينية جـا
۵۳
الخاتم - لعله وجده في بطن سمكة - فرجع إليه ملكه، ونسوا: أولا: أنَّ الجنّي لا يُسمَّى جسدًا، لأنه كان حيًّا لا ميتًا.
ثانيا : أنَّ الجنّي لا يمكن أن يتصوّر في صورة نبي ولا يقدر على ذلك، لما يترتب عليه من المفاسد. ثالثًا: لو جاز للجنّي أن يأتي امرأة سليمان في صورته، ويأخذ منها خاتم ملكه، الجاز أن يزني بها وبغيرها من نسائه، وذلك يبطله العقل والنقل كما سبق. رابعا: أن خاتم ملكه كان خاتم على هيئته أيضًا، فإنَّه لما ذهب، ذهبت هيئته، وأنكره الناس، ولما وجده رجعت إليه هيئته.
خامسا: أنها مع كونها كذبًا غير محبوك - خالية من العبرة، والله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: ١١١]. وإليك قصة فتنة سليمان على حقيقتها: كان له مائة امرأة، فقال يوما لبعض جلسائه لأطوفنَّ الليلة على نسائي، فتأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له جليسه: قل: إن شاء الله. فلم يقل - نسيانا أو عرضت له قضية شغلته - فلم تحمل منهنَّ إلا واحدة، ولدت شَقّ إنسان، فهو الجسد الذي ألقي على كرسيه، فرآه وعلم سبب ابتلائه، ثم أناب. قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله؛ لجاهدوا كلهم فرسانا أجمعون».
والعبرة من هذه القصة : أنَّ الله تعالى يحب من عباده أن يردوا المشيئة إليه
في كل أمورهم، فإذا غفلوا نبههم، بمثل ما هنا.
وحصل شبه ذلك للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم: فقد سأله أهل مكة عن
٥٤
الأدب والمتفرقات
قصة أهل الكهف، فقال: أجيبكم غدًا ولم يقل: إن شاء الله. فأبطأ الوحي عنه
خمسة عشر يوما، ثم نزل قوله تعالى: وَلَا نَقُولَنَّ لِشَأْيْ إِنِّي فَاعِلُ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤] الآية.
أما سؤال سليمان مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فليس حسدا أو حبا للاستثار كما قال بعض المارقين، بل ليكون معجزته على نبوته كما كانت الناقة معجزة صالح، والعصا معجزة موسى، وإنَّما طلب الملك معجزة؛ لأنه رسول إلى اليهود، وهم عبيد المال، فلا يخضعهم إلا مظاهر الملك وبريق الذهب، وانظر إلى عيسى عليه السلام حين جاءهم بالزهد والتقلل، حاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السَّلام، وما خضعوا لموسى عليه السلام إلا لشدته عليهم، فقد كان يسوقهم سوق العبيد بالعصا، وكانوا يستضعفون هارون عليه السلام، كما جاء في قوله: ﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾ [الأعراف: ١٥٠] والله أعلم.
فرعون كان يستخدم السحرة مجانا
قول الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَبِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْعَلِمِينَ ﴾ [الشعراء: ٤١] يفيد أنه كان يستخدمهم من غير أجر، وقولهم له: إِنَّاءَ امَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَينَا وَمَا أَكْرَهُتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السَحْرِ ﴾ [طه: ٧٣] يُفيدُ أنَّه كان يكرههم على السحر تعلما وعملاً، فاعجب لإله يستكره عابديه على العمل لمصلحته، ويأكل عليهم أجورهم!!
خواطر دينية جـا
٥٥
موسى لم يدرك شعيبا عليهما السلام
().
قال كثير من المفسرين في المرأتين اللتين سألهما موسى عليه السلام حين
ورد ماء مدين: قَالَ مَا خَطْبُكُما قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الزِعَاهُ وَأَبُونَا شَيْخُ كبير [القصص: ۲۳] أنهما ابننا شعيب عليه السلام، لكن ليس في القصة ما يومئ إلى ذلك سوى ذكر مدين، وهذا ليس بدليل، ومن المستبعد ألا تشير المرأتان إلى نبوة أبيهما، كما لم تشر إليه الآية إطلاقًا، وليس في إخفائه حكمة، فقد ذكر الله لوطا مع إبراهيم، ويعقوب مع إسحاق، وهارون مع موسى،
ويوسف مع يعقوب، ويحيى مع عيسى عليهم السلام فلِمَ أخفى شعيبا؟! ثم إنّي تأملت (سورة الأعراف)، فوجدتها ذكرت نوحًا وهودًا وصالحا ولوطا وشعيبا على هذا الترتيب، وقالت بعد ذلك: ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُوسَى نايَتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَايْهِ فَظَلَمُوا بِهَا ﴾ [الأعراف: ١٠٣] فأفادت الآية أن موسى
بعد شعیب عليهما السَّلام فلا أدري كيف غفل عنها المفسرون؟! وفي (سورة الحج ) : الله وَإِن يُكَذِبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادُ ونمود ) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَبُ مَدينَ وَكُذِبَ مُوسَى } [الحج: ٤٢ - ٤٤] وبهذا الترتيب ذكروا أيضًا في (سورة هود).
فلهذا أرجح أن الشَّيخ الكبير والد المرأتين ليس شعيبا عليه السلام، وما
يذكر في ذلك من الحديث ليس بصحيح، والله أعلم.
(1) وهو قول الحسن ومالك بن أنس.
07
الأدب والمتفرقات
نكت في كلام الخضر عليه السلام
قد يُقال: لم قال الخضر عليه السلام في خَرْقِ السفينة: فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبها [الكهف: ۷۹] وفي قتل الغلام فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَهُمَا ﴾ [الكهف: ۸۱]، وفي
إقامة الجدار : فَأَرَادَ رَبُّكَ وهل هو تفنن في العبارة كما قيل؟ أو له حكمة؟ والجواب: أن لذلك حِكمة، هي - والله أعلم - أنه لما كان خرق السفينة عيبا - بحسب الظاهر - نسب إرادته إلى نفسه، ولما كان الباعث على قتل الغلام خشيته أن يرهق أبويه - وهو باعث ديني شريف- ناسب أن يقابلها بإرادته خلفا عنه خيرا منه لهما، فيكون الباعث على القتل والغاية منه متحدي المصدر، ولشرف الباعث عبر بنون الجمع في فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا ، ولما كانت إقامة الجدار خيرا محضا نسب إرادتها إلى الله تعالى. وهذا هو الأدب الواجب أن ينسب العبد الخير إلى الله، والشر إلى نفسه. قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فِينَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ (1) [النساء: ٧٩]، وفي الحديث والخير كله بيديك والشر ليس إليك». هذا ما ظهر لي في توجيه كلام الخضر، مما فتح الله به علي، وله الحمد.
(۱) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ) أي : نعمة كخصب ورخاء وغنى فمن فضل الله، وَمَا أَصَابَكَ من سنة أي : نقمة كجدب وبؤس وفقر، فمن نفسك أي: بسبب عصيانك، وليس المراد بالحسنة والسيئة: الطاعة والمعصية، كما يفهم كثيرون خطأ، انظر كتابنا "بدع
التفاسير".
خواطر دينية جـا
الفرق بين اسطاعوا، واستطاعوا
وقع السؤال عن الحكمة في قول الله تعالى في سد ذي القرنين: فَمَا
أَسْطَعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَعُوا لَهُ نَقْبا } [الكهف: ٩٧]
-
والجواب: أنَّ الحِكمة مما يظهر لي والله أعلم أن الظهور على السد لا يحتاج إلا إلى محاولة بالأيدي والأرجل، أو وضع ما يرقى عليه كالسلم، فلذلك عبر فيه باسطاعوا، ولكن نقبه يحتاج فيه إلى معدات النقب، كالفئوس والمعاول، فعبر فيه باستطاعوا، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كما تقرر في علوم العربية.
ولهذا - والله أعلم - لما أراد الخضر أن يُبين لموسى سر تصرفاته، قال له: سَانَبْتُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعِ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: ۷۸] فعبر بتستطع؛ لأن موسى في سرعته بالإنكار عليه، وشدة تشوفه لمعرفة حكمة تصرفاته، لا يقدر على الصبر إلا بمشقة وتكلُّف، وهو حين يحاوله، يحاول أمرًا يخالف طبعه، فكان التعبير بلم تستطع يناسب حاله، ولما اطمأنت نفسه إلى معرفة أسرار تلك التصرفات التي أثارت إنكاره ، وسَكَنَ إليها، صار الصبر ميسورا له، لا يتكلف فيه مشقة، فناسب أن يقول له: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبَرًا
[الكهف: ٨٢].
فمن قال من المفسرين أنه جمع بين اللغتين، لم يتفطن لهذه الحكمة الدقيقة، والحمد لله على ما ألهم وعَلَّمَ.
۵۸
الأدب والمتفرقات
الفرق بين الضياء والنور
قال الحافظ ابن رجب الضّياء نور فيه إحراق، ولذا سمى الله الشَّمس
ضياء، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءُ وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس: ٥] وسَمَّى التَّوراة ضياء، حيث قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاهُ ﴾ [الأنبياء: ٤٨] لأن تكاليفها شديدة، وأحكامها صعبة وسَمَّى القرآن نورا في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ [الأعراف: ١٥٧) لأنَّ أحكامه سهلة ، وتكاليفه سمحة، وبالله التوفيق.
قصة الغرانيق
قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى إيمان الناس، لينجوا من العذابِ، ويعظم له عند الله الثواب، بدليل قوله تعالى: لَعَلَّكَ بَعُ نَفْسَكَ قاتلها عما من أجل أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: ٣] فتمنَّى على حقيقته كما تبين الْقَى الشَّيْطَانُ فِي طريق أمنيته الشبه
والشكوك في عقول الناس حتى لا يُؤمنوا فَيَنسَحُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ أي: يبطله بما يبديه الرسول من المعجزاتِ والدَّلائل ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ ايته يثبتها في قلوب الناس وعقولهم وَاللَّهُ عَليم بما يلقي الشَّيطان حكيم [الحج : ٥٢] في تمكينه من ذلك ليختبر عباده.
(1)
وتفسير الآية بهذا المعنى واضح معقول، يتمشى مع نظم القرآن،
(۱) وهو مضمون ما أملاه القطب الكبير السيد عبد العزيز الدباغ، على تلميذه الإمام
خواطر دينية جـا
۵۹
ويوافق حال الرسل في حرصهم على إيمان الناس.
ولكن كثيرًا من المفسرين عدلوا عنه إلى تفسير آخر، فقالوا: معنى تمنى قرأ، واستدلوا بقول الشاعر:
تمنَّى كِتابَ الله أول ليلة تمني داودَ الزَّبُورَ على رِسْلِ قالوا: والمعنى: إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته ما ليس من الوحي، مما يرضاه المرسل إليهم. قالوا: وقد قرأ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سورة والنجم)، بمجلس من قريش فلما بلغ أَفَرَمَيْمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنْوة الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ) [النجم: ۱۹ - ۲۰] ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم بغير علمه به «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي ففرح
المشركون، ولما قرأها على جبريل عليه السلام، قال له: ما أتيتك بهذا. فحزن صلَّى الله عليه وآله وسلّم فأنزل الله هذه الآيات من (سورة الحج)
يسليه بهن.
فهذه القصة - وتُسمَّى قصة الغرانيق - منكرةٌ باطلة، وإن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لها طريقان صحيحان مرسلان»، لأن ما يمس العصمة ويتصل بصميم العقيدة، لا تقبل فيه المسندات الصحيحة، فضلا عن المراسيل. وأول نكارة في تلك القصة تسلط الشيطان على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم بإلقاء شيء على لسانه وهو لا يعلمه، مع أنَّ من البدهيات العقلية
عصمة النبي من الشيطان، فكيف تمكن منه في هذه الحادثة؟!
العلامة أحمد بن المبارك اللمطي، وسجله في كتاب "الإبريز".
الأدب والمتفرقات
هل كان نائما؟ لنفرض ذلك، فهو معصوم في نومه، ولذا كانت رؤيا الأنبياء وحيا يعمل بها في التشريع، كما في قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام.
ثم كيف خَفِيَ عليه الفرق بين إلقاء الملك؟ وإلقاء الشيطان؟!
ولئن جاز الاشتباه عليه في هذه الحادثة، جاز الاشتباه في غيرها، فترتفع الثقة بالوحي، ثم كيف خَفِيَ عليه تناقض الكلامين؟ إذ الأُخْرَى صفة ذم، وكلام الشيطان المقمم للمدح، وهل يجوز في عقل أن يمتزج كلامان متناقضان على لسان أفصح العرب وأعلمهم بكلام الله تعالى، ثم لا يشعر بتنافُرها؟! ثم بعد هذا كله كيف يسلي الله نبيه بأن جميع الرسل تمكن الشيطان أن يلقي
مقطع
على لسانهم ما لم يوح إليه ؟! وما معنى العصمة الواجبة لهم عقلا ؟! وبعضهم أراد تقليل نكارات القصَّة ، فقال : لم يقل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ذلك الكلام، ولا ألقي على لسانه، وإنما كان من عادته أن يسكت عند كل آية حين يقرأ القرآن، فتحيَّن الشَّيطان سكوته عند: الثَّالِثَةَ الأخرى فتكلم بتلك الجملة، بقراءة تشبه قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألقاها في أسماع المشركين، فظنوها قراءته صلى الله عليه وآله وسلم، ففرحوا. وهذا وجه قريب، لكن يبطله أمور: أحدها: أنَّ الشَّيطان لا يتمثل بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم في شيء من أموره، بمعنى أنه لا يقدر على ذلك ولا يتمكن منه حفظا لمقام النبوة من الخلط والاشتباه، ولذا صح في الحديث: «مَنْ رآني في المنام فقد رآني حَقًّا، فإن الشيطان لا
خواطر دينية جـا
٦١
يتمثل بي». وفي رواية: «فإنَّ الشيطان لا يتكونني» وهو حديث مشهور. مع أن الشيطان قد يظهر لبعض الناس في اليقظة أو المنام، فيدعي أنه الله، ولا ضرر في ذلك، إذ العقل يقضي بتنزه الله عن سمات المُحْدَثاتِ، فكذبُ الشيطان في دعواه هذه واضح لا يحتاج إلى بيان.
ثانيهما: تنافر كلام الله وكلام الشَّيطان والمشركون عرب فصحاء لا يخفى عليهم ذلك.
ثالثهما: أنَّ الشَّيطان لا يفعل ما يؤدّي إلى التقارب بين النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وبين المشركين، بل هو يعمل على عكس ذلك. وبالجملة فالقِصَّةُ مُنكَرةٌ باطلة كما قال ابن العربي وعياض وغيرهما، وبالله
التوفيق.
معنى آية العفو
قول الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أذنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَذِبِينَ } [التوبة: ٤٣] قال فيه بعض المفسرين: ذكر العفو يؤذن بالجريمة وبئس ما قال!
والعجيب أنه من المعتزلة الذين يرجعون العصمة للنبي قبل النبوة
وبعدها، فكيف سقط هذه السقطة الشنيعة؟!
والحقيقة أنه لا ذنب ولا جريمة، لسبب واضح، هو أنَّ الذَّنب أو الجريمة أو المعصية مخالفة النهي، ولم يسبق من الله : نهي عن الإذن للمنافقين، والنَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم أذن لهم اجتهادًا منه، فكيف تنسب إليه جريمة؟!
٦٢
الأدب والمتفرقات
بل لو فرض أنه أخطأ لكان مثابًا على اجتهاده غير مؤاخذ بخطئه، وهو أ صلى الله عليه وآله وسلّم لم يُخطئ، لأنَّه سلك ما هو الأوفق بخلقه، من التيسير على أصحابه، والميل إلى ستر حالهم وتفويض أمرهم إلى الله تعالى، لكنَّ الله أراد منه أن يكون شديدًا على المنافقين، فهو كقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: ۷۳] فالإذن للمنافقين كان جائزا بحسب الأصل، ثم نسخ بهذه الآية. كما كان الاستغفار لهم والصَّلاة عليهم جائزين، ثم نُسخا بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا نَقُمْ عَلَى قبروة } [التوبة: ٨٤] وفاعل الحكم المنسوخ قبل نسخه لا يكون عاصيّا، بل هو مثاب مبرور، وقوله تعالى: عَفَا اللهُ عَنكَ [التوبة: ٤٣] استفتاح كلام على عادة العرب في استفتاح مخاطباتهم بهذه الجملة، أو بقولهم: أطال الله بقاءك، ونحو ذلك، ولا يقصدونَ المدلول اللفظي للكلام، وإنما يريدونَ تكريم المخاطب، فهذه الجملة تفيد تكريم النبي لا تحريمه.
معنى آية فداء الأسرى
قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّى يُنْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ [الأنفال: ٦٧] الآية.
قال بعض المفسرين: في هذه الآية دليل على خطأ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه استشار الصَّحابة في أسرى بدر، فأشار أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء منهم، وأشار عمر رضي الله عنه بقتلهم، فمال إلى رأي أبي بكر،
خواطر دينية جـا
٦٣
ونزل القرآن برأي عمر.
لكن لا خطأ في تصرف النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، لأنه مال إلى الأوفق بطبعه، وهو التيسير، وترك التفسير، ثم ترتب على ذلك خير كثير؛ لأن كثيرا من الأسرى الذين دفعوا الفداء أسلموا بعد، وحسن إسلامهم، ولهذا لم يوجه الله لوما لنبيه، وإنما لام الصَّحابة لأنهم قصدوا بالفداء الناحية المادية
فقال تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [الأنفال: ٦٧]. يؤيد هذا ما ثبت في الصحيح أنَّ عمر رضي الله عنه دخل على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قبته يوم بدر، فوجده يبكي هو وأبو بكر رضي الله عنه فسأله عن سبب بكائهما، فقال: عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» وأشار إلى شجرة قريبة منه، ثم أخذت الآية أن ما حصل من الفداء والغنائم، سبق الكتاب بإحلاله لهم، فقال تعالى: لَوْلَا كِتَبُ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فَكُلُوا مِمَّا عَنِمْتُمْ حَلَلَا طَيِّبًا ﴾ [الأنفال: ٦٨-٦٩]. والحاصل : أنَّ ما مال إليه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم ترتب عليه ثلاثة
أمور:
الأول: موافقة الكتاب السابق بذلك.
الثاني: إسلام كثير من الأسرى الذين دفعوا الفداء.
الثالث: إحلال الغنائم، فعمل تترتب عليه هذه النتائج العظيمة، لا يكون
خطأ أبدا، وبالله التوفيق.
34
الأدب والمتفرقات
قصة زيد وزوجه زينب
قال الله تعالى يخاطب نبيه: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق، وهو زيد بن حارثة؛ كان من سبي ا الجاهلية، فاشتراه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة، وأعتقه وتبناه أمسك عَلَيْكَ زوجك زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ في طلاقها، وكان عازما عليه،
لتعاليها عليه بحسبها ونسبها وتخفي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ من وقوع حبها في قلبك حين نظرت إليها بعد زواج زيد بها، وقلت في نفسك لو فارقها زيد تزوجتها» وَتَخشَى النَّاسَ أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ ﴾ [الأحزاب: ۳۷] في كل شيء، فتزوجها ولا تهتم بكلام
الناس.
هكذا قال كثير من المفسرين، وهو صحيح إلا قولهم: إِنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نظر إلى زينب بعد زواج زيد بها، فوقعت في قلبه... إلخ، فإنه غير صحيح، بل هو باطل، لوجوه: الأول: أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم، كان يرى زينب قبل زواجها،
وهي بنت عمته ، فلِمَ يقع حبها في قلبه إلا بعد زواجها؟! الثاني: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، هو الذي خطبها من أخيها عبد الله، وكان يمكنه أن يخطبها لنفسه لو أرادها، بل كان هذا أملها وأمل أخيها حين خطبها منه، فلما صرح لهما بزيد، أبيا، فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: ٣٦] فقالا
خواطر دينية جـا
70
رضينا بأمر الله ورسوله.
الثالث: أن حكم التبني كان إذ ذاك قائما، لم يبطله إلَّا الإسلام بعد، ولم يكن
النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لينظر إلى زوج ابنه المتبنى نظرة حب وشهوة. الرابع: أنه لو كان ما زعموه صحيحًا، لكان قوله لزيد: أمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ﴾ [الأحزاب: ۳۷] نفاقًا؛ لأنَّه أظهر بلسانه خلاف ما يُضمره في نفسه لكن الله عصم نبيَّه من ذلك.
الخامس: أنَّ الله لم يبد حبَّ النبي لزينب، ولا ميله إلى طلاقها ليتزوجها،
فمن أين أتوا به؟ وكيف أقحموه في تفسير الآية؟!
السادس: أنَّ ما أخفاه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم وأبداه الله تعالى، هو أمره بزواج زينب ليبطل حكم التَّبني، هذا ما صرحت به الآية، لا شيء آخر غيره، فكيف يعدلون عن صريح القرآن إلى روايات لا زمام لها ولا خطام؟! النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق
مما يدل على قدر نبينا في القرآن الكريم أمور:
الأول: أنَّ الله لم يناده إلا باللقب الدَّال على التعظيم: يَتَأَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: ٦٥] يَتأَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ [المائدة: ٤١] يَأَيُّهَا الْمُزَّمَلُ ﴾ [المزمل: ١] ياتها المدير [المدثر: 1] ونادى غيره من الأنبياء بأسمائهم تَنَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ [البقرة: ٣٥] يَنُوحُ اهْبِطَ بِسَلَهِ مِنَا وَبَرَكَاتِ ﴾ [هود: ٤٨] ابرهيم أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ [هود: ٧٦] يَمُوسَى أَقِبِلْ وَلَا تَخَفْ ﴾ [القصص: ۳۱] يَدَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾ [ ص: ٢٦] يَعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى
٦٦
الأدب والمتفرقات
وَمُطَهَرُكَ ﴾ [آل عمران: ٥٥].
الثاني: نهى الله الأمة أن تناديه باسمه فقال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ كُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ﴾ [النور: ٦٣] قال ابن عباس: كانوا يقولون: يا
محمد، يا أبا القاسم، فلما نزلت الآية، قالوا: يا نبي الله ، يا رسول الله . وحكى الله تعالى عن الأمم السابقة أنهم كانوا ينادون أو يذكرون أنبياءهم بأسمائهم قَالُوا مُوسَى أَجْعَل لَّنَا إِلَهَا ﴾ [الأعراف: ۱۳۸] إِذْ قَالَ الْحَوَارِثُونَ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [المائدة: ۱۱۲] قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَنَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: ٤٤] .
الثالث: أنَّ الله تعالى أقسم بحياته، فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكَرَ فِيهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: ٧٢] ولم يقسم بحياة ملك ولا رسول سواه، ومن هذا أخذ الإمام أحمد في أحد قوليه أنَّ اليمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم تنعقد، وفيها الكفارة. الرابع: كان من لغة الأنصار وغيرهم من بعض قبائل العرب في الجاهلية أن يقول الشخص لمن يخاطبه راعني سمعك، فقالها اليهود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصدين سبه بالرعونة -وهي الحمق- فنهى الله المسلمين الذين كانوا يقولونها بحسن نية، فقال تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقُولُوا في مخاطبتكم للنبي راعنا و لكن قُولُوا أَنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ [البقرة: ١٠٤] وذم اليهود على قصدهم الشيئ بهذه الكلمة، فقال: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا من هم اليهود يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَيَقُولُونَ للنبي سَمِعْنَا
!
خواطر دينية جـا
۶۷
قولك وَعَصَيْنَا أمرك وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع دعاء عليه، أي لا سمعت و يقولون له أيضًا رينا وهي سب بالحمق في قصدهم وليا تحريفا يا ليسلَئِهِمْ وَطَعْنَا ) قدحًا في الدين الإسلام بسب النَّبيِّ والقدح فيه وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا ) له وسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا بدل «وعصينا» وأسمع ولم يقولوا: غير مسمع» وانظرنا بدل وراعنا» لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقومَ لما قالوه وَلَكِن لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: ٤٦].
وفي الآية دليل على أمر آخر، وهو:
الخامس:
: أنَّ الله تعالى جعل سبَّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم طعنًا في
الدين والطاعن في الدين كافر، فساتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم كافر،
وعلى هذا إجماع العلماء.
السادس:
أنَّ بعض الرسل كانت لهم زوجات كافرات، كنوحٍ ولوط
عليهما السلام، ونبينا حرَّم الله عليه نكاح الكافرات، فكانت زوجاته مؤمنات كلهنَّ رضي الله عنهنَّ.
السابع: أنَّ الله جعل زوجاته أمهات المؤمنين، قال تعالى : النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَهُمْ ﴾ [الأحزاب: 1].
الثامن: أنَّ الله تعالى حرَّم نكاحهنَّ من بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ ذنبًا
الأدب والمتفرقات
عَظِيمًا [الأحزاب: ٥٣].
فمكثن بعده في بيته وعلى نفقته صلى الله عليه وآله وسلم، من فدك وخيبر،
والسر في ذلك: أنه حي في قبره الشريف، والحي لا تتزوج نساؤه. التاسع: أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأمرنا بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٥٦] وهذه رتبةٌ لم ينلها مَلَكُ ولا
رسول.
العاشر: أنَّ الله تعالى أمدَّه بالملائكة جاهدت معه في غزوتي بدرٍ وأُحد، كما
جاء في سورتي (آل عمران) و (الأنفال)، وهذه رتبة لم ينلها رسول قبله. الحادي عشر: أنَّ الله تعالى نصره بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأَلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَأَضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانِ
[الأنفال: ١٢].
الثَّاني عشر: أنَّ الله تعالى يُعطيه قبل أن يسأله، كان صلى الله عليه وآله وسلم يرفع رأسه إلى السماء يريد تحويل القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى عليه قد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: ١٤٤]. وهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بطلاق بعض نسائه خشية أن يكون ميله لغيرها أكثر، فأنزل الله عليه تُرجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ تؤخر من تشاء من
خواطر دينية جـا
79
أزواجك عن نوبتها وتنوى تضم إِلَيْكَ مَن نَشَاءُ منهن وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلتَ عن القسمة فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ [الأحزاب: ٥١]. في طلبها وضمها إليك، فأعفاه من وجوب القسم بينهن، وخيره فيه، حتَّى لا تحرم إحداهن من شرف انتسابها إليه، وكونها من زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم ولما نزلت هذه الآية قالت له عائشة رضي الله عنها: «أرى ربك يسارع
في هواك».
الثالث عشر: لما اتهم ابن أبي المنافق، عائشة رضي الله عنها، أنزل الله يبرئها ببضع عشرة آية من سورة النور)، افتتحها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالْإِفْكِ عصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًا لَكُم ﴾ [النور: (١١) واختتمها بقوله تعالى: أُولَتيك
مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: ٢٦]. قالت عائشة: كنت أرجو أن يبرئني الله برؤيا يراها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وكنتُ في نفسي أقل من أن يُنزل في شأني قرآن يُتلَى. قلت: لكن الله لشدَّة عنايته بنبيه سجّل براءة زوجه في كتابه الكريم، ليبين
بوضوح طهارة ساحته الكريمة مما يشين. الرابع عشر: لما حصل عن عائشة وحفصة في حقه صلَّى الله عليه وآله وسلم ما يحصل عادةً بين الرجل وأزواجه، خاطبهما الله تعالى بقوله: إن تنوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا مالت إلى تحريم مارية الذي أسره إلى حفصة، وأفشته إلى عائشة، وهو أمر يستوجب التوبة وإن تَظهَرَا عَلَيْهِ تتعاونا على النبي
۷۰
الأدب والمتفرقات
فيهما يكرهه فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَنَهُ ناصره عليكما وَجِبْرِيلُ وَصَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وَالْمَلَيْكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهير ﴾ [التحريم: ٤]، أي: عونا في نصره عليكما.
وهذه الآية تدل على أنَّ الله تعالى يعتني برسوله عناية دونها كل عناية، وأنَّ منزلته عند مولاه لا توازيها منزلة، فما نعلم أنَّ الله تعالى نصر رسولًا على أعدائه
بهذه الصورة الرائعة التي وعد بها رسوله في نصره على زوجيه.
حقا إنها صورة يعجز القلم عن وصفها ويحار العقل في تقدير عظمها! الخامس عشر : حكى الله عن الأنبياء أنَّهم دافعوا عن أنفسهم تهم قومهم لهم، فنوح، قال: يَنقَومِ لَيْسَ فِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * [الأعراف: ٦٧] وموسى ، قال لفرعونَ: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَارَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَفِرْعَوْنُ مَقْبُورًا ﴾ [الإسراء: ۱۰۲] هالكا، وهكذا لوط وشعيب وغيرهما.
ونبينا تولّى الله الدفاع . عنه، قال له المشركون: لَسْتَ مُرْسَلًا ﴾ [الرعد: ٤٣] فرَدَّ الله عليهم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلين [البقرة: ٢٥٢] ووصفوه بالجنون، فردَّ الله عليهم بقوله : مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونِ ﴾ [القلم: ٢] وبقوله: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونِ ﴾ [التكوير : ۲۲] وقالوا له حين أبطأ عليه الوحي - قلاك شيطانك، فردَّ الله عليهم بقوله : مَاوَدَعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: ٣] وقالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرُقين نصراني. فردَّ عليهم: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
خواطر دينية جـا
۷۱
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ مُّبِين ﴾ [النحل: ١٠٣] وأنكر اليهود نبوته
:
حين سئلوا عنه، فأنزل الله ردا عليهم لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلَيْكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: ١٦٦].
ولما مات ابنه إبراهيم عليه السلام، قال المشركون بتر محمد، فأنزل الله ردا عليهم (سورة الكوثر)، قال فيها: إن شَانِك مبغضك هُوَ الأبتر ﴾ [الكوثر : ٣].
وهكذا لا تجد المشركين أو اليهود، وجهوا تهمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ردها الله عليهم أبلغ رد، وكذبهم فيها أقبح تكذيب، ولم يفعل ذلك
مع رسول ،قبله، وإلى هذا أشرت بقولي في الاستغاثة الآتية بعد:
نبي تولى الله عنه دفاعه وخَيَّبَ قوما قد رَمَوْهُ بِجُنَّةِ السادس عشر : أن الله تعالى دافع عن أصحابه، تكريما له عليه الصلاة والسَّلام، اقرأ قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ عَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السُّفَهَاء يقصدون أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى يرد عليهم أبلغ رد: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٣] ولم يدافع عن أصحاب رسول قبله. السابع عشر: أنَّ الله تعالى زكى جملته بقوله: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَ صَاحِبُكُمْ وَمَا عَوَى وزگی نطقه بقوله: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يوحَى وزكى علمه بقوله: ﴿ عَلَمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مرة [النجم: ٥ - ٦] وزكى
۷۲
الأدب والمتفرقات
قلبه بقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَارَأَى ﴾ [النجم: ۱۱] وزگی بصره بقوله: مَازَاغَ البصر وما طفى [النجم: ۱۷] ثم زكى خلقه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم: ٤]، فزگاه جملة وتفصيلا، وما زكى رسولا بهذه الكيفية.
الثامن عشر : أنَّ الله تعالى جعله خاتم النبيين، قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا
أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠].
التاسع عشر: أنَّ الله تعالى أرسله للعالمين الإنس والجن، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]، وفي
(سورة الرحمن توجّه الخطاب بالبشارة والإنذار للإنس والجن جميعا. العشرون: أنَّ الله تعالى أرسله رحمة للعالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: ۱۰۷]. ومعنى ذلك أنَّ الله تعالى دفع برسالته الخسف والمسخ والقذف بالحجارة من السماء، وغير ذلك مما كان في الأمم
السابقة.
الحادي والعشرون: أنَّ الله جعل وجوده في مكان مانعا من نزول العذاب بأهله ولو كانوا أبغض الخلق إلى الله، إكراما له عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالُوا أي مشركو مكة اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا ما أتى به محمد هُوَ الْحَقِّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ انْتِنَا بِعَذَابٍ اليم ﴾ [الأنفال: ۳۲] وهذا منتهى العناد في الكفر يستوجب الغضب والمقت، ونزول العذاب العاجل.
خواطر دينية جـا
۷۳
ذلك قال الله تعالى يخاطب نبيَّه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ ومع
فيهم ﴾ [الأنفال: ٣٣)، هذا تكريم لا يوازيه تكريم.
الثاني والعشرون: أنَّ الله تعالى وجه إنذارًا للملائكة في القرآن الذي أنزل
عليه، قال تعالى: وَمَن يَقُل مِنْهُمْ ) أي : الملائكة وإنتِ إِلَهُ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩].
وبهذه الآية مع آية: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى هَذَا الْقُرْء انُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: ١٩]. الحافظ السيوطي على أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم رسول إلى
استدل
الملائكة، انظر كتابه "الأرائك في إرسال النبي إلى الملائك". الثالث والعشرون: أن الله تعالى أنزل سورًا خاصة تنوه بعظم قدره، مثل
(سورة الفتح)، و(الضُّحى)، و(الانشراح)، و(الكوثر)، و(النصر). الرابع والعشرون: أنَّ الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين أن يؤمنوا به وينصروه، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِشَقَ النَّبِيِّينَ لَمَاءَ اتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَتَنصُرُنَّهُ وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم قَالَ أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى عهدي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَأَشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّهِدِينَ ) فَمَن تَوَلَّى أعرض بعد ذالك الميثاق من أتباعكم فَأُولَتيك هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: ۸۲،۸۱]. وفي هذا تنويه كبير بقدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وإليه الإشارة بقولي في الاستغاثة:
٧٤
الأدب والمتفرقات
وفي آيةِ المِيثَاقِ عَهْدٌ مُؤكِّدُ من الله للرُّسُلِ الكِرامِ بِجُمْلَةِ يقاربه ما حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } أي: أهل البيت الحرام رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: ١٢٩] فاستجاب الله تعالى دعاءهما بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم .
وما حكاه عن التوراة والإنجيل وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا فَسَأَكْتُبُها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوْةَ وَالَّذِينَ هُم بِشَايَنَيْنَا يُؤْمِنُونَ ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِي الْأُمَى الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ باسمه ونعته يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَنْهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَتِ مما حرَّم في شرعهم وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ كالميتة والخنزير وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ) ثقلهم وَالْأَغْلَ الشَّدائد الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ كقتل النفس في التوبة وقطع أثر النجاسة من الثوب فالذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وقروه وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: ١٥٦-١٥٧]. وما حكاه عن عيسى عليه السلام وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَنبَنِي إِسْرَاءِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُر مُصَدِ قَالَمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَكَةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف:
٦]. وهؤلاء زعماء الرُّسل وكبراؤهم، فأي تنويه يوازي هذا أو يقاربه ؟!
خواطر دينية جـا
Vo
الخامس والعشرون: أنَّ الله تعالى جعل محبته موقوفة على اتباع رسوله وجعل طاعته طاعة له، وأمر بطاعته وطاعة رسوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمُ ) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَفِرِينَ ﴾ [آل عمران: ۳۱ - ۳۲].
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾
[النساء: ٥٩]
من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: ٨٠].
وَمَا الَنَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ [الحشر: ٧].
في آيات كثيرة، وأخبر عن الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وعيسى وغيرهم أنهم أمروا قومهم بطاعتهم حيث قال كل واحد لقومه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: ٥٠].
والسر في ذلك: أنَّ الله تعالى كما تولّى الدّفاع عنه، تولى توجيه الأمر بطاعته، وحيث ترك الأنبياء يدافعون عن أنفسهم ترك لهم توجيه الأمر بالطاعة، وبين المقامين فرق لا يخفى. السادس والعشرون: أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن ذكر رسوله بذكره، نحو: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ٢٧٩].
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
٧٦
الأدب والمتفرقات
الْعِقَابِ } [الأنفال: ١٣].
أَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال : ٢٤].
ولَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [الأنفال : ٢٧].
قلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1].
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾ [التوبة: ٦٢].
وَأَذَانُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَج ﴾ [التوبة: ٣].
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 1].
اور قل إن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّن
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: ٢٤].
أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ﴾ [النور: ٥٠].
إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [الأحزاب: ۲۲] . إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [الأحزاب: ٥٧]. لَا نُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: ١] وفي هذا تشريف كبير لنبينا صلى الله عليه وآله وسلّم، لم ينله رسول قبله. السابع والعشرون: أنَّ الله تعالى أوجب الاستسلام لحكمه، والانقياد له وجعل الإيمان موقوفًا على ذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
خواطر دينية جـا.
VV
شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء: ٦٥]
فهذه الآية أوجبتِ الاستسلام لحكمه استسلاما مطلقا لا معارضة فيه، ومعنى هذا أن حكمه لا يكون إلا صواباً، لأن الصَّواب هو الذي يجب قبوله والذين قالوا: إنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام يخطئ في اجتهاده، غفلوا عن هذه الآية التي ترد قولهم.
وانظر هذه الآية، ووازنها بقول الله تعالى لداود عليه السلام: يَدَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَأَحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
[ ص: ٢٦] تجد الفرق واضحًا بين المقامين، والبون شاسعا بين الخطابين. الثامن والعشرون: أن الله تعالى نهى عن رفع الصوت فوق صوته عليه الصَّلاة والسلام، وعن الجهر له بالقول كما يجهر بعض الناس لبعض، وجعل ذلك موجبا لحبوط الأعمال كالرد، فقال تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ مخافة أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: ٢]. التاسع والعشرون: أن الله تعالى ذم الأعراب الذين نادوه من وراء الحجرات، ولم ينتظروا خروجه من غير أن يزعجوه إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحجرات: ٤ - ٥] لمن تاب منهم.
الثلاثون أن الله تعالى وكل إلى اليهود حفظ التوراة، حيث قال:
۷۸
الأدب والمتفرقات
وَالْأَحْبَارُ بِمَا أَسْتُحْفِظُوا مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: ٤٤]. فأضاعوها وحرفوها حسب أهوائهم، كما سجل الله تعالى عليهم ذلك في غير آية، وكان مصير الإنجيل كذلك، لكنه تعالى تكفل بحفظ كتابه الذي جعله معجزة نبيه الكبرى، فقال جل شأنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحفظون ﴾ [الحجر: 9]فلم يدخله تبديل ولا تحريف، ولن يدخلاه أبدا، فهو
خالد مدى الدهر، يرشد الإنسانية إلى طريق سعادتها، ويسايرها في حضارتها الحقة، وينبه العلماء إلى استجلاء أسرار الطبيعة، واكتشاف خفايا المادة، ويخاطبهم بأن ما وصلوا إليه من ذلك - وإن كان كثيرًا عندهم قل من كثر وغيض من فيض رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: ٨٥] وليس من الكتب المنزلة كتاب يحفظ عن ظهر قلب غيره. قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَرْنَا الْقُرْءَانَ للذكر سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر: فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾ [القمر: ۱۷] فهل من حافظ له؟ ومتعظ به؟ والاستفهام بمعنى الأمر: أي احفظوه واتعظوا به.
(۱)
فلهذه الأمور وغيرها مما يزيد أن نجمعه في كتاب خاص بحول الله تعالى- أجمع العلماء على أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، حتى أن الإمام الرازي وغيره ممن قالوا بأفضلية الملائكة على الأنبياء، صرحوا بأن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم مستثنى من هذا وأنه أفضل من
(۱) وفقني الله إلى تأليف كتاب "دلالة القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين" وهو
مطبوع
خواطر دينية جـا
۷۹
الملائكة بلا نزاع ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا اثنان: أحدهما: ابن حزم، فإنه زعم أن الملائكة أفضل منه، والثاني: الزمخشري فإنه زعم أن جبريل عليه السلام أفضل منه. وهذان القولان في غاية الشذوذ ولو تأمل صاحباهما تلك الأمور التي قدمناها، بإمعان لما خرجا على الإجماع ولا شذا عنه، وبالله التوفيق.
حل إشكال في آية القذف
قوله تعالى في قصة الإفك: لَوْلَا جَاء و عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَيكَ عِندَ اللهِ هُمُ الكَذِبُونَ ﴾ [النور: ۱۳] هذا خاص بعائشة رضي الله عنها،
للقطع ببراءتها حيث برأها الله تعالى.
هو
وكذا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَفِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَيذٍ يُوَفِيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: ٢٣ - ٢٥]. أيضًا خاص بقذف أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وهذا يضاف إلى الأمور السابقة الدالة على علو قدر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، حيث أوجب الله تعالى على قاذف أزواجه اللعنة والعذاب، ولم يذكر في شأنه توبة. أما قاذف غيرهن فقد ذكر الله حكمه في أول السورة، حيث قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَرَيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَلَا نَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةٌ أبداً وَأَوَلَيْكَ هُمُ الْفَنسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[النور: ٤-٥]. وحاصل الحكم المذكور أن من قذف عفيفة بالزنا، إن لم يأت بأربعة شهود
۸۰
الأدب والمتفرقات
شهدوها ،تزني يجلد ثمانين جلدة حد القذف وترد شهادته لفسقه، فإن تاب بعد ذلك قبلت شهادته وزال عنه حكم الفسق غير أنه في حالة جلده ورد شهادته - لا يقطع بكذبه ، الجواز أن يكون صادقًا ولم يقدر على إحضار شهود. والأحكام الشرعية تكون بحسب الظاهر.
وعلى هذا لا مغمز في أبي بكرة حيث جلده عمر رضي الله عنه حد القذف في شهادته على المغيرة بالزنا ولم يكمل نصاب الشَّهادة. على أن الجلد في حالة عدم تمام النصاب، اجتهاد من عمر رضي الله عنه ، غير مجمع عليه. فأبو بكرة صحابي عدل مقبول الشهادة والرواية، وبالله التوفيق.
بعض الحقائق العلمية في القرآن
قال الله تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ ﴾ [يونس : ٦١].
وقال سبحانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَلِم الْغَيْبِ لَا يَعْرُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ
وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ ﴾ [سبأ: ٣].
درج
تفيد هاتان الآيتان أن الذرة تتجزأ وقد توصل إليه العلم أخيرا، بعد أن القدماء على أن الذرة لا تتجزأ، ولم يتفطنوا إلى أن القرآن يشير إلى خلاف
ما يقولون، وهكذا كلما تقدم العلم واكتشف حقيقة، وجد القرآن سبقه إلى
الإشارة إليها . ولنذكر لذلك أمثلة حضر تنا الآن، هذا أحدها.
خواطر دينية جـا
۸۱
والثاني: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: ٦٥].
ورد في حديث أنه لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».
وقد أتى تأويلها الآن في هذه الحروب التي تلقى فيها الطائرات القنابل المدمرة، وتنفجر تحت الأرجل الألغام المهلكة، ووقع التفرق والاختلاف والتطاحن على وجه لم يسبق له مثيل.
والثالث: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ جبالا ثوابت و آن ما لا تعيد
تحميل بكم ﴾ [النحل: ١٥]. يقال: مادت السفينة إذا مالت في سيرها بشدة
:
الموج ، وهكذا تفيد الآية تحرك الأرض مع عدم ميلها لإرسائها بالجبال. والرابع: وَأَرْسَلْنَا الرِّيحَ لَوَقِحَ ﴾ [الحجر: ٢٢] تلقح النبات، تجمع بين ذكره وأنثاه، وفي آية أخرى: فَأَخْرَجْنَابِهِ أَزْوَجَا مَن نَبَاتِ شَتَّى ﴾ [طه: ٥٣] وفي ثالثة وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [الرعد: ٣] فهذه الآيات تشير إلى أن في النبات ذكرًا وأنثى وأن الرياح تلقحه وكل ذلك توصل إليه العلم
أخيرا. والخامس : وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ موزون ﴾ [الحجر: ۱۹] تشير الآية إلى ما اكتشفه العلم أخيرا؛ أن النبات مكون من عناصر بنسب معينة، ومقادير محدودة، لا تنضبط إلا بأدق الموازين.
۸۲
الأدب والمتفرقات
والسادس : والخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: ١٨ كالقطار والسيارة والطائرة بأنواعها، وغير ذلك من المخترعات للركوب، فالآية نص في الإشارة إلى ما ذكر.
والسابع : أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ ﴾ [الأنبياء: ۳۰] تشير الآية إلى حقيقتين علميتين:
أحدهما: أن السموات والأرض انفتقتا عن النظام الشمسي.
ثانيتهما: أن كل شيء حي من الماء؛ حتى الجماد، له حياة قائمة بماء التبلور. والثامن: أَيَحْسَبُ الإِنسَنُ أَلَّن نَجمَعَ عِظَامَهُ ) بَلَى قَدِرِينَ عَلَى أَن تُسَوّى بَنَانَهُ موی القيامة : ٣ - ٤] أي أصابعه.
توصل الغربيون بعد البحث عن حكمة تخصيص الأصابع بالذكر في الآية إلى اكتشاف حقيقة هامة، فقد وجدوا أن خطوط الأصابع والتعاريج التي فيها، لا تتشابه، رغم صغر رقعتها وكثرة المخلوقات. ومن هنا صارت البصمة تدل على صاحبها دلالة قاطعة (۱) المرحوم متولي العوضي أن مستشرقا إنجليزيًا حدثه بهذا، أثناء كلامهما عن القرآن الكريم، وما فيه من الحقائق العلمية.
أخبرني
والتاسع: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ تُختَلَفُ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾ [النحل:
(1) كتب أخي العلامة السيد حسن الصِّدِّيق في هذا الموضع ما نصه: «وشيء آخر، وهو أن علم التشريح الحديث أثبت أن أدقّ أعضاء الجسم تركيبا أصابع الإنسان، حتى
إنهم ليقضون في دراستها مدة تعادل المدة التي يقضونها في جسم الإنسان كله.
خواطر دينية جـا
۸۳
٦٩]. ثبت علميا أن عسل النحل ينفع علاجًا لأمراض كثيرة، لا سيما بعد أن وجد فيه الجلوكوز الذي يعالج به عدة أمراض مستعصية وتوصل علماء الطب
أخيرًا إلى استخراج دواء من العسل، لعلاج مرض السكر.
والعاشر : وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَيْيْدِ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: ٤٧] تشير هذه الآية إلى حقيقة علمية، وهي أن السماء تتسع شيئًا فشيئًا في الفضاء اللانهائي، حتى تصل إلى النهاية التي تمزق عندها وتتشقق.
والحادي عشر : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانُ [فصلت: ۱۱] كلمة «دخان» تشير إلى ما اكتشفه العلم من أن الأمشير مادة الكون. وهذا قل من كثر وبعض
من كل.
ومن استعمل فكره وأمعن نظره، هدي إلى كثير من الحقائق العلمية المختلفة. ولشقيقنا الحافظ أبي الفيض رحمه الله كتاب "مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد "البرية فيه بيان بعض المكتشفات المستخرجة من
القرآن الكريم، وهو مطبوع فليراجع.
الإسراء والمعراج كانا يقظة
الإسراء والمعراج من أهم معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وهما
مسجلان في القرآن الكريم
فالإسراء في قوله تعالى: سُبْحَنَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ وَايَدِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البصير ﴾ [الإسراء: 1].
ΛΕ
الأدب والمتفرقات
والمعراج في قوله تعالى: وَلَقَدْرَ اهل رأى محمد جبريل على صورته نزَلَةٌ أُخْرَى ﴾ [النجم: ۱۳] مرة أخرى و عِندَ سِدْرَة المنتهى } [النجم: ١٤] شجرة نبق ينتهي إليها علم المخلوقات. ورآه المرة الأولى في الأرض وَلَقَدْ رَوَاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: ٢٣] وسدرة
المنتهى مبدأها في السماء السادسة، ومنتهاها فوق السماء السابعة عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السَدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم: ١٥ - ١٦] من أنوار وأسرار مَازَاغَ
البصر من محمد عليه السلام، وهذا تصريح بأن الرؤية حقيقة، لا منامية، ولا روحية. والصريح لا يقبل التأويل، كما تقرر في علم الأصول وَمَا طَغَى ما
ه
تجاوز مرئيه، تأكيد لكون الرؤية حقيقة لَقَدْ رَأَى ببصره . ببصره هناك مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ [النجم: ١٨] العظام.
وقد أجمع العلماء على أن الإسراء والمعراج كانا يقظة بالجسد والروح، وما
جسم
نقل عن عائشة رضي الله عنها من أنها لم تفقد - النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء، كذب عليها، لأن عمرها إذ ذاك أربع سنوات أو أقل ولم يتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم إلا بعد الهجرة، والإسراء كان قبل الهجرة بخمس سنين.
وإنما صح عنها بالطرق الموثوق بها أنها قالت مثل ما قال غيرها من
الصحابة، وانعقد عليه الإجماع، ولفظ بعبده» صريح ذلك أيضًا.
وزعم بعض العصريين المتحذلقين أنهما كان مناما، وزعم آخر أنهما جولة
خواطر دينية جـا
٨٥
روحية، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قاعد بمكة - جال بروحه في بيت المقدس والسموات وغيرهما، وهذان القولان في غاية السخف. إذ لو كان الأمر كذلك، فلم كذب المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟! ولما سألوه أن يصف لهم بيت المقدس؟!
ولما ارتد بعض ضعفاء المسلمين ممن لم يتسع أفقهم لإدراك هذه المعجزة؟! لقد كان من السهل جدا أن يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، إنها رؤية منامية، أو جولة روحية فلا يحصل تكذيب ولا ارتداد، لكنه عليه الصَّلاة والسلام - صرّح كما صرح القرآن بأنه كان في رحلة حقيقية، ووصف لهم بيت المقدس - ولم يذهب إليه قبل ذلك وهم يعرفون- وأخبرهم عن العير التي مر بها في الطريق.
ثم لا معنى لاستبعاد الإسراء والمعراج، والتماس تأويلهما مع شهادة العقل بإمكانهما، بل توصل العلم إلى ما يقربهما إلى الأذهان، ويزيد عنهما كل إشكال. فالطائرة تقوم من القاهرة صباحًا، وتصل إلى جدة قبل الظهر. بل تقطع
المسافة بين مصر وموسكو في أربع ساعات، وبينهما بضعة آلاف ميل. وهذه الأقمار الصناعية، أو سفن الفضاء تتجاوز منطقة الجاذبية، وتدور حول الأرض عدة مرات بمعدل ساعة ونصف لكل مرة، وفيها آلات تسجل ما هناك، ثم تعود.
لقد أصبح هذا وشبهه أمرًا عاديًا بسبب تقدم العقول البشرية فيها وهبه الله لها من العلوم الكونية، المشار إليها بقوله تعالى : عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَنَ مَا لَوْ يعلم ﴾ [العلق : ٤ - ٥].
الأدب والمتفرقات
أفيستبعد بعد هذا على واهب العقول، وخالق القوى والقدر أن ينقل نبيه إلى بيت المقدس ثم إلى سدرة المنتهى ويرده في ليلته؟ لا سيما وقد نقله على ركوبة أسرع من الطائرة، فقد كان البراق يضع حافره عند منتهى بصره، وكان
معه في معراجه جبريل الذي ينزل من السماء السابعة إلى الأرض في لحظة. وبهذا استدل الصديق رضي الله عنه على صحة الإسراء وإمكانه، فإنه لما قال له بعض المشركين أصاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وأصبح بين أظهرنا! فقال : لئن قال ذلك، لقد صدق. قيل له: أو تصدقه في ذلك؟ قال: أنا أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في الوحي ينزل عليه من السماء في لحظة!
والخلاصة أن منكر الإسراء والمعراج أو مؤولها خالف القرآن، وصادم العقل، وجانب المنطق، وجهل ما وصل إليه العلم الحديث. فلا اعتداد بإنكاره ولا التأويله، وبالله التوفيق.
أقسام الوحي
قسم العلماء الوحي إلى قسمين متلو، وغير متلو. فالمتلو القرآن، وغير
المتلو السنة.
وقسموا الثاني إلى قسمين ظاهر وخفي، فالظاهر السنة القولية أو الفعلية،
والخفي اجتهاده عليه الصَّلاة والسَّلام.
واستدلوا على أن السنة وحي بقوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا
-AB-
وحى يُوحَى } [النجم: ٣-٤] .
خواطر دينية جـا
۸۷
وبيان الاستدلال أن ينطق فعل يشتمل على مصدر منكر، وقع في سياق
النفي، والقاعدة المقررة في الأصول : أن النكرة الواقعة في سياق النفي، أو الشرط للعموم بالوضع.
فتقدير الآية: وما يحصل منه نطق عن الهوى ما هو إلا وحي يوحى فجميع نطقه المتعلق بالدين، صادر عن الوحي، سواء أكان قرآنا أم سنة؟ وهذا واضح
جدا، والمسألة مبسوطة بدلائلها في كتب الأصول.
معنى الحروف المقطعة
الحروف المقطعة في أوائل بعض السور وهي «ألم، ألمص، ألر، ألمر،
کهیعص، طه، طسم، طس ،یس ،ص، حم عسق ،ق، ن اختلف فيها؛ فقيل:
هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
:وقيل رموز بين الله ورسوله
وقيل: أقسام أقسم الله بها.
وقيل: أسماء للسور، فيقال: سورة ألم: كما يقال: سورة البقرة.
(1)
وقيل في طه ويس إنهما اسمان من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم ). وقيل: أنزلها الله تعالى لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم،
حيث عرف مسميات الحروف «ألف، لام، ميم» ونطق بها، وهو أمي. وقيل: لما قال المشركون لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾
(1) كتب أخي السيد حسن في الموضع ما نصه: قال ابن القيم: لم يصح في أنهما اسمان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث.
ΑΛ
الأدب والمتفرقات
[فصلت: ٢٦] أنزلت هذه الحروف ليضطروا إلى استماعها واستماع ما بعدها،
لغرابتها عليهم. وقيل: أنزلت للإشارة إلى أن القرآن مؤلف من حروف يتكلمون بها،
وتجري في لغتهم، وهم مع ذلك - عاجزون عن معارضته. ويؤيد هذا أن هذه الحروف المقطعة تشتمل على نصف حروف المعجم، وفيها من حروف الحلق والإطباق والقلقلة والاستعلاء والصفير والغنة، ومن الحروف الرخوة والشديدة والمهموسة والمجهورة، إلخ فكأنه يقول: إن القرآن مع كونه مؤلفًا من حروف لغتكم بمخارجها وخصائصها عجزتم عن الإتيان بمثله أو بسورة منه، وما ذاك إلا لأنه كلام الله
تعالى.
(1)
وهذا قول جيد لا بأس به، والقولان قبله كذلك، والله أعلم بسر كلامه.
(۱) ويؤيده أيضًا أن هذه الحروف جاء بعدها ذكر القرآن أو الكتاب: المال ذلِكَ الْكِتَبُ لا ريب [البقرة: ۱ - ۲ ]، واله اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ [آل عمران: ١-٣] المص ) كتب أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: ١-٢]، كهيعص ذِكرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ﴾ [مريم: ۱ - ۲ ]، أي هذا الكتاب ذكر رحمة ربك.
وهكذا في سائر السور إلا في ثلاث سور لم يأت بعدها ذكر القرآن ولا الكتاب وهي: الة أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَا [العنكبوت: ١-٢ الملا
غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ [الروم: ١-٢] وانَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ [القلم: ١].
وسر ذلك بينته في كتاب "جواهر" البيان في تناسب سور القرآن".
خواطر دينية جـا
۸۹
آية تتعلق باليهود
قال الله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ أَيْنَ مَا تُقِفُوا أي ضربت على اليهود
حيثما وجدوا، فلا عز لهم ولا اعتصام إلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: ١١٢] أي المسلمين فيما مضى كانوا يحمونهم من أن يقع عليهم عسف أو اضطهاد، والدول الغربية اليوم، فبحبل من أمريكا وإنجلترا وفرنسا -أي بعهد منهم - اغتصب اليهود فلسطين ولولا حبل هذه الدول اللعينة، ما استطاع اليهود أن يقفوا أمام العرب يوما واحدًا، وإن يوم ا الانتصاف منهم لقريب بمشيئة الله تعالى.
أما قوله تعالى في اليهود أيضا: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ ﴾ [الأعراف: ١٦٧] أي إلى قرب يوم القيامة، ولا بد من هذا التأويل، فليس بينه وبين الآية السابقة تناقض. إذ قد دلت الأحاديث الصحيحة أن من علامات قرب الساعة أن يكون لليهود دولة يرأسها الدجال وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ويقتل اليهود فدولتهم الآن من دلائل قرب خروج الدجال الذي هو من علامات الساعة الكبرى، وبالله التوفيق. هل عم الطوفان جميع الأرض؟
هل عم الطوفان الأرض؟ أو كان خاصا بجزء منها؟
والجواب: لم يعم الأرض كلها بسبب واضح، هو: أن الأرض لم تكن حينئذ معمورة بالسكان وإنما كان المسكون منها منطقة الشرق الأوسط، فلما
فار التنور بالماء، أمر الله نوحًا عليه السلام أن يحمل في السفينة من كل زوجين
۹۰
الأدب والمتفرقات
اثنين من السباع والطير وغيرهما، وأن يحمل معه من آمن به من أهله وغيرهم، وهم قليل. وعم الطوفان هذه المنطقة كلها، فلم يبق فيها نازل دار، ولا نافح نار. ولأجل أن هذه المنطقة التي عمها الطوفان كانت مسكونة دون غيرها، ترتب على ذلك أمران: أحدهما: أن رسالة نوح بعد الطوفان كانت عامة، وهو عموم طارئ، لأنه
لم يبق على الأرض غير من كان معه على السفينة.
ثانيهما: أن سكان الأرض اليوم كلهم من أولاد نوح عليه السلام، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُوَ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: ٧٧]فهو أبو البشر الثاني بعد آدم عليهما السلام. فإن قيل: أليس قد نجا معه ناس آمنوا به؟ قيل: نعم، ولكنهم قليلون، قال تعالى: وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود : ٤٠] وهم - وإن كان لهم ذرية كما يفيده قوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح ﴾ [الإسراء: ٣] فهم مغمورون بالنسبة الذرية نوح الباقية إلى يوم القيامة بنص القرآن.
أدلة نبوة الخضر عليه السلام
قول الخضر عليه السلام: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ﴾ [الكهف: ۸۲] دليل على أنه فعل تلك الأمور بوحي من الله تعالى، فيكون نبيا، وهو الصحيح. وما قاله كثير من المفسرين أنه فعل ما فعله بالهام، بناء على قولهم بولايته، ليس بصحيح، لوجوه: أحدها: أن ما أقدم عليه من خرق السفينة، وقتل الغلام، لا يجوز حصوله
خواطر دينية جـا
بأمر إلهام.
۹۱
ثانيها: لا يجوز أن يدرك الخضر - وهو ولي - أن الغلام سيرهق أبويه كفرًا،
ولا يدركه موسى وهو نبي.
ثالثها: لا يجوز أن يكون الولي ولو بلغ أعلى درجات الولاية أعلم من النبي. رابعها لو فعل ما فعله عن إلهام كما يقال، لوجب عليه القصاص في قتل الغلام ودفع قيمة تعييب السفينة، ولا تعفيه ولايته من ذلك لكن شيئًا من ذلك لم يحصل، فدل على أنه كان يفعل بوحي تشريع.
خامسها: أن تعليله لما فعل بقوله: فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيبها ﴾ [الكهف: ٧٩] فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ﴾ [الكهف: ٨١ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا : وَيَسْتَخْرِ مَا كَتَزَهُمَا ﴾ [الكهف: ٨٢ يدل على أنه واثق من نتيجة عمله، جازم بها، وهي غيب لا يدرك إلا بوحي نبوة، ولو كان إلهاما لقال: فرجوت أن يكون كذا، ولم يجزم أبدا بحال.
سادسها لو لم يكن نبيا بوحي إليه، لم يدرك بمجرد الإلهام أن الله أراد أن يبلغ اليتيمان أشدهما ويستخرجا كنز هما.
سابعها قوله لموسى عليهما السلام بأسلوب الواثق المتأكد مما يقول: قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَوْ تُحِطْ بِهِ، خبرًا ﴾ [الكهف: ٦٧-٦٨] هذا وهو يعلم أنه موسى رسول بني إسرائيل، ما تجرأ على مخاطبته بهذا الأسلوب اعتمادًا على مجرد الإلهام الذي يناله الأولياء، فضلا عن رسول
كريم.
۹۲
الأدب والمتفرقات
ثامنها: أن موسى حين قابل الخضر عليهما السلام قال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلَمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: ٦٦] فأراد أن يتعلم منه علما زيادة على ما عنده في التوراة، وذلك بأن يتعلم تشريعات ليست في شريعته، والإلهام ليس بعلم ولا تشريع، وليس له قاعدة ينضبط بها، وإنما هو كما قال أهل الأصول: إيقاع شيء في القلب ينشرح له الصدر، وهو لا يفيد اليقين، الجواز أن يكون للشيطان دخل فيه؛ إذ الولي غير معصوم كما هو معلوم، فهل يعقل أن يطلب
موسى أن يتعلم من شخص شيئًا - ولا أقول علما - للشيطان فيه دخل؟! إذن فالخضر كان نبيّا، وهذا ما يفيده سياق قصتهما في القرآن الكريم وصرح بنبوته في السنة النبوية. انظر كتابنا (سمير الصالحين جـ ٢) والله الموفق. المزية تقتضي التفضيل
مما شاع بين كثير من أهل العلم عبارة المزية لا تقتضي التفضيل» فإذا قلت لأحدهم: كيف يكون الخضر وهو ولي أعلم من موسى وهو نبي يوحى إليه؟ أجابك بأنه مزية، والمزية لا تقتضي التفضيل. وهي عبارة كما ترى قصد بها الاسترواح وليس عليها دليل بل الدليل يقتضي ضدها، ذلك أن التفضيل ينبني على المزية، فبقدر مزايا الشخص يكون تفضيله، وكل نبي فضل بمزية اختص بها، كاختصاص إبراهيم بالخلة وموسى بالكلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام بالرؤية، وهكذا.
وفضل نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم لكثرة مزاياه التي اختص بها وهي
التي تسمى خصائص، ومناقب، وفضائل.
خواطر دينية جـا
۹۳
والأولياء والعلماء يتفاضلون بالمزايا التي عند كل واحد منهم، وكذلك الشهور والأيام والساعات والأذكار تتفاضل بالمزايا التي وضعها الله فيها، فقد تبين بطلان تلك العبارة من أساسها، وتجويز كون الولي أعلم من النبي ينبني عليه أمران خطيران:
أحدهما: فتح باب الزندقة للمدعين الذين يدعون الولاية، ويزعمون أنهم أعطوا علوما لم يعطها بعض الأنبياء، وقد وضع بعض الملاحدة حديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وهذا يؤدي إلى الاستخفاف بمقام النبوة. ثانيهما: المساواة بين علم النبي الذي هو يقيني معصوم من الشيطان وبين علم الولي الذي هو إلهام مظنون غير معصوم. فتأمل هذا جيدا وبالله التوفيق.
من توسعات اللغة العربية
من توسعات اللغة العربية:
ورود الاستفهام بمعنى الأمر، مثل: وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ وَالْأُمِينَ أَسْلَمْتُمْ ﴾ [آل عمران: ۲۰] أي أسلموا إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَيْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةُ فَهَلْ أَنتُم مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: ٩١] أي انتهوا. ولهذا قال عمر رضي الله عنه عند نزولها: انتهينا يا
رب
وورود الظن بمعنى العلم نحو الَّذِينَ يَظُنُّونَ * يعلمون أَنَّهُم مُّلَقُوا ربهم ﴾ [البقرة: ٤٦].
٩٤
الأدب والمتفرقات
ونحو فَظَنُّوا وعلموا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ﴾ [الكهف: ٥٣]. وورود «هل» بمعنى «قد» مثل : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَيْنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ [الإنسان: ١ هَلْ أَنَنكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ [النازعات: ١٥] وَهَلْ أَتَنَكَ نَبَوُا الْخَصْمِ
[ ص: ۲۱] فـ«هل» في هذه الآيات بمعنى «قد».
وورود المضارع بمعنى الماضي مثل : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيْهَا ﴾ [البقرة: ١٤٤] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوَقِينَ مِنكُمْ} [الأحزاب: ١ ] أي قد رأينا، قد علم الله.
وورود كلمة مكان أخرى، نحو: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ فَأَقَامَة [الكهف: ۷۷] أي يكاد إنَّ السَّاعَةَ عَائِيَةُ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: ١٥] أي أريد، ومثل ذلك كثير.
لم لم تتكرر قصة أهل الكهف وذي القرنين؟
قصة يوسف عليه السلام وقصة ذي القرنين، وقصة أهل الكهف، ذكرت مرة واحدة ولم تتكرر كغيرها من القصص والسر في ذلك أنها نزلت
إجابة للسؤال عنها.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ايَنتُ لِلسَّابِلِينَ ﴾ [يوسف: ٧].
وقال سبحانه: وَيَسْتَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ [الكهف: ٨٣].
وسأل أهل مكة عن أهل الكهف، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم:
أجيبكم غدًا» فأبطأ عنه الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا
خواطر دينية جـا
۹۵
نَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلُ ذَلِكَ غَدًا ) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: ٢٣ – ٢٤] :
ونزلت القصة.
ولم تتكرر قصة موسى والخضر عليهما السلام؛ لأنها تعتبر جانبًا من حياة موسى المتعددة الجوانب:
جانب تربيته في بيت فرعون إلى أن قتل القبطي وخرج فارا إلى مدين. وجانب رسالته إلى فرعون وقومه، وما قاسى من تكذيبهم وإذايتهم حتى أغرقهم الله تعالى.
وجانب حياته بعد ذلك مع بني إسرائيل ومجيئه بالتوراة، وما عانى من مخالفاتهم وعصيانهم.
وجانب على الاستزادة من العلم، وذهابه إلى مجمع البحرين، والتقائه بالخضر هناك. فقصته معه متممة لجوانب حياته المتعددة كما بينا وبالله التوفيق.
أرسل الله إلى أهل المغرب رسولا
استخرجت من قصة ذي القرنين معنى لم أسبق إليه فيما أعلم، وهو أن الله تعالى أرسل إلى القوم الذين عند مغرب الشمس رسولا.
اقرأ قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمَةٍ فِي رأي العين، لأن الشمس أكبر من الأرض وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا كفارا، بدليل ما يأتي: قُلْنَايَا الْقَرْنَيْنِ ) بوحي إن كان نبيا، وإن لم يكن نبيا فبواسطة نبي بعث إليه، وقد قيل: إن الخضر كان معه إمَّا أَن تُعَذِّبَ القوم بالقتل وَإِمَّا أَن نَتَّخِذَ فيهم حُسْنًا ﴾ [الكهف: ٨٦] بالأسر. ولو كانوا مؤمنين أو لم يبعث إليهم رسول ما
97
الأدب والمتفرقات
خير فيهم بين القتل والأسر؛ إذ كفرهم لا يتأتى إلا بعد إرسال رسول إليهم، وقبل ذلك لا يكون كفر ولا عذاب بالقتل ولا غيره
قال تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَفِلُونَ [الأنعام: ۱۳۱] لم يرسل إليهم رسولا ، وقال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولًا ﴾ [الإسراء: ١٥ ] وهذا واضح.
منهم
يزيده وضوحًا ما يأتي في قوله قال : ذو القرنين : أَمَّا مَن ظَلَم من بالشرك فسوفَ نُعَذِبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ) وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: ۸۷ - ۸۸] أي نأمره بما يسهل عليه. فكلام ذي القرنين دليل أيضًا على أن القوم أرسل إليهم رسول، وهو - على القول بنبوته - لم يذهب إليهم داعيًا، وإنما ذهب رحالة مستكشفًا، ولولا أن الله تعالى خيره منهم بين القتل والأسر ما تعرض لهم، كما لم يتعرض موسى -وهو رسول للقوم الذين كانوا عاكفين على أصنام لهم، وقال له بنو إسرائيل: يَمُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَنهَا كَمَا لَهُمْ الهَهُ قَالَ لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إِنَّ هَؤُلاء منبر مالك مَا هُمْ فِيهِ وَنَطِلُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۳۸ - ١٣٩] ويلاحظ أن موسى عليه السلام لم يخبر من هؤلاء بأنهم معذبون لأنه لم يرسل إليهم رسول. يزيد هذا وضوحًا أن ذا القرنين لم يخيره الله تعالى في القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس بين القتل والأسر، وما ذاك إلا لأنه تعالى لم يرسل إليهم رسولا، فتأمله جيدا والله يتولى توفيقك.
خواطر دينية جـا
معنى: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّمَا بُرْهَانَ رَبِّهِ
۹۷
قال الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي همت امرأة العزيز بيوسف أن يواقعها حيث راودته على ذلك، وقالت له: هيت لك وَهَمَّ بها أن يواقعها، لجمالها واستسلامها له، بل تحريضها وإغرائها إياه، وكونه في قبضتها لَوْلَا أَن رَّهَا بُرْهَنَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: ٢٤] لَوَاقَعَها، للمغريات المذكورة، لكنه رأى برهان ربه، فلم يتجاوز الهم إلى العزم، فضلا عن المواقعة. وبرهان ربه، قيل: رؤيته أباه، فضرب على صدره، فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: هو ما لقي من حسن معاملة زوجها، وائتمانه إياه، وأمله أن ينفعه، أو يتبناه، فلا يليق به أن يخونه.
ومن هنا يتبيَّن أن
يوسف عليه السلام مع كونه تام الرجولة قوي
الشهوة - ملك نفسه وقمع شهوته في ظروف مغرية ودواع مهيجة فاستحق التنوية والثناء.
أما من فشره بأن المعنى وهم بها بدفعها عنه بالقوة، أو: لولا أن رأى برهان ربه هم بها، فقد سلب عنه كمال الرجولة وميزة العصمة؛ لأنه إن لم تتحرك شهوته مع جمالها وطلبها وإلحاحها عليه - لم يكن له فضل في الامتناع منها؛ لضعف رجولته حينئذ، وضعيف الرجولة لا يستحق الثناء في امتناعه مما لا يحل له من النساء. ومما يجب التنبيه عليه في هذا الموضع أن الهم بالمعصية ليس محظورًا في حق الأنبياء عليهم السلام، وإنما المحظور في حقهم العزم عليها، فهم - باعتبارهم
الأدب والمتفرقات
۹۸
بشر - قد يهمون بالمعصية، تتحقق بشريتهم، وبالامتناع من العزم عليها -مع الدواعي إليها تظهر ميزة عصمتهم.
وهما:
وبهذه المناسبة نذكر بيتين في مراتب القصد مع بيان المعاقب عليه منها،
مَراتِبُ القَصْدِ خَمْسٌ هاجِسٌ ذَكَرُوا فَخَاطِرٌ فَحَدِيثُ النَّفْسِ فَاسْتَمِعَا يَلِيهِ هَمَّ فَعَزْمُ كُلَّها رُفِعَتْ سِوَى الأَخِيرُ ففيه الأَخْذُ قَدْ وَقَعَا
ترك المعصية على ثلاثة أوجه
قال العلماء: ترك المكلف للمعصية يقع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يتركها طبعا وعادة كمن نشأ في عائلة لا يعرفون الخمر، ولا يشربونها فلم يشربها، ولم تدعه نفسه إلى شربها، فهذا لا يعاقب، لأنه لم يشرب الخمر ولا يثاب لأنه لم يتركها بقصد امتثال نهي الشارع.
الثاني: أن يتركها اضطرارًا مع عزمه على فعلها، كأن عزم على الزنا أو شرب الخمر مثلا، ومنعته ظروف قاهرة، إما مادية أو زمنية أو مكانية. فهذا
يعاقب على عزمه، إذ تركه لم يكن باختياره.
الثالث: أن تتهيأ له أسباب المعصية، وتدعوه نفسه إليها، ويتركها مع ذلك
امتثالا للنهي، وخوفا من الله تعالى.
فهذا يثاب ثوابًا كبيرًا، جاء ذكره في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَأَمَّا
مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: ٤٠ -
.[ε
خواطر دينية جـا
۹۹
الصبر على ثلاثة أقسام
وقسموا أيضًا الصبر إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صبر على المصيبة، وثوابه مذكور في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّ لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( أَوَلَيْكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوْلَتَبكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧] وهذا الثواب مشروط بأن يكون صبره جميلا، ولا يشوبه تبرم بقضاء الله تعالى، ولا تسخط
لقدره.
الثاني: صبر على الطاعة، أي صبر على عملها ومداومتها من غير كسل ولا
تهاون.
الثالث: صبر على المعصية، أي صبر عن فعلها، وهو تركها مع تهيؤ الأسباب كما سبق.
وثواب هذين مذكور في قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَهُمْ مِمَّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَهُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أَوَلَيْكَ لَمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِن مَابَاعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ وَوا يهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ وَالْمَلَيْكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن
كُلِّ بَابِ ( سَلَامُ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: ٢٢-٢٤].
ويشمل الثلاثة قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَسِعَةُ إِنَّمَا وَقَى الصَّبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: ١٠]. وتقسيم الصبر إلى هذه الأنواع مأخوذ من حديث ضعيف، وهو في "كتاب الإحياء" للغزالي.
۱۰۰
الأدب والمتفرقات
معنى الظلم
الظلم وضع الشيء في غير مستحقه، ولذا قال لقمان لابنه وهو يعظه : يبى لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن الشِرْكَ لَظُمُ عَظِيمُ} [لقمان: ١٣ ] لأنه إطلاق وصف الألوهية على الملائكة أو عيسى أو الأصنام أو غيرهم من المخلوقات، وهم لا
يستحقونها.
وجاء إطلاق الظلم على الشرك، والظالمين على المشركين، في غير آية من القرآن الكريم، مثل: الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَنَهُم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ۸۲] أي بشرك، كذا ثبت مفسرًا في حديث الصحيحين: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بظالم بشرك وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ [الأنعام: ۱۳۱] قَالَ أَمَّا مَن ظَلَم أشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ [الكهف: ۸۷] فَمَا كَانَ دَعْوَنَهُمْ إِذْ جَاءَ هُم بِأَسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كنا ظَامِينَ ﴾ [الأعراف: ٥] بالشرك واللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ٢٥٨ المشركين الفَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٢٩] المشركين وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ المشرك عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: ٢٧] وهو أبي بن خلف أن أُنْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الشعراء: ۱۰] المشركين قَوْمَ فِرْعَوْنَ ﴾ [الشعراء: ١١] معه. وكل ظلم في القرآن معناه وضع الشيء في غير مستحقه، مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَمَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
[النساء: ١٠] لأنهم أخذوا أموالا لا يستحقونها، لأنها حق لليتامى. والظلم بهذا المعنى هو الذي مدح الله تعالى نفسه بتنزهه عنه فقال سبحانه
خواطر دينية جـا
۱۰۱
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: ٤٤] أي لا يعذبهم وهم غير مستحقين وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: ٤٩] أي لا
يعذب العاصي بغير استحقاق ولا ينقص من ثواب يستحقه مؤمن و كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ [العنكبوت: ٤٠ اليعذبهم بغير استحقاق وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: ٥٧] بكفرهم الذي استحقوا به العذاب
(۱)
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَم بني ظلم لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] فيعذبهم بغير ذنب وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وهو في "الأربعين النووية"،
وللنبراوي في حاشيته عليها في الكلام على هذه الجملة عبارة لا تليق. وهذه النصوص تدل على أن الظلم تتعلق به القدرة، إلا أن الله تعالى تنزه عنه، وتمدح بأنه لا يفعله، بل زاد أنه لا يريده فقال سبحانه: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر: ۳۱]. والأشاعرة عرفوا الظلم بأنه التصرف في ملك الغير، وبنوا عليه أن القدرة لا تتعلق به، لأنه لا يوجد ملك لغير الله تعالى، وتمحلوا في تأويل النصوص المذكورة التي تفيد إمكان تعلق القدرة بالظلم، حتى صدرت من النبراوي تلك العبارة غير اللائقة، كما أشرنا إليه آنفًا، وما سلكناه أسعد بموافقة
(۱) ظلام. معناه هنا: النسبة؛ أي وما ربك بمنسوب لظلم للعباد. ومن معاني فعال في
اللغة النسب، مثل: نجار ،حداد ،خباز ،جزار ،لبان، تمار، جمال، غنام، حمار
۱۰۲
النصوص وأبعد عن التأويل.
الأدب والمتفرقات
فإن قلت: كيف يكون الظلم محالاً، ويجوز تعلق القدرة به؟ وهل هذا إلا
تناقض؟!
فالجواب: أن المحال نوعان: عقلي ،بحت لا يختلف في استحالته كإيجاد شريك للباري تعالى، أو لحوق العدم للذات المقدسة، أو طرء نقص أو آفة على الصفات العلية، ونحو ذلك.
ونقلي؛ كالظلم بالمعنى السابق، فإن العقل يجوز تعلق القدرة به، إذ لا يرى في تعذيب غير المستحق محظورًا عقليّاً، ألا ترى أن الأشاعرة قالوا: يجوز في حق الله تعالى تعذيب المطيع وإثابة العاصي وإيلام الدواب والأطفال، إلا أن الله تعالى أخبر أنه ظلم، وأنه لا يفعله، ولا يريده. فصار محالا من هذه الجهة، إذ العقل يقضي بأن خبر الله تعالى صدق وأن ما أخبر بأنه لا يفعله في حيز المحال حتما، وهذا من المحال الذي استعان فيه العقل بالنقل. والخلاصة : أن ما كان من المحال عقليًا صرفا لم يجز تعلق القدرة به. وما
(۱)
(1) كتب أخي السيد حسن في هذا الموضوع ما نصه وذهب ابن حزم إلى جواز تعلق القدرة بالمحال العقلي، دون المحال المطلق. مستدلا على ذلك بأن المحال العقلي قد يرى في المنام والذي جعله ممكناً في النوم، قادر على أن يجعله ممكنا في اليقظة. وأنه إنما
بل
صار محالا منذ خلق الله العقل لا قبله فلو شاء أن لا يجعله محالا لما كان محالا . الذي خلق العقل المحيل له قادر على أن يخلق غيره يماثله، أو يخالفه. واستدل كذلك بقوله تعالى: أَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَنَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار ﴾ [الزمر: ٤] انظر كلامه إن شئت في كتاب "الملل والنحل" له. في
خواطر دينية جـا
۱۰۳
كان منه عقليًا مبنيا على النقل كالظلم، جاز تعلق القدرة به، وبهذا ينحل
الإشكال، وبالله التوفيق.
وعدم تعلق القدرة بالمستحيل العقلي ليس يرجع لنقص فيها، بل لأنه لا يصلح متعلقا لها. إذ هو ما لا يتصور في العقل وجوده، فإن تعلقت القدرة به لتعدمه، فهو معدوم وإن تعلقت به لتوجده، فهو لا يقبل الوجود. وإن أو جدته فرضًا - انقلب ممكنا، والغرض أنه محال !
فقد تبين لك عدم صلاحية المحال لأن تتعلق به القدرة، وبالله التوفيق.
تلخيص قصة إبراهيم عليه السلام
قصة إبراهيم عليه السلام في كسر أصنام قومه، ذكرت مرتين: في (سورة الأنبياء) وفي (سورة الصافات). وبينهما تخالف في العبارة، قد يظنه ضعيف الإدراك تضاربًا، فلهذا أردت تلخيصها مع تفسير يزيل ما قد يتوهم من
تضارب
لما جادل إبراهيم عليه السلام قومه في الأصنام التي يعبدونها: إذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ السَّمَائِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَكِفُونَ ) قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَبِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَمَابَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ () قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ
ومع
مبحث القدرة ج ۲. والمحال المطلق عنده هو ما أدى إلى تغيير صفة من صفاته تعالى. ذلك جعل مسألة اتخاذ الولد من قبيل المحال العقلي. وظاهر أنها من قبيل المطلق على حد تقسيمه. ولهذا استهدف فيها إلى انتقادات مرة، حتى لعنه بعضهم. وأجاب الجمهور عن الآية التي استدل بها بأنها قضية شرطية، لا تقتضي الوقوع
الأدب والمتفرقات
اللعبِينَ قَالَ بَل رَّبِّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ
الشَّهِدِينَ } [الأنبياء: ٥٢-٥٦].
وقال لهم أيضًا ): قَالَ أَفَرَهَبْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ) أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الأقدمُونَ ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) وَالَّذِى يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين ) ) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيتَنِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: ٧٥-٨٢].
ولم تكن له خطيئة لعصمته، وإنما قال ذلك تعريضًا بخطاياهم، وتحريضا لهم على الإيمان بالله تعالى ليغفر لهم، وقال أيضًا: أَيفَكًا أكذبًا عَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: ٨٦- ٨٧] إذا عبدتم غيره: أنه يترككم بلا عقاب؟ لا .
حصلت هذه المجادلة والمراجعة بينه وبين أبيه وقومه، وحصلت أيضًا مجادلات ومراجعات أخرى، والقرآن على طريقته في الإيجاز - لم يذكر تلك المراجعات بتمامها، بل يذكر في كل مرة روحها وخلاصتها، وهو توحيد الله تعالى، وبطلان عبادة الأصنام، ثم هذه الخلاصة ذكرها القرآن بأساليب
مختلفة، متساوية في بلاغة التعبير، ووضوح الحجة، وقوة التأثير.
بعد حصول هذه المناقشات التي تكررت من إبراهيم عليه السلام، أنذر من كان حاضرًا من قومه بقوله : وتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْتَمَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا
(۱) في سورة الشعراء.
خواطر دينية جـا
۱۰۵
مديرينَ [الأنبياء: ov] فانتقل من تغيير المنكر باللسان، إلى تغييره باليد والقوة، حيث لم ينجح فيهم البرهان، وكان لهم يوم عيد يجتمعون فيه، فدعوا إبراهيم يذهب معهم، وتركوا طعامهم عند الأصنام للتبرك، فاعتذر إبراهيم من الذهاب معهم. وكانوا نجامين فَنَظَرَ نَظَرَةً فِي النُّجُومِ يوهمهم . أنه يعتمدها، ليقبلوا كلامه فَقَالَ إِن سَقِيمُ يقصد أنه عليل بكفرهم، وفهموا أنه مريض فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُديرين إلى اجتماعهم فراغ فعال خفية إلى الهيهم أصنامهم وعندها الطَّعام فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾ وبالضرورة لم ينطقوا فقال تهكما ما لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ) فراغ مال عَلَيْهِمْ ضَرباً بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: ۸۸-۹۳] بالقوة، بفأس معه فَجَعَلَهُمْ جُذَادًا * فتاتا إلَّا كَبِير المعلق الفاس برأسه لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٥٨] فيرون ما فعل بالأصنام الصغيرة، فرآه من لم يخرج معهم لمرض وحراسة ونحوهما فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فونَ [الصافات: ٩٤ يسرعون قالوا له: نحن نعبدها وأنت تكسرها قَالَ أتعبدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: ٩٥-٩٦]. أخذ منه أنَّ أعمال العباد مخلوقة الله تعالى خلافا للمعتزلة القائلين بأن
العبد يخلق أفعاله.
فلما رجع من الاجتماع رؤسائهم وأعيانهم ورأوا أصنامهم مكسرة قالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِنَا لِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّلِمِينَ (3) قَالُوا سَمِعْنَا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبرهيم [الأنبياء: ٥٩ - ٦٠] أي الذين سمعوه يقول: ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
الأدب والمتفرقات
أَصْنَعَكُمْ ﴾ [الأنبياء: ٥٧]: سَمِعْنَا فَى يَذكُرُهُمْ بالعيب والتهديد يُقَالُ لَهُ إبراهيم تجاهلوه استصغارًا له في نظرهم، وعلموا أن ناسا ممن لم يخرجوا معهم شاهدوه يكسرها و قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ * الذين رأوه لَعَلَّهُمْ يشهدون أنه الذي كسرها قالوا له بعد إتيانهم به وأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا المينا يت إبْرَاهِيمُ .. وهذا استفهام ،تقرير أي أقر بفعلك قال ساكنا عن فعله، لئلا يكون كاذبًا لو نفاه عن نفسه بل فَعَلَهُ، كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسَتَلُوهُمْ بَلْ إن كَانُوا يَنطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: ٦٠ - ٦٣] وليس في هذا كذب، لأنه نسب الفعل إلى كبير الأصنام على تقدير حصول الشرط، وهو نطقهم، والمعلق على حصول شرط لا يقع إلا بوقوعه. وفي هذا تعريض لهم بما صرحوا به في قولهم له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: ٦٥] فاعترفوا بأن آلهتهم عاجزة عن النطق، وهي عن الفعل أعجز، وتمت الحجة عليهم باعترافهم، استمروا في كفرهم وعنادهم، فقال موبخًا لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِن دون اللهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أَنَّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: ٦٦-٦٧) فانقطعت حجتهم، ولم يبق لهم من برهان إلا أن قالوا: ابْنُوا لَهُ بُنينا واملئوها حطبًا فإذا اشتعل فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: ٩٧) و قَالُوا أيضًا حَرِقُوهُ وَانصُرُوا الهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
لكنهم
[الأنبياء: ٦٨] نصرتها. فأرادوا به كيدا بإحراقه، فأنجاه الله تعالى، وجعلهم الأسفلين الأخسرين
خواطر دينية جـا
۱۰۷
وتركهم إبراهيم ذاهبًا ومعه ابن أخيه لوط إلى الشام، وبهذا تمت قصته معهم
بما فيها من عظة وعبرة، وبالله التوفيق.
قصة يونس عليه السلام
ذكرت هذه القصة في سورتي (الأنبياء) و (الصافات) أيضًا.
وخلاصتها: أن الله تعالى بعثه إلى أهل نينوى، فكذبوه وأتعبوه بكفرهم وعنادهم، فتركهم غضبًا عليهم ، ولم يؤذن له في تركهم. وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَذا النون صاحب الحوت وهو يونس وإِن ذَهَبَ مُغَاضِبًا قومه، لما قاس منهم فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: ٨٧نضيق عليه في ذلك حيث
:
خرج بغير إذننا وجد مركبًا فركب فيه كما قال تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذ أبق هرب من قومه إلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ [الصافات: ١٣٩-١٤٠] المملوء بالركاب وأمتعتهم، فركب فيه، فتوقف الفلك وسط البحر، فقال الملاحون: هنا عبد أبق من سيدة تظهره القرعة فَسَاهم قارع أهل الفلك على أن من خرج سهمه يلقى في البحر، فخرج السهم عليه فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: ١٤١] المغلوبين بالقرعة. فألقوه في البحر فَالْتَقَمَهُ الحوت ابتلعه وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [الصافات: ١٤٢] آت بما يلام عليه، حيث ترك قومه بغير إذن من ربه فَنَادَى فِي الظُّلُمَتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ۱۸۷ وإلى هذا يشير قوله تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) للبثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي لكان بطن الحوت قبرا له
۱۰۸
الأدب والمتفرقات
فَنَبَذَنَهُ ألقيناه من بطن الحوت بالعراء بساحل البحر وَهُوَ
سقيم علي وَأَنْبَتَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين ما ينبت على ساق كالقرع
١٤٧
وَأَرْسَلْنَهُ ثانيًا إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ بل يَزِيدُونَ فَتَامَنُوا
عند
رؤية أمارة العذاب كما في سورة (يونس) فَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: ١٤٣ - ١٤٨] يبلغ فيه آجالهم. وقال سبحانه يأمر رسوله بالصبر فاصبر لحكم ريك ولا تكُن كَصَاحِبِ المُوتِ ) وهو يونس عليه السلام إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم في بطن الحوت لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ أدركه نِعمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَيذَ بِالْعَرَاء بالأرض الفضاء وَهُوَ مَنْ مُوم لكنه رحم فنبذ غير مذموم فَاجْتَبَهُ رَبُّه بالرسالة إلى قومه ثانيًا فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: ٤٨ -٥٠].
والصالح هو الذي يؤدي حق الله تعالى وحق الناس هذا ما جاء عن يونس عليه السلام في القرآن الكريم، وليس فيه نسبة معصية إليه، غاية ما في الأمر أنه لما بلغ الرسالة إلى قومه وكذبوه؛ فارقهم مغاضبًا بدون إذن من الله تعالى، مجتهدا في ذلك.
وما حصل له من ابتلاع الحوت إياه ليس بعقاب، ولكنه عقاب، صاحبته معجزات وألطاف وربك يفعل ما يشاء.
وثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا تفضلوني على يونس ابن متى .
سئل إمام الحرمين عن هذا الحديث؟ فقال: «إنه ينفي الجهة عن الله
خواطر دينية جـا
۱۰۹
تعالى». فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: عندي ضيف عليه ألف دينار، فإن كان فيكم من يؤديها عنه، ذكرت الجواب فتكفل بها رجلان في المجلس، فقال: يشق عليه أن يتبع اثنين. فقال رجل في المجلس: هي علي.
فقال: إنما خص الحديث يونس دون غيره، للإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عند سدرة المنتهى ليلة المعراج لم يكن بأقرب إلى الله من يونس وهو في بطن الحوت. وهو جواب نفيس، وبالله التوفيق.
أسماء يوم القيامة في القرآن الكريم
ليوم القيامة في القرآن أسماء كثيرة:
أحدها هذا. وهو أشهدها وأكثرها ورودا في عدة آيات منها قوله تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) [النساء: ۸۷].
ثانيها: يوم الدين: مثلك يوم الدين ﴾ [الفاتحة: 4].
ثالثها: اليوم الآخر: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَرَى وَالصَّبِعِينَ |
مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: ٦٢] الآية.
رابعها اليوم المشهود: وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: ١٠٣] يشهده جميع
المخلوقات.
خامسها يوم
البعث: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ
الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: ٥٦].
سادسها : الساعة: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي
۱۱۰
الأدب والمتفرقات
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَلِهِ ﴾ [سبأ: ٣].
.[٢١
سابعها يوم
الفصل : هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الصافات:
ثامنها: يوم الحساب : وَقَالُوا رَبَّنَا عَمَل لَنَا قِطَنَا كتاب أعمالنا قَبلَ يَوْمِ
الحساب [ ص: ١٦].
تاسعها يوم التلاقي: اليُنذِرَ يَوْمَ الصَّلَاةِ يَوْمَ هُم بَرِزُونَ ﴾ [غافر: ١٥-١٦] لتلاقي جميع المخلوقات فيه.
عاشرها يوم الآزفة : وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ﴾ [غافر: ۱۸) أَرْفَتِ الْأَرْفَةُ [النجم: ٥٧] قربت القيامة.
حادي عاشرها: يوم التناد وَيَتَقَوْمِ إِن أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ النَّنَادِ ) [غافر: ۳۲] لأنه يكثر فيه النداء بالشقاء والسعادة، ونداء أهل الجنة لأهل النار، والعكس. ثاني عشرها يوم الجمع: وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمع لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [الشورى: ٧] تجمع فيه المخلوقات.
ثالث عشرها الواقعة إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَيْهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة:
رابع عشرها اليوم المعلوم قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (3) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْم تَعْلُوم ﴾ [الواقعة: ٤٩ - ٥٠].
خامس عشرها يوم التغابن ذَلِكَ يَوْمُ النَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: ٩] يغبن
خواطر دينية جـا
۱۱۱
المؤمنون الكافرين بأخذ منازلهم في الجنة لو آمنوا.
سادس عشرها : الحاقة: الحَاقَّةُ مَا الْحَاقَة وَمَا أَدْرَكَ مَا الْحَافَةُ ﴾ [الحاقة:
١ - ٣] يحق ويثبت فيها ما أنكره الكفار.
سابع عشرها اليوم الموعود والسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ [البروج: ۱ - ۲ ].
ثامن عشرها الغاشية: هَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ ﴾ [الغاشية: ١] تغشى الخلق بأهوالها.
تاسع عشرها :القارعة : الْفَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ) وَمَا أَدْرَنَكَ مَا
الْقَارِعَة [القارعة: ١ - ٣] تقرع القلوب.
العشرون: يوم الحشر : ذَلِكَ حَشْرُ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ق: ٤٤] .
الحادي والعشرون: اليوم الحق: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ﴾ [النبأ: ٣٩]. الثاني والعشرون يوم الحسرة : وَأَنذِرْهُمْ يوم الحسرة ﴾ [مريم: ٣٩] يتحسر
فيه الكافر على ترك الإيمان، والمسيء على ترك الإحسان.
الثالث والعشرون: يوم عظيم إنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عظيم [الأنعام: ١٥].
الرابع والعشرون يوم كبير : تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: ٣]. ويمكن استخراج أسماء أخرى، مثل يوم العرض، لقوله تعالى: يوميذ تُعْرَضُونَ لَا تَخفَى مِنكُر خَافِيةٌ ﴾ [الحاقة: ۱۸] ويوم النشور، لقوله تعالى: وَإِلَيْهِ
۱۱۲
الأدب والمتفرقات
النُّشُورُ ﴾ [الملك: ١٥].
ولا شك أن كثرة الأسماء تدل على عظم هذا اليوم، وشدة هوله. نسأل الله أن يهونه علينا، وينجينا من كربه، إنه قريب مجيب.
معنى: قُل لِلَّهِ الشَّفَعَةُ جَمِيعًا
قوله تعالى: ﴿ قُل لِلَّهِ الشَّفَعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: ٤٤] ونحوه، رد على المشركين الذين يعتقدون أن أصنامهم تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده، فبينت لهم هذه الآية وما في معناها بطلان هذا الاعتقاد، وأن الأصنام لا تملك
شيئا لا شفاعة ولا غيرها. وليس معناه نفي الشفاعة عن أصلها.
كيف وقد قال تعالى لرسوله عليه الصَّلاة والسَّلام: عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَا مَا تَحْمُودًا } [الإسراء: ۷۹] وثبت في الصحيحين وغيرهما أن المقام المحمود هو الشفاعة في فصل القضاء.
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة إثبات الشفاعة يوم القيامة، للأنبياء والملائكة وصالحي المؤمنين بل في القرآن ما يشير إلى ذلك، فقد قدمنا آيتين أمر الله تعالى فيهما نبيه بالاستغفار لأمته، وإليك آية ثالثة: فَإِذَا اسْتَتْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأَذَن لِمَن شِئتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله ﴾ [النور: ٦٢].
وقدمنا أن الاستغفار استشفاع، وبقيت آية رابعة وهي قوله تعالى: وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴾ [النساء: ٦٤] .
خواطر دينية جـا
۱۱۳
بل جعلت هذه الآية توبة المنافقين موقوفة على استغفار الرسول لهم، وقال تعالى عن حملة العرش الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا يقولون : رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَابِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إِنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَنِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَيد يوم
القيامة فَقَدْ رَحمَتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: ٧ - ٩].
وقال سبحانه وَالْمَلَتَيكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي
الْأَرْضِ له من المؤمنين أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الشورى: ٥].
فهذا استشفاع الملائكة للمؤمنين وهو بالضرورة صادر بإذن الله تعالى ورضاه، والمقصود أن الشفاعة المنفية شفاعة المعبودات الباطلة لعابديها، والشفاعة المثبتة شفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين بإذن الله تعالى ورضاه. فنفيهما جميعا خلط يأباه الإنصاف ويجافي الأمانة العلمية، وبالله التوفيق.
معنى: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَيْنِ إِلَّا مَا سَعَى
قوله تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَيْنِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: ٣٩] استدل به طائفة من العلماء على أن قراءة القرآن لا يصل ثوابها إلى الميت، وأجاب آخرون بأن المراد بالإنسان فيه الكافر، أما المؤمن فله مع سعيه سعني إخوانه المؤمنين مما أهدوه إليه، ومنه قراءة القرآن قالوا لأن الإيمان رابطة قوية بين المؤمنين،
١١٤
يستطيع أن ينفع بعضهم بعضا بسببها.
الأدب والمتفرقات
واستدلوا بما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن العاصي نذر في
الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، فنحر هشام بن العاص خمسة وخمسين بدنة. وأن عمرًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «أما أبوك فإنه لو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك». فالحديث يقرر بوضوح أن الإيمان سبب في وصول عمل المؤمن إلى أخيه المؤمن.
وعندي في الآية وجه آخر وهو : الإشارة إلى تحقيق العدل المطلق، بأنه لا ينقل سعي الخير من شخص إلى آخر ، ولو كانت بينهما قرابة الأبوة أو الأخوة مثلا، فكل واحد له عمله الصالح ، لا ينقص منه شيء يزاد لغيره.
بدليل أن هذه الجملة ذكرت في مقابلة قوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَأُخْرَى [النجم: ٣٨] فكما لا يؤخذ الشخص بذنب غيره، كذلك لا ينتفع بحسنة غير. ولا علاقة للآية - على هذا - بإهداء عمل صالح كقراءة القرآن للميت، بل يستفاد حكمه من دليل آخر. فقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سمع في الجمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. فقال: «من شبرمة؟» قال أخ لي مات، قال: «هل حججت عن
نفسك؟ قال : لا . قال : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة».
وصح أيضًا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذن لرجل أن يحج عن أبيه، ولامرأة أن تحج عن أمها.
وصح أيضًا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من مات وعليه صيام
خواطر دينية جـا
صام عنه وليه».
فأثبتت السنة الصحيحة وصول العبادة إلى الميت، وهل قراءة القرآن إلا عبادة؟ فهي تصل كما يصل غيرها من العبادات. لا سيما والحج المأذون في فعله عن الميت مشتمل على القراءة أيضًا، إذ من أفعاله صلاة ركعتين بعد الطواف عند مقام إبراهيم عليه السلام، هذه خلاصة المسألة وبالله التوفيق.
الجهاد نوعان:
أنواع الجهاد
أحدهما: الجهاد في سبيل الله. وهو قتال الكفار والمنافقين لإعلاء كلمة الله ودينه. وقد حض الله عليه وبين أحكامه في (سورة آل عمران) و(النساء) و (الأنفال) و(التوبة) وغيرها.
ويكفي في الترغيب فيه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةُ يُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْءَ إِنْ وَمَنْ أَوْفَى بعهده مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[التوبة: ١١١].
ثانيهما: الجهاد في الله، وهو عبارة عن مخالفة النفس فيما تهواه، ورياضتها
(۱)
بالصلاة والذكر ونحوهما من العبادة، وقد ذكره الله في موضوعين من كتابه
(۱) تذكرت موضعا ثالثًا، وهو قوله تعالى: وَمَن جَهَدَ فَإِنَّمَا يُجَهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ آية (٦) من (سورة العنكبوت)، وهي مكية.
١١٦
الأدب والمتفرقات
الأول: قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَرْكَعُوا وَأَسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ربِّكُمْ وَأَفْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ ٣ ا جهاده ) [ الحج : ۷۷ - ۷۸]
الثاني: قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا في ذاتنا وحقنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبلنا طرق السير الموصلة إلينا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩] وبالرعاية والعناية والتأييد.
ولم يقل «المؤمنين» للإشارة إلى أن الجهاد في الله تعالى يوصل إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى مقامات الدين، إذ هو كما قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وحاصله : أن تعبد الله على المشاهدة، فإن لم تستطع فعلى المراقبة.
وهذا دليل الصوفية على المجاهدة التي جعلوها أصل طريقهم، واعتمدوها في سلوكهم وتكلموا على ما تورثه من الأسرار والمواهب حسب
أذواقهم ووجداناتهم. وقالوا: إن جهاد النفس أشق من جهاد الكفار ، واستدلوا بما رواه البيهقي في "الشعب" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما رجعنا من غزوة تبوك، ووصلنا إلى المدينة قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «قدمتم خير
مقدم، رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد العبد هواه». سمى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جهاد الكفار جهادًا أصغر وجهاد النفس جهادًا أكبر، فدل على أنه أفضل وأهم. واعترض عليهم ابن تيمية بأن
خواطر دينية جـا
۱۱۷
الحديث موضوع، وهو خطأ، لأن الحديث ضعيف فقط، ويتأيد بأمور: 1 - أسلوب القرآن الكريم حيث سمى جهاد الكفار جهادًا في سبيل الله،
وجهاد النفس جهادًا في الله، وبين العبارتين بون يؤذن بالفرق بين المقامين. ٢- أن الجهاد في سبيل الله فرض كفاية، يتعين في بعض الحالات، وجهاد النفس فرض عين، وهو أفضل من فرض الكفاية حسبما تقرر في علم
الأصول. ٣- أن الكفار أعداء ظاهرون، لا يكون بينهم وبين المسلمين حرب دائمة بل في أوقات المناسبات، ثم تنتهي بنصر ، أو صلح، أو هدنة، أو غير ذلك، إذا قتلوا مسلما فهو شهيد بخلاف النفس فإنها بين جنبي الإنسان لا يمكنه الانفصال عنها، وهي عدو له لتحريضها إياه على اقتراف الشهوات والمعاصي، يساعدها الشيطان فإن غلبت صاحبها وقتلته، كان مصيره إلى النَّار، لكفره، أو عصيانه، فمن هنا كان جهادها أكبر وأشق من جهاد الكفار.
أفضل الذكر
أفضل الذكر: «لا إله إلا الله، لأن معناها : إثبات الألوهية الله تعالى، ونفيها عما سواه. وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل من لدن آدم إلى النبي عليه الصلاة والسَّلام، ولذا جاء في الحديث: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله».
وقد جعل الشرع النطق بهذه الكلمة علامة على إسلام الكافر، لا يقوم غيرها مقامها، فإذا أضيف إليها وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
۱۱۸
الأدب والمتفرقات
وهو على كل شيء قدير، كان تصريحًا بما أفاده مضمونها إجمالا، وزيادة ثناء
على الله تعالى.
تليها : «الحمد الله»، ومعناها: الثناء على الله تعالى بإثبات كل كماله سبحانه. ولذا رغب الشرع في قول هذه الكلمة عقب حصول نعمة، كشبع وري وشفاء ونحو ذلك، لأن الإنسان بطبيعته ناقص محتاج إلى ما يكمل أغراضه، يحس بالجوع، فيدفعه بالطَّعام. ويحس بالظمأ فيدفعه بالماء. ويمرض، فيلجأ إلى العلاج. وهكذا كلما كملت له نعمة، وتكمل غرضه بها حق عليه أن يحمد صاحب الكمال المطلق سبحانه وتعالى.
تليها كلمة «سبحان الله ومعناها تنزيه الله عن كل نقص، كالولد والصاحبة والظلم والغرض ونحو ذلك. فإذا اجتمع التسبيح والتحميد، نحو سبحان الله والحمد الله، أو سبحان الله وبحمده أفاد اجتماعهما الثناء على الله
بشقيه: الإيجاب، وهو معنى الحمد والسلب، وهو معنى التسبيح. ولذا ورد في فضل ذكرهما معا أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه
وآله وسلّم: «سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض». وقوله صلى الله عليه وآله وسلَّم: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في
الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».
وهو آخر حديث في "صحيح البخاري" عند أبي هريرة.
بل نوه القرآن عنهما في غير آية، مثل وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَدِهِ [الإسراء: ٤٤] أي ما من شيء من المخلوقات ناطقها وصامتها إلا وهو ينزه الله
خواطر دينية جـا
۱۱۹
تعالى عن النقص، مثبتا له الكمال المطلق.
وفي الآية تعريض بالكفار الذين شذوا عن المخلوقات بنسبتهم النقص
إلى الله تعالى كالشريك والصاحبة والولد. مثل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ
السجدِينَ ﴾ [الحجر: ۹۸]
٧]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ [غافر: 7].
فسبحان اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ ﴾ [الروم: ۱۷ - ۱۸] إلى غير ذلك من الآيات. تليها الله أكبر. ومعناها: الثناء على الله تعالى بأنه أعظم من كل عظيم، ولذا جعل الشرع هذه الكلمة في الأذان والإقامة والصلاة، ليستحضر المكلف
عظمة الله سبحانه وتعالى، فيقبل على العبادة بخشوع وخضوع.
فإذا اجتمعت هذه الكلمات الأربع. لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر. أفادت الثناء على الله تعالى ،بتوحيده وبكماله المطلق، وبتنزهه عن النقائص، وبعظمته.
وحق لكلام جمع هذه المعاني العظيمة أن يكون أفضل الكلام، ولذا صح في الحديث: «إن الله اصطفى من الكلام أربعًا لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».
أمتك
وجاء في الحديث أن إبراهيم قال للنبي صلى الله عليهما وسلم: «أقرئ
مني
السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن
غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وكان هذا في ليلة
۱۲۰
المعراج والحديث صحيح.
الأدب والمتفرقات
وثبت أيضًا في حديث صلاة التسابيح، وهو حديث صحيح . خلافا لمن قال بوضعه أو ضعفه أن من صلاها غفر الله له ذنبه كله أوله وآخره، وقديمه وحديثه، وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته، لأنها تشتمل على ذكر تلك الكلمات ثلاثمائة مرة تضرب في أربعة، يصير المجموع ألفا ومائتي مرة، وجدير بمن ذكر هذا العدد ثناء وتمجيدًا الله تعالى، أن تغفر ذنوبه كلها، وربك واسع المغفرة. ويحب من عبده أن يحمده ويمجده، ويعطي على ذلك ما لا يعطي على غيره.
وبعد هذا تأتي كلمة : لا حول ولا قوة إلا بالله. ومعناها: لا تحول عن المعصية، ولا قوة على فعل الطاعة إلا بالله أي بإرادته وقدرته، وفيها الاعتراف بالقدر، وبأن قدرة العبد مخلوقة الله تعالى. وقد ثبت في الصحيح من
حديث أبي موسى أنها كنز من كنوز الجنة». ثم يأتي الاستغفار، وله صيغ: أستغفر الله أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، رب اغفر لي . وأفضل صيغة، ما ثبت في صحيح البخاري" عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
ومن فوائد الاستغفار تكثير الرزق فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
خواطر دينية جـا
۱۲۱
ن يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ
أنها [نوح:
.[۱۲ - ۱۰ :
ومن فوائده أيضًا ما جاءت في الحديث: من أكثر الاستغفار جعل الله له
من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا».
ثم تأتي الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. ولها صيغ وأفضلها الصلاة الإبراهيمية: «اللَّهمَّ صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد».
ولهذه الصلاة صيغ كثيرة، استوعبها تقي الدين السبكي في آخر كتاب
"شفاء السقام" وتراجع في كتاب "القول البديع" للحافظ السخاوي. ويستحب ذكر السيادة، فإنها من الأدب الواجب في هذا المقام، وحديث:
لا تسيدوني في الصلاة»، مكذوب.
ومن فوائدها تفريج الهموم والكروب وقد أنشأت بهذا القصد صلاتين أثبتهما هنا.
١ - اللهم صل على عبدك المكمل، ورسولك المبجل، وخليلك المفضل؛ سيدنا محمد الذي منحته المقام المحمود، والحوض المورود، وأخذت لأجله على الأنبياء المواثيق والعهود مفتاح الكائنات، وختام النبوات، ومجلى الأسماء والصفات. صلاة تفرج عنا بها الكرب وتقضي لنا بها الحاجات، وتفتح لنا بها أبواب القرب وتيسر بها أسباب المكرمات وعلى آله المطهرين من الأرجاس
۱۲۲
الأدب والمتفرقات
وصحابته المخاطبين بكنتم خير أمة أخرجت للناس، وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
٢ - اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك سيدنا محمد الذي نطق له الحجر، وسجد له الشَّجر، وانشق بإشارته القمر. وزال ببركة مسحه عن ذوي العاهات الضرر. نبع من أصابعه الشريفة الماء النمير، ونزل بدعائه المطر الغزير، وانزاح بغوثه الكرب عن الخلق الكثير، صلاة وسلاما يكونان سببًا في كشف كربتنا وتفريج غمتنا، والتعجيل بزوال شدتنا. اللهم اجعل صلاتنا عليه وسيلة إليك، واقبل استشفاعنا به لديك. فإنه رسولك الطاهر المطهر وحبيبك الشفيع المشفع هنا وفي المحشر. وارضى اللَّهم . آله الطيبين الطاهرين وصحابته من الأنصار والمهاجرين
(1)
القرآن أفضل الأذكار
القرآن أفضل الأذكار على الإطلاق، لا يوجد ذكر يوازيه، فضلا عن أن يكون أفضل منه ، ومن فضل ذكرًا عليه كصلاة الفاتح- فقد ضل ضلالا بعيدا وإذا كان الحديث القدسي - وهو كلام الله أيضًا دون القرآن، فكيف يكون غيره أفضل منه ؟! هذا لا يجوز ولا يعقل ! وأفضل أحوال القرآن قراءته في الصَّلاة وإنما اختيار الصوفية للسالك ذكر الاسم المفرد أمر والهيللة على تلاوة القرآن لأمرين:
(۱) ذكرتهما مع صلوات أخرى في كتاب "النفحة الإلهية في الصلاة على خير البرية". وهو مطبوع.
خواطر دينية جـا
۱۲۳
أحدهما: أن الاسم المفرد والهيللة من القرآن الكريم.
ثانيهما: أن السالك يحتاج - أثناء سلوكه - إلى ما يجمع فكره وقلبه، وليس ذلك إلا في الذكرين السابقين. أما القرآن فإنه ينتقل بالتالي من الكلام على وحدانية الله تعالى إلى الاستدلال على البعث إلى بيان الأحكام، إلى الحض على جهاد الكفار، إلى قصص الأنبياء وبيان ما فيها من عبرة، غير ذلك من المقاصد السامية التي عرض لها القرآن، وجلاها بأوضح بيان. ولا شك أنها تشتت فكر السالك وقلبه، لكنه إذا وصل وفتح عليه، كان أحسن ما يعطاه فهما في كتاب الله تعالى واستخراج ما فيه من حكم ومعارف وأسرار. فالقرآن هو المقصود على كل حال، وما اختاروه أثناء السلوك، وسيلة إليه، فتقديمه من باب تقديم الوسائل أمام المقاصد، وبالله التوفيق.
معنى: وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
قول الله تعالى: وَلَا تَمَن تَسْتَكْرُ ﴾ [المدثر : ٦] معناه: لا تعط شيئًا لتطلب أكثر منه. وهذا الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه مأمور بأكمل الآداب، وبرفع الهمة عن الخلق. وقد اختص عليه الصَّلاة والسلام بأشياء حرمت عليه وحده، زيادة في رفع منزلته، هذا منها .
ويجوز لغيره أن يهدي هدية ليطلب أكثر منها، وتسمى في كتب الفقه «هبة الثواب وصورتها: أن تهدي لصديقك في مناسبة كزواج، هدية من نقود أو غيرها ليرد لك في مناسبة عندك، مثلها أو أكثر منها، وهي «النقوط» في عرف العامة، فإن
لم يفعل فلك أن تأخذ منه قيمة ما أهديت له، لا أكثر، ويحكم له به القضاء.
١٢٤
الأدب والمتفرقات
وهبة الثواب مذكورة في سورة الروم)، في قوله تعالى: وَمَاءَ اتَيْتُم مِن ربا بأن تعطوا شيئًا لتطلبوا أكثر منه، وأطلق عليه ربا، للزيادة في المعاملة ليربوا يَرْبُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ) ليزيد في أموال المعطى لهم فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللهِ ﴾ [الروم: ٣٩] أي لا يذكر عنده، إذ لا ثواب فيه، لأنه قصد به المعاوضة، فهو نوع من المعاملة كالبيع ونحوه، فالآية لا تحرمها، وإنما بينت أنه لا ثواب فيها؛ لأنها ليست بعبادة.
المسلم لا يقتل بالكافر
قوله تعالى: لَا يَسْتَوى أَصْحَبُ النَّارِ وَأَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَابِرُونَ [الحشر: ۲۰] استدل به الشَّافعيّة على أن المسلم لا يقتل بالكافر إذا قتله، وجه ذلك أن الفعل يتضمن مصدرًا منكرًا، والنكرة في سياق النفي تعم وصفا. فيكون المعنى: لا استواء بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، ولو قتل مسلم بكافر لاستويا من هذه الجهة، والآية تنفي استواءهما من جميع الجهات. وأيدها الحديث الصحيح: «لا يقتل مسلم بكافر».
وقد ذكرت طرقه في كتابي "الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج" وهو كتاب ألفته زمان الطلب، خرجت فيه أحاديث "المنهاج" للبيضاوي في الأصول،
وكنا نقرأه بشرح الإسنوي. وبتأليفه تدربت في صناعة الحديث، وقد خرج
أحاديثه قبلي
العلامة
المحدث المطلع بدر الدين الزركشي، والحافظ ابن الملقن، ولا أعلم لهما ثالثا. وقد وقفت على تخريجهما فوجدت كتابي أوسع من كتابيهما، وأغزر مادة،
خواطر دينية جـا
وأكثر فائدة، ومع ذلك فقد استفدت من كل منهما فائدة واحدة. وخرجت أيضًا أحاديث كتاب "اللمع" في الأصول، لشيخ الشَّافعية الإمام أبي إسحاق الشيرازي، ولا أعلم أحدًا خرج أحاديثه قبلي.
جواز الفطر للصائم المتطوع بغير عذر
قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَلَكُمْ [محمد: ۳۳] استدل به المالكية والحنفية على حرمة فطر الصائم المتطوع بغير عذر، وعلى حرمة قطع صلاة التطوع بغير عذر ، لأنه إبطال لهما، وقد نهى الله عنه، والنهي يفيد التحريم وهو استدلال ،قوي، إلا أن الجمع بين الأدلة واجب، وإلغاء أحدها لا يجوز.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر». وصح أيضًا أنه صلى الله عليه وآله وسلّم، دخل بيته ضحى، فإما سأل عن إدام، وإما قدم له فقال: «أرونيه فلقد أصبحت صائما وأفطر. وتقاس الصلاة عليه، وهو قياس جلي، فيخصصان من الآية بالحديث في الصوم، وبالقياس في الصلاة، وتبقى عامة فيما سواهما كالحج والصدقة ونحوهما، وبهذا أخذ الشافعية.
ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم العائد في هبته، فقال: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه لأنه بعد أن أمضى هبته حمله الشح على العود فيها فأبطل عمله وكان عاصيا الله تعالى بمقتضى الآية الكريمة، واستحق
الذم البليغ على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم .
١٢٦
الأدب والمتفرقات
أسماء النار في القرآن الكريم
أسماء النار في القرآن الكريم كثيرة
أحدها: النَّارِ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [البقرة: ٢٤].
ثانيها: جهنم: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: ٤٣] .
ثالثها: الشعير: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: ٥]. رابعها : لظى: كلا إنها لى ) نَزَاعَةُ لِلشَّوَى ﴾ [المعارج: ١٥ - ١٦].
خامسها: سقر : سَأَصْلِيهِ سَقَر [المدثر : ٢٦].
سادسها: الهاوية: ﴿ فَأْتُه هَاوِيَةٌ ) وَمَا أَدْرَنَكَ مَا هِيَهْ نَارُ
حَامِيَة [القارعة: ۹ - ۱۱] .
جهنم
سابعها: الحطمة: كَلَّا لَيُبَدَنَّ فِي الْمُطْمَةِ ﴾ [الهمزة: 4].
ثامنها: السُّوائ: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَقِبَةَ الَّذِينَ أَسَنُوا السُّوَاكَ ﴾ [الروم: ١٠] أي
وهي دركات والمنافقون في الدرك الأسفل منها : إِنَّ الْمُنفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: ١٤٥] أعاذنا الله منها بفضله وكرمه.
أسماء الجنة في القرآن الكريم
أسماء الجنة في القرآن الكريم:
أحدها: الجنة : ويُدخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَفَهَا لَهُمْ ﴾ [محمد : ٦] .
ثانيها : دار السلام لهم دَارُ السَّلَامِ عِندَ ﴾ [الأنعام: ١٢٧].
خواطر دينية جـا
۱۲۷
ثالثها: الحسنى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى الجنة وَزِيَادَةٌ هي النظر إلى
وجه الله تعالى [يونس: ٢٦].
بذلك فسرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في "صحيح مسلم"
من حديث صهيب رضي الله عنه .
رابعها : عدن: جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ [الرعد: ٢٣].
خامسها: الفردوس : أُولَيْكَ هُمُ الْوَرِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ )
[المؤمنون: ١٠ - ١١].
سادسها روضة فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي
روضة جنة يخبرون يسرون [الروم: ١٥].
سابعها: دار المقامة: الَّذِي أَحَلَنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ﴾ [فاطر: ٣٥].
ثامنها : المأوى : عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: ١٥].
تاسعها: النعيم: إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّتُ النَّعِيمِ
[لقمان: ۸]
عاشرها رحمة الله: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ أي الجنة
هم فيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٧].
وثبت في الحديث الصحيح أن الفردوس أعلى الجنان وأفضلها، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها من غير سابقة عذاب بجوده وكرمه.
۱۲۸
الأدب والمتفرقات
معنى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا الآية
قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنَامُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِدًا
فيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: ٩٣]. سألت عنه مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه ، فقلت: هذه الآية تفيد أن القاتل مخلد في النار، فكيف يُجاب عنها، لتتفق مع الأدلة الدالة على أن عصاة المؤمنين لا يخلدون في النَّار؟
قال: الجواب في الآية نفسها. قلت كيف ذلك؟ قال: في قوله تعالى: فَجَزَاؤُهُ أي أن هذا جزاؤه ولكن الله تعالى تفضل فلم يعاقبه بهذا الجزاء، وهذا كما يقول الرجل لولده إذ خالفه جزاؤك أن أضربك مائة سوط، ثم يسامحه، أو يضربه عشرة أسواط، وبهذا تكون الآية متفقة الأدلة من الكتاب والسنة المتواترة المفيدة بالقطع أن عصاة المؤمنين يخرجون من
ويدخلون الجنة.
مع
النَّار،
وقد ثبت في الحديث أن الكفار إذا رأوا العُصاة خرجوا من النَّار تمنوا لو كانوا مسلمين، ليخرجوا مثلهم، وهذا معنى قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: ٢].
وما ورد عن ابن عباس من أنه حمل الآية السابقة على ظاهرها، وجعلها ناسخة لآيات المغفرة، لعله لا يصح عنه، لأنه يعلم أن آيات المغفرة أخبار، وأن الأخبار لا يدخلها ،نسخ، ولأنه أحد رواة الأحاديث الدالة على خروج
العصاة من النَّار، والقاتل مؤمن، بدليل قوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ
خواطر دينية جـا
۱۲۹
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحَرِ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٍ فَانْبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءُ إِلَيْهِ بِإِحْسَنِ ﴾ [البقرة: ۱۷۸].
وقوله تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَنَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
[الحجرات: 9]. الآية، والله تعالى أعلم.
المعاصي نوعان
قسم الله تعالى المعاصي إلى كبائر، وسيئات أو لم. فقال تعالى: إن جتَنِبُوا كَبَابِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [النساء: ٣١]. وقال جل شأنه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَّرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَ ﴾ [النجم:
.[٣٢
والسيئات أو اللمم هي الصغائر وتغفر باجتناب الكبائر كما سبق، أو بفعل الحسنات، كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤]. ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أصاب رجل - هو أبو اليسر - من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، وأنزل الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَوٰةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: ١١٤] فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: «الجميع أمتي كلهم». أما الفواحش فهي من الكبائر ، لكن القرآن يطلقها في الغالب على الكبائر المتعلقة بالفروج إيذانًا بشدة قبحها، كنكاح امرأة الأب، والزنا، واللواط. وذهب بعض العلماء منهم تقي الدين السبكي إلى أن المعاصي كلها كبائر،
۱۳۰
الأدب والمتفرقات
وإنما يقال لبعضها صغائر بالنسبة لما هو أكبر منها. وصنيع القرآن يرد عليهم. وأيضًا فإننا ندرك بالضرورة أن القبلة لا توازي الزنا، وأن سرقة قرش لا توازي سرقة مائة وأن قولك لشخص يا بخيل، أو يا لئيم. لا يوازي قولك له: يا زاني أو يا لائط.
ثم إن أكبر الكبائر بعد الكفر القتل، للآية السابقة: وَمَن يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ [النساء: ٩٣] الآية.
ولحديث: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو يقتل مسلما متعمدا .
ولحديث: «لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دما حرام». يليه الزنا، سماه الله فاحشة وَلَا نَقْرَبُوا الزِنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: ۳۲] ولأن فيه مفسدة هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وغير ذلك.
وجاء في حديث: «ما مِن ذَنْبٍ بعد الشِّرْكِ أعظم عند الله مِن نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لا يحل له». وذكر النطفة خرج مخرج الغالب، لا مفهوم له، فالعزل أو استعمال حائل يمنع نزول المني في الفرج، لا يخفف الإثم لأن هتك العرض حاصل به على كل حال، وهو أنواع أقبحها: الزنا بإحدى المحارم. فقد سماه القرآن فاحشة ومقتا قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾
[النساء: ٢٢].
خواطر دينية جـا
۱۳۱
ثم الزنا بامرأة الجار، لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لأن يزني أحدكم بعشرة نسوة أهون من أن يزني بحليلة جاره وفي معناه الزنا بأمرأة من بينك وبينه صلة أو صداقة أو معاملة.
ثم اللواط؛ سماه الله تعالى فاحشة أيضًا، وعذب أهله بعذاب لم يعذب به
أمة مثلهم. وفي الحديث: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل
قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط».
ولأنه شذوذ في الطبيعة، وانحط في الخلق، ولذا ثبت في الحديث: «من
وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».
وللحافظ السيوطي في تصحيح هذا الحديث رسالة "بلوغ المأمول من خدمة الرسول" وهي من جملة رسائل الحاوي للفتاوى. وبهذا الحديث أخذ
المالكية.
ثم الربا؛ لقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (2) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: ۲۷۸ -
[۲۷۹
ولحديث: «ما ظهر الزّنا والرِّبا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله». ونرى أن ما هو حاصل اليوم من الحروب والتهديد بها، وإصابة المزروعات بالجوائح، وذهاب البركة من المال والقوت والوقت، سببه انتشار الربا بين الدول والأفراد، حتى أصبح التعامل به من ضروريات الحياة. وانتشر
۱۳۲
الأدب والمتفرقات
معه جمود العين، وقسوة القلب، وعدم إجابة الدعاء، والزنا في هذا دخل أيضًا، لكنه لم يأخذ طابع الدولية مثل الربا، كما هو ظاهر.
ثم الخمر؛ قرنها الله تعالى بالأصنام في وجوب الاجتناب: تَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِنَّمَا الْخَرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ الأصنام وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: ٩٠].
لما نزلت هذه الآية مشى الصَّحابة بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. وقال أبو موسى الأشعري: ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية من دون الله يعني أن القرآن جعلهما سواء. وفي الحديث: «مدمن الخمر كعابد وثن». وفي الحديث أيضًا: «من زنى أو شرب
الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه». وسمى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الخمر أم الخبائث، لأن الشخص
إذا سكر وفقد عقله، استسهل الكفر والزنا وكل معصية.
والميسر - وهو القمار - تفيد الآية أنه في درجة الخمر؛ لأنها جمعتهما في سياق واحد، وهو حقيق بذلك، لأنه يضيع على المقامر ماله، ووقته، ودينه، وعمله، وقد يتسبب في فراق زوجه، وخراب بيته وربما يموت حسرة. أو انتحارا على
خسارته.
والقمار يشمل سباق الخيل - وهو غير المسابقة الشرعية والنرد (الطاولة) والدومينو. والضامة والسيكة. وكل ما يلعب في مقابل شيء ولو مليما فهو قمار. أخرج الإمامان مالك وأحمد عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله
خواطر دينية جـا
۱۳۳
صلى الله عليه وآله وسلّم: «من لعب بنرد أو نرد شير فقد عصى الله ورسوله». وفي حديث آخر: اللاعب بالنرد قمارًا كآكل لحم الخنزير واللاعب به بغير
قمار كالمدهن بشحمه». وشحم الخنزير نجس، والمدهن بالنجاسة آثم. ثم تأتي بقية الكبائر على حسب ما فيها من مفاسد ومضار، كاكل مال
اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف المحصنة العفيفة، وغير ذلك. والكبيرة كل معصية توعد الله أو رسوله عليها بالعذاب، أو اللعنة، أو الغضب، أو كانت تؤذن بتهاون مرتكبها بالدين
والصغيرة ما دون ذلك كالقبلة والنظرة واللمسة، وسرقة ما دون النصاب، وكشرب الدخان والشيشة والجولاك؛ وهو نوع من الشيشة يشربه أهل الحجاز، والقات يمضغه أهل اليمن.
فكل هذه محرمة لثبوت ضررها على الصحة والمال، والمداومة على الصغيرة يصيرها كبيرة، كذا قال الجمهور واستدلوا بحديث: «لا صغيرة مع إصرار ولا
كبيرة مع الاستغفار». لكنه حديث ضعيف.
وقد ناقش الشوكاني في "إرشاد الفحول" ما ذهب إليه الجمهور، واختار
أن الإصرار على الصغيرة لا يخرجها عن حقيقتها.
قلت: ومع
ذلك فالإصرار عليها حرام يضاف إلى حرمتها، فيكون فيه
إثمان: إثم الصغيرة، وإثم الإصرار عليها.
وقد حض القرآن على الإقلاع عنها، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً كبيرة كالزنا أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ بما دونها كالقبلة وذكروا الله الله
١٣٤
الأدب والمتفرقات
أي عقابه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا من الفاحشة وما دونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: ١٣٥] أن ما
.
فعلوه حرام.
هذا وقد ألف في عدد الكبائر جماعة من العلماء منهم ابن القيم والذهبي، ثم جاء الفقيه ابن حجر الهيتمي المكيا المكي الشافعي، فعمد إلى قسم الترهيب من كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري، فجرده في كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" وضم إليه بحوثا فقهية، فجاء كتابًا حافلا في موضوعه إلا أنه توسع فأدخل فيها ما لا يسلم له وفي عزمي أن ألخصه تلخيصا جيدا، بحيث أحذف منه ما لا يساعد عليه الدَّليل، أو كان دليله ضعيفًا أو غير ظاهر الدلالة، وفق الله إلى ذلك وأعان عليه، إنَّه الموفق المعين.
ما يجب فيه الحد من المعاصي
المعاصي التي يجب فيها الحد الشرعي سبعة:
إحداها : الردة: إذا خرج المسلم عن دينه بقول أو عمل، يمهل ثلاثة أيام يستتاب فيها من غير إكراه ولا تعذيب، فإن تاب ،قبل، وإن لم يتب قتل الحديث من بدل دينه فاقتلوه». وهو في "صحيح البخاري".
ثانيتها: القتل من قتل مسلما متعمدا، قتل به، لقوله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ
ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الخرُ بِالْخر ﴾ [البقرة: ۱۷۸] الآية.
ثالثتها : الزنا من زنى ولم يسبق له زواج يجلد مائة جلدة، لقوله تعالى:
الرَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: ٢] الآية، وينفى سنة، لحديث
خواطر دينية جـا
۱۳۵
الصحيح البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام.
ومن زنى وقد سبق له زواج -وهو المحصن- يرجم حتى يموت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم رجم الزانيين المحصنين، ورجم بعده الخلفاء الراشدون وانعقد عليه الإجماع.
رابعتها اللواط يرجم الفاعل، وكذا المفعول به إن كان بالغا، سواء أكانا محصنين أم لا، لحديث: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول به .
خامستها: القذف من قذف مسلمًا أو مسلمة بالزنا ولم يأت بشهود أربعة يثبتون ما قال، يجلد ثمانين جلدة، ويفسق، ولا تقبل له شهادة في شيء إلا أن يتوب، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَوْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُ وهُمْ ثَمَنِينَ جلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَدَةً أَبَدًا وَأَوْلَيْكَ هُمُ الْفَنسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النور: ٤ - ٥] .
سادستها: الخمر من شربها يجلد ثمانين جلدة، وثبت في الحديث أن الشارب يقتل في المرة الرابعة، وبه أخذ عبد الله بن عمرو وابن حزم وغيرهما
فقالوا في شارب الخمر يجلد ثلاث مرات، وفي الرابعة يقتل
سابعتها: السرقة : قال الله تعالى: وَالسّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَلًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزُ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: ۳۸].
:
وبينت السنة أن من سرق ربع دينار نقدا أو ما يعادله من ثياب وغيرها تقطع يده اليمنى من الكوع، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم
١٣٦
الأدب والمتفرقات
فإن عاد الثالثة قطعت كفه اليسرى، فإن عاد الرابعة قطعت قدمه اليمنى، فإن عاد الخامسة يعذر بما يكون دعا له. وذلك موكول إلى اجتهاد الحاكم، وورد في حديث أنه يقتل، لكنه حديث ضعيف، وبقية المعاصي التي لا حد فيها شرعًا،
يجب فيها التعزير بضرب أو نفي أو غيرهما حسب اجتهاد الحاكم. والحكمة في اختصاص الحد بهذه السبعة : أنها تتعلق بالضروريات التي لا يستغنى عنها، وهي:
۱ - الدين: وهو ضروري للإنسان، وللمجتمع. ومحافظة على بقائه وجب جهاد الكفار، وقتل المرتد .
٢ - النفس: وهي أساس الحياة، فوجب القصاص ممن أزهقها بغير حق. - النسب وبه يمتاز النوع الإنساني، وحفظا له من التلوث والاختلاط، وجب حد الزاني. وألحق به اللواط؛ لأنه مع شذوذه - ينشأ عنه امتهان الرجولة، وتقليل النسل، وفي تقليله قطع للنسب، ولكونه قلبًا للطبيعة، عذب الله قوم لوط بقلب بلدهم بأن جعل عاليها سافلها، جزاءً وفاقا.
- العرض: وهو مناط الكرامة، وبدونه لا كرامة للشخص، فلهذا وجب حد خادش العرض بغير حق، فيعيش الإنسان مصون العرض، موفور
الكرامة.
-0
- العقل: وهو الموهبة الكبرى، وبه يتميز الإنسان ويتقدم في العلوم والمخترعات، واستجلاء أسرار الطبيعة، فوجب الحد على شرب الخمر؛ لأنها تغتاله، وتعطل مواهبه، ومن هنا حرمت سائر المخدرات: الحشيش والأفيون وغيرهما، ووجب التعزير على تعاطيها والذين يتعاطونها للناحية الجنسية
خواطر دينية جـا
۱۳۷
واهمون مخطئون؛ لأنها لا تأثير لها في تلك الناحية إلا في خيالهم، ولأن حفظ
عقولهم - لو علموا - أهم من المتعة التي يطلبون.
٦- المال وهو عصب الحياة وبه ،قوامها فوجب حفظه بالحد على
السرقة.
الكفر أنواع:
أنواع الكفر
1 - الإشراك: وهو أيضا أنواع:
اعتقاد أن الملائكة بنات الله تعالى، أو عزير ابن الله، أو عيسى ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرًا، أو عبادة الجن أو الأصنام، أو الشيطان، أو الكواكب كلها أو بعضها، أو النَّار، أو ملك كفرعون، أو البقر، أو بعض الحيوانات، أو فروج النساء، أو اعتقاد أن للعالم إلهين: إله الخير وإله الشر، أو اعتقاد أن الإله مركب من أقانيم، أو أجزاء، أو له جوارح كالأيدي مثلا، أو أنه حل في جسم من الأجسام، أو امتزج به فكل هذا شرك يشمله قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَهُ النَّارُ ﴾ [المائدة: ۷۲].
- إنكار وجود الله تعالى.
٣- إنكار نبوة نبي، كإنكار اليهود نبوة سليمان وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكإنكار النصارى نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ٤ - نسبة كفر أو معصية إلى نبي، كقول اليهود: كان سليمان ساحرًا وقولهم أيضًا: إن داود شرب الخمر وزنى ببنته، لعنهم الله.
۱۳۸
الأدب والمتفرقات
ه - سب نبي، أو لعنه، أو الاستهزاء به، أو التحريض على إذايته. ٦ - سب ملك، كجبريل أو ملك الموت، أو وصفه بما لا يليق بمنصبه. - إهانة المصحف أو تقذيره أو نسبة الخطأ إليه، أو دعوى إمكان معارضة سورة منه.
- اعتقاد نبوة شخص بعد نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلم، مثل القاديانية الكفرة الذين يعتقدون نبوة رئيسهم الكذاب غلام أحمد القادياني، الذي كان يعمل لمصلحة الاستعمار البريطاني في الهند وكان يصرح بحبه للإنجليز،
ويحض أتباعه على حبهم.
.
٩ - إنكار البعث وما بعده، مثل البهائية الذين ينكرون البعث، ويزعمون أن الدنيا لا تفنى، وزادوا كفرًا ،آخر، فزعموا أن الإسلام نسخ بدينهم الباطل. وهم يخدمون الاستعمار في كل مكان، بدليل أن فرنسا سمحت لهم بإنشاء فرع في تونس، لأنهم يدعون إلى ترك الجهاد، ويقولون: إن دينهم نسخ الجهاد وأتى بالسلم العام. وقد ناقشت أحدهم في هذا فقلت له هذه البلاد المصابة بالاستعمار الإنجليزي أو الفرنساوي، ماذا يفعل أهلها؟ هل يتركون الجهاد؟ قال: نعم. قلت: ويتركون المستعمرين يستغلونهم؟ قال: يبشرونهم بالدين البهائي، فإن المستعمرين إذا اعتنقوا هذا الدين تركوا الاستعمار بدون جهاد! قلت له: وإذا لم يعتنقوه؟ قال: لا بد أن يعتنقوه، قلت: كم سنة تلزم لاعتناقهم الدين؟ قال: ليس المهم المدة، فقد تكون خمسين سنة أو أكثر، وإنما المهم اقتناعهم بالدين، له قلت له وعلى هذا نترك المستعمرين يتحكمون فينا مئات
واعتناقهم
خواطر دينية جـا
۱۳۹
السنين، في انتظار اقتناعهم بدينكم ليدعوا بلادنا عن طيب خاطر منهم!! قال: فالتبشير جهاد!! ولهذا يجدون المساعدات المادية والأدبية من المستعمرين في مستعمراتهم، لأنهم يثبطون الناس عن جهادهم، ومقاومة استغلالهم وطغيانهم.
١٠ - السحر؛ قال الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ باستعمال السحر وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَرُونَ ﴾ [البقرة: ۱۰۲ (۱)
١١ - إنكار أحد أركان الإسلام، كالصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الجمعة، أو إنكار حرمة الزنا أو الخمر أو الربا، أو نحو ذلك مما هو معلوم.
(Y)
فمن ارتكب أحد الأنواع المذكورة فهو كافر، وإن ادعى الإسلام
بلسانه، لا يقبل الله منه عملا، وإن مات على ذلك مات كافرا، وكان مخلدا في
النار أبدا.
الفرق بين العقيدة والتعصب والتسامح
كثير من الناس في مصر ومنهم علماء يخلطون بين هذه الأشياء خلطا معيبًا يؤدي إلى خلل في دينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فإذا سمعك
(۱) انظر "تفسير الفخر الرازي" في هذه الآية، وكذا "تفسير القرطبي". (۲) للعلامة الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي كتاب "الإعلام بقواطع الإسلام" ذكر فيه الأمور المكفرة التي يعتبر فاعلها خارجا عن الدين، وهو مفيد،
على توسع فيه.
١٤٠
الأدب والمتفرقات
أحدهم تقول : لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة، اعتبر هذا تشددًا وتعصبًا، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وعد نفسه متمسكا بسماحة الإسلام، وما درى أنه خرج من دينه وهو لا يشعر، وما أتى إلا من
قبل جهله وضعف عقيدته.
ولكشف النقاب عن خلطهم نقول :
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب أن تعامل اليهودي أو النصراني بحيف وتبخسه حقه والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه. والتسامح أن تحسن معاشرته وتجامله في المناسبات، فإذا حصلت له مصيبة واسيته فيها، وإذا حصل عنده فرح كعيد مثلا هنيته عليه. ولا بأس أن تقدم له هدية، أو تمشي إلى كنيسته، بشرط ألا تشارك في شيء من طقوس دينه. ولا بأس أيضا أن تساعده في أمور دنياه، كقرض أو صدقة إن كان محتاجا أو نحو ذلك مما لا تعلق له بالدين وتراعي جيرته إن كان جارًا لك، وإن كان بينك وبينه قرابة فَصِله، وبر قرابته، غير ألا تعطيه من زكاة مالك ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين. وإذا كان بينه وبين أحد من المسلمين نزاع في شيء من المعاملة، ورأيت
الحق في جانبه، فانصح أخاك المسلم بإعطائه حقه. والخلاصة أن المطلوب منك أن تعامل اليهودي أو المسيحي بالعدل
والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف.
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقادًا جازمًا لا تردد فيه أنه على باطل،
خواطر دينية جـا
121
وأنه إن مات كافرا، لا يجوز الترحم عليه، ولا الدعاء له بالمغفرة، لأنه لا يدخل الجنة أبدا. وإذا عمل صالحا فإن الله تعالى يجازيه عليه في الدنيا بالصحة أو المال أو الأولاد، أو تيسير الأمور ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له ثواب لقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ من الخير كصدقة وصلة رحم
وإغاثة ملهوف فَجَعَلْتَهُ هَبَا مَّنثُورًا ﴾ [الفرقان: ٢٣] لا ثواب له. وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأنَّ الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول لبطلان دينهم بظهور الإسلام، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، أو توسل به، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحا كما ظن المخلطون الواهمون لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين لأنه مبني على العقيدة، فإذا فقدت فقد. وهذا واضح لا يحتاج إلى بیان لولا خفاؤه على كثير من الناس، وبالله التوفيق.
أفراد القرآن
لفظ «الأرض»: حيثما ورد في القرآن فالمراد به معناه المعروف، إلا في (سورة سبأ في قوله تعالى: مَادَهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ ﴾ [سبأ:
١٤] فهو مصدر أرضت الخشبة بالبناء للمجهول، أكلتها الأرضة.
ولفظ «التقوى»: حيثما ورد في القرآن فالمراد به طاعة الله تعالى، إلا في (سورة البقرة)، في قوله تعالى: يَعْلَمُهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ [البقرة: ۱۹۷] فالمراد به ما يتقى به سؤال الناس
١٤٢
الأدب والمتفرقات
ولفظ «الجنة»: حيثما أطلق، فالمراد به جنة الخلد إلا في (سورة (ن)، في قوله
تعالى: إِنَّا بَلَوْنَهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْعَبَ الجَنَّةِ ﴾ [القلم: ١٧] فالمراد به بستان في الدنيا. ولفظ «الدنيا»: حيثما ورد في القرآن فالمراد به مقابل الآخرة، إلا في (الصافات) و (حم السجدة) في قوله تعالى: زَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيا ﴾ [الصافات: ٦] فالمراد به القربى إلى الأرض، وإلا في (سورة الأنفال) في قوله تعالى: إِذْ أَنتُم بِالْمُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالعُدْوَةِ الْقُصْوَى ﴾ [الأنفال: ٤٢] فالمراد به القربي إلى
المدينة.
ولفظ «الكفار»: حيثما ورد فالمراد به مقابل المؤمنين، إلا في (سورة الحديد)، في قوله تعالى: كَمَثَلِ غَيْبِ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: ۲۰] فالمراد
به الزرع. ولفظ «ربا»: يراد به الرّبا المحرم ، إلا في (سورة الروم)، في قوله تعالى: وَمَا انَيْتُم مِّن رِبَا لِيَرْبُواْ فِي أَمْوَلِ النَّاسِ ﴾ [الروم: ٣٩] فالمراد به هبة الثواب. ولفظ «شركاء» يراد به ما اتخذ إلها من دون الله إلا في (سورة الزمر)، في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا ﴾ [الزمر: ٢٩) فالمراد به المشركون في ملكية عبد.
ولفظ «الذرية»: يراد به معناه المعهود، إلا في (سورة يس)، في قوله تعالى:
وَايَةٌ لَمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ [يس: ٤١] فالمراد به آباءهم.
ولفظ «البروج»: حيثما ورد يراد به منازل الكواكب، إلا في (سورة
خواطر دينية جـا
١٤٣
النساء) في قوله تعالى: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ﴾ [النساء: ۷۸]
فالمراد به الحصون المنيعة.
ولفظ «حق»: يراد به الأمر الثابت إلا في (سورة هود)، في قوله تعالى:
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقِّ ﴾ [هود: ۷۹] فالمراد به: حاجة.
ولفظي «البر»، و«البحر»: يراد بهما معناهما المعروف، إلا في (سورة الروم) في قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الروم: ٤١] فالمراد بالبر القفار، وبالبحر القرى التي على شواطئ الأنهار.
ولفظ «اليأس يراد به عدم الأمل، إلا في (سورة الرعد)، في قوله تعالى:
أَفَلَمْ يَا يمس الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الرعد: ۳۱] فالمراد به: يعلم.
ولفظ «الفحشاء»: يراد به المعصية القبيحة كالزنا، إلا في (سورة البقرة) في
قوله تعالى: الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ﴾ [البقرة: ٢٦٨] فالمراد به البخل
وهذا النوع، يسمى أفراد القرآن» وللإمام الحسين بن أحمد بن فارس اللغوي المالكي فيه مؤلف خاص.
لِمَ لَمْ يكن في الجن نصارى
قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرَا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْهَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ قَالُوا يَقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ
الأحقاف: ۲۹ - ۳۰].
١٤٤
الأدب والمتفرقات
سئلت: ما السر في عدم ذكرهم لعيسى عليه السلام؟). والجواب السر في ذلك أحد أمرين: إما أنهم كانوا على دين موسى عليه
السلام ولم يسمعوا بعيسى أو لم يؤمنوا به، وإما أنهم أرادوا أن القرآن كتاب تشريع وأخبار وقصص كالتوراة، بخلاف الإنجيل فإنه لم يكن كذلك، وإنما نزل تابعا لشريعة التوراة ومتمما لها ، ولم يخالفها إلا في شيء قليل، كما ينبئ عنه قول عيسى عليه السلام مخاطبًا لليهود وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِنَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: ٥٠] هذا ما ظهر في الجواب، والله الموفق للصواب. من أدب الجن
روى الحاكم بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه ، قال: قرأ علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (سورة الرحمن)، حتى ختمها، فقال: ما لي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم .ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: ١٣) إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد . في هذا تشريف للجن، حيث أثنى على أدبهم في استماع السورة وحسن ردهم. وأخبر الصحابة بذلك، ليعملوا مثله. وهذا من الأدب المأخوذ عن الجن، وبالله التوفيق.
(1) السائل هو الدكتور محمد عبد السلام العيادي رحمه الله.
خواطر دينية جـا
١٤٥
الجمع بين آيتين
قال الله تعالى: وَلَا يُسْتَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: ۷۸] يعني الكافرين، وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْتَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (3) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ۹۲ - ۹۳] ليس بين الآيتين تعارض، كما قد يتوهم، بل هما متوافقان تمام الموافقة. وبيان ذلك أن السؤال نوعان:
۱ - سؤال عتاب يعقبه غفران، وهذا يقع لبعض عصاة المؤمنين، يسألهم الله تعالى عن ذنوبهم، سؤال تقرير وعتاب، حتى إذا أقروا واعترفوا بها، ونكسوا حياء وخجلا. قال الله تعالى لهم: سترتها عليكم في الدنيا وأنا أغفرها لكم اليوم فهذا هو المنفي في الآية الأولى، والمعنى على هذا وَلَا يُسْتَل
رءوسهم
عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ سؤال عتاب، لأنهم لا نصيب لهم في المغفرة. -۲- سؤال توبیخ و حساب يتبعه عذاب وهذا هو المثبت في الآية الثانية والمعنى: ا فوريكَ لَنَسَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ سؤال حساب لا نترك لهم مثقال ذرة، ثم نعذبهم بعد ذلك، كما قال تعالى: وَكَاتِن مِن قَرْيَةٍ عَنَتْ عَنْ أَمْرِ رَبهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَتَهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَبْتَهَا عَذَابا نكرًا ﴾ [الطلاق: ۸] وإنما بالماضي لتحقيق وقوعه. فحيثما وجدت
يكون هذا
عنه
يوم القيامة، وعبر سؤالا منفيا عن الكفار في آية فاحمله على المعنى الأول، وحيثما وجدت مثبتا في
آية أخرى، فاحمله على المعنى الثاني وبالله التوفيق.
لا يعذب الله أحباءه
قول الله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَرَىٰ نَحْنُ أَبْتَوُا اللَّهِ وَاحِبَلُوهُ قُلْ فَلِمَ
١٤٦
الأدب والمتفرقات
يُعد بكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ [المائدة: ۱۸] يفيد أن الأب لا يعذب ولده، ولا الحبيب
حبيبه. وعلى هذا فالله تعالى لا يعذب أحبابه، وذنوبهم مغفورة.
يؤيد هذا ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اطلع على كتاب من حاطب بن أبي بلتعة - وكان بدريًا - إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم فيه ببعض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «ما هذا يا حاطب؟» قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذا فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر.
فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه، فقد نافق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
فانظر كيف غفر الله ذنوب أهل بدر؟! لأنهم أحبابه، نصروا دينه في موقعة كانت الحد الفاصل بين الإسلام والشرك. ولولا انتصارهم في هذه المعركة، لم يكتب للإسلام بقاء كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
ومن دعاء الصوفية: «اللَّهمَّ اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت». وهو دعاء جميل يرمي إلى فلسفة وجيهة،
ذلك أن سيئات المحبوب مغفورة، وحسنات المبغض مكفورة وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
خواطر دينية جـا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَا مَّنثُورًا ﴾ [الفرقان: ٢٣].
من ذكروا في القرآن بأسمائهم
١٤٧
الأشخاص المذكورون في القرآن بأسمائهم، من غير الأنبياء، سبعة عشر؛
تسعة مؤمنين وثمانية كفار.
فالمؤمنون هم:
١ - ذو القرنين : وَيَسْتَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ [الكهف: ٨٣].
۲ - عزير : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: ٣٠]. ۳ - لقمان: وَلَقَدْ مَانَيْنَا لُقْمَنَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ } [لقمان: ۱۲]. - طالوت: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾ [البقرة: ٢٤٧].
ه - عمران : إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ ﴾ [آل عمران: ٣٥].
٦- مريم ومريم أبنتَ عِمْرَانَ ﴾ [التحريم: ١٢].
هارون رجل صالح شبهت به مريم يَتأُخْتَ هَرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سورو [مريم: ۲۸].
تبع : وقوم نبع [ق: ١٤] وكان ملكًا صالحًا.
٩- زيد بن حارثة الصحابي : فَلَمَّا قَضَى زَيْدُ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّحْتَكَهَا
[الأحزاب: ٣٧].
والكفار هم
۱ - آزر والد إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَازَرَ ﴾ [الأنعام:
الأدب والمتفرقات
١٤٨
.[٧٤
٢ - العزيز : قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ ﴾ [يوسف: ٥١].
- السامري: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ﴾ [طه: ٨٥]. - فرعون : وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْنَادِ﴾ [الفجر: ١٠]. ه - هامان: يَهَمَنُ ابْنِ لِي صَرْحًا } [غافر: ٣٦].
٦ - قارون: يَهَمَنُ ابْنِ لِي صَرْحًا ) [غافر : ٣٦]. جالوت: وَقَتَلَ دَاوُدُجَالُونَ ﴾ [البقرة: ٢٥١].
-
- أبو لهب : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1].
ذو القرنين رومي، ولقمان نوبي وتبع يمني وعزير وعمران وبنته وطالوت وهارون إسرائيليون وزيد ،عربي، وآزر حراني والعزيز قبطي، والسامري يهودي، وفرعون وهامان وقارون أقباط، وجالوت أبو البربر، وأبو لهب عربي.
تنبيهان
(التنبيه الأول): ذو القرنين وعزير ولقمان قيل بنبوتهم، والصحيح أنهم
ليسوا بأنبياء.
(التنبيه الثاني): قيل: إن العزيز آمن بيوسف عليه السلام، فإن صح هذا
فيكون مؤمنا يعد مع المؤمنين التسعة والله أعلم.
الحشرات والحيوانات المذكورة في القرآن
ذكر في القرآن من الحشرات والحيوانات:
خواطر دينية جـا
١٤٩
البعوضة: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
[البقرة: ٢٦].
البقرة: إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: ٦٧].
السبع، الخنزير : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ
[المائدة: ٣].
الغراب: فَبَعَتَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [المائدة: ٣١]. القردة، الخنازير : هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرِ مَن ذَلِكَ مَنُوبَةٌ عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير ﴾ [المائدة: ٦٠].
الإبل، والبقر ، والضأن، والمعز: وين الضأن اثنين ومن المعز النان ما وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ ﴾ [الأنعام: ١٤٤،١٤٣].
العجل : فَجَاءَ بِعِجَلٍ سَمِين ﴾ [الذاريات : ٢٦].
الجمل: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَةِ الْحَيَاطِ ﴾ [الأعراف: ٤٠].
الناقة: وَءَانَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَة [الإسراء: ٥٩].
الغنم وَأَهُشُ بِهَا عَلَى غَنَمِي ﴾ [طه: ۱۸].
الجراد، القمل الضفادع فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّل
والضفادع ﴾ [الأعراف: ۱۳۳]. والقمل هو السوس، أو نوع من القراد.
١٥٠
الأدب والمتفرقات
الثعبان: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تُعْبَانٌ مُّبِينُ ﴾ [الأعراف: ۱۰۷].
الحية: فَالْقَتَهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴾ [طه: ٢٠].
الذئب : وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّتْبُ ﴾ [يوسف: ١٣].
الكلب: ﴿ وَكَلْبُهُم بَسِطُ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد ﴾ [الكهف: ۱۸].
الخيل، البغال، الحمير : والخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً
[النحل: ۸] .
الحمار : كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ [الجمعة: ٥].
النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ [النحل : ٦٨].
النمل، النملة قَالَتْ نَمْلَةٌ يَتَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [النمل: ۱۸]. الذباب : ﴿ وَإِن يَسْلُبُهُمُ الذُبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِدُوهُ مِنْهُ ﴾ [الحج: ٧٣]. الهدهد: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾ [النمل: ٢٠].
الحوت : فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُونَ ﴾ [الكهف: ٦٣].
العنكبوت: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبوتِ ﴾ [العنكبوت: ٤١]. الأرضة: مَا هُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَةُ الْأَرْضِ ﴾ [سبأ: ١٤].
الحمر الوحشية: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَفِرَة [المدثر: ٥٠] وحشية، وأكلها
حلال.
الأسد: فَرَّتْ مِن قَسْوَرَم ﴾ [المدثر : ٥١]؛ أسد.
خواطر دينية جـا
١٥١
الفيل: ﴿أَلَمْ تَرَكَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [الفيل : ١].
وفي القرآن الكريم ست سور مسماة بأسماء بعض الحيوانات والحشرات
هي: (سورة البقرة)، و(سورة الأنعام)، و (سورة النحل)، و(سورة النمل)،
و(سورة العنكبوت)، و(سورة الفيل).
حرمة مجالسة أهل المعصية
قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حديثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنسِيَنَكَ الشَّيْطَانُ فَلَا نَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[الأنعام: ٦٨].
وقال عزّ وجلَّ: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُهَا ويستهزا بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذَا مِثْلُهُمْ ﴾ [النساء:
.[١٤٠
تفيد هاتان الآيتان حرمة مجالسة أهل المعصية حال ارتكابهم لها، ووجوب الإعراض عنهم حتى يتركوها، وأن من جالسهم كان مثلهم في الإثم وإن لم يعمل المعصية، وفي الحديث: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها خمر.
وعلى هذا لا يجوز القعود في مجلس يشرب فيه الخمر، أو الحشيش أو تنتهك فيه الأعراض بغيبة، أو بذكر محاسن النساء أو الغلمان أو نحو ذلك، وإن كان قاعدا وجرى شيء من المعاصي المذكورة أو غيرها، وجب عليه أن
١٥٢
الأدب والمتفرقات
يقوم في الحال بعد أن ينصحهم إن وجد فرصة للنصيحة. وكذا لا يجوز مساعدة مرتكب المعصية، فيحرم مناولة شارب الخمر كأسًا يشرب فيها، ومناولة مفطر رمضان - بغير عذر - أكلا أو شرباً، وإخفاء سرقة سترا على سارقها.
والقاعدة الشرعية: أن من ساعد عاصيًا كان مثله في الإثم. ولا يقبل اعتذاره بأن عمله يقتضي ذلك، فالذي يفتح مطعمه في نهار رمضان عاص آثم، وإن كان هو صائما. والصائم الذي يقدم لزائره في نهار رمضان القهوة أو الدخان آثم، وإن كان الزائر نصرانيا؛ لأنه مأمور بالإسلام وبالصيام، إذ
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، كما تقرر في علم الأصول.
هذه أحكام يجهلها كثير من المسلمين اليوم، وبسبب جهلها يقعون في معاصي بمساعدتهم أصحابها وهم لا يشعرون.
هنا ومن
اعم الحرام أسباب معايشهم، وارتفعت البركة من أرزاقهم،
وقست قلوبهم، وشاركهم في هذا الجهل عدد غير قليل من العلماء. زار فرنسي أزهريًا في مكتبه - وهو وزير الأوقاف وكانت الزيارة في رمضان، فقدم له القهوة والدخان وكان الواجب عليه أن يعتذر لزائره بالصيام، ويدعوه إلى العشاء أو شرب الشاي في بيته. فإن هذا أوفق بدينه وإكرام له في عين زائره إذ الأجانب ينظرون بعين الاحترام إلى المسلم الذي یرونه متمسكا بدينه، ولكن معظم الأزهريين يشاركون العامة في الجهل بحرمة مساعدة العاصي، فيقعون في أشياء من هذا القبيل.
خواطر دينية جـا
١٥٣
التجارة في الحرام
في الحديث الصحيح: إن الله إذا حرَّم شيئًا حرم ثمنه فلا تجوز التجارة في الأشياء المحرمة كالخمر والخنزير ونحوهما ، لكن كثيرًا من المسلمين يتعاطون هذه التجارة لجهلهم بأحكام الدين.
كنت في مرسيليا سنة ١٣٥٤ مع المرحوم أخي الأكبر الحافظ أبي الفيض والسيد محمد الزمزمي، وذهبنا نسأل عن شخص مغربي مقيم . هناك اسمه الحاج علي، فدللنا عليه في خمارة، فلما وصلنا إليها، وجدنا امرأته وهي فرنسية - تبيع الخمر، فسألناها عنه، فأشارت إلى محل داخل الخمارة، فإذا هو زاوية، وعلى بابه ستارة، وهو مفروش بحصر مغربية جيدة، وفي القبلة علامة المحراب برسوم، ووجدنا الحاج عليا قد انتهى من صلاة المغرب؛ وفي يده مسبحة يذكر فيها ورد الطريقة الناصرية !! فقلنا له بعد التحية والملاطفة: زاوية في قلب خمارة؟ وصلاة وذكر وبيع ا الخمر ؟! إيش هذا؟! قال: إيش فيه؟ قلنا: أنت رجل حاج، ومحافظ على دينك، وبيع الخمر يضيع الدين. قال: هذا رزقي لا دخل له بالدين. قلنا: افتح قهوة، وقدم فيها الشاي الأخضر المغربي، وأنواع المشروبات المباحة، أو افتح مطعما وقدم فيه الأطعمة المغربية المرغوبة هنا. فلم يقبل النصيحة، بل نصحنا هو بأن نترك هذا التشدد المنافي للدين!! وهذا وهو يناهز السبعين ، ولكن جهله حسن له هذا العمل فرآه حلالا طيباً.
وهنا في مصر كثير من الناس يتاجرون في الخنازير أو الخمر أو الحشيش ويحجون من كسب هذه التجارة المباركة وأعرف في حي الدرب الأحمر حاجا يبيع الخمير وأهل الحي يسمونه الحاج بنيوتي، تنكيتا عليه.
١٥٤
الأدب والمتفرقات
الغموس هو الصبغ
الغموس في اللغة المصرية، أو الجواز بلغة المغرب، اسمه في القرآن «صبغ» قال الله تعالى: وَشَجَرَةٌ تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) وهي شجرة ﴾
الزيتون وصبغ للاكلينَ ﴾ [المؤمنون: ٢٠]
أي إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه.
الحصانة الديبلوماسية في القرآن
قول الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التوبة: ٦] أصل فيما يسمى في العرف الدولي بالحصانة الديبلوماسية، ونفذه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مع الرسل الوافدين عليه في مهمة دينية أو سياسية.
من ذلك: أن مسيلمة الكذاب أوفد إليه شخصين يبلغانه أنه أشرك معه الأمر؛ ويفاوضانه في أن ينضم إليه، على أن يكون الأمر لمسيلمة بعده صلى الله عليه وآله وسلَّم . فقال لهما: «ما تقولان؟» قالا: نقول: إنه رسول الله. فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما». ورفض ما أتيا لأجله.
مع أن مسيلمة كان قد وفد على النبي * الله عليه وآله وسلَّم في وفد بني حنيفة، وأسلم، ثم ارتد وادعى النبوة، فلم يكن إلا مجرد ثائر فاشل، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عامل رسله معاملة رسل دولة رسمية! وهذا من كرمه صلى الله عليه وآله وسلم في المعاملة.
خواطر دينية جـا
الاستيلاء على الأقوات وقت الأزمات
١٥٥
ما تفعله حكومات هذا العصر عند أزمات الحروب أو المجاعات من استيلائها على الأقوات الضرورية كالدقيق، وتوزيعها على الشعب بثمن محدد، سبق إليه يوسف عليه السلام، وهو أول من سن هذا النظام؛ وذلك حينما رأى رؤيا أفزعته، وسأل عن تعبيرها، فعبر له يوسف بقحط يصيب
ملك
القطر المصري سبع سنوات، وعلمه كيف يتفاداه قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَابًا [يوسف: ٤٧] الآية.
فلما طلبه الملك، وسأله من يقوم بتنفيذ هذا النظام؟ قال يوسف اجْعَلْنِي عَلَى خَزَابِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: ٥٥] فولاه وزارة
التموين.
وأخذ العلماء من هذه الحادثة: أن الإنسان إذا كان كفؤا في عمل من الأعمال ولم يكن غيره في كفاءته، تعين عليه أن يطلب ذلك العمل، ويبين كفاءته فيه، ويكون ذلك من النصيحة التي يقدمها لأولي الأمر، حتى يمكنه
(1)
خدمة المجتمع بتولى ذلك العمل وله عند الله ثواب كبير إن لم يقصد غرضا آخر كرياسة أو جمع مال لمصلحته الشخصية وبالله التوفيق.
(1) من هنا يتبين خطأ بعض المتشددين الذين يعيبون العالم الفاضل بتوليه منصب القضاء ونحوه، وقد عيب على الحافظ ابن حجر أنه تولى منصب قاضي القضاة بمصر،
وليس ذلك بعائبه.
107
الأدب والمتفرقات
(1)
آزر والد إبراهيم عليه السلام
قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ازْرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ، الِهَةٌ إِنِّي أَرَبِّكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِين ﴾ [الأنعام: ٧٤] يفيد أن أباه كان زعيم قومه ورئيسهم } وآزر لقبه؛ واسمه تارح، وزعم بعضهم أنه عمه، وليس كذلك، فقد ذكره القرآن بوصف الأبوة عدة مرات؛ في هذه الآية وفي آيات أخر: وما كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ [التوبة:
.[١١٤
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقَا نَبِيَّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَنَابَتِ ﴾ [مريم: ٤١ - ٤٢]. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ، مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الشعراء: ٦٩ - ٨٦].
وَاغْفِرْ لا بي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء: ٨٦].
وَإِن مِن شِيعَيْهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تعبُدُونَ [الصافات: ٨٣ - ٨٥] ﴾ ۸۳ -
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ السَّمَائِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَتَكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: ٥٢]. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءُ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سيهدين : [الزخرف: ٢٦ - ٢٧].
إِلَّا قَولَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ [الممتحنة: ٤]. وكذا جاء وصفه بالأبوة في حديث الصحيحين.
(۱) هذا لقبه، واسمه المعروف في كتب التاريخ: تارح
خواطر دينية جـا
10V
ولا يعيب الرسول أن يكون أبوه أو ابنه كافرًا، وإنما قلنا بنجاة أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، لأنهما كانا في زمن الفترة، لم يكن في زمنها رسول، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: ١٥] وبعضهم استدل على إيمان أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم - ومنهم والد إبراهيم وهو غير آزر على هذا القول - بقوله تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( الَّذِي يرككَ حينَ تَقُومُ (۳) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ [الشعراء: ٢١٧ – ٢١٩ أي أنه عليه : الصَّلاة والسلام كان يتنقل نطفة في أصلاب آبائه الساجدين، وهو استدلال بعيد لا يفيد المقصود.
والمتبادر من الآية الكريمة : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( الَّذِي يَرَتِكَ حِينَ تقوم إلى الصلاة و فَإِنْ يرى وتقلبك في أفعالها قائما وقاعدًا ورائعا وساجدًا في السَّاجِدِينَ : أي المصلين.
ويمكن توجيه الاستدلال السابق على وجه آخر، وهو: أن آزر حينما ولد إبراهيم كان من أهل الفترة، إذ لم يرسل إليه رسول. وإنما كفر بعد بعثة ابنه إليه، فصح أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم تقلب نطفة في أصلاب أجداده وليس فيهم مشرك. وهذا وجه دقيق يحتاج إلى تأمل.
وإن تعجب فعجب من الحافظ السُّيوطي الذي ألف ست رسائل في نجاة الأبوين الكريمين واستدل بهذه الآية ،وغيرها، ثم يذكر في كتاب أسباب النزول عن محمد بن كعب القرظي، وداود ابن أبي عاصم أن النبي . صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟» فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّا
١٥٨
الأدب والمتفرقات
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْتَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ ﴾ [البقرة: ١١٩] فما
ذكرهما حتى مات.
وهذان مرسلان ضعيفان يزيدهما ضعفًا أنَّ النبي عليه الصَّلاة والسَّلام لا يسأل ما فعل أبوه؟ وهو يقرأ منذ كان بمكة قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء : ١٥].
ويذكر السيوطي أيضًا في سورة التوبة أحاديث عن ابن مسعود وابن عباس وبريدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقف على قبر أمه فبكى طويلا، ثم قال: «استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت». ونزل قوله تعالى: مَا
كان للنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْى [التوبة: ١١٣] مع أنه خرج حديثا للصحيحين يصرح بنزول الآية في أبي طالب! ويظهر أنه اعتمد على الأدلة التي أوردها في رسائله المشار إليها، ورأى أن ما ذكره في سبب نزول الآيتين المذكورتين لا يقوى على معارضتها، لكن كان يجب عليه أن يبين، لئلا يسبق إلى الوهم أنه تناقض.
أهل الفترة ناجون
أهل الفترة هم الذين عاشوا في زمن لم يكن فيه رسول إليهم، كالعرب الذين عاشوا فيما بين زمني إسماعيل والنبي عليهما الصَّلاة والسلام، وكأهل الكتاب الذين كانوا بين زمني عيسى والنبي عليهما السلام.
والحكم فيهم عند الجمهور أنهم ناجون ، ولو عبدوا الأصنام، لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: ١٥] ولقوله سبحانه ذالك أي
خواطر دينية جـا .
١٥٩
إرسال الرسل أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ بشرِك وَأَهْلُهَا غَفِلُونَ ﴾
[الأنعام: ١٣١ ] لم يرسل إليهم رسول.
وأجابوا عن الأحاديث التي تفيد تعذيب بعض أهل الفترة، بأنها آحاد، لا تقوى على معارضة القرآن. وذهب جماعة من العلماء منهم النووي والأبي
والحافظ ابن حجر إلى أن أهل الفترة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قوم اتبعوا شريعة من الشَّرائع الصَّحيحة، وإن لم يكونوا مخاطبين بها؛ مثل تبع أحد ملوك ،اليمن، الذي اتبع دين اليهودية، ومثل زيد ابن عمرو الذي تنصر في الجاهلية، فهؤلاء مؤمنون بلا شك لا تباعهم شريعة لم تنسخ. الثاني: قوم أشركوا وغيروا بابتداع أمور شركية، مثل امرئ القيس، وعمرو بن لحي الخزاعي، وهؤلاء يعذبون لشركهم، ولا يعذرون بعدم وجود لأن التوحيد كلف به الخلق منذ أرسل الله آدم إلى أولاده، ثم
رسول بينهم تتابعت الرسل، وإنما اختلفت شرائعهم في غيره من الأحكام الحديث: «الأنبياء أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وهو التوحيد، وعلى هؤلاء تتنزل الأحاديث الواردة في عذاب أهل الفترة.
وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ أي على المعاصي كالزنا والظلم حَتَّى
نبعثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: ١٥] يبين الأحكام، فهو مؤول كما علمت. الثالث: قوم لم يتبعوا شريعة سابقة، ولا أشركوا، ولكنهم عاشوا على الطبيعة، ما عرفوا كفرًا ولا إيمانا فمنهم من قال: إنهم ناجون، ومنهم من قال: يمتحنون يوم القيامة مع من يمتحن وهم الذين أدركوا البعثة وقد
١٦٠
الأدب والمتفرقات
فقدوا الوعي لكبر وخرف، والذين أدركوا البعثة وهم مجانين. وكيفية امتحانهم أن يخرج لهم عنق من النار، ويقال لهم: «اقتحموه»، فمن أجاب واقتحم كان عليه بردًا وسلامًا ودخل الجنة. ومن تلكأ، قال الله له: إياي عصيت، فكيف برسلي؟» ويدخل النار . كذا جاء في أحاديث رواها
البزار وغيره.
قال الحافظ ابن حجر والظن في أبوي النبي أن يجيبا، لتقر بهما عينه صلى الله عليه وآله وسلم ». قلت: والذي أرجحه رأي الجمهور ، لأن القرآن قاطع فيه، ولأنه اللائق بكرم الله وفضله، فأهل الفترة ناجون بدون امتحان ولا غيره، والأحاديث
الواردة بخلاف ذلك معلولة، والصحيح منها أحاد، ثم هو يحتمل التأويل. ومما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور قوله تعالى: وَجَوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَاءِ لَهُمْ ﴾ يعبدونها قَالُوا يَمُوسَى أَجْعَل لَّنَا إِلَهَا كَمَا هُمْ وَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمَ تَجْهَلُونَ (٢) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبر مالك مَا هُمْ فِيهِ وَنَطِلُّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: ۱۳۸ - ۱۳۹]
فموسى لم يخبر عن هؤلاء القوم الذين يعكفون على الأصنام بأن الله لأنهم أهل الفترة، لم يأتهم رسول ولا بد أنهم سمعوا بموسى
معذبهم، وبدعوته، ومع ذلك لا يلحقهم عذاب، إذ لم يعرفوا شريعة، ولا أتاهم رسول. ويزيده تأييدا قول الله تعالى: يَتأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رسولنا محمد عليه السلام يبين لكم الدين أصوله وفروعه على :
خواطر دينية جـا
١٦١
فترة انقطاع مِنَ الرُّسُلِ لأجل أن لا تَقُولُوا : يوم القيامة وما ا جَاءَ نَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٌ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرُ وَنَذِيرٌ ﴾ [المائدة: ١٩] فلا عذر لكم بعد مجيئه. فإذا كان اليهود والنصارى وهم أهل كتاب جاءهم به رسل يقبل عذرهم عند الله حسبما أفادته الآية، لو لم يأتهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم، فما ظنك بالعرب الأميين الذين ما عرفوا ،رسولًا، ولا قرءوا كتابا منذ عهد
إسماعيل عليه السلام ؟ لا شك أنهم أولى بقبول العذر، وأجدر بالنجاة. أما بعد البعثة المحمدية التي عمت أهل الأرض جميعا، فلا يوجد أهل
فترة، ولا محل لافتراض وجودهم. لكن قد يعترض وجود من لم تبلغه الدعوة، فلو افترضنا وجود شخص في بعض مجاهل القارة الأفريقية مثلا لم يسمع بالإسلام، ولا بالقرآن، ولا عرف شيئًا عن توحيد الله تعالى، وعاش بين الجبال والغابات. فإنه ناج بلا شك، حتى ولو اعتنق بعض الديانات الشركية، كالنصرانية مثلا، ذلك لأن بلوغ الدعوة شرط في توجه التكليف للشخص،
فحيث لم تبلغه بدون تقصير منه لم يكلف، وبالله التوفيق.
أما الذين ولدوا بين أبوين يهوديين أو نصرانيين، فهم كفار بلا نزاع، لأنهم سمعوا القرآن، وعرفوا المسلمين ويضمرون للإسلام كراهية شديدة، بحيث لو خير أحدهم بين الإسلام والموت لاختار الموت عليه. وكثير من المسيحيين يقرون ببلاغة القرآن، وبتأثرهم بروعته عند سماعه، وباشتماله على حقائق علمية، ويصرون مع ذلك على مسيحيتهم، فكفر هؤلاء عن إصرار وعناد، وهو أقبح الكفر، والعياذ بالله تعالى.
١٦٢
الأدب والمتفرقات
أيما أفضل في الصلاة؛ طول القيام أم الركوع والسجود؟ اختلف أيهما أفضل في الصلاة؟ طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ قال بكل طائفةٌ، ورجّح المالكية الأول، مستدلين بقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ﴾ [البقرة: ۲۳۸] ومما قيل في تفضيل الركوع، ما ينسب إلى الإمام
البخاري:
اغْتَنِمْ في الفَرَاغِ فضل رُكُوعِ فعسى أن يكونَ مَوْتُك بَغْتَة كُمْ صَحِيح رأيتَ مِن غَيْرِ سقمٍ ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَة وقال أديب يرد على من فضل السجود:
كأنَّ الدَّهْرَ فِي خَفْضِ الأعالي وإعْلَاءُ الأَسَافِلَةِ اللَّامِ فقيه صح في فَتْوَاهُ قَوْلٌ بتَفْضِيلِ السُّجُودِ على القِيامِ وإذا تأملت صنيع القرآن وجدته يقتضي تفضيل السجود والركوع، لأنهما أكثر ما ذكره من أركان الصلاة نحو وَارْكَعُوا مَعَ الرَّكِمِينَ ﴾ [البقرة : ٤٣] . وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:
.[١٢٥
يمَرْيَمُ أَقْني لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِي مَعَ الراكعين ﴾ [آل عمران: ٤٣]. البون العبدون الحمدون السيخون الركعون
السجدُونَ ﴾ [التوبة: ١١٢].
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّجِدِينَ ﴾ [الحجر: ۹۸] .
خواطر دينية جـا
١٦٣
وَطَهَرْ بَيْتِيَ لِلطَّابِفِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُورِ ﴾ [الحج: ٢٦]. يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَرْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ﴾ [الحج : ٧٧].
الَّذِي يَرَكَ حِينَ تَقُومُ () وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّجِدِينَ ﴾ [الشعراء: ۲۱۸ - ۲۱۹]. إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها السجود وحده، وذلك يقتضي تفضيله على الركوع، وهو على القيام ووجه ذلك من جهة المعنى: أن الحكمة في الصلاة إظهار الخضوع الله تعالى، وهو في الركوع أقوى منه في القيام، وفي السجود أقوى منه فيهما، بل هو نهاية الخضوع، حيث يضع الإنسان وجهه - وهو أشرف أعضائه - في الأرض تواضعا الله تعالى، ولذا كان السجود وحده عبادة مستقلة، كسجود التلاوة، وسجود الشكر.
وأخبر الله أن جميع مخلوقاته يسجدون له تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَنْفَيَؤُا ظِلَالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالسَّمَابِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: ٤٨
[٤٩
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: ١٨]. وفي الحديث الصحيح أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا
فيه الدعاء».
وفي حديث صحيح أيضًا: واعلم أنك لا تسجد الله سجدة إلا رفعك الله
بها درجة».
١٦٤
الأدب والمتفرقات
وطلب صحابي من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يشفع له يوم
القيامة، فقال: «سأفعل فأعني على نفسك بكثرة السجود». إلا أن القيام يترجح بقراءة القرآن فيه، وهي مكروهة في الركوع
والسجود، وهذا مدرك من فضله عليهما، وهو مدرك قوي.
ويمكن التفضيل في التفصيل بحسب الأفراد، فمن كان في صلاته يرتل
القرآن، ويجود ،تلاوته ويتدبر معانيه كان طول القيام في حقه أفضل. وهذا كان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته، يقوم في الركعة بسورة البقرة ونحوها، يقرأ قراءة لو عدها العاد أحصاها، لا يمر بآية رحمة إلا وقف عندها وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف عندها وتعوذ، وهكذا كان حال الصحابة أيضًا. ومن لم يحسن القراءة بالكيفية المذكورة، فكثرة الركوع والسجود في حقه أفضل، وبهذا التفضيل يزول الإشكال.
لم قيل لمريم: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ؟
سئلت عن قول الله تعالى: يَمَرْيَمُ أَفْنَتِي لِرَبِّكِ وَأَسْجُدِى وَأَرْكَعِي مَعَ الراكعين ) [آل عمران: ٤٣] لو لم يقل : واركعي مع الراكعات؟ والجواب: لم يقل ذلك، لأنها كانت مقيمة بغرفة داخل المسجد، خصصها
المرأة
لها زكريا عليه السلام ولم يكن في المسجد إلا رجال هم خدمته، وهي ا الوحيدة بينهم، فأمرت بالصلاة ،معهم وفيه دليل مشروعية الصلاة في
الجماعة.
خواطر دينية جـا
١٦٥
أما قوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرَجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّ فَتْ بِكَلِمَتِ رَيْهَا وَكُتُبِهِ، وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِينَ ﴾ [التحريم: ١٢] الطائعين، يوم القيامة، فلم يقل: القانتات لإفادة أن الرجال أغلبية الطائعين وأن النساء قليلات بالنسبة لهم.
ولا يرد على هذا أن المؤمن في الجنة يكون له عدة أزواج، لأن تلك الأزواج من الحور العين المنشآت فيها كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنشَأْتَهُنَّ إِنشَاء ) فَجَعَلْتَهُنَّ أَبْكَارًا ) عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: ٣٥ - ٣٨] ولو كانت المؤمنات في الدنيا أكثر من المؤمنين لم ينشئ الله لهم الحور العين.
عزيز مصر كان عديم الغيرة
قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّارَ العزيز قمِيصَهُ، قميص يوسف قُدَّ مِن دبر قطع من خلف قال لامرأته إنَّهُ أي قولك: ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلخ، مِن كَيْدِ كُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَ أيها النساء عظيم ﴾ [يوسف:
.[YA
وقال ليوسف يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا الذي حصل، ولا تذكره لئلا يشيع. ثم قال لامرأته وَاسْتَغْفِرِى لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِعِينَ } [يوسف: ٢٩] الآثمين. أخذ من هذا أن العزيز كان عديم الغيرة، فاقد النخوة، إذ مع
تحققه
بخيانتها، وتلويث عرضها، لم يزد على أن نصحها في هدوء بأن تستغفر لذنبها،
177
الأدب والمتفرقات
وفي هذا الموضع من تفسير البحر "المحيط كلام ينبغي الوقوف عليه. وفي التعبير بالخاطئين دون الخاطئات إشارة إلى أن ما تجرأت عليه من المراودة
يكون من الرجال لا من النساء، والله أعلم.
الخلاف في أكل الفسيخ
أهل مصر يأكلون السمك الفسيخ بنهم وشره، مع أنه مختلف في إباحته، فحرمه المالكية والشَّافعية والحنابلة، وأباحه الحنفية بناء على أنه طاهر، إذ لا دم
له، وما ينزل منه دهن بدليل أنه لو نشف صار أبيض لا أحمر.
والدليل يقتضي تحريمه، لأمرين:
الأول: أنه منتن والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن سمك العنبر الذي وجده الصَّحابة ميتاً على سيف البحر، قال: «كلوه ما لم ينتن». الثاني: أنه متنجس بما يخرج منه من فضلات، ووقفت على رسالة مخطوطة،
(۱)
اسمها "ألف سيخ في عين من يقول بطهارة الفسيخ" رد بها العلامة السجاعي الشافعي على بعض أهل مذهبه، حيث قال بطهارته. وقال الشيخ الدردير المالكي: الذي أدين الله به أن الفسيخ بجميع أ
أجزائه
طاهر، يجوز أكله». و مما شاهدته بنفسي مما يؤيد نتانة الفسيخ أني كنت في منزل صديقي الحاج عبد الخالق إبراهيم الزهيري بشر مساح، وبينما نحن نتغدى أحضر بعض أهل البلدة سردينا وهو من نوع الفسيخ فرمى صاحب البيت سردينة إلى كلب، (۱) هو المغرس بلغة العرب.
خواطر دينية جـا
١٦٧
فشمها وابتعد عنها، فعجبنا لذلك !!
وليس في البلاد الإسلامية من يأكل الفسيخ غير المصريين، كما أن سائر البلاد الإسلامية يأكلون الجراد، إلا المصريين فإنهم يستقبحونه ويعجبون ممن يأكله، ويجهلون أنه مباح شرعًا، حسبما ذكره العلماء، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم «أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودَمانِ، فأمَّا المَيْتَانِ فَالسَّمَكُ والجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فالكَبِدُ والطُّحَالُ».
وهو لذيذ يؤكل مشويًا ومسلوقا، ويعمل منه سفوف لتقوية الباه، وطعمه أشبه بطعم البيض فالعجب ممن يأكلون الفسيخ والملوحة وأم الخلول، كيف يستقبحون الجراد المباح الطاهر ؟!!
المصريون والسحر
كان قدماء المصريين مهرة في علم السحر، يشهد لذلك قول الله تعالى في سحرة فرعون فَلَمَّا الْقَوْا سَحَرُوا أَعين النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُ وَ بِسِحْرٍ عظيم [الأعراف: ١١٦] وكانوا يعتقدون السحر علما عظيما، ويقدسون السحرة. يدل على ذلك قوله تعالى في سورة الزخرف: وَأَخَذْنَهُم أي فرعون وقومه بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٤٨] عن كفرهم وَقَالُوا لموسى حين رأوا الآيات؛ الطوفان والجراد الخ: ينايه الساحر [الزخرف: ٤٩] أي العالم الكامل، لأن السحر عندهم علم عظيم، ولولا أنه
عندهم كذلك، ما نادوا موسى في ساعة شدتهم واستغاثتهم بهذا اللقب. ولا زالوا إلى الآن يعتقدون السحر، ويلجئون إلى السحرة في أشياء تهمهم
١٦٨
الأدب والمتفرقات
إلا أنهم يرمون المغاربة بمعرفته، وإذا طبع أحد الكتبية كتابا في السحر وما يتصل به، وأراد أن يضمن له الرواج، نسبه إلى بعض أهل المغرب كابن الحاج
الكبير مثلا، أو كتب عليه أنه طبع على أصل مخطوط بخط مغربي. وأذكر لهذه المناسبة أن بعض علماء الأزهر ممن تلقى عني في علوم التوحيد والأصول والمنطق عرفني ببعض كبار الموظفين في إحدى الوزارات، وقدمني علماء الحديث المبرزين فيه، فتكلمنا في مسائل شتى ثم
عالما . له بصفتي . من سألني عن السحر ؟ فقلت: لا أعرفه، وهو عندنا قبيح، وأكثر من يتعاطاه أهل سوس - إقليم بالمغرب - يغلب عليهم الجهل ، لبعدهم عن الحضارة، وذكرت له أن مذهب مالك الذي يعتنقه المغاربة يحرمه تحريمها بالغا.
فقال لي بعد سماع الكلام لا تحاول الإنكار ، فأنا أعتقد أنكم تعرفون السحر، كما أعتقد أن القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وأعتبر ما قلته من ذم السحر وتقبيحه تهربًا مني، وضنا به عليه.
وبالضرورة لم يستند في اعتقاده هذا على حقيقة تاريخية، وإنما استند على ما هو شائع بين عامة المصريين رجما بالغيب وكم لهذا من نظير، لجئوا إلى لأساعدهم بالسحر في مسائل تهمهم، وكنت أجد صعوبة في إقناعهم بأني لا أعرفه، بل وأمقته، وقد قدَّمنا أن مذهب المالكية يحرمه تحريمها بالغا، وذلك أن تعلمه ليسحر به الناس، فإن تعلمه لا لشيء فهو مكروه، وإن تعلمه ليبطل به السحر، فهو جائز، وهذا بناء على تعريفه بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة، بأسباب خفية.
وعرفه ابن العربي المعافري المالكي بأنه كلام مؤلف يعظم به غير الله
خواطر دينية جـا
تعالى، وتنسب له المقادير ، وعليه فهو كفر مطلقًا من غير تفصيل.
١٦٩
وأغرب بعض النظار حيث جعل تعلمه فرض كفاية، لجواز ظهور ساحر
(۱)
يدعي النبوة، فيكون في الأمة من يكشفه ويقطعه. نقله ابن صاعد في "إرشاد القاصد" وقد عده الحديث من السبع الموبقات، وبالله التوفيق. علامات الساعة الكبرى
علامات الساعة الكبرى عشرة، ذكر منها في القرآن أربعة: ۱ - طلوع الشمس من مغربها يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ وَايَتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَنْهَا
[الأنعام: ١٥٨] الآية، فسر حديث الصحيحين بَعضُ ايَاتِ رَبِّكَ بذلك. ۲ - يأجوج ومأجوج حَتَّى إِذَا فُيُحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ
حدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ [الأنبياء: ٩٦].
الدابة : وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا هُمْ دَابَّةٌ مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ
[النمل: ٨٢].
٤- نزول عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمُ لِلسَّاعَةِ » تعلم بنزوله فَلَا تَمْتَرنَ بِهَا وَاتَّبِعُون ﴾ [الزخرف: ٦١] بذلك فسره حديث في صحيح ابن حبان .
(1) يرد هذا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين كما نطق به القرآن الكريم، والسنة المتواترة إلا أن يقال: يمكن ظهور مدعي النبوة في قوم جهلة، يؤمنون بالسحر، ولا يعرفون الحجة والبرهان فلا يقنعهم إلا من يرد دعوى المتنبي بسحر مثله أو أقوى منه.
۱۷۰
ومن
-0
الأدب والمتفرقات
٥ - الدَّجَّال : تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، السنة العملية المنقولة بالتوارث: التعوذ الذي يقال قبل السلام من الصلاة ولفظه: «اللَّهمَّ إني أعوذُ بكَ مِن عَذابِ القَبْرِ، وَمِن عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِن فتنة المحيا والمماتِ، ومِن فِتْنَةِ المسيحِ الدَّجَّالِ».
وهذا التعوذ مرغب فيه ترغيبا أكيدًا بل أوجبه الظاهرية، بحيث من لم يقلها بطلت صلاته عندهم. وقد أشار إليه القرآن، على ما قال بعض التابعين. وَرَد عن أبي العالية، قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظموا أمره، وقالوا: يصنع كذا فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِي ايتِ اللَّهِ فِي بِغَيْرِ سُلْطَانِ أَنَهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِرٌقَاهُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [غافر: ٥٦]. فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.
لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٥٧] قال: من
خلق الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَدِلُونَ فِي ءَ ايَتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ هم اليهود نزلت فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وعلى هذا فإطلاق الناس على الدجال، من قبيل العام المراد به الخصوص. نظير إطلاقه على نعيم بن مسعود في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لكُمْ ﴾ [آل عمران: ۱۷۳] الآية، فالمراد بلفظ الناس الأول نعيم.
٦ - الدخان: ثبت به الحديث في "صحيح مسلم".
خواطر دينية جدا
۱۷۱
۷، ۸، ۹ - ثلاث خسوفات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب وخسف
بجزيرة العرب.
۱۰ - نار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر.
ثبتت هذه العلامات في صحيح مسلم من حديث أبي أسيد الغفاري
رضي الله عنه.
لا تقوم
الساعة
حتى تحصل هذه العلامات، ومن ادعى إمكان قيام
الساعة قبل هذه العلامات بسبب طارئ من الطوارئ كحرب ذرية، أو اجتماع
كواكب في برج من البروج، فهو كاذب، لا يلتفت إلى كلامه.
حكم الدخان والنشوق
قدمنا فيما مضى أن الدخان ،حرام، وأنه صغيرة، ونبسط الكلام عليه هنا بعض البسط فنقول:
ظهر شرب الدخان في القرن العاشر الهجري في تنبكتو، من بلاد سودان المغرب، فألف في إباحته العلامة أحمد بابا السوداني، ونظم قصيدة تائية ذكر فيها منافعه وفوائده، ثم وصل إلى المغرب، فاتفق العلماء عندنا على تحريمه، وقد جلب كثيرًا من نصوصهم شيخنا العلامة المرحوم السيد محمد بن جعفر
الكتاني في كتابه الذي ألفه في تحريم الدخان، وقد قرأته أيام الطلب. وحرمه أيضًا من مالكية مصر العلامة الشيخ إبراهيم اللقاني في كتاب ألفه لذلك، أما بقيتهم ومعهم الشَّافعية فتردد رأيهم فيه بين الإباحة والكراهة. وزاد الباجوري في حاشيته على ابن قاسم «أن المرأة لو كانت تشرب
۱۷۲
الأدب والمتفرقات
الدخان فعلى زوجها أن يحضره لها في ضمن النفقة» توسع كبير وتساهل غير
مرضي. وممن ألف في إباحته الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي الحنفي، وقال إنه لم يشربه، وإنما أباحه بحسب ما ظهر له من الدليل، أي على أصول مذهبه وهو إباحته الدخان شذ عن الصوفية فإنهم متفقون على تحريمه، والتشديد فيه. ثم إن العلامة الشيخ عبد الحي اللكنوي من محققي الحنفية - ألف رسالة في الدخان، استعرض فيها الآراء، ومحص أدلتها، وانتهى إلى أنه مكروه كراهة تحريم بناء على أصل الحنفية في التفريق بين قولهم في الشيء: حرام، وقولهم: مكروه كراهة تحريم والاسم شامل ،النوعين والتفرقة مجرد اصطلاح لهم
ومالكية المغرب استدلوا على تحريمه بقوله تعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبيثَ [الأعراف: ١٥٧] قالوا: وهو خبيث كريه الرائحة، ويكفي في خبثه أن شاربه يستف النار في جوفه استفافًا، ويورث سوادًا في الأسنان، وصفرة كريهة المنظر في الأصابع ويحرك البلغم، ويكثر السعال إلى غير ذلك من الأضرار، ضرره في المال، وما كان كذلك فهو حرام لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا ضرر ولا ضرار». وهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تضروا أنفسكم، ولا تضروا غيركم. ومنه أخذ العلماء القاعدة الفقهية الأصل في المضار التحريم.
الله عنه
و مما استدل به على تحريمه ما ذكره لي مولانا الإمام الوالد رضي | أن العلامة الولي الشيخ محمد بن ناصر ، لما حج، مر بمصر، واجتمع بعلمائها
(1)
(1) كتب أخي السيد حسن في هذا الموضع ما نصه: "وفي "حاشية ابن الحاج على المرشد"
خواطر دينية جـا
۱۷۳
وجرت بينهم مناقشات في مسائل علمية، منها الدخان وكانوا يرون إباحته فكان مما قال لهم: أرأيتم لو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دخل عليكم وأنتم تشربونه، فهل تستمرون؟ أو تخفونه استحياء منه؟ قالوا نخفيه استحياء صلى الله عليه وآله وسلّم . قال : إذن فهو حرام، إذ لو كان مباحًا ما
منه
أخفيتموه استحياء، فلم يجيبوا بشيء.
وقد يبدو هذا الاستدلال غريبًا لأول وهلة، لكن إذا تأملته وجدته سليما، يتمشى مع ما عرف من حال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم وطبعه، فإنه عليه الصلاة والسَّلام كان يكره النار ، ولا يحبها ()، وقد استعمل صلى الله عليه وآله
وسلَّم الحجامة وغيرها من الأدوية، ولم يكتو قط، لبغضه النار. وقال عليه الصلاة والسَّلام: إن كان في شيء من أدويتكم شفاء ففي
ثلاث: لعقة عسل أو شرطة محجم أو كيَّة بنار. وأنا أكره الكي». وقدم إليه طعام، فوجده حارًا، فرفع يده عنه، وقال: «اللهم لا تُطْعِمْنا نارًا». وقال أيضًا: «الطَّعامُ الحار لا بركة فيه». وذلك لقرب عهده بالنار. وكذلك الملائكة الكرام، يبغضون النار أيضًا. فقد صح . من ، طرق أنهم
نسبة الحكاية إلى ابن ذكري، فحققه، ولا مانع أن تكون الحادثة حصلت لكليهما ويجوز أن يكون حصل لي سهو، فإني سمعتها منذ أربعين سنة». (1) كتب أخي ما نصه : وقد ذكر لي أخي أبو الفيض رحمه الله عن سيدي محمد بن جعفر الكتاني: أن بعض الأغوات خدام الحجرة الشريفة، ممن كان يشار إليه بالفتح والمعرفة. رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كل من دخل الحجرة من باب الرحمة استقبلته ما عدا شارب الدخان.
١٧٤
الأدب والمتفرقات
كانوا يسلمون على عمران بن حصين رضي الله عنه لصبره على ألم البواسير، فلما شق عليه الألم واكتوى، انقطع تسليمهم عليه، ولم يعودوا إلا بعد ذهاب أثر الكي نهائيا.
فنحن نجزم بأنه صلَّى الله عليه وآله وسلم لا يحب الدخان، ولا يحب مجلسا يشرب فيه، وكذا الملائكة الكرام عليهم السلام. وما يقال فيه من المنافع والفوائد تخيلات وأوهام. نعم، ثبت في علم الطب أن له علاقة وثيقة بسرطان الرئة، ومرض القلب، وأنه يورث ضيقًا في التنفس، وضعفًا في العملية الجنسية، واضطرابًا في جهاز الهضم، ويقلل شهية الأكل، إلى غير ذلك، ولو سلمنا جدليا- أن فيه منافع، فهي لا تعادل ما فيه من المضار. وحتى لو عادلتها فيجب تركه أيضًا للقاعدة المقررة، وهي: دفع المضار يقدم على جلب المنافع. أما النشوق - وتسمى طابا بلغة المغرب - فعلماء المغاربة متفقون أيضًا على تحريمها، قال صاحب العمليات
وحَرَّموا طابا للاستعمال وللتجـــــــارة على منوال والصوفية متفقون معهم على التحريم، ومشددون في استعمالها؛ حتى لقد قال جدي الإمام القطب الكبير سيدي الحاج أحمد رضي الله عنه: إذا رأيتم الفقير (المريد) ينفح بتشديد الفاء المكسورة (يتنشق) فاعلموا أنه شيطان في الطريق. ومالكية مصر - ومعهم الشَّافعية - رأوا إباحتها، ومنهم من كرهها. وأنا أميل إلى التحريم، لوجوه:
-
الأول: أن إنفاق المال فيها إسراف وإضاعة للمال، لأنها ليست بأكل ولا
خواطر دينية جـا
۱۷۵
شرب، ولا فاكهة، ولا نفع فيها للجسم، وقد قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: ۳۱] وقال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وكره الله لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». الثاني: أنها مستقذرة والمستقذر يحرم ولو كان طاهرا. ألا ترى إلى المخاط ؟ فإنه طاهر، وتناوله حرام لاستقذاره، وكذلك المني، يحرم لاستقذاره، وهو
طاهر.
الثالث: أنها تؤثر طبقة سميكة تحت الأنف، تمنع وصول الماء إلى البشرة،
فيبطل وضوء متعاطيها وغسله وتبطل تبعا لذلك صلاته.
الرابع: أنها تؤثر خللا في بعض مخارج الحروف، كالميم والنون، وذلك يؤدي إلى بطلان الصلاة، لأن الفاتحة من أركانها، فإذا لم يحسن المصلي حروفها، بطلت صلاته لاختلال ركن منها . الخامس: أنها تنزل الحلق بعد الصبح، فتفطر الصائم على مذهب المالكية. وقد كان مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه ، يتكلم عليها في بعض مذكراته العلمية، فكان مما قاله من تنشق بعد السحور، ووجدها في حلقه بعد الفجر، بطل صومه، ووجبت عليه الكفارة، فظن بعض أهل العلم أنه قصد المبالغة في التحذير منها، فأطلعهم على شرح الشيخ خليل، فإذا هو ينص على
(1)
ذلك فأذعنوا .
(1) كتب أخي أيضًا ما نصه: «الكن ابن الحاج محشّي "ميارة"، نص على أنه لا عبرة بالنازل إلى الحلق بعد الفجر، لأنه بمثابة المنحدر من الرأس.
١٧٦
الأدب والمتفرقات
ومذهب المالكية وجوب الكفارة بأي مفطر لأن علة الكفارة عندهم: انتهاك حرمة رمضان وهو موجود في كل مفطر. وقالوا: إن الحديث أوجب الكفارة في الجماع، لأنه مفطر، ولأن الانتهاك به أشد.
أنواع الاجتهاد
الاجتهاد بذل الفقيه -وهو العالم - وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي
وهو نوعان:
الأول اجتهاد استقلال، وهو أن يستقل العالم بتأصيل أصول وتقعيد قواعد يمشي عليها في اجتهاده مثل تمسك أبي حنيفة بالاستحسان، ومثل تمسك مالك بقول الصحابي، وعمل أهل المدينة، ومثل أخذ الشافعي بأقل ما قيل، وهذا النوع يختص بالأئمة الأربعة وشيوخهم وأقرانهم ومن في طبقتهم. ولا يوجد الآن بل انقطع منذ زمن بعيد، لأن الأصول والقواعد دونت
وفرغ منها، ولا يمكن أن يزاد عليها أصل ولا قاعدة. الثاني: اجتهاد إطلاق وهو أن يأخذ العالم الحكم من الدليل، غير متقيد بمذهب من المذاهب، فتارة يوافق مالكًا وتارة يخالفه، وهكذا بالنسبة للشافعي وغيره، بل تارة يخالف الأئمة الأربعة مجتمعين.
قلت: هذه طريقة مالكية المغرب، والشيخ عليش طريقته طريقة الأجاهرة، مالكية مصر. ونظريتهم في هذه المسألة أن المتنشق بعد السحور، يعلم أن النشوق ينزل إلى حلقه، فقد تعمد تعاطي ما يفطر، وهي نظرية فيها شدة، فلذلك لم يعتمدها مالكية
المغرب.
خواطر دينية جـا
۱۷۷
وليست مخالفتهم خرقًا للإجماع، كما يفهم كثير من متعلمي العوام، لكنه يمشي في اجتهاده على الأصول المدونة، والقواعد المقررة وهذا النوع لا ينقطع، ولا يمكن أن ينقطع إلى قرب يوم القيامة، حين ينزل عيسى عليه السلام، وإن أطبق المتأخرون على القول بانقطاعه، فهم واهمون مخطئون، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه
والتجديد لا يتأتى إلا من المجتهد الذي يقدر على النظر في الأدلة، واستخراج الأحكام منها حسب الوقائع والحوادث المتجددة. وبه تقوم الحجة، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «العلماء ورثة الأنبياء». أما المقلدون فلا يقدرون على التجديد، ولا تقوم بهم حجة، ولا يسمون علماء في عرف الشرع، وإنما هم مجرد رواة يفتون بما وجدوه وتعلموه في كتب المذاهب التي يقلدونها، فينبني قبول فتاويهم على وجود شرائط الراوي فيهم من العدالة والضبط، وفهم ما ينقلونه من كتب مذاهبهم.
وثم نوع آخر من الاجتهاد يسمى صاحبه مجتهد مذهب، وهو الذي يجتهد داخل حدود مذهب معين؛ كمذهب مالك أو الشافعي مثلا، ولا يخرج
عنه إلا في النادر.
ومثل هذا الاجتهاد أن يسمى اجتهادا في التقليد؛ لأن صاحبه يصح اجتهد في ترجيح قول الإمامه على قول له آخر، أو الجمع بينهما، وليس كلامنا
۱۷۸
الأدب والمتفرقات
في هذا النوع، وإنما نتكلم على الاجتهاد المطلق الذي ينصرف له اللفظ عند إطلاق لفظ الاجتهاد، ويشترط فيه أن يكون الشخص عالما بالقرآن، ووجوه تأويله، وبالحديث وعلله ومعانيه، حتى يعطي كل حديث حقه من البحث في صحته، وفي فهمه فهما صحيحًا، بصيرًا بأقوال فقهاء الصحابة والتابعين، عارفًا بمواقع الإجماع والخلاف، حتى لا يدَّعي الإجماع في موضع الخلاف،
وبالعكس.
وأن يكون اجتهاده في حدود القواعد الشرعية المقررة، وداخل إطار ما تقتضيه ألفاظ الكتاب والسنة حسب مدلولاتها اللغوية، على اختلاف أنواعها المعروفة في اللغة العربية. لا على أساس المصطلحات المستحدثة في العصور المتأخرة، ولا على أساس تحميل الألفاظ ما لا تحتمله من المعاني.
وألا يؤول النص الصريح، إذ الصريح لا يقبل التأويل، ويلحق به في عدم التأويل أيضًا الظواهر الكثيرة المتواردة على معنى واحد. وألا يجتهد مع وجود النص. لأن معنى الاجتهاد بذل الجهد في استخراج الحكم من دليل شرعي، بطريق من طرق الاستنباط المعروفة المقررة، وحيث كان الحكم منصوصا، فلا عبرة بالاجتهاد حينئذ. لأنه إما أن يوافق النص، فيكون لاغيا. وإما أن يخالفه، فيكون باطلا.
والدليل الشرعي نوعان:
الأول: دليل متفق عليه بين العلماء، وهو الكتاب والسنة، والإجماع،
والقياس. ويوجد خلاف في الآخرين، إلا أن معظم العلماء على حجيتهما. الثاني: دليل مختلف فيه بين العلماء، مثل الحديث المرسل، وقول الصحابي،
خواطر دينية جـا .
۱۷۹
ويشرع من قبلنا، وعمل أهل المدينة والاستصحاب، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وقول الأكثر، والأخذ بأقل ما قيل. وتوجد
قواعد كلية، تعتبر دليلا لكثير من الجزئيات، مثل:
- الأصل في المضار التحريم، وفي المنافع الإباحة.
- المشقة تجلب التيسير.
- الأمور بمقاصدها.
- درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح.
العادة محكمة، فيما لم يرد فيه نص.
إلى غير هذا من القواعد التي أخذت من دلائل الكتاب والسنة، ومن روح الشريعة. ولا يستغني مجتهد عن معرفتها، والإلمام بها إلماما كاملا. زيادة على اتصافه بالشروط السابقة، مع فقاهة نفسه، وورع يحجزه عن الزيغ والميل مع
الهوى.
والاجتهاد المطلق، بالوصف الذي بيناه وأوضحناه، فرض كفاية، يجب أن يقوم به من الأمة فرد أو أفراد لتجديد الدين باستخراج أحكام لما تجدد من الحوادث، ولتبليغه على الوجه الحق، ولقيام الحجة على الخلق، بوجود ورثة الأنبياء بين ظهرانيهم يرجعون إليهم فيما يشكل من أمور الدين، ويدحضون ما يرد من شبه تؤثر في عقائد عوام المسلمين.
أما الذين يسارعون إلى إباحة بعض المحرمات، ويصدرون فتاوى يرضون بها رؤساء بعض الحكومات، وقد تختلف فتاويهم بالتحليل والتحريم حسب اختلاف الأغراض والشهوات، فهؤلاء مجتهدون في محو الدين، مجدون في
۱۸۰
الأدب والمتفرقات
تغيير أحكامه. ولن يفلتوا من عقاب الله تعالى، ولا من شديد انتقامه، وما الله
بغافل عما يعملون.
ليس لبشر أن يتناول الدين بإصلاح أو تهذيب
عرف العلماء الدين بأنه: وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة، إلى ما فيه صلاح دنياهم، وسعادة آخر تهم.
وهذا التعريف مأخوذ من قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣]. وحيث كان الأمر كذلك، فلا يمكن لبشر أن يتناول الدين بإصلاح أو تهذيب، لأن ما وضعه الله
وأكمله، لا يقدر مخلوق أن يصلحه. وعلى هذا فقول الشيخ محمد عبده ولست أبالي أن يقال محمد أبل أم اكتظت علي المآتم ولكن دينا قد أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم ويعني بصلاحه إصلاحه، خطأ لما علمت فإن أراد بالإصلاح التجديد عن طريق الاجتهاد، فهو ليس من أهله؛ لأنه: أولا : لم يكن يعرف السُّنَّة، بشهادة تلميذه البار الشيخ رشيد رضا، وفتاواه تدل على ذلك أبلغ دلالة.
ثانيا : كان يجتهد مع وجود النص ويخالفه ! سأله مسلموا الترانسغال عن حكم البقرة التي تقتلها حكومته الإنجليزية بضربها على رأسها بآلة حادة كالساطور؟ هل تجوز أكلها؟ فأفتاهم بالجواز قياسًا على قول ابن العربي المالكي بإباحة أكل الدجاجة التي يقتلها النصارى بلي عنقها، لأنها طعامهم.
خواطر دينية جـا
۱۸۱
والله تعالى يقول: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ ﴾ [المائدة: ٥].
فكانت هذه الفتوى باطلة، لوجوه
أحدها: أنه أباح ما صرح الله بتحريمه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ [المائدة: ٣] الآية. والبقرة المضروبة على رأسها
موقوذة.
ثانيا: أنه قلد ابن العربي في رأي خطأه فيه أهل مذهبه، وبينوا أنه غفل عن القاعدة المتفق عليها وهي أن طعام الكتابيين يحل لنا ما لم يكن حراما في :
شريعتنا. والدجاجة المقتولة بلي عنقها حرام في شرعنا، فلا تحل بالإجماع. ثالثا: وفيه خطأ من الناحية السياسية، أنه سوغ لهم الاستسلام لحكومتهم الكافرة فيما يخالف تعاليم دينهم، وكان الواجب عليه أن يرشدهم لمطالبة حكومتهم بإقامة مذبح خاص بهم، وإشعارها بقوة كيانهم، واعتزازهم بتعاليم
دينهم.
وسألوه عن حكم لبس البرنيطة ؟ فأجابهم بإباحته، لاتقاء حر الشمس ونحوه. فخالف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تشبه بقوم فهو
منهم. وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «ليس منا من تشبه بغيرنا».
وغفل عن حكمة التحريم وهي أن البرنيطة شعار خاص بالنصارى، يتميزون به. ومشاركتهم فيه، تورث ميلا إليهم، واستحسانًا لعاداتهم، وركونًا
۱۸۲
الأدب والمتفرقات
إليهم. فيفقد المسلمون شعارهم وعاداتهم ويسهل حينئذ إذابتهم في غيرهم، وهذا ما قصد إليه المستعمرون حين غزوا بلاد الإسلام، وقوضوا الخلافة، استوردوا معهم عادات أوروبية وتقاليد أفرنجية، غزوا بها المسلمين في لبسهم، وفراشهم ومجتمعهم. فتقبلوها باسم المدنية والحضارة والتقدم. وانسلخوا من عاداتهم وتقاليدهم الإسلامية العربية. فاستعجمت قلوبهم، وتفرنجت مظاهرهم، ولم يبق لهم من العروبة والإسلام، إلا دعاوى باللسان، وصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب».
وهذه تركيا الحديثة حينما أرادت التنصل من إسلامها وشرقيتها، اتخذت البرنيطة شعارًا لها، وأتبعتها بقوانين تعارض كتاب الله وسنة رسوله، فكانت أول مادة في دستورها أنها دولة لا دينية وأباحت زواج المسلمة بغير المسلم، وساوت بين الرجل والمرأة في الميراث، إلى غير ذلك، واستبدلت الحروف اللاتينية بالحروف العربية. فأحبتها الدول المستعمرة: أمريكا وإنجلترا وفرنسا، وخصوها بودهم واتخذوها حليفة لهم، وأمدوها بالمال والسلاح، واعتبروا أي عدوان عليها عدوانا عليهم يقاومونه بالسلاح، وما ذلك إلا لاندماجها في تقاليدهم، وتنكرها لدينها وقوميتها. وأنكر ليلة القدر، وزعم أن الأحاديث الواردة في فضلها، وفضل قيامها، رواياتها مضطربة، وأغلبها ضعيف، والكثير منها موضوع. قال: ومثل ذلك لا يصح الأخذ به في باب العقائد.
وهذا دليل واضح من كلام الشيخ يدل على جهله بالسنة، لأن أحاديث
خواطر دينية جـا
۱۸۳
فضل ليلة القدر، وفضل قيامها والدعاء فيها ثابتة في صحيحي "البخاري" و "مسلم"، وبقية الكتب الستة وغيرها من كتب السنة المعتبرة من حديث ابن عباس وعائشة وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهم، بحيث بلغت حد الاستفاضة والشهرة. لكن الشيخ لم يقرأ "صحيح البخاري" طول حياته، كما يقول عنه تلميذه الشيخ رشيد رضا. ثم لست أدري ما علاقة قيام ليلة القدر بالعقيدة؟!! فهل كان الشيخ يجهل الفرق بين ما هو من قبيل الفروع، وما هو من قبيل العقائد؟!! أو أن الخلط بينهما نوع من الاجتهاد عنده ؟!! ثم إنه تمحل في بيان معنى ليلة القدر، وتكلف في تفسير قوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ﴾ [الدخان: ٤ - o] بما ينافي العلم والإنصاف. وقد كشف عن تمحله وتكلفه الشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر السابق، في رسالة ألفها في ليلة القدر. ثالثا: يؤول نصوص الشريعة بالمصطلحات المستحدثة في هذه العصور
غير مبال بالمدلولات اللغوية لتلك النصوص وإليك البيان
نشأ عن الاستعمار الأوروبي تدفق جيش من المبشرين على البلاد الإسلامية يغشون المستشفيات والنوادي والمجتمعات، يبشرون بدينهم المسيحي، ويفضلونه بأنه دين الرحمة والمحبة والسلام والتسامح. إلى كلام من هذا القبيل، ردده أولئك المبشرون في مصر والسودان والمغرب، وغيرها من البلاد الشرقية الإسلامية، وسمعه الشيخ - وكان ذكيا فهداه ذكاؤه إلى أن يؤول به نصوصًا تصرح بخلاف رأيه، فإنه تعرض في بعض دروسه -كما في
١٨٤
-
الأدب والمتفرقات
"تفسير "المنار" لأحاديث نزول عيسى وقتله الدجال، وهو لا يرى ذلك، فأولها بأنها تشير إلى انتشار رسالة عيسى وتعاليمه من الدعوى إلى المحبة
والتسامح.. إلخ. وفاته أمور:
1 - أن هذا المعنى مستحدث لم يعرف إلا بظهور المبشرين الذين جاءهم
الاحتلال، فلا يجوز ولا يصح أن تؤول به ألفاظ الكتاب والسنة. ٢ - أن يبين من الذي يقوم بنشر تعاليم المسيح؟ النصارى؟ أم المسلمون؟ إن كان الأول فهل معنى أن الأحاديث أخذت بانتشار النصرانية؟ وإن كان الثاني، فهل معنى ذلك أن المسلمين، رأوا تعاليم المسيح خيرًا من تعاليم دينهم
فقاموا بنشرها ؟!! ٣- أن الأحاديث صرحت بأن عيسى حين نزوله يدعو إلى الإسلام ويقاتل عليه، ولا يقبل الجزية ولا يبقى في عهده يهودي ولا نصراني.
فرض الكفاية في الإسلام
عرَّف علماء الأصول فرض الكفاية بأنه أمر مهم يقصد حصوله من غيره نظر بالذات إلى فاعله، فالطلب به يتوجه إلى مجموع الأمة، فإن تركوه أثموا جميعا، وإن قام به بعض الأمة سقط الإثم عن الباقين، وهو نوعان: ديني،
ودنيوي. فالديني: ماله تعلق بالدين، مثل الاشتغال بعلم التجويد، وعلم القراءات لأن بهما يمكن تلاوة القرآن على الوجه المتلقى، وقراءاته بالوجوه المروية عن
خواطر دينية جـا
۱۸۵
النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
والاشتغال بعلوم النحو، واللغة، والبلاغة، والأصول، لأنها وسائل لفهم
الكتاب والسنة.
والاشتغال بعلم الكلام، وما يتوقف عليه من علم المنطق، لأن به تقام
الأدلة على صحة العقيدة، وتدفع الشبه الواردة عليها.
والاشتغال بعلم الفقه على وجه التعمق والبحث، لأن به تعرف الأحكام
المتعلقة بأفعال المكلفين في عبادتهم ومعاملاتهم.
والاشتغال بعلم الفلك، لأن به تعرف مواقيت الصلاة، ومواقيت
الإمساك والإفطار في رمضان.
والاشتغال بعلم الحساب لأن به تعرف قسمة المواريث، ونصيب كل
وارث وأنواع من المعاملات في البيوع وغيرها.
والاشتغال بصناعة الأسلحة للجهاد في سبيل الله، واستعدادًا لدفع عادية
المعتدين من المستعمرين والصهيونيين، تنفيذا لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ ﴾ [الأنفال: ٦٠].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم «ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي. والرمي عام يشمل رمي البنادق والمدافع والقنابل والصواريخ وغيرها.
ومن فروض الكفاية تبليغ الإسلام، ودعوة غير المسلمين إليه، لقوله تعالى: وَلَتَكُن مِّنكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ ﴾ [آل عمران: ١٠٤] أي
١٨٦
الأدب والمتفرقات
الإسلام. وذلك بشرح عقائده وبیان ،سماحته وسهولة أحكامه، ويسر تعاليمه بوسائل الدعوة كالكتابة والخطابة والمناظرة وغيرها، ويستدعي ذلك تعلم لغات أجنبية ليمكن ترجمة معان من تفسير القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وغير ذلك مما يوضح معنى الإسلام، ويرغبهم
فيه فيكون تعلم اللغات الأجنبية واجبا، لتوقف واجب التبليغ عليه. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم زيد بن ثابت بتعلم اللغة العبرية، وقال: «لا آمن هؤلاء اليهود على كتبي . فيستفاد منه أن من مقاصد تعلم اللغة الأجنبية دفع ما يكتبه الأجانب عن الإسلام من تحريفات وتشنيعات يزعمونها مترجمة عن تعاليمه وأحكامه.
وأكثر الأجانب عداء للإسلام، وأحرصهم على تشويه سمعته المستشرقون الفرنسيون والهولنديون. وقد كانت حملة هاتوتو الفرنسي على الإسلام حملة
قذرة كشخصه فردها الشيخ محمد عبده رحمه الله وأحسن جزاءه. ومن المعروفين بالعداء للإسلام وللنبي عليه الصَّلاة والسلام الكاتب والفيلسوف الغربي المشهور بسخريته برنارد شو أخزاه الله. وواجب التبليغ أهمله المسلمون، وقصَّروا فيه تقصيرًا شائنا، حتى لاحظه الأجانب أنفسهم، فقد رحل المستشرق الإنجليزي إدوارد ويليام لين، إلى مصر في القرن الماضي، ومكث مدة عاشر فيها المصريين، وعرف عاداتهم كأنه واحد منهم، وسجل ما شاهده في كتاب جاء فيه: «ورغم أني لم ألمس كل يوم دليلًا جديدًا على شدة تحمس المسلمين واعتزازهم بدينهم، إلا أنني كثيرا ما تساءلت عن السر في أنهم لا يحاولون مطلقا أن ينشروا دينهم عن طريق
خواطر دينية جـا
۱۸۷
التبشير، وقد أبديت هذه الملاحظة لكثير من الناس، وسألتهم لم لا يفعلون كما كان أجدادهم يفعلون في صدور الإسلام؟ فينشرون دينهم كما نشروه؟ فما كان جوابهم إلا أن قالوا: وأي فائدة نجنيها من ضم ألف من الكافرين إلى حظيرة الإسلام؟ إن هؤلاء لن يزيدوا عن عدد المؤمنين إطلاقا لأن عدد المؤمنين قد كتبه الله عنده؛ وليس في قدرة أحد من البشر أن يضيف إلى ذلك العدد أو
ينقص منه .
وملاحظة هذا المستشرق في محلها، وسؤاله وجيه، لكن الإجابة عنه تدل على ضعف في التفكير وميل إلى الكسل وفهم خطأ لعقيدة المقدر المكتوب، مع مخالفتها للواقع الملموس لأن في إدخال بعض الكفار إلى حظيرة الإسلام
فوائد
منها: اكتساب ثواب الله تعالى، للقيام بتنفيذ قوله سبحانه: وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ ﴾ [آل عمران : ١٠٤] الآية.
ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لعلي كرم الله وجهه «لأن يهدي الله
بك رجلًا واحدًا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» أو كما قال. ومنها: إنقاذ الداخلين في الإسلام من النَّار، وهو فوز وفلاح. لقوله تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: ١٨٥] وكفى بها
فائدة.
ومنها: اكتساب إخوان في الدين، والتعارف بهم والتعاون معهم على إقامة دين الله، تحقيقا لقوله تعالى: ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السَامِ
۱۸۸
الأدب والمتفرقات
كافة ﴾ [البقرة: ۲۰۸].
وقوله سبحانه: ﴿ يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: ١٣].
وقوله جل شأنه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: ٢].
ومنها: انتفاع المسلمين بخبرة أولئك الداخلين في الإسلام، فيما أتقنوه من الصناعات والمهن المفيدة. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في بعض
(1)
غزواته جعل تعليم بعض المسلمين الكتابة فدية لإطلاق أسرى الكفار من
الأسر. فكيف يفوتنا الانتفاع بمن يدخلون في ديننا؟ ويصيرون إخواننا؟! ومنها: أن عدد المؤمنين يزيد بالداخلين في الإسلام، وتقوى رابطتهم، ويشتد بأسهم، لا سيما إذا كان في الداخلين ذوو نجدة وبصر بالأمور السياسية ونحوها، إلى غير هذا من الفوائد.
والمقصود أن واجب التبليغ يقع إثم إهماله على المسلمين خصوصا منهم الحكام والعلماء وذوي اليسار. فهؤلاء الطوائف الثلاثة يتحملون كبر هذا
الإثم، ويلزمهم عظم ،وزره وفقهم الله وهدانا وإياهم سواء السبيل. أما دعوى أن عدد المؤمنين قد كتبه الله عنده، وليس في قدرة أحد من البشر أن يضيف إليه أو ينقص منه، فكلمة ألقاها الشيطان على ألسنة المسلمين في هذه العصور، ليثبطهم عن الأعمال النافعة ويخذلهم عن القيام بخدمة دينهم
على الوجه الصحيح فاستناموا إلى الراحة، واستكانوا إلى الخمول واشتغلوا
(۱) هي غزوة بدر.
خواطر دينية جـا .
۱۸۹
بتوافه الأمور، حتى سبقتهم الأمم، وغلب عليهم الاستعمار، فصاروا مغلوبين في ديارهم، متأخرين في أفكارهم. هذا وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أول المؤمنين بالقدر - قام بالدعوة، وكافح في نشرها، وصبر وصابر وجاهد بالحجة والبرهان ثم جالد بالسيف والسنان، حتى نصره الله، ونشر دينه والله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ۲۱] أفلا يأتسون به في نشر الدين؟ والدعوة إليه؟ لا سيما وقد قال النبي ) صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حجة الوداع: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب». وفرض الكفاية الدنيوي كثير أيضًا، مثل الاشتغال بعلوم الطب والهندسة والزراعة والجغرافيا وغيرها.
ومثل الاشتغال بالمهن ،والصناعات كالتجارة والخياطة والخراطة والحدادة والبناء وغيرها. ومثل الاشتغال بالصناعات المستحدثة كالتليفون والراديو والتليفزيون والكهرباء.
وكالبحث عن المعادن مثل الحديد والنحاس والذهب والبترول وغيرها مما أودعه الله باطن الأرض، وأرشد إليه في مثل قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ أي أخرجناه من المعادن في بَأْسُ شَدِيدٌ ) حيث يتخذ منه معدات الجهاد وآلاته وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: ٢٥] حيث يتخذ في بناء البيوت والمصانع وغيرها. قوله تعالى يمتن على سليمان عليه السلام وَأَسَلْنَا لَهُ أذبنا له عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ [سبأ: ١٢] النحاس.
۱۹۰
الأدب والمتفرقات
وفي الحديث الذي يقوله : «التمسوا الرزن) أي ما تنتفعون به «في خبايا الأرض» أي فيما خبأه الله في باطن الأرض من المزروعات والمعادن. وكتعلم السباحة والغوص، ولانتشال ،الغرقى ولاستخراج اللؤلؤ والمرجان اللذين امتن الله علينا بهما في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [الرحمن: ۲۲] إلى غير ذلك من الحرف الكثيرة.
روى الديلمي وابن عساكر عن عطية بن بسر مرفوعا في قوله تعالى: وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَهَا ﴾ [البقرة: ٣١]. قال: «علمه الله في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له: لولدك وذريتك يا آدم إن لم تصبروا على الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف، ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي وحدي خالصا، ويل لمن طلب الدين بالدين، ويل له.
والتعبير بالألف ليس للتحديد بل هو كناية عن الكثرة، أو باعتبار أنها أصل للحرف التي تولدت بعد ذلك وتطورت مع تطور الناس حسب مصالحهم ومقتضيات أحوالهم.
والقاعدة عند فقهاء الإسلام أن الاشتغال بالعلوم النافعة والحرف المفيدة فرض كفاية، تأثم الأمة بتركه، وإن قام به طائفة منهم سقط الإثم عن الباقين. ومن هنا يتبين أن الإسلام لم يكتف بالترغيب في تعلم العلوم والصناعات، بل جعله واجبًا تأثم الأمة بالتقصير فيه. وهذا لا يوجد في دين من الأديان، ولا في نظام من النظم، وبهذا يمتاز الإسلام عن غيره. وينبغي لمن يتعاطى شيئًا من الحرف والصناعات المذكورة أن ينوي بتعاطيها القيام بواجب الكفاية، فيكون
مثابا عند الله في عمله الدنيوي، وهذا من خصائص الإسلام أيضًا.
خواطر دينية جـا
۱۹۱
ومن فروض الكفاية ما قصد به إيجاد تآلف بين أفراد الأسرة والمجتمع.
مثل ما إذا سلم شخص على جمع من الناس، وجب عليهم رَدُّ السلام، فلو رد واحد منهم كفي، وسقط الإثم عن بقيتهم.
وإذا عطس في مجلس وحمد الله تعالى، وجب على الحاضرين تشميته بقولهم له يرحمك الله. فإن شمته أحدهم، سقط الإثم عن بقيتهم، ومثل هذا كثير. الزكاة والخمس علاج المشكلة الفقر
الزكاة ركن من أركان الدين وحق معلوم في مال الغني للفقير، وليس أمرها موكولا إلى رغبة الغني يدفعها إن شاء، بل الواجب شرعا على الحكومة أن تقوم بتحصيل الزكاة من التجار والمزارعين والأغنياء، وتوزعها على مستحقيها، فإن امتنع أحد من أدائها، أخذت منه قهرا، وعوقب ليكون عبرة لغيره، لقول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من أدى الزكاة مؤتجرا فله أجره ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله غرمة من غرمات ربنا». رواه أحمد والنسائي وغيرهما.
وإن امتنع منها جماعة قوتلوا عليها، كما فعل الصديق رضي الله عنه، حيث جهز جيشا لقتال أهل اليمامة حين امتنعوا من دفعها له، وقالوا كنا نعطيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وقد توفاه الله تعالى وراجعه عمر رضي !
الله
عنه فقال: كيف تقاتل قوماً يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أُمِرْتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دماءَهَمُ وأموالهم إلا بحقها» فقال: أليس قد قال: «إلا بحقها»؟ والزكاة حق المال، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله
۱۹۲
الأدب والمتفرقات
صلَّى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه. وقاتلهم حتى رجعوا. ومن الوظائف التي كانت في العهد النبوي: تعيين الجباة الذين كانوا يحصلونها من أرباب الأموال ويسلمونها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يفرقها على مستحقيها، ومنهم الجباة، وهذه الوظيفة أسسها القرآن الكريم، حيث أرشد إليها في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَتُ الزكوات الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: ٦٠] الآية. العاملون عليها جباتها، المصنف يرى أنه يجب على كل حكومة إسلامية أن تنشئ مصلحة خاصة تسمى مصلحة جباية الزكاة»، وبيان مهامها وشروط موظفيها، فيجب على كل حكومة إسلامية أن تنشئ مصلحة خاصة تسمى «مصلحة جباية الزكاة تكون مهمة موظفيها ثلاثة أشياء: ١ - خرص التجارات والحبوب، والمزروعات، والأنعام، والنقود المودعة في المصارف، ثم تحصل الزكاة من أصحابها على رأس كل سنة هجرية، بالنسبة التي عينها الشارع لكل نوع من الأنواع السابقة، إلا المزروعات فتؤخذ الزكاة
منها حين نضجها، ثم توزيعها على مستحقيها.
٢ - تحصيل زكاة الفطر في رمضان من كل مسلم أو مسلمة يملك زيادة عن قوت يومه. كبيرًا كان أو صغيرًا، ويدفع عن الأطفال أبوهم، وعن المرأة زوجها، ومن لا زوج لها تدفع عن نفسها إن كانت تملك قوت يومها ثم توزيعها على الفقراء يوم العيد نفسه، ليكون الابتهاج بالعيد عاما لجميع المسلمين، ويحرم تأخير توزيعها إلى ثاني يوم العيد إلا لعذر.
تحصيل الخمس على ما يستخرج من الكنوز والمعادن، ثم توزيعه على
خواطر دينية جـا
مستحقيه، ويجب أن يكون موظفو هذه المصلحة مستوفين لشروط :
۱۹۳
١- معرفة كافية بشئون التجارة والزراعة والمعادن وما إلى ذلك، ليكون
حرصهم وتقديرهم موافقا للحقيقة، لا إجحاف فيه على أصحاب المال، ولا على المستحقين.
علم تام بأحكام الزكاة والخمس وأنواعهما ومصارفهما، وما يتصل
بذلك ليكون عملهم مطابقا لما قررته الشريعة. ٣- الأمانة التامة، ليؤدوا ما يحصلونه إلى مستحقيه، قليلا كان أو كثيرًا. - مراعاة العدل في توزيع الزكاة أو الخمس على أصحابه، بعد التحري عن كل من يأخذ، ومعرفة مدى استحقاقه. لو أنشئت هذه المصلحة في كل بلد إسلامي، لما بقي في المسلمين فقير ولا مسكين، ولارتفع مستوى معيشتهم. ولكن الحكومات الإسلامية تركت القيام بهذا الواجب الذي سيعاقبها الله عليه عقابًا شديدا، وذهبت تتلمس علاجا للفقير في نظم غريبة عن ديننا، تنافي تقاليدنا، فكانت كمثل مريض ترك دواءه في يده، وذهب يسأل الناس أن يمنحوه دواء لعلاج مرضه !!
معجزة نبوية
روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: أتى رجل من بني سليم بزكاة قومه، وجاء بقطعة من معدن لهم، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، قال: ستظهر معادن وسيحضرها شرار الخلق». صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحصل ما أخبر به؛ بعد
١٩٤
الأدب والمتفرقات
مضي أكثر من ألف سنة. فقد ظهر في الحجاز وغيره من البلاد العربية، معادن البترول والذهب، وحضرها نوعان من شرار الخلق:
١- الشركات الأمريكية والإنجليزية التي استكشفت تلك المعادن، واشترت امتیاز استخراجها، واتخذت من تلك المعادن أداة للتدخل في شئون البلاد العربية، والضغط عليها لقضاء مصالحها الاستعمارية، بل إن تلك الشركات أخذت تساعد اليهود على اغتصاب فلسطين بالأموال التي تربحها من بترول العرب!! ۲- حكام تلك البلاد، فقد اعتبروا المعادن ملكًا خاصا وأخذوا بهم، ينفقون المال الذي يستولون عليه منها، في مصالحهم الشخصية، وشهواتهم الجسمية، وأغرقوا في ذلك ،وأفرطوا حتى خرجوا عن الحد المعقول ولم يخطر قط ببالهم أن ينفذوا - ولا أن يعرفوا ما يوجب الشرع عليهم عمله في ذلك
المال، وهو أمران:
۱ - توزیع
الإسلامي.
خمسه على اليتامى والمساكين وغيرهم من بينتهم كتب الفقه
٢ - إنفاق أربعة أخماس الباقية في مصالح الشعب كالتعليم والصحة وتيسير الطرق وتعيين الموظفين الأكفاء، وغير ذلك مما يعود على البلاد وأهلها بالنفع العام. ويأخذ الحكام أجرهم من ذلك المال، باعتبارهم موظفين يقومون بما عهد إليهم خير قيام، لو أنهم فعلوا ذلك، لكانت بلادهم من أحسن البلاد رقيا وتقدما في التعليم والصحة والعمران وفي سائر شئون الحياة بل لو أنهم في حرب فلسطين منعوا الشركات من استخراج البترول، لعدلت أمريكا وإنجلترا عن
خواطر دينية جـا
١٩٥
مساعدة اليهود، ولما ضاعت فلسطين، وإن يوم الخلاص لقريب بحول الله .
معنى يخرج الحي من الميت
قال الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعني يخرج الجنين الحي من أمه بعد موتها ويُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ ﴾ [الروم: ۱۹] يخرج الجنين الميت من أمه وهي أن يكون المراد: يُخْرِجُ الْحَى المؤمن مِنَ الْمَيِّتِ الكافر
حية. ويصح
وتخرج الميت الكافر مِنَ الْحَي المؤمن.
يدل على هذا المعنى قوله تعالى أَوَمَن كَانَ مَيْتا بالكفر فَأَحْيَيْنَا
[الأنعام: ۱۲۲] بالهداية إلى الإيمان، والله تعالى أعلم بسر كلامه.
السبعة عدد كامل
للأديب الصفدي كتاب "عين النبع على طرد السبع"، قال فيه: «إن السبعة جمعت العدد كله، لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج لها أول وثاني، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثاني والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثاني، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثاني، أو الفرد الأول مع الزوج الثاني، كان سبعة، وإذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد، مع الستة التي هي عند الحكماء عدد تام، يكون منها السبعة التي هي عدد كامل، لأن الكمال درجة فوق التمام، وهذه الخاصة لا توجد في غير السبعة، ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون: واحد اثنان ثلاثة أربعة، خمسة ستة سبعة، وثمانية، وتسعة وعشرة.
١٩٦
الأدب والمتفرقات
ومن ذلك قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ ﴿ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَحْمَمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [الكهف: ٢٢] ثم ساق أمثلة من استعمال العرب لفظ «السبعة» في كل ما يريدون به الكمال، أو التيمن، أو المبالغة. والواو التي ذكر أنها تزاد بين السبعة والثمانية، سبقه إليها ابن خالويه والحريري، ومثلا لها بالآية السابقة وبقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ [الزمر: ٧١] بدون واو، وقال في أهل الجنة : الوَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها [الزمر: ۷۳] بزيادة واو، لأن أبواب الجنة ثمانية، وسميا هذه الواو
واو الثمانية».
ورد كلامهما ابن هشام في "المغني"، وقال: «ابن خالويه من ضعفاء النحويين، والحريري من الأدباء، وأن ليس لواو الثمانية أصل»، وأجاب عن
الآيتين بما يراجع في كتابه المذكور، ولا يحضرني الآن لطول العهد به.
ونجيب عن الآيتين بما حضرنا ولعله خلاصة ما في "المغني" وغيره. أما آية الكهف، فإنها دخلت الواو فيها بعد السبعة، لتفيد أن الذين قالوا إنهم سبعة، متأكدون من قولهم ولم يرجموا بالغيب كالذين من قبلهم، ولهذا زادوا الواو، ليفصلوا بين القوم وبين كلبهم الذي ليس منهم إلا في العدد، كما أن عدم دخولها في الجملتين السابقتين أفاد أن القائلين بذينك العددين، شاكون
خواطر دينية جـا
۱۹۷
غير متأكدين من قولهم، ولذا عقب الله عليهم بقوله تعالى : ورجما بِالْغَيْبِ . وأما آية (الزمر) ، فليس فيها عدد مذكور، لا سبعة ولا ثمانية. وإنما زيدت الواو، لتفيد أن أبواب الجنة فتحت قبل مجيء المتقين، إكراما لهم، فإذا جاءوا لم يتحملوا ألم انتظار فتحها، بل وجدوها مفتحة في انتظارهم، فيزيد فرحهم وسرورهم. بخلاف أبواب النَّار، فإنها تظل مغلقة، حتى إذا جاء الكفار فتحت أمامهم، فكان لفتحها وهم وقوف ينتظرون، رهبة في قلوبهم، وألم في نفوسهم، هذا ما ظهر في توجيه زيادة الواو، وحذفها في الآيتين الكريمتين والله سبحانه وتعالى أعلم. وبعد هذا لا شك أن للسبعة شأنا عند العرب، وجاء الشرع على وفاق ما . فأخذ القرآن أن السموات سبع، والأرضون كذلك، وأنَّ أبوابَ النَّار سبعة أشواط، والسعي بين الصفا والمروة سبع مرات، ورمي الجمار سبع، وفي الحديث الصحيح: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات». وفرائض الوضوء في مذهب مالك سبعة، وأيام الأسبوع سبعة إلى غير هذا مما يطول تتبعه.
عندهم.
۱۹۸
الأدب والمتفرقات
استغاثة أنشأتها سنة ۱۳۸۰ هجرية
سَأَلْتُكَ يا اللهُ يا مَن لَهُ النَّنَا تُفَرِّجُ فَضْلًا مِنَكَ عَنِّي مُصِيبَتِي ويارب يا رحمنُ فَارْحَمْ تَدَلَّلي إليك وأدْرِكْنِي بِنَصْرٍ وعِزَّةِ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ أَنتَ فَارْأَفُ بحَالَتِي ويا بريا تَوَّابُ تَقَبَّل تَوْبَتِي ويـا صَمَدُ أُني إليكَ مَطَالِبي لتقضَى ومِنها تَكُوكُل خَطِيئَةِ عَفُوٌّ غَفُورٌ فَاعْفُ عَنِّي وَعَافِنِي بسترِكَ يا سَتَارُ تَشْمَلُ زَلَّتِي وأنتَ جَوادٌ مَاجِدٌ مُتَفَضّل فَجُدْ لِي بِفَضْلٍ مِنكَ يُذْهِبُ عِلَّتِي ويا مُنْعِمُ أَنْعِـمْ عَلَيَّ تَكَرُّمَا بِمَنْـكَ يا مَنَّانُ تَكْشِفُ كُرْبَتِي ويا أَحَدُ مَـالي سـوالا يُمِدُّنِي مِن الخَيْرِ مَا يَقْضِي بِتَفْرِيحِ غُمَّتِي ويا حَيُّ يَا قَيُّومُ أَحْيِي قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ كَيْ نَنْجُو بِهِ يَوْمَ شِدَّةِ أَعِتْنِي وعَجَّلُ يَا مُغِيثُ فَإِنَّنِي يَسْتُ مِن الدُّنيا وَأَهْلِ المُرُوءَةِ وأَسْأَلُ رَبِّي أَنْ يُواصِلَ بِرَّهُ على مَن وَفَى بِالعَهْدِ فِي وَقْتِ أَزْمَتِي إلهي لَقَدْ يَمَّمْتُ بابَكَ ضَارِعًا إليكَ فَأَرْغِدْنِي بِفَيْض ونِعْمَةِ إلهي أَجْبُ وَاسْمَعْ دُعَائِي فَإِنَّنِي فَصَدْتُكَ لا أَرْجُو سِواكَ بِدَعْوَنِ إلهي وخَلَّصْنِي مِن الكَرْبِ والأَذَى وأَذْهِبْ سَرِيعا عَنِّي كُلَّ مَضَرَّةِ إلهي وتَوِّجْنِي بِنَصْركَ عَاجِلا فإِنِّي شَرِيدُ الفِكْرِ مِن هَوْلٍ شِدَّتِ إلهي ونَجِّنِي مِن الأَزمة التي أي بي إليهــا كــي تحــن منتــي دَعَوْتُكَ يا الله يا واسِعَ العَطَا فحقق دُعَائِي وَاسْتَجِبْ لَرَجَاوَتِي
خواطر دينية جـا
۱۹۹
بجاءِ رَسُولِ الله أَفْضَلِ شَافِعِ وأَكْمَلِ مَخْلُوقِ أَتَى بِنُبُوَّةِ رَسُولٌ كريمٌ واسعُ الصَّدْرِ سَيِّدٌ أَمِينٌ وَفِي ذو الخصال العَظِيمَةِ حبيبٌ إِلى الرَّحمنِ أَعْظَمُ مُرْسَلِ خَلِيلٌ نَجِيٌّ نَالَ أَعْظَمَ رُتْبَةِ صَفِيٌّ لَهُ عِندَ الإِلِهِ مَزِيَّةٌ سراج مُنِيرٌ عَمَّ كُلَّ البَريَّةِ فمِنْ نُورِهِ كَانَ النَّبِيُّون كُلُّهُم ومِنْ نُورِهِ كانـت جَمِيعُ الخَلِيقَةِ وكان نبيا حيثُ آدَمُ صُورَةٌ مُجندَلَةٌ بَيْنَ المياهِ وطِينَةِ أَجَلَّ إِلهُ العَرْشِ قَدْرَ نَبِيِّهِ فعَظَمَهُ عند النداء بِكُنْيَةِ وفي آية الميثاقِ عَهْدٌ مُؤكَّد من الله للرُّسُلِ الكِرَامِ بِجُمْلَةِ وفي آية الربـــا دَليلُ حَياتِهِ دَوَامَــا بــلا ثنيا إلى يَوْمِ نَفْخَةِ وكَرَّمُهُ المَوْلَى بِمَدْحِ صِفَاتِهِ وطَهَّرَهُ مِن كُلِّ عَيْبٍ وَوَصْمَةِ وأَعْلَى عَلَى كُلِّ النَّبِيِّينَ قَدْرَهُ وَشَرَّفَهُ ليلَ العُرُوحِ بِرُؤيَةِ تَجَلَّى عليه لَيْلَها مَعَارِف وعِلْمٍ وأسرارٍ وقُرْبٍ وحَظْوَة وما زَالَ يَرْقَى بَعْدَ ذَاكَ مَرَاتِبًا مِن العِلْمِ والعِرْفَانِ فِي كُل الحظَةِ نبي أَتَى بالدِّينِ سَهْلًا مُيَسَّرًا بعيدا عن التَّشْدِيدِ أو أي كُلْفَةِ نبي سَخِيُّ الكَفْ أَسْخَـى مـن يجود ولا يَخْشَى مِن أَيَّةِ عَيْلَةِ نبي حَلِيمٌ ذو أَنَاةٍ يَزينُها رَزَانَةُ رأي لا يَمِيلُ لِطَيْشَةِ نبي يُحِبُّ اليُسْرَ والعَفْوَ والوفا ويَبْغَضُ - طَبْعًا فِيهِ - كُلَّ نَقِيصَةِ نبي أَتَى بِالزُّهْدِ فِي هَذِهِ الدُّنَا ولو شَاءَهَا جَاءَتْ بأَدْنَى إِشَارَةِ
۲۰
الأدب والمتفرقات
نبيٌّ غَنِيُّ القَلْبِ بِالله وَحْدِهِ فمَوْلَاهُ قَدْ أَغْنَاهُ عَن كُلَّ زِينَةِ نبي تَوَلَّى اللهُ عَنْهُ دِفَاعَهُ وخَيَّبَ قَوْمًا قَدْ رَمُوهُ بِجِنَّةِ نبي لَهُ يَومَ القِيامِ شَفَاعَةٌ وَجَاهُ عَرِيضُ عِندَ رَبِّ البَرِيَّةِ نبي أَتَى بالمعجزاتِ قَوَاطِعا فمِنها حَنينُ الجِذْعِ في يومِ جُمعَةِ ومنها انشقاقُ البَدْرِ فِي وَسَطِ السَّما وتَأْخِيرُ شَمْسِ حِين كان بمَكَّةِ ونَبْعُ مِياهِ مِنْ أَصَابِعِ كَفْهِ فَأَرْوَى نَصِيرًا للجُمُوعِ الغَفِيرَةِ وأَطْعَمَ أَلفًا أو يَزِيدُونَ دَاجِنًا فَأَشْبَعَهُم وَالأَكْلُ فاضَ بِكَثْرَةِ وأَسْمَعَ تَسْبيحَ الطَّعَامِ لِصَحْبِهِ الكِرامِ وكانوا يَأْكُلُون بسفْرَةِ وأبرأَ أَسْقَامَا بَنَفْتِ لِسَانِهِ وأَذْهَبَ أَوْصَابًا وَبُوْسًا بِلَمْسَةِ فصَلَّى عليه اللهُ ما ذَرَّ شَارِقٌ ومــا دامَـتِ الدُّنيا إلى يــومِ نَفْخَـةِ وسَلَّم تَسْلِيمًا إلى يوم بعثنـــا وأَسْعِدْنَا بِالقُرْبِ مِنْهُ وَحَظْوَةِ
خواطر دينية جـا
أنواع النفاق
النفاق ثلاثة أنواع:
۲۰۱
١ - نفاق الكفر وهو أن يظهر الإنسان الإسلام ويستبطن الكفر، مثل
المنافقين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعلنون تمسكهم
بالإسلام وأحكامه، وهم مصدون على الكفر في باطنهم. وقد فضحهما
الله
تعالى في سورة التوبة وغيرها، وأكذبهم في قوله سبحانه: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنْفِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ لكَذِبُونَ ﴾ [المنافقون: ١].
٢ - نفاق العمل وهو أن يكون عمل الإنسان بخلاف قوله، كأن يحدث
فيكذب ويعاهد فيغدر، ويخاصم فيفجر.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «آيةُ المنافِقِ ثلاث : إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا انْتُمِنَ خَانَ».
وقال أيضًا عليه الصَّلاة والسَّلام: «أربعٌ مَن كُنَّ فِيهِ كان مُنافِقًا خالِصًا ومَن كانتْ فيه خَصْلَةٌ مِنهنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَها وإن صام
وصَلَّى وزَعَمَ أنه مُسلِمٌ : إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وإِذا خَاصَمَ فَجَرَ». ٣- نفاق اجتماعي: وهو أن يصف الإنسان شخصا ذا رياسة أو جاه بما ليس فيه، كأن يمدحه بالكرم وهو بخيل أو بالشجاعة وهو جبان، أو بالصلاح وهو فاسق، أو بالسماحة وهو لئيم.
۲۰۲
وهذا
مداهنة
الأدب والمتفرقات
يسمى وهي مذمومة شرعًا وعرفًا، بخلاف المداراة وهي
معاملة الشخص بما يليق بمركزه في المجتمع ، وإن كان في الواقع فاسقا أو لئيما مثلا. ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إنا لنبش في وجوه قوم وإن قلوبنا
لتلعنهم.
والخلاصة أن المداهنة نفاق اجتماعي مذموم والمداراة واجب اجتماعي
ممدوح، وبالله التوفيق.
غلط في فهم قوله تعالى: لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَنِ
كثير من أهل العلم يدعي في قوله تعالى: يَمَعْشَرَ الْمِينَ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانِ ﴾ [الرحمن: ٣٣] أنه يشير إلى الطائرات وسفن الفضاء، ويقولون معنى لا تنفذون إلا بسلطان، إلا بعلم، ففيه الإشارة إلى أن العلم سيصل إلى اختراع ما ذكر، وقد حصل ذلك أخيرا كما هو مشاهد.
وهذا غلط، وسياق الآية لا يفيد ذلك ولا يساعد عليه.
بل الخطاب فيها لتعجيز الثقلين، وإعلامهم أنهم لا يقدرون على الخروج من نواحي السموات والأرض، هربًا من يوم الحساب، إلا بسلطان؛ أي بقوة، ولا قوة لهم على ذلك. وهذه الطائرات وسفن الفضاء لم تخرج عن أقطار السموات والأرض ولا
يمكن أن تخرج عنها أبدا، وإنما هي تطير داخلها، مهما أبعدت في طيرانها.
خواطر دينية جـا
۲۰۳
ولم يخرج أحد . عن ، أقطار السموات إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، ليلة المعراج، حيث تجاوز السموات السبع إلى سدرة المنتهى وإلى الجنة، وكان ذلك إكراما خاصا به عليه الصَّلاة والسَّلام، فهل تجاوزت طائرة أو سفينة السماء الدنيا ؟! بل هي وصلت إليها ؟!
نعم
أشار القرآن إلى الطائرات بأنواعها إشارة صريحة في قوله تعالى: والخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: ۸]
راجع ما كتبناه فيما سبق.
آية جمعت الدين كله
قال الله تعالى يخاطب موسى عليه السلام: وَأَنَا أَخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وهذا تصريح بوجود الله وتوحيده، وفيه إشارة إلى العقائد العقلية، أي التي أثبتها العقل، وإن كان النقل أثبتها أيضًا، فالاعتماد فيها على العقل فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِي * وهذا تصريح بالأعمال الفرعية، وخصت الصلاة منها بالذكر لأهميتها إِنَّ السَّاعَةَ عَالِيَةُ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه: ١٣-١٥] وهذا تصريح بالعقائد النقلية، أي التي أثبتها النقل، وحكم العقل بجوازها ، بل بوجوبها، لإيجاب النقل الصادق
لها، فهذه الآية جمعت جملة الدين كما ترى.
ونذكر لهذه المناسبة بعض الآيات الجوامع:
منها قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرُ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَهِلِينَ [الأعراف: ۱۹۹] قال جعفر الصادق عليه السلام: ليس في القرآن آية أجمع
٢٠٤
لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
الأدب والمتفرقات
والمراد بالعفو السهل الميسور وبالعرف المعروف من الفضائل،
وبالجاهلين: السفهاء، والإعراض عنهم : ترك مقابلة سفاهتهم بمثل. كما يحكى أن بعض الجهلة أراد أن يستفز زين العابدين عليه السلام - وكان حليما - فتعرض له في بعض طرقه بقبيح الشتم وزين العابدين لا يجيبه، فتبعه ذلك الجاهل، وقال له: إياك أعني بشتمي ! فأجابه زين العابدين بقوله: وعنك
أعرض! فقال له: أشهد أنك من بيت النبوة، واستسمحه وتاب على يديه. وورد في الحديث: لما نزلت هذه الآية، سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم جبريل عنها، فقال: حتى أسأل ربي، فذهب ثم رجع، فقال: «رَبُّكَ يأمرُكَ أَنْ تَصِلَ مَن قَطَعَكَ، وتُعْطِي مَن حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّن ظَلَمَكَ».
ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَنِ وَإِيتَايِ ذِي الْقُرْنَ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: ٩٠]. قال ابن مسعود رضي الله عنه ، هذه أجمع آية في القرآن للخير والشر.
و بيان ذلك أن صدورها اشتمل على الأمر بثلاثة أشياء:
أحدها: العدل، وهو لفظ عام يشمل التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله .
والإنصاف في الحكم، بأن ينصف الحكام المظلوم من الظالم. وفي المعاملة بأن يعامل المسلم أهله وإخوانه بما يحب أن يعاملوه به، ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ولا يستأثر عنهم بشيء.
وفي النفقة بأن لا يسرف ولا يقتر. وفي العبادة بأن يجتنب فيها الإفراط
خواطر دينية جـا
والتفريط .
٢٠٥
ثانيها: الإحسان، وهو نوعان: الإحسان مع الله تعالى، وهو يشمل أداء
.
الفرائض على الوجه الأكمل، والإخلاص في أدائها، وعبادته على المشاهدة، فإن لم تستطع فعلى المراقبة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان: «أن تعبد اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». والإحسان مع عباد الله، وهو أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
ثالثها: إيتاء ذي القربي، أي إعطاء القريب، وبذل المعروف له، لأنه صدقة وصلة رحم، ولأنه يقوي روابط الأسرة، ويذهب ما قد يكون في نفس بعض أفرادها من نفور وفتور.
وآخرها أفاد النهي عن ثلاثة أشياء أيضًا:
أحدها: الفحشاء، وهي الزنا، لأن فيه تلويث الأعراض، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من المفاسد.
ثانيها: المنكر، وهو ما ينكره الشرع، كالكفر والمعاصي جميعها كبيرها
وصغيرها. ثالثها: البغي، وهو الظلم للناس، والتعدي على حقوقهم.
وأفرد الزنا والظلم بالذكر مع أنهما من المعاصي للاهتمام بهما، وبيان فريد
قبحهما. فلم تدع الآية خيرًا إلا أمرت به، ولا شرا إلا نهت عنه. ولذا قال العلماء: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لكفت في البيان. وتفسيرها بتوسع وإيضاح لما تشتمل عليه من المعاني، يستدعي إنشاء كتاب
٢٠٦
الأدب والمتفرقات
حافل، ونرجو من الله أن يوفقنا لذلك.
ولما ابتدع الأمويون منذ عهد معاوية سب علي عليه السلام، في الخطبة
الثانية من يوم الجمعة، قطعه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، في خلافته
واستبدل هذه الآية الكريمة به، واستمر الحال على ذلك إلى الآن.
ومنها قوله تعالى: الله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَقهِ فَأُولَيْكَ هـ
الفايرُونَ ﴾ [النور: ٥٢].
قال بعض الأحبار : هذه الآية جمعت ما في التوراة وما في الإنجيل، ذلك لأن
طاعة الله ورسوله تشمل الفرائض والنوافل القولية والفعلية البدنية والمالية.
وخشية الله تقتضي ترك جميع المعاصي بجميع أنواعها، لأن من يخاف الله لا
يمكن أن يعصيه. وتقوى الله معناها فعل المأمورات، واجتناب المنهيات. فالآية كما ترى جمعت خلاصة الكتب السماوية، وهي جديرة بالتدبر والتمعن، وبالله التوفيق.
ارجى آية في القرآن
ما هي أرجى آية في القرآن بالنسبة لعصاة المسلمين؟
اختلف في ذلك، فالمشهور أنها قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: ٤٨].
وقال جماعة من العلماء: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًـ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: ٥٣] لما ثبت في الصَّحيحين عن ابن عباس رضي ا
خواطر دينية جـا
۲۰۷
قال: إن ناسا من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلَّم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة. فنزلت: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَاءَ اخَرَ إِلى قوله غَفُورًا رحِيمًا [الفرقان: ٦٨-٧٠] ونزل: قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا ﴾ [الزمر: ٥٣] الآية .
وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى وحشي قاتل حمزة، رضي الله عنه ، يدعوه إلى الإسلام. فقال: كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو زنى أو أشرك، يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا. وأنا صنعت ذلك؟ فهل تجد
لي من رخصة فأنزل الله: إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [مريم: ٦٠] الآية. فقال وحشي : هذا شرط ،شديد إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا. فلعلي لا أقدر على هذا.
فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء: ٤٨]. فقال وحشي : هذا أرى بعده مشيئة، فلا أدري أيغفر لي أم لا؟ فهل غير هذا؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله } [الزمر: ٥٣] الآية. قال وحشي هذا نعم فأسلم. وفي هذه الآية مما يقوي الرجاء ويؤكده إضافة العباد إلى الله في قوله: يَعِبَادِى جبرًا لانكسارهم، وتشريعا لهم، وإيراد جملة: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: ۹۸] معرفة الطرفين، مع تأكيدها بأن وضمير الفصل.
۲۰۸
الأدب والمتفرقات
وقال علي عليه السلام أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: وَمَا أصبكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: ٣٠] وإذا
كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه؟! وورد عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله - يعني بالنسبة للعصاة حدثنا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: وَمَا أَصَبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: ٣٠] الآية، ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة. وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه.
وقال بعض العلماء: أرجى آية قوله تعالى في آخر (سورة الأحقاف) فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: ٣٥] الكافرون. قصرت الآية
الإهلاك بالعذاب على الكفار، فأطمعت عصاة المسلمين في رحمة الله. وقيل: قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرَضَى ﴾ [الضحى: ٥] ورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال عند نزول هذه الآية: «إذن لا أرضى وواحد من أمتي - يعني أمة الإجابة في النار».
وصح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي: أقد رضيت يا محمد؟ فأقول أي رب رضيت». وقال بعض العارفين في هذا المعنى:
قرأنا في الضُّحَى ولسَوْفَ يُعْطِي فَسَرَّ قُلُوبُنَا ذَاكَ العَطَاءُ
وحاشا يا رَسُولَ الله تَرْضَى وفينا مَن يُعَذِّبُ أو يُسَاءُ
خواطر دينية جـا
۲۰۹
كتابان سارا مسير الشمس
"المقدمة الآجرومية"، "دلائل الخيرات
كتابان لعالمين مغربيين اشتهرا في سائر الآفاق، وكان لهما أثر عند الناس لا يعرف لغيرهما من الكتب، وذلك دليل على إخلاص مؤلفيهما، وحسن قصدهما في تأليفهما.
أحد هذين الكتابين: "المقدمة الآجرومية" في علم العربية، للإمام أبي عبد الله
محمد بن محمد بن آجروم الصنهاجي المتوفى سنة ٧٢٣ بفاس. فمنذ ظهر هذا الكتاب أقبل الناس عليه في مشرق الأرض ومغربها حفظا
(1)
وقراءة ودرسا، ووضعوا عليه من الشروح والحواشي ما لا يكاد يحصى وترجم إلى بعض اللغات الأجنبية. ولقد بلغ من شهرة هذا الكتاب أن البلاد
(*)
الأوروبية مثل فرنسا وغيرها اشتقوا منه لفظ «جرومير»، وجعلوه علما على
(۱) وقد وضعت عليه وأنا في سن الطلب شرحًا سماه شقيقنا الحافظ أبو الفيض رحمه الله " تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني" وهو شرح واسع مفيد لم أرَ شرحًا أكبر منه على كثرة ما رأيت من شروحها وحواشيها
المخطوطة والمطبوعة.
(۲) ولهذه المناسبة أذكر لفظ الشفرة عند الأوروبيين مأخوذ من الجفر» عندنا وكذلك معناه. فإن السرية التي تستعمل فيها الشفرة مأخوذة من معنى الجفر أيضا. لأنه عبارة عن جلد ثور صغير، كتبت فيه تنبؤات وأسرار خاصة مرموز لها برموز لا
يفهمها إلا من : تلقاها عن أهلها. متلقاة وهي عن جعفر الصادق عليه السلام. كما
يقال. وانظر الكلام على الجفر في "مقدمة ابن خلدون".
۲۱۰
الأدب والمتفرقات
العلم الخاص بقواعد لغاتهم.
ثانيهما: "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في الصلاة على النبي المختار" للعارف الكبير سيدي محمد بن سليمان الجزولي المغربي، لقي هذا الكتاب أيضًا إقبالا منقطع النظير، فلا تجد قطرًا إسلاميًا في مشرق الأرض ومغربها إلا وفيه جماعات اتخذوا قراءة هذا الكتاب وردهم في يوم الجمعة وغيره.
ووقفت أوقاف لقراءته بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، وبالمسجد
هذا وقد قال بعضهم في كلمة جرومير»: إنها كلمة تدل على قواعد لغتهم بحسب وضعها القديم أي فهي توافق اللغات. وهذه دعوى بعيدة، يصعب إقامة دليل على صحتها. والمعلوم على سبيل القطع أن اللغة العربية -مع كونها أوسع اللغات وأغزرها مادة لم يكن لها علم يضبط قواعدها ويحصي موادها، طوال قرون كثيرة حتى نزل القرآن، واضطر المسلمون إلى فهمه للعمل به. فكروا في وضع علم النحو، وما يتبعه من علوم اللغة العربية وآدابها فوضعوا تلك العلوم في وقت كانت القارة الأوروبية، تعيش في جهالة جهلاء، وضلالة عمياء لم تكن لهم علوم في قواعد لغاتهم ولا في غيرها، واستمروا على ذلك بضعة قرون. حتى بدءوا يفدون على الأندلس، ينهلون من جامعاتها ومعاهدها العلمية فحينئذ اتجهوا إلى البحث والتأليف، بعد أن شرعوا في ترجمة الكتب العربية في مختلف العلوم، إلى لغاتهم. فوضعوا مؤلفات في قواعد لغاتهم احتذوا فيها بعلم النحو عندنا. كما كتبوا في المنطق والفلسفة والرياضة والاجتماع والفلك وغير ذلك، مقتدين بمناهجنا. وكان فيهم رشديون: أي فلاسفة على طريقة ابن رشد وغزاليون على طريقة الغزالي. فلا شك أنهم حين وضعوا علم لغاتهم اشتقوا له اسما من كتاب عربي، اشتهر عندهم. ومن
يقل خلاف هذا، فليثبت أن علم النحو كان عندهم قبل اتصالهم بالعرب.
خواطر دينية جـا
۲۱۱
الحسيني في مصر، وبمسجد مولاي إدريس في فاس. وبمساجد كثيرة في سائر
البلاد الإسلامية.
وتأنق الناسخون في كتابته بالخطوط الجميلة، وزينوه بماء الذهب، وطبع
مرات عديدة، في تركيا ومصر وغيرها.
وطبعه الشيخ رشيد الحواصلي من علماء الشام المشتغلين بتجارة الكتب في تركيا بخط جميل موشى بماء الذهب والنسخة من هذه الطبعة تساوي ثلاثة
جنيهات. هذا مع أن كتبا كثيرة ألفت في موضوعه قبل الجزولي وبعده لكن لم تلق من الإقبال عشر ما لقيه دلائل الخيرات، ومثل هذا يقال في المقدمة الآجرومية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أصل الرقم الأفرنجي
أرقام العدد التي يستعملها المغاربة عربية، وإن كان أهل المشرق جميعا يعتقدون أنها أفرنجية، وأول من اخترعها عربي أندلسي كما في "نفح الطيب"، اخترعها على أساس الزوايا، فرقم واحد يكون زاوية ورقم اثنين يكون زاويتين، وهكذا إلى تسعة، وقد أشرنا إلى الزاوية بنقطة في داخلها.
1Z3456789
وجعل رقم العشرة صفرًا بجانبه واحد هكذا (10) إشارة إلى تكرار العدد
۲۱۲
(1)
الأدب والمتفرقات
بعدها، وعن الأندلسيين أخذ الأوروبيون هذه الأرقام وطوروها إلى
وضعها الحالي، غير ملاحظين مسألة الزوايا التي لاحظها المخترع العربي. الأرقام التي يستعملها المشارقة، فهي أرقام هندية.
سقطات شنيعة للشيخ الصاوي في "حاشية الجلالين"
أما
حكى الشيخ الصاوي في "حاشية الجلالين" عند الكلام على قوله تعالى في (سورة الكهف): ﴿وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: ٢٤] أقوال ابن عباس وغيره في جواز الاستثناء بالمشيئة من اليمين إذا نسيه، والإتيان به ما دام في المجلس أو بعد شهر، أو بعد سنة، أو متى ما تذكره، إلى غير هذا من الأقوال التي سردها هناك، وقال عقيبها ما نصه: وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله، فإن شرط حل الإيمان بالمشيئة أن تتصل، وأن يقصد بها حل اليمين ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصَّحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . اهـ
وهذه سقطات كنا نربأ بالشيخ الصاوي العالم الفاضل أن يسقطها لما نعهده فيه من ورع وتقوى وصلاح، لكن الكمال الله تعالى، والعصمة لأنبيائه عليهم السلام.
(1) كتب أخي السيد حسن ما نصه وأول من طبقها البابا سلفستر الثاني سنة ٩٩٩ ، بعد أن كان الأوروبيون يستعملون الأرقام الرومانية الخالية من الصفر.
خواطر دينية جـا
۲۱۳
ونحن نبين تلك السقطات، موضحين ما فيها من شناعات
أولاها: قوله: «لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة»، يقصد بعدم الجواز
تحريم تقليد غير الأربعة، ونحوه قول صاحب الجوهرة: «وواجب تقليد حبر منهم، يعني الأربعة.
ومن المعلوم بالضرورة: أن الوجوب والتحريم من الأحكام الشرعية، وهي لا تثبت إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة وبالضرورة ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الاجتماع وجوب تقليد الأربعة، وتحريم تقليد من
عداهم.
ثانيتها: وهي أشنع من الأولى ؛ قوله : ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية». وهذا إغراق عجيب في التقليد!! يقتضي تعطيل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة عن العمل والاحتجاج إلا في حدود ما أخذ به الأربعة، كأن الله ورسوله فوضا إليهم فهم الكتاب والسنة، وحظراه حظرًا باتا على من سواهم. ثالثتها: قوله: فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل». والمعروف من قواعد الدين أن الضَّلال لا يكون إلا في الخروج عن العقائد الصحيحة المأخوذة عن السلف الصالح، مثل الخوارج وغيرهم من الفرق الضالة التي ابتدعت عقائد زائفة، أنكرها عليهم الصَّحابة والتابعون. أما المخالفة في
الفروع فما كانت قط من الضلال، ولا تسمح القواعد الدينية بذلك. وقد كان الأوزاعي إمام أهل الشام يقلدونه، وانتقل مذهبه إلى الأندلس وظل معمولا به بجانب الإمام مالك مدة من الزمن.
٢١٤
الأدب والمتفرقات
والإمام محمد بن جرير الطبري كان له مذهب في الفروع، وأتباع يعرفون في كتب العلم بالجريرية.
والإمام داود بن علي الأصبهاني كان إمام مذهب أهل الظاهر، وظل
مذهبه معمولا به مدة من الزمن تزيد على ثلاثمائة سنة.
والإمام زيد بن علي، إمام الزيدية، لا يزال مذهبه في الفروع معمولا به في
اليمن إلى وقتنا هذا.
وقد ذكر جماعة من العلماء في الطوائف الضالة لزيغ عقائدهم مع أنهم حنفية أو شافعيّة أو حنابلة، وحين اجتهد الإمام الشافعي، وأنشأ مذهبه اعتبره متعصبو الحنفية والمالكية مبتدعا، لخروجه على ما ألفوه.
بل نجد أبا عبيد القاسم بن سلام وهو مجتهد مستقل عن المذاهب الأربعة يعرض في بعض كتبه بالإمام الشافعي، ويعتبر بعض آرائه خارجة عن
الإجماع ! رابعتها وهو أشنع من سابقتها، قوله : وربما أداه ذلك للكفر». ولا ريب أن إكفار المسلم لعدم تقليده أحد المذاهب الأربعة أمر لا يقره الدين ولا تقبله قواعده. ولا يجوز أبدا بحال اعتقاد الضَّلال أو الكفر في الأوزاعية أو الجريرية أو الظاهرية أو الزيدية أو غيرهم. وإن ضل أحد منهم، فضلاله يكون لزيغ عقيدته، كما يضل الشَّافعي أو الحنبلي أو الحنفي لزيغ عقيدته سواء بسواء، وليس الإسلام مقصورًا على أهل المذاهب الأربعة.
خامستها وهي أشنع وأبشع قوله : (الأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
خواطر دينية جـا
فضلا
٢١٥
لقد كنا نود أن تصدر هذه الكلمة عن غير الشيخ الصاوي الذي نعتقد صلاحه وفضله، ولعله كتبها ساهيًا عن خطورتها لأنه لا يمكن لمسلم عاقل - عن فاضل - أن يقول : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. عياذا بالله من هذه الكلمة التي هي كفر صريح ممن قصد مدلولها وأجبر عليه، ونحن نبرئ الشيخ الصاوي من ذلك، ونعتبر صدورها منه خطأ غير مقصود.
وإنما نهى العلماء عن التمسك بمتشابه الكتاب والسنة، وعن الخوض فيه، وأوجبوا تفويض علمه إلى الله تعالى لأن حمله على ظاهره يؤدي إلى الكفر. نحو قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 10 كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا
:
وَجْهَهُ [القصص: ۸۸] بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاهُ ﴾ [المائدة: ٦٤] مني وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: ٣٩]. ونحو قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد»، إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده الميزان يخفِضُ القِسْطَ ويرفعه يُرفع إليه عمل النهارِ قبل عَمَلِ الليل وعَمَلُ الليل قبل عَمَلِ النهار»، «حِجابُه النور لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحات وَجْهِهِ ما انتهى إليه بصره من خَلْقِهِ»، «إِنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ ليتوب مسيء الليل
ويَبْسُطُ يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها».
وقد ذم الله تعالى المتتبعين للمتشابه، فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ وَايَتُ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَبِهَةٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْعُ
٢١٦
الأدب والمتفرقات
فيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبَّنَا وَمَا ذَكَرَ لا أُولُوا الأَلْبَب ﴾ [آل عمران: ٧]. أما الأخذ بظواهر الكتاب والسنة في التشريع والأخلاق والآداب والمواعظ فهو أصل الهدى والنور، ومجلبة للسعادة والسرور.
وبعد فقد قدمنا أن الاجتهاد المطلق باق إلى قرب قيام الساعة، وأن القيام به فرض كفاية على الأمة. ويجب أن تعلم مضافًا إلى ذلك أن التقليد ليس بواجب، لا للأربعة ولا لغيرهم. وإنما يجب على العامي بعد تصحيح عقيدته أن يسأل فيما ينوبه من الأحكام من يكون من أهل العلم والورع، ويعمل بما
يفتيه، ولا عليه أن يكون موافقا لأحد المذاهب الأربعة أولا. وإطباق المتأخرين على وجوب تقليد الأربعة حتى قال قائلهم : وجاز تقليد لغَيْرِ الأربعة في غير إفتاء وفي هذا سعه دعوى لا دليل عليها وتضييق لا معنى له، وسماحة الشريعة الإسلامية لا
توافق على ذلك.
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ م
قال الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ أي لكل واحد من الإنس والجن خاف مقام رية أي قيامه بين يديه للحساب فترك معصيته جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: ٤٦] أي يعطى إباحة التنقل بين جنتين، لأنه حين خاف مقام ربه، وقاوم عدوين قويين
نفسه الأمارة بالسوء، والشيطان، أبيح له التنقل بين جنتين جزاءًا وفاقاً.
خواطر دينية جـا
۲۱۷
وقد صرح بمقاومة النفس في قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ٤٠ - ٤١].
وإنما صرح بها لإثبات خطرها وعظم تأثيرها، ولم يصرح بالشيطان، إما للعلم به، فقد حكى القرآن عنه أنه قال: قَالَ فَبِعِزَّنَكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ ص: ۸۲ - ۱۸۳، وإما لأنه لا يمكن التخلص منه إلا بالاستعاذة وذكر الله مثلا، بخلاف النفس فلا يمكن الخلاص منها. وقال هنا : فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ٤١] لأن الجنة ذكرت هنا في مقابلة الجحيم أول الآية فَأَمَّا مَن طَغَى وَ أَثَرَ الْحَيَوَةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: ۳۷ - ۳۹]. ولأن الجنة مأوى الخائف المقام ربه على كل حال، وإنما أبيح له التنقل بين جنتين للحكمة التي بيناها، ولهذا قال : وَلمَن فعبر باللام المفيدة للإباحة. والحاصل أن الخائف لمقام ربه مع كون الجنة مأواه؛ يكرم زيادة على ذلك
بإباحة التنقل بينها وبين جنة ثانية.
وليس معنى الإباحة الجواز المقابل للتحريم، فإنه لا تكليف ثَمَّ، ولكن أهل الجنة لا يبرحون أماكنهم ولا يلهمون ذلك لرضاهم بما فيه من النعيم
الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
أما الخائف المقام ربه، فيلهم الرغبة في التنقل بين جنته والجنة الثانية، فيعطى ذلك.
۲۱۸
الأدب والمتفرقات
هذا ما ظهر لي في معنى الآيتين الكريمتين، مما لم أرجع فيه إلى كتاب، والله
الموفق والهادي.
موالد أهل البيت والصالحين في مصر
يعتقد كثير من الناس أن المولد الحسيني ابتدع في عهد الفاطميين، أو بعده بقليل، والحقيقة أنه نشأ منذ عهد قريب.
ذكر الجبرتي في الجزء الرابع من "تاريخه " أن هذا المولد أنشأه مباشر لوقف المسجد الحسيني، يسمى السيد بدوي بن فتيح، أصابه مرض، فنذر إن شفاه الله، أن يقيم هذا المولد، وكان المولد أول الأمر هو إضاءة المسجد وقبته بالقناديل والشموع، وترتيب فقهاء يقرءون القرآن نهارًا ويتدارسونه، وآخرين يقرءون ليلا "دلائل الخيرات".
ثم تغير الحال، وانضم إلى الفقهاء كثير من الجهلة وأهل البدعة، واستمر في وصف ما يحصل منهم من المكفرات، وانتهاك حرمة المسجد وتوسيخه إلى أن قال: وكان يجتمع إلى هذا المولد العامة والسوقة وأهل الحرف السافلة، ومن لا يجد ما يأكله، يحملون القناديل والشموع والطبول والزمور، وينطقون بكلام محرف، يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها، فإذا اعترضهم معترض، أو تصدى لهم لائم، رموه بالاعتزال والخروج والزندقة، واستمر الاحتفال بهذا المولد عشر سنين، وناذره السيد البدوي فتيح لم يزدد إلا مرضًا ومقتا. ثم بطلت إقامته عند دخول الفرنسيين للقاهرة، لكنهم لما علموا ذلك أمروا بإقامته لأنه يوافق هوى العامة لأن أكثرهم مطبوع على المجون
والخلاعة، وتلك طبيعة الفرنساوية».
خواطر دينية جـا .
۲۱۹
ووصف ما يحصل أيضًا في مولد السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والإمام
الشافعي.
والحقيقة أن هذه الموالد وغيرها التي تقام في القطر المصري للأولياء في زعم العامة وأشباههم هي مواسم لإقامة المنكرات والمآثم، يجب إبطالها ومحاربة من يسعون في إقامتها بالتأديب اللائق بهم.
والسكوت عن هذه الموالد مدعاة إلى شيوع المنكر، وفساد الأخلاق بدعوى الاحتفال بأهل البيت والأولياء والله يعلم أنهم يتبرءون من ذلك، ولا يقبلونه بحال، ومن يزعم أن وليا جاءه في النوم، فدعاه إلى الاحتفال بمولده، يعتبر كاذبا ، أو محرفًا حيث يعتمد على رؤيا المنام، وما يدريه، لعل الذي جاءه شيطان؟!
وحتى لو فرض أنه ولي حقيقة ما جاز العمل بكلامه، لأن الولي لو أمر في
اليقظة ببدعة أو معصية لم يتبع، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولكن سدنة الأضرحة وأشياعهم من المقرئين والخدمة، لهم في هذا الباب أكاذيب وحيل يستجلبون بها هدايا الزوار من نفائس الأقمشة والأطعمة والأموال ثم يقتسمونها فيما بينهم، كما يفعل اللصوص حين يشتركون في سرقة ثمينة ! ولو علمت بعض الحيل التي يرتكبونها لابتزاز أموال الزائر وهو راضي مسرور، لتأكدت أنهم أبالسة في صور أناس !! وعلى هؤلاء وأشكالهم يصدق الحديث الذي رواه الترمذي والخطيب في "الكفاية" من أسماء بنت عميس، وفيه: «بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
۲۲۰
الأدب والمتفرقات
ضريح الشيخ علي البكري
يوجد بقرب جامع الرويعي بجهة العتبة زاوية فيها ضريح لشيخ يقال له الشيخ علي البكري، يزار ويعمل له مولد كل سنة، وأهل القاهرة يعتقدون
أنه من السادة البكرية الذين ينتمون إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه والحقيقة خلاف ذلك، فهذا الرجل لا علاقة له ببيت البكريين، وإنما قيل له البكري، لسكناه في سويقة البكري. ثم هو لا علاقة له بعلم ولا بولاية وإنما هو كما يقول الجبرتي في "تاريخه - رجل أبله، كان يمشي في الطريق عريانا مكشوف الرأس والسوأتين غالبا. وكان له أخ كثير المنازعة والخصومة له، لكنه صاحب دهاء وحيلة، فلما رأى الناس يعتقدون في أخيه الولاية، ويلتمسون بركته. استغل ذلك ومنع ا أخاه من مغادرة البيت، وألبسه ثيابًا، وأظهر للناس أنه قد أذن للشيخ بلبس الثياب، لأنه تولى القطبانية. فأقبل الناس وخصوصا النساء، إلى بيت الشيخ للتبرك به والإصغاء إلى كلامه الذي هو عبارة عن تخليطات يئولونها بما يلائم رغباتهم، وكثرت هدايا الزوار ونذورهم، وأخوه صاحب الدهاء والحيلة، يذيع في الناس كرامات الشيخ، ومعرفته بأسرار النفوس وامتلأ بيت الشيخ وأخيه بالأموال والخيرات. واستمر الحال على ذلك، حتى مات الشيخ سنة ١٢٠٧ فأقام أخوه ضريحًا ومقاما، وزاد في ذكر كراماته وفيوضاته، ورتب له المقرئين والمنشدين والمداحين يشيدون بولايته وقطبانيته، ويذكرون أوصافه في قصائدهم، وهم يتواجدون ويتصارخون، ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به، ويضعونه في جيوبهم وعبهم. وللأديب العالم
خواطر دينية جـا
۲۲۱
الشيخ حسن البدري الحجازي قصيدة في هذا الشيخ مطلعها: ليتنا لم نعش إلى أن رأينا كل ذي جَنَّةٍ لدى النَّاسِ قُطْبا وانظر بقيتها في "تاريخ الجبرتي".
وكثير من الضواريح والمقامات في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، مقامة على مثل الشيخ علي البكري الأبله الذي كان يمشي بادي العورة. أو على مجاهيل، مثل سيدي الأربعين الذي له عدة ضواريح في مصر، ومثله سيدي المخفي في المغرب. والعجيب في الأمر أن المتعلمين ينساقون مع العوام في التمسك بهذه الخرافات، وذلك دليل على ضعف في العقل، ونقص في الإدراك وخلل في الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لم اختص موسى باللحية في الجنة
سئلت عن الحكمة في اختصاص موسى عليه السلام باللحية في الجنة،
دون سائر أهلها؟
(۱)
فأجبت بأن ذلك لم يرد به حديث صحيح ، وإنما هو من الإسرائيليات. والحكمة فيه مع ذلك أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى فرعون وأبلغه أنه
-
-
رسول الله إليه، يأمره بتوحيده وعبادته. أمسك فرعون بلحيته استصغارًا له.
(۱) روى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن مسعود مرفوعاً: «أهل الجنة جُرْد مُرد إلا موسى عليه السلام كان له لحية تضرب إلى سرته». وقيل: ورد أيضًا أن لهارون لحية في الجنة ولآدم ولإبراهيم ولأبي بكر الصديق، وكل
ذلك لا أصل له.
۲۲۲
الأدب والمتفرقات
وقال امتنانًا عليه أَلَمْ تُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكَفِرِينَ [الشعراء: ١٨ – ١٩] فكانت لحيته أول شيء منه أهين في الله، فجوزي ببقائها في الجنة. وهذا كما اختص أيضًا بأنه لا يصعق عند نفخة الصعق ، لأنه جوزي بصعقته حين تجلى ربه للجبل، قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَا وَخَرَ مُوسَى صَعِقَا ﴾ [الأعراف: ١٤٣] والله تعالى أعلم.
الأصل في رقابة الأخبار الحربية
جاء في كتب التفسير وغيرها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث البعوث والسرايا للجهاد، فإذا غلبوا الكفار أو غلبهم الكفار بادر المنافقون للاستخبار عن حالهم، ثم يتحدثون بذلك، ويشيعونه قبل أن يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كبار الصحابة. وقصدهم بذلك افتتان ضعفاء المؤمنين بهزيمة المجاهدين، وتثبيط همتهم عن الخروج للجهاد. فأنزل الله تعالى في ذلك: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرُ مِنَ الْأَمْنِ أَي بالنصر للمسلمين او الْخَوْفِ ) أي بهزيمتهم أذا عوايه أفشوه. ويفشيه تبعا لهم ضعفاء الإيمان، جهلا بقصد المنافقين وَلَوَرَدُّوهُ ﴾ أي خبر النصر أو الهزيمة إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي ذوي الرأي من أكابر
الصحابة، أي لو سكتوا عنه حتى يخبرهم النبي وأكابر الصحابة لعلمه هل هو مما ينبغي أن يذاع به أو لا؟ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ يتتبعونه، وهم
خواطر دينية جـا
۲۲۳
المنافقون المذيعون منهم ﴾ [النساء: ۸۳] من الرسول وأولي الأمر. فمنعت الآية إفشاء خبر الهزيمة والنصر أيضًا، حتى يذيعه الرسول وأولي الأمر بعد تمحيصه، لأنه قد يكون في نشر خبر النصر قبل ذلك ما يفيد العدو. وهذا هو الأصل في وضع رقابة على الأخبار الحربية، ومنع نشر شيء منها إلا ما يجيزه المختصون من قواد الجيش ورجال الحكومة. فالإسلام سبق إلى وضع هذا النظام كغيره من الأنظمة التي سبق إلى وضعها، والدول الأوروبية لا تزال غارقة في جهلها إذ ذاك.
علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين
علم اليقين: إدراك الشيء ببرهان، لكن من غير مشاهدة. كالعلم بأن الله واحد، وباتصافه بصفات الكمال، ونحو ذلك من العقائد.
وعين اليقين: إدراك الشيء مع المشاهدة. كرؤية الجنة والنار وغيرهما من أمور الآخرة، قال الله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرُونَ
الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرُونَهَا عَيْن الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر : ٥-٧].
وحق اليقين مشاهدة الشيء مع ملامسته والامتزاج به. قال تعالى: وَاماً إن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الصَّالِينَ ) فَنَزَلَ مِنْ حَمِيمٍ ) وَنَصْلِيَةُ جَمِيهِ إِنَّ هَذَا هُوَ حَقُّ اليقين ﴾ [الواقعة: ٩٢ - ٩٥].
وقيل حق اليقين هو الشيء الثابت في نفسه سواء ألمس أم لا، كالجنة والنار ونحوهما، وهذا هو الصحيح، قال تعالى في القرآن الكريم وَإِنَّهُ لَحَق اليقين [الحاقة: ٥١] أي أنه ثابت حق، ولو أنكره الكفار.
٢٢٤
الأدب والمتفرقات
أخفى الله تعالى أموراً في أمور لحكم
قال العلماء: أخفى الله تعالى أمورًا في أمور، لحكم: وأخفى ليلة القدر في ليالي رمضان، لتقام لياليه كلها. وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات ليحافظ عليها جميعا. وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليدعى في جميعه. وأخفى الاسم الاعظم في أسمائه ليدعى بجميعها . وأخفى رضاه في طاعته ليحصل الحرص على فعل جميع الطاعات. وأخفى غضبه في معصيته لتجتنب جميع المعاصي.
وأخفى الولي في المؤمنين ليحسن الظن بجميعهم.
وأخفى أجل الإنسان ليكون على أهبة الاستعداد بعمل الخير.
وأخفى وقت قيام الساعة ليحصل الإشفاق منها، قال تعالى: وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾ [الشورى: ۱۸].
وقال بعض الفضلاء:
وكُلُّ امْرِي تَلْقَاهُ فَالخَضِر اعتقد وكل ليالي الشَّهْرِ فَاعْتَقِدُ لَيْلَة القَدْرِ اعْتَقِدُ وقوله: «فالخضر اعتقد يعني تحسين الظن بالمؤمن بحيث يعتقد ولايته بناء على ما اشتهر من ولاية الخضر، ولكنا قدمنا أدلة نبوته وهو الصحيح.
هذه مواضع ذكرها العلماء، يضاف إليها عاشر وهو:
أن الله أخفى نفحاته في أيام المواسم مثل عاشوراء، ونصف شعبان وعرفة. ليتعرض لها بالعبادة والدعاء. الحديث: «إن لربكم في أيام دهركم
خواطر دينية جـا
٢٢٥
نفحات، فتعرضوا لنفحات رحمة ربكم وسلوه أن يستر عوراتكم ويؤمن الحال سوء
روعاتكم. وحسن الظن بالمؤمن ليس على إطلاقه فقد يستدعي الظن، كما في بابي الرواية والشَّهادة، وغيرها مما يجب فيه الحذر والتثبت، ويعد حسن الظن حينئذ تقصيرًا معيبًا.
مناقشة الجلال المحلي في مسائل من تفسيره
قال تعالى في سورة القمر) : كَذَبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذْرِ (٢) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا الَ لُوطٍ نَجَيْنَهُم بِسَحَرِ ﴾ [القمر: ٣٣ - ٣٤].
قال الجلال المحلي في تفسير هذه الآية: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ريحًا ترميهم وهي صغار الحجارة، الواحد دون ملء الكف، فهلكوا إلا ال
بالحصباء
هما
لوط وهم ابنتاه معه غير معين، ولو أريد من يوم معين لمنع الصرف، لأنه معرفة معدول عن السحر، لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل. وهل أرسل الحاصب على آل
ابنتاه معه حينَهُم بِسَحَر من الأسحار، أي وقت الصبح من يوم
لوط أو لا؟ قولان.
وفيه مناقشتان:
إحداهما: تفسيره (سحر)) بوقت الصبح ، ومعناه في اللغة: آخر الليل قبل الصبح، وهو المراد هنا. فإنَّ لوطا عليه السلام خرج بابنتيه ليلًا بدليل قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعِ مِنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَرَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ﴾ [الحجر: ٦٥] وهذا معنى إنجائهم.
٢٢٦
لدي
الأدب والمتفرقات
ثانيتهما قوله وهل أرسل الحاصب على آل لوط أو لا؟ قولان وليس الآن من التفاسير غير الجلالين، فلا أعرف على التعيين من قال من المفسرين بإرسال الحاصب على آل لوط ولكني أعرف المحقق المحلي وهم في حكاية هذا الخلاف، وأنه لو تأمل قليلا لأدرك أنه خلاف لا يصح، لأنَّ لوطا عليه السلام خرج باله قبل الصبح والعذاب إنما نزل بقومه عند شروق الشمس قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ وقت الشروق فَجَعَلْنَا عَلِيهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِيلٍ ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتِ لِلْمُتَوَسَمِينَ ﴾ [الحجر: ٧٣ - ٧٥] فكيف يقال بإرسال الحاصب على آل لوط، وهم قد بارحوا البلد قبل إرساله بعدة ساعات؟!
ثم قال الجلال المحلي وعبر عن الاستثناء على الأول بأنه متصل وعلى
الثاني بأنه منقطع - وإن كان من الجنس - تسمحا». انتهى.
يعني أن كون الاستثناء منقطعًا فيه تجوز لأن آل لوط من جنس قومه، سواء أقيل بإرسال الحاصب على الجميع أم على غير آل لوط، فالاستثناء متصل في الحقيقة. هذا إيضاح كلامه، وقد علمت مما سبق أن الخلاف لا وجه له لعدم إرسال الحاصب على آل لوط.
وأما الاستثناء فيمكن جعله منقطعا بلا تجوز، وذلك بأن يراد بالجنس هنا
جنس المهلكين، أو الظالمين، بدليل قوله تعالى: إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَلِمِينَ [العنكبوت: ۳۱] وآل لوط لم يكونوا من المهلكين، ولا من الظالمين، فيكون الاستثناء منقطعًا حقيقة بهذا الاعتبار، وهو واضح لا
خواطر دينية جـا
۲۲۷
غبار عليه. ويمكن اعتبار إلا اسما بمعنى غير، وهي منصوبة على الحال من الضمير في «عليهم» لكن ظهر إعرابها فيما بعدها، لكونها على صورة الحرف، والتقدير: إنا أرسلنا عليهم حاصبًا حال كونهم غير آل لوط، وجملة «نجيناهم بسحر» مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا سأل: ماذا حصل لهم؟ فقيل:
نجيناهم بسحر» وهذا وجه جيد صحيح والحمد الله.
ومما وهم فيه الجلال المحلي أيضًا قوله في تفسير قوله تعالى في آخر (سورة الروم): وَلَبِن عِنْتَهُم بِنَايَةِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴾ [الروم: ٥٨] ما نصه: «حذف منه نون الدفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين» . اهـ ومن الواضح أن الفعل هنا مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله الذين كفروا. وفي الألفية: وجرد الفعل إذا ما أسندا لاثنين أو جمع كفَازَ الشُّهَدَا ومما سها فيه: أنه كتب في سورة طه على قول موسى لأهله: إني انسْتُ نَارًا لعلى انيكُم مِنْهَا بِفَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ [طه: ١٠] ما نصه: وقال لعل، لعدم الجزم بوفاء الوعد. ونسي أن يعلل تعبيره بالسين في (سورة النمل)،
حيث قال: إن انستُ نَارًا سَانِيكُ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ اتِيكُم بِشِهَابٍ فَبَسِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل: ٧] ومعنى السين يغاير معنى لعل، كما هو معلوم. ولم تتبين لي حكمة هذه المخالفة في التعبير، إلا أن يقال: إنه لما رأى النار، قال لأول وهلة سآتيكم. وحين عزم على الذهاب إليها فَقَالَ لِأَهْلِهِ أَمَكْنُوا هنا وإِنِّي ءَانَسْتُ نَارًا لَعَلَّى اليكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فعبر بلعل كما في سورتي (طه)
۲۲۸
الأدب والمتفرقات
و (القصص)، ليكون أهله - وهم في انتظاره - متوكلين على الله تعالى، واثقين بالفرج من جهته، ولأجل أنه ترجى - ولم يجزم أن يجد على النار هدى إلى الطريق حقق الله رجاءه، ومنحه الهدى الكامل هدى الرسالة له ولأخيه هارون عليهما السلام.
هذا ما ظهر لي من الحكمة في هذه الآيات، والله أعلم بسر كلامه. ومما غفل عنه : أنه لم يذكر معنى أكاد من قوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ الِيَة أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: ١٥] - أي أريد أخفيها- وهي غفلة لا تليق منه، لأنَّ
كثيرًا من الناس لا يعرفون معناه، وإن كان واضحًا عنده فهو مجهول الجمهور
قراء تفسيره، وفائدة التفسير أن يبين معاني مفردات القرآن ثم تراكيبه. ومما سها فيه أنه فسر الآية من سورة الفرقان)، فقال: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ المشرك عقبة بن أبي معيط. كان نطق بالشهادتين ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف
عَلَى يَدَيْهِ ﴾ [الفرقان: ۲۷] ندما وتحسرًا في يوم القيامة». اهـ
فوضع عقبة موضع أبي، والثابت عن ابن عبّاس وغيره أن أبيًا كان يحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فيزجره صديقه عقبة، وأنه صنع طعاما فدعا الناس، ودعا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما حضر الطعام، قال له النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم: «ما أنا بأكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله». فشهد، فأكل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من طعامه. فعلم عقبة، فقال له: صبأت؟ قال أبي : لا، ولكن دخل علي رجل، وأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم
خواطر دينية جـا
۲۲۹
يطعم، فشهدت له، فطعم فقال له عقبة ما أنا براض عنك حتى تكفر
بمحمد وتشتمه. ففعل أبي ونزلت الآية.
هذه خلاصة ما في كتب التفسير والسيرة وفيها أن عقبة أسر يوم بدر،
.
فقتله علي عليه السلام صبرا بأمر النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأن أبيا هجم يوم أحد على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول: لا نجوت إن
نجا محمد
والنَّبي صلى الله عليه وآله وسلّم ،راجل ، وأبي راكب. فأراد بعض الصحابة أن يتعرض له. فقال: «دعوه فلما قرب منه خطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حربة من يد صحابي وانتفض انتفاضة أفزعت الصحابة من حوله ووثب فضربه في عنقه ضربة تراجع لها، وهو على ظهر بعيره. ثم تماسك، وقفل راجعا وهو يخور خوار الثور. فقال له :أصحابه ما نرى بك بأسًا فقال: والله لو بصق علي لقتلني. أليس قد قال لي: «لئن رأيتك خارج مكة لأقتلنك؟». وهلك وهو راجع إلى مكة، قبل أن يصل إليها.
وقد بينت في "الفتاوى" جوابًا عن سؤال ورد إلي في هذه الآية، أنها وإن كانت قد نزلت في أبي وعقبة فلفظ الظالم فيها عام يشمل أهل المعاصي. فكل صديق ساعد صديقه على معصية، يندم يوم القيامة، ويتمنى لو لم يكن اتخذه صديقا في الدنيا، ويعاديه إذ ذاك، ويتبرأ منه. قال الله تعالى: الْأَخِلاءُ على ا المعصية في الدنيا ويومينم يوم القيامة وبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
[الزخرف: ٦٧].
۲۳۰
الأدب والمتفرقات
الذين كانوا في الدنيا أخلاء في الطاعة يكونون في الآخرة أيضًا أخلاء متصادقين. وسفهاء اليوم يعتبرون الصداقة بمقدار ما يقوم به الصديق لصديقه من عون على المعصية أو مشاركة فيها . فكلما قدم له عونا في معصية، أو مشاركة فيها كشرب خمر أو لعب قمار أو شهادة زور أو ما يشبه ذلك. اشتدت صداقتهما، وتأكدت روابط المحبة بينهما. وهذا خلاف ما جاء في القرآن، والأمر الله.
معنى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتَحَا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَرَ [الفتح: ۱ - ۲] الآية. قال الجلال المحلّي: «هو مؤوّل، لعصمة الأنبياء بالدليل العقلي القاطع، من الذنوب. وقد ذكر القاضي عياض في "الشفا" وجوها من التأويل في هذه الآية، كما ذكرها غيره من المفسرين. واستخلصت من بعض الوجوه التي ذكروها وجهًا لعله يكون أقرب وأسهل، وحاصله: أن الغفر معناه الستر، والستر نوعان:
١ - ستر بين العبد وبين وقوع الذنب، وهذا يوافق معنى العصمة، لأنها
صفة تحول بين النبي وبين المعصية مع بقاء الاختيار. ۲ - ستر بين العاصي وبين العقاب على ذنبه، فمعنى قول القائل: اللهم
اغفر لي: اللهم استر بيني وبين العقاب على ذنوبي، فلا تؤاخذني بها. والمراد بالمغفرة هنا: العصمة، لتقارب معناهما كما تبين. وإنما أوثر التعبير بها، لأن المقام مقام امتنان. ثم المعنى بعد هذا ليظهر الله عصمتك للناس،
خواطر دينية جـا
۲۳۱
فيروا فيك حقيقة الإنسان الكامل، ويلمسوا منك معنى الرحمة العامة لا تبطرك عزة الفتح، ولا تسكرك نشوة النصر، فلا تنتقم ولا تتشفى ولكن تعفو
وتغفر.
ولهذا دخل صلَّى الله عليه وآله وسلّم مكة يوم الفتح مطأطئًا رأسه حتى كاد يمس مقدمة رحله ، وهو راكب على بعيره تواضعا الله تعالى. وأمر مناديًا ينادي في أهل مكة من أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، و من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وأبو سفيان كان من أكبر أعدائه وبعد انتهائه من شعائر الطواف والسعي، جيء إليه بالأسارى يجللهم خزي الهزيمة وتعلوهم ذلة الأسر. وقد كانوا لغاية الأمس القريب جاهدين ما وسعتهم القدرة في قتله.
ثم قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: «أقول كما قال أخي يوسف لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ [يوسف: ٩٢] اذهبوا فأنتم الطلقاء" وهذا موقف رائع في سمو الخلق، لا يصدر إلا ممن كان عظيم الحلم، رحب الصدر يتسع قلبه لمواساة جراح الإنسانية، وعلاج
.
أدوائها. مسددًا بالتوفيق، مؤيدا بالعصمة وصدق الله حيث يقول لنبيه : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: ٤] .
أما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ( الَّذِي أَنقَضَ ظهرك [الشرح : ١ - ٣] فجملة: ووضعنا عنك وزرك». تحتمل أيضًا وجوها من التأويل، كلها صحيحة مليحة. نقتصر هنا على وجهين منها، طلبا للإيجاز :
۲۳۲
الأدب والمتفرقات
أحدهما: أن الوزر معناه في اللغة الحمل الذي يثقل الظهر، ومنه سمي
الذنب وزرا، لأنه يثقل العاصي بالعذاب يوم القيامة.
وعلى هذا فمعناه هنا : ثقل عبء النبوة والتبليغ. لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نبي كان الوحي عليه شديدا، حتى خاف على نفسه الهلاك. فأخذت خديجة رضي الله عنه تعضده وتشد أزره، ثم لما أمر بالتبليغ، زاد الأمر شدة لما لاقاه من إذاية القريب والبعيد، له ولأصحابه. وهذه أثقال تثقل الظهر، وتنوء بها قوة الإنسان. فوضعها الله عنه ووفقه للقيام بما كلف به على
خير ما يرام.
ثانيهما: أن الوزر إن كان معناه الذنب فالمراد بالوضع العصمة. وإنها عبر عنها به، لأن الذنب يثقل الظهر بعقابه، وبالندم عليه في حالة التوبة منه. والعصمة لكونها تمنع وقوع الذنب - تريح صاحبها من ثقل عقابه ومن ثقل الندم عليه.
فعبر عنها بالوضع لذلك. هذان الوجهان في غاية الوضوح، وبالله التوفيق. وقوله تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى [الضحى: ٧] ليس المراد بالضلال
فيه: الانحراف عن الحق، لوجوه
الأول: أنه قبل النبوة لم يكن شرع قائما، فيوصف المنحرف عنه بالضلال. الثاني: ما ثبت بالدليل العقلي القاطع على عصمة الأنبياء قبل النبوة من
الضلال
الثالث: ما ثبت بالتواتر عن حال النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في نشأته، من أنه نشأ على بغض الأوثان والشعر، وبغض ما كان عليه قومه من عادات الجاهلية، وأنه كان يختلي بنفسه، يتفكر في آيات الله الكونية، وبدائع صنعه.
خواطر دينية جـا
۲۳۳
ويتألم لما يرى عليه قومه من وثنية وجهالة ويجب لهم الخير والرشاد. ولا يدري كيف يرشدهم؟ إذن فمعنى الضلال إما التحير، والمعنى: ووجدك متحيرا لا تدري كيف تخلص قومك من شركهم وقبائحهم، فهداك بالوحي إلى طريق تخليصهم.
وإما الحب، مثل قوله تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلَلِكَ الْقَدِيمِ ﴾ [يوسف: ٩٥] أي حبك القديم ليوسف. والمعنى على هذا: ووجدك محبًّا للحق، فهداك إلى إعلانه، والدعوة إليه. وبقيت وجوه أخرى من التأويل، تراجع في كتاب "الشفا" وكتب التفسير، وليس شيء منها عندي الآن سوى حاشية الصاوي على تفسير الجلالين". للمرأة حق اختيار الزوج
في مذهب المالكية: أن للأب أن يجبر بنته البكر على الزواج بالرجل الذي
يختاره لها، لكن الأحاديث تفيد خلاف ذلك.
ففي
"المسند" و "سنن النسائي" عن بريدة رضي الله عنه ، قال : جاءت فتاة
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم . فقالت: إن أبي زوجني ابن أخته، ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الأمر إليها. فقالت: قد أجزت ما صنع أبي،
ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء. فهذا الحديث يفيد أن الأب ليس له إجبار بنته على قبول زوج لا تحبه، ولها الحق في رفضه زوجًا لها. وهذا هو ما يؤيده النظر الصحيح. لأن المفروض في الزواج أن عشرة دائمة لتكوين أسرة، وإنجاب أولاد، وتنشئة جيل، ولا يكون
٢٣٤
الأدب والمتفرقات
ذلك إلا بنماذج من الزوجين وتوافق بينهما وتلافي رغبتيهما. فإذا زوجت البنت بشخص لا تقبله، فقد التمازج المطلوب لدوام العشرة، وانهد بناء الأسرة قبل تمام تكوينها. ولم تتحقق الحكمة المذكورة في قوله تعالى: وَمِنْ ءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
[الروم: ٢١].
فلهذا أعطى الشرع للبنت حق اختيار الزوج الذي تعاشره، ويسكن هو إليها. وجعل الخلع طريق لخلاصها من زوجها الذي لم يحصل بينه وبينها وفاق بعد زواجهما.
صح في الحديث: أن امرأة جاءت للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم . فقالت: يا رسول الله زوجي - وكان من خيار الصحابة - لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أحبه قال عليه الصَّلاة والسَّلام «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. فبعث صلى الله عليه وآله وسلم إلى زوجها فقال له: خذ حديقتك وفارقها».
بل ذهب الشرع إلى أبعد من هذا، فجعل للأمة المملوكة المتزوجة حق مفارقة زوجها إذا هي عتقت ونالت حريتها . فقد كانت بريرة أمة متزوجة ثم اشترتها عائشة رضي الله عنها وأعتقتها. فاختارت فراق زوجها، وكانت تكرهه، وهو يحبها. فكان يمشي خلفها في طريق المدينة يبكي، ويطلب منها أن ترجع إليه، فقال لها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «اتق الله فإنه زوجك» قالت: أتأمرني؟ قال: «لا ، إنما أنا شافع» قالت: لا حاجة لي به.
خواطر دينية جـا
٢٣٥
غلط في فهم حديث
قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «البكر تستأمر» أي تستشار بأن يطلب رأيها في الشخص الذي يخطبها. ولما كانت البنت شديدة الحياء، ولا سيما فيما يتعلق بأمر الزوج ؛ قال: «وإذنها صماتها» فاكتفى بالسكوت منها ولم يكلفها التصريح، لأن السكوت علامة الرضا. أما المرأة التي سبق لها الزواج وطلقت، أو توفي زوجها، فإنها تصرح برأيها، لأنها عرفت الزواج، وذهب عنها حياء البكر.
فلهذا قال: «والثيب تعرب تفصح عن نفسها فتقول: أرضى بهذا الخاطب، أو لا أرضى به. والحنفية فهموا الجملة الأخيرة على معنى أن الثيب تعرب عن نفسها بعقد الزواج. وبنوا على هذا الفهم أن المرأة الرشيدة يصح أن تعقد على نفسها عقد الزواج من غير حاجة إلى ولي. فكان قولهم غلطا مبنيا على غلط، لأن معنى والثيب تعرب عن نفسها هو ما بيناه لا ما فهموه والدليل عليه أمران: أحدهما : أنه ذكر في مقابلة قوله في البكر: «وإذنها صماتها».
ثانيهما: قوله صلى الله عليه وآله وسلّم في حديث عائشة رضي الله عنها: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فجملة لا نكاح، من أقوى صيغ العموم. والمعنى لا نكاح يصح لامرأة بكرًا أو ثيبا، رشيدة. إلا بولي، وخير ما فسر،
بالوارد.
أما قولهم بصحة عقد المرأة على نفسها، فبيان غلطه من وجهين أيضًا:
أحدهما: أنه ، مبني على فهم في الحديث وقد تبين أنه غلط، فما بني عليه
٢٣٦
يكون غلطا.
الأدب والمتفرقات
ثانيهما: أنه لا يجوز من جهة العرف ولا من جهة الذوق أن تتولى المرأة عقدًا يكون المقصود به الاستمتاع بها، ولعلهم لم يقرءوا المثل العربي: إليك يساق الحديث (۱)
بل الواجب أن تبقى المرأة بعيدة عن هذا العقد. فهو أصون لكرامتها، وأدعى لرغبة الزوج فيها، وأمكن لتعزيز مركزها في عائلتها والوسط المحيط بها. وهذا هو ما قصد إليه الشرع الحكيم حين جعل عقد النكاح إلى وليها. فإن لم يكن لها ولي، أو كان لها أولياء، واختلفوا أيهم يعقد عليها أو عضلوها؛ عقد عليها القاضي أو غيره ممن يتولى أمور المسلمين. كما جاء في بقية الحديث السابق «فإن اشتجروا - أي اختلفوا - فالسلطان ولي من لا ولي له».
فإن لم يكن سلطان، تولى العقد عليها أحد صلحاء المسلمين من أهل حيها. والمسلمون إخوة، يقوم بعضهم بمصالح بعض، والله الموفق. قاعدتان أصوليتان
حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه ، أنه قال: «حكاية الحال إذا
طرقها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال».
وحكي
عنه أيضًا : ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال
(1) أصل المثل: ما ذكره المفضل بن سلمة في كتاب "الفاخر " قال: زعموا أن رجلا ذهب يخطب امرأة، فلما تكلمت أنعظ. وجعل كلما تكلمت يزداد إنعاظا، وهو يستحي من
حضر من أهلها فوضع يده على ذكره، وقال: إليك يساق الحديث، فذهبت مثلا.
خواطر دينية جدا
۲۳۷
ينزل منزلة العموم في المقال.
يبدو لأول وهلة أن بين هاتين القاعدتين تناقضا، لكن عند تدقيق النظر،
يظهر توافقها، وعدم تناقضهما.
ذلك أن الاحتمال إما أن يكون لفظ حكاية الحال نفسه، نحو قول الصحابي: سها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد لفظ : «سها» يحتمل السهو بالزيادة وبالنقص، ولفظ «سجد» يحتمل السجود قبل السلام وبعده. وحيث لم يعين الراوي أحد الاحتمالين في كلا اللفظين، صارا مجملين، وسقط بهما الاستدلال. وهذا معنى القاعدة الأولى.
وإما أن يكون الاحتمال في متعلق من متعلقات لفظ حكاية الحال، بأن يكون عارضًا من عوارضه نحو قول ابن عمر أسلم غيلان الثقفي، وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم أن يمسك منهن أربعًا.
لفظ الحكاية هنا واضح في أن غيلان أسلم وهو متزوج بعشر نسوة، لكنه
مع ذلك احتمل أن يكون تزوج بهن في وقت واحد، أو في أوقات متتابعة. وحيث لم يستفصل منه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأمره بإمساك أربع منهن، كان تعميما للحكم في الحالتين. وهذا معنى القاعدة الثانية. ويؤخذ من الحديث رد مذهب الحنفية، حيث قالوا في الكافر يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة: إن كان تزوجهن في أوقات متتابعة لزمه أن يختار الأربع الأول، لأن زواجهن صحيح ويفارقه البقية، لأن عقد الزواج عليهن كان باطلا.
۲۳۸
الأدب والمتفرقات
فوائد طاعة الله تعالى
طاعة الله سبحانه ولزوم تقواه تؤول بالمسلم إلى الخلود في الجنة. كما قال
تعالى : ومَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر خلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: ١٣] وقد
تكرر هذا في عدة آيات من القرآن الكريم نظرا لأنه المقصود الأعظم، والمطلوب الأهم، لكنه لا يقتضي نفي فوائد أخرى تعود على المسلم في حياته الدنيوية، بالنفع العام له ولإخوانه المسلمين المتقين، أشار إليها القرآن العظيم
في مواضع :
منها: تعليم العلم النافع، قال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: ۲۸۲] عطف جملة التعليم على جملة التقوى من عطف المسبب على
السبب. فالتقوى سبب في الحصول على العلم، وهذا يشمل وجهين: أحدهما: أن طالب العلم إذا اتقى الله ، فتح الله له أبواب العلم، وسهل له
ما صعب منه .
وإلى هذا أشار الإمام الشافعي بقوله:
شكوتُ إلى وكيع سُوءَ حِفْظِـي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأنَّ العِلْمَ نُورٌ ونور الله لا يُهدى لعاصي وليس هذا خاصا بالعلوم الدينيَّة، بل طالب العلوم الدنيوية - كالطب والهندسة مثلا - إذا لزم التقوى والطاعة، فتح الله له من هذه العلوم أبوابها، وسهل له أسبابها.
خواطر دينية جـا
۲۳۹
على أننا قدمنا أن تعلم العلوم الدنيوية، والصناعات النافعة، فرض كفاية.
فينبغي لطالب شيء منها أن ينوي القيام بهذا الفرض، ليكون مثاباً في طلبه. قائما بالعبادة وهو مشتغل بعلمه أو صناعته.
ثانيهما: أن العالم الديني إذا عمل بعلمه، أعطاه الله علوما وهبية، بطريقة الإلهام، ولذا قال الإمام مالك: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. وكثير من الناس يعتقدون هذا الكلام حديثاً نبويًا، وليس كذلك، لكنه صحيح المعنى، صدقته التجربة المتكررة. فلا يحصى عدد العلماء العاملين الذين ألهمهم الله علوما وهبية، ومعارف ،ذوقية، وإشارات قدسية، ومواهب فتحية. ظهرت فيما تركوه من الآراء، والمؤلفات الكثيرة.
ومنها: إيجاد مخرج من الضيق والكرب وإتيان الرزق من حيث لا يخطر على البال، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣] فالتقوى سبب تفريج ما يعرض للمتقي من ضيق وكرب، وسبب في تيسير أسباب الرزق له بحيث لا يشعر كيف تتأتى أسبابه، وتنقاد له صعابه، بل قد يأتيه الرزق من غير أن يسعى إليه، أو يشد رحال العزم للحصول عليه.
ومنها: تيسير الأمور له في جميع شئون حياته، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل له من يصير [الطلاق: ٤] فأمور المتقي ميسرة، ومصالحه مسهلة غير
متعسرة.
ومنها: إصلاح حاله. قال تعالى: وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَتِ مَا آمَنُوا
٢٤٠
الأدب والمتفرقات
نزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ وهؤلاء هم المتقون كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ
بالهم ﴾ [محمد: ٢] أي حالهم فصلاح حال المجتمع الإسلامي، متوقف على تقوى أفراده، كما أعادته الآية الكريمة. ومنها: الاستخلاف والتمكين واستقرار الأمن بعد الخوف، قال الله تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ل من بني إسرائيل، بدلا عن ! من بني إسرائيل، بدلا عن الجبارين: وَلَيُمَكِّنَنَّ
:
لهم دينهم الذي ارْتَضَى لهم وهو الإسلام، بأن يظهره على الأديان ويوسع لهم
في البلاد فيملكوها كما حصل للصَّحابة من الفتوحات العظيمة وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: ٥٥] فالله تعالى يجزي المتقين في الدنيا بتعليمهم، وتفريج كربهم، وإيصال الرزق إليهم من حيث لا يحتسبون. وتيسير أمورهم، وإصلاح حالهم، واستخلافهم وتأمينهم بعد الخوف. وفي الآخرة بالخلود في الجنة وهو الفوز العظيم. فإن لم تكن التقوى واجبة على المسلم لصلاح دينه وآخرته فهي واجبة عليه لصلاح دنياه ومعيشته.
نكتة في قوله تعالى :
ومنهم من يستمعون إليكَ ، وَمِنْهُم مِّن يَنظُرُ إِلَيْكَ )
قد يقع السؤال عن قول الله تعالى في سورة يونس): وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُم مَن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يونس: ٤٢ - ٤٣] .
خواطر دينية جـا
٢٤١
المفرد؟
فيقال: لم أسند فعل الاستماع إلى ضمير الجمع؟ وفعل النظر إلى ضمير
وجواب النحويين في مثل هذا أن يقولوا روعي في الجمع معنى «من»،
وفي الإفراد لفظها.
وهذا لا يكفي هنا، إذ يقال: ما الحكمة في مراعاة معنى من في الفعل الأول؟ ولفظها في الثاني؟ والجواب الكافي : أن الاستماع يحصل من المبصر والأعمى، ومع . حجاب كجدار مثلا، وبدونه. فجمع فعله بالنظر لحالاته المتعددة، بخلاف النظر. فإنه لا يحصل إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون الناظر في مواجهة المنظور إليه. فلم يجمع فعله، نظرا للحالة المذكورة، وهذا مما فتح الله به علي وألهمنيه، وله
الحمد والمنة.
نكتة في قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ سئلت عن قوله تعالى في سورة النحل): قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [النحل: ٢٦] اللَّهُ لم قيل: من فوقهم؟ مع أن السقف لا يكون إلا من جهة الفوقة؟ وهل هذه العبارة لمجرد التأكد؟
والجواب: أنها ليست للتأكيد كما يتبادر إلى الوهم، لكنها جاءت لإفادة معنى لا يفهم إلا بذكرها فلما قيل من فوقهم تبين أنهم هلكوا جميعا تحته، ولم يستطع أحد منهم الإفلات. وهذا هو المقصود من الآية فإنها جاءت لبيان
٢٤٢
الأدب والمتفرقات
إهلاك الله للكفار، وإفساد ما أبرموه من المكر برسله (۱).
كتاب: "في الشعر الجاهلي"
ألف هذا الكتاب الدكتور طه حسين، وذكر فيه كفريات صريحة، منها:
إنكار إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وزعمه أنهما شخصيتان وهميتان لا حقيقة لهما في التاريخ، وأن القرآن لا يكفي دليلا على وجودهما، وقد رد عليه كثير من العلماء وحوكم إلى القضاء. وكانت محاكمته مهزلة، بسبب السياسة التي تدخلت في الموضوع. وخرجت المسألة عن كونها غيرة دينية، وحمية إسلامية، إلى تنازع بين
(۱) وقوله تعالى في السورة نفسها : يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل: ٥٠] المراد بالفوقية في هذه الآية - والله أعلم - الإشارة إلى قهره وعلوه؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: ۱۸] فليست الفوقية حسية، ولكنها معنوية.
مثلها في قوله تعالى حكاية عن فرعون و وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ فَرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ليُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَالهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قهرُون [الأعراف: ۱۲۷] وبالضرورة لم يكن فرعون وقومه فوق أكتاف بني إسرائيل ولا على رءوسهم، وإنما المعنى الذي يقصده فرعون بعبارته: أنه يتحكم في بني إسرائيل ويملكهم بسلطته وجبروته بحيث يستخدمهم فيما يريد من غير معارضة. وهذا من الاستعمال الشائع في معظم لغات العالم، لا تكاد لغة تخلو منه. والسائل عن الآية. صديقنا الفاضل علي حسن خميس التونسي.
خواطر دينية جـا
٢٤٣
حزب الأحرار الذي كان يؤيد المؤلف ويعطف عليه، وبين حزب الوفد الذي
كان يخاصمه ويحقد عليه.
والحقيقة أن هذا الكتاب الذي ارتد به عن دين الإسلام، واستوجب غضب الله عليه ليس من تأليفه، وإنما هو نسخة من كتاب "كلمة في الإسلام" للمبشر الإنجليزي جرجس سال وقد ترجمه إلى العربية شخص مجهول، يسمى: هاشم العربي. ورجّح بعضهم أن مترجمه الحقيقي هو الأديب ناصيف اليازجي المسيحي المعروف.
والعجيب أن طه حسين كتب بعد هذا في مواضيع دينية، مثل على " هامش السيرة"، كأنه يتملق المسلمين أو يضحك على عقولهم!! ولكنَّ الله ليس بغافل عنه.
قد يقال: إنه تاب عما كان في ذلك الكتاب، وإن كان كذلك فلم لم يعلن توبته كما أعلن ردته ؟! ولنسلم أنه تاب سرًا بينه وبين الله تعالى، فما باله قال في كتابه " في الصيف" وقد ألفه ، بعد الكتاب الأول بمدة: «يجب أن ينقد القرآن كأي كتاب أدبي ؟!!
وهل هذه الكلمة تصدر من مؤمن يعتقد أن القرآن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ الحقيقة أن الأدباء الملحدين، وجدوا الكتابة الدينية تجارة رابحة درت عليهم أموالا كثيرة وافرة، فلذلك أقبلوا عليها واتجهوا بكليتهم إليها.
وحصلوا على ما طلبوا من المال ولم تخطر التوبة لهم على بال.
٢٤٤
الأدب والمتفرقات
"الإسلام وأصول الحكم"
هذا اسم كتاب ألفه الشيخ علي عبد الرازق، الذي كان قاضيا شرعيا ثم وزيرا للأوقاف، وقد أنكر فيه أن تكون الخلافة أو القضاء من الوظائف الدينية، وزعم أن الدين لا يعرفهما ولا ينكرهما، ولا أمر بهما ولا نهى عنهما. وهذا خطأ كبير توصل إليه بمغالطة في الاستدلال وتحوير في النصوص مع كونه خرقاً لإجماع العلماء. لكنه لا يستحق تلك الضجة التي أثارها عليه الأزهريون، ووصموه بالإلحاد وألفوا لمحاكمته لجنة من هيئة كبار العلماء فحكموا بتجريده من شهادة العالمية، ومن لقب صاحب الفضيلة الذي يمنح
لحاملها.
ولم تكن ضجتهم خالصة للعلم والدين بل كانت مجاراة للملك فؤاد الذي كان يطمع أن يكون خليفة للمسلمين، وعمل مؤتمرًا للخلافة عقد بالقاهرة تحت إشراف شيخ الأزهر، فغضب من هذا الكتاب الذي اعتبره عقبة في طريقه، ولما علم أن المرحوم محمد الخضر حسين التونسي ر رد عليه أمر بأن يطبع الرد على نفقته الخاصة الملكية وبأن تعطى للشيخ شهادة العالمية
الأزهرية. والشيخ علي عبد الرازق أراد بكتابة المذكور إغضاب الملك فؤاد الذي
جار على عائلته بشراء أرض زراعية مجاورة لأرضهم، كانوا هم أحق بها. ثم مات فؤاد، وتطور الزمان، ومنح فاروق للشيخ علي رتبة باشا، وعين وزيرا للأوقاف. ودعا الشيخ المراغي الذي كان شيخا للأزهر إلى اجتماع كبار العلماء، لرد شهادة العالمية إليه، ووافق معظم الأعضاء إلا الشيخ الدجوي،
خواطر دينية جـا
٢٤٥
فإنه عارض بشدة وكان مما قاله نحن سحبنا الشهادة لأجل الكتاب الذي
ألفه، فلا يجوز أن نردها إليه إلا بعد أن ينقض كتابه أو يعلن رجوعه عنه. وألح عليه بعض الأعضاء ليوافق منهم الشيخ الزنكلوني، لكنه أصر على
موقفه فاقترح الشيخ اللبان إرجاء البت في الموضوع إلى اجتماع آخر، وانفض المجلس على هذا الاقتراح.
زواج المسلم بالكتابية
سئلت غير مرة عن الحكمة في إباحة زواج المسلم بالكتابية، وحرمة زواج
المسلمة بالكتابي ؟ والجواب: أن المسلمين يؤمنون بجميع الأنبياء الذين منهم موسى وعيسى
ويؤمنون بكتب الله المنزلة كلها.
لكن الكتابيين وهم اليهود والنصارى لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا بكتابه، ويوجهون إلى شخصه الكريم وكتابه العظيم جملة من المطاعن تنبئ عن داء دفين وحقد كمين والمنصفون منهم يعترفون بعظمته ولا يؤمنون بنبوته، فمن ثم جاز لنا أن ننكح نساءهم ولم يجز لهم أن يتزوجوا
نساءنا هذه حكمة.
وحكمة ثانية، وهي أن الإسلام دين التسامح، لا يجيز إكراه أي شخص على اعتناقه وهو يعتمد في نشر دعوته، على الاقتناع بالحجة والبرهان. قال الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن ﴾ [البقرة: ٢٥٦] وعلى حين يتزوج المسلم بكتابية، ولا يفكر في إكراهها على مفارقة دينها بل يدعها حرة في عقيدتها. ولكن الكتابي إذا تزوج مسلمة يحاول إخراجها عن دينها بمختلف
(1)
٢٤٦
الأدب والمتفرقات
الوسائل ولو بالتهديد
وقد تزوج فرنسيون بمسلمات جزائريات أيام استعمارهم للجزائر -
فأخرجوهن عن دينهن، بترغيب مشوب بترهيب.
وحكمة ثالثة، وهي أن الكتابي لا يؤتمن على امرأته المسلمة، فهو يظلمها، ويهضمها حقها، لأنه يعتقد أن إذاية شخص على غير دينه، يتقرب بها إلى الله تعالى. لكن المسلم لا يظلم امرأته الكتابية، لأن دينه يأمره بالعدل، ويحرم عليه أن يظلم أحدا؛ مسلما كان أو غيره.
وحكمة رابعة وهي أن الإسلام أعدل الأديان وأكملها، لصحة عقيدته : في الله سبحانه. وإيجابه الإيمان بجميع الأنبياء، وباعتقاد عصمتهم من المعاصي والذنوب. وسائر الأديان سواه ،ناقصة لفساد اعتقادها في الله بنسبته إلى التثليث أو الإثنينية، أو نسبة الولد إليه، أو تشبيهه بخلقه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. يتبع ذلك فساد اعتقادها في الأنبياء، بنسبة المعاصي إلى بعضهم، أو إنكار نبوة بعضهم الآخر. فلو تزوج كتابي بمسلمة، لزم أن يستعلي ناقص الدين على كاملته، ويتحكم فيها وفي عواطفها والله لا يرضى لكامل الدين أن يستكين لناقصه، ويستسلم له. ولهذا حرم على المسلمين أن يستكينوا للمستعمر، ويستذلوا له وأوجب
(۱) والشواهد على ذلك كثيرة، أقربها : أن نظلة أم الملك فاروق، تزوجها طبيب أمريكي، فأخرجها عن دينها، فهي الآن ،نصرانية وبنتها فتحية تزوجها قبطي مصري بدعوى أنه أسلم. ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها
وفارقها.
خواطر دينية جـا
٢٤٧
عليهم جهاده، ومقاومته باللسان والمال والسلاح. ووعد من استشهد منهم في هذا الميدان بالجنة ،والرّضوان ومن عاش بالعزة والغلبة، والله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وإذا ولدت الكتابية من زوجها المسلم، فالأولاد مسلمون تبعا لأبيهم حسب القاعدة الشرعية، سواء أكانوا ذكورًا أم إناثًا. ولا يجوز أن تتبع البنت أمها في دينها، والمسلم الذي يرضى بذلك، يكون خارجا عن دينه مرتدا، لأنه رضي لبنته أن تعتنق دينا غير دينه، أما زواج المسلمة بالكتابي لو وقع - فلا ينعقد ولا يصح، وتكون معاشرتها زنا والأولاد الذين يأتون من تلك المعاشرة، أولاد زنا، هذا حكم الإسلام، وتلك حكمة.
أشد آية في القرآن
قال الله تعالى: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبوا أَضْعَافًا مُضَعَفَةٌ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (۳) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ ﴾ [آل عمران: ۱۳۰ - ۱۳۱] قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنَّار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. قلت: فالعجب من بعض العلماء الذين يتحايلون لإباحة صور من الرباء بعد سماعهم للآية الكريمة.
وفي (سورة الزمر) آية مثل هذه في الشدة، إن لم تكن أشد منها، وهي قوله
تعالى: وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر : ٤٧].
قال الزمخشري: « وبدا لهم من الله وعيد لهم للذين ظلموا لكنه
٢٤٨
الأدب والمتفرقات
لفظاعته وشدته، وهو نظير قوله تعالى في الوعد: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى هُم
[السجدة: ١٧].
وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال: وهذه والله قاصمة الظهر، نسأل الله العفو والعافية.
وآية ثالثة مثل سابقتها، وهي قوله تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَرِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَهُمُ الرَّبَّنِيتُونَ وَالْأَحْبَارُ
عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: ٦٢ - ٦٣] . عبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
يسمى
وعبر في التاركين لنهيهم بجملة: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . قال الزمخشري: «كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه، ويتدرب وينسب إليه. وكأن المعنى في ذلك: أن مواقع المعصية، معه الشهوة التي تدعوه إليها. وأما الذي ينهاه، فلا شهوة له في فعل غيره فإذا فرط في الإنكار، كان أشد حالا من المواقع ولعمري أن هذه الآية مما يقد المسامع، وينص على العلماء توانيهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها .
وتوضيح
ذلك أنه حيث ذم ترك الإنكار على مرتكبي المناكير، معبرا عنه
بالصناعة، كان هذا الذم أشد من سابقه لأنه جعل ما ذموا به صناعة لهم،
خواطر دينية جـا
٢٤٩
وحرمة لازمة، وهم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم. وهذا وجه
الأشدية التي أشار إليها ابن عباس ،ب، والأخوفية التي ذكرها الضحاك. وفي (سورة التوبة آية شديدة أيضًا، وهي قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ ابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَبَجَرَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة : ٢٤].
قال الحسن: «أمره» عقوبة عاجلة أو آجلة. قال الزمخشري: «وهذه آية شديدة، لا ترى أشد منها: كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين. فلينصف أروع الناس وأتقاهم من نفسه: هل يجده عنده من التصلب في ذات الله، والثبات على دين الله. ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا؟ ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنها وقع على أنفه ذباب فطيره؟!
من لطائف اللغة
كلمة: «قد» إذا دخلت على الفعل المضارع، كانت في بعض الأحيان بمعنى ربما . فوافقتها في خروجها إلى معنى التكثير، في نحو قوله:
فإن تُمْسِ مَهْجَورَ الفِناءِ فرُبَّما أقام به بعد الوفُودِ وفُودُ أي فكثيرا أقام بالفناء وفود بعد وفود. مثال إفادة قد للتكثير قوله تعالى:
٢٥٠
الأدب والمتفرقات
قد نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةٌ تَرْضَهَا فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَةٌ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ
ليَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِعَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: ١٤٤].
قال الزمخشري: قد نرى ربما نرى ومعناه كثرة الرؤية كقوله : قد أترك القرن مصفرا أنامله. أي كثيرًا أترك القرن مصفر الأنامل، كناية عن قتله. والقرن - بكسر القاف - كفؤك في الشجاعة». قال ابن المنير تعليقا على قول الزمخشري: هذا من المواضع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته ومنه: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: ٢] والمراد كثرة مودتهم للإسلام يوم القيامة عند
معاينة جزائه وثوابه.
وقوله تعالى : قد نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ [الأنعام: ۳۳].
قال الزمخشري: «قد» بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقوله: أخي ثِقَةٍ لا تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ ولكنَّهُ قُدْ يُهْلِكُ المال نائِلُهُ
أي: ولكنه كثيرًا يهلك المال نائله: أي عطاؤه.
قال ابن المنير ومثل هذه الآية: قوله تعالى: وَقَد تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم ﴾ [الصف: ٥] فإنه يكثر علمهم برسالته. ويؤكده ظهور آياته، حتى يقيم عليهم الحجة في جمعهم بين متناقضية أذيته؛ ورسوخ علمهم برسالته، والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه تنبيها على أنه بلغ الغاية التي ما بعدها إلَّا الرجوع إلى الضد، وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.
خواطر دينية جـا .
٢٥١
وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرُ ﴾ [النحل: ۱۰] و قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُم لِواذا ﴾ [النور: ٦٣) قَدْ يَعْلَمُ
مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾ [النور: ٦٤] .
قد يعلمُ اللَّهُ الْمُعَوَقِينَ مِنكُر وَالْقَابِلِينَ ﴾ [الأحزاب: ۱۸] فكلمة قد في هذه الآيات تفيد التكثير وتأكيد العلم، عكس ما هو معروف من إفادتها التقليل إذا دخلت
على الفعل المضارع. والنكتة في ذلك، هي التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه، كما مر في كلام
ابن المنير.
ا
أما قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الحجر: ٢] فقيل: ربما فيه للتكثير كما مر واختلف في توجيهه
وقيل للتقليل، لأن أهوال يوم القيامة تدهشهم، فيبقون مبهوتين، فإن أفاقوا من سكرتهم في بعض الأحيان تمنوا لو كانوا مسلمين. راجع تفسير " الكشاف" وما كتب عليه.
نكتة في قوله تعالى: وَإِذَا شِتْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَلَهُمْ
قال الله تعالى: نَحْنُ خَلَقْتَهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ﴾ [الإنسان: ۲۸] ربطنا عظامهم موصلين بعضها ببعض، ووثقنا مفاصلهم بالأعصاب وَإِذَا شِتَنَا أهلكناهم وبَدَّلْنَا أَمْثَلَهُمْ ﴾ [الإنسان: ٢٨] في شدة الأسر، يعني
الأخرى.
النشأة
٢٥٢
الأدب والمتفرقات
يجيء
وقال الزمخشري: وقيل: ومعناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن : بإن لا بإذا. كقوله: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ [محمد: ۳۸]. وَإِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ ﴾ [النساء: ١٣٣]. قلت: هذه زلة لا تليق منه، وحقه إذالم يهتد للنكتة في إيثار التعبير بـ«إذا» أن يكل أمرها إلى الله الذي يفتح بها على من يشاء من عباده، كما فتح عليه في تفسيره بدقائق لم يسبق إلى كثير منها .
وإذا جاءت هنا لتحقيق القدرة، كما قال البيضاوي. يعني: لما كان تبديل غيرهم متحققا في القدرة ميسورًا لها أتى بإذا، بيانا لذلك. ألا ترى إلى قوله: إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [إبراهيم: ١٩] كيف أتبعه بقوله تعالى: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزِ ﴾ [إبراهيم: ٢٠] . ليبين به تحقق القدرة وأن الإتيان بخلق جدید سهل ميسور فكلمة إذا أفادت ما أفادته هذه الجملة.
لا غيبة لكافر
قال الله تعالى: وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ ميْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا ﴾ [الحجرات: ۱۲] الخطاب موجه للمؤمنين، بدليل صدر الآية: يتأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب
بَعضُكُم بَعْضًا ﴾ [الحجرات: ١٢] يؤخذ منه أن الكافر لا تحرم غيبته.
(۱) وكذلك قوله تعالى: إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِنَاخَرِينَ أتبعه بقوله تعالى: وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴾ [النساء : ١٣٣].
خواطر دينية جـا
٢٥٣
وعلى هذا المنوال جاءت الأحاديث، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الغيبة ذِكْرُكَ
أخاك بما يَكْرَه .. » الحديث رواه مسلم. يريد بقوله: «أخاك»: المؤمن. وفي الصحيحين، في حديث حجّة الوداع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته يوم النحر : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. وفي "صحيح مسلم": قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «كل المسلم على المسلم حرامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». وفي "سنن ابن ماجه" بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، نظر إلى الكعبة فقال يخاطبها: ما أعظم حُرْمَتكِ؛ ولَلْمِؤْمِنُ أعظمُ حُرْمَةٌ مِنكَ،
حَرَّمَ اللَّهُ دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ، وأَن يُظَنَّ بِه ظَنُّ السوء».
فقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم غيبة المؤمن، لأن إيمانه يحمي عرضه كما يحمي دمه وماله، بخلاف الكافر، فإنما يحميه العهد، أو الأمان، أو الذمة، أي أن أحد هذه الثلاثة، يحمي دمه وماله، أما اغتيابه فلا حرمة فيه،
والله أعلم.
معنى البر والإحسان
سألني الأستاذ أبو الخير نجيب عن تحديد معنى كلمة البر تحديدا لغويا دقيقا ؟ وما الفارق بينها وبين كلمة الإحسان؟ وهل هما متساويتان؟ فأجبت: أما كلمة البر، فمعناها بالتحديد هو الارتفاق والانتفاع، ومن هنا أطلقت على ما هو خير لأن الخير يرتفق به فاعله وينتفع.
٢٥٤
الأدب والمتفرقات
فمعنى بر الولد بوالديه: أن يقدم لهما من الطاعة وحسن الانقياد لمطالبهما وخفض الجناح لهما، ما ارتفقا به وانتفعا.
ومعنى البر بالمسكين أو اليتيم نفعه بما يعطي من طعام أو ثياب، أو بما يناله من حنان وعطف.
وقولهم: فلان بار معناه نافع لنفسه بطاعة الله تعالى، ونافع للخلق بالمعاملة الحسنة.
وقوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ا مَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَكَةِ وَالْكِتَبِ وَالنَّبِيِّينَ وَعَالَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [البقرة: ۱۷۷ ] الآية.
ينفي ما تمسك به اليهود من خيرية استقبال بيت المقدس، حين حولت القبلة منه إلى الكعبة لأنه بعد نسخه لم يبق فيه بر. ولكن البر الذي يجب التمسك به ما كان نافعا لفاعله وهو الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنَّبيين واليوم الآخر وإقامة الصلاة والصبر في البأساء والضراء والوفاء بالعهد، أو نافعا لغيره وهو إيتاء المال لمن ذكروا في الآية.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّيان تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ أنقى [البقرة: ١٨٩] يفيد نفي البر عما كان يفعله العرب قبل الإسلام؛ كانوا إذا أحرموا بحج أو عمرة ، يرون من تمام إحرامهم ألا يدخلوا بيوتهم من أبوابها، بل من ظهورها بأن ينقبوها . فأخبر الله تعالى أنه ليس من البر، لأنه لا نفع لهم فيه. ولكن البر الذي ينفعهم هو بر من اتقى، لأن التقوى سبب
خواطر دينية جـا
٢٥٥
السعادة، ويقول الناس بر نفسك: أي انفعها. وهذا الغذاء لا بر فيه: أي لا
ينتفع به الجسم.
وأما الإحسان، فمعناه بالتحديد الإتقان يقال: أحسن فلان بناء بيته إذا أتقنه. وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» معناه: أن الله كتب الإتقان على المكلفين في كل شيء من أعمالهم، ولهذا ثبت في الحديث الآخر : إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه» وقوله تعالى: وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُلْقُولا بِأَيْدِيكُرَ إِلَى التَهْلُكَةِ وَاحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة:
.[190
يفيد أمر المؤمنين بالجهاد في سبيل الله ونهيهم عن الإخلال به لأن فيه هلاكهم باستيلاء العدو على بلادهم، وأمرهم بإتقان الجهاد وذلك بأن يخلصوا النية فيه الله تعالى، ويعدوا العدة له بالسلاح، وبالقيادة الرشيدة واتفاق الكلمة. غير أن لفظة الإحسان وإن كان معناها الإتقان، فإنها تفيد نهايته وغايته.
هنا كان قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩]
يقتضي فضل الإحسان على المجاهدة وزيادته عليها لأنه بعد أن وعد المجاهدين فيه بهدايتهم سبله، أخبر بمعيته للمحسنين. وهي تدل على شرف لم ينالوه إلا ببلوغهم نهاية الإتقان للمجاهدة في ذاته، والإخلاص له. ولهذا كان مقام الإحسان أعلى مقامات الدين الثلاثة وهي: الإسلام، وهو الانقياد الظاهري، والإيمان، وهو التصديق وما يتبعه من أعمال الباطن، وهو أعلى من
٢٥٦
الأدب والمتفرقات
سابقه. والإحسان الذي هو عبادة الله على المراقبة أو المشاهدة. وهما يقتضيان
نهاية إتقان العبادة، فمن ثم كان الإحسان أرقى مقامات الدين.
المبشرون بالجنة
بشر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم جماعة الصحابة رجالا ونساءً بأنهم من أهل الجنة. وقد عنَّ لي أن أذكر أسماءهم في هذا المكان، قاصدا استيعابهم ما أمكنني الجهد، غير متقيد بصحة الحديث. بل أذكر كل من وردت بشارته ولو في حديث ضعيف. ولم أذكر شخصين ذكرا في المبشرين بالجنة، لأني جازم بأن الحديث الوارد
(1).
فيهما موضوع وهما أبو سفيان صخر بن حرب، وابنه معاوية". فإن النواصب أعداء علي وأهل البيت عليهم السلام، لما لم يجدوا ما يعيبون
(1) أما أبو سفيان فذكروا أنه حضر غزوة ،الطائف، وأن أهلها تحصنوا داخل حصن هناك ورموا المسلمين بالنبل فأصيب أبو سفيان في عينه. فذهب إلى النبي . صلى الله عليه وآله وسلّم: «إن شئت دعوت فردت عينك وإن شئت فعين في الجنة». قال:
فالجنة، وهذا كذب محض. وأبو سفيان لم يحضر غزوة، ولم تصب عينه قط. وأما ابنه معاوية فذكروا في فضله حديث السفر جلات الثلاث المكذوب على مالك وذكروا أيضًا أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال له: «يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها. وهذا كذب مكشوف. وحديث السفرجلات ذكره أمين الخولي في كتابه الذي ألفه الإمام مالك، معتقدا أنه حديث صحيح. وهي سقطة شنيعة منه، فالحديث منبه على كذبه في كتب الموضوعات.
عن
خواطر دينية جـا
٢٥٧
به عليا وأهل بيته، عمدوا إلى محاربه وعدوه، فوضعوا فيه أحاديث تدل على فضله وفضل أبيه وأهل بيته لكنهم لم يحسنوا الوضع فافتضحوا وكشف جهابذة الحديث كذبهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وسيتبوءون
مقعدًا في جهنم، كما ثبت في الحديث المتواتر لفظه ومعناه.
وهذه أسماء المبشرين بالجنة جعلنا الله من أهلها: العشرة: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنَّة وسعد ابن أبي وقاص في الجنة». رواه أحمد والضياء
المقدسي عن سعيد بن زيد، ورواه التّرمذي عن عبد الرحمن ابن عوف. فاطمة عليها السلام قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا
(1)
وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران». رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم، وله طرق.
خديجة رضي
(۲)
الله عنها: ثبت في الحديث الصحيح أن جبريل عليه
السلام بلغها السلام من الله، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب
فيه ولا نصب.
بلال رضي الله عنه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال
(1) أي فهي تساويها لأنها أم نبي، وفاطمة بنت نبي، وكلتاهما صديقتان، بتشديد الدال. (۲) بلغها ذلك بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم.
٢٥٨
الأدب والمتفرقات
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك في الجنَّة أمامي» الحديث، وهو في فضل صلاة
ركعتين بعد الوضوء.
ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه: في الصحيحين عن أنس، لما نزل قوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: ٢] الآية. اعتزل في بيته، فتفقده النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، فأخبر بشأنه. فدعاه فسأله؟ فقال: يا رسول الله لقد نزلت هذه الآية وأنا رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون حبط عملي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة». زاد أحمد والطبراني، فقال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل
الجنة. قلت: ومات شهيدا في حرب الردة على عهد أبي بكر رضي الله عنه. عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية: ثبت في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بهم وهم يعذبون بمكة على الإسلام، فيقول لهم: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنَّة».
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ويح
عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النار».
رضي
وقتل يوم وقعة صفين وكان في جيش علي عليه السلام.
عبد الله بن سلام رضي الله عنه في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص الله عنه قال: ما سمعت ، النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يقول لأحد
خواطر دينية جـا
٢٥٩
يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله ابن سلام. عكاشة بن محصن رضي الله عنه: في الصحيحين عن ابن عباس، في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فقال عكاشة: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم فقام آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عكاشة».
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب جاء في كتب السيرة عنه قال: لما لقينا العدو بحنين، اقتحمت عن فرس وبيدي السيف مصلتا. والله يعلم أني أريد الموت دونه - يعني النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم - وهو ينظر إلي، فقال له العباس: يا رسول الله أخوك وابن عمك أبو سفيان، فارض عنه. فقال: غفر الله له كل عداوة عادانيها ثم التفت إلي وقال: «يا أخي» فقبلت رجله في
الركاب.
وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم في حقه: «أبو سفيان بن الحارث من شبان أهل الجنة أو من فتيان أهل الجنة».
وأبو سفيان هذا كان ابن عم النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وأخاه في
الرضاعة.
عكرمة بن أبي جهل: جاء في "بهجة المجالس" للحافظ ابن عبد البر: أنه صلى الله عليه وآله وسلّم رأى في منامه أنه دخل الجنَّة، ورأى فيها عذقا فأعجبه، وقال: لمن هذا؟ فقيل لأبي جهل. فشق ذلك عليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: «لا يدخلها إلا نفس مؤمنة» فلما جاءه عكرمة مسلما، فرح به
٢٦٠
الأدب والمتفرقات
وأول ذلك العذق لعكرمة. وكان عكرمة قبل إسلامه بارز رجلًا من المسلمين فقتله، فضحك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم . فقال له بعض الأنصار: ما أضحكك يا رسول الله وقد فجعنا بصاحبنا ؟ فقال: «أضحكني أنهما في درجة واحدة في الجنة».
قلت: أسلم عكرمة عام الفتح وحسن إسلامه، ثم استشهد في وقعة اليرموك، رضي الله عنه. عتاب ابن أسيد : في تاريخ مكة للأزرقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لقد رأيت أسيدًا في الجنة وأنى يدخل أسيد الجنة؟»، فعرض له
(1)
عتاب بن أسيد. فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «هذا الذي رأيت، أدعوه لي فدعي له، فدعى له، فاستعمله يومئذ على مكة. قال سبط ابن الجوزي: استعمل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عتاب بن
أسيد على أهل مكة، لما خرج إلى حنين، وعمره ثماني عشرة سنة.
أم أنس رضي الله عنه: جاء في "السيرة الحلبية" عن أنس ابن مالك قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم: «دخلت الجنة فسمعتُ خشخشة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذه العميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك». عبد الله بن أنيس : جاء في كتب السيرة أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعثه لقتل سفيان بن خالد الهذلي اللحياني الذي جمع الجموع لحرب رسول الله
(۱) أي هذا تأويل الذي رأيت، لأن أسيدا كان مشركا ، وابنه عتاب مسلم، والله تعالى
أعلم.
خواطر دينية جـا
٢٦١
صلى الله عليه وآله وسلَّم، فذهب إليه وقتله وجاء برأسه حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فدفع له عصا. وقال: «تخصر بهذه في الجنَّة، فإن المتخصرين في الجنَّة قليل وكان يقال له: ذو المخصرة بكسر الميم، كما في القاموس
دحية الكلبي رضي الله عنه: لما أراد النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يبعث كتابا إلى هرقل، يدعوه إلى الإسلام. قال: من ينطلق بكتابي هذا فيسير إلى هرقل وله الجنة فقال دحية : أنا يا رسول الله، فدفعه إليه.
أنس ابن مالك رضي الله عنه: جاء في كتاب السيرة عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم علينا، وما هو إلا أنا وأم حرام خالتي. فقالت أمي : يا رسول الله خويدمك أنس، ادع الله له. فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا: «اللَّهمَّ أكثر ماله وولده وبارك له فيه وأطل عمره واجعله رفيقي في الجنة» فكان أنس يقول بعد أن طال عمره وكثر ماله وولده: وأنا أرجو هذه، يعني مرافقته صلى الله عليه وآله وسلَّم في الجنة.
زید بن صوحان روى ابن عدي والبيهقي: أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم قال في زيد بن صوحان العبدي: يسبقه عضو من أعضائه إلى الجنة». فقطعت يده في الجهاد. مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء في "سنن سعيد بن منصور" وكتب السيرة أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم لما جرح في وجهه
يوم
مص
أحد . مالك
سنان بن
جرحه حتى
أنقاه، ولاح بعد المص أبيض،
فقال: «مجه» فقال: لا والله لا أمجه أبدا، ثم ازدرده. فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه
٢٦٢
الأدب والمتفرقات
وآله وسلم: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا»
فاستشهد يومئذ بأحد، رضي الله عنه.
عبد الله بن الزبير روى الشعبي، قال: هاج الدم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحجمه أبو طيبة، فقال: «اشکموه» فأعطوه دينارا، وقال لابن الزبير «واره» يعني الدم فتوارى ابن الزبير، فشربه. فبلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم فعله. فقال: «أما إنه لا تصيبه أو لا تمسه النار».
صفية بنت عبد المطلب: روى الترمذي وغيره أن صفية أم الزبير بن العوام، قالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال لها مداعبًا: «يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز فجزعت فقال لها: «إنك تعودين إلى صورة
الشباب في الجنة إن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنشَأْتَهُنَّ إِنشَاءُ فَعَلْتَهُنَّ أَبْكَارًا ﴾ [الواقعة: ٣٥ - ٣٦] .
حفصة أم المؤمنين: روى ابن سعد عن قيس بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة. فقال: «أتاني جبريل فقال لي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجك في الجنة». ورواه الحاكم من حديث أنس نحوه، والبزار والطبراني من حديث عمار.
عمير بن الحمام رضي الله عنه : في صحيح مسلم" عن أنس في حديث غزوة بدر: أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض». قال عمر بن الحمام يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» قال: بخ بخ. قال النبي صلى الله عليه وآله
خواطر دينية جـا
٢٦٣
وسلم: «ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها وذكر الحديث وفي آخره: أنه استشهد في ذلك اليوم.
أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه: روى أبو داود والنسائي عن سهل بن الحنظلية: أنهم ساروا مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلّم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية ، فحضرت صلاة الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فجاء فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم طلعت على جبل كذا وكذا. فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بطعنهم
حتى
ونعمهم ونسائهم اجتمعوا إلى حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: «تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله تعالى» ثم قال: «من يحرسنا الليلة؟» قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال: «ارکب» فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال له: «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة». فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى مصلاه، فركع ركعتين. ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟ قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب. حتى إذا قضى صلاته وسلم. قال: «أبشروا فقد جاء فارسكم» فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني رسول
٢٦٤
الأدب والمتفرقات
الله صلى الله عليه وآله وسلّم . فلما أصبحت اطلعت الشغبين، فنظرت فلم أر أحدًا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «هل نزلت الليلة؟» قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة. فقال «أوجبت» . معناه، أوجبت الجنة لنفسك بحراستك الجيش المسلمين.
سعد بن ، مالك الأنصاري رضي الله عنه ثبت في الحديث الصحيح عن أنس وعبد الله بن عمر أنهم كانوا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» فطلع سعد بن مالك تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال. ثم قال لهم في اليوم الثاني واليوم الثالث: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلع سعد أيضًا في المرتين. فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، وبات عنده ثلاث ليال فم ير عنده كبير عمل. فذكر له الحديث، وسأله عما بلغ به تلك المنزلة؟ فقال له سعد: لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
سعد بن معاذ رضي الله عنه: لما ذهب خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، وأسر رئيسها أكيدر بن عبد الملك، وكان عليه قباء من ديباج مخوص - فيه مثل خوص النخل - منسوج بالذهب. فأخذه خالد منه، وبعث به إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فتعجب الصَّحابة منه. فقال صلى الله عليه وآله وسلّم لهم: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها».
أبو الدحداح رضي الله عنه : في صحيح مسلم" عن جابر بن سمرة
خواطر دينية جـا
٢٦٥
رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، قال: «كم من عذق معلق لأبي الدحداح في الجنة».
غلام حجام روى ابن حِبَّان ابن عبّاس قال: حجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلامٌ لبعض قريش. فلما فرغ من حجامته، أخذ الدم، فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدًا، فحساه: أي شربه حتى فرغ. يرأ ثم أقبل، فنظر صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في وجهه. فقال: «ويحك ما صنعت به». فقال: غيبته في بطني. فقال صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «اذهب فقد أحرزت نفسك من النار». أعرابي نجدي عن ابن عمر أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم مر بخباء أعرابي وهو في أصحابه، يريدون الغزو. فقال الأعرابي: من القوم؟ فقيل: رسول الله وأصحابه يريدون الغزو. فعمد إلى بكر له فاعتقله وسار معهم، فجعل يدنو ببكره إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و جعل أصحابه يذودون بكره عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «دعوا لي النجدي فوالذي نفسي بيده إنه لمن ملوك الجنَّة». قال فلقوا العدو فاستشهد، وذكر الحديث. رواه البيهقي.
رجل: في سنن الترمذي" عن عائشة: أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ قل هو الله أحد». فلما رجعوا أتاهم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، أخبروه الخبر، فقال: يا فلان ما يحملك على لزوم هذه السُّورة في كل ركعة؟» قال: إني أحبها.
٢٦٦
الأدب والمتفرقات
فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة».
رجل آخر : في "الموطأ" عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، مارا ببعض طرق المدينة. فسمع رجلًا يقرأ قل هو الله أحد.
فقال: «وَجَبَتْ فقلت: يا رسول الله ما وجبت؟ قال: «الجنَّة».
فتی: روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما أنزل الله عزَّ وجلَّ على نبيه صلى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية: تَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: ٦] .
تلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم على أصحابه فخر فتى مغشيا عليه فوضع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلم يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يا فتي، قل: لا إله إلا الله» فقالها: فبشره بالجنة. فقال أصحابه أمن بيننا يا رسول الله؟ فقال: أو ما
سمعتم قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: ١٤]. امرأة سوداء: في الصحيحين عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال هذه المرأة السوداء. أنت النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم . فقالت: يا رسول إني أصرع وإني أتكشف. فادع الله لي. قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك»
فقالت: أصبر . فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها. مسكينة أم بنتين: عن عائشة رضي الله عنها: قالت جاءتني مسكينة تحمل بنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى
خواطر دينية جـا
٢٦٧
فمها تمرة لتأكلها. فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما. فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، فقال: «إنَّ الله قد أوجب لها بهما الجنة» أو «أعتقها بهما من النار». نسأل الله أن يعتقنا من النَّار، ببركة نبينا المختار، صلى الله عليه وآله وسلّم وعلى آله الأبرار.
هذا آخر الخواطر الدينية أو القطوف الدانية.
ونستغفر الله بما حصل لنا فيها من خطأ ، وسهو، فإننا اعتمدنا في كتابتها على مجرد الذاكرة، ولم يتيسر لنا الاطلاع على شيء من المراجع إلا مراجع قليلة
لا يكاد عددها يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
والله المسئول أن يعمَّنا بعفوه وعافيته وغفرانه، إنه قريب مجيب.
٢ - خَوَاطِر دينية
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَيْكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمُ ) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمورِ ﴾ [الشورى: ٤٢ - ٤٣]
صدق الله العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مينها وحملها الإِنسَنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنْفِقِينَ وَالْمُنَفِقَاتِ
(vr)
والْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رحِيمًا [الأحزاب: ۷۲ - ۷۳] صدق الله العظيم.
خواطر دينية جـ ٢.
۲۷۳
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد الله المنعم الوهّاب الرحيم التوَّاب، فاتح الأبواب لمن التجأ إليه وأناب، وأحمده وأشهد أن لا إله إلا هو شهادة عبد مخلص أوَّاب، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد المقربين الأحباب، صلى الله عليه وآله وسلّم صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم المئاب، والرضا عن آله الأكرمين، وسائر الأصحاب.
أما بعد: فهذا هو الجزء الثاني من خواطر دينية» وهو على نمط سابقه في اشتماله على بحوث وفوائد وأحكام في مسائل مختلفة، بعضها مبتكر جديد، لم أسبق - بفضل الله - إليه وأوردت فيه محاضرتين قيمتين، ألقاهما أخي العلامة المحقق السيد حسن حفظه الله، وأدام توفيقه.
إحداهما عن المرأة في الإسلام، بيَّن فيها كذب المستشرقين والمبشرين وأذنابهم، الذين يزعمون أن الإسلام بخس المرأة حقها وعزلها عن شئون الحياة عزلا تاما. والأخرى عن الزوايا الصوفية، وأثرها في نشر الإسلام، وبث تعاليمه في القارة الأفريقية. وما قام به رجالها من محاربة المستعمرين والمبشرين، بالسيف والقلم، وبالجهاد والجدال حتى اعترف لهم بذلك أعداء الدين أنفسهم،
وصرحوا أن لا أمل لهم في نشر المسيحية، ما دامت الزوايا قائمة.
والمحاضرتان تنبئان عن اطلاعه وجودة نظره، ودقة استنباطه، زاده الله
علما وتوفيقا وتحقيقا.
٢٧٤
الأدب والمتفرقات
كذلك أدرجت فيه بحثاً نفيسا لصديقنا الدكتور عز الدين عبد القادر - بارك الله في عمره - بيّن فيه بالأدلة الواضحة أن الإسكندر الأكبر، ليس هو ذا القرنين المذكور في القرآن؛ خلافًا لما يعتقده كثير من الناس، بل هو غيره. وذكر اسمه، وحدد موضع السد الذي بناه تحديدًا علميا مطابقا للحقيقة والواقع، فكشف بذلك عن كثير من الاستفهامات والتخمينات التي كانت تدور حول سد ذي القرنين؟ وهل هو سور الصين العظيم ؟ أم غيره؟ فهو بحث ممتع أمتع الله بصاحبه، وأطال عمره في عافية.
وأرجو أن ينفع الله بهذا الجزء، كما نفع بصنوه، وأن يجعلهما خالصين لوجهه الكريم. إنه قریب مجیب، سميع الدعاء لطيف لما يشاء.
خواطر دينية جـ ٢
۲۷۵
اتحاد البلاد الإسلامية في الصوم
كتب شقيقنا الحافظ أبو الفيض - رحمه الله تعالى- كتابا بين فيه بالدلائل القوية المتعددة، وجوب اتحاد المسلمين في مواعيد الصيام في رمضان، ومواعيد الإفطار بانتهائه، بحيث إذا رُئي الهلال في مصر مثلا، وجب العمل بتلك الرؤية في بلاد المغرب وبالعكس. وهذا الرأي موافق لروح الشريعة
الإسلامية.
فإن الدين الإسلامي أتى بتوحيد الله، وإفراده بالعبادة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا ليَعْبُدُوا إِلَهَا وَاحِدًا} [التوبة: (۳۱] وفرض على المسلمين حج بيت واحد وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: ٩٧] وأوجب عليهم الاتجاه إليه في صلاتهم أينما كانوا وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: ١٤٤] وجعل لهم عيدا في الأسبوع، يجتمعون في المساجد حيث يستمعون إلى درس ديني، يعرفون منه أحكام دينهم يتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: ٩] وذكر الله خطبة الجمعة ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله
().
(۱) رأيت وريقات زعم كاتبها أن المراد بذكر الله : صلاة الجمعة. وهذا من بدع التفاسير، وهو باطل من وجوه أحدها: مخالفته لسياق الآية؛ لأن بقيتها تقول: ﴿وَإِذَا رَأَوْا حَرَةً أَوْلَهَوا أَنفَضُوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ فَايما ﴾ [الجمعة: ۱۱] ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أنهم لما
٢٧٦
الأدب والمتفرقات
خرجوا لاستقبال العير التي جاءت من الشام تحمل الطعام تركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما يخطب على المنبر ، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا. وهذا يبين أن ذكر الله
في الآية: خطبة الجمعة، ومن هذه الآية أخذ العلماء أن الخطبة تكون من قيام. ثانيها: قوله في الحديث الذي أوردناه فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» يفسر الذكر في الآية بالخطبة، وخير ما فسر به الوارد. فلا يجوز العدول عنه
إلى غيره. ثالثها: لو كان المراد الصلاة، لقيل: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إليها. فإنه أوضح وأوجز، وليس هذا من المواطن التي يستحسن فيها الإطناب، بذكر
الظاهر بدل المضمر، كما يعلم من علم المعاني.
رابعها تقرر في علم الأصول : أن الكلام إذا احتمل تأسيسا وتأكيدا، وجب حمله على الأول دون الثاني. وعلى هذا إذا فسر ذكر الله بالصلاة، كانت الآية مؤكدة لما أفادته آيات كثيرة، من وجوب الصلاة وحتى لو ادعى مدع أنها أفردت بالذكر اعتناء بها، فإن الاعتناء تأكيدًا أيضًا. بخلاف ما لو فسرناه بالخطبة، فإن الآية حينئذ تفيد معنى جديدًا وتؤسسه، وهو وجوب السعي للخطبة.
خامسها المقرر في علم الأصول أيضًا أن الصلاة واجب موسع، وليس مضيقا كالصوم. والواجب الموسع لا يجب السعي إليه في أول وقته، بإجماع العلماء. وبدليل أن الله تعالى لم يوجب السعي إلى صلاة الظهر، في بقية أيام الأسبوع، فلما أوجب السعي عند نداء الجمعة خاصة، علمنا أن السعي لأمر غير الصلاة : وهو الخطبة
جزمًا.
سادسها: أن الصلاة متماثلة في سائر الأيام، لا فرق بين الجمعة ولا غيرها. إذ هي كما قال الفقهاء: عبادة ذات أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. والجماعة
خواطر دينية جـ ٢
۲۷۷
مشروعة فيها في سائر الأيام أيضًا، وجوبًا أو ندباً كما هو معروف، فلما أوجبت الآية السعي عند نداء الجمعة، علمنا بالضرورة العقلية أن السعي ليس لأجلها، بل لأجل الخطبة التي لا تكون إلا في ذلك اليوم.
سابعها أن الصلاة لا تسمى ذكر الله حقيقة لغوية ولا شرعية. وفي القرآن آيات تدل على أن الصلاة غير ذكر الله. اقرأ قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ لِذِكْرِى } [طه: ١٤] فهذا دليل قاطع على أن الصلاة غير الذكر. ولو كانت عينه، لكان معنى الآية: وأقم الذكر لذكري. وهو معنى سخيف يتنزه القرآن عنه. وقوله تعالى: رِجَالُ لا تُلْهِيهِمْ تِجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلوة ﴾ [النور: ۳۷] دليل أيضًا على أن الصلاة غير الذكر، إذ لو كانت عينه ، لكان المعنى: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام ذكر الله، وهو سمج ركيك، وقوله عزَّ وجلَّ: (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: ٤٥] كسابقيه تغايرهما.
ثامنها: قد يطلق لفظ الذكر على الصلاة، مجازا مرسلا، علاقته الكلية والبعضية. لكن لا يخفى على من مارس قواعد الأصول أن آيات الأحكام لا تحمل على المجاز، بل يجب حملها على الحقيقة، والخطبة ذكر الله حقيقة لغوية وشرعية، فتفسير الآية بها متعين. تاسعها: صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن من لغا يوم الجمعة والإمام يخطب فليست له جمعة، وأن من مس الحصى فقد لغا، ومن قال لصاحبه: أنصت، فقد لغا، وهذا دليل قاطع على أن السعي لأجل الخطبة. وهو يرد قول من زعم أن استماع الخطبة مندوب، وهو زعم فاسد. إذ كيف يكون استماع الخطبة مندوباً، والأحاديث تفيد بطلان جمعة من يلغو فيها؟!! عاشرها: أن الأحاديث الصحيحة التي أخبرت بكتابة الملائكة لأسماء المبكرين إلى يوم الجمعة، صرحت بأنه إذا خرج الإمام، طوت الملائكة الصحف
المسجد
وجلست لاستماع الذكر، يعني الخطبة، ولم يرد في شيء من طرق تلك الأحاديث: أن
۲۷۸
الأدب والمتفرقات
صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن اغْتَسَلَ يومَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنابَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأولى فكأنما قرَّبَ بَدَنَةً، ومَن راحَ في السَّاعَةِ الثانيةِ فَكَأَنَّها قَرَّبَ بِقَرَةً، ومَن راح في السَّاعَةِ الثالثة فكأنما قَرَّب كبشًا أَقْرَنَ، وَمَن راحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فكأنما قَرَّبَ دَجَاجَةً ، ومَن راحَ في السَّاعَةِ الخامسة فكأَنها قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإمامُ حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذَّكْرَ » (1) .
وشرع الجماعة في الصلوات الخمس ليجتمع المسلمون بعضهم ببعض، كل يوم خمس مرات ونهى عن الفرقة والاختلاف، وعما يؤدي إليهما من قول وعمل. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم «يد الله على الجماعة» ()، فإذا اتحد
فصلى
الملائكة يستمرون في كتابة الصحف إلى حين إقامة الصلاة، وهذا دليل قاطع على أن السعي لأجل استماع الخطبة. حادي عشرها: أنه اجتمع في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم يوم عيد وجمعة، صلاة العيد، وخطب خطبته وقال في آخرها وإنا مجموعون» ورخص بهم لأهالي العوالي ألا يحضروا معه صلاة الجمعة؛ لأن الغرض من حضورها سماع الخطبة، واستفادة ما فيها من أحكام ومواعظ وقد استفادوا ذلك من سماع خطبة العيد، فيمكنهم أن يصلوا الظهر في مسجدهم بالعالية، من غير أن يتحملوا مشقة السعي إلى المدينة. (1) أل للعهد، أي الذكر المعهود، وهو الخطبة. فالحديث رتب فضل التبكير إلى الجمعة على استماع الخطبة، بحيث أن الملائكة الذين يكتبون المبكرين إلى المسجد يطوون صحفهم إذا خرج الإمام، ويجلسون لاستماع خطبته.
(۲) كثير من الناس يقولونه بلفظ : مع الجماعة» ولم يصح في شيء من طرق الحديث، وإنها
ثبت بلفظ : « على الجماعة» وهو الموافق للقرآن يدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: ١٠].
خواطر دينية جـ ٢
۲۷۹
المسلمون في مواعد الصوم والإفطار، مع تنائي البلاد، وبعد الديار، كان ذلك مظهرا من مظاهر الوحدة التي جاء بها الدين، بل هي المقصودة من معظم أحكامه.
ومع قوة هذا الرأي، وموافقته لحكمة التشريع، عارضه بعض أفاضل علماء المغرب معارضة واهية، لم يأت فيها بدليل ، ولا شبه دليل، غير أنه أبدى إشكالا، ظنه ناقضا لذلك الرأي من أساسه.
حيث قال : إذا ظهر الهلال بالمشرق، فإن الوقت يكون في المغرب، العصر أو بعده بقليل، وعليه فيجب على من يعمل برؤية المشرق؛ أن يمسك عن المفطرات في ذلك الوقت؛ لأنه نهار رمضان برؤية المشرق، وقد يكون اليوم الذي يمسكون فيه عن الطعام اليوم التاسع والعشرين، فإذا اعتبر من رمضان صار شعبان ثمانية وعشرين يوما. هذا حاصل إشكاله، وبيان فحواه. وهو إشكال باطل، وعن حلي التحقيق عاطل وإني لأعجب من صاحبه كيف خفي عليه بطلانه؟ وهو واضح وضوح الشمس في كبد السماء !! أم كيف تخيله أمرًا ثابتا مع أنه هباء في هباء؟!! يحسبه الناظر فيه شيئًا، وهو شيء لا يُعبأ به، ويخاله القارئ له كلاما، وهو هذر وهراء.
وقبل كشف أستاره، وإبداء عواره نبين حقائق متفقا عليها بالإجماع، تحريرا لمحل النزاع. 1 - لا خلاف بين المسلمين أن الله تعالى ربط عبادتي الحج والصوم برؤية هلال الشهور العربية. قال تعالى: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج [البقرة: ۱۸۹] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «صوموا لرؤيته
۲۸۰
وأفطروا لرؤيته».
الأدب والمتفرقات
٢- ولا خلاف أن الليل في عرف الشرع، يبتدئ بغروب الشمس، وينتهي بطلوع الفجر، حيث يبتدئ النهار ، وينتهي بالغروب. قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا القِيَامَ إِلَى اليل ﴾ [البقرة: ۱۸۷].
وقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أدبر النهار من ههنا -يعني
(1)
المشرق وأقبل الليل من ههنا - يعني المغرب - فقد أفطر الصائم. وبما كان
يدعو به صلى الله عليه وآله وسلَّم عند أذان المغرب: «اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي». ٣- ولا خلاف أيضًا أن الليل ينسب إلى اليوم الذي يسفر عنه صباحه، لا لليوم السابق. قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَا بِكُمْ [البقرة: ۱۸۷] أي ليلة يسفر صباحها عن يوم الصيام.
٤ - ولا خلاف بين العقلاء: أن الهلال يظهر بعد غروب الشمس، أي بعد دخول الليل.
والذي نقوله وندعو إليه أنه إذا ظهر الهلال في بلد، وجب العمل به على البلاد التي تشاركه في جزء من الليل. فلو ثبتت رؤية هلال رمضان في الحجاز
(1) أخذ منه التقي السبكي أنه لو حلف شخص صائم ألا يفطر على طعام حار ولا بارد، فإنه يتحلل بأذان المغرب من يمينه وبعضهم قال: يتحلل من يمينه بالفطر على
الجماع.
خواطر دينية جـ ٢
۲۸۱
مثلا، وجب الصيام على العراق وإيران وتركيا والشام ومصر والسودان وشمال إفريقيا، وإن كان بعض هذه البلاد يتقدم على الحجاز في الوقت ساعة أو أقل أو أكثر، وبعضها يتأخر عنه ساعة أو أقل أو أكثر. فإنها جميعا تشاركه في جزء من
الليل الذي هو وقت ظهور الهلال، ووقت رؤيته، ووقت نية الصوم أيضًا. فمناط وجوب الصوم كما تبين - هو اشتراك البلاد مع بلد الرؤية في جزء من الليل، ولا يضر التقدم عليه أو التأخر عنه بساعة أو ساعتين أو أربع ساعات، أو أقل أو أكثر. فإن العراق يسبق الحجاز بنحو نصف ساعة، والحجاز يسبق المغرب بنحو ثلاث ساعات لكنها تشترك جميعا في الليل، فيجب الصوم على أحد هذه البلاد، برؤية البلد الآخر. هذا تحرير محل النزاع، وتحقيق مناط الحكم فيه.
ثم الذي يترتب على رؤية الهلال وجوب صوم اليوم الذي يلي ليلة الرؤية، وتنسب هي إليه. فإذا رئي الهلال غروب يوم الخميس، وجب على بلد الرؤية والبلاد التي تشاركه في الليل، صوم يوم الجمعة؛ لأن الهلال رئي في ليلته. ولا يجب صوم يوم الخميس، ولا الإمساك عن الطعام فيه؛ لأن الهلال إنما رئي بعد انتهائه. ولم يقل أحد من علماء الدين ولا الفلك: يجب الإمساك عصر يوم الخميس بالمغرب لرؤية الهلال ليلة الجمعة بالمشرق الميقل هذا أحد قبل صاحب الإشكال. ودعواه أن برؤية الهلال في المشرق يصير اليوم في المغرب معدودًا من أيام رمضان، تخريف ما بعده تخريف؛ لأن يوم الخميس انتهى في المشرق ولمير فيه هلال، ثم بعد انتهائه ودخول ليلة الجمعة، رئي الهلال. فكيف ينسحب حكم
أن
۲۸۲
الأدب والمتفرقات
ليلة الجمعة في المشرق، على يوم الخميس في المغرب؟!! فنجعله من رمضان!! مع أن المشرق الذي وقعت فيه الرؤية، لا يصوم إلا يوم الجمعة!! وهل يعقل يسبق المغرب المشرق بالصوم؟! مع أن المشرق هو السابق بالزمان وبالرؤية؟! ما هذا التخليط والتخريف ؟! بل ما هذا المحال؟ يا صاحب الإشكال !! أيكون كل من المغرب والمشرق سابقا مسبوقاً في آن؟! ألم تعلم أن هذا دور؟ وأن الدور محال في قضايا العقول؟ كما هو مقرر في علمي الكلام
والأصول ؟! فإشكالك الذي أفضى إلى هذا المحال العقلي باطل عقلا. ويبطله من الناحية الشرعية أيضًا أنه لو فرض ظهور الهلال في الحجاز عصر يوم الخميس، لم يجب الإمساك على الحجازيين، ولا على المغاربة بطريق الأولى؛ لأن المقرر عند علماء الفقه : أن ظهور الهلال نهارا، يعمل به في الليلة المقبلة. قال الشيخ خليل في "المختصر": ورؤيته نهارًا للقابلة. وفي "حاشية الصفتي على العشماوية" - أثناء كلام ما نصه: «لأن العلماء نصوا على أنه إذا ظهر الهلال نهارًا، كان لليلة المقبلة، سواء رآه قبل الزوال أو بعده. ويستمرون
على الفطر إن كان آخر شعبان وعلى الصوم إن كان آخر رمضان». انتهى. فإذا كان ظهور الهلال نهار يوم الخميس، لا يوجب إمساك بقية اليوم؛ لأن الهلال يعتبر فلكيا هلال ليلة الجمعة. فكيف يدعي صاحب الإشكال وجوب الإمساك عصر يوم الخميس، برؤية الهلال في ليلة الجمعة؟ وعلى أي شيء استند في دعواه؟ وليس معه ما يؤيده، لا نص فقهي، ولا قاعدة فلكية فليراجع نفسه، وليسلك سبيل الإنصاف، نابذا سبل التعصب والاعتساف.
خواطر دينية جـ٢ .
۲۸۳
وليكن في إنصافه، وسرعة رجوعه للحق، مثل القاضي الفاضل رحمه الله. فقد قال العلامة القاضي ناصر الدين أحمد بن المنير، في كتاب "الانتصاف" - عند الكلام على قوله تعالى: نَبَت وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم: ٥]- ما نصه: «وقد ذكر لي الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب رحمه الله : أن القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني الكاتب رحمه الله كان يعتقد أن الواو في الآية، هي التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية؛ لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة. فكان الفاضل يتبجج باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة : أحدها التي في الصفة الثامنة من قوله: التَّنْبِبُونَ الْعَدُونَ ﴾ [التوبة: ۱۱۲] عند قوله: وَالتَاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ [التوبة: ١١٢].
والثانية في قوله: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [الكهف: ٢٢].
والثالثة في قوله: ﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ [الزمر: ٧٣].
قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه، إلى أن ذكره يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقري، فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل .
وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري، من دعاء الضرورة إلى الإتيان بها ههنا؛ لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد. وواو الثمانية – إن
().
ثبتت - فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها، إلا للإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو
(1) وتسمى صلة أي زائدة.
٢٨٤
السبعة. فأنصفه الفاضل رحمه الله، وقال: أرشدتنا أبا الجود».
الأدب والمتفرقات
فلينصف صاحب الإشكال من نفسه، فإن الإنصاف شيمة العلماء،
وسيزيده إنصافه رفعة عند الله، ومكانة عند الناس.
لا يجوز وصف النبي بالثائر
درج كثير من الكتاب في محاضراتهم ورسائلهم، على وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه الثائر الأول. وقد وجه إلي الأستاذ الكبير أبو الخير نجيب سؤالا في هذا الموضوع، قال فيه: هل يصح أن يوصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان ثائرا؟ وأن الإسلام ثورة؟
وكلمة الثائر تفيد معنى الانفجار والطيش والهيجان، فيحرم إطلاقها على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو فرضنا أن لها معنى صحيحًا. أولا: أن العلماء نصوا على أن من وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بغير صفته كأن قال هو أسود، فإنه يكفر؛ لأن وصفه بغير صفته يقتضي التكذيب بوجوده. وبيان ذلك: أنك إذا قلت: رأيت زيدا من الناس، فسألك من يعرفه بقوله: صفه لي. فقلت: هو أسود، والواقع أنه أبيض أو قلت هو قصير، والواقع أنه طويل. فإنه يقول لك على الفور: ليس هو زيدا فنفى ذات الشخص؛ لانتفاء صفته.
فالذي يقول : كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسود، أو ثائرا. يتضمن كلامه نفي وجوده عليه الصلاة والسلام؛ لأن محمدا النبي المعروف كان غير أسود، وغير ثائر.
خواطر دينية جـ ٢
٢٨٥
ثانيا: أن نسبة وصف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنسبة حديث إليه. فكما يجب التثبت في نسبة الحديث، بحيث لا يقال: قال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم كذا، إلا إذا كان ذلك الحديث صحيحا بالطرق المعروفة عند المحدثين. كذلك يجب التثبت فيما ينسب إليه من صفات، فلا تنسب إليه صفة إلا إذا ثبت اتصافه بها. ولو نسب شخص إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا أو صفة، وهو غير واثق بصحتها، كان كاذبًا عليه صلى الله عليه وآله وسلم، يتبوأ مقعده في جهنم نسأل الله العافية. ولا شك أن الذي يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ثائر ، لا يجد ذلك الوصف في شيء من كتب السيرة
النبوية، والشمائل المحمدية. لا باللفظ، ولا بالمعنى، فهو لا محالة كاذب. ثالثًا: أن الإسلام كمل واستقر في مدى ثلاث وعشرين سنة، مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم منها ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى التوحيد بمكة، وفرضت الصلاة ليلة الإسراء، فلما هاجر إلى المدينة، فُرض الصوم والزكاة في السنة الثانية من الهجرة، ثم فرض الحج في السنة السابعة، وحرمت الخمر بعد الهجرة على ثلاث مراحل. وهكذا توالت فرائض الإسلام وأوامره ونواهيه، متدرجة بالترتيب، حتى أنزل الله تعالى في حجة الوداع: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣] فلا يجوز أن يقال: الإسلام دين الثورة؛ لأنه يخالفها بطبيعة تكوينه، وبأوامره التي تحض على التأني والتريث، ومعالجة ما يشكل من الأمور بالحكمة وبنواهيه التي تذم العجلة، وسرعة الاندفاع.
٢٨٦
الأدب والمتفرقات
لا يقال: «الله محبة»
غنت أم كلثوم أغنية، جاء فيها جملة: الله محبة، فاندفع الشعب يكرر هذه الجملة بين حين وحين. وتحملت أم كلثوم وزر إشاعتها، وترديد الشعب لها؛ لأنها حرام في حكم الشرع، بل تكون كفرًا لمن فهم معناها وأطلقها مع ذلك على الله تعالى وبيان تحريمها من وجوه
الأول: أن هذه الكلمة مأخوذة عن النصارى، فهم الذين لهجوا بها، وجعلوها شعارهم، ووضعوها على مكاتبهم، فلا يجوز لنا معشر المسلمين أن نستعملها؛ لأنهم لا يتحرزون عن وصف الله بما لا يليق به، فقد وصفوه بأنه أحد الأقانيم الثلاثة، ومنهم من وصفه بأبوته لعيسى، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فكل وصف انفردوا هم أو اليهود بإطلاقه على الله تعالى، يحرم علينا أن
(1)
نقلدهم فيه، وأن نستعمله كما استعملوه الثاني: أن المحبة مخلوقة الله تعالى والخالق غير المخلوق بالضرورة، كما أن الصنعة غير الصانع. وإذا كان لا يصح في اللغة والعرف، تسمية الصانع باسم صنعته فلا يسمى النجار بابا، ولا المهندس قنطرة؛ لأن الباب والقنطرة مصنوعان للنجار والمهندس. فكذلك لا يجوز ولا يصح أ أن يسمى الله محبة؛
لأنها من جملة مخلوقاته التي أوجدتها قدرته سبحانه.
الثالث: أن المحبة في اللغة: ميل القلب إلى الشيء، فمحبة المرأة ميل قلب
(1) من ذلك وصف الله بالأب في قولهم أبانا الذي في السماء، فلا يجوز إطلاقه على الله
حقيقة ولا مجازا.
خواطر دينية جـ ٢
۲۸۷
الرجل إليها لجمالها، ومحبة المال ميل القلب لجَمْعِه. ومحبة الخير ميل القلب لفعله. فالمحبة معنى قائم بقلب الإنسان أو الحيوان. فإذا قيل: الله محبة، فمعناه أن الله تعالى معنى وعَرَض قائم بقلب كل إنسان وحيوان. وهذا المعنى إذا قصده الشخص، كان كافرًا بإجماع المسلمين؛ لأن الله ليس بجسم ولا عرض
بل هو ذات منزه عن صفات المخلوقات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: ١١].
الرابع: أن المحبة مع كونها معنى كما تقدم- تتعلق بالأشياء التي يبغضها الله، فمن الناس من يحب الكفر، ومنهم من يحب القتل، ومنهم من يحب الزنا ومنهم من يحب الخمر، إلخ.
فإذا قلت: الله محبة، فقد وصفته بأنه محبة الكفر والقتل والزنا.. إلخ، وهذا
كفر لا شك فيه.
فإن قيل: بل المراد الله محبة الناس بعضهم لبعض، أو محبة الخير للناس. قلنا: هذا التقدير مع ركاكته - لا يفيد ولا ينفع؛ لأن اللفظ مطلق، يصدق بكل محبة، وتقييده بما ذكر لا يجدي؛ لأنه لا دليل عليه. ومن القواعد المقررة: أن المراد لا يدفع الإيراد.
الخامس: أن تلك الكلمة تفيد انحصار معنى الله في المحبة، وهو كذب ومخالفة للواقع؛ لأن الله تعالى يبغض الكفار، ويبغض المنافقين، ويبغض الفاسقين، ويبغض الظالمين، ويبغض القتلة، ويبغض المتكبرين. والأشياء التي يبغضها الله، أكثر من الأشياء التي يحبها الله ؛ لأن أهل الكفر والفسوق
۲۸۸
الأدب والمتفرقات
والعصيان أكثر من أهل الطاعة والإيمان بدليل قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: ١٠٣] وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: ١١٦] ومن المحرم قطعا: أن يوصف الله
بصفة تكون كذبًا، كتلك الكلمة الآثمة.
السادس: أن العلماء قرروا أنه لا يجوز وصف الله بصفة إلا إذا جاءت في القرآن الكريم، أو في الحديث الصحيح، وتلك الكلمة لم تأتِ في آية قرآنية، ولا في حديث نبوي. بل هي مأخوذة عن النصارى كما قدمنا، فلا يجوز وصف الله بها
جزما.
السابع: أن وصف الله بتلك الكلمة إلحاد في أسمائه، وقد توعد الله الملحدين في أسمائه بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَتَبِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: ۱۸۰].
والإلحاد في أسماء الله : تسميته بما لم يسم به نفسه مما لا يليق بكماله. قال الزمخشري: «كما سمعنا أهل البدو الجهلهم يقولون: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخوي». انتهى.
وكلمة: «الله محبة مثل ما حكاه عن أهل البدو، بل هي أقبح؛ لأنها تفيد أن الله عرض قائم بغيره، كما قدمنا .
الثامن: أن العلماء صرحوا بأنه إذا كان للكلمة معنيان: معنى سليم ومعنى فيه إيهام نقص بالنسبة الله تعالى لا يجوز إطلاقها عليه بالمعنى السليم؛ منعا لإيهام النقص في حقه سبحانه.
خواطر دينية جـ ٢
۲۸۹
ومثلوا لذلك بالعلم الضروري. فإن له معنيين:
أحدهما: ما لا يتوقف على نظر واستدلال، وعلم الله وإن كان كذلك، لا يطلق عليه ضروري. منعا للإيهام الذي يفيده.
المعنى الآخر، وهو ما يلجأ صاحبه إليه ولا يمكنه دفعه. والله تعالى منزه
عن ذلك، لا يلجئه شيء إلى شيء. وإنما يقال: علم الله حضوري بمعنى
أن
معلوماته كلها حاضرة، لا يغيب عنه منها شيء. وتلك الكلمة الآثمة لو مضاف بأن يقال: الله ذو محبة فإنه لا يجوز
أمكن تصحيح . معناها بتقدير . إطلاقها في حقه سبحانه ، لمعانيها القبيحة التي سبق بيانها.
لا يقال: «اسع يا عبدي وأنا أسعى معك
يتردد كثيرًا على ألسنة المصريين تلك العبارة. يقولونها في معرض النصيحة للشخص الذي يكون متكاسلاً عن السعي في طلب المعيشة، ويسوقونها مساق آية، أو حديث قدسي حيث يقولون ربنا قال: «اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك». والسعي في طلب المعيشة ليقوت الشخص نفسه أو أهله، واجب لا شك فيه، حض عليه القرآن والسنة؛ لكن الاستدلال بتلك الجملة، لا يجوز
لوجهين أحدهما: أنها ليست بآية من القرآن الكريم، ولا جملة من حديث قدسي
فنسبتها إلى الله كذب عليه . وهو كبيرة، بل يصل إلى الكفر.
والآخر أن نسبة السعي إلى الله لا يقره الدين؛ لأن معنى السعي حركة الشخص في تجارته، أو صناعته، أو زراعته طلبًا للرزق، والله تعالى منزه عن
۲۹۰
الأدب والمتفرقات
السعي لا يوصف بحركة، ولا سكون لاستحالتهما في حقه سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: ١١].
فصواب العبارة أن يقال: اسع يا عبدي وأنا أوفقك، أو أيسر لك
الأسباب. كما تقول الحكمة الصوفية: «إذا أراد الله أمرًا يسر أسبابه».
فإن قيل: المراد بأسعى معك أو فقك على سبيل المجاز كما ثبت في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها أي كنت موفقا له في هذه الأعضاء، أو حافظا لها، فلا يرتكب بها معصية.
فالجواب: أن المجاز في هذا الحديث واضح لا يخفى على عامة الناس، ولا مثقفيهم. فإن أحدا لا يخطر بباله أن يكون الله يد شخص أو عينه مثلا بخلاف السعي في تلك الجملة، فإن كثيرًا من الناس يجوز في حق الله أن يتحرك ويسكن، ولا يدرك أن ذلك محال ؛ لأنه من لوازم الجسمية، والله ليس بجسم. ولو سلمنا أنه مجاز واضح بقي الوجه الأول واردا، وهو كذب تلك الجملة؛ لأن الله لم يقلها، وهو كافٍ في تحريم نسبتها إليه.
نكت في فهم آيات
قال الله تعالى: تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِن الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ [آل عمران: ۲۷] إيلاج الليل في النهار، يكون بأخذ جزء من النهار وضمه إلى الليل، وإيلاج النهار في الليل، يكون بأخذ جزء من الليل وضمه إلى النهار. ولما كان الإيلاج فيه إفناء جزء من الليل في النهار
خواطر دينية جـ ٢
۲۹۱
وبالعكس، ذكر معه في سياقه، إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، لتناسب بينهما بالتضاد؛ لأن في الأول إدخال شيء في شيء، وفي الثاني إخراج شيء من شيء.
وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اليْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرُ ﴾ [الحج: ٦١] ذكرت هذه الآية دليلا على قدرة الله، على نصرة المبغي عليه المظلوم؛ لأن من قدر على إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وهما يغشيان الدنيا؛ قادر على أن يأتي بالليل أو النهار الذي ينصر فيه المظلوم على ظالمه ويأخذ له حقه منه. وختمت بصفتي السمع والبصر؛ إشارة إلى أنه يسمع استغاثة المظلوم، ويبصر فعل الظالم.
وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُل يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [لقمان: ٢٩]. ذكرت الآية دليلا على قرب البعث المذكور في الآية السابقة: مَا خَلَقَكُمْ وَلَا بَعْتُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِير } [لقمان: ۲۸] والمعنى: ألم تر أن الله يدخل الليل في النهار، فيصير النهار قصيرا والليل طويلا، ويدخل النهار في الليل، فيصير النهار طويلا والليل قصيرا، فينهي آجالكم بتعاقبهما عليكم. وسخر الشمس والقمر لمصلحتكم، كل من الليل والنهار والشمس والقمر يجري إلى أجل مسمى عند الله، وهو فناء الدنيا وانتهاء الحياة فيها، حيث يبعثكم للحساب والجزاء، وختمت بجملة : وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: ٢٩]؛ لبيان أن الأعمال لا تخفى عليه، كما قال في (سورة الحاقة): يَوْمَذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُر خَافِيَةٌ *
۲۹۲
[الحاقة: ١٨].
الأدب والمتفرقات
وقال سبحانه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ويكورُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى الا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّرُ } [الزمر: ٥] ذكر التكوير في هذه الآية؛ إشارة إلى سرعة مرور الوقت، كما قال في الآية الأخرى: يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِينًا
[الأعراف: ٥٤] وإشارة إلى كروية الأرض التي يلفها الليل والنهار.
ولما كان السياق هنا في الرد على المشركين وإثبات وحدانية الله وتفرده بخلق السموات والأرض، ختمت الآية بصفتي العزيز الغفار، لبيان أن مع تفرده بالعزة والقوة، يمهل المشركين فلا يعاجلهم بالعقوبة، وإذا رجعوا إلى التوحيد والإيمان، غفر لهم.
الحكمة من اختصاص مريم وولدها عيسى عليهما السلام
بأن الشيطان لم يمسهما عند ولادتهما ؟
سئلت: لم اختصت مريم وولدها عيسى عليهما السلام، بأن الشيطان لم
يمسهما عند ولادتهما ؟
والجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان عند ولادته فيستهل صارخا من
مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ذهب يطعن فطعن في الحجاب». والحكمة في ذلك: أن مريم نذرتها أمها الله تعالى وهي لا تزال في بطنها:
قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنْ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
خواطر دينية جـ ٢
۲۹۳
العليم } [آل عمران: ٣٥] فلم يكن الشيطان ليقدر على مسها، وهي منذورة الله تعالى، لاسيما وقد قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: ٣٧]. فكيف يتعرض الشيطان لمن تقبلها الله؟ وأما عيسى عليه السلام فلم يمسه الشيطان؛ لأن جدته قال عن والدته مريم: وَإِنِّي أُعِيدُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: ٣٦] فكانت استعاذتها حجابًا له عند ولادته.
فإن قيل: لريمس الشيطان المولود حين ولادته؟
قلنا: لما امتنع من السجود لآدم عليه السلام، ولعنه الله على ذلك وطرده من رحمته، سأل النظرة إلى آخر الدنيا لَنْ أَخَرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لَأَحْتَنِكُنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءُ مَوْفُورًا [الإسراء: ٦٢ - ٦٣] ومعنى لأحتنكن ذريته لأستولين عليهم. فكان مسه للمولود علامة على تمكنه منه واستيلائه عليه. وهذا كما يتبارز شخصان بسيف، فيضرب أقواهما مبارزه بصفح.
تعصب مذموم
التمسك بالحق، وعدم التهاون فيه، والدفاع عنه من الخصال الحميدة التي تخلق بها الأنبياء، واقتدى بهم فيها عظماء الرجال فجاهدوا في سبيل نصرة الدين، ونشر لواء العدل، وبذلوا النفس والنفيس لإقامة الحق ودعم قواعده وأسسه.
أما التمسك بالباطل، أو ادعاء ما لا دليل عليه، أو رفع شخص مثلا فوق
٢٩٤
الأدب والمتفرقات
رتبته، فهو التعصب المذموم الذي يأثم صاحبه ويعاقب. فمن التمسك بالحق والثبات عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب لما طلب منه أن يهادن قريشًا، ويخفف عنهم وطأة الدعوة: «أي عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
ومنه قول أبي بكر لعمر -رضي الله عنهما - لما راجعه في قتال مانعي الزكاة، وخوفه مغبة محاربتهم، والله لو منعوني عقالًا كانوا: يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لقاتلتهم عليه.
ومنه: إصرار علي رضي الله عنه على عزل معاوية عن الشام، أو يبايع له؛ لأنه الخليفة الحق، بإجماع أهل الحل والعقد من الصحابة. ومن ثَمَّ أجمع العلماء على أن معاوية كان باغيا !
والتعصب - ولا يكون إلا مذموما - أنواع:
منه: ادعاء النصارى في عيسى أنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرًا. والواقع أن عيسى إنما هو رسول أرسله الله إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته فكفروا به وحاولوا صلبه، فنجاه الله منهم
ورفعه إليه.
ومنه قول اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، كما حكى الله عنهم في القرآن الكريم. فهذه الدعوى سببها الغرور ، ورضاهم عن أنفسهم، قال الله
تعالى: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: ٢٤].
:
يممَّا
خواطر دينية جـ ٢
٢٩٥
ومنه قول النضر بن الحارث عن القرآن الكريم : اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا
هُوَ الْحَقِّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ انْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: ٣٢]. وهذا تعصب ممقوت بالغ النهاية في التمسك بالشرك والضلال ومنه: التعصب لقراءة من قراءات القرآن الكريم، مثل ما ذكر السكندري في "شرح العشماوية": أن قراءة أهل الجنة، بقراءة ورش. وهذه دعوى لا دليل عليها. ولم لا تكون قراءة أهل الجنة بالقراءات المتواترة كلها؟ أو تكون قراءة كل جماعة منهم بالقراءة التي كانوا يقرءون بها في الدنيا؟ فالمغاربة والجزائريون والبلاد الأفريقية بقراءة ورش وتونس وليبيا بقراءة قالون، واليمن بقراءة نافع، والسودان بقراءة أبي عمرو، وبقية بلاد الإسلام بقراءة حفص لو قيل هذا لكان قولا وجيها.
ونظير هذه المسألة سؤال القبر، فقد اشتهر أن يكون بالسريانية لغة
الملائكة (). حتى قال الحافظ السيوطي في "منظومة التثبيت": ومن عَجِيبِ ما ترَى العَيْنَانِ أَنَّ سُؤالَ القَبْرِ بالسرياني نَصَّ عليه شَيْخُنا البلقيني ولم أرَهُ لغَ يره بعيني وسئل عنه الحافظ ابن حجر، فقال لم يرد في ذلك حديث، واستظهر أن يكون السؤال بالعربية لغة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم، قال: ويحتمل أن يكون سؤال كل واحد بلغته.
(1) يقول الملكان للميت مرزهو فيرد عليهما مرد أزر هو وقيل غير ذلك، مما لا دليل عليه، وهذه أمور غيبية، لابد فيها من خبر صحيح عن المعصوم، ولا يوجد.
٢٩٦
الأدب والمتفرقات
قلت: وهذا الاحتمال متجه، ولا مانع أن يُلهم الله تعالى ملكي السؤال،
لغة كل مقبور
ومنه: التعصب لمذهب من المذاهب الفرعية.
كتعصب بعض الحنفية ) لأبي حنيفة ومذهبه. حتى زعم أن
والمهدي يقلدانه ويكونان على مذهبه !!
عيسى
قال العلامة البرزنجي في "الإشاعة" : ومن العجائب أنه وقع للقهستاني مع فضله وجلالته - شيء من ذلك، فقال في شرح خطبة "النقاية": «إن عيسى إذا نزل عمل بمذهب أبي حنيفة، كما ذكره في "الفصول الستة"». قال البرزنجي: وليت شعري ما الفصول الستة؟ وما الدليل على هذا القول ؟ فإنا الله وإنا إليه راجعون». انتهى.
وللعلامة الشيخ علي القاري رسالة المشرب" الوردي في رسالة المهدي" ألفها لرد هذه الدعوى الفاسدة ذكر فيها : أن جاهلا عارضه في هذه القضية تقليد المهدي لأبي حنيفة ونقل ذلك عن كتاب مجهول. قال: وقد صرح الإمام ابن الهمام بعدم جواز النقل من غير الكتب المتداولة، سواء العلوم
يعني
(۱) من التعصب المذهبي: ما ذكره بعض الأصوليين المتأخرين: أن المقلد يتحتم عليه أن يعتقد أن مذهبه صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيره خطأ يحتمل الصواب، وهذا کلام فاسد لا معنى له وهو يؤدي إلى محال ؛ لأن مقتضى اعتقاد كل مقلد، ذلك أن تكون المذاهب الأربعة كلها صوابًا يحتمل الخطأ، وهي في الوقت نفسه خطأ يحتمل
الصواب.
(1) بل هو شافعي، وهو صاحب "الرسالة القشيرية" في التصوف.
خواطر دينية جـ ٢ .
۲۹۷
الأصلية والفرعية. قال : ثم إن ركاكة ألفاظه ومبانيه، تدل على بطلان معانيه. قال: وها أنا أذكره بلفظه لتحيط به علما، حيث قال - ولم يخش ما عليه من
-
الوبال، وغضب الكبير المتعال : اعلم أن الله قد خص أبا حنيفة بالشريعة والكرامة، ومن كراماته أن الخضر عليه السلام كان يجيء إليه كل يوم، وقت الصبح. ويتعلم منه أحكام الشريعة، إلى خمس سنين. فلما توفي أبو حنيفة ناجى الخضر ربه. قال: إلهي إن كان لي عندك منزلة، فائذن لأبي حنيفة، حتى يعلمني من القبر، على حسب عادته حتى أعلم شرع محمد صلى الله عليه وآله وسلّم على الكمال، ليحصل لي الطريقة والحقيقة فنودي: أن اذهب إلى قبره، وتعلم منه ما شئت. فجاء الخضر، وتعلم منه ما شاء كذلك، إلى خمس وعشرين سنة أخرى حتى أتم الدلائل والأقاويل. ثم ناجي الخضر ربه، وقال: إلهي ماذا أصنع ؟ فنودي: أن اذهب إلى صعانك، واشتغل بالعبادة إلى أن يأتيك أمري.... إلى أن قال له: اذهب إلى البقعة الفلانية، وعلم فلانا الشريعة. ففعل الخضر عليه السلام، ما أمر.
ثم بعد مدة ظهر في مدينة ما وراء النهر ،شاب، وكان اسمه أبا القاسم القشيري، وكان يخدم أمه ويحترمها، ثم إنه قال - وقتا من الأوقات لأمه - : يا أماه قد حصل لي الحرص على طلب العلم، وقد قال علي كرم الله وجهه من كان في طلب العلم كانت الجنة في طلبه. فائذني لي حتى أذهب إلى بخارى، وأتعلم العلم. فتفكرت والدته، وقالت: إن لم أعطه الإذن أكون مانعة للخير، وإن أذنت له لم أصبر على فراقه. فلم يكن لها بد حتى أذنت له، فودع القشيري أمه وعزم على السفر مع شاب صاحب له، يطلبان العلم، فقعدت أمه على
۲۹۸
الأدب والمتفرقات
الباب باكية حزينة، وقالت: إلهي اشهد أني حرمت على نفسي الطعام والمنزل، ولا أقوم من مقامي، حتى أرى ولدي. فمضى القشيري وصاحبه حتى نزلا في منزل ليأكلا فيه طعامًا. فقام القشيري ليقضي حاجته، فتلوثت ثيابه ببوله. وقال لصاحبه: اذهب أنت، فإني أريد أن أرجع إلى المنزل. وأخاف أن تصيب النجاسة جسمي في المنزل الثاني، وتصيب روحي في الثالث، فقعودي عند والدتي أولى. ورجع إلى أمه، وكانت قاعدة على مكانها الذي ودعت ابنها فيه،
أن
فقامت وتصافحت مع ولدها، وقالت الحمد الله. فأمر الله تعالى الخضر: اذهب إلى القشيري، وعلمه ما تعلمت من أبي حنيفة؛ لأنه أرضى أمه. فجاء الخضر إلى أبي القاسم وقال له: أنت أردت السفر لطلب العلم، وقد تركته لرضا أمك؟ وقد أمرني الله أن أجيء إليك كل يوم على الدوام وأعلمك. فكل يوم يجيء إليه الخضر، حتى ثلاث سنين، وعلمه العلوم التي تعلم من أبي حنيفة في ثلاثين سنة حتى علمه علم الحقائق والدقائق، ودلائل العلم. وصار مشهور ،دهره وفريد عصره حتى صنف ألف كتاب، وصار صاحب كرامات، وكثر مريدوه وتلاميذه فكان له مريد كبير متدين، لا يفارق الشيخ فعدَّ له الشيخ ألف كتاب من مصنفاته، ووضعها في الصندوق، وأعطى لذلك المريد، وقال: قد بدا لي أمر ، فاذهب وارم هذا الصندوق في جيحون. فحمل المريد الصندوق، وخرج من عند الشيخ، وقال في نفسه: كيف أرمي مصنفات الشيخ في الماء؟ لكن أذهب وأحفظ الكتب، وأقول للشيخ: رميتها. وحفظ الكتب وجاء وقال للشيخ: رميت الصندوق في الماء. قال الشيخ: وما رأيت
خواطر دينية جـ ٢
۲۹۹
من العلامات؟ قال: ما رأيت شيئًا. قال الشيخ اذهب وارم الصندوق. وأراد أن يرميه، فلم يهن عليه ورجع إلى الشيخ مثل الأول وقال: رميته؟ قال: نعم. قال: وما رأيت؟ قال: لم أر شيئًا. قال الشيخ: ما رميته، فاذهب فارمه. فإن لي فيها سرا مع الله ولا ترد أمري. فذهب المريد ورمى الصندوق، فخرج من الماء يد وأخذت الصندوق. قال المريد له من أنت؟ فنادى في الماء: إني وكلت أن أحفظ أمانة الشيخ فرجع المريد، وجاء إلى الشيخ فقال: رميت؟ قال: نعم. قال: وما رأيت؟ قال: رأيت الماء قد انشق، وخرج منه يد وأخذ الصندوق، وقد صرت متحيرا، وما السر في ذلك؟ قال الشيخ: السر في ذلك أنه إذا قربت القيامة وخرج الدجال ونزل عيسى بيت المقدس فيضع الإنجيل بجنبه، ويقول: أين الكتاب المحمدي؟ وقد أمرني الله أن أحكم بينكم بكتابه ولا أحكم بالإنجيل. فيطلبون الدنيا، ويطوفون البلاد، فلم يوجد كتاب من كتب الشرع المحمدي، فيتحير عيسى. ويقول: إلهي بماذا أحكم بين عبادك ؟ فينزل جبريل ويقول : قد أمر الله أن تذهب إلى نهر جيحون، وتصلي ركعتين بجنبه وتنادي: يا أمين صندوق أبي القاسم القشيري، سلم إلى الصندوق، وأنا عيسى بن مريم، وقد قتلت الدجال فيذهب عيسى إلى جيحون، ويصلي ركعتين، ويقول مثل ما أمره جبريل فينشق الماء، ويخرج الصندوق، ويأخذه ويفتحه، ويجد فيه ختمة وألف كتاب فيحيي الشرع بذلك الكتاب. ثم سأل عيسى جبريل: بم نال أبو القاسم هذه المرتبة؟ فقال: برضاء والدته». نقل من كتاب "أنيس الجلساء"». اهـ
۳۰۰
الأدب والمتفرقات
قال الشيخ علي القاري: ولا يخفى أن هذا مع ركاكته ولحنه، كلام بعض الملحدين الساعين في إفساد الدين إذ حاصله : أن الخضر الذي قال الله تعالى في حقه عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَانَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: ٦٥]. وقد تعلم منه موسى عليه السلام، من جملة تلاميذ أبي حنيفة. ثم عيسى وهو من أولي العزم يأخذ أحكام الإسلام من تلميذ تلميذ أبي حنيفة وما أسرع فهم التلميذ، حيث أخذ عن الخضر في ثلاث سنين، ما تعلمه الخضر من أبي حنيفة حيا وميتا في ثلاثين سنة !! وأعجب منه: أن أبا القاسم
(1)
القشيري ليس معدودًا في طبقات الحنفية !! ثم العجب من الخضر أنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يتعلم منه الإسلام، ولا من علماء الصحابة الكرام، كعلي باب مدينة العلم وأقضى الصحابة وزيد أفرضهم، وأبي أقرئهم، ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام. ولا من عظماء التابعين، كالفقهاء السبعة، وسعيد بن المسيب بالمدينة، وعطاء بمكة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام. وقد رضي بجهله بالشريعة حتى تعلم مسائلها في أواخر عمر أبي حنيفة !! فهذا مما لا يخفى بطلانه، حتى على العقول السخيفة حتى إن علماء المذاهب، أخذوا هذه المقالة على وجه السخرية!! وجعلوها دليلا على قلة الطائفة الحنفية، حيث لم يعلموا أن أحدا منهم لم يرض بهذه القضية بالكلية. ثم لو تعرضت لما في منقوله من الخطأ في مبانيه ومعانيه الدالة على نقصان معقوله لصار كتاباً مستقلاً، إلا أني أعرضت عنه صفحا، لقوله تعالى : خُذِ الْعَفْوَ وَأمر
(۱) بل هو شافعي، وهو صاحب الرسالة القشيرية" في التصوف
خواطر دينية جـ ٢
۳۰۱
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَهِلِينَ [الأعراف: ۱۹۹]. فبطل قول القائل، بل وكفر فيما ظهر. لاسيما بالنسبة إلى نبي الله عيسى المجمع على نبوته، سابقا ولاحقاً. فمن قال بسلب ،نبوته، كفر حقا، كما صرح به الإمام السيوطي. فإن النبي لا يذهب عنه وصف النبوة، ولا بعد موته.
وأما حديث لا وحي بعدي، فباطل لا أصل له. نعم ورد «لا
(1)
عه.
نبي
بعدي ومعناه عند العلماء: أنه لا يحدث بعده نبي بشرع ينسخ شرع وقد صرح الإمام السبكي في تصنيف له: أن عيسى عليه السلام يحكم بشريعة نبينا بالقرآن والسنة. وحينئذ يترجح أن أخذه للسنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بطريق المشافهة بغير الواسطة، أو بطريق الوحي والإلهام.
(۲)
وقد روي عن أبي هريرة أنه لما أكثر الحديث، وأنكر عليه الناس قال: لئن نزل عيسى بن مريم قبل أن أموت لأحدثنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيصدقني. فقوله: فيصدقني، دليل على أن عيسى عليه السلام عالم بجميع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، من غير احتياج إلى أن يأخذها عن أحد من هذه الأمة. حتى إن أبا هريرة الذي سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم احتاج إلى أن يلجأ إليه، ليصدقه فيما رواه ويزكيه.
(۱) الواجب أن يقول : صح الا نبي بعدي» لأنه حديث صحيح جدا، وطرقه بلغت حد الاستفاضة، ومعناه متواتر
(۲) هذه الصيغة تستعمل في الخبر الضعيف، وهذا الخبر صحيح عن أبي هريرة. فكان الواجب أن يقول: وقد ثبت أو صح
۳۰۲
الأدب والمتفرقات
ثم وقفت على سؤال رفع إلى شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني: هل ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حافظا للقرآن الكريم، ولسنة نبينا الكريم؟ أو يتلقى الكتاب والسنة من علماء ذلك الزمان؟
فأجاب: لم ينقل في ذلك شيء صريح، والذي يليق بمقام عيسى عليه السلام: أنه يتلقى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحكم في أمته، كما تلقاه عنه. لأنه في الحقيقة خليفة عنه». انتهى المقصود من كلام الشيخ
علي القاري.
وقد أبطل أيضًا دعوى تقليد المهدي لمذهب الحنفية، وقرر أنه يكون
مجتهدا مطلقًا. فارجع إلى الرسالة المذكورة، تجد فيها ما يكفي ويشفي. ومنه التعصب بطريق من الطرق الصوفية كتعصب الطائفة التيجانية،
لطريقتهم وشيخهم تعصبا غير معقول. فزعموا أن طريقتهم تغني عن غيرها، ولا تغني طريقة أخرى عنها. وأن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرها، يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى وهذا غلو ينا في مبدأ التصوف والصوفية الذين هم أبعد الناس عن الدعوى وحب الظهور والطرق ليست مقصودة لذاتها، ولكنها مقصودة لتسليك المريد وإيصاله إلى الله تعالى بوسائل الذكر، وتطهير النفس من أدرانها بالرياضة الشرعية. وذلك ممكن بأي طريق من الطرق المعروفة، كالشاذلية والقادرية
().
والرفاعية والأحمدية والخلوتية والتيجانية والنقشبندية وغيرها.
(۱) الطريقة التيجانية، فرع من الطريقة الخلوتية.
خواطر دينية جـ ٢
۳۰۳
جاء مرة إلى مولانا الإمام الوالد رضي الله عنه شخص وزاني الطريقة - وهي فرع من الشاذلية وطلب منه أن يلقنه عهد الطريقة الصديقية. فذكر له محاسن الطريقة الوزانية، ومناقب شيخها مولاي عبد الله شريف، جد أشراف وزان. وأفهمه أن الطريقة الصديقية والوزانية وغيرهما في الدلالة على الله سواء. فعدل عن طلبه، وانصرف راضيا بطريقته.
وجاء مرة أخرى مريد صديقي من تلاميذه، ومعه شقيق له تيجاني يريد الانتساب للطريقة الصديقية، مبديًا ضجره من طريقته، لما نسب إليها من أشياء، لم يقبلها عقله. فذكر له أن طريقته من جملة الطرق الموصلة إلى الله، وأن الأشياء المنسوبة إليها بعضها صحيح وله تأويل يوافق الشرع، وبعضها من زيادات الجهال، أو من سوء تصرفهم وفهمهم. ووضح له ذلك بالأمثلة المتعددة، حتى عدل عن رأيه، وانصرف من عنده محبا لطريقته التي جاء وهو يريد الخروج منها. وهكذا لم يكن يزوره شخص يريد الانتساب للطريقة الصديقية، وهو منتسب لطريقة أخرى، إلا أمره بالتمسك بطريقته وحببها إليه، وعرفه أن الطرق كلها توصل إلى الله.
وزعموا أيضا أن شيخهم الشيخ أحمد التيجاني، خاتم الأولياء، وأنه لا ولي بعده يظهر في الأمة المحمدية. وزعموا أن كلام محيي ! بن العربي الحاتمي، عن خاتم الأولياء، ينطبق على شيخهم انطباقا تاما. فإذا قيل لهم: دعواكم هذه فيها حجر على فضل الله أجابوا كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، ولم يكن حجرًا على فضل الله. فكذلك شيخنا هو خاتم الأولياء من غير أن يكون فيه حجر على فضل الله. وهذه دعوى باطلة،
٣٠٤
الأدب والمتفرقات
وقياس فاسد لوجوه:
أحدها: أن الله تعالى صرح في القرآن الكريم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء مَا كَانَ مُحَمَّدُ أَبا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبينَ ﴾ [الأحزاب: ٤٠]. وانعقد عليه إجماع المسلمين. ودعواهم في شيخهم
لم تأت في آية، ولا حديث، ولم يعترف بها أحد من رجال الصوفية. ثانيها: أن قياس شيخهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم سوء أدب منهم، يلزم فيه التعزير، والأدب البالغ؛ للفوارق البعيدة بينهما. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول معصوم ينزل عليه الوحي، ومن أنكره أو أنكر رسالته فهو كافر. بخلاف شيخهم في ذلك كله، فهو ليس برسول، ولا معصوم. ومن أنكر وجوده أو أنكر ولايته، لا يلزمه نقص في عقيدته، ولا دينه.
ثالثها: أن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم أرسله الله إلى العالمين، وأنزل عليه القرآن الكريم الذي يشتمل على علوم الأولين والآخرين، ويضم بين دفتيه أتم التشريعات وأفضل الآداب، وأكمل الأخلاق. فلم يكن لمجيء نبي بعده من فائدة؛ لأنه ما من تشريع حكيم، ولا خُلُقٍ كامل، ولا أدب فاضل، إلا وهو مبين في الكتاب والسنة أتم بيان.
رابعها: أن الله تعالى يقول : اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَعْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣] فإذا كان الله تعالى يصرح بأنه قد أكمل
الدين، وأتم نعمته على المسلمين، فلا حاجة بعد هذا إلى نبي ولا رسول. خامسها: أن الولاية نتيجة حتمية للعمل بمقام الإحسان الذي هو أحد
خواطر دينية جـ ٢
٣٠٥
مقامات الدين فدعوى ختمها بولي معين تستلزم أولا: الكذب لأنها دعوى لا دليل عليها، وكل ما لا دليل عليه فهو كذب. وثانيًا: تعطيل مقام الإحسان وإلغاءه؛ لأن الولاية إذا انقطعت بموت ولي معين، لم يبق فائدة للعمل به.
وثالثا: التحريض على طرح المجاهدة، وترك السلوك؛ لأن المريد إنما يسلك الطريق، ويجاهد نفسه بأنواع الرياضة الشرعية، ليصل إلى مقام الولاية، حيث يفيض الله عليه من المعارف والأسرار ما يناسب حاله، فإذا علم أن
الولاية ختمت وانتهى أمرها فتر عن المجاهدة، وانقطع عن السلوك. سادسها: إجماع الصوفية على أن الإمام المهدي هو خاتم الأولياء. وفي
ذلك يقول ابن العربي الحاتمي في "الفتوحات": أَلَا إِنَّ خَتْمَ الأولياءِ شَهِيد وعَيْنَ إمام العالمين فَقِيدُ هو السيد المهدي من آل أحمد هو الصَّارِمُ الهندي حين يُبيدُ هو الشمسُ يَجْلُو كُلَّ غَيْمٍ وظُلْمَةِ هو الوابِلُ الوَسْمِيُّ حين يَجُودُ ومعنى البيت الأول : أن خاتم الأولياء - وهو المهدي- يكون شهيدا: أي حاضرًا حين فقد عين - أي -ذات- إمام العالمين صلى الله عليه وآله وسلَّم . يشير إلى أن ظهور المهدي يكون في وقت اندثار السنة النبوية، وفقدان العاملين بها. فيحيها ويدعو إلى العمل بها ويبطل التقليد ويعاديه الفقهاء المقلدون لإبطاله علمهم الذي يتكسبون به وفي وقته يظهر الدجال ويحاربه، فينزل عيسى عليه السلام، ويقتله بباب اللد، ثم تتابع أشراط الساعة الكبرى. ويقل
.
٣٠٦
الأدب والمتفرقات
المؤمنون، بل ينقرضون فلا يوجد مؤمن فضلا عن ولي؛ لأن الساعة لا تقوم
إلا على شرار الخلق؛ لأن قيامها مظهر غضب الله على أهل الأرض. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة وعلى الأرض أحد يقول الله الله». فختم الأولياء بالمهدي هو المعقول، وهو المجمع عليه.
ومن تعصب التيجانية: أنهم لا يصلون في زاوية غير زاويتهم، فلا يصلون في زاوية الطائفة الدرقاوية، أو القادرية أو العيساوية، أو الحمدوشية، أو الصادقية، مع أن هؤلاء يصلون في زاوية التيجانيين، لا يرون في ذلك حرجًا
ولا منعا لأنهم يعتقدون أن الطريقة التيجانية، من جملة الطرق الصوفية. ولما كانت أطلب العلم بفاس سنة ١٣٤٦ هـ أردت أن أكلم العلامة مولاي عبد السلام العلوي وهو تيجاني الطريقة - ليدرس لنا "شرح السعد على التلخيص" في علوم البلاغة. وكان يدرس "شرح المختصر للخرشي"، بجامع القرويين، لكنه لا يصلي فيه الظهر، فسألت: أين أجده؟ فقيل لي: إنه لابد أن يصلي الظهر في الزاوية التيجانية، وذهبت إليها وقابلته هناك. فعجبت كيف يدع الصلاة في جامع القرويين، وهو أقدم جامع في الشمال الأفريقي؛ بل هو أقدم من الجامع الأزهر، وحضر فيه كبار العلماء والأولياء، مثل أبي الحسن الشاذلي وابن العربي الحاتمي وابن خلدون وابن غازي. وزروق والونشريسي وغيرهم كثير. وفيه أماكن رئي فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، كما أخبر بذلك بعض الصالحين منها مكان اسمه العنزة، كنا نقرأ فيه "شرح الدردير لمختصر خليل" على الفقيه العلامة القاضي عبد الرحمن بن القرشي رحمه الله.
خواطر دينية جـ ٢
۳۰۷
ثم يذهب للصلاة في الزاوية التيجانية الحادثة البناء، لم يمض على تأسيسها
مائتا سنة، منذ دفن فيها الشيخ أحمد التيجاني سنة ١٢٥٠هـ، وليس ماض، في نشر العلم ودراسته.
لها (1)
وهكذا في سائر بلاد المغرب، تجد طوائف الصوفية على اختلاف طرقهم،
يصلون في الزاوية التيجانية، كما يصلون في سائر المساجد. لكنك لا تجد تيجانيا يصلي في زاوية غير زاويته. وأغرب من هذا أن ضريح مولاي إدريس بفاس مبني عليه جامع كبير، تقام فيه الجمعة والصلوات الخمس، ويقصده المغاربة من كل حدب وصوب، مثل سيدنا
الحسين بالقاهرة.
(1) لكن لا عجب في ذلك على أصلهم فإنهم يعتقدون أن شيخهم أفضل الناس بعد الصحابة، لا يفضله تابعي ولا إمام ولا غير ذلك. فهو أفضل من أويس القرني، سيد التابعين، كما صح في الحديث، وأفضل من الأئمة الأربعة، ومن علي زين العابدين وآل البيت النبوي جميعا، ما عدا الحسن والحسين؛ لأنهما صحابيان، وأفضل من الجنيد وشيوخه وأصحابه، ومن جميع الأقطاب جملة وتفصيلا. والمكان الذي يحل فيه تغمره البركة، بحيث لا يضيره ألا يحضر فيه عالم ولا ولي؛ لأن الشيخ أحمد التيجاني يغني عن جميع الأولياء، وهم مجتمعون لا يغنون عنه. . فمن هنا يفضلون الصلاة في زاوية شيخهم، على الصلاة في جامع القرويين.
۳۰۸
لكن لا يزوره تيجاني أبدا، ولا يصلي فيه
(1)
الأدب والمتفرقات
رضي
معنى حديث التداوي بالعسل
سألني الأستاذ الشيخ أحمد مرسي عن بيان معنى حديث العسل؟
والجواب: روى الشيخان من طريق أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري الله عنه: : أن رجلا أتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أخي
يشتكي بطنه، وفي رواية: استطلق بطنه. فقال «اسقه عسلا» فذهب، ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئًا. وفي لفظ : فلم يزده إلا استطلاقا - مرتين أو ثلاثا - كل ذلك يقول اسقه عسلًا» فقال له في الثالثة، أو الرابعة «صدق الله وكذب بطن أخيك».
(۱) لأن شيخهم نهاهم عن زيارة أي شيخ كان غير الصحابة. وحدثني ثقة أن العلامة الشيخ أحمد البناني الشهير بكلا، مر بمصر في طريقه إلى الحج، ورغب في زيارة ضريح الإمام الشافعي، وبعد الزيارة، علم أن الشيخ التيجاني نهى عن زيارة الأولياء. وهو تيجاني فرجع من الطريق إلى الضريح، وقال يخاطب الإمام الشافعي: يا إمام زيارتك رد عليك، قالها ثلاثا وانصرف. فإن صحت فهي تدل على تعصب شديد، ومع غباوة أشد. وقد يؤيد صحتها أن التيجانيين بالمغرب، لا يزورون وليا من الأولياء، ولا يحضرون المواسم التي تقام لهم. مثل موسم مولاي إدريس الأكبر بمدينة زرهون وموسم مولاي عبد السلام بن مشيش، ببني عروس، وموسم مولاي العربي الدرقاوي ببني رزوال وموسم سيدي محمد بن عيسى بمكناس. فالتيجانيون بالمغرب هم وهابية الطرق الصوفية. أما التيجانيون بالمشرق، فينكرون هذه الأشياء، ويتظاهرون بزيارة بعض الأولياء، على سبيل التقية.
خواطر دينية جـ ٢
۳۰۹
كان استطلاق بطن الرجل، بسبب تخمة أصابته عن امتلاء. فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بشرب العسل، لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء. لكن الرجل سقى أخاه من العسل مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، ولا يبلغ الغرض. فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمره بمعاودة سقيه العسل مرة ثانية وثالثة، حتى وصل للمقدار الذي يقاوم الداء، فبرأ بإذن الله تعالى.
ولا شك أن اعتبار مقادير الأدوية ،وكيفياتها، ومقدار قوة المرض
والمريض، من أهم قواعد الطب.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: صدق الله» في إخباره بأن العسل فيه شفاء، فهو دواء نافع. ولكن كذب بطن أخيك أي كثرت فيه المادة الفاسدة فلم ينتفع بما أخذه من العسل. فلما سقاه مرة أخيرة، وبلغ المقدار الذي قاوم فساد بطنه صح وبرأ.
وهذا كما يكون بالشخص مرض شديد ويأخذ مقدارًا من الدواء لا يكفي لدفعه فلا يكون بقاء المرض، لعدم نفع الدواء، بل لعدم أخذ المقدار
الكافي منه. قال ابن القيم: وليس طبه صلَّى الله عليه وآله وسلّم كطب الأطباء. فإن طب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي،
۳۱۰
الأدب والمتفرقات
ومشكاة النبوة وكمال العقل. وطب غيره أكثره حدثي وظنون وتجارب. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقاد الشفاء به، وكمال التلقي بالإيمان والإذعان. فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يتلق هذا التلقي، لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها، بل لا يزيد المنافقين إلا رجسًا إلى رجسهم، ومرضًا إلى مرضهم. وأين يقع طب الأبدان منه؟ فطب النبوة، لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة، والقلوب الحية. فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو النافع وليس ذلك لقصور في الدواء، ولكن لخبث الطبيعة، وفساد
الشفاء
المحل، وعدم قبوله».اهـ
وذكر للعسل فوائد كثيرة فراجعها في كتاب "زاد المعاد). وللدكتور
(۱) جاء في جريدة الأهرام يوم ١١/٢ سنة ١٩٦٨ تحت عنوان: «تجارب على عسل النحل، شفاء أمراض مختلفة به:
هي
أن الدواء
أجرى طبيب تركي من أساتذة الجامعات سلسلة من التجارب عالج فيها ١٩٧ مريضا مصابين بأمراض مختلفة. وكانت النتيجة التي خلص إليها . الذي يحتاج إليه بعض هؤلاء ليس سوى عسل النحل. وقد عمل هذا الطبيب على أساس أن عسل النحل، غني بالفسفور والكالسيوم والحديد والفيتامين، وذكر ۱۷ حالة أمكن علاجها بالعسل. وطريقته لعلاج آلام الظهر على سبيل المثال، هي خلط
خواطر دينية جـ ٢
۳۱۱
۱۰۰ جرام من عسل النحل السائل بدهن من الضأن، ودعك الخصر به. وبهذه الطريقة يزول الألم بعد ثلاثة أيام. أما في حالة قرحة المعدة، فعلى المريض أن يأكل من
عسل النحل ٤ كيلو جرامات أسبوعيا لمدة شهر، وبذلك تزول القرحة. وفي جريدة الأهرام أيضا يوم الأربعاء ۱۱/۱۲/ ۱۹۶۸ تحت عنوان: عسل النحل يستعمل كغذاء لمرضى السكر في الاتحاد السوفيتي
لم يكن الطبيب التركي أستاذ الجامعة الذي عالج ۱۹۷ مريضًا بعسل النحل وحده، إلا استمرارًا لخط أساسي هام موجود في الاتحاد السوفيتي منذ سنوات طويلة، ولا يزال آخذا في ازدياد. وهو استخدام عسل النحل كمادة علاجية لكثير من الأمراض، وخصوصا أمراض الجهاز التنفسي، وأمراض القلب، وتصلب الشرايين. ويستعمل العسل من الظاهر، كعلاج لبعض أنواع الروماتيزم وعدد من الأمراض الجلدية. وفي الاتحاد السوفيتي، معهد الأبحاث عسل النحل وله فروع في جمهورياته المختلفة. وبلغ من التقدم في استعمال عسل النحل كعلاج، أنهم بدءوا في استعماله كغذاء لمرض السكر، ونجحت هذه الطريقة، بعد اتباع نظام خاص يسمح بكميات العسل أن تهضم بغير أن تضيف رصيد إلى نسبة السكر في الدم وفي البول. وعقد في الاتحاد السوفيتي مؤتمر دولي، لمناقشة مشروعات استخدام العسل الأبيض في العلاج. ونشرت عشرات التقارير الطبية والدراسات المدعمة بالأرقام، عن نتائج استعمال العسل في علاج الربو وأمراض البرد وفقر الدم والروماتيزم واضطرابات المعدة وأمراض الكبد؛ ولأن تركيب عسل النحل يختلف بعض الشيء حسب نوعية الغذاء الذي يعيش عليه النحل، فإن الدراسات العامة التي أجريت في الاتحاد السوفيتي، عن علاقة عسل النحل بنوعية غذاء النحل، فتحت الطريق للحصول على أنواع من العسل تناسب الاستعمالات المختلفة. ويقومون بتعبئتها بطرق خاصة كالأدوية
۳۱۲
الأدب والمتفرقات
تماما، ويكتب عليها التركيب الخاص بها واستعمالاته. وبدأ الاتحاد السوفيتي يصدر هذه الأنواع من العسل إلى دول أوربا وأمريكا، ومن أكثر دول أوربا استيرادا لهذه الأنواع اليونان، ولو أنه لا توجد الطرق العملية لتقييمه، كما في الاتحاد السوفيتي. وقد نشر الاتحاد السوفيتي عدة كتب عن استعمالات العسل في العلاج الطبي، وترجمت إلى أكثر لغات العالم، وتعتبر الآن مراجع في العلاج بالعسل. وتركيب
العسل يترواح بين ٤١% سكر ،فواكه ٣٤ سكر عنب، ۱٫۸ دکسترین، ۱۹ سکروز، ۰٫۳٪ بروتين ٠ فتروجين بالإضافة إلى عناصر الحديد والكالسيوم والصوديوم والمغنسيوم والبوتاسيوم والفسفور ومواد عطرية. وهذا غير حبوب اللقاح التي تعتبر أساسية من أساسيات أهمية عسل النحل، وخصوصا لتقوية النشاط العام. وهذا غير بعض مكونات العسل الخاصة التي توجد في غذاء ملكات النحل، داخل الخلية ذات التركيب الخاص، والذي يقطع الذين جربوه بأنه أحسن هرمون طبيعي للنشاط. وقد أعلن الدكتور ألفريد أستاذ التغذية ببريطانيا أن العسل يحتوي على منجنيز ونحاس وحديد، كما وجد في بعض أنواعه التي تعيش في مزارع قرب مشارف مناطق التعدين. وأن هذه العناصر، تدخل في تكوين الهيكل العظمي للإنسان. ولهذا فإن هذا النوع من العسل، ولو أنه يبدأ فاتحا بالنسبة لأنواع العسل الشفاف، إلا أنه أكثر فاعلية لعلاج أمراض الصدر، وفقر الدم. وفي بريطانيا مركز دولي لأبحاث النحل، في كوين بكنجهام شاير. يضم اتحاد المشتغلين بأبحاث النحل من ٩٠ دولة. وترأسه الدكتورة ايفاكرين ويضم الأبحاث الخاصة بالنحل، وبعسل النحل، بسبعة وأربعين لغة وصدق الله العظيم حيث يقول: اليَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ تُختَلِفُ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: ٦٩] وهذا مما يؤكد إعجاز القرآن
العلمي.
خواطر دينية جـ ٢ .
۳۱۳
أحمد لطفي عبد السلام كتاب نحل العسل " أثبت فيه علاج أمراض الكبد والمعدة والحموضة والسكر والأمراض العصبية وغيرها بالعسل، وهو مطبوع. ولأبي العباس أحمد بن إبراهيم بن سمكة القمي، كتاب العسل، استوفى فيه ما جاء في ذكر العسل وصفته، وما قيل في النحل.
حكم الصلاة في القمر
جاءني خطاب من أخي العلامة السيد حسن بن الصديق حفظه الله، يقول فيه سيدي علمتم نبأ وصول الإنسان إلى القمر، فماذا عسى يكون حكم الصلاة عليه ؟ وفي الطريق إليه بالنسبة لاستقبال القبلة؟ ولأوقات الصلاة إن كانت تختلف عن الأرض؟ وكذلك بالنسبة للصيام؟ لو فرضنا أن الإنسان استطاع المكث فيه أو في غيره من الكواكب الأخرى التي يمكن العيش فيها، بسبب وجود الهواء فيها كالمريخ مثلا ؟ إذ من المعلوم أن الصيام مرتبط بظهور الهلال، وقد أصبح الإنسان على ظهره، أو على كوكب آخر، لا علاقة للقمر به، أرجو الإفادة مشكورين. والجواب: هذه أسئلة بكر تتعلق بموضوع لم يسبق له وجود قبل اليوم منذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة. إذا استثنينا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فإنه عرج إلى السموات العلى، حتى وصل إلى قرب سدرة المنتهى، وإلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، لكنه لم يذهب إلى القمر، وإن تجاوزه بمسافات بعيدة؛ لأن عروجه كان للتكريم، ومشاهدة آيات الخالق العظيم، كما قال تعالى: لَقَدْ رأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ [النجم: ١٨] ومجرد الوصول إلى
٣١٤
الأدب والمتفرقات
القمر لا تكريم فيه؛ لأن أرضه جرداء، لا نبات فيها ولا كائنات حية، ولا يمكن الإقامة عليها، حسبما أثبتته التحاليل التي أجريت على تربته وصخوره. فإن تغيرت تلك التحاليل، وفرض إمكان سكناه في المستقبل القريب أو البعيد، فإن حكم الصلاة والصيام لساكنيه ينبني على مقدمة، يتبين بعد تقريرها الجواب، والله الموفق للصواب لا شك أن الله سخر الشمس والقمر والكواكب لأهل الأرض، كما جاء في عدة آيات: يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة:
.[١٦
١٨٩ . يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِينَا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتِ بِأَمْرِه [الأعراف: ٥٤]. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَابِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ والنهار إبراهيم: ۳۳]. وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ بِأَمْرِهِ ﴾ [النحل: ۱۲]. وَعَلَمَتِ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا تَحْفُوظَ وَهُمْ عَنْ عَيْنَيْهَا مُعْرِضُونَ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [الأنبياء: ٣٢ - ٣٣]. تبارك الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرا من يا ﴾ [الفرقان: ٦١] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَكُلُّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى [لقمان: ٢٩]. وَسَخَّرَ لَكُمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا منه الجائية : ١٣]. وكذلك خطاب التكليف موجه إلى أهل الأرض يبني ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُواوَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: ٣١]. يَتَأَيُّهَا
خواطر دينية جـ ٢
۳۱۵
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ ﴾ [النساء: 1]. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِج الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: ٩٧]. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: ١٥٠]. يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة: ١٨٣].
إلى غير ذلك من آيات والأحكام التي تفيد ذلك المعنى، وهو توجيه التكليف إلى أهل الأرض على سبيل الأصالة.
فإن ذهب جماعة منهم إلى القمر وسكنوه ، كانوا في شروط التكليف تابعين لأهل الأرض.
وبيان ذلك: أن اليوم في القمر طويل، يعادل أربعة عشر يوما. فالمقيمون فيه لا يصلون صلاة يوم واحد بل يقدرون ،له فيصلون صلاة أربعة عشر
(۱)
يوما بزمن أهل الأرض. ومن جهة استقبالهم في الصلاة، فإن العلماء قرروا أن الكعبة قبلة هي والهواء الذي يسامتها من فوقها إلى السماء السابعة، فإن أمكنهم أن يستقبلوا ذلك الهواء، توجهوا إليه في صلاتهم، وكانوا مستقبلين للقبلة، وإن تعذر عليهم استقباله، توجهوا حيث شاءوا؛ لأن المقرر في الفقه أن استقبال الكعبة شرط في صحة الصلاة مع الإمكان، وإن تعذر الاستقبال
(۱) حيث يوجد البيت المعمور قبلة أهل السماء. وهو موازي للكعبة، بحيث لو سقط
وقع عليها.
٣١٦
الأدب والمتفرقات
توجه إلى أي مكان. وعليه حمل بعض العلماء قول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ اللهِ ﴾ [البقرة: ١١٥](۱)
أما الصيام، فيتعين في حقهم أن يعتمدوا فيه على الحساب؛ لأن رؤية الهلال في حقهم متعذرة فيعملون حسابًا فلكيا: متى يظهر مكانهم الذي هو القمر، هلالا لأهل الأرض؟ فيصومون، وكذلك يفطرون بالحساب. ويكون يوم صومهم مقدرًا كتقديره في الصلاة.
أما الحج، فإنهم ينتقلون إلى الأرض لأدائه. والمسافر إلى القمر، إن أمكنه التحرك في سفينة الفضاء صلَّى فيها بركوع وسجود، متجها إلى هواء الكعبة كما سبق. فإن لم يمكنه التحرك ولا الاستقبال، صلى بالإيماء متجها إلى أي جهة
تتيسر له.
وحكم سكان الكواكب الأخرى - إن أمكنت سكناها - حكم سكان القمر في الصلاة والصيام والحج؛ إلا أنهم في الصيام إن أمكنهم رؤية الهلال، صاموا وأفطروا برؤيته، وإن لم يمكنهم، عملوا بالحساب.
وإن لم يوجد ماء في الكواكب، فالتيمم يكفي للوضوء وغسل الجنابة. وإن وجدت فيها حيوانات - على سبيل الفرض - فما كان منها مثل الحيوانات المباحة في الأرض، كالأرنب مثلا، كان مباحًا. وما كان مثل الحيوانات المحرمة، كالفأر
(۱) وقال جماعة نزلت الآية في صلاة المسافر النقل على دابته حيثما توجهت به. على أنها نزلت ردًّا على اعتراض اليهود، حين حولت القبلة من بيت المقدس إلى
الكعبة.
خواطر دينية جـ ٢
۳۱۷
والخنزير، كان حراماً. وإن لم يعرف له شبيه في الأرض يُنظر، فإن كان ذا ناب يفترس به، أو مخلب يجرح به، أو يتغذى بالنجاسة، كان حراما، وإن لم يكن له ناب، ولا مخلب، ولا يتغذى بالنجاسة، كان مباحًا. هذا حكم سكان الكواكب، حسبما تقتضيه قواعد الشريعة الإسلامية، والله أعلم.
(۱)
(1) يجب أن ننبه على أن وصول الإنسان إلى الكواكب الأخرى كالقمر، لا ينقض قوله تعالى: بمعشر الجن والإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تنفذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانِ ﴾ [الرحمن: ٣٣].
فقد فهم بعض الناس أن وصول الإنسان إلى القمر، أبطل معنى الآية. وهذا خطأ كبير؛ بل التحدي في الآية قائم، ينادي على الإنس والجن بالعجز التام، وسيظل كذلك يتحداهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الآية تقول: يا معشر الجن والإنس إن قدرتم أن تخرجوا من السموات والأرض بحيث لا يلحقكم عذاب الله، فاخرجوا فإنكم لا تستطيعون الإفلات من عذاب الله إلا بسلطان أي بقوة، ولا قوة لكم، هذا معنى الآية بإيضاح وتفصيل والقصد بها إعلام الجن والإنس أنهم لا يقدرون على الفرار من عذاب الله إن كفروا؛ لأن مصيرهم إليه. وهم في قبضته لا يستطيعون أن يهربوا منه إلى غيره. اقرأ قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ وَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَإِذَا أَنشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالذِهَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) فَيَوْمَذٍ لَا يُسْتَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسُ وَلَا جَانٌ فَبِأَيِّ الَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَمِي وَالْأَقْدَامِ فَبِأَيِّ الَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (3) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيرٍ ان
[الرحمن : ٣٥ - ٤٤]
۳۱۸
الأدب والمتفرقات
وجوب التحرز في الحديث النبوي
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم شرع ثابت وكذلك فعله وتقريره؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى، ومبين لكتابه كما قال سبحانه يخاطبه : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: ٤٤] ومن هنا كان الحديث عنه
فانظر كيف توعد المجرمين من الجن والإنس بنار جهنم، بعد أن أخبر أنهم لا يستطيعون الهرب منها إلا بالخروج عن هذه الدنيا بأرضها وسمواتها، إلى مكان لا حكم الله فيه. وذلك غير ممكن من جهتين:
الأولى: أنه في نفسه محال.
والأخرى أنه على فرض إمكانه فإن قدرتهم لا تصل إليه. والآية اقتصرت على هذه
الجهة؛ لأن المقام مقام تحدي، والتحدي إنما يتوجه إلى القدرة لأنها مناط العمل. وننبه على مسألة أخرى، وهي أن علم الفلك أثبت أن الأرض كوكب من جملة الكواكب الواقعة في المجموعة الشمسية وأن الشمس ثابتة، والأرض تدور حولها. وأن في الفضاء اللانهائي مائة ألف مليون مجرة، كل مجرة تحتوي على مائة ألف مليون كوكب أكبر من الشمس. وهذا يدل على أن الأرض تابعة للشمس، وأنها كوكب صغير بالنسبة للكواكب الضخمة الجبارة. ومع ذلك فالآيات التي أوردناها آنفا، مصرحة بأن الله خلق الشمس والقمر والنجوم وسخرها لنا، وخلق ما في السموات والأرض جميعا لمصلحتنا. وقال للملائكة إني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: ٣٠] يعني آدم وذريته. ثم إن الشمس وتلك النجوم التي هي أضخم منها وأعظم، ما هي إلا أجرام جامدة، لا قيمة لها بالنسبة للإنسان الذي جعله الله أهلا للتكليف واصطفى منه الرسل والأنبياء، وجعل منه المصلحين والفلاسفة والعلماء.
خواطر دينية جـ ٢
۳۱۹
شديدا، والخطأ فيه جد خطير.
وقد أجمع العلماء على أن الكذب في الحديث النبوي من الكبائر؛ لقوله عليه
الصلاة والسلام: «مَن قال عَلَيَّ ما لم أَقُلْ فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». وفي لفظ آخر : مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتعَمِّدًا فليتبوأ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ». وهو حديث متواتر.
وفي حديث صحيح ل من ، حَدَّتْ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فهو أَحَدُ
الكاذبين». يرى بضم الياء، معناه يظن والكاذبين: روي بالتثنية وبالجمع. والمعنى: أن من حدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحديث وهو
يظن أنه كذب كان من جملة الكاذبين، يلحقه إثم الكذب، ولعنة الله تعالى. ولقد علم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن رجلا ذهب إلى أناس في ضواحي المدينة، وقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثني إليكم، وأمركم أن تزوجوني بنتكم. فغضب عليه الصلاة والسلام غضبا شديدا، وأرسل إليه أبا بكر وعمر، وأمرهما بقتله وإحراقه. وما ذاك إلا لشناعة الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
ولعل هذا الحديث، هو مدرك الإمام أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين، في حكمه بكفر الكاذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لو لم يكن ما
فعله كفرًا لما أمر بقتله. وهذا الموضوع مبسوط في كتب الحديث بتفصيل. وإنما ذكرنا هذه النبذة هنا لننبه على حديث مكذوب، أذيع ليلة المولد النبوي الشريف سنة ۱۳۸۹هـ فقد أجرت مجلة الهواء في تلك الليلة حديثا مع
۳۲۰
الأدب والمتفرقات
الشيخ أحمد الباقوري، تكلم فيه عن رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالنساء وعطفه عليهن، فنسب إلى البخاري أنه روى حديثاً جاء فيه: أن رجلًا جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم يدعوه إلى بيته لتناول طعام، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «وهذه معي؟» يعني عائشة. فقال الرجل: لا. فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «لا» ورجع الرجل إليه ثاني مرة، فكان الجواب هو الجواب. فلما وافق ثالث مرة، على دعوة عائشة. أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته. وهذا حديث مكذوب، لم يروه البخاري ولا أحد من أصحاب الكتب الستة، بل لا أصل له إطلاقا. وهو مخالف لما عرف من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم . فقد كان إذا دعي إلى طعام، أجاب الداعي، ولم يشترط عليه أي شرط. بل ثبت في الصحيحين عن أبي مسعود البدري قال: دعا رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة. فتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «إن هذا تبعنا فإن شئت أن تأذن وإن شئت رجع قال: بل آذن له يا رسول الله وأيضًا فإنه ليس بلائق، ولا مستساغ أن يدعى الرجل إلى طعام، فيشترط على الداعي أن يدعو معه زوجته. ومن فعل هذا يكون دنيء الطبع ساقط المروءة، عديم الذوق، ومن البدهيات في علمي التوحيد والأصول أن الأنبياء معصومون من دناءة الطبع، وخوارم ،المروءة، كعصمتهم من المعاصي. إذ من المستحيل عقلا أن يكون دنيء الطبع داعيا إلى الله، أو ساقط المروءة هاديًا إليه.
خواطر دينية جـ ٢
۳۲۱
والشيخ الباقوري يتحمل تبعة هذا الحديث، وعليه يقع إثمه. وهو جريء
على القول في الدين بغير تثبت فكم له من فتاوى لا سند لها ولا دليل! بل له آراء تناقض دلائل الشرع وقواعده دفعه إلى إبدائها رغبته في أن يعرف بين الناس بالتحرر والمرونة وإني كلما قرأت له فتوى أو سمعت رأيا له. تذكرت ما يحكى عن شخص سئل: هل تعرف العلم؟ فأجاب: نعم وأزيد فيه! والشيخ الباقوري يزيد في الشرع حسب الحاجة والهوى !! أباحت الشريعة للرجل الخاطب أن ينظر إلى المرأة المخطوبة. فزاد هو على
ذلك بأن أباح له: أن يخاصر مخطوبته ويقبلها !!
ورخصت الشريعة - في بعض المذاهب للابس الخاتم المأذون له فيه - إذا كان ضيقا - ألا يحركه في الوضوء فأباح هو للمرأة التي تستعمل المونيكير في أظافرها: أن تتوضأ به ووضوؤها صحيح، مع أنه يحجز الماء عن الوصول إلى الظفر، والوضوء به باطل باتفاق المذاهب.
وأباح أخذ الفوائد التي تتعامل بها المصارف في القرض، بحجة أن التعامل
بها صار ضروريًا في هذا العصر، وتركها يعد تخلف عن ركب الحضارة!! ولو ذهبنا نعد سقطاته، بل طاماته لاحتجنا إلى تأليف كتاب مستقل، نسأل الله لنا وله التوفيق.
أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: ۲۸] .
۳۲۲
الأدب والمتفرقات
محاضرة عن التصوف في إفريقيا وخدمته للإسلام
أثر التصوف في نشر الإسلام بأفريقيا
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا
محمد وآله وصحبه وبعد: فإن الحديث عن التصوف والصوفية، وإسهامهم في المحافظة على التراث الإسلامي بالمغرب هو حديث طويل، له ذيول كثيرة، ونواح متعددة. والاستفاضة فيه تقتضي وقتا طويلا، ومراجع كثيرة، ودراسة حقب طويلة من تاريخ المغرب، والإلمام بتراجم شخصيات عديدة، لا تكفي فيها محاضرة أو محاضرتان. فضلا عن إعواز المراجع اللازمة لهذا البحث، وأكثرها لا يزال مخطوطا.
وحتى المطبوع منها أصبح نادرا، يعز الحصول عليه في طنجة التي تحتوي على مكتبات تجارية هامة ولا على خزانات عامة، أما المخطوطات فلا وجود لها إطلاقا، وما بها من مكتبات لا يغني شيئًا، لاسيما في بحث تاريخي
كهذا.
وطالما شكا الباحثون وأهل العلم من إعواز المراجع بهذه المدينة، ولا أنسى أنني احتجت أثناء تحضيري لدرس إلى كتاب في التوحيد، متداول مشهور طبع عدة مرات فاستقصيت في البحث عنه جهد الطاقة، ولم أترك
شخصًا أعرفه من أهل العلم بها إلا سألته عنه، ولكن بدون فائدة. وإذا كان هذا هو الشأن في كتاب دراسي مشهور، فماذا عسى أن يكون
الحال في كتاب نادر، وفي موضوع لا يهم إلا من يعنيه أمره بالذات؟! لهذا والجميع ما تقدم، فإني أعتذر إليكم مقدما عن عدم تمكني من إيفاء
خواطر دينية جـ ٢
۳۲۳
الموضوع حقه، وما يستحقه من عناية، لاسيما وهو موضوع طريف، لا يزال بكرا. يحتاج زيادة على المراجع - إلى وقت وتفرغ، ولا وقت، ولا تفرغ. فمعذرة، والعذر عند كرام الناس مقبول. هذا وذاك، وعملا بقاعدة ما لا يدرك كله، لا يترك كله. فإني آمل ومع بحول الله أن أعطي نظرة مصغرة موجزة على ما كان للصوفية من فضل في ميدان نشر العلم والمعرفة والدعوة إلى الله تعالى، والتمسك بأخلاق الإسلام وآدابه، وبث روح المقاومة والجهاد ضد الاحتلال الأجنبي. وكيف اضطلع أهل الزوايا بمهمة الدفاع عن البلاد حتى انحصرت فيهم في حقب من تاريخ
المغرب.
وما دام الحديث يتعلق بالتصوف والصوفية، فإن من المناسب التعرض في
البداية للكلام على التصوف نفسه، لنخلص منه إلى صوفية المغرب. التصوف هو من الموضوعات الخصبة التي شغلت حيزا مهما من التراث الإسلامي. وما كتب فيه : له أو عليه، يحتل مكانة بارزة في المكتبة الإسلامية، أن التصوف في العصر الحاضر لم تتبق له تلك الصولة التي كانت له في القديم، فإن من حسن الحظ أن نرى العناية به تشتد في هذه الأيام، ولو في نطاق البحث العلمي. فنرى رجالًا كثيرين أخذوا يولون عنايتهم ببعث
ومع
التراث الصوفي الأصيل والتخصص في البحث فيه، وفي رجالاته.
وتألفت أخيرًا في مصر لجنة نشر التراث الصوفي، وأخذت على نفسها نشر أمهات كتب التصوف وبالفعل نشرت طائفة من هذه الأمهات، ككتاب " الرعاية الحقوق الله" للمحاسبي، و"اللمع" لأبي نصر الطوسي و"التعرف"
٣٢٤
الأدب والمتفرقات
للكلاباذي وغيرها، كما ظهرت عدة دراسات وأبحاث وكتب خاصة بالتصوف، كالتصوف لزكي مبارك، والتصوف لأبي العلاء العفيفي وآخرين، وأدرج بحث التصوف ضمن برنامج الفكر الإسلامي، المقرر بالسادسة من التعليم الثانوي.
وكان للمستشرقين دور هام في بعث هذا الاتجاه والعناية بالتصوف كمظهر من مظاهر الفكر الإسلامي وروحانيته. فكتبوا عنه وعن رجالاته
الشيء الكثير، بل كثير منهم تخصصوا فيه، وقصروا بحوثهم عليه. أما ما هي حقيقة التصوف؟ وما هو موضوعه؟ فإن العلماء اختلفوا اختلافا كثيرًا طويلا في تعريف التصوف، وصعب على الباحثين فيه وجود تعريف عام جامع مانع كما يقول المناطقة - للتصوف. ذلك أن التصوف ليس مذهبا قائما على حدود ضيقة أو أصول وقواعد محدودة، شأن المذاهب الفقهية أو الكلامية مثلا. ولا هو كذلك علم ذو حدود خاصة، وموضوعات معينة، يمكن اكتسابه بمجرد الاطلاع عليها، والإلمام بها، وإنما هو قبل كل شيء:
سلوك ومعاملة، وزهد وعبادة وعزوف عن الدنيا وإقبال على الله تعالى. وهو بالتالي ثمرة الإخلاص في العبادة والمجاهدة في الله وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: ٦٩] واسترواح إلى الخواطر الربانية، والإلهامات النورانية والطرق إليه بهذا المعنى كثيرة ومتعددة، فأي طريق سلك بك إلى هذه الغاية، وتحققت معه بثمرة العبادة والمجاهدة، قيل فيه:
تصوف.
خواطر دينية جـ ٢
٣٢٥
ولما كانت هذه الطرق لا تنحصر ، حتى قال بعضهم: إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس بني آدم اختلفت أنظار الصوفية أنفسهم في تعريف التصوف وحقيقته. فعرفه كل واحد منهم بحسب الطريق التي رأى أنها أقرب في الوصول إلى الله، وقد أوصل أبو نعيم في "الحلية" ما قيل في التصوف، إلى ألف قول أو تعريف. وأعقب كل ترجمة في كتابه بتعريف يناسب حال المترجم له وسلوكه، قائلا عقب كل ترجمة وقد قيل: التصوف كذا وكذا، مما ينطبق على أحوال صاحبها. وهذا الاختلاف في الواقع، ليس اختلاف تضاد، يوجب سقوطها عن الاعتبار، وإنما هو اختلاف في حال ، ودليل على شمول التصوف لكل ما قيل فيه. فهو إلى تعدد الأسماء أقرب، وبه أشبه من الخلاف، بالمعنى المفهوم من الخلاف وذاك دليل على شرفه، وأنه من السعة والشمول، بحيث لا يحصره حد، ولا يجمعه تعريف. وهذا هو سر نسبة الصوفية إلى شعارهم الظاهر وهو لبس الصوف، دون نسبتهم إلى ما اختصوا به من الكلام على الأحوال والمقامات والمجاهدات وكان الأولى أن ينسبوا إليها، كما نسب الفقهاء إلى ما اختصوا به من الأحكام، والمحدثون إلى الحديث، والمؤرخون إلى التاريخ، والأدباء إلى الأدب وهكذا.
وفي هذا المعنى يقول أبو نصر الطوسي: فإن سأل سائل فقال: قد نسبت أصحاب الحديث إلى الحديث والفقهاء إلى الفقه. فلم قلت: الصوفية. ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم ؟ ولم تضف إليهم حالا كما أضفت الزهد إلى الزهاد، والتوكل إلى المتوكلين، والصبر إلى الصابرين. فيقال له: لأن الصوفية لم
٣٢٦
دون رسم.
الأدب والمتفرقات
ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات وذلك لأنهم معدن جميع العلوم، ومحل جميع الأحوال المحمودة، والأخلاق الشريفة سالفا ومستأنفا. وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال، مستجلين للزيادة. فلما كانوا في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم. فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم؛ لأني لو أضفت إليهم في كل وقت حالا، هو ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال والأخلاق والأعمال، وسميتهم بذلك؛ لكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال، حسبما يكون الأغلب عليهم. فلما لم يكن ذلك، نسبتهم إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك مجملا عاما مخبرا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة
المحمودة» . اهـ
وهو كلام نفيس للغاية. ومع كل هذه الأقوال التي تبلغ الألف أو تزيد، والتي يصعب تتبعها. لا بأس بذكر بعضها نموذجا لما قيل في التصوف، وعرف به. وللتأكد من أن الاختلاف بينها ليس من قبيل التضاد، وإنما هو من باب الاختلاف في أهم الأسس التي ينبني عليها التصوف، ويقوم على ملاحظتها، والتخلق بها. فعبر كل واحد عما رآه أولى وأنسب، أو أهم وأشمل.
فمن هذه الأقوال أو التعريفات:
١ - التصوف: أن تكون مع الله بلا علاقة.
٢ - التصوف الجد في السلوك إلى ملك الملوك.
خواطر دينية جـ ٢
- التصوف : الموافقة للحق، والمفارقة للخلق.
٤ - التصوف: ابتغاء الوسيلة، إلى منتهى الفضيلة. ه - التصوف حفظ الوفاء، وترك الجفاء.
٦ - التصوف: أن لا تملك شيئًا ولا يملكك شيء.
التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده... إلخ.
۳۲۷
أما الجنيد فعرفه بقوله: التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية والنصح الجميع الأمة، والوفاء الله على الحقيقة واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في الشريعة.
قال أخونا أبو الفضل ولعل هذا التعريف من أشمل وأوفى ما عرف به التصوف؛ لأنه تضمن الأسس العامة التي ينبني عليها، ولا عجب فهو صادر
عن الجنيد، إمام الطائفة، ورئيس الطريقة التي به عرفت، وإليه تنتسب. ومثله ما عرفه به ابن خلدون في المقدمة من أنه: العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيها يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. ومهما قيل في حقيقته، واختلف في تعريفه، فقد أصبح متميزا بمناهجه وطرقه وموضوعاته وأبحاثه وكتبه ورجالاته. ومن ثم عُدَّ من جملة العلوم الشرعية المستحدثة في الملة الإسلامية، واعتبر
۳۲۸
الأدب والمتفرقات
ثالث علوم الدين بعد التوحيد والفقه هذه العلوم الثلاثة التي تشرح مقامات الدين، وهي التي ثبتت في حديث جبريل عليه السلام. وذلك فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شدید بیاض الثياب شدید سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه
(1)
ووضع كفيه على فخذيه . وقال : يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان، أخبرني عن الإحسان؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن الإسلام والإيمان، وقال له عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الحديث . قال عمر : ثم انطلق الرجل فلبث مليا، ثم قال: «يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». فسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم كلا من الإيمان الذي هو موضوع العقائد، والإسلام الذي هو موضوع الفقه، والإحسان الذي هو موضوع التصوف دينا. وحين أخذ المسلمون يشتغلون بالتأليف والتدوين، اشتغلت طائفة منهم ببيان أركان الإيمان والعقيدة، فأطلق عليهم علماء التوحيد والكلام. واشتغلت طائفة أخرى ببيان أركان الإسلام وقواعده، فسموا الفقهاء. بينما اشتغل أقوام ببيان مقام الإحسان والطرق
(1) أي فخذي نفسه، فعل ذلك تأدبا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللإشارة إلى أن الطالب ينبغي له أن يتأدب مع أستاذه.
خواطر دينية جـ ٢ .
۳۲۹
الموصلة إليه، فلقبوا بالصوفية.
وهكذا يكون التصوف في أصله من صميم الدين، وأحد علومه. قال الطوسي في "اللمع": وجملة علوم الدين لا تخرج عن ثلاث آيات من كتاب الله عزّ وجل، وخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو حكمة مستنبطة خطرت على قلب ولي من أولياء الله، وأصل ذلك حديث الإيمان، حيث سأل جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم عن أصول ثلاث؟ عن الإيمان والإسلام والإحسان الظاهر والباطن، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وصدقه على ذلك جبريل. قال: والعلم مقرون بالعمل والعمل مقرون بالإخلاص، والإخلاص أن يريد العبد بعلمه وعمله وجه الله تعالى. وهؤلاء الأصناف الثلاثة، في العلم والعمل متفاوتون، وفي مقاصدهم ودرجاتهم متفاضلون. إلى أن قال: فكل من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقائقه وحدوده وأحكامه ظاهرا وباطنا، فلابد له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة: أصحاب الحديث والفقهاء والصوفية.
۳۳۰
الأدب والمتفرقات
فتوى الإمام الوالد عن أصل التصوف ونشأته
وفي هذا المعنى قال الوالد رحمه الله تعالى - في جواب له عن أول من أسس طريق التصوف: وأما أول من أسس الطريقة، وهل كان تأسيسها بوحي؟ فاعلم أن الطريقة أسسها الوحي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما بينها واحدًا واحدا، دينا. فقال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان. فالدين كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة. فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك؛ لتركه ركنا من أركانه. ولهذا نص المحققون على وجوب سلوك طريق التصوف وجوبًا (1)
عينيا، واستدلوا على ذلك بما هو ظاهر عقلا ونقلا».
إلى أن قال في جواب هل كان الصحابة صوفية ؟ جواب هذا يعلم مما قبله فإن الطريقة إذا كانت من الدين؛ بل هي أشرف أركانه. وكانت بوحي كما قلنا، وكان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا من المسارعة إلى امتثال أمرًا الله ، كانوا بالضرورة أول داخل فيها، وعامل بمقتضاها، وذائق لأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا، والمجاهدة لأنفسهم، ومحبة الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، والصبر والإيثار والرضا
(۱) بينت ذلك في رسالة "حسن" التلطف في بيان وجوب التصوف" وهي مطبوعة.
خواطر دينية جـ ٢
۳۳۱
والتسليم وغير ذلك، من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله، وتوصل إلى قربهما،
(1)
وهي المعبر عنها بالتصوف والطريقة.
وكما كانوا رضي الله عنهم على هذه الحالة كان أتباعهم أيضًا عليها، وإن كانوا دونهم فيها. وكذلك كان أتباع الأتباع، وهلم جرا. إلى أن ظهرت البدع، وتأخرت الأعمال، وتنافس الناس في الدنيا، وحييت النفوس بعد موتها. فتأخرت بذلك أنوار القلوب، وكادت الحقائق تنقلب. وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة الأولى من الهجرة، ولم يزل ذلك يزيد ويشتد سنة بعد أخرى، إلى أن وصل إلى حالة تخوف منها السلف الصالح على الدين. فانتدب عند ذلك العلماء لحفظ الدين، فقامت طائفة منهم بحفظ مقام الإسلام، وضبط فروعه
وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان، وضبط أعماله وأحواله. فكان من الطائفة الأولى، الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكان من الطائفة الثانية الأشعري وأصحابه، وكان من الثالثة الجنيد وأشياخه وأصحابه. فعلى هذا ليس الجنيد هو المؤسس للطريقة ، وإنما نسبت إليه، لتصديه لحفظ قواعدها وأصولها، ودعائه للعمل بذلك، عندما ظهر التأخر عنها. ولهذا السبب نفسه نسبت العقائد إلى الأشعري، والفقه إلى الأئمة الأربعة وغيرهم، مع أن الجميع بوحي من الله تعالى. انتهى.
(۱) هذا يبين أن الصحابة كانوا متلبسين بالتصوف العملي، وهو كذلك. إلا أن عليا رضي الله عنه امتاز عنهم بتبريزه في التصوف العملي أيضًا، فإنه تكلم في التوحيد والقضاء
والقدر، وفي الحقائق والرقائق والحكم بأسلوب عال وبيان متين.
۳۳۲
الأدب والمتفرقات
وقال ابن خلدون في "المقدمة": التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية. وأصلها العكوف على العبادة، إلى آخر ما سبق نقله عنه. ثم قال: وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس
إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. إذن فالذي حدث هو الاسم، وتمييز المقبلين على العبادة باسم التصوف. أما النهج والطريقة، فهي نفس ما كان عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم ماء إلى أن قال بعد أن تكلم على الأحوال والمقامات التي خاضوا فيها: فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في الأذواق والمواجيد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما، ويترقى منها
إلى غيرها.
-
ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم. إذ الأوضاع اللغوية، إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا على التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه، فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم، في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها. والكلام في الأذواق والمواجيد
خواطر دينية جـ ٢
۳۳۳
العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم ودونت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم، وصار علم التصوف في الملة مدونا، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط. وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت. يعني أن نفس هذه العلوم ابتدأت أولا عن طريق التلقي شفويا، ثم دونت كما وقع في التصوف تماما. وإنما أكثرت من هذه النقول هنا لتتبينوا حقيقة التصوف، وأنه من صميم علوم الدين والمسلمين. وأن مصدره الأول كتاب الله وسنة رسوله، لا كما يزعم بعضهم - متأثرًا بآراء المستشرقين - من أنه علم مبتدع في الدين، ودخيل في الإسلام وأنه متأثر بالمسيحية والأفلاطونية الحديثة، وتصوف الهنود
البوذيين. رد أحمد أمين على من زعم أن التصوف دخيل في الإسلام
ويعجبني
لظهر
ما قاله أحمد أمين في هذا الموضوع، في الجزء الرابع من الإسلام"، قال: ويحق لنا أن نتساءل هل وجود فكرة في إحدى هذه الأمم، ثم وجودها بعد ذلك في المتصوفة، دليل على أنها أخذت عنها؟ فإذا وجدنا الفناء في البوذية، ثم وجدت فكرة الفناء في الصوفية، هل يكون هذا دليلا على أخذ الآخرين من الأولين؟ قد يكون هذا من التفكير الذي يدعو إلى الشك لا الجزم، خصوصا وأن هناك موانع كثيرة من هذا الرأي، مثل أن رابعة العدوية
٣٣٤
الأدب والمتفرقات
امرأة عربية، لم يثبت لنا أنها ثقفت ثقافة أجنبية، وهي أول من تكلم في الحب الإلهي. فمن أين وصل إليها الحب النصراني؟ ثم إن الاتجاهات المتحدة والأمزجة المتحدة، تنتج نتائج متحدة.
قد لا نعجب إذا وجدنا النتائج العقلية متحدة في العالم؛ لأن عقول الناس في العالم متشابهة، وهي تسير على قوانين منطقية واحدة، من مقدمات مشروطة بشروط، وأنواع من القياس أما العواطف فمختلفة كثيرة عند الناس. ومع ذلك لما اتحد الصوفيون في طريقة رياضة النفس والمجاهدة والأخذ عن المشايخ، رأيناهم أيضًا تقاربوا في النتائج، ورأينا الصوفي العراقي، يفهم الصوفي الأندلسي والعكس. ومحي الدين ابن العربي الأندلسي، استطاع أن يفهم الحلاج العراقي وهكذا أفبعد هذا نستطيع أن نجزم بتسرب بعض العناصر المختلفة إلى التصوف ؟ ... إلخ.
وهو كما ترى في غاية الوجاهة والنفاسة. ومن كل ما سبق ندرك أن التصوف نشأ أول ما نشأ عبادة وزهدًا وإقبالا على الله، وأن ما يدعو إليه كان هو طريقة السلف الصالح عامة من الصحابة والتابعين... ولذلك لم يعرفوا به، ولم يختصوا بلقبه، إذ كان الشأن في كل مسلم، في تلك العصور أن يكون به متحققا بمقامه. فكما لم يعرف الصحابة بالفقهاء والمحدثين
متحليا والمفسرين، مع أنهم كانوا في الواقع فقهاء وأصحاب حديث ومفسرين ولغويين، فكذلك لم يعرفوا بالصوفية. وإنما عرفوا بالصحابة؛ لأن شرف الصحبة التي خصوا بها لا يعادله شيء في الفضل. قال الطوسي: الصحبة مع
خواطر دينية جـ ٢
۳۳۵
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لها حرمة وتخصيص، من شمله ذلك فلا يجوز أن يطلق عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة، وذلك لشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم .وحرمته ألا ترى أنهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمخبتين وغير ذلك وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فلما نسبوا إلى الصحبة التي هي أجل الأحوال، استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة التي هي أشرف الأحوال.
- بضم
هذا وكما اختلفوا في حقيقة التصوف ،وتعريفه، اختلفوا في لفظة صوفي وأصلها؟ فقيل: إنها نسبة إلى الصف الأول، لما كان شأن أصحابه التزام الصف الأول أي في الصلاة. وقيل: إنها نسبة إلى الصفة الحميدة، أو الصفاء. وأن الأصل فيها كان صفوي على القياس، ثم عدل عنها إلى الصوفي تخفيفا. وقيل: إنها نسبة إلى الصفة الصاد المشددة ثم الفاء المشددة المفتوحة - وهي موضع مظلل في آخر المسجد النبوي، كان يأوي إليه فقراء الصحابة والمنقطعون منهم للعبادة. وقيل: إنها نسبة إلى رجل اسمه صوفة أو إلى كلمة سوفيا - اليونانية - بمعنى الحكمة. وقال التادلي في "التشوف": الذي يعول عليه أن الصوفي هو المنقطع بهمته إلى الله تعالى، المتصرف في طاعته. وهو في الأصل منسوبًا إلى صوفة، وهم قوم من العرب والمتصوف هو المدخل نفسه في الصوفية. كقولهم تقيس إذا أدخل نفسه في قيس غيلان وقال ابن فارس في مجمله: صوفة قوم كانوا في
٣٣٦
الأدب والمتفرقات
الجاهلية يخدمون الكعبة ويجيزون الحاج. قال أبو عبيدة: هم قبائل اجتمعوا وتشبكوا، كما تشبك الصوف.
قال الخليل بن أحمد في كتاب العين: صوفة حي من تميم، وهم الصوفان الذين كانوا يجيزون ،الحاج من عرفات كان أحدهم يقوم فيقول: أجيزي صوفة. فإذا أجازت، قال: أجيزي ،خندف فإذا أجازت، أذن للناس كلهم في الإجازة والإفاضة».اهـ
والأقرب إلى الاشتقاق والواقع أنها نسبة إلى الصوف، لما كان الصوف هو اللباس الغالب عليهم؛ لأنه يدل على الزهد والخشونة ولأنه كان لباس الأنبياء والصديقين، وشعار المساكين، كما قاله غير واحد منهم. ويروون في ذلك
حديثا.
قال ابن خلدون والأظهر إن قيل بالاشتقاق، يعني أخذه من شيء للإشارة به إلى حالة خاصة وليس لقبًا كما قال القشيري أنه من لبس الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب، إلى لبس الصوف.
وسئل أبو علي الروذباري عن الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفاء، وأطعم الهوى طعم الجنا، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهج
المصطفى. والشاهد منه : أنه اعتبر الصوفي من كان لباسه الصوف.
ولكنه وإن كان هو الأصل فيه فإنه أصبح بعد لقبا، يعني ما يعنيه اللقب، أو العلم من غير تقيد بأصل الكلمة وما تشعر به، فمن تحقق به فهو صوفي،
خواطر دينية جـ ٢
حتى ولو لم يلتزم لباسه.
قال أبو الفتح البستي:
۳۳۷
تَنازَعَ النَّاسُ في الصُّوفي واخْتَلَفُوا قِدْمًا وظَنُّوهُ مُشْتَقَا مِنْ الصوف ولستُ أنحل هذا الاسم غير فتى صافى فصُوفي حتَّى لقبَ الصُّوفي
ولغيره:
ليس التصوف لبس الصُّوفِ تَرْقَعُهُ ولا بكاءُكَ إِذ غَنَّى الْمُغَنُّونا ولا صياح ولا رَقص ولا طَرَبٌ ولا تَغاش كأَن قَدْ صِرْتَ مَجنونا بل التصوُّفُ أن تَصْفُو بلا كَدَرٍ وتتبعَ الحَقَّ والقُرْآنَ والدينا وأن تُرَى خَاشِعَا الله مُكْتَبَبًا على ذُنُوبِكَ طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونا
وأول استعماله لقبًا على الزهد والعبادة، كان في القرن الثاني. ويقال: إن أول من أطلق لقب صوفي عليه، هو أبو هاشم الكوفي المتوفى سنة ١٢٠ هـ على أن الطوسي نقل عن الحسن البصري المتوفى سنة ١١٠ هـ أنه قال: رأيت صوفيا في الطواف، فأعطيته شيئًا، فلم يأخذه. وقال: معي أربعة جواليق فيكفيني ما معي. بل نقل عن ابن إسحاق في "أخبار "مكة": ما يفيد أن هذا اللفظ كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، وأنهم كانوا يطلقونه على
أهل الصلاح. وإذا رجعنا إلى تاريخ التصوف لنرى المراحل التي مر بها، نجد أنه كغيره من العلوم والحركات الإسلامية الأخرى، قطع عدة مراحل، وتقلب في عدة أطوار. ففي الطور الأول ويمتد إلى أواخر القرن الثاني، لم يكن التصوف
۳۳۸
الأدب والمتفرقات
متميزا بميزات تخصه. إذ كان كما سبق عبارة عن التقيد بالكتاب والسنة واتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم . ولم يكن لأصحابه تميز عن غيرهم، ولا أمكنة خاصة بهم، ولا اصطلاحات ولا مقامات. نعم ابتداء من منتصف هذا الطور، أخذ الزهد وحب الله يتفلسف مع الحسن البصري ورابعة
العدوية.
وكان من أعلامهم في هذا الطور بعد الصحابة: أويس القرني، والحسن البصري، ورابعة العدوية وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي، وغيرهم. ثم جنح بعد إلى الفكر والتأمل، وظهرت المقامات والاصطلاحات الصوفية، وأخذ في تدوين الكتب التي تعنى بشرحه وبيان حقائقه. ومن رجاله في هذا الطور: ذو النون المصري المتوفى سنة ٢٤٥هـ وهو أول من تكلم في المقامات الصوفية بمصر. والحارث المحاسبي صاحب الرعاية، وبشر الحافي، وأبو يزيد البسطامي، وقيل: هو أول من تكلم في مقام الفناء، والحسين بن منصور الحلاج، والجنيد وهو أول من صاغ المعاني الصوفية، وهذبها حتى نسب التصوف إليه. فقيل فيه: طريق الجنيد.
يقول صاحب "المرشد المعين: وفي طريقة الجنيد السالك، ومثله قول ابن السبكي في "جمع الجوامع : وأن طريق الجنيد وصحبه طريق مقوم»، يعني ان التصوف وتوفي ببغداد سنة ٢٩٧هـ ومن كلامه طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يقتدى به. وأجمع
خواطر دينية جـ ٢
۳۳۹
الناس على الثناء عليه.
ثم أخذ التصوف ينتشر بعد على نطاق واسع، وأخذت تبدو من منتحليه أقوال موهمة الظاهر غامضة المعاني، وهي ما اصطلح على تسميته شطحات. فأنكرها علماء الظاهر، وحاربوا أصحابها، وحذروا منهم. ولم يتوقفوا في الحكم عليه بالإلحاد والزندقة؛ لأنهم لم يدركوا مقاصد القوم بها، أو لم يشاءوا أن يتأولوها، خوفًا على العامة من ظاهرها ومن ثم أفتوا بكفر الحلاج والسهروردي وقتلهما وقتلا فعلا وسعوا بذي النون المصري إلى المتوكل فأشخص إلى بغداد، وسجن بها مدة، ثم أطلق سراحه
(۱)
(۱) قال ذو النون المصري: لما حملت من مصر في الحديد، إلى بغداد. لقيتني امرأة زمنة، فقالت: إذا دخلت على المتوكل، فلا تهبه، ولا ترى أنه فوقك، ولا تحتج لنفسك، محقا كنت أو متها. لأنك إن هبته، سلطه الله عليك. وإن حاججت عن نفسك، لم يزدك ذلك إلا وبالا؛ لأنك باهت الله فيها يعلمه. وإن كنت بريئًا فاسأل الله أن ينتصر لك، ولا تنتصر لنفسك فيكلك إليها. فقلت لها: سمعا وطاعة. فلما دخلت على المتوكل، سلمت عليه بالخلافة. فقال لي: ما تقول فيما قيل فيك من الكفر والزندقة؟ فسكت فقال وزيره: هو حقيق عندي بما قيل فيه. ثم قال لي: لم لا تتكلم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن قلت: لا، كذبت المسلمين. وإن قلت نعم، كذبت على نفسي بشيء لا يعلمه الله مني. فافعل أنت ما ترى، فإني غير منتصر لنفسي. فقال المتوكل: هو رجل بريء مما قيل فيه. فخرجت إلى العجوز ، فقلت لها: جزاك الله خيرا، فعلت ما أمرتني به. ثم قلت لها: من أين لك هذا؟ فقالت من حيث ما خاطب به الهدهد سلیمان عليه السلام. وكان ذو النون بعد ذلك يقول: من أراد تجريد التوحيد، وخالص
٣٤٠
الأدب والمتفرقات
وهكذا بدأ النزاع بين الصوفية وغيرهم من علماء الرسوم والظواهر، كما
يسميهم الصوفية، أو رجال الفقه والحديث.
إلى أن جاء الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥هـ، فعني بالتصوف، وهذبه وبين حقيقته ومراميه، وشرح كثيرًا من مقاماته وحقائقه، في أسلوب مؤثر مدعوم بالنصوص والأدلة. فأبان بذلك فضل التصوف على علم الفقه الذي يقتصر على ظواهر الأحكام، دون النفوذ إلى بواطنها والحكمة منها، والعمل على تحقيق غايتها وثمرتها وهي خوف الله ، ومراقبته، والإنابة إليه. وجعل الاشتغال بالباطن وتهذيبه وتطهيره من العيوب والنقائص الباطنية، كالكبر والحسد والرياء الذي هو موضوع علم التصوف، أهم من معرفة كثير من الأحكام النادرة التي تمتلئ بها كتب الفروع الفقهية. وقلما تقع أو تدعو الحاجة إليها، بينما كل واحد محتاج إلى تطهير نفسه وتزكيتها. فكان لذلك الاشتغال به
فرضا عينيا.
وأقر القول بالكرامات والكشف واعتبره أفضل طريق إلى معرفة الله تعالى. وهو إنما يكون نتيجة مجاهدة وإقبال بالكلية على الله سبحانه وتعالى. كما حمل على أدعياء التصوف وشنع عليهم وجعل التصوف قوامه العمل والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وبذلك أرضى كلا من الفريقين الصوفية والفقهاء، عن الآخر.
التوكل فعليه بالنساء الزمنى ببغداد. ووجه الأخذ من قصة الهدهد: أنه لم يعتذر
السليمان ولم يحتج لنفسه. بل ترك قضيته، وانتقل إلى الكلام عن ملكة سبأ.
خواطر دينية جـ ٢
٣٤١
وشرح في كتابه "المنقذ" من "الضلال" كيف اهتدى إلى التصوف؟ وأنه العلم الوحيد الموصل إلى الله، ومن أجل ذلك هجر ما كان مشتغلا به من تدريس العلوم، وأقبل بكليته عليه، وألف فيه الكتب العديدة، وأعظمها فائدة، وأكبرها أثرًا كتاب "الإحياء" الذائع الصيت.
ثم ظهر بعد الغزالي الشيخ محيي الدين ابن العربي الحاتمي الأندلسي المتوفى سنة ٦٣٨ هـ. ومعاصره الشيخ عمر بن الفارض المصري المتوفى سنة ٦٣٢هـ
الشاعر الصوفي الكبير، فأوغلا في الشطح، والقول بوحدة الوجود التي يدركها على حقيقتها إلا أصحابها. وتبعهما في ذلك عبد الحق بن سبعين المرسي الأندلسي المتوفى سنة ٦٦٩هـ وتلميذه الشيخ أبو الحسن علي الششتري
الأندلسي أيضًا (). فكثر فيهم الطعن والقيل والقال، واختلف الناس فيهم من
الكفر والزندقة، إلى القطبانية أكبر درجات المعرفة في اصطلاح الصوفية. وسلك التصوف معهم مسلكًا فلسفيّا ،غامضًا، قل من يفهمه على وجهه وحقيقته وهو في الواقع تصوف الخواص والعارفين، لا تصوف العوام والمريدين، وفهمه يحتاج إلى استعداد خاص. ولذلك نهى كثير من المشايخ عن مطالعة كتب هؤلاء، إلا لمن كان ذا أهلية واستعداد لذلك، خوفًا من أن تفهم على غير وجهها وحقيقتها. فيضل القاصر عن القصد، ويتيه في متاهات ربما أدت به إلى الكفر والانحلال من الدين بالمرة، كما وقع لكثير من القاصرين
(1) وكذلك الشيخ عبد الكريم الجيلي، صاحب كتاب "الإنسان الكامل" والعينية
المشهورة.
٣٤٢
الأدب والمتفرقات
الذين تطاولوا على غير مقامهم، فضلوا وأضلوا.
وهكذا أخذ التصوف وجهة فلسفية مع هؤلاء وأضرابهم، في الوقت الذي كان أبو الحسن الشاذلي الغماري المتوفى سنة ٦٥٦هـ ينشر طريقته ومدرسته الصوفية القائمة على مشرب التصوف العملي، والتقيد بطريقة السلف، في الزهد والعبادة والاشتغال بذكر الله.
ولذلك ناصر طريقته جماعة من العلماء مثل عز الدين بن عبد السلام وغيره، وألف الحافظ السيوطي في تأييدها كتاب " تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية" وهو مطبوع بمصر ، بتحقيق وتعليق أخينا أبي الفضل. وأبو الحسن الشاذلي هو تلميذ المولى عبد السلام بن مشيش أخذ عنه، ثم
،
انتقل بعد إلى تونس، واستقر بشاذلة، فنسب إليها ثم انتقل عنها إلى مصر، واستوطن الإسكندرية، حوالي سنة ٦٤٢هـ. فحصل عليه إقبال كبير، وأخذ عنه خلق كثير منهم عز الدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، والشيخ أبو العباس المرسي الذي صحبه من تونس، وهو أجل تلامذته، ووارث سره، وخليفته من بعده. وهو صاحب المشهد الكبير بالإسكندرية، وشيخ البوصيري صاحب البردة والهمزية، وابن عطاء الله صاحب الحكم، ولم يزل أبو الحسن مستوطنًا مصر إلى أن مات بها، وهو في طريقه إلى الحج، في حميثرى قرب أسوان، وتبعد عن القاهرة بنحو ألف كيلو مترًا، وعلى قبره قبة ومسجد، رغم أن الموضع صحراء وقفار، وقد زرته والحمد لله.
وهو صاحب الطريقة التي تعتبر من أكبر الطرق الصوفية أو أكبرها انتشارًا في المعمورة، وعنها تفرعت سائر الطرق الصوفية بالمغرب ومصر. بل
خواطر دينية جـ ٢
٣٤٣
تكون هي والمذهب المالكي وعقيدة الأشعري في التوحيد الشخصية الدينية
للمسلم في المغرب العربي، وتعتبر المذاهب الرسمية فيه.
والطريقة المقيدة بالنسبة إلى شيخ مثلا، هي في اصطلاحهم صحبة المشايخ، والأخذ عنهم سند الطريقة المتسلسل بالشيوخ شيخًا عن شيخ إلى أن ينتهوا به إلى الحسن البصري فعلي بن أبي طالب، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا السند بهذه السلسلة... وإن لم يصح عند علماء الحديث والسند، ونفى كثير منهم اجتماع الحسن البصري بعلي فضلا عن أن يكون سمعه وتلقى عنه الطريقة، وألبسه الخرقة التي أصبحت سند الصوفية في التلقي عن الأشياخ فإن بعض الحفاظ صحح سماع الحسن من علي، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ السيوطي، وأثبتا رواية الحسن عن علي حديث: مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره».
ولأخي سيدي أحمد كتاب قيم سماه: "البرهان الواضح الجلي في ثبوت نسبة الصوفية إلى علي" وهو أجمع ما كتب في سند الصوفية وأوفاها بحثا وتحقيقا في الموضوع، ولا يزال مخطوطاً. ومهما يكن من أمر فقد أجمع الصوفية على ضرورة التلقي عن الشيوخ، وكون الأخذ من الشيخ هو الركن الأساسي في طريقتهم. وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقاماتهم، وإلى المعرفة بالله على اصطلاحهم إلا على يد شيخ عارف كامل. وأن من لا شيخ ،له لا عبرة به عندهم. بل هو دعي في الطريق،
لا يثمر ثمرا.
وإلى ذلك أشار ابن عاشر في منظومته "المرشد المعين" بقوله:
٣٤٤
الأدب والمتفرقات
يَصْحَبُ شَيْخًا عَارِفَ المَسالِك يَقيه في طريقه المهالك ذَكِّرُهُ الله إِذا رَآهُ ويُوصِلُ العَبْدَ إِلى مَوْلاهُ
ونقل الشيخ ميارة في شرحه عن ابن عباد شارح "الحكم العطائية" أنه قال: ولابد للمريد في هذا الطريق من صحبة شيخ محقق مرشد، قد فرغ من تأديب نفسه، وتخلص من هواه فيسلم نفسه إليه، وليلتزم طاعته والانقياد إليه، في كل ما يشير به عليه من غير ارتياب ولا تأويل. فقد قالوا: من لم يكن له شیخ، فالشيطان شيخه. وقال أبو علي الثقفي لو أن رجلا جمع العلوم كلها وصاحب طوائف الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام مؤدب ناصح. ومن لم يأخذ أدبه من آمر له أو ناه عنه، يريه عيوب ،عمله، ورعونات نفسه، فلا يجوز الاقتداء به في تصحيح المقامات.
وقال أبو الحسن الشاذلي : لا يتم لعالم سلوك في طريق القوم، ولو ارتفعت درجته في العلم، إلا بصحبة شيخ ناصح وهذا معنى قولهم: ما أفلح من أفلح، إلا بصحبة من أفلح.
قالوا: والفائدة من الشيخ أن يحمي المريد من كل ما يمنعه من الوصول إلى الله، من دواعي النفس والهوى والشيطان والشهوة الموقعة في ظلمة القلب والتي كثيرا ما تقهر صاحبها وتغلبه على نفسه، أو تخفى عليه، فلا يهتدي إليها، حسن ظن منه بنفسه، واندفاعًا نحو غريزة حب الذات واستعلائها. فيكون الشيخ بمثابة عالم نفساني للمريد، يريه مكامن الداء، ويحمله على ما من شأنه أن يبصره بعيوب نفسه وشهواتها حتى تتخلص من كدوراتها وتصبح شفافة
خواطر دينية جـ ٢
٣٤٥
لطيفة مصقولة قابلة لانطباع الأسرار فيها، وحلول الأنوار بها، بعد أن تكون خلصت من حظ الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم. وحظه هو الذي أشار إليه حديث شق صدر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء،
(۱)
وقول الملك له: هذا حظ الشيطان منك. وهذا تفسير قولهم: من لا شيخ له فالشيطان شيخه. لأنه إذ ذاك يتولاه بحكم تمكنه منه. قال شارح "الشريشية"، وهي منظومة في التصوف إن سلوك الطريق وخصوصا لمريد الكشف والتحقيق، لا يكون من غير التزام الطاعة والانقياد لشيخ محقق مرشد؛ لأن الطريق عويص، وأدنى زوال يقع عن المحجة يؤدي إلى مواضع غاية في البعد. قال ابن البنا في "المباحث الأصلية":
(۱) إنما قيل له هذا الكلام حين شق صدره الشريف عند حليمة السعدية، وهو ابن ست سنين. وأخرجت من قلبه علقة سوداء كانت رمزًا لحظ الشيطان منه. ثم شق صدره الشريف، عند البعثة، ليتلقى الوحي بقلب شديد، واستعداد قوي. ثم شق صدره الشريف ليلة الإسراء والمعراج للترقي إلى الملأ الأعلى، والثبوت في المقام الأسنى، وليتقوى قلبه لمشاهدة العلي الأعلى. ولهذا لما لم يتفق لموسى مثل هذا الاستعداد، لم تتفق له الرؤية. وكثير من العلماء أنكر شق صدره الشريف عند البعثة وليلة الإسراء، ومن الحفاظ من أنكر شق الصدر ليلة المعراج، واعتبره من أوهام شريك القاضي. وقال القطب سيدي عبد العزيز الدباغ : إنه سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن شق صدره ليلة المعراج ؟ فقال : لم يحصل. ورأيت بعض المعاصرين، أنكر شق الصدر من أصله، واعتبر ماصح فيه من وضع القصاص، وكتاب السيرة. وهذا جهل كبير، وجرأة على إنكار الحديث الصحيح، بدون تثبت.
٣٤٦
الأدب والمتفرقات
وإنما القوم مسافرون لحضرة الحق وظاعنون فافتقروا فيــــــه إلى دليـــــــل ذي بصر بالسير والمقيل قد سَلَكَ الطَّريقَ ثُمَّ عَادَ لِيُخْبِرَ القَوْمَ بما اسْتَفادَ إذن فاتخاذ شيخ شرط أساسي عندهم، ولكن بشرط أن يكون كما وصفوه كاملا عارفًا عالما متحققا مقبلاً على الله تعالى، معرضًا عن الخلق، قد
هذب نفسه، وأذن له في التربية والتلقين. فإذا لم يكن بهذه الصفة، فهو دعي في الطريق ومتطفل عليها، لا يجوز الأخذ عنه. وهذا ما يجعل وجوده عزيزا أو نادرا. لا كما نرى اليوم من أدعياء المشيخة وما أكثر أدعياء المشيخة اليوم وقبل
اليوم؛ الذين شوهوا الطريق، واتخذوها شبكة ومكسبا .
وقد وقع خلاف بين صوفية الأندلس حول ما إذا كان يكفي في التصوف أخذه عن كتب القوم أم لابد فيه من شيخ واشتد بينهم الخلاف، حتى تضاربوا بالنعال. فحرروا في ذلك سؤالاً وجهوا به إلى علماء الأمصار، وكان من جملة من وجهوا إليه سؤالهم ابن خلدون فأجاب كل واحد بحسب ما رأى وظهر له. وألف ابن خلدون في المسألة كتابًا خاصا ذكره سيدي أحمد بن عجيبة في شرحه على "المباحث الأصلية" ثم نقل تلخيص جوابه عن الشيخ زروق، وحاصله : أن التصوف إذا كان يراد منه الترقية في المقامات والوصول إلى مرتبة الكشف، فلابد فيه من صحبة شيخ أما إذا كان يراد فيه مجرد الاقتداء والعمل، فيكفي فيه مطالعة كتبهم، للبيب الحاذق الفطن، ولكنه لا
يسلم من رعونات النفس وإن وصل، لابتلاء العبد برؤية نفسه.
خواطر دينية جـ ٢
منشأ الزوايا الصوفية بالمغرب
٣٤٧
والمقصود أن الأخذ عن الشيوخ هو العمود الفقري في التصوف، ومن أجل ذلك تعددت الطرق في التصوف بتعدد شيوخه، وأصبحت كل طريقة منسوبة إلى شيخها والقائم على أمرها. وصحبة المشايخ وسلوك الطريق على أيديهم وتحت مراقبتهم وإرشادهم، اقتضى وجود أمكنة خاصة بهم، كالمدارس بالنسبة لطلبة العلم. وهذه الأماكن هي ما اصطلح على تسميتها عندنا
بالمغرب: زوايا، وفي المشرق خانقاه، وتكية، وكلاهما لفظ أعجمي.
ومع
أن الزوايا تأسست أول ما تأسست بقصد تلقين المريدين والقيام بالشعائر الصوفية، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى مدارس دينية، لم تقتصر على تلقين الأذكار والتفرغ للخلوة والعبادة، بل تعدت ذلك إلى تلقين العلوم الشرعية. وتدريس مختلف العلوم الإسلامية. وأقيمت حولها المدارس والأبنية لسكن الطلبة. فأصبحت الزاوية تقصد لأخذ التصوف والعلم معا. كما أصبحت مقصودة للضيافة وإيواء الغرباء والمسافرين حتى قيل في تعريفها: إنها مدرسة دينية، ودار مجانية للضيافة. ولا زال هذه المعنى مفهوما عندنا بالمغرب، حيث يفهم من (دار) (الزاوية أنها الدار المقصودة للضيافة، وإطعام الطعام فيقال مثلا: دار هم دار الزاوية.
ومن أقدم الزوايا التي اشتهرت بهذا الاسم في المغرب، زوايا الشيخ أبي محمد صالح الأسفي المتوفى سنة ٦٣١ هـ، وقد تعددت زواياه حتى بلغت ستّا وأربعين زاوية. وانتشرت في كل من المغرب ومصر والشام، إذ كان هذا الشيخ
٣٤٨
الأدب والمتفرقات
يشجع أصحابه على الحج إلى بيت الله. فأسس عدة زوايا، لينزل بها الحاج المغربي في ذهابه وإيابه من آسفى إلى الحجاز، ويعد ركبه الذي كان على شئونها والوافدين إليها. وظلت زاويته بالإسكندرية قائمة إلى القرن الحادي عشر، حيث زارها الشيخ أبو سالم العياشي سنة ١٠٧٤هـ وقال: إنها من مزارات الإسكندرية، ينزل بها الحجاج المغاربة ولهم أوقاف عليها.
وابتداء من القرن الثامن للهجرة الموافق للرابع عشر الميلادي، تكاثرت الزوايا بالمغرب وانتشرت في كل جهاته، وتأسست حول أمهاتها مدارس لطلبة العلم. ويرى بعض الباحثين المعاصرين : أن أهل الزوايا كان لهم فضل السبق إلى تأسيس هذه المدارس، مما دعا المرينيين إلى العناية بها وإقامتها بجانب المراكز العلمية بالمغرب، وخاصة القرويين.
وإذا كنا نعلم ما كان لمدارس بني مرين التي أسسوها في كل من فاس ومكناس ومراكش، عواصم العلم إذ ذاك، من أثر على ازدهار الحركة العلمية وتشجيعها، فضلا عن ناحيتها الفنية والمعمارية التي لا تزال مفخرة المغرب إلى الآن. وعلمنا ما كان لعملهم هذا من حمل من جاء بعدهم من ملوك المغرب على الاقتداء بهم في هذا الميدان. وكان فضل السبق إلى تأسيسها يرجع إلى الزوايا. علمنا أي فضل أسدته الزوايا إلى النهضة العلمية بالمغرب، سواء من هذا الطريق غير المباشر، أو من طريقها المباشر. وهو ما قامت به مدارسها الخاصة من دور مهم في ميدان العلم والثقافة لا يقل في بعضها عن دور القرويين المعروف، إن لم يفقه في بعض الأحيان كما سيأتي. بالإضافة إلى ما
خواطر دينية جـ ٢
٣٤٩
قامت به في ميدانها الرئيسي ميدان الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله، وترويض النفوس وتهذيبها، وتحبيب العباد إلى ربهم، وجعل ذلك غايتهم الأولى التي يبذلون من أجلها كل جهودهم فيضحون بأوقاتهم من أجلها، ويطوفون البلاد في سبيلها طولها وعرضها سهولها وجبالها، قاصيها ودانيها، فكانوا يتخذون من أنفسهم دعاة ومبشرين - في اصطلاح الوقت إلى الإسلام وفضائله. يعلمون الجاهل، ويعظون الغافل. ويحثون على تقوى الله، ويعطون من أنفسهم القدوة الصالحة، والمثال الحسن، مما يجعل الإقبال عليهم والتأثر بكلامهم، سهلاً مقبولاً. فما أن يستقر مريد من مريديهم بين أهله وذويه، حتى يكون موضع تقدير وإكبار. ثم لا يزال بهم إلى أن يحملهم على سلوك طريقته والاقتداء به في أعمال الخير، والإنابة إلى الله تعالى.
ولن يقدر أعمالهم هذه حق قدرها ويقدر ما كان لها من أثر على أخلاق الناس وتهذيبهم، وحملهم على التمسك بجادة الدين والتعلق بأحكامه وتعاليمه إلا من درس تاريخ المغرب في العصور التي اجتاحت البلاد فيها فتن داخلية وخارجية، وتقلص نفوذ السلطة المركزية، في حظيرة المدن وحدها، ولم تبق هناك سلطة قادرة على حفظ النظام، وكفّ الظالم عن المظلوم، فضلا عن تعهد الرعية من الناحية الدينية والعلمية والأخلاقية، وإمدادها بما يلزم من الوعاظ والعلماء، لاسيما في النواحي النائية عن مركز سلطتهم فعمت الفوضى، وانتشر الجهل، وخلت جهات كثيرة من أهل العلم. وعاد أهلها إلى جاهليتهم الأولى، فحكموا الأعراف والتقاليد، وامتشقوا الحسام للنهب والغزو.
٣٥٠
الأدب والمتفرقات
ثم جاء الغزو الأجنبي ضغئًا على إيالة. فزاد في حيرة الناس واضطرابهم، وساءت الأحوال عمومًا وأصيب الناس بإبلاس وحيرة. فأظلم الجو في البلاد، وفتن الناس في دينهم ودنياهم وخاصة في الجهات النائية التي لم تستضئ بنور العلم، ولم يكن بها علماء يثبتون الناس ويعظونهم. فكان من عناية الله بهذه البلاد وفضله على أهلها ، أن صادفت هذه الأحوال المدلهمة التي تردى فيها المغرب ابتداء من العصر الوطاسي وما رافقه وتبعه من أحداث، وجود هذه الزوايا، وانتشار أتباعها في طول البلاد وعرضها. فأخذت على عاتقها مهمة التذكير وتثبيت الناس على دينهم وعقائدهم. فكانت بمثابة منارات في وسط ليل بهيم يشع منها نور الإيمان والعلم والإسلام، ويهتدي الناس في ضوئها إلى الطريق المستقيم.
وبالرجوع إلى تاريخ قبائل المغرب، نجد أن أغلب القبائل التي عرفت التصوف والصوفية وكانت ميدانا لرجالاته، ظلت في الغالب محافظة على دينها، في تقاليدها وأحكامها لم تستبدل به عرفا. وظل أهلها محافظين على تعليم أبنائهم القرآن وتوظيف الفقهاء والطلبة بمساجدهم، على عكس القبائل الأخرى التي تردت إلى أعراف جاهلية وإباحية، يجعل الواحد منهم يتزوج بلا عدد، ويطلق كذلك بلا عدد ويقدم الرجل منهم زوجته إكراما لضيفه، ويغضب إذا تعفف فردها عليه وقل مثل هذا، في معاملاتهم الأخرى. مما أطمع الفرنسيين أخيرًا في فصلهم عن الأمة، تمهيدا لتنصيرهم، في الظهير البربري المعروف الذي كان له فضل بعث الحركة الوطنية في المغرب. وما إن هاجم البرتغال والأسبان شواطئ المغرب، واحتلوا بعض مدنه
خواطر دينية جـ ٢
٣٥١
الساحلية، حتى ظهر فضل آخر لهذه الزوايا، في بعث حركة الجهاد والمقاومة وقيادة الأمة لطرد العدو عنها، في معارك ظافرة انتهت بطرد البرتغال عن الشواطئ الجنوبية، وإيقاف زحفه في الجهات الشمالية وتنصيبهم الشرفاء السعديين ملوكًا على المغرب.
يقول أحمد الناصري في الاستقصاء: لما كانت سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، أمر السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ بامتحان أرباب الزوايا، والمتصدرين للمشيخة خوفًا على ملكه منهم. ولما كان للعامة فيهم من الاعتقاد والمحبة، والوقوف عند إشارتهم، ألا ترى أن بيعة والده أبي عبد الله القائم، لم تنعقد إلا بهم ولا ولج بيت الملك إلا من بابهم إلى آخر كلامه. وشاهدنا منه: تصريحه بأن السعديين إنما قاموا على يد أصحاب الزوايا). وحكى لي ولدا صاحب "الاستقصاء" الأستاذان الأديبان الجليلان السيد جعفر والسيد محمد : أن قيام الدولة العلوية، كان بإيعاز من الشيخ سيدي محمد بن ناصر، وهو الذي عمل على نصرة مولاي محمد بن الشريف إلى أن تم له الأمر. وقالا إن السلطان المرحوم مولاي يوسف حدث أخاهما السيد العربي بهذا. والقضية معروفة عند السادة العلويين. وممن ذكرها بتفصيل سيدي الحسين الشرحبيلي السوسي تلميذ الشيخ سيدي محمد في شرحه المسمى "هداية مالك الأمر لمسالك سيف
(1) كتب صاحب المحاضرة، هذه الكلمة: يقول الأستاذ داود في "تاريخ تطوان": وظهور التصوف، وانتشار الطرق، وخصوصا في أوساط العوام. كان له ولا شك
أثر كبير في الحياة العامة، وخصوصا من الناحية الاجتماعية.
٣٥٢
الأدب والمتفرقات
النصري" للشيخ المذكور ولا يزال مخطوطا، وحين تأسست الدولة السعدية، شاركوا بنصيب وافر فيما قامت به من جهاد ضد العدو، سواء في الشمال أو الجنوب، ولاسيما في واقعة وادي المخازن التي شارك فيها كثير من شيوخهم وأتباعهم، مثل سيدي يوسف الفاسي، وسيدي محمد بن علي بن ريسون وغيرهما، وأبلوا فيها البلاء الحسن، كما هو معروف.
وما أن عاد المغرب إلى الانقسام والضعف إثر وفاة أحمد المنصور الذهبي سنة ١٠١٢هـ، بسبب تنازع أبنائه على الملك، حتى عادت أطماع العدو في البلاد، وأخذت أسبانيا تغير عليها وتحتل بعض المدن الساحلية وكانت السلطة المركزية بمراكش مشغولة بأمر نفسها عاجزة عن الدفاع والوقوف في وجه العدو. بل نرى أحد أبناء المنصور وهو المأمون الشيخ، يتواطأ مع العدو، ويتنازل لأسبانيا عن العرائشي في مقابل نصرته وإمداده بما هو في حاجة إليه. فتصدى رجال الزوايا من جديد للقيام بأعباء الجهاد، وانحصر أمره فيهم حتى أطلق الأوربيون على هذا العصر ، عصر ،الزوايا، وهكذا قامت إمارة الشيخ العياشي بسلا، وإمارة الزاوية الدلائية بتادلا وفاس ومكناس وناحيتهما، وإمارة أبي حسون السملالي المعروف ببود ميعة من ذرية الشيخ سيدي أحمد بن موسی بسوس وناحيتها. فاضطلعوا جميعا بأعباء الجهاد، ورد عادية العدو. وكان لهم في الإيقاع بالعدو ونكايته ما يعرف بالوقوف عليه في مصادره إلى ما قاموا به أخيرا من تنظيم عدة حركات ضد الاحتلال الأسباني والفرنسي وإن لم يكتب لها النصر والظفر، ولم تحظ إلى الآن بمن يؤرخها، ويحقق في أمرها شأن
سابقاتها.
خواطر دينية جـ ٢
٣٥٣
ولو وجدت من يعتني بها، لكانت صفحة جديدة مشرقة من تاريخ رجال الزوايا الطويل في ميدان الجهاد والكفاح الوطني. إلى ما قام به المجاهد الأمير السيد عبد القادر محي الدين بالجزائر، وهو مغربي الأصل، وابن زاوية مشهورة بنواحي تلمسان وبسبب مركز أبيه وزاويته انتدب أهل تلك البلاد أباه إلى القيام بالجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، ورغبوا إليه أن ينظم حركتهم، ويبايعوه على الطاعة فأشار إليهم بابنه عبد القادر فتزعم الحركة، وكان من أمره ومثابرته للعدو وحده ١٧ سنة إلى أن اضطر إلى الاستسلام؛ لعوامل الغدر والخيانة، وتكالب قوى الشر عليه. كما اضطر الأمير عبد الكريم إلى ذلك،
(1)
للسبب نفسه. والأمير عبد القادر نفسه صوفي كبير، له في التصوف كتاب "المواقف"، في ثلاثة أجزاء، طبعته امرأة غنية بمصر، ووزعته مجانًا. ومن وقف
عليه وقرأه يعرف ماله من مكانة في التصوف، رحمه الله.
ويأتي أخيرًا الشيخ سيدي محمد بن علي السنوسي، صاحب الطريقة السنوسية المشهورة في مجموع القارة الأفريقية، فيؤسس زاويته بجغبوب بطرابلس الغرب ليبيا ليستحيل إلى معهد علمي كبير، ثم إلى جامعة كما هي عليه الآن. ولتنشر أنوار الهداية الإسلامية ساطعة في قلب إفريقيا السوداء. ثم ليتبوأ حركة الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال الإيطالي لطرابلس. تلك الحركة أقضت مضاجع الإيطاليين، وكبدتهم من الخسائر ما لا يحصى. وكانت
التي
(۱) وهو شاذلي الطريقة، أخذها عن العارف الكبير الشيخ محمد بن مسعود الفاسي
بمكة.
٣٥٤
الأدب والمتفرقات
هي مع ثورة الأمير عبد القادر بالجزائر وثورة الأمير عبد الكريم أخيرا بالمغرب، من أعنف وأشد ما عرفه الاستعمار من مقاومة الشعوب الإسلامية. وأرجع إلى ما كتبه شكيب أرسلان عن هذه الثورات، في حاضر العالم الإسلامي، ولاسيما حركة السنوسي التي كان له برجالها اتصال مباشر. وما مبايعة أهل طرابلس لأحد أبناء السنوسي ملكا عليهم، وهو الملك السيد إدريس السنوسي الأول، إلا دليل على ما كان لجده من فضل عليهم، واعتراف بجميل الزاوية السنوسية على طرابلس.
قال المؤرخ الإنجليزي المعاصر دوم لاندوز، في "تاريخ المغرب في القرن العشرين": «إن الطرق الصوفية من الملامح المهمة في التاريخ المغربي، وثمة وثائق تدل على ازدهارها منذ القرن الحادي عشر للميلاد -الخامس والسادس للهجرة وزوايا هذه الطرق كثيرًا ما كانت تستعمل بالإضافة إلى كونها مراكز لنشاط ديني، مدارس وملاجئ وبيوتا لعمل الخير، على نحو ما كانت تقوم به الأديرة في أوربا في العصور الوسطى. وقد كان الدين بطبيعة الحال، وثيق الاتصال دوما بالحياة اليومية لكل مغربي، إنه حياته، وليس مجرد أمور ثانوية ومن ثم لم تلبث الطرق الدينية أن أخذت تقوم بدور هام في الحياة الوطنية، وثمة بضعة من الأسد الذين أنشئوا الأسر المغربية الحاكمة، بدءوا زحفهم نحو العرش من إحدى هذه الزوايا. وفي الزمن الذي كان يحاول فيه الأسبان والبرتغال أن يحتلوا المغرب كانت الزوايا فقط، الالتقاء الرئيسي للحياة الوطنية والمقاومة». ويقول في (ص۳۹) من الكتاب نفسه وبما أن هذه الطرق كانت تقوم
خواطر دينية جـ ٢
٣٥٥
بدورها كنقطة انطلاق للوطنية والمقاومة فإنها لم تكن تنظر إلى الكفار
والأجانب نظرة ارتياح وغالبًا ما كان تأثيرها يحول دون إقامة علاقات أفضل
بين المخزن ()، والدول الأوربية».
اعتراف المبشرين
بأن خصمهم في إفريقيا هم الصوفية
وكما كان لهم فضل الجهاد بالسيف، ضد العدو في المغرب وشمال إفريقيا بصفة عامة، كان لهم فضل جهاد من نوع آخر، وهو عملهم ضد التبشير المسيحي، وحيلولتهم دون الوصول إلى أغراضه في إفريقيا السوداء. ونشر الإسلام بها على نطاق واسع، أدهش رجال التبشير والأمم النصرانية. حتى إن كثيرا من البلاد الأفريقية إنما عرفت الإسلام عن طريقهم. قال صاحب كتاب "حاضر العالم الإسلامي" الذي علق عليه شكيب أرسلان في جـ ٢ ص ٣٩٣: إنه من سنة ١١٥٠ إلى سنة ۱۹۰۱ نهض الإسلام بإفريقيا نهضة ثالثة، على أيدي مشايخ الطرق. وذلك أنه في أواخر القرن ۱۸، لما دخلت الدعوة البرتوستانتية من كل نوع إلى أفريقيا، وضاعفت الكنيسة الكاثوليكية فيها مجاهديها بدافع المنافسة، كان لابد من أن يتنبه الإسلام لمقاومة النصرانية، وأن يشتد الصراع بين هاتين القوتين المتقاتلتين. وأكثر أسباب هذه النهضة الأخيرة، راجع إلى التصوف».
(1) المخزن في اللهجة المغربية هو الحكومة والمخزني هو الشرطي الذي يدعو المتخاصمين إلى الحضور عند الحاكم.
٣٥٦
الأدب والمتفرقات
إلى أن قال: في القرن الثاني عشر والثالث عشر تأسست طرق الدراويش - يعني الصوفية - كأنها نوع مقابلة للرهبانية النصرانية، وللحروب الصليبية.
وفي القرنين ۱۸، ۱۹ حصلت نهضة جديدة عند أتباع الطريقتين القادرية والشاذلية، ووجدت طريقتان هما التيجانية والسنوسية
().
ونقل صاحب كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" في تاريخ التبشير المسيحي، عن بلس أنه قال: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في أفريقيا، وليس خصمنا هو العربي الذي يرتاد البلاد للتجارة. بل إن هذا الخصم المعارض هو الشيخ أو الدرويش - أي الفقير الصوفي في اصطلاح المغاربة - صاحب النفوذ في أفريقيا، أكثر مما هو كذلك في
فارس».
وذكر في موضع آخر أن إحصائيات المبشرين دلتهم على أن أكبر عامل على انتشار الإسلام بإفريقيا هو رجال الطرق الصوفية. وارجع إلى ما كتبه شكيب أرسلان في تعاليقه على حاضر العالم الإسلامي، وما كتبه الدكتور حسن إبراهيم حسن عن موضوع انتشار الإسلام في إفريقيا ودور الطرقيين فيه لترى أي فضل لهم في نشر الإسلام بالديار الأفريقية؟
والحاصل أن الحديث عن التصوف والصوفية، ذو شجون فمعذرة إذا كنت أطلت عليكم وأستسمحكم شاكرًا لكم صبركم معي، لو تفضلتم بإتمام
(۱) سبق أن الطريقة التيجانية، فرع عن الطريقة الخلوتية، أما الطريقة السنوسية، فإنها
ترجع إلى الشاذلية.
خواطر دينية جـ ٢ .
٣٥٧
ما تبقى من المحاضرة بالكلام على ذكر بعض الزوايا التي كان لها يد طولى، وفضل كبير، في نشر العلم والمعرفة بهذه الديار، بمن أخرجتهم من علماء وأدباء وفقهاء، فضلا عن رجالات التصوف وأعلامه.
ومن أهم هذه الزوايا: الزاوية الدلائية التي تأسست في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، بناحية تادلا وينتسب أهلها إلى قبيلة مخاط، إحدى فروع قبيلة صنهاجة الكبرى بالصحراء، وقد استوطنوا تادلا في أواخر القرن الثامن الهجري.
ومنذ استوطنوها وهم محل تكريم وإجلال من ملوك عصرهم، سواء في عهد بني مرين أو الوطاسيين، أو السعديين، مما يدل على ما كان لهم من مكانة، حتى قبل تأسيس زاويتهم وأول من ظهر على مسرح التصوف منهم، وأسس زاويتهم هو الشيخ أبو بكر بن محمد الدلائي، بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي دفين روض العروس بمراكش تلميذ عبد الكريم الفلاح تلميذ سيدي عبد العزيز التباع، تلميذ الشيخ الشهير سيدي محمد بن سليمان الجزولي صاحب "دلائل الخيرات" الشاذلي المتوفى سنة ٨٧٠هـ.
وما أسس محمد بن أبي بكر الدلائي زاويته، حتى أصبحت مورد المريدين والطلبة والمساكين وأهل العلم وغيرهم إلى أن استحالت بعد إلى مدينة عامرة بأسواقها ومدارسها وتجارها، وكان أبو بكر ذا ثروة هائلة؛ لأنه من أسرة ثرية. فصار يطعم الطعام الكثير ، ويكرم الواردين على زاويته، في سخاء نادر اندهش له الناس، وتعجبوا منه. ثم سار على نهجه ابنه محمد بن محمد بن أبي بكر، وفي أيامه زادت شهرة الزاوية، وعظم صيتها، حتى غصت رحابها بالوافدين
٣٥٨
الأدب والمتفرقات
والطلاب والمريدين. وكان يقيم كل سنة، احتفالا عظيما بالمولد النبوي، يقصده الناس من كل مكان. وقدر عدد الحاضرين في أحد الاحتفالات ألف نفس. وكانوا جميعًا ينزلون ضيوفا عليه، فينالون من حفاوته
بسبعين
وإكرامه وصلاته وجوائزه، ما تقر به أعينهم. وكان الشعراء يقصدونه في هذه المناسبة، وينشدون بين يديه قصائدهم في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيكافئهم على ذلك بالصلات السنية. فإذا ما مدحوه، قصر في حقهم، ولم يلتفت إليهم. فقد جاءه الأديب عمرو بن قاسم الرباطي، بقصيدتين: أحدهما في مدح الرسول والأخرى في مدحه. فلما انقضى الحفل، وحضر الأديب لوداعه، أعطاه صرة فيها مائتا دينار بيده اليمنى، وأعطاه فلسا واحدا بيده اليسرى. وقال له: هذه الدنانير، جائزتك على مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا الفلس جائزتك على مدح محمد بن أبي بكر، إذا لا يستحق
أن يمدح. وبقدر ما كان معنيا بشأن الفقراء والمريدين والزوار، كان معنيا كذلك بنشر العلم وتدريسه. فأصبحت الزاوية الدلائية في عهده، مركزا علميًا كبيرًا، يقصده الطلاب من كل حدب وصوب. فكثرت المدارس بها لإيواء الطلبة
(۱)
وكان بإحداها فقط ألف وأربعمائة بيت. ومع ذلك ولكثرة الطلبة، كان يسكن بالبيت الواحد من هذه المدارس العديدة، طالبان فأكثر. وهذا يدلنا على عظمة الزاوية، وإلى أي عدد بلغ طلابها. ولما أصبحت مركزا علميا، اقتضى
(1) أي غرفة أو أوضة باللهجة المصرية.
خواطر دينية جـ ٢
٣٥٩
ذلك تأسيس خزانة علمية بها. فأسست بها خزانة عظيمة، شبهها بعضهم بخزانة الحكم المستنصر الأموي. ونحن نعرف مقدار ما كان بخزانة الحكم من الكتب، وأن فهارسها وحدها كانت تبلغ أربعا وأربعين فهرسا، في كل فهرست عشرون ورقة، ليس بها إلا أسماء الكتب. ويظهر من تشبيههم لها بخزانة الحكم، دون أي خزانة أخرى بالمغرب. أنها كانت أعظم خزانة إذ ذاك بالمغرب. وإلا لما عدلوا عن تشبيهها بخزانة مغربية حاضرة، إلى خزانة أندلسية
تاريخية.
وبلغ شأن هذه الزاوية في الميدان العلمي، حتى نافست القرويين، أو زادت عليها. يقول الأستاذ عبد الله كنون في كتابه "خل وبقل": «إن الثقافة اللغوية المتينة التي كانت موجودة في زاوية الولائيين، حيث درس اليوسي أقوى منها في فاس. بل إننا نقول: إن الثقافة اللغوية المتينة التي كانت موجودة
في زاوية الدلائيين، هي التي أحيت ذمار الأدب العربي في المغرب بعد عدم». ويقول في كتابه " النبوغ " بعد أن ذكر ما كان لتنازع أبناء المنصور على الملك من الأثر السيئ على الأوساط العلمية بالمغرب: ولكن من الألطاف الخفية أن ظهرت الزاوية الدلائية في ذلك الحين. فكأنما بعثها الله لحفظ تراث العلم والأدب الذي كاد أن يضيع فقامت عليه خير قيام. وما هي إلا مدة قليلة حتى صارت مركزا مهما لنشر الثقافة العربية بين قبائل المغرب. ولو لم يقض عليها المولى رشيد لكان للمعارف اليوم بالمغرب شأن غير هذا الشأن. وقال الناصري في "الاستقصاء": "وكان لهذه الزاوية، صيت عظيم، في
٣٦٠
الأدب والمتفرقات
أيام محمد الحاج وأبيه محمد بن أبي بكر السالف الذكر. وكان بها من معاطاة العلوم والدأب على درسها وإقرائها وقراءتها ليلا ونهارًا، ما تخرج به جماعة من صدور العلماء، كالشيخ اليوسي وأضرابه حتى كانت إليها الرحلة في المغرب، لا يعدوها الطالب، ولا يأمل سواها الراغب. وتمهد بها الأمر لأبي عبد الله الحاج وأولاده وإخوانه وبني عمه إلى أن تملك مدينة فاس ومكناسة، وأحوازهما وكافة القطر التادلي. ولو لم يكن بين خريجي هذه الزاوية -وما أكثرهم وأكثر علمهم وتأليفهم إلا الشيخ أبو علي الحسن اليوسي لكفى. وهو الذي قيل فيه:
-
فليَضْحَبِ الحَسَنَ اليُوسيَّ يَكْفِيهِ
من فاتهُ الحَسَنَ البَصْرِيُّ يُدْرِكُهُ فَلْيَضْحَبِ وكان إلى مكانته العلمية، وتضلعه في علوم الشريعة من فقه وأصول وكلام ومنطق، ذا مكانة أدبية ممتازة، وشاعرًا كبيرًا، حتى قال عن نفسه: لو
شئت ألا أتكلم إلا بالشعر لفعلت. وله ديوان شعر في جملة ما خلف من
،
الآثار العلمية. وقد رثى الزاوية الدلائية بعد نكبتها بقصيدة بليغة مطلعها: أكلف جفن العين أن ينشر الدرا فيأبى ويعتاض العقيق بها خمرا هذا إلى أبنائها العلماء الأفذاذ كالسادة الذين عرفوا بعد بالمسنادين
كالشيخ محمد والطيب وغيرها. وقد خصهم محمد بن عبد الودود التازي بترجمة خاصة سماها "نزهة" الأخيار المرضيين في مناقب العلماء الدلائيين" وخص كذلك الزاوية الدلائية الأديب سيدي سليمان الحوات العلمي الشفشاوني بترجمة حافلة سماها "البدور الضاوية في التعريف بالسادات أهل الزاوية الدلائية" ولا يزال مخطوطا. وكتب فيهم أخيرا الأستاذ محمد حجي
خواطر دينية جـ ٢
٣٦١
أستاذ بكلية الآداب بالرباط، بحثاً مفيدا نال به درجة الدبلوم في الدراسات
العليا، من كلية الرباط.
وبعد الزاوية الدلائية في الأهمية تأتي زوايا أخرى كثيرة منها: الزاوية الناصرية بتامكروت بدرعة جنوبي المغرب، على مقربة من زاكورة. وقد أسس هذه الزاوية أولا: الشيخ عمر الأنصاري، أحد أعيان درعة وصلحائها. ثم استقر بها بعد الشيخ عبد الله بن حسين الرقي الشاذلي، فقصده بها الشيخ محمد بن ناصر مؤسس الطريقة الناصرية، للأخذ عنه عام ١٠٤٠هـ، ولما مات الشيخ عبد الله الرقي، تصدر سيدي محمد بن ناصر لرياسة الزاوية واستقل بها. وأقبل على تدريس العلم بها للطلبة، والأخذ بيد المريدين. فانتفع به خلق كثير، وطار صيته شرقاً وغرباً؛ لأنه حج مرتين، فأخذ عنه كثير من المشارقة. ومن تلامذته الشيخ اليوسي الآنف الذكر ؛ لأنه كان أخذ عنه الطريقة الشاذلية، قبل أن يتصل بالزاوية الدلائية. وله في مدحه قصيدة دالية طويلة، تبلغ ٤٥٠ بيتا. وهي مطبوعة على حدة. ومن تلامذته كذلك، العلامة المطلع المشارك أبو سالم العياشي صاحب الزاوية العياشية، ومؤلف الرحلة المشهورة. وتاريخ الزاوية الناصرية، وما تفرع عنها من زوايا، وتاريخ رجالها وأبنائها، مبسوط في كتاب
"طلعة المشترى" المطبوع بفاس، وهو لصاحب "الاستقصاء".
ومن الزوايا الشهيرة بالمغرب، والتي تأسست هي كذلك في هذا العصر: الزاوية الفاسية التي أسسها الشيخ أبو المحاسن سيدي يوسف الفاسي أحد رجال الطريقة الدرقاوية، والمتوفى سنة ۱۰۱۳ هـ وهو تلميذ سيدي عبد الرحمن المجذوب. وقد تخرج من هذه الزاوية على يد أبنائها علماء أجلة، ورجال
٣٦٢
الأدب والمتفرقات
كبار... وكان للسادة الفاسيين من المجد العلمي واليد الطولى في التصوف وعلومه، ما هو معروف، ويكفي في مجدهم أن السلطان مولاي سليمان ألف في تراجمهم بنفسه کتاب "غاية المجد بذكر آل الفاسي ابن الجد" والكتاب مطبوع. ثم الزاوية العياشية المعروفة اليوم بزاوية سيدي حمزة، بسفح جبل العياشي، بناحية ميدلت.
وأول من أسسها هو الشيخ محمد بن أبي بكر العياشي والد أبي سالم المتقدم، بإشارة من شيخه محمد بن أبي بكر الدلائي عام ١٠٤٤ هـ وآل أمرها من بعده إلى أبي سالم، ثم حمزة ابنه وبه عرفت وقد قامت بها كذلك حركة علمية، وأسست بها خزانة لا تزال موجودة إلى الآن، وتعد ذات قيمة كبرى. ثم تأسست بعد الزاوية الدرقاوية مع الشريف مولاي العربي الدرقاوي، دفين بني زروال، بأحواز فاس والمتوفى سنة ١٢٣٩هـ وكان في وقته كالشيخ عبد الله الغزواني دفين القصور بمراكش في كثرة أتباعه وما تفرع عن طريقته من عدة طرق، انتشرت في مجموع البلاد الإسلامية. ولم يمت مولاي العربي حتى خلف نحو الأربعين ألفا من التلاميذ، كلهم متأهلون للدلالة على الله عزّ وجل. ومن أشهر أتباعه الشيخ محمد البوزيدي، دفين غمارة، وتلميذه الشريف سيدي أحمد بن عجيبة صاحب التفاسير و شرح الحكم" وغيرهما من الكتب القيمة في التصوف والشيخ محمد الحراق دفين تطوان، وصاحب الديوان في الشعر الصوفي. وجدنا الإمام سيدي الحاج أحمد بن عبد المؤمن، صاحب "أدب المريد"، ودفين غمارة، وهو وارث سره من بعده وقد ترجم له غير واحد منهم محمد بن القاضي ألف في ترجمته كتاب "النور القوي في ترجمة
خواطر دينية جـ ٢
٣٦٣
شيخنا سيدي عبد الواحد الدباغ وشيخه مولاي العربي الدرقاوي". ثم الزاوية التيجانية وما تفرع عنها من زوايا في جل العالم الإسلامي، وخاصة في إفريقيا من المغرب إلى مصر.
ثم الزاوية الوزانية مع مولاي عبد الله الشريف، وكان بها كذلك خزانة علمية مهمة، حتى إن الشيخ العلامة الرهوني ألف حاشيته التي تعتبر عمدة
(1),
الفقهاء والقضاة والمفتيين من خزانتها. وقل مثل ذلك في الزاوية الريسونية بتازروت، من قبيلة بني عروس وقد أسسها سيدي محمد بن علي بن ريسون تلميذ الشيخ سيدي عبد الله أمغار الحسني، في أواسط القرن التاسع الهجري، وتخرج منها كذلك عدد من العلماء. هذا عدا الزوايا التي قامت في جنوب المغرب وصحرائه. ومن أشهرها الزاوية السملالية التي أسسها الشيخ سيدي أ أسسها الشيخ سيدي أحمد بن موسى بتاز والت، وكان
لها من النفوذ والظهور ما مكن رجالها ،بعد من تملك سوس وغيرها من البلاد الصحراوية. بل امتد سلطانها إلى السودان في عهد إمارة الشيخ إبلغ التي أسسها أحد حفدة الشيخ أبي حسون المعروف ببودميعة. وبلغ من شأن مؤسسها سيدي أحمد بن موسى تلميذ سيدي عبد العزيز التباع، أن زاره السلطان أبو عبد الله الغالب السعدي، وأخذ عنه. وارجع إلى تاريخ هذه
(1) وهي حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل"، وله حاشية على "شرح ميارة الكبير للمرشد المعين"، في أربعة مجلدات. اطلع عليها مولانا الأستاذ الإمام الوالد وأثنى عليه كثيرا.
٣٦٤
الأدب والمتفرقات
الزاوية في كتاب "إيلغ قديمًا وحديثًا للمرحوم محمد المختار السوسي. وكزاوية الشيخ ماء العينين بشنقيط، وما كان من أبنائها من محاربة الاحتلال الفرنسي، بموريتانيا ونزوح ماء العينين عنها إلى المغرب في نحو عشرة آلاف من أتباعه، ثم قيامهم بمحاربة الفرنسيين عند إعلان الحماية، مدة قاس منها الفرنسيون كثيرًا، وتمكن من الاستيلاء على مراكش مدة، ثم خرج عنها وتاريخ أحمد الهيبة - ابن ماء العينين - في الكفاح معروف.
وكما كان نشاط هذه الزوايا قائما على أشده، في داخل المغرب، كان لأخواتها الممتدة في طول البلاد وعرضها نشاطها كذلك. وكان هناك تواصل وتزاور وتبادل بين هذه الزوايا المختلفة، مما جعل حركة علمية مباركة، ونهضة صوفية عظيمة، تشمل العالم الإسلامي كله تقريبًا. ولذلك تراهم يتصدرون
المعركة في وجه الاستعمار الأجنبي هنا وهناك؛ لما كان لهم من نفوذ ومنزلة. أفبعد هذا يصح أن ينظر إلى التصوف ورجاله على أنهم من عوامل انحطاط المسلمين وتأخرهم؟ كما يلذ لمن يجهل تاريخهم أن ينسبه إليهم. وقديما
قيل من جهل شيئًا عاداه.
نعم أنا لا أنكر أنه كثر الدخيل في التصوف، وكثر المدعون له، والمحترفون به. ولكن لا يمكن بحال أن يتحمل التصوف ذاته تبعة ذلك، ويكون سبب الحكم عليه وعلى جميع رجالاته جملة وتفصيلا، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: ١٦٤]. وكذلك لا أنكر من جهة أخرى أنه كثر فيه الابتداع، وألصقت به
خواطر دينية جـ ٢ .
٣٦٥
خرافات وأوهام، بسبب الجهلة من الطرقيين والمغترين بهم. ولكن الإنصاف يقضي بقصر الانتقاد على البدع ،المحدثة، دون شموله لكل طرقي ومتصوف. فمن الحق أن يعترف لكل واحد بعمله، ويميز في ميدان النقد والإصلاح الصوفي الذي نتمناه من كل قلوبنا، بين الطيب والخبيث، والجيد والرديء. فنعيب على الطرقيين الذين انحدروا إلى هوة سحيقة من الابتداع والجهل، حتى صار التصوف عندهم محرفة وألعاباً بهلوانية، أول من يتبرأ منها شيوخ الطريقة التي ينتسبون إليها، قبل غيرهم.
فمثل هؤلاء يجب الضرب على أيديهم وتنزيه التصوف عن ترهاتهم وأباطيلهم، التي كثيرًا ما اتخذ منها أعداء الدين سببًا للطعن فيه، ولمزه بما شاءوا. والدين من هؤلاء وأعمالهم ،براء والتصوف كذلك. وللكلام في إصلاح التصوف وتهذيبه مجال ،آخر لا يسع المقام له الآن. فلنكتف بهذا القدر. وشكرا لكم جميعا مرة أخرى، والسلام.
٣٦٦
الأدب والمتفرقات
تكريم الإسلام للمرأة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وآله الأكرمين ورضي الله عن صحابته والتابعين.
أيها السادة: إن من بركات رمضان وما أكثر بركاته هذه السهرات
وهذه الندوات، وهذه الدروس والمحاضرات التي تلقى هنا وهناك. وفي كل مكان، وعلى مختلف المستويات.
إنها ظاهرة رمضانية مباركة تزيد من روعة هذا الشهر وقدسيته. وتتناسب مع جوه وروحانيته حيث تتهذب النفوس فيه بالصيام. وترتفع عن مستوى الشهوات وتحكم الغرائز البهيمية، إلى مستوى أشرف وأسمى، يجعلها متفتحة لقبول الحكمة والموعظة والذكرى، بعد أن تكون ضيقت على الشيطان مجاريه بقطع مادة الشهوات عنه.
ولعل هذا سر تشریف رمضان وتخصيصه بنزول القرآن فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وفرض عبادة الصيام فيه، ليجتمع الجو الصالح المناسب لدراسة القرآن والتعبد به تلاوة وتدريسا، وتعلما وتعليما؛ لأنه أنسب الأزمنة بتدبر آياته، وتفقه معانيه، واستجلاء حكمه وأسراره، والغوص على خبايا درره ولآلئه. حيث كان القرآن كله هدى ونورا وحكمة، وموعظة ورحمة. ودعوة إلى الخير والبر والجود والمواساة، وإيثار رضا الله على رضا النفس والهوى والشيطان.
وهذه كلها معان أنسب بالصيام، بل هي من حكمه وأسراره، فلا عجب أن كان شهر رمضان شهر القرآن.
خواطر دينية جـ ٢
٣٦٧
فإن من المسلم به أن من رق ،شعوره وتهذب حسه، وتحرر من ربقة شهواته وهواه. يكون أقرب إلى الصواب وأنفذ إلى الحقيقة، ممن استعبدته شهواته، وتحكمت فيه أهواؤه وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ ص: ٢٦].
وقوله سبحانه: أَفَرَعَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَنَهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ عِشَوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: ٢٣].
فعلى قدر التهيؤ الذاتي، والتخلي عن الأهواء والشهوات، وعلى قدر التحلي بالمعاني التي يرمز إليها الصيام. يكون الاستعداد أتم للتجاوب مع روح القرآن، واستجلاء أسراره، والتأثر بهديه وأخلاقه.
وهو استعداد خاص فوق الاستعداد العادي، لإدراك مقتضيات الألفاظ ومقتضياتها، عن طريق الوضع والتركيب والإسناد. فهذا استعداد يتوفر في كل من له إلمام باللغة العربية ومعانيها وقواعدها. ولذلك لا أعني هنا هذا الاستعداد العادي العام، ولكني أعني وأقصد ما وراء هذه المدلولات الوضعية، مما يكون مرجعه إلى الموهبة والاستعداد الخاص ولذلك تجد العلماء يتفاوتون ويختلفون في تفسير القرآن كل حسب مشربه وذوقه واستعداده الخاص به. وتجد منهم من يستخرج من الآية الواحدة، ما يدهشك، وتقضي منه العجب، من حكم ولطائف وفوائد وأسرار ، لا يمكن أن يرد بحال إلى العلم بمدلولات اللغة وعلوم اللسان؛ لأنها معان خارجة عن نطاق الوضع والإسناد. خذ مثلا: (الفاتحة)، وارجع إلى ما قيل فيها، وما كتب حولها وما
٣٦٨
الأدب والمتفرقات
استخرج منها من علوم وأسرار، حتى لقد كتب فيها وحدها مجلدات (۱). فهذه اللطائف أو الفوائد أو النكت كما يحلو لكل شخص أن يسميها، إنما
منشؤها هذا الاستعداد الخاص يهبه الله لمن يشاء من عباده. نتيجة صقل النفس وتهذيبها، بتقوى الله سبحانه. مصداقا لقوله تعالى: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانَا ﴾ [الأنفال : ٢٩] ويضيف السادة الصوفية، هنا آية أخرى في معناها. وهي قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ (۲) وَيُعَلِّمُكُمُ الله ﴾ [البقرة: ۲۸۲] ولعل هذا ما عناه الإمام مالك رحمه الله بقوله: ليس العلم عن كثرة الرواية، وإنما العلم نور يقذفه الله في القلوب. ويشهد له: أن الله تعالى وصف الكفار بالصمم والبكم والعمى في غير آية، وجعلهم كالأنعام، بل أضل سبيلا. حيث حال كفرهم وعنادهم دون نفوذ الحق إلى قلوبهم، حتى أنفسهم: قُلُوبُنَا غُلفُ [البقرة: ۱۸۸ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَةٍ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي عَاذَانِنَا وَقَرُ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: ٥] الآية. فكانوا لعدم انتفاعهم بحواسهم في معرفة الحق، والاهتداء إليه، كالعادمين لها. كما قال سبحانه: ﴿فَإِنَّهَالَا تَعْمَى الْأَبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: ٤٦] والمقصود أن شهر رمضان بروحانيته وجوه الخاص، أنسب بدراسة
(1) ولقد قرأ تفسيرها طول شهر رمضان، مولانا الأستاذ الإمام الوالد رضي الله عنه، فأتى بما أدهش الألباب، من الفوائد وأسرار الكتاب.
(۲) والعطف هنا عطف مسبب على سبب.
خواطر دينية جـ٢
٣٦٩
القرآن. ولهذا كان جبريل عليه السلام يخصه بمدارسة النبي صلى الله عليه
وآله وسلّم القرآن فيه. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين
يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. ومن أجل ذلك كان السلف الصالح إذا دخل شهر رمضان، قصروا عبادتهم فيه، على تلاوة القرآن فكان سفيان الثوري رحمه الله إذا دخل شهر
رمضان، ترك كل عبادة كان يشتغل بها، واقتصر على تلاوة القرآن. وكان ابن شهاب الزهري يقول : إذا دخل شهر رمضان إنما هو إطعام الطعام، وتلاوة القرآن.
وكان الإمام الشافعي يختم في رمضان ستين ختمة، عدا الذي يقرأ في الصلاة. وروي عن أبي حنيفة مثل هذا. وإذا كان هذا دأب سلفنا الصالح، فما أحرانا نحن باتباعهم، والاهتداء بهديهم.
ولذلك فإن المسلم يسره كثيرًا أن يرى مثل هذه الدراسات، تكثر في رمضان في المسجد والإذاعة والتلفزة والنادي والمدرسة. وإذ المقصود هو التذكير وإحياء هذا الشهر بما يقرب إلى الله، ويدل عليه وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: ٥٥]. وقد اجتمعنا الليلة - أيها السادة - للكلام عن المرأة في الإسلام. كما اقترحه
۳۷۰
(1)
منظمو
الأدب والمتفرقات
هذا الاجتماع جزاهم الله وسائر العاملين، على تنظيم هذه
الاجتماعات المفيدة، خير الجزاء.
إن الحديث عن المرأة في الإسلام، أو عن حقوق المرأة في الإسلام، أو مكانة المرأة المسلمة في المجتمع، أو المرأة المسلمة عبر التاريخ، وما إلى هذه العناوين التي كثيرًا ما تتردد على الألسن والتي كتب عنها، وقيل فيها الشيء الكثير. ومنذ زمن ليس بالقصير أي منذ احتك الشرق بالغرب إلى الآن، هو في الواقع حديث رغم ما كتب عنه، وما قيل فيه محتفظ بجديته وأهميته. ولا يزال الميدان واسعا أمام الخائض فيه، بل في حاجة إلى المزيد من العناية به، ونشره على نطاق واسع.
تتجدد دواعي الكلام فيه، أمام سيل من الاتهامات المغرضة، والادعاءات الملفقة التي يحاول بها أعداء الإسلام وخصومه التأثير بها على شبابنا وناشئتنا. خصوصا المرأة المعاصرة، والفتاة المتعلمة ليتوصلوا عن طريق هذه الاتهامات إلى تصوير الإسلام، في نظر ناشئتنا وجيلنا بأنه دين جمود وتحجير، وعامل من عوامل تأخر المسلمين كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا
[الكهف: ٥].
والمؤسف حقا أن يغتر بمثل هذه الدعاوى الباطلة كثير من شبابنا نتيجة جهلهم بالإسلام وتعاليمه وجهلهم بتاريخه وحضارته. فتجد الكثير منهم يعتقد صدق ما تلقاه، أو ما قرأه عن أعداء الإسلام، في حق المرأة المسلمة،
(۱) هم رجال جمعية الأمل بطنجة.
خواطر دينية جـ ٢ .
۳۷۱
وظلم الإسلام لها، وحرمانها من حقوقها الطبيعية في الحياة والعيش الكريم. وأن المرأة المسلمة تعامل كمخلوق أقل شأنا من الرجل، بل لا حق لها إطلاقا في التمتع بمتع الحياة. وأن الإسلام قد حكم عليها بالسجن المؤبد، ومن ثم حرمها حق التعليم والتصرف في شئونها، ومنعها من أن تسهم بنشاط في تكوين مجتمعها، وأن تكون عضوا صالحا فيه.
وأعجب من هذا، وأشد أسفًا أنهم ينظرون إلى تعاليم الإسلام في حق
.
المرأة - وكلها تعاليم ترفع من شأنها وقيمتها، وتحوطها بهالة من التقدير والإكبار - ينظرون إليها على عكس ما أريد منها، تحت تأثير مفاتن المرأة الغربية، ومغريات تبرجها وانحلالها. واعتبار ذلك منها تحضرًا وتمدنا، كأن سر الرقي والتمدن هو أن تفقد المرأة حشمتها، وتعري جسمها، وتكشف عن فخذيها. وتحضر حفلات الرقص، وتبالغ في الزينة، وتصادق من تشاء، وتختلي بمن تشاء. وتثور على أعراف الحياء والعفاف، وتهجر بيتها لتزاحم الرجال في الشوارع ذهابًا وجيئة، وفي قاعات السينما، وعلى شواطئ البحار. وتتفنن في الأزياء المزرية وغير ذلك مما لا يعد من المدنية، والحضارة الصحيحة، والرقي والتقدم في قليل أو كثير. وهؤلاء عقلاء أوربا وأمريكا، أخذوا يضجون مما وصلت إليه المرأة الغربية من انحراف وخلاعة وانحلال. ولكن شبابنا - وأعني المتطرفين منهم والمفتونين بمظاهر المرأة الغربية بالطبع لا يقيسون الحضارة إلا بمقياس هذه المظاهر الجوفاء. أما أن يقيسوها بمقياسها الصحيح،
مقياس العلم والتسابق في ميادين المعرفة والفضيلة، ويعمدوا إلى التفريق بين ما هو من جوهر المدنية ولبابها، وبين ما هو من قشرها وتمويهاتها، فهذا أبعد ما
۳۷۲
يكونون عنه.
الأدب والمتفرقات
فإن كان هؤلاء يعيبون على الإسلام أنه صان المرأة عن الابتذال، وحرم عليها الاختلاء بمن لا يحل لها من الرجال والتبرج وإثارة غرائز الشهوة من الرجال، وتعرية جسمها، وإبداء مفاتنها.
وبالجملة: حرم عليها كل ما يغري بها، ويكون مثار فتنة الرجال بها. إن كانوا يعيبون عليه هذا، فأكرم بما يعيبونه عليه !! وأجمل بما ينقمونه منه !! فإن الإسلام من صفاته أنه دين الحياء ،والوقار، والعفة والحشمة والطهر والعفاف، والتعقل والحكمة. والحفاظ على الكرامة الإنسانية، والمقومات البشرية التي بها يتميز الإنسان عن الحيوان.
ولن يرضى الإسلام بحال لأتباعه أن ينحدروا وراء هذه المغريات إلى الهوة التي انحدرت إليها أمثال عشيقة سارتر» حين قالت: إن الزنا أمر عادي، لا معنى لاستقباحه واستهجانه.
وأمثال بعض القوانين الحديثة، حين اعتبرته أمرًا لا ضرر فيه إذا خلا عن عنصر الإكراه، ووقع باتفاق الطرفين، وتبعا لذلك اعترفت بشرعية ابن الزنا وأعطته حقوق الابن الشرعي، مما يعطي الزنا صفة المشروعية!! فهذا طبعا لن يرضى عنه الإسلام بحال. أما إن كانوا يعنون أن الإسلام ظلم المرأة في حقوقها المشروعة وحجر عليها التعليم، أو منعها من حق مباشرة مالها، والتصرف فيه كما يحلو لها. أو استهدف مما أحاطها به من صون وتشريف وتكريم، ظلمها أو اتهامها. فهذا أبعد ما يكون عن الواقع والمنطق والتاريخ. ولا يعدو أن يكون تشويها
خواطر دينية جـ ٢
۳۷۳
للحقيقة والتاريخ، وظلمًا للإسلام، فيما سبق إليه المدنية الحديثة من ضمان لحقوق المرأة المشروعة، كما يشهد بذلك التاريخ، والمنصفون من الأوروبيين. وها هو ذا القرآن أمامنا، فتعال نستعرض بعض آياته المتعلقة بالمرأة لنرى منها أي حق أعطى الإسلام للمرأة؟ وأي مكانة أحلها فيها؟ وكيف اعتبرها شريكة الرجل وعماد حياته؟ وعليهما معا يقوم نظام الحياة، وتتحقق معاني الإنسانية. فلا غنى للمرأة عن الرجل، ولا غنى للرجل عن المرأة. وكيف جعلها شقيقة الرجل في الأحكام، وفي كل شيء إلا ما كان راجعا لطبيعة كل منهما خلقة، وإعدادًا للوظائف التي ميز الله بها الرجل عن المرأة ليقوم نظام الكون على الوجه الأكمل. وهو أمر لا مدخل للإسلام فيه. فهي فروق فرضتها طبيعة المرأة ذاتها، فجاءت وفق النظام الذي خلق الله عليه كلا من الرجل والمرأة. حتى يكون ديناً متمشيا مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتلك من محاسن الإسلام، وسر من أسرار تعاليمه الخالدة.
استعراض بعض الآيات الواردة في المرأة
وإذا أردنا استعراض جميع الآيات التي تعرضت للمرأة، فإننا نجدها من الكثرة بحيث لا يسع لها وقتنا هذا، ولا يكفي فيها محاضرة واحدة، فهي من الكثرة، بحيث تكون جزءًا مهما من القرآن. وقد تتبعها محمد صديق حسن خان ملك بهو بال، فجمع منها ومن الأحاديث الواردة في المرأة، كتابا خاصا سماه "حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة" وهو مطبوع في الأستانة في حجم متوسط بلغت أوراقه ٤٢٤ صحيفة، وتقع فهرسته وحدها في ٣٠ صفحة ومن هنا ندرك أهمية المرأة في الإسلام، إذ كانت تحتل هذا الحيز
٣٧٤
الأدب والمتفرقات
المهم من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم . وإذا كان لا يمكننا استعراض جميعها في هذه المحاضرة كما قلنا، فلا أقل من استعراض بعضها، والوقوف عنده قليلا.
.
وهي آيات موزعة في كثير من سور القرآن، فمنها آيات تبين مكانة المرأة في الحياة، وأنها كالرجل في كل شيء، ومنهما معا كان المجتمع البشري. قال تعالى: يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَنْقَلَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات : ١٣].
قال تعالى: خَلَقْتَكُو مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى ، فلا فرق أبدا بين الذكر والأنثى في حقيقة الإنسانية، ولا في الحكمة من وجود الإنسان على هذه البسيطة، ولا في الأعمال التي يقوم بها الإنسان ولا فضل للرجل على المرأة والعكس، إلا بالتقوى والعمل الصالح. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فالخطاب لكل من الرجل والمرأة على سواء.
وقال تعالى: يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبن منهما رِجَالًا كَثِيرًا وَنسَاهُ } [النساء : 1]. فتقرر بهذه الآية أن المرأة بشر وأنه لا غنى للمجتمع الإنساني عن كل من الرجل والمرأة فعليهما معا يقوم نظام الكون وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تذَكَّرُونَ [الذاريات: ٤٩]. قرر هذا ردا على من كانوا يزعمون أن المرأة من الحيوان الأعجم، أو من الشيطان لا من نوع الإنسان بحال. فقد كان هناك كثير من المجتمعات، دأبت على اعتبار أن المرأة ليست من نوع الإنسان، حتى
خواطر دينية جـ ٢
۳۷۵
قرر أحد المجامع في روما أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة وأن يكمم فمها كالبعير والكلب العقور، لمنعها من الكلام والضحك باعتبارها أحبولة الشيطان.
واعتبرت في فرنسا مدة أنها حيوان وليست بإنسان حتى سنة (٥٨٦م) حيث قرروا إنصافها باعتبارها إنسانًا لا حيوانًا ولا شيطانا، ولكنها خلقت لخدمة الرجل.
ويقول العالم الفرنسي هنري ماريون وهو من الرجال المختصين في تربية البنات بفرنسا، في كتابه عن المرأة ترجمة إميل زيدان: إن مجمع باكون في القرن الخامس بحث في: هل للمرأة نفس كالرجل؟ أو لا؟ ولم يكن جوابه على هذا السؤال بالإيجاب، إلا فيما يخص مريم العذراء.
فوازن هذا بما ذكر عنها القرآن، ودع الأفاكين يقولون بعد ما شاءوا. وقال تعالى في معرض الامتنان على الإنسان، حيث خلقه من ذكر وأنثى،
ليكمل كل منهما الآخر، وبهما معا تتم سعادة كل منهما، فيرتاح الرجل للمرأة، وترتاح المرأة للرجل، باعتبار أن كلا منهما متمم لمعنى إنسانية الآخر، وسبب سعادته وغبطته: وَمِنْ ءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: ۲۱]. وهكذا جعل الإسلام من الزواج سبب سعادة وتآلف وغبطة واطمئنان. بعد أن كان الزواج في كثير من قبائل البدو، وحتى في الشعوب المتحضرة، ضربًا من استرقاق الرجال للنساء. قال قاسم أمين في كتابه "المرأة الجديدة": «ترتب
٣٧٦
الأدب والمتفرقات
على دخول المرأة في العائلة، حرمانها من استقلالها، لذلك نرى رئيس العائلة عند اليونان والرومان والجرمان والهنود والصينيين والعرب، مالكًا لزوجته. كان يملكها كما يملك الرقيق، بطريق البيع والشراء بمعنى أن عقد الزواج كان يحصل على صورة بيع وشراء. وهذا أمر يعرفه كل مطلع على التاريخ الروماني، يشتري الرجل زوجته من أبيها ، فتنتقل إليه جميع حقوق الأب عليها. ويجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لشخص آخر . اهـ ولم يكن الزواج عند عرب الجاهلية بأحسن حالا من هذا، حيث كانت الزوجة تعتبر إرنا، تورث في جملة ما يورث عن الرجل وللابن الحق في أن يمسك امرأة أبيه لنفسه أو يحبسها حتى تفتدي بصداقها أو تموت، فيذهب
مالها.
قال السدي: إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو قريبه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارثه فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه - أي موروثه أو ينكحها لغيره، فيأخذ مهرها هذا بينما اعتبرت هذه الآية الزواج سكونا نفسيا واطمئنانا روحيًا، يربط أحد الزوجين بالآخر، برباط المحبة والمودة والرحمة وهذا سر تسمية كل من الرجل والمرأة زوجا، مع أنه شخص واحد، وهي كذلك، والزوج يعني الشفع والإثنينية، ولكن القوم غفلوا عن معنى التسمية، وجعلوا من الزواج عبودية للمرأة، واسترقاقا
وتجارة بكرامتها. وقال تعالى ردا على اعتقاد العرب وما كانوا عليه من كراهية للبنت واعتبارها سبة وعارًا وتسفيها لآرائهم وعاداتهم التي كانت تجعل الواحد
خواطر دينية جـ ٢
۳۷۷
منهم إذا بشر بولادة أنثى، توارى عن القوم واختفى عن أنظارهم خجلا مما لحقه من عار ولادة الأنثى على فراشه وفي بيته: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمُ ) يَتَوَرَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيْمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يد سهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: ٥٨ - ٥٩].
ولهذه الكراهية كان بعضهم يئد بناته أحياء، والوأد وإن لم يكن عاما عند جميعهم، كان في نظرهم غير محظور ، ولا داعي إلى الإنكار على فاعله. هذا إذا لم نسلم ما ذكره الهيثم بن عدي من أنه كان مستعملا في قبائل العرب كلها وأن نسبة الوائدين تصل إلى واحد من عشرة. وكانت أسباب الوأد متعددة عندهم: فمنهم من كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم، إذا كبر بناتهم فسبين أو استرققن أن أتين بفاحشة تلحق العار بهم.
ومنهم من كانوا يندونهن مع الأولاد مخافة الفقر.
ومنهم من كانوا يتدون المعيبات منهن فقط كالبرصاء والعرجاء والسوداء.
ومنهم من كانوا يئدون تقربًا إلى الله في زعمهم ببناتهم، لاعتقادهم أن الملائكة بنات الله، فكانوا يتقربون إليه، بما هو من نوع بناته، تعالى الله عن جهلهم وكانوا أحيانًا يئدونهن في صورة من القسوة والوحشية، إذا ما حبس الأب عذر عن وأد بنته وهي صغيرة أمهلها إلى أن تكبر وتعقل ثم يعمد إلى دفنها وهي على قيد الحياة أو يلقي بها من شاهق.
فجاء الإسلام وحرر المرأة من هذا الظلم الفاحش، وأثبت أن قتلها خطأ
۳۷۸
الأدب والمتفرقات
كبير وإثم عظيم، وأن وائدها مسئول عن الذنب الذي من أجله وأد ابنته، فقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُ دَةُ سُبِلَتْ بِأَتِي ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: ٨ - ٩] قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوَلَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَبْلَهُمْ كَانَ خِفْنَا كبيرا [الإسراء: ۳۱)(1)
وقرر في عدة آيات، استواء الرجل والمرأة في الأعمال وأحكام الشرع، فقال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَلِحَا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةٌ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: ٩٧].
وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَيْكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
[غافر: ٤٠].
وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَمِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: ١٩٥] أي فهم سواء في المجازاة. وأخرج الترمذي والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل هذه الآية، تطيبًا
(1) هذه الآية، خطاب لذوي اليسار الذين كانوا يئدون أولادهم خشية الفقر. وقوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ [الأنعام: ١٥١] خطاب للفقراء. ولذا لم يقل هنا: إِنَّ قَبْلَهُمْ كَانَ خِطا كبيرا لأن الفقر خفف
الإثم.
خواطر دينية جـ ٢
۳۷۹
لنفوسهن ، وإعلاما بأنهن والرجال سواء في الأعمال والجزاء عليها. وقال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَيْئِينَ وَالْقَيْنَتِ والصَّدِقِينَ وَالصَّدِقَاتِ والصَّابِرِينَ والصَّبِرَاتِ وَالْخَشِعِينَ وَالْخَشِعَتِ وَالْمُتَصَدِقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَتِ وَالصَّمِينَ وَالصَّمَتِ وَالْحَفِظِينَ فرُوجَهُمْ وَالْحَفِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مغْفِرَةٌ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٣٥].
وورد في سبب نزول هذه الآية، قول النساء لو كان فينا خير لذكرنا. كما
قالت أم سلمة في الآية السابقة، أعني آية (آل عمران).
ولعل في هذا القدر من الآيات التي ذكرنا ما يكفي للتدليل على المكانة التي وضع الإسلام فيها المرأة ويلقم حجرًا أولئك الأفاكين المتخرصين المتقولين على الإسلام ما شاءت لهم أحقادهم وأغراضهم الفاسدة.
استعراض بعض الأحاديث الواردة عن المرأة
أيضًا
ولا بأس أن نتبع هذا القدر من الآيات ببعض الأحاديث النبوية التي تحث على إكرام المرأة واحترامها ومعاملتها بما يليق، بمكانتها ووظيفتها في المجتمع، حتى إذا أتينا على بعضها، انتقلنا إلى ذكر بعض الحقوق التي ضمنها الإسلام للمرأة. وما قلنا عن الآيات، نقول مثله عن الأحاديث فهي أ كثيرة جدا، ولكن مع ذلك نذكر بعضا منها تتميما لإعطاء نظرة عامة عما حظيت به المرأة في القرآن والسنة. فمن هذه الأحاديث توصيته صلى الله عليه وآله وسلم بالمرأة والمبالغة في
۳۸۰
الأدب والمتفرقات
شأنها في خطبة الوداع تلك الخطبة التي تعرفون أهميتها في الإسلام. إذ كانت آخر خطبة منه صلَّى الله عليه وآله وسلّم في جمع عام. واقترن بها إكمال الدين، وإتمام نعمة الله على المسلمين.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيها كالناعي نفسه لأمته، إشعارًا بانتهاء مهمة الرسالة التي بعثه الله من أجلها، فضمن صلى الله عليه وآله وسلم هذه الخطبة وصايا هامة، وقرر فيها ما ضمنه الإسلام لأتباعه من حقوق، تعتبر حجر الأساس في تكوين المجتمع الإسلامي الصالح كما أراده الله عزّ وجل. في هذه الخطبة بالذات، قال صلى الله عليه وآله وسلّم - حسب رواية
(1)
عمرو بن الأحوص - : ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة». إلى أن يقول: ألا وإن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» الحديث. وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا
رضي آخر». رواه مسلم. والفرك: البغض والكراهية.
وقال عليه الصلاة والسلام: استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت
(۱) بكسرتين جمع عانية أي أسيرة والتنوين هنا تنوين العوض، مثل غواش. ومن قرأ: «عوان» بضمتين، فقد لحن، وغير المعنى، إذ العوان الوسط بين أمرين، قال تعالى:
عوان بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: ٦٨] .
خواطر دينية جـ ٢
۳۸۱
من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم
يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء». رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم : إن ذهبت تقيمه كسرتها، وكسرها طلاقها». ومعنى الحديث: أن في طبع المرأة عوجًا وصلابة طبع، فهي كالضلع في العوج وعدم الاستقامة. فيجب على الرجل ألا يحاول تقويم هذا الاعوجاج منها بالقوة، أو يجاريها فيه. بل يعدل إلى الحسنى ويريد بها خيرًا. فإنه إذ ذاك فقط يمكنه أن ينتفع بها، كما جاء في حديث آخر: «فدارها تعش بها». نعم إن كان اعوجاجها خارجًا عن نطاق الفطرة والطبيعة، فلا مانع من
تأديبها ومقاومتها، لرد انحرافها وزيفها.
وقال صلى الله عليه وآله وسلّم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم». رواه ابن عساكر، ورمز
له السيوطي في "الجامع الصغير" بعلامة الصحة. وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم لعمر حين سأله عن آية الوعيد على كنز
الذهب والفضة: «ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته
(1),
وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته». رواه أبو داود وغيره. وقال عليه الصلاة والسلام من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة
أنا وهو». وضم أصابعه. رواه مسلم.
ولفظ الترمذي: «دخلت الجنة أنا وهو كهاتين».
(۱) في رواية حفظته في نفسها وماله».
۳۸۲
الأدب والمتفرقات
وقال أيضا: ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة». رواه ابن ماجه.
وفي حديث آخر: «ما من مسلم يكون له ثلاث بنات فينفق عليهن حتى يبن أو يمتن كن له حجابًا من النار».
وفي حديث آخر: من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا،
وسيأتي بعضها عند الكلام على حقوق المرأة في الإسلام.
أفيجوز أن يدعي بعد هذا مدع أن المرأة مهضومة الحق في الإسلام؟ أو أن الإسلام أهانها؟ أو نحو ذلك مما اعتادوا التشويه به؟ وهي تحتل من مصدريه
الأولين هذه المكانة ؟!! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم!!
والآن وقد أعطينا نظرة عامة مجملة عن مكانة المرأة في الإسلام، وكيف حررها من المظالم التي كانت ترزح تحت نيرها سواء عند البدو، أو الأمم الحضرية، وكيف كان ينظر إليها؟ ويختصم القوم ويتجادلون في حقيقتها : أهي حقا من نوع الإنسان؟ أم من نوع آخر غير الإنسان؟ وكيف قررت بعض مجامع أوربا أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود؟ وكيف كان جواب بعض المجامع الأخرى بأن المرأة لا نفس لها كالرجل إلا ما كان من مريم العذراء، خصوصية لها وحدها دون النساء؟!! وكيف أن أحسن إنصاف لها كان في فرنسا حين اعتبرت إنسانًا لا حيوانًا، إلا أنها خلقت لخدمة الرجل؟!! وكيف كانت تباع وتشترى عن طريق الزواج؟ وتورث في جملة ما يورث من متاع؟ وتحرم كل تصرف في شئونها ومالها؟ وكيف كان آخرون يتلقون البشارة
خواطر دينية جـ ٢
۳۸۳
بولادتها ويعمدون إلى وأدها؟!!
الآن وقد عرفنا كل هذا فلا بأس أن ننتقل إلى ما ضمن لها من الإسلام من حقوق، وما أعطاها من حرية التصرف المطلق في نفسها ومالها. وكيف اعتبرها مسئولة في مجتمعها ربيتها وعن أولادها، وكيف عاملها على أساس المساواة التامة بينها وبين الرجل إلا في جزئيات ترجع إلى اعتبارات خاصة دون أن يكون في ذلك مساس بحقها، أو إهانة لقدرها، أو نقص من إنسانيتها. أعطى الإسلام للمرأة حق اختيار زوجها بكرًا كانت أم ثيبا:
وأول هذه الحقوق الخاصة بعد تلك الحقوق العامة التي تقدمت: حق اختيار زوجها وشريكها في الحياة، وقرينها إلى الأبد. أو بعبارة أخرى: تحويل زواجها من أن يكون استعبادا واستغلالا وإكراها، إلى نعمة وحرية واستمتاع ومودة ورحمة. إذ جعل الإسلام من الزواج عقدًا دينيا مقدسًا؛ لقضاء حق الفطرة بسكون النفس من اضطرابها الجنسي، وجعله يستهدف إلى المودة والرحمة عن طريق المعاشرة بالمعروف والإحسان كما أرشدت إليه آية وَمِنْ ءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: ٢١].
وآية فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَنِ ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وآية: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: ١٩].
وإذا كان الإسلام قد اعتبر الزواج مودة ورحمة وسبب سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخر، كان حتما إعطاء المرأة حق اختيارها لهذا الزوج الذي
٣٨٤
الأدب والمتفرقات
يجب أن تسكن إليه، ويسكن هو إليها. ومن أجل ذلك منعا الأولياء حتى الآباء من الاستبداد في تزويج بناتهم ممن لا يرضين. مع العلم بأن كل الأمم والدول كانت تعطي الرجل حق إكراه بنته وقريبته على الزواج ممن يحب هو، لا ممن تحب هي. فأعلن صلى الله عليه وآله وسلَّم لأول مرة في التاريخ حق المرأة في اختيار
عشيرها ورفيقها في الحياة، وأبطل كل إكراه من جانب الأب أو الولي عليها. أخرج أهل السنن إلا مسلما عن خنساء بنت خدام الأنصارية: أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم،
فرد نكاحها.
وأخرج أحمد والنسائي من حديث بريدة: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسیسته ليرفع من شأنه قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الأمر إليها. فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء: أنه ليس إلى الآباء من الأمر شيء، تعني أن ليس لهم إكراه بناتهم على التزوج ممن
لا يرضين. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور الذي أخرجه الجماعة إلا البخاري: الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها». أي يكتفى بسكوتها الحيائها، ويعتبر السكوت منها رضا وموافقة؛ لأن أنها ما سكتت إلا عن رضا. فإن لم ترضَ واعترضت بطل
العادة
تقضي
خواطر دينية جـ ٢
٣٨٥
النكاح، وإلا لم يكن لاستئذانها فائدة.
قال ابن القيم في "الهدي"، في تقرير حق البنت في اختيار زوجها: إن البالغة العاقلة الرشيدة، لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه، بدون إذنها فكيف يجوز أن يخرج نفسها منها بدون رضاها ؟!! ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها، أسهل عليها من تزويجها ممن لا تختاره. إلى أن قال: فلو لم تأتِ السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره.
ولأجل هذا كان مذهب مالك - رحمه الله - في إعطاء الأب حق إجبار بنته البكر، ضعيفًا مخالفًا لصريح الأحاديث السابقة. ولقد أحسنت مدونة
الأحوال الشخصية بتقرير هذا الحق، للبنت في التشريع المغربي. وبعد أن أعطى المرأة حق اختيار زوجها ساوى بينها وبين الرجل في اقتسام الواجبات والحقوق بالمعروف، مع جعل الرياسة على البيت، والقيام على الشئون التي يقتضيها الزواج بيد الزوج؛ لأنه أقدر على النفقة والحماية لحقوقها وحقوق الأولاد، بحكم طبيعته ومؤهلاته الفطرية التي خلقه الله عليها. قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: ۲۲۸]. فأبطل بهذه الآية الكريمة جميع النظريات والدعاوى والعادات والتقاليد التي كانت تجعل الحقوق كلها في جانب الرجل القوي، دون أن يكون للمرأة الضعيفة أي حق معه في نفسها أو مالها أو ولدها.
قال الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية هذه كلمة جليلة جدا، جمعت
٣٨٦
الأدب والمتفرقات
على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير. فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرًا واحدا عبر عنه بقوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: ۲۲۸] ، وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: ٣٤].
وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم لأهليهم. وعُرف الناس، تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم.
فهذه الآية ﴿وَهَنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف [البقرة: ۲۲۸] تعطي الرجل میزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشئون والأحوال، فإذا هم بمطالبتها بأمر، تذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه ومقابله . ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي؛ لهذه الآية. فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه. فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل. فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين في الآخر، ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه، لاسيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين للآخر والقيام بحقوقه. ثم نقل عن الشيخ محمد عبده: أن هذه الدرجة التي رفع النساء إليها في الإسلام لم يرفعن إليها في دين سابق، ولا شريعة من الشرائع. بل لم تصل إليها أمة من
خواطر دينية جـ ٢
۳۸۷
الأمم قبل الإسلام ولا بعده حتى الأمم الأوربية التي كان من تقدمها في الحضارة عنايتها بالمرأة وتربيتها وتعليمها، لا تزال قوانين بعضها كفرنسا تمنع المرأة من حق التصرف في مالها ) بدون إذن زوجها، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية، منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف. وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء، كما كن في عهد الجاهلية عند العرب، أو أسوأ حالا.
وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا، في إعلاء شأن المرأة يفخرون علينا، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء. ويزعم
(۱) کتب هنا صاحب المحاضرة، هذه الجملة : قال الكاتب الهندي همايون كبير في كتاب العلم والديمقراطية والإسلام" ترجمة نوية بمطبعة دار الهلال ص ٢٥: «إن الدعوة إلى الديمقراطية، قد وجدت تعبيرًا حيا عنها، في نظم جديدة، استحدثها الإسلام. وكان أول هذه النظم وأبرزها، هو الاعتراف للمرأة بالشخصية القانونية. فجعل لها الحق في التصرف والتملك... إلى أن قال : وهذا الاستقلال الاقتصادي، لم تكن تستمتع به المرأة قبل الإسلام وحرمانها حق التمتع بالتصرف والتملك، لم يجعل لها كيانا في نظر القانون المدني. وصحيح أن الحقوق التي خولت للنساء المسلمات، لم تكن في كل الجوانب ذات الحقوق المخولة للرجال. ولكنها على أي حال كانت الضربة الأولى، قضت على الامتيازات التي كان يستأثر بها الرجل. والاعتراف بمركزها الاقتصادي يمثل نصرًا جديدًا للديمقراطية في مجال المساواة بين الجنسين . اهـ وما أفاده كلامه من وجود فوارق بين الحقوق المخولة للرجل والمرأة في الإسلام، سبق، ويأتي الجواب عنه.
۳۸۸
الأدب والمتفرقات
الجاهلون منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا. ثم حكى قصة السائح الإفرنجي الذي زاره في الأزهر، وإذا به يرى امرأة تمر في مسجد الأزهر، فبهت، وقال: ما هذا؟ امرأة تدخل الجامع ؟ فقال له محمد عبده: وما وجه الغرابة في ذلك؟ قال: إننا نعتقد أن الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح، وليس عليهن عبادة. قال عبده معلقا على الحكاية فانظر إلى جهل هؤلاء بالإسلام، حتى مثل هذا الرجل الذي هو رئيس الجمعية كبيرة، فما بالكم
بعامتهم؟!!
والمهم أن هذه الدرجة التي جعلها الله للرجل على المرأة، فسرتها آية: الرجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ﴾ [النساء: ٣٤] وبسبب هذه القوامة كان على الرجل واجب النفقة على زوجته وأولاده، وسهره على كل ما فيه راحتها وراحة أسرته جمعاء؛ لأنه أقدر على النفقة والتصرف في المكاسب منها بحكم الواقع والاستعداد الفطري. ولذلك أعفيت المرأة من كل نفقة، حتى المهر يدفعه الرجل إليها، ولا تكلف بشيء من واجبات النفقة والكسوة والسكن حتى ولو كانت غنية ثرية.
وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة كل من الرجل والمرأة، وما منا من يجهل المتاعب التي يتعرض لها الرجل في سبيل الحصول على وسائل العيش فتراه يكدح ويقتحم كل الصعاب، ويتعاطى أعمالاً وخدمات، ندرك بالضرورة عجز المرأة عنها، وعدم لياقة إقحام المرأة في أعمال لا تتفق بحال مع أنوثتها ونعومتها، لاسيما إذا كانت أعمالا ،مرهقة، كعمل البناء والخدمة في
طبيعة
خواطر دينية جـ ٢
۳۸۹
الأوراش وما إليها. فضلا عن تعرض المرأة للحمل والولادة، واضطرارها إلى التوقف عن أعمالها أثناء فترات الولادة وما يتبعها من واجبات الرضاع والعناية بالوليد إلى ما يجر عليها الاندفاع وراء الكسب، من مضايقات لا تشرفها بحال، ولا تليق بها كربة بيت، وذات زوج.
إذن فالطبيعة التي أوجدها الله عليها تقتضي إعفاءها من مسئولية النفقة حتى على نفسها، فكيف على زوجها وأولادها؟ وإذا كان الأمر كذلك، تعين هذا الحق على الرجل وحده وبموجبه يكون له حق الإشراف عليها، وحق حمايتها، والسهر على مصالحها، وذلك هو معنى الدرجة في الآية.
لم كان المهر على الرجل دون المرأة؟
وهنا تدعونا المناسبة إلى الكلام على سر جعل المهر على الرجل دون المرأة، حيث يصور بعضهم دفع المهر، بعمل يتنافي مع كرامة المرأة؛ لأن الغربيين لا يدفعون مهرًا لأزواجهم، بل المرأة هي التي تدفع المهر لزوجها. ونحن نقول لهؤلاء: ما دام هناك مهر، واعتباره واسطة في الزواج، وعربونا على إتمام عقد الزوجية. فالمهر هو المهر، سواء دفعته المرأة للرجل، أو دفعه الرجل. فما يقال عليه في جانب الرجل، يقال في جانب المرأة سواء. فما بالكم لا تستقبحونه من جانب المرأة وتستقبحونه من جانب الرجل؟ وما بالكم تستقبحونه من جانب المسلمين ولا تستقبحونه من جانب الأوربيين المسيحيين؟!! أليس هذا مجرد تحكم وهوى و تعصب بارد؟!! ثم نرجع إلى أنفسنا لنتساءل: أي الأمرين أنسب بالشهامة والمصلحة؟
۳۹۰
الأدب والمتفرقات
أيكلف الرجل بدفعه وهو أقدر على الحصول عليه بحكم طبيعته كما سبق ؟ أم تكلف المرأة بدفعه وقد لا تجد وسيلة للحصول عليه إذا كانت فقيرة أو يتيمة، إلا وسيلة لا يرضى عنها ذو شهامة ؟ أما الإسلام فقد فرض المهر على الزوج؛ لأنه فرض عليه كل تكاليف الزواج وتبعاته. ثم هو مع ذلك يرمي إلى حكم تكريم المرأة بجعلها مطلوبة لا طالبة، وأن تطيب نفسها برياسة الزوج عليها وأن تستعين به على مؤن زواجها وما يلزمها من تجهيز وأدوات التجمل والزينة لاستقبال زوجها. والعادة جارية بإعطاء هدايا زائدة عن الصداق، زيادة في تأكيد المحبة، والرغبة في المرأة.
وإذا تأملنا لفظ الآية: ﴿ وَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: ٤] وجدنا أن
الصداق يُعطى نحلة، والنَّحْلة: هي العطاء دون مقابل.
قال صاحب "المنار" في تفسير الآية: وينبغي أن يُلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الفقهاء من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع والثمن له كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من
أن
الصلة بين الرجل وفرسه أو جاريته. ولذلك قال: نحلة فالذي ينبغي : يلاحظ هو أن هذا العطاء آية من آيات المحبة وصلة القربى، وتوثيق عرى
المودة والرحمة» . اهـ
والمهم هو فرض الصداق وإعفاء المرأة منه، وعلله بعد بما تشاء. وما دمنا في الكلام على الزواج، ينبغي أن نشير إلى ما قد يعاب على
خواطر دينية جـ ٢
۳۹۱
الإسلام من إباحته تعدد الزوجات؛ لأنه من أكبر الأمور التي يعيب بها
الإسلام أعداؤه والجاهلون بسر تعاليمه، وحكم شرائعه.
فنقول: إن تعدد الزوجات كان أمرًا معمولا به عند العرب وغيرهم من الأمم، كان فاشيًا عند الرومان واليونان والأوربيين وغيرهم، وما منعه أهل أوربا إلا في القرون الأخيرة. ولكنهم استبدلوا بتعدد الزوجات الشرعيات السفاح واتخاذ الأخدان الصواحب وكان للرجل الحق في أن يتزوج من شاء بدون حد، أو اشتراط العدل في معاملتهن.
فلما جاء الإسلام حصر هذا العدد في أربع. واشترط له العدل حتى إذا خاف ألا يعدل، وجب عليه الاقتصار على واحدة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تَعْدِلُوافَوَاحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمَتُكُمْ ﴾ [النساء : ٣].
ثم هو مع ذلك، لم يوجبه على الرجل، وإنما اعتبره بمثابة ضرورة من ضرورات الاجتماع، في أحوال خاصة، يكون معها التعدد على وجه شرعي، ومضمون فيه الحق للزوجات خيرًا على كل حال من الزنا واتخاذ الأخدان سرا. كما إذا كانت المرأة مريضة، مرضًا يمنع من الاستمتاع، أو عقيما، والرجل له رغبة في الأولاد، أو تكون حرب تخلف وارءها جيسا من الأرامل والأيتام فيكون من الرفق بهن إذ ذاك صون كرامتهن وعفافهن، بدلا من أن يتركن للفاحشة والضياع، واحتراف البغاء. مع ما ينشأ عنه من أمراض ومصائب، ولاسيما في شرع يشتد في تحريم الزنا، والعقوبة عليه، ويسد كل الذرائع الموصلة إليه.
۳۹۲
الأدب والمتفرقات
ثم هو مع ذلك لم يبح التعدد، إلا مع القدرة على العدل بين الزوجات. فإذا تحقق هذا العدل على الوجه الشرعي لم يكن على المرأة ضرر في أن يغيب عنها زوجها ليلة أو ليلتين إلى ثلاث ليال، وهي أقصى ما يمكن. يغيب عنها في الفراش فقط، مع ضمان كل الحقوق المفروضة لها، وهي وحدها. وإذا كان التعدد يؤدي إلى مشاكل في حياة الأسرة، فالآفة من التربية وطغيان الأنانية، أو من عدم تطبيق العدل في معاملتهن، أما لو صحت التربية، وطبق العدل على الوجه المطلوب، فما أظنه يترتب عنه في حد ذاته ما يكون سبب مشكل يدعو
إلى منعه. كذلك الطلاق، هو أيضًا من محاسن الإسلام؛ لأنه في بعض الحالات يكون ضرورة حتمية، إذا تعذر على الزوجين القيام بالحقوق الزوجية. فإذا لم يبح لهما الطلاق، فقد حكمنا عليهما بالشقاء المؤبد. وحكمنا على الأسرة كلها بالتعاسة، والحرمان من نعمة الاستقرار إلى ما ينشأ عن التقيد بهذا الزواج الذي أصبح لا يحقق من حكمته شيئًا من اندفاع الوقوع في الزنا من كلا
الطرفين. ولذا كان من المصلحة والرحمة بكل من الزوجين في حال تعذر إقامة حياة زوجية سعيدة، أن يعطى كل منهما فرصة يستعيد فيها تجربة الزواج من شخص آخر، ليحقق الزواج غايته وأهدافه بالنسبة لهما ولأسرتهما ومجتمعهما وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلَّا مِّن سَعَتِهِ ﴾ [النساء: ١٣٠].
ثم هو مع ذلك غير مرغوب فيه فأبغض الحلال إلى الله الطلاق، كما في
خواطر دينية جـ ٢
۳۹۳
الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره.
وورد عن علي مرفوعا: تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه
العرش.
وأخرج ابن ماجه وابن حِبَّان عن أبي موسى الأشعري مرفوعا كذلك: «ما
مطلقة.
بال أحدكم يلعب بحدود الله يقول: قد طلقت. قد راجعت». أضف إلى ذلك أن الإسلام ليس أول من أباحه، وإنما كان مشروعًا عند كثير من الأمم، حتى أهل الكتاب وكان غير محدود بحد، فكان يلحق النساء منه ظلم كثير ، حتى تظل المرأة من جرائه معلقة لا هي مزوجة ولا هي مـ يعمد أحدهم إليها فيطلقها، فإذا قاربت إنهاء العدة ارتجعها، ثم عاد فطلقها، وهكذا دواليك. فجاء الإسلام فيه بإصلاح لم يسبق إليه، وجعل نهايته ثلاث تطليقات، ثم تحرم بعد على الرجل، حيث تكون التجربة أبانت عن عدم
جدوى مثل هذا الزواج الذي وقع فيه الطلاق ثلاث مرات دون أن . السبب الذي أدى إليه أولا وثانيا وثالثًا.
ينحسم
وكان الغربيون يعيبونه أولا على الإسلام، ثم اضطروا إلى إباحته. فأسرفوا فيه إسرافًا، ويكفي أن تتبعوا الصحف التي تنشر أحكام الطلاق التي تقع في محاكم أوربا وأمريكا والأسباب التي تقع من أجلها، لتروا كيف يطلقون أحيانًا من أسباب واهية، يضحك منها العقلاء.
بيد أنه يبقى هنا سؤال ، وهو : لماذا كان الطلاق بيد الزوج وحده؟ والجواب هو: أن الطلاق تبيع عقد النكاح، وهو إنما يكون بيد الرجل؛
٣٩٤
الأدب والمتفرقات
لأنه أحرص على بقاء الزوجية، حيث تكلفة نفقات في عقدها وجلها؛ ولأن الرجال بحكم التجربة والواقع، أقدر على ضبط العواطف، وأثبت من النساء، وأشد صبرًا. وبعد هذا وذاك فالمرأة حين رضيت بالزواج منه، فقد رضيت مسبقا بجعل الطلاق بيده، كسائر حقوق الزوج عليها.
نعم قد ينتقل إليها حق الطلاق منه بواسطة الخلع الذي يكون عندما ترغب المرأة في الطلاق لغير ضرر يلحقها منه. أما إذا ثبت الضرر، كان لها حق الطلاق منه بغير خُلع. وما عليها إلا أن ترفع أمرها إلى الحاكم، ليوقع عليه الطلاق إجبارًا. ويرى بعض العلماء أن لها حق اشتراط جعل الطلاق بيدها عند العقد، إذا قبله الزوج لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج.
وعليه فيكون الشرع قد احتاط لجانب المرأة حين جعل الطلاق بيد الرجل، وحيث جعل من موجبه الخلع وثبوت الضرر فما أعدل هذه الشريعة الغراء! وما أعظم حكمتها !! وأدق نظرها !! أَفَحُكْمَ الْجَهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمِ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: ٥٠].
أثبت الإسلام للمرأة حق التصرف المطلق في مالها
هذا ما يتعلق بحق زواجها، أما حق التصرف في مالها، فقد أثبت الإسلام لها حق التصرف المطلق في مالها بيعًا وشراءً وإجارة وهبة وصدقة، دون أن يكون عليها رقيب في ذلك. بينما لا تزال المرأة الأوربية في بعض الدول
كفرنسا، مقيدة بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية، والعقود القضائية.
خواطر دينية جـ ٢
٣٩٥
لم ترث المرأة نصف نصيب الرجل؟
وأعطاها حق الإرث الذي كانت محرومة منه : الرِّجَالِ نَصِيبُ مِّمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبُ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَ مِنْهُ أَوْ كَثُر نَصِيبًا مَّفْرُوضًا [النساء : ٧] . ﴾
وهنا يأتي تساؤل كثيرًا ما يردده الناس ويتخذه بعض ذوي الأغراض الفاسدة من الأجانب وأذنابهم وسيلة إلى اتهام الإسلام بظلم المرأة، وكم ألقاه بعض الأساتذة الفرنسيين على تلامذتهم. وهو : لماذا كان نصيب المرأة في الإرث
على النصف من نصيب الرجل؟ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ [النساء: ١١]. والجواب: أنه كان على النصف؛ لأن الإسلام الذي ورثها بعد أن كانت محرومة من الإرث عند بعض الأمم كالعرب، أعفاها . من النفقة حتى على نفسها، وجعلها على الرجل .وحده. فلو أعطيت مثله والحال أن عليه تقع جميع تبعات النفقة، لكان الرجل مظلوما ظلما بينا .
فما بالهم لا ينظرون إلى مزية الإسلام وينصفونه حين ورثها وضمن لها حق التصرف في مالها؟ ويأخذون أحكام الإسلام منفصلا بعضها عن بعض؟ فلا ينظرون إلا إلى نقص ميراثها عن الرجل، ويصرفون نظرهم عن إعفائها من وجميع توابعها ؟!! مع أن القاعدة: أن جميع القوانين، ينظر إليها
النفقة
كمجموعة يقيد بعضها الآخر، ويشرح البعض منها البعض الآخر، ويحيل البند منها على غيره من بنودها.
أما لو فعلوا، لأنصفوا البحث والحقيقة قبل أن ينصفوا الإسلام.
٣٩٦
الأدب والمتفرقات
ثم مع هذا وذاك، إذا نظرنا إلى الواقع نجد أن نصيبها إما مساو للرجل، أو يزيد عليه. فإن الرجل الذي يرث ألفين إذا تزوج تكون الألف بينه وبين زوجته وأسرته، بينما ألف المرأة يبقى لها وحدها تصرفه في كمالياتها إذا كانت متزوجة، أو على نفسها وحدها إذا كانت غير ذات زوج. ويمكنها أن تنميه فيصبح أضعاف نصيب الرجل الذي أذهبته النفقة.
فبان من هذا أن الشرع حكيم وتعاليمه في غاية الانسجام مع نفسها
وأهدافها، حين جعلت نصيب الرجل مثل حظ الأنثيين.
ونظير هذا ما تراعيه قوانين الوظيفة العامة والخاصة حين تجعل لذي الأولاد تعويضًا يجعل مرتبه يفوق شريكه في العمل والرتبة، نظرًا لتكاليف ذي العيال أفيقال: إن هذا من الظلم كذلك ؟ أم هو أمر له ما يبرره؟ وإذا كان فهو نفس المبرر في إرث المرأة.
حق تعليم المرأة
وأخيرًا يأتي حق تعليمها؛ إن الإسلام جعلها شقيقة الرجل في الأحكام. ومن ثم أوجب عليها ما أوجب على الرجل سواء فهي مطالبة بمعرفة ما يلزمها في دينها وبيتها ورعايتها إذ جعلها راعية كالرجل فقال: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها. وكيف تكون راعية ومسئولة عن رعيتها وهي تجهل حقيقة هذه الرعاية وتوابعها؟ كما جعل لها حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
خواطر دينية جـ ٢
۳۹۷
الْمُنكَرِ} [التوبة: ٧١].
وذاك يقتضي منها معرفة أحكام الشرع، لتعرف ما هو معروف فتأمر به، وما هو منكر فتنهى عنه. ثم أثبت لها حق الولاية مع المؤمنين، فتدخل فيها ولاية الأخوة والتعاون والنصيحة. ومن ثَم أعطاها حق إجارة من تشاء كالرجل، وهذه منقبة للمرأة لم تنلها حتى المرأة العصرية في أرقى الأمم. فإذا أجارت أحدًا، أو أمنت عددًا، وجب تنفيذ أمانها، وحماية عهدها.
ولذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مكة، جاءته أم هانئ بنت أبي طالب، وقالت يا رسول الله قد أجرت رجلين. فقال لها رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هاني».
وعن
عائشة: إن كان المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز، ونقل ابن المنذر
الإجماع على صحة إجارة المرأة وأمانها ويشهد له قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم». فهذه الولاية التي جعلها الإسلام لها، تقتضي منها أن تعلم حقوقها؛ لأن من موجبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سبق، وذاك يقتضي تعليمها ما هو معروف في
الشرع، وما هو منكر، لتطبق في نفسها أولا، ولتأمر به ثانيًا. وإذا كانت الكتابة من جملة وسائل التعليم، بل من أهمها، أعطيت حكم
المقصد. إذ لم يصح في النهي عن تعليم الكتابة للمرأة حديث، وحديث: «لا
(1)
تعلموهن الكتابة». ضعيف ، وقد طعن الحفاظ في سنده، بل أورده ابن
(۱) في سنده عبد الوهاب بن الضحاك، وهو كذاب.
۳۹۸
الأدب والمتفرقات
الجوزي في "الموضوعات".
ثم هو مع ذلك معارض بالحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا عند حفصة، فقال: «ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها
الكتابة».
ونقل الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه قال: هذا الحديث رخصة في تعليم النساء الكتابة، وكذلك استدل به صاحب "لمنتقى" على جواز تعلم النساء
الكتابة.
أضف إلى هذا أنها داخلة في عموم حديث: «أيها رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران». فيدخل في عموم التعليم: الكتابة ولا شك.
فمن رام إخراجها من الحديث، فقد تعسف على أن ما درج عليه المسلمون من عهد الصحابة والتابعين إلى وقتنا هذا من مشاركة المرأة للرجل في سائر ميادين العلم والأدب، لكاف في بطلان ما يدعيه بعضهم من كراهة تعليم المرأة الكتابة. وها هي ذي كتب التاريخ والطبقات مملوءة بذكر العالمات والأديبات والمحدثات والنوابغ في كل علم وفن. وقد عد البلاذري في "فتوح البلدان"، جماعة من النساء الكاتبات وذكر فيهن حفصة، وأم كلثوم بنت
عقبة، وعائشة بنت سعد التي قالت: علمتني أمي الكتابة. وفي مقدمة النساء العالمات أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخاصة السيدة عائشة رضي الله عنهن جميعا. وناهيك بما روي عنها من فقه
خواطر دينية جـ ٢
۳۹۹
وحديث وفتوى، حتى لقد روي عنها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث. بينما لم يرو عن أبيها رضي الله عنه إلا مائة واثنان وأربعون حديثا، ولم يرد عن عمرو
رضي
وعلي رضي الله عنهما خمسمائة ونيف وثلاثون حديثا، عن كل منهما. وحسب المرأة فخارًا أن تكون قد اختيرت لوضع أول مصحف في الإسلام، في حفظها وذمتها وذلك يدل على ثقتها، ومكانتها في الدين، وأهليتها لتحمل العلم وأمانته. فإن الصحف التي جمعها أبو بكر رضي الله عنه، دفعت إلى حفصة بعد مقتل أبيها . الله عنهما. فظلت عندها إلى أن طلبها منها عثمان رضي الله عنه حين اعتزم كتابة المصاحف، كما هو معلوم، وقد قدمنا أن حفصة كانت كاتبة، فلعل لذلك علاقة بوضع المصحف عندها. إذن فتعليم المرأة في حد ذاته وكون المرأة المسلمة حظيت منه بنصيب وافر عبر العصور المختلفة، ولاسيما في العصور الأولى، وكون النساء كان منهن العالمات والفقيهات والأديبات والمعلمات والصوفيات والمحدثات والطبيبات؛ هو مما لا ينبغي أن يكون موضوع خلاف، أو جدال، إذ التاريخ أعظم شاهد على ذلك، وحسب المرأة فخارًا أن يقول عنها الذهبي في "الميزان": «ما علمت في النساء من اتهمت أو تركت، في حين أن المتهمين والمتروكين من الرجال لا يحصر هم عده .
ولكن موضوع التساؤل هو الطريقة التي تُعلم عليها البنت في الوقت الحاضر. حيث أصبح من لوازمه . مع الأسف الشديد - التعري والسفور واختلاط الذكور بالإناث في الجامعات وكثير من المدارس الثانوية. وفهم التعليم من جانب البنت على أنه وسيلة إلى الحرية والخروج عن التقاليد
٤٠٠
الأدب والمتفرقات
والأعراف والآداب الإسلامية.
ثم ما ينشأ بعد عن تعليم البنت من إعراضها عن واجبات البيت، والقيام بشئون الزوجية على الوجه المطلوب، وإهمال فروض التربية، والاندفاع نحو الوظيفة والعمل في مهنة خارج البيت.
ثم الكيفية التي تعلم عليها، والبرامج التي تدرسها. ومدى السهر على العناية بأخلاقها وصون عفتها، وحصص التعاليم الدينية، والحرص على تطبيقها ونوع توجيهها ... إلى غير ذلك من المسائل التي تضع علامات استفهام عن مصير المرأة المسلمة المتعلمة على الطريقة المذكورة. فالقضية إذن ليست قضية تعليم أو حرمان من التعليم. وإنما هي قضية طرق التعليم وبرامجه، والمشاكل التي اقترنت به نتيجة التأثر بالغرب وأنظمته. والإفاضة في جميع هذه النقط، بما تحتاجه من شرح وعناية وتفصيل، تحتاج
إلى محاضرة خاصة، ووقت أكثر
ولعلني أطلت عليكم بما لا يسمح الوقت لزيادة عليه، فمعذرة وشكرا على الصبر معنا طول هذه الحصة والسلام.
خواطر دينية جـ ٢
٤٠١
بحث في ذي القرنين
من دواعي سروري أن يهتم أستاذي الكبير العالم الجليل مولاي السيد أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، بالبحث العلمي في كتبه ومؤلفاته التي أربت على الأربعين، وأن يفسح في مجال الكتابة لي مؤلفه هذا الذي طبع ونشر الجزء الأول منه تحت عنوان "خواطر دينية". وإنه ليسعدني أن أشير هنا : أنه كان لي حظ تبادل أوجه الرأي ومناقشة كثير من موضوعات هذا الكتاب قبل طبعه فكان مولاي أبو الفضل أطال الله حياته يتقبل مني وجهات نظري وتعليقاتي في هذه المناقشات العالم المعلم، واهتمام الصديق العظيم.
بروح
الأستاذ
من هذه المواضيع : السؤال الحائر؛ من هو ذو القرنين الذي جاء ذكره في
القرآن الكريم؟ الحقيقة والواقع أن هذا السؤال شغل بال أجيال كثيرة منذ سأله سادات قريش من كفار مكة سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بين أسئلة أخرى عن أهل الكهف، وعن الروح وعن موسى والخضر عليهما السلام، كما علمهم يهود يثرب حنقًا على النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم وامتحانا له ولنبوته، ورغبة في تعجيزه، والتغلب عليه وإسكاته، وهو لم يزل بعد في أول طريق الدعوة إلى الإسلام.
ولما كان القرآن الكريم هو وحده الوثيقة الأصلية، والمرجع الأوحد الذي يمكن أن يعتمد عليه أولا وقبل كل شيء آخر في بحثنا عن الحقيقة لمعرفة الإجابة الصحيحة لهذا السؤال، فإن مهمتي تكون سهلة في دارسة كل المراجع
٤٠٢
الأدب والمتفرقات
الأخرى التي تساعد على إلقاء الضوء في هذا السبيل... وأن مهمة الباحث بطبيعة الحال هي أ أن يعرض دائما النتائج التي يصل إليها في بحثه، بأسلوب واضح بعد اقتناعه بها.
ولقد قضيت أكثر من أربعين سنة أجوب فيها بلاد العالم في طلب العلم والعمل... فسافرت وعشت فيما بين أقطار العالم من أقصى الشرق اليابان إلى أقصى المغرب - كندا بأمريكا - وعشت بصفة خاصة في معظم بلدان الشرق الأوسط، حيث لم أترك فرصة للاستفادة منها في معرفة تاريخ هذه البلاد ودراسة آثارها إلا انتهزتها. وبهذا استطعت أن أطمئن فيما يتعلق بذي القرنين وشخصيته إلى جواب شاف ارتاحت له نفسي واطمأن ضميري. فنشرت ما توصلت إليه ورجح عندي أنه ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم في بعض
مجلات إيران والمغرب والباكستان وأذعت ذلك أيضًا في إذاعة الكويت. كانت هناك على مدى أجيال طويلة مضت آراء كثيرة متضاربة حول
شخصية ذي القرنين ومَن يكون؟
منها ما يقول: إنه الإسكندر الأكبر المقدوني، ومنها ما يقول أنه قورش الفارسي، ومنها ما يقول أنه كان عبدا صالحًا ملكه الله الأرض، وقيل ملكًا من
الملائكة إلخ. "كما جاء في الكشاف" للزمخشري وغيره.
فمن الضروري والحالة هذه أن نجعل الحقيقة الخالصة بقدر الإمكان نصب أعيننا، لتكون سبيلنا إلى الاقتناع التام بأننا في إجابتنا على هذا السؤال لا نعتمد على مجرد تفاسير تقليدية، أو مسلّمات موروثة، لا تتفق مع وقائع التاريخ، وشواهد الآثار ... وحتى لا نشك لحظة في صدق ما توصلنا إليه في
خواطر دينية جـ ٢
٤٠٣
هذا الشأن يجب علينا أن نضيء النور لنبدد الظلمة تماما، ونجعل رؤيتنا واضحة جلية، أوضح مما مضى، وأظهر وضوحًا عن كل ما كان من قبل، مما قيل عن ذي القرنين في كل العصور السابقة، حتى نؤمن يقينًا بأن ما نقرره في هذا الأمر هو الحق.
طبيعة السؤال وملابساته
لما اشتدت الدعوة الإسلامية التي نادى بها محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في مكة، وتحيرت قريش في مقاومتها، وحاول سادات قريش عبنا القضاء عليها بكل الوسائل، ووجدوا في انتشارها يوما بعد يوم، وزيادة اتساعها وقوتها وذيوع أمرها في شبه الجزيرة العربية تهديدا خطيرًا مستمرا لهم ولمكانتهم ومعتقداتهم ومصالحهم الحيوية - الأمر الذي أزعج كذلك في نفس الوقت يهود يثرب في الشمال، وأثار مخاوفهم مع بعد الشقة بينهم وبين مكة في الجنوب التمس سادة قريش عند أهل الكتاب من يهود يثرب العون لمحاربة
محمد ودعوته وأفكاره، بأفكار علمية، قد تعجزه وتكشفه وتسكته إلى الأبد. ومع شدة حرص اليهود التقليدي المعروف على كتمان علومهم عن أبناء الأمم الأخرى وكتمانهم الحق الذي يعرفونه في التوراة كما يعرفون أبناءهم أو أكثر؛ فقد رأى يهود يثرب الاستجابة إلى طلب كفار قريش؛ لأنهم وجدوا في مجيء سادات قريش إليهم، في مدينتهم يثرب الفرصة والمبادرة لتحطيم الدعوة الجديدة في مهدها، وذلك بمد خصوم محمد من قومه العرب بما يحتاجون إليه من العلم كسلاح فعال في المعركة الدائرة في مكة، لهذا أوعز اليهود إلى رجالات قريش أن يسألوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء مكتوبة
٤٠٤
الأدب والمتفرقات
في توراتهم، لا يعرفها أحد سواهم، وسوى أحبارهم. فقالوا لقريش: سلوا صاحبكم عن ثلاثة أشياء أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، وقيل: عن موسى والخضر أيضًا، فإن أجاب عنها جميعًا أو سكت عنها جميعا، فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض، وسكت عن بعض، فهو نبي.
وكان اختيار أحبار اليهود وعلمائهم في يثرب لهذه الأسئلة عملا مدروسا مخططا بدقة، يهدفون من ورائه تعجيز النبي؛ لأنهم كانوا يعرفون تماما أن
العرب في زمنهم يجهلون حقيقة شخصية ذي القرنين المشار إليها في أسفارهم، والمحفوظة لديهم بحرص في بطون كتبهم المقدسة، كما يبدو من اختيار هذه الأسئلة بالذات أنها اختيرت بعناية فائقة، بحيث يلتبس الأمر على محمد إن لم يكن نبيا يأتيه الوحي بعلم السماء، فلا يمكنه أن يعرف شخصية ذي القرنين المقصودة. خاصة أنه كان بعض العارفين من الناس في ذلك الوقت يسمعون عن الإسكندر المقدوني. وكانوا يذكرون أن الإسكندر مات في زمانه إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد النبي وقبائل قريش، وزعيم قومه، وسيد مكة في ذلك الوقت، فظن اليهود أنه إن كان محمد من هؤلاء الناس فإنه سوف يسقط حتما في امتحانهم، ويقع في الشرك الذي نصبوه له
بهذه الأسئلة الماكرة التي رتبوها بإتقان، كما ترتب عادة الأحاجي والألغاز. وكدأب اليهود دائما، فإنهم لم يسألوا النبي هذه الأسئلة بواسطة رجالات قريش وسادتها، إلا وهم يعلمون تماما، ما وراءها من الحق. كما وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٤٦] ويقول
خواطر دينية جـ ٢
٤٠٥
عز من قائل: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: ٧٦]. وأهم حقيقة يجب علينا ألا نغفلها أن يهود يثرب، أدركوا بحاستهم الخفية التي لا تخيب، مقدار الخطورة الكامنة التي تهددهم في تفوق الإسلام وانتصار محمد. سؤال: يقول القرآن الكريم وَيَسْتَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ انَيْنَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾ [الكهف: ٨٣ - ٨٤]. إن في كتاب الله الكريم إشارات كثيرة يحتاج تفسيرها إلى معرفة شاملة بالتاريخ وسعة اطلاع بأحوال الأمم السابقة، وما كان لها من معتقدات وحضارات ونظم وآثار.
ومن أسرار إعجاز القرآن الكريم أنه جديد دائما أبدا، يساير الفكر والحضارة الإنسانية في تطورها، في كل زمان ومكان؛ لأنه لَا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: ٤٢].
وكان توجيه مشركي قريش للنبي الكريم هذا السؤال وقتئذ عن ذي القرنين، إشارة من إشارات كتاب الله التاريخية الكثيرة التي شغلت المفسرين والمؤرخين طوال عصور وأجيال ماضية. فلم يخرجوا في أبحاثهم بنتيجة حاسمة، بعد أن حيرتهم شخصية ذي القرنين في الاهتداء إليها .
وكان أسلوب القرآن الكريم في الإجابة على هذا السؤال واضحا. فإنه لم يشأ لحكمة يعلمها الله عز جلاله وحده، أن يذكر صراحة اسم ذي القرنين ويحدده بالنص وقت نزول هذه الآية ... إلا أنه جاء رده بكل التفاصيل
٤٠٦
الأدب والمتفرقات
الدقيقة الوافية عن شخصية ذي القرنين بحيث نتعرف على ذي القرنين بسهولة ويسر، إذا أمعنا النظر قليلا. وقمنا بدرس سيرة هذه الشخصية من خلال هذه التفاصيل التي فصلها القرآن الكريم، مطابقة تماما لهذه الشخصية
وأبعادها.
القرآن الكريم، وذو القرنين:
ماذا جاء عن ذي القرنين في القرآن الكريم؟
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز وهو أصدق القائلين، وذلك إجابة على سؤال سادة قريش ما يلي: وَيَسْتَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ انَيْنَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمَا قُلْنَا يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِما أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنَا قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحَا فَلَهُ، جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا الله) ثُمَّ أَنْبَعَ سَبَبًا
A
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونَهَا سِتّرًا ) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خَيْرًا ثُمَّ أَنْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوايَذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
فهل تججْعَلُ لَكَ خَيْرًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَنِي فِيهِ رَبِّ خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ، اتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ أَنفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ وَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطرًا فَمَا أَسْطَعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَعُوا لَهُ نقبا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا
خواطر دينية جـ ٢
بعضهم يَوْمَيذِ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّه لى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعًا ﴾ [الكهف: ٨٣ - ٩٩]
التوراة، وذو القرنين
قال الله تعالى: وَيَسْتَلُونَكَ !.
٤٠٧
فمن هم يثرب فالسؤال الأساسي إذن الواجب علينا طرحه الآن هو: كيف وضع اليهود سؤالهم هذا؟ إنهم بلا شك نظروا في توراتهم فوجدوا بها اسم ذي القرنين. وهم يعلمون من أمره ما كان يجهله العرب وقتئذ. وهذا يجرنا إلى
السائلون؟ كلنا نعرف أنهم سادة قريش، ومن ورائهم يهود
سؤال آخر، وهو : فماذا كان يعلم اليهود من ذي القرنين في ذلك الوقت؟ كان اليهود يعلمون بأن ذا القرنين لم يرد وصفه في توراتهم إلا مرة
واحدة وأنه لم يذكر اسمه بالنص في أسفار أنبيائهم إلا مرة واحدة كذلك. ذكر وصف ذي القرنين مرة واحدة في رؤيا النبي دانيال، أو بلطشاصر، كما كان يسمى، وذكر اسم ذي القرنين بالنص مرة واحدة، في سفر النبي يشعياه، أو إشعياء.
ففي المرة الأولى: كان ذلك في رؤيا النبي دانيال، وهي رؤيا رآها خلال أيام أسر بني إسرائيل، ووجودهم الذليل في بابل. بعد أن قام الملك الكلداني الجبار بختنصر الثاني الأكبر بن نابو بلصر، بغزو مملكة يهوذا، وسحقها تحت أقدامه وقام بتخريب أورشليم عام ٥٨٧ قبل الميلاد، وهدم الهيكل ودمره تدميرا، وطرد بني إسرائيل من فلسطين وساقهم أمامه إلى الأسر في بابل جنوبي العراق حيث ظلت عشرة قبائل من قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة
٤٠٨
الأدب والمتفرقات
في أسر بابل، خمسين سنة كاملة أو تزيد.
وكانت رؤيا النبي دانيال تتلخص في أنه رأى في منامه كبشا قويا له قرنان عاليان، ينطح بهما غربًا وشرقا ثم رأى تيسا أقبل من الغرب بقرن واحد، عينيه بارزتين، فلما اقترب التيس من الكبش نطحه فكسر قرنيه وصرعه. وذكر السفر: أن جبريل عليه السلام فسر لدانيال رؤياه بأن الكبش ذو القرنين هو رمز اتحاد المملكتي ميديا وفارس المتجاورتين بإيران فيملكها ملك واحد لا تقدر دولة على مواجهته. أما التيس ذو القرن الواحد، فقد فسره له جبريل بصراحة بأنه يرمز إلى ملك اليونان.
وكان اليهود في بابل، بعد أن قضوا عشرات السنين في ذل الأسر، وعذاب العبودية، في أشد الحاجة إلى الأمل يُبعث في نفوسهم المحطمة. فأرسل لهم الله تعالى النبي دانيال يرفع من معنوياتهم المنهارة بهذا الحلم المبشر المضيء، وهذه الرؤيا الإلهية التي تجدد في نفوسهم أمل مجيء المنقذ الذي يخلصهم من العذاب والعبودية والأسر، ويفرج عنهم ، ويعيدهم جميعًا من جديد إلى وطنهم، وإلى بیت المقدس وإلى الحرية...
وهكذا نرى أن ذا القرنين لم يذكر هنا في هذه الرؤيا إلا إشارة ورمزا. كما نرى بما لا يدع مجالا للشك أن جبريل عليه السلام، فسر للنبي دانيال رؤياه هذه تفسيرًا واضحًا غاية الوضوح، مؤكدًا أن ذا القرنين إنما هو ملك فارسي، سيوحد بقوة سيفه ميديا ،وفارس ويحكمهما تحت تاج واحد، ولا تقدر دولة على مواجهته حتى إذا قضى هذا الملك وأشرف عهد مملكته الزاهر على الزوال، جاء ملك أجنبي من الغرب يهاجم هذه المملكة ويحطمها ويقضي
خواطر دينية جـ ٢
٤٠٩
عليها وعلى استقلالها، هو ملك اليونان.
لهذا فإني أعتقد أنه لم يكن يهود يثرب من البلاهة أو الغفلة و وهم يمتحنون محمدا ونبوته صلَّى الله عليه وآله وسلّم، ويحاولون تحطيمه وسحقه بالكلمة والفكرة وهذه أفتك الأسلحة في حرب العقيدة، أن يقصدوا بسؤالهم إياه عن
ذي القرنين، إلا قورش الفارسي لا الإسكندر المقدوني الذائع الصيت، وذلك بسبب بسيط هو أن الإسكندر المقدوني لم يذكر اسمه مطلقا في توراة اليهود، أما الذي ذكر اسمه بالنص في توراتهم فإنما هو قورش، ووصفه الله تعالى فيها بأنه ذو القرنين.
بعد ذلك مباشرة، أي بعد قول الله تعالى في القرآن الكريم: وَيَسْتَلُونَكَ
قال : قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) أي عن ذي القرنين. وهنا يجدر بنا أن نقف قليلا لنسأل مع من سبقونا في السؤال من قبل: هل
كان ذو القرنين ملكًا أو نبيًّا أو فردًا عاديًا من البشر ؟
هل عاصر إبراهيم عليه السلام؟ هل كان ملكا عربيا أو يهوديا أو يمنيا من ملوك تبع الذين كانوا يحملون لقب ذو ؟
هل هو الإسكندر؟
أم هو قوروش؟
أم أنه كان ملكا من الملائكة؟ أو غير ذلك؟
وهنا فإننا لا نستطيع أن نترك هذه الأسئلة ونخطو خطوة واحدة للإجابة
على أي منها، قبل أن نذكر ما جاء في رواية للسدي: أن اليهود قالوا: إن ذا
٤١٠
الأدب والمتفرقات
القرنين ذكر اسمه بالنص مرة واحدة فقط في التوراة.
ففي سفر يشعياه أو إشعياء، نبوءة أخرى غير نبوءة دانيال النبي السالف الذكر عن ظهور ملك قوي اسمه قوروش الذي يكون عليه فك أسر اليهود في بابل؛ لأنه كما يقول عنه الله تعالى في توراته مسيح الرب».
بالإضافة إلى سفر برمياه الذي جاءت فيه إشارة إلى ما حدث لليهود من
أسر وإفراج بعد ذلك، تفسيرًا وتحقيقا لرؤيا دانيال ونبوءة إشعياء. وخلاصة كل هذا تدل على أن تصور ،قورش، أو قوروش الفارسي، كان قد وجد فعلا عند اليهود. وبذلك يكون المقصود في سؤال يهود يثرب الذي طرحه مشرکو قريش على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم عن ذي القرنين، هو قورش الموجود اسمه عندهم في التوراة.
وإني أسوق هنا الآن الدليل على صحة ما ذهبت إليه، بتسجيل ما جاء في التوراة بالنص وهو ما يلي:
عيني
في السنة الثالثة من ملك بيلشاصر، ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد التي
.
ظهرت لي في الابتداء، فرأيت في الرؤيا - وكان في رؤياي وأنا في شوشال القصر الذي في ولاية عيلام ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر أولاتي. فرفعت ورأيت وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد أعلى من الآخر والأعلى طالع أخيرًا. رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبًا فلم يقف حيوان قدامه، ولا منقذ من يده وفعل كمرضاته وعظم. وبينما كنت متأملا إذا بتيس من المعز جاء من الغرب على وجه الأرض، ولم يمس الأرض،
خواطر دينية جـ ٢
٤١١
وللتيس قرن معتبر بين عينيه. وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا . عند النهر، وركض إليه بشدة قوته ورأيته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر ،قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف أمامه، وطرحه على الأرض ،وداسه ولم يكن للكبش منقذ من يده. فتعظم تيس المعز جدا. ولما اعتز انكسر القرن العظيم وطلع عوضا عنه أربعة قرون معتبرة نحو رياح السماء الأربعة».
هذا ما جاء بالنص في الإصحاح الثامن من سفر دانيال بالتوراة من آيات
عن رؤيا دانيال النبي. أما عن تفسير جبريل لهذه الرؤيا، فإنه فيما يلي نصه: وكان لما رأيت أنا دانيال الرؤيا وطلبت المعنى إذا بشبه إنسان واقف قبالتي وسمعت صوت إنسان بين أولاتي فنادي وقال: يا جبريل فهم هذا الرجل الرؤيا... فقال : افهم يا بني آدم أن الرؤيا لوقت المنتهى... أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادي - أي ميديا - وفارس. والتيس العافي ملك اليونان والقرن العظيم الذي بين عينيه هو الملك الأول. وإذا انكسر وقام أربعة عوضا عنه فستقوم أربع ممالك من الأمة، ولكن ليس في قوته
إلخ...».
وفي سفر إشعياء بن آموص بالتوراة نص على الاسم بوضوح قاطع فقد جاء في آخر الإصحاح ٤٤ الآية :۲۸: القائل عن كورش راعي فكل مسرتي
يتمم، ويقول عن أورشليم ستبنى والهيكل ستؤسس».
وبعد ذلك جاءت الآية الأولى من الإصحاح الخامس والأربعين وفيها ما
٤١٢
الأدب والمتفرقات
يلي: وهكذا يقول الرب لمسيحه لكوروش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه اسما وأحفاد ملوك، لأفتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق. أنا أسير قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف ٣. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك
باسمك إله إسرائيل ٤ » .
وفي الآية ١٤ يقول الله تعالى:
«أنا قد أنهضته بالنصر وكل طرقه أُسَهل هو يبني مدينتي -يعني
أورشليم- ويطلق سبيي .
بهدية، قال رب الجنود ١٤ .
أي أسرى بابل من بني إسرائيل- لا بثمن ولا
وهنا نقف لحظة لنتأمل الأوصاف المحددة بصراحة في قوله تعالى: في الآية
الخامس من الإصحاح الثامن في سفر دانيال حيث يقول: «رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبًا فلم يقف حيوان قدامه».
وفي الآية ٢١ من نفس الإصحاح الثامن: «أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فهو ملوك مادى أي ميديا - وفارس، وملوك يعني إمبراطور أو كسرى، والتيس العافي ملك اليونان.
فاتجاه مسير ذي القرنين متفق عليه في التوراة والقرآن على أنه كان في بدايته
متجها إلى الغرب، إلى مغرب الشمس. وهذه نقطة هامة جدا من معالم البحث عن حقيقة ذي القرنين، نحدد بها شخصيته.
خواطر دينية جـ ٢
٤١٣
من هو الاسكندر، ومن هو قورش؟
ليس هنا المجال المناسب لتناول سيرة الإسكندر الثالث وأعماله، ولا تاريخ قورش الثاني، وسيرته بطريقة مسهبة، لاعتبارات كثيرة من أهمها ضيق الحيز المتاح لي للكتابة فيه ولعدم توفر المادة العلمية والمراجع، بالإضافة إلى افتقادي أصول ما سبق لي كتابته ونشره وإذاعته حول هذا الموضوع من قبل. على أية حال فإن الإسكندر الثالث الأكبر ولد في صيف عام ٤٥٦ ق م في مقدونيا - في نفس الليلة التي اشتعلت فيها النيران وأحرقت بناء معبد ارتميس القديم في مدينة إفسوس Ipsus (بالأناضول) وهو ابن الملك فيليب الثاني عن الأميرة أولمبياس. وافسوس تقع بجوارها مدينة أبلستين وهي مدينة أهل
الكهف في بلاد الروم، كما ذكر ياقوت في "معجمه " . ولما كان الإسكندر في سن السادسة عشرة تولى حكم مقدونيا أثناء غيبة
أبيه الملك فيليب ونجح في إخماد ثورة في تراقيا. وفي الثامنة عشر تولى إمرة الجناح الأيسر في جيش فيليب في حرب
خيرونيا Chaeronea و شتت شمل «عصبة طيبة المقدسة».
وخلف أباه على عرش مقدونيا عام ٣٣٦ ق م إثر اغتياله بيد أحد أعوانه من النبلاء، وهو بوزانياس Pausanias بإيعاز من زوجته أولمبياس نفسها أم
الإسكندر. ورغم أن الإسكندر كان من أصل يوناني، إلا أن دم الليريا أي ألبانيا كان
يجري في عروقه يقينًا منحدرًا إليه من والديه.
٤١٤
الأدب والمتفرقات
وقد تتلمذ الإسكندر وهو في الثالثة عشر، على الفيلسوف أرسطو طاليس المعلم الأول وكان من المعروف أن الإسكندر عانى من عقدة الشك فيما إذا كان حقيقة ابنا شرعيا لأبيه فيليب الذي كثيرًا ما أهانه أبوه بذلك، حتى كان الإسكندر يكره أباه فيليب كراهية الموت أو أشد.
وعقب موت أبيه الفجائي غيلة تحركت الفتن واشتعلت الثورات والانتفاضات ضده فقام يوطد نفوذه في خارج مقدونيا، بمجرد أن تخلص هو وأمه من خصومهما الشخصيين والسياسيين في الداخل، بعد أن اتهمهم الإسكندر بمؤامرة اغتيال أبيه الملك فيليب لحساب الفرس الأعداء. وذلك بإعدامهم جميعا وفيهم كليوباترة، ابنة أخت قائده أتالوس Attalus التي كانت في نفس الوقت ضرة أمه.
ولما تهيأ للإسكندر بعد ذلك الجو لتحقيق أحلامه وآماله، اتجه الإسكندر أولا شرقا... شطر بلاد اليونان لشدة خطورتها عليه، وتحركها ضده. وذلك في نهاية صيف ٣٣٦ ق م ، ثم سارع نحو الجنوب للالتفاف حول تيمبي Tempe التي كانت قد احتلها التساليون فتسلق عليهم الإسكندر وقواته جانب جبل اوسا Ossa الوعر واستولى عليها بلا قتال. وبعد أن استعاد مكانته في أقاليم حلف كورنثة، وفرض نفسه قائدًا أعلى
لهذا الحلف، بدأ يتطلع إلى غزو آسيا.
وفي ربيع عام ۳۳٥ ق م قام الإسكندر بحملته الخاطفة في حوض الطونة فحارب التريباليين Triballis متخذا طريقه صوب الشرق.
خواطر دينية جـ ٢
٤١٥
وبعد قتال عنيف، أوقع الإسكندر بأعدائه الهزيمة، ثم قام بغزو اليونان، ففتح طيبة ونهبها ودمرها فسارعت كل مدينة يونانية إلى الخضوع
والاستسلام، وتقديم الولاء، وخرت أثينا نفسها ساجدة تحت أقدامه. وفي خريف عام ٣٣٥ ق م تأهب الإسكندر ، لغزو الإمبراطورية الفارسية المترامية الأطراف، بأكملها تحقيقا لأحلامه ومشاريعه التوسعية، والأخذ بالثأر لأبيه. وكان أستاذه ومعلمه العظيم أرسطو طاليس يرى أن هذه الحرب طبيعية
وعادلة !
وفي ربيع عام ٣٣٤ ق م عبر الإسكندر مياه الدردنيل بجيش عرمرم يزيد على الثلاثين ألفا من المشاة، وأكثر من خمسة الآف من الفرسان، وسار بهم، وهو على صهوة جواده الشهير بوكيفالوس Bucephalus متجها صوب
الشرق. كأنما كان الإسكندر يشعر بأنه مقدر له أن يحطم الإمبراطورية الفارسية العتيدة... إمبراطورية قوروش... تماما كما تنبأ بذلك من قبل في بابل، نبي الله دانيال، لبني إسرائيل.
وتقدم الإسكندر في زحفه فتوجه إلى آسيا الصغرى التي كانت أرضًا خاضعة وقتئذ للفرس صوب أنقرة ثم هبط جنوبا إلى طرسوس ومعناها: جبال الفضة وهناك عند السهل الصغير قرب إسوس Isuus من أبواب سوريا التقى الإسكندر بغريمه الملك دارا الثالث، أو دار أبو سند سند الفارسي، وجيشه الذي كان يبلغ ربع مليون مقاتل. وكان ذلك عام ٣٣٣ ق م ، ودارت
٤١٦
الأدب والمتفرقات
معركة تاريخية فاصلة كبرى انتصر فيها الإسكندر ، انتصارًا عظيما، وأسر في هذه المعركة أم دارا وزوجته وبنتيه، فأحسن الإسكندر معاملتهن. ثم تزوج الإسكندر فيما بعد الأميرة بارسيني Barsine واسمها الفارسي روشنك، إحدى بنات دارا وذلك في مدينة سوسا عام ۳۲٤ ق م إثر عودته من غزو
الهند.
ثم زحف الإسكندر جنوبا في بلاد الشام نحو صور في يوليو عام ٣٣٢ ق م، فاحتلها كما احتل مدينة دمشق، ثم القدس وفلسطين كلها، ثم زحف من غزة على مصر، فوصلها في أواخر نوفمبر عام ۳۳۲ ق م، فاستسلم له حاكمها الفارسي. ومن هناك ركب الإسكندر النيل إلى مدينة ممفيس عاصمة مصر وقتئذ، حيث قدم الإسكندر القرابين لعجل أبيس Apis وكان في وسعه لو أراد أن يفعل ما فعله قمبيز الفارسي من قبل ابن قوروش المؤمن بإله واحد هو رب السماء والأرض. فإن قمبيز لما فتح مصر عام ٥٢٥ قبل الميلاد، قتل بيده عجل أبيس المقدس في معبده على مرأى ومسمع من جميع المصريين والكهنة بطعنة خنجر سددها إليه بيمينه. وأبى قمبيز عبادة المصريين للعجل، كما أبي الاعتراف به والسجود له.
ثم شد الإسكندر رحاله إلى واحة سيوة، حيث سجد للإله الضم أموله رع. وفي سيوة أو واحة آمون كما كان اسمها القديم. اجتاز الإسكندر، احتفالا بتتويجه صار بمقتضاه ابناً لآمون. وألبسه الكهنة القرنين المقوسين لكبش طيبة، كبرهان على أنه من نسل الهي، وأنه أصبح بذلك حسب الطقوس المرعية في
خواطر دينية جـ ٢ .
٤١٧
مصر، ملكًا شرعيا وفرعونًا لمصر.
ثم عاد الإسكندر في ربيع عام ۳۳۱ ق م إلى مدينة صور مرة أخرى. وفي يوليو عبر الإسكندر نهر الفرات، حيث التحم مع دارا في معركة حاسمة قرب قرية جوجاميلا Gauoamela ومنها تقدم جنوبًا إلى بابل فسلمت له بلا قتال، ثم زحف شرقا إلى فارس
والحقيقة أن انتصار الإسكندر في صور بلبنان كان من أعظم انتصاراته،
لهذا قدم الإسكندر القرابين والأضاحي للإله ميلكات الوثن. فلما وصل فارس دخل إقليم برسيس Persis أولا ثم أسرع بعد ذلك إلى مدينة برسبوليس العريقة Persepolis وهي إصطخر، عاصمة الفرس في ذلك الوقت فغنم منها مغانم كثيرة، ثم طارد الملك دارا الثالث في إكباتانا -
واسمها القديم بالفارسية هكمتانة، وفي التوراة اخمنتا، وهمذان حاليا في إيران وكانت عاصمة ميديا فهرب منه دارا إلى الشمال، حيث اغتاله اثنان من خونة رجاله الفرس، طعناه في الطريق، فمات وهما بارسائنيتس أو باسيوس Bessius وساتيبارزانيس، وقد أعدمهما الإسكندر، انتقاما منهما لاغتيالهما داريوس الثالث غدرًا بعد هزيمته أمام الإسكندر في معركة إربيللا أو أربيل الفاصلة بالعراق عام ٣٣١ ق م. ومدينة أربيل تقع في الشمال الشرقي من بغداد في سهل متسع بين نهري الزاب الكبير، والزاب الصغير، وهي مدينة تاريخية ترجع إلى عهد الآشوريين، وهي من أهم مدن الأكراد ومعظم سكانها اليوم منهم.
٤١٨
الأدب والمتفرقات
ومما هو جدير بالذكر أن الإسكندر أدرك خصمه داريوس وهو طريح على الأرض، يلفظ آخر أنفاسه فغطاه الإسكندر بعباءته الأرجوانية، حتى مات، ثم حمله في إعزاز مكرما ودفنه في موكب حافل، كما يدفن عادة الملوك الأخمينيين. وكان داريوس الثالث آخرهم ودفنه في مقابر الأكاسرة من آبائه وأجداده في برسبوليس مدينة فارس أو إصطخر العاصمة الكبرى التي أحرقها الإسكندر ودمرها.
وقد تزوج الإسكندر الأميرة روشنك ابنة دارا بناء على توصيته وهو في النزع الأخير. ولما مات الإسكندر بعد ذلك في بابل، بحمى الملاريا التي قيل: إنه أصيب بها هناك - وكان ذلك في إقليم المستنقعات في منطقة العمارة الحالية والقرنة جنوبي العراق، حيث تسكن اليوم قبائل عرب المنتفق - حزنت عليه أم دارا الثالث حزنا شديدًا، جعلها تقضي على حياتها بنفسها - انتحرت - وذلك بامتناعها حتى الموت عن الأكل، حزنًا على وفاة الإسكندر الأكبر، هذا الرجل الذي لم تنس له أنه أكرمها هي وزوجة ابنها وبنتاها، وأظهر لهن شهامة نادرة يوم أن وقعن جميعا أسرى في يده، وهكذا ماتت أم دارا الثالث الملكة الفارسية سیسی جامبيس Sisyoambis .
وبموت دارا الثالث قضى على عائلة قوروش الحاكمة في فارس التي استمرت تحكم هذه الإمبراطورية العظمى قرابة قرنين من الزمان، باسم عائلة
هتمامنسي كما قضى على هذه الإمبراطورية نفسها، وانتهى استغلالها.
بعد ذلك قام الإسكندر بفتح شرقي إيران، ثم تابع الزحف والمسير شرقا
خواطر دينية جـ ٢
٤١٩
مارا بیامیان Bamyan يعني المدينة الحمراء، وهي قرب كابول بالأفغانستان. وبعدها قاسى الجيش أهو الا من الجوع وقلة الوقود والتآمر. ولكن الإسكندر استطاع تسوية هذه الأمور، وواصل الزحف إلى نهر جيجون واسمه الإغريقي
اوکسوس Oxus ميما شطر جنوبي نهر سيحون حيث جرح هناك.
وفي نهاية عام ۳۲۸ ق م هاجم الإسكندر قلعة صغد التي كانت تسمى صخرة صغد المنيعة، وكانت على قمة جبل شامخ الارتفاع قرب ديربنت Derbent فاقتحمها على رأس وحدة من رجاله الفدائيين، عددهم ثلثمائة رجل فقط. وكان هذا الحصن هو الذي يعتصم فيه أو كسيارتيس وكان متغيبا يومئذ خارج حصنه، فلما هاجم الإسكندر هذا الحصن، واستولى عليه، لم يجد فيه إلا أسرة خصمه، فأسرها مع من أسرهم من رجال الحامية بالقلعة. ثم تزوج الإسكندر الأميرة روكسانا Roxane بنت اوكسيارتيس تعيسة الحظ. فقد أعدمها فيما بعد، عام ۳۱۱ ق م الملك المقدوني كاسندر Cassandre زوج أخت الإسكندر في المذبحة الكبرى التي قضى فيها على جميع أفراد أسرة الفاتح العظيم الإسكندر المقدوني.
وفي العام التالي ۳۲۷ ق م قام الإسكندر بغزو إقليم صغد في سمرقند أو مارا قندا كما كانت تسمى، وأما اسمها القديم فهو زادراكارتا، وفتح الإسكندر الإقليم كله وهناك وصلته إمدادات كثيرة، وهو في باكتيريا ببلخ، استعدادًا لغزو الهند، وكانت الهند وقتئذ جزءًا من الإمبراطورية الفارسية الكبرى التي حكمها دارا الأول -داريوس- الأكبر أو دار يافوس حفيد قوروش الثاني
٤٢٠
الأدب والمتفرقات
(٥٢١ ق م - ٤٨٥ ق م).
ولم يتعد الإسكندر في كل زحفه الطويل أرض خوارزم شمالا، ثم وصل أخيرًا إلى سمر قند، وهي بجمهورية أوزبكستان حاليا، فيما بين بلاد ما وراء النهر بآسيا الوسطى.
وفي أوائل صيف عام ۳۲۷ ق م زحف الإسكندر جنوبًا عن طريق ممر كوشان الذي يبلغ ارتفاعه أكثر من أربعة آلاف متر بقيادة جنرالات جيش
مقدونيا البواسل، ومنهم هيبا بستول وبيرديكاس صوب الهند. ثم انحدر لغزو البنجاب، ففتحها بعد أن تغلب على قبائل الأفريدي والباتان الأشداء سكان ممر خيبر ذي الأخدود السحيق الموجودين بمنطقة الممر بامتداد الأرض من مرتفعات أفغانستان الشامخة إلى سفوح سلاسل جبال
سلیمان غرب سهول بشاور في شمال باكستان الغربية منذ عام ٧٠٠ ق م. وظل الإسكندر وجيشه ينتقل من نصر إلى نصر، رغم إصابته مرارا بجراح في معاركه البطولية التي تشبه الأساطير ، حتى وصل إلى بباس. وهناك تذمر الجيش وقام رجاله ،باعتصام، ورفضوا التقدم أبعد من ذلك. فعاد الإسكندر من حيث أتى متجها هذه المرة شمالاً، وهو يخوض أشد المعارك
الوحشية بعنف من جديد، بينما اجتاز أسطوله البحري أثناء عودته من !
الهند
بقيادة الأميرال المقدوني نيارك مياه الخليج الفارسي مستكشفا شواطئه، وممهدا هذا الطريق الملاحي لقوافل السفن إلى الهند، حاملة منها العطور والحرير
والتوابل التي كانت تفوق في قيمتها الذهب.
خواطر دينية جـ ٢
٤٢١
وأخيرا وصل الإسكندر في سبتمبر عام ٣٢٥ ق م مدينة جدروسيا (المقران) الجنوبية ومنها وصل إلى سوسا Susse حيث أقام الإسكندر أعظم عرس عرفه التاريخ تزوج فيه بارسيني أو الأميرة روشنك بنت دارا الثالث ا وزوج فيه معه في نفس الليلة ثلاثين ألفًا من رجاله بفارسيات في مقدمتهم قائده وصديقه هيفایستیون زوّجه من ابنة دارا الصغری دریبتیس Drypetis وسوسا اتخذها الإسكندر عاصمة لفارس
أنا ربكم الأعلى:
في هذه المرحلة من حياة الإسكندر الأكبر، أصدر مرسوما إلى المدن والأقاليم التي فتحها وأخضعها فرض به على جميع رجاله ورعاياه تأليهه وعبادته والسجود له. وهو إجراء أحمق، وتصرف لم يكن له ما يبرره، أثار استياء الجيش وسخطه وثورته، الأمر الذي انتهى بغضب الإسكندر غضباً عارما أمر خلاله بتسريح الجيش كله، وإعفائه من خدمته وعن جميع التزاماته. وفي ٣١ مايو ۳۲۳ ،قم، أصيب الإسكندر الأكبر - الذي لا يقهر - بحمى الملاريا وقيل: إن أمه نفسها التي قتلت زوجها من قبل دست له السم، وبعد عشرة أيام، مات الإسكندر في ١١ يونيو عام ۳۲۳ قبل الميلاد، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وكانت وفاته في قصر نبختنصر الثاني Nabuchodonosor في بابل أو بابليون.
وقد امتد حكم الإسكندر الأكبر، اثني عشر عاما وثمانية أشهر. وبابل - مدينة الحلة حاليا جنوبي بغداد بالعراق- هي إحدى المدن الأثرية
٤٢٢
الأدب والمتفرقات
القديمة الموجودة أطلالها حتى الآن، ويعني اسمها بالسريانية: النهر، وبابليون
يعني النهر المبارك، أما بابل بالسوميرية، فمعناها: بوابة الله، أو باب الله .
أين قبر الإسكندر؟
يهمني
وأنا أسجل هنا ملخصا عن حياة الإسكندر، أن أشير إشارة عابرة
إلى أن معلوماتي التاريخية، تحملني على الاعتقاد بأن قبر الإسكندر الموجود فعلا في مدينته الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط، يقع في المكان الموجود به حاليًا مسجد النبي دانيال فإنه من المؤكد أن نبي الله دانيال مات ودفن في الشرق أي في أرض المملكة الفارسية القديمة - وبالتحديد في الموصل - وأنه لمير مصر في حياته قط. أما مسجد الإسكندرية هذا المنسوب خطأ إلى النبي دانيال، فهو في الواقع وحقيقة الأمر، قد أنشئ إحياء لذكرى ولي الله الصالح الفقيه الشافعي الشيخ
(۱)
محمد بن دانيال المصري. وأصله مغربي من أهل مدينة فاس - المتوفى بالإسكندرية في القرن التاسع الهجري. حيث كان هذا المكان المشهور المدفون فيه من قديم مكان جبانة الإسكندرية التاريخية التي عرفت باسم سوما Soma أي الجسد باليونانية والتي يوجد بها قبر الإسكندر الأكبر في سرداب تحت الأرض... أرض هذا المسجد القائم هناك حتى اليوم. وقد زار الإمبراطور أغسطس الروماني قبر الإسكندر عام ٣٠ ق م ووجده بحالة
جيدة.
(1) كان ماهرا في علم الفرائض، وهو مدفون في ذلك المكان بالإسكندرية.
خواطر دينية جـ ٢
٤٢٣
لقد دفن الإسكندر بعد نقله من منف في عهد بطليموس فيلادلفوس الثاني، في جبانة الإسكندر سوما) وهو اسم تحرف إلى سيما. كانت مدافن سوما في الحي الملكي بالإسكندرية القديمة في ذلك الوقت، حيث كان يوجد بقربها أربعة عشر قصرًا ملكيًّا لملوك البطالمة، وحدائق حيوانات كبيرة، ودار الحكمة الشهيرة أو الموزيون أكاديمية الإسكندرية. كما كان بها قبور البطالمة قرب المنار فاروس، أعجوبة العالم القديم، ومكتبة الإسكندرية التي احترقت في القرن الرابع الميلادي، قبل الفتح الإسلامي لمصر، بقرنين من الزمان أو يزيد. كما أثبت ذلك بما لا يدع مجالا للشك المستشرقون المحققون المعاصرون كازانوف Casanova P ونايدو .Naidu P.V وفورلاني .Furlani G.A وغيرهم من العلماء المنصفين الثقات، فإنهم أكدوا أنه من الصعب تصور وجود مكتبة عامة سليمة في الإسكندرية بعد القرن الرابع الميلادي؛ لأن المدينة كانت في ذلك الوقت نهبًا للفوضى والعنف وممزقة بالخلافات الدينية والسياسية، وثورات الجماهير ضد أباطرة بيزنطة، والحكم الإغريقي.
الكلام عن قوروش الملك الفارسي القديم
أنتقل الآن إلى الكلام عن قوروش الملك الفارسي القديم، وسيرته بإيجاز. ويهمني أن أقول : أنه عندما درست تاريخ حياة هذا الفاضل الكبير، وأمعنت فيه النظر، وجدت أن له مثيلا في تاريخنا المعاصر يشبهه تقريبا... ففي تاريخ حياة الملك العربي عبد العزيز آل سعود وسيرته مثلا، نجد أنه كان سليل دوحة حاكمة عريقة في نجد العربية، وأن والده فقد عرشه الذي اغتصبه منه
٤٢٤
الأدب والمتفرقات
آل الرشيد. وأن عبد العزيز كان أميرًا فقيرًا طريدًا مغلوبًا على أمره، غمرته الحياة، حتى صار يجوب الأقطار والأصقاع المجاورة لملك آبائه المغتصب، خائفًا يترقب حتى إنه في وقت من الأوقات، سكن هو وآل بيته والمخلصون القلائل من أتباعه الربع الخالي المخيف القاسي في صحراء شبه الجزيرة العربية. ثم مكن له الله في الأرض، فوثب عبد العزيز بسيفه يوما على خصمه الطاغية، فقضى عليه. وهكذا استولى الملك عبد العزيز على الرياض مع حفنة قليلة من الأتباع وحرر ،بلاده، ووحد نجدا والحجاز، تحت تاج واحد... تاجه هو، وأسس المملكة العربية السعودية المترامية الأطراف بسيفه وعدله، وأقام حكمه على شريعة الله، ففتح الله عليه كنوز الأرض. وتفجر البترول الذهب الأسود، وغمر أرض بلاده بسيول لا انقطاع لها من الثروة والرخاء
والسلام. ولقي الملك الكبير عبد العزيز آل سعود ربه بعد أن خلف من بعده لأسرته وأمته المملكة العربية السعودية ترفرف عليها ألوية العزة والقوة والاستقرار والنصر. آية من آيات الله للناس، والتاريخ يعيد نفسه. فمن هو
کوروش؟
من هو قورش؟
قورش أو كيروس الأكبر Cyrus Le Grand أو كوروش الثاني، هو قوروش الأنزاني، مؤسس الإمبراطورية الفارسية القديمة، وحاكمها من عام ٥٦٠ ق م إلى حوالي عام ۵۲۹ ق م أي أنه وجد في فارس، قبل ظهور
خواطر دينية جـ ٢ .
٤٢٥
الإسكندر المقدوني بحوالي قرنين من الزمان. وقد دامت إمبراطوريته هذه من بعده إلى وقت دخول الإسكندر الأكبر فارس في عهد داريوس الثالث، آخر أكاسرة الفرس من أسرة هتمامنسي... أسرة قوروش.
وكان قوروش في صباه راعيًا للغنم، ذلك أنه فقد أباه «قمبيز» صغيرًا. وكان أبوه قد فقد الإمارة التي كان يحكمها من قبل، واغتصبها منه حماه الملك الميدي استياجس وقضى عليه.
وكان الأمير قمبيز قبل هلاكه متزوجًا من الأميرة الفارسية رائعة الجمال
ماندان الميدية ابنة الملك استياجس نفسه، فولدت لقمبيز ابنه قوروش وظل قوروش في صغره فقيرًا منبوذا مطاردًا، هو وأمه من جده الطاغية عدو أبيه، حتى عثر عليه فاستعبده، وجعله مولى من مواليه، وعبدا من عبيده يستذله ويستخدمه.
وكان استياجس أو استياج Astyage هذا الحاكم الميدي نسبة إلى ميديا، والدولة الميدية القديمة هي ولاية كر منشاه حاليا في إيران يحكم ميديا حوالي عام ٥٨٠ ق.م. وميديا معناها الجبل، وهو اسم معار من الأرامية، كان
يطلق على فارس، ثم على الإمبراطورية الفارسية القديمة.
وفي عام ٥٤٩ ق.م، ثار قوروش راعي الغنم القديم، على مولاه استياجسن وخلعه من العرش، وهكذا قضى قوروش الذي عرف فيما بعد في التاريخ باسم قوروش الأكبر ملك أنزان. قضى على جده استياجس، وثأر لأبيه قمبيز منه، وبذلك قضى على آخر الملوك الميديين.
والحق أن استياجس، قد اعتلى عرش الميديين، ولكنه بعد أن كان أسلافه
٤٢٦
الأدب والمتفرقات
يفخرون بعدالتهم ورعاية شعبهم، وبذل كل جهد لإسعاده ورفاهيته، جاء الملك الجديد، بالظلم والقهر والاستبداد والفساد، بينما تمكن قوروش في ذلك الوقت من حكم أنزان، وكان حاكما نابها محبوباً. وكانت أنزان أو ولاية أنشان الفارسية تابعة للميديين، فسار قوروش في حكمه بين الناس بالعدل، ويتألف قلوب رعيته بالإحسان، وقد زاد في محبة الجماهير له: أنه كان وسيما بهي الطلعة، حتى إن الفرس اتخذوه نموذجًا لجمال الجسم، وخلدوه في فنونهم إلى آخر أيام فنهم القديم.
أما أستياجس، فقد كان مخننا. يرتدي الثياب الناعمة المزركشة، ويتثنى في مشيته ويتمايل تمايل الغواني. وكان رغم ذلك جبارًا عاتيا، إذا بطش لا يرحم. فقد حدث أنه حينما غضب في إحدى المرات على أحد ولاته، ذبح ابن هذا الوالي، ثم أرغمه على أكل لحم ابنه الذبيح انتقاما منه. فخرج الوالي المسكين من الوليمة المشئومة وهو يسرع إلى قوروش، وتحالف معه فورا، ثم حارب عدوه اللدود الظالم استياجس. وقد انتصر قوروش عليه وخلعه، ووثب على العرش وانتزعه منه . وهكذا كانت هناك في القرن السادس قبل الميلاد، قوة جديدة تنشأ في عيلام... وعيلام القديمة هي إقليم الأهواز الحالي في إيران... وهذه القوة كانت ظهور قوروش على مسرح الأحداث التاريخية بهذه الصورة في أنشان أو أنزان Anzan.
وهكذا أصبح قوروش الأنزاني سيد ،ميديا، ثم وحد قوروش ميديا وفارس تحت تاج واحد؛ تاجه هو، وقد ابتهج الميديون، المغلوبون أنفسهم،
خواطر دينية جـ ٢
٤٢٧
وفرحوا لانتصار قوروش العادل على طاغيتهم.
أما اليهود من بني إسرائيل الأسرى في بابل يوم ذاك، فقد كانت فرحتهم لا توصف بهذا النصر، وهذه الوحدة؛ لأنهم وجدوا فيها نبوءة نبيهم دانيال، قد بدأت تتحقق.
وبعد ذلك هاجم قوروش ليديا غربا في الأناضول حيث كانت شهرة
ملكها كريسوس Cresus قد جلبت إلى عاصمته سارديس Sardes أكثر اليونانيين ثقافة. وقد استولى قوروش بعد موقعة بتريوم: Pterium في قاباد وقيا عام ٥٤٧ ق م على هذه المدينة، وأنهى بذلك دولة ليديا عام ٥٤٦ ق م. ثم اتجه نحو بابل جنوبا التي كانت تعضد ضده كريسوس، بالاتفاق مع مصر، ففتحها وقهر الكلدانيين، وأدبهم وأصبح بذلك سيد بابل. وصحت نبوءة النبي دانيال، وتحققت أحلام اليهود في الحرية والعودة من الأسر في بابل إلى أورشليم، وبناء هيكل الرب من جديد بأمر قوروش.
أورشليم بناها ملك عربي
وأورشليم أو أورشالم معناها مدينة السلام، بناها الملك العربي المحب للسلام مليك صادق من اليبوسيين، وكان موحدا بالله يعبد الله العلي» وقد بارك سيدنا إبراهيم عندما مر بعاصمته؛ لأن مليك صادق وجده موحدا مثله، فأكرمه كما ذكر في الإصحاح .١٦ وملك صادق أو مليكصادق يبوسي من الذين كانوا أول من بنى مدينة القدس وسورها القديم، وبعض الأبراج لحمايتها. وكان العرب أول من نزل هذا المنزل الذي بني فيه الملك
٤٢٨
الأدب والمتفرقات
مليكصادق» عاصمته منهم الكنعانيون، ثم العموريون الذين جاءوا جميعا
من الجزيرة العربية إلى فلسطين، منذ أربعة آلاف سنة، قبل ميلاد المسيح. هذا وقد ظلت سيطرة الفرس على بابل الكلدانية بالعراق إلى عام ٣٣١ ق م حين غزاها الإسكندر المقدوني.
وهكذا نرى قوروش راعي الغنم بعد أن أصبح ملكا ووحد ميديا وفارس، قد اتجه غربا، وحارب الليديين أولا في آسيا الصغرى، ثم اتجه شرقا،
حيث حارب في بلخ (تركستان).
مولد الحركة الصهيونية العالمية
والمعروف عن قوروش أنه آمن بزرادشت و تعاليمه، وتتلخص دعوته، في عبادة إله واحد لا شريك له هو (أهورا مزدا) إله النور والسماء. وتقول سيرة زرادشت: أنه كان يتلقى رسالته من إله السماء، وأنه كان ينزل عليه الوحي بواسطة (فاهومانا) كبير الملائكة.
وتم إيمان قوروش بزرادشت النبي في عاصمته بلخ، وآمن بإله واحد القائل: «أنا الرب وليس آخر، لا إله غيري حتى أن أشعياء الثاني نبي اليهود في الأسر ببابل، تفاءل بالملك الجديد قوروش وعهده، وقد لعب اليهود دورًا بارعًا بواسطة إستر Esther وعشيقها مردوك Merodach أو Mardochee بعد أن أوقعت الملك الطيب القلب قوروش في حبائلها، فأحبها واستطاعت بهذا التأثير عليه والزواج منه، وبذلك عجلت أمر قوروش، بتحرير بني إسرائيل جميعا وإطلاق سراحهم من الأسر، وإعادة السبي والأسرى منهم إلى
خواطر دينية جـ ٢
٤٢٩
أورشليم من جديد، بعد أن أمضوا في بابل إثر نكبتهم على يد نبختنصر الثاني وجيوشه خمسين سنة.
وهكذا أحرزت الحركة الصهيونية السرية الأولى التي ولدت إبان أسر اليهود في بابل منذ سبعة وعشرين قرنا، نصرها الأول. أما نصرها الثاني، فكان كما ذكرته التوراة: أن الملكة إستير أو إستر، قد أنقذت اليهود من هامان الذي كان أضاع اليهود، وعذبهم عذاباً مستمرا، وانتقمت منه بشنقه عام ٥٢٨ ق م ويزعم اليهود أن هامان هذا، كان رئيس وزراء قوروش وأنه كان يذبح اليهود في عهده بأعداد كبيرة، قبل ظهور هتلر بمئات السنين.
ولقد قمت يوما بزيارة قبر الملكة الغانية إستر ومردخاي أو مردوك ابن
عمها وعشيقها اليهودي، ولعله كان عمها لا ابن عمها، زرته في همذان اكبتانا القديمة عاصمة ميديا فوجدت للغرفة بابا، أو مدخلا واطنا منخفضًا بحيث لا يمكن لأحد الدخول منه إلا منحنيا راكعا! ولم أفهم لماذا
دفنت هذه المرأة مع عشيقها الأفاق، ولم تدفن مع زوجها الملك؟
المهم أن اليهود... كل اليهود آمنوا منذ ذلك الوقت... وقت المحنة والأسر في بابل، مع مولد الحركة الصهيونية العالمية لأول مرة... آمنوا بعقيدة لا تتزحزح هي أنه لا حياة لهم في أورشليم ولا سلام. ما لم يثبوا على جيرانهم، والأمم والشعوب المتاخمة لهم، ويغتصبون أرضهم، ويستولون عليها ويستعبدونهم، لتكون لهم اليد العليا من بابل إلى مصر، وأنهم منذ ذلك الحين وهم يترقبون فرصتهم بصبر لا ينفد ليثبوا وثبتهم ويحققوا أحلامهم، وشعارهم المنقوش في قلوبهم قبل أن ينقشوه على مدخل الكنيست: «من
٤٣٠
الأدب والمتفرقات
النيل إلى الفرات هنا ملكك يا إسرائيل.
هذه هي سيرة الملك قوروش الكبير الذي صرعه سهم طائش قتله، وهو
يخمد ثورة صغيرة في شمال فارس شرقي بحر قزوين، قام بها الماساجيتيون. Les Massagetes . بعد أن تحالف مع العرب. وزحفت جيوشه على مصر حوالي عام ٥٢٥ ق.م، في عهد فرعون مصر أحمس أمازيس الثاني، وقد فتح مصر ابنه ،قمبيز بعد موته وقد دفن قوروش مؤسس الإمبراطورية الفارسية
العظيم في باسر جاد العاصمة التي بناها قوروش شمال شرقي شيراز بإيران. وقوروش هذا لم تزل العملة المصرية تحمل اسمه حتى اليوم في مصر، وتنسب إليه، وهي القروش أو غروش. ولم يزل المصريون يستعملون آلاف الكلمات الفارسية في لغتهم حتى اليوم كأثر باق من آثار الوجود الفارسي القديم في مصر، منذ قوروش وقمبيز
موازنة بين سيرة إسكندر المقدوني، وقوروش الفارسي في ضوء القرآن الكريم
هذه هي سيرة كلا الرجلين إسكندر المقدوني، وقوروش الفارسي، استعرضناها باختصار ،شدید لنرى من من الرجلين هو الذي ينطبق عليه
الوصف الذي فصله القرآن الكريم لذي القرنين؟ وسبيلنا لمعرفة ذلك هو القرآن الكريم نفسه.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَمَالَيْتَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا
[الكهف: ٨٤-٨٥].
خواطر دينية جـ ٢
٤٣١
من هذا نفهم بوضوح لا يقبل الشك أن التمكين الإلهي المشار إليه في هذه الآية الكريمة، كان لقوروش مولى استياجس الميدي، وخادمه راعي الغنم المغمور الفقير، فكون قوروش يصل بعد هذا إلى العرش، والملك العريض ويجلس على العرش ثلاثين سنة، وينجح في بناء إمبراطورية عظمى موحدة تمتد من شاطئ الدردنيل إلى حدود الصين، وتكتسح العالم القديم كله تقريباً، فامتلك الفرس تحت لوائه من الهند إلى تونس ومن بحر العرب إلى روسيا. وتدين لقوته وحكمه مائة وثمان وعشرون أمة كالمصريين والأتراك والأرمن والأكراد والآراميين والغرثيين والسكيثيين والماديين والهركانيين والدانيين والبكتاريين والارغوسيين والثابوريين والسوسيين والساسانيين والقادسيين إلخ. ونجاحه في تأسيس أسرة ملكية تتولى حكم هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف طوال قرنين كاملين من الزمان، فهذا هو التمكين الرباني . حقا. ولا يمكن أن يسري هذا الوصف بأي حال من الأحوال أبدا على الإسكندر المقدوني ولا غيره. وكلنا نعرف أن الإسكندر ولد في فمه ملعقة من ذهب كما يقولون. فقد ولد أميرًا وعاش وليا للعهد... وكان هو نفسه ملكًا، ولم يتجاوز التاسعة عشر من عمره.
.[Ao
ويقول الله تعالى: وَالَيْتَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف: ٨٤ -
ولعل من أهم أسباب التمكين ودوام نجاحه في الحياة، الإيمان والأخلاق الثمرة الطبيعية للحكمة كما يقول الله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن
٤٣٢
الأدب والمتفرقات
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [البقرة: ٢٦٩]. فإذا وازنا على هذا الأساس بين ما نعرفه في سيرة الإسكندر المقدوني تلميذ أرسطو طاليس، وبين قوروش راعي الغنم المغمور الذي آتاه الله الملك، ومكن له في الأرض، نجد أن الإسكندر كان يعيبه: أنه كان يكره أباه كراهية الموت؛ لأنه تعقد منه بسبب الشك في بنوته له.
ولقد نسب كثير من معاصري الإسكندر إليه أمورًا شائنة، فقد كانت تتمثل فيه القسوة والشر والوحشية واستباح الطاغية لنفسه طوال حياته الانغماس في الملذات والشهوات والإفراط في شرب الخمر، والتردي في هاوية الشذوذ وجب الخصيان من الفتيان المرد، والنساء. وكان في مقدمة شائنيه من معاصريه، كيرتيوس Curtius.
بينما المعروف عن قوروش: أنه كان حريصًا على العدالة والرحمة والتسامح أعدائه، فأعاد أسراه جميعا إلى بلادهم وحررهم وأعاد بناء هيكل
حتى مع الرب في أورشليم.
وكان طبع الإسكندر ومزاجه رغم الأعمال العظيمة التي قام بها- يكشفان أحيانا بصورة بشعة عن حقيقة شخصيته التي تبدو في صورة وحش كاسر يرتكب من الأعمال المفجعة ما لا تقره العدالة. ففي إحدى مرات غضبه قتل بيده بلا اتهام ولا محاكمة أقرب أصدقائه وأعزهم لديه، وهو كليتوس Cleitus طعنه بحربة في قلبه بالإضافة إلى قتله قائده العظيم بارمينيون، وسماحه بالمذابح الدامية التي أمر بها فجرت الدماء أنهارًا في طيبة
خواطر دينية جـ ٢
٤٣٣
وماساجا وفي كثير غيرها من المدن التي كثيرًا ما كان الإسكندر يعطيها العهود والمواثيق؛ مواثيق الأمان والسلام، حتى إذا ما سلمت له، أو استسلمت غدر بها وبطش بأهلها في مذابح رهيبة يشيب من هولها الولدان وكان يبيحها لرجاله الكواسر المتعطشين لسفك الدماء، والسلب والنهب وهتك
الأعراض، وإشاعة الموت والخراب والدمار والفساد في كل مكان. هذا بينما كان قوروش حريصًا على الأخلاق والعدالة، طيب القلب،
رحيما ميالا للسلام والعفو والتسامح.
وهنا أترك الكلام لزعيم الهند جواهر لال نهرو» الذي سجله في "لمحات من تاريخ العالم" في عرض تاريخي سريع كان قد كتبه في سجنه حوالي شهر يناير سنة ۱۹۳۱ إلى ابنته انديرا غاندي رئيسة حكومة الهند الآن، قال عن الإسكندر المقدوني ما نصه:
كان فيليب أبو الإسكندر ملك مقدونيا ملكًا قديرًا، استطاع أن يجعل من مملكته الصغيرة مملكة قوية، وأن ينشئ جيشًا ذا كفاية. والفضل في معظم ما نجح فيه الإسكندر من فتوحات وانتصارات، إنما يرجع إلى مجهود أبيه فيليب من قبله وعظمة الإسكندر أو عدم عظمته هي في الحقيقة أمر مشكوك فيه، وإذا قسته بمقياسي للبطولة، فهو بالتأكيد ليس بطلًا من أبطالي.
وقد ثارت ضد الإسكندر مدينة إغريقية واحدة، هي مدينة «طيبة». ولكنه ضربها ضربة قاضية، بفظاعة وقسوة شنيعتين، لقد ضرب هذه المدينة العظيمة، وهدم مبانيها، وقتل كثيرًا من رجالها ونسائها وأطفالها، وباع آلافا من أهلها
عبيدا، وبهذا العمل البربري أدخل الرعب والفزع على قلوب الإغريق.
٤٣٤
الأدب والمتفرقات
ولكن هذا وأمثاله من أعمال البربرية التي تخللت حياته، لا تنال إعجابنا، وإنما تثير فينا التقزز والاشمئزاز».
هذا من جهة الأخلاق أما عن الإيمان، فإن الباحث المنصف يجد في سيرة الإسكندر ابن التسعة عشر ربيعًا : أنه قام بعد انتصاره الرائع في صور وفتحها قام بتقديم الأضاحي والقرابين إلى الإله الصنم ميلكارت، وأنه سجد له كما يسجد كل وثني. حتى إذا فتح مصر ودخلها بجيوشه غازيًا، ذهب إلى ممفيس - وهي الآن قرية ميت رهينة قرب البدرشين في الجيزة- منذ حوالي ۲۳۰۰ سنة مضت وقدم أيضًا القرابين والأضاحي لآلهتها - الثالوث المقدس- بتاح (الإله الخالق عند المصريين القدماء) وشركائه سخمت التي تمثل بشكل لبؤة، ووليدها نفرتم آلهة ممفيس - المدينة المحصنة ذات السور الأبيض والمائة باب- وهناك في معبد بتاح سجد الإسكندر للأصنام متعبدا بحضور الكهنة المصريين الذين أعلنوا الإسكندر فرعونًا على مصر أي ملكًا شرعيا على البلاد.
ثم قام الإسكندر بعد ذلك برحلة نيلية في الفرع الكانوبي للنيل - وكان للنيل سبعة أفرع - حتى إذا بلغ مصبه قرب رشيد، قام الإسكندر باختيار شقة رملية من الساحل غربي بوقير أو أبو قير حاليا حيث كانت توجد هناك وقتئذ
،
من قديم قرية صغيرة للصيادين اسمها راكوتي أو راقودة وبالتحديد Rhacotis فأمر ببناء عاصمته الجديدة الإسكندرية هناك، تحقيقا
راكوتسي لأعز أمانيه. وفعلا قام مهندسه العظيم دينو قراطيس Deinocrates بتخطيط المدينة وبنائها، وكان ذلك عام ٣٣٢ ق.م.
خواطر دينية جـ ٢
٤٣٥
ثم رحل الإسكندر إلى مرسى مطروح، وكانت تسمى ياراتيونيوم وشق
الطريق عبر الصحراء الغربية جنوبا إلى واحة سيوة، لزيارة معبد آمون. وكانت واحة سيوة قديما، تسمى واحة آمون وكان معبد آمون مقاما في واحة صغيرة قرب واحة سيوة، لا في واحة سيوة نفسها. ولقد اهتدى الإسكندر إلى الواحة بصعوبة، بعد أن كاد يضيع ويهلك هو وجيشه معه، كما هلك من قبل جيش قمبيز بن قوروش في رمال الصحراء المتحركة وعواصفها. فلما اهتدى للواحة، واسمها واحة الخورمي، قام الكاهن الأكبر المصري لهذا المعبود المقدس بإسباغ التحية التقليدية على الإسكندر ومناداته بأنه ابن زيوس آمون وكان قصد الإسكندر من حجه إلى معبد آمون في سيوة، وتحمله مشقة السفر إليه، هو استشارة الإله الصنم وسماع نبوءته، ووحيه على لسان الكاهن الأعظم. وهناك قدم الإسكندر خضوعه وإيمانه بالإله آمون، وسجد له أمام تمثاله الحجري الضخم. وفعل ما كان يفعله الوثنيون من قبل من عمالقة الإغريق برسيوس وهر قل.
وهكذا نرى الإسكندر يتلقى الوحي من التمثال المتحرك لرب الأرباب المصري آمون رع رب طيبة والدولة ونصير جيوشها الفرعونية، وواهبها الغلبة والظفر كما نراه يؤمن بالأصنام ويسجد لها، كأي وثني. بل وتراه هو وجیوشه خلال زحفه صوب الشرق نحو فارس والهند، نرى الإسكندر وجميع جيشه يسجدون لنار النفط التي لا تخبو ... عندما مروا بها في أبشرون بجوار باكو الحالية وعبدوها باعتبارها مقدسة.
٤٣٦
الأدب والمتفرقات
ثم نرى الإسكندر في مرحلة أخرى بعد قليل وهو في سوس Susse عام ٣٢٤ ق.م يصدر مرسوما ملكيًّا إلى جيوشه ورعاياه في كل مكان... في المدن والأقاليم التي فرض عليها سلطاته بقوة السلاح، يأمرهم فيه بعبادته، وتأليهه والسجود له. وزعم الإسكندر في هذا المرسوم أنه أصبح هو الإله ديونيسوس
بالذات.
وهو تصرف لا يوجد ما يبرره، الأمر الذي أثار ضده سخط واستياء الجيش كله، مما أغضب الإسكندر، وحكم كبرياءه، لدرجة الجنون فقام بتسريح الجيش
كله، وأعفاه من خدمته، وهذه حالة نادرة وشاذة في تاريخ الطغاة.
هذا وبينما كان قوروش يؤمن بإله واحد لا شريك له. هو (أهورا مزدا) إله النور والسماء، ويعبده ويخشاه، لأنه كان يقول: «أنا الرب وليس آخر، لا إله غيري. وكان يؤمن بزرادشت النبي الذي يأتيه الوحي من السماء، ويدعو لعبادة إله واحد، ويأمر بعمل الخير، والابتعاد عن الشر كل ذلك بواسطة فاهومانا كبير الملائكة.
قوروش هو ذو القرنين
فمن إذن من الرجلين الإسكندر ، أم قوروش، يستحق أن يشرفه الله سبحانه وتعالى بندائه ومخاطبته بقوله عز من قائل: قُلْنَا يَنَا الْقَرْنَيْنِ ﴾ [الكهف: ٨٦]؟
وإذا كان هناك شخص ثالث آخر ... فمن يكون؟
إن تاريخ الشرق الأوسط كله في التوراة، لا يسمح باحتمال وجود أي شخص ثالث غير قوروش والإسكندر ، يمكن أن يكون ذو القرنين أحدهما.
خواطر دينية جـ ٢
٤٣٧
وقد بين القرآن الكريم حكمه البات في هذا الأمر... ووصفه التفصيلي الدال عليه، وذلك في سورة الكهف، وأهم صفاته أنه إنسان كبير القلب عادل يؤمن بالله الواحد الأحد، ولا يعبد أو يسجد لسواه... جدير بشرف مخاطبة الله سبحانه وتعالى، وندائه له، وتكليفه بالإصلاح في الأرض بعد أن مكنه الله سبحانه وتعالى من أسباب كل شيء يريده.
الإتجاه إلى مغرب الشمس
إننا إذا تتبعنا مسيرة الأحداث ومقدار موافقة آيات القرآن الكريم عليها. وجدنا أن الله تعالى وتبارك، أخبرنا في محكم تنزيله - مؤيدا بذلك ما جاء من قبل في التوراة بأن ذا القرنين بلغ أولا مغرب الشمس، يعني أنه اتجه أول ما اتجه في حروبه ومسيره العسكري صوب الغرب، فإذا بحثنا . عن هذا الاتجاه ومَن مِن الإسكندر المقدوني، أو قوروش سار نحوه في مساراته العسكرية؟ نجد أن الإسكندر خرج من مقدونيا إلى الشرق، فاتحا اليونان وأسيا الصغرى، في طريقه بعد ذلك جنوبًا إلى سوريا ومصر، ثم إلى الشرق من جديد. فاتحا العراق وإيران وأفغانستان وباكستان في شبه الجزيرة الهندية، ثم عاد إلى سوسا في فارس -إيران- ثم إلى بابل في العراق أي أنه اتجه آخر المطاف نحو الغرب، حيث مات.
أما قوروش الفارسي، فقد اتجه غرباً من اللحظة الأولى، فانطلق في فارس في حروبه مع ليديا الواقعة في الأناضول بآسيا الصغرى، حتى وصل في انتصاراته على الليديين إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وهناك لابد أنه
٤٣٨
الأدب والمتفرقات
شاهد أحد الخلجان الضيقة الكثيرة عند أزمير وقت الغروب، حيث يخيل للرائي هناك حتى اليوم أن الشمس وهي تغرب في تلك الجهة، كأنها تغرب في عين حمئة؛ لأن تفتت صخور الشاطئ هناك يجعل الماء مسودًا معكرًا، مما يطابق وصف الآية القرآنية الكريمة لهذا المكان، فضلًا عن أن طبيعة الشاطئ
وتعاريجه عند خليج أزمير الصغير بالذات يشبه في رسمه شكل العين. أما القوم الذين وجدهم قوروش عند مغرب الشمس، أي في ليديا فكانوا من اليونانيين أصحاب الفكر والحضارة الإغريقية، فاتخذ فيهم قوروش حسنًا وإكراما لما كانوا عليه من علم ومدنية فتسامح معهم كما أخبرنا القرآن
(1)
الكريم، ولم يعذبهم أو يرهقهم فلما بلغ مطلع الشمس بعد فتح ليديا اتجه قوروش إلى بلخ (بتركستان) حيث كانت تعيش هناك بعض القبائل الرُّحَل شديدة المراس التي كانت تقلقه بغاراتها المتكررة على حدود بلاده الشرقية .فأخضعها. ولما كان رجال هذه القبائل رحلا، لا بيوت ثابتة لهم يسكنونها، فقد وصفهم القرآن الكريم بقوله: لَمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتَرًا ﴾ [الكهف: ۹۰] أي منازل مبنية أو مستقرة وهذا
ينطبق وصفه على قوروش لا الإسكندر.
(1) لفظ الآية: قُلْنَا هَذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن نَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنَا قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَا بَا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِ نَارًا ﴾ [الكهف: ۸٦ - ۸۸] وهكذا أفادت الآية أنه قسمهم نوعين: ظالما أي
مشركا يعذبه جزاء شركه ومؤمنا صالحا يلين له القول، ويعامله معاملة حسنة.
خواطر دينية جـ ٢
٤٣٩
السد بين الحقيقة والخيال
يصف القرآن الكريم المرحلة الأخيرة لذي القرنين بأنه يوجد مضيق بين جبلين أي صدفين فيه ممر تعبر منه أقوام همج من آسيا، يعيثون فسادًا، فقام ذو القرنين ببناء سد في هذا الممر ، منع عن أهالي هذه المنطقة خطر الغزو الداهم الذي كان يتهددهم دائما من هذا الممر، ومنع شرهم.
وبقدر ما اختلفت آراء المفسرين والمؤرخين في الماضي حول شخصية ذي القرنين، اختلفوا كذلك حول السد الذي بناه، وجاء ذكره في القرآن الكريم،
وإن كانت التوراة لم تذكره ، ولم تشر إليه على الإطلاق.
ومن أعجب ما قرأت وسمعت عن السد أن بعضهم اعتبر هذا السد، سدا خياليا. كما زعم آخرون أن هذا السد إنما هو سد رمزي في القرآن بين الخير والشرا وقال البعض: أنه في الصين ظناً منهم: أنه سور الصين العظيم بينما المعروف أن جدران هذا السور تمتد حوالي ثلاثة آلاف كيلو مترا على حدود الصين، ومنغوليا . وليس هذا سدا كما وصفه القرآن، بل هو سور هائل، بناه أحد ملوك الصين القدماء حوالي عام ۲۵۰ قبل ميلاد المسيح، أي بعد قرن تقريبا، من موت الإسكندر ، وثلاثة قرون من موت قوروش كما أن آخرين زعموا أن هذا السد موجود في شمال إفريقيا من تونس والمغرب. وأن يأجوج ومأجوج أقوام من الجن يحاولون في كل يوم عبئًا تخطي هذا السد، فلا يستطيعون له نقبا. أو أن يأجوج أو جوج، هو ملك قبيلة يأجوج الذي طالما حرم جيرانه السلام والأمن، بسبب عدوانه عليهم، وغزواته ضدهم.
٤٤٠
الأدب والمتفرقات
وفي الحقيقة أن هذا كله وهم، وإغراق في الخيال. أما حقيقة هذا السد، فإنها بسيطة وواضحة للغاية، فإنه لما جاء قوروش الملك الأنزاني الكبير، وتتابعت انتصاراته واشتهر أمره في مشارق الأرض ومغاربها. وعرف بين الناس بعدله ورحمته وحبه للإنسانية والتسامح والسلام. هرع إليه أهل البلاد الواقعة جنوب هذا الممر، وطلبوا منه العمل على حمايتهم من غارات جيرانهم أهل الشمال العدوانية. ولما كان هذا الممر يقع في مضيق بين جبلين من سلاسل جبال القوقاز الممتدة بين بحر الخزر (قزوين) أو البحر الهيركاني، كما كان يسمى في زمن ،قوروش، وبين البحر الأسود. فقد أقام قوروش سدا منيعا ، وردما مصفحا بالحديد، قطع به دابر هجمات الغزاة، وغزوات المعتدين من قبائل آسيا التي استمرأت الحرب الخاطفة مع جيرانها في الجنوب، وخاصة مأجوج وهم من المغول قصار القامة الشداد، ذوي البأس والعنف. ويأجوج من قبائل الروس طوال القامة، من عمالقة سيبريا الجبابرة. أما طول هذا السد، فقرابة المائة متر فقط. ولما كان أهل هذه المنطقة التي أقيم فيها السد، وهم من الأرمن. ليسوا على شيء في ذلك الوقت من التحضر، فقد وصفهم القرآن الكريم بأنهم : لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ [الكهف: .۹۳] . ومن الواضح أن الإسكندر الذي وصل في زحفه في آسيا الوسطى إلى نهري جيجون وسيحون جنوبي بحر خوارزم وهو الآن بحر أورال... لم يصل أبدا إلى هذه المنطقة التي بنى فيها الملك قوروش السد، قبل وجود الإسكندر نفسه بقرنين من الزمان؛ لأن الإسكندر
خواطر دينية جـ ٢
٤٤١
كان يسرع الخطى في زحفه نحو هدفه الأكبر، وهو غزو الهند، حينما مر في آسيا
•
الوسطى، متجها نحو الهند، مارا بجهة باميان وكابول عبر ممر خيبر ومن الثابت تاريخيا أنه لا يوجد في أي مكان مر به الإسكندر طوال حياته، أي سد ينسب إليه. ولا يوجد أي سد آخر، في هذه المنطقة التي كانت مسرح الأحداث العسكرية التي حفظها لنا تاريخ تلك الحقبة من الزمن، التي عرفت الإسكندر وقوروش وحياتيهما الحافلة إلا السد الذي بناه قوروش في شمال إيران بأرض أرمينيا، والذي ينطبق عليه وصف القرآن الكريم. وهو موجود حتى اليوم، في ذلك المضيق، وفي ذلك الممر بين جبلين من سلسلة جبال القوقاز، بين بحر قزوين والبحر الأسود. وهذا السد يسمى هناك حتى اليوم سد غورائي نسبة إلى غوروش، وهو الملك قوروش الإنزاني الفارسي، لا الإسكندر المقدوني... وبهذا لم يعد أدنى شك في أن ذا القرنين الذي عناه يهود يثرب، وذكره القرآن الكريم هو قوروش وإلا فدلوني بربكم على السد الذي بناه الإسكندر، إن كان هناك سد آخر. دلوني إذن، أين هو ؟!
ومتى وصلنا في بحثنا إلى هذا الحد نذكر قوله تعالى: وَقَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَع